الإمام علي عليه السلام


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-07

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 

المقدّمة

7

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام       

9

عجائب شتّى في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

11

تضادّ الصفات في شخصيّة الإمام عليه السلام

12

مثال رأفته ورقّته   

13

مثال ورعه وحكومته        

17

اجتماع القوّة والمظلوميّة في الإمام عليّ عليه السلام       

18

زهد الإمام عليّ عليه السلام

19

استغفار الإمام عليّ عليه السلام      

20

التأسّي بالإمام عليّ عليه السلام      

22

الإمام عليّ عليه السلام مثل أعلى وقدوة       

23

الإمام عليّ عليه السلام الحبّ الخالد  

29

الإمام عليّ عليه السلام في سطور التاريخ       

30

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام         

35

الإمام عليّ عليه السلام مثلنا الأعلى  

37

زهد أمير المؤمنين عليه السلام         

42

جوانب أخرى من صفات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام         

44

شجاعة الإمام عليّ عليه السلام      

47

أمير المؤمنين عليه السلام الشخصيّة التاريخيّة المحبوبة       

57

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

الاقتداء بالإمام عليّ عليه السلام عمليّاً         

57

رواية (الإرشاد) في مدح أمير المؤمنين عليه السلام         

59

حاجة البشريّة لصفات الإمام عليّعليه السلام وخصاله              

65

الإمام عليّ عليه السلام مظهر العدل الإلهيّ     

68

العدالة في بُعدها الفرديّ عند الإمام عليّ عليه السلام     

68

العدالة في بُعدها الاجتماعيّ عند الإمام عليّ عليه السلام

71

الخصائص والصفات الظاهريّة لشخصيّة الإمام عليعليه السلام       

72

العناصر الّتي اجتمعت في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام         

75

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

81

أهل البغي في زمن الإمام عليّ عليه السلام      

83

من هم أولئك القاسطون؟   

83

مواجهة الإمام عليّ عليه السلام للمشاكل بصبر وبصيرة  

89

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

95

مزايا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

97

الإمام عليّ عليه السلام سيّد المتّقين  

100

معالم الحكومة العلويّة       

103

سيرة الإمام عليّ عليه السلام في الحكم         

111

نماذج من حكم الإمام عليّ عليه السلام        

113

خاتمة آلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

119

معاناة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام         

121

شهادة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

121

 

 

 

 

6


2

المقدمة

 المقدمة

 
 
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيّد المرسلين أبي القاسم محمّد وآله الطيّبين المنتجبين.
 
لقد شكّلت حياة أمير المؤمنين عليه السلام النموذج الإسلاميّ الكامل والسراج المنير لكلّ من يبحث عن الله وعن صراطه المستقيم، وكيف لا يكون الإمام علي عليه السلام نبراساً للإنسان المسلم وقد تكفّل تربية هذه الشخصيّة المرموقة والملكوتيّة أفضل الناس وأعظمهم خلقاً وهو النبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حيث ذاب أمير المؤمنين عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ذاب هو بالله، وقد عبّر الإمام علي عليه السلام عن هذه الحالة بقوله: " لقد كنت اتّبعه اتباع الفصيل إثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً يأمرني بالاقتداء به"1.
 
إنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هو مظهر العدالة والقداسة والإنصاف والرحمة والتدبير والشجاعة، والعبوديّة لله عزَّ وجلَّ. وأفضل من استنار من أنوار هذه الشخصيّة العظيمة في زماننا الحاضر هو سماحة وليّ أمر المسلمين السيّد عليّ الخامنئي دام ظله فاخترنا من 
 
 
 

1-بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج14، ص475.
 
 
 
 
 
7

3

المقدمة

كلماته بعض ما ذكره عن أمير المؤمنين عليه السلام. وما في هذا الكتاب غيض من فيض الإمام عليّ عليه السلام هذا البحر الزخّار لعلّه يكون لنا هادياً ومنقذاً سائلين المولى حسن التوفيق والقبول الحسن إنّه مجيب الدعوات.

 

 

مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
8

4

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

 عجائب شتّى في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام 


إنّ حياة أمير المؤمنين عليه السلام أشبه ما تكون بمحيط لا يتيسّر للمرء الإحاطة بكلّ آفاقه بنظرة واحدة أو حتّى عبر دراسة طويلة؛ فالمحيط من حيثما تأتيه تجده زاخراً بالعظمة، تجده مجمعاً لبحور عميقة القعر، فيها كائنات مختلفة الأشكال والصور، وعجائب شتّى. وإذا ما تركنا هذا الجانب ودخلنا المحيط من جانب آخر، فالكلام هو الكلام, حيث نرى آيات العظمة والمشاهد والصور المختلفة. وإذا وردناه من ضفّة ثالثة أو رابعة أو خامسة أو عاشرة، فيأتي نفس الكلام أيضاً فنرى في كلّ جهة عجائب أخرى.

هذا طبعاً مجرّد مثال مصغّر ولا يفي بالغرض عن شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام. ومن حيثما تنظر إلى هذه الشخصيّة تجدها تنطوي على عجائب جمّة, ولا مبالغة في هذا, بل هو انعكاس لعجز إنسان دَرَسَ حياة أمير المؤمنين عليه السلام سنوات متمادية واستشعر هذا الإحساس في نفسه، وأدرك أنّ شخصية عليّ عليه السلام لا يمكن سبر أغوارها بأسباب الفهم المتعارف من ذهن وعقل وحفظ وإدراكات عاديّة؛ لأنّ كلّ جانب من جوانبها زاخر بالعجائب.
طبعاً أمير المؤمنين عليه السلام نسخة مصغّرة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم 
 
 
 
 
 
 
11

5

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

 وتلميذ له، ولكن إذا شئنا النظر إلى هذا الرجل الّذي يَعتَبِر نفسه صغيراً أمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو تلميذ بالمنظار البشريّ، يبدو لنا رجلاً فوق النمط البشريّ وفوق المستوى الإنسانيّ. 


ونحن غير قادرين على تصوّر إنسان بمثل هذه الآفاق العظيمة؛ لأنّ أسباب الفَهْم المتوفّرة لدى الإنسان من عقل وذهن وإدراك ولا أقول عدسة التصوير التلفزيونيّ فهي أخسّ من ذلك والعقل البشريّ أسمى من هذه الوسائل الماديّة هي أدنى من أن تبيّن ماهيّة أمير المؤمنين عليه السلام لمن لم يبلغ مقام الكشف المعنويّ. 

طبعاً هناك من لهم حضور معنويّ وشهود روحيّ لعلّهُ يؤهّلهم لإدراك كنه تلك الشخصيّة، إلّا أنّ أمثالنا عاجزون عن ذلك.

تضادّ الصفات في شخصيّة الإمام عليه السلام 

أشير إلى خصلة اتّصفت بها حياة أمير المؤمنين عليه السلام أعبّر عنها بتوازن شخصيته. 

كان أمير المؤمنين عليه السلام أعجوبة في اتّزانه الشخصيّ، صفات متضادّة ومتخالفة قد اجتمعت في شخصيّته بشكل جميل، حتّى أضحت بذاتها وجوداً جميلاً. ولا يجد الإنسان مثل هذه الصفات قد اجتمعت في أحد، لكنّها قد اجتمعت في أمير المؤمنين عليه السلام بكثرة واسعة. وأعرض في ما يلي بعض هذه الصفات المتضادّة الّتي اجتمعت فيه عليه السلام.
 
 
 
 
 
 
12

6

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

 مثال رأفته ورقّته


هناك مثلاً الرأفة والرقّة وهي لا تنسجم مع الحزم والصلابة, لكن عطف ورأفة ورِقّة أمير المؤمنين عليه السلام كانت حقّاً في ذراها الأعلى الّذي قلّما يبلغه إنسان عاديّ, فالّذين يساعدون المساكين ويتفقّدون العوائل الفقيرة كثيرون، إلّا أنّ الشخص الوحيد الّذي كان يؤدّي هذا العمل في عهد وفترة حكومته واقتداره وتسلّطه - أوّلاً - ويكون هذا العمل دأبه على الدوام, ولم يكتف بأدائه مرّتين أو ثلاثاً - ثانياً - وثالثاً لم يكن يقتصر على تقديم العون المادّي فحسب, بل يذهب إلى هذه العائلة، ويتحدّث مع هذا الشيخ، ويجلس مع هذا الضرير، ويلاطف هذا الصغير ويأنس بهم ويدخل البهجة إلى قلوبهم ويقدّم لهم العون هو الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

هكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام في رحمته ورأفته.

كان يذهب إلى دار أرملة ويوقد لها التنّور ويخبز لها الخبز ويطعم أطفالها بيده المباركة، ولأجل أن يدخل الفرحة إلى قلوب هؤلاء الأطفال البائسين كان يلعب معهم وينحني ويحملهم على ظهره ويمشي بهم، ويداعبهم في كوخهم.

هذه الرأفة والرقّة في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام جعلت أحد الشخصيّات الكبرى في ذلك العصر يقول: رأيتُ عليّاً عليه السلام يدعو اليتامى
 
 
 
 
 
13

7

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  فيطعمهم العسل، حتّى قال بعض أصحابه: لوددت أنّي كنت يتيماً1.

 
وفي قضيّة النهروان حين عزم جماعة من المتعصّبين, وذوي الفهم الخاطئ على زعزعة حكمه, لأسباب واهية, كان ينصحهم ويحاججهم ويرسل لهم الرسل والوساطات، ويقدّم لهم العون، ولكن من غير جدوى, وفي نهاية المطاف حتّى حينما اصطفّ الجيشان للقتال قدّم لهم النصيحة وأرشدهم, لكنّه عندما لمس عدم جدوائية ذلك قرّر انتهاج الحزم، فأعطى الراية لأحد أنصاره وقال: كلّ من انضوى تحت هذه الراية إلى الغد فهو آمن، أمّا البقيّة فلهم السيف. 
 
كان عددهم اثني عشر ألفاً فانضم ثمانية آلاف منهم تحت الراية, ومع ما كان يحمل هؤلاء من عَداء، ورغم موقفهم وعزمهم على القتال ولَهجهم بِسَبّ أمير المؤمنين عليه السلام إلّا أنّه تغاضى عن كلّ ذلك؛ فهم ما داموا قد اعتزلوا القتال فليذهبوا حيث شاءوا. 
 
وبقي منهم أربعة آلاف أصرّوا على مقاتلته, فلمّا رأى إصرارهم على قتاله عزم على قتالهم، وأخبرهم أنّه لن ينجو منهم عشرة, فحاربهم في واقعة النهروان المعروفة، وقُتل منهم عدد كبير. 
 
هذا هو نفس عليّ عليه السلام حينما يرى في مقابله فئة خبيثة تسلك منهجاً غادراً.
 
أُلاحظ مع الأسف عدم إعطاء صورة صحيحة عن الخوارج في
 
 
 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج 41، ص 29.
 
 
 
 
 
 
14

8

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  المحاضرات وفي الأفلام وفي الأدب، إذ كثيراً ما يصفونهم بالتنسك المتحجّر، وهذا خطأ طبعاً, أيُّ تنسّك هذا؟ في عهد أمير المؤمنين عليه السلام كانت بعض الفئات تعمل لمصالحها الخاصّة, وإذا شئتم معرفة الخوارج أضرب لكم مثلاً من عصرنا الراهن. 


أنتم تتذكّرون فئة المنافقين؛ هؤلاء كانوا يقرأون آية من القرآن وخطبة من نهج البلاغة ثم يدّعون التديّن ويعتبرون أنفسهم أكثر إسلاماً وثوريّة من غيرهم، وهم يزرعون القنابل فيقتلون الصغار والكبار ساعة الإفطار في شهر رمضان، أو يقضون على عائلة بأسرها، أو يقتلون جماعة من الأبرياء في إحدى ساحات المدينة, لا لسبب إلّا لكونهم من أنصار الإمام والثورة.

ومن جملة جرائمهم الأخرى قتلهم شهيد المحراب, وهو رجل ورع ومجاهد في سبيل الله وقد تجاوز الثمانين من عمره، إضافة إلى قتلهم أربعة أو خمسة أشخاص آخرين من شهداء المحراب, الذين كانوا من الشخصيّات العلمائيّة البارزة والفاضلة المؤمنة.

هكذا كان الخوارج وهذه فعالهم؛ قتلوا عبد الله بن الخبّاب وبقروا بطن زوجته وهي حامل وقتلوا جنينها؛ لأنّهما كانا من أشياع عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

اعرفوا الخوارج جيّداً؛ كانوا يتمسّكون بظاهر الدين وببعض الآيات القرآنيّة ويحفظون القرآن وكلّ ما يبرز ظاهرهم الدينيّ، إذ كانوا في 
 
 
 
 
 
 
15

9

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

 الظاهر يعتقدون ببعض جوانب الدين, إلّا أنّهم كانوا يعارضون جوهره وأساسه، ويتعصّبون كثيراً لهذا الموقف. 

 
يذكرون الله ولكنّهم أداة مُنقادة بيد الشيطان، وعندما يستدعي الموقف يتعاونون مع أمريكا والصهاينة وصدّام أو أيّة جهة أخرى لمحاربة الثورة والإمام والحكومة الإسلامية. هكذا كان الخوارج أيضاً, وحينها تصدّى لهم أمير المؤمنين عليه السلام بكلّ حزم, هذا هو نفس عليّ ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾1.
 
لاحظوا كيف تجسّدت هذه الخاصّيّة في أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الشكل الجميل، فقلبه بما أوتي من تلك الرأفة وتلك الرقّة لا يطيق رؤية يتيم في حالة حزينة، بينما نراه يقف تارة أخرى بصرامة إزاء فئة منحرفة تنتهج أسلوباً مقيتاً وملتوياً وتقتل الأبرياء فيقضي عليهم وهم أربعة آلاف في بضع ساعات " ولا يفلت منهم عشرة"  في حين استشهد من أصحابه أقلّ من عشرة، ربما خمسة أو ستّة. هذا هو اتّزان الشخصيّة.
 
مثال ورعه وحكومته
 
الورع يعني: اجتناب كلّ ما يحتمل فيه الكراهيّة. ولكن كيف ينسجم هذا مع الحكومة؟ هل يتسنّى للإنسان أن يكون ورعاً إلى هذا الحدّ وهو في الحكم؟. 
 
فنحن الآن في الحكم نشعر بأهميّة وجود مثل هذه الخصلة؛ لأنّ
 
 
 

1- سورة الفتح، الآية: 29.
 
 
 
 
 
 
16

10

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  الإنسان وهو في الحكم يتعامل مع قضايا عامّة وينفّذ قوانين، ولكن قد يكون في هذا القانون ظلم لإنسان في مكان ما, والشخص المكلّف بتنفيذ القانون بشر أيضاً وقد يُسيء تطبيق القانون. 


فكيف يتأتّى للمرء التزام الورع في كلّ هذه التفاصيل الجزئيّة الّتي تستعصي على الإحاطة؟ لهذا يبدو في الظاهر أنّ الحكومة والورع لا يجتمعان, إلّا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام جمع غاية الورع مع أقوى حكومة, وهذا ممّا يثير العَجَب.

لم يكن يجامل أحداً؛ فإذا استشعر من والٍ ضعفاً وأحسّ أنّه لا يناسب هذا العمل، عزله. كان محمّد بن أبي بكر بمثابة ابنه وكان يحبّه محبّة أبنائه، وهو أيضاً كان ينظر إليه نظرة الولد للوالد. 

كان محمّد أصغر أبناء أبي بكر، وتلميذاً مخلصاً للإمام عليه السلام وقد تربّى في حجره, كان قد أرسله والياً على مصر, ثمّ كتب له فيما بعد كتاباً بعزله لعدم كفاءته في إدارة مصر, وعيّن بدله مالك الأشتر. 

ومن الطبيعيّ أن يستاء محمّد بن أبي بكر من ذلك، فالإنسان مهما كبر شأنه يستاء لمثل هذا, لكن أمير المؤمنين عليه السلام لم يعتنِ لذلك.

محمّد بن أبي بكر مع ما له من شخصيّة جليلة، ومع ما لموقفه يوم الجمل وعند البيعة من أهميّة؛ فهو ابن أبي بكر وأخو أمّ المؤمنين عائشة، وعلى الرغم من مكانته عند أمير المؤمنين عليه السلام, إلّا أنّه لم ينظر إلى استيائه وامتعاضه. هذا هو الورع الّذي ينفع الإنسان وهو في الحكم, وقد
 
 
 
 
 
 
17

11

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  تجسّد منتهى هذا الورع في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام.


لقد اجتمع ورع أمير المؤمنين عليه السلام مع حكمه القويّ، وهذا ما لم نسمع به في العالم على مدى التاريخ. 

الخلفاء الّذين سبقوا علياً عليه السلام كان لهم حزم في الكثير من المواقف, ويقرأ الإنسان في سيرتهم أعمالاً استثنائيّة, إلّا أنّ الفارق بين أمير المؤمنين عليه السلام ومن سبقه ومن تلاه حتّى يومنا هذا فارق عجيب لا يمكن وصفه ومقارنته.

اجتماع القوّة والمظلوميّة في الإمام عليّ عليه السلام 

المثال الآخر هو قوّته ومظلوميّته. هل كان ثمّة رجل في عصره أقوى منه، أو له مثل تلك القوّة الحيدريّة؟ لم يتحدّ علياً عليه السلام أحد, ولم يجرؤ أحد على ادّعاء ذلك حتّى آخر حياته. نفس هذا الإنسان كان أكبر أهل زمانه مظلوميّة والأكثر ظلامة منهم، بل ويقال وهو قول صحيح لعلّه أكثر إنسان ظُلم في تاريخ الإسلام. 

إنّ القوّة والمظلوميّة شيئان لا يجتمعان؛ فالمتعارف أنّ الأقوياء لا يُظلمون، غير أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ظُلم.

زهد الإمام عليّ عليه السلام 

المثال الآخر هو الزهد والإعمار، فأمير المؤمنين عليه السلام كان مثالاً في زهده وإعراضه عن الدنيا. ولعل أبرز أو أحد أبرز مواضيع نهج البلاغة
 
 
 
 
 
 
18

12

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  هو الزهد, وهو في نفس الحال طوال فترة الخمس والعشرين سنة بين وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتسلّمه الخلافة كان ينفق من ماله الخاصّ في أعمال العمران، فكان يزرع البساتين والمزارع، ويحفر الآبار، ويشقّ الأنهار، والمدهش أنّه كان يتصدّق بكلّ ذلك في سبيل الله.


لا بأس أن نعلم بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان أكثر الناس عائدات في عصره، وقد نقل عنه أنّه قال:" إنّ صدقتي لو وزع على بني هاشم لوسعهم" , لكن هذا الإنسان الثريّ كان يعيش حياة فقيرة على أشدّ ما يكون من الفقر؛ لأنّه كان ينفق كلّ تلك الثروة في سبيل الله.

يروي أحدهم أنّه رأى علياً عليه السلام يحفر بئراً بيده، ثم يقول: رأيت الماء قد تدفّق منها كأوداج الجمل، خرج أمير المؤمنين عليه السلام من البئر وهو ملطخ بالطين, وجلس عند حافّة البئر ودعا بورق وكتب فيه أنّ هذه البئر أوقفها عليّ بن أبي طالب عليه السلام على أشخاص ذكرهم.

إنّ ما يلاحظ في عهد حكومة أمير المؤمنين عليه السلام إنّما هو امتداد لحياته ومسيرته الخاصّة, فمن الطبيعيّ أن الزهد بالدنيا لا يتنافى مع بنائها الّذي جعله الله واجباً على الجميع، فأمر بإعمار الدنيا، وتكوين الثروات، ولكن بشرط أن لا يكون الإنسان عبداً لها أو يجعل نفسه طوع أمرها، من أجل أن يكون قادراً على الإنفاق في سبيل الله بكلّ سهولة.

هذا هو التوازن الإسلاميّ. والأمثلة من هذا الطراز كثيرة، ولو أردت ذكر أمثلة لها لاستغرقت وقتاً طويلاً.
 
 
 
 
 
 
19

13

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

 استغفار الإمام عليّ عليه السلام 


من الخصائص الأخرى لدى أمير المؤمنين عليه السلام هو الاستغفار؛ إذ كان للدعاء والتوبة والإنابة والاستغفار حيّز واسع في حياة أمير المؤمنين عليه السلام, فهو كان يقاتل ويُعبّئ الجيوش، ويُدير شؤون دولة كانت تعتبر من أكبر الدول يومذاك, وقد حكمها مدّة تناهز الخمس سنوات فالدولة الّتي حكمها كانت تضم حوالي عشرة بلدان وهذا السلطان الواسع بكلّ ما يستلزمه من جهود ومساعٍ كان أمير المؤمنين عليه السلام يديره بكلّ جدارة، إضافة إلى ميادين الحرب وإدارة الشؤون الاجتماعيّة للمسلمين، والقضاء بين الناس والمحافظة على حقوق أبناء المجتمع، كانت أعمالاً كبرى ومهمّة وتتطلّب عملاً ومثابرة, وتستحوذ على وقت الإنسان برمّته, وفي مثل هذه المواقف يقول الإنسان المحدود ببعد واحد: إنّ دعائي وعبادتي هو هذا، فأنا أعمل في سبيل الله، لكن أمير المؤمنين عليه السلام لم يقل هذا، بل كان يؤدّي تلك الأعمال، ويَعْبُد أيضاً. 

جاء في بعض الأخبار وإن لم أكُن قد دقّقت في مدى صحتها أنّه عليه السلام كان يصلّي أحياناً في اليوم والليلة ألف ركعة, وهذه الأدعية الّتي تسمعونها هي أدعية أمير المؤمنين عليه السلام, فهو قد بدأ الدعاء والتضرّع والإنابة منذ أيّام شبابه, كان حينها في شغل متواصل.

وفي أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان شاباً ثوريّاً وله حضور في جميع الميادين, أي إنّه كان في حالة عمل دؤوب, ليس لديه وقت فراغ, حتّى في مثل تلك
 
 
 
 
 
 
20

14

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  الظروف حين تَساءل جماعة من القوم عن أكثر الناس عبادة قال أبو الدرداء: عليّ أكثر الناس عبادة. 

 
قالوا: كيف؟ فذكر لهم مثلاً على ذلك وأقنعهم: كان حينها شاباً يبلغ من العمر نيفاً وعشرين سنة, وهكذا كان دأبه في الفترة الّتي تلتها، وفي أيّام خلافته.
 
هناك قصص متنّوعة عن عبادة أمير المؤمنين عليه السلام مثل قصّة نوف البكاليّ. وهذه الصحيفة العلويّة الّتي جمعها عظماء العلماء تعكس الأدعية المأثورة عن أمير المؤمنين عليه السلام, وأحدها هو دعاء كميل الّذي تقرأونه ليالي الجمعة1.
 
ودعاء كميل دعاء2 عظيم, يبدأ بالاستغفار, ويقسم على الله بعشرة أشياء منها: "اللّهمّ إني أسألك برحمتك الّتي وسعت كلّ شيء" ، ويسأله غفران خمسة ذنوب: "اللّهمّ اغفر لي الذنوب الّتي تهتك العصم، اللّهمّ اغفر لي الذنوب الّتي تنزل النقم، اللّهمّ اغفر لي الذنوب الّتي تحبس
 
 
 

1- دُعاء كُميل من الأدعية المشهورة والمعروفة جدّاً لدى أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، يحرصون على قراءته في كلّ ليلة جمعة، وفي ليلة النصف من شهر شعبان، تبعاً للروايات الواردة في فضله وأثره البالغ في تربية النفس، ولما يحتويه من المعاني الرفيعة، وهو كنزٌ من الكنوز الثمينة جدّاً، لأنّه يزخر بالدروس العقائديّة والتربويّة، ويقويّ في الإنسان المؤمن روح العبوديّة والتوجه إلى الله عَزَّ وجَلَّ. إنّه من أفضل الأدعية وهو دُعاء الخضر  عليه السلام  وقد علّمه أمير المؤمنين عليه السلام  كميلاً، وهو من خواصّ أصحابه. وقد رواه الشّيخ الطوسي في كتاب مصباح المتهجّد.
2- هو كُمَيْل بن زياد بن سُهيل بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن النخع، وُلِد باليمن سنة سبع قبل الهجرة، أسلم صغيراً و أدرك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيل إنَّه لـم يره، ارتحل مع قبيلته إلى الكوفة في بدء انتشار الإسلام، كان من سادات قومه، وكانت له مكانة ومنـزلة عظيمة عندهم، وكان  رحمه الله  من ثقات أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب  عليه السلام  وخواصِّه وعاملهُ على (هيت)، رَوَى عَنْ أمير المؤمنين عليه السلام  أحاديث كثيرة أشهرها دعاء كميل الّذي اشتُهر به، قتله الحجاج بن يوسف الثقفي لحُبه ووِلائه لأمير المؤمنين  عليه السلام ، راجع: الإرشاد، الشيخ المُفيد، ج 1، ص 327.
 
 
 
 
 
 
21

15

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  الدعاء و...الخ". أي أنّه يستغفر من أوّل الدعاء حتّى آخره، وهذه هي السمة الأساس في دعاء كميل1.
 
التأسّي بالإمام عليّ عليه السلام 
 
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أسوة كاملة للجميع، فشبابه المتوثّب والمتفجّر بالحماس هو نموذج للشباب، وحكومته المتميّزة بالعدل والقسط نموذج للحكّام، وحياته المشبعة بالجهاد والمسؤوليّة نموذج لجميع المؤمنين، وحرّيّته نموذج لكافّة أحرار العالم، وأقواله الحكيمة ودروسه الخالدة نموذج للعلماء والمفكّرين والمثقفين. 
 
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يألُ جهداً على امتداد عهد حكومته في إحقاق حقوق الضعفاء والمساكين والحفاة، فعلينا الاقتداء به؛ ولكنّه كان متسامحاً في حقوقه، فعلينا التأسّي به أيضاً طوال حياتنا، حيث كان مظهراً للعبادة لله والإخلاص والجهاد والسعي والحيويّة والنشاط، وكان يستقبل الأتراح والأحزان والآلام بصدر رحب؛ فأدّى واجبه بعناية، وهذه هي الأسوة الحسنة. 
 
إنّنا نستطيع الاقتراب من آمالنا الكبرى وتحقيق مطامح بلادنا وشعبنا ونظام جمهوريّتنا الإسلاميّة، أي العدالة الاجتماعيّة، في ظلّ الاقتراب من أمير المؤمنين عليه السلام2.
 
 
 

1- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 21/ رمضان/ 1417ﻫ.ق.
2- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 13/ ذي الحجة/ 1420ﻫ ـ ق.
 
 
 
 
 
 
22

16

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

 الإمام عليّ عليه السلام مثل أعلى وقدوة

 
منذ قرون والعارفون من المسلمين وغير المسلمين بهذه الشخصيّة المقدّسة يتكلّمون ويكتبون حول أمير المؤمنين عليه السلام ، إلّا أنّ ما قيل ليس كافياً في بيان جميع أبعاد شخصيّة هذه الأعجوبة والنموذج للقدرة الإلهيّة الكاملة والكلمة التامّة لله.
وبديهيّ أنّنا سبب المشكلة غالباً، فنحن الّذين لا يمكننا تصوّر هذه الشخصيّة المعنويّة والروحيّة لضعف أذهاننا واستئناسنا بالمقاييس المادّية والأناس العاديّين. نعم بالإمكان رسم ملامح تلك الشخصيّة المعنويّة العظيمة في الذهن ببركة أقوال من هم بمستوى أمير المؤمنين عليه السلام أو أعلى منه، وهو خاتم الأنبياء محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
 
فقد وردت رواية من طرق غير الشيعة أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال لجمع من أصحابه: "من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه [و إلى نوح في تقواه] وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى عليّ بن أبـي طـالب"1.
 
أي إنّ علم آدم الّذي ورد عـنه فـي القرآن قـولـه تعـالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾2، وحلم إبراهيم الّذي قال تعالى عنه في القرآن: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾3، وهيبة موسى الّتي كانت سطوة فرعون وعظمته
 
 
 

1-  الصراط المستقيم، علي بن يونس العاملي، ج1، ص 212.
2- سورة البقرة، الآية: 31. 
3- سورة هود، الآية: 75. 
 
 
 
 
 
23

17

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  ضعيفة أمامها، وعبادة عيسى الّذي كان مظهراً للزهد والإخلاص والتعبّد لله، وفي بعض الروايات المنقولة من غير الشيعة أيضاً، أضيفت عبارة أخرى وهي: زهد يحيى بن زكريا، كلّها جمعت في هذا الإنسان العظيم الّذي نعتبر أنفسنا من شيعته. 

وهذا الكلام يمكنه أن يوضح لنا إلى حدٍّ ما صورة عن شخصيّة ذلك الرجل العظيم.

إنّ ما يهمّنا أيّها الإخوة والأخوات بعد المعرفة الإجماليّة أو مدى الدرجة الممكنة في معرفة هذا الإنسان العظيم وسائر أولياء الله هو أن نلتفت إلى أنّ الإمام هو ذلك المثل الأعلى الّذي يجعله الله على الأرض ويبيّنه للبشر ليعرف الناس ما هي القدوة والأسوة، وما هو الهدف الّذي يتحرّك نحوه.

فبمعرفة الإمام يهتدي الإنسان الطريق، وهذا هو المهم، ولذا فالإمام في مفهومه الإسلاميّ الصحيح هو: من يرشد الناس بسلوكه وشخصيّته وأفعاله إلى الطريق المستقيم بمقدار ما يرشدهم بلسانه وأوامره أو أكثر، وهذه مسألة مهمّة.

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام إمامنا وإمام جميع المسلمين، أي إنّ الجميع يعتقدون به كإمام، ولكن ما معنى (الإمام)؟ يعني أن نلحظ أبعاد هذه الشخصيّة كالنموذج الرفيع الّذي نضعه أمامنا، ثمّ نحاول بناء شيء شبيه به. يجب أن نروّض أنفسنا لتكون شخصيّتنا من حيث السلوك الفرديّ، والعلاقة مع الله، والتعامل مع الأخ المسلم في المجتمع، والتصرّف فيما
 
 
 
 
 
24

18

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  لدينا من أموال وإمكانات ووسائل من بيت المال، ومن حيث التعامل مع الناس باعتبارهم مجموعة بشريّة نحن رعاتها وحكّامها في جزء من حياتها، وفي الإخلاص في العمل لأجل المحرومين مادّياً أو ذهنيّاً أو علميّاً أو عقائديّاً، ومن حيث تعاملنا مع دين الله، وكيف يجب أن ندافع عنه، وكيف يجب أن نكون دقيقين تجاهه، ومن حيث معاملة أعداء الله كشخصيّة عليّ بن أبي طالب عليه السلام.


ليكن أمير المؤمنين عليه السلام أسوتنا في جميع هذه، ولنسعَ لنكون مثل ذلك الإمام؛ إذ كيف يمكن لأحدٍ أن يدّعي أنّه من شيعة عليّ بن أبي طالب ويكون أمير المؤمنين عليه السلام إمامه بينما تكون علاقته القلبيّة مع الله أقلّ أمرٍ يهتمّ به؟.

إنّ الإمام عليّاً عليه السلام صرف كلّ عمره في العبادة والعمل لله، منذ أوّل لحظة أشرق نور الهداية الإلهيّة في وجود ذلك الإمام عن طريق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وحتّى تلك اللحظة الّتي نال فيها لقاء الله لم يغفل الإمام عليه السلام لحظة عن عبادة الله، وعن ذكر الله، وعن الارتباط بالله.

فقد كان في ارتباط دائم مع الله، في الفرح وفي الحزن، في الحرب وفي السلم، ليلاً ونهاراً، في المسجد وفي الحرب، في الحكم وفي القضاء.

كان ذلك الإنسان يحمل همّ ضعفاء المجتمع في جميع لحظات وآنات الحكم والسلطة، ويفكّر بهم، وكذلك يوصي من يرسلهم إلى أماكن مختلفة كولاة وحكّام وسفراء وغيرهم بذلك.
 
 
 
 
 
 
25

19

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

 فقد عهد إلى مالك الأشتر بأن يبحث عن أولئك الّذين لا تقع عيون أمثاله عليهم، فبإمكان الأثرياء والأذكياء وأهل المناصب والألسن الوصول إلى أمثال مالك الأشتر، ولكن هناك من لا يقدر على ذلك، حيث لا يملك الجرأة ولا المال ولا من يعرّفه عنده، يطلب عليه السلام منه أن يبحث عنهم ويتفقّدهم.


فأمير المؤمنين عليه السلام يأمر ولاته، وكان يباشر هذا العمل بنفسه، فيذهب إلى بيوت الفقراء ويطعم اليتامى بيده، حتّى أنّ شخصاً قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد أطعم اليتامى بيده إلى درجة أنّنا كنّا نتمنّى أن نكون يتامى.

فكيف يدّعي شخص أنّ أمير المؤمنين عليه السلام إمامه في حين أنّه لا يتفقّد في فترة حكمه وسلطته ورئاسته ولو كانت رئاسة محدودة في منطقة من مناطق البلد المحرومين والفقراء والمستضعفين؟ 

وكيف يدّعي أنّ هذا الإمام هو إمامه، وهو غير قادر على تحمّل صفعة واحدة في سبيل الله، بينما كان ذلك الرجل يحارب أعداء الله ليل نهار لتبليغ الدين والعمل به، وشارك في جميع الحروب الّتي قادها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلّا في حالات نادرة، كمعركة تبوك حيث أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام أن يبقى في المدينة ويحافظ عليها، لأنّ المدينة كانت معرّضة للخطر، فأبقاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيها.

لكن في بقيّة الحروب أو أكثرها كـان مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. كان حاضراً إلى جانب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الوقت الّذي هرب الجميع وفي أخطر وأحلك المواقف.
 
 
 
 
 
 
26

20

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  كيف يمكن لأحدٍ أن يدّعي أنّه من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام لكنّه لا يجرؤ على الاعتراض على أعداء الله خوفاً من سطوتهم وتجبّرهم؟


إنّ الذين حاربهم أمير المؤمنين عليه السلام في أيام خلافته وقبل ذلك كانوا أعداءً للدين وكانت لديهم سلطة سياسيّة وعسكريّة، وكان لدى بعضهم قاعدة شعبيّة ونفوذ ويدّعون الإيمان والقداسة. 

كان بعضهم مثل الخوارج شبيهين ببعض المتطرّفين المتظاهرين بالثوريّة، والذين لم يعترفوا بأحدٍ غيرهم، كالذين لم يعترفوا في بداية الثورة بالإمام كشخصٍ ثوريّ. 

فأمير المؤمنين عليه السلام قد واجه أولئك وشتّتهم وقال إنّه لو لم يحاربهم لما تجرّأ أحد على محاربتهم.

هناك من يدّعون أنّ الإمام عليه السلام هو إمامهم ولكنّهم غير مستعدّين لأن يقولوا كلمة واحدة تزعج الاستكبار وأمريكا، وتزعج الّذين يظلمون اليوم مئات أضعاف ظلم المقتدرين الفسدة في صدر الإسلام، ويرتكبون من الظلم في يوم واحد ما يعادل الظلم الّذي ارتكبه أولئك في عدّة أعوام. 

يقول هؤلاء إنّهم شيعة عليّ، وإنّه عليه السلام إمامهم!! فماذا يعني الإمام؟ هذا هو أمير المؤمنين عليه السلام وهذه هي شموليّته، وطبعاً لا يمكن توضيح شموليّته بهذه الكلمات.

إنّنا مثل ذلك الرسّام الطفيليّ الّذي يريد أن يرسم وجهاً جميلاً لكنّه يرسم هيكلاً جامداً. إنّه عليه السلام أرفع كثيراً من هذا الكلام، إلّا أنّ هذه
 
 
 
 
 
 
27

21

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  الصورة الناقصة الّتي نرسمها أيّها الإخوة والأخوات جميلة ورفيعة وشاخصة إلى درجة أنّها تُحيّر الناس.

 
يجب علينا التحرّك في هذا الاتّجاه. وطبعاً لا يتوقّع أحد أن يصل حتّى إلى بعد فرسخ من مستوى أمير المؤمنين عليه السلام ، وهذه حقيقة.
 
وقد قلت قبل عدّة أعوام في صلاة الجمعة: إنّنا لا نقدر أن نكون مثل أمير المؤمنين عليه السلام ، فكتب أحدهم إليَّ قائلاً: نعم لقد أَرحتم أنفسكم بهذا الكلام لأنّكم ليس بإمكانكم أن تكونوا كأمير المؤمنين عليه السلام. كلّا ليس الموضوع هذا، فقد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام نفسه في حديث له: "أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ"1. فهو في القمّة، تصوّروا قمّة عالية، علينا أن نصعد إليها، ولا نقول إنّنا لا نصل إليها، بل يجب التحرّك.
 
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو أسوة للمسؤولين في المؤسّسات الحكوميّة، في أيِّ جهاز إداريّ وحكوميّ كانوا، سواء كانت مسؤوليّتهم صغيرة أم كبيرة.
 
لقد أراد منّا أن نؤدّي العمل بإخلاص، نؤدّيه للناس دون منّة، ونحترم مراجعينا ولا نحقّرهم، ونحن نتمتّع بسلامة اليد والبصر واللسان، بل ونملك قلباً سليماً. 
 
لقد عمل أمير المؤمنين عليه السلام لإحياء الناس. ولا بأس أن أشير هنا إلى مسألة التعليم، حيث يحضر في هذا المجلس جمع من الأخوات العاملات في نهضة محو الأميّة.
 
 

1- نهج البلاغة، كتاب: 45، من كتاب له  عليه السلام  إلى عثمان بن حنيف الأنصاري.
 
 
 
 
 
 
28

22

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

 إنّ تعلّم القراءة والكتابة هي حسنة في نهج ذلك الإمام، وكذلك خدمة الناس والعمل وتحمّل العناء من أجلهم وحفظ الأمانة وقول الحقّ1.

 
الإمام عليّ عليه السلام الحبّ الخالد
 
لعلّنا لا نستطيع أن نجد من بين الوجوه المعروفة في العالم وعلى الأخصّ بين الشخصيّات الإسلاميّة شخصيّة محبوبة لدى الشعوب وأتباع الأديان المختلفة, وعلى مرّ العصور كشخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام ولا حتّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه؛ فحينما تنظرون تجدون حتّى وفي ذلك الزمان الّذي أوجد سيف عدالته الصارم في القلوب المتمرّدة والأرواح الأنانيّة البغض له، وأدّى إلى تأليب جبهة واسعة من الخصوم ضدّه، تجدون خصومه حينما كانوا يراجعون أعماق نفوسهم يشعرون إزاء شخصيّته بعقيدة مقرونة بالإجلال والتكريم والمحبّة؛ واستمرّت هذه الحالة حتّى في العصور اللاحقة.
 
كان عليّ عليه السلام أكثر الناس أعداءً، إلّا أنّه كان في الوقت نفسه أكثر من حاز على الثناء حتّى ممّن لا يؤمنون بدينه ومنهجه.
 
كان آل الزبير في القرن الأوّل الهجريّ معروفين على الغالب بإظهار البغض والعداء لبني هاشم, ولآل عليّ عليه السلام على وجه الخصوص. 
 
وكان مصدر هذا العداء-في الغالب-هو عبد الله بن الزبير.
 
 

1- كلمة الإمام الخامنئي  دام ظله ، في تاريخ: ?13/ رجب/ 1414ﻫ ـ ق.
 
 
 
 
 
 
29

23

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

 سأل أحد أحفاد الزبير أباه: ما لعليّ وآله يلهج الناس بأسمائهم ويعلو ذكرهم كلّ يوم؛ فيما لا يلقى أعداؤهم غير الأفول والزوال السريع مع كلّ ما يحيطون به أنفسهم من دعايات؟ فقال له ما يقارب هذا المضمون: إنّهم دَعوا إلى الله وإلى الحقّ، فلم يستطع أحد إخفاء فضلهم، لكنّ أعداءهم دعوا إلى الباطل.


الإمام عليّ عليه السلام في سطور التاريخ

وهكذا كان الحال على مرّ الزمن، أي إنّ المفكّرين الكبار من مسلمين وغير مسلمين يعلنون إجلالهم لأمير المؤمنين عليه السلام. إذا نظرتم إلى الأبطال العظام الّذين ضحّوا وقدّموا الغالي والنفيس لأجل شعوبهم، تلاحظون أنّ اسم أمير المؤمنين عليه السلام مبجّل ومكرّم عندهم. وإذا نظرتم إلى الشعراء والأدباء والفنّانين ومن يضمرون المحبّة لبني الإنسان تجدونهم أيضاً يكرّمون اسم أمير المؤمنين عليه السلام. 

وخلاصة القول: إنّ كلّ من يدرس تاريخ الإسلام شابّاً كان أو شيخاً، عالماً كان أو من العامّة وتناهى إلى سمعه اسم وأخبار أمير المؤمنين عليه السلام ، فسوف يشعر بالمحبّة والتعطّش والولاء له.

في وقتنا الحاضر أُلّفت عدّة كتب من قبل كتّاب وأدباء مصريّين عن أمير المؤمنين عليه السلام ، وكتب المسيحيّون مجلّدين أو أكثر من هذه الكتب، وهم وإن كانوا لا يعتقدون بالإسلام، إلّا أنّهم يعتقدون بأمير المؤمنين عليه السلام. 
 
 
 
 
 
30

24

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

 وهذه من خصائص أمير المؤمنين عليه السلام من بين الشخصيّات الإسلاميّة؛ ولعلّ سبب ذلك يعزى إلى أنّ هذا الرجل العظيم أنفق كلّ وجوده على أفضل وجه في سبيل الأهداف السامية في مختلف أدوار حياته، وفي جميع الأوضاع والظروف، وفي كلّ موضع عاش فيه.


ضعوا نصب أعينكم أمير المؤمنين عليه السلام وهو شابّ يبلغ من العمر ستّ عشرة إلى تسع عشرة سنة عندما كان في مكّة، أو في مطلع قدومه إلى المدينة؛ إذ كان حينها شاباً يبلغ عشرين ونيفاً من السنين، وانظروا إلى المراحل المختلفة لحياة هذه الشخصيّة الكبرى، تروا أنّ هذا الشاب يمثّل حقاً أفضل قدوة لأفضل الشبّان في كلّ زمان؛ فلم تجذبه شهوات الشباب والملذّات الدنيويّة والمحاسن الّتي لها قيمة في نظر الشباب، ولم تكن تستهويه إلّا تلك الأهداف الكبرى والسامية الّتي بُعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أجلها، فكلّ وجوده كان في خدمة هذه الأهداف، أمّا الأمور الأخرى فكانت مسألة ثانويّة بالنسبة إليه.

وإنّه لأمر عظيم جدّاً أن لا يلتفت شابّ حتّى لحظة واحدة إلى الدنيا ولذّاتها ومحاسنها، وأن يُنفق عنفوان شبابه وطاقاته ونشاطه واندفاعه أي كلّ ما يتحلّى به الشابّ من طراوة وجمال وإيناع في سبيل الله, وهذا غاية الإخلاص، وليس هناك حقّاً ما هو أسمى من هذا.

لاحظوا هذا الرجل وقد بلغ سنّ الكمال والنضوج، وكان يعدّ واحداً من شخصيّات مجتمعه، وهو محترم من قبل الجميع، ولعلّ آلاف الأشخاص
 
 
 
 
 
31

25

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

 قد سمعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحمده ويثني عليه. ولا أتصوّر أنّ أحداً من المحدّثين المسلمين نقل بحقّ شخص آخر ما يضاهي كمّاً وكيفاً الثناء الّذي نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشأن أمير المؤمنين عليه السلام. 
ومن الطبيعيّ أنّ فضائل أُخَرَ قد نُقلت بشأن صحابة آخرين، لكن لا أعتقد أنّ أياً من المحدّثين المسلمين من أيّ الفرق الإسلاميّة كان قد نقل بشأن أحد غير أمير المؤمنين عليه السلام أحاديث بهذه الكميّة وبهذه الكيفيّة وبهذا المضمون.

ومن البديهيّ أنّ واحدة من هذه الفضائل تكفي لإيقاع الإنسان في العجب والغرور وفَقْد الاتّزان والخطأ في اختيار التكليف. كلّ هؤلاء سمعوا مئات الأحاديث من لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الثناء على عليّ عليه السلام ، ثم جاءت مرحلة الاختبار وعُرضت قضيّة الخلافة من غير أن نتناول قضيّة الحقّ والباطل والوصيّة وما إلى ذلك ومن البديهيّ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يدّعي الخلافة؛ وهذا ممّا لا يشكّ فيه أحد، ولكنّه حينما رأى أنّ مصلحة العالم الإسلاميّ تقتضي خروجه من الساحة، خرج منها.

أي إنّ أمير المؤمنين عليه السلام طوى كلّ ذلك الثناء والتمجيد والمؤهّلات وكلّ ما كان يراه لنفسه، وما سمعه وما يعرفه آلاف الأشخاص، في ملف النسيان المؤقّت ووضعه جانباً. 

وبطبيعة الحال إنّ ذلك لم يكن يُنسى، ولا يُنسى، وهو باقٍ إلى أبد الدهر، إلّا أنّه عليه السلام أعرض عنه، أي إنّه ومع كلّ ما ورد في حقّه ومع
 
 
 
 
 
 
32

26

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  كلّ ما في شخصه من المميّزات لأمر الخلافة ورئاسة العالم الإسلاميّ والمسؤوليّة الكبرى، تنحّى عند شعوره بالخطر جانباً وقال ما مضمونه: "وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّه، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى وَفِي الْحَلْقِ شَجًا..."1.

 
وليس هناك كبح لجماح النفس أسمى وأفضل وأبلغ وأعجب من هذا بالنسبة للإنسان السياسيّ المخلص، وللإنسان العظيم الّذي لا يبغي الاستجابة لأهوائه النفسيّة.
 
وتصوّروا هذا الإنسان نفسه في موقع رئاسة العالم الإسلاميّ، حينما أصبح زعيماً للمسلمين، فانهال الناس عليه وانتخبوه، شاء أم أبى. 
 
فكان الكلّ الصديق والعدوّ والمنافس وغيرهم بين مبايع وبين مَن أعلن عدم معارضته، وهؤلاء الذين امتنعوا عن البيعة كان عددهم ضئيلاً جدّاً، أربعة إلى ستّة أشخاص، لكنّهم قالوا إنّنا لا نعارض، وتنحّوا جانباً، وبايع البقيّة جميعاً، وأصبح زعيماً لكلّ العالم الإسلاميّ.
 
أتعلمون ماذا كان يعني العالم الإسلاميّ يومذاك؟ إنّه من حدود الهند إلى ضفاف البحر الأبيض المتوسّط؛ هذا هو العالم الإسلاميّ آنذاك, حيث كان يضمّ العراق ومصر والشام وفلسطين وإيران وغيرها، أي لعلّه
 
 
 

1- نهج البلاغة، ج1، ص 31، خ3.
 
 
 
 
 
33

27

الفصل الأول: شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام

  كان رئيساً لنصف العالم المعمور آنذاك، وبسلطة تامّة.


وكانت معيشة أمير المؤمنين عليه السلام وزهده الّذي سمعتم به، يتعلّق بهذه الفترة, فالحياة الجميلة ولذّاتها ورغدها وجمالها وغيرها من الأمور الّتي يكفي واحد منها لاستمالة شخصيّات كبرى واضطرابها في بوتقة ذلك الاختبار وانزلاقها وخروجها عن الصراط لم تستطع بأجمعها أن توقع أمير المؤمنين عليه السلام في مهاوي الشكّ والاضطراب حتّى لحظة واحدة؛ ناهيك عن أن تميله عن الصراط.

لقد أثبت هذا الإنسان الكبير أنّه أقوى عزماً وشكيمة من كلّ عوامل الإغواء. وهذه هي معاني العظمة، وهذه هي العناصر الّتي خضعت لها الأجيال والتاريخ وبنو الإنسان والمجتمعات, ولو رام أحد الإنصاف لما أمكنه العصيان والتمرّد على مثل هذه الشخصيّة؛ بل إنّ القلوب تخضع له طواعية.

إنّ مَن كانت لديه رشحة مِن سجايا أمير المؤمنين عليه السلام ، بإمكانه أن يتفوّق على الكثير من أنماط الزيغ والنوازع الداخليّة والخارجيّة؛ فهذا الإمام الكبير الّذي رأيتموه، كان من أعظم الشخصيّات في عالمنا المعاصر بحيث تشعر أمامه بالضِعة, وحتّى وُلاته، فبما أنّهم كانوا يحملون معهم اسم الإمام، فإنّهم أينما حلّوا كانوا يرغمون الطغاة والأكابر وأصحاب القوّة في العالم على الخضوع والتواضع.
 
 
 
 
 
34

28

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 الفصل الثاني:




قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

29

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 الإمام عليّ عليه السلام مثلنا الأعلى

 
إمامنا الكبير الخمينيّ قدس سره قد استطاع أن يغرس في ذاته جزءاً وجانباً من معدن الجمال والإخلاص لذلك الرجل الفذّ. 
 
وهذا الجزء الّذي نتحدّث عنه بالغ العظمة طبعاً، إلّا أنّه ضئيل، ولا يكاد يمثّل إلّا قطرة من المحيط المترامي لشخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام ، وإن كان بحدّ ذاته كبيراً وكثيراً جدّاً.
 
أعزّائي، لا تتيسّر معرفة أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الطريقة، ولا يمكن ذلك. 
 
نعم, للإنسان أن يستشعر شيئاً عنه عليه السلام عن طريق هذه المقارنات؛ فالإمام السجّاد عليه السلام أجاب أحد أصحابه حينما سأله: يا بن رسول الله لماذا تحمل نفسك على هذه المشقّة وتكثر من الزهد والعبادة؟ فما الّذي يجعلك تحرص على كلّ هذا الزهد والعبادة؟ فلو رحمت نفسك وجسدك! فبكى الإمام السجّاد عليه السلام وقال (ما معناه): "ألا قارن بيني وبين أمير المؤمنين عليه السلام ، وانظر أين أنا وأين أمير المؤمنين"1. اُنظروا؛ فهذا كلام زين العابدين عليه السلام.
 
شخصيّة الإمام السجاد عليه السلام من الشخصيّات النادرة، لا أنّها نادرة 
 
 
 

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج ‏1، ص 92، باب 20، تأكّد استحباب الجدّ والاجتهاد في العبادة.
 
 
 
 
 
37

30

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 في العمل فحسب، وإنّما هي نادرة في الفكر أيضاً؛ إنّه شمس ساطعة لا يمكن لأحد النظر إلى شعاعها إلّا عن بعد. وهو حينما ينظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام ينظر إليه بعين التعظيم والإجلال الّتي ينظر بها طفل صغير إلى بطل عملاق. هذا هو أمير المؤمنين عليه السلام وهذه عظمته.

 
أعزائي، إنّ الجانب الّذي يعنيني ويعنيكم هو هذا البعد من القضيّة، وهو أنّ اتّباع هذا الرجل لا يتحقّق بمجرّد الكلام، فلو كنتم في ساحة الحرب وتؤكّدون على الدوام أنّ فلاناً هو قائدنا، وتعلنون دوماً طاعتكم له، ولكن حينما يدعوكم ذلك القائد للاصطفاف لا تستجيبون، وعندما يأمركم بالتدرّب لا تأتمرون، ويأمركم بالهجوم فتعرضون، فأيّة قيادة هذه؟ ليس هذا قائدكم؛ فالإنسان يمارس مثل هذا السلوك مع عدوّه ومع الإنسان الغريب. 
 
أمير المؤمنين عليه السلام مولانا وإمامنا وقائدنا، ونحن شيعة عليّ عليه السلام ، وإنّا نفتخر بهذا: ولو أنّ أحداً ذكر اسم أمير المؤمنين عليه السلام بقليل من التعظيم، امتلأت قلوبنا غيظاً عليه، إذاً لا بدّ أن يكون لهذا تأثير في حياتنا.
 
لا نقول نكون كأمير المؤمنين عليه السلام ؛ فالإمام السجاد عليه السلام قد قال إنّه غير قادر على العمل كأمير المؤمنين عليه السلام1 ، وأمير المؤمنين عليه السلام نفسه قال: "أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ"2, ولمن قال أمير المؤمنين عليه السلام هذا الكلام؟ قاله لعثمان بن حنيف مع كلّ ما له من عظمة، إنّك لا تقدر على مثل ما
 
 
 

1- وسائل الشيعة، ج1، باب 20: «من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب  عليه السلام ».
2- نهج البلاغة، كتاب: 45 من كتاب له  عليه السلام  إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامله على البصرة.
 
 
 
 
 
 
38

 


31

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

  أعمل. وهذا من الواضح. ولكن سيروا على الأقل في ذلك الاتجاه، وعلى ذلك الطريق، وفي ذلك المسار. وهذا واجب. فإذا ما أردتم أن تكونوا في خندق أمير المؤمنين عليه السلام فإنّ أبرز ما تميّز به" عليه السلام في عهد حكومته والذي يرتبط بحاضري وحاضركم خصلتان: إحداهما العدل الاجتماعيّ، والأخرى الزهد في الدنيا.


أعزّائي هذان الأمران يجب أن نرفعهما كالعَلَم في مجتمعنا. العدالة الاجتماعيّة هي أن تكون نظرة الحكومة إلى جميع أبناء الشعب متساوية، وأن يكونوا سواسية أمام القانون، وفي الامتيازات، وفي التعامل.

من البديهيّ أنّ لكلّ إنسان أصدقاء وأقارب، لهذا فإنّ العلاقات ليست متساوية مع الجميع. فالشخص المسؤول من دون فرق بين أن يكون مسؤولاً عن دائرة أو موظفاً صغيراً، أو كان حجم مسؤوليّته كبيراً أوْ لا؛ فالجميع سواسية له صلة بشخص، وليس له صلة بشخص آخر، لا نريد أن نقول هذا, ولكن نقصد أن يكون السلوك والتعامل قانونيّاً, أي حينما تكون ثمّة امتيازات، ومن شأن الحركة والنظرة والإشارة من المسؤول أن تكون ذات أثر، يجب هنا أن يكون الجميع سواسية. يجب أن يشعر الجميع بأنهم ينتفعون من خيرات النظام الإسلاميّ بشكل متساوٍ, طبعاً بعضهم يتميّز بالكسل ولا يلاحق العمل، وبعضهم يقصّر، وبعضهم الآخر يظلم نفسه، هؤلاء حسابهم على حدة.

أمّا معنى العدالة الاجتماعيّة فهو أن تطبّق جميع القوانين والمقرّرات
 
 
 
 
 
 
39

32

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

  على أفراد المجتمع عامّة, وأن لا يحصل بعض الناس على امتياز خاصّ من غير سبب. هذا هو معنى العدالة الاجتماعيّة، وهذا ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام. وهو السبب الّذي جعل بعض الناس يعادي، بل يخرج ويقاتل أمير المؤمنين عليه السلام.

 
حينما تعدّى ذلك الشاعر النجاشيّ الّذي نظم كلّ تلك الأشعار بحقّ أمير المؤمنين عليه السلام وضدّ أعدائه، حدود الله في شهر رمضان، أقام عليه أمير المؤمنين عليه السلام حدّ الله، مذكّراً إياه: إنّك تعدّيت على حدود الله, وكان ذلك الرجل قد شرب الخمر في نهار شهر رمضان علناً فكان ذنبه شرب الخمر وهتك حرمة شهر رمضان أيضاً فجاءه جماعة وقالوا: "يا أمير المؤمنين إنّ هذا الرجل نظَم بحقك الكثير من الأشعار، وهو يعلن لك الولاء، وإنّ أعداءك قد بالغوا في إغرائه فلم يستجب لهم، فاحتفظ به", فقال لهم ما مضمونه: "نعم، ليبقَ، ولكنّني أقيم حدّ الله عليه", وأقام عليه الحدّ؛ فالتحق النجاشي بمعاوية1, هكذا كان يتعامل أمير المؤمنين عليه السلام مع أحكام الله ومع حدود الله.
 
لكن ومن جهة أخرى جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأقرّ بالسرقة، فقال له: أتقرأ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة, فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: "قد وهبت يدك لسورة البقرة"2
 
 
 

1- إنّ النجاشي الشاعر شرب الخمر في شهر رمضان فحدّه أمير المؤمنين عليه السلام  أقامه في سراويل فضربه ثمانين ثم زاده عشرين سوطاً وقال: هذا لجرأتك على ربّك وإفطارك في شهر رمضان فغضب ولحق بمعاوية  - بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 33، ص 273.
2- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 28، ص 41.
 
 
 
 
 
40

33

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 فيدك الّتي يجب أن تقطع وهبتها لك مقابل سورة البقرة، فاذهب.

 
لم يكن هذا التمييز عبثاً؛ وإنّما لأجل سورة البقرة، وتكريماً للقرآن. حينما تعرض الأصول والقيم والمعايير لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام يعير اهتماماً لأحد؛ فحينما فسق ذلك الرجل وفجر أقام عليه الحدّ الشرعيّ لفسقه وفجوره، ولم ينظر إلى أنّ هذا الرجل قد أسدى إليه خيراً، ولكنّه تغاضى عن إقامة حدّ السرقة لأجل القرآن. هذا هو أمير المؤمنين عليه السلام.
 
أي إنّه يسير مئة بالمئة وفقاً للمعايير والقيم الإلهيّة ولا شيء سواها. والقول المأثور "إنّ علياً قُتل في محراب عبادته لشدّة عدله" ولا أعلم قائله على وجه الدقّة، قول صحيح؛ فعدالة أمير المؤمنين عليه السلام جعلت أصحاب النفوذ لا يطيقون عدله.
ولعلّ بعضهم يقول الآن: إنّ العدالة الّتي لم تسمح لعليّ عليه السلام بمواصلة حكومته المباركة، كيف تريدون تطبيقها اليوم؟ أقول: يجب تطبيق ما نقدر عليه وما نطيقه. 
 
إنّنا لا ندّعي وجوب تطبيق العدالة مثل أمير المؤمنين عليه السلام ، بل نقول يجب تطبيق ما يقدر مؤمن العصر على تطبيقه. وهذا القدر من العدالة الّذي يمكن تطبيقه ويجب تطبيقه، إذا اتّخذ طابعاً ثقافيّاً وأدرك الناس معنى العدالة، سيكون حينها قابلاً للتحمّل. جماهير الأمّة كانت تحلو لها عدالة أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم تكن كارهة لها، إنّما الّذي ساءته عدالة عليّ عليه السلام أصحاب النفوذ.
 
 
 
 
 
 
41

34

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 والسبب الّذي أعانهم على انكسار أمير المؤمنين عليه السلام ومكّنهم من إيجاد تلك الحالة في معركة صفّين، ثمّ قتله، والسبب الّذي ملأ قلب أمير المؤمنين عليه السلام قيحاً، هو أنّ قدرة التحليل كانت ضعيفة لدى الناس، والمتنفّذون يؤثّرون على أفكارهم. يجب تصحيح قدرة الناس على الفهم والإدراك، ورفع مستوى الإدراك السياسيّ في المجتمع، ليصير بالإمكان تطبيق العدالة.


زهد أمير المؤمنين عليه السلام 

من أبرز المعالم في نهج البلاغة هو الزهد. والزهد الّذي طرحه أمير المؤمنين آنذاك، إنّما طرحه كعلاج لمرضٍ كان يعاني منه المجتمع الإسلاميّ.

لقد ذكرت ذلك مراراً، واليوم يجب أن نقرأ نفس آيات الزهد تلك. 

وحينما كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "لا تغرّكم محاسن الدنيا وإغراءاتها"، كان الكثير من الناس لا يحصلون على تلك الملذّات؛ بل لعلّ أكثر الناس كانوا على هذه الشاكلة. فخطاب أمير المؤمنين عليه السلام مع أولئك الّذين أغنتهم الفتوحات - وأصبحوا خلال سنوات التوسّع وتنامي قوّة الإسلام الدوليّة، على درجة من الثراء والامتيازات - لهجته التحذير من سوء العاقبة وخسران الآخرة.

نحن عندما نتحدّث عن الزهد، ونحاول أن نُلفت الأنظار إليه، لا يقال لنا: إنّ أكثر الناس لا يملكون هذه الأشياء الّتي تتحدّثون عنها؛ بل خطابنا 
 
 
 
 
 
 
42

35

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 مع الأثرياء الّذين فتحت لهم ملذّات الدنيا أحضانها فاستطاعوا بلوغ تلك الملذّات بطرق الحرام، ثم بعد ذلك مع من استطاع بلوغ الملذّات من طرق الحلال.


إنّ الورع والنقاء واجتناب الحرام، والتقوى، هي أرفع وأوجب أنواع الزهد البتّة، إلّا أنّ الزهد في اللذات المحلّلة له مرتبة رفيعة أيضاً؛ نعم، مخاطَبوه أقلّ أفراداً.

واليوم هو ذلك اليوم، مع التفاوت في ظروف الزمان والخصائص التاريخيّة لكلّ عصر، وعلى من تصل أيديهم إلى الرغد والنعيم والملذّات والرفاه المتزايد للحياة، أن يضعوا كلمات أمير المؤمنين عليه السلام في الزهد نصب أعينهم. ولا شكّ في أنّ هذا الخطاب أشدّ وأبلغ مع أصحاب المسؤوليّات، وهو يعمّ مَن لا منصب ولا مسؤوليّة حكوميّة له أيضاً ولكن بشكل أضعف؛ فأولئك أولى به.

ولو أنّ مجتمعنا الإسلاميّ الّذي تُحدق به كلّ هذه المخاطر، وكلّ هؤلاء الأعداء، وضع هذه التوصيات نصب عينيه وأولاها الاهتمام اللازم وأعطاها صيغة ثقافيّة، وأدرك كلّ هذا وتحدّث فيه وطالَب به، فلن يؤدّي تطبيق مثل هذه العدالة ومثل هذا الزهد إلى إيجاد أيّة مخاطر على النظام الإسلاميّ أبداً، بل إنّها تجعله أكثر قوّة وصلابة.

لقد أوقد أمير المؤمنين عليه السلام هذين المشعلين ليضيء كلّ التاريخ, والّذين يتمرّدون سيلحقون الضرر بأنفسهم، ويبقى اسم عليّ، وذكر عليّ، ودرس
 
 
 
 
 
 
43

36

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

  عليّ عليه السلام على مدى التاريخ لا يطاوله النسيان، وسيبقى على الدوام1.

 
جوانب أخرى من صفات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام 
 
قد تحدّث عن أمير المؤمنين عليه السلام الخطباء والكتّاب والمفكرون والشعراء والنادبون والمادحون لأهل البيت عليه السلام ، وجميع المسلمين من الشيعة وغيرهم، وغير المسلمين قُرابة ألف وأربعمائة سنة، وسيستمرّ الحديث عنه عليه السلام إلى أبد الدهر، إلّا أنّ دائرة الكلام حول هذهِ الشخصيّة العظيمة من الاتّساع بدرجة أنّه لو دخلنا من أيّة زاوية لوجدنا أشياءً غير مذكورة.
 
فليس بالإمكان إحاطة المخاطَب بجميع حقائقه ويقال له: هذا هو أمير المؤمنين عليه السلام. 
 
نعم بالإمكان الدخول من أبعاد مختلفة وبيان شيءٍ حول هذا الشخص العظيم بمقدار ما تَسعُه همتنا وفهمنا وبصيرتنا.
 
فكّرت فرأيت أنّه ربما أمكن العثور على مئة صفة ذكر التعبير بالمئة بعض الكبار أيضاً في بعض الروايات وخصوصيّة في أمير المؤمنين عليه السلام ، سواءً الخصوصيّات المعنويّة كالعلم والتقوى والزهد والحلم والصبر وخصوصيّاته النفسيّة، أم خصوصيّاته السلوكيّة ككونه أباً وزوجاً ومواطناً ومقاتلاً وقائداً وحاكماً، أم خصوصيّاته في معاشرة الناس كإنسان متواضع 
 
 
 

1- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 13/ رجب/ 1417ﻫ.ق. 
 
 
 
 
 
 
44

37

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 وعادل ومدبّر لشؤون الناس وقاضٍ. فربما أمكن عدُّ مئة صفة من هذا النوع لأمير المؤمنين عليه السلام ، ولو أمكن لشخص بيان هذهِ المئة صفة ببيان شامل وبليغ لأمكنه إجمالاً عرض صورة كاملة تقريباً عن أمير المؤمنين عليه السلام. 

 
غير أنّ دائرة هذهِ الصفات أيضاً من الاتّساع بحيث تحتاج كلّ واحدة منها إلى كتاب واحد على الأقل. 
 
نأخذ إيمان أمير المؤمنين عليه السلام كمثال.
 
إنَّ الخصوصيّة الّتي أريد التحدّث عنها وسأذكرها فيما بعد ليست هي الإيمان - إلّا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان إنساناً مؤمناً، أي إنّ الفكر والإيمان والاعتقاد كان راسخاً في أعماق وجوده، فبأيّ شيء يمكننا أن نقيس هذا الإيمان حتّى تتجلّى عظمة إيمان أمير المؤمنين" عليه السلام ، وبناءاً على ما نقل عنه عليه السلام أنّه قال: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"1، أي لو أزيحت حُجب الغيب وتمكّنت من مشاهدة الذات المقدّسة للباري تعالى والملائكة والجنّة والنّار وكل ما ذكرته الأديان عن الغيب وملكوت هذا العالم بهذهِ العين الباصرة لما زاد يقيني على ما هو عليه، أي إنّ هذا اليقين كيقين من شاهد جميع الحقائق بعينه. 
 
هذا الإيمان الّذي يقول عنه الشاعر العربي:
 
أشهد بالله لقد قال لنا                       محمّد والقول منه ما خفى
لو أنّ إيمان جميع الخلق ممّن                  سكن الأرض ومن حلَّ السما
 
 
 

1- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 2، ص 38.
 
 
 
 
 
 
45

38

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 يجعل في كفّة ميزان لكي              يوفي بإيمان عليّ ما وفى


أو السابقة إلى الإسلام مثلاً إذ آمن في صغره وارتضى هذا الطريق وسلكه بكلّ كيانه حتّى اللحظة الأخيرة، وهذا شيء لا يمكن بيانه في بضع كلمات.

وعلى كلّ حال فجميع هذه الأبعاد أبعاد عظيمة وواسعة. 

وقد شاهدنا كثيراً من العظماء وتعرّفنا إليهم أو قرأنا سيرهم في الكتب وهم من العظمة بمكان لو جسّدهم الإنسان بشكل صحيح فسوف يشعر حقاً بالضآلة أمامهم، ومَثَلهُ في ذلك كمن يرفع رأسه إلى السماء ويشاهد القمر وكوكب الزهرة والمشتري، فكم هي كبيرة ومرتفعة هذهِ الكواكب وكم هي وضّاءة، غير أنّ عيوننا القاصرة والضعيفة عاجزة عن فهم الفرق بين هذا الكوكب الّذي يحمل اسم المشتري أو الزهرة وبين ذلك الكوكب الّذي لا يُشاهد إلّا بواسطة الأجهزة الفنيّة والتلسكوبات الدقيقة, ويقال إنّها تبعدُ عنا ملايين السنين الضوئيّة وتشكل مجرةً وحدها، وكم هي بعيدة عنه، فكلاهما يبدو كوكباً وكلاهما تراه أعيننا في الليل شاخصاً في السماء. 

ولكن أين هذا من ذاك؟ فنحن عن تلك العظمة من البعد بمكانٍ لا يمكننا معه أن نفهم الفرق بشكل صحيح بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين العظماء والكبار في التاريخ والإسلام والكتّاب والعلماء وفي كلّ المواطن التاريخيّة والبشريّة.

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام حقيقة مذهلة، والإشكال في المسألة يبدأ 
 
 
 
 
 
 
46

39

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 من أننا وإيّاكم نُعدّ من شيعة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وعلينا أن نقتدي به، فلو جهلنا شيئاً من أبعاد شخصيّته فسيحدث خلل في هويّتنا. 


فأحياناً لا يدّعي الإنسان شيئاً، إلّا أننا ندّعي ذلك الشيء ونريد أن نكون علويّين. 

فنحن الشيعة في الدرجة الأولى, والمسلمون من غير الشيعة في الدرجة الثانية، نواجه هذه المشكلة. طبعاً جميع المسلمين يقرّون بأمير المؤمنين عليه السلام ، غير أنّ الشيعة ينظرون إلى هذا الرجل الشامخ ويعرفونه بكيفيّة وعظمة خاصّتين.

شجاعة الإمام عليّ عليه السلام 

الشجاعة صفة عظيمة ومؤثّرة، وأثر الشجاعة في ساحة القتال هو أن لا يخشى الإنسان المخاطر ويخوض غمار الهول ويبذل جهده وينتصر على العدو، والناس يفهمون هذا الجانب من الشجاعة. 

ولكن للشجاعة مواطن أخرى غير ساحة الحرب، ويكون أثر الشجاعة هناك أهمّ منه في ساحة الحرب، كما في مجالات الحياة، وتقابل الحقّ مع الباطل، وساحة المعرفة وتبيين الحقائق وساحة المواقف الّتي تعرض للإنسان طيلة حياته، فأثر الشجاعة يظهر في هذهِ المواطن.

فالشجاع هو الّذي حينما يرى الحقّ يتبعه ولا يخشى شيئاً ولا يحول دونه محذور ولا تحول دونه الأنانيّة ولا عظمة جبهة العدو، وأمّا غير 
 
 
 
 
 
 
47

40

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 الشجاع فلا نقول إنّه لا ينتصر على العدو فحسب، بل أحياناً قد يتداعى بناء الحقّ بانعدام شجاعة الفرد إذا كان ذا منزلة ومكانة في المجتمع. هذهِ هي حقيقة الشجاعة. 


فأحياناً على أثر عدم شجاعة فرد ينقلب حقّ إلى باطل، وأحياناً على أثر عدم شجاعة شخص كان ينبغي له التدخّل ينقلب باطل إلى حقّ, هذهِ شجاعة أخلاقيّة واجتماعيّة وشجاعة في واقع الحياة، وهذهِ الشجاعة أسمى من الشجاعة في ساحة القتال.

كان أمير المؤمنين عليه السلام من أشجع الشجعان في ساحة الحرب، فلم يولِّ العدو ظهره أبداً وليس هذا بالقليل، فقصّته في حرب الخندق معلومة حيث تقدّم عندما تخاذل الجميع، كذلك قصّته في فتح خيبر، وفي وقعة بدر وأُحد وحُنين، وكلّ واحدة من هذه الوقائع لو نظرتم إليها تجدون أمير المؤمنين عليه السلام وله من العمر في بعضها 24 سنة وفي بعضها 25 سنة، وفي بعض المواطن 30 سنة قد نصر الإسلام وهو شاب لم يتجاوز العقد الثالث بشجاعته في ميادين القتال وخلق تلك الأعاجيب، وهذا يختصّ بالحرب.

ولكنّني أقول: يا أمير المؤمنين، يا حبيب الله إنّ شجاعتك في ميادين الحياة أكثر بكثير من شجاعتك في ساحة الحرب، وذلك منذ صغرك فقضيّة السبق إلى الإسلام الّتي ذكرتها والّتي لبّيت فيها الدعوة حين رفضها الجميع ولم يجرؤ أحد منهم، هي قضيّةُ شجاعةٍ. 

طبعاً خذوا بنظر الاعتبار حادثة كهذه حيث يمكن أن تكون مثالاً من 
 
 
 
 
 
48

41

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 أبعاد مختلفة لخصوصيّات مختلفة، إلّا أنّنا الآن ننظر إليها من زاوية شجاعة هذا العمل. 

 
طرح النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم دعوته في مجتمع كانت جميع العوامل فيه تناهض هذهِ الدعوة، فجهل الناس وحميّتهم، وشرف الأشراف المسيطرة على الناس تقف بوجه هذه الدعوة. 
 
فأيّ نجاح يمكن أن تطمح إليه دعوة كهذه في المجتمع؟
 
قام النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بطرح مثل هذه الدعوة ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾1. في البداية عمد الأعمام المتكبّرون وأصحاب الرؤوس المليئة بالعصبيّة والغرور والعنجهيّة وغير المذعنة للحقّ والساخرة بكلّ كلام متين في الدنيا، عمدوا إلى الاستهزاء والسخرية، مع أنّه كان جزءاً منهم وكانت عندهم عصبيّة تجاه العِرق، فجميع الناس آنذاك كانوا كذلك، فأحياناً يقتتلون عشر سنوات انتصاراً لقريب لهم. 
 
ولكنّه عندما حمل هذا القريب هذا المشعل بيده زوى الجميع أعينهم وصرفوا وجوههم ولم يحتفلوا به وأهانوه وحقّروه وسخروا منه.
 
وهنا قام هذا الغلام وقال: "أنا يا رسول الله". 
 
طبعاً كان قد آمن قبل ذلك إلّا أنّه هنا أعلن إيمانه، وأمير المؤمنين" عليه السلام هو ذلك المؤمن الّذي لم يكن إيمانه مستوراً أبداً طيلة ثلاث عشرة سنة من بداية البعثة إلّا في الأيام القليلة الأولى، فقد أخفى 
 
 
 

1- سورة الشعراء، الآية: 214.
 
 
 
 
 
 
49

42

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 المسلمون إيمانهم لعدّة سنوات، إلّا أنّ الجميع كانوا يعرفون بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد آمن منذ البداية.

 
جسّدوا هذا الأمر في أذهانكم بشكل صحيح، ففي الوقت الّذي يُمارس فيه الجيران وكبار المجتمع الإهانات والتضييق، إذ يسخر الشاعر والخطيب والثريّ، ويوجّه الحقير والسافل الإهانات، يقف الإنسان وسط هذهِ الأمواج الجارفة والمعارضة شامخاً صلباً كالجبل الأشمّ معلناً: عرفت الله، وعرفت هذا الطريق وأصرّ عليه, فهذه هي الشجاعة، وقد تجسّدت هذهِ الشجاعة في مكّة والمدينة وفي مبايعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
 
فقد عمد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عدّة مرات وفي عدّة مناسبات إلى أخذ البيعة، وإحدى تلك البيعات وربما أصعبها هي بيعة الشجرة (بيعة الرضوان) في حادثة الحُديبية1
 
فعندما ازداد الموقف حرجاً جمع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الألف وبضع مئات من الّذين تحلّقوا حوله على ما هو مذكور في كتب التاريخ ونقله الجميع قائلاً: "تبايعوني على الموت وعدم الهزيمة وأن تحاربوا حتّى النصر أو القتل".
 
 
 
 

9- بيعة الرضوان، أو بيعة الشجرة: في سنة سبع من الهجرة استنفر رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  أصحابه للعمرة فخرج معه ألف وثلاثمائة، أو ألف وستمائة، ومعه سبعون بدنة، وقال: لست أحمل السلاح، إنّما خرجت معتمراً. وأحرموا من ذي الحليفة، وساروا حتّى دنوا من الحديبية على تسعة أميال من مكّة، فبلغ الخبر أهل مكّة فراعهم، واستنفروا من أطاعهم من القبائل حولهم وقدّموا مائتي فارس عليهم خالد بن الوليد أو عكرمة بن أبي جهل، فاستعدّ لهم رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  وقال: إنّ الله أمرني بالبيعة. فأقبل الناس يبايعونه على ألاّ يفرّوا، وقيل: بايعهم على الموت، وأرسلت قريش وفدا للمفاوضة، فلمّا رأوا ذلك تهيّبوا وصالحوا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم . المصدر: كتاب معالم المدرستين للسيد مرتضى العسكري، ج1، ص 155.
 
 
 
 
 
50

43

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 وأتصوّر بحسب الظاهر أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ مثل هذهِ البيعة من المسلمين في موضع آخر غير هذا الموضع. وكان في هذهِ الجماعة مختلف الناس وكان فيهم ضعاف الإيمان إذ يذكرون بعض الأسماء أيضاً وفيهم حتّى من المنافقين في هذهِ البيعة. 

 
وأوّل من بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو هذا الشاب اليافع الّذي له من العمر عشرون سنة ونيّف، فرفع يده وقال: "أبايعك على الموت"، وبعد ذلك تشجّع المسلمون وتقدّموا وبايعوا واحداً بعد الآخر, وحتّى الذين لم يرغبوا في ذلك اضطّروا إلى المبايعة  ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾1. وهذهِ شجاعة. 
 
ففي حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أينما وجد موضع لإظهار الجوهر الإنسانيّ كان هذا العظيم يتقدّم، فكان السبّاق في كلّ الصعاب.
 
جاء رجل إلى عبد الله بن عمر ليتحبّب إليه، وقال: أنا أبغض عليّاً, وكان يرى أنّ هؤلاء عائليّاً لا يحبّون علياً عليه السلام ، فقال له عبد الله بن عمر: "أبغضك الله، أتبغض رجلاً سابقة من سوابقه خير من الدنيا وما فيها؟"2.
 
هذا هو أمير المؤمنين عليه السلام العظيم. هذا هو عليّ الساطع في التاريخ. هذهِ هي الشمس الّتي سطعت لعدّة قرون وتزداد سطوعاً يوماً بعد يوم. فأينما لزم وجود الجوهر الإنسانيّ كان هذا الرجل العظيم حاضراً 
 
 
 

1- سورة الفتح، الآية: 18.
2- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج ١، ص ٢٨٨.
 
 
 
 
 
51

44

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 هناك حتّى إذا لم يكن معه أحد، فقد كان يقول: "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله"1، وكان هو أيضاً كذلك. فإذا كنتم في أقليّة وكان جميع أهل الدنيا ضدّكم ولا يرتضون طريقكم، أو أنّ الأكثريّة لا تقبل ذلك فلا تستوحشوا ولا تتراجعوا، فعندما تتعرّفون إلى الطريق القويم اسلكوه بكلّ وجودكم. 

 
هذا هو المنطق الشجاع لأمير المؤمنين عليه السلام ، وهذا ما التزمهُ أيضاً في حياته.
 
وفي حكومته أيضاً الّتي استغرقت أقلّ بقليل من خمس سنوات كان هذا المنطق أيضاً ماثلاً أمام أمير المؤمنين عليه السلام. فكلّ ما ترونه شجاعة، ومنذ اليوم الثاني من مبايعته عليه السلام خرج وتكلّم بشأن القطائع الّتي أعطيت قبله لهذا وذاك وقال: "وَالله لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الاْمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ؛فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ"2. وشرع في ذلك وحدثت تلك الضغائن. 
 
فهل تُعهد شجاعة أعظم من هذهِ الشجاعة؟
 
وقف بشجاعة أمام أكثر الناس عناداً، ووقف بشجاعة أمام ذوي النفوذ في المجتمع الإسلاميّ، ووقف بشجاعة تجاه الثروة المتكدّسة في الشام والّتي كان يمكنها تجهيز ورصّ عشرات الآلاف من الجنود لمقاتلته، 
 
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة: 201.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 15.

 
 
 
 
52

45

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 فعندما عرف طريق الله لم يتساهل مع أي شخص. وهذهِ شجاعة، كما أنّه لم يتساهل حتّى مع أقربائه.


إنّ التلفّظ بهذهِ الأمور سهل، إلّا أنّ العمل بها عظيم وشاقّ جدّاً. فقد كنّا في يومٍ ما نبيّن هذهِ الأمور كعبرٍ من حياة عليّ عليه السلام ، ولابدّ من الاعتراف بحقيقة الأمر وهو: أنّنا لم ندرك عمق هذا المطلب بشكل جيّد.

هكذا عاش أمير المؤمنين عليه السلام ، فتعرّف ببركة ذلك ملايين الناس على الإسلام والحقيقة. 

هذا هو أمير المؤمنين عليه السلام الّذي لُعن قرابة المئة عام فوق المنابر، وأُسيء إليه في جميع العالم الإسلاميّ، ووضعت آلاف الأحاديث ضدّه أو ضدّ ما تفوّه به، وبُثَّتْ في ميادين الفكر، وتمكّن بعد مضي هذهِ السنوات الطوال من أن يُخرج نفسه من تحت ركام هذهِ الأوهام والخرافات ويقف بطوله الشامخ بوجه التاريخ.

هو جوهرة يُكتب لها البقاء دون أن يلوّثها أو يقلل من قيمتها الطين والشوك والأدران، فإنّك إذا رميت ماسة في الطين تبقى ماسة وستظهر نفسها. 

فلا بدّ من استحصال مثل هذا الجوهر، وعلى كلّ مسلم أن يجعل هذا المشعل العظيم قدوته ويتّجه صوبه.

لم يدّعِ شخص أنّ بإمكانه العمل مثل عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ولا ينبغي جدلاً أن يقال لهذا أو ذاك: لماذا لا تصنع نفس صنيع عليّ عليه السلام ؟ فقد تحدّثوا مع الإمام السجاد عليه السلام حول عبادة أمير المؤمنين عليه السلام فبكى 
 
 
 
 
 
53

46

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 الإمام وقال: "من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ؟"1 نُقل ذلك عن الإمام السجاد زين العابدين عليه السلام وهو معصوم، أفهل يمكننا أن نكون مثل عليّ عليه السلام ؟

 
لم يستطع لحدّ الآن أيّ شخص من عظماء العالم، ولم يدّعِ ولم يتخيّل ولا خطر في ذهنه مثل هذا الاشتباه في أنّه سيتمكّن من القيام بنفس ما كان يقوم به أمير المؤمنين عليه السلام.
 
المهم أن يكون نهجنا نهج أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّ هذا الرجل العظيم بنفسه يقول في نهج البلاغة في كتاب له إلى عثمان بن حُنيف بعد أن بيَّن له وضعه وكيفيّة عيشه: "أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ"2. 
 
كلّا، فهذا مقام لا يمكن نيله، إلّا أنّه أسوة، فليكن سعينا هو الاتّجاه نحو هذهِ الأسوة.
 
لا يمكن لأحد أن تكون له شجاعة عليّ عليه السلام ، فإنّ أقرب الناس إليه عليه السلام وهو عبد الله بن عباس، الّذي كان ابن عمه وتلميذه ورفيقه وأمين سرّه وكان مخلصاً ومحبّاً حقيقيّاً له عليه السلام وقد ارتكب غلطةً ولا أريد الدخول في تفاصيل ذلك لأنّ هذا الرجل العظيم كان عظيماً حقّاً وكان قد أخذ مقداراً من أموال بيت المال ظناً منه أنّه يستحقّه وذهب إلى مكّة، فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام كتاباً يقشعرّ له الجلد، فأيّ رجل هو هذا وكم هو عظيم قال فيه: "فَاتَّقِ الله، وَارْدُدْ إِلَى هؤُلاَءِ الْقَوْمِ 
 
 
 

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج ‏1، ص 92، باب 20، تأكّد استحباب الجدّ والاجتهاد في العبادة.
2- نهج البلاغة، كتاب: 45.
 
 
 
 
 
54

47

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 أمَوَالَهُمْ، فإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي الله مِنْكَ لأُعْذِرَنَّ إِلَى الله فِيكَ، وَلأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ، وَالله لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فعَلاَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ، وَلاَ ظَفِرَا مِنِّي بَإِرَادَة، حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا"1.

 
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يعلم أنّ الحسن والحسين عليهما السلام معصومان إلّا أنّه يقول: إذا حصل مثل هذا الأمر الّذي لا يمكن أن يحصل سوف لن أكون رحيماً بهما. 
 
هذهِ شجاعة، وطبعاً من زاوية أخرى هي عدالة، ومن زاوية ثالثة احترام للقانون. توجد لذلك عناوين متعدّدة إلّا أنّها من هذه الزاوية شجاعة ومقدرة نفسيّة.
 
وهنا يتعيّن على شيعة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، بل وحتّى المسلم المؤمن بأمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، أن يستلهم العبر من شجاعة ذلك الإمام، فلا يستوحش من إعراض العدوّ ومن الإحساس بالغربة. 
 
إنّ شجاعة عليّ بن أبي طالب عليه السلام وصموده أمام ذلك الباطل الّذي أرادوا إجباره عليه هو اليوم درسنا الكبير، بالشرح الّذي نقلناه حول تلك الشخصيّة العظيمة2.
 
 
 

1- نهج البلاغة، كتاب: 41.
2- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 19/ رمضان/ 1416ﻫ.ق.
 
 
 
 
 
55

48

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 أمير المؤمنين عليه السلام الشخصيّة التاريخيّة المحبوبة 


إنّ أمير المؤمنين عليه السلام من الوجوه الجذّابة في التاريخ. وقلّما يجد المرء شخصيّة تاريخيّة عشقتها البشريّة وليس المسلمون وحدهم؛ كشخصيّة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. فهناك الكثير من غير المسلمين الّذين لا يقرّون بالدين الإسلاميّ ولا بنبوّة الرسول الكريم" صلى الله عليه وآله وسلم ، يحبّون عليّاً عليه السلام ويحترمونه ويثنون عليه، ناهيك عن أنّ المسلمين وخاصّة الشيعة يكرّمونه ويعظّمونه في قلوبهم وأنفسهم وعقولهم. 

يوجد بيننا نحن الشيعة وعامّة المسلمين أشخاص لا يعملون بأحكام الإسلام إلّا أنهم ينظرون إلى أمير المؤمنين عليه السلام بعين الإجلال؛ وسبب ذلك يعود طبعاً إلى الخصائص والصفات الإنسانيّة العليا الكثيرة الّتي كانت فيه. 

فكلّ من سمع عن عليّ عليه السلام شيئاً فهو ينظر إلى تلك الخصائص بكلّ إكبار، باستثناء طائفة واحدة تعرف عليّاً ولكنّها تناصبه العداء، وتلك هي الطائفة الّتي تناهض المبادئ الّتي جاهد من أجلها هذا الإنسان العظيم وأنفق عمره من أجلها؛ فهي بطبيعة الحال تعادي جنديّها الأوّل، أو أولئك الّذين نالهم في تلك الأدوار الأولى سيفه البتّار وصلابته الّتي تأبى المساومة مع كلّ ما هو سيّئ وقبيح، وإلاّ فإنّ المنصفين والمجبولين على فطرتهم الإنسانيّة مغرمون بهذه الشخصيّة العظيمة.

وهذا ينطبق طبعاً على من سمعوا شيئاً عنه، أما الّذين لم يسمعوا عنه شيئاً فهم مستثنون من هذه القاعدة. 
 
 
 
 
 
56

49

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 الاقتداء بالإمام عليّ عليه السلام عمليّاً


تجدر الإشارة هنا إلى نقطة أخرى وهي: إنّنا حينما ننظر من بعيد إلى الشخصيّات بما اجتمع فيها من خصائص إيجابيّة، فإنّنا غالباً ما نثني عليها, ولكنّنا عند الاقتراب منها، وعند معايشة قضايا التطبيق العمليّ والانقياد والولاء، نقع في المحذور. 

وهذا واحد من عيوب أبناء البشر، ولو أنّ أهل الدنيا مالوا إلى مناصرة المظلوم الّذي تجسّد في شخصه، وهبّوا لمناصرة الحقيقة الّتي تمثّلت فيه، ونهضوا لمقارعة الظلم كنهضته، واقتربوا عمليّاً ولو خطوة واحدة نحو تلك الخصائص، على قدر تعاطفهم مع عدل وإنصاف وشجاعة أمير المؤمنين عليه السلام ، لأصبحت الدنيا روضة. 

لكنّنا نحن بني الإنسان من أمثالي الّذين نثني على أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا الحدّ، ليس من المؤكّد أنّنا نثني في حياتنا اليوميّة وفي أحكامنا العاديّة على أحد الأعمال الّتي نثني عليها في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام ، أو عند مشاهدة شخص يروم السير على نهج أمير المؤمنين عليه السلام ، وإنّما تضطرم عليه قلوبنا ونهبّ لمواجهته، وإذا غلبتنا الشقاوة لا سمح الله نشهر بوجهه السيف. 

وهذا هو موطن الخلل. 

ولهذا فمن المناسب الاطّلاع على التفاصيل الجزئيّة من خصائصه، بقدر الاطّلاع على الجوانب المستخلصة من خصاله؛ كأن نطّلع على كيفيّة
 
 
 
 
 
 
57

50

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 عدله، وكيف كانت عدالته الّتي نالت كلّ هذا الإطراء والثناء، وكيف كانت سيرته في الجانب العمليّ، ثم نحاول كخطوة لاحقة التقرّب منه في مجال الممارسة العمليّة. وهو أمر صحيح ويفضي إلى التكامل. 

 
لابدّ وأنّكم سمعتم ما ورد في بعض الروايات1: أنّ أشخاصاً كانوا يأتون إلى الأئمّة عليه السلام ويقولون إنّنا شيعة لكم كما ورد في رواية أن بعضهم جاءوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام نفسه وقالوا له ذلك إلّا أنّ الأئمّة عليه السلام كما تفيد هذه الروايات كانوا يستنكرون ذلك منهم، ويقولون لهم: وأين وجه الشبه بينكم وبين شيعتنا وموالينا؟ فأنتم تتّصفون بمثل هذه الخصائص والصفات والأعمال. 
 
وبعبارة أخرى إنّهم يطالبوننا بالعمل، والعمل يكون تابعاً للاعتقاد، وإنّ الإنسان يجب أن يكون لديه اعتقاد ما. 
 
من الطبيعيّ أنّ الشعب الإيراني يجب أن يكون شاكراً لله تعالى على توفّر أجواء الاقتداء بأمير المؤمنين عليه السلام والالتزام بالإسلام في هذا البلد؛ فالغالبيّة العظمى من أبناء هذا الشعب تحدوهم رغبة قلبيّة للتوجّه صوب الحقيقة وإن كان يوجد بينهم حاليّاً أشخاص لا يعملون بالفروع بَيْدَ أنّ الأرواح والقلوب والمعتقدات تهفو صوب الاتّجاه الّذي يشير إليه أصبع أمير المؤمنين عليه السلام لهداية الناس. 
 
 
 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 68، ص 192. كنز الفوائد، الكراجكي، ج1، ص 89.
 
 
 
 
 
58

51

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 رواية (الإرشاد) في مدح أمير المؤمنين عليه السلام 

 
وقع اختياري على رواية وردت في كتاب (الإرشاد)1 للشيخ المفيد أودّ ذكرها هنا، إلّا أنّني نقلت نصّها من كتاب (الأربعون حديثاً - الحديث السابع والعشرون) لسماحة الإمام الخمينيّ قدس سره وهو كتاب في غاية الحسن والفائدة وطابقتها مع ما ورد في كتاب الإرشاد للشيخ المفيد. 
 
يقول الراوي2: كنّا عند الإمام الصادق عليه السلام ، فجرى ذكر أمير المؤمنين ومدحه (الإمام الصادق عليه السلام ) بما هو أهله. 
 
لقد نظرت في الرواية، فوجدت أنّ كلّ فقرة في هذه الرواية تشير إلى بُعد من أبعاد شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام ، كزهده، وعبادته، والأبعاد الأخرى الّتي سأقرأها الآن. 
 
فيمتدح الإمام الصادق عليه السلام طبقاً للرواية أمير المؤمنين عليه السلام هكذا: "والله ما أكل عليّ بن أبي طالب عليه السلام من الدنيا حراماً قطّ حتّى مضى لسبيله"3 أي إنّه كان يتجنّب أكل الحرام، ويتّجنب المال الحرام، ويتجنّب المنال الحرام, والمراد طبعاً هو الحرام الحقيقيّ وليس الحرام المنجز حكمه بالنسبة له؛ أي إنّه كان يبتعد حتّى عمّا كان فيه شبهة, وقد وضعوا أمامنا هذه الأمور كتعاليم ومثالاً عمليّاً، والأهمّ
 
 
 

1- كتاب الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، للشيخ المفيد (338 ـ 413ﻫ) فيه تواريخ الأئمّة الطاهرين الاثني عشر  عليهم السلام  ومعجزاتهم وطرف من أخبارهم من ولاداتهم ووفياتهم ومدّة أعمارهم وعدّة من خواص أصحابهم وغير ذلك.
2- الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 141. باب 7 الحديث: 4.
3- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص 91.
 
 
 
 
 
 
59

52

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

  من ذلك كمثال فكريّ.


وأقرّ الإمام الصادق والإمام الباقر والإمام السجّاد عليه السلام بأنّهم لا يستطيعون العيش بالشكل الّذي عاشه الإمام عليّ عليه السلام ، فما بالك إذا وصل الدور لأناس من أمثالي؟ 

القضيّة لا تتعلّق بكيفيّة الحياة الّتي نريد أن نعيشها أنا أو أنت؛ فتلك الحياة هي قمّة الحياة والإمام عليه السلام يشير إلى تلك القمّة، وهذا يعني أنّ الجميع يجب أن يسيروا في هذا الاتجاه, ولكن من الّذي يستطيع بلوغ تلك القمّة؟ الإمام السجاد عليه السلام نفسه قال في هذا الحديث: إنه لا يستطيع العيش بتلك الصورة. 

"وما عرض له أمران كلاهما لله رضاً إلّا أخذ بأشدّهما عليه في بدنه" فإذا عرض له نوعان من الطعام كان يختار أدناهما، وإذا عرض له نوعان من الثياب كان يختار أردأهما، وإذا عرض له عملان كلاهما حلال كان يختار أصعبهما عليه. 

وهذا الكلام غير صادر عن متحدّث عادي، وإنّما المتحدّث هنا كما تشير الرواية هو الإمام الصادق عليه السلام ، أي إنّ كلامه في غاية الدقّة, إذاً من المهمّ جداً التشدّد على الذات في الحياة الدنيا ومتاعها ونعيمها. 

"وما نزلت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نازلة قط إلّا دعاه ثقة به", أي أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم متى ما ألمّت به مُلمّة كان يستدعيه وينتدبه لها ويقدّمه فيها؛ وذلك أوّلاً: لعلمه بأنّه قادر على أدائها على أحسن وجه، وثانياً:
 
 
 
 
 
 
60

53

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

  إنّه لم يكن يتمرّد على الأعمال العسيرة والمهام الشاقة، وثالثاً: كان على استعداد للجهاد والبذل في سبيل الله, ففي (ليلة المبيت)1 مثلاً حين هاجر رسول الله سرّاً من مكّة إلى المدينة، كان يجب أن يبيت أحد في سريره, وهناك قدّم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام, وفي الحروب كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقدّمه أيضاً, وفي جميع القضايا الأساس والمهمّة الّتي كانت تعرض للرسول" صلى الله عليه وآله وسلم كان يقدّم لها عليّاً ثقة منه به. 

 
والقضيّة هناك هي ليست مجرد ادّعاء يطلقه أشخاص حقراء وضعفاء من أمثالي، ونزعم أنّنا نريد العيش على هذه الشاكلة، وإنّما القضيّة هي أنّنا يجب أن نسير في هذا الاتجاه. 
 
والإنسان المسلم السائر على نهج عليّ عليه السلام ، يجب أن يسير على هذا الخطّ، وأن يتقدّم إلى الأمام بأسرع ما يمكن. 
 
ثمّ قال: "وما أطاق أحد عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأمّة غيره، وإن كان ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنّة والنار", أي على الرغم من كلّ هذه الأعمال الإيمانيّة الكبرى كان سلوكه سلوك إنسان يعيش بين الخوف والرجاء؛ فهو كان يخشى الله وكأنّه متأرجح بين الجنّة والنار "يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب هذه". وخلاصة هذا الكلام هي: أنّه على الرغم من كثرة جهاده وبذله وعبادته إلّا أنّه لم يغترّ بشيء من ذلك. 
 
 
 

1- ليلة المبيت: هي الليلة الّتي بات فيها الإمام عليّ عليه السلام  على فراش النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم  وهي الليلة الّتي هاجر فيها النبيّ الأعظم  صلى الله عليه وآله وسلم  إلى المدينة عندما حاصر المشركون بيته  صلى الله عليه وآله وسلم  وأرادوا قتله.
 
 
 
 
 
61

54

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 في حين إذا صلّى أحدنا ركعتي نافلة وقرأ بضعة جمل من الأدعية، وأراق دمعتين، يغتر بعمله الضئيل هذا ويتفاخر ويتصوّر نفسه وكأنّه أصبح (طاووس العلّيين), أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فلم يغترّ بكثرة عمله الصالح. 


أمّا لماذا يخاف أشخاص كالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكأمير المؤمنين والسجّاد عليه السلام وهم الذين خلق الله الجنّة من أجلهم نار جهنم ويستعيذون بالله منها، فهو بحث آخر. 

نحن أناس صغار وضعفاء وقصيرو النظر ولا ندرك عظمة الله، ومثلنا في ذلك كمثل طفل صغير يلعب أمام شخصيّة علميّة كبرى ويجيء ويذهب غير آبهٍ لوجود هذه الشخصيّة؛ وذلك لأنّه لا يعرف حقيقة هذه الشخصيّة, في حين تجد أنّ والد ذلك الطفل الّذي يفوق عقله عقل طفله مئة مرّة يتواضع لتلك الشخصيّة, وهكذا حالنا أمام الله تعالى؛ فنحن لا ندرك عظمته وكأنّنا أطفال أو كأنّنا أشخاص غافلون وأناس وضيعون. 

أمّا الذين وصلوا من مرحلة العلم إلى مرحلة الإيمان، ومن مرحلة الإيمان إلى مرحلة الشهود، ومن مرحلة الشهود إلى مرحلة الفناء في الله، أولئك تتجلّى عظمة الله أمام أبصارهم بشكل تتضاءل أمامه قيمة كلّ عمل صالح يعملونه، ويشعرون على الدوام وكأنّهم لم يعملوا عملاً صالحاً، وأنّهم مدينون لله. 

"ولقد أعتق من ماله ألف مملوك في طلب وجه الله والنجاة من
 
 
 
 
 
 
62

55

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

  النار ممّا كدّ بيديه ورشح منه جبينه" أي إنّ الأموال الّتي أنفقها على عتق أولئك المماليك لم يحصل عليها بالمجّان، وإنّما حصل عليها بتعب يديه وعرق جبينه وبالعمل الشاق؛ سواء في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم في فترة الخمس وعشرين سنة، أم في عهد خلافته، إذ يستدلّ من بعض الآثار والدلائل أنّه كان يعمل أيضاًً في زمن خلافته؛ فكان يحفر القنوات ويحيي الأراضي ويزرعها ويحصل على المال من هذا الطريق ثمّ ينفقه في سبيل الله، فكان يشتري العبيد ويعتقهم، وأعتق على هذا المنوال ألف عبد. 

 
"وإن كان ليقوت أهله بالزيت والخل والعجوة"1
 
أي إنّ طعامه العادي الّذي كان في داره هو الزيت والخل والتمر من الدرجة المتوسطة أو الرديئة، وكان طعامه يشبه الخبز واللبن أو الخبز والجبن في عرف مجتمعنا في الوقت الحاضر. 
 
"وما كان لباسه إلّا الكرابيس2، إذا فضل شيء عن يده دعا بالجلم فقطعه". 
 
أي إنّه لم يكن يرتضي لنفسه حتّى الزيادة في الأكمام، وإذا زاد القماش عن ذلك دعا بمقصٍ فقصّه؛ لكي يستخدم ذلك القماش في صناعة شيء آخر؛ لأنّ القماش كان قليلاً في ذلك العصر وكان الناس يواجهون مشكلة في الحصول عليه. 
 
 
 

1- العجوة: ضرب من التمر، يقال هو ما غرسه النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم  بيده. لسان العرب، ابن منظور، ج15، ص 31.
2- الكرابيس: جمع كرباس وهو القطن . م.ن، ج6، ص 195.
 
 
 
 
 
63

56

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 ثمّ تحدّث بعد ذلك عن عبادته, فقد كان عليه السلام قمّة الإسلام وأسوة للمسلمين, وجاء في هذه الرواية: "وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبهاً به في لباسه وفقهه من عليّ بن الحسين عليه السلام ". وذكر الإمام الصادق عليه السلام فصلاً في باب عبادة الإمام السجّاد عليه السلام ، وقال من جملة ما قال: "ولقد دخل أبو جعفر عليه السلام ابنه عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمصت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخزم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة"؛ فتألّم الإمام الباقر عليه السلام لما شاهده من حال أبيه، فقال: "فلم أملك حتّى رأيته بتلك الحال (البكاء) فبكيت رحمة له". 


وكان الإمام السجّاد عليه السلام متفكّراً والتفكّر عبادة فأدرك بالفراسة سبب بكاء ولده الباقر عليه السلام ، فأراد أن يقدّم له درساً، فرفع رأسه وقال: "يا بنيّ أعطني بعض تلك الصحف الّتي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب". 

ويبدو أن هناك كتابات ومدوّنات في باب قضاء أمير المؤمنين عليه السلام وحياته وأحاديثه كانت موجودة لدى الأئمّة عليه السلام ، ويستشفّ من مجموع الروايات الأخرى أنّهم كانوا يرجعون إليها ويستفيدون منها في مواقف شتّى. 

يقول الإمام الباقر عليه السلام: "فأعطيته، فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثم تركها من يده تضجّراً". فالإمـام السجاد عليه السلام يقدّم هـنا درساً للإمـام الباقر وللإمـام الصادق عليهما السلام ، ويقدّم درساً لي ولكم، "قال: من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ؟". 
 
 
 
 
 
 
64

57

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 الإمام السجّاد عليه السلام كان يكثر من عبادة الله إلى الحدّ الّذي جعل الإمام الباقر عليه السلام يرقّ لحاله وليس مثلي ومثلكم فنحن نستعظم ما هو أقلّ من ذلك فالإمام الباقر عليه السلام هو نفسه إمام وله مقامات رفيعة، إلّا أنّه يتألّم لكثرة عبـادة عليّ بن الحسـين عليه السلام ولا يُطيق الصـبر على البكاء فيبكي لا إراديّاً, ومـع كلّ هذا نجد عليّ بن الحسين عليه السلام مع كلّ عبادته يقول: "من يقوى على عبادة عليّ بن أبـي طالـب؟"، أي إنّه كـان يرى بوناً شاسعـاً بيـنه وبين عليّ عليه السلام. " 

 
حاجة البشريّة لصفات الإمام عليّ عليه السلام وخصاله 
 
الإمام عليّ عليه السلام الّذي نعشقه أنا وأنت، وتعشقه الدنيا، ويكتب المسيحيّ كتاباً عنه انطلاقاً من عشقه له، ويثني عليه حتّى من لا يلتزم عمليّاً بأحكام الدين، لماذا تنظر له عن بعد؟ اقترب منه وانظر إليه عن كثب. كلّ من ينظر إلى قمّة (دماوند)1 عن بعد ينبهر بها, ولكن يجب عليه أن ينطلق ويجتاز المنعطفات والمسالك الوعرة ويقترب إليها. 
 
البشريّة اليوم بحاجة إلى الخصال الّتي كان أمير المؤمنين عليه السلام رافع لوائها؛ لأنّها خصال لا تبلى بتقدّم العلم والتكنولوجيا، ولا تندثر بظهور أنماط جديدة من الحياة. 
 
 

1- جبل دماوند يقع شمال إيران ووسط سلسلة جبال البرز، يبلغ ارتفاعه 5627 متراً ممّا جعله من أعلى القمم في غربي آسيا وأوروبا، ويتألّف جبل دماوند من سبعين فوهة بركانيّة وتنتشر على سفوحه قرى كثيرة متناثرة.
 
 
 
 
 
65

58

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 فالعدالة لا تُبلى، والإنصاف لا يبلى، والدعوة إلى الحقّ لا تبلى، ومقارعة الغطرسة والتجبّر لا تُبلى؛ وارتباط القلب بالله لا يبلى، لأنّ هذه الخصال ثابتة في فطرة الإنسان على امتداد التاريخ. وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام رافعاً لواء هذه الخصال. 

البشريّة اليوم متعطّشة لهذا الكلام ولهذه الحقائق, فما هو الحل إذاً؟ الحلّ يكمن في الاقتراب والدنوّ, فلا نستكثر كلمة حقّ قلناها أنا وأنت هنا أو هناك؛ لأنّ هذا نهج عليّ عليه السلام ، ولا نستكثر ساعة عَبَدنا الله بها في الليل أو النهار، ويداخلنا العُجب بأنفسنا؛ فعليّ عليه السلام كان كذلك، ولا نستعظم موقفاً تقحّمنا فيه المخاطر؛ فعليّ عليه السلام كان كذلك. عليكم بالاقتراب من خصال عليّ عليه السلام جهد المستطاع. 

يا أيّها الصائمون، يا أيّها المصلّون، يا مصلّي النوافل، أيّها المجاهدون في سبيل الله، أيّها المتقحّمون المخاطر، أيّها الزهّاد في الدنيا، يا أسود النهار، وأيّها العبّاد في الليل، هنيئاً لكم، فأنتم أقرب إلى عليّ عليه السلام ، ويمكنكم أيضاً أن تكونوا أقرب فأقرب. 

إذا كان العالم الإسلاميّ بل العالم كلّه يعترف لعليّ عليه السلام بالفضل فذلك يُعزى إلى ما كان يتّصف به من زهد وعبادة وشجاعة وحزم في سبيل الله؛ فمتى ما اقتضت الحاجة كان يهوي بسيفه على أعداء الحقيقة وأعداء الدين وأعداء الله بلا خوف أو وَجَل، ولا تأخذه في الله لومة لائم, فإذا ما وُجِدَ شخص منحرف ومضرّ ومخلّ، في طريق السير إلى الله، 
 
 
 
 
 
 
 
60

59

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 كان لسيفه القول الفصل, ومتى ما كان هناك مظلوم ومسلوب الحقّ كان أمير المؤمنين عليه السلام يتحوّل إلى أرق إنسان وأعطف إنسان. 

 
جاء في رواية أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يكثر من إطعام الأيتام بِيَده إلى حدّ جعل أحد الأشخاص ولا بدّ أنه كان شاباً على سبيل المثال يقول: يا ليتنا كنّا أيتاماً حتّى يكون أمير المؤمنين عليه السلام رؤوفاً بنا إلى هذا الحدّ. 
 
وكان مجهولاً لدى الفقراء والمساكين والمحتاجين ولم يعرفوه إلّا بعدما ضُرب، أنّه هو ذلك الشخص الرؤوف الّذي كان يغشاهم وهم لا يعرفونه.
 
أمّا كلامه في نهج البلاغة فهو أفصح كلام إنسان عند العرب, ونهج البلاغة ذروة في الفنّ والجمال؛ جمال اللفظ وجمال المعنى، ويبهر العقول, ولم يستطع أي شاعر عربي كبير أو كاتب أو أديب عربي أن يقول إنّه غنيّ عن الرجوع إلى نهج البلاغة. 
وعلى كلّ حال، فقد فجع أهل الكوفة بالأمس بشهادته، ولم يشيّع جثمانه في الكوفة، ولم يجتمع الناس حول جثمانه. 
 
ولعلّه كان يرى تسلّط الأعداء على الكوفة بعد ذلك بعشر سنين أو عشرين سنة, فما الّذي جرى في الكوفة؟ فالذين داروا ببناته في أسواق الكوفة، ورفعوا رأس فلذة كبده على رؤوس الرماح، ما كانوا يتورّعون عن نبش قبره والتنكيل برمسه؛ ولهذا السبب بقي قبره مخفيّاً ولم يعثر عليه إلّا بعد مضيّ مدّة طويلة1.
 
 
 

1- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 22/ رمضان/1420ﻫ ـ ق.
 
 
 
 
 
67

60

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 الإمام عليّ عليه السلام مظهر العدل الإلهيّ


إنّ لمفردة العدالة ومفهومها موقعاً متميّزاً في حياة أمير المؤمنين" عليه السلام وشخصيّته. وبالرغم من اجتماع العديد من الخصال فيه" عليه السلام ، إلّا أنّ من أبرزها وهي الّتي لازمته على الدوام العدالة الّتي تنطوي على مفاهيم متعدّدة, وتتشعّب إلى شعب شتّى, اجتمعت كلّها في وجود أمير المؤمنين عليه السلام ، فهو مظهر العدل الإلهيّ.

لقد اقتضى العدل الّذي نعتبره من أصول الدين أن يختار الله سبحانه شخصاً كأمير المؤمنين عليه السلام لإمامة الأمّة وقيادتها؛ وهذا ما فعله الباري جلّت قدرته؛ فوجود أمير المؤمنين عليه السلام وشخصيّته وتربيته وعظمته وبالتالي تنصيبه للخلافة كلّها مظهر للعدل الإلهيّ. ولقد تجسّدت العدالة بمعناها الإنسانيّ بأكمل صورها في كيانه عليه السلام.

العدالة في بُعدها الفرديّ عند الإمام عليّ عليه السلام 

كان عليّ عليه السلام يجسّد العدالة الإنسانيّة ببعديها الفرديّ والاجتماعيّ؛ حيث تجلّت عدالة الإنسان في حدود حياته الفرديّة، وعدالته في مضمار الحكم والسلطة تلك الّتي نطلق عليها العدالة الاجتماعيّة في حياة أمير المؤمنين عليه السلام ، وعلينا أن نعرف ذلك بنيّة تطبيقه عمليّاً، لا سيّما بالنسبة لأولئك الذين يتحمّلون المسؤوليّات في المجتمع, ويتبوّؤون موقعاً في الحكومة، فلقد تمثّلت العدالة الفرديّة بأعلى درجاتها في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام ، وذاك هو ما نعبّر عنه بالتقوى، تلك التقوى الّتي 
 
 
 
 
 
 
68

61

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 كان عليه السلام يجسّدها في عمله السياسيّ والعسكريّ وفي توزيعه لبيت المال، وفي قضائه وجميع شؤونه؛ فالعدالة الفرديّة والذاتيّة للمرء تمثّل في واقع الأمر سنداً للعدالة الاجتماعيّة وصاحبة التأثير في العدالة على صعيد الحياة الاجتماعيّة.


ليس بمقدور من يفتقد للتقوى في ذاته وفي عمله، وهو رهين أهوائه النفسيّة وأسير للشيطان، الادّعاء بقدرته على تطبيق العدالة في المجتمع، فذلك محال؛ فمن أراد أن يكون مصدر إشعاع للعدالة في حياة الأمّة، فلا بدّ له والحال هذه أن يلتزم التقوى على صعيد نفسه أوّلاً؛ تلك التقوى الّتي أشرت لها في مستهلّ الخطبة، والّتي تعني المراقبة للحيلولة دون الوقوع في الخطأ. 

وهذا لا يعني أنّ الإنسان لن يخطئ، كلّا, فلا مفرّ لغير المعصوم من ارتكاب الخطأ، وما هذه المراقبة إلّا صراط مستقيم, وسبيل للنجاة تنتشل الإنسان من الغرق وتمنحه القوّة. والّذي لا يمارس الرقابة على نفسه ويعاني من فقدان العدالة والتقوى على صعيد القول والفعل وحياته الشخصيّة لا قدرة له على أن يكون مصدراً للعدالة الاجتماعيّة في أوساط المجتمع.

لقد أعطى أمير المؤمنين عليه السلام درسه الخالد لكلّ الّذين يمارسون دوراً على الصعيد السياسيّ لمجتمعاتهم، حيث يقول عليه السلام: "مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ 
 
 
 
 
 
 
69

62

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ"1، إذ بإمكان اللسان النطق بكثير من الأشياء، أمّا ما يأخذ بِيَدِ الإنسانيّة لسلوك صراط الله فهو سيرة وأفعال من يقع عليه الاختيار ليكون إماماً للناس، سواء على مستوى المجتمع أم أدنى مستوى من ذلك. ثمّ يقول عليه السلام: "وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ"2.

 
هذا هو منطق أمير المؤمنين عليه السلام ودرسه؛ فالحكومة ليست ممارسة للسلطة وحسب، بل هي نفوذ في القلوب واستقرار في العقول، فمن كان في هذا الموقع أو وضع نفسه فيه عليه بادئ ذي بدء أن ينهمك دوماً بتهذيب نفسه وإرشادها ومحاسبتها ووعظها.
 
من المواصفات الّتي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام لمن يتمتّع بالأهليّة لإمارة الناس, أو تولّي مسؤوليّة قطاع من شؤونهم وهذا ما يبتدئ من زعامة البلد ويسري إلى ما هو أدنى من الدوائر والمؤسّسات، كما يصدق على القاضي أو المتصدّي لدائرة من دوائر هذا الجهاز الوسيع وكان عليه السلام يوصي ولاته وقادته به، نجده في قوله عليه السلام: "فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ"3. من هنا يأتي التلازم بين السلطة والأخلاق في الإسلام، فالسلطة إنّما هي ظالمة غاصبة إذا ما خلت من الأخلاق.
 
 

1- نهج البلاغة، الحكمة: 68.
2- م. k.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 86.
 
 
 
 
 
70

63

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 العدالة في بُعدها الاجتماعيّ عند الإمام عليّ عليه السلام 


ما تطرّقت إليه كان حول العدالة في إطار الشؤون الشخصيّة لعليّ بن أبي طالب عليه السلام.

أما عدالته عليه السلام على صعيد المجتمع، أي تطبيقه للعدالة الاجتماعيّة، فأمير المؤمنين عليه السلام يمثّل وصفة الإسلام الكاملة؛ إذ كانت حكومته إسلاميّة 100% وليست 99% أو 99.99%؛ فلم يخرج ما كان يصدر عن أمير المؤمنين عليه السلام وحدود صلاحياته وسلطته من تحرّك أو قرار عن صبغته الإسلاميّة؛ أي إنّه العدالة المطلقة، وربما حصل في بعض الولايات التابعة لحكومة أمير المؤمنين عليه السلام أن مورست أعمال تتنافى مع العدالة، بَيْدَ أنّه عليه السلام كمسؤول كان يشعر بتكليفه عندما يواجه مثل هذه الممارسات، فكانت كتبه وتحذيراته وخطبه وحروبه كلّها تصبّ في مجرى تطبيق هذه العدالة.

هذا هو تكليفنا، ولا أريد أن يتبادر إلى الأذهان الوهم بإمكانيّة أن يصل أمثالنا أو مَن هم أفضل منّا إلى مستوى أمير المؤمنين عليه السلام ، كلّا فهو عليه السلام المثل الأعلى والأنموذج الأصيل، فهو إنّما يُعدّ أنموذجاً من أجل أن يتحرّك الجميع باتّجاهه، وإلّا فإنّه عليه السلام لا يرتقي إليه التشبيه أو مقارنة أحد به؛ فأولئك العظام الذين اجتباهم الله تعالى ومنحهم العصمة، سواء كانوا من الأنبياء أم الأئمّة الأطهار عليه السلام ، هم نجوم تتلألأ في سماء المُلك والملكوت، وليسوا ممّن يستطيع 
 
 
 
 
 
71

64

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 أمثالنا بما هم عليه من قدرات دانية وقابليّات متواضعة مضاهاتهم أو الوصول إليهم؛ إنّهم الهداة، والإنسان إنّما يتلمّس طريقه بواسطة النجوم1.

 
الخصائص والصفات الظاهريّة لشخصيّة الإمام علي عليه السلام 
 
لو شئنا الاكتفاء بإيراد بضعة جمل بحقّ شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام وأعرضنا عن ذكر التفاصيل عن هذه الشخصيّة التاريخيّة الاستثنائيّة العظيمة وهي تفاصيل لا تستوفيها الكتب لقلنا: إنّ أمير المؤمنين" عليه السلام يدخل في عداد الشخصيّات المحبوبة اليوم وبالأمس، ليس بين الشيعة فحسب وإنّما بين المسلمين كافّة، بل وبين أحرار العالم قاطبة حتّى من غير المسلمين، وقلّما تجد شخصيّة كبرى حتّى بين الأنبياء عليه السلام الإلهيّين حظيت حتّى بين غير أتباعها ومريديها بمثل ما حظيت به شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام من الثناء والتمجيد.
 
لا شكّ في أنّ معرفتنا ضئيلة ورؤيتنا قاصرة، وإلّا فهو عليه السلام ذو شخصيّة معنويّة خارقة.
 
ونحن غير قادرين على استكناه كلّ أبعاد شخصيّته على الوجه الصحيح، وخاصّة الجوانب المعنويّة والإلهيّة منها، وهي جوانب يتعسّر فهمها حتّى على الكثير من أولياء الله. 
 
 
 

1- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 20/ ذي الحجة/ 1421ﻫ.ق.
 
 
 
 
 
 
 
 
72

65

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 بَيْدَ أنّ الأبعاد الظاهريّة لشخصيّته كان لها من الجاذبيّة والروعة ما جعلها تنال الإعجاب والحبّ, حتّى لدى من لا يفهمون القضايا والأبعاد المعنويّة للشخصيّات الإنسانيّة وأولياء الله.


كان أمير المؤمنين عليه السلام يتّصف في مختلف أدوار حياته؛ سواء في مقتبل شبابه؛ أي في أوائل بعثة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، أم في عنفوان شبابه؛ أي في الفترة الّتي وقعت فيها الهجرة إلى المدينة وكان حينها شاباً في العشرين ونيّف من العمر أم في مرحلة ما بعد رحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حينما واجه تلك الابتلاءات والمحن العسيرة، أم في السنوات الأخيرة من حياته، أي في السنوات الخمس الأخيرة من عمره حين أخذ بزمام الخلافة وتصدّى للمسؤوليّة، كان طوال هذه الخمسين سنة تقريباً، يتّصف بخصائص بارزة يمكن للجميع وخاصّة الشباب استقاء الدروس منها.

غالباً ما تحمل الشخصيّات التاريخيّة العظمى بعض الخصائص منذ شبابها، بل منذ صباها, أو أنّها تخلق تلك الخصائص في ذاتها. 

إنّ بروز الناس الكبار والمرموقين يقوم عادة على جهود طويلة المدى، وهذا ما نراه في حياة أمير المؤمنين عليه السلام. 

فأنا ألاحظ من خلال استشراف المسار العامّ لحياته المليئة بالمنعطفات أنّه كان يتحلّى منذ مطلع شبابه, وحتّى شهادته، بصفتين, هما: البصيرة والصبر (اليقظة والثبات)، فهو لم يقع ولا حتّى لحظة واحدة فريسة للغفلة, وسوء الفهم والانحراف الفكريّ, أو الخطأ في فهم الحقائق. 
 
 
 
 
 
 
 
73

66

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 فمنذ أن خفقت راية الإسلام بِيَد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم انطلاقاً من غار حراء في جبل النور, وجرت على لسانه كلمة "لا إله إلّا الله"، وصدح مبشّراً بالنبوّة والرسالة، استطاع عليّ بن أبي طالب عليه السلام تشخيص هذه الحقيقة الوضّاءة وثبت على موقفه ذاك وألِفَ كلّ ما نجم عن ذلك الموقف من مشاكل وصعوبات؛ فإن تَطَلّب جهداً، بذل له جهده، وإن تَطَلّب حرباً حارب من أجله، وإن استلزم تضحية، وضع روحه على طبق الإخلاص ونزل إلى الميدان، وإذا استدعى عملاً سياسيّاً ونشاطاً إداريّاً وحكوميّاً، أدّاه خير أداء. 


ولم يكن في معزل عن الوعي والبصيرة حتّى لحظة واحدة.

الصفة الثانية هي الصبر والثبات؛ فقد تمسّك وثبت على هذا الصراط المستقيم. 

ولا شكّ في أنّ الصبر والثبات والجهد الّذي لا يعرف الكلل, وعدم مطاوعة الأهواء النفسيّة الّتي تميل بالمرء إلى التكاسل وترك العمل، تُعدّ صفات بالغة الأهميّة.

أجل، إنّ عصمة أمير المؤمنين عليه السلام غير قابلة للتقليد، وشخصيّته لا يمكن أن تقارن بها شخصيّة أخرى. 

وكلّ شخصيّة عرفناها في بيئتنا, أو في تاريخنا، إذا أريد مقارنتها بشخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام تكون كمقارنة ذرّة بالشمس إذ لا وجه للمقارنة بينهما بَيْدَ أنّ هاتين الصفتين اللتين كانتا في أمير
 
 
 
 
 
 
 
74

67

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

  المؤمنين عليه السلام يمكن تقليدهما والاحتذاء بهما. 

 
فلا يمكن لقائل أن يقول: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يحمل صفتي الصبر والبصيرة انطلاقاً من كونه أمير المؤمنين. 
 
فعلى الجميع السعي لاكتساب هاتين الصفتين والتقرّب بهما كلّ حسب همّته وكفاءته من أمير المؤمنين عليه السلام1.
 
العناصر الّتي اجتمعت في شخصيّة الإمام عليّ عليه السلام 
 
إنّ ما أريد التحدّث به عن هذا الرجل الفذّ هو: أنّ شخصيّته وحياته وشهادته التأمت فيها ثلاثة عناصر, تبدو غير منسجمة تماماً مع بعضها على الظاهر؛ وتلك العناصر الثلاثة هي عبارة عن: القوّة، والمظلوميّة، والانتصار.
 
فقوّته تكمن في إرادته الصلبة وعزمه الراسخ، وفي تسيير دفّة الشؤون العسكريّة في أعقد المواقف، وفي هداية العقول نحو أسمى المفاهيم الإسلاميّة والإنسانيّة، وتربية وإعداد شخصيّات كبرى من قبيل مالك الأشتر وعمّار وابن عباس ومحمّد بن أبي بكر وغيرهم، وشقّ مسار مميّز في تاريخ الإنسانيّة. 
 
ويتمثّل مظهر قوّته في اقتداره المنطقيّ, واقتداره في ميادين الفكر والسياسة، وفي اقتدار حكومته وشدّة ساعده.
 
 
 

1- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 13/ رجب/ 1419 ﻫ.ق.
 
 
 
 
 
 
75

68

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 ليس ثمّة ضعف في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام, في أيّ جانب من جوانبها، إلّا أنّه في الوقت ذاته من أبرز الشخصيّات المظلومة في التاريخ، وقد كانت مظلوميّته في كلّ جوانب حياته؛ لقد ظُلم في أيام شبابه، حيث تعرّض للظلم حينذاك من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وظُلم في سنوات كهولته وفي عهد خلافته واستشهد مظلوماً، وظل من بعد استشهاده يُسبّ على المنابر على مدى سنوات طوال، وتُنسب إليه شتّى الأكاذيب.


لدينا في تاريخنا الإسلاميّ شخصيتان أطلقت عليهما صفة ثار الله. 

نحن لا توجد لدينا في اللغة الفارسيّة كلمة معادلة تماماً لكلمة "الثأر" في اللغة العربيّة؛ فعندما يُقتل شخص ظلماً فأسرته هي وليّ دمه، وهذا هو ما يسمّى بالثأر، ولأسرته حقّ المطالبة بثأره. 

أمّا ما يسمّى بثار الله فهو تعبير قاصر وناقص لكلمة الثأر, ولا يوصل المعنى المطلوب. 

فالثأر معناه حقّ المطالبة بالدم؛ فإذا كان لأسرة ما ثأر، فلها حقّ المطالبة به.

وورد في التاريخ الإسلاميّ اسما شخصيّتين، وليّ دمهما الله، وهو الّذي يطلب بثأرهما؛ أحدهما الإمام الحسين عليه السلام ، والآخر هو أبوه أمير المؤمنين عليه السلام: "يا ثار الله وابن ثاره"، أي أنّ الطالب بدم أبيه هو الله تعالى أيضاً.
أمّا العنصر الثالث الّذي طبع حياته عليه السلام فهو النصر؛ حيث تغلّب
 
 
 
 
 
 
 
76

69

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

  في حياته على جميع التجارب العصيبة الّتي فرضت عليه؛ ولم تستطع جميع الجبهات الّتي فتحها ضدّه أعداؤه أن تنال منه, وإنّما تقهقرت كلّها أمامه. 


ومن بعد استشهاده أخذت حقيقته الناصعة تتجلّى وتتفتح يوماً بعد آخر أكثر ممّا كانت عليه حتّى في أيام حياته. 

ففي عالم اليوم، ليس العالم الإسلاميّ وحده وإنّما العالم كلّه، هناك أناس كثيرون لا يؤمنون حتّى بالإسلام، إلّا أنّهم يؤمنون بعليّ بن أبي طالب عليه السلام كشخصيّة تاريخيّة لامعة. 

وهذا هو جلاء ذلك الجوهر الوهّاج، وكأنّ الله يكافئه على ما لَحق به من ظُلم. 

فلا بدّ من أنّ لتلك المظلوميّة, ولذلك الكبت والضغط والتعتيم على ضوء الشمس، وتلك التهم الشنيعة، وما واجهها به من صبر، ثواباً عند الله، وثوابها هو أنّك لا تجد على مدى التاريخ شخصيّة على هذه الدرجة من الإشراق ونالت كلّ هذا الإجماع في القبول. 

ولعلّ أفضل الكتب الّتي أُلّفتَ حتّى اليوم بحقّ أمير المؤمنين عليه السلام ، كان أكثرها ولهاً وحبّاً هي تلك الّتي كتبها أشخاص غير مسلمين. 

وتحتفظ ذاكرتي حالياً بأسماء ثلاثة كتّاب مسيحيين كتبوا حول أمير المؤمنين عليه السلام كتباً جديرة بالثناء حقاً؛ وهذا الحبّ نشأ منذ اليوم الأوّل، أي من بعد استشهاده، حيث تكالب الجميع على الإساءة
 
 
 
 
 
 
 
77

70

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

  إليه والانتقاص منه، من الطغمة الّتي كانت تحكم الشام ومَنْ كان يدور في فلكها، وممّن امتلأ غيظاً من سيف أمير المؤمنين عليه السلام ومن عدل أمير المؤمنين عليه السلام. 


فكانت هذه القضيّة قد اتّضحت منذ ذلك الوقت، وأنا أذكر ها هنا مثالاً واحداً على ذلك:
انتقص ذات يوم ابن عبد الله بن عروة بن الزبير من أمير المؤمنين عليه السلام ، أمام أبيه عبد الله بن عروة بن الزبير. 

وكان آل الزبير كلّهم ضد عليّ عليه السلام, إلّا واحداً منهم وهو مصعب بن الزبير الّذي كان رجلاً شجاعاً كريماً، وهو الّذي دخل لاحقاً في صراع مع المختار الثقفي في الكوفة، ومن بعده مع عبد الملك بن مروان، وهو زوج سكينة؛ أي إنّه أوّل صهر للحسين عليه السلام. 

كان آل الزبير باستثنائه كلّهم خصوماً لأمير المؤمنين عليه السلام أباً عن جدّ. 

وهذا ما يدركه الإنسان من خلال دراسته للتاريخ. 

وبعدما سمع عبد الله ذلك الانتقاص على لسان ابنه قال جملة ليست حياديّة كثيراً، إلّا أنّها تنطوي على نقطة مهمّة، وهي: "والله يا بُنيّ، ما بنى الناس شيئاً قطّ إلّا هدّمه الدين، ولا بنى الدين شيئاً فاستطاعت الدنيا هدمه". أي إنّهم يحاولون عبثاً هدم اسم أمير المؤمنين عليه السلام القائم اسمه على أساس الدين والإيمان، "ألم ترَ إلى عليّ كيف تظهر بنو 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

71

الفصل الثاني: قدوتنا الإمام عليّ عليه السلام

 مروان من عيبه وذمّه، والله لكأنّهم يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء. وترى ما يندبون به موتاهم من التأبين والمديح، والله لكأنّما يكشفون به عن الجيف"1.

 
لعلّ هذه الكلمة قيلت بعد حوالي ثلاثين سنة من شهادة أمير المؤمنين عليه السلام ، أي إنّ أمير المؤمنين عليه السلام وعلى الرغم من فداحة الظلم الّذي نزل به، أضحى هو المنتصر في حياته, وفي التاريخ, وفي ذاكرة الإنسانيّة.
 
 
 

1- البيان والتبيين، الجاحظ، ج2، ص 173.
 
 
 
 
 
 
79

72

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

 الفصل الثالث:




التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

73

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

 أهل البغي في زمن الإمام عليّ عليه السلام 

 
إنّ قضيّة قوّة أمير المؤمنين عليه السلام إلى جانب مظلوميّته الّتي انتهت إلى هذا الحال يمكن تلخيصها في ما يلي: لقد اصطفّت ضدّ عليّ عليه السلام في أيام حكومته الّتي استمرت أقلّ من خمس سنوات، ثلاثة تيارات هي: القاسطون، والناكثون، والمارقون؛ إذ ينقل عنه السنّة والشيعة أنّه قال: "أمرت أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين"1. وهذه التسمية هو الّذي أطلقها على تلك الفئات الثلاث؛ فالقاسطون بمعنى الظالمين؛ لأنّ الفعل قسط حينما يأتي مجرّداً: قَسَطَ يقسِط، بمعنى جار يجور، وظلم يظلم. 
 
وحينما يأتي على صيغة الثلاثي المزيد على وزن أفعل: أقسط يُقسط، فمعناه العدل والإنصاف. 
 
وعلى هذا، إذا استعملت كلمة القسط على وزن أفعل، تعني العدل، وإذا جاءت على صيغة قَسَطَ يقسِط فهي على الضدّ من ذلك؛ أي بمعنى الظلم والجور. فهو عليه السلام سمّاهم الظالمين. 
 
من هم أولئك القاسطون؟
 
القاسطون فئة دخلت الإسلام ظاهريّاً لمصالحها الخاصّة, ولم تكن 
 
 
 

1- دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي، ج‏ 1، ص 388، فصل ذكر قتال أهل البغي.
 
 
 
 
 
 
83

74

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

 تعترف بالحكومة العلويّة أساساً, ولم تُجدِ نفعاً كلّ الأساليب الّتي انتهجها معها أمير المؤمنين عليه السلام, والتفّت تلك الفئة حول محور بني أميّة الّذي كان معاوية بن أبي سفيان والي الشام آنذاك أبرز شخصيّة فيه، ثم يأتي من بعده مروان بن الحكم والوليد بن عقبة. 


شكّل هذا المحور جبهة رفضت التفاهم والاتّفاق مع أمير المؤمنين عليه السلام. 

ومع أنّ المغيرة بن شعبة وعبد الله بن عباس وغيرهما أشاروا على أمير المؤمنين عليه السلام منذ أوّل حكومته بالإبقاء عليهم في مناصبهم لبعض الوقت، غير أنّه أبى عليهم ذلك، فذهبت بهم الأوهام إلى أنّه لم يحسن اتخاذ الموقف السياسيّ المناسب. 

ولكنّهم هم الذين كانوا في غفلة كما برهنت الأحداث اللاحقة؛ لأنّ معاوية لم يأتلف مع أمير المؤمنين عليه السلام رغم كلّ الأساليب الّتي اتبعها" عليه السلام لأجل هذه الغاية. 

ولم يكن ذلك النهج ممّا ترتضيه حكومة كالحكومة العلويّة، على الرغم من تحمّل السابقين لبعض هؤلاء.

كانت قد مضت أقلّ من ثلاثين سنة منذ أن أسلم معاوية إلى أن هبَّ لمحاربة أمير المؤمنين عليه السلام.

وكان هو وأذنابه قد حكموا الشام سنوات طويلة, وبسطوا نفوذهم فيها, وأسّسوا لهم قاعدة واسعة هناك. 
 
 
 
 
 
 
 
84

75

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

 ولم تكن الأحوال آنذاك كما كانت عليه في الأيام الأولى الّتي كان بالإمكان أن يقال لهم فيها إذا ما أظهروا الخلاف إنّكم دخلتم الإسلام توّاً، ولا يحقّ لكم الخلاف. 


فهم كانوا قد ثبّتوا لهم قدماً عند ذاك.

إذاً كان هذا التيار يرفض الحكومة العلويّة جملة وتفصيلاً، ويرنو إلى نمط آخر من الحكم يكون زمامه بيده، وهو ما ثبت عنهم فيما بعد وذاق العالم الإسلاميّ مرارة حكمهم. 

فهذا معاوية نفسه، الّذي كان في عهد صراعه مع أمير المؤمنين عليه السلام يُظهر الودّ والمحبّة لبعض الصحابة، أبدت حكومته فيما بعد أسلوباً في غاية العنف والشدّة حتّى انتهى بها الحال إلى عهد يزيد وواقعة كربلاء، ومن بعده إلى زمن مروان وعبد الملك والحجّاج بن يوسف الثقفي ويوسف بن عمر الثقفي الّذين يعدّون من جملة نتائج تلك الحكومة. 

ومعنى هذا أنّ الحكومات الّتي يهتزّ التاريخ لذكر جرائمها كحكومة الحجّاج على سبيل المثال كان معاوية هو الّذي أرسى أسسها وحارب أمير المؤمنين عليه السلام من أجلها. 

فقد كانت غايتهم معروفة منذ البداية، إذ إنّهم كانوا يبتغون حكومة دنيويّة محضة تدور في فلك ذواتهم ومصالحهم الذاتيّة؛ وهي المظاهر الّتي شاهدها الجميع في حكومة بني أميّة. 

وأنا طبعاً لا أريد الدخول هنا في أي بحث عقائديّ أو كلاميّ. 
 
 
 
 
 
 
85

76

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

 والأمور الّتي أعرضها هنا من صلب التاريخ، وليس تاريخ الشيعة طبعاً، وإنّما تاريخ "ابن الأثير"1 و "ابن قتيبة"2 وما شابه ذلك. 

 
وهي نصوص مدوّنة ومحفوظة، وتدخل في عداد الحقائق المسلّم بها, وليس في إطار الاختلافات الفكريّة بين الشيعة والسنّة.
 
الجبهة الثانية الّتي حاربت أمير المؤمنين عليه السلام هي جبهة الناكثين, والناكث هو: الناقض، والمراد به هنا: ناقض البيعة. 
 
وهذه الفئة بايعت أمير المؤمنين عليه السلام في البداية إلّا أنّها نقضت البيعة فيما بعد. 
 
وكان أفراد هذه الفئة على العكس من الفئة الأولى مسلمين ملتزمين، وفي الخندق الموالي, إلّا أنّ ولاءهم واعترافهم بحكومة عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان منوطاً بإعطائهم حصّة مقبولة فيها، والتشاور معهم ومنحهم المناصب والمسؤوليّات الحكوميّة, مع عدم التعرّض لِما في أيديهم من ثروات, وعدم السؤال عن مصادرها. 
 
إذاً كانت هذه الفئة ترتضي حكم أمير المؤمنين عليه السلام, ولكن بشرط عدم المساس بمثل هذه الأمور، وأن لا يُقال لأحدهم من أين لك هذه الثروة؟ وكيف حصلت عليها؟ وما إلى ذلك؛ ولهذا السبب بايع أكثرهم
 
 
 

1- عز الدين أبو الحسن عليّ بن محمد بن عبد الكريم الجزري (555 ـ630 ﻫ) المعروف بابن الأثير الجزري، مؤرخ إسلاميّ كبير، له التأليفات القيمة؛ الكامل في التاريخ، وهو في التاريخ العامّ. التاريخ الباهر في الدولة الأتابكيّة. أسد الغابة في معرفة الصحابة. اللباب في تهذيب الأنساب.
2- أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (213 ـ 276 ﻫ/828 ـ 899 م) أديب فقيه محدث مؤرّخ. له العديد من المصنّفات أشهرها عيون الأخبار، وأدب الكاتب وغيرها.
 
 
 
 
 
 
 
86

77

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

  منذ البداية، في حين أنّ بعضهم الآخر لم يبايع؛ فسعد بن أبي وقّاص لم يبايع منذ البداية، إلّا أنّ طلحة والزبير وأكابر الصحابة وغيرهم بايعوا أمير المؤمنين عليه السلام وأسلموا له القياد، بَيْدَ أنّهم أدركوا بعد مضي ثلاثة أو أربعة أشهر عدم إمكانيّة الانسجام مع هذه الحكومة, الّتي لا تفرّق في تعاملها بين القريب والبعيد، ولا ترى لذاتها ولا لأفراد أسرها أي امتياز، ولا تقرّ بأيّ امتياز للسابقين في الإسلام وإن كان أمير المؤمنين عليه السلام نفسه أوّلهم إسلاماً ولا تحابي أحداً في تطبيق الأحكام الإلهيّة؛ ولهذه الأسباب جنّدوا أنفسهم لمعارضة هذه الحكومة, وتسبّبوا في وقوع معركة الجمل الّتي كانت فتنة حقّاً، واصطحبوا معهم أمّ المؤمنين، وقتل في هذه المعركة عدد كبير من المسلمين، وانتهت المعركة بانتصار أمير المؤمنين عليه السلام فأعاد الأمور إلى نصابها. 


وهذه هي الجبهة الثانية الّتي شغلت أمير المؤمنين عليه السلام ردحاً من الزمن.

أما الجبهة الثالثة فكانت جبهة المارقين، والمارق بمعنى: الخارج والهارب؛ وقيل إنّهم سموا بالمارقين لخروجهم من الدين كخروج السهم من القوس. 

وكانت هذه الفئة متمسّكة بظواهر الدين، ويكثرون من التبجّح باسم الدين. 

وهؤلاء هم الخوارج, الّذين وضعوا أسسهم الفكريّة على أساس فَهم 
 
 
 
 
 
 
 
87

78

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

 مغلوط للدين وهي ظاهرة خطيرة طبعاً ولم يأخذوا الدين عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام الّذي كان مفسّراً للقرآن وعالماً بالكتاب. 


أمّا تكتّلهم أو ما يسمّى بالاصطلاح المعاصر "تحزّبهم" فكان يستلزم سياسة معيّنة، وكانت هذه السياسة تُوجّه من مكان آخر. 

والسمة البارزة الّتي كانت تميّز أعضاء هذه الفئة هي أنّك لا تكاد تتلفّظ بكلمة حتّى يسارع أحدهم إلى الإتيان بآية من القرآن، وكانوا كثيراً ما يقرؤون أثناء صلاة الجماعة لأمير المؤمنين عليه السلام آيات معرّضين به، أو يقومون عند منبره ويقرؤون آية فيها تعريض يقصدونه به، وكان شعارهم "لا حكم إلّا لله"، بمعنى أنّنا لا نعترف بحكومتك، ونحن أتباع حكومة الله!

هذه الفئة، الّتي كان ظاهر أمرها على هذه الشاكلة، كان تنظيمها واتجاهها السياسيّ يجري وفقاً لآراء وتوجيهات كبار القاسطين والشخصيّات البارزة في حكومة الشام أي عمرو بن العاص ومعاوية إذ كانت لهذه الفئة علاقات بأولئك الأشخاص؛ فالأشعث بن قيس، كما تشير الكثير من القرائن كان رجلاً غير نزيه. 

واتّبعت هذه الفئة طائفة كبيرة من البسطاء فكريّاً. 

إذاً الفئة الثالثة الّتي جابهت أمير المؤمنين عليه السلام وانتصر عليها طبعاً هي فئة المارقين الّتي وجّه لها ضربة قاصمة في معركة النهروان. ولكن كان لهم وجود في المجتمع، وفي ختام المطاف كان استشهاده على أيديهم.

وقد أشرت في خطبة سابقاً إلى أنّه ينبغي أن لا يُشتبه في فهم الخوارج،
 
 
 
 
 
 
88

79

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

  فهنالك من يصف الخوارج بالتحجّر والتنسّك الجامد؛ ولكن المتنسّك يتّصف بالعزلة والانطواء على صلاته ودعائه، وهذا المعنى لا يصدق على الخوارج؛ لأنّ الخوارج عناصر متمرّدة تثير الأزمات، ولها وجود فاعل في الساحة، وتشنّ حرباً ضدّ الإمام عليّ عليه السلام ، ولكن أساسها مغلوط، وحربها خاطئة، وأساليبها مرفوضة، وغايتها باطلة.


هذه هي الفئات الثلاث الّتي جابهت أمير المؤمنين عليه السلام.

الفارق الأساس بين أمير المؤمنين عليه السلام في عهد حكومته، وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أيّام حياته وعهد حكومته هو أنّ الخنادق كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مميّزة ومفصولة تماماً؛ خندق الإيمان، وخندق الكفر. 

أمّا المنافقون فكثيراً ما كانت الآيات القرآنية تشير إليهم وتحذّر منهم، وتقوّي صفوف المؤمنين في مواجهتهم، وتضعّف من شوكتهم. 

أي أنّ كلّ شيء كان في النظام الإسلاميّ في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واضحاً تمام الوضوح، وكانت الصفوف مفروزة بشكل صريح؛ فطائفة على الجاهليّة والكفر والطاغوت، وأخرى على الإيمان والإسلام والتوحيد. 

ومن الطبيعيّ أنّ كلّ واحدة من هاتين الطائفتين كانت تضم صنوفاً شتّى من الناس، لكنّ الصفوف كانت مميّزة وواضحة كلّ الوضوح.

مواجهة الإمام عليّ عليه السلام للمشاكل بصبر وبصيرة

أمّا في عهد أمير المؤمنين عليه السلام فكانت المشكلة الكبيرة في تداخل
 
 
 
 
 
 
 
89

80

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

  الصفوف والخنادق؛ وهذا هو السبب الّذي جعل للفئة الثانية أي الناكثين وضعاً مقبولاً ومبرراً، وكان كلّ مسلم يتردّد كثيراً في محاربة شخصيّات من أمثال طلحة أو الزبير؛ فالزبير هو ابن عمّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان من الشخصيّات البارزة والمقرّبة إليه، حتّى أنه بعد عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان ممّن اعترضوا على السقيفة دفاعاً عن أمير المؤمنين عليه السلام ، ولكن الأمور بخواتيمها. نسأل الله أن يجعل عاقبتنا إلى خير. 

 
قد يؤثّر حبّ الدنيا ومظاهر الحياة في بعض الناس إلى درجة تجعل المرء يشكّ حتّى في الخواصّ، فما بالك بالعوامّ.
 
وعلى كلّ الأحوال، كانت الظروف آنذاك عصيبة حقاً، ولا بدّ أنّ الناس الّذين صمدوا مع أمير المؤمنين عليه السلام وحاربوا إلى جانبه كانوا على قدر كبير من البصيرة. 
 
وقد استشهدتُ عدّة مرّات بقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وَلاَ يَحْمِلُ هذَا الْعَلَمَ إِلاَّ أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ"1
 
فلابدّ من توفّر البصيرة بالدرجة الأولى. 
 
ويُستدلّ من هذه التداخلات على طبيعة المشاكل الّتي واجهت أمير المؤمنين عليه السلام ، وعلى الأساليب الملتوية الّتي اتّبعها الناس الّذين حاربوه.
 
في صدر الإسلام كانت هناك أفكار خاطئة كثيرة تطرح في الساحة، ولكن كانت تنزل آية قرآنية تفنّدها بصراحة؛ سواء وقتما كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة: 173.
 
 
 
 
 
 
90

81

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

  في مكّة أم في المدينة؛ فسورة البقرة على سبيل المثال وهي سورة مدنيّة، حاشدة بصور من التحدّيات والاشتباكات بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمنافقين واليهود؛ حتّى أنها تناولت التفاصيل الجزئيّة واستعرضت الأساليب الّتي كان يتّبعها يهود المدينة في إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسيّاً، ومنها ﴿لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا﴾1 وما شابه ذلك. 

 
وجاءت أيضاً سورة الأعراف وهي سورة مكيّة زاخرة بمحاربة الخرافات وكُرّس فصل منها للحديث عن تحريم وتحليل أنواع اللحوم، في مقابل التحليل والتحريم الزائف الّذي اصطنعه الناس لأنفسهم يومذاك: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾2
 
هذه هي المحرّمات الحقيقيّة, وليست تلك الّتي اصطنعتموها أنتم لأنفسكم من أمثال البَحيرة والسائبة وما شاكل ذلك. 
 
وكان القرآن يحارب هذه الأفكار صراحة. 
 
أما في عهد أمير المؤمنين عليه السلام ، فقد كان أعداؤه يستغلّون تلك الآيات القرآنيّة؛ وهذا ما صعّب كثيراً من مهمته عليه السلام. 
 
لقد قضى أمير المؤمنين عليه السلام مدّة خلافته القصيرة في أمثال هذه المصاعب والمعضلات.
 
وفي مقابل هؤلاء كانت جبهة عليّ عليه السلام ، وهي جبهة قويّة حقّاً، وفيها 
 
 
 

1- سورة البقرة، الآية: 104.
2- سورة الأعراف، الآية: 33.
 
 
 
 
 
 
91

82

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

 رجال كعمّار ومالك الأشتر وعبد الله بن عبّاس ومحمّد بن أبي بكر وميثم التمّار وحجر بن عديّ، وكانوا رجالاً مؤمنين ذوي بصيرة ووعي، وكان لهم دور مؤثّر في توعية الناس الآخرين. 


كان من جملة المواقف الجميلة في عهد أمير المؤمنين عليه السلام ويُعزى جمالها طبعاً إلى الجهود الطيّبة لهؤلاء العظماء، إلّا أنها في الوقت ذاته كانت مريرة بسبب ما لحقهم من جرّائها من عناء وعذاب هو مسيرهم نحو الكوفة والبصرة من بعد ما هبَّ طلحة والزبير وغيرهما واستولوا على البصرة وأرادوا المسير منها نحو الكوفة، حيث أرسل أمير المؤمنين عليه السلام الإمام الحسن عليه السلام وبعض هؤلاء الأصحاب، وكان لهم مع الناس في المسجد مداولات وأحاديث ومحاججات تعتبر من المواقف المثيرة وذات المغزى العميق في تاريخ الإسلام؛ ولهذا السبب يلاحظ أنّ الهجمات الأساس لأعداء أمير المؤمنين عليه السلام وجّهت صوب هذه الشخصيّات؛ ضدّ مالك الأشتر، وضدّ عمّار بن ياسر، وضدّ محمّد بن أبي بكر، وضدّ كلّ من وقفوا إلى جانب أمير المؤمنين عليه السلام منذ البداية وأثبتوا صلابة إيمانهم وسلامة بصيرتهم. 

ولم يتورّع الأعداء عن كيل أنواع التهّم لهم والسعي لاغتيالهم؛ ولهذا قضى أكثرهم شهداء؛ فاستشهد عمّار في الحرب، واستشهد محمّد بن أبي بكر بتحايل أهل الشام، وكذا استشهد مالك الأشتر بحيلة من أهل الشام. 
 
 
 
 
 
 
 
92

83

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

 وبقي بعضهم الآخر إلى أن استشهدوا على نحو قاس وفجيع.

 
هذه هي الظروف الّتي عاشها أمير المؤمنين عليه السلام في حياته وفي عهد حكومته. 
 
ولو أردنا الخروج بنتيجة ملخّصة عنها لقلنا: إنّها كانت حكومة قويّة, ولكنّها في الوقت ذاته مظلومة ومنتصرة. 
 
بمعنى أنّه استطاع قهر أعدائه في أيّام حياته، واستطاع من بعد استشهاده مظلوماً أن يتحوّل إلى شعلة وهّاجة على مدى تاريخ الإنسانيّة. 
 
ولا شكّ في أنّ المرارة الّتي ذاقها أمير المؤمنين عليه السلام خلال هذه الفترة تعتبر من أشدّ وأصعب المحن في التاريخ.
 
... رُوي عن الإمام الحسن عليه السلام أنّه قال بعد يوم واحد من جرح أبيه, أو بعد يوم من استشهاده أنّه كان يتحدّث مع أبيه بمناسبة ذكرى معركة بدر فقال له أبوه: "مَلَكَتْنِي عَيْنِي، فَسَنَحَ لي رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَاذَا لَقِيتَ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الاْوَدِ وَاللَّدَدِ؟ فَقَالَ: "ادْعُ عَلَيْهِمْ"، فَقُلْتُ: أَبْدَلَنِي الله بِهمْ خَيْراً لي مِنْهُمْ، وَأَبْدَلَهُمْ بِي شَرّاً لَهُمْ مِنِّي"1
 
واستجاب الله دعاء أمير المؤمنين عليه السلام بعد يوم واحد, وضرب على رأسه صبيحة التاسع عشر من رمضان، ونُكبت الأمّة الإسلاميّة باستشهاده. وفَقَد الناس عليّاً عليه السلام, وذاقت الأمّة الإسلاميّة بعد فقده ما ذاقت. 
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة: 69.
 
 
 
 
 
 
93

84

الفصل الثالث:التيّارات الضالّة في زمن الإمام عليّ عليه السلام

 وتحمّلت الكوفة بلايا عظاماً، وتسلّط عليها الحجّاج، وتسلّط عليها يوسف بن عمر الثقفيّ، وتسلّط عليها، بدلاً من أمير المؤمنين عليه السلام ، الحكّام الأمويون واحداً تلو الآخر. 

 
وكان الناس هم السبب في هذه المصائب الّتي حلّت بالكوفة1.
 
 
 
 

1- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 20/ رمضان/ 1419ﻫـ ق.
 
 
 
 
 
 
94

85

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 الفصل الرابع:




الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام
 
 
 
 
 
 
 
 
95

86

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 مزايا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام 


لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام في شخصيّته مظهراً لمزايا لو جسّدناها نحن في أقوالنا وأفعالنا لبلغ مجتمعنا الإسلاميّ ذروة مجده وسؤدده فمن السهولة لأيّ شعب طيّ طريقه نحو المجد والرقيّ وإصلاح دنياه وآخرته. ولا وجود للطريق المسدود أمام مَن آمن بالله وبرسالة الإنسان وبوسع أي شعب إزالة ما يعترض طريقه نحو السموّ والتكامل من معضلات وعثرات، وذلك مشروط بأن تتوفّر فيه تلك المزايا الضروريّة لذلك التحرّك العظيم الشامل؛ تلك المزايا الّتي كان أمير المؤمنين عليه السلام مظهراً لها؛ إذ كان عليه السلام مظهراً للتقوى والأمانة بالإضافة لصدقه وصراحته، فبالرغم من أنّه عليه السلام كان سياسيّاً وزعيماً للأمّة الإسلاميّة ويتولّى إدارة شؤون عشرات الملايين من المسلمين في ذلك الزمان الّذي كان يخلو من وسائل الاتصال الحديثة، ولكن سياسته لم تؤدّ به إلى مجانبة سبيل الصراحة والصدق، بل كان عليه السلام صادقاً صريحاً يقول ما يؤمن به, ويدلّ عليه عمليّاً؛ وهذا ما جعل كلماته تبقى على مدى التاريخ نبراساً يستنير به أعلام الفكر في العالم.

لم يستبطن أمير المؤمنين عليه السلام أيّاً من أفعال السياسيّين سواء في عصرنا هذا أم على مرّ التاريخ أو ما يتلفّظون به من أقوال تردّدها 
 
 
 
 
 
 
97

87

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 ألسنتهم دون أن تعتقد بها قلوبهم، وما يتظاهرون به نفاقاً وهو معاكس لِما تضمره بواطنهم. 


انظروا إلى ما يطلقه أرباب السياسة من كلمات برّاقة جذّابة حيث ينادون باسم الإنسان وحقوقه، وحاكميّة الشعب، والسلام، والقداسة، غير أنّ أيّاً من هذه الحقائق لا وجود لها في داخلهم أو على الصعيد العمليّ. ومثل هذا الواقع كان موجوداً قبل عهد أمير المؤمنين عليه السلام وكذلك في يومنا هذا، بَيْدَ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام تلك القمّة الإنسانيّة السامقـة عمـل بمـا يعـاكس غـالبيـّة أربـاب السيـاسة فـي هذا المضمار.

لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام ينادي باسم الأمّة؛ لأنّه كان نصيراً واقعيّاً للأمّة وضعفائها، ومن سجاياه الأخرى العطف على الضعفاء والتصلّب والصرامة إزاء الأقوياء وبغاة الباطل، وقلّة الاستفادة من الثروات العامّة، فمن كان يرى في بيت مال المسلمين ملكاً عضوضاً سواء صرّح بذلك أم لا، أم كان عمله يوحي بذلك بحيث يأكل ما يشاء ويهب ما يشاء ويوظّفه لأغراضه الشخصيّة لا قدرة له على الادّعاء بتبعيّته لعليّ عليه السلام. وواجبنا الالتزام بالنهج العلويّ في كلّ هذه الحقول، وذلك يتمثّل في العمل الكثير مع قلّة الاستفادة.

فلقد كان أمير المؤمنين عليه السلام موجوداً في وسط الساحة ومثابراً على العمل، سواء في الفترة الّتي تولّى فيها أمر الحكومة, أم عندما كان يعيش العزلة الّتي فرضوها عليه، ولم يمرّ وقت على عليّ عليه السلام أصبح فيه 
 
 
 
 
 
 
 
98

88

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 جليس الدار زاوياً عن الأمّة والمجتمع، فليس ذلك من سجاياه أبداً.


وميزته الأخرى عليه السلام كانت الارتباط بالله سبحانه، وأنّ ألسنة القاصرين أمثالي عاجزة حتّى عن النطق ببيان ما هو إجمالي عن عبادة ذلك الرجل العظيم، فعندما يذهل الإمام السجّاد عليه السلام وهو زين العابدين أمام عبادة أمير المؤمنين عليه السلام لا خيار أمامنا سوى التزام الصمت.

ومن مزاياه أيضاً تعبئة الطاقات في سبيل الحقّ ومواجهة الباطل، فلا يجوز لأحد القول: لماذا تعبّئون الأمّة وتؤجّجون مشاعرها ضدّ الاستكبار, وما يرتكبه من مظالم, وضدّ مرتزقة أعداء الله؟ فإنّ تلك ميزة اتّصف بها أمير المؤمنين عليه السلام ، فعلينا نحن أيضاً أن نصنع كما صنع أمير المؤمنين عليه السلام فنعبّئ كلّ الطاقات، كلّ القلوب، كلّ الأبدان والإمكانيّات في سبيل الحقّ ومواجهة الباطل. 

وامتاز عليه السلام أيضاً بمقارعة ذوي الظواهر المقدّسة المتحجّرين الخاوين، فلقد تصدّى أمير المؤمنين عليه السلام ذلك العابد الزاهد الذاكر الّذي احتفظت ذاكرة نخيلات الكوفة بصراخات أدعيته ومناجاته إلى الأبد لأولئك الذين أرادوا التسلّل بكيانهم الشخصيّ إلى نفوس الناس عن طريق التقدّس والعبادة المتحجّرة الخاوية؛ هؤلاء الّذين حتّى لو توفّروا على الإخلاص فإنّهم قد عطّلوا سائر الأبعاد في شخصيّاتهم وشخصيّات الآخرين، فلقد كان أمير المؤمنين عليه السلام ينطق بلبّ الحقيقة، سواء تطابقت مع أذواق مختلف التيّارات أم لا، وسواء اتفقت مع مذاق أولئك 
 
 
 
 
 
 
99

89

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 الّذين يتشبّثون بالظواهر تاركين الباطل أم لا، وانسجمت مع ميول الذين يريدون تفسير الدين وفقاً لآرائهم الشخصيّة أم لا. 

 
هؤلاء جميعاً كانوا في زمن أمير المؤمنين عليه السلام. والتاريخ يذكر نماذج لهم، أمّا إسلام أمير المؤمنين عليه السلام فهو إسلام زاخر بالذكر والحيويّة والنشاط والتحرّك والبناء والجهاد والتضحية والإيثار، وحيث إنّنا نشاهد مثل هذه النماذج في وقتنا الراهن فذلك ممّا يعني أنّ هنالك مسؤوليّة تقع على عواتقنا1.
 
الإمام عليّ عليه السلام سيّد المتّقين
 
ورد في الرواية الّتي نقلها المرحوم المجلسيّ عن مصباح المتهجّد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب في إحدى الجمع, وافتتح خطبته بحمد الله والثناء عليه بأبلغ وأعمق وأجمل الكلمات، ثم صلّى وسلّم على محمّد رسول الله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم وشهد له بالنبوّة والعبودية لله، ثم أعقب ذلك بخطبة بليغة, نورد فيما يلي مقاطع منها.
 
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "أوصيكم عباد الله بتقوى الله، واغتنام طاعته ما استطعتم في هذه الأيام الفانية، وإعداد العمل الصالح لجليل ما يشفي به عليكم الموت"2
 
أي عليكم الاستعداد بالعمل الصالح للمصائب والأهوال الكبرى 
 
 
 

1- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 25/ ذي الحجة/ 1421ﻫ..ق.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج ‏86، ص 237.
 
 
 
 
 
 
100

90

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 والمجهولة الّتي ستحلّ بكم في عالم ما بعد الموت. 


فالموت حادثة عظمى, كان العظماء والأولياء يرتعشون خوفاً منها؛ لأنّ الحوادث الّتي تواجه الإنسان بعد الموت لها عظمة وخشية لا تطاق. 

وهناك طريق واحد لمقابلة هذه المصاعب والشدائد الكبرى الّتي كان عباد الله وأولياؤه الصالحون يخشونها؛ بسبب ما لديهم من خبرٍ عنها على وجه العموم، وذلك هو العمل الصالح لوجه الله؛ لأنّ الشيء الوحيد الّذي يغيث الإنسان هناك هو العمل الصالح.

"وآمركم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم"، فهو عليه السلام أمير معنويّ وأمير ماديّ، وأمير ظاهريّ وأمير باطنيّ، وأمير الأجسام وأمير الأرواح؛ ويأمر الناس بترك زخارف الدنيا، وعدم الاستغراق في شؤونها المادّية؛ لأنّها "الزائلة عنكم، وإن لم تكونوا تحبّون تركها، والمبلية لأجسادكم وإن أحببتم تجديدها". 

فهذه الدنيا تبلي أجسادكم وتضعفكم وتعدم قواكم, حتّى وإن كنتم ترغبون في بقاء هذه القوى على الدوام.

"فإنّما مثلكم ومثلها كركب سلكوا سبيلاً فكأنّهم قد قطعوه وأفضوا إلى علم فكأنّما بلغوه، فلا تنافسوا في عزّ الدنيا وفخرها، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها، ولا تجزعوا من ضرائها وبؤسها، فإنّ عزّها وفخرها إلى انقطاع، وإنّ زينتها ونعيمها إلى ارتجاع، وإنّ ضراءها وبؤسها إلى نفاذ، وكل مدّة منها إلى منتهى، وكل حيّ فيها إلى بلى".
 
 
 
 
 
 
101

91

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 كان أمير المؤمنين عليه السلام يحيي الأرض بنفسه ويزرعها، ويحفر البئر. 

 
وقد تحدّث بهذا الكلام في وقت كان فيه حاكماً على دولة تمتدّ حدودها من بلاد ما وراء النهر إلى البحر الأبيض المتوسّط. 
 
فهو كان يدير دفّة شؤون الدولة, ويهتمّ بشؤون الحرب والسلم والسياسة وبيت المال وغيرها من نشاطات البناء الأخرى. 
 
وكلامه هذا لا يدعو فيه إلى عدم إعمار الدنيا، وإنّما يعني به أن لا يجعل الإنسان ذاته محوراً لجميع الأعمال والنشاطات الماديّة، ولا تنفقوا كلّ الطاقات لأجل أنفسكم ولا تُحوّلوا الدنيا إلى جحيم من أجل نصيبكم من الحياة, ولا تكدّروا عيش الآخرين لأجل المال والمنال والرفاه والراحة.
 
عليكم بالتقوى, أي عليكم بالحذر؛ لئلّا يكون في أيّ عمل أو قول أو قرار يصدر عنكم ضرر يلحق بالإنسانيّة وبالمجتمع، ولا تكون فيه إساءة إلى أُخراكم أو انتقاص من دينكم. 
 
هذا هو معنى التقوى, وفي كلّ جمعة يكرّر إمام الجمعة مخاطبة الناس ومخاطبة نفسه بالقول: "أوصيكم ونفسي بتقوى الله". 
 
كلّنا بحاجة لسماع مثل هذه الوصايا؛ وهذه من جملة الأمور الّتي تعطي لصلاة الجمعة أهميّتها1.
 
 
 

1- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 9/ رجب/ 1419 ﻫ ـ ق.
 
 
 
 
 
 
102

92

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 معالم الحكومة العلويّة 


ثمّة طائفة من خصال أمير المؤمنين عليه السلام وهي خصاله المعنويّة والملكوتيّة الّتي نقصر حتّى عن فهمها؛ فمقامه العلميّ والمنزلة النورانيّة والقداسة الّتي كانت لديه؛ والحقائق الّتي كان يعمر بها كيانه وقلبه النورانيّ وتتدفّق على لسانه المبارك حِكَماً، والقرب من الله وذكر الله الّذي كان يكلّل فعله وقوله وكافة أحواله، وأمورٌ من قبيل فطرته النورانيّة، لَهي ممّا يتعذّر فهمه بالنسبة لنا، وإنّنا نؤمن بها ونفتخر بها؛ لأنّنا سمعناها عن الصادق المصدَّق. 

ولكن ثمّة طائفة أخرى من خصوصيات أمير المؤمنين عليه السلام تصوغ منه أسوة وأنموذجاً بالنسبة للبشريّة قاطبة تحتذي به على مرّ التاريخ, وإنّ الأسوة وسيلة ومعيار وميزان يقاس بها العمل الّذي يروم الإنسان القيام به. 

إنّ هذه الأسوة لا تختصّ بقومٍ معيّنين، وهي لا تقتصر على المسلمين أيضاً، وإنّكم إذ تشاهدون مدى جاذبيّة أمير المؤمنين عليه السلام على مرّ التاريخ؛ إنّما بسبب هذه الخصال؛ لذا فحتّى من لم يرتضِ الإسلام أو لم يصدِّق بإمامته عليه السلام يشعر في داخله بالتعظيم لهذه الخصال, وينطلق لسانه مثنياً عليها شاء أم أبى. لذلك فإنّ هذه الخصال أمثولة الجميع؛ ونحن إذ نقيم الآن حكومة إسلاميّة وندَّعي الحكم العلويّ فإنّنا نفوق سوانا إلحاحاً وحاجة لهذه الأسوة وتمسّكاً بها. 
 
 
 
 
 
 
 
103

93

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 فإنّنا إذ رفعنا راية الولاية العلويّة في هذه البقعة من العالم، علينا أن نرى ما هو خطابنا، وما الّذي نروم تقديمه للإنسانيّة، وأيّ إطار نرسمه لإسعاد البشريّة ونتمسّك به ونرفعه. وخيرُ أسوة هنا أمير المؤمنين" عليه السلام ؛ فلا يصحّ المناداة باسم أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وإظهار المحبّة والمودّة باللسان فقط، ومخالفة فعله والدرس الّذي علّمنا إيّاه في قوله وعمله على صعيد العمل. 


إنّ مسؤوليّة كوادر الحكومة أي أنا وأمثالي أشدّ ثقلاً؛ لأنّنا نحن الّذين يجب أن نعمل ونقتفي الدرب الّذي سلكه. 

وربّما يقول بعض الناس: أين أنتم من أمير المؤمنين عليه السلام ؟ فأين أنتم من قدرته وقوّته وإيمانه وصبره وصلابته الروحيّة؟ وهذا الكلام بطبيعة الحال صائب؛ فليس منّا من يرقى للمقارنة به عليه السلام. 

ولا يصحّ القول: هو الأفضل والأرفع ونحن الأدنى، فهذه المقارنة خاطئة من الأساس؛ إذ هو عليه السلام في علياء الذرى ونحن نقبع في أعماق الثرى نتخبّط في دوامةٍ. 

إنّ المسافة بعيدة جداً، ولكن من الممكن اختيار المسار؛ فعلينا أن نقترب من الهدف, والغاية الّتي كان يستهدفها, كلٌّ حسب طاقته وبما يقتضيه زمانه، ولكن بذات الدرب وذات الهدف؛ وهذه القضيّة على قدر من الأهميّة.

لعلّ من الحكومات الّتي جاءت إلى الحكم في العالم الإسلاميّ على
 
 
 
 
 
 
104

94

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

  مدى اثني عشر أو ثلاثة عشر قرناً مَنْ كانوا يعظّمون اسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعتبرون أنفسهم خلفاء له، وكانوا على استعداد لقتل من يقول لهم: لستم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لِما كانوا يدّعون خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بدءاً من خلفاء بني أميّة ومروراً بخلفاء بني العبّاس الّذين حكموا ما يقرب من خمسمائة إلى ستمائة عامٍ, ومن ثمّ الخلفاء الفاطميّين في مصر وشمال أفريقيا, وتلاهم خلفاء الدولة العثمانيّة الّذين حكموا في آسيا الصغرى، أي تركيا الحالية حتّى اندلاع الحرب العالميّة الأولى، حيث كانت عاصمة حكومتهم فيها، فيما كانت الدول العربيّة الحاليّة بأجمعها تقريباً تخضع لحكومتهم، وكان هؤلاء جميعاً يحملون اسم الخليفة الّذي يعني خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ! وبعضهم تجاوز بخطوة أكثر حيث كانوا يدّعون أنهم خلفاء الله قائلين: نحن خلفاء الله! نوّاب الله! كان هذا لقبهم، ولكن ما كان عملهم؟ كان عملهم على شاكلة الحكومات الملكيّة الظالمة الّتي سادت الدنيا قبلهم وعاصرتهم أيضاً في مناطق أخرى، وتلتهم مثل هذه الحكومات في أرجاء العالم حتّى يومنا هذا. 


كان الاسم خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بَيْدَ أنّ النمط والعمل والسلوك كان شيئاً آخر. 

مَنْ هم هؤلاء؟ وما الاسم الّذي يليق بهم؟ إنّه اسم (منافق!) أي مَنْ يدّعي شيئاً، ويعد بشيء، ويرفع راية باسم شيء معيّن، لكنّه في سلوكه وعمله ومنهجه لا يلتزم بذلك الشيء، فثمّة أمر آخر وعمل آخر يتحكّم 
 
 
 
 
 
 
105

95

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 بفعله وخطّه؛ هذا هو المنافق، فهل نُزمع أن نكون كذلك بحيث نلوّح براية الولاية العلويّة والحكم العلويّ والتبعيّة لأمير المؤمنين عليه السلام لكنّنا نساوق حكومتنا مع الأنظمة الّتي تتنافى تماماً مع خطّ الإمام عليّ عليه السلام وفكره ومنطقه؟! فمنها من يخالفه 100% وبعضها 90% وبعضها الآخر 80% وترتكز في عملها على أساس آخر؛ لذا يتعيّن علينا أكثر من الآخرين التمسّك بالأنموذج ومعرفته واتخاذه مِلاكاً؛ فما هي معالم الأنموذج العلويّ في الحكم؟ إنّ هذه المعالم يجب الإلتزام بها. 


كما يتعيّن على الجماهير مراقبتنا؛ فإذا ما وجدتنا نلتزم بمعالم الحكم العلويّ بما تسعه طاقتنا فلتتقبّل حينها أنّنا حكومة تسير في خط الإمام عليّ عليه السلام. أما إذا لمست منّا عدم الالتزام بتلك المعالم, أو أنّنا نعمل بما يعاكسها وليس الحديث هنا أنّنا نقلّ قدرةً عن الإمام عليّ عليه السلام ، وإنّما عدم امتلاكنا الإرادة في اقتفاء خطّه إذ ذاك فلترفض خطابنا ومزاعمنا ولتقُل: إنّ هذه الحكومة ليست علويّة، وليست هي من ولاية أمير المؤمنين عليه السلام في شيء. 

وهذا هو المِلاك الّذي لا بدّ أن يؤخذ بنظر الاعتبار، ولكن ما هي هذه المعالم يا تُرى؟ 

لو أردنا إيضاح معالم حكومة أمير المؤمنين عليه السلام فربّما يمكن الحديث عن عشرة معالم مهمّة، أشير إلى بعضها هنا: 
المعلم الأوّل: التمسّك التام بدين الله والإصرار على إقامته، فأيّما 
 
 
 
 
 
 
106

96

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 حكومة لا يقوم أمرها على أساس إقامة الدين فليست حكومة علويّة. 

 
في خضمّ الحرب وأولئك الّذين كانوا وسط الميدان أثناء فترة الدفاع الّذي استمرّ ثماني سنوات يعرفون ما أقول ووسط ذلك المعترك، حيث كان كلّ مقاتل وجنديّ يصبّ جلّ اهتمامه على كيفيّة شنّه الهجوم أو الدفاع عن نفسه، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فسأله عن قضيّة تخص التوحيد قائلاً: ما المراد من كلمة (أحد) في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾؟ وهذه ليست بقضيّة جوهريّة، فهو لم يسأل عن وجود الله، وإنّما سأل عن قضيّة ثانويّة. 
 
فهمَّ به المحيطون بأمير المؤمنين عليه السلام قائلين: "أهوَ وقت سؤال؟! فقال عليه السلام: دعوني أُجبه، فإنما نحن نقاتل لأجل هذا"1 ؛ أي إنّ قتال أمير المؤمنين عليه السلام وسياسته ومجابهته وحرقة قلبه وكافّة الخطوط الأساس الّتي اختارها لحكومته كانت من أجل إقامة دين الله؛ وهذا أحد المعالم. 
 
 

4- عن المقدام بن شريح بن هانئ، عن أبيه، قال: إن أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين  عليه السلام ، فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إن الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه، قالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب، فقال أمير المؤمنين  عليه السلام : دعوه، فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، ووجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لا يجوزان عليه، فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال: ثالث ثلاثة. وقول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فبهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه، وجل ربنا عن ذلك وتعالى. وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا، وقول القائل: إنه عز وجل أحدي المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عز وجل. /التوحيد، الشيخ الصدوق، ص 83.
 
 
 
 
 
 
107

97

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 ولو كان الأمر في النظام الإسلاميّ والجمهوريّة الإسلاميّة الّتي تتّخذ من الحكم العلويّ عنواناً لها، أن لا يكون الهدف إقامة دين الله؛ عَمِلَ الناس بدين الله أو لم يعملوا، آمنوا به أو لم يؤمنوا، أقيم الحقّ أو لم يُقم, ونقول ما شأننا نحن، إذ ذاك لا تعدّ هذه الحكومة علويّة؛ فإقامة دين الله هي أوّل المعالم، وهي أمّ سائر الخصوصيّات في حياة أمير المؤمنين عليه السلام وحكومته، ومنها تنبثق عدالته وتعود إليها حاكميّة الأمّة ومداراة الناس الّتي تميّزت بها حياة أمير المؤمنين عليه السلام. 

 
المعلم الثاني: في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام هي: العدالة المطلقة؛ أي إنّه لم يؤثر مصلحته الشخصيّة وأيّة سياسة تمسّ شخصه على العدالة قط؛ "والله لا أطلب النصر بالجور"1. فانظروا أيّ لوحة زاهرة هذه وأي بيرق سامٍ هذا؛ فلربّما يقال لك: إنّك المنتصر في ميدان السياسة أو التنافس العلميّ أو الانتخابات أو ساحة الحرب، ولكن ذلك منوط بأن تمارس الظلم؛ فأيّهما تختار يا ترى؟ إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يرفض هذا النصر، ويقول لك لا ضير في أن أُهزم، ولكن لا أظلِم. 
 
والمحور في كلّ ما سمعتموه حول أمير المؤمنين عليه السلام من كلام بشأن العدالة هو دعوته المطلقة للعدالة، العدالة للجميع وفي كافّة الأمور؛ أي العدالة الاقتصاديّة، والسياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة. وهذا معيار آخر
 
 
 

1- نهج البلاغة, الخطبة: 126، ونص كلامه  عليه السلام :«أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ».
 
 
 
 
 
 
108

98

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

  لحكومة أمير المؤمنين عليه السلام ، فهو لا يطيق الظلم ولا يركن إليه ولو أُهدرت مصالحه. ومن أفظع الظلم هو التمييز، سواء في تطبيق القوانين أم في تنفيذ الأحكام؛ فهذا مرفوض على الإطلاق من قِبَل أمير المؤمنين عليه السلام. 

 
ارتكب أحد أتباعه مخالفة، وكان شديداً في حبّه وماهراً في الدعوة إليه، وكثيراً ما كان يمارس الدعوة الحقّة له عليه السلام ، فأقام أمير المؤمنين عليه السلام عليه الحدّ، وكان ذلك خلافاً لما يتوقّعه، فقال: "يا أمير المؤمنين، أنا الّذي أواليك وأدافع عنك. فردّ عليه عليه السلام: نعم، ولكن هذا حكم الله"1
 
والله هو الّذي يتقبّل منك موالاتك لي، ولك جزيل الشكر! وهكذا أجرى الحد عليه. لكنّه ردَّ: ما دام الأمر كذلك، فإنني ذاهبٌ إلى معاوية، فهو الّذي يعرف قدري! فذهب. 
 
من الخصوصيّات والمعالم الأخرى لحكومة أمير المؤمنين عليه السلام: التقوى؛ لاحظوا أنّ أيّاً منها بيرق وعلَم، فماذا تعني التقوى؟ إنّها تعني: تلك الشدّة من المراقبة, بحيث لا يحيد الإنسان عن جادة الحقّ في ممارساته الشخصيّة. وهذا ما تعنيه التقوى؛ أي أن يراقب المرء نفسه مراقبة تامّة في تداوله للأموال، في التلاعب بكرامة الناس، في الاختيار والرفض، في التحدّث حيث يحتاط أن لا يقول ما يخالف الحقّ. 
 
تصفّحوا نهج البلاغة فهو حافل بهذه المقولات. ومما يؤسف له الآن 
 


1-دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي، ج ‏2، ص 443.
 
 
 
 
 
 
 
109

99

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 أنّ بعض الناس درجوا على ارتكاب ما حلا لهم تحت طائلة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان كذلك ويفعل هكذا، ما هو دليلهم ومن أين لهم هذا؟ إنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو ذاك في نهج البلاغة، وهو ذاك في الروايات الواردة عنه وعن أولاده الطاهرين، فأين هذه الأمور الّتي يدّعيها بعض الناس قائلين: إنّ علياً كان كذلك؟ كلّا، فعليّ عليه السلام هو ذاك في نهج البلاغة؛ طالعوا نهج البلاغة من أوّله إلى آخره، فهو حافل بالحثّ على التقوى والدعوة إليها، وما لم يكن الإنسان تقيّاً فلا قدرة له على إقامة دين الله. 

 
فأسوأ الأمراض تلوّث الباطن، فتلوّث قلب الإنسان بالمعصية لا يدع للإنسان فرصة إدراك الحقيقة، ناهيك عن أن يتحرّك صوبها. 
 
ومن معالم حكومة أمير المؤمنين عليه السلام: الانبثاق عن إرادة الأمّة، إذ ليس من منطق أمير المؤمنين عليه السلام (التغلّب)، أي التحكّم بالناس عن طريق الغلبة والقهر، فبالرغم من علمه بأنّه على حقّ تنحّى جانباً حتّى جاءه الناس مصرّين معاهدين، ولعلّهم بكوا ملتمسين إيّاه أن يمسك بزمام أمورهم، حينها نهض الإمام وأمسك بزمام أمور الأمّة، وهو القائل: "لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ..، لأَلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا..."1. فلا يستهوي أمير المؤمنين عليه السلام الإمساك بالسلطة وممارسة قدرته، فحبّ السلطة إنّما يستهوي أولئك الذين يريدون إرضاء
 
 
 

1- نهج البلاغة, الخطبة: 3 (الشقشقيّة).

 
 
 
 
110

100

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

  رغباتهم وأهوائهم النفسيّة، وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فهو يسعى لأداء التكليف الشرعيّ وإقامة الحقّ. 

 
ولقد استودعته الأمّة السلطة فتسلّمها وحافظ عليها بكلّ اقتدار، ولم يحابِ أولئك الّذين انبروا لمناهضة سلطته الإسلاميّة ومناوأة حكومته الإسلاميّة؛ فليكونوا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن الوجهاء وذوي السابقة بالجهاد في سبيل الإسلام، فما داموا قد انبروا لمناهضة الحقّ ومناوأته فلا بدّ من التصدّي لهم بكلّ اقتدار. 
 
وتصدّى عليه السلام لهم! وعلى هذا المنوال كانت معاركه الثلاث. وهذه ميزة الحكومة الصالحة1.
 
سيرة الإمام عليّ عليه السلام في الحكم 
 
قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾2
 
ممّا يستحيل نسيانه بخصوص أمير المؤمنين عليه السلام تلك المعالم العمليّة والسلوكيّة الّتي تجلّت خلال البرهة الوجيزة من حكمه عليه السلام على امتداد البلاد الإسلاميّة الشاسعة وخلّدها التاريخ. 
 
إنّ للمراتب المعنويّة والشمائل الأخلاقيّة والشخصيّة الّتي تحلّى بها هذا الرجل العظيم شأناً؛ فلو راجعتم المصادر ستجدون فصولاً مسهبةً تتعرّض
 
 
 

1- كلمة الإمام الخامنئي  دام ظله ، في تاريخ: 13/ رجب/ 1423ﻫ.ق.
2- سورة البقرة، الآية: 207.
 
 
 
 
 
111

101

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

  لبيان ملامح أمير المؤمنين عليه السلام ، فعلمه وتقواه وشجاعته وسابقته في الإسلام وزهده وممّا شابه ذلك، كلّها ممّا يفوق مستوى الحصر المتعارف ومن العظمة وممّا يثير الدهشة، وكلّ منها كالشمس الساطعة في بريقها، بَيْدَ أنّ ما أراه يسمو عليها جميعاً هو سيرة هذا الحكيم في الحكم الّتي تعد موضع امتحان جوهريّ، حيث تصبح السلطة بِيَدِ أمير المؤمنين عليه السلام وهي سلطة تمتدّ على بقعة شاسعة في البلاد.


فلتكن هذه السيرة الفريدة من نوعها والّتي تثير الإعجاب قدوة لنا؛ وكلّ المطّلعين على سيرته عليه السلام في الحكم إنّما يتحسّرون أسفاً على قصر مدّة حكمه؛ لأنّ هذا النهج لو قدّر له الاستمرار سنوات عديدة فلربّما تغيّر مسار التاريخ العالميّ، ولو كتب لهذا النموذج الدوام وأصبح في متناول البشريّة سنوات مديدة فلربّما انعطف مصيرها, ولم تبرز إلى الوجود هذه القوى القائمة على الفساد والثروة والشهوة والغطرسة والإجحاف, والّتي شهدها التاريخ, وجرّت البشريّة نحو الظلمات وغياهبها. 

إنّ حكومة أمير المؤمنين عليه السلام بمثابة الأسوة على صعيد إقامة العدل والدفاع عن المظلوم ومقارعة الظالم وملازمة الحقّ في جميع الأحوال، ولا بدّ من الاحتذاء بها؛ وهذا ممّا لا يبلى، فبوسعه أن يغدو قدوة في ظلّ جميع الظروف الّتي تمرّ بها الدنيا علميّاً واجتماعيّاً لتحقيق السعادة لبني الإنسان، ونحن لا نريد تقليد ذات النهج الإداريّ لتلك الحقبة, وندّعي أنّه ممّا يخضع للتطوّر الزمنيّ, ونقول باستمرار ولادة المناهج الحديثة يوماً 
 
 
 
 
 
 
112

102

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 بعد يوم، بل إنّنا نصبو لاقتفاء أثر المسار الّذي اختطّته تلك الحكومة والّذي حاز الخلود إلى الأبد؛ فالدفاع عن المظلوم صفحة زاهرة على الدوام؛ وعدم مسالمة الظالم، ورفض الارتشاء من المتجبّر الثريّ، والثبات على الحقيقة، كلّها من الأمور الّتي لا ينتابها القدم في الدنيا أبداً؛ ولها شأنها تحت ظلّ مختلف الأوضاع والظروف، وعلينا الاقتداء بها؛ لما تمثّله من أصول، وإنّ ما نطلق عليه الحكم الأصوليّ إنّما يعني الاقتداء بمثل هذه القيم الخالدة الّتي لا تبلى والثبات عليها. 


نماذج من حكم الإمام عليّ عليه السلام 

وتأسيساً على هذا فإنّني أطرح هذه الأمور أمام الملأ العام مثلما خاطب أمير المؤمنين عليه السلام الأمّة بمثل هذه القضايا؛ فكتبه عليه السلام بالرغم من أنّها كانت موجّهة إلى أشخاص معيّنين, بَيْدَ أنّ الجميع كانوا يطّلعون عليها؛ وكذا الخطب الّتي كان عليه السلام يدلي بها بمرأى من أنظار الأمّة؛ وإليكم نماذج من ذلك: 

في مستهلّ حكومته ساوى أمير المؤمنين عليه السلام في تقسيم بيت المال بين الناس؛ لأنّ الأمور سارت على مدى ما يقرب من عشرين عاماً قبل مجيء أمير المؤمنين عليه السلام على تفضيل بعضهم لسابقتهم في الإسلام, أو انتمائهم للمهاجرين أو الأنصار أو... على من سواهم، فكان يجري تقسيم ما يجبى إلى بيت المال من غنائم وزكاة على الأشخاص فرادى، وهكذا جرت العادة في المجال الماليّ يوم ذاك, ولم تكن على ما عليه 
 
 
 
 
 
 
113

103

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

 المؤسسات الحكوميّة في عالم اليوم، وكان دأبهم يومئذ تفضيل بعض الناس في العطاء، فجاء عليه السلام وألغى ما كان سائداً، إذ قال إنّ من كان متديّناً وأكثر إيماناً فأجره على الله، ومن كان ذا قوّةٍ ويسعى في حياته لكسب المال فله ما كسب، أما بيت المال فإنّني أقسمه بالسويّة. فجاءه بعضهم مشفقاً محذراً من أنّ نتيجة ذلك ستكون الإخفاق وتدفع ببعض الناس إلى الوقوف بوجهك!، فردّ عليه السلام: "أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ! وَالله لاَ أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَميرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً"1. فأمير المؤمنين عليه السلام يرفض كسب التأييد على حساب الظلم والجور. 

 
وفي موضع آخر يقول في كتابه المعروف إلى عثمان بن حنيف: 
 
"أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأمُوم إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ"2
 
وهنا يشير أمير المؤمنين عليه السلام إلى ملبسه ومأكله اللّذين كان يشابه بهما أفقر الناس يومها، ويقول أنا إمامكم أعيش هكذا حياة. 
 
ثم يقول لابن حنيف: "أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَع وَاجْتِهَاد"3؛ وذاك ما يخاطبنا به أمير المؤمنين عليه السلام اليوم: تجنّبوا المخالفات والذنوب وما كان غير مشروع، واجتهدوا للاقتراب
 
 
 

1- نهج البلاغة: الخطبة 126.
2- م. ن، الكتاب 45 كتبه  عليه السلام  إلى عثمان بن حنيف الأنصاري و هو عامله على البصرة. 
3- م. ن.
 
 
 
 
 
 
114

104

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

  بأنفسكم ممّا وسعكم الوصول إليه.

 
وفي أحد المواضع يخاطب ابن عبّاس قائلاً: "فلا يكن حظّك في ولايتك مالاً تستفيده ولا غيظاً تشتفيه"1؛ أي لا يكن ما تجنيه من ولايتك الّتي بعثناك إليها مالاً أو نقمة تفرغها على واحد من بني البشر، كأن تستغلّ السلطة ضدّ فرد أو فئة أو طبقة نحن على خلاف معها، فذلك ممّا لا يجوز لك، ثمّ يقول عليه السلام: "ولكن إماتة باطلٍ وإحياء حقّ"2، أي إنّ نصيبك من هذه الحكومة أن تميت باطلاً أو تقيم حقّاً. 
 
وجاء أحدهم عند أمير المؤمنين عليه السلام يطلب مالاً، فقال عليه السلام: "إِنَّ هذَا الْمَالَ لَيْسَ لِي وَلاَ لَكَ، وَإِنَّمَا هُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَجَلْبُ أَسْيَافِهِمْ، فَإِنْ شَرِكْتَهُمْ فِي حَرْبِهِمْ كَانَ لَكَ مِثْلُ حَظِّهِمْ، وَإِلاَّ فَجَنَاةُ أَيْدِيهِمْ لاَ تَكُونُ لِغَيْرِ أَفْوَاهِهِمْ"3
 
هذا هو منطق أمير المؤمنين عليه السلام في تعامله مع مثل هذه الأمور؛ فلقد كان تطبيق العدالة والدفاع عن المظلوم والشدّة مع الظالم أيّاً كان الظالم وأيّاً كان المظلوم مهمّ بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام. 
 
لم يجعل أمير المؤمنين عليه السلام من الإسلام شرطاً للدفاع عن المظلوم؛ فأمير المؤمنين عليه السلام المتمسّك بالإسلام، المؤمن من الطراز الأوّل، أمير
 
 
 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج 4، ص 328.
2- م. ن.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 231، من كلام له  عليه السلام  كلّم به عبد الله بن زمعة.
 
 
 
 
 
 
115

105

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

  الفتوحات الإسلاميّة، لم يضع الإسلام شرطاً في دفاعه عن المظلوم؛ ففي واقعة (الأنبار) وهي إحدى مدن العراق حيث أغارت مجموعة من أتباع حكومة الشام على المدينة وقتلوا واليها المنصوب من قِبَل أمير المؤمنين عليه السلام, وحملوا على الناس وداهموا البيوت وقتلوا عدداً من الناس ثمّ قفلوا راجعين، خطب أمير المؤمنين عليه السلام تلك الخطبة الّتي تعدّ من الخطب العواصف الّتي وردت في نهج البلاغة، وهي خطبة الجهاد1 ، حيث يقول عليه السلام: "إِنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ"، قاصداً فيها حثّ الناس على التحرّك؛ لمواجهة هذا الظلم الشنيع، فيقول: "وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالأخْرَى المُعَاهَدَةِ"، فلا فرق لدى أمير المؤمنين عليه السلام بين أن تكون المرأة المعتدى عليها من أهل الكتاب يهوديّة أم مسيحيّة أم مجوسيّة أو مسلمة، فهو عليه السلام يذكرهنّ بلسان حال واحد، " فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا2 وَقُلْبَهَا3 وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا4 ، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ وَالاِسْتِرْحَامِ"، ثم يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً!". 

 
وفي كتابه المشهور لمالك الأشتر حيث يحدّد له فيه طبيعة التعامل مع الناس, وأن لا يكون سبعاً ضارياً، يردف كلامه قائلاً: "فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا
 
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة: 27.
2- الحِجْل ـ بالكسر و بالفتح و بكسرين ـ : الخلخال.
3- القُلُب ـ بضمتين ـ : جمع قُلْب ـ بالضم فسكون ـ : السوار المُصْمَت.
4- الرعاث ـ جمع رَعثة ـ وهو: ضرب من الخرز.
 
 
 
 
 
 
 
116

106

الفصل الرابع: الحكم عند أمير المؤمنين عليه السلام

  أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ"1.

 
وبناءً على هذا؛ فإنّ الإسلام ليس مناطاً بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام في دفاعه عن المظلوم وإحقاق حقوق الإنسان، فالمسلم وغير المسلم كلاهما يتمتّع بهذا الحقّ. 
 
انظروا أيّ منطق رفيع هذا, وأيّ لواء خفّاق رفعه أمير المؤمنين عليه السلام على مرّ التاريخ! وهناك الآن نفر يهتفون باسم حقوق الإنسان في العالم زوراً ورياءً, وهم لا يراعون للإنسان حقوقاً أبداً حتّى داخل بلدانهم, ناهيك عن سائر أصقاع الدنيا، فحقوق الإنسان بمعناها الحقيقيّ هي تلك الّتي صرّح بها أمير المؤمنين عليه السلام وعمل بها.
 
 
 

1- نهج البلاغة: كتاب: 53 من عهد له  عليه السلام  كتبه للأشتر النخعي  رحمه الله  لمّا ولّاه على مصر وأعمالها.
 
 
 
 
 
 
117

107

خاتمة آلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

 خاتمة:




آلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

108

خاتمة آلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

 معاناة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام 

 
لقد عانى أمير المؤمنين عليه السلام مصاعب جمّة، ولعلّ ليس هناك من سمعه يبوح بشكاواه الأصليّة خلال حياته، وإن كان عليه السلام كثيراً ما يشتكي القوم ويؤنّبهم من على المنبر، ولم تقتصر شكواه على مساءلة الناس على عدم توجّههم إلى ميادين الجهاد، فلقد كان قلب أمير المؤمنين عليه السلام يعتصر ألماً؛ ففي دعاء كميل1 المعروف وهو من إنشائه عليه السلام يخاطب عليه السلام ربّ العالمين "إلهي وسيّدي ومولاي ومالك رقّي..". ومن بين ما احتواه خطابه هذا المقطع الّذي طرق سمعي ومخيلتي بفائق حساسيته: "يا من إليه شكوت أحوالي"، فلقد كان عليه السلام يبثّ شكواه إلى الله وكان فؤاده يطفح بالألم، وكان الهاجس الّذي يقلق أمير المؤمنين عليه السلام يتعلّق بوضع الأمّة والمجتمع، ومسيرة الدين والاتجاه الديني في النظام الإسلاميّ الّذي كان حديث عهد يومذاك، وكذلك شعوره بثقل مسؤوليّته الّتي لم يفرط بواحد من الألف منها2
 
شهادة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام 
 
أشير هنا باقتضاب إلى ذكرى يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان 
 
 
 

1- مصباح المتهجد، الكفعمي، ص 849، وهو دعاء الخضر  عليه السلام .
2- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 21/ رمضان/ 1422ﻫ.ق.
 
 
 
 
 
 
121

109

خاتمة آلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

 عام أربعين للهجرة، وهو يوم استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام ، فكيف كان وضع الكوفة في مثل هذا اليوم؟ 

 
أنتم تتذكّرون تلك اللحظة الّتي عَلِمَ فيها أهالي طهران برحيل الإمام الخمينيّ قدس سره, ورأيتم كيف كان البكاء وكيف خَيّم الحزن على القلوب، مع فارق أنّ الإمام قدس سره كان مريضاً لمدّة من الزمن, وكان بعض الناس يخشى نزول المكروه.
 
بينما كان أمير المؤمنين عليه السلام حتّى قبل ساعة من ضربته يوقظ النائمين في المسجد، وصوت أذانه يدوي في أرجاء الكوفة، وكان الناس حتّى الأمس وحتّى البارحة يسمعون صوته الملكوتيّ, وفجأة تناهى إلى أسماعهم صوت هاتف يقول: "تهدّمت والله أركان الهدى، قتل عليّ المرتضى"1 وهكذا سمع أهالي الكوفة ومن بعدهم جميع العالم الإسلاميّ بشهادة أمير المؤمنين عليه السلام.
 
كان أمير المؤمنين عليه السلام قد أنبأ مرّات ومرّات بخبر شهادته، لعلّ جميع المقرّبين إليه كانوا يعلمون ذلك. 
 
ففي زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما وقعت معركة الخندق وبرز فيها الإمام عليّ عليه السلام كان شاباً له من العمر نيف وعشرون سنة لعمرو بن عبد ود الّذي كان من أبطال العرب, وله في قلوب قريش وغيرها هيبة ما بعدها هيبة, وظنّوا أنّه سيقضي على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وبارزه وقتله, جُرِح عليه السلام
 
 
 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 42، ص 239.
 
 
 
 
 
122

110

خاتمة آلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

  في تلك المبارزة في جبهته وسال منها الدم, ولما رآه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على تلك الحالة رقّ له قلبه, ومسح بمنديله الدم عن جبهته وأمر بتضميد جرحه، ثم اغرورقت عيناه بالدموع, وقال: "أين أكون إذا خُضّبت هذه من هذه؟"1 إشارة إلى اليوم الّذي تخضّب فيه محاسنه بدماء رأسه.

 
نقل محمّد بن شهاب الزهريّ رواية جاء فيها: "كان أمير المؤمنين عليه السلام يستتبع قاتله", أي إنّه كان يترقّب أن يأتي هذا الشقيّ ويفعل فعلته، كان يحصي حركة الزمن, بانتظار وقوع هذه الحادثة, ويقول: "متى يكون إذا خضّبت هذه من هذه؟"2
 
إذاً فهو كان يترقّب، والمقرّبون منه على علم بالأمر, إلّا أنّ عظم الحادثة مع أنّهم قد أخبروا عنها سلفاً قد أذهل الجميع...
 
قرأت رواية في كتاب بحار الأنوار جاء فيها أنّه كان يغمى عليه عليه السلام بين حين وآخر. كانت ابنته أم كلثوم جالسة أمامه تبكي، فلما فتح عينيه وقع عليها بصره, قال عليه السلام لها: "لا تعزّيني يا أم كلثوم، فإنّك لو ترين ما أرى لم تبك، إنّ الملائكة من السماوات السبع بعضهم خلف بعض والنبيّين يقولون: انطلق يا عليّ فما أمامك خير لك ممّا أنت فيه"3 4 ،.
 
لَمّا سقط السيف على رأس أمير المؤمنين عليه السلام وهو في محراب العبادة كانت العبارة الّتي سُمعت منه وتناقلتها المصادر هي "بسم الله 
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج42، ص 195.
2- م. ن.
3- في رحاب أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، ج 2، ص 255.
4- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 21/ رمضان/ 1417ﻫ.ق.
 
 
 
 
 
123

111

خاتمة آلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

 وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربِّ الكعبة"!1. فتلك الليلة الّتي هي بمثابة العزاء والمصيبة بالنسبة للمسلمين جميعاً، تحوّلت إلى ليلة ظفر وسرور وفوز بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام الّذي كان على موعد معها. ويبدو أنّها كانت ليلة جمعة؛ ففي بعض الروايات كانت ليلة التاسع عشر ليلة جمعة، فيما تقول روايات أخرى: إنّ ليلة الحادي والعشرين كانت ليلة جمعة، وفي تلك الليلة أفطر عليه السلام عند أمّ كلثوم بالصورة الّتي سمعتم بها, حيث اقتصر إفطاره على الخبز والملح وهذا يعني الإفطار بخبز وحده في واقع الأمر حيث رُفع اللبن وبقي الخبز، فأمضى عليه السلام تلك الليلة بالعبادة حتّى الفجر حيث دخل المسجد، بعدها رفع صوته مؤذّناً ونزل إلى محراب الصلاة، وإذا بالمنادي ينادي أثناء الصلاة: "تهدّمت والله أركان الهدى!". ومن المؤكّد أنّ الناس كانوا قد فهموا المعنى من "تهدّمت أركان الهدى"2، بَيْدَ أنّ المنادي سرعان ما أردف تلك العبارة بأخرى توضّح مفهومها إذ نادى: "قُتل عليّ المرتضى"3
 
يقول لوط بن يحيى بن أبي مخنف4: "لما أحسّ الإمام بالضربة لم يتأوّه" أي إنّه لم يتأوَّه ولم يتألّم عندما نـزلت الضربة على رأسه وشقّت جبهته وهو في المحراب، "وصبر واحتسب، ووقع على وجهه وليس عنده أحد" إذ لم تبدأ الصلاة بعد وكان المسجد مظلماً فيما كان الناس 
 
 
 

1- بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج 42، ص 239.
2- م. ن.
3- م. ن، ص 282.
4- أنظر: تاريخ الطبري، ج 4، ص 110.
 
 
 
 
 
 
124

112

خاتمة آلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

 مشغولين بالنافلة أشتاتاً، وعليه لم يفهم أحد ماذا جرى بادئ الأمر، "قائلاً: باسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله"1، فكانت أُولى العبارات الّتي تلفّظ بها بعد ضربته، هي تلك العبارات الّتي طرقت أسماعنا في حالات أُخرى، فبعد أن أُصيب سيد الشهداء عليه السلام ووقع على الأرض نُقلت عنه هذه العبارة: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله"2. فقد بذلوا ثمرة حياتهم في هذا الدرب.

 
ثم نُقلت عن أمير المؤمنين عليه السلام هذه العبارة إذ قال: "فزت وربّ الكعبة" وجاء في رواية أُخرى أنّه قال: "لمثل هذا فليعمل العاملون"3 ، وهذا ما يبرهن على مدى اتصال هذه الروح الطاهرة المطهّرة بعوالم الملكوت حتّى في الوقت الّذي لَمّا يزل عليه السلام على قيد الحياة في هذه الدنيا "ثم صاح وقال: قتلني اللعين"4. وبعد مناجاته تلك صاح عليه السلام كي ينتبه الناس ولا يدعوا القاتل يهرب, فلمّا سمع الناس الضجّة أي سمعوا صوت أمير المؤمنين عليه السلام فزع إليه كلّ من كان في المسجد فتوجّه الجميع نحو محراب المسجد دون أن يعرفوا ماذا حصل وماذا عليهم أن يفعلوا ثمّ أحاطوا بأمير المؤمنين عليه السلام ، وهو يشدّ رأسه بمئزره والدم يجري على وجهه ولحيته وقد خضّبت بدمائه، فلما اجتمع الناس حوله وجدوه يشدّ جرحه بمئزرٍ له بالرغم من حالة الضعف وانفلاق هامته وأنّ
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج 42، ص 281.
2- م. ن.
3- م. ن، ج35، ص261.
4- م. ن، ج42، ص 281.
 
 
 
 
 
 
125

113

خاتمة آلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

  لحيته الّتي كانت بيضاء قد تخضّبت بدمه وهو يقول: "هذا ما وعد الله ورسوله وصدق الله ورسوله" فلقد تحقّق وعدهما1 2 ،.

 
بعد أن وقعت تلك الفاجعة الكبرى، سُمع هاتف غيبيّ يقول: "تهدّمت والله أركان الهدى"3.
 
كان أهل الكوفة ومن حولها - ممّن بلغهم الخبر - في اضطراب، حيث كان أمير المؤمنين عليه السلام محبوباً من قِبَل الصغير والكبير، وكان الاضطراب بادياً على بعض الأصحاب المقرّبين من الإمام عليه السلام ، وفي الليلة الّتي سبقت استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام ازدحم الناس حول داره، يريدون عيادته إلّا أنّ حالة الإمام عليه السلام الصحيّة كانت قد ساءت ولم يعد بالإمكان عيادته، فخرج الإمام الحسن عليه السلام على ما ينقل واعتذر إليهم وأمرهم بالانصراف، فتفرّقوا إلّا الأصبغ بن نباتة لم تطاوعه نفسه بالانصراف، حتّى خرج الإمام الحسن عليه السلام بعد هنيئة فإذا به يرى الأصبغ لا يزال واقفاً، فقال له عليه السلام: أما سمعت ما قلته للناس؟ فقال: يا بن رسول الله لا طاقة لي على الانصراف، فأذن لي حتّى أرى الإمام، فدخل الإمام الحسن عليه السلام ثم خرج وأذن له في الدخول.
 
يقول الأصبغ: "فدخلت وإذا بالإمام أمير المؤمنين مسجّى على سرير المرض، وقد شُدَّ موضع جرحه بعصابة صفراء، فلم أستطع  أن
 
 
 

1- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 19/ رمضان/ 1424ﻫ.ق.
2- بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج 42، ص 281.
3- م. ن.
 
 
 
 
 
 
126

114

خاتمة آلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

 أُميِّز أيهما أشد صفرة، وجهه أم العصابة! وكان عليه السلام يُغمى عليه حيناً، ويفيق حيناً آخر، وفي واحدة من إفاقاته أخذ بيدي وحدّثني" - وهذا هو معنى قول الهاتف "تهدّمت والله أركان الهدى" حيث إنّ الإمام عليه السلام لم يترك هداية الناس حتّى وهو في هذه الحالة - فلم يضُنّ على الأصبغ بالحديث، فنقل له حديثاً مطولاً، ثمّ أغمي عليه، ثمّ لم يره الأصبغ ولا غيره من أصحاب الإمام عليه السلام ، حتّى انتقل إلى جوار رحمة ربّه في ليلة الحادي والعشرين وترك الدنيا والتاريخ متّشحين بثياب السواد1.

 
وعندما انتصف الليل أخذوا الجسد الطاهر ودفنوه ورجعوا، ولم يكن المشيّعون سوى أولاد علي عليه السلام وبعض خواصّ أصحابه. وقد فكّرت في مظلومية الإمام عليه السلام في ذلك التشييع المظلوم والدفن البعيد عن أنظار الناس وفي بيت الإمام عليه السلام المظلم، والأيّام الصعبة الّتي مرّت على أهل البيت عليه السلام...
 
لا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم2.
 
اللّهم نقسم عليك بمحمّد وآل محمّد إلّا ما صلّيت وترحّمت وتحنّنت على أمير المؤمنين عليه السلام وجعلتنا من أتباعه وشيعته الحقيقيّين.
 
والحمد لله ربِّ العالمين
 
 
 

1- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 21/رمضان/ 1425ﻫ.ق.
2- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله ، في تاريخ: 21/ رمضان/ 1414 ﻫ.ق.
 
 
 
 
 
 
127

115
الإمام علي عليه السلام