بداهة ولاية
الفقيه
ولاية الفقيه فكرة علمية واضحة، قد لا تحتاج إلى برهان،
بمعنى أن من عرف الإسلام، أحكاماً، وعقائد، يرى بداهتها.
ولكن وضع المجتمع الإسلامي، ووضع مجامعنا العلمية على وجه
الخصوص، يضع هذا الموضوع بعيداً عن الأذهان، حتى لقد عاد
اليوم بحاجة إلى البرهان.
أسباب غربة الأمة عن مبدأ ولاية الفقيه
أ- الحركة اليهودية والتبشير الإستعماري:
ابتليت الحركة الإسلامية من أول أمرها باليهود، حينما
بدأوا نشاطهم المضاد، بالتشويه لسمعة الإسلام، والوقيعة
فيه، والافتراء عليه، واستمر ذلك إلى يومنا هذا. ثم كان
دور كبير لفئات يمكن أن تعتبر أشد بأساً من إبليس وجنوده.
وقد برز ذلك الدور في النشاط الاستعماري الذي يعود تاريخه
إلى ما قبل ثلاثة قرون1.
وقد وجد المستعمرون في العالم الإسلامي ضالتهم المنشودة،
وبغية الوصول إلى مطامعهم الاستعمارية سعوا في إيجاد ظروف
ملائمة تنتهي بالإسلام إلى العدم. ولم يكونوا يقصدون إلى
تنصير المسلمين بعد إخراجهم من الإسلام، فهم لا يؤمنون بأي
منهما، بل أرادوا السيطرة والنفوذ، لأنهم أدركوا دائماً
وفي أثناء الحروب الصليبية2،
إن أكبر ما يمنعهم من نيل
مآربهم، ويضع
خططهم السياسية على شفا جرف هار هو الإسلام: بأحكامه،
وعقائده، وبما يملك الناس به من إيمان. لأجل هذا تحاملوا
عليه وأرادوا به كيداً. وتعاونت على ذلك أيدي المبشرين،
والمستشرقين، ووسائل الإعلام، وكلها تعمل في خدمة الدول
الاستعمارية، من أجل تحريف حقائق الإسلام، بشكل جعل كثيراً
من الناس، والمثقفين منهم بشكل خاص، بعيدين عن الإسلام،
ولا يكادون يهتدون إليه سبيلاً.
ب- شبهات المستعمرين والمستشرقين حول الإسلام:
فالإسلام هو دين المجاهدين الذين يريدون الحق والعدل، دين
الذين يطالبون بالحرية والاستقلال، والذين لا يريدون أن
يجعلوا للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
ولكن الأعداء أظهروا الإسلام بغير هذا المظهر. فقد رسموا
له صورة مشوهة في أذهان العامة من الناس، وغرسوها حتى في
المجامع العلمية، وكان هدفهم من وراء ذلك إخماد جذوته،
وتضييع طابعه الثوري الحيوي، حتى لا يفكر المسلمون في
السعي لتحرير أنفسهم، وتنفيذ أحكام دينهم كلها، عن طريق
تأسيس حكومة تضمن لهم سعادتهم في ظل حياة إنسانية كريمة.
الشبهة الأولى: فصل الإسلام عن نظام الحكم
فقالوا عن الإسلام: أن لا علاقة له بتنظيم الحياة والمجتمع،
أو تأسيس حكومة من أي نوع، بل هو يعنى فقط بأحكام الحيض
والنفاس،
وقد تكون فيه أخلاقيات، ولا يملك بعد ذلك من أمر الحياة
وتنظيم المجتمع شيئاً. ومن المؤسف أن تكون لهذا كله آثاره
السيئة ليس في نفوس عامة الناس فحسب، بل لدى الجامعيين،
وطلبة العلوم الدينية أيضاً.
فهم يخطئون فهمه، ويجهلونه، حتى لقد عاد بينهم غريباً، كما
يبدو الغرباء من الناس، وقد غدا صعباً على الداعية المسلم
أن يعرِّف الناس بالإسلام، وفي مقابله يقف صف من عملاء
الاستعمار، ليأخذوا عليه الآفاق عجيجاً وضجيجاً.
الحل: مسؤولية الإسلام لجميع جوانب الحياة
ولكي نميز بين واقع الإسلام، وبين ما عرفه عامة الناس عنه،
أحب أن أوجه أنظاركم إلى التفاوت بين القرآن وكتب الحديث
من جهة، وبين الرسائل العملية من جهة أخرى. القرآن، وكتب
الحديث، وهما من أهم مصادر التشريع يمتازان عن الرسائل
التي كتبها المجتهدون والفقهاء امتيازاً شديداً، لما في
القرآن وكتب الحديث من الشمول لجميع جوانب الحياة. فالآيات
ذات العلاقة بشؤون المجتمع تزيد اضعافاً مضاعفة عن الآيات
ذات العلاقة بالعبادات خاصة. وفي أي كتاب من كتب الحديث
الموسّعة لا تكاد تجد أكثر من ثلاثة أبواب، أو أربعة تعنى
بتنظيم عبادات الإنسان، وعلاقاته بربه، وأبواب يسيرة أخرى
تدور في الأخلاق، وما سوى ذلك فذو علاقة قوية بالاجتماع،
والاقتصاد، وحقوق الإنسان، والتدبير، وسياسة المجتمعات.
أنتم الشباب جنود الإسلام. عليكم أن تتعمقوا فيما أوجزه من
الحديث، وتعرّفوا الناس طوال حياتكم بأنظمة الإسلام
وقوانينه، بكل وسيلة ميسورة: كتابة، وخطابة، وعملاً.
علِّموا النَّاس بما أحاط
بالإسلام من أول أمره من بلايا ومصائب
وأعداء. لا تكتموا الناس ما تعلمون، ولا تدعوا الناس
يتصورون أن الإسلام كالمسيحية الحالية، وأن لا فرق بين
المسجد والكنيسة، وأن الإسلام لا يملك أكثر من تنظيم علاقة
الفرد بربه.
في الوقت الذي كان يسيطر فيه الظلام على بلاد الغرب، وكان
الهنود الحمر يقطنون أمريكا، وكان في الإمبراطورية
الرومانية والفارسية حكم مطلق يمارس فيه التسلط والتمييز
العنصري، وتستخدم فيه القوة إلى مدى بعيد من غير اهتمام
برأي الشعب، أو بالقانون آنذاك وضع اللَّه قوانين صدع بها
النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليولد في ظلِّها
الإنسان. لكل شيء آداب وقوانين. ومن قبل تكوّن الإنسان،
وإلى حين نزوله في حفرته، وضعت له قوانين تحكمه. ورسمت
العلاقات الاجتماعية، ونظمت الحكومة، إلى جانب ما رسم من
وظائف العبادات. والحقوق في الإسلام ذات مستوى عال،
ومتكامل، وشامل. وكثيراً ما اقتبس الحقوقيون من أحكام
الإسلام وأنظمته، في معاملاته، وحدوده3، وقصاصه4،
وقضائه، وتنظيمه العلاقات بين الدول والشعوب، وقواعد الحرب
والسلم، وحقوق الناس. وهكذا يكون الإسلام قد عالج كل موضوع
في الحياة، وأعطى فيه حكمه. ولكن الأجانب وسوسوا في صدور
الناس والمثقفين منهم
خاصة: "إن الإسلام لا يملك شيئاً،
الإسلام عبارة عن مجموعة أحكام الحيض والنفاس. طلبة العلوم
الدينية لا يتجاوزون في تخصصهم هذه المواضيع". صحيح أن بعض
الطلبة لا يهتم بأكثر من هذا، وهم مقصِّرون، وفي هذا ما
يُعين الأعداء أحياناً على نيل مقاصدهم. وفي هذا ما يدعو
إلى ابتهاج المستعمرين الذين عملوا منذ مئات السنين على
غرس بذور الاهمال في مجامعنا العلمية، وصولاً إلى أهدافهم
فينا، وفي ثرواتنا وخيرات بلادنا.
الشبهة الثانية: نقص الإسلام وخشونة أحكامه القضائية.
أحياناً يوسوسون إلى الناس: "إن الإسلام ناقص. أحكامه في
القضاء ليست كما ينبغي".
وإمعاناً في خداع الناس وتضليلهم سعى عملاء الإنكليز
بتوجيهٍ من سادتهم إلى استيراد القوانين الوضعية الأجنبية.
وذلك في أعقاب الثورة السياسية المشهورة وإقامة حكم دستوري
في إيران. فحينما أرادوا وضع القانون الأساسي أي الدستور
للبلاد، عمد هؤلاء العملاء إلى القوانين البلجيكية، التي
استعاروها من السفارة البلجيكية، وقام عدة منهم ولا أريد
تسميتهم باستنساخها، مع ترميم نواقصها من مجموعة القوانين
الفرنسية والإنكليزية، وأضافوا إليه بعض الأحكام الإسلامية
تمويهاً وخداعاً. إنّ البنود الخاصة بتحديد نظام الحكم في
الدستور، والتي تقرّ الملوكية والحكم الوراثي كنظام حكم
للبلاد، مستوردة من إنكلترا وبلجيكا، ومأخوذة من دساتير
الدول الأوروبية، وهي غريبة عن الإسلام ناقضة له.
هل توجد في الإسلام ملوكية أو حكم وراثي أو ولاية عهد؟!
كيف
يكون هذا في الإسلام، ونحن نعلم أن
النظام الملكي يناقض الحكم الإسلامي ونظامه السياسي. لقد
أبطل الإسلام الملكية وولاية العهد، واعتبر في أوائل ظهوره
أن جميع أنظمة السلاطين في إيران ومصر واليمن والروم، غير
شرعية. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد كتب إلى
ملك الروم (هرقليس)5 وملك فارس6: يدعوهم إلى الكف عن
استعباد الناس، ويدعوهم فيها إلى إرسال الناس على سجاياهم،
ليعبدوا اللَّه وحده، لأن له السلطان وحده7. إن الملكية
وولاية العهد هو أسلوب الحكومة المشؤوم الباطل الذي نهض
سيد الشهداء الحسين "عليه السلام" لمحاربته والقضاء عليه.
وإباءً للضيم، واستنكافاً من الخنوع لولاية يزيد8 وملكه،
قام بثورته التاريخية، ودعا المسلمين جميعاً إلى مثل
ذلك. فليس في الإسلام نظام ملكي وراثي.
وإذا كان هذا نقصاً في اعتبارهم، فليقولوا: إن الإسلام
ناقص.
يضاف إلى ذلك النقص: أن الإسلام غفل عن تنظيم تعاطي الربا،
وأهمل تنظيم معاقرة الخمور، وتنظيم الفحشاء والمنكر، ومن
أجل سد هذه النواقص، وملء هذه الفراغات، فقد اضطرت
السلطات الحاكمة ربيبة الاستعمار إلى تشريع قوانين تنظم
تلك الأمور، مقتبسة ذلك من إنكلترا، وفرنسا، وبلجيكا،
وأمريكا. ونحن نعلم أن ذلك كله حرام في شريعتنا، وأن من
مفاخر إسلامنا أن تعدم فيه تنظيمات خاصة بهذه الأمور.
مشاكل القوانين الوضعية:
وقد بذل الاستعمار البريطاني في أوائل ما يسمى بالعهد
الدستوري جهوداً كان الهدف منها أمران: أحدهما دحر النفوذ
الروسي في إيران، وثانيهما إخراج الإسلام وطرده من ميدان
التطبيق، واستيراد القوانين الغربية، وإحلالها محل قوانين
الإسلام.
وقد سببت هذه القوانين الأجنبية للمجتمع المسلم مشاكل جمة.
فذوو الخبرة من الحقوقيين متذمرون منها. وكل من ألمت به
مشكلة قضائية، أو حقوقية، في إيران، أو الدول المشابهة، لا
بد أن يقضي عمراً مديداً، من أجل كسبها. قال لي أحد مهرة
المحامين، وهو يحاورني: أنا أستطيع أن أعالج قضية بين
متخاصمين في المحاكم طيلة عمري، ومع ذلك فقد يغلب على ظني
أن ابني سيخلفني فيها من بعدي. هذه حقيقة موجودة، الآن،
يستثنى من ذلك ما يكسبه ذوو النفوذ من قضاياهم كسباً
سريعاً غير مشروع، بما يجيدونه من المكر
والاحتيال والرشوة وأساليب الغش
والخداع. ونحن نرى أن القوانين القضائية اليوم لا تريد
بالناس إلا العسر. والقضية التي كان يبت فيها قاضي الشرع
في يومين أو ثلاثة، تستغرق اليوم عشرين عاماً. وفي هذه
المدة يشيب الشباب من كثرة مراجعة دوائر القضاء صباحاً
ومساءً والدوران في أروقتها بغير أمل، كلما أرادوا أن
يخرجوا منها أعيدوا فيها.
يكتبون أحياناً في كتبهم وصحفهم: أحكام الإسلام قاسية ذات
خشونة. حتى لقد تجرأ أحدهم بكل وقاحة، وقال: "خشونة هذه
الأحكام مستمدة من خشونة البداوة، خشونة العرب هي التي
سببت خشونة هذه الأحكام".
أنا أعجب لهؤلاء كيف يفكرون؟ هم ينفذون حكم الاعدام بحجة
القانون في عدة أشخاص لتهريبهم (10 غم هيروئين). وقد بلغني
أنهم أعدموا قبل حين، عشرة أشخاص، ثم واحداً آخر، من أجل
تهريب (10 غم هيروئين). حينما يشرعون هذه القوانين
اللاإنسانية بحجة منع الفساد، لا يرون فيها خشونة. أنا لا
أبيح التعامل بالهيروئين، ولكني أنكر أن يكون الاعدام جزاء
تعاطيه. بل لا بد من مكافحة ذلك، ولكن على أساس مناسب لحجم
الجريمة9.
جلد شارب الخمر (80 سوطاً) فيه خشونة، وإعدام الأشخاص بسبب
تهريب (10 غم هيروئين) لا خشونة فيه! في حين أن أكثر
المفاسد الاجتماعية إنما يسببها الخمر. حوادث الاصطدام في
الطرقات، وحوادث الانتحار، وحتى
الإدمان على الهيروئين كما يقول البعض من عواقب السكر
ومعاقرة الخمور. ومع ذلك فهم لا يحظرون الخمر، لأن الغرب
قد أباح هذا، ولهذا فهم يتعاطون بيعها وشراءها بحرية تامة.
الويل للإسلام منهم إذا أراد أن يجلد شارب الخمر ثمانين
سوطاً، أو يجلد الزاني غير المحصن مائة جلدة، أو يرجم
المحصن أو المحصنة10،
ها هم يصرخون: إنها أحكام قاسية ذات خشونة مستمدة من خشونة
العرب. في حين أن أحكام العقوبات الجنائية في الإسلام قد
جاءت لمنع الفحشاء والمنكر والفساد في أمة كبيرة مترامية
الأطراف. وها هو الفساد قد ظهر إلى حد ضاع فيه شبابنا،
وتاهوا، لأن هذا الفساد قد مهد له، ودعي إليه، وتوفرت له
التسهيلات اللازمة. وإذا أراد الإسلام في هذه اللحظة أن
يتدخل، ويجلد شارب خمر بحضور طائفة من المؤمنين11،
فإن أولئك سيتهمونه بالخشونة والقسوة. وفي مقابل هذا لا
ينبغي الاعتراض على ما يجري في فيتنام12
من مجازر دموية منذ خمسة عشر عاماً على يد سادة هؤلاء
الحكام، على ما في ذلك من نفقات باهظة
تستنزف من جيوب الشعوب. أما إذا أراد الإسلام أن يفرض
الدفاع عن نفسه، ويعلن الحرب لقطع دابر الفساد، فإنهم
يصرخون: لم قامت هذه الحرب؟
العوامل الداخلية والخارجية لضعف الأمة
التقاعس أمام المخططات الموجَّهة:
كل هذه خطط صممت ورسمت قبل مئات السنين، وهم ينفذونها
تدريجياً. في البدء أسسوا مدرسة في مكان ما، ولم نحرك
ساكناً، وغفلنا، وغفل أمثالنا عن منع ذلك، وزادت تدريجياً.
والآن ترون أن لهم دعاة في جميع القرى، وقد عملوا على
إبعاد أطفالنا عن دينهم. وتتمثل بعض خططهم في إبقائنا على
تخلفنا وضعفنا، وبؤسنا، ليستفيدوا هم
من ثرواتنا ومعادننا
وأراضينا، وقوانا البشرية. هم يرون أن نبقى بؤساء مساكين
من غير اطلاع ومعرفة لما شرعه الإسلام في معالجة الفقر،
وليعيشوا هم وعملاؤهم وأذنابهم في قصور وبروج، في حياة
ناعمة يرفلون. وقد تركت خططهم آثارها حتى في مجامعنا
الدينية والعلمية، بحيث أن أحداً لو أراد التحدث في موضوع
حكومة الإسلام، فلا بد أن يستعمل التقية، أو يجابه أذناب
الاستعمار، حتى أن هذا الكتاب حينما صدر في طبعته الأولى
أثار عملاء الشاه في العراق، وكشف عنهم بما أبدوه من حركات
يائسة لم تجدهم نفعاً.
نعم، وصل بنا الأمر إلى حد أن بعضاً منا يعتبر لباس الحرب
والقتال منافياً للمروءة، والعدالة13،
في حين كان أئمتنا يلبسون للحرب لامتها، ويأخذون للقتال
آلته، وكانوا يخوضون غمار الحروب، وكان أمير المؤمنين علي
"عليه السلام" يرتدي لباس الحرب ويحمل سيفاً له حمائل،
وهكذا كان الحسن "عليه السلام" وهكذا كان الحسين "عليه
السلام"، ولو سنحت الفرص لجرى على ذلك الإمام محمد الباقر
"عليه السلام" ومن بعده. كيف يكون ارتداء زي الحرب منافياً
للعدالة الإجتماعية والمروءة، ونحن نريد تشكيل حكومة
إسلامية، فهل نحقق ما نريد بالعمة والعباءة، لأن غير ذلك
ينافي المروءة والعدالة؟
ما نقاسيه الآن إنما هو من آثار تلك
الدعايات المضلّة التي انتهى بها أصحابها إلى ما يريدون،
وأحوجتنا إلى بذل جهود كبيرة كي نثبت أن في الإسلام
مبادىء وقواعد لتشكيل الحكومة.
هذا وضعنا. وها هم الأعداء قد رسخوا تلك الأباطيل في نفوس
الناس بالتعاون مع عملائهم، وأخرجوا قوانين الإسلام
القضائية، والسياسية عن حيز التنفيذ، واستبدلوا بها قوانين
أوروبا، تحقيراً للإسلام، وطرداً له من المجتمع، وقد
انتهزوا في ذلك كل فرصة سانحة.
هذه مخططات الاستعمار التخريبية، وإذا أضفنا إليها عوامل
الضعف الداخلية لدى بعض أفرادنا، نتج عن ذلك أن هذا البعض
أخذ يتضاءل ويحتقر نفسه في مقابل التقدم المادي لدى
الأعداء. فحينما تتقدم دول صناعياً وعلمياً، يتضاءل بعضنا،
ويظن أن قصورنا عن ذلك إنما يعود إلى ديننا، وأن لا سبيل
إلى مثل هذا التقدم إلا في اعتزال الدين وقوانينه، والمروق
عن التعاليم والعقائد الإسلامية. وعند ذهابهم إلى القمر
تصور هؤلاء أن الدين مانعهم عن هذا!! أحب أن أقول لهؤلاء:
ليست قوانين المعسكر الشرقي أو الغربي هي التي أوصلتهم إلى
القمر وإلى هذا التقدم الرائع في غزو الفضاء الخارجي،
فقوانين هذين المعسكرين مختلفة تماماً. ليذهبوا إلى
المريخ، وإلى أي مكان يشاؤون، فهم لا يزالون متخلفين في
مجال توفير السعادة للإنسان، ومتخلفين في نشر الفضائل
الخلقية، وفي إيجاد تقدم نفسي روحي مشابه للتقدم المادي.
ولا يزالون عاجزين عن حل مشاكلهم الاجتماعية، لأن حل تلك
المشاكل ومحو الشقاء يحتاج إلى روح عقائدية وأخلاقية،
والمكاسب المادية في مجال تذليل الطبيعة وغزو الفضاء، لا
تستطيع النهوض
بذلك. الثروة والطاقات، والامكانيات
بحاجة إلى الإيمان والعقيدة، والأخلاق الإسلامية حتى
تتكامل، وتتعادل، وتخدم الإنسان، وتدفع عنه الحيف والبؤس.
ونحن وحدنا نملك هذه العقائد والأخلاقيات والقوانين، وعلى
هذا فلا ينبغي لنا بمجرد أن نرى أحداً يذهب إلى القمر أو
يصنع شيئاً، أن نطرح ديننا وقوانيننا التي تتصل اتصالاً
مباشراً بحياة الإنسان، وتحمل نواة إصلاح البشر، وإسعادهم
في الدنيا والآخرة.
الشبهة الثالثة: لا حكومة في الإسلام تضمن التنفيذ:
من الأفكار التي نشرها الاستعماريون في أوساطنا، قولهم:
"لا حكومة في التشريع الإسلامي، لا مؤسسات حكومية في
الإسلام، وعلى فرض وجود أحكام شرعية مهمة، فإنها تفتقر إلى
ما يضمن لها التنفيذ، وبالتالي فالإسلام مشرِّع لا غير".
ومن الواضح أن هذه الأقاويل جزء لا يتجزأ من الخطط
الاستعمارية، يراد بها إبعاد المسلمين عن التفكير في
السياسة والحكم والإدارة.
الحل: الولاية في الإسلام تضمن تنفيذ الأحكام:
هذا الكلام يخالف معتقداتنا الأولية. نحن نعتقد بالولاية،
ونعتقد ضرورة أن يعين النبي خليفة من بعده، وقد فعل14.
ماذا يعني تعيين الخليفة؟ هل يعني مجرد بيان الأحكام؟ بيان
الأحكام وحده لا يحتاج إلى خليفة. كان يكفيه صلى الله عليه
وآله وسلم أن يبثها في الناس، ثم يودعها في كتاب
يتركه في الناس، ليرجعوا إليه من بعده.
فالحاجة إلى الخليفة إنما هي من أجل تنفيذ القوانين، لأنه
لا احترام لقانون من غير منفذ، وفي العالم كله لا ينفع
التشريع وحده، ولا يؤمن سعادة البشر، بل لا بد من سلطة
تنفيذية يكون افتقادها في أية أمة عامل نقص وضعف. ولهذا
فقد قرر الإسلام ايجاد قوة تنفيذية من أجل تطبيق أحكام
اللَّه. ولي الأمر هو الذي يتصدى لتنفيذ القوانين. وهكذا
فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولو لم يفعل فما بلغ "رسّالّتّهُ"15.
وكان تعيين خليفة من بعده، ينفذ القوانين، ويحميها، ويعدل
بين الناس عاملاً متمماً ومكملاً لرسالته. النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لم يكن يكتفي في أيامه ببيان الأحكام وإبلاغها،
بل كان ينفذها. فقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله
وسلم
منفذ قانون. كان يعاقب، فيقطع يد السارق، ويجلد ويرجم16،
ويحكم بالعدل. الخليفة يراد لأمثال هذا. الخليفة ليس مبلغ
قوانين، أو مشرعاً، وإنما الخليفة يراد للتنفيذ. هنا تبدو
أهمية تشكيل الحكومة، وإيجاد المؤسسات التنفيذية وضرورة
تنظيمها. والإيمان بضرورة تشكيل الحكومة وإيجاد تلك
المؤسسات جزء لا يتجزأ من الإيمان بالولاية. والعمل والسعي
من أجل هذا الهدف هو مظهر من مظاهر ذلك الإيمان بالولاية.
عليكم أن تظهروا الإسلام كما ينبغي أن يظهر. عرّفوا
الولاية للناس كما هي، قولوا لهم: إننا نعتقد بالولاية،
وبأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استخلف بأمر من اللَّه،
ونعتقد كذلك بضرورة تشكيل الحكومة، ونسعى من أجل تنفيذ أمر
اللَّه وحكمه، ومن أجل إدارة الناس، وسياستهم، ورعايتهم.
النضال من أجل
تشكيل الحكومة توأم الإيمان بالولاية. اكتبوا وانشروا
قوانين الإسلام، ولا تكتموها. وخذوا على أنفسكم تطبيق حكم
إسلامي، واعتمدوا على أنفسكم، وثقوا بالنصر.
الدين محور لكل الحياة
المستعمرون قبل أكثر من ثلاثة قرون أعدوا أنفسهم، وبدأوا
من نقطة الصفر، فنالوا ما أرادوا. لنبدأ نحن الآن من
الصفر. لا تمكنوا الغربيين واتباعهم من أنفسكم. عرّفوا
الناس بحقيقة الإسلام، كي لا يظن جيل الشباب أن أهل العلم
في زوايا النجف وقم يرون فصل الدين عن السياسة، وأنهم لا
يمارسون سوى دراسة الحيض والنفاس، ولا شأن لهم بالسياسة.
المستعمرون أشاعوا في المناهج المدرسية ضرورة فصل الدين عن
الدولة، وأوهموا الناس بعدم أهلية علماء الإسلام للتدخل في
شؤون السياسة والمجتمع. وردد هذا الكلام أذنابهم وأتباعهم.
في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل كان الدين بمعزل عن
السياسة؟ هل كان يومذاك أشخاصاً مختصون بالدين، وآخرون
مختصون بالسياسة؟ وفي زمن الخلفاء، وفي زمن الإمام أمير
المؤمنين علي "عليه السلام" هل فصلت السياسة عن الدين؟ هل
كان يوجد جهاز للدين، وجهاز آخر للسياسة؟
لقد تفوه المستعمرون وأذنابهم بهذه العبارات كي يبعدوا
الدين عن أمور الحياة، والمجتمع، ويبعدوا ضمناً علماء
الإسلام عن الناس، ويبعدوا الناس عنهم، لأن العلماء
يناضلون من أجل تحرير المسلمين واستقلالهم. وعندما تتحقق
أمنيتهم في هذا الفصل والعزل، يستطيعون أن يذهبوا بثرواتنا
ويتحكموا فينا. وأنا أقول لكم أنه إذا كان همنا الوحيد أن
نصلي، وندعوا ربنا ونذكره
ولا نتجاوز ذلك، فالاستعمار وأجهزة العدوان كلها لا
تعارضنا. ما شئت فصل، ما شئت فأذن، وليذهبوا بما آتاك
اللَّه، والحساب على اللَّه ولا حول ولا قوة إلا باللَّه،
وعندما نموت فأجرنا على اللَّه! وإذا كان هذا تفكيرنا فلا
شيء علينا، ولا خوف علينا.
قيل أن أحد قادة الاحتلال البريطاني للعراق حينما سمع
المؤذن سأل عن الضرر الذي يسببه هذا الآذان للسياسة
البريطانية، فلما أخبر بأنه لا ضرر من ذلك قال: فليقل ما
شاء ما دام لا يتعرض لنا. وأنت إذا كنت لا تمس السياسة
الاستعمارية، وكنت في دراستك للأحكام لا تتجاوز النطاق
العلمي فلا شأن لهم معك. صل ما شئت. هم يريدون نفطك، أي
شأن لهم بصلاتك؟ هم يريدون معادننا. يريدون أن يفتحوا
أسواقنا لبضائعهم ورؤوس أموالهم. لذا نرى الحكومات العميلة
تحول دون تصنيع البلاد، مكتفية في بعض الأحيان بمصانع
التجميع لا غير. هم يريدون أن لا نرتفع إلى مستوى الآدميين،
لأنهم يخافون الآدميين. وإذا وجدوا في مكان ما آدمياً فهم
يرهبونه لأنه هذا الآدمي تقدمي متطور، يستطيع التأثير في
الناس والمجتمع تأثيراً يهدم جميع ما بناه العدو ويزلزل
الأرض تحت عروش الظلم والخيانة والعمالة. ولهذا فإنهم إذا
وجدوا آدمياً في وقت من الأوقات، ائتمروا به ليقتلوه، أو
يثبتوه أو يخرجوه. أو يتهموه بأنه سياسي. هذا العالم سياسي!!
ولكن ألم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سياسياً؟ هل في
ذلك عيب؟ كل ذلك الكلام يقوله عمال العدو وعملاؤه ليبعدوكم
عن السياسة، وعن التدخل في شؤون المجتمع، ويمنعوكم من
مكافحة سلطات الخيانة والجور، ليصفو لهم الجو، فيعملوا ما
شاؤوا، وينهبوا ما شاؤوا من غير معارض أو عائق.
|