مقدمة الترجمة
مقدمة الترجمة (الطبعة الجديدة)
«.. من أيّ زاوية نظرتم، ينبغي أن ينتشر الكتاب ويتطوّر ويحضر بمعدّل عشرة أضعاف أكثر ممّا هو كائن. لو أنّكم أخذتم بالحسبان جهة اعتلاء الفكر الإسلامي وحاكمية الإسلام فهذا المعنى يَصْدُق، حيث إنّ الإسلام يولي أهميّة كبرى للكتاب والقراءة والكتابة. إنّ كلَّمُنْصفٍ إذا ما تأمّل في أحاديث نبيّ الإسلام الكريم(صلى الله عليه وآله)، والأئمة (عليهم السلام)، والمسلمين الأوائل، وفكّر في أيِّ زمانٍ دعوا إلى الكتاب والقراءة، سوف تنجلي عن ذهنه كلّ الخرافات، وسوف يعلم أنّ أعداء الإسلام لم يكن لديهم سوى هذا الطريق وهو إشاعة الأساطير بشأن حرقالكتب والمكتبات، لأنّ الإسلام حامل لواء المطالعة.. فالكتاب هو نافذة على العالم الواسع للعلم والمعرفة. والكتاب الجيّد، هو أحد أفضل وسائل الكمال البشري.. فالشخص الّذي ليس لديه ارتباط بهذا العالم الجميل والمحيي، هو بلا شكّ محرومٌ من أهمّ النتاجات الإنسانيةوأيضاً من أكثر المعارف الإلهية والبشرية. إنّها لخسارة عظيمة للأمّة الّتي لا شأن لأبنائها بالكتاب..[1] ».
[1] الإمام الخامنئي؛ أنا والكتاب؛ ص ١٩؛ ط ٢؛٢٠١٢م. (في لقاء القائمين على مشروع أسبوع الكتاب ٢١/١٠/١٩٩٦)
10
1
مقدمة الترجمة
ما ورد بارقةٌ مما خَبِرَه آية الله السيد الخامنئي-كقارئ، وكاتبٍ، وبانٍ للفكر، وصاحب سيرةٍ رائدة مفعمة بالتجارب - ورشفةٌ من عصارة فهمه لآفاق الكتاب ودور المطالعة في رقي المجتمع وبناء الحضارة. لا شك أنّ الكتاب الجميل لغةً، المليء مضمونًا والمخاطِبلسليقة الإنسان وحاجاته، والراوي لذائقته السليمة؛ سيكون محلّ ترحيب واستحسان؛ الكتاب المساهم في بناء الوعي والبصيرة والرافد للعقل، والمشيّد لصِلات الوصل ما بين تراثٍ غنيّ وتاريخٍ مليء بالدروس وبين الأجيال الحاضرة والمقبلة.. إلا أنّ ذلك يحتاج حتمًا إلىمقدّمات أساسية؛ أهمها - مضافًا إلى وجود الكاتب القوي والمبدع - أن ترعى الهيئاتُ والجمعيات الأهلية والمدارسُ وسائر المؤسسات العاملة في المجال الثقافي والاجتماعي شأنَ الكتاب والكتّاب، ولا ننسى دور الأسرة والبيت. والقارئ سيُقبل على المطالعةوسيُصنَع عندما يقدّم له الكتاب الجيّد ويحظى بالرعاية والاهتمام - بالرغم من هجوم الوسائل الأخرى التي زاحمت الكتاب وضيّقت أجواء المطالعة؛ والحديث هنا يطول..
يأتي الكتاب الذي يتحدّث عن سيرة الشهيد وحياته فيعمّق المسؤولية ويحيي الهمّ ويذكّر أصحاب القضية بالواجب من نواحٍ عدّة: أصل محور المطالعة؛ إحياء تراث الشهداء؛ الوصل بالأجيال الجديدة وبناء الوعي فيهم. فحياة الشهيد في الأمة أحدُ وجوه
11
2
مقدمة الترجمة
انتصار الدماء التيبُذلت في سبيل حياة الأمة نفسها، وهذه الحياة تتجلى في رواج سلوك الشهداء وازدهار طريقتهم والاقتداء بسيرتهم في وضوح الأهداف وقوة المعتقد وروح اليقين ..
بعد نفاد الطبعة الأولى لهذا الكتاب؛ كان لنا شرف إعداد وتنقيح الطبعة الثانية منه؛ وهو يتضمّن باقة قصصية من حياة الشهيد محمود كاوه وجهاده، عابقة بنفحات العشق والشجاعة والتّفاني، تجلّت في أعماله وحركاته. يرويها من عاش معه من أهله، ومن جاهد إلىجنبه من القادة الضباط والمسؤولين.
يصدر هذا الكتاب ضمن سلسلة «سادة القافلة» من «أدب الجبهة والمقاومة».
لا يسعنا إلا أن نشكر المترجمة الحاجة فاطمة شوربا، وكل من ساهم في تصحيحه وتحريره ليبصر النور بهذه الحلّة. وكذلك الكاتبين: حميد رضا صدوقي معدّ القسم الأول، وسعيد عاكف معدّ القسم الثاني ضمن مجموعته التي صدرت بعنوان «ساكنان ملكوت». والشكرالجزيل لدار المعارف الإسلامية الثقافية ناشر النسخة العربية.
مركز المعارف للترجمة
٢٤/١٢/١٤٣٩هـ
12
3
مقدمة الترجمة
بطاقة تعريف
الاسم: محمود محمد كاوه.
اسم الأم: ماه النساء.
تاريخ ومحلّ الولادة: ٢٢/ ٥/ ١٩٦١م. مشهد المقدّسة.
التحصيل العلمي: البكالوريوس.
تاريخ الانتساب إلى الحرس: ٥/٦/١٩٧٩م.
تاريخ الزواج: ١٩٨٣م/ من فاطمة عماد الإسلامي.
عدد الأولاد: ابنة.
آخر المسؤوليات: قائد لواء الشهداء الخاصّ.
تاريخ الاستشهاد: ٢/٩/١٩٨٦م/ منطقة الحاج عمران/عمليات كربلاء ٢.
«الشهيد كاوه»: من الشهداء الّذين نعاهم القائد وأثنى على تضحياتهم.
14
4
"القائد يؤبّن الشهيد"
«القائد يؤبّن الشهيد»
كنت أعرف الشهيد كاوه منذ طفولته، لقد تربى في محيط وعائلة مؤمنة وملتزمة بقيم وتعاليم الدين الحنيف والثورة، وكان يستقي علومه ومعارفه الدينية منذ نعومة أظافره من القضايا التي كانت تطرح في مسجد الإمام الحسن(عليه السلام)، حيث كان والده واحداً من الملازمينللمسجد الذي كنت أخطب وأؤمّ الصلاة فيه، فيقوم كل يوم باصطحاب الشهيد وإحضاره معه إلى المسجد، ولم يكن لديه أولاد ذكور سواه. كان والده يمتاز بقلب شجاع لا يعرف الخوف، كان في زمن القمع- زمن الشاه البائد- يتكلّم بكلام حاد وقاس لا يجرأ أحد غيره علىالتفوّه به، ...
أما فترة شبابه, ففي الواقع كان الشهيد كاوه من الذين قلّ نظيرهم، فأين يمكن أن تجد شخصاً لم يبلغ الخامسة والعشرين من العمر
16
5
"القائد يؤبّن الشهيد"
يدير لواءً يضمّ عدّة آلاف من الأفراد، أين يمكن أن تجد شخصاً ينزل بنفسه إلى ميدان الحرب في مواجهة مرمى النيران، وفي مواجهةدبابات العدو دون أن يبالي أو يعبأ، وعلى الرغم من وجود الكثير من العوائق والصعوبات والمخاطر كان يقود المقاتلين إلى الأمام، ويقتحم خطوط النار ويفرّق الأعداء ويأسر منهم ويسيطر على المواقع ويستقرّ فيها... أين يمكن أن نجد إنساناً كهذا؟!
من كلمة للإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله)
في الشهيد عند استشهاده
17
6
مقدمة الكتاب
مقدمة الكتاب
«كاوه» في تاريخ الثورة الإسلامية العظيم، اسم مجبول بالحبّ والثورة والحماسة، وقمّة عالية من الغيرة والعشق.
كلّ الّذين عايشوا «محمود كاوه» ولو لأيّام معدودات من حياته القصيرة المفعمة بالبركة، يقرّون بأنّه أعاد إلى الأذهان قصّة جهاد مالك الأشتر، وعمّار بن ياسر.
كان «كاوه»؛ فرداً من أفراد المجتمع، قبل أن ينجذب إلى مرشد كبير، الإمام الخمينيّ(قدس سره)، ليصبح تلميذاً من أكثر التلاميذ نجابةً ونباهةً. ومنذ ذلك اليوم الّذي سطعت في قلبه بوارق الحبّ، اختار «كاوه» طريقاً جعل من حياته أسطورة.
لقد أوصل تدبيره مصيرَ الحرب في كردستان إلى نهايات حميدة، حتّى أقرّ العدوّ والصديق بأنّه لا بدّ وأن يكون رجلاً عظيماً، ذا روحيّة
18
7
مقدمة الكتاب
عالية؛ على الرغم من أنّ سنيّ عمره لم تتجاوز الخمسة والعشرين عاماً.
ارتفع «كاوه» شهيداً على «تلال ٢٥١٩» فقيل عنه: إنّه «ابن كردستان»، وقد عشق كردستان وأهلها إلى حدّ أنّ شهادته كانت فيها.
«كاوه معجزة الثورة»، كتيّب يهدف من خلال تقديم النماذج المختصرة القليلة، والقليلة فقط من حياته، إلى التعريف بشخص اختار مواجهة الأخطار والتضحية في طريق الثورة والإسلام، مع كلّ عشقه ومحبّته للزوجة، والأب والأمّ، والولد.
مؤتمر تكريم الشهداء القادة و٢٣ ألف شهيد في محافظة خراسان
19
8
من الولادة حتّى الشهادة
من الولادة حتّى الشهادة
ولد القائد الشهيد محمود كاوه في الأوّل من شهر خرداد للعام ١٣٤٠هـ.ش (أيار ١٩٦١) م، في مدينة مشهد المقدّسة في عائلة متديّنة. وما أن أنهى دراسته الابتدائية حتّى اشتغل في تحصيل العلوم الدينية بتوجيه من والده.
وفي إحدى الجلسات الّتي جمعت محمود ووالده بآية الله الخامنئي، الّذي كان حينها إمام الجماعة في مسجد الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)، قال سماحته: «لو ينهي محمود دراسته التقليدية ومن ثمّ يشتغل بالدروس الحوزوية فهو أفضل»، وعملاً بهذه الوصيّة، التحق محمودبمدرسة العلّامة القزويني التكميلية ليتابع دراسته.
بدأ فكره الجهاديّ والمناهض لحكومة الشاه يتشكّل منذ مشاركته في
22
9
من الولادة حتّى الشهادة
الجلسات الدينية والإرشادية للشهيدين «هاشمي نجاد» و«كامياب». وكان يتواصل مع الثوار الآخرين من خلال نسخ وتوزيع أشرطة الكاسيت والبيانات الصادرة عن الإمام الخمينيّ (قدس سره). ومع انطلاقالتظاهرات عام ١٩٧٩ شارك بفعالية في المسيرات حيث كان يتقدّم ويندفع فيها إلى حدود الشهادة.
ومع تشكيل حرس الثورة الإسلامية تحوّل إلى عضو في هذه المؤسسة. ثم، ونتيجة خضوعه لدورة تعليمية، رُشّح كمدرّب تكتيك عسكريّ في مقرّ الإمام الرضا(عليه السلام)، واشتغل بتدريس التعبويّين والحرس في منطقة خراسان.
وعندما انتقل الإمام الراحل(قدس سره) إلى جماران، أُرسل كاوه إلى طهران كقائد لمجموعة مؤلّفة من عشرين فرداً لحراسة بيت الإمام(قدس سره).
مع ابتداء الحرب المفروضة، ترك كاوه طهران قاصداً جبهات الجنوب. ولكنه حينما رأى القلاقل تزداد في منطقة كردستان شمالاً، ترك الجبهة الجنوبية، وتحوّل إلى الجبهة الداخلية.
وفي مدينة «سقز»، تسلّم «كاوه» مسؤولية قيادة مجموعة المواكبة ومعاونية عمليات الحرس، وبدأ باتخاذ التكتيكات الهجومية والعملياتية، فكان أول من
23
10
من الولادة حتّى الشهادة
خطط لعمليات ضد كمائن الأعداء ونفذها في تلك المنطقة. وفي مدة قصيرة، بدّل الوضعية
27
11
من الولادة حتّى الشهادة
القتالية في مدينة سقزونواحيها لمصلحة قوات الثورة.
لقد اخرجت المسؤولية القيادية التي تولاها في عمليات الحرس، استعداداته وكمالاته الذاتية، حتى أجبر الأعداء في نهاية الأمر على الهروب والتشرد في الجبال بعد أن كانوا مسيطرين على المدينة.
مع تأسيس لواء الشهداء الخاصّ من قبل القائدين الشهيدين «محمد بروجردي» و«ناصر كاظمي»، عيّن محمود كاوه مسؤولاً لقسم عمليّات اللواء، ليقوم بعدها بتوجيه ضربات موجعة في الصميم لأعداء الثورة إلى درجة أنهم وفي أوج قوتهم العسكرية عامي ٨٢و٨٣م عجزوا عن الوقوف في وجهه؛ وفي هذين العامين، رُصدت مبالغ طائلة كجائزة لمن يقتل محمود كاوه. وهكذا، أصبح اسم «كاوه» الشاب اليافع على الألسن، ما أثار دهشتنا نحن أيضاً.
كان تحرير مدينة بوكان ومن ثمّ طريق «بيرانشهر - سردشت» الإستراتيجية والهامّة، من جملة العمليّات الواسعة الّتي نفّذت بقيادته وبتضحياته. إذ جعل استشهاد الشهداء القادة «كاظمي»، «گنجي زاده» و«بروجردي» في العام ١٩٨٣، دفّة قيادة لواء «الشهداءالخاصّ» في عهدته. حتّى إنّه، وفي تلك السنة المصيرية كان ينفذ عملياتٍ خاصة خارج مناطق السيطرة كعمليات [والفجر ٢و ٣و ٤] محرراً مناطق هامة من الوطن.
25
12
من الولادة حتّى الشهادة
مع سيطرة الهدوء والأمن على كردستان، حوّل كاوه كلّ جهده لمقاتلة الجيش العراقي البعثي، وأبدعَ المشاهد الباهرة لعمليات بدر، القادر، والفجر٩، وكربلاء ٢.
جُرِح محمود مرّات ومرّات على امتداد مرحلة حرب الدفاع المقدّس، لكنّه لم يترك خندق الدفاع عن الثورة، وآخر إصابة له كانت في هجوم «الحاجّ عمران»[1] في معركة مباشرة مع العدوّ البعثيّ، أدّت إلى إصابته بـ ١٢ شظية في رأسه.
نال محمود كاوه - الذكر الوحيد في عائلته- فيض الشهادة العظيم في الثاني عشر من شهر شهريور سنة ١٣٦٥هـ.ش (١٩٨٦م) عن عمر ٢٥ سنةً، إثر إصابته بشظايا قذيفة عندما كان يتقدّم في طليعة مجاهدي الإسلام بهدف السيطرة على «مرتفعات ٢٥١٩» الحسّاسةوالخطيرة! لقد كَسرت تلك الشظية قفص الدنيا الضيّق وحقّقت له أمنيته القديمة بالشهادة. كلّ ما تركه هذا الشهيد القائد فتاة تُدعى زهراء، هي وديعته عندنا.
[1] إحدى مدن محافظة آربيل، عند الحدود مع إيران.
26
13
الاختبار الإلهي؛ والد الشهيد
الاختبار الإلهي؛ والد الشهيد
أشهر قليلة مرّت على ابتداء الحرب؛ والأوضاع في كردستان لم تكن مستقرة؛ بل سرعان ما ازداد الوضع فيها سوءاً.
حينها، كان أعداء الثورة يفتكون بالشعب الكردي المظلوم والمستضعف، والأخبار التي وردت من هناك، لم تكن سارّة أبداً! فقد قيل إنهم كانوا يقطعون رؤوس الحرس أمام أعين زوجاتهم من شدة حنقهم عليهم.
لقد كان هذا الأمر سبباً ليسيطر خوف عجيب على قلوب الكثيرين. ومن أجل ذلك جهّز محمود مجموعة من حرس الثورة في مشهد لنقلهم إلى كردستان لمقاتلة أعداء الثورة.
في الليلة الّتي كان من المقرّر أن ينطلق في صبيحتها إلى المنطقة، كنّا جميعاً جالسين في البيت. أحسست منذ البداية أنّ في وجهه كلاماً. وما لبث أن افتتح الموضوع قائلاً: «أتعلم يا أبي أنّ أعداء
27
14
الاختبار الإلهي؛ والد الشهيد
الثورة يعيثون خراباً في كردستان؟»
أحسست أنّه ينسج مقدّمةً لأمر ما. وهكذا استمرّ بالكلام عن أوضاع كردستان إلى أن قال: «أريد أن أذهب إلى هناك، وأريد الاستئذان منك؟»
قلت: «نعم آذن، ولمَ لا؟! ففي النهاية هو أمر الإمام الخميني، وجميعنا يجب أن نذهب وندافع. بالمناسبة، أنا أيضاً مستعدّ للذّهاب معك».
كأنّه لم يكن يتوقّع مثل هذا الكلام.
قال: «أتعلم ما هو الوضع هناك؟ الحرب، الحرب الخسيسة، لا يمكن تحديد العدوّ من الصديق، واحتمال الرجوع ضعيف جداً».
كان يظن أنه لا علم لي بالأوضاع هناك لانغماسه في عمله في مقرّه التدريبي، فقلت له ضاحكاً: «نعم، إنّني على علم بكلّ ما تقول». ومن أجل أن أطمئنه، قلت متابعاً: «منذ اليوم الأوّل الّذي فتحت فيه عينيك على هذه الدنيا، عاهدت الله سبحانه على أن أجعلك وقفاً فيسبيل الله والحقّ. ولطالما كانت أمنيتي أن تكون في هذا الخطّ. اذهب في أمان الله يا بنيّ».
عندما تفوّهت بهذه الكلمات، انفرجت أساريره وعلت ضحكة جميلة وجهَه، ثم قام وقبّل وجهي. وفي الصباح، انطلق مع مجموعة إلى «سقّز».
28
15
حتّى في الجبهة ...؛ والدة الشهيد الفاضلة
في ما بعد، قال لإحدى أخواته: «في تلك الليلة، نجح والدي في الامتحان الإلهي»!
حتّى في الجبهة ...؛ والدة الشهيد الفاضلة
ذهبنا من مشهد إلى مدينة «ورّامين» للمشاركة في مراسم ذكرى أسبوع «الشهيد قمّي»، ومكثنا يومين هناك. عندما انتهت المراسم وجلسات الفاتحة، قرّر حجّة الإسلام قمّي ـ والد الشهيد ـ وجماعة من الأفاضل ومسؤولو المدينة الذهاب إلى لواء الشهداء الخاصّ، ليلتقوابالمجاهدين من جهة، وليعاينوا عن قرب مكان استشهاد «عليّ» من جهة أخرى، وقد دعونا أيضاً إلى مرافقتهم.
لم يكن شيء بالنسبة إلي أفضل من ذلك، فمن ناحية نواسي ونطيّب خاطر عائلة الشهيد قمّي، ومن ناحية أخرى كانت فرصة جيّدة للالتقاء ثانيةً بمحمود بعد طول غياب.
قلت لوالد محمود: «بما أنّهم ذاهبون لزيارة اللواء، فحبّذا لو
29
16
حتّى في الجبهة ...؛ والدة الشهيد الفاضلة
نذهب معهم، لإنّي مشتاقة لرؤية محمود».
فقال من دون تردّد: «أوَيوجد ما هو أفضل من ذلك؟! بالتأكيد سنذهب».
سكت قليلاً ثمّ قال: «ولكن، لا بأس إن نسّقنا الأمر مع محمود، وقلنا له إنّنا قادمون».
بعدها أجرى اتصالاً به، فردّ محمود فَرِحاً: «حتماً تعالوا، فإنّكم بذلك تسرّون قلبي، وكذا قلوب الشباب».
في ذلك اليوم، انطلقنا مع عائلة الشهيد قمّي وجماعة من أبناء «ورّامين» الفضلاء نحو اللّواء.
وصلنا في صباح اليوم التالي إلى مقرّ الشهيد «بروجردي» والّذي كان في الوقت نفسه مقر «لواء الشهداء الخاصّ» وعلى مقربة من «مهاباد»[1]، فوجدنا أمام المقرّ عدداً كبيراً من المجاهدين تجمعوا لاستقبالنا، وقد استقبلونا بحرارة وشوق لا يوصفان.
بحثْتُ عن محمود بينهم، على الرغم من أنّ العادة كانت تقتضي أن يكون القائد في مقدّمة الجميع، فقلت في نفسي: «لعلّه بقي بين المجاهدين»، ولكن، بحثتُ ولم أجد محموداً.
[1] مدينة تقع في محافظة أذربيجان شمال غرب إيران.
30
17
حتّى في الجبهة ...؛ والدة الشهيد الفاضلة
لم أجد له أثراً، سألتهم فقالوا: «ذهب البارحة للمشاركة في إحدى العمليات».
صادف أن عاد في اليوم نفسه مع الغروب. ملطّخاً بالتراب، والغبار يعلوه من رأسه إلى أخمص قدميه، ونظراته توحي بأنّه منهك بشدّة.
جلس معنا ومع الضيوف الآخرين نحو نصف ساعة. ليعتذر بعدها من الحاضرين، ويذهب إلى المبنى المحاذي. ظننت أنّه ربّما ذهب إلى المهجع ليرتاح حيث كان تعباً، فسألت أحد رفاقه: «ما هو ذلك المبنى؟».
ضحك وقال: «يقال له غرفة التخطيط».
قلت: «ولمَ ذهب محمود إلى هناك؟».
قال: «للتخطيط لمتابعة العمليات».
مرّت ثلاث إلى أربع ساعات، ولم يأت! فذهبت خارجاً، ونظرت إليه من خلف الزجاج. كان جالساً مع عدّة أشخاص آخرين حول خريطة ويتحدّثون بحماسة.
رجعت إلى الغرفة، كنت أعدّ اللحظات حتّى ينهي عمله بسرعة ويأتي إلينا.
عقاربُ الساعة، تلك الليلة، قاربت الثانية عشرة ولم يأتِ.
31
18
حتّى في الجبهة ...؛ والدة الشهيد الفاضلة
ذهبت مجدداً مرّتين أو ثلاثاً إلى أمام ذلك المبنى، ولكنّهم كانوا لا يزالون منهمكين في عملهم. في النهاية، قال لي والد محمود: «اذهبي وأخلدي إلى النوم، غداً ترينه إن شاء الله».
حاولت الاعتراض، فقال: «شكراً لله أن رزقني مثل هذا الولد».
ومن شدة التعب والإنهاك، نمت ملء جفوني.
وفي صباح اليوم التالي، جهّز محمود الكتائب، وقَدِمَ إلينا ثانيةً للاعتذار، لينطلق بعدها برفقة البقيّة إلى العمليات. وبعد يومين عندما عاد، كنّا قد صعدنا إلى الحافلة قاصدين العودة. صعد محمود إلى الحافلة لتوديعنا. اعتذر مرّةً أخرى من الجميع وخاصّة منّي، وطلب المسامحة.
وحينما انطلقت الحافلة، قلت في نفسي: «حتّى في الجبهة لم نكن لنشبع من رؤيته»!
32
19
لا يعرف التعب؛ فاطمة عماد الإسلامي
لا يعرف التعب؛ فاطمة عماد الإسلامي[1]
لم أسمعه مرّة يقول تعبت! ولم يكن ينتظر أيّ شيء مقابل كلّ تلك الجهود الّتي كان يبذلها، حتى إنّني لم أرَه يتطلّع إلى يوم إجازة. وكان حينما يأتي إلى مشهد، يسعى وراء الذخيرة والتجهيزات وتحضير القوات. ففي النهار كان يذهب إلى مقر الحرس ويتابع الأعمالالإدارية، وفي الليل، عندما يعود إلى المنزل، كان يعقد الجلسات مع أصدقائه إلى وقت متأخّر جداً. ولا يكتفي بهذا المقدار من النشاط، حتى يبدأ بعد مغادرة الإخوة بالاتصال بالجبهة مواكباً عمل القوات.
ومع ذلك كان يجد متّسعاً من الوقت، ليطالع فيه الكتب تحضيراً للخطب الّتي كان يلقيها هنا وهناك.
هذا كان ديدنه، ولذا لم يحدث يوماً أن شبعت من رؤيته ومن
[1] زوجة الشهيد.
33
20
لا يعرف التعب؛ فاطمة عماد الإسلامي
الجلوس معه، أو ذهبنا معاً لزيارة الأقارب. لا أدري ما الّذي زرعه الله في وجود هذا الإنسان الّذي لا يتعب على الإطلاق.
ذات يوم، وبعد مدة طويلة قضاها في الجبهة، جاءني في إجازة، كان الوقت عصراً، نحو الساعة الرابعة، قلت في نفسي مسرورة: «الآن وقد أتى، حتماً سيبقى عدّة أيّام، فيمكنني أن آخذ إجازة من الحرس وأبقى في المنزل»!
في تلك الليلة كان الحاج محمودي من مقرّ قيادة الحرس قد أقام وليمة على العشاء. وقد دعا جملة من قيادات الحرس مع عائلاتهم، وكنت أنا من المدعوّين. فقد ذهبنا معاً إلى منزل السيّد محمودي.
معظم قادة الحرس كانوا قد حضروا، وقلّما كان يحدث أن يجتمع هذا العدد معاً، فكلّ واحد منهم كان دائم الحضور في الجبهات نظراً للعمل والمسؤولية الملقاة عليه.
جلس الرجال في مكان، والنساء في مكان آخر. لم أكن أعرف من الحاضرات سوى امرأتين أو ثلاثاً، والبقيّة لم أكن قد التقيت بهنّ من قبل، ولم أكن أعرفهنّ. سرعان ما ألفنا بعضنا بعضاً، وإلى أن مُدّت المائدة كنّا قد تناولنا صنوف الأحاديث ومختلف المواضيع.
34
21
لا يعرف التعب؛ فاطمة عماد الإسلامي
وبعد نصف ساعة من العشاء تهيّأتُ للمغادرة، فخرجت إلى فناء البيت وقلت للحاج محمودي: «قل لمحمود إنّي أنتظره».
35
22
لا يعرف التعب؛ فاطمة عماد الإسلامي
نظر إليّ السيد محمودي بتعجّب وقال: «أَوَلَمْ تعلمي؟!»
قلت: «أعلم ماذا؟»
قال: «بذهاب السيد محمود!»
ظننت للحظة أنّني لم أسمع جيّداً، قلت: «أين ذهب؟ ولماذا لم يطلعني على الأمر؟»
أثار ذلك فضول بعض النسوة اللاتي كنّ في الفناء، وتساءلْنَ أين ذهب محمود ولِمَ لَمْ يترك خبراً. قال السيّد محمودي الّذي أدرك أخيراً أنّني لم أكن على علم بذهاب محمود: «كنّا نتناول العشاء، وإذ بهم يتّصلون من الجبهة في أمر ضروريّ وما إن وضع سمّاعةالهاتف حتّى قام وذهب إلى المطار قاصداً الجبهة».
لم أصدّق أنّه لم يكد يأتي حتّى انطلق نحو كردستان مجدداً، فلم أتمالك نفسي، وأخذت في البكاء. لم تكن المسألة بإرادتي، إذ لم يكن قد مضى على مجيئه من الجبهة أربع أو خمس ساعات فقط!
في المرّة التالية حين قدم مشهد، قلت له معترضة: «لو كنت أخبرتني على الأقلّ، عندما أردتَ الذهاب، ولم تتركني من دون علم!»
36
23
لا يعرف التعب؛ فاطمة عماد الإسلامي
فردّ قائلاً: «كان الوقت ضيّقاً جدّاً لا يسمح حتّى بالتوقّّف للتوديع»!
علمت فيما بعد أنّ قوّات البعث العراقيّ شنّت هجوماً مضادّاً على منطقة «والفجر٩» وكان على محمود أن يذهب إلى الجبهة من دون أي لحظة تأخير وقد وجدتُ أنّه كان محقاً في ذهابه على عجلٍ.
37
24
لا يعرف التعب؛ فاطمة عماد الإسلامي
نظر إليّ السيد محمودي بتعجّب وقال: «أَوَلَمْ تعلمي؟!»
قلت: «أعلم ماذا؟»
قال: «بذهاب السيد محمود!»
ظننت للحظة أنّني لم أسمع جيّداً، قلت: «أين ذهب؟ ولماذا لم يطلعني على الأمر؟»
أثار ذلك فضول بعض النسوة اللاتي كنّ في الفناء، وتساءلْنَ أين ذهب محمود ولِمَ لَمْ يترك خبراً. قال السيّد محمودي الّذي أدرك أخيراً أنّني لم أكن على علم بذهاب محمود: «كنّا نتناول العشاء، وإذ بهم يتّصلون من الجبهة في أمر ضروريّ وما إن وضع سمّاعةالهاتف حتّى قام وذهب إلى المطار قاصداً الجبهة».
لم أصدّق أنّه لم يكد يأتي حتّى انطلق نحو كردستان مجدداً، فلم أتمالك نفسي، وأخذت في البكاء. لم تكن المسألة بإرادتي، إذ لم يكن قد مضى على مجيئه من الجبهة أربع أو خمس ساعات فقط!
في المرّة التالية حين قدم مشهد، قلت له معترضة: «لو كنت أخبرتني على الأقلّ، عندما أردتَ الذهاب، ولم تتركني من دون علم!»
38
25
لا يعرف التعب؛ فاطمة عماد الإسلامي
فردّ قائلاً: «كان الوقت ضيّقاً جدّاً لا يسمح حتّى بالتوقّّف للتوديع»!
علمت فيما بعد أنّ قوّات البعث العراقيّ شنّت هجوماً مضادّاً على منطقة «والفجر٩» وكان على محمود أن يذهب إلى الجبهة من دون أي لحظة تأخير وقد وجدتُ أنّه كان محقاً في ذهابه على عجلٍ.
39
26
الكشف الكبير؛ جاويد نظامپور
الكشف الكبير؛ جاويد نظامپور
في شهر تير من العام ١٩٨٢م، وبعد عمليّات دقيقة وناجحة، استعدنا سدّ «بوكان». لم يكن أعداء الثورة يتوقّعون أبداً أن يخسروا ذلك الموقع الهامّ والحسّاس. كانوا يعرفون المنطقة جيّداً، ويثقون بقوّتهم إلى حدّ أنَّهم هدّدونا، أنّه إذا قمنا بأدنى عملٍ عسكريّ فينواحي سدّ بوكان فإنّهم سوف يفجّرون السدّ بكلّ منشآته، وعندها ستتعرّض أرواح الناس وأرزاقهم لأضرار بالغة. ومن أجل إحباط هذه المؤامرة، قدّم «ناصر كاظمي» خطّة استشهاديّة محكمة أدّت في النهاية إلى تحرير السدّ من دون أن يتعرّض لأيّ تلف أو ضرر.
ومن أجل أن يرسّخ هذا النصر، بقي بنفسه في المنطقة، وأخذ يقاوم كتفاً لكتف إلى جانب الشباب المجاهدين. في بعض الليالي، حيث كانت تسنح الفرصة، كنّا نتحلّق حول بعضنا بعضاً ونتطرّق في حديثنا
40
27
الكشف الكبير؛ جاويد نظامپور
إلى مواضيع شتّى.
كان حضور الأخ «كاظمي» المحبب بيننا موضع فخر لنا في تلك الجلسات الحميمة. ففي واحدة من تلك الجلسات قادنا الحديث إلى الكلام عن الشهيد والشهادة، وكان الإخوة يتحدّثون فيما بينهم: انظر كم هو وجهك منير، حتماً ستنال الشهادة عن قريب.
كنّا نشارك كثيراً في العمليّات، وكنّا دوماً في دائرة الخطر، بحيث كنّا نرى الشهادة على بعد أمتار منّا، وعليه كنّا نشعر أنّ الواحد منّا لن يعمّر أكثر من سنتين.
في تلك الجلسة، كان ناصر كاظمي بيننا، وكان كما في أكثر أوقاته ساكتاً يستمع، فجأةً، سمعته يتنهّد ويقول متحسّراً: «لقد انتهت هذه العمليات أيضاً ولم تُكتب لي الشهادة». أصغى الجميع إليه، وتسمّرت عيونهم عليه.
كنت أعلم أنّ شوق الشهادة يغمر كيانه، كبقيّة القادة، ولكنّها كانت المرّة الأولى الّتي كنت أسمع منه فيها مثل هذا الكلام. ثمّ قال: «بالطبع، إنّني لن أحزن كثيراً إذا لم أُستشهد ولم أستطع أن أبذل مهجتي خدمةً للإسلام». كلامه هذا كان أكثر إثارة للعجب من كلامه الأول،ولكنه أضاف: «إنّني قدّمت للجمهوريّة خدمةً أرجو بها أن يشملني الحقُّ بعنايته». وكما البقيّة، أثار كلامه فضولي أيضاً، لأعلم ما هي هذه الخدمة الجليلة
41
28
الاغتيال؛ السيّد مجيد إيافت
الّتي أراد كاظمي مع كلّ تحفّظه، ونفوره الكبير من الرياء، أن يذكرها في جمع الإخوة.
قال: «تلك الخدمة أنّني اكتشفت «كاوه» للجمهورية الإسلامية، وإنّني على يقين أنّ «كاوه» يمكنه حلّ مسألة كردستان».
الاغتيال؛ السيّد مجيد إيافت
سرى اسم محمود شيئاً فشيئاً على الألسن، بنحو أصبح معروفاً لكلّ أهالي «سقّز». وفي مدّة قصيرة، وخلال عدّة عمليات متلاحقة، أوقع رعباً عجيباً في قلوب أعداء الثورة.
كان قد شكّل مجموعات تعرف باسم «الضربة»، فكلّما كان أعداء الثورة يشنّون هجوماً أو ينصبون كميناً، كانت هذه المجموعات تتصدّى لهم مباشرة إلى أن كُفّت أيديهم عن المدينة.
بعد ذلك، وسّع محمود نطاق عمليّات الحرس، لتمتدّ إلى الجبال المحيطة بالمدينة، لأنّه لم يكن ليتركهم لحالهم ولو للحظة.
لقد أصبح بمثابة كابوسٍ لأعداء الثورة، وهذا ما جعلهم يفكّرون في اغتياله، فاستأجروا عدّة فرق للقيام بهذه المهمّة.
42
29
الاغتيال؛ السيّد مجيد إيافت
كنّا قد عدنا ذلك اليوم من عمليات المواكبة، الجوع قد أخذ مأخذه منّا، إذ لم نكن قد تناولنا شيئاً منذ الصباح، ولم يكن هناك أيضاً من طعام في مقرّ الحرس. فقصدنا «مطعم برشنگ» على تلك الحال ونحن شعثٌ غبرٌ، وبتلك الأسلحة والتجهيزات والآليات العائدة من الحرب.
كان «برشنگ» المطعم الوحيد الّذي يقدّم الوجبات إلى وقت متأخّر. وكثير من المسافرين الّذين كانوا يمرّون بـ «سقّز»، كانوا يتناولون طعامهم في هذا المطعم الذي كان يقدّم طعاماً جيّداً، كما كان العاملون فيه مؤدّبين ويهتمّون بالنظافة، تماماً مثل صاحب المطعم.
دخل محمود، وتبعناه. كانت الطاولات منظّمة في كلّ أرجاء الصالة. جلسنا إلى الشمال خلف البرّاد، بحيث يمكننا أن نرى آليّاتنا، ونراقب حركة مرور الأفراد أيضاً.
وفيما كنت شارد الذهن، وإذ بسيّارة تتوقّف أمام المطعم، يترجّل منها ثلاثة إلى أربعة أشخاص ويدخلون. ليجلسوا حول إحدى الطاولات المجاورة. كنّا نتحادث فيما بيننا بمحبّة بالغة، وننتظر بفارغ الصبر أن يأتونا بطعام الغداء.
نظرت إلى محمود فعرفتُ أنه كان معنا بجسده إلّا أنّ فكره وحواسّه كانت في مكان آخر.
44
30
الاغتيال؛ السيّد مجيد إيافت
اختلست نظرة إلى الأشخاص الّذين دخلوا للتوّ، ثم نظرتُ إلى عينيه، فعرفت أنّ هناك أمراً مريباً يحصل حولنا. حاولت أن لا أركز نظري على هؤلاء الاشخاص لكيلا أثير شكوكهم. وفجأة، ومن دون سابق إنذار، فقز محمود وأحد الإخوة نحوهم، وما هي إلا لحظاتحتى أصبحوا في قبضة محمود!
عندها هببت للمساعدة، ولم نترك لهم فرصة للإتيان بأدنى حركة، إذ قبضنا عليهم جميعاً وقيّدناهم.
فتّشنا ثيابهم بدقّة، كان معهم عدّة مسدّسات وبعض القنابل اليدوية، بينما كان صاحب المطعم وبعض النزلاء ينظرون إلينا بحيرة واضطراب.
نقلناهم في ذلك اليوم، إلى مركز الحرس وسلّمناهم إلى أمن الحماية. وبعد التحقيق اعترفوا أنّهم كانوا يريدون اغتيال «كاوه»!
45
31
الهدف ٧؛ ناصر ظريف
الهدف ٧؛ ناصر ظريف
لم يكن أمامنا الكثير من الوقت، وكافّة الوحدات قد أنهت أعمالها. وبقينا نحن، فقد كان علينا إنجاز استطلاعنا بسرعة. في تلك الليلة، تهيّأت خمس أو ستّ فرق. وعند الانطلاق قال «كاوه»: «سآتي معكم إلى المرصد»، وسار معنا.
علت البسمة وجوهنا عندما قال ذلك، فقد كان دائماً ما يتخذ المرصد ذريعة ليأتي معنا!
كان يحب أن يأتي بنفسه ليتابع الأعمال عن قرب، فلم يكن يقتنع بأن نقدّم له التقارير. وكان يقول: «ينبغي أن أعلم شخصيّاً ليلة العمليات من أيّ النقاط سترمي قواتنا الأعداء، وعليّ أن أعلم كيف اخترتم سير العمل»!
47
32
الهدف ٧؛ ناصر ظريف
حينما عبرت فرق الاستطلاع، عبر كاوه معنا أيضاً، ورغم محاولتنا فإنّنا لم نستطع منافسته. قلنا لعلّه لن يخيّب دعوة معاونه «منصوري»، فقلّما حدث ورفض له طلباً. إذ كان يكنُّ له احتراماً خاصّاً من بين كافّة الإخوة المسؤولين.
تقدّم «منصوري» نحوه وقال: «أخ محمود، فلتبقَ أنت، وأيّ مكان تريده نستطلعه نحن، هذا أكثر راحةً لبالنا»، ولكي يطمئنه أكثر تابع قائلاً: «الإخوة يعِدُون أن ينهوا الاستطلاع هذه الليلة».
غير أنه لم يكن هناك من فائدة من كل هذه المحاولات، فتابع مسيره وانطلق، وتبعناه.
الهدف رقم ٧، كان «مرتفعات بُلْفَت» الّذي كان بعيداً من جهة وهامّاً واستراتيجيّاً من جهة أخرى. وقد التحق محمود بتلك الفرقة الّتي كان عليها الذهاب إلى تلك الناحية. ولما أصبحنا على مسافة ٢٠٠ إلى ٣٠٠ م من القاعدة العراقية، توقّفنا، قال لنا شبابالاستطلاع: «في الليالي الماضية وصلنا إلى هنا، ولم نتقدّم خوفاً من انكشاف أمرنا». ثم شرح لنا أحدهم فقال: «لقد وصل «مهدي زاده» الليلة الماضية إلى هناك، فوق الألغام، علم البعثيّون بذلك بالتأكيد».
لقد كانت ليلة مقمرة بحيث كنّا نرى دشم الأعداء بشكل واضح. ذهبنا لنكمن لهم عند الدشمة، وجلسنا هناك خلف صخرة كبيرة.
48
33
الهدف ٧؛ ناصر ظريف
لقد كنّا قريبين جدّاً بحيث نسمعُ أحاديثَ الجنودِ البعثيينَ جيّداً.
كان يكفي صوت صغير واحد ليفسد كل العملية؛ ولكن محمود فاجأنا حيث قال لنا: «علينا أن نتقدّم أكثر، وينبغي لنا أن نمرّ من بين دشمهم، وأن تذهبوا خلف تلك الناحية لنرى ماذا يدور هناك!»
دُهشنا جميعاً، فقد كانت مغامرة خطيرة. كنّا على مقربة من العدوّ إلى درجة أنّهم كانوا سيلاحظون أدنى حركة نقوم بها، فكيف إذا مررنا من بين دشمهم؟
لم يكن هناك من مجال للبحث والجدل، بل كنّا دائماً ندعو الله أن يصدر محمود أمراً حتّى ننفّذه دون أيّ اعتراض. حتّى إنّنا كنّا مستعدّين لبذل أرواحنا. مع العلم أنّنا لو كنّا تلكّأنا قليلاً لكان ذهب بنفسه.
حمل «جواد سالارزاده» وشخصان آخران أسلحتهم وعتادهم وراحوا يدبّون على أيديهم وأرجلهم بين دشم الكمين. وبينما كانوا ذاهبين كنت أقرأ آية السدّ «وجَعلْنا من بين أيديهم سدّاً» بحضور تامّ وأهديها لهم، إلى أن غابوا عن ناظري تماماً.
اما البردُ فقد كان في تلك الليلة لا يحتمل، ولذا كنت أطلّ برأسي كلّ عدّة دقائق مستطلعاً الجهات من حولي منتظراً صوت إطلاق النار.
50
34
الهدف ٧؛ ناصر ظريف
كاد الفجر أن يطلع، ولم يصلنا أي خبرٍ عن جواد ورفيقيه. دنوت من محمود لأهمس في أذنه وأسأله: «ماذا سنفعل إن لم يأتوا؟» فوجدته
51
35
الهدف ٧؛ ناصر ظريف
نائماً، وكأنّنا لسنا على بعد خطوات من العدو: هكذا كان أيضاً في المواجهات، يقف راسخاً وثابتاً أمام زخّات الرصاص. فلا معنىللخوف عنده على الإطلاق. وفي أكثر ميادين الحرب حساسيّة، كان يتعاطى مع الموت كلعبة.
كنت أنظر إليه وإلى ما حوله، وإذا بصوت يتناهى إلى سمعي، حدّقت جيّداً، فإذا بهم عائدون. عندما وصلوا عرفت من هيئاتهم أنهم مسرورون .
قال جواد وهو يلتقط أنفاسه: «لقد تجمّعت قوّات الأعداء في تلك الناحية مثل النمل والجراد». فقال محمود الّذي كان قد استفاق: «فلتبقَ ساكتاً الآن إلى أن نبتعد من هنا».
رجعنا سالكين الطريق نفسها الّتي أتينا منها، وقد عم الضباب المكان فحجبنا عن أعين الأعداء، مع أن الصباح كان قد طلع.
ووصلنا إلى قاعدتنا مسرورين فقد أنجزنا عمل أربع إلى خمس ليالٍ من الاستطلاع في ليلة واحدة؛ وكنّا في ذلك مدينين لحضور «كاوه».
52
36
المنعطف الأخير؛ غلام علي أسدي
المنعطف الأخير؛ غلام علي أسدي
تعرّضت جادّة «بيرانشهر - سردشت» لكمائن كثيرة. وكانت هذه الكمائن تكثر وتزداد كلّما اقتربنا من غابة «آلواتان». لقد جسّد أعداء الثورة[1] الّذين كانوا قد تسبّبوا في بداية العمليات بأضرارٍ كبيرة، حكاية الحيّة الجريحة، حيث كانوا يستفيدون من كلّ فرصة،وينصبون الكمائن لقوّاتنا، لعلّهم بذلك يحولون دون التقدّم السريع للواء الشهداء الخاصّ.
ذات يوم، وعلى مقربة من غابة «آلواتان» وقعت مجموعة من قوّاتنا
[1] «أعداء الثورة» جماعات تشكلت عقب انتصار الثورة الإسلامية، وكانوا يعملون لصالح قوى خارجية وبتوجيه من المخابرات الأجنبية، وخاصة الأمريكية والبريطانية، تحت شعارات الاستقلال والحرية. وقد نشطت هذه المجموعات شمال وغرب البلاد. وكانتمنطقة كردستان واقعة في غمرة الأحداث هذه، وقد أُرسل «كاوه» إلى هذه المنطقة لحل هذه المعضلة والقضاء على هؤلاء العملاء.
53
37
المنعطف الأخير؛ غلام علي أسدي
في كمين. لم يكن بيننا وبينهم مسافة كبيرة، فقد كانت طلقات الرصاص يسمع صوتها بشكل واضح. أما «كاوه» فلم ينتظر آخر الأمر، وما لبث أن قال لـ«گنجي زادة»: فلنذهب ونستطلع الأمر!
أراد «بروجردي» أن يأتي معنا، ولم ينفعه إلحاح «كاوه» عليه بعدم المجيء، وفي النهاية رضخنا له فذهب معنا. جلس «گنجي زاده» خلف مقود الجيب واستدار استدارة واحدة. أمّا نحن الثلاثة أو الأربعة أشخاص الّذين كنّا على تواصل لاسلكيّ مع الإخوة في الكمين،فقد جلسنا في المؤخّرة. والغريب في الأمر كله، أننا عندما انطلقنا، لم يكن معنا أسلحة.
لم نكن نعرفُ عنهم شيئاً على الإطلاق، اللهم إلا أنهم على الطريق الذي كنا سلكنا أغلبه للوصول إليهم. كانت أصوات المواجهة تعلو كلّما اقتربنا أكثر، وما أن اجتزنا المنعطف الحادّ والخطر حتّى بدأ الرصاص ينهمر علينا. غَزُرَتْ النيران بحيث تيقّّنت أنّ أحداً منّا لنينجو.
كان واضحاً تماماً من سيّارة الجيب وهوائيات الأجهزة اللاسلكية أنّ سيارتنا هي سيّارة قيادية، وأنّ كلّ أولئك الجالسين في المقدّمة هم من القادة.
ركّز «گنجي زاده» حواسّه على قيادة الجيب، فظهر له على بعد مسافة قريبة ستّ أو سبع سيّارات إسعاف وتويوتا وآيفا متوقّفة
54
38
المنعطف الأخير؛ غلام علي أسدي
وراء بعضها البعض. كانت السيّارة الأقرب إلينا هي سيّارة الـ «آيفا» فاحتجبنا وراءها بسرعة. لم نكد ننزل من السيّارة حتّى أُصيبأحد اللاسلكيّين[1]. كما أصابت عدّة طلقات جهاز اللاسلكي الّذي كان يعمل أكثر من البقيّة، فانقطع عملياً اتصالنا بالإخوة الّذين كانوا في فوج «آباد».
كان حضور القادة في قلب المعركة يثلج قلوب الإخوة من ناحية، ويقلقهم من ناحية أخرى؛ يثلجها لحضورهم، ويقلقها خوفاً من أن يصيبهم مكروه لا سمح الله؛ لكن الوضع هذه المرة خطر جداً على غير عادة.
تمترس الإخوة بجانب من الطريق، وأخذ الأعداء ناحية أخرى، وأخذوا يطلقون النار من بين الأشجار والصخور، وما صعب الأمر علينا كثيراً تلك الرميات المتقنة التي كانت توجهها أيديهم وأعينهم بلؤم وخبثٍ.
كلّ جهودهم كانت منصبّة على أن لا يسمحوا لنا بالتقدّم خطوةً إلى «غابة آلواتان»، إذ إنّهم كانوا قد تلقّوا ضربةً موجعةً في ابتداء العمليات، ويريدون الآن حل تلك العقدة!
[1] عاملو الإشارة.
56
39
المنعطف الأخير؛ غلام علي أسدي
استطلع «كاوه» الأوضاع سريعاً ورجع وقال لـ «بروجردي»: «أرى أنّ هناك حلّاً، إذا أذنت، فإنّي أقوم به».
57
40
المنعطف الأخير؛ غلام علي أسدي
سأل بروجردي: «أيّ حلّ؟»
ردّ «كاوه»: «أن أذهب وأحضر الدوشكا».
تعجّبت كثيراً من كلامه. كانت الدوشكا في الناحية الأخرى من الجادّة على مسافة كيلومترين منّا. تبادل «بروجردي» و«گنجي زاده» النظرات، ثم قال «بروجردي»: «هذا الحلّ غير عمليّ، فإذا تحرّكنا من مكاننا فإنّهم سيرموننا بالتأكيد».
أجاب كاوه: «لا تقلق يا أخي؛ لقد فكّرت في الأمر جيّداً، وسيكون ممكناً إن شاء الله تعالى».
أحكم كاوه ربط حذائه العسكري، فهمس بروجردي قلقاً: «كيف ستعبر من أمام جميع...» فلم يمهله كاوه ليتمّ كلامه، وبنداء «يا علي» وثب من مكانه كلولب نطّاط ، بينما كان بروجردي يناديه حتّى لا يذهب، ولكن «كاوه» ابتعد مسرعاً.
كنت أظنّ أنّي في حلم، فـ«كاوه» يركض بسرعة مذهلة على الطريق والأعداء يمطرونه من كلّ جانب بوابل من الرّصاص. كانت الطلقات تصيب الجادّة فتثير الكثير من التراب والغبار، لكن أيّاً منها لم يصبه. لا أستطيع أن أقول عن ذلك سوى أنه لطف إلهيّ وعناية منالحقّ تعالى. في كلّ لحظة كنّا ننتظر إصابته برصاصة ووقوعه أرضاً، إذ بدا لنا أن الأعداء استخدموا كلّ أسلحتهم حتّى يمنعوه ويُردوه أرضاً.
58
41
المنعطف الأخير؛ غلام علي أسدي
لا أذكر أنّي رأيت «بروجردي» مرّةً غير هادئ وغير بارد الأعصاب، فقد كان ذا وجه محبّب، تعلوه الضحكة دائماً . وهذه ميزة عرفه بها الجميع. لكن هذه المرّة، تبدّلت حاله تماماً. كانت آثار القلق باديةً على وجهه، واستمرّ هذا القلق إلى أن وصل «كاوه» إلى المنعطفالأخير.
لم يزح بروجردي نظره عنه حتّى ولو للحظة. وعندما ابتعد كاوه عن مرمى نيرانهم، تنفّسنا الصعداء كونه خرج ـ على الأقلّ ـ من هذه المقتلة بسلام.
كان علينا أن نصبر حتّى يطلّ كاوه مع الدوشكا، ففي الواقع لم يكن بيدنا حيلة إلّا الصبر لأن الرصاص كان لا يزال يصبُّ علينا كالمطر! اقترب بضعة عناصر من العدوّ منّا كثيراً بحيث كنّا نسمع حتّى أصوات أنفاسهم. فقد ظنوا أنّ الأمر قد انتهى وكانوا يريدونأسرنا بسهولة. في هذه الحال، ظهرت سيارة الدوشكا. كان رامي الدوشكا يتقدّم وهو يطلق وابلاً من الطلقات. لم نصدّق أعيننا! فلم يطل الوقت حتّى تضعضعت أوضاع أعداء الثورة. كان كلّ واحد منهم يبحث عن سبيل للفرار. ولمّا اقتربت سيّارة الدوشكا منّي، رأيتكاوه واقفاً إلى جانب الرامي، يشير له بيده أين يرمي. لقد شكّلت نيران الدوشكا غطاءً جيّداً لنا فأمكننا تعديل الموقف مباشرة. وقد ذهبنا أكثر من ذلك، حيث استغلّ شخصان أو ثلاثة من الإخوة الفرصة، وقفزوا إلى تلك الناحية من الجادّة، فاعتقلوا ثلاثة أشخاص كانوايحاولون الفرار.
60
42
المنعطف الأخير؛ غلام علي أسدي
وما هي إلا فترة قصيرة حتى استشهد رامي الدوشكا، فوثب كاوه واعتلى المنصّة، وأخذ يرمي رمياً شديداً ودقيقاً. عندها عدت إلى نفسي، فرأيتهم جميعاً يرمون. ومن دون أيّ تأخير، تعقّبناهم، ولولا حلول الظلام لتعقّبناهم كظلالهم أينما فرّوا. عند حلول الظلام، أمرناكاوه بالرجوع. كنّا نعلم أنّ تعقّبهم في هذا الوقت يمكن أن ينتهي إلى غير مصلحتنا.
إنّ الرعب والخوف الّذي ذاقه العدوّ بعد هذه المواجهة المضادة للكمين، منعهم من التجرّؤ ثانية على نصب الكمائن لنا، حتّى على الجادّة الرئيسة.
62
43
الضباب الكثيف؛ السيّد حسن أميري هاشمي
الضباب الكثيف؛ السيّد حسن أميري هاشمي
في الخامس عشر من شهر رمضان (منتصف أيار عام ١٩٨٦م)، كانت الساعة تقارب الواحدة بعد الظهر، عندما جاء النداء بالتأهّب.
كان قائد كتيبتنا يقول: «إنّ البعثيين هجموا واحتلّوا ثانية مرتفعات ٢٥١٩»[1]. وكان يقول: «إنّهم يتقدّمون بطريقة مقلقة، وعلينا أن نقف سدّاً في وجههم ومن ثمّ نحرّر المرتفعات» .
وحيث كان لواء الشهداء الخاصّ دائماً على أهبّة الاستعداد لم يستغرق الأمر نصف ساعة حتّى ركبنا جميعاً الآليّات العسكرية، بكامل العتاد، وخرجنا فوراً من القاعدة.
[1] منطقة جبلية مرتفعة في محيط مدينة «حاج عمران». كانت من النقاط الحساسة بالإضافة إلى مجموعة تلال أخرى حيث جرت معارك عديدة بهدف السيطرة عليها.
63
44
الضباب الكثيف؛ السيّد حسن أميري هاشمي
وأمّا معنويّات الإخوة فكانت عالية، لأنّهم اشتاقوا للقيام بعمليات نوعيّة من جهة، ومن جهة أخرى فقد كانوا صائمين.
في ذلك اليوم، قرأنا الأدعية وتلونا الأذكار حتّى وصلنا إلى «بيرانشهر». وكانت الطريق خارج بيرانشهر تتعرّض لإطلاق نار كثيف من قبل الأعداء. كانت طلقات المدفعية والقذائف تتساقط وراء بعضها البعض. تقدّمنا بالسيّارات إلى حيث يمكن لها أن تتقدّم. وفجأةأصبح الوضع حسّاساً جدّاً؛ فالبعثيون كانوا قد أعملوا كلّ قواهم لاستعادة مرتفعات منطقة «الحاج عمران» الحسّاسة، مضافاً إلى مرتفعات ٢٥١٩.
«كاوه» يعرف تلك المنطقة جيداً مثل كفّ يده، وبمجرّد أن وصلنا، أخذ يوجّه قادة الكتائب. كان من المقرّر لكلّ كتيبة أن تدخل محور العملية من جهة محدّدة: فتدخل كتيبة الإمام علي(عليه السلام) من الجهة اليمنى، وكتيبة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) من الجهة اليسرى، وكتيبتنا الّتي كانتكتيبة الإمام الحسين(عليه السلام) تدخل من الأمام.
كانت فرحة الإخوة عامرة كون «كاوه» سيأتي معنا في كتيبتنا، فباشرنا التجهيز والاستعداد فوراً. كان الأعداء قد استعادوا مرتفعات ٢٥١٩ ونزلوا إلى الطريق المؤدّي إلى مرتفعات «كدو». كانت هجمات البعثيين دائماً على نسق واحد، وذات كيفيّة خاصّة بهم، فعندمايهجمون، يهجمون بكلّ طاقاتهم وقواهم،
64
45
الضباب الكثيف؛ السيّد حسن أميري هاشمي
يزرعون الأرض بنيرانهم وقذائفهم، وعندما يطمئنّون من أنفسهم أنّهم حصدوا كلّ شيء، تباشر فرق المشاة عملها. وهنا يبدأ عمل قوّاتنا الّتي تحوّل نهارهم ليلاً، وتصطادهم الواحد تلو الآخر. في ذلك اليوم، بمجرّد أن رأونا لاذوابالفرار. ومضافاً إلى الخسائر الفادحة الّتي ألحقناها بهم، فقد أجبرناهم على الانسحاب إلى ما وراء قمّة «كدو». أصرّ «كاوه» أنّه علينا أن نستعيد مرتفعات ٢٥١٩ بأسرع وقت ممكن. وكانت نظرته هذه ناشئةً من تدبيره العالي في الأمور العسكريّة. فالعدوُّ إن وجد مجالاًلتثبيتِ قدمه، فإنّه سيذهب بوحشيّته إلى حدودها القُصوى، ليمطر «بيرانشهر» بنيرانه شبراً شبراً. كاد الظلام يحلّ، ولم يكن أمامنا سوى أن نبيت ليلتنا في إحدى القواعد، وهكذا فعلنا.
في الصباح قمنا بشنّ هجومٍ على خطِّ الأعداء. كانت آمال الإخوة معلّقة على هذه الكتيبة نفسها، فلو شقّّت الطريق، ونجحت في اجتياز معقل العدوّ المحكم، لانتهى كلّ شيء.
حينها سنتمكن من إكمال العمليات. تلك المهمة الخطيرة والمحفوفة بالمعيقات أوكلت إلينا، فأحسسنا جميعاً بحجم المسؤولية الكبيرة الملقاة على عواتقنا، إلى درجة ان «كاوه» يتبعنا خطوة بخطوة. أثناء التحرّك، أطلّ أحد الإخوة من آخر الرتل وقال: «الأعداء يصعدون منالمنخفض على الجهة اليمنى إلى الأعلى». ركّز «كاوه» نظره باتّجاه الأصوات الّتي كانت تأتي، وفجأة صرخ شخص آخر وقال:
65
46
الضباب الكثيف؛ السيّد حسن أميري هاشمي
«بعثيون، بعثيون، هنا داخل القناة».
بمجرّد سماع هذا الخبر استدرنا إلى الوراء وتموضعنا في ذلك المكان. لم يكن هناك من مسافة بين القناة وقمة المرتفع، فبوثبة واحدة كان يمكنهم الوصول إلى المرتفع. لقد كانت خطّتهم مدروسة جيّداً. فقد اختاروا تلك المنطقة، لأنّهم إذا نجحوا، يمكنهم من خلالالاستعانة بقوّات أخرى وبالاستفادة من الموقع، أن يحاصرونا.
كانوا قد اقتربوا منّا كثيراً، بحيث كنّا نراهم بسهولة، فبدأت المواجهة المباشرة بيننا وبينهم من مسافة عشرة أو عشرين متراً. لقد وصل الأمر إلى حدّ أصبحنا نتبادل رمي القنابل اليدوية. ورأيت كاوه بأمّ عيني عدّة مرّات يلتقط القنابل الّتي كان البعثيون يرمونهاباتّجاهنا ويعود فيرميها عليهم. هذا الفعل الخطر يتطلّب شجاعة ومروءة كبيرتين، وهو قطعاً لا يصدر عن أيّ كان.
أوّل الأمر أخرجناهم من القناة، وبالتالي وقعوا في الكمين، وكنّا مسيطرين عليهم تماماً.
لاذ البعثيون - الّذين لم يكونوا يحسبون أنّهم سيتلقّون مثل هذه الضربة القاضية - بالفرار. كنّا أحياناً لجهة التكتيك، وأحياناً أخرى لجهة الاقتصاد في الذخيرة، نقلّل قدر الإمكان من إطلاق النيران. وهذا كان يجعلهم يحسبون أنّنا انسحبنا، وعندما كانوا
67
47
الضباب الكثيف؛ السيّد حسن أميري هاشمي
يأتون ثانية كنّاننزل البلاء على رؤوسهم كالمرّة السابقة، ولكنّهم أيضاً لم يكونوا يتخلّون عن المواجهة. وكأنّ قادتهم كانوا قد أجبروهم على دخول القناة بأيّ ثمن كان، وهكذا لن ينجو أيّ منّا بروحه.
لولا تدابير كاوه المتقنة والّتي أتت في وقتها، لأبادونا من البداية. فمع انبلاج الفجر كانت ذخيرتنا أشرفت على النفاد. وكان علينا القتال بذلك الكمّ القليل حتّى تصل قوّة الدعم. بالطبع، لو لم تكن لدينا مشكلة في الذخيرة لكنّا حمينا المرتفع من دون حاجة إلى فرقة الدعم.واللافت أنّ «كاوه» كان في هذه الأوضاع المقلقة، يشدّ من عزيمتنا ويقول: «لا تقلقوا إن نفدت ذخيرتنا فها هنا الكثير من الحجارة».
كنّا قد انتشرنا في القناة اتّقاء شر الشظايا؛ شظايا القنابل؛ بينما «كاوه» كان يتنقّل من جهة إلى أخرى دون الاعتناء بأمر الشظايا المتناثرة من حوله، ويعطي التوجيهات اللازمة. أحياناً كان إطلاق النيران يزداد كثيراً إلى درجة يتلاشى صوت «كاوه» بينها.
لقد ساهم حضور «كاوه»، بشكل حتميّ، في تلك الأوضاع الحرجة والدقيقة، في تماسك الإخوة في الحفاظ على معنويّات كلّ فرد منهم. ولو لم يكن إلى جانب الإخوة كتفاً إلى كتف، لكان، قطعاً، قصّر الكثير منّا.
68
48
الضباب الكثيف؛ السيّد حسن أميري هاشمي
فجأة، أقلقني دويّ انفجار قنبلة خلف القناة، في نفس المكان الّذي كان «كاوه» موجوداً فيه. أذكر أنّني صرخت من أعماق أعماقي «يا حسين»، ثمّ ركضت بكلّ سرعتي إلى مكان الانفجار. رأيت شخصاً رأسه ووجهه ملطّخان بالدماء، وعندما عرفت أنّه «كاوه»، كدتأُصاب بسكتة قلبيّة. قفزت إلى أن وصلت إليه. والأمر الذي صدمني إلى حد البكاء أنّه كان يقول والدماء تسيل من رأسه: «قاتلوا، قاتلوا».
وصل مسعف الكتيبة فوراً، وضمّد رأسه. عدت إلى مكاني، لكنّ قلبي كان معه. لم يكن هذا حالي فقط، بل كلّ الإخوة كانوا قلقين عليه. كانت سلامته هامّة جدّاً بالنسبة إليهم، إلى درجة نسوا أنّ عدوَّاً يقصفهم في تلك الأثناء بوابل من الرصاص ويرميهم بالقنابل. وفي ظرفعشر أو عشرين دقيقةً، وقف «كاوه» على رجليه، ولم يقبل بأن يُنقل إلى الخطوط الخلفية. لكنّ حاله كانت تزداد سوءاً في كلّ لحظة، إلى أن خارت قواه. وكان البعثيّون كلما أمعنّا فيهم قتلاً وفتكنا بهم ازدادت أعدادهم! ظلّ الإخوة يقاومون، وكان علينا أن ننهيمأموريّتنا. في تلك الأوضاع، كان الحفاظ على سلامة كاوه أهمّ من كلّ شيء، حملته والرفاق من تحت إبطيه ونقلناه إلى الوراء. بذهاب كاوه، أصبحت كلّ الأمور بعهدة قائد الكتيبة، الّذي كان عليه أن يلملم الأمور المقلوبة رأساً على عقب. وحيث إنّ الشظيّة كانت فيرأس كاوه، بدأ وجهه يصفرّ، مع ذلك كان يحاول الضحك. أذكر أنّه كان يوصي ويكرّر قول: «دافعوا عن
69
49
الضباب الكثيف؛ السيّد حسن أميري هاشمي
القناة ولا تسمحوا للعدوّ أن يتقدّم»، إلى أن وصلنا إلى المكان الذي ينبغي نقله إليه.
وفيما كنّا ننقل كاوه إلى الوراء، غطّى المنطقة ضباب كثيف، بحيث لم يعد بإمكاننا أن نرى أمامنا على مسافة أربعة أو خمسة أمتار. جاء هذا الضباب لصالحنا إلى حدّ كبير، حيث منع العدو من رؤيتنا. وجود الضباب في مثل ذلك الفصل من العام شكّل سابقة لا مثيللها. كان يكفي أن يرونا بشكل واضح حتّى يرمونا بالرصاص فلا يذروا منّا أحداً. في ذلك اليوم، نقلنا «محمود» إلى المنطقة الّتي يمكن فيها لسيارة الإسعاف أن تقترب. لم أكن أودّ أن يفارق نظري على الإطلاق. ربّما لو كان أخي هو المنقول على النقّالة، لما كنتشعرت بمثل هذه الحال. عندما أصيب كاوه، توقّفت عمليات استعادة مرتفعات ٢٥١٩، وكان لزاماً علينا نحن أن نحمي مرتفعات «كدو».
كنّا في الجبهة حين عاد. كان حليق الرأس، وكانت تُرى في رأسه وبوضوح مواضع الشظايا، الكبيرة منها والصغيرة، الّتي كانت تتراوح بين ١٠ و١٢ شظيّة. لعلّه لم يكن شيء في تلك الأوضاع، يمكنه أن يمدّ الإخوة بالطاقة والقوّة مثل رؤيته. لقد عمّت الفرحةالجميع، وكأنّ روحاً جديدة حلّت فيهم بمجيئه. الجميع كانوا على علم بأنّ الأطبّاء منعوه من المشاركة في العمليات إلّا إنّه لم يعطِهم أُذُناً صاغيةً.
عودة كاوه ثانيةً، كانت تعني الاستعداد للعملية المقبلة!
71
50
اللقاء الأخير؛ طاهرة كاوه
اللقاء الأخير؛ طاهرة كاوه[1]
كان قد أُصيب بنحو ١٢ شظيّة صغيرة وكبيرة في هجوم «الحاج عمران». وقد أُدخل إلى مستشفى الإمام الحسين(عليه السلام) في مشهد من أجل الاستشفاء. اخترقت بعض الشظايا أماكن حسّاسة في رأسه، بحيث لم يستطع الأطبّاء إخراجها. وقد اجتمع رأيهم على أمر واحد وهوأن لا إمكانيّة لإجراء العملية له في إيران، لعدم توافر الوسائل والأدوات آنذاك! لم يكن محمود ليقبل أبداً في أوضاع الحرب تلك، بأن يسافر إلى الخارج للعلاج. أذكر أنّ أبي سأل الأطبّاء: «أليس هناك أيّ طريق للعلاج؟»
قالوا: «فقط، عليه الاستراحة مهما أمكنه» .
هذا الأمر لم يكن متيسّراً له حتى أيّام وجوده في المستشفى.
[1] أخت الشهيد
74
51
اللقاء الأخير؛ طاهرة كاوه
فعندما علم الناس بإصابته، كانوا يأتون كلّ يوم لعيادته حاملين معهم باقات الورد والهدايا المختلفة. واللافت هنا، أنّ كلّ واحد منهم كان يودّ أن يقبّل «محموداً» ويطلب منه أن يتحدّث إليه.
كانت هذه الزيارات تتعبنا نحن الأصحّاء، فكيف بمحمود! لكنّ العجب أنّه لم يكن يكلّ ولا يملّ. وفي كلّ مرّة كانت تدخل مجموعة إلى غرفته، كان يتعاطى معها ببرودة أعصاب تامّة، ويقصّ عليها ثانيةً ما جرى معه. يمكنني القول، وبجرأة، إنّ مستشفى الإمام الحسين(عليه السلام)الّتي كانت في ذلك الوقت غريبة وغير معروفة، أصبح لها رونق آخر، وأضحت مكاناً لاجتماع النساء والرجال، الشيب والشباب، الأمر الّذي كان في الحقيقة مدعاةً للعجب.
كان محمود بالرغم من إصابته البالغة، والقيود الّتي وضعها له الأطبّاء، يستقبل دائماً جميع الزوّار بهدوء وببسمته العذبة المعهودة. يومذاك كان منزلنا قريباً من المستشفى، وكنت أقضي معظم وقتي هناك. كنت قد أوقفت نفسي لخدمته من كلّ قلبي، ولأهتمّ بغذائهبالمقدار الّذي كان الأطبّاء يسمحون به. صباحاً، آخذ له الحليب البلدي ومخلوط صفار البيض والتمر وسوائل أخرى دافئةً. فكان يقول بخجل في كلّ مرّة: «لا تخجليني يا أختاه، لا أريد أن أتعبك»، وكان يشكرني كثيراً.
75
52
اللقاء الأخير؛ طاهرة كاوه
في يوم من الأيّام وفيما كنت أحمل له طعاماً قال: «طاهرة، قلّلي من زياراتك إلى هنا!» قلت: لماذا؟
قال: «بالنهاية يوجد هنا رجالٌ من غير محارمنا، وهذا الأمر ليس جيّداً.»
بالطبع، كان لكلامه سببٌ آخر، فعندما كنت أذهب إلى هناك، لم يكن الإخوة الّذين كانوا يأتون لزيارته يأخذون راحتهم.
كانت تلك الأوقات الّتي يُجبر فيها على المكوث عدّة أيّام في مكان واحد، تُمثِّلُ الفرصة الوحيدة للقائنا به. قلت بانزعاج: «لا يمكننا رؤيتك جيّداً في أيِّ وقتٍ سوى على سريرِ المستشفى، حتَّى هذه الفرصة تريد أن تحرمنا منها؟!»
والسبب الآخر لطلبه هذا هو أنّه لم يكن يحبّ أن نلازمه كثيراً، كي لا يزداد تعلّقنا به. رغم كلّ هذا الكلام، لم أتوقّف عن زيارته! ومع أنّي قلّلت من زياراتي نهاراً، إلّا أني كنت أعوّضها ليلاً.
ذات ليلة لم أحتمل البقاء في البيت وهو يعاني في فراش المرض. قرّرت أن أذهب إلى المستشفى لأطمئنّ إلى حاله. اختلقت في نفسي عذراً، حتّى إذا سأل عن سبب مجيئي، يكون جوابي حاضراً. ذهبت، وما إن وصلت إلى القاعة حتّى قال السيّد يوسفي ممرّض محمود: «كان السيّد كاوه متألماً جدّاً وكان
76
53
اللقاء الأخير؛ طاهرة كاوه
يتلوّى من الوجع، لقد حقنّاه بإبرة مسكّنة، وهو الآن نائم، الأفضل أن لا تدخلي».
اقتنعت، ولكنّني لم أحبّ أن أرجع خالية الوفاض. قلت للسيّد يوسفي: «لكن لو سمحت، حبّذا لو تترك مصراع الباب مفتوحاً بعض الشيء، حتى أنظر إليه من هنا».
كان هناك مصباح خافت مضاءٌ في غرفته، يمكن من خلاله رؤية محمود. كان ممدّداً باتّجاه القبلة. أمعنت النظر قليلاً، ظننت أنّه يتكلّم مع شخصٍ ما، لكن ما من أحد كان إلى جانبه. دقّقت أكثر لأسمع ما يقول، لم أستطع. أثار ذلك فضولي، فتقدّمت قليلاً. وبينما أنا أنظرإليه من فتحة الباب عرفت أنّه كان يصلّي. وكأنّه أيضاً كان يبكي بهدوء. غبطته كثيراً على روحيّته الّتي لا توصف. غصتُ في بحر من الأفكار، ولا أعلم كم مضى من الوقت على ذلك. وعندما عدت إلى حالي، رأيت محموداً وقد رفع رأسه وهو ينظر إليّ! سألني: «طاهرة، ماذا تفعلين هنا؟ ومع من أتيتِ؟»
في البداية، تسمّرت في مكاني، ولكن عندما رأيت أنّه قد حدث ما حدث، دخلت وقلت: «اشتقت إليك وجئت لأطمئنّ إلى صحّتك».
كأنّه امتعض قليلاً حيث قطعت خلوته. ضحك وقال: «اذهبي إلى البيت، صحّتي جيّدة». عمّني اطمئنان عجيب جرّاء تلك اللحظات القليلة، ومدّتني روحيّته العالية بجرعة كبيرة من المعنويّات، حيث أذكر أنّني
77
54
اللقاء الأخير؛ طاهرة كاوه
في تلك الليلة قضيت الطريق من المستشفى إلى البيت فيحالة بكاء لا إرادي.
مكث عدّة أيّام في مستشفى الإمام الحسين(عليه السلام). وقتذاك، كان والدي ورفاقه المجاهدون يرتّبون الأوضاع لسفره إلى إحدى الدول الغربيّة من أجل العلاج، لكنني لم أكن أعلم سبب مسارعتهم إلى ذلك.
ذات يوم، كنت جالسة في البيت، وإذا بالباب يُطرَق، وما إن فتحته حتّى تسمّرتُ في مكاني! كنت أتوقّع رؤية أيّ شخصٍ سوى محمود، برأسه الحليق والمضمّد أيضاً. كانت تجاويف عينيه وضعف جسده لافتة للنظر، فاسترسلت لا شعوريّاً في البكاء. قلت بصوتمتهدّج: «كيف أتيتَ وأنت على هذه الحال؟ كان عليك البقاء في المستشفى والاستراحة لعدّة ليالٍ أُخر».
قال: «الدنيا ليست مكاناً للراحة، ينبغي أن أذهب إلى عملي في اللّواء، لديّ أعمال كثيرة تنتظرني».
كان من الواضح أنّه على عجلة للذهاب. قال: «الحقيقة يا أختاه، أنّك جعلتني مديناً لك هذه الأيام».
قلت: «لِمَ»؟ قال: «لكلّ هذه الزيارات والجهود». بكيت ثانية وقلت: «حقّك علينا أكبر من هذا بكثير». قال: «على كلّ حال كان عليّ المجيء لأشكرك». وما إن شرعنا بالحديث حتّى فهمت أنّ قراره بالذهاب
78
55
اللقاء الأخير؛ طاهرة كاوه
جدّيّ، وأنّه لم يستسلم لضغوط السفر إلى الخارج للعلاج.
قلت: «أخي، أتظنّ أنّك تقوم بالعمل الصائب»؟
قال: «ينبغي للإنسان في كلّ الأوضاع أن يعرف ما هو تكليفه».
قلت: «أنت لا تفكّر في نفسك على الإطلاق، وإنّك تظلمها مع هذه الشظايا في رأسك».
قال: «عليّ أن أؤدّي تكليفي، والأمور الأخرى يصلحها الله».
قلت: «حسناً، والآن، لِمَ لا تريد أن تسافر إلى الخارج»؟
قال: «أوّلاً، البعثة إلى الخارج تكلّف الدولة نفقات هائلة، ولست مستعدّاً لأن أكلّف الجمهوريّة الإسلامية ريالاً واحداً. وثانياً، قلت إنّه ينبغي أن أعرف ما هو تكليفي».
وأيضاً لم أستطع أن أمسك نفسي عن البكاء. عندما رآني أبكي قال: «الأمر لا يستدعي كلّ هذا القلق، فبالنهاية لهذه الشظايا علاج، نضع عليها مغناطيساً، فتخرج بنفسها».
79
56
اللقاء الأخير؛ طاهرة كاوه
ضحك السيّد خرّمي والشخصان اللّذان كانا برفقته لكلامه، لألتفت إلى أنّه يمزح. بعدها غيّر موضوع الحديث بلطف ولباقة. ولكنّني لا أعرف لِمَ ضقت ذرعاً وقلّ صبري. يومها، عند الوداع ، أحسست بشعور غريب. لا أعرف لِمَ لَمْ أكن أودّ أن أُفارقه. ذهب محمود على تلك الحال إلى الجبهة، وكان ذلك آخر لقاء معه.
الحمد لله ربّ العالمين
80
57
وضع مضطّرب؛ حجّة الإسلام على أصغر موحّدي
وضع مضطّرب؛ حجّة الإسلام على أصغر موحّدي
كنت حينها قائداً للحرس في خراسان، المنطقة الرابعة. ومنذ اللحظة الأولى الّتي سمعت فيها بالخبر، قلقتُ وفقدت صبري، فمحمود قد أصيب إصابة بالغة في منطقة «الحاج عمران».
كنت حينها في مشهد. ومهما صبرت لم يكن قلبي يطاوعني على البقاء فيها. وبالرغم من مشاغلي الكثيرة، إلّا أنّ محبّتي لمحمود من جهة، وحاجة كردستان لوجود أمثاله من جهة أخرى، ضاعف أهمّية الأمر بالنسبة إلي. وهذا ما جعلني في اليوم نفسه استقلّ طائرة منطائرات الحرس قاصداً تبريز. ومن المطار قصدت فوراً المستشفى الّتي كان محمود يرقد فيها.
وما إن وقع ناظري عليه، حتى انقلبت أحوالي فاستسلمتُ لمشاعري.
81
58
وضع مضطّرب؛ حجّة الإسلام على أصغر موحّدي
فرؤية أسد جبال كردستان في تلك الحال على سرير المستشفى، كان واقعاً مدعاةً لانقلاب الحال. مضافاً إلى الجروح الأخرى، كانت الشظايا العديدة الّتي أصابت رأسه تحكي الخطر الّذي كان يحيطبه ويواجهه.
ومع أنّ الأطبّاء هناك لم يقصّروا في شيء، لكنّني ارتأيت أن ننقله إلى مشهد، حتى نتمكّن من الاهتمام به بشكل أفضل. عملت جاهداً حتّى أخذت موافقة المسؤولين على نقله من تبريز إلى مشهد. هيّأ الأطبّاء المقدّمات اللازمة لنقله، ومراعاةً لحاله، أحضرنا معهطاقماً طبّياً ونقلناه إلى مشهد.
هناك، سعينا إلى أن نحضر أفضل الأطبّاء للإشراف على علاجه. وقد شُكّل لهذا الأمر فريقٌ ذو خبرة عالية. وبعد المعاينة الدقيقة له، طرح فريق الأطبّاء الموضوع للبحث، وتباحثوا فيه لساعات. بعد انتهاء الجلسة، كان رأي الأطباء أنّه إذا ابتعد السيد كاوه عنالضغوط والاضطراب، وقلّل من حركاته الجسديّة، فسوف يقلّ احتمال الخطر.
مكث مدّة في مستشفى القائم، وفترة أخرى قضاها في مستشفى الإمام الحسين(عليه السلام). وشيئاً فشيئاً تحسّنت حاله بشكل عامّ. وفي النهاية، عندما شخّص الأطبّاء أنّ الشظايا الّتي في رأسه لا يمكن إزالتها، واقترحوا إرساله إلى الخارج ولم يقبل، خرج من المستشفى.
82
59
وضع مضطّرب؛ حجّة الإسلام على أصغر موحّدي
كان عليه أيضاً الاستراحة لفترة طويلة حسب رأي الأطبّاء المؤكّد. وقد أوصونا جميعهم بأن لا نسمح له بالقيام بأيّ جهد أو نشاط.
وهل يُمكن لرجل الجبال والوديان أن يبقى حبيس البيت؟ وحيث كنت أعلم أنّه لن يعطي أُذناً صاغية لهذه الإرشادات وأنّه سيقوم بتكليفه في كلّ الظروف، فقد وظّفت نفسي لمرافقته دائماً، عساني بذلك أحدّ من تحرّكاته. حتّى إنّي كنت أرافقه في كثير من البرامج الّتيكان الإخوة المجاهدون ينظّمونها له، وكنت أحرص على أن لا يحيد عن التعليمات الّتي وضعها له الأطبّاء.
كنت كغيري من المسؤولين الآخرين، أعتبر «كاوه» كنزاً قيّماً من كنوز الثورة الّتي يجب حفظها. وكنت أعتبر هذا الأمر واجباً بالنسبة إلي، وعلى هذا الحساب، وُفّقت من خلال متابعتي وإصراري، في إبقائه بمشهد مدّة خمسة عشر يوماً.
كان قد بقي أسبوع على موعد عمليات كربلاء- ٢- وقد سادت أجواء حماسية ومعنوية في مقرّ حرس مشهد. كان قد جُهّز عدد من قوّات الكوادر والتعبئة لنقلهم في طائرة ٧٠٧ إلى مقرّ اللّواء في مهاباد.
في تلك الليلة، حيث كانت القوّات في المطار تستعدّ للطيران، كان محمود مدعوّاً إلى ضيافتي. كان على غير حاله، منذ أن أتى إلى منزلي. كانت نظراته مفعمة
83
60
وضع مضطّرب؛ حجّة الإسلام على أصغر موحّدي
بالأمل والرجاء، رجاء كنت استطيع التنبّؤ بالذي يسببه. أخيراً، وفي حدود الساعة العاشرة ليلاً، باح بمكنونات قلبه وقال: «مولانا، اسمح لي أن أذهب أيضاً على متن هذه الطائرة».
قلت مباشرة: «لا تتكلّم معي بهذا الموضوع على الإطلاق».
قال: «لما يا سيّدي؟»
قلت: «هذا لا يحتاج إلى سؤال، سيّد محمود. وضعك الصحّي لا يسمح بذهابك إلى الجبهة، وأنت نفسك تعلم جيّداً رأي الأطبّاء».
سكت محمود، وعندما أنهينا تناول العشاء ورُفعت السفرة، عاد وفتح الموضوع ثانية وقال: «مولانا، لن يهدأ لي بال إلّا بالذهاب، اسمح لي بذلك».
كنت أعلم أنّ كلّ تفكيره كان في مسألة الطائرة وبالإخوة الّذين كانوا يستعدّون للرحيل. كان عليّ أن أقول شيئاً أقطع به أمله من الذهاب. وضعت إصبعي على الجرح، ألا وهو مسألة إطاعة الأوامر العليا الّتي كان يتقيّد بها كثيراً. قلت: «إذا كان إذني شرطاً لذهابك،فإنّي أقول لك وبكلّ تأكيد، إنّني لا آذن لك».
تجهّم وجهه.. تابعتُ: «أنا قلت رأيي، والآن، إذا أردت الذهاب، فهذا بحث آخر، لكن اعلم أنّ ذهابك ليس بأمرٍ
84
61
وضع مضطّرب؛ حجّة الإسلام على أصغر موحّدي
تنظيميّ، وعليك عندها العمل خارج نطاق العمل التنظيميّ».
كان يمكنك أن تقرأ اليأس في عينيه. طأطأ رأسه ولم يتفوّه بكلمة بعدها. في الحقيقة، كنت في تلك اللحظات أجيل الأمر في فكري، كنت أعلم ماذا يعتمل في قلبه، وكان من الصعب عليّ أن أمنعه من الذهاب، لكن، من الناحية الأخرى، كنت أرى أنّه لا حيلة لديّ. وبينماكنت غارقاً في هذه التخيّلات والأفكار، رنّ جرس الهاتف. رفعت السمّاعة، كان مسؤول القوّة المبعوثة إلى الجبهة. قال: «أنا الآن في المطار، والطائرة تستعدّ للإقلاع، اتّصلت لأرى إن كان من أمر أو شيء تريده».
قلت: «لا تتحرّكوا».
كان من المقرّر أن أذهب أنا وبعض الأشخاص الآخرين في اليوم التالي إلى أرومية لعلّنا نسدّ الفراغ الّذي خلّفه كاوه.
وضعت السمّاعة، وما إن عدت إلى مكاني ووقعت عيناي على محمود، حتّى رأيت مشهداً أحدث فيّ تغييراً. كانت عينا محمود مبتلتين بالدموع، وكان محزوناً جدّاً ويبكي بهدوء. تعجّبت كثيراً وقلت: «لِمَ تبكي يا أخ محمود؟»
85
62
وضع مضطّرب؛ حجّة الإسلام على أصغر موحّدي
فقال: «سيّدي، كيف أكون قائداً وأرضى أن تواجه قوّاتي الرّصاص والنيران، فيما أنا قابع في مشهد أستريح؟»
تركت كلماته تلك، ومنظره المحزن أثراً كبيراً في نفسي، فتجمّعت الدموع لا إراديّاً في عينيّ، وانقلبت حالي رأساً على عقب. أحسست أنّني إن حلت بينه وبين الذهاب، قد أرتكب ذنباً لا يُغتفر، خاصة أنّه أظهر هذه الحال من انكسار القلب. والآن، ها أنا ذا من كانيجب أن يشدّ عليه الوثاق أمام معضلة عويصة. قلت له: «أنا لم أعد أعارض ذهابك، لكن بشرط». ما إن تفوّهت بهذه الكلمات حتى انفرجت أساريره، قال فرحاً: «ما هو سيّدي؟» قلت: «أن تعدني أن تنتبه إلى نفسك هناك» .
مسح دموعه وضحك. سعادته في تلك اللحظات، كما حزنه وبكاؤه قبلها، كانت بنظري تحتوي شيئاً من الطرافة والطراوة.
كان من المقرّر أن يوصله أخي أحمد إلى المطار. عندما أردت أن أُسلّم مفاتيح السيّارة إلى أحمد، مدّ محمود يده وقال: «أعطني إيّاها».
قلت: «من الأفضل أن لا تقود».
ولمّا ودّعني وذهب نحو السيّارة، أشرت إلى أحمد أن ينتظر. في الواقع، رغم أنّي وافقت على ذهاب محمود، لم أكن أدري لِمَ لم أكن أودّ أن يذهب هذه المرّة إلى
86
63
وضع مضطّرب؛ حجّة الإسلام على أصغر موحّدي
الجبهة، ولهذا همست في أذن أحمد قائلاً: «سر ببطء مهما أمكنك حتّى لا يصل محمود إلى الطائرة».
ذهب أحمد، وعاد بعد نحو الساعتين منزعجاً جدّاً وخجلاً.
سألته: «ماذا حصل»؟
قال: لا شيء، ذهب.
قلت متعجّباً: أَوَلم تَسِرْ ببطء؟
قال: عندما انطلقنا، حاولت أن أقود بشكل عاديّ وبهدوء حتّى لا يصل كاوه إلى الطائرة، ولكنّه كان يقول لي: «أسرع، أسرع».
وعندما وصلنا إلى أمام منزله، قفز من السيّارة فوراً، وذهب ليحضر حقيبته، بحيث خفت أن يصيبه مكروه. ولمّا عاد قال بصلابة: «تنحَّ جانباً».
قلت: لِمَ؟
قال: «لأنّني أريد أن أقود بنفسي». قلت: ولكنّك وعدت سيدنا بعدم القيادة.
قال: «هذا الكلام كان ساري المفعول من منزل سيدنا إلى هنا، وقد رأيت أنّني لم أجلس وراء المقود، وكنت
87
64
وضع مضطّرب؛ حجّة الإسلام على أصغر موحّدي
حزيناً جرّاء ذلك وأغلي من الداخل، والآن، تنحَّ جانباً».
في الواقع، لقد أظهر هيبةً عظيمة بحيث لم أجرؤ على مخالفته. ترجّلت من السيّارة مجبراً وجلس هو خلف المقود. داس بشدّة على دوّاسة الوقود، فطارت السيارة من مكانها وانطلق بسرعة فائقة.
دخلنا من مستديرة إلى شارع المطار، وبعدها دخلنا من ناحية «پافيون» إلى محيط المطار. كانت سلالم الطائرة قد رُفعت، وكانوا يغلقون بابها. حين وصلنا، أوصل محمود السيّارة إلى الطائرة بأقصى سرعة. كان مسؤلو الرحلة يعرفون «كاوه»، فأمروا ثانية بوصلالسلالم بالطائرة، وفي النهاية كُتب له الذهاب في رحلة لا عودة منها!
88
65
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
مثل الشهيد «قمّي»؛ علي تشناري
كانت الساعة ما بين الثالثة والرابعة عصراً؛ اليوم الأوّل لعمليّات (كربلاء ـ ٢)، حيث لم يكن عَرَقُنا ـ وطبق القول المعروف ـ قد جفّ بعد، وقف «مجيد إيافت» أمام دشمة أمن العمليّات وقال: «استعدّوا أيها الإخوة، اليوم سنهجم ثانية على الخطّ».
كان هذا الخط هو مُرْتَفع (٢٥١٩). ونظراً لكون الوضع هناك قد تعقّد كثيراً الليلة الماضية، فقد علت أصوات الجميع اعتراضاً. قال إيافت: «هذا أمر قائد اللواء، وقد أمر بحضور الجميع في المقر». أراد الإخوة أن يذكروا العقبات الّتي تعترضهم في الطريق لذلكالمرتفع، لكنّ إيافت لم يدع لهم مجالاً لذلك وقال: «يمكنكم أن تقولوا هذا للأخ محمود نفسه».
89
66
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
ومباشرة انطلقتُ برفقة ستّة أو سبعة أشخاص من الوحدة باتّجاه مقرّ العمليات. كانت قد حضرت قوّات أخرى غيرنا، من التخطيط والعمليّات، والتخريب والاتّصالات. وما إن دخلنا حتّى افتتح كاوه الجلسة. عندما رأيت أنّ البحث في هجوم الليلة جدّيّ، تكلّمت بشيءمن الاعتراض على هذا القرار، كوني شاركت فرق الاستطلاع الّتي كانت قد ذهبت الليلة الماضية مع الكتائب حتى النهاية، وقبل ذلك، كنت قد استطلعت المنطقة بشكل دقيق. وأدلى كلّ واحد من الإخوة الآخرين بدلوه؛ فقال أحدهم: «اختراق هذا الخطّ صعب للغاية»وقال آخر: «المحور مسدود، لا يمكن أن نقتحم خطّهم على الإطلاق؛ وخاصّة الليلة، فهم أيضاً أكثر استعداداً».
كانت كلّ هذه الكلمات صحيحة. لم نكن نشكّ أن جميع الطرق مسدودة.
كان كاوه ينظر إلى الأرض ويستمع إلى كلام الإخوة بحالة خاصّة من التأمل والتفكير. وعندما سكت الجميع، رفع رأسه وقال: «كنت البارحة أستمع إلى كلامكم من خلف جهاز اللاسلكي، وإنّني على معرفة تامّة بما يجري، أعلم أيضاً صعوبة المهمّة، كما أعرف مرتفعات٢٥١٩، ولكن مع كلّ هذا ، فإنّ السيّد شمخاني قد أصدر أوامره للهجوم ثانيةً».
سكتَ للحظات وراح يحدّق في نقطةٍ ما، ثمّ تابع بحالة من
90
67
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
التفكير قائلاً: «حيث إنّه لا يمكننا استطلاع طرق أخرى، ينبغي العمل على المحاور الّتي عملنا عليها الليلة الماضية». صار الجميع ينظرون إلى بعضهم بعضاً نظرات ملؤها التعجّب والاستغراب، وهمس بعضهمفي آذان بعضهم الآخر؛ فهذا الأمر كان يبدو لهم غير منطقيّ.
قال كاوه: «عندما يصدر قائدٌ أمراً بتنفيذ عملٍ ما، يجب أن ينفّذ؛ فإن قبِلناه واقتنعنا به بالدليل والمنطق كان به، وإن لم نقتنع فعلينا التنفيذ فحسب». ثمّ قال: «هيّا، قوموا الآن واستعدّوا».
عند انتهاء الجلسة نطق بعبارة ارتجفت لها قلوب الجميع فقال: «أنا أيضاً سآتي معكم الليلة».
كان الجميع يعلم أنّ «كاوه» لم يكن ليرضى بالبقاء ليلة العمليّات في المقرّ، فيما تتعرّض قوّاته للنيران. مع أنّ المقرّ الّذي كان تحت إمرته لم يكن بعيداً عن الخطوط الأمامية، وأنّ أفراده قد يُستشهدون بسقوط أوّل قذيفة، ولكنّ ذلك الرجل الشهم لم يكن ليرضى بذلكأيضاً.
وما إن انتهت الجلسة حتى هبّ الجميع معترضين على ذهابه. وقد لفت نظري في الجلسة تلك الليلة أمر، وهو أنّ محموداً رغم عدم اقتناعه بإكمال العمليّات، إلا أنّه كان يدافع عنها لسببين: الأوّل: التزامه بأوامر القيادة العليا، والثاني: مشاعره وأحاسيسه الشفّافة والصادقة؛
91
68
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
ذلك أنّ فكره كان عند أجساد الشهداء الّتي تُركت الليلة الماضية في الطريق المؤدّي إلى «مرتفعات ٢٥١٩»، وأنّه كان يأمل من خلال معاودة العمليّات أن يتمكّن من جعل دمائهم تُثْمر نصراً.
على كلّ حال، بالرغم من كلّ الاعتراضات على مجيئه، كان يبدو أنّه مصمّم على ذلك. فعندما كان «محمود» يتقدّم بقوّة ويدفع بالعمليات بشدة، معنى ذلك أنّ عليه أن يسيطر على الهدف، وإلّا لم يكن ليتوانى عن بذل النفس.
لقد كان عارفاً بصعوبة المهمّة وتعقيدات المنطقة أكثر من الجميع، فهو قام بعمليّات والفجر ١ و٢ في هذه المنطقة، وصدّ هجوم منطقة «الحاج عمران»، لذا لم يكن الأمر يحتاج إلى الكلام عن خطورة المهمّة وذكاء الأعداء.
لم يبقَ من قوات الاستطلاع والعمليات في ذلك المحور الّذي كان «كاوه» شخصيّاً يريد الذهاب إليه، سواي والأخ «نخعي»، والآخرون قضوا بين شهيد وجريح. وعلى هذا الحساب، ذهبت فوراً لتهيئة السلاح والعتاد وخاصّةً تهيئة المناظير الليلية الّتي تفيدنا كثيراً فيمهمّتنا. عندما جرّبت المناظير الّتي كنتُ قد جمعتها، وجدتها معطّلة، والسالم منها كان مع الإخوة الّذين استشهدوا وجرحوا. ذهب أحدهم وأحضر منظار مجموعة التخريب، ولمّا نظرت فيه، قلت وكلّي أسف عليه: «من سوء الحظّ، هذا أيضاً معطّل». الخلاصة،
92
69
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
مهماحاولنا إيجاد منظار سالم، لم نوفّق، ولم يكن من الممكن التأخّر أكثر بهدف العثور على منظار. ولمّا رأى «كاوه» أنّنا لن نصل إلى نتيجة في هذا الوقت الضيّق قال: «فلننطلق». انطلقنا.
وقد جعل جميع الأمور في عهدة معاونه منصوري. سمعت بعدها أنّ بعض الإخوةحاولوا منعه من الذهاب لكنّهم لم يفلحوا في ذلك. كان «كاوه» يقول: «لا أحد يمكنه أن يردّ القضاء والقدر الإلهي».
في تلك الليلة، وقبل الانطلاق، جرت أحاديث كثيرة بين الإخوة عن «كاوه» وأخلاقه في العمل وكانوا يقولون: «انتبهوا عندما تكونون مع «كاوه»، لأنّه في مثل هذه الأوقات (التحضير للعمليّات) لا يتقبّل المزاح على الإطلاق، فقط نفّذوا أوامره، ولا تناقشوا».
بالطبع، أنا نفسي التفتُّ أيضاً إلى أنّ قوّة القيادة تؤدّي في تلك الظروف إلى التعامل بجدّية أكبر، وإلى متابعة الأعمال بقاطعية أشدّ. في الواقع، كانت تلك العمليّة هي الأولى الّتي أشارك فيها مع كاوه، ولهذا السبب كنت مسروراً جدّاً، لكن كنت خائفاً أيضاً من أن أخطأ فيحضوره.
كانت الكتائب الثلاث، كتيبة الإمام الحسن(عليه السلام)، والإمام الحسين(عليه السلام)، والإمام السجّاد(عليه السلام) تتحرّك في صفّ طولي الواحدة تلو الأخرى. وحين كانت تقع أعين أفرادها على كاوه
93
70
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
عندما كنّا نمرّ من أمامهم، كانوا يسلّمون عليه بحماسة وشوق خاصّ، ويسألونه عن أحواله، ويردّعليهم بحماسة ومحبّة أكبر. استعرضنا كلّ الكتائب، وعدنا إلى الصفّ الأوّل، كان الجوّ مظلماً بحيث لم نستطع أن نرى شيئاً. كان يمكن أن نحدّد بعضاً من الطريق في حالة واحدة عندما كان البعثيون يرمون القنابل المضيئة. لكنّ هذا لم يكن ليجبر حاجتنا للمناظير الليلية. ولهذا السبب مشيت أنا في مقدّمة الصفّ حتّى لا نضلّ الطريق.
سرنا مسافةً، وإذا بأحد الإخوة يأتي ويقول: «إنّ القوّات الّتي كانت في نهاية الصفّ قد تأخّرت، وطُلِب إلينا التمهّل في المسير حتّى يصلوا إلينا». ربت كاوه على كتفي وقال: «اذهب، نظّم الصفوف وعد سريعاً».
جلس هو في مكانه، وعدت أنا فوراً سالكاً الطريق نفسها الّتي كنت طويتها.
استغرق الأمر نحو نصف ساعة حتى انتظمت جميع القوى، ولكن في الوقت نفسه، لم يكن بالإمكان الحؤول دون تفرّقهم وتشتّتهم بسبب شدة الارهاق. عدت ثانية إلى كاوه وأخبرته بالأمر وقلت: «لا يمكن مع هذا الوضع اقتحام خطوط التماس، من المؤكّد أنّنا لن نلحقوسنتأخر».
أظنّ أنّ الوقت حينها كان قد تجاوز منتصف الليل، سألني محمود: «ما رأيك؟ ماذا نفعل؟»
94
71
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
قلت: «لو تدخل كلّ كتيبة من معبر؛ لربّما يكون الوضع أفضل».
فقال: «لا، ينبغي أن تذهب الكتائب الثلاث معاً إلى المهمّة.»
وأنا الّذي لم أكن أجرؤ على معارضة كلامه من جهة، ومن جهةٍ أخرى كنت أفكّر في المعادلات والحسابات العسكريّة، قلت وأنا في غاية القلق: «جلبة هؤلاء جميعاً سوف تلفت إلينا انتباه قوات العدوّ. لو نذهب من محاور ثلاثة يكون أفضل».
وكأنّ كاوه كان يعلم تماماً ماذا يعتمل في قلبي. ربت على كتفي وقال بلهجة هادئة وأعصاب باردة: «لا تقلق أخ تشناري، إن توسّلنا بالله وتوكّلنا عليه قليلاً، سوف يُصمّان أسماع الأعداء إن شاء الله، كما إنّنا سنصل في الوقت». وتكلّم بكلام آخر معبّر، ربّما ليبعثالطمأنينة في نفسي فقال: «إذا عملنا بتكليفنا جيّداً، سوف يرسل الله ملائكته لمساعدتنا، عندها ستجتمع كلّ هذه القوّات في مكان واحد، وسنصل في الوقت المناسب».
كأنّني عدت توّاً إلى رشدي، واستيقظت من غفلتي. أحسست بالخجل من الكلمات الّتي أُلقيت على مسامعي. كانت كلماته شفّافة وودودة، تختلف عن تلك الأمور الّتي كان الإخوة يذكرونها عنه أثناء العمليّات وفي ليلة الهجوم اختلاف الأرض عن السماء. كان
95
72
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
من الواضح تماماً اختلاف معنويّاته وتصرّفاته عمّا كان عليه دائماً. بعد هذا الحوار القصير، تغيّرتُ من حال إلى حال، وباطمئنان خاصّ انطلقت برفقته وبقيّة الإخوة إلى أن وصلنا إلى المحلّ الّذي كان الرامي البعثيّ البارحة قد أفرغ فيه نيرانه كافّة، وكان يرمي وابلنيرانه وطلقاته الرشاشة، بحيث لم يستطع أحد التحرّك من مكانه. قلت لـ كاوه: «وصلنا البارحة إلى هنا، تلك الدشمة قد أفرغت نيرانها وآذتنا كثيراً».
درس كاوه جوانب المسألة بدقّة ثمّ قال: «ينبغي أن نتقدّم حتّى نرى المكان عن قرب».
كانت هناك صخرة قرب دشمة الرماية بحيث إذا صعدنا من تلك الناحية يمكن أن نحقّق شيئاً ما. صمّم كاوه على الاستفادة من تلك الطريق نفسها، لإسكات إطلاق النيران. لم يكن بيننا وبينه أكثر من مئتين أو ثلاثمئة متر. صعدت مع ثلاثة أشخاص من سلاح الهندسةوالعمليّات برفقة محمود. وبينما كنّا نصعد رأيت محموداً يتوقّف فجأةً، ووقع نظري على رجل عجوز جريح ملقىً أمامه، وكان من الواضح أنّه سقط الليلة الماضية. دقّقت النظر قليلاً فرأيت أنّه قد نزف كثيراً ولم يبقَ فيه رمق كثير. سأله كاوه عن أحواله بحرارةوبتودّد وقال: «أبي العزيز هل تعرفني؟»
فقال الرجل العجوز ضاحكاً: «نعم، أنت الأخ الّذي يقدّم القهوة.»
96
73
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
ما إن سمع محمود كلمة القهوة حتى أخذ يضحك. ضحكت أنا بدوري، التفت إليّ وقال: «انظر يا چناري أصبحت آخر عمري مقدّم قهوة».
وكأنّه أخذ طاقة مضاعفة من كلام الرجل العجوز. وبذلك الوجه الضاحك مسح على رأسه وقال: «أبي العزيز، إنّنا صاعدون إلى الأعلى، وعندما نعود بإذن الله، نأخذك معنا، لا تقلق».
ودّعناه، وتقدّمنا هذه المرّة حتّى وصلنا تماماً إلى أسفل الدشمة المطلقة للنيران، وقبعنا هناك. لقد كانوا، من دون شكّ، جاهزين ومنتظرين لنا. همست في أذن محمود قائلاً: «ينبغي أن نسكت مصدر النيران هذا وأن ننظّم القوّات من الناحيتين وبعدها نقتحم خطّ التّماس».
وبالطريقة نفسها أيضاً سأل محمود بهدوء وبأعصاب باردة: «حسناً، ماذا ينبغي أن نفعل؟»
قلت: «لم يتوصّل فكري إلى أكثر من هذا».
في الحقيقة، انقطعت أفكاري وعييت، فعاد كاوه وشرع بالحديث: «هناك أمر آخر ينبغي أن نقوم به».
قلت: ما هو؟
قال: «التوسّل؛ فإذا لم نتوسّل سوف لن يفضي كلّ ما قلته إلى نتيجة».
97
74
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
وها أنا أيضاً أجد نفسي من جديد غارقاً في الغفلة.
على كلّ حال، قاربت الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل، ولم نكن قد اتّخذنا قراراً حاسماً بعد. لم يبقَ الكثير من الوقت حتى طلوع الفجر، فقرّرنا أخيراً اقتحام خطّ التماس من هناك، وعليه كان ينبغي أن نعود ونحضر القوّات. كانت حواسيّ كلّها متّجهة إلى ماحولنا. فجأةً سمعنا صوت إطلاق قذيفة ومن ثمّ صوت انفجار، فانقلب كلّ شيء رأساً على عقب. أدركت من شدّة الانفجار أنّ القذيفة سقطت على بُعد بضعة أقدام منّا. وعلى الرغم من أنّ هذه الانفجارات كانت أمراً طبيعيّاً في الجبهة، لكنّني لم أعلم لِمَ تشوّشتأفكاري واضطربت.
كنت قلقاً على كاوه أكثر من الآخرين، وما إن رفعت رأسي حتّى رأيت كاوه ممدّداً على جانبه أرضاً. ظننت في البدء أنّه تمدّد أرضاً بمجرّد أن سمع صوت القذيفة، ولكنّني تذكّرت فوراً أنّني إلى حينها لم أسمع من أحد أن محموداً يحني رأسه منصوت القذيفة أو من طلقة القنّاصة، فكيف به ينبطح أرضاً. ولكن حين أمعنت النظر رأيت الدم يفور من عينيه كالفوّارة، كدت أُصاب بسكتةٍ قلبية. رفعت رأسه وأنا مرعوب، وضعته في حجري، ولمّا تبلّلت يداي من دمائه أدركت أنّ الشظيّة أصابت مؤخّرة رأسه. والتفتّفوراً إلى شظيّة أخرى أصابت صدغه الأيمن؛ في المكان نفسه الّذي أُصيب به قبل ثلاثة أشهر في هجوم «الحاج عمران». وما هي إلا لحظات حتّى ابتلّت بزّته العسكريّة بالدماء.
98
75
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
أردت إرسال أحد الإخوة في طلب المسعف، فرأيته يلفظ نفَسه الأخير. فالمعبود الّذيسعى محمود لسنوات نحوه، وكان يتنفّس عشقاً له، ويسعى إلى لقائه، قد استجاب لطلبه بهذه السهولة، وقد دلّ اطمئنان وجهه على أنّه كان راضياً بهذا الوصال ومسروراً به. ومع أنّي كنت متيقّناً من عروجه واستشهاده، إلاّ أنّ الشيء الوحيد الّذي لم أكن أريد التفكيرفيه في ذلك الظرف الدقيق هو الحقيقة هذه. شعرت باضطراب شديد عمّ كياني، ولم يكن الإخوة الآخرون أيضاً بأفضل حال منّي.
لقد أمدّني الله تعالى في تلك اللحظات بشعور وحالة معنويّة لم أستطع وصفهما في أي وقت. وما أعلمه أنّ أوّل شيء خطر على بالي بعد شهادة محمود، أن أقول للإخوة أن يسحبوا جثمانه الطاهر إلى الخلف قليلاً، مع التأكيد عليهم بأن: «انتبهوا أن لا يلتفت الإخوة إلى هذاالأمر، وإلّا تصبح متابعة المهمّة صعبة».
لم يكن معلوماً بعد، هل ستُلغى العمليّات بسبب استشهاد محمود، أو إنّهم سيصمّمون على القيام بها. على كلّ حال، كان ينبغي إخفاء خبر شهادة محمود عن القوّات. كنت واثقاً من أنّهم لو علموا بها، لتوجّب علينا إلغاء العمليّات. عندما أراد الإخوة سحب جثمان محمودالطاهر إلى الخلف، قبّلت وجهه الباسم والنورانيّ. كنت أعلم أنّني لن أستطيع الوصول إلى تابوته، فكيف بزيارة ضريحه في تلك الأحوال والظروف المتداخلة وغير المستقرّة الّتي كنت
99
76
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
أعيشها؟ أخذت جهاز اللاسلكي من عنصر الاتّصالات، وتوجّهت إلى غرفة إشارةالمقرّ قائلاً: «أصبح محمود مثل قمّي أيضاً». قالوا: «أعطه السمّاعة وليتكلّم بنفسه».
علمت أنّه لم يتلقّ الرسالة. قلت: «أتى قمّي وأخذ معه محمود، لا يمكنه أن يتكلّم». لم يفهم ثانية، وكرّر كلامه السابق. كدت أن أكسر قيود لغة الترميز وأقول: لقد استشهد محمود، ولكنّني تمالكت أعصابي ثانيةً وقلت: «أتى قمّي وأخذه بيده، هل فهمت؟»
لم يبقَ حينها الكثير من الوقت إلى طلوع الفجر. وكان من المؤكّد أنّ الوقت تأخر كثيراً على تنفيذ العمليّات. فما أن نتحرّك في عتمة الليل حتّى يداهمنا الصبح، ونقع، من جهة أخرى، في مرمى نيران العدو، ونُباد حتماً. في النهاية، قرّرت قيادة المقرّ التغاضي عن تنفيذ العمليّات، وأمرت بالانسحاب. في تلك الليلة خاطر الإخوة بأرواحهم في سبيل أن يسحبوا جثمان محمود إلى مكان آمن، مكان لا يُحتمل أن يتقدّم إليه العدوّ. عندما اطمأننت بأنّ المكان الّذي فيه محمود آمن، ذهبت لأساعد بقيّة الإخوة في سحب الجثث والجرحى الّذين سقطوا الليلة الماضية في المرتفعات. مع طلوع الصبح، كنا قد انسحبنا إلى الخلف. كان علينا الانتظار حتّى الغروب لنسحب الجثث، لم يكن وقت الظهر قد حان بعد، حتى وصل الخبر بأنّ «علي خليل آبادي» وشخصين آخرين قد تقدّموا تحت نظر العدو ومرمى نيرانه، نحو جثمان كاوه وسحبوه. في الواقع، لم
100
77
مثل الشهيد "قمّي"؛ علي تشناري
يستطع هؤلاء الانتظار حتّى الليل، ولهذا خاطروا بحياتهم وبكلّ شيء من أجل أن يوصلوا هذا الدرّ الثمين لأهله.
101
78
رهبان الليل ليوث النهار؛ الإمام الخامنئي (دام ظله)
رهبان الليل ليوث النهار؛ الإمام الخامنئي (دام ظله)
أعرف الكثير من العناصر الجيّدة جدّاً في الحرس، حيث كان ولا يزال لديهم الاستعداد والجهوزيّة لبناء أنفسهم والآخرين. وأخوهم الشهيد العزيز محمود كاوه كنت أعرفه منذ طفولته.
كان والده واحداً من الملازمين لمسجد الإمام الحسن(عليه السلام)، الّذي كنت أخطب وأؤمّ الصلاة فيه. كان يأخذ بيد هذا الطفل ويحضره معه، وكنت أعلم أنّه لم يكن لديه من الأولاد الذكور سواه.. كان أبوه منذ ذلك الحين شجاعاً لا يعرف الخوف في التعاطي مع الآخرين، فكانأحياناً يتكلّم بكلام حادّ لا يجرؤ أحد عليه في زمن القمع. في مثل هذا المحيط العائليّ والثوريّ تربّى هذا الطفل. كان غذاؤه الفكريّ في فترة نشوئه-، وعلى ما أظنّ كان حينها في سنّ الثالثة عشرة أو ربّما في
102
79
رهبان الليل ليوث النهار؛ الإمام الخامنئي (دام ظله)
الرابعة عشرة ليس أكثر- عبارة عن القضايا الّتي كانتتُطرح في مسجد الإمام الحسن(عليه السلام). والإخوة الّذين عاصروا تلك الفترة يعرفون أيّ نوع كانت تلك القضايا، ويمكن معرفة ذلك أيضاً من خلال أشرطة الكاسيت وآثار ذلك المسجد. في جوّ فكريّ كهذا ترعرع هذا الشابّ، فكان واحداً من الشباب الّذين قلّ نظيرهم، والّذين وجدتهم في صدد بناء أنفسهم. كان واقعاً من أهل تربية النفس، تربية النفس أخلاقيّاً وتقوائياً، وأيضاً التربية الجهادية.
جُرحت يده في إحدى العمليّات، فأتى إلى مشهد ومكث مدّة في المستشفى هنا، مدّة قصيرة على ما يبدو، ومن ثمّ عاد إلى الجبهة ثانيةً. زارني في طهران، رأيت يده متورّمة، وكوني أتعاطف مع من أُصيبوا في أيديهم، سألته فوراً: هل تؤلمك يدك؟ فأجاب: لا. بعدها علمتمن الإخوة في مشهد أنّ يده كانت تؤلمه بشدّة. كان يخفي أوجاعه ولا يظهرها، كون ذلك أمراً مستحبّاً، وهو أن يخفي الإنسان قدر الإمكان أوجاعه ولا يبثّها للآخرين. كان يتحلّى بمثل هذه الحال من بناء النفس.
كان قائداً جديراً، بلحاظ إدارته لوحدته الّتي كانت «لواء الشهداء الخاصّ» والّذي تحوّل فيما بعد إلى فرقة. كان هذا اللواء حينها يعدّ واحداً من الألوية الفعّالة والمقتدرة، ولهذا كان محطّ تقدير وتنويه. كما شارك نفسه في العمليّات المختلفة فأصبح
103
80
رهبان الليل ليوث النهار؛ الإمام الخامنئي (دام ظله)
متمرّساً في ميدانالحرب.
كان - من حيث إدارته لوحدته- مديراً قويّاً، ودوداً ورفيقاً بعناصر اللواء، ومن الناحية المعنوية، تجد الأخلاق، والأدب، والتربية، متجسّدةً في شابّ يافع، بارز.
.. كان من مميّزات مرحلتنا- حيث لم يقتصر المبرّزون والعظماء على كبار السّنّ فقط - أن شباباً وأحداثاً يشكّلون جزءاً من الشخصيّات البارزة في المجتمع: «رهبان الليل، ليوث النهار» كانوا غالباً في صفوف هؤلاء الناشئة وهؤلاء الشباب.
نحن نجلس وننظر من البعيد، نتحسّر ونتمنّى لو ندخل إلى أجوائهم، قلّما يحدث ولا يحلّق قلبي في مثل هذه الحالات نحو محفل ساكني الدشم والمتاريس. فهناك يُصنع الإنسان، ويُبنى جيّداً، وهؤلاء الشباب قد بُنوا جيّداً، والشهيد كاوه ـ واقعاً ـ قد صُنع جيّداً.
بالطبع، أنا أعرف في مشهد وفي كلّ الحرس عناصر كثيرةً بارزةً. وحقّاً وإنصافاً، إنّ الأشخاص الّذين أعرفهم، عندما ينظر المرء عن قرب في أخلاقياتهم ومميّزاتهم، تتداعى له حالات العرفاء والسالكين الكبار، لا حالات العسكريّين الكبار. هم أعلى من العسكريّة،وإن كانوا بحقّ متمرّسين وأقوياء في العسكريّة.
104
81
رهبان الليل ليوث النهار؛ الإمام الخامنئي (دام ظله)
لواء يديره شابّ في الرابعة أو الخامسة والعشرين من العمر، فيما لا تجد في أيّ مكان من العالم ضابطاً في مثل هذا العمر، فكيف به يقود لواءً يضمّ بضع مئات أو بضعة آلاف عسكري! تلك الألوية المؤلّفة من بضع وعشرين كتيبةً، تضمّ بضعة آلاف شخص، يديرهاشخص كهذا. فأين تجد هذا! لا في السفر إلى مزار، أو مصيف، بل في ميدان الحرب، في مرمى النيران، في مواجهة دبّابات العدوّ، وبالرغم من وجود كلّ هذه العوائق، ترى شابّاً في هذا العمر يدير بضعة آلاف عنصر، من خلال التنظيم يتقدّم بهم إلى الأمام، يقتحمخطوط النار، يفرّق الأعداء ويهزمهم، يأخذ منهم أسرى، ويسيطر على المناطق أيضاً ويستقرّ فيها. إذاً، العسكريّة موجودة أيضاً في إعجازيّة الثورة وبنيتها، وليس المعنويّة وحسب. ولكنّ ما هو أرقى من العسكريّة، هو هذه الروحية والتقوى الّتي يتحلّى بها شبابنا،وكان هو أيضاً يتحلّى بها.
105
82
عمليات قادر الفريق أوّل الشهيد علي صيّاد شيرازي
عمليات «قادر»؛ الفريق أوّل الشهيد علي صيّاد شيرازي (رحمه الله)[1]
يمكن القول بكلّ ثقة إنّ الشهيد العزيز كاوه - الّذي أعتزّ بمشاركته الجهاد عن قرب- أسوة المجاهدين في سبيل الله .. إنّني في ظل ألطاف الخالق المتعال وأملاً بالاستغفار في حضرته، أعتبر محموداً العزيز واحداً من الحزب اللهيّين الواقعيين. ومن خلال الصفاتوالمميّزات الّتي عرفتها في شخصيّة هذا المجاهد القويّ، أعتبره مشمولاً بالآية الشريفة: «رضي الله عنهم ورضوا عنه».
كان الشهيد كاوه إنساناً ذا نهج موثوق، وكأنّ ترنيمة النداء الإلهيّ: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[2] كانت تجري في قلبه وروحه.
[1] قائد القوات البرية في الجمهورية الإسلامية، ومعاون المفتش العام في القوات المسلحة، استشهد على أيدي «منافقي خلق» عام ١٩٩٩م.
[2] سورة الفجر، الآية: ٢٧-٣٠.
106
83
عمليات قادر الفريق أوّل الشهيد علي صيّاد شيرازي
كان الشهيد كاوه شجاعاً وشهماً، وغالباً ما كان يهجم بقوّات قليلة على أعداد كثيرة من الأعداء، ذلك أنّه في استنتاجاته كان يحسب أنّ قدرة وقوّة المجاهد في سبيل الله تعادل عشرة أضعاف قوّة الأعداء.
كان موهوباً، متمرّساً، حادّ الذكاء، ولعلّه كان من العدّة المعدودة من القادة الّذين كانوا يستفيدون من عنصر المفاجأة والمباغتة بمعناها الحقيقيّ. كان باصطلاح العسكريّين، طاقةً نوعيّةً كاملةً متكاملةً، ذلك أنّه يمكن أن تعثر فيه على صفات ومميّزات الطاقة النوعيّة.
كان ذا روح وجسم قويّين لا يعرفان التعب، لذا كان للعناصر العاملة تحت إمرته همّة استثنائية، بالاعتماد على دوافعه وروحيّته العالية.
كان الشهيد كاوه يتحلّى بروحيّة عالية في إطاعة الولاية، وكان يحرص على إنجاز المهمّة الموكلة إليه، بأيّ صورة من الصور.
كان يتمتّع بالقدرة على إدارة وقيادة القلوب، ولهذا السبب كانت العناصر المؤتمرة بإمرته تدور حوله كالفراشات.
كان متسلّحاً بسلاح التقوى والأخلاق الحسنة، وأولئك الّذين كانوا يلتحقون بثكنة «لواء الشهداء الخاص» في ضواحي منطقة مهاباد، كانوا يدركون الصفاء والإخلاص الناشئين عن وجود قائد تلك الثكنة التّقي...
107
84
عمليات قادر الفريق أوّل الشهيد علي صيّاد شيرازي
كان الشهيد كاوه رجل العمل، فقلّما كان يتكلّم، بل غالباً ما كان يعمل. وبهذه الروحيّة كان يجعل من المستحيل ممكناً ..
في كلّ عمليّة كانت تُنفّذ، كان كاوه يسبق بالمبادرة، مبادرة كانت خاصّة به أيضاً. كان يراقب النواحي كافّة في ساحة المعركة؛ الأمام، الخلف، يمين وشمال الجبهة. إنّني لم أرَ أحداً بمثل مبادرته في ساحة المعركة. كان لإدارة كاوه وقيادته وحضوره في ساحةالمعركة معنىً كبير، بحيث يمكن معرفة ذلك بسهولة. كما كان عناصر لواء الشهداء الخاصّ مضحّين جدّاً، ولقد شاهدت تضحياتهم مراراً وعن قرب، في العمليّات المختلفة وخاصّة عمليّات «قادر». في هذه العمليّات الّتي كان يشارك فيها ثلاثة ألوية من الحرس، كانالعمدة فيها الجيش. في البداية كان بعض المعنيين يرى أن نقوم نحن كقوّات للجيش بهذه العمليّات، لكنّي كنت أرى أن يقوم بها كلّ من الحرس والجيش جنباً إلى جنب. وقد قلت للشيخ رفسنجاني الّذي كان ممثلاً للقائد العامّ للقوّات المسلّحة في الجلسة الّتي عُقدت فيالمقرّ آنذاك: «أريد أن يشاركني في العمليّات ثلاثة ألوية من الحرس». وقد وافق على ذلك، وعهد إليَّ باختيار هذه الوحدات، فاخترت بدوري لواء الإمام الحسين(عليه السلام) ١٤، ولواء النجف الأشرف ٨، ولواء الشهداء الخاصّ ٥٥. واستكمالاً لهذه العمليّات وصل الأمر إلىطريق مسدود كما يُصطلح عليه، وكانت المسألة تتطلّب شجاعةً
108
85
عمليات قادر الفريق أوّل الشهيد علي صيّاد شيرازي
وتضحيةً في سبيل كسر مقاومة العدوّ. وصل الخبر أنّ كاوه قد جهّز كتيبةً للهجوم على معقل العدوّ. وعلى الرغم من أنّ نجاحه كان يمكن أن يغيّر في وضع العمليّات، إلّا أنّ الأمر كان غاية في الخطورة،فلم يكن باستطاعتي أن أراه ذاهباً إلى قلب النيران. وبصفتي قائداً للعمليّات طلبت منه الحضور إلى المقرّ.
قلت له: «سمعت أنّك تريد القيام بهذا العمل الخطر. قال: نعم. قلت: أنا من ينبغي أن يصادق على هذا الأمر، ولا يمكنني أيضاً مشاهدتك تخاطر بنفسك، وأن نفقدك هكذا، من دون جدوى مع كلّ اللياقة والجدارة اللتين تتمتّع بهما». كان يصرّ كثيراً ليقنعني بالسماح لهبالقيام بهذا العمل، ورأيته يدافع كثيراً عن وجهة نظره. تجاسرت أيضاً وقلت: «سيّد كاوه، أنا القائد هنا، وطالما لم أوافق على هذا العمل، لا يمكنك القيام به. ينبغي أن نحافظ على كاوه بكلّ جدارته وخبرته». كانت هذه أوّل مرّةٍ أُصدر فيها أمراً كهذا لكاوه؛ فالساحةساحة حرب، ولا مكان للمجاملات. وما إن قلت هذه الكلمات حتّى رأيته مباشرة ومن دون تريّث، وانطلاقاً من التزامه بالدين والعقيدة، يتعاطى معي بكلّ تواضع، ما بعث فيّ الخجل. بالطبع، اعتذرت بعدها منه: «اعذرني، كوني تعاطيت معك بهذه الطريقة القاسية، فقدرأيت أنّك لن تستسلم، فاضطررت، إذ لم أكن أُحبّ أن ندفع في مقابل عمليّات خطرة أثماناً باهظة»... الخلاصة؛ لقد وضع روحه على كفّه هناك.. .
109
86
مثال "قل إن صلاتي ونسكي"؛ مصطفى أيزدي
مثال «قل إن صلاتي ونسكي»؛ مصطفى أيزدي[1]
إنّ إحدى علامات سموّ وعظمة دينٍ ما، هي الأناس الّذين يربّيهم ذلك الدين أو المذهب. وإذا ما أرادت أيديولوجية معيّنة أن تثبت هذا المدّعى- أي قدرتها على إدارة المجتمع وعلى صناعة الإنسان- عليها أن تشير إلى أفراد تربّوا في ظلّ هذه الأيديولوجية. كما نشيرنحن في صدر الإسلام إلى أشخاص عظماء أمثال أبي ذرّ، وسلمان، ومالك الأشتر، ونعتبر أنّ أخلاق وتصرّفات أولئك العظام نابعة من التمسّك بالإسلام العزيز في صدر الإسلام.
في عهد الثورة لدينا رجال عظام أمثال الشهيد محمود كاوه، القائد العاشق للإسلام، والإنسان الحرّ، وأحد أشجع قادة جبهات كردستان
[1] قائد لواء في الحرس
111
87
مثال "قل إن صلاتي ونسكي"؛ مصطفى أيزدي
والدفاع المقدّس، إذ كانت لهذا الإنسان الشريف تصرّفات وسجايا وروحيّات وأخلاق، كانت بحقّ تجسيداً للإسلام المحمّدي الأصيل. لقدكان إنساناً لا يحسب هذه الحياة الدنيا حياةً، بل كان يعتبرها معبراً لعالم ما بعد الموت، ولقد كنت أشعر بتمام وجودي أنّ الموت هو الّذي كان يفرّ من الشهيد كاوه. وحقّاً أقول، إنّه لم يكن يلتفت أدنى التفاتة للبقاء عدّة أيّام إضافية في هذه الدنيا الفانية، وإنّما نحن الّذينكنّا نوصيه دائماً أن: انتبه لنفسك!.
لو أردنا تربية قادة جيّدين، وأردنا تربية قادة ناجحين في القوّات المسلّحة، علينا واقعاً، العمل على حياة ونهج الشهيد الكبير محمود كاوه، وأن نقدّم هذه الخصوصيّات وهذه التدابير وهذه الإدارة والأخلاقيّات الّتي كان يتحلّى بها كنموذج للقائد الناجح، ذلك أنّه كانيتمتّع بكلّ هذه الجوانب، كما قال قائد الثورة المعظّم: «لقد كان، واقعاً، من أهل تهذيب النفس، من أهل صلاة الليل، من أهل التهجّد. ذلك القرآن الّذي كان يتلوه بذلك الصوت العذب كان ينفذ إلى أعماق قلب الإنسان. كان له صدىً خاص، يظهر أنّ قارىء هذه الآيات، هونفسه من العاملين بها».
كان مظهراً للإنسان الّذي كان كلّ سعيه وجهاده من أجل مرضاة الله تعالى. لم يقم بعملٍ من أجل التظاهر، كان مصداقاً لقوله تعالى:
112
88
مثال "قل إن صلاتي ونسكي"؛ مصطفى أيزدي
﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[1]. كان يسعى في كلّ حركةٍ يقوم بها، وكلّ عمل يقدم عليه بعشق في سبيل أهداف الثورة. من الناحية الأخلاقية،كان يتمتّع بروحية عالية، وأمّا دوافع الأعمال الّتي كان يقوم بها، فقد كانت واقعاً منطلقةً من أساس دينيّ ومن الإحساس بالتكليف الّذي كان يقوم به. أمّا من حيث المعنويّات العالية، فقد كان، حقّاً، فرداً شجاعاً. ولقد رأيته مراراً،- وكما أخبر رفاقه المجاهدون أيضاً- فيمقدّمة الهجوم. وكثيراً ما كان رفاقه يصرّون عليه ويلتمسون منه الرجوع إلى الخطوط الخلفيّة. أمّا من حيث اتخاذ الإجراءات الّتي كان يقوم بها في العمليّات المختلفة، فقد كان في الواقع مثالاً يُحتذى به. كان له في كلّ واحدة من العمليّات الّتي كان يقوم بها تدبيرخاصّ، وكان يستند بشدّةٍ إلى عنصر المفاجأة، وإلى رعاية الملاحظات التكتيكية والتقنيّة. وكنّا واقعاً، إذا ما فوّضنا مهمّة القيام بالعمليّات إلى لواء الشهداء الخاصّ، نثق بالانتصار، وهذا يدلّ على الوضعيّة الممتازة. لقد كان فرداً نموذجيّاً من جهة الدقّة في العمل، ومنجهة رعاية المسائل التدريبية.
إنّنا في الجملة، نعدّه واحداً من قادة حرس الثورة الإسلامية الجامعين، الّذين لم يُعرفوا بشكل جيّد.
[1] سورة الأنعام، الآية: ١٦٢.
113
89
مثال "قل إن صلاتي ونسكي"؛ مصطفى أيزدي
وعلى الرغم من أنّه كان في بداية انتسابه للحرس فرداً غير معروف، إلّا أنّه بسبب الاستعدادات الّتي كان يتمتّع بها، طوى سلسلة الرتب القيادية بسرعة، وعُيّن قائداً لعمليّات منطقة «سقّز»[1].
كان لنا في منطقة كردستان موقع في مركزيّة المحافظة. عندما كنّا نتوجّه إلى المناطق المختلفة، كانت «سقّز» من الأمكنة الصعبة لعملنا، وكانت من أكثر المناطق أهميّةً بالنسبة إلى أعداء الثورة. واقعاً، بحضور هؤلاء الأعزّاء، ومن خلال تلك التدابير الّتياتّخذوها، كنّا نشعر بالاطمئنان. لقد قاموا بعمليّات مختلفة في نواحي منطقة «سقّز»، كمرتفعات «الاستاذ مصطفى» وأمثالها، والمناطق المؤدّية إلى مناطق شرقي «سقّز»، والمرتفعات المطلّة على منطقة نهر «زرّينة رود»، وأيضاً العمليّات الّتي قاموا بها فيمنطقة «سوته» و«بسطام» والحدود العراقيّة، والّتي كانت غاية في الأهميّة. من العمليّات الأخرى كان تطهير مدينة «بوكان» وتحريرها الّتي كان للشهيد كاوه دورٌ أساسيٌّ فيها. واستمراراً لهذه الإجراءات كانت عمليّات تحرير «سدّ بوكان»، والّتي كان أيضاًلهؤلاء الأحبّة وللمشاة في حرس الثورة الإسلامية في منطقة «سقّز» حيث كانوا يُختارون كلواء مستقرّ هناك ، دور مؤثّر فيها. والعمليّات الّتي
[1] سقز: مدينة تقع شمال غرب إيران (محافظة آذربيجان الغربية)، كانت منطقة مواجهة مع مجموعات وأحزاب نادت بالانفصال عن إيران بعد انتصار الثورة، وتم تزويدها بالسلاح والعتاد والإمكانات من الخارج بدعم من المخابرات الأجنبية.
114
90
مثال "قل إن صلاتي ونسكي"؛ مصطفى أيزدي
قاموا بها في سائر مناطق محافظة كردستان وآذربيجان الغربيّة، والّتي أدّت إلى فتح محاور هامّة كمحور «بوكان ـمهاباد»، ومحور «صائين دژ ـ تكاب»، ومحور «تكاب ـ صائين دژ»، كان حقّاً، له فيها دورٌ بنّاء.
أمّا عن مسار خدمة القائد شهيد الإسلام اللواء محمود كاوه، فينبغي الإشارة إلى هذه الحقبة الهامّة من حياته والّتي تبتدىء بتأسيس لواء الشهداء الخاصّ. فقد أسّس الشهيد محمد بروجردي لواء الشهداء الخاصّ وهو قائد كلّ الشهداء في المنطقة، والكلّ يفتخر بأنّه تتلمذ علىيديه.
ضمّ هذا اللواء قادةً أفذاذاً، وتشكّلت نواته بفعل العمليّات الناجحة من «بانه» إلى «سردشت». واستطاع هذا اللواء، من خلال المتانة والقوّة وقيادة الشهيدين ناصر كاظمي وكاوه، ومحورية الشهيد الكبير بروجردي أن يحرّر بعض المناطق. وفيما بعد، قويت هذه الوحدةتدريجيّاً واستحكمت، بحيث أصبح لها حضورٌ فعّالٌ جدّاً في كافّة العمليّات ـ الداخليّة والخارجيّة ـ الّتي كنّا نواجه فيها أوضاعاً صعبةً.
الفترات الّتي أمضاها الشهيد الكبير محمود كاوه في هذا اللواء، كان فيها مسؤول عمليّات اللواء، وقد كان لمسؤول العمليّات في التشكيل العسكريّ للحرس دور هامّ جدّاً. وعمليّات «بيرانشهر ـ سردشت» الهامّة والمصيريّة، والّتي ينبغي القول إنّها ضمن مجموعة
115
91
مثال "قل إن صلاتي ونسكي"؛ مصطفى أيزدي
العمليّات الّتي نُفّذت في منطقة الشمال الغربي داخل البلاد ضدّ مراكز أعداء الثورة، كانت تتمتّع بميزة خاصّة، وبنظري كانت من أهمّ عمليّات مجاهدي الإسلام في تلك الحقبة الزمنية، والّتي أدّت إلى كسر ظهر العدو. لقد انهارت في تلك العمليّات كافّة مقرّاتالأعداء، ومراكز إشاراتهم، وتشكيلاتهم، ولم تتحرّر فقط طرقات تلك المنطقة المغطّاة بالغابات، والمتعرّجة، بل كلّ منطقة غربي «مهاباد» و «سقّز» وكذا المرتفعات الحدودية لمنطقة «آلواتان» ومرتفعات «جاسوسان»، وبالجملة، تحرّرت مناطق «آذربايجان الغربيّة»بنحو لافت، وقد فدى الإسلام في هذه العمليّات شهداء عظام، أمثال الشهيد العظيم وقائد مجاهدي الإسلام «كاوه» والشهيد «ناصر كاظمي» والقائد العزيز «گنجي زاده».
أذكر يوماً عندما علمنا أنّه جُرِح. استنفر جميع الإخوة ؛ كلّ من كانت فئة دمه (-o) فليحضر إلى المستشفى. وقد أُحضر في حالٍ مزرية، تقارب الموت وكاد يلفظ آخر أنفاسه، ولكن بلطف الله سبحانه كُتب له عمر جديد. ومباشرةً بعد أن وجد في نفسه القدرة على القيام،وعلى رغم الضعف الّذي كان يعاني منه، وعدم القدرة على الوقوف بشكلٍ جيّد، التحق مجدّداً بجمع مجاهدي لواء الشهداء الخاصّ، وتابع المسير باتّجاه هدفه المقدّس. بالإضافة إلى سلسلة العمليّات الّتي نُفّذت داخل محافظتي كردستان وآذربايجان الغربيّة، كانللواء الشهداء الخاصّ ولقيادة الشهيد كاوه دورٌ
116
92
مثال "قل إن صلاتي ونسكي"؛ مصطفى أيزدي
مصيريّ جدّاً، وكان هذا اللواء في العمليّات خارج الحدود وحدةً ممتازة وناجحة.
117
93
درس الإمام
درس الإمام
في المرّة الأولى الّتي رجع فيها في إجازة، رأينا أنّ محموداً يختلف عن محمود قبل شهرين أو ثلاثة. كان يقول: لقد تعلّمت من سلوك الإمام دروساً كثيرة.
وقال: إنّ أصغر تصرّف من تصرّفات الإمام يعطي الإنسان دروساً عظيمة. كانت حاله تتغيّر عند أوقات الصلاة. كان قليل الكلام كثير التفكّر. وكان يقول: «أريد أن أعرف نفسي أكثر».
يقول الإمام: «إنّ الإنسان يصل إلى معرفة الله عن طريق معرفة النفس».
في تلك الفترة، كان قد دخل للتوّ في التاسعة عشرة من العمر.
120
94
درس الإمام
في اليوم الأوّل للحرب تشرّفنا ومحمود بزيارة الإمام الخميني (قدس سره). سأل محمود الإمام: «أتينا لنسألكم عن تكليفنا، ما هو تكليفنا الآن؟ هل نذهب إلى الجبهة أم نبقى هنا؟».
قال الإمام: «لو كنت مكانكم لذهبت إلى الجبهة».
قبّل محمود يد الإمام، وكذلك نحن، وخرجنا. في اليوم نفسه، عيَّنَ محمود «محمد رضا حمّامي» مكانه[1]. ذهبت أنا وبعض الإخوة إلى مشهد، لتفقّد عائلاتنا، و من ثمّ نذهب إلى الجبهة، ولكنّ محموداً وبعض الرفاق الآخرين، قصدوا الجبهة مباشرةً.
[1] كان محمود كاوه في ذلك الوقت مسؤول مجموعة حماية بيت الإمام الخميني.
121
95
إلى كردستان
إلى كردستان
في أوائل شهر دي من العام ٥٩هـ.ش [أواخر كانون أول ١٩٨٠م]، قيل إنّ أحد قادة الجيش يريد المجيء لإلقاء خطبة في أفراد الطاقم.
أتى برفقة رستمي الّذي كان حينها قائد عمليات حرس مشهد. لم تكن هيئته تشبه عناصر الجيش في زمن الشاه، فقد كان ذا صفاء ونورانيّة. سألت عن اسمه، فقيل: صيّاد شيرازي.
121
96
إلى كردستان
ابتدأ بالكلام، كان يريد نخبة القوّات وأكثرها فعاليّة لإرسالها إلى كردستان. وكان يقول: «أتيت مادّاً يد الحاجة إليكم أيّها الإخوة الأعزّاء».
122
97
إلى كردستان
وقال: «إنّ أوضاع كردستان حسّاسة جدّاً، لا تحتمل التأخير ولو للحظة واحدة».
وما إن أتمّ كلامه حتّى قام محمود وقمت أنا وسبعة أو ثمانية عشر فرداً آخرين. أراد بعضهم الذهاب إلى بيوتهم لتوديع الأهل، فقال محمود: «ألم تسمعوا أنّه قال لا ينبغي التأخّر أبداً؟!».
في ذلك اليوم، ذهبنا إلى كردستان وكنّا ١٩ شخصاً.
كانوا ٢٥٠ عنصراً من التعبئة، وكان علينا أن ننقلهم من «ديواندرّة»[1] إلى «سقّز». وكان محمود مسؤول الحماية آنذاك.
وقعنا في كمين في آخر «مضيق إيرانخواه». كان الرصاص ينهمر فوق رؤوسنا. لم يحنِ محمود رأسه. كان يركض من جهة إلى أخرى يصيح ويوجّه الإخوة.
في البداية أرسل عناصر التعبئة إلى سفح المرتفع، بعدها قسّم مجموعة المواكبة إلى مجموعتين؛ بدأت مجموعة بصعود المرتفع على طريقة الحركة والنار، ذهب محمود مع مجموعة للالتفاف على رقبة الوادي. كان يريد تطويق عناصر «الكوملة»[2]، فهموا بسرعةأنّهم سيقعون في الأسر فلاذوا بالفرار.
[1] مدينة في محافظة كردستان.
[2] الكوملة: مختصرالحزب الديمقراطي الكردستاني، حزب كردي معارض مدعوم من المخابرات الأجنبية.
123
98
إلى كردستان
سرى الخبر في مقرّ تعبئة «سقّز». كان الجميع يقولون: «إنّ مجموعة كاوه هي أوّل مجموعة توصل عدداً من العناصر سالمين غانمين إلى مدينة «سقّز» دون أن تراق منهم نقطة دم».
124
99
الحرب النفسية
الحرب النفسية
كنّا في منطقة «سقّز» متموضعين في الدشم، وقد استقررنا في مصنعٍ للسجائر. عندما كنّا نريد الذهاب لشراء بعض الحاجات، كان الرصاص ينهمر علينا من كلّ جانب، فكنّا نذهب ونعود زحفاً.
عندما أتى محمود، أخْرَجَنَا شيئاً فشيئاً من حاجزنا الدفاعيّ (الدشم). ولمّا عُيّن مسؤول عمليّات «سقّز»، كان كلّ صباح يأخذ كتيبة من العناصر، يسير بها في طرقات سقّز، فيطلقون شعارات عدّة : «أيّها الكوملة، أيّها الليبراليّون، سوف نلاحقكم من مكان إلىمكان»، «أيّها الكوملة، أيّها الليبراليّون، حانت نهايتكم»، «أيّها الكوملة، أيّها الليبراليّون، سنقطّعكم إرباً إرباً».
في بدايات ذهابنا لمنطقة سقّز، كان سلاحنا الثقيل عبارة عن رشّاش (BKC). حتّى الـ «أر بي جي» لم يكن بحوزتنا. وهذا ما جعل المعادين للثورة يتجاسرون علينا كثيراً، فكانوا يشنّون الهجومات على مقرّنا بسبب ودون سبب.
124
100
الحرب النفسية
عندما أصبح محمود مسؤول العمليّات قال: «ينبغي أن نحلّ مشكلة العتاد بأيّ شكل من الأشكال».
طرق الكثير من الأبواب، واستطاع شيئاً فشيئاً أن يؤمّن الكثير من الأشياء، كما سعى إلى تأمين قذائف الهاون، ولكن عندما كانت المسألة عرضة للتأخير، حلّ مشكلته بطريقة أخرى.
125
101
الحرب النفسية
في معمل السجائر، كان هناك الكثير من قساطل المدافىء. فأمر كاوه بطلائها باللون العسكريّ، ووزعناها على سطوح كلّ مقرّ من المقرّات، ووجّهنا رؤوسها من فوق حافّات السطوح، بحيث تتراءى للناظر من بعيد، أنّها مدافع هاون.
126
102
صلاة الليل
صلاة الليل
كنّا في مدينة سقّز، في شتاء العام ١٩٨١م.
كان الجميع يستيقظون عند السحر، لأداء صلاة الليل، وكان هناك عدّة أشخاص يستيقظون قبل الجميع، يسخّنون الماء للآخرين، أمّا هم فكانوا يتوضّأون خارج مبنى المنامة بالماء البارد. لم تكن قطرات الماء تصل إلى الأرض حتّى كانت تتجمّد.
هؤلاء أيضاً، لم يكونوا يؤدّون صلاتهم في مبنى المنامة، كان كلّ منهم يضع بطانيّة فوق رأسه، ويخرج.
كانوا يصطفّون في عتمة الليل وراء بعضهم بعضاً، إلى جانب حائط مبنى المنامة، ويؤدّون الصلاة.
كان محمود واحداً من هؤلاء الثلّة؛ لكنّه لم يكن يضع أيّاً من هذه البطّانيات فوق رأسه.
126
103
الحفاظ على كبرياء رجال التعبئة
الحفاظ على كبرياء رجال التعبئة
كانت «حسن سالاران» منطقة مخترقة من قبل أعداء الثورة وغيرآمنة، وكان على عناصر الجيش أن يجعلوا لهم نقطة هناك. في مثل تلك الأوضاع، كانت الأوامر تقضي بأن يتحرّكوا بواسطة الطائرات العامودية والدبّابات. ولمّا آل الأمر إلى محمود قال: «لا شيء يلزممن هذه الوسائل».
قيل: «وكيف ستذهب إلى هناك»؟
قال: بهؤلاء التعبويّين.
في الجادّة الترابيّة إلى منطقة «مريوان»، كان محمود يتقدّم العناصر على مسافة كيلومتر من القوّات كافّة. كان مصوّباً سلاحه، ويستطلع النواحي كالصقر. كنت قلقاً عليه، ذهبت إليه وقلت: «عزيزي محمود، المنطقة خطرة، لا تتقدّم كثيراً».
- يجب عليّ أن أتقدّم.
- لِمَ؟
- ينبغي أن تُكسر هيبة أعداء الثورة في أعين هؤلاء الإخوة.
كان يتقدّم بصلابة، وكأنّه يحمل معه كلّ هيبة النظام وثباته.
127
104
الحفاظ على كبرياء رجال التعبئة
عند الغروب كنّا قد أنجزنا مهمّتنا ورجعنا، بهؤلاء التعبويّين، وبتلك الإمكانيات القليلة.
كانت نقطة «سنته» بين «ديواندرّه» و«سقّز»[1]. وكان قد وقع في تلك المنطقة ما بين العشرين والثلاثين من الإخوة في كمين أعداء الثورة. كانوا ينادوننا عبر الجهاز ويقولون: «إن لم تأتونا على وجه السرعة، فسنبيدكم».
انطلقنا بسبع أو ثماني آليات، وبنحو ٥٠ إلى ٦٠ عنصراً. على مسافة ٣ كلم من نقطة «سنته»، أرسل كاوه مجموعة من العناصر بأربع آليّات عبر الجادّة، وقال لهم: «بمجرّد أن تصلوا إلى هناك، ابدأوا بإطلاق النار». وذهبت أنا ومجموعة أخرى برفقته من ناحية الجبالوالمرتفعات. كان خبيراً بالمنطقة بحيث التففنا حول أعداء الثورة، فقتلنا منهم ستّة أشخاص، وأسرنا البقيّة. ولاذ شخصان منهم بالفرار.
كان تكبيد أعداء الثورة مثل هذه الخسائر في تلك المنطقة، سابقةً لا مثيل لها.
[1] مناطق وقرى إيرانية في كردستان الشمالية.
128
105
شجاعة قائد شاب
شجاعة قائد شاب
لم يكن يحلّ الليل حتّى تصبح المدينة بكلّ بيوتها وكأنّها سقطت في أيدي أعداء الثورة. فقد كانوا يرمون علينا وابلاً من الرصاص.
عندما أصبح محمود مسؤول عمليّات سقّز، كتب في اليوم الأوّل بياناً جاء فيه: «كلّ بيت تُطلق منه رصاصة نحونا، نردّ عليه بقذيفة آر بي جي».
وهكذا فعل، وبعد عدّة ليالٍ، لم تعد تُرمى باتّجاهنا طلقة واحدة من أيّ بيت.
كان قد وصل فريق من الإذاعة والتلفزيون إلى «بوكان»، وكانوا يبحثون عنّي وعن قائد الحرس ليستوضحوا منّا كيف حرّرنا «بوكان». قلنا: «اذهبوا إلى قائد العمليّات، فقد كان مفتاح انتصارنا».
ما إن رأوا محموداً حتى ذُهلوا، لم يصدّقوا أنّ كلّ هذه العمليّات من صنع هذا الشخص.
في تلك الفترة، لم يكن لمحمود لحية ولا شاربان، وكان عليك تدقيق النظر في وجهه حتى يمكنك أن ترى شيئاً.
129
106
شجاعة قائد شاب
شهادة وتواضع
عندما تمّت عمليّات «والفجر٩»، جاءه فريق من الإذاعة والتلفزيون، وأجروا معه حديثاً. توجّه
129
107
شهادة وتواضع
المراسل إلى الكاميرا وشرع بالكلام: «إنّنا الآن في محضر الأخ كاوه، القائد الفاتح للعمليات».
احمرّ وجه محمود، قام وذهب. تعجّب المراسل، وكذا بقيّة الفريق. لحِقَ المراسل به وقال: «ممَّ استأت يا أخ كاوه؟».
أشار محمود إلى القوّات وقال: «فاتح العمليّات هم هؤلاء التعبويّون المجهولون؛ عليك أن تحاورهم هم. وقطع الحوار».
130
108
بيتي كردستان
بيتي كردستان
بقيت مجموعتنا مدّة أربعة أشهر في مدينة «سقّز». لم نأخذ فيها إجازة ولو ليوم واحد. عندما أردنا أخذ إجازة بعد أربعة أشهر، تعلّق بنا محمود وقال: «تريدون أن تذهبوا إلى مشهد؟ ماذا عندكم هناك؟»
- عوائلنا هناك قلقة علينا، نريد أن نذهب لتفقّدها، كما نريد أن نتنفّس هواءً جديداً».
- اذهبوا، لكن بشرط.
- ما هو؟
- بشرط أن تعودوا جميعاً بعد الإجازة إلى هنا.
130
109
بيتي كردستان
لم يذهب هو في هذه الإجازة المشروطة. قلنا: «ماذا نقول لأبيك وأمّك؟»
- سلّموا عليهما.
- «إذا سألوا عن سبب عدم مجيئك للبيت ماذا نقول؟»
- «قولوا لهم بيتي كردستان».
132
110
هيبة استنطقت أسيراً
هيبة استنطقت أسيراً
ذات يوم، أَسَرْنَا عنصراً من أعداء الثورة، من أولئك الأقوياء الشّداد. كان علينا أن نعلم منه أمرين: الأوّل أين ذهب بقيّة عناصر «الكوملة»، والثاني ماذا فعلوا بأسرانا؟.
لم يتجاوب الأسير ولم يفتح فمه بكلمة، كان يقول: «اضربوا عنقي، لن أتكلّم».
وصل محمود، وضع يده على كتفه، جعل يسير وإيّاه، حتّى ابتعدا عن الرفاق.
بعد دقائق عدّة، عادا، ويبدو أنه أخذ منه الأمرين معاً، حيت أشار محمود إلى مكانٍ وقال: «احفروا هناك». وذهب محمود نفسه وراء عناصر «الكوملة»، وأخذ منهم أسرى أيضاً.
هناك حيث حفرنا، وجدنا جثث الإخوة الأسرى.
133
111
هيبة استنطقت أسيراً
لمدّة مديدة، أحببت أن أعلم ماذا قال لذلك الأسير حتّى طوّعه بهذا الشكل، لكنّ هيبته لم تكن تجرّئني على السؤال.
134
112
كاوه مشغول جداً
كاوه مشغول جداً
كنَّا نجول (أنا والأخ كاوه) ونتفقد مواقع الدعم الخلفية، التقينا بمجاهد كبير في السن ويبدو أنه لا يعرف كاوه شخصياً.
سأله رفيقي [كاوه]: ما بك يا أبي العزيز، ممّ أنت منزعج؟
قال الرجل العجوز: وهل تدع تجهيزات كتيبتنا أحداً يرتاح؟
- كيف؟
- طلبت كميّات من أربعة أصناف، وهي ضروريّة، يشترطون كذا وكذا، ويقولون ينبغي أن تجلب موافقة خطّية من كاوه. قبّل جبين الرجل العجوز، وقال: تعالَ يا أبي العزيز لأحلّ مشكلتك.
قال الرجل العجوز: ينبغي أن أذهب إلى كاوه.
ضحك ومشى برفقة الرجل العجوز وقال: كاوه مشغول جدّاً، تعالَ، أنا أحلّ مشكلتك». ثم ذهبا. بعد لحظات، عندما عاد سألته: ماذا حدث؟ قال: حُلّت مشكلته.
أتى الرجل العجوز خلف كاوه، احتضنه وقبّله، وقال بصوته المرتجف: لماذا لم تقل لي أنّك أنت محمود كاوه؟
134
113
صورة ونوم عزيز
صورة ونوم عزيز
أراد أن يوقظه، لم أسمح له، دار جدل بيننا. قلت: «أوَلا تعلم أنّه قلّما ينام؟»
علا صوت محمود من الغرفة: ماذا يحدث خارجاً؟
قلت للأخ الّذي يقف مقابلي: أخيراً نفّذت ما يدور في خلدك!.
فتحتُ باب الغرفة، وقلت: تعبويّ يقول إنّه يريدك في أمر.
أتى ووقف أمام الباب وقال: أنا حاضر.
قال الأخ بأعصاب باردة: في الحقيقة، أريد أن ألتقط صورة معك.
انتعل محمود حذاءً بلاستيكياً وقال: أين تريد أن تلتقط الصورة؟
قال: في الباحة الخارجية.
جال به أربع أو خمس مرّات في هذه الجهة وفي تلك الجهة حتّى التقط الصورة. لمّا عاد محمود ذهبتُ إلى الأخ وأنّبته وقلت بانزعاج: «هل كانت المسألة تستحقّ إيقاظ قائد اللّواء من نومه من أجل التقاط صورة معه، وجرجرته من ناحية إلى أخرى؟»
135
114
صورة ونوم عزيز
طأطأ رأسه أرضاً، وقال: في الحقيقة، سمعت أنّه إنسان متواضع فأحببت أن أرى ذلك عن قرب.
135
115
كثرة اللباس تعيق الحركة
كثرة اللباس تعيق الحركة
لم يكن يرتدي المعطف العسكري [الفيلد]. كانت أسنانه تصطكّ بعضها ببعض. سألته: ماذا فعلت بفيلدك؟
أجاب: كنت في بيت الخلاء حين انطلق الإخوة، فلم يكن أمامي متّسع من الوقت لأرتديه.
كان محمود بالقرب منّا. سمع ما قلناه. خلع فيلده وأعطاه إيّاه. كنت أعلم أنّه لم يكن يرتدي لباساً صوفيّاً تحت فيلده. كان يقول: إنّ كثرة ارتداء الملابس تعيق الإنسان عن الحركة.
كان البرد قارساً لا يدع للمرء حولاً. وبقي في ذلك القميص الرقيق إلى ما بعد انتهاء العمليّات. أراد الكثيرون أن يعطيه كلّ منهم فيلده الخاص، وأنا كذلك، لكن ما كان ليقبل!.
136
116
كثرة اللباس تعيق الحركة
لا يعرف البرد
كان الثلج على علوّ أربعين سنتمتراً، والبرد لاسعٌ ينفذ إلى لبّ العظام. وضع كثير من الإخوة قبّعة الفيلد فوق القبّعة الّتي كانوا يعتمرونها. وقد تقوقع الجميع على أنفسهم من شدّة البرد.
136
117
لا يعرف البرد
عندما وصلت إلى «ساحة التّجمع» رأيت أحدهم يخلع القميص التحتاني. لقد كان كاوه. وقف على المنصّة. ولمّا حضرت الكتائب كافّة وقف خلف الميكروفون وقال: «فليخلع الجميع ملابسهم».
كان الكثيرون جنوداً مثلي. جنوداً وغير جنود، بدأنا بالتمتمة والتأفف. خلعنا ملابسنا. أَمَرَنَا بالعدْوِ عدّة دورات حول «ساحة التجمّع»، كما علّمنا بعض الحركات السويديّة. احمرّت صدور الإخوة جميعاً، فصارت كالشمندر المسلوق، وفي النهاية، سُرَّ، وقال: «علىالمجاهد الّذي يأتي إلى كردستان أن يتعلّم أن لا يحني رأسه حتّى أمام البرد؛ فالعدوّ متموضع في كلّ مكان».
137
118
لا راحة
لا راحة
على الرغم من أنّه أُصيب بشظيّة، إلّا أنّه كان يقاتل أفضل من أيّ شخص سليم، كما كان يقوم بتوجيهاته ويقود المقاتلين.
شيئاً فشيئاً شحب لونه وبهت. كان من الواضح أنّه ضعف كثيراً. ذهبت واثنين أو ثلاثة من الإخوة إليه وقلنا: «لقد جُرحت يا حاجّ، عليك بالانسحاب».
- أنسحب؟ من أجل ماذا؟
- يجب عليك أن تدخل المستشفى، وتستريح.
137
119
لواء الشهداء، انضباط وتقوى
لواء الشهداء، انضباط وتقوى
كان قد حضر للتوّ؛ أراد تفقّدهم. تفقّد العنصر الأوّل، سحب حزامه، وقال: إنّه رخو كثيراً، ينبغي عليك أن تحكمه جيّداً بحيث لا تدخل اليد تحته.
العنصر الآخر، لم يكن لباسه مرتّباً، الثالث لم يلفّ أسفل بنطاله جيّداً. كان يذكّر العناصر بالضوابط بلهجة متينة تملؤها الهيبة، بحيث يرتجف لها فريقه. سادت في الصفوف الأخرى حركة وغليان، ما إن كان يصل إلى
الصف التالي، حتّى يكون الجميع قد صاروا منتظمين ومرتّبين، وأحزمتهم متينة ومحكمة. قال محمود: «اعلموا أنّ النظم والانضباط في لواء الشهداء الخاصّ، يأتي في الدرجة الأولى بعد التقوى».
138
121
جذبهم إلى كردستان
جذبهم إلى كردستان
لم يطل حديثه لأكثر من عشرين دقيقة. في تلك العشرين دقيقة طرأ عليّ عمل لم أستطع معه البقاء في ميدان التجمّع. كان صوته مفعماً بالمشاعر ومؤثّراً. ولكنّني لم أكن ألتفت إلى كلامه.
138
122
جذبهم إلى كردستان
عندما عدت، كان قد أنهى حديثه. أخذ صادق جوادي مسؤول المقرّ التدريبيّ الميكرفون وقال: والآن، فليقف الأخوة الّذين يريدون الذهاب إلى كردستان في الجهة اليمنى.
وقف الجميع في الجهة اليمنى ولم يبقَ أحد في الجهة الأخرى. كان بعضهم من أهل مشهد. كان من المقرّر أن تُعطى لهم فرصة ليذهبوا ويودّعوا أهليهم، فلم يقبل أحدٌ منهم بذلك، وكانوا يقولون: «ليس من المصلحة مع هذه الأوضاع الحسّاسة الّتي تشهدها كردستان،والّتي تكلّم عنها كاوه، أن نتأخّر».
نسّقنا فوراً مع محطّة القطار. بعد ساعة سلكوا طريق «مراغة» ومن هناك ذهبوا إلى «مهاباد» في كردستان.
139
123
حماية رجل كرديّ
حماية رجل كرديّ
كانوا ما بين الأربعين والخمسين شخصاً. لحقنا بهم إلى قرب الحدود، لم نصل إلى نتيجة. قال محمود: ارجعوا.
بعد ساعة، وفي طريق العودة، جاءنا رجل كرديّ، كان يمشي متلطّياً، ينظر حوله يمنة ويسرة، من الواضح أنّه كان خائفاً جدّاً. سأل عن المسؤول، قلنا: ماذا تريد منه؟
قال: أريد أن أدلّه على المكان الّذي اختبأ فيه عناصر الكوملة.
كان القروي في تلك المنطقة. وكان لديه «جرَّار زراعي» وُصلت فيه حمولة شاحنة. كان يقول: مفترق طريقهم كان نهراً، وحيث كانوا مجروحين لم يتمكّنوا من عبور النهر، فأجبروني على نقلهم. نقلتهم إلى قريتين في تلك النواحي. ولمّا أدركوا أنّكم لن تلاحقوهم، دخلواأحد المساجد، ومن شدّة ما كانوا منهكين، غلبهم النوم.
قسّم محمود القوّات إلى فرقتين، وقد ذهبنا إلى القرية من محورين. لم يستطع أيٌّ منهم أن يلوذ بالفرار. في اليوم التالي، أرسل محمود أحد الإخوة خلف الرجل الكرديّ، وأوصاه قائلاً: اجلبه إلى ميدان القرية،
140
124
حماية رجل كرديّ
واضربه أمام أعين الجميع، وقل له: لماذا عبرت النهربالمُعادين للثورة؟
كان قبلها قد نسّق مع الرجل الكردي، وقال له: من اللازم أن نقوم بهذا العمل؛ فإذا ما وصل الخبر إلى أصدقائك أنّك ساعدتنا، لن يرحموك، لا أنت ولا زوجتك وأولادك.
سأل الرجل الكرديّ الله أن يتقبّل منه، وكان يقول: لقد قمت بهذا العمل من أجل رضى الله، والضرب أيضاً أتحمّله في سبيل مرضاة الله.
141
125
جعلته يضحك
جعلته يضحك
أشار إلى فصيلة من العناصر، مجهّزة بالسلاح، قال: أوصل هؤلاء فوراً إلى خطوط التماس.
كان وجهه مغبرّاً، ملوّثاً بالتراب ومنقبضاً. من الواضح أنّه كان مشغولاً جدّاً، قلت: لن أوصلهم. تعجّب، جعل يحدّق في وجهي، وقال: لِمَ؟
قلت بجديّة أكثر من ذي قبل: وظيفتي التدريب، ليس نقل العناصر إلى خطوط التّماس.
ازداد تعجّباً. لم أستطع تمالك نفسي من الضحك. كانت إحدى يديه مشدودة بالجصّ، أراد أن يلتقطني باليد السليمة، لم يستطع، إذ لذت بالفرار. فودّعني بعدد من
141
126
من وثائق الحرب
من وثائق الحرب
طرأت تغييرات على خطّة المناورة، فعدم النجاح الكامل للواء الشهداء ١٥٥ في عمليّات الليلة الماضية كان قد أحدث تردّداً لدى المسؤولين، وخاصّة لدى قادة هذا اللواء. وعلى الرغم من أنّ هذا التردّد قد حدث لدى قائد اللواء نفسه (الأخ محمود كاوه) إلا أنّه لم يظهرهنظراً لحساسيّة الوقت، ومصلحة العمليّات بشكل عام. ولهذا ومن أجل القضاء على هذا التردّد وتقوية روحيّة العمليات في عناصر اللواء، قرّر الحضور برفقة القوى العاملة في منطقة المواجهات. عندما علم قادة وحدات وكتائب اللواء بقراره، هبّوا لمنعه عن هذاالأمر، فقال له (الأخ صلاحي) قائد أحد المحاور، محاولاً ثنيه عن هذا الأمر: «لا تقم بهذا الأمر، فنيران الأعداء غزيرة، والطريق خطرة، قد يصيبك مكروهٌ لا قدّر الله». فردّ كاوه عليه قائلاً: «حسناً
145
128
من وثائق الحرب
إذا كان الأمر هكذا، فإنّي أصبح شهيداً. وإذا ما آل الأمر إلى ما آل إليهالليلة الماضية، فإنّي مستعدّ الليلة أيضاً لأن أستشهد». وبقدر ما كان سائر قادة اللواء معترضين، كان هو مصمّماً على الذهاب إلى منطقة المواجهات.
الحوار التالي الّذي حصل بين الأخ «كاوه» ونائب قائد اللواء (الأخ منصوري) قبل مغادرة كاوه إلى منطقة العمليّات، وفي أثناء انتعاله للحذاء العسكري، يبيّن مدى تصميمه على الذهاب، ومدى تصميم الآخرين على منعه. وهذا نصّه:
- «ذهابك ليس فيه مصلحة للإسلام ولا مصلحة لـ ...» قال منصوري.
- «لا!» أجاب كاوه.
- «هل كنت تظنّ أنّ فرق العمل تحتاج إلى شخص أقوى منّي، ولكنّني أذهب أنا وأكلّف شخصاً آخر مكاني».
- «لا، أريدك الليلة أن تبقى هنا».
- «وأنا لا أريد».
كاوه: «لن يحدث شيء هذه الليلة».
146
129
من وثائق الحرب
- «حسناً إن كان لن يحدث شيء هذه الليلة، فلا داعي أيضاً لذهابك».
- «ماذا أقول! يحدث إن شاء الله ، يحدث».
- «بالطبع، إذا أراد الله، يحدث. أنت أيضاً أمامك هنا مشاغل كثيرة؛ مسألة المقرّ، التنسيق مع المدفعية و...».
- «هذه كلّها تُحلّ، وهي محدّدة».
عندها قال منصوري حيث لم يصل إلى نتيجة معه، مبيّناً تصميمه على الذهاب إلى الخطوط الأمامية: «على كلّ، اذهب أنت الآن ، لن أعارضك، أنا أيضاً سآخذ كتيبة الإمام الحسين(عليه السلام) وأذهب لتأدية المهمّة».
- «حسناً قم بهذا العمل» أجاب كاوه.
- «ولكن، هنا في مقرّ قيادة اللواء، الأعمال ستُتْرك»!
- «المسألة ليست مهمّة، فقط كن أنت عند ابتداء المواجهة، في الخطوط الأمامية حيث أكون».
وأيضاً، عندما لم يصل منصوري إلى أيّ نتيجة معه، أصبح أكثر جدّيّة وقال: «سيّد كاوه، أتريدنا أن نتوسّل القوّة معك؟ ذهابك إلى الخطوط الأماميّة ليس عملاً صائباً على الإطلاق، وليس منطقيّاً».
147
130
من وثائق الحرب
- «اليوم يختلف عن الأيّام الأخرى، أنا أعلم أشياء. أعلم أنّ هناك تردّداً».
- «حسناً، التردّد طبيعيّ، وينبغي أن يكون».
- «حسناً، إذا كان المرء حاضراً بنفسه في الخطوط الأماميّة، وحدث شيء في وقت من الأوقات، فيمكنه أمام الله سبحانه وأمام خلقه أن ...» ويسكت كاوه، ويخرج (منصوري) من دشمة القيادة لإرشاد كتيبة الإمام الحسين(عليه السلام).
ثمّ يضيف راوي لواء الشهداء ١٥٥: عندما توجّهت الكتائب لتنفيذ المهمّة، تَحَرَّكَت كتيبة الإمام الحسين(عليه السلام) أوّلاً من أجل السيطرة على مرتفعات ٢٥١٩، ثمّ كتيبة الإمام السجّاد(عليه السلام)، في حين كان قائد اللواء (محمود كاوه) في مقدّمتهما. وطبّق خطّة المناورة، كان من المقرّرأن تسيطر كتيبة الإمام الحسين(عليه السلام) على القاعدتين ١ و٢، وتسيطر كتيبة الإمام السجّاد(عليه السلام) على القاعدتين ٣ و٤. نظراً لما حصل في الليلة الماضية، فلم يحتمل العدو تنفيذ عمليّات جديدة من هذا المحور. ولهذا قلّلوا من إطلاق النيران والقنابل المضيئة في تلك الناحية.
على كلّ حال، كانت الساعة تقارب الواحدة بعد منتصف الليل. وبعد عبور المسافة الفاصلة بين خطوطنا وخطوط الأعداء، وصلت فرق المشاة إلى
148
131
من وثائق الحرب
أهدافها المقصودة، لتشرع بالمواجهة من خلال التنسيق مع فرق الإسناد التابعة لنا. في ذلك الوقت، سقطت قذيفة مدفعيّةبالقرب من كاوه، فارتفع إلى جوار ربّه شهيداً.
149
132
اللواء الشهيد حسن آبشناسان
اللواء الشهيد حسن آبشناسان
كاوه إنسان مجبول بالصفاء وفدائيّ كبير. أصبح فدائيّاً في العمل والحرب لا في الدروس النظريّة. كان وجوده هامّاً جدّاً بالنسبة للحرس وللجمهوريّة الإسلامية، ولم يُدِرْ ظهره يوماً للأعداء.
إذا كان في العالم فدائيّ مخلص وعاشق للإسلام والإمام، فهو محمود كاوه. وأيّ مجاهد إذا أراد أن يصبح مخضرماً وليّناً في آن، عليه أن يلتحق بـ «لواء الشهداء الخاصّ» عند كاوه.
150
133
من الأَدميرال علي شمخاني (أثناء الحرب)
برقيّة موجّهة إلى الأخ كاوه
من الأَدميرال علي شمخاني (أثناء الحرب)
الأخ كاوه قائد لواء الشهداء الأبطال المحترم:
عافاكم الله إذ أضفت سواعد مجاهديكم قوّةً أخرى إلى قوّة الإسلام العظيم.
اثبتوا، وأذلّوا بقوّتكم وتدبيركم الّذي لا يعرف التعب، العدوّ المسحوق والمهزوم، واجعلوا شعار الإسلام العظيم أشدّ عظمةً.
أخي العزيز، لم يعد للعدوّ أمامكم من قوّة. ليس أمامكم سوى كتيبتين، من «الكومندس»، والسبب الوحيد لإطلاق هذه التسمية عليهم هو فقط لباسهم الخاصّ. تقدّموا، واستفيدوا الاستفادة اللازمة من هذه الفرصة الإلهية، وأظهروا بقوّتكم عجز الكفّار.
لقد شاهدتم البارحة العناية الإلهيّة رؤية العين. كان القمر بدراً،
152
134
من الأَدميرال علي شمخاني (أثناء الحرب)
وقد غُطّي بالغيوم المأمورة من قبل الله سبحانه، بحيث يعجز كلّ فكر قاصر عن إدراك ذلك. وهذه الألطاف ما زالت متتالية، وعلينا الاستفادة اللازمة منها.
أسرعوا، فالنصر الإلهيّ بانتظاركم..
153
135
قائد الحرس السابق السيد رحيم صفوي
قائد الحرس السابق السيد رحيم صفوي
الشهيد كاوه مثال لقوله تعالى في الآية الشريفة الّتي تصف أصحاب الرسول(صلى الله عليه وآله): ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾[1].
لم يكن يرحم الكفّار، و«الكوملة»[2]، والليبراليّين، وكان يصبّ عليهم جام غضبه ونيران أسلحته، وزخّات رصاصاته ويوصلهم إلى مصيرهم المشؤوم. لقد كان بإيمانه القويّ وقلبه المطمئنّ، الفاتح للمحاور الّتي كانت تُوصف بأنّها مستعصية على الفتح، كمحوربيرانشهر ـ سردشت.
[1] سورة الفتح، الآية: ٢٩.
[2] الكوملة: مختصر حزب الديمقراطي الكردستاني الذي كان يتآمر على الثورة بعيد انتصارها تنفيذاً لإملاءات المخابرات الغربية.
154
136
العقيد الطيّار محمّد باقر قاليباف
العقيد الطيّار محمّد باقر قاليباف
بعد حكم إمام الأمّة القاضي بالتحاق كلّ قادر على حمل السلاح بالجبهة، ذهب إلى كردستان ولم يرجع إلى البيت إلّا على نقّالة الإسعاف وفي حال الجرح...
الّذين يعرفون الشهيد كاوه عن قرب، يعلمون أيّ نشاط وفعالية كان يتصف به. لم يكن يهدأ أو يرتاح حتّى ولو للحظة. فلم يكن يحبّذ أبداً أن يكون في مكان يعيش فيه براحة، بل كان يعمل في سبيل الإسلام والثورة ويحبّ الحضور في أخطر الأماكن الّتي تحتاج الثورةلوجوده فيها.
أذكر حينها أنّي كنت تعبويّاً في قاعدة «سردادور»، فعندما كان يأتي ويعطينا الدروس كمدرّب، كنت أرى أنّه يختلف عن بقيّة المدرّبين. فمسلك هذا الشهيد كان يحكي عن أنّه لم يكن يستطيع القرار في مكانه ويرتاح. وكان يتمتّع في مسلكه بفعالية خاصّة. فما يكاد أعداء الثورة
156
137
العقيد الطيّار محمّد باقر قاليباف
[أذناب الأجانب في الداخل] يدخلون الأراضي الإيرانية، ويشعرون بوجود كاوه وقوّاته من الحرس، حتّى كانوا ينسحبون من المنطقة ويتركونها من دون أيّ مواجهة. في الأيّام الأخيرة، حيث كنّا نجلس ونتحدّث، كنّا نسأله عن الوضع في كردستانفيقول: «أينما نذهب، لا نعثر لهم على أثر». كان يقول لكتيبة جند الله وبقيّة القوّات الّتي كانت في كردستان: «اذهبوا أنتم وابدأوا المواجهات مع المعادين للثورة، من دون أن يعلموا أنّنا (لواء الشهداء الخاصّ) معكم، وعندما تبتدئ المواجهات ، تنحّوا أنتم جانباً حتىنلقّنهم نحن درساً». من المميّزات الجيّدة الأخرى الّتي كانت موجودة في الشهيد كاوه، هي شجاعته، فقد كان نموذجاً في الشجاعة بين قادة جنود الإسلام. فكلّما كان يريد الهجوم على معقل الأعداء كان يأخذ سلاحه أوّلاً، يقف في المقدّمة، ويسحب الجميع خلفه...
أذكر حينها، أنّ الوقت كان عصراً، كانت هناك جلسة في «باختران»، ووصل الخبر أنّه يُحتمل أن يشنّ العدو الليلة هجوماً على منطقة «الحاج عمران». وما إن ذُكر الخبر حتّى شخصت عيون الجميع إلى كاوه، فالكلّ كان مترقّباً ليرى ماذا سيفعل. وقد كانوا يعتقدونبأنّ المشكلة هناك ينبغي أن تُحلّ على يد كاوه، وكان هو نفسه يدرك ذلك. فقام من لحظته تلك، ذهب وجهّز كتائبه. في تلك الليلة شنّ العدو هجوماً على منطقة «الحاج عمران». لكن في صباح اليوم التالي، بعدما دخل كاوه ميدان المعركة، وبعد مواجهة مباشرة
157
138
... بلسان الشهيد كاوه
... بلسان الشهيد كاوه
مخاطباً المنتسبين لفرقة أمن العمليات
... الحرب التخصّصية توأم الإيمان، فهذا موجود في كلّ مكان، ويصدق في كلّ زمان. ولكنّ هذه المسألة هنا، لها حال عجيبة. والإخوة في كردستان يختلفون اختلافاً عجيباً عن القوّات في سائر المناطق. ومع كونهم يتحلّون بالإيمان، إلّا أنّ في إيمان هؤلاء الإخوة فرقاًخفيّاً، وهو أنّهم - من خلال الشجاعة والدافع- أنهوا أمر كردستان دفعةً واحدةً. إنّنا بالتأكيد أمام حرب عصابات ضدّ أعداء الثورة، فنحن نخوض حرباً غير منظّمة.
في الأوقات الّتي لا تكون فيها عمليّات، تكون هناك دردشات ومزاح، وهذه الأوقات يروّح فيها الإنسان عن نفسه. ولكن لا يمكننا تحمّل ذلك
159
140
... بلسان الشهيد كاوه
في وقت العمل. فإذا ما صدر أمر، وأُسديت مهمّة إلى عنصر ما، ينبغي له العمل بها؛ سواءً كان هذا الشخص «مجيد إيافت»، أم«الأخ ولي نژاد»، أم أخاً آخر..لا فرق..
الآن، يُعمِل الإِخوة في كردستان كلّ مهاراتهم وكلّ تجربتهم، ويقاتلون جيّداً. وأنا هنا ينبغي أن أقول لكلّ الإخوة، إنّه إذا كان يجب علينا تعلّم طريقة قتالية، فينبغي حتماً أن لا ننسى حروب العصابات والحروب غير المنظّمة، وأينما كنّا علينا أن نطالع مطالعة دقيقةعنها، إلى أن تنهي قوّاتنا في المنطقة مهمّتها، وربّما تنتقل إلى مناطق الجنوب، وعندها يمكنهم هناك القبول بمسؤوليات خطيرة...
إنّنا نتوقّع منكم الكثير. أنتم فِرَق أمن العمليّات[1]، كونكم القوات الأفضل، ومجموعة من قوّاتنا النوعيّة. لقد عيّنّا أحد أفضل عناصرنا مسؤولاً عن وحدة أمن العمليّات؛ الأخ «إيافت» وهو يتصدّى الآن لهذه المسؤوليّة. كان معنا منذ البداية في كردستان، وكانجديراً بكثير من المسؤوليات، وقد طُرح عليه الكثير منها ولكنّه لم يقبل... إلى أن انطلق لمدّة وحضر في المنطقة، حيث طلبناه فيما بعد، وأحضرناه (إلى هذه الوحدة). وإنّنا في هذا المجال كنّا وما زلنا نثمّن أمن العمليّات كثيراً.
[1] التي من مهامها الاستطلاع وتوجيه القوات.
160
141
بيان قوّات المشاة في حرس الثورة الإسلاميّة
بيان قوّات المشاة في حرس الثورة الإسلاميّة
مرّة أخرى اختارت يد التقدير الإلهيّ جنديّاً مضحّياً من بين قادة حرس الإسلام، فتضرّج بدمائه في أجواء عاشوراء الحسين(عليه السلام), ابنٌ شجاع من سلالة العاشقين لنهج أبي عبد الله(عليه السلام)، في الأعالي الشامخة لمرتفعات منطقة «الحاج عمران». لقد سطّر قائد الإسلام الرشيد،«قائد لواء الشهداء الخاصّ»، عنصر الحرس الأخ الشهيد محمود كاوه في عمليّات (كربلاء ـ ٢) المظفّرة، من خلال بذله النفس إثر مواجهة شجاعة مع العدوّ البعثي، ملحمةً خالدةً في الصفحات الذهبيّة لتاريخ الحرب.
كان صدى بطولات واستبسال هذا القائد الشجاع استمراراً لنهج الشهداء الدامي أمثال بروجردي، وكاظمي وقمّي. وكان من الواجب أن
161
142
بيان قوّات المشاة في حرس الثورة الإسلاميّة
نسأل أرض كردستان المظلومة شبراً شبراً، عن بطولات وشجاعة وجراح هذا العاشق المخلص، وأن نسمع قصّتها على لسان صحاريالجنوب الحارقة، إلى قمم جبهات الغرب المخضّبة بالدماء.
الشهيد محمود كاوه شخصّية معروفة وقائد رحيم بالتعبويّين المجهولين، وعاشق للشهادة ومقاتل لا يعرف التعب في مقابل العملاء المأجورين لأعداء الثورة في جبهة كردستان الدامية، وقائد شجاع في الحرب ضدّ أعداء الخارج، ومثال واضح للأخلاق الإسلاميّة. كانقائداً متواضعاً لكلّ عناصر الحرس ومقاتلي لواء التوحيد.
كان في ساحات الحرب في طليعة مجاهدي الإسلام، وقد قارب مرّات عدّة حدود الشهادة.
سلام عليه، إذ أمضى عمره المبارك لحظةً بلحظةٍ في جهاد الأعداء المليء بالمخاطر، ملتزماً الإسلام والطاعة الخالصة للولاية، ووقف في أشدّ الميادين خطورةً.. وإذ تتقدّم قوّة المشاة في حرس الثورة الإسلامية من إمام الزمان|، ومن إمام الأمّة، ومجاهدي لواء الشهداءالخاصّ، ومن عائلته المربّية للشهداء، بالتعزية والتبريك بشهادة حارس الإسلام الرشيد هذا، نسأل الله سبحانه للجميع التوفيق والصبر والاستقامة، حتّى تحقيق النصر النهائيّ.
الحمد لله ربّ العالمين
162