سبل السعي من أجل تشكيل حكومة إسلامية
علينا أن نسعى بجد لتشكيل الحكومة الإسلامية، ونبدأ عملنا بالنشاط الدعائي
ونتقدم فيه. ففي كل العالم على مر العصور كانت الأفكار تتفاعل عند مجموعة
من الأشخاص، ثم يكون تصميم وتخطيط، ثم بدء العمل، ومحاولة لنشر هذه الأفكار
وبثها من أجل اقناع الآخرين تدريجياً، ثم يكون لهؤلاء نفوذ داخل الحكومة
يغيرها على النحو الذي تريده تلك الأفكار ويريده ذووها أو يكون هجوم من
الخارج لاقتلاع أسسها وإحلال حكومة قائمة على هذه الأفكار محلها.
والأفكار تبدأ صغيرة ثم تكبر، ثم يتجمع من حولها الناس، ثم تكتسب القوة، ثم
تأخذ بيدها زمام الأمور. ولم تكن القوة كما ترون حليفة الأفكار من أول يوم.
وفي هذا كله ينبغي أن تتخذ من الشعب بكل قواه قاعدة رصينة يرتكز عليها
ويركن إليها، مع العمل الدائب على التوعية الجماهيرية من أجل فضح خطط
الإجرام، وكشف الانحراف الموجود لدى السلطات الوقتية، ويتم تدريجياً
استقطاب الجماهير كل الجماهير، ويتم الوصول بعدها إلى الهدف.
أنتم اليوم لا تملكون دولة ولا جيشاً، ولكن تملكون أن تدعوا فلم يسلبكم
عدوكم هذه القدرة على الدعوة والتوجيه والتبليغ، وعليكم إلى جانب بيان
المسائل العبادية أن تبينوا للناس المسائل السياسية في الإسلام، وأحكامه
الحقوقية والجنائية والاقتصادية والاجتماعية، واتخذوا من هذا محوراً لعملكم.
علينا من الآن أن نسعى لوضع حجر الأساس للدولة الإسلامية الشرعية، فندعوا
ونبث الأفكار، ونصدر تعليماتنا، ونكسب المساندين والمؤيدين لنا، ونوجد
أمواجاً من التوجيه الواعي والارشاد المنسق للجماهير ليحصل رد فعل جماعي
تكون على
أثره جموع المسلمين الواعية المتمسكة بدينها على أتم الاستعداد للنهوض
بأعباء تشكيل الحكومة الإسلامية.
وعلى الفقهاء بيان المسائل والأحكام والأنظمة الإسلامية وتقريبها إلى الناس
من أجل ايجاد تربة صالحة تعيش على سطحها النظم والقوانين الإسلامية. وقد
ورد في الحديث كما سبق أن علمتم قولهصلى الله عليه وآله: "يعلمونها الناس".
وظيفة العلماء أمام هجمة أعداء الإسلام
ومسؤوليتنا اليوم، في الوقت الذي تتعاون فيه كل قوى الاستعمار وعملائه من
الحكام الخونة، والصهيونية، والمادية الملحدة، على تحريف وتشويه الإسلام
هذه المسؤولية اليوم أكبر منها في أي وقت مضى.
ها نحن نرى اليهود يعبثون بالقرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه في طبعات للقرآن
جديدة ينشرونها في الأرض المحتلة وغيرها.
علينا أن نكشف تلك الخيانة، ونصرخ بأعلى أصواتنا حتى نفهم الناس أن اليهود
وسادتهم الأجانب يريدون بالإسلام كيداً، ويمهدون السبيل ليسود اليهود على
هذا العالم كله، وأخشى ما أخشاه أن يصلوا إلى مآربهم بسبلهم الخاصة. وبسبب
من ضعفنا قد نصبح ذات يوم لنجد حاكماً يهودياً يحكم بلادنا لا سمح اللَّه.
ومن جانب آخر فقد تعامل بعض المستشرقين مع المؤسسات الاستعمارية وعملوا
سوياً على تحريف الحقائق الإسلامية وهدمها. ودعاة الاستعمار جادون في العمل
من أجل تضليل شبابنا في كل أنحاء البلاد بأضاليلهم، ومن أجل إبعادهم عنا.
لا أقول أنهم يحاولون
تنصيرهم أو تهويدهم، بل حسبهم أن يعملوا على إفسادهم، وحملهم على نبذ الدين،
وعلى اللامبالاة، وحسب الاستعمار نجاحاً أن يتحقق هذا وأمثاله.
في طهران تنتشر مراكز التبشير الكنيسي والصهيوني1
والبهائي2،
لتضليل الناس وإبعادهم عن تعاليم الدين ومبادئه. أليس تحطيم هذه المراكز من
واجبنا؟ هل يكفي أن نملك النجف ونحن لا نملكها أيضاً ؟ هل نظل في "قم"
لنكثر من مجالس العزاء؟ أم ينبغي أن نعمل على توعية الناس بكل جد وحزم؟
أنتم شباب المراكز الدينية، كونوا أحياء، واعملوا على إحياء أمر ربكم،
والمحافظة على أنظمته. يا جيل الشباب اجمعوا أمركم واعملوا وسيرى اللَّه
عملكم ورسوله والمؤمنون. وتكاملوا، اتركوا توافه الأمور واعرضوا عن القشور،
وانهضوا بمسؤولياتكم. انقذوا الإسلام وانجدوه، فالإسلام يستصرخكم، وخلّصوا
المسلمين من الأخطار المحدقة بهم.
هاهم أولاء يميتون الإسلام باسم الدين وباسم الرسول صلى الله عليه وآله،
فدعاتهم من أذناب الاستعمار قد انتشروا في طول البلاد وعرضها، وغزوا
الأرياف والقرى والنواحي، وعمدوا إلى الأطفال والصبيان والشباب وهم أمل
الإسلام فأضلوهم السبيل.
انهضوا لأسعاف هؤلاء الأحداث التائهين، أنقذوهم، ساعدوهم، عليكم أن تبثوا
علمكم، فما ورد في العلماء من تمجيد وتكريم إنما هو بسبب ما يقوم به العالم
من تعليم الآخرين وإنقاذهم من الضلال، وعليكم أن تبذلوا قصارى جهودكم في
إيصال مفاهيم الإسلام ونظمه إلى الناس عامة.
وعلينا أن نرفع الغشاوة التي وضعها الأعداء على الإسلام، ونزيل عنه ما
ألحقوه به من غموض، وبدون ذلك لا يكتب لنا التقدم. وعلينا أن نتواصى فيما
بيننا ونوصي الآخرين أن يوصوا غيرهم بإزالة هذا
الغموض المفتعل، والريب التي بثه الأعداء خلال قرون سحيقة في جميع الناس
وحتى المثقفين منهم.
نحن نوصي جيل الشباب أن يبينوا للأجيال عالمية الإسلام، وتشريعاته
الاجتماعية وكل ما يحتويه من أنظمة، وأن يتحدثوا عما شرعه الإسلام في موضوع
الحكومة،
كي يعلم الناس ما هو الإسلام وأية قوانين جاء بها.
على المجامع العلمية اليوم في "قم" وخراسان وفي كل مكان أن يدلوا الناس إلى
طريق الإسلام، ويعرضوا أفكاره تحت ضوء الشمس. الناس يجهلون الإسلام، ولا
يكادون يفقهون عنه شيئاً، فعليكم أن تعرفوهم أنفسكم وعقيدتكم، وما ينبغي أن
تكون عليه حكومتكم. عليكم أن تعرفوا العالم بذلك كله، وتبثوا ذلك في صفوف
الجامعيين
بصورة خاصة، لأن أولئك أكثر تفتحاً من غيرهم، وثقوا بأن وراء ذلك نتائج
حسنة، وترحيباً شديداً سيستقبل به الإسلام في رحاب الجامعيين.
الجامعيون أشد الناس عداوة للتسلط والعمالة والخيانة وعمليات نهب الخيرات
والثروات وأكل السحت وسيجدون في الإسلام الذي تبلغونه إليهم وفي تعاليمه في
مجال
الحكم والقضاء والاقتصاد والاجتماع ما يستميلهم إلى جانبه. هؤلاء الجامعيون
يمدون أيديهم إلى النجف يستعينون بذلك على فهم حقائق دينهم!
هل يجدر بنا أن نسكت ولا نتحرك حتى ينبهنا أولئك الجامعيون من غفلتنا
ويحملونا على أداء واجبنا والقيام بدورنا في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر! أليس هذا
السكوت منا منكراً؟ أليس عيباً علينا أن
نهمل الأمر ليواجهنا شباب من أوروبا قد ألفوا تجمعاً إسلامياً يطلبون فيه
منا العون الثقافي والإرشادي والتوجيهي؟
علينا أن نذكر الناس بما كانت عليه الحكومة الإسلامية في صدر الإسلام.
علينا أن نقول لهم: أن دكة القضاء كانت في إحدى زوايا المسجد في حين ترامت
أطراف
البلاد الإسلامية وشملت إيران ومصر والحجاز واليمن وغيرها، وحينما انتقل
الأمر إلى الآخرين مع الأسف تحولت الخلافة والحكومة الشرعية إلى ملك عقيم.
علينا
أن نذكر ذلك كله ونبين ملامح الحكومة التي ننوي تشكيلها، ونوضح صفات الحاكم
وواجباته واختصاصاته وأخلاقه.
كان قائد الأمة وأميرها قد ردع أخاه عقيلاً، وأحمى له حديدة لئلا يطمع في
أموال المسلمين3، وعاتب ابنته أن استعارت من بيت المال عقداً قائلاً:
لولا أنها عارية
مضمونة لكانت أول هاشمية تقطع يدها، ثم رجعه في بيت المال4. هذا هو
الحاكم الذي نريد.
"لمثل هذا فليعمل العاملون، وعلى مثل هذا فليتنافس المتنافسون".
نحن نريد حاكماً لا يأمرنا بشيء إلا وقد سبقنا إليه، ولا ينهانا عن شيء
إلا وقد انتهى عنه.
نريد من يساوي بيننا جميعاً أمام العدالة وفي ميادين القضاء.
نريد من يساوي بين الناس فيما لهم وفيما عليهم، من غير تمييز أو تفضيل.
نريد من يحكم بالحق له أم عليه.
نريد حاكماً لا يحمل نفسه وعائلته وذويه على رقاب الناس.
نريد حاكماً يقطع يد ولده إذا سرق، ويجلد ويرجم قريبه إذا زنى، ويؤاخذ أخاه
وأخته إذا اتجروا بأطنان الهروئين كما يؤاخذ الآخرين إذا تعاطوا تهريب
اليسير من
الهروئين.
إحياء روح الجماعة في الأمة
كثير من الأحكام العبادية تصدر عنها خدمات اجتماعية وسياسية، فعباديات
الإسلام عادة توأم سياساته وتدبيراته الاجتماعية. فصلاة الجماعة مثلاً
واجتماع الحج والجمعة
تؤدي بالإضافة إلى ما لها من آثار خلقية وعاطفية إلى نتائج وآثار سياسية.
استحدث الإسلام هذه الاجتماعات وندب الناس إليها، وألزمهم ببعضها حتى تعم
المعرفة
الدينية وتعم العواطف الأخوية، وتتماسك عرى الصداقة والتعارف بين الناس،
وتنضج الأفكار وتنمو وتتلاقح، وتبحث المشكلات السياسية والاجتماعية وحلولها.
في الدول غير الإسلامية تنفق الملايين من ثروة البلاد وميزانيتها، من أجل
عقد مثل هذه الاجتماعات، وإذا انعقدت فهي في الغالب صورية شكلية تفتقر إلى
عنصر
الصفاء وحسن النية والآخاء المهيمن على الناس في اجتماعاتهم الإسلامية، ولا
تؤدي بالتالي إلى النتائج المثمرة التي تؤدي إليها اجتماعاتنا الإسلامية.
فقد وضع الإسلام حوافز ودوافع باطنية تجعل الذهاب إلى الحج من أغلى أماني
الحياة، وتحمل المرء تلقائياً إلى حضور الجماعة
والجمعة والعيد بكل سرور وبهجة، فما علينا إلا أن نعتبر هذه الاجتماعات
فرصاً ذهبية لخدمة المبدأ والعقيدة، لنبين فيها العقائد والأحكام والأنظمة
على رؤوس الاشهاد،
وفي أكبر عدد من الناس. فعلينا أن نفيد من موسم الحج، ونجني منه أطيب
الثمار في الدعوة إلى الوحدة، والدعوة إلى تحكيم الإسلام في الناس كافة.
وعلينا أن نبحث
مشكلاتنا، ونكتشف ما وضعه لها الإسلام من حلول جذرية. علينا أن نسعى لتحرير
أرض المسلمين في فلسطين وغيرها.
وها نحن نرى المسلمين في الصدر الأول يجنون من جماعاتهم وجمعاتهم وأعيادهم
ومواقف حجهم أحسن الثمار. لم تكن الخطب التي تُلقى في الجمعات والأعياد
والمواسم الأخرى تقتصر على وعد ووعيد بجنة أو نار وسورة خفيفة ودعاء خفيف
أو ثقيل كما نرى اليوم، بل كانت الخطب قد تصل في ايحائها وتأثيرها إلى
إعداد
الناس للقتال بكل شجاعة وبأس، وقد تؤدي إلى انطلاقهم إلى جبهات القتال من
باحات المساجد والجوامع من دون أن يأخذهم في ذلك خوف من فقر أو مرض أو موت
أو ضياع لأنهم كانوا يخافون اللَّه وحده ولا يخشون أحداً إلا إياه، ولمثل
هؤلاء يكتب النصر، ولمثل هؤلاء يكون الفتح! انظروا في خطب أمير المؤمنين
عليه السلام5
لتعرفوا أنها كانت تسوق المسلمين إلى ميادين الجهاد، وتحمل الناس على
الفداء، وتضع أنجع الحلول لمشاكل الناس في الحياة.
ولو كانت الجمعة مستمرة إلى يومنا هذا بخطبها وحماسها وروحها
وآفاق التفكير فيها لما انتهى بنا الأمر إلى الحد الذي ترون. علينا أن نسعى
لإعادة إحياء مثل هذه الاجتماعات، ونستغلها في التوجيه والإرشاد والتوعية
والقيادة إلى
الصلاح والنجاح. وبهذا يتم للأفكار الإسلامية أن تسع أكبر الميادين، وترتفع
إلى أعلى الآفاق من غير أن يعلوها شيء.
تبليغ الإسلام الحقيقي للناس
وكما تحتفظون بذكرى عاشوراء الحزينة، ولا تفرطون بها، فلتكن المصائب التي
جرت على دين الإسلام من أول يوم وإلى يومنا هذا عاشوراء جديداً تحيون ذكراه
باستمرار. وإنكم إذا تحدثتم عن الإسلام بكل اخلاص وأظهرتم الناس على أصوله
وأحكامه وأنظمته الاجتماعية، فإن الناس سيرحبون بهذا الدين ويتبعونه،
واللَّه يعلم أن
محبي الإسلام كُثر، ولكنهم لأكثر أحكامه جاهلون. وقد جربت ذلك بنفسي.
فحين ألقي كلمة ألمس في الناس تغيراً وتأثراً، لأن الناس ناقمون على
أوضاعهم التي يعيشونها، والخوف من الظالمين يملأ جوانحهم، وهم بأمس الحاجة
إلى من يتكلم
بشجاعة وثبات.
يا أبناء الإسلام، كونوا أشداء أقوياء في بيان حجتكم للناس لتغلبوا عدوّكم
بكل أسلحته وعساكره وحرسه، بيّنوا الحقائق للجماهير، واستنهضوهم. وانفخوا
في أهل
السوق والشارع، وفي العامل والفلاح، والجامعي روح الجهاد. الجميع سيهبون
للجهاد. الكل يطلب الحرية والاستقلال والسعادة والكرامة، أجعلوا معالم
الدين الإسلامي
في متناول الجميع، فهو للجميع وسترون أنه سيقودهم إلى الطريق وينير
لهم السبيل، ويصحح لهم أفكارهم وعقائدهم، ويحملهم على التضحية والفداء،
لتتحطم أجهزة سياسة الجور والاستعمار لتقوم على قدم راسخة أسس الحكومة
الإسلامية.
على الفقهاء (حصون الإسلام) أن يبينوا للناس العقائد الحقة والأنظمة
الإسلامية وطرق الجهاد والنضال، ويقودوا الناس، فإن الناس تنقاد لهم
تلقائياً إذا لمسوا فيهم
الأهلية والاخلاص ونكران الذات. وعندها سيكون في فقد أمثال هؤلاء العلماء
القادة مصيبة عظمى على الناس تترك في حياتهم فراغاً مروعاً، وتحدث في
الإسلام ثلمة
لا يسدها شيء.
ومثل هذا الفراغ والثلم لا يحدث بفقدي أنا أو مثلي ممن يقبع في زاوية بيته،
وإنما يحدث بفقد الإمام الحسين عليه السلام والأئمة من بعده، ويشعر الناس
بالخسارة أيضاً
بفقدان الخواجه نصير الدين الطوسي6
والعلامة7
واضرابهم ممن قدم خدمات
جليلة للإسلام.
أما أنا وأنت فماذا قدمنا للإسلام حتى ينطبق علينا مصداق الحديث؟ لا فراغ
يحدث عند موت ألف ممن يعمل على شاكلتنا، لأن حياتنا هي فراغ، ولا ثلم يحدث
في
الإسلام عند موت ألف منا لأن حياتنا على ذلك النحو قد تكون هي ثلماً في
الإسلام ينبغي سده بغيرنا.
المقاومة على المدى الطويل
ونحن لا نتوقع أن تؤتي تعليماتنا وجهودنا أكلها في زمن قصير، لأن ترسيخ
دعائم الحكومة الإسلامية يحتاج إلى وقت طويل وجهود مضنية، ونحن نرى كثيراً
من
العقلاء يضعون حجراً ليبني عليه الآخرون بناء ولو بعد مائتي عام.
لقد سئل أحد المعمرين وهو يغرس فسيلاً عن نتيجة عمله التي سوف لا يدركها،
فقال مجيباً: غرسوا فأكلنا، ونغرس فيأكلون. وإذا كان نشاطنا لا يؤتي ثماره
إلا في
جيل غير جيلنا فذلك لا ينبغي أن يثبط عزائمنا، لأن تقديم الخدمات للإنسان
لا ينبغي أن يتم على أساس المصلحة الفردية، بل على أساس المصلحة العامة
للمسلمين.
فسيد الشهداء عليه السلام الذي ضحى بكل ما يملك لو كان منطلقاً من التفكير
الفردي لوضع يده في أيديهم وانتهى الأمر، وكانت تلك النهاية من أغلى أماني
الأمويين.
ولكن الحسين عليه السلام كان يفكر في الإسلام والمسلمين وأجياله القادمة
على المدى الطويل، وكان نهوضه وتضحيته وجهاده من أجل أن ينتشر الإسلام،
وتظهر
أحكامه السياسية، ونظمه الاجتماعية في أوساط الناس.
في رواية سابقة عن الإمام الصادق عليه السلام ترون أن الإمام بالرغم من
ظروف التقية المحيطة به، وفقدانه للسلطة يبين للمسلمين أو يعين لهم الحاكم
والقاضي،
ويأمرهم بالرجوع والتحاكم إليه. وعظماء الرجال يخططون للأجيال القادمة، ولا
يحزنهم أن لا يلمسوا آثار خططهم ما دام المستقبل كفيلاً باعطاء النتائج
والثمرات، ولا
يداخلهم اليأس حتى في ذل الأسر وفي أغوار السجون. ومن أجل الانتصار للأهداف
الكبيرة فهم يخططون في السجون لما يسعد الأجيال القادمة، وليس كل همهم أن
يصلوا إلى ما يريدون. وكثير من الحركات والنهضات أخذت شكلها النهائي بعد
تمهيدات قد ترجع في بعض الأحيان إلى ما قبل مائتين أو ثلاثمائة من السنين.
الإمام الصادق عليه السلام لم يكتف بوضع الخطوط العامة للحكومة أو الدولة
الإسلامية، بل عين حاكمها ونصبه. وبالطبع لم يكن يريد بذلك التعيين عصره
الذي يعيش
فيه لأنه هو الإمام وهو الحاكم الشرعي، ولكنه ينظر بذلك إلى الأجيال الأخرى
القادمة، وكان تفكيره في أمته أكثر من تفكيره في ذاته وشخصه. كان يريد أن
يصلح
البشر كل البشر، والعالم كل العالم تحت ظل القانون الإسلامي العادل. وقد
عين من يليق به الحكم حتى إذا تحسنت الأوضاع وعادت إلى مجراها الطبيعي فلا
عسر ولا
حرج على المسلمين فيمن سيشغل منصب الحكم والقضاء وقيادة الناس.
والدين في أصله، ومذهب الشيعة على الخصوص، وكل الأديان قد بدأت على شكل
تعاليم، وبسبب ما اتسم به القادة والأنبياء من عزم وثبات وحزم كانت العقيدة
تتقدم
بخطى ثابتة.
كان موسى عليه السلام راعياً وحارساً سنين طويلة، ويوم كلف بمجابهة فرعون
لم يكن يعينه على أمره، وبما لديه من قابليات ومواهب وقوى استطاع بعصاه أن
يبدد
ملك فرعون. لا تتصوروا أن عصى موسى لو كان بيدي أو يد أحد منكم، كانت تعمل
شيئاً، لأنه ليس لدينا تدبير موسى وهمته وجديته في عمله، وليس ذلك متيسراً
لكل أحد. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إذا صدع بالرسالة لا يملك من
أسباب القوة إلا صبياً لم يتجاوز العاشرة هو علي بن أبي طالب عليه السلام
وامرأة
متقدمة في العمر هي زوجه خديجة، فقد آمنا به ونصراه وأعاناه على أمره، وكان
سائر الناس يؤذونه ويعاندونه ويكذبونه، ولكن اليأس لم يكن له إلى النبي صلى
الله
عليه وآله وناصريه سبيل. فقد ثبتوا بعزم وصبر وحزم حتى ظهر أمر اللَّه،
وخسر هنالك المبطلون، وضرب الإسلام أوتاده في شرق الأرض وغربها حتى ليؤمن
به
اليوم ما لا يقل عن سبعمائة مليون مسلم.
وبدأ مذهب الشيعة من نقطة الصفر. وحين وضع الرسول صلى الله عليه وآله أسس
الخلافة قوبل بالاستهزاء والسخرية، وذلك حين جمع قومه، وأولم لهم، وقال لهم
فيما قال: من يكون خليفتي ووصيي ووزيري على هذا الأمر؟ فلم ينهض إلا علي
عليه السلام ولم يبلغ الحلم حينذاك. وعندئذ قال أحدهم لأبي طالب محرضاً: إن
ابن
أخيك يريد أن تسمع لابنك وتطيع8!
وفي غدير خم في حجة الوداع عينه النبي صلى الله عليه وآله حاكماً من بعده،
ومن حينها بدأ الخلاف يدب إلى نفوس قوم9. ولو كان النبي صلى الله عليه
وآله قد
عين أمير المؤمنين عليه السلام مفتياً ومفسراً للقرآن ومبيناً للأحكام فحسب،
لم
يعارضه أحد! ولكنه عورض وحورب وقوتل لأنه الحاكم المهيمن الشرعي على شؤون
العباد والبلاد. وأنتم إذا قبعتم في عقر دوركم فلا شيء عليكم، ويوم تريدون
الظهور في المجتمع كعنصر إصلاح أو تغيير بما أنتم عليه من قوى كبيرة، فإن
الحرب ستعلن عليكم. وبسبب مواقف الأئمة عليهم السلام وشيعتهم من نظرية
الحكم
والإدارة في الإسلام نالهم ولا يزال ينالهم ما تعرفون من الأذى والبلاء
والعناء، ولكنهم لم ييأسوا، فما زال الأمل يملأ جوانحهم، وما زال عدد
الشيعة في ازدياد حتى
أنهم اليوم في حدود المائتي مليون شيعي.
اصلاح الهيئات الدينية
قيادة الأمة إلى الصلاح، ومعرفة الإسلام على وجهه، تستلزم صلاح أهل العلم
وحملة الشريعة، بمعنى ضرورة تكامل نشاطهم التعليمي، والاعتماد على النفس،
والثقة
بها، واجتناب الكسل والوهن والضعف والنكول، ومحاولة محو آثار ما ينشر في
الناس من أباطيل، وتهذيب الأفكار المتحجرة المنفّرة في صفوف البعض منا،
وطرد
فقهاء القصور الذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم من صفوفنا، وإبعادهم عن زيّنا،
وتعريتهم، وفضح أعمالهم.
إزالة آثار العدوان الاستعماري الفكري والخلقي
مرت القرون وعملاء الاستعمار، وأجهزة دوائر التربية، ودوائر السياسة تنفث
السموم في أفكار الناس وأخلاقهم حتى أفسدوها، والناس في ريب من أمرنا بسبب
هذه
السموم ومجامعنا وهيئاتنا الدينية هي بدورها تحتاج إلى إصلاح، ولا بد كذلك
من اجتثاث جذور
الأفكار السقيمة الوافدة من الخارج، ومحاربة كل سوء وفساد وانحراف في
المجتمع.
نحن نلاحظ وجود أناس متأثرين بتلك السموم بين صفوفنا فنرى البعض منهم يسرّ
إلى الآخر: إن هذه الأعمال لم تخلق لنا ولم نخلق لها. ما نحن وذاك؟ نحن
ندعو اللَّه
ونبين المسائل. هذا المنطق نتيجة ما يلقيه الأجانب في روع الناس من مئات
السنين، وهذا هو الذي يجعل القلوب في النجف وقم وخراسان خائرة هزيلة واهنة
غير
راشدة، وحجتها في ذلك: إن ذلك ليس من شأننا.
هذه أفكار خاطئة. فهل توجد عند الحكام الفعليين من القابليات والمواهب أكثر
مما عندنا؟ أيهم كان جديراً بزعامة الناس وقيادتهم؟ ألم يكن بعضهم أمياً؟
أين تثقف حاكم
الحجاز؟ ألم يكن رضا خان10
من جهال الناس؟ وها هو التاريخ يحدثنا عن جهال
حكموا الناس بغير جدارة ولا لياقة. هارون الرشيد، أية ثقافة حازها؟ وكذلك
من قبله
ومن بعده!
وعلينا أن نستفيد من ذوي الاختصاص العلمي والفني فيما يتعلق بالأعمال
الإدارية والإحصائية والتنظيمية، وأما ما يتعلق بالإدارة العليا للدولة،
وبشؤون بسط العدالة
وتوفير الأمن وإقرار الروابط الاجتماعية العادلة، والقضاء والحكم بين الناس
بالعدل، فذلك ما يختص به الفقيه، ويفني فيه كل أيام حياته، وهو يملك ما
يحفظ للناس
حريتهم واستقلالهم وتقدمهم، ضمن سياسة مستقيمة لا نفوذ فيها لأجنبي، ولا
انحراف فيها إلى يمين أو يسار.
أخرجوا من عزلتكم، وأكملوا برامجكم الدراسية والإرشادية واركبوا الصعاب في
سبيل ذلك. وخططوا للحكومة الإسلامية، وتقدموا في خططكم، وكونوا في ذلك يداً
واحدة مع كل من يطالب بالحرية والاستقلال، فإنكم ستصلون إلى أهدافكم يقيناً.
اعتمدوا على أنفسكم. وأنتم ستزيد خبرتكم وتجاربكم في طريق نضالكم الذي يرعب
الاستعمار ويرهبه. وأنا على يقين أنكم قادرون على إدارة دفة الحكم عند
تقويض أسس الجور والظلم والعدوان. وكل ما تحتاجون إليه من قوانين ونظم فهو
موجود في
إسلامنا، سواء في ذلك ما يتصل بإدارة الدولة، والضرائب، والحقوق، والعقوبات
وغيرها. لا حاجة بكم إلى تشريع جديد، عليكم أن تنفذوا فقط ما شُرع لكم.
وهذا يوفر
عليكم الكثير من الوقت والجهد، ويغنيكم عن استعارة قوانين من شرق أو غرب.
كل شيء وللَّه الحمد جاهز للاستعمال، ويبقى تنظيم الوزارات واختصاصاتها
وأعمالها ووظائفها، وذلك يتم على أيدي الاختصاصيين بأسرع وقت.
ومن حسن الحظ أن الشعوب الإسلامية معكم والجماهير تتبعكم وتقتفي آثاركم
وتقتدي بكم، وسيشتد ساعدكم، وكلما نفتقده هو "عصا موسى" وسيف علي بن أبي
طالب
عليه السلام وعزيمتهما الجبارة، وإذا عزمنا على إقامة حكم إسلامي سنحصل على
عصى موسى وسيف علي بن أبي طالب عليه السلام أيضاً.
نعم! يوجد فينا أفراد مهملون مغمورون لا يكادون يحسنون شيئاً، ولا يكتبون
ورقة علم ولا يفتحون أفواههم بكلمة فيها هداية، ولا يكادون يفهمون حديثاً
من شؤون
الحياة، وقد أذعنوا بأن لا قابلية فيهم
نتيجة لما بثه العملاء فينا من أمثال هذه العبارات: ما أنت وذاك؟ عليك
بدرسك، إذهب إلى مدرستك. وها نحن الآن نعجز عن إقناع البعض منا بالخطأ الذي
وقعوا فيه
من الاعتزال والإهمال وعدم الاهتمام بشؤون المسلمين.
بينوا للناس برامج الإسلام في حكومته، وضّحوا ذلك للعالم، فلعل حكام ورؤساء
المسلمين أن يقتنعوا بصحة هذا ويتبعوه، ونحن لا ننافسهم على الكراسي، بل
نترك من
كان منهم تابعاً وأميناً على التنفيذ في مكانه.
علينا أن نشكل الحكومة الأمينة التي يركن الناس إليه ويثقون بها، ويسلموها
أمورهم كلها. نحن نريد من ينهض بالأمر بأمانة وإخلاص ليعيش الناس في ظل
حكمه
آمنين. واللَّه يعلم أن أهليتكم وجدارتكم لتولي أمور الناس لا تقل عن
الآخرين، سوى أننا لا نملك الإقدام على القتل بغير حق، وعلى الجور والخسف،
لأن ذلك ليس من
اختصاصنا.
أحد رجال الدولة11
في إيران يخاطبني في السجن، وكان معي السيد القمي12
سلمه اللَّه ولا يزال مضطهداً: "السياسة خبث وكذب ونفاق، اتركوا ذلك لنا".
هذا
صحيح. ولئن كانت السياسة لا تعني إلا هذه الأمور فهي بهذا المعنى من شؤونهم،
ولكن السياسة في الإسلام
والسياسة لدى الأئمة عليهم السلام الذين هم ساسة العباد كما ورد في الزيارة13
لا تعني ما قاله لي ذلك الرجل. ذلك الرجل أراد خداعنا والتمويه
علينا. وفي اليوم
التالي ظهرت الصحف لتعلن: "أنه تم الاتفاق والتفاهم على أن لا يتدخل رجال
الدين في السياسة بعد اليوم"14. وبعد الإفراج عني رقيت المنبر وكذبت تلك
الأنباء
الصحفية التي نشرت في حينه، وقلت: "إن الرجل ليكذب، وإن كل من يقول بذلك من
رجالنا يجب نفيه من البلاد"15.
وهؤلاء كما ترون قد ألقوا في روعكم أن السياسة خبث ومكر ودهاء، ليصرفوكم
عنها، وليعبثوا بأمور الأمة ما شاءت لهم أنفسهم، ولينفذوا ما يريدون بوحي
من
سادتهم الإنكليز والأمريكان الذين تزايد
نفوذهم في بلادنا في الآونة الأخيرة.
وإذ كنت في همدان تقدم إليّ رجل فاضل وبيده خارطة وضعت عليها إشارات حمراء
تشير إلى كنوز المعادن المذخورة تحت أرض بلادنا، ولقد توصل إلى معرفة
أولئك الخبراء الأجانب فعرفوا أين يوجد الذهب، وأين يوجد النحاس، وأين يوجد
النفط، وجاسوا خلالنا وأيقنوا أن العقبة الوحيدة التي تحول دون تنفيذ
أطماعهم، هي
الروحانية القوية وتعاليم الدين الحنيف.
أولئك الأعداء عرفوا الطاقات الكامنة في الإسلام، وحسبوا لها ألف حساب،
وعلمهم التأريخ أن الإسلام قد انفتحت له أبواب أوروبا ليحكمها في حقبة
طويلة من الزمن،
إذن فالإسلام الواقعي لا يتلاءم وما يريدون. ولمسوا من جانب آخر أن العلماء
الحقيقيين لا يمكن أن يسايروهم أو يواكبوهم لهذا كله، فقد انصبت محاولاتهم
من أول يوم
على إزالة هذا العائق عن طريقهم، وعلى التقليل من أهمية الإسلام والروحانية،
بشتى وسائل الإعلام. وهكذا ترون كثيراً من الناس ينظرون إلى الإسلام على
أنه
بضعة مسائل شرعية، وترون البعض الآخر لا يحسن الظن بالعلماء.
وقد سعى عملاء الاستعمار إلى اتهام العلماء وتشويه سمعتهم حتى لقد أذاع
بعضهم بكل وقاحة وبلا حياء: "أن ستمائة من علماء النجف وإيران كانوا يعملون
لحساب
الإنكليز. الشيخ الأنصاري كان يتقاضى الرواتب منهم لمدة شهرين". ويستند هذا
العميل في إذاعة ذلك إلى وثائق من وزارة الخارجية البريطانية في الهند. ما
أشد لهفة
الاستعمار إلى اختلاق مثل هذه التهم!
ومن جهة أخرى فقد بذلوا قصارى جهدهم في التقليل من شأن الإسلام، وتحديد
وظائفه ووظائف القائمين عليه من الفقهاء والعلماء، وحصر تلك الوظائف
والواجبات في
حدود بيان المسائل، وفي حدود المواعظ والإرشادات وقد صدق بعض السذج ذلك
فتاهوا من حيث لا يشعرون. أقول لكم: إن هذه الاتهامات والجهود المبذولة في
تشويه
السمعة تستهدف استقلال البلاد وثرواتها.
المؤسسات الاستعمارية كلها وسوست في صدور الناس أن الدين لا يلتقي مع
السياسة. الروحانية ليس عليها أو ليس لها أن تتدخل في الشؤون الاجتماعية.
ليس من
حق الفقهاء أن يعملوا لتقرير مصير الأمة. ومن المؤسف جداً أن البعض منا صدق
تلك الأباطيل. وقد تحقق بهذا التصديق أكبر أمل كانت تحلم به نفوس
المستعمرين.
انظروا الهيئات الدينية، فستجدون آثار ونتائج تلك الدعايات واضحة. فهنالك
البطالون من عديمي الهمم، وهنالك الكسالى الذين يكتفون بالدعاء، والثناء،
والتحدث في
بعض المسائل الشرعية، وكأنهم لم يخلقوا لغير ذلك. ومما يمكن رؤيته في هذا
الجو من تلك الآثار والنتائج هو النغم التالي: "الكلام يتنافى ومقام العالم.
المجتهد لا يليق به أن يتكلم، ويحسن به أن يكثر الصمت ويكتفي بقول: لا إله
إلا اللَّه، أو يكتفي باليسير جداً من الكلام"! هذا خطأ، وفيه مخالفة للسنة
الشريفة. فاللَّه
يثني على البيان في سورة الرحمن بقوله تعالى: "علمه البيان"16
وهو بهذا
يمن على عباده أن علمهم
البيان، ويذكرهم بفضله ونعمته المسبغة عليهم في هذا التعليم. فالبيان إنما
حسن لأجل تعليم الناس عقائدهم السليمة، وأحكام دينهم، وقيادتهم إلى شاطىء
الإسلام. وكان
الرسول صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام أكبر أمراء البيان.
إصلاح المتقدسين
الأفكار البلهاء التي يبثها الأعداء مما ذكرنا بعضها قبل قليل، يوجد فينا
من يؤمن بها، وفي هذا إدامة للاستعمار والنفوذ الأجنبي.هؤلاء جماعة من
البلهاء يدعون
بالمقدسين، وهم ليسوا بمقدسين، بل متقدسين يتكلفون التقدس. علينا أن نصلحهم
وأن نحدد موقفنا منهم، لأن هؤلاء يمنعوننا من الاصلاح والتقدم والنهوض.
وذات يوم اجتمع في منزلي: المرحوم آية اللَّه البروجردي17
والمرحوم آية
اللَّه الحجة18، والمرحوم آية اللَّه الصدر19، والمرحوم آية اللَّه
الخوانساري20
للتداول في أمر سياسي21
مهم. فتقدمت إليهم أن يحددوا موقفهم
من هؤلاء المتظاهرين بالقداسة البلهاء، وأن يعتبروهم أعداء من الداخل، لأن
هؤلاء لا
يهتمون بما يجري، ويحولون بين العلماء الحقيقيين وبين تسلم السلطة والأخذ
بزمام الأمور.
فهؤلاء يوجهون أكبر لطمة للإسلام، ويشكلون أكبر خطر عليه، ويبرزون الإسلام
بصورة مشوهة بأقصى حدود التشوه، ويوجد منهم الكثيرين في النجف وقم
وخراسان22، ولهم تأثير على البسطاء والبلهاء من أمثالهم من الناس.
هؤلاء يعارضون من يصرخ في الناس لإيقاظهم مما غطوا فيه من السبات هؤلاء
يدعون الناس إلى الكسل والتخاذل. هؤلاء يعارضون من يعارض ويقاوم نفوذ
الإنكليز والأمريكان.
علينا أولاً أن ننصح أمثال هؤلاء أن يرجعوا عن غيهم، وننبههم على الخطر
المحدق بالإسلام والمسلمين وأن نفتح أبصارهم تحت ضوء الشمس على الخطر
الصهيوني والانكلو اميركي الذي يمد الكيان الإسرائيلي بمقومات الحياة.
لا تطفئوا النور وتنغمروا في أمواج الظلام كما فعل النصارى قبلكم، فقد
ألهاهم البحث في التثليث والأقانيم وروح القدس والأب والأبن، ولم يبق لهم
شيء آخر. تيقظوا
وانظروا الحقائق كما هي. تداولوا مسائل حياة اليوم والغد.
أتتوقعون أنتم بوضعكم هذا أن تضع الملائكة أجنحتها تحت أقدامكم إكراماً لكم؟!
ألم تكن الملائكة في شغل شاغل عنكم؟!
الملائكة تضع أجنحتها تحت أقدام أمير المؤمنين عليه السلام لسابقته وخدمته،
ونشره للإسلام في الدنيا كلها.
فالملائكة تخضع له، ويخضع له الناس حتى الأعداء منهم، لأنهم يخضعون للحق في
قيامه وقعوده وفي كلامه وصمته، وفي خطبه وصلواته وحروبه. ماذا تستحقون
أنتم من ذلك التعظيم؟ لا شيء!!
نحن نكلم هؤلاء المتقدسين بمثل هذا الكلام. فإن نفعت الذكرى فذاك ما نريد،
وإلا كان لنا معهم حساب آخر وموقف آخر.
تطهير المراكز الدينية
وهذه المراكز الدينية العلمية التي تمارس فيها عمليات التدريس والتعليم
الديني والزعامة الدينية، وهي موطن الفقهاء العدول، ومهبط الطلبة والأساتذة
من شتى البلاد.
هي معدن أمناء اللَّه وخلفاء الرسل. ومن يكون أمين اللَّه في عباده وبلاده
لا يطمع في شيء من فضول الحياة، ولا يطيع للظالمين أمراً، ولا يزكي لهم
عملاً، ولا يعقد
لهم عقدة، ولا يبني معهم بناء.
وأنتم تعلمون ما جناه على الإسلام فقهاء السلاطين وتعلمون ما لتعامل الفقيه
مع الجائرين من تأثير في الناس. فانضواء الفقيه تحت لوائهم يكون أشد ضرراً
على
الإسلام من انضواء أي فرد عادي آخر.
ومن هنا فقد شدد أئمتنا المعصومون عليهم في هذا الأمر، ونهوا عن اتباعهم عن
أي نوع من التعاون والتعامل مع الحاكمين الجائرين مهما كان ذلك هيناً، حذراً
من أن
ينتهي الأمر بالإسلام والمسلمين إلى مثل هذه النهاية التي نراها23.
فرض الأئمة عليهم السلام على الفقهاء فرائض مهمة جداً، والزموهم أداء
الأمانة وحفظها. فلا ينبغي التمسك بالتقية في كل صغيرة وكبيرة. فقد شرعت
التقية للحفاظ
على النفس أو الغير من الضرر في مجال فروع الأحكام.
أما إذا كان الإسلام كله في خطر، فليس في ذلك متسع للتقية والسكوت.
ماذا ترون لو أجبروا فقيهاً على أن يشرع أو يبتدع!.. أنه يجوز له ذلك تمسكاً
بقوله عليه السلام التقية ديني ودين أبي! ليس هذا من موارد التقية أو من
مواضعها.
وإذا كانت ظروف التقية تلزم أحداً منا بالدخول في ركب السلاطين، فهنا يجب
الامتناع عن ذلك حتى لو أدى الامتناع إلى قتله، إلا أن يكون في دخوله
الشكلي نصر
حقيقي للإسلام وللمسلمين، مثل دخول علي بن يقطين24، ونصير الدين
الطوسي25
رحمهما اللَّه.
وبالطبع ففقهاؤنا كما تعرفون من صدر الإسلام وإلى يومنا هذا أجل من أن
ينزلوا إلى ذلك المستوى الوضيع، وفقهاء السلاطين كانوا دائماً من غير
جماعتنا، وعلى
غير رأينا. وتعرض فقهاؤنا على مر العصور لأبشع ألوان القسوة والاضطهاد
وحملات الابادة والمطاردة في كل مكان.
وطبيعي أن يسمح الإسلام بالدخول في أجهزة الجائرين إذا كان الهدف الحقيقي
من وراء ذلك هو الحد من المظالم، أو إحداث انقلاب على القائمين بالأمر، بل
أن ذلك
الدخول قد يكون واجباً. وليس عندنا في ذلك خلاف، إنما الكلام فيمن دعته
بطنته واستهوته الحياة الدنيا، وباع آخرته بدنيا غيره وزين له الشيطان سوء
عمله، فعمل في
صفوف الخونة من الحاكمين وأيدهم وآزرهم وسار من ورائهم، واللَّه على ما
يعمل ويقول شهيد.
أطردوا فقهاء السلاطين
هؤلاء ليسوا بفقهاء. وقسم منهم قد ألبستهم دوائر الأمن والاستخبارات
العمائم لكي يدعوا اللَّه للسلطان ويستنزلوا عليه بركاته ورحماته. وقد ورد
في الحديث في شأن
هؤلاء: "فاحذروهم على دينكم"26.
هؤلاء يجب فضحهم، لأنهم أعداء الإسلام. يجب على المجتمع أن ينبذهم، ففي
نبذهم واحتقارهم نصر للإسلام ولقضية المسلمين. يجب على شبابنا وأبنائنا
انتزاع عمائم
هؤلاء من فوق رؤوسهم.
أين شبابنا في إيران؟ هل ماتوا أم غفلوا!! لا أقول: اقتلوا هؤلاء، فلتنزع
عنهم عمائمهم على الأقل.
على الناس جميعاً أن يمنعوا هؤلاء من الظهور في المجتمع بملابس رجال الدين،
لأن في ذلك تلويثاً وتدنيساً لهذا اللباس الطاهر الشريف.
وقد قلت لكم أن علماء الإسلام الحقيقيين كانوا منزهين عن مثل هذا ولا
يزالون. وهؤلاء الذين ترونهم وتسمعونهم أحياناً قد ألصقوا أنفسهم بالعلماء
إلصاقاً، وليسوا من
العلم والعلماء في شيء. إنما هم جماعة من البطالين، والناس تعرفهم،
وحسابهم عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
وقد كلفنا أن نهذب أنفسنا ونبعدها عن التهالك على حطام الدنيا. وأنتم27
فأعدوا أنفسكم لحفظ أمانة اللَّه التي استودعكم إياها. كونوا
أمناء على دينكم، ولا تركنوا إلى الدنيا ولا تطمئنوا إليها، وإنكم لا
تقدرون من أنفسكم على مثل ما قدر عليه إمامكم أمير المؤمنين عليه السلام
الذي كانت الدنيا عنده لا
تساوي عفطة عنز. اعرضوا عما ضمن لكم في هذه الحياة، وزكوا أنفسكم، واتقوا
ربكم واتكلوا عليه. وإن كنتم لا سمح اللَّه إنما تدرسون علوم الدين لتترفوا
في
الحياة، فأنا أؤكد لكم أنكم لا تبلغون من اللَّه شيئاً ولا تنالون لديه
مقاماً محموداً، واللَّه سيحرمكم من التوفيق إلى فضيلة الاجتهاد والفقه
والبصر في أحكام الدين، ولستم
بذلك أمناء الرسل.
أعدوا أنفسكم لخدمة دينكم، جندوا أنفسكم لإمام زمانكم حتى تستطيعوا أن
تبسطوا العدل في وجه البسيطة. اصلحوا أنفسكم، وتخلقوا بأخلاق اللَّه وأخلاق
الأنبياء واتركوا
زخارف الحياة، واكتفوا بعيشة الكفاف، ليقتدي الناس بكم في عفة نفوسكم
وأبائها ورفعتها، وليكون لهم فيكم أسوة حسنة. كونوا جنوداً للَّه، ترفرف
ألوية الإسلام في كل
مكان على أيديكم.
لا أقول: اتركوا دروسكم استغفر اللَّه بل ادرسوا وتفقهوا في الدين وانذروا
قومكم، وقوّموا هذه الهيئات والمجامع العلمية ولا تتركوها تتداعى وتنهار.
ولكن في خلال
دراستكم بلغوا وأرشدوا ووجهوا وأيقظوا النفوس من سباتها. الإسلام اليوم
غريب، ليس هناك من يعرفه، فعليكم أن تقربوه للناس وتوضحوه لهم حتى يفهم
الناس
الإسلام على وجهه، بعيداً عن الشبه والشكوك والأقاويل التي قيلت فيه،
وأثيرت من حوله. بينوا للناس معنى الحكومة الإسلامية، بينوا لهم معنى
الرسالة والنبوة
والإمامة. لماذا جاء الإسلام؟ وماذا يريد؟
قليلاً قليلاً ويسكن الإسلام في القلوب والأفئدة والعقول، لتقوم بعد ذلك
حكومة إسلامية يمتثل فيها أمر اللَّه ونهيه.
تدمير الحكومات الجائرة
1- مقاطعة المؤسسات التابعة للحكومة الجائرة.
2- ترك التعاون معها.
3- الابتعاد عن كل عمل يعود نفعه عليهم.
4- تأسيس مؤسسات قضائية، ومالية، واقتصادية، وثقافية، وسياسية جديدة.
وعلينا بمحاربة حكم الطاغوت، لأن اللَّه تعالى قد أمر بذلك وهو قد نهى عن
طاعة الطاغوت والسير في ركابه. وعلى السلطات غير العادلة أن تخلي مكانها
لمؤسسات
الخدمات العامة الإسلامية، لتقوم تدريجياً حكومة إسلامية شرعية مستقرة.
وقد ندبنا اللَّه في كتابه الكريم إلى الوقوف صفاً كالبنيان المرصوص في وجه
سلاطين الجور، وأمر موسى بمعارضة فرعون ومقاومته. ووردت في ذلك أحاديث
كثيرة.
وأئمتنا عليهم السلام وشيعتهم كانوا على مدى الأحقاب يقاومون سلطات الجور
في كل مكان، ولا يهادنونها، وبسبب من ذلك فقد نالهم من الخسف والأذى الشيء
الكثير،
يظهر لنا ذلك من خلال حياتهم التي يحدثنا عنها التاريخ.
وبالرغم من أن الأئمة كانوا مراقبين، ولا يتركون لسبيلهم، وكانوا من أجل
ذلك يتخذون الحيطة والتقية لحفظ الدين لا لحفظ أنفسهم -
بالرغم من ذلك كله، فلم تخل كلماتهم من الحث على المقاومة، والمنع من
المهادنة.
وكان حكام الجور يخشون أئمة الهدى عليه السلام لما علموه فيهم من أنهم إذا
واتتهم الفرص فإنهم ينهضون لأخذ زمام الأمور، ويجعلون العيش المترف على
الحاكمين
حراماً. فأنتم ترون "هارون" يحبس الإمام موسى بن جعفر عليه السلام سنين
طويلة، والمأمون يجبر الإمام الرضا عليه السلام على الإقامة في "مرو" تحت
رقابة مشددة،
ثم يسمّه بعد ذلك28. ولم يكن هذا الاضطهاد بسبب أن هؤلاء من ذرية الرسول
صلى الله عليه وآله، بل لما يحمله الأئمة من أفكار وآراء ومواقف.
وكان هارون والمأمون يتشيعان، ولكن الملك عقيم، وهم يعلمون أن أولاد علي
دعاة الخلافة أينما كانوا، وهم يسعون بأصرار لتشكيل حكومة إسلامية كجزء من
واجباتهم الحياتية.
وقد سأل المهدي من خلفاء بني العباس الإمام موسى بن جعفرعليه السلام عن
حدود "فدك"29
ليردها إليه، فحد له الإمام عليه السلام حدود البلاد
الإسلامية كلها قائلاً:
حد منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة
الجندل.
فقال المهدي: هذا كثير انظر فيه30.
كان الحكام الجائرون يعلمون أن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام إذا خلص
منهم فإن الحياة تغدو عليهم حراماً، وأنه سينهض إن وجد من ينصره، ولا
يتوانى في ذلك
أبداً.
لا تشكوا في أن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام لو سنحت له الفرص فإنه كان
يأخذ الخلافة ليقيم بها الحق ويزهق بها الباطل، ويملأ الأرض بالقسط والعدل.
وانظروا كيف كان المأمون يداري الإمام الرضا عليه السلام ويوليه العهد،
ويخاطبه: "يا ابن العم" "يا ابن رسول اللَّه"، وكان مع ذلك يراقب حركاته
لأنه كان يخشاه على
سلطانه، لما له من نفوذ في القلوب ومنزلة عند اللَّه وقربة من الرسول صلى
الله عليه وآله. فالسلاطين يريدون الملك ويفتدونه بكل شيء. ولو كان الإمام
يسير في
ركابهم والعياذ باللَّه لكان مرفهاً ومدللاً، ولكانوا يقبلون يديه،
ويتبركون بأقدامه كل حين.
ورد في الحديث أن الإمام الرضا عليه السلام حينما أدخل على "هارون"31
أمر أن يدخل البلاط راكباً حتى إذا وصل الإمام إلى مقربة من منصة الخلافة،
قام إليه هارون، وسلم عليه، وأكبره واحترمه أشد الاحترام، ولكنه عندما قسم
المال على
الناس خص بني هاشم بشيء قليل من المال، وكان ذلك قد أثار استغراب المأمون
وكان حاضراً ذلك المجلس وقد شاهد ما سبق من أبيه من الاحترام والاجلال،
فسأله
عن سبب قلة المال فقال له أبوه: يا بني أنت لا تدري. ينبغي أن لا يزيد سهم
بني هاشم عن هذا المال، إن هذا الأمر لهم، وهم أولى به منا، فلو مكناهم
لوثبوا
علينا32. وهو بهذا يريد أن يبقوا فقراء، مساجين، مبعدين مشردين، مقتولين،
مسمومين...
ولم يكن الأئمة عليهم السلام وحدهم في مقاومتهم لسلطات الجور، بل كانوا قد
دعوا المسلمين جميعاً إلى مثل ما كانوا عليه.
يوجد في كتاب "الوسائل" و"مستدرك الوسائل" ما يزيد على الخمسين حديثاً فيها
أمر باجتناب الظلمة والحكام الجائرين33، وفي بعضها أمر الأئمة عليهم
السلام أن يحثى
التراب في وجوه المداحين وأفواههم34. وكل من أعانهم ولو بمداد أو قلم
فعليه كذا وكذا من الوزر والاثم والعقاب. وعلى كل فقد أمرنا بالمقاطعة وعدم
التعاون بشكل
تام. وفي مقابل ذلك وردت أحاديث تدعو إلى العلم والتعلم وتثني على العلم
والعلماء والمتعلمين، وفي بعضها: "مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء"35.
وكل هذا إنما هو دعوة صريحة إلى تشكيل حكومة إسلامية يقودها الفقهاء العدول
تنقذ الناس من وطأة الاستعمار وأذنابه وتزيل كل آثاره، ويحيي الناس في ظل
رأيتها
حياة الأمن والاستقرار، والسعادة تحالفهم في الدارين.
ولا يصل المسلمون في أي وقت إلى ما يريدون من العدل والأمن والاستقرار إلا
بعد تحليهم بالإيمان الكامل والأخلاق الفاضلة، في ظل حكومة عادلة تتبع
قوانين
الإسلام، وتستغني عما سواه.
وقد كلفنا بتقديم أطروحة الحكومة الإسلامية إلى الناس، ونتمنى أن تحدث هذه
الأطروحة في نفوس الناس يقظة وحماساً ووعياً ترتكز عليه أسس ودعائم الدولة
الإسلامية الحديثة، ليستعيدوا في ظلها سابق مجدهم وعزتهم، وللَّه العزة
ولرسوله وللمؤمنين.
اللهم كف عنا أيدي الظالمين. واقطع دابر الحكام الجائرين، وابعث العدل
والرحمة والرأفة واليقظة في نفوس حكام المسلمين، ليعملوا في صالح شعوبهم،
ويتركوا ما هم
عليه من الاثرة.
ووفق الشباب، والمثقفين والجامعيين إلى تطبيق أهداف الإسلام المقدسة، واجعل
المسلمين جميعاً صفاً واحداً ليتخلصوا ويخلصوا أمتهم والعالم أجمع من براثن
التخلف
وآثار الاستعمار، ووفقهم للدفاع عن وطنهم صفاً كأنهم بنيان مرصوص.
ووفق اللهم الفقهاء وطلاب علوم الدين للعلم والهدى والعمل الصالح، وأنجح
مساعيهم في تأسيس الحكومة الإسلامية الراشدة، إنك ولي التوفيق، ولا حول ولا
قوة إلا
باللَّه العلي العظيم.
|