دا - الجزء الثاني


الناشر: شبكة المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2019-09

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للترجمة


الفصل الرابع عشر

الفصل الرابع عشر

 

بعد شهادة علي، شعرت أنّ ذكرياتي كلّها تقريبًا قد مُحيت. في الواقع، غرقت في التفكير فيه وفي سيرة حياته حتى فقدت انتباهي لما يجري حولي. أضعت المكان والزمان، وصرت أتابع أعمالي بشكلها الروتيني كما اعتدت عليها في الأيام السابقة. ولهذا فقد نسيت كثيرًا من التفاصيل. أنساني الدهر الكثير من الحوادث، فصرتُ كالنائم الذي يُشاهد حلمًا ثم يستيقظ مرعوبًا فلا يتذكر إلّا بعض الأشياء.

 

ازدحم المسجد مجددًا؛ إذ كلّما أخلينا الأهالي من منازلهم، ازدادت أعداد اللاجئين إليه أكثر فأكثر. في كل يوم كان يرحل جمعٌ منهم ويحلّ مكانهم آخرون. وظهرت للعائلات مشاكلها الخاصة، وضع المواد الغذائية من سيّئ إلى أسوأ؛ قد يستطيع الكبار أن يتحمّلوا، لكن الأطفال وخاصة الرضّع الذين يحتاجون إلى علب الحليب المجفّف، لم يشبعهم ما تقدّمه لهم أمهاتهم من السكر والبسكويت المُذاب بالماء. كان بكاؤهم يشتد ليلًا فيُزعج الباقين ويوتّرهم. ومن جهة أخرى، كان جماعة المسجد يخشون من أن تسقط قذيفة عليه فتؤدّي إلى خسائر فادحة. وقد حدث هذا الأمر فعلًا في أحد الأيام، ولم أكن حينها موجودة هناك.

 

9


1

الفصل الرابع عشر

حين كنا نقول للناس إنّه لا فائدة من بقائهم هنا، فمن استطاع منكم الرحيل فليرحل ويغادر المدينة، كانوا يجيبون: إلى أين نذهب؟ لا نملك سيارات، فكيف يمكننا الانتقال إلى مكان آخر؟ "آبادان" تحت القصف أيضًا. أنتم افعلوا شيئًا لنا.

 

وهذا ما حصل، بينما كنا في العيادة في أحد الأيام، جاء من يقول: الأخت "حسيني"، سوف تأتي السيارات الآن، ساعدوا الناس كي ننقلهم خارج المدينة.

- كيف؟ بأي وسيلة نقل؟ ماذا لو قصفوا سياراتهم فوق الجسر؟

- لن نعبر الجسر أصلًا. نحن سنوصل الناس بالقوارب إلى مكان أبعد من الجسر.

- من أين؟

- من جهة "خمبه" في آخر شارع "40 متري"، فالخطر هناك أقل.

 

كانوا يشيرون إلى جانب من الشاطئ حيث يعبر النهر قرب مستشفى "مصدّق". هناك يجري نهر "كارون" من الجهة الشمالية الشرقية، ويغيّر مساره نحو مركز المدينة. وتعتبر تلك المنطقة آخر أطراف المدينة شرقًا. نهضنا وبدأنا العمل مع الفتيات. ذهبنا إلى صحن المسجد وتحدّثنا إلى الأهالي: جهّزوا أنفسكم، يجب أن ترحلوا.

 

انزعج كثيرون منهم عند سماع هذا الكلام. رغم أننا كنّا قد أبلغناهم من اليوم الأول أنّ بقاءهم هنا ليس محمودًا، وعليهم ترك المدينة، لكنهم كانوا متعلّقين ببيوتهم ومدينتهم، وقلوبهم ترفض الرحيل. كانوا يقولون: إلى أين نذهب؟ ستنتهي الحرب، نبقى هنا حتى نعود إلى بيوتنا

 

10

 


2

الفصل الرابع عشر

وحياتنا الطبيعية، إلى أين تريدون لنا أن نتهجّر؟

 

حتى الأطفال كانوا يعترضون قائلين: نريد العودة إلى بيوتنا، نريد الذهاب إلى المدرسة.

 

كان بين الناس أيضًا، من ينتظر هذه اللحظة للرحيل بفارغ الصبر. إنهم على حق، فقد تعبوا من الحرب والقصف المستمر وعدم وضوح مصيرهم. كان هؤلاء يضعون دائمًا صررهم ومتاعهم جانبًا وكأنّهم في حال استعداد دائم للرحيل؛ يفرشون أمتعتهم ليلًا للنوم عليها، وعند الفجر يوضبون أغراضهم ويشدّون وثاق صررهم ويتابعون انتظارهم.

 

عندما أخبرونا أنّ شاحنة قد وصلت إلى مدخل المسجد، طلبنا من الناس إخراج الأمتعة. وساعدناهم بالتعاون مع شباب القوات الشعبية من المتطوعين لحراسة المسجد. حمل النازحون كل ما استطاعوا إحضاره معهم إلى هنا؛ صررًا كبيرة، صناديق معدنية كبيرة، علب كارتون، أجهزة تلفاز.

 

تعاونّا في ترتيب أغراضهم داخل الشاحنة، ولأنّها لا تتّسع للجميع، أركبنا أوّلًا النساء والأطفال. لم يكن بينهم رجال في سن الشباب. وقف كبار السن والرجال غير القادرين على القتال جانبًا. امتلأت الشاحنة بالنساء والأطفال والعجائز. جلس بعضهم ووقف آخرون. انطلق السائق من جهة شارع "40 متري" نحو مستديرة "فرمانداري". تجاوزنا مستشفى "مصدّق" وتوقفنا في آخر الشارع المحاذي للشاطئ. ترجّل الأهالي من الشاحنة وتوجهنا نحو الماء. كان يعجبني ذلك القسم من الشاطئ. فالقصب طويل وكثيف يغطي المساحات القريبة من الشارعين المتصلين بالنهر. وقد حوّل المنطقة إلى بستان أخضر رائع. اقتربنا أكثر، كان منسوب الماء قد ارتفع، وصار لونه داكنًا موحلًا. جُهّزت القوارب

 

11


3

الفصل الرابع عشر

واللانشات لنقل الناس وحتى قوارب التجديف الصغيرة، لكنها توقّفت على مسافة من الشاطئ، كي لا تعلق بالوحول الكثيفة.

 

كان الشباب قد وضعوا ألواحًا خشبية فوق الوحول ليعبر النازحون عليها ويصلوا إلى القوارب. رغم أنّي كنت أخاف من الماء، إلّا أنني حاولت جاهدة مساعدة النساء اللواتي لديهنّ أطفال صغار.

 

انزلقت قدماي في الوحول اللزجة قرب الشاطئ، كانتا تعلقان ولا أخلّصهما إلّا بصعوبة. إضافةً إلى الأهالي الذين أحضرناهم نحن، انتظر جمعٌ آخر دورهم للعبور. بعض الناس كان يقف في القارب ولا يجلس فسحًا للمجال أمام عدد أكبر من الركاب المهجرين. لم تكن المسافة طويلة، والهدف هو الانتقال في عرض النهر من ضفة إلى أخرى.

 

في هذه الأثناء، عبرت النهر فرقاطة بحرية صغيرة، وعلى متنها أشخاص ألقوا السلام على الشباب الذين كانوا يسهّلون عبور الأهالي، فردّوا عليهم السلام تلويحًا بالأيدي. حين عبرت الفرقاطة، ورغم أنها لم تكن سريعة الحركة، أحدثت أمواجًا، وصلت إلى القوارب، فهزّتها بشكل قوي. اضطرب من كانوا في القارب، وحاول العابرون على الألواح أن يحافظوا على توازنهم في المشي كي لا يسقطوا في الماء.

 

وسط الإرباك والفوضى، ضاعف هدير الطائرات الحربية المعادية خوف الناس ورعبهم. فقد كان تجمع كبير كهذا وعبور الفرقاطة ذريعة مناسبة للعدو كي يُغيرَ ويُلقي بصواريخه على الجميع. اختلط الحابل بالنابل في تلك اللحظة وكأنّ القيامة قد قامت. كان الناس في القوارب يحدّقون بخوف في السماء ولا يعرفون كيف يعودون بسرعة إلى اليابسة،

 

12

 


4

الفصل الرابع عشر

بينما ركض من كانوا على الشاطئ وانتشروا في كل حدب وصوب، وانبطحوا على الأرض تحسّبًا لما هو متوقع.

 

في هذه اللحظة، لمحتُ صبيًّا صغيرًا قد سقط في الماء بسبب اهتزاز القوارب. لم يلتفت أحد إلى سقوطه. ركضت نحو الماء وأنا أصرخ: أنقِذوه، أنقِذوه، وقع الصبي في الماء.

 

لم يُسمع هتافي وسط هذه الفوضى والضجيج. لم أكن أجيد السباحة، ولكن خوفي من غرق الصبي جعلني أرمي بنفسي. الحمد لله فإن الماء هناك لم يكن عميقًا، لكنه كان كافيًا لغرق طفل صغير في الخامسة من عمره.

 

بعد أن قفزت في النهر، انتبه أحد الواقفين على الساحل، فسارع إلى القفز في الماء. ضربت بيدي ورجلي بالماء حتى قطعت خمسة أو ستة أمتار، وصل الماء إلى مستوى صدري، ملأ الخوف كياني من رأسي إلى أخمص قدمي. كان الناس قد انتبهوا، وارتفع الصراخ وأصوات الاستغاثة والتوسل بـابن الإمام "السيّد عباس"[1] وبأبي الفضل العباس عليهما السلام.

 

وصلت إلى الطفل وهو لا يزال يتخبّط في الماء ويحرك يديه وقدميه. حين أمسكت يده كان قد نزل كل جسمه تحت الماء. سحبته بيده فارتفع قليلًا. حينها وصل الرجل الذي قفز ورائي، سحب الطفل من تحت الماء وناوله للأهالي في القارب. أمسكوه وصاروا يضربونه ضربات متتالية على ظهره كي يخرجوا الماء الذي ابتلعه.

 

رجعتُ إلى الساحل بمشقّة كبيرة! كانت عباءتي قد طفت على وجه


 


[1]   أحد أبناء أو أحفاد الائمة عليهم السلام.

 

13


5

الفصل الرابع عشر

الماء، خرجتُ وأنا أسحب نفسي بتثاقل والوحول تشدّني إلى الأسفل. لم أكن قد خطوت أول خطوة على اليابسة حتى ظهرت الطائرات مجدّدًا فوق رؤوسنا. ليس قربي أي ملجأ، قفزت وانبطحت على التراب وخبأت رأسي بيدي. سيطر الرعب علينا جميعًا؛ بين صارخٍ وباكٍ بصوت عال، وآخرين يحاولون التهدئة قائلين: لا تخافوا، هذه طائرات استطلاع وغير معدّة للقصف، إلّا أنّ أكثر الناس لم يستمعوا لهذا التحليل. اتجهت الطائرات صوب الفرقاطة التي عبرت منذ لحظات واختفت عن أنظارنا وراء حقول القصب، وألقت صاروخين في الماء؛ الأول لم ينفجر وأحدث أمواجًا متلاطمة، والصاروخ الثاني انفجر وأحدث بركانًا مائيًّا هائلًا. ارتفع الماء كالفوارة في السماء ثم انتشر في كل مكان. بقينا دقائق من دون أي حركة. "زهراء شره" التي أتت معنا من المسجد، صار لونها كالطبشور الأبيض وجحظت عيناها من حدقتيهما. كانت مرعوبة جدًّا والتصقت نفسها بي. أما أنا، فأصبحت مبلولة ومغطّاة بالوحل، وأردت أن ألتجئ إلى مكان قريب، لكن قلبي أشفق عليها فبقيت إلى جانبها.

 

كنت أقول لها: لا تخافي، لا شيء خطرًا، اضبطي نفسك.

 

عندما استعاد الماء هدوءه، وعادت الأوضاع تقريبًا إلى حالها الطبيعية، نهضت من مكاني. ظلّت "زهراء شره" منبطحة على التراب. فجأة بدأت ترتجف وكأنّها سيُغمى عليها أو كأنها تمثّل دور الخرساء ولا قدرة لها على الكلام. كنت قد تعرّفت جيدًا إلى حركاتها هذه، ومتأكدة من أنّ حالها هذه ليست حقيقة، نهرتها قائلة: "كفى! دعكِ من هذا الآن".

 

ابتعدتُ عنها غاضبة واتجهت نحو الرصيف. كان الناس قد تفرّقوا وانتشروا في أماكن كثيرة، حتى إنّ بعضهم قد ركض حتى مدخل مستشفى

 

14

 


6

الفصل الرابع عشر

"مصدّق". ذهبتُ لأعيدهم ونتابع عملية الإجلاء، حين وصلت إلى بوابة المستشفى، عاد مجدّدًا صوت اختراق "جدار الصوت"، ليسمّر الجميع في أماكنهم.

 

شارفت أعصابي على الانهيار. لم أتمكّن حتى من الانبطاح، فانحنيت في مكاني. لمحت حارس مبنى آليات البلدية؛ ركض من باحة المبنى إلى الخارج، فراقبته بنظري. بدا في الخامسة والثلاثين أو الأربعين من العمر، يرتدي قميصًا أزرق، وأظنه لباسه الإداري، وقد رفع أكمامه حتى ساعديه. كان يركض بسرعة ليخرج من الباحة.

 

اقترب الصوت أكثر فأكثر. انبطحت على التراب. قصفت المقاتلات الحربية مبنى آليات البلدية. كان دويّ الانفجار رهيبًا جدًّا هذه المرة، وقد زلزل المنطقة بكامِلها، ثم انتشر الغبار الغليظ والدخان فغطّيا السماء. كادت طبلتا أذنَيّ أن تتمزّقا من شدة ضغط الانفجار وما تلاه من صوت تدمير المبنى وتكسّر الزجاج وتناثر الشظايا. كان الماء قد دخل أذنَيّ أصلًا عندما قفزت في النهر لإنقاذ الطفل، فصارتا تصفران بطنين مزعج، ثم جاء هذا الانفجار ليكمل الصدمة، فشعرت أنّ أمواجه تتردّد فيهما. كما أطبق ضغط الانفجار على رئتَيّ، فشعرت أنّهما تكادان تنشقّان وينخلع صدري.

 

بينما أنا مستلقية على الأرض، تساقطت فوقي الأحجار وآثار الشظايا والتراب. وقع نظري على عامل البلدية. في تلك اللحظات، أصابته شظية فصلت رأسه عن بدنه فيما بقي جسده الدامي يندفع إلى الأمام من دون رأس. وصل إلى البوابة وسقط أرضًا. صدمني هذا المشهد، التفتُّ حولي مرعوبة؛ كان أقرب من رأيت جنديّ من ثكنة القلعة. عرفته سابقًا

 

15

 


7

الفصل الرابع عشر

معرفة سطحية. قلت له: هيا نساعده.

- ماذا؟ نساعده... لقد فصل رأسه عن جسده.

- قد يمكننا القيام بشيء ما.

 

وسط زعيق المقاتلات، صرخ بي: اختبئي، المقاتلات فوق رؤوسنا، سيقصفوننا الآن.

 

ثم ركض نحو المستشفى واختبأ خلف أشجار الشمشاد المحاذية للسور المعدني. غضبت من تصرّف ذلك الجندي، كان اسمه "عبد الرضا". كان قد جاء وصديقه "نعمت" يوم تشييع أبي، وتردّدا كثيرًا إلى جنت آباد. رغم أنّهما من مدينة واحدة وصديقان حميمان، إلّا أنّ أخلاقهما لم تكن متشابهة؛ كان "نعمت" ذو القامة الضخمة والوزن الثقيل، نشيطًا جدًّا ومندفعًا ولا يعرف الخوف. كنت قد سمعت من أصدقائه أنّه يحارب كالمجنون ويقتحم قلب القوات العراقية، حتى إنّه قد غنم أسلحة وذخائر من العراقيين.

 

رأيتُ "عبد الرضا" مرة من دون "نعمت"، سألته: هل أنت وحدك؟ أين صديقك؟

 

قال بلهجة "لورية"[1]: هذا الصبي، بلا مخ! لقد ذهب من دون أن يُنسّق مع أحد، أخذ الدبابة المعطلة إلى الأهواز، كي يصلح مدفعها ويرجعها. لا أعرف ماذا أفعل به، إنه وحيد أمه. إذا قضى على نفسه بهذه الحركات، ماذا سأقول لها؟


 


[1]  لهجة أهالي لورستان، إحدى محافظات إيران الغربية، عاصمتها خرم آباد.

 

16


8

الفصل الرابع عشر

انتظرتُ لحظات. خفّ تحليق الطائرات، فركضتُ نحو عامل البلدية. وصلتُ إليه، كان وضعه مفجعًا. رأسه مصاب من الخلف بشظية سبّبت تلاشيه، وما بقي منه من الأمام استحال شكلًا عجيبًا. رغم هذا، بقي من الممكن التعرّف إلى وجهه. حين شاهدته قد أصيب، وقع في اللحظات الأخيرة على وجهه، لكنه الآن مستلقٍ على جنبه، وكأنه كان يحاول أن ينهض. فحصت نبضه، لم يكن فيه أي علامة على الحياة. لقد استشهد لحظة وقوعه. نالت الشظايا من باقي أجزاء جسده أيضًا، ونزفت الدماء بشدة من كتفه، وكأنّ قدميه قد التصقت إحداهما بالأخرى.

 

صرت أرى كلَّ شيء باللون الأحمر. ضعفتْ حالي وانقلبَ مزاجي بشدة بعد رؤية كل هذه الفجائع. بدأت أتقيّأ. كانت من اللحظات التي يتمنّى الإنسان فيها الموت كي لا يرى كل هذه المشاهد المريعة ثانيةً. لم أعد أقوى على التحمّل. ناديت "عبد الرضا"، لم أرغب في حدوث ضوضاء وزحمة وأن يأتي الناس لرؤية هذا المنظر.

 

لم يأتِ "عبد الرضا" لأنّه قد لاحظ عن بعد وضع الجثة. قال: أنا لن أقترب. أنتِ تعالي إلى هذه الجهة، هناك كثير من الأشخاص يأتون الآن وينقلون الجثة.

 

قلت له غاضبة: ماذا تعني؟ هيّا تعال.

لا أعلم، لعله كان مرعوبًا مما جرى، أو لعلّه كان غاضبًا مني كما كنتُ غاضبة منه.

- الآن تعود الطائرات. هل تفهمين؟ لا شك في أنّك ستقتلين نفسك في آخر المطاف، ليس هذا فحسب، بل ستقتلين الآخرين معكِ، تعاندين

 

17

 


9

الفصل الرابع عشر

وتكابرين! انظري إلى عمركِ. لا حاجة إلى أن تقومي بما هو أكبر منكِ.

 

لم أجبه بشيء. فكرتُ في كيفية رفع الجثة عن الأرض. لعلّي كنت أستطيع إحضار نقالة من المستشفى المقابل وحملها عليها.

 

في تلك الأثناء، وصل رجلان من الأهالي الذين كانوا على الشاطئ. تأثرا كثيرًا عند رؤية الجثة وطريقة استشهاد العامل. رغم أن المشهد ليس مخيفًا لهما، ولكنهما لم يقبلا أن يحملا الجثة بأيديهما. أعتقد أن الحق معهما. فيما رحنا نبحث عن وسيلة، مرّ عامل آخر من عمال البلدية وهو يجر بيده عربة بناء. خطر على بالي أن نستخدمها. ركضت وسألته: هل تعيرنا العربة؟ نريد نقل جثمان هذا الشهيد إلى براد المستشفى.

 

نظر مصدومًا إلى الجهة التي أشرتُ إليها. أعطاني العربة فورًا، وجاء معنا. تعاون مع الرجلين لوضع الجثة فيها. تكومت الجثة وسط العربة فيما تدلّت القدمان جانبًا وبقايا الرأس النازف من جانب آخر. حين أخذ الرجال الشهيد، ثمَّ أطلّت زهراء.

 

لم يعد هناك أي أثر للطائرات والقصف، وقد تأخرت عملية نقل الأهالي. مشينا نحو المسجد. قبل بلوغنا المستديرة قالت زهراء: تعالي معي نذهب إلى بيتنا.

- وضعي ليس على ما يرام، اذهبي أنتِ وحدك.

- أنا لا أذهب وحدي، تعالي معي.

- ماذا حدث معكِ حتى تذكّرتِ بيتك؟

- حين سقط ذلك الطفل في الماء، انتابتني حال عجيبة، هيا بنا.

 

18

 


10

الفصل الرابع عشر

- كلا، لا أريد.

 

أصرّت زهراء كثيرًا حتى قَبِلت الانطلاق معها.

 

انعطفنا بعد المستديرة نحو الجسر. جاءت سيارة وسط الطريق فأقّلتنا. ترجلنا منها عند مفرق "كوت شيخ". أغلب بيوت تلك المنطقة تعرّضت للقصف والتدمير، ويبدو أنه لم يبقَ فيها إلّا القليل من السكان. راحت زهراء تقطع زقاقًا بعد زقاق ولا تتكلّم معي. شعرت أن الطريق قد طال. ما أعرفه عنها جعلني أخاف قليلًا. بدت أقوالها وأفعالها متناقضة، ما جعل الفتيات لا يثقن بها كثيرًا. مجرد التفكير في احتمال الوقوع في كمين، جعل جسمي يرتجف. صرت أذكر الله وأحاول المحافظة على هدوئي. سألتها: ما الأمر؟ ألم نصل بعد إلى المنزل؟

 

لم تجبني. سألتها مجددًا: هل تعلمين أين منزلك حقًا أم إنك تجرّيني وراءك هكذا؟

- ما الأمر؟ هل أصابك الخوف؟

- لماذا أخاف؟ ولكني أظنّ أن لا فائدة من مجيئي معكِ. فأنتِ تقوديني هكذا عبثًا من حيّ إلى حيّ. أنا سأرجع إلى المسجد.

- لا، لم يبقَ إلّا القليل، ها قد وصلنا.

 

وصلنا إلى بيت حجري، واجهته مرصّعة بالأحجار البيضاء الرفيعة. طرقت زهراء البوابة المعدنية الزرقاء، فلم يفتح لها أحد. أثارت حركتنا انتباه بعض من في المنطقة، فخرج أحدهم من منزله وقال لنا: لقد ذهبوا من هنا عند اشتداد القصف.

 

19

 


11

الفصل الرابع عشر

قال ذلك الرجل لزهراء: أهلك في بستان النخيل المقابل.

 

قلتُ لها: حسنًا إذًا، أنا سأعود.

- كلا، تعالي معي لنذهب إلى بستان النخيل.

 

جعلني كلام جارهم أتأكد من أنّها صادقة، فقلت لها: هيا نذهب.

 

حين مشينا، قال لها الرجل: طفلك لا يهدأ أبدًا. أين كنتِ؟

 

سألتُ بتعجب: طفل من؟

 

لم تهتم زهراء لكلام الرجل وقالت: هيا بنا.

- لماذا لا تجيبين؟ هل يقصد أختكِ؟ أخاكِ؟

- لنذهب. سأخبركِ فيما بعد.

 

خرجنا من منطقة "كوت شيخ"، قطعنا الجادة ودخلنا بستان النخيل.

 

كان البستان واسعًا متراميَ الأطراف، وقد استقر فيه عدد كبير من اللاجئين. لو لم أكن آتية للتوّ من تحت القصف، لقلتُ حتمًا إنّ الناس قد خرجوا يتنزهون في يوم "سيزده به در" (يوم الطبيعة). كانت الأرض مزهرة بالأعشاب والورود وأزهار البابونج والحميضة، رائحة العشب وعطر البابونج يدغدغان المشام، وبعض النخلات لا تزال تحتفظ بالتمر الأصفر، بعضها قد نضج رطبها وسقط منه على الأرض.

 

التجأ الهاربون من القصف إلى هذا البستان وفرشوا قطع الموكيت والأغطية فوق الأثلام[1] الواسعة بين صفوف النخيل التي كانت جافة ولم

 


[1]  شقوق تشبه المجاري تُحرث لسقي الأشجار.

 

20


12

الفصل الرابع عشر

يغمرها الماء. بعضهم ربط النخل بالحبال لصنع مراجيح للعب الأطفال ولنشر الغسيل عليها. جلست العائلات مجتمعة وحولها موقد غاز صغير وإبريق شاي وأدوات طبخ وصحون وأكواب و..

 

جُلنا داخل البستان حوالي ربع ساعة، ونحن نبحث عن أهل زهراء. أكثر من عشرين أو ثلاثين أسرة قد انتشرت هناك. يحسب الناظر إليهم للوهلة الأولى أنهم في نزهة، ولكن عند التأمل يظهر الحزن والغم على وجوههم. سألت زهراء بعض الجيران عن أهلها، وتوجّهنا صوبهم. قبل أن تصل وتُعلمهم بمجيئها، وقفت جانبًا وكأنها مترددة وخائفة من لقائهم. نظرتُ إلى عائلتها الجالسة قرب مرتفع رملي، يظهر أنها كثيرة الأبناء والأنسباء. جلس هناك رجال يتحدثون ويدخّن بعضهم السجائر، وانشغلت بعض النساء مع أبنائهن، ورأيت امرأة تبدو الأكبر سنًّا جلست جانبًا وحدها، وكأنها غارقة في التفكير.

 

في إحدى زوايا قطعة الموكيت كان يقبع طفل صغير نحيل الجسم، أصفر اللون. تكفي نظرة واحدة لمعرفة سوء وضعه ووخامة حاله؛ كانت بطن المسكين منتفخةً ويداه وقدماه ضعيفة هزيلة، لو لم يكن يتأوّه ويئن لظننته ميتًا!

 

مرّت دقائق على وقوفنا. أخيرًا، اقتربت زهراء بحالٍ ما بين الخجل والخوف، سلّمت عليهم، وسلّمتُ أنا أيضًا. التفت الجميع برؤوسهم نحونا فجأة، إلّا أنّ أحدًا لم يُظهر السرور برؤية زهراء. صمتوا قليلًا ثم أجابوا السلام بتثاقل وبرود، ثم أشاحوا بوجوههم عنّا. مضت دقائق، بعدها سألتهم زهراء وهي تتأتئ: ما الأخبار؟

 

21

 


13

الفصل الرابع عشر

قالت المرأة المسنّة بانزعاج واضح: وكيف ستكون الأخبار؟ ها هو ابنك، إنه يحتضر. تعالي وانظري إلى وضعه ما أسوأه! لقد أنهكنا.

 

تقدّمت زهراء نحو الطفل، حملته بيديها، لشدة ضعفه لم يُظهر أي رد فعل، بل تدلّى رأسه جانبًا. تعجّبتُ كثيرًا من كون زهراء أمًّا لطفل، فكيف تركته وآثرت الذهاب؟ فهي بالأصل لم تكن تتصرّف كأم؛ كأنها لم تكن مشتاقة إليه ولا قلقة على صحته، حتى إنّها لم تحضنه ولم تقبله!

 

نظرتُ إلى رأس الطفل وقد تدلّى بيأس على يديها، ظننتُ أنه سيموت الآن. بدا عمره حوالي السنة ولكن المرض والضعف قد أظهرا جسده وكأنه في شهوره الأولى. كدتُ أذوب خجلًا وتأثرًا من نظرات التوبيخ والاستياء التي يوجّهها الجميع إلى زهراء. وقفتُ بالقرب من المرأة التي عرفتُ أنها حماتها. فسألتني: هل هذه معكم؟

- نعم.

- ماذا تفعلون في الجهة الأخرى من النهر؟

- والله أنا في المسجد الجامع أقوم بمساعدة الناس.

- وماذا عنها؟ هل هي معكم؟

- نعم، هي أيضًا في المسجد.

- انظري، يكاد ابنها يموت بين أيدينا والله، لقد هدّنا وأتعبنا، وهذه الفتاة مستهترة ولا تسأل عن ابنها ولا تحاول معالجته، ولا تأتي لتسأل عنا تحت هذا القصف، هل متنا أو ما زلنا أحياء؟!

 

سألتها بتعجب: ولكن لماذا؟

 

22


14

الفصل الرابع عشر

- لا أعلم، اسأليها هي.

 

سكتُّ حينها ولم أسألها أين زوجها وماذا يفعل. شعرتُ بأنه مهما كانت الأوضاع والظروف، فمن الواضح أنّ زهراء ليست مرتاحة في حياتها، وأنّ لديها مشكلة كبرى، وإلا لما تعاملت بهذا التساهل والاستهتار.

 

وكأنّ حماة زهراء وجدت بي من تفضفض له همّ قلبها. قالت لي بلهجة "لورية": يا أماه ما هذا الوضع؟ إلى متى سنبقى ونتحمل العذاب والقصف والتهجير؟ لقد مرض أبناؤنا في الأيام الماضية. متى ستنتهي هذه الحرب؟ أين أصبح شبابنا في التصدي للعدوان؟ متى يرحل الصداميون إلى قبورهم وجهنم الحمراء؟

 

لم أعلم بماذا أجيبها. قلتُ: "نسألك الدعاء يا أمّاه، ساعدنا الله جميعًا في هذه الأزمة"، ثم قلتُ: "يجب أن أذهب الآن".

 

قالت زهراء: انتظري قليلًا سأرجع معكِ.

- لا داعي إلى المجيء معي، ابقي هنا مع طفلكِ.

 

ودّعتهم في أمان الله، وخرجتُ من بستان النخيل. مشيت حتى الجسر، حيث مرّت شاحنة صغيرة فأقلتني وأوصلتني إلى "مستديرة فرماندارى"، لأعود وأمشي نحو المسجد. حين مررت أمام المكتبة العامة وثانوية الاتحاد، تناهى إلى سمعي أصوات فتيان الثانوية، فلاحت في خيالي صورهم وهم يلعبون كرة القدم في الملعب ويقفز بعضهم فوق بعضهم الآخر، يركض بعضهم وراء بعض ويرشّ بعضهم بعضًا بالماء. كثيرون من هؤلاء الفتيان يقاتلون الآن على خطوط الجبهات.

 

23

 


15

الفصل الخامس عشر

الفصل الخامس عشر

 

منذ اليومين الثامن والتاسع من مهر (30 أيلول و1 تشرين أول)، وبعد تقدّم الدبابات العراقية نحو مستديرة سكة الحديد، بدأ الرجال يفكرون جديًا، وهم يُخلون العائلات، في أن يُخرجوا الفتيات أيضًا من المدينة. كنا نسمع هذه الهمسات والوشوشات فلا نعيرها أيّ اهتمام. وصل بهم الأمر إلى أن قالوا لنا: لقد طلب "جهان آرا"[1] بأن تخرج الأخوات أيضًا.

 

حين سمعتُ هذا الكلام قلت لهم: فليخرج هو ويترك المدينة. لماذا نتركها نحن؟

 

كان الشيخ "شريف قنوتي" -هو العالم الديني الذي أعطى عباءته لمريم أمجدي- الوحيد الذي يعتقد بضرورة حضور الأخوات ودورهنّ المهم في الإمداد وإنجاز الأعمال. بعد يوم من تركنا المسجد واستقرارنا في العيادة، جدّدوا طلبهم، لكنّ أحدًا منّا لم يهتمّ. كنّا مشغولات بتنظيف العيادة حين جاء "محمود فرخي" وعدد من رجال المسجد الذين أصبحنا على معرفة جيدة بهم، قال: أيتها الأخوات، اجمعن أغراضكن فورًا، يجب أن تتركن المدينة.


 


[1]  قائد القوات المدافعة عن "خرّمشهر" في ذلك الوقت.

 

25


16

الفصل الخامس عشر

انزعجتُ كثيرًا من هذا الكلام وهذه الحركة. قال "محمود فرخي": الأفضل أن تذهبن! عندما يقولون يجب أن تذهبن، فلا شك في أنّ المصلحة هي في هذا.

 

كان جوابنا واحدًا: لماذا يجب أن نرحل؟ لم يصل العراقيون إلى هنا حتى الآن، عندما يقتربون فنحن سنذهب من تلقاء أنفسنا.

 

أشرتُ للبنات، فتجمعنا بعيدًا عن الرجال. قلتُ لهن: اعلمن أنني باقية هنا ولن أغادر. كل من تريد البقاء منكن يجب أن تصمد بكل قوة. إذا تراخيتنّ قليلًا فسيخلوننا من هنا، ولكن إذا ثبتنّ على موقفكنّ فلن يسمحوا لأنفسهم بأن يُخرجونا عنوةً. في أسوأ الأحوال نبقى في العيادة ونقول لهم لا يحق لأحد أن يأمرنا بالرحيل.

 

وافقت كل الفتيات على هذا الرأي، وأبلغنا الرجال قرارنا. أجابوا: أساسًا، الدكتور "شيباني" يريد عيادته، ويقول إنّه لا يقبل ببقائكن فيها.

 

قلنا لهم: كلا، لا يمكن، فأين هو الدكتور شيباني الآن ليقول هذا؟! إذا كان كلامكم صحيحًا، فليأتِ هو ويطلب منّا إخلاء العيادة.

 

ذهب الرجال وتابعنا نحن عملنا. لم تكد تمضي نصف ساعة، وبينما كنتُ مشغولة برش الماء وكنس الممر، عادوا مجددًا، ومعهم هذه المرة الدكتور شيباني، الرجل الوقور الهادئ الطباع. قالوا: تفضلن، هذا هو الدكتور شيباني، فماذا تقلن الآن؟

 

أصابني الذهول وكدتُ أنفجر من الدهشة؛ أين كان الدكتور حتى يجدوه الآن ويحضروه؟ قال: أنا أريد عيادتي. سأجمع أغراضي وأقفلها وأخرج من المدينة.

 

26

 


17

الفصل الخامس عشر

قلنا له: حسنًا، خذ أغراضك ومعداتك، نحن لا نحتاج. ولكن عندما تكون العيادة خالية فما الفرق إن أقفلتها أو بقيت مفتوحة؟ فماذا سنفعل نحن هنا؟

 

سكت المسكين واحتار بماذا يُجيبنا، فكلامنا محقّ. وفيما كان ينظر مفكّرًا، التفت الرجل الذي كان معه إلى تردّده، فنظر إليه وكأنّه يدفعه للاستمرار بمساعيه، فرضخ له الدكتور وقال: كلا، أنا أريد عيادتي.

 

حين رأيتُ الأوضاع هكذا، خطرت ببالي فكرة أخرى. قلت له: جيد، أنت تريد عيادتك، تفضل فهي لك. نحن سنخرج ونجلس في الشارع. الشارع ليس ملكًا لأحد. إما أن تَدَعونا نبقى في العيادة ونتابع عملنا، وإما نمكث خارجًا فتسقط القذائف علينا وتقتلنا.

 

أيّدت الفتيات كلامي وقلن: نعم، سنبقى في الشارع حتى يتّضح ما هو تكليفنا.

 

خرجنا من العيادة وجلسنا في زاوية شارع "الفخر الرازي"، تمامًا مقابل المسجد. قالوا لنا: انهضنَ من هنا، ماذا تفعلن! ألا ترين أنّ السماء تُمطر نيرانًا وقذائف؟!

 

أجبنا: لن نتحرك من هنا حتى يتضح تكليفنا.

 

ذهبوا ورجعوا وأصرّوا كثيرًا. كل واحد صار يدلي بدلوه: لا تجلسن على قارعة الطريق، سرعة السيارات خطر عليكن، تعالين ادخلن إلى المسجد على الأقل، و..

 

حين ذهب الرجال، تكلمنا مع الفتيات وأوصينا بعضنا بعضًا، بأن لا نتراخى ولا نتنازل، فإنهم إن لاحظوا أي تساهل منّا سيخرجونا من

 

27

 


18

الفصل الخامس عشر

المدينة. حتى لو أطلقوا الوعود واقترحوا أن نعمل في منطقة أخرى و.. لن نقبل؛ فلا تقبلن! كلامنا واحد: لن نخرج من "خرّمشهر" والسلام.

 

بقينا هناك تحت أشعة الشمس اللاهبة ساعتين أو ثلاثًا. عند الصباح، ذهبتُ إلى هنا وهناك لنقل الجرحى، ورجعت منهكة لا حول لي ولا قوة. كانت الشمس تسطع على رؤوسنا والحرارة تُلهبنا. تعبت البنات كثيرًا. قلتُ لهن: اصبرن وتحمّلن قليلًا؛ وإلّا فإنّهم سيأتون إلينا كل يوم ويقولون: اخرجن من هنا. فهل ندعهم يتسلّطون علينا؟ ماذا حدث في هذه الدنيا؟

 

وهكذا كان، عندما رأى الرجال إصرارنا وعنادنا، تركوا الكلام ويئسوا وصاروا ينتبهون علينا من بعيد؛ ولأنّنا كنّا نجلس في الشارع عندما تأتي السيارات باتجاهنا، كانوا يحوّلون السير باتجاه الشوارع الأخرى.

 

في نهاية المطاف، عندما رأى الرجال أنهم لا يقدرون علينا، أحضروا الشيخ شريف؛ الذي حظي في هذه المدة بشعبية واحترام خاص بين شباب المدينة، فالجميع يعرفونه ويقدّرون عمله ويسمعون كلامه. أنا كذلك كنت أكنّ له مودّة خاصة. فهو رجل العمل والجهاد. لم يكن يهدأ ويسكن لحظة واحدة.

 

سمعنا أنّه جاء من "بروجرد"، ومع أنّه لم يكن من سكان "خرمشهر"، إلّا أنه كان يعرف المدينة جيدًا، ويقاتل مع شبابه على خطوط التماس، لذا صرت أجلّه وأوقّره كثيرًا.

 

رأيته مرة ماشيًا في صحن المسجد وهو يضرب رجله بعصًا يحملها في يده، سألته: لماذا تضرب نفسك يا شيخنا؟

 

28

 


19

الفصل الخامس عشر

قال: يا ابنتي، أنا أضرب نفسي لأبقى منتبهًا واعيًا دومًا، كي لا يخدعني الشيطان. هذه ليست عقوبة وضربًا، إنّه انتباه!

 

والآن، ها نحن وجهًا لوجه مقابل الشيخ، على عكس المرات السابقة التي كان فيها يؤيد حضور السيّدات في المدينة، قال هذه المرة كلامًا آخر: أيتها الأخوات، لقد قمتن حتى الآن بأداء تكليفكن وأنجزتن واجبكن. سلمت أيديكن. ولكن من الآن فصاعدًا يجب أن تسلّمن هذا العمل للإخوة وترحلن من هنا.

 

قمتُ وسألته: مولانا الشيخ، ما هو لون دمائك؟

- حسنًا، إنه أحمر.

- إن لون دمائنا أحمر كلون دمائكم. لماذا ينبغي أن تبقوا ونرحل؟

- هذه هي المصلحة.

 

- أي مصلحة هي هذه؟! لم تتأزم الأوضاع إلى هذا الحد. نحن لم نتعرّض للحصار بعد. نحن نعلم أنّكم قلقون علينا وتخشون أن نُحاصر ونقع في الأسر، ولكنّنا نعدكم أن لا نتعرض للأسر. لا نريد أن نمنّ عليكم، إنّما قولوا بصراحة لو لم نكن هنا هل كان الرجال يستطيعون القيام بالأعمال التي أنجزتها السيّدات؟ ألا يُفترض بالرجال أن يعدّوا أنفسهم ويحفظوا كل طاقاتهم للقتال على الجبهات؟ يا مولانا إن حضورنا هنا ضروري، ألم تشارك النسوة في الحرب مع رسول الله في صدر الإسلام؟

 

- نعم، شاركن ولكن الأوضاع حاليًّا تختلف عن تلك الأيام. العدو الآن يتصرف بنذالة وحقارة قلّ نظيرهما. أنتن لا تعلمن كل ما يحصل ولا خبر لديكن كيف يعتدي هؤلاء البعثيون الذين لا يعرفون الله على الحرمات.

 

29


20

الفصل الخامس عشر

- يا مولانا، متى كان العدو يتصرف بشرف ونخوة حتى نتوقع منه أن يعيد ذلك الآن. العدو هو هكذا دائمًا بلا رجولة ولا أخلاق. إن استدلالكم لا يكفي. نحن لا نريد المغادرة من هنا. سنجلس هنا وسنُضرِب عن الطعام والشراب حتى يتحدّد وضعنا وموقعنا. مهما طال الوقت هذا هو قرارنا.

 

كنتُ قد شاهدتُ هذه الفكرة حول الاعتصام والإضراب عن الطعام في فيلم حربي أو أني قرأتها في كتاب "النساء البطلات"[1].

 

أجابني الشيخ شريف: يا أخت لماذا تتصرفين هكذا؟ لماذا لا تسمعين الكلام؟

 

قلت له: لعلّك تذكر مقولتك في الأيام الأولى: إنّ مشاركة الأخوات ضرورية. من دونهنّ فإن الكثير من الأعمال ستبقى معطّلة على الأرض؛ فما عدا ممّا بدا حتى أصبح وجود الأخوات معيقًا؟

 

كنتُ غاضبة جدًّا والدماء تغلي في شراييني، فرُحت خلال كلامي أنهض وأجلس كالبخور فوق الجمر؛ أشتعل وأتوهّج، لم أكن مستعدة لترك المدينة أبدًا. لقد آمنت بعمل النساء؛ إذ رأيت عن كثب مقدار الحاجة إلى المقاتلين، كما الحاجة إلى من هنّ فاعلات ونشيطات حقًّا. عندما تقع الحرب، أنا أعتقد أنّ الدفاع واجب على النساء والرجال، ولا فرق بينهما. من جهة أخرى، لم أكن أرضى بأن يظنّ الرجال أنّ النساء عاجزات وضعيفات، يستسلمن للعدو فورًا، فهنّ يمتلكن نخوةً وحساسيّةً شديدة تجاه تلك القضايا المصيرية؛ ولهذا، كنت أصر هكذا وأناقش. كانت الفتيات


 


[1]  لجميلة ابو باشا.

 

30


21

الفصل الخامس عشر

أيضًا يتكلمن أثناء كلامي فيشتدّ الجدال وتزيد الفوضى والأصوات.

 

أخيرًا تنازل الشيخ وتراجع قائلًا: حسنًا، ماذا تردن بالنهاية؟

- نحن سنبقى هنا في كل يوم، نعتقد أنّنا لا نزال ننجز أعمالًا ضرورية. عندما نرى أنه لم يعد هناك حاجة ماسة إلى وجودنا وقد أصبح ضرره أكثر من نفعه، فنحن سنقرر الرحيل ومغادرة المدينة بأنفسنا. لا تقلقوا علينا فلن نسمح للعراقيين بأسرنا.

- في هذه الحال، فأنتن ستبقين على مسؤوليتكن.

- بالأصل، هل بقينا حتى الآن على مسؤولية أحد. منذ البداية كنا هنا على مسؤوليتنا.

- حسنًا، ما دام الوضع هكذا، لا تأتين كل يوم وتقلن نريد الذهاب إلى خط التماس. يجب أن تتعاونّ وتنسّقن. عندما يقولون: لا ينبغي لكنّ الاقتراب من جبهات القتال فلا تصررن على هذا. كل الأعمال يجب أن تنسّق بانسجام. في هذه الحال سأتوسّط لأجلكنّ كي تبقين هنا بالتأكيد، وسأطلب من الدكتور أن يسمح لكُنّ بالبقاء في العيادة. هيا انهضن واذهبن للعيادة وتابعن عملكن. العيادة تحت تصرفكن، وأنا معكم حتى نطرد العدو من ديارنا إن شاء الله.

 

نجحنا وانتصرنا، كدنا نطير من الفرح. قمنا وذهبنا إلى العيادة وأصواتنا ترتفع بالكلام والضحك، قلنا: هذه هي نتيجة الاتحاد. يجب علينا دائمًا أن يحافظ بعضنا على بعض هكذا.

 

منذ ذلك اليوم، أضاف الشيخ عملًا جديدًا إلى أعمالنا. صاروا يحضرون لنا أكياس خيش كبيرة مليئة بالأسلحة ويفرغونها في الباحة الخلفية للمسجد.

 

31

 


22

الفصل الخامس عشر

كنّا بين عمل وآخر، نجلس ونقوم بصيانة الأسلحة وإصلاحها أحيانًا. أغلبها كانت بنادق G3 وM1 وكلاشنكوف قديمة، وأظنّ أنهم قد أحضروها من الثكنة؛ لأننا لم نسمع بوصول أسلحة وتجهيزات مؤخرًا إلى المدينة؛ باستثناء المجموعات المتفرقة التي تأتي وتحضر معها أسلحتها وذخائرها.

 

كثير من الشباب المنتشرين على الخطوط ليس بحوزتهم أسلحة، وما إن يسقط أحد المقاتلين شهيدًا أو جريحًا، يأخذون سلاحه ويتابعون القتال.

بعد يوم الإضراب، كلّما أحضروا جرحى إلى العيادة عالجناهم، وإذا لم يوجد عمل في العيادة، كنا نجلس ونصلح بعض ما تعطّل من الأسلحة. شرحوا لنا في المرة الأولى بشكل تفصيلي ماذا يجب علينا أن نفعل. كنا نفكّ البنادق قطعة قطعة، ونزيّت مكان الزناد والسبطانة والأقسام وننظفها، ثم نقوم بإعادة تركيبها، وإن وُجد فيها نقص أو خلل حاولنا إصلاحه؛ نجلّس القطع الملوية أو نصلح المماشط كي تتسع لطلقات الرصاص بشكل سلس.

في بعض الأحيان، كنا نخرّب الأسلحة أكثر مما نصلحها، بحيث يصعب إصلاحها وصيانتها بعد ذلك. عندما كنّا ننهي أعمال التنظيف والصيانة، نقوم بتعبئة الرصاص في المماشط، وهكذا تزيد سرعة عمل وحركة المقاتلين على الجبهات.

بعد فترة من هذا العمل، كانت كل أصابعنا قد جرحت وتشقّق جلدها. كان إدخال الرصاص في الممشط يستلزم الضغط بالإبهام بشدة كي تركب الرصاصة في مكانها.

 

منذ ذلك اليوم الذي أصبح هذا العمل جزءًا من مهماتنا، أصبح

 

32

 


23

الفصل الخامس عشر

الشباب يأخذون أكياسًا مليئة بالأسلحة والمماشط المذخرة. ثمّ يحضرون أكياسًا أخرى كبيرة؛ كانت خليطًا من الأسلحة؛ رصاص مسدس، G3 وM1 وقذائف آر بي جي. أثناء قيامنا بهذا العمل المتكرر بانتظام، كنا نتحدث مع البنات، نثرثر ونضحك ويسأل بعضنا بعضًا: عن العائلات وعدد الأولاد، ما هي أسماء أخواتك وإخوتك؟ ثم نعِد أن يزور بعضنا بعضًا بعد الحرب وأن نستمر في هذه الصداقة.

 

عند التعب، كنا نستلقي على كرسي طب الأسنان، وبعض الفتيات يجلسن على كرسي الطبيب المتحرك، يدوّرونه ويقلّدن تصرفات الأطباء؛ ويعلّقن: ما أحلى أن يكون الإنسان طبيبًا!

 

انضمّت إلينا اثنتان من الفتيات في العيادة، "مهرانكيز دريانورد" و"بلقيس ملكيان". أظن أنهما جاءتا من آبادان. مهرانكيز وعلى الرغم من أنّها تعاني من عرج أثناء المشي، إلّا أنها كانت نشيطة فعّالة جدًّا في عملها، كذلك بلقيس كانت فتاة هادئة ومتواضعة، سمراء البشرة وتضع نظّارة كبيرة على عينيها. اتّسمت بالصمت في أغلب الأوقات وهي تنجز أعمالها بهدوء شديد.

 

في اليوم نفسه الذي بدأنا ورشة صيانة الأسلحة، سمعت شخصًا يتكلم عبر مكبّر الصوت، فأثار فضولي كي أعرف ماذا حصل وما الأخبار. مسحت يدي بخرقة قماش وخرجت، شاهدت الرائد "شريف نسب" أمام المسجد واقفًا فوق سقف شاحنة صغيرة، وهو يخاطب الجنود والقوات الموجودين في محيط المسجد. كان يطلب منهم مرافقته إلى ثكنة القلعة وإحضار كلّ ما فيها من أسلحة وذخائر.

 

قال: يجب ألا نسمح بوقوع تلك المعدات والتجهيزات بيد العدو.

 

33

 

 


24

الفصل الخامس عشر

علينا أن نُخرج ما استطعنا منها من هناك قبل أن تسقط الثكنة.

 

لكنّ الجنود كانوا يعتبرون أن هذا عمل يحتاج إلى أمر عسكري من قيادتهم الأعلى، ولهذا لم يستجيبوا لدعوة "شريف نسب". أغلبهم بقي صامتًا ولم يجبه، أما بعضهم فقد كان يقول له: نحن لن نأتي، قيادتنا لا تسمح لنا.

 

أجاب الرائد: إن كنتم تنتظرون الأمر، فأنا كضابط أعلى رتبة منكم آمركم بالتحرّك وإنجاز هذه المهمة.

 

كان هذا تقريبًا عمله اليومي. كنت أعرفه من بعيد، هو عسكري في حدود منتصف العقد الثالث تقريبًا، وجهه أسمر تبدو عليه آثار التعب وحمل الهم. كان يتمتع بنبل ووقار خاص يفرض احترامًا على من يتعامل معه. دأب في كل يوم صباحًا على أن يتحدث مع القوات ويحمسهم ويطلب منهم الالتزام بأمر الإمام الخميني ومقاومة العدو بكل ما استطاعوا من قوة.

 

كان الرائد يرد على كلّ الجنود بكلّ احترام: أنا أرجوكم، يجب علينا ألا نسمح بتضييع أسلحة ومعدات كهذه، ونحن بأمسّ الحاجة إليها حاليًّا.

 

فجأة، وبتعجب شديد، رأيت امرأة قد تقدّمت أمام الجمع وأخذت مكبر الصوت من يد الرائد وخاطبت الجميع قائلة: أنتم جنود، لقد تلقيتم تدريبات عسكرية لمثل هذه الأيام، أنتم خضعتم لدورات. الشباب الذين يقاتلون على خط التماس لم يتدربوا سابقًا ولم يشاركوا في دورات، بينما أنتم الآن لا تريدون القيام بأي عمل، فقط لأنه لم تصدر أوامر لكم وقادتكم ليسوا هنا! إن الدورة العسكرية في خدمة العلم هي للاستعداد للدفاع عن الأرض والعرض، وقد تعرضنا للخطر حاليًّا.

 

34


25

الفصل الخامس عشر

لم يؤثر كلام المرأة الحماسي في الجنود. هؤلاء المساكين قد تعوّدوا خلال خدمتهم العسكرية أن يطيعوا أمر ضباطهم فقط، وإن خالفوا فإنهم يتعرضون لعقوبات قاسية، وها هي الأوضاع والظروف الحالية تريد منهم أن يعملوا خلاف المقررات والأوامر. هذه المسألة أوقعتهم في حال من الضياع والحيرة، خاصة الجنود الذين تبدو على وجوههم أمارات التعب والتردد.

 

أشفقتُ على الرائد من كل قلبي. كنت قد انتقدته في إحدى المرات، منذ أيام، وقبل يوم واحد من شهادة علي. كانت الشمس تسطع لاهبة في وقت الظهيرة، عندما رأيت قرب المسجد مجموعة من عسكريي الجيش وقد تجمع حولهم بعض أفراد القوات الشعبية والجنود. عرفت من شاراتهم العسكرية أنّهم من الضباط وأصحاب الرتب العليا. كان الرائد "شريف نسب" واحدًا منهم. قرأت اسم ضابط آخر على شارة بدلته "أقارب پرست" وأعتقد أنه كان برتبة ملازم، ويبدو أنّه في الثلاثينيّات من العمر.

 

كنتُ غاضبة جدًّا من أوضاع خطوط التماس وتهجير الناس وبقاء الجنود دون تكليف. كان عليّ أن أتكلم معهم. فكرتُ أن أنتظر لينتهي حديثهم، ولكني خشيت أن يذهبوا فورًا. تقدّمت وسلّمت عليهم. قلت لهم: عفوًا هل أنتم من قادة الجيش؟

 

أجاب الرائد شريف نسب بتواضع وتبسم: نحن عسكريون، مجرد جنود في الجيش.

 

قلتُ: لماذا لا تفكّرون في حلّ جديّ لهؤلاء الجنود؟ الجبهة بأمسّ الحاجة إليهم، فهم قد خضعوا لدورات وتدريب ليواجهوا أوضاعًا كهذه،

 

35

 


26

الفصل الخامس عشر

بينما الآن، ذهب الشباب الذين لا يعرفون أي شيء عن الحرب والسلاح للتصدّي للمحتلين. جنود الجيش في عطلة واستراحة! لماذا لا تنظمونهم وترسلونهم إلى الخطوط الأمامية؟

 

تحيّر المساكين في الرد على سؤالي. قالوا: نحن نبذل كل جهدنا، لكن هؤلاء الجنود ليسوا تابعين لجهة واحدة ولا يتلقّون الأوامر من قيادة واحدة، كل منهم يتبع وحدة أو تشكيلًا عسكريًّا مختلفًا.

 

قلت لهم: الأوضاع الآن استثنائية، تختلف عن الأيام العادية. كلامكم صحيح ولكن ليس في هذه الظروف. ماذا يعني اليوم التشكيل أو الوحدة أو السرية؟ كل من يعدّ نفسه رجلًا ولديه نخوة فليذهب للحرب والدفاع عن وطنه. لماذا تلقّى هؤلاء التدريبات وشاركوا في الدورات؟ لماذا أُنفقت عليهم الميزانيات والأموال الطائلة؟ الجندي الذي لا ينفع وطنه في هذه الأوضاع، بماذا ينفع أصلًا؟

 

قال الملازم "أقارب پرست": ليت الجميع يفكّر كما تفكرين أنتِ. ليت الحمية والنخوة الموجودتين لدى القوات الشعبية، توجدان عند بعض أولئك القادة، عندها لن يكون وضعنا هكذا. اقبلي منا يا أختاه، لا يمكننا حل هذه المسألة بالقوة.

 

والآن، ها أنا أقف أمام العيادة وأشاهد مظلومية الرائد "شريف نسب" وأتجرّع الغصص. فكرت في التقدم والقيام بحركة ما، لكني شعرت أنه لا فائدة من أي عمل. وقفت أنظر إلى ذلك الجدل والضجيج. بين تلك الأصوات، لفتني صوت بعض الفتيات اللواتي بقين في المدينة للمساعدة والدعم، وهنّ يرفعن أصواتهنّ عاليًا: أيها الرائد، إن كان هؤلاء لا يريدون الذهاب معك، نحن حاضرات لأن نذهب ونخلي

 

36

 


27

الفصل الرابع عشر

الثكنة. نظرت حينها إلى الرائد، كانت حاله قد تغيّرت من شدة التأثر وانهمرت الدموع من عينيه.

 

قال: إنّني أشكركن من كل قلبي أيّتها الأخوات الثوريات، آمل أن يتأثر الآخرون بنخوتكن ويتحركوا.

 

صعدت الفتيات إلى الشاحنة وكنّ عشرًا أو اثنتي عشرة، نزل الرائد وركب مع شخص آخر في المقعد الأمامي. كان الحاضرون حول المسجد ينظرون بذهول وغضب إلى ما يحصل.

 

كم كنتُ أرغب في الذهاب معهن، ولكني تذكرت العمل المطلوب في تنظيف وصيانة الأسلحة الذي ينتظرني في الداخل، فقد طُلب منا أن نجهّزها بأسرع ما يمكن.

 

انطلقت الشاحنة، ولم تبتعد عدة أمتار حتى وقعت "أفسانه قاضي زاده" التي كانت قد جلست على حافة الحافلة الخلفيّة، وتدلَّى نصفها نحو الأرض، كانت تتأرجح محاولة إمساك الحافة وعدم السقوط. أسرعت الفتيات للإمساك بها وتثبيتها كي لا تسقط أرضًا، وصرن يضربن على أرض الشاحنة ويضحكن، إلى أن توقفت الشاحنة وسحبن أفسانة إلى الخلف.

 

أما الجنود فقد خجلوا كثيرًا من أنفسهم لما شاهدوا ما حصل، وركضوا وراء الشاحنة، وراحوا يقولون: انتظرن، انتظرن، انزلن من الشاحنة!

 

كانت الفتيات يرفضن ويقلن: كلا، نحن سنذهب.

 

أصرّ الجنود وقالوا: نرجوكن أن تنزلن.

 

قال أحد الجنود وهو يضحك: لقد تلقّينا ما يكفي من العقاب!

 

ترجّل الرائد وتمنّى على الفتيات النزول، فقبلن ونزلن. عندما صعد

 

37

 

 


28

الفصل الخامس عشر

الجنود ورحلوا، تحدثنا مع الفتيات وضحكنا حتى شبعنا، كنّ بنات طيبات. بالتأكيد لو لم أكن ثكلى بأبي وعلي لكنتُ قضيت معهنّ أمتع الأوقات، لكنّ شفتيّ كانتا تبتسمان وقلبي حزين. بالطبع كان لهن أوضاعهن الخاصة أيضًا.

 

أكثر العائلات كانت تعارض بقاء بناتها في المدينة. حتى الذين نزحوا منها، كانوا يبعثون الرسائل إلى بناتهم للّحاق بهم، وبعضهم يعودون لاصطحابهن.

 

أول من جاء أهلها لأخذها، "رعنا نجار"، قاومتهم يومًا أو يومين، لكنّها لم تستطع أن تخالف أهلها أكثر من هذا. كانت متضايقة جدًّا، ولا تنفكّ تذرف الدموع وتختنق بعبرتها قائلة: أحبّ أن أبقى هنا.

 

كانت رعنا تبكي قائلة: أنا أعلم أنني لا أقوم بعمل كبير هنا، ولكني أحبّ أن أبقى معكنّ وإلى جانبكنّ لعلّي أستطيع أن أقدم شيئًا.

 

يوم جاؤوا لأخذ رعنا لم أكن في المسجد. حين رجعتُ ولم أجدها، انقبض قلبي كثيرًا. قالت البنات: لقد بكت رعنا كثيرًا وهي تُسلّم عليكِ وتودعكِ في أمان الله.

 

كذلك "إلهه حجاب"، استطاعت إقناع أهلها في المرتين أو الثلاث لتبقى في المدينة، ولكن في نهاية المطاف، اشتدّ الخطر، فجاؤوا وأخذوها معهم.

 

قويت علاقة بعضنا ببعض كثيرًا في تلك الفترة، وكل من تتوقّع في أي لحظة أن يأتي أهلها لأخذها، نودّعها مسبقًا ونبدأ بمواساتها: لا تقلقي إن شاء الله ستعود "خرّمشهر" كما كانت ويعود الجميع إليها.

 

عائلة "صباح وطن خواه" أصرّت على أخذ بناتها. ما زلتُ أذكر، بعد

 

38


29

الفصل الخامس عشر

ظهر أحد الأيام، كنت عائدة من جنت آباد إلى المسجد الجامع، رأيتُ "فوزية وطن خواه"، جالسة تسند ظهرها إلى الحائط وتشهق بالبكاء. كانت فوزية وشاهناز وصالحة وطن خواه، وهنّ أخوات صباح تنشط كل منهن في مجال. تعرّفت إليهنّ في تلك الأيام، حيث جئن إلى المسجد بعد تعرض بيتهن في منطقة "مولوي" لقصف العدو. بعد ذلك بأيام أصيب والدهن بجراح.

 

 ظننتُ أنّ مكروهًا قد حدث لفوزية؛ لأنها تذرف الدموع هكذا. اقتربتُ وسألتها: ماذا حصل؟

 

لم تجب، فسألتها: هل حدث مكروه؟ هل أنتِ حزينة على أبيكِ؟

 

اشتدّ بكاؤها وقالت: لا، بل جاء أخي ليأخذني.

- هذا لا يدعو إلى البكاء، اذهبي معه.

- هكذا، تبقين أنتِ هنا ولا يتدخل أحد في شؤونكِ، أنتِ مرتاحة البال وتقولين لي: هذا لا يستحق البكاء، لو كنتِ مكاني لفعلتِ أكثر من هذا!

- صباح أيضًا من عائلتك، وقالت إنّها ستبقى.

- ستبقى صباح، ولكنها ليست في مكاني.

 

طوّقتُ عنقها بيدي وقلت لها: لا تبكي الآن، تعالي معي لنذهب إلى المسجد.

- كلّا، خالي هناك ولا أريده أن يراني.

- حسنًا، خالكِ المسكين ما ذنبه؟

- كل الحق عليه، لقد جاء بسيارة ليأخذني من هنا.

 

كانت "صباح" قد قالت إنّ خالها يملك شاحنة ويسكن في "بروجرد"،

 

39

 


30

الفصل الخامس عشر

وقد يأتي وراءهن، لكنّهن كنّ يرفضن الذهاب. كان أخوهن "علي" من شباب الحرس الثوري، ولشدّة حبّهنّ له لم يردن ترك "خرّمشهر" ومغادرتها.

 

أخذتُ بيد فوزية ومشينا معًا نحو المسجد. اشتدّ بكاؤها عندما رأت خالها. ألقيتُ السلام على خالها وقلت له: ألا يمكن لفوزية أن تبقى هنا؟

- تبقى فوزية وتبقى هذه وتلك، لماذا أتيتُ إلى هنا إذًا؟ من سآخذ معي؟ إن أمّهنّ وحيدة وقلقة جدًّا على البنات.

 

كان يجبُ عليّ أن أرجع بسرعة، لهذا واسيت فوزية، قبّلتُ وجهها، قلت لها: إن شاء الله ستعودين قريبًا.

 

تركتها على هذه الحال وخرجت من المسجد. حين رجعتُ في المساء، كانت عائلة "وطن خواه" قد رحلت ولم يبقَ من البنات سوى "صباح" و"صالحة"، وكانت الأخيرة من قوات الاحتياط في الحرس، وكانت تعمل هناك.

 

عندما خرجتُ من دوامة التفكير في الفتيات اللاتي غادرن، وجدتُ بقية البنات هنا مشغولات بالأحاديث وحكاية ذكرياتهنّ. بقينا حتى وقت متأخر نعمل تحت ضوء الفانوس الخافت.

 

في تلك الليلة، جاء فريق طبي من أربعة أو خمسة أطباء من مدينة "بهبهان". صباحًا حملوا السلاح وتوجهوا إلى خط التماس قبل مجيئنا نحن إلى العيادة. كان قد جاء دكتور صيدلي اسمه "سعادت" من "بهبهان" أيضًا، وصار يداوم في العيادة يوميًا؛ رجل نحيل طويل القامة، عيناه تميلان إلى اللون الأخضر وشعره مجعّد، كان يتكلم بهدوء شديد، ويحترم النظام والمقررات بشكل لافت للنظر، حتى إنّه قد أحضر معه ملابس النوم! وكان يرتديها في المساء بعد أن يخلع لباس العمل.

 

40

 


31

الفصل الخامس عشر

عند معالجته للجرحى، كان يعاينهم بشكل هادئ ودقيق جدًّا لدرجة صرنا نشعر معها بأننا أشخاص عنيفون وفوضويون!

 

قالت البنات عنه: لا شك في أنّه قد تربى في عائلة غنية مرفّهة، ولهذا صار يتصرف بهذه الطريقة! حتى الآن لم يشهد الصعاب والمصاعب هنا، لنرَ ماذا سيفعل حين يشتدّ القصف فوقنا؛ فقد سبق وهرب ذلك الفريق الذي جاء من الأيام الأولى، وكان أفراده يدافعون عن الأحزاب والمجموعات، ومع أنهم لم يكونوا بأناقة الدكتور "سعادت"، إلّا أنهم تركوا العمل ورحلوا، لننظر ونرَ كم سيصمد وهو بهذه الرفاهة! لا شك في أنه سيرحل أيضًا.

 

مع مرور الوقت، ازداد تعجّبنا من الدكتور سعادت وتضاعف. كان متواضعًا لدرجة أن من لا يعرفه يظنّه أحد المسعفين في الدفاع المدني. بمجرد أن ينهي عمله، يدخل إلى إحدى الغرف الخالية، يقفل الباب وينشغل بالصلاة والدعاء بعيدًا عن أعين الآخرين. كان يدعو بشكل جميل جدًّا، بحيث نذرف الدموع تأثرًا بصوته الشجي الحزين ونحن ننصت إليه من خلف الباب!

 

لقد أثّرت أحواله المعنوية في معنوياتنا وروحيتنا كثيرًا. وصلتُ إلى نتيجة مفادها أن هدوء الدكتور وسلوكه اللطيف في علاج الجرحى، كانا من آثار حالات الصلاة والدعاء تلك. والحال أنّنا كنّا نظنّ أنّ كلّ تلك الدقة والنظام ناتجة عن التربية المرفهة.

 

وعلى العكس من السيّد "نجار" الذي كنا نحسب له ألف حساب ونخاف منه، كنا نرتاح كثيرًا في التعامل مع الدكتور "سعادت". كان يعاملنا باحترام شديد ويصبر علينا كثيرًا، وكنّا دائمًا ننظر إليه كشخص

 

41


32

الفصل الخامس عشر

أكبر منّا، وإنسان جدير بالثقة.

 

أذكر جيّدًا، أنه في ذلك اليوم الذي دفنّا فيه "علي"، حين رآني بعد الظهر، سألني: أين أنتِ يا أخت "حسيني"؟ لم أركِ منذ الصباح.

 

خنقتني العبرة، حاولتُ ألّا أبكي. قلتُ له بصوت مرتجف: ألم تعلم أنّ أخي علي قد استشهد بالأمس، ذهبتُ إلى جنت آباد لدفنه، فتجمعت الدموع في عينيه وصار وجهه أحمر اللون، خفض نظره إلى الأرض. عندما قلت له: لقد تركني علي مثل أبي وحيدة ورحل، انفجر بالبكاء بصوتٍ عالٍ، ثمّ وضع يده على وجهه وأسرع نحو الغرفة.

 

قلتُ له: لماذا تفعل هذا يا دكتور؟ أنا أتيت لكي تواسيني. قال باكيًا: كلا، يا أخت "حسيني"، أنا مثلك لا يمكنني التحمّل، لا طاقة لديّ على هذا. قال هذا ودخل إلى الغرفة. كان صوت بكائه مسموعًا من خلف الباب. لم أعد أتحمّل الوقوف هناك، فخرجتُ مسرعة من العيادة.

 

42

 


33

الفصل السادس عشر

الفصل السادس عشر

 

أعتقد أنّنا كنّا في يوم 14 أو 15 مهر (6 أو 7 تشرين الأول)، عندما كنت أعمل في العيادة ورأيت حسين وليلى واقفين قربي. تعجّبت، بل وخفت في الحقيقة. سألتهما: "ماذا حدث؟ ولم أنتما هنا؟".

 

لقد رأينا خليل معاوي وأخبرنا أنّ أخاه عبد الله قد أصيب.

 

انزعجت كثيرًا وسألتهما: "كيف وأين؟".

- لا ندري، لكنّه كان في الجبهة.

- وأين هو الآن؟

- لا نعلم، حتى إنّ أخاه خليل لا يعلم أين هو.

 

 لم أعد أستطيع صبرًا، فقلت لهما: "هيا لنبحث عنه".

 

ذهبنا بداية إلى مستشفى مصدق. وجدناه شبه خالٍ، وقد طاله بعضٌ من القصف الذي تعرّض له الجسر ومبنى المحافظة، وأصابته بعض القذائف إصابات مباشرة فدمرت أجزاءً منه. عندما دخلت، شعرت أن المكان مهجور. سألت عن عبد الله فقالوا لنا: "لم نعد نستقبل الجرحى؛ إذ لم يعد المكان آمنًا، وسيُنقل جميع جرحى المستشفى إلى ماهشهر".

 

43

 


34

الفصل السادس عشر

ذهبنا إلى مستشفى الولادة، فلم نجده هناك أيضًا، فانطلقنا نحو مستشفى طالقاني الذي كان مزدحمًا على عكس مستشفى مصدق، لكنهم أخبرونا أنه كان هنا وتقرر نقله إلى ماهشهر.

- وهل هو الآن في ماهشهر؟

- لا نعرف تمامًا، وقد نُقلت دفعة من الجرحى إلى المستشفى الميداني كما كان مقررًا.

 

لم أكن قد سمعت بمكان كهذا من قبل فسألتهم: "وأين ذلك المستشفى الميداني؟".

- في دارخوين على أطراف شادكان.

 

ولأن الوقت كان عصرًا، قلت لحسين وليلى: "لن نتمكن من الذهاب والعودة اليوم، فلندع ذلك إلى الغد".

 

في صباح اليوم التالي، خرجت باكرًا أنا وليلى، وحسين عيدي، وزهرة فرهادي وزينب من "خرّمشهر". لم نجد سيارة لتقلّنا إلى هناك، فانتقلنا سيرًا وأحيانًا رُكبانًا مع السيارات المارة. وصلنا إلى محطة "دوازه آبادان"، وانتقلنا من هناك إلى المستشفى بواسطة سيارة عسكرية. لقد قلقت على عبد الله كثيرًا. كنت أشعر أنّه وحسين كأخي الشهيد علي وقد أنستُ بهما كثيرًا.

 

طالت مسافة الطريق، وكانت هذه المرة الأولى التي نأتي فيها إلى "دارخوين". قال حسين: "مستشفى ميداني.. واضح من اسمه أنه أُسّس بشكل طارئ وعلى عجل".

 

44


35

الفصل السادس عشر

وأخيرًا، توقف السائق عند درب ترابية تنتهي بالمستشفى. رأينا من بعيد عددًا من المستوعبات المعدنية المرصوفة، إضافة إلى عددٍ من الخيم وقاعة كبيرة أشبه بالعنبر بجدران معدنية وسقف من القماش المشمع (شادر عسكري). قبل حوالي 50 مترًا من الوصول إلى المستشفى أوقفتنا نقطة للتفتيش. خرج الحارس من خيمته فأخبرناه عن سبب مجيئنا. طلب منا ترك ما بحوزتنا من أسلحة، فسلّمه حسين سلاحه (M1) الذي كان على كتفه، بينما كنت قد عهدت بالقنبلة وسلاح G3 لـ"فرّخي" ولم يكن معي غير الرصاصتين الملطختين بدماء "علي". دوّن الجندي المقتنيات على ورقة وأعطانا إيّاها.

 

عندما دخلنا حرم المستشفى، رأينا أكياس الرمل التي أحاطت، على علوّ مرتفع، بالمستوعبات المعدنية والخيم. بحثنا هنا وهناك حتى أخبرونا في النهاية عن مكان عبد الله. دخلنا القاعة الكبيرة حيث يرقد في السرير رقم (3)، وكان في القاعة حوالي 60 سريرًا في صفّين رقد عليها الجرحى، وكان بعضهم في حال حرجة. سرنا بينهم ونظرت إلى وجوههم التي لوّحتها الشمس ما يدل على أنهم من أبناء الجنوب، وكان بينهم جنود من المعسكر الحدودي. مهما بحثنا لم نجد عبد الله. خرجنا من القاعة وأخبرنا الممرضات أننا لم نجده، وسألناهنّ إن كانوا أرسلوه إلى مكان آخر.

 

قالت الممرضة: اذهبي وانظري ثانية يا سيدة.

- صدقيني لقد بحثت عنه جيدًا أنا وأصدقائي ولم نجده.

- وهل يمكن ذلك؟ لقد شكلنا ملفه الآن؛ فكيف لم تروه؟

 

45

 


36

الفصل السادس عشر

- لم نره!

 

دخلت الممرضة معنا إلى القاعة، وأرشدتنا إلى السرير رقم (3) وقالت: هذا هو عبد الله معاوي.

 

لم نصدق. هذا عبد الله؟! لقد أصبح نحيلًا جدًّا وتغيّرت ملامح وجهه من شدّة الضعف والإعياء؛ فلم نعرفه. لُفّ رأسه بضمادات كثيرة بحيث يُخيّل للناظر أنه يضع عمامة، وقد ظهر من بينها أنابيب لإخراج الدماء النازفة من رأسه لتصبّ في زجاجة قرب السرير. كانت جفونه مفتوحة، لكن لا يُرى سوى بياض عينيه، وقد اصفرّ لونه، كما إنّ الجزء العلوي من جسمه كان عاريًا وعُلّقت عليه الكثير من الأجهزة الطبية، وهو يتنفس عبر جهاز التنفس الصناعي، وتدلّت من يديه أنابيب الدم والمصل. اقتربت زينب من رأسه، كان واضحًا أنها تمنع نفسها من البكاء. انحنت فوقه بحنان وحسٍّ أمومي، وقبّلته من فوق الضمادات. حزنتُ كثيرًا عندما رأيته على هذه الحال. كم تمنيت أن أنزوي في مكان ما وأسكب الدمع مدرارًا.

 

تذكرتُ شقاوته وكيف كان يسعى لإضحاك من حوله. كنت أعتقد أنه يتشاقى عندما ينزعج من رؤية المناظر المؤلمة والمفجعة محاولًا نسيان ما رأى. وكان يُظهر غيرةً عليّ َوعلى أختي ليلى، فما إن يدخل غريبٌ إلى جنت آباد حتى يتصدى ويسأله عمّا يريد، ثم يقول لنا: ابتعدا أنتما فأنا موجود. كان نحيل الجسم، وقد التصق بطنه بظهره، فكنّا نشفق أن نطلب منه القيام بالأعمال، لكنه كان عندما يراني أعمل أو أحمل شيئًا ثقيلًا ينزعج ويقول: "لمَ تقومين بهذه الأعمال ونحن موجودون؟ فهل متنا نحن؟"، ثم يطأطئ رأسه ويشير لي بالابتعاد. حقًّا، كان نعم الأخ لي

 

46


37

الفصل السادس عشر

ولليلى خلال تلك المدة، وكان يكنّ محبة خاصة للسيدة زينب، شعور الابن تجاه أمّه. عندما ذهبنا ذلك اليوم إلى مدرسة "دريابد رسائي" ورأى كيف أبيد شبان الحرس الثوري، لم يطِق البقاء وقال: "لن أبقى في جنت آباد بعد اليوم وسأذهب إلى الجبهة". طلبنا منه التريث قليلًا؛ لأنّ أخويه حسن وخليل هناك أيضًا، وتذرّعنا أننا بحاجة إليه هنا، لكنه ذهب ذلك اليوم ولم نره بعده. سألت الممرضة عن وضعه، فقالت:

- لقد أصيب بشظية في رأسه ونزف كثيرًا وهو غائب عن الوعي منذ ذلك اليوم.

- ماذا تعنين؟ ما الذي سيحدث له الآن؟

- لا أمل له بالنجاة. لقد جاءت الطوافات ولم نرسل إلى ماهشهر غير الجرحى الذين يؤمل بقاؤهم على قيد الحياة، بينما سنرسل هؤلاء في الرحلة القادمة.

- ومتى الرحلة القادمة؟

- لا أعلم تحديدًا متى جاءت الطوافة سنرسلهم، هل أنتم من عائلته؟

- لا، لقد كنّا معًا في "خرمشهر"، ثم شرحت لها باختصار كيفية التعرّف إليه وعن العمل والتعاون بيننا.

- عليكم الذهاب الآن كي لا تزيدوا من ازدحام المكان، وإن أردتم رؤية جريحكم ثانية فعليكم التوجّه إلى ماهشهر حيث سنرسله.

 

خرجنا من المستشفى وأعطينا الحارس الورقة كي يسلّمنا الأسلحة، لكنه رفض ذلك من دون أن يقدّم دليلًا واضحًا لتصرّفه؛ ربما لصغر سنّنا أو لأمر آخر لا ندري ما هو. في النهاية قال لنا: إن أحضرتم رسالة

 

47


38

الفصل السادس عشر

من مسؤولٍ أعيد لكم السلاح". عندما يئسنا من الحصول على السلاح، انطلقنا نحو "خرّمشهر" وعانينا الأمرّين قبل أن نصل المدينة. لحسن حظنا كان السيّد يونس محمدي، وهو نائب "خرّمشهر" في المجلس، موجودًا في المسجد، فحصلنا منه على رسالة وعدنا أنا وحسين في صباح اليوم التالي إلى دارخوين. ذهبنا أوّلًا لعيادة عبد الله فلم نجده في سريره. سألت الممرضة عنه فقالت لقد استشهد، شعرت أنّ الدنيا تنهار من حولي، غشينا حزن عميق وصرنا كمن تعرض لصدمة عنيفة.

 

قال حسين بحزن: "لكن أين جثمانه؟ أعطونا إياه لننقله إلى خرمشهر".

 

مرّ بنا أحد الأطباء بلباس عسكري أنيق ونظيف، ونحن على تلك الحال، فسألَنا عمّا حدث.

 

قلت له والعبرة تخنقني: كان لدينا جريح هنا مصاب بشظية في رأسه، أخبرونا الآن أنّه قد استشهد.

- ما اسمه؟

- عبد الله معاوي.

- معاوي؟ لقد نقلناه البارحة.

 

سررت كثيرًا وكأنني تملّكت الدنيا وسألته بلهفة: بالله عليك هل تقول الحقيقة؟

- أجل! هل هو أخوك؟

- أجل، إنّه كأخي ما الفرق!

- دعيني أتأكد من لائحة الجرحى المنقولين.

 

48

 


39

الفصل السادس عشر

ذهب وبعد أن تأكد من اللائحة عاد وقال: "أجل يا سيدة، لقد نُقل إلى ماهشهر"، فدبّت فيّ الحياة ثانية. شكرنا الطبيب ثم خرجنا لتسلّم السلاح.

 

سلّمنا الرسالة للحارس الشاب، فأعطانا سلاحنا من دون أي جدال. وعندما سألته عن الرصاصتين قال:

- لن أعطيك إياهما.

- ماذا تعني؟ عندما طلبت تسليم السلاح والذخائر أعطيناك كلّ ما لدينا وكان بإمكاني إبقاؤهما في جيبي، وأنّى لك أن تعلم بوجودهما! لكني وثقتُ بكلامك، وتصرفك هذا غير لائق!

 

ذهب كلامنا أدراج الريح. هممت بالبكاء واضطررت إلى أن أقول له إنّ دماء أخي الشهيد ما زالت على تلك الرصاصتين وإنّي أريد الاحتفاظ بهما للذكرى. ما إن قلت هذا حتى طأطأ رأسه ودخل إلى خيمته ليعود حاملًا الرصاصتين وأعطاني إياهما. أخذتهما منه وغادرنا المكان مثقلين بالحزن والغم.

 

 

49


40

الفصل السابع عشر

الفصل السابع عشر

 

منذ انتقالي إلى عيادة الدكتور شيباني، كنت أذهب إلى موقع إعداد الطعام كلّما سنحت لي الفرصة. كانت أعمال الطبخ قد نُقلت من المسجد الجامع إلى باحة أحد المصارف، فكنّا نسير من المسجد باتّجاه النهر لنصل إلى هناك، وقبل شارع فردوسي، نتّجه يسارًا في زقاق ضيّق حيث يقع مبنى المصرف الزجاجي على زاويته، فنمشي في الزقاق، ثمّ ندخل من الباب الخلفي للمبنى إلى باحة كبيرة قد سُقف نصفها. هناك اجتمعت السيّدات اللواتي كنّ في المسجد لإعداد الطعام، بينهنّ السيّدة بور محمدي، السيّدة فولادي، أمّ يوسف علي، أمّ يونس محمّدي، وأم خسرو نوع دوستي، وغيرهن. وكلّما قصدت المكان رأيتهنّ منهمكات بتحضير الطعام.

 

وكما في السابق، كانوا يأتون بالماشية والدواجن التي تُقدّم هدية للمقاتلين المدافعين عن المدينة، أو تلك التي بقيت في المدينة ويحتمل أن تموت في تلك الظروف من الجوع والعطش، فكانت تُذبح وتطبخ في هذا المكان. وقد استُفتيَ مراجع التقليد في مسألة إمكان الاستفادة من هذه الحيوانات التي هجرها أصحابها وغادروا المدينة وتركت عرضةً للموت جوعًا أو جرّاء القصف. أجاز الحكم الشرعي الاستفادة منها شرط أن يدفع

 

51

 


41

الفصل السابع عشر

ثمنها لأصحابها بعد انتهاء الحرب، أو التصدّق بقيمتها بنيّة أصحابها.

 

كان جو العمل هناك رائعًا وحميميًّا، فجميع النسوة كنّ يعملن بشغف وإخلاص؛ يطبخن وهنّ يردّدن الأذكار ويصلّين على محمد وآله. عندما كنت أذهب إلى هناك كنّ يبدين لي محبّة كبيرة فيحدّثنني ويحاولن إخراجي من أحزاني لشهادة أبي وأخي بما يتمتّعن به من روح مرحة. كانت والدة خسرو وهي سيدة نحيلة حيوية وماهرة، أكثرهنّ اهتمامًا بي وعطفًا عليّ، وظلّت تقول لي دائمًا: "ليتكِ كنت ابنتي! ليت الله وهبني إياك!". وقد أحببتها أنا أيضًا؛ إذ كانت امرأة فاضلة وحكيمة جدًّا.

 

في المسجد لاحظتْ أم خسرو أنّي أثناء العمل، وكلّما احتكّت يداي بشيء أتألّم؛ ذلك أنّ جلد يديّ قد جفّ وتشقّق. عندما كنّا نقوم بفرز الثياب، ما إن تلامس يداي الأزرار أو الخيوط حتى يتشقّق جلدهما ويسيل الدم منهما وأتألّم ولم أعد أتحمّل الحكاك والحرقة، فقالت لي والدة خسرو: ادهني يديكِ بالقليل من دِهن الخراف التي يُحضرونها للطهو وستلتئم جروحها.

 

كانوا يذبحون الخراف في الشارع المجاور للمسجد قرب سوق الصفا، ثم يحضرونها إلى المسجد. في أحد الأيام، عندما أحضر القصّاب الذبيحة، اقتربت منه وقلت له: أرجو المعذرة، هل لي بقليل من دِهن هذا الخروف؟"، فاقتطع قطعة بحجم كفّ اليد وناولني إياها، فقلت: هذا كثيرٌ جدًّا، أريد قطعة صغيرة.

 

فقطَع قطعة على قدر عقدتي الإصبع وأعطاني إياها، فذهبت إلى المستوصف وجلست خلف الستارة، ورفعت كمّي ومسحت يديّ وساعديّ بالدهن، ودلّكتهما جيّدًا حتّى أصبحتا ناعمتين، وصرت منذ

 

52

 


42

الفصل السابع عشر

ذلك الحين كلّما رأيت أم خسرو أشكرها قائلة: جزاك الله خيرًا.

أمّا أعمال المطبخ الخارجية، فبقيت بعهدة الرجال؛ إذ كانوا يضعون قدور الطعام الكبيرة على عربات يدويّة، ويذهبون بها إلى النهر، فيهبط رجل إلى المصطبات على الضفّة، ويملأ الأوعية الصغيرة بالماء، ويناولها لمن هم في الأعلى فيفرّغونها في القدور الكبيرة. في بعض المرّات التي كنت فيها هناك، رجع الرجال بخفّي حنين؛ فقد صادف أن أمطرت الطائرات العراقية ضفّة النهر بوابل من القذائف ما اضطرهم إلى ترك القدور والهرب، وسحبت مياه النهر القدور معها. كانت ملامح الرجال العائدين وهم يجرّون ذيول الخيبة جديرة بالتأمّل! وما انفكّوا يعتذرون بخجل؛ أمّا النسوة فاستنكرن ذلك وقلن: ألا يكفي أنّكم عدتم بلا ماء، بل إنّكم سلّمتموها القدور!

 

في إحدى المرّات التي احتجنا فيها إلى الماء، قمتُ مع إحدى السيّدات بوضع القدور في العربة وقصدنا النهر. عندما رأيت وضع الضفة انتابني حزن شديد. كم تغيّرت معالم المكان! لقد دمّرت الطائرات الحربية المعادية المراكب وناقلات النفط، فغرقت ولم يظهر منها على سطح الماء سوى الصواري. استرجعت ذكريات الماضي التي ما زالت منطبعة في ذهني بدقّة؛ كان منظر الساحل بطرفيه خلابًا، حيث زُرع على امتداد أرصفته صفّان من الأشجار الخضراء الكبيرة، والتي عندما كنّا نمرّ بينها نخال أننا نمرّ في نفق ذي غطاء نباتي. أمّا أصوات أبواق السفن العابرة فلطالما ذكّرتنا أننا نعيش قرب الميناء. حينما يرتفع منسوب المياه وتصبح موحلة تكثر طيور النورس التي كانت تَغِير على سطح الماء بحثًا عن صيدها. وأكثر ما كنت أحبّه، سماع طنين اليعسوب الأخضر بين القصب النابت على الضفة.

 

53


43

الفصل السابع عشر

ما زلت أذكر أنّ الباعة، ونظرًا إلى حرارة الجو، كانوا يضعون الطاولات والكراسي على أرصفة الشاطئ عند الغروب ويبيعون الرقائق باللحم، الفلافل، القلب والكبد، الكرش والكراعين المشوية؛ أمّا بعضهم الآخر فيفترشون الأرض ببضائع أجنبيّة كالألبسة والألعاب، فيبتاع المتنزّهون على الضفّة ما يشاؤون. كان عدد آخر يتنزّه بالزوارق بينما يرمي بعض الشبان بصناراتهم داخل الماء. وبعيدًا عنهم، جلس صيّادون في زوارقهم ينتظرون جمع ما تصيده شباكهم.

 

وقد رست السفن الأجنبية في الميناء لتفرغ حمولتها، وكانت أضواؤها المنعكسة على صفحة الماء ليلًا، تضفي جمالًا وروعة على النهر، بحيث يودّ المرء أن يجلس ساعات على الضفة يمتّع ناظريه بكلّ ذلك الجمال الأخّاذ.

 

 

نزلتُ إلى المصطبات على الضفّة في نقطة خالية من القصب والشجيرات بحيث يسهل الحصول على الماء. تجمّع كثير من أشلاء الأسماك وأسماك القرش الدهنيّة الميتة بين القصب جرّاء انفجار القذائف داخل المياه؛ ما أدّى إلى انبعاث رائحة التعفّن منها. كان الفتيان يقولون إنّهم رأوا جثّة جنديّ عراقيّ هناك أيضًا. في ذلك اليوم، انخفض منسوب المياه، فبدت نظيفة وصافية نسبيًّا، رغم أنّ طعمها لم يكن جيّدًا، إضافةً إلى رائحة السمك النتنة التي تسمّى باللهجة المحلّية بـ"الزفر". بدت المياه وكأنّها اختلطت بالتراب والنفط، كما امتلأت بالنفايات والأوساخ. في الأيّام السابقة عندما ارتفع منسوب المياه وكانت موحلة، شعرنا بطعم النفط والزيت المحترق بشكل أوضح، فلم تكن صالحة للشرب أو الطبخ. وضعوا القدور جانبًا ريثما يركد الماء الموحل فيها، ثمّ أزالوا منها أغصان الأشجار وأوراقها كي تُستخدم في الغسل فقط.

 

54

 


44

الفصل السابع عشر

بينما كنت غارقة بين ذكريات الماضي ووقائع الحاضر، جاءت المقاتلات العراقية وأمطرت الشاطئ بوابل من القذائف، كما ألقت عددًا من القنابل في الماء، ما أدّى إلى تلاطم أمواجها، فجرفتني إلى عمق النهر؛ ما اضطرّني إلى أن أسحب نفسي إلى القسم الملوّث منه. وبعد أن غادرت الطائرات خرجتُ من بين الوحل والزيت بصعوبة وأنا ملوّثة بالقذارة والزيت من رأسي حتى أخمص قدمَيّ!

 

55

 


45

الفصل الثامن عشر

الفصل الثامن عشر

 

عند الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، ولا أتذكر في أي يوم تحديدًا، كنّا مشغولين بالتنظيف بالمكانس الكبيرة التي أحضروها حديثًا. كانوا دائمًا يقولون: "المسجد بيت الله، واتساخه هتكٌ لحرمته". جمعنا سجادات البهو، ثمّ نقلنا الصناديق وكنسنا المكان كلّه. وقد اعتدنا على استخدام المكانس العربية وسعف النخيل؛ لذا، فقد عانينا صعوبة في العمل بتلك المكانس المحضرة من مشهد. قبل أن ننهي عملنا قال السيّد مصباح: أخت حسيني، تعالي إلى الفناء.

 

وضعت المكنسة أرضًا وتبعتُه، فأشار إلى رجل كان يقف هناك قائلًا: نادي بعض الأخوات واذهبن برفقة هذا الرجل إلى "كوت الشيخ"، فهناك عمل عليكنّ القيام به.

 

فسألته: هل هو عمل ضروريّ برأيك؟

- نعم.

 

وبما أنّي أثق بالسيّد مصباح، ذهبت وقلت للفتيات: تعالين، ثمّة عمل يجب أن نقوم به.

- أين؟

 

57

 


46

الفصل الثامن عشر

فضحكتُ وأجبت: مهمة عسكريّة.

 

فرشنا أرض المسجد بالسجاد بسرعة وخرجنا. أمّا مريم أمجدي فجلست كعادتها قرب السلّم ولم تأتِ معنا. ركبت أنا، وأشرف، زهرة فرهادي، وصباح وطن خواه إضافة إلى فتاة آبادانيّة في سيارة بيك أب صغيرة كانت تنتظر أمام المدخل وانطلقنا.

 

عبرنا الجسر، وفي نهاية منطقة كوت الشيخ، توقّفت السيارة أمام معمل ونزلنا منها ودخلنا. وهناك عرفنا أننا أتينا إلى معمل لإنتاج وتوضيب البيض. تقدّمتْ سيّدتان من بين العمّال الذين كانوا يرتدون زيّ العمل، وسألتنا إحداهن: هل أتيتن للمساعدة؟

 

أجبنا: في الواقع لا نعلم، ولكن قيل لنا إنّ عملًا ما هنا علينا القيام به، ولا نعرف ما هو بالتحديد.

 

- لقد غادر كثير من العمال وقد جمعنا كثيرًا من البيض في الأيام الماضية، وإن لم نقم بتعليبه وإرساله فسوف يفسد.

 

قمت والفتيات بجولة في المعمل. في إحدى الصالات، وُضعت دجاجات بيضاء اللون في أقفاص ذات طبقات، ووُضع أمامها الماء والطعام، وفي صالة أخرى وضع الكثير من البيض على أحزمة متحرّكة، فكانت مهمّتنا وضعها في علب خاصة، ومن ثمّ في صناديق نلصقها ونضعها جانبًا. كان البيض المخصص للتفقيس قد اختلط مع ذلك الذي يباع للأكل، فكان علينا أن نرفع البيض وننظر إليه خلال الضوء، فإذا لم نرَ فيه أجنّة ولم تصبح قشرته خشنة ورقيقة، نرتّبه داخل العلب المخصّصة. أثناء العمل شعرت بالندم على مجيئنا إلى هنا وإضاعة وقتنا بهذا العمل، وبدا أنّ

 

58

 


47

الفصل الثامن عشر

الفتيات شعرن بذلك أيضًا. لا أعلم أيّهنّ تحديدًا سألت إحدى العاملات: لماذا تواصلون عملكم في مثل هذه الظروف؟

- نريد أن نرسلها إلى من بقوا في المدينة أو إلى الذين لجأوا إلى أطراف المنطقة.

 

عند الساعة الثالثة توقّف العمال عن العمل، وطلبوا منّا أن نغسل أيدينا لنتناول طعام الغداء. فُرش بساط على أرض الصالة وأُتي بكيس الخبز. كان الغداء بيضًا مسلوقًا، إلّا أنّ رؤية الأجنّة داخل البيض ذكّرتني بالأجنة السقط التي رأيتها في المغسل فساءت حالي، ولم أستطع أكل البيض. لم أجلس على مائدة الطعام ووقفت جانبًا؛ أمّا الفتيات فأخذن يقشّرن البيض ويأكلنه بشهية. أصررن عليّ بأن آكل معهن ولكنّي رفضت، فأعطينني لقمة من الطعام، فاعتذرت منهنّ ولم أفصح عن السبب، إنّما اكتفيت بالقول: لا أستطيع الأكل.

 

ضحكن وقلن: إننا ومنذ أيام لا نأكل إلّا الخبز والجبنة، بما أنّ الطعام بيض تعالي وكلي لكي تتقوّي.

 

قلت: "لا أريد"، ثمّ خرجتُ من الصالة. وجدت الباحة مزروعة بأنواع الورود والنباتات، وعندما رأيت شجيرات "لانتانا كامارا"، تذكّرت دا. كان أبي يزرع في الخريف بعض الورود وخصوصًا "لانتانا كامارا"، وعندما يحلّ عيد النوروز تزهر النباتات فتمتلئ باحة المنزل بعطر الزهور؛ النسرين الأبيض، والمنتور وفم السمكة وغيرها. أواخر الربيع حينما ترتفع حرارة الجوّ كان والدي يقتلعها من جذورها ولا يبقي سوى أزهار "لانتانا كامارا" الملوّنة. كنت أعشقها، لذا كنت أبكي وأسأل والدي: أبي لماذا تقتلع الأزهار؟

 

59

 


48

الفصل الثامن عشر

- أريد أن أزرع الطماطم والبامياء والفول.

- لماذا تبقي وردة لانتانا إذًا؟

 

فيقول ضاحكًا: لأن ورود لانتانا ستكبر وتصبح شجرة، أمّا الورود الأخرى فستذبل وتحترق خلال أيام قليلة تحت أشعة شمس "خرّمشهر" الحارقة.

 

جلت قليلًا في الباحة، ورحت أفكّر في هدوء هذه الناحية. شيء جميل أنّها لم تصلها نيران المدفعية العراقيّة، ولكنّ آثار القصف الجوي على البيوت المهدّمة تخبر بأنّ هذه المنطقة قد نالت نصيبها من الصواريخ والقنابل.

 

نادتني الفتيات فخرجتُ ممّا أنا فيه وعدت إلى الداخل للعمل. عند الساعة الخامسة، توقّف الجميع عن العمل، وجاء السائق نفسه وأعادنا إلى المسجد، وقال إنّه سيأتي في اليوم التالي واتّفق مع الفتيات على ساعة حضوره.

 

أمّا أنا فقرّرت عدم الذهاب إلى هناك في الغد، ولكنّي لم أقل شيئًا. بل فكّرت: لدينا كلّ هذا العمل هنا، فما الضرورة الملحة لجمع البيض؟

 

نزلت من الشاحنة وذهبت إلى حيث هاتف السيّد إبراهيمي، فأجريت اتصالًا بجنت آباد وسألتهم: هل أحضروا لكم طعام العشاء؟

 

عندما أجابوا بالنفي، حملت بعض المعلّبات والخبز وانطلقت. لم أرغب في خروج ليلى من جنت آباد لإحضار الطعام؛ لذا، كنت أحضره لهم بنفسي في معظم الأحيان. أحيانًا كانت السيّدات يغفلن عن الاحتفاظ بالطعام لمن هم في جنت آباد، أو قد يكون الطعام غير كافٍ، فأضطر

 

60


49

الفصل الثامن عشر

إلى أن آتي لهم بشيء آخر. في الأيام التي لم يكن فيها سوى الخبز والجبن، كانت ليلى تستاء كثيرًا وتُظهر ذلك أحيانًا وتقول: ألم تتمكني من إحضار شيء آخر، لقد أصابتني البلاهة لكثرة ما أكلت خبزًا وجبنًا وبطيخًا، وكأنّ هناك بستان بطيخ على طريقك فتقطفينه وتجلبينه.

 

عندما رأت أنّي أحضرت معلّبات قالت: يا للعجب!!

 

لقد كانت محقّة، فقبل مجيئها إلى جنّت آباد كانت ممتلئة وسمينة إلى حدٍّ ما. في كثير من الأحيان لم تكن تنتظر تحضير الطعام في المنزل، فما إن يدبّ الجوع فيها حتى تحضّر أي شيء وتأكله؛ أمّا الآن، فقد نحفت بسبب كثرة العمل وقلّة الطعام، حتّى إنّ وجهها قد هزل كثيرًا، وأحاطت بعينيها هالتان سوداوتان.

 

في معظم الأحيان، كنت أفكّر بليلى أثناء عملي، وينتابني قلق على مشاعرها، وأتساءل: ترى أيّ مشهد تواجهه الآن في جنّت آباد وما هو ردّ فعلها!؟ بعد شهادة أبي وأخي علي، صار لديّ شعور خاصّ تجاه ليلى، لا مجرّد شعور أخوي، بل صرت أعتبر نفسي أمّها.

 

لم تكن ليلى تفصح عمّا يختلج في صدرها من معاناة وألم، أو عن ضغط العمل في جنت آباد. في إحدى المرّات، كنّا عند قبر والدي، لا أعلم ما الذي رأته حتى قالت بإيجاز: زهراء، إنّ أشكال بعض الجثث مرعبة جدًّا، لقد تشظّت بشكل مريع، وأشعر بالخوف عند رؤيتها!

 

لم أعرف بماذا أجيب، فاكتفيت بالطلب منها المجيء معي إلى العيادة، وأن لا تعود إلى هذا المكان مرة أخرى، لكنّها لم توافق.

- على الأقل تعالي معي ليلًا لننام معًا.

 

61

 


50

الفصل الثامن عشر

- أنا لست على علاقة وطيدة بفتيات العيادة، وأرتاح هنا مع السيّدة زينب أكثر.

 

تحمّلت ليلى كلّ تلك الضغوط النفسية والروحية، وأحيانًا كانت تغضب وتنفعل، ففي إحدى المرات عندما طلبت منها أن تحمل معي جثّة لندفنها، قالت: لا أريد، لقد تعبت، من الصباح إلى الآن: غسل جثث وتكفين ودفن ولا شيء آخر.

- أوَلسنا هنا من أجل هذا العمل؟ لم يرغمك أحد على المجيء، أنت أتيتِ بنفسك. وهل تعملين لأجلي؟ توقّفي عن العمل، اتركي كل شيء واذهبي!

- صحيح، أنا من أتى، أنا من أراد المجيء، لكنني بشر أيضًا وقد تعبت!

 

لم ألُمها ولكن ما باليد حيلة؛ فالعمل كثير، وماذا سيحصل بهذه الجثث إن تركناها؟ أنا كنت أنحف منها وكنت أقفز من مكان إلى آخر ولا أتعب بسهولة، ولكنني أيضًا سئمت، فكيف بليلى التي كانت كلّما رفعنا تابوتًا ثقيلًا، تلهث وتتصبّب عرقًا وتعترض قائلة عندما أسرع في المشي: على مهلك، ماذا هناك؟ لمَ تسرعين هكذا؟

- أسرعي لدينا عمل.

 

وفي بعض الأحيان كنت أمازحها قائلة: ليلى أنا لا أسرع، هذا الشهيد هو الذي يسير بي، فهو يريد الذهاب إلى الجنة سريعًا.

 

62

 


51

الفصل التاسع عشر

الفصل التاسع عشر

 

بعد اليوم الرابع عشر أو الخامس عشر، صرت آتي يوميًّا بعد الظهر، أينما كنت، إلى مكان توزيع الطعام.

 

كانت هذه أفضل طريقة للذهاب إلى الخط الأمامي. طلبت من السيّد "نجار" مرات عدة أدوية وأدوات إسعاف، فقال لي ضاحكًا:

- بدأ الأمر يشتبه علينا، هل أصبحتِ طبيبة؟

 

ضحكتُ أيضًا وأجبته: لا أدّعي ذلك.

 

كان يضع الأدوات والأغراض جانبًا ويقول: من يذهب إلى خط التماس فليأخذها معه.

 

مع مضيّ الوقت، توصّلت إلى ضرورة حضور عناصر الإسعاف في الخطوط الأمامية. كنت قد سمعت سابقًا أنّ كثيرًا من الشباب قد استشهدوا فقط بسبب جروح بسيطة، ولكن عندما أخبرنا أحد المقاتلين الموجودين على خط التماس بما شاهده، لم أعد أستطيع السكوت عن هذا الأمر، فقد نقل لنا أنّ أحد الشباب المدافعين عن المدينة أُصيب بشظية في بطنه، وخرجت أمعاؤه من معدته فقام بإرجاعها بيديه وتراجع إلى الخط الخلفي، في الطريق أُغمي عليه مرات عدة، وبعد

 

63

 


52

الفصل التاسع عشر

ساعات استشهد قبل أن يصل إلى مركز العلاج.

 

في أحد الأيام، حملت كيس الإسعافات الأولية وخرجت من العيادة. كانت الشاحنات الصغيرة قد وصلت إلى مفترق الشارع حيث يعدّون الطعام، وتمّ وضع طنجرة مليئة في القسم الخلفي لإحدى الشاحنات. أردت أن أصعد، فقيل لي: إلى أين؟

 

أريد أن أذهب لتوزيع الطعام.

 

ونحن ما هو عملنا؟ أنت امرأة ولا داعي إلى مجيئك.

 

كلما جاء فوج جديد من القوات، تحتّم عليّ جدالهم ليوافقوا على أخذي معهم. قلت لأحدهم:

- أنت لا دخل لك! أنا مسعفة وأريد أن أعالج الجرحى.

 

ثم أشرت إلى كيس النايلون الذي وضعت فيه أدوات الإسعاف وقفزت، وجلستُ إلى جانب الطنجرة، وانطلقت الشاحنة. أوقع ضغط الهواء غطاء الطنجرة الكبيرة، نظرت إلى داخلها فكان الطعام "يخنة الفاصولياء". وضعت الغطاء وأمسكته بيدي كي لا يقع. كان السائق يمرّ من طريق "40 مترى" متجهًا نحو منطقة المسلخ. حين عبرنا سوق "تشاسبي" ووقفت، وقعت عيناي على المنزل الذي استأجره خالي علي منذ شهرين أو ثلاثة. كان منزلًا جميلًا، تعبنا كثيرًا في تنظيفه وترتيبه. كم أتمنّى الآن لو كان خالي "نادِ علي" واقفًا أمام منزله لأراه وأسلّم عليه. منذ أكثر من أسبوعين وأنا لا أعرف أي شيء عنه. جلستُ مكاني. بالقرب من المسلخ، لمحنا على الرصيف شابًّا يعرج في مشيه. ضرب الشباب بأيديهم على سقف الشاحنة فتوقف السائق. كانوا يودّون تقديم الطعام

 

64

 


53

الفصل التاسع عشر

لهذا الشاب. حين رأيت جراح قدمه، قلت له: تعال معنا، بعد أن نوزّع الطعام، نعود إلى المسجد ونضمّد لك جرحك.

 

صعد الشاب إلى الشاحنة التي انطلقت وتابعت طريقها. كلّما تقدّمنا أكثر خلت الشوارع وتزايدت الانفجارات عددًا وشدّة. كان السائق يضاعف سرعته أكثر فأكثر. صارت طنجرة اليخنة تهتزّ فيخرج بعض المرق منها. أمسكتُ غطاء الطنجرة بيد وتمسكتُ بحافة الشاحنة باليد الأخرى كي لا أقع. كلما سمعتُ صفير قذيفة، أحنيتُ رأسي وتقوقعتُ وراء الطنجرة، لأحتمي من الشظايا المتناثرة. فجأة خفف السائق من سرعته، فرفعت رأسي لأرى ما الخبر.

 

كان عدد من المقاتلين الواقفين أمام أحد العنابر المدشّمة يشيرون للسائق كي يتّجه نحوهم. لم يتردّد السائق فأرجع الشاحنة إلى الوراء وخرج عن الجادة متّجهًا نحو العنبر، فخرج بعض المقاتلين شعث الشعر بملابس متسخة. وكالعادة ما إن انتبهوا إلى وجود امرأة حتى اعترضوا على ذلك بشدة وقالوا لي: الوضع خطير، يُحتمل أن يتسلّل العراقيون إلينا في أي لحظة!

 

لم أتأثر بكلامهم. قال أحدهم للسائق، ويبدو أنّه قائد هذه المجموعة، وكان يحمل جهازًا لاسلكيًّا: لا يمكنكم التقدم إلى الأمام. من هنا وصولًا إلى الخط الأمامي، يمكن قصفكم وإصابتكم بسهولة!

 

قال أحد الشباب الذين جاؤوا معنا: ماذا نفعل؟ نريد إيصال هذا الطعام إلى الخط الأمامي.

 

أجاب: اتركوه هنا، سنعطيهم إياه حين نقوم عصرًا بتبديل القوات.

 

65

 


54

الفصل التاسع عشر

الوضع سيّئ جدًّا. لقد تعب الشباب، عددنا قليل وإن لم تصلنا قوات دعم فإن مقاومة الشباب ستفشل. عودوا أنتم إلى الخلف، وأخبروهم عن حالنا واطلبوا منهم إرسال قوات دعم.

 

سألته: كم هي المسافة حتى مواقع شبابنا الأمامية؟ ألا يمكننا الوصول إليها؟

- لا، لا يمكن.

- كيف وصلوا هم إلى هناك إذًا؟

 

هم وصلوا بمشقّة وصعوبة كبيرتين. لقد انتشر العراقيون في كل مكان. نحن بقينا هنا كي لا يتمكن العدو من محاصرتهم وفصلهم عن هذه المنطقة، ولكن لا أعلم كم نستطيع الصمود والبقاء هنا.

 

في حين كان الشباب ينزلون الطعام والماء، قمتُ أنا بتضميد جرح يد الجريح وقدمه التي كانت تنزف. قال السائق: سنتّجه صوب مستديرة "سكة الحديد".

 

قال قائد المجموعة: لا تقتربوا من منطقة المسلخ وإلّا فإنكم ستقعون في الأسر من دون شك، أو قد تمرّ دباباتهم على شاحنتكم فتطحنكم! اذهبوا من الجهة الأخرى.

 

قبل أن تنطلق شاحنتنا، قال الشاب الجريح إنه يريد البقاء هنا، ونزل ليلتحق بالمقاتلين.

 

قلت له: انتبه، إن ضغطت على جراحك فسيعود نزيف الدم فورًا!

- بعد أن ضمدتِها لي صارت جيدة، إذا لزم الأمر، أذهب لاحقًا إلى المستشفى.

 

66

 


55

الفصل الثامن عشر

سار السائق من الطريق الأخرى التي أشار إليها ذلك الرجل، توقف مرات خلال مسيره في شارع "40 مترى" كي يستطلع الأوضاع. كان يتحدث مع الشباب في القسم الخلفي للشاحنة ويتشاور معهم حول التقدم والحركة للأمام أولًا. بعد أن سمعوا كلام أولئك الشباب هنا صاروا أكثر احتياطًا وحذرًا. قالوا لي: يا أخت، انزلي هنا، من الآن فصاعدًا صار الوضع خطرًا جدًّا.

- أنا سأبقى حتى النهاية.. أينما ذهبتم سأذهب معكم.

- الخطر شديد!

- الخطر على الجميع وليس عليّ وحدي.

 

تحركت الشاحنة من شارع "نقدي" نحو شارع "شهرام" خلف "الاستاديوم". غيّر السائق رأيه واتجه نحو ميدان "سكة الحديد". بدأت أصوات طلقات القنص ترتفع وتقترب منّا أكثر فأكثر. شاهدنا في الشارع ملّالة وجيبًا وسيارة الإطفاء تجوب الأحياء. سألت الجنود القادمين في الجيب من جهة منازل البلدية:

- هل تريدون طعامًا؟

- نعم.

- هل لديكم وعاء؟

 

أعطونا وعاءً معدنيًّا ذا مقبض يشبه "المطرة". وضعنا الطعام فيه وأعطيناهم خبزًا. عبرنا المنطقة التي يوجد فيها منزل المهندس "بهروزي". كنت قد ذهبت إلى هناك مرات لمعالجة الجرحى، حيث كانت بعض البيوت قد دُمّرت بالقصف. أشجار الرصيف احترقت أيضًا. تذكرت أيامنا

 

67

 


56

الفصل التاسع عشر

وذكرياتنا الجميلة هناك؛ مع أنّ أوضاعنا المعيشية آنذاك كانت صعبة، ولكن قلوبنا كانت فرحة مسرورة.

 

لم نكد نصل إلى الساحة حتى أوقفتنا شدة الانفجارات والرصاص. ركن السائق السيارة أمام مدرسة "ابن سينا". ترجلنا من الشاحنة وأخذنا نجول في الحيّ بحثًا عن الشباب المقاومين. الصمت المريب يخيّم على الأجواء ويثقل اللحظات. جلت ببصري ودققت لألمح أي أثر لقواتنا، لا صوت يعلو على دويّ الانفجارات والقذائف.

 

لا أثر لضجيج الشباب وهجماتهم، ولا لتكبيرهم وركضهم السريع! ضاعف هذا الصمت من إحساسنا بالخطر. شعرت أنّ هناك من يعدّ كمينًا لنا! بعد قليل، قالوا لنا لا تتفرقوا وامشوا معًا بهدوء كي لا يسمع صوت وقع أقدامكم.

 

قالوا لي أيضًا: انتبهي يا أخت والتفتي جيدًا وراءك.

 

تحركنا وقد أحاطوني من كل جانب.

 

لم نكن نملك سلاحًا. لم أدرِ لماذا لم أحضر معي بندقية الـG3 من العيادة. وضعت يدي تحت عباءتي وأمسكت بالقنبلة اليدوية التي كانت في جيبي. اجتاح القلق والاضطراب كل كياني، كان هاجس الوقوع في الكمين يشغل كلّ تفكيري. لم أكن أخاف من الموت، بل كنت أتمنى اللحاق بوالدي، لكنني لا أريد أن أقع في الأسر. كانت فكرة الاعتقال تعذبني. أخذت إحدى القنابل اليدوية وأحكمت قبضتي عليها. كنت أعدّ اللحظات وأنتظر كي أسحب الصاعق عند حدوث أي طارئ. كانت كلمات الشيخ شريف تتردد في مسمعي عندما قال مجيبًا الشباب: قتل

 

 

68


57

الفصل التاسع عشر

النفس غير جائز في أي ظرف، لكن أنتم اسحبوا صاعق القنبلة بقصد قتل العدو، وعندما تنفجر تكونون قد قتلتم العدو واستشهدتم أيضًا.

 

كنت أفكر في "دا" والشباب. إذا وقعتُ في الأسر ماذا سيحدث لهم؟ لا شك في أن "دا" ستصاب بالجنون وتموت من الهمّ والغمّ.

 

يجب أن أحول دون وقوع هذا الأمر، وأُقتل فورًا قبل الأسر. بعد ذلك، سألت نفسي: هل يمكنني وكما قال الشيخ شريف أن أقتل الأعداء وأموت أيضًا بقنبلة يدوية واحدة؟ يجب أن أستخدم قنبلتين؛ أسحب صاعق الأولى بأسناني وأرميها على العدو، ومن ثم أفجر الثانية وأنهي حياتي وحياة جنوده. حدّثت نفسي بهذا ثم فكرت بعمق أكبر وسألت نفسي: هل أملك الجرأة حقًّا للقيام بهذا العمل؟ كنت قد سمعت من الناس ومن الشباب المقاتلين كيف أنّ "صدام" وقواته، وعلى رغم كل ادعاءات العروبة، هم ليسوا سوى حفنة من المجرمين المتوحشين. كانوا يتحدثون كيف اعتدى هؤلاء القتلة على النساء والأطفال في المناطق التي احتلوها. كيف هتكوا أعراض الناس ولم يرحموا حتى القرى العربية التي سيطروا عليها.

 

أعدتُ استعراض ظروف الأسر وما بعده في ذهني، ووصلت إلى هذه النتيجة: رفضًا للذلة والإهانة، سأسحب الصاعق حتمًا وأنفّذ خطتي! كان قرارًا صعبًا. أخذتُ أهدّئ من روعي، من أين تعرفين أنّ حادثًا كهذا سيقع، ولماذا أؤذي أعصابي بهذه الأفكار والتخيّلات القاسية؟.

 

كنّا نتقدم بهدوء شديد. وصلنا إلى زاروب ضيّق ويظهر أنّه طريق مسدود. كانت الجدران من طرفي الشارع تجعل أجواء الحيّ مظلمة. كنّا

 

69

 


58

الفصل التاسع عشر

نحدّق بدقة في كل شيء حولنا. عيوننا وآذاننا تترصّد منتظرةً أي إشارة طارئة. فجأة خرج شاب من أحد البيوت وفي الوقت نفسه انفجرت قذيفة أصابت الحائط بالقرب منّا إلى جهة اليسار. أصابني ضغط القذيفة بشدة وألقى بي على الأرض. حاولت بسرعة أن أقوم من الصدمة وأقف. بالكاد استطعت أن أضع يدي على الأرض، لم أستطع الرؤية بوضوح. صوت القذيفة لا يزال يدوّي في أذني. أحسست بثقل في رأسي وبدوار مزعج. كانت يداي ترتجفان بشدة، وأحسست بأني فقدت السيطرة عليهما. بقيت على هذه الحال دقائق. سمعت الشباب يسألونني: هل أنت بخير؟ هل أصابتك الشظايا؟

- كلا، فقط أشعر بثقل ودوار، لا أستطيع النهوض من مكاني.

- لا شيء خطيرًا، إنها صدمة ضغط الانفجار.

 

عندما تحسنت حالي واستطعت الوقوف، نظرت حولي كي أحدّد الوضع، شاهدت جريحًا، إنه ذلك الشاب الذي خرج من المنزل للتو.

 

كانت قدماي لا تسعفاني على المشي. أحد الشباب وضعه كان أسوأ من وضعي؛ لم يستطع القيام.

 

فجأةً، خرج زبد من فمه وجحظت عيناه. خفْتُ كثيرًا. قام السائق ورجل آخر بمساعدته على الحركة وبصعوبة بالغة أجلساه قرب الحائط. حاولا التكلم معه، لكن من دون جدوى، كان كمن تجمّد ولم يتحرك.

 

توجهتُ إلى جريح آخر. كانت حجارة الحائط المهدّم قد سقطت وتناثرت ردمًا. اقتربت منه. كان قد وقع أرضًا والدم ينزف بقوة من جرحٍ في رقبته. هالني المشهد، لكني وضعت يدي سريعًا على الدماء لأتحسّس

 

 

70


59

الفصل التاسع عشر

الجرح، حاولت الضغط على طرفيه لأخفّف النزف. امتلأت يدايَ دمًا ولكن من دون جدوى. كان الجرح عميقًا وقد أُتلف اللحم والجلد من عدة جهات. ضغطت أكثر فصاح الجريح من الألم. صرخت بالشباب: أحضروا كيس الإسعافات الأولية!

 

ركض السائق وأحضر الكيس. قلت له: البيتادين!

 

فتح القارورة وأعطاني إياها. سكبت البيتادين على الجرح، وقلت للسائق: أعطني بعض الضمادات.

 

كنت أضغط على الجرح بيدي، ثم أضع الضمادات، ثم أضغط مجدّدًا. كان رأسي لا يزال ثقيلًا من الدوار. لم أستطع العمل بشكل سريع، لكن خوفي كان كبيرًا على الشاب الجريح الذي بدأ يغيب عن الوعي من شدة الضعف والإعياء. طلبت المساعدة من السائق. رفع رأس الجريح بيديه وقمت أنا بلفّ الشاش على كامل رقبته. امتلأت الضمادات والشاش بالدم النازف. أعدتُ الكرّة مجدّدًا وضاعفتُ عدد الضمادات ثم أعدت اللفّ. كان الشاب بالكاد يفتح نصف عينيه وينظر منهكًا إلى نقطة غير محددة. كانت سترته الخضراء قد تلونت بدمه. احتملت من نوع بدلته أنه ضابط. قلت للسائق: انزع عنه سترته كي يتحسن تنفّسه قليلًا.

 

وقفت، وكان خمسة أو ستة عسكريّين قد أحاطوا بنا والأسلحة بأيديهم وبعضهم يضع خوذة عسكرية على رأسه. كان صوت الرصاص والاشتباكات يرتفع ويقترب منا أكثر فأكثر. تقدّم أحد العسكريين ورفع الجريح، وحمله على كتفه. قلت له: هذه الوضعيّة ستصعّب عليه التنفس. وضع الجريح على الأرض. تقدم عدد من الشباب، تعاونوا في حمله وأخذوه إلى الشاحنة، كذلك نقلوا الشاب المصدوم من عصف

 

71

 


60

الفصل التاسع عشر

الانفجار، ساعدوه على المشي بهدوء نحو الشاحنة. وضعوا طناجر الطعام الكبيرة على الأرض وقالوا للعسكريين: قوموا أنتم بتوزيع الطعام.

 

مدّدوا الجرحى على أرض خلفية الشاحنة، أما أنا فجلست على الحافة وأرخيت قدمي للأسفل. لم تكن الشاحنة قد انطلقت وإذا بقذيفة تنفجر بيننا وبين العسكريين. دوّى صوت تشقّق الأرض، كان يصمّ الآذان، وتناثرت الشظايا باتجاهي. قلت في نفسي: الآن سينقطع رأسي. بعد أقلّ من ثانية، عبرت شظية كالبرق الخاطف فوق رأسي لتستقرّ في إسفلت الشارع. نظرت إلى تلك الشظية التي استهدفت رأسي، كانت بحجم كف اليد. أحد العسكريين الذي كان يريد العودة معنا وقد وقف أيضًا في الشاحنة، قال لي: أيتها السيّدة، قد جلستِ هناك! ستطيرين من ضغط الانفجارات، فلنتبادل الأماكن. جلس هو مكاني وجلست أنا بالقرب من الشاب الجريح.

 

ضغط السائق على دوّاسة البنزين بكلّ قوة وأسرع للأمام تاركًا القذائف تنهمر وراءنا وحولنا. خلال مسيرنا السريع المضطرب هبوطًا وصعودًا، نظرت إلى رقبة العسكري الجريح. كان نزفه قد خفّ قليلًا ولكن وضعه كان يسوء. كنت أدعو الله وأطلب منه أن لا تصيب هذه الشظايا المنهمرة علينا إطارات الشاحنة فتثقبها، فيصبح وضعنا أشدّ وأسوأ! فجأة رأيت الشاب المصدوم بعصف الانفجار وكان مستلقيًا بهدوء على أرض الشاحنة، وقد خرج الزبد مجدّدًا من فمه وازداد بياض عينيه، ثم بدأ يرتجف. نظرت إليه، كان جسمه النحيف يحكي بوضوح أنه لم يأكل شيئًا منذ أيام. وقد برزت عظام خدّيه من شدة الجوع ووجهه الضعيف يفيضُ مظلومية. قيافته توحي أنه عامل في الميناء. قام اثنان من الشباب

 

72

 


61

الفصل التاسع عشر

بإمساكه والتخفيف من رجفته. عاد الزبد ليخرج من فمه، ومالَ لون بشرته السمراء إلى الأصفر. عاد السائق للسير في طريقه السابقة.

عندما تجاوزنا منطقة الاشتباكات، توقف السائق في شارع "40 مترى". أخرج رأسه من النافذة وسأل: يا أخت، إلى أين نذهب؟

- إلى "طالقاني"، وضعه صعب جدًّا، ولا يمكن أن نقوم بمداواته في عيادة "شيباني".

- هل يصمد إلى هناك؟

- الاتكال على الله.

قصّرتْ سرعةُ الشاحنة مسافة الطريق، وقبل أن يوقفها ويعود بها إلى الوراء، ترجّل أحد الشباب بسرعة وعاد مع عدد من الممرضات وحمالة طوارئ. أنزلوا الجريح وركضوا به نحو غرفة العمليات، ثم أنزلوا الشاب المصدوم. كان المسكين، بحاله هذه، مطيعًا جدًّا ويسمع وينفّذ كل ما يطلب منه فورًا. نقلوه هو الآخر إلى قسم الطوارئ. أعادنا السائق إلى "خرّمشهر" وأنزلنا أمام المسجد. مع أن حالي لم تكن على ما يرام أحسست أنّ الجو بالقرب من المسجد ليس طبيعيًّا. وكأنّ رياحًا خريفيّة قد عصفت بالمنطقة وقلبت كل شيء رأسًا على عقب! شارع المسجد الذي كان مزدحمًا دائمًا، بات خاليًا ولا أثر لكل تلك الفوضى والزحمة المعتادتين. اعتقدت أولًا أنّ قذيفة قد سقطت هناك فاستشهد بعض الناس وخلا الشارع من أهله. سألت أحد الأشخاص وكان خارجًا من المسجد: ماذا جرى؟

- ألم تعلمي أنه تمّ إعدام أحد الأشخاص؟

 

ارتجف بدني بمجرد سماع كلمة إعدام. كنت أستوحش من هذه

 

73


62

الفصل التاسع عشر

الكلمة. ذات يوم، قبل انتصار الثورة، اشترى أبي صحيفة كان عنوانها الأول: إعدام عدد من المخرّبين. كان أبي مستاءً جدًّا ويقول: "نظام الشاه هو المخرّب"، ثم يتهم طالبي الحرية بالتخريب. كان ينظر إلى صورة المعدومين ويبكي بصمت. بقي حزينًا منزعجًا لعدّة أيام لا يأكل الطعام. ذهب تفكيري الآن بالمخربين نحو الطابور الخامس.

 

سألت: من الذي أُعدم؟ ما هي جريمته؟

- ألم تسمعي أنه كان هناك من يسرق أموال القتلى والجرحى من جيوبهم؟

- بلى.

- لقد أمسكوا به، وقد حاكمه السيّد الخلخالي وحكم عليه أنه من المفسدين في الأرض. لقد ربطوه بتلك الشجرة وأعدموه رميًا بالرصاص، ثم أخذوا جثمانه للدفن.

 

نظرت إلى المكان الذي أشار إليه. كانت تلك الشجرة مقابل المسجد على زاوية شارع "الفخر الرازي". تابع الرجل كلامه: يقولون إنهم سألوه في المحكمة لماذا كنت تقوم بهذا؟ لم يكن لديه ما يقوله للدفاع عن نفسه، وقد أقرّ واعترف بفعلته.

 

خرجت من الباحة. كانت تلك الشجرة الكبيرة على زاوية تربط بين شارع "انقلاب" وشارع "الفخر الرازي". طلقات الرصاص غُرزت في جذع الشجرة وكسرت غصنًا كبيرًا منها، وأوراقها وورودها الصفراء تناثرت على الأرض.

عندما وقع نظري على الدماء السائلة، التي غطّاها التراب، انقلب

 

 

74


63

الفصل التاسع عشر

مزاجي وتغيّرت حالي. انتابني شعور سيّئ بالنسبة إلى تلك النقطة.

 

عدت إلى المسجد. كان أمرًا عجيبًا جدًّا بالنسبة إليّ؛ لماذا وكيف يمكن لإنسان أن يقوم بهذا الفعل وهو معرّض للموت في كل لحظة في هذه الظروف؟! بالإضافة إلى أنّني أنزعج من فكرة الإعدام رميًا بالرصاص.

 

هدأ روعي قليلًا من هول صدمة الانفجار ومن سماع خبر الإعدام. ذهبت إلى "إبراهيمي" وعرضت عليه أوضاع الخطوط الأمامية التي شاهدناها اليوم بالتفصيل. قال: ما زلتِ مصرّة على إخباري بهذه المسائل؟

- حسنًا، ماذا أفعل؟ لمن يجب أن أقول؟

- يا أختي، يجب عليك أن تخبري القادة والمسؤولين. يجب أن يعرفوا هذا الوضع الصعب، فهم يستطيعون إصدار الأوامر وتغيير الظروف الحالية. من أنا وماذا أستطيع أن أفعل؟ لماذا تأتين دائمًا وتخبرينني؟ أنا أقصى ما يمكنني فعله أن أجيب على الاتصالات الهاتفية وأقوم ببعض أعمال التنسيق في المسجد فقط.

- أين يمكنني أن ألتقي القادة؟ أخبرني وأنا سأذهب إليهم.

 

بعد هذا، كررت طلبي مرات، وقلت لإبراهيمي إنّ عليّ الذهاب إلى "غرفة العمليات العسكرية"، يجب أن أتحدث مع القادة والضباط. وكان يقول: "إنّ هذا غير ممكن"، فأجيبه: "لا يوجد شيء غير ممكن!".

 

تمامًا كالأيام الأولى، لم أُبق لإبراهيمي باقية! المسكين لم يعد يعرف الراحة من ملاحقتي له. في آخر الأمر، ناداني مرةً من باحة المسجد. وقال لي: تفضلي، تريدين لقاء قادة العسكر، إنهم ذاهبون بعد الظهر إلى "غرفة العمليات"، هيّا اذهبي معهم.

 

 

75


64

الفصل التاسع عشر

قلت مذهولة: متى يريدون الذهاب؟

 

أشار لي بيده إلى مجموعة من الشباب وقال: "هؤلاء الواقفون قرب السيارة". ثم نادى أحدهم وقال له: "هذه السيّدة الأخت زهراء حسيني التي أخبرتكم عنها".

 

تقدمتُ منهم. كانوا سبعة أو ثمانية، بدا أحدهم أنّه مسؤولهم، يرتدي بدلة الحرس الثوري فيما الباقون كانوا بثيابهم المدنية، سألني:

- لماذا تريدين الذهاب إلى "غرفة العمليات"؟

- بسبب هذه الأوضاع التي نشهدها.

- وهل تظنين أننا لم نخبرهم بهذا حتى الآن؟ أو أنّ غرفة العمليات لا تملك المعلومات عما يحصل!؟

 

نظرت إلى حذاء الكتّان الذي ينتعله وقلت: حسنًا، أنا أيضًا أريد أن أخبرهم، لعلّ الله يقضي أمرًا كان مفعولًا.

 

طوى الشاب الورقة التي كانت بيده، قال بعد لحظات من الصمت:

"نعم، ليست الفكرة سيّئة. لعلّهم حين يرون كيف أن الأخوات يحترقن حرصًا وقلقًا على مسار الحرب، سيفكرون أكثر ويتخذون قرارات مصيرية لعلهم يعودون إلى أنفسهم قليلًا".

 

سررت كثيرًا لكلامه وسألته: أين ومتى ألتقيكم كي نذهب معًا؟

- هكذا وبهذه البساطة؟! إن هي إلّا كلمة تفوّهت بها. القادة الذين يريدون الذهاب إلى غرفة العمليات لا يملكون قرار الحرب والسلم والحلّ والربط. هل تظنين أنك وبمجرد أن قصدتِهم هناك وحدّثتِهم عن

 

76


65

الفصل التاسع عشر

الأوضاع فسيقرّون خطط الحرب وخرائط العمليات؟ كلا يا أختي، أصل مشكلتنا في أن الجالسين في غرفة العمليات لا يجدون من يسمع كلامهم وينفذ طلباتهم كما يجب!

- نعم، كلامك صحيح، لكنني أشعر أنه يجب عليّ الذهاب وقول كل ما لدي، لعلّهم يفكرون في أساليب أخرى. لعلّ إصرارنا وضغوطنا تجعلهم يتابعون المسائل أكثر. الكل ينتظر صدور قرار من الجهات العليا، ولعلّ هذا القرار لن يصدر. يجب أن يحدّد التكليف وتعرف المسؤوليات.

- أقول لك: "لا يمكن"، فتصرّين على رأيك أكثر!

 

بعد نصف ساعة من الجدال، بدا عليه الغضب، ورفض الشباب الذين كانوا معه الفكرة وقالوا لي: يا أخت، هذه المسائل ليست مزحة وما تقولينه غير مجدٍ.

 

قال بعصبية: اذهبي أنت وشاهدي الوضع بنفسك، اتركينا وشأننا!

- لو سمحت، أعطني العنوان!

- أي عنوان؟ وهل تظنين أنه منزل خالتك؟ تعالي إلى المسجد الجامع، سنأتي وراءك بعد الظهر أو غدًا صباحًا.

- أنا هنا دومًا، أو في الجوار. إن لم تجدوني أخبروا السيّد إبراهيمي وهو سيخبرني.

 

استودعتهم الله وذهبت إلى المسجد. كانت عيناي مسمّرتين نحو المدخل طول الوقت. تعبت من الانتظار، وقلت: "لعلهم سيأتون غدًا أو بعد أيام". لشدة خوفي من أن يأتوا ولا يجدونني، لم أبتعد عن ساحة المسجد والعيادة. كان ذهني مشغولًا طوال الوقت: من سيكون هناك

 

77

 


66

الفصل التاسع عشر

في غرفة العمليات؟ كيف يجب أن أبدأ كلامي؟ في ذلك اليوم حين جاء "بني صدر" إلى خرمشهر، أردت الوصول إليه أيضًا والتحدث معه مهما كلّف الأمر. لا أذكر كم يومًا كان قد مضى على بدء الحرب.

 

أخذتُ جريحًا إلى المستشفى، بعد أن انتهينا من دفن الشهداء. حين وصلت إلى مستشفى "طالقاني" عدت لمواجهة "نقّ" الممرضات وصراخهنّ في وجهي: "لماذا تحضرين الجرحى إلى هنا؟ لم يعد لدينا مكان لاستقبالهم، ولا طاقم طبيًّا لمعالجتهم". هذا الأمر أغضبني كثيرًا. رجعت بعدها إلى المسجد وأنا على هذه الحال. صرت أبحث عن أي شخص كي أتحدث معه ليقوم بحلّ هذه المسألة. على "أحد ما" أن يتحمل مسؤولية الجرحى والشهداء، أن يقوم بالتنسيق بين المستشفيات، ويوزع المهام بينها لاستقبال الجرحى. على أحدهم أن يحسم مسألة تسليم أجساد الشهداء، فلا تصبح مادة للجدل والمشاكل. في نهاية الأمر، يجب أن نأخذ الأجساد إلى مقبرة "جنت آباد"، نضعها في برادات المستشفيات أو ندفنها في مقبرة "آبادان". كان إيجاد سيارة وإرضاء سائقها بالعمل معنا، في حد ذاته معضلة كبرى! فإن وجدنا أحدًا، كان سرعان ما يفرّ ويهرب منا نظرًا إلى صعوبة العمل والمهام التي نطلبها منه.

 

رحت أجول في محيط المسجد حتى عصر ذلك اليوم. كنت قد سمعت أنّ غرفة عمليات الحرب خارج المدينة. قلت في نفسي؛ إذا توجّب عليّ السير مساءً، فأنا لا أعرف هؤلاء الأشخاص. ليس صحيحًا أن أذهب بمفردي. قلت لـ"زهرة فرهادي": أنا سأقصد مكانًا ما، هل تأتين معي؟

- إلى أين؟

 

78


67

الفصل التاسع عشر

- إلى مكان ما، فقط قولي: نعم!

- نعم، ولكن قولي لي إلى أين؟

- زهرة! لن آخذك إلى مكان سيّئ!

- أعلم أنه ليس سيئًا. أنا أعرفك جيدًا وأعرف أنك لست تابعة لتلك الأحزاب والمجموعات.

- زهرة! أريد الذهاب إلى "غرفة عمليات الحرب" ولكن لا تخبري أحدًا!

 

استدارت عيناها من الدهشة وقالت: غرفة العمليات!؟

- نعم، انتبهي جيدًا، سيأتون وراءنا في أي لحظة.

 

لم يمرّ وقت طويل حتى جاؤوا ورائي وقالوا تفضلي يا أخت.

 

خرجت أنا وزهرة من المسجد، وحين أردنا الركوب، ترجّل شاب من المقعد الأمامي قرب السائق وأخبرني من دون أن يُسمع زهرة: يا أخت، أنتِ فقط يمكنك الدخول إلى غرفة العمليات. لن يسمحوا لهذه الأخت بالدخول. إياكِ أن تصرّي هناك على هذه المسألة، فلا جدوى. قلت له وأنا قلقة من أن نتأخّر في الذهاب: حسنًا حسنًا.

- لم نأخذ تصريح الدخول بعد، يجب علينا أولًا أن نحصل عليه.

 

انطلقنا في شاحنة "تويوتا". توقفت أمام مركز القوات المسلحة وفي مكانين آخرين للحصول على تصريح دخول، ثم توقف بعدها مرتين. بالنهاية، استحصل على خمسة تصاريح بأسمائنا؛ لكلٍّ بطاقة، إضافة لي ولزهرة.

 

79

 


68

الفصل التاسع عشر

كان هناك ثلاثة شباب من المدافعين قد جلسوا يتحدثون في القسم الخلفي من الشاحنة. أحسست أنّ وضعهم مريب، فمن أسلوب كلامهم الثقيل والمحسوب بدقة، لاحظت أنهم ليسوا كالآخرين الذين يتحدثون عن الحرب ببساطة وعفوية إلى حدّ السذاجة؛ التحليلات والنضج في التعابير يقوّي الظن بأنهم من جهاز الأمن في الحرس.

 

كنت أنا وزهرة ندقق السمع في أحاديثهم لعلّنا نفهم الأوضاع بدقّة أكثر، وفي الوقت نفسه نتبادل أطراف الحديث. سألتني زهرة: ألا تشعرين بالخجل من الكلام أمام قادة الحرب؟

- كلّا، ولماذا أشعر بالخجل.

- وماذا ستقولين لهم؟

 

غرقت في التفكير. حقًّا ماذا سأقول لهم؟ كيف أبدأ كلامي؟ في ذلك المكان حيث قادة الجيش؛ الرؤوس الكبيرة والنجوم على الأكتاف، ثم قلت: أسأل الله أن يكون هناك أحد أعرفه، أستأنس حينها بوجوده ويدعمني كي أتمكّن من الكلام بسهولة.

 

عبرنا الجسر وتوقفت الشاحنة في باحة عسكرية في شارع "بهروز" أو شارع "آريا". أظنّ أنّه المبنى الإداري للقوات البحرية. ترجلنا ونزلنا. دخلنا إلى مدخل المبنى، بهوٌ تتوزع حوله غرف وقد عُلّقت ألواح معدنية على أبوابها: الدعم اللوجستي، القيادة.. وقف مسؤول المجموعة التي جئنا معها أمام إحدى الغرف قبل أن يدخل إليها وقال: "انتظرونا هنا".

 

سمعته وهو يقدّم أوراق المهمات إلى أحدهم. خرج وتوجّه نحوي، ثم سألني: حضرتك الآنسة زهراء حسيني، أليس كذلك؟

 

80

 


69

الفصل التاسع عشر

تعجبت من معرفته باسمي، قلت له: اسمي في تذكرة الهوية "زهرة" ولكن في الواقع "زهراء".

 

هنا لا يطلبون بطاقة الهوية، تفضلي لحظةً إلى الداخل.

 

رافقته إلى الغرفة. كان فيها طاولة وقد جلس خلفها رجل عسكري وآخر بلباس مدني. سألني: حضرتك زهراء حسيني؟

- نعم.

- انتظري قليلًا في الخارج.

 

رجعت وجلست على المقعد في البهو قرب زهرة. خرج الشاب الذي جئنا معه، وقال: يرجى الانتظار هنا حتى يُسمح لكما بالدخول، ثم ذهب ليتابع عمله. شعرت بشيء من التوتر. نظرت إلى نفسي، حالي بالويل وثيابي قد تلوثت بالتراب والغبار! خرجت إلى الباحة الخارجية ونفضتُ هذه الآثار. حملتُ عباءتي وضربتها مرات بأحد الأعمدة، فتناثر الغبار منها. عدت وجلست قرب زهرة. كان عدد من عسكريّي الجيش والمغاوير يتردّدون إلى ذلك البهو.

 

ها أنا أقترب من هدفي. كم كنت قد سمعت عن "غرفة العمليات" ورغبت في أن أعرف ما هي قصتها. هل هم يحضّرون لمواجهة الحرب كما يجب؟ إن كانوا يفكّرون ويعملون جيدًا، لماذا نتعرّض لهذه الأوضاع المأساوية؟ وبالأصل كيف تكون غرفة العمليات؟ أتصور أنّ هناك طاولة كبيرة على مساحة غرفة كبيرة قد جلس حولها الجنرالات الكبار بنجومهم ونياشينهم، وأمامهم أكوام من المعدّات والتجهيزات والخرائط العسكرية. طال الانتظار وزاد معه توتري واضطرابي أكثر فأكثر. بعد كل هذا الإصرار

 

81

 


70

الفصل التاسع عشر

منّي والهمز واللمز ممّن كان يجادلني ويقول: "ماذا تريدين أن تقولي لهم؟" كنت أخاف أن أعود بخفَّي حنين. أخشى أن لا يبالوا بكلامي أو أن يسخروا منّي. من شدة الرهبة أحسست كأنني قد نسيت كل ما حضّرته في ذهني مسبقًا لأقوله.

 

توسلت إلى الله ورجوته: ساعدني كي أتكلم وأخبرهم عن كل تلك الآلام التي نعاني منها، عن الظلم الذي يتعرض له الشباب على خطوط النار. كم يستطيعون الصمود والمقاومة من دون سلاح ولا عتاد ولا طعام؟

 

طال انتظارنا ثلاثة أرباع الساعة حتى فتح جندي الباب وقال لي: تفضلي.

 

نهضت وأنا أشعر بحال عجيبة، كان قلبي يرتجف رهبةً. قلت لزهرة: انتظريني هنا حتى أعود.

 

قالت: "اذهبي وتحدثي معهم بكل قوة وإصرار، قولي لهم إننا نحتاج إلى سلاح، فليرسلوا قوات دعم وإسناد من المدن الأخرى، ولا تنسي أوضاع الشهداء وخطوط التماس".

 

طلبت منها أن تدعو لي، ثم دخلت الغرفة، ومنها فُتح الباب إلى مكان آخر، ودخلت إلى "غرفة عمليات الحرب".

 

بدايةً لم يلتفت أحد إلى حضوري. جلت ببصري، هالني ما رأيت؛ شكل الغرفة لم يكن يشبه أبدًا كل ما تصورته سابقًا. غرفة كبيرة لها باب واحد للدخول والخروج، مضاءة بلمبة "فلورسانت" واحدة. تغطي الخرائط أغلب جدرانها. في الطرف المقابل، جلس اثنان من العسكريين خلف أجهزة لاسلكيّة مركزيّة، يستمعان لخشخشة الأصوات الصادرة ويسجلان أشياء على أوراق ملاحظات، يقدمانها كل فترة للضباط الجالسين حول

 

82

 


71

الفصل التاسع عشر

طاولة صغيرة. في زاوية أخرى، جلس عدد من العسكريين والمدنيّين على قطعة من الموكيت، اثنان أو ثلاثة منهم في مطلع الشباب والبقية كذلك لم يتجاوزوا الخمسين حسب الظاهر. كم هم شباب هؤلاء القادة!

 

لاحظت أنّ أحد الضباط الكبار ليس على ما يرام. وجهه منقبض ولونه شاحب، تكاد الرجفة تظهر على بدنه. لا بدّ من أنّه العقيد "رضوي". لقد سمعت أنه مصاب بالحصبة وحاله صعبة، لكن المسكين كان مضطرًا إلى البقاء في المنطقة، رغم الحمى والحرارة، كي يقوم بقيادة قواته. يقال عنه إنه يتعاون مع الحرس بشكل جيد. خجلت من رؤية كل هؤلاء الأشخاص، لكني وصلت إلى هنا بعد كل هذه المشقات ويجب ألّا أضيّع الفرصة من يدي. شعرت أنه يجب أن أعلن لهم عن حضوري؛ وإلا فقد كانوا منهمكين في عملهم ولن ينتبهوا لي. قلت بصوت عال: السلام عليكم.

 

عند سماعهم صوت امرأة، أداروا رؤوسهم معًا صوب الباب وحدّقوا بي تعجّبًا. ردّوا سلامي. قال لي العقيد وهو أكبرهم سنًّا وكان قد أسند يديه إلى الطاولة: "سلام يا ابنتي العزيزة، تفضلي".

 

خلعت حذائي مثلهم وخطوت على الموكيت. سألني ذلك العقيد مرة أخرى: بماذا نستطيع أن نخدمك يا ابنتي العزيزة؟

 

كلمة "ابنتي العزيزة" أثارت حزني، تعبيره كان يوحي بمحبة أبويّة. شعرت أنّ أحدًا ما أخبره بشهادة أبي؛ قلت وقد خنقتني العبرة: لقد جئت إلى هنا..

 

لم أستطع أن أكمل، سكتت للحظات كي أعيد لصوتي حاله العادية، حال القهر والصمت الذي تلاها، جعلاهم يلتفتون أكثر فأكثر. بدأت

 

83

 


72

الفصل التاسع عشر

كلامي من جديد:

"في الواقع، جئت إلى هنا كي أتكلم عن أوضاع مدينة "خرمشهر". لا أدري إلى أي حد أنتم على معرفة بالظروف هناك. هل تعلمون كيف هي أحوال الناس؟ هل تعلمون ماذا يحدث على خطوط التماس؟ أريد أن أخبركم عن هذه الأمور. الناس في صدمة وذهول، بيوتهم وأملاكهم وكل ما تعبوا في سنوات عمرهم لأجله يرونه ينهار ويحترق أمام أعينهم. عدد الشباب على خطوط التماس قليل جدًّا، هدّهم التعب والإرهاق. السلاح والذخائر كما تعلمون والحمد لله. وصل الأمر إلى أن يواجه شبابنا الدبابات بالسلاح الفردي وجهًا لوجه. أنتم قولوا لي هل يمكن لطلقات الـ"G3" أن تواجه دبابة؟!".

- وأنتِ كيف تعرفين ماذا يجري على خطوط التماس؟

- لقد ذهبت وشاهدت كل شيء.

- شاركتِ في القتال؟ أنتِ تقاتلين؟!

- كلا، لم أقاتل، لكنّي أوصل الماء والطعام، أوصل الذخيرة للمقاتلين، أقوم بعلاج الجرحى. أنا مسعفة، وكذلك فقد أخبرني أبي عن أوضاع الجبهة.

 

لم أتمكّن من المتابعة، بمجرّد ذكري لاسم أبي، سالت الدموع من عيني. قلت وأنا أبكي:

"أبي لم يكن عسكريًّا، ولكنه وقف بكل رجولة وصمد وقاتل العدو خمسة أيام حتى استشهد ولم يقبل التراجع. أخي هرب من المستشفى في طهران وجاء وقاتل ليومين واستشهد كذلك".

 

جمعت عباءتي تحت مرفقي ومددت يديّ للأمام وقلت:

 

84

 


73

الفصل التاسع عشر

"لقد دفنتهما بيدَيّ هاتين، والآن بقيت أنا وأختي، نساعد كالآخرين في دفن الشهداء ومعالجة الجرحى أو في أي عمل نقدر عليه، لكننا نشاهد الجنود حيارى في الشوارع، لا يقومون بأي عمل. لماذا لا تنظمون صفوفهم وتديرون أمرهم كما يجب؟ لماذا لا تجهّزونهم بالسلاح والعتاد؟ إنهم ينتظرون الأوامر. أعطوهم الأوامر، ليذهبوا ويقاتلوا. لقد تحدثت مع بعضهم. يقولون "إنّ بعض قادتهم قد فرّوا وهربوا من أرض المعركة، فلماذا نبقى نحن ونقاتل؟" أيها السادة نحن نعرف أنّ ذلك الشخص المسمّى حاليًّا رئيس جمهوريتنا هو خائن، "بني صدر" والكثير من المسؤولين الكبار حوله خونة فماذا أنتم فاعلون؟ تفضلوا أنتم قادة العسكر. نحن عيننا بصيرة ويدنا قصيرة! لا نعلم ماذا يجب أن نفعل وليس لدينا علاقات مع المعنيّين".

 

رفعت رأسي مرات عدة لأرى هل يستمعون إليّ أم لا. شاهدت أكثرهم يهزّون رؤوسهم تأسّفًا وتأييدًا لكلامي. بعضهم مصدوم من هول الأوضاع وقد تجمعت الدموع في عينيه وهو ينظر إليّ بحسرة ودهشة. بعضهم الآخر يهمس في أذن من بجانبه. هذا الوضع بعث القوة في قلبي وضاعف من عزيمتي، فتابعت:

"منذ أيام ونحن ننتظر قوات الجيش من "قوجان" فمتى تصل؟ إنهم يكرّرون وعودهم للمقاتلين على الخطوط بوصول الدعم والبدائل، أين هو هذا الدعم؟ إن لم يكن هناك قوات للقتال، فعلى الأقل أعطونا أسلحة نحن النساء لنقاتل وندافع عن بيوتنا وأرضنا".

 

أحد ضباط الجيش الذي كان قد انحنى على الخريطة يدوّن شيئًا مع آخر، رفع رأسه وسأل: وهل هناك نساء بقين في المدينة؟!

 

85

 


74

الفصل التاسع عشر

- نعم، لقد بقين ولسنَ واحدة أو اثنتين، إنهنّ كثيرات، ومستعدات للقيام بكل ما يمكنهنّ؛ أنا واثقة ومتأكدة من أنّه لو حصلن على أسلحة فلن يترددن أبدًا في التوجه والقتال على خطوط التماس.

 

ارتفعت الأصوات: أحسنتِ، أحسنتِ!.

 

أزعجني هذا التشجيع، شعرت بأنهم يسايرون طفلًا غاضبًا بكلام يطيّب خاطره.

 

"لقد جئت لأقول لكم هذا الكلام كي تنقلوه إلى قيادتكم العليا. لا أحد يسمع كلامنا ولا نؤثر على أحد، ولكن الجميع يعتبركم قادة ويحسب لكم ألف حساب".

 

على الرغم من أنّ هناك الكثير لأضيفه، إلّا أنني فضّلت التوقف عند هذا الحد وسكتّ. حينها قال لي ذلك العقيد: "إنّ وجودكن أيتها الأخوات يمنحنا قوة قلب ورباطة جأش. لو لم تكنّ هناك، فإنّ كثيرًا من هذه الأعمال لم تكن لتنجز". وقال أحدهم: "رحم الله والدك، أحسنتِ حقًّا". ثم تابع العقيد كلامه:

"ابنتي، على الرغم من صغر سنّك، أنت شجاعة جدًّا، تتكلمين بشكل جيد وتحلّلين بشكل صحيح، لكن يجب أن تعلمي أنه لا يمكن أن يصرّح الإنسان بكل ما يعرف في كل مكان. نحن ندرك الكثير من القضايا والحقائق ولكن الظروف الحالية صعبة ومعقّدة. لا يمكن التحدث بصراحة مع الجميع. ينبغي لكِ أن تراعي الظروف أكثر عند كلامك. نحن هنا أهل وأحبّة ولا يوجد بيننا غريب، لكن تعبيرك هذا قد يسبّب لك المتاعب ووجع الرأس في أماكن أخرى".

 

86

 


75

الفصل التاسع عشر

- كلامي لم يكن بغير الحق. أنا أقول ما أرى، أقول الصدق ولا أعرف الكذب.

- أعرف أنّ كلامك ليس كذبًا، ولكن ليس من المصلحة أن يُقال. علينا المحافظة على وحدتنا. هذا الحديث يؤدي إلى التفرقة والشقاق.

- وهل علينا أن نرى الخيانة ثم نغمض أعيننا؟ إن الخيانة هي سبب التفرقة والنفاق، إنها أسوأ الأشياء.

 

عاد ليصرّ عليّ ويطلب مني وعدًا بأن لا أتحدّث عن خيانة "بني صدر" في أي مكان، لكني رفضت وقلت له:

"حتى لو أعدموني رميًا بالرصاص، لن أتراجع عن موقفي: بني صدر خائن، إنه يمنع الجيش عن الدفاع عن "خرّمشهر". نحن لم نصب بالعمى بعد! نرى كيف أنّ الجيش يرغب في خدمة البلاد، ونرى الخونة أيضًا. نرى الفريقين ونتحدّث عنهما. تفضلوا واذهبوا إلى الجبهات لتشاهدوا كيف أنّ عسكريّي الجيش وشباب الحرس والقوات الشعبية يقاتلون ويدافعون معًا عن هذه الأرض. كل من لديه نخوة وغيرة وشهامة بقي ليدافع ويواجه العدو. بعضهم لا يعرف أي شيء عن السلاح والرصاص والحرب، ومع هذا بقي وتصدّى بلحمه الحيّ لجحافل الاحتلال. تعالوا وشاهدوا أعداد الجنود التائهين في المدينة من دون تكليف ولا أوامر. العريف "شريف نسب" يأتي إلى باحة المسجد ويمزق حنجرته بالنداءات، ولكنهم لا يطيعونه؛ لأنهم يعتقدون أنّ الأوامر يجب أن تصدر عن قادتهم وضباطهم، وكأنّ العريف يتكلم مع الصخر".

- الأوضاع ستصلح إن شاء الله. أنتِ ادعي لنا أيضًا. نحن نبذل

 

87

 


76

الفصل التاسع عشر

جهودنا، ونحن في خدمتكم. لن نقصّر في أي عمل يمكننا القيام به. أين عائلتكم حاليًّا؟

- أرسلناها إلى خارج المدينة منذ أيام.

 

وختمت كلامي: "ما دام الصامدون هنا، يمكنكم أن تفعلوا شيئًا. إن كان هناك "خائن" فوق، فإنّ الناس معكم وتدعمكم. استفيدوا من هذه الفرصة وأصلحوا الأمور والأوضاع".

 

قال العقيد ومعه واحد أو اثنان: على عيني، سمعًا وطاعة.

 

حينها لم أعرف بماذا أجيبهم، استودعتهم في أمان الله وحفظه، وخرجت. كان جسدي لا يزال يرتجف. بالأصل، لم أكن أظنّ أنني سأتمكن من الكلام هكذا. ومع أنني سكتّ أحيانًا حزنًا وقهرًا، ولكني أظن أنّ صوتي كان واضحًا وقويًّا بما فيه الكفاية.

 

عند خروجي، ركضت زهرة نحوي وسألتني: ماذا جرى؟ لماذا لون وجهك أحمر إلى هذا الحدّ؟ هل قلت لهم كل شيء؟ ماذا قالوا؟

- نعم، ولكن دعيني وسأخبرك لاحقًا بكل شيء.

 

أخذتني زهرة من يدي وأجلستني على المقعد. أحضرت لي ماءً للشرب. انتظرنا شباب الحرس ليأتوا ويعيدونا للمدينة، وبالتدريج هدأتُ وعدت لحالي الطبيعية. أوجزت لزهرة مسار حوارنا وما حدث في الداخل.

- الحمد لله، إن شاء الله يتأثرون ويقومون بعمل ما.

 

فكرت في نفسي؛ حتى إن لم يقوموا بأي عمل، فإنّ الكلام أفضل من السكوت. في طريق العودة، توقف شباب الحرس مرات، كانوا يقولون

 

88

 


77

الفصل التاسع عشر

عندنا بعض المتابعات ويجب إنجازها. بقيت صامتة. لم أرغب أصلًا في أن يسألني أحد ولا أن أجيب عن ماذا فعلت في غرفة العمليات؟ ماذا قلتِ وماذا سمعتِ منهم؟

- كنت أتألمّ لأنّي ظهرت وأظهرت وجهي لكل هؤلاء الرجال، بكيت وبكيت..

 

لم أكن أرغب في رؤية أحد حينها، وأدعو الله من كل قلبي أن لا ألتقي بـ"إبراهيمي".

 

كان الظلام قد حلّ حين وصلنا إلى المسجد. تناولت العشاء وذهبت إلى جنت آباد.

 

في اليوم التالي، حين لمحت "إبراهيمي"، قال لي ضاحكًا: سمعت أنك قد ذهبت إلى غرفة العمليات وقلبت الدنيا رأسًا على عقب؟

- كيف عرفت؟ ومن قال إني خربت الدنيا؟

- ليس المهم كيف تصل الأنباء، المهم أنّ هذا الخبر قد وصلنا.

 

89

 


78

الفصل العشرون

الفصل العشرون

 

إن لم أكن مخطئة، إنه اليوم السادس عشر أو السابع عشر، الساعة الواحدة بعد الظهر تقريبًا. كنت مشغولة بتنظيف البنادق وتذخيرها بالرصاص عندما أحضروا جريحًا، فأخذتُ الحمّالة بسرعة وتوجهت إلى الخارج. وجدته مستلقيًا على أرض خلفية الشاحنة. كانت الإصابة في ركبته وتدلّ شدة صراخه على مدى وجعه. ناديت السيّد نجار، فصعد إليه وتفقّد جراحه وقال: يُحتمل أن تكون العظام مكسورة. لا تُنزلوه من الشاحنة.

 

أحضرت جعبة إسعاف السيّد نجار؛ كالعادة، قمنا أولًا بتضميد وشدّ ما فوق الجرح ووضعت له كيس المصل. كان الجريح رجل إطفاء ويرتدي بدلة عمله الكحلية، ظلّ يصرخ بشدة ويتأوّه ألمًا. خارت قواه من نزيف دمه، فصار يتصبّب عرقًا ويرتجف بقوة. حقنه السيّد نجار بإبرة مسكّن في الوريد، ثم غطّينا جرحه ولففنا رجله بمشدٍّ وقلنا لأحد الرجال المرافقين له: اجلس عند قدمه وأمسكها جيدًا لتبقى ثابتة فلا يتأذّى من اهتزاز الشاحنة عند المسير. أما أنا فحملت له المصل وبقيت أراقب حاله.

 

أثناء هذا العمل، رأيت "حاتم" سائق شاحنة الإطفاء الحمراء، سلّمت

 

91

 


79

الفصل العشرون

عليه وتبادلت معه الحديث؛ عزّاني أولًا بشهادة أبي. كنا نعرف حاتم وعائلته العربية منذ وقت طويل، أيام جيرة "پاپا" والخالة "سليمة" التي كانت رفيقة حسنية زوجة حاتم وجارتها المفضلة. وكلما جاءهم ضيوف من الفرس، دعت الخالة واستعانت بها في إعداد الطعام للضيوف. كذلك في أعياد الفطر والأضحى التي يحتفل بها العرب بشكل مميّز، دأبوا على زيارتنا للمعايدة وكان أبي و"دا" يبادلانهم زيارات التهنئة بالعيد.

 

كان حاتم يقود الشاحنة بسرعة؛ تبدلت معها آهات ألم الجريح إلى صرخات عالية. من كثرة ما تردّدتُ في هذا الشارع ذهابًا وإيابًا، حفظت كل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، الحفر التي أحدثتها القذائف في الإسفلت، الأماكن التي شقّتها الجرّافة في الأرض لحفر الخنادق وتعبئة أكياس رمل المتاريس، أشجار نخل الزينة في وسط الجادة، والتي لم تكن تثمر، رغم ارتفاعها عاليًا، ولهذا كان الناس يسمّونها "نخل أبي لهب"، أغلبها قد احترق الآن. القذائف التي سقطت على أطراف الطريق ولم تنفجر، بعض السيارات المحروقة هنا وهناك. كنت أعتقد أنني أستطيع السير في هذه الشوارع وأنا مغمضة العينين. القسم الأصعب في الجادة كان بعد العبور عن الجسر، حيث أردنا أن ننعطف يمينًا بعد محطة البنزين ونتوجه نحو طريق "آبادان"، هذه النقطة حسّاسة من حيث البعد الجغرافي وتمركز القوات العراقية على الناحية المقابلة للشاطئ، وكوننا نصبح مباشرة في مرماهم وعلى مدى رصاصهم القاتل. كان الخوف الأكبر من انفجار محطة البنزين؛ حيث يمكن أن يدمر كل المنطقة المحيطة ويحيلها رمادًا وخرابًا.

 

وصلنا إلى المستشفى، أحضروا حمالة وأنزلت الممرضات الجريح بحذر واحتياط. أعطيت كيس المصل لإحداهنّ وأسرعت أنا وحاتم إلى

 

92

 


80

الفصل العشرون

الداخل. التقيت هناك ببعض شباب المسجد الذين سألونا بعد السلام: هل أحضرتم جريحًا؟

- نعم، ذلك الجريح الذي أدخلوه الآن.

- كيف سترجعون؟ هل لديكم وسيلة نقل؟

- نعم، تلك الشاحنة الحمراء الواقفة أمام المدخل.

- سنرجع معكم؛ لأنّ السيارة التي أحضرتنا لم تنتظرنا.

 

حين جاء حاتم سلّم على الشباب ولا أذكر إلّا اسم أحدهم وهو "غلام رضا"، وصعدوا إلى صندوق الشاحنة الخلفي. كذلك أنا فقد أسندت ظهري إلى قمرة السائق وجلست على أرض الصندوق وانطلقنا.

 

تضاعف القصف واشتدّ كثيرًا في طريق العودة. كانت القذائف أو كما يسميها أهالي خرمشهر: "خمسة خمسة" تنزل كالمطر. المسكين حاتم ومن شدة اضطرابه لم يكن يدري ماذا يفعل؛ فكان مرة يضغط على دواسة البنزين ويضاعف السرعة، ومرة أخرى يدوس على الفرامل فجأة فيزلزلنا ونرتطم بقوة ونضرب بحافة الشاحنة. على ذلك المنعطف الخطر، اشتدّ إطلاق النار فصرخ حاتم: اقفزوا فورًا، انزلوا الآن، ستحترق الشاحنة.

 

قال الشباب: توقف توقف.

- لا يمكن، إن توقفت يقصفونا. اقفزوا الآن واختبئوا في أي مكان.

 

كانت القذائف تنزل علينا من كل حدب وصوب، نسمع أولًا صفيرها ثم انفجارها، فيزداد خوفنا من احتمال إصابة الشاحنة. خفّف حاتم قليلًا من سرعة الشاحنة. قفز شباب المسجد فورًا وتدحرجوا على منحدر

 

93

 


81

الفصل العشرون

في الطريق، عمال الإطفاء كذلك رموا أنفسهم من جانب الشاحنة. بقيت وحدي أفكر ماذا أفعل وكيف أقفز؛ أردت أن أقفز عن الحافة الجانبيّة فوجدتها مرتفعة، فتحركت نحو الحافة الخلفية، أمسكت عباءتي جيدًا. نظرت إلى الإسفلت وفكرت بسرعة كيف أقفز بالحد الأدنى من الأضرار. كان حاتم يصرخ بي: اقفزي يا بنت، أسرعي! قلت في نفسي: يجب أن تقفزي بشكل جانبي وتدوري على الأرض؛ لأنك إن وقعت على رجليك بشكل عمودي فستنكسران. هذه الحسابات استمرت لثوان قليلة. أغمضت عيني، صرخت "يا علي" وقفزت.

 

لحظة سقوطي وأنا معلقة بين الأرض والسماء انفجرت قذيفة على بعد ثلاثة أو أربعة أمتار، فأحسست أنّ رجلي قد جُلفت. ومن جهة أخرى حين ارتطمت بالأرض ومع أني لم أرد أن أضرب بالإسفلت، إلّا أنّ ساعدي الأيسر قد وقع على حافة الطريق، فشعرت بألم رهيب بكل يدي. تدحرجت فورًا على التراب واستلقيت في شقّ ترابي. كان ألم يدي يشتدّ أكثر فأكثر، رجلي اليسرى كذلك، احترق قسم منها فوق الركبة. مددت يدي بهدوء فوجدتها قد تبلّلت. أدركت أنّ شظيّة قد أصابت رجلي. تحسست مكان الجرح مرة أخرى لعلّي أجد الشظية، لكني لم أجدها. أردت أن أستدير وأنظر إلى الطريق، لم أتمكن أبدًا من تحريك جسمي ناحية اليسار.

 

أحد زملاء حاتم كان يصرخ عند انفجار القذائف واهتزاز الأرض تحتنا: هل من معين؟ هل من ناصر؟ توقفوا عن القصف يا أوغاد! أنقذنا يا أبا الفضل!

 

كان الشباب يضحكون ويقولون له: لا تخف يا عم، ليس هذا بالأمر

 

94

 


82

الفصل العشرون

المهم، الآن ينتهي القصف. حين شاهدوني مرميّة على الأرض بهذا الشكل صرخوا: هل أصابك شيء؟

- كلا، لا تقلقوا.

 

رفعت رأسي قليلًا لأرى ما حولي. كان حاتم قد ترك الشاحنة وسط الجادة وركض نحو الصحراء. كنّا نتوقع في أي لحظة أن تُقصف الشاحنة أو تصيبها شظية في خزان الوقود وتنفجر وتطير أوصالها في الهواء. قلت في نفسي: لو أنّ الشظية التي أصابت رجلي قد أصابت خزان الوقود فماذا كان بقي مني غير كومة رماد؟ الحق أن الله ما لم يقدّر شيئًا فلن يقع، ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا﴾[1]. نظرت بعدها إلى جرحي، وجدت أنّ بنطالي قد ثُقب من مكانين والحمد لله فإنّ سماكة القماش الضخم قد حالت دون جراح أكثر وأعمق. بعد بقائنا نحو عشرين دقيقة في وضعياتنا تلك، خفّت شدة الانفجارات القريبة منا وانتقل القصف نحو مستشفى "طالقاني"، نهضنا وتوجهنا نحو الشاحنة. كانت الشظايا قد حوّلت هيكل الشاحنة إلى غربال! كذلك ثقبت شظية أحد إطاراتها. قلت: لا يليق بنا أن نركب سيارة سليمة! طوال كل تلك المدة، وباستثناء سيارة الإسعاف التي أحضرنا بها "علي"، كانت شاحنة الإطفاء تلك أفخم وأنظف سيارة ركبناها.

 

انطلقنا بالشاحنة مجدّدًا. كانت سرعتنا بطيئة جدًّا هذه المرة، والإطار مثقوبًا والحركة صعبة، ما جعل عبورنا الجسر أشدّ خطرًا ومشقّة. سرعان ما تصاحب شباب المسجد مع زملاء حاتم وجلسوا يتحدثون بشكل حميمي. ذلك الرجل الذي كان يصرخ ويستنجد، تغيرت حاله وصار


 


[1]  سورة الأنعام؛ الآية 59.

 

95


83

الفصل العشرون

يضحك على ما فعل قائلًا: "عجيب كم هي الروح غالية على ابن آدم". تذكّر الباقون كيف أنّ سقوطهم من الشاحنة المسرعة رضرض أجسامهم.

 عندما وصلت إلى العيادة، وقبل أي عمل آخر، دخلت إحدى الغرف وأحكمت إغلاق الباب. رفعت كمّي ونظرت إلى يدي، كان جلدها محمرًّا وملتهبًا، والدماء قد تجمّدت عليها. كان الألم يتزايد أكثر فأكثر. أردت أن أرفع يدي إلى الأعلى فصدرت صرخة آه مكتومة بشكل لا إرادي. في اليوم التالي اشتدّ الألم في يدي وتحوّل الالتهاب الأحمر اللون إلى كدمة سوداء. تناولت أقراص المسكّن، ولكن من دون جدوى. أخبرت السيّد "نجار" فأعطاني إبرة "نوفالجين" وقامت "بلقيس ملكيان" بحقني بها. كنت أعلم أنه ليس لديّ بنطال نظيف آخر في البيت، فذهبت إلى الشاطئ وغسلته بالماء. أما عباءتي فقد اتسخت واتشحت بالغبار والتراب خلال تلك المغامرات. كنت كلما ذهبت إلى "جنت آباد" أخلعها وأنفضها بالأشجار، لعلّ التراب يزول عنها في الحدّ الأدنى. لم أكن أرغب أبدًا في ترك العباءة نهائيًّا، ولكن حصل أمر أرغمني على خلعها!

 

إحدى المرات، كنت في "جنت آباد" عندما وصلت شاحنة. حين جاء سائقها لأول مرة وأحضر جثمان شهيد، تمسّكنا به ولم ندعه يذهب. كلما كنا نراه كنا نرجوه ونتوسل إليه أن يساعدنا قائلين: "إنّ وجودك هنا ضروري ومن دونك لا يمكننا القيام بالكثير من الأعمال". فكان يجيب: والله أنا جاهز ولكن وقود السيارة قد نفد، أمّنوا الوقود وأنا في خدمتكم.

 

هذه المرة أحضر جثمان شهيد أيضًا. وقال ونحن ننزله: لقد أخبروني أنّ هناك شهيدًا آخر في شارع "الشرطة" منذ ثلاثة أيام. وقد سقط في مكان يصعب الوصول إليه. فماذا يمكننا أن نفعل له برأيك؟

 

 

96


84

الفصل العشرون

- هل تعرف أين هي تلك الجثة تحديدًا؟

- نعم، لقد دلّوني عليها.

- هيا نذهب لعلّنا نتمكّن من إحضارها.

 

حين أردت صعود الشاحنة والذهاب، طلبت مني تلك المرأة العجوز -التي جاءت منذ أيام إلى جنت آباد بعباءة الصلاة البيضاء ومشاية بلاستيكية زرقاء- أن ترافقنا إلى هناك، فهي تبحث عن ابنها منذ أيام وتفتش عنه بين الشهداء والجرحى. على الرغم من معرفتي بالوضع الصعب لشارع "الشرطة" إلّا أنني لم أقوَ على رفض طلبها. أمسكت يدها لأساعدها على الصعود، وتمكّنت من ذلك بصعوبة وإرهاق وجلست في زاوية من زوايا الصندوق.

 

نظرت إلى وجهها، لا أعتقد أنها مسنّة كثيرًا. ومع أنّ بشرة وجهها تعلوها تجاعيد، إلّا أنّ شكلها بدا جذّابًا ومحبوبًا.

 

انطلقت الشاحنة وكما كنت أتصور، كان شارع "الشرطة" يتعرّض للقصف بشكل متواصل. توقف السائق في الجادة قبل أن نصل.

 

ترجّلت أنا واثنان من الأشخاص الذين جاؤوا معنا من "جنت آباد". لكي نصل إلى المكان الذي دلّنا عليه السائق، كان علينا أن نقطع مسافة مكشوفة للعدو. نزلنا في منحدر الجادة. الطريق يرتفع عن الأرض المحيطة لمسافة قد تصل إلى مترين. تربة المنطقة كانت موحلة. ونظرًا إلى قربها من ماء البحر فقد كانت مشبعة بالماء إلى درجة أنّ مياه الأمطار كانت تتحول إلى طوفان في الشارع؛ ولهذا فقد وُضعت أنابيب إسمنتية ضخمة إلى جانبي الشارع لمنع المياه من التجمع وسطه. احتميت بأطراف الجادة

 

97

 


85

الفصل العشرون

وركضت حتى وصلت إلى منطقة مكشوفة كان عليّ أن أعبرها تحت وابل الرصاص. جمعت عباءتي بيدي وحبوتُ على يديّ ورجليّ لأصل إلى داخل تلك الأنابيب، عبرت منها وصرت تحت مرمى القناص العراقي، كان الرصاص يمرّ من فوق رؤوسنا وكان احتمال إصابتنا جديًّا في كل لحظة. قلت في نفسي: سأسقط أنا أيضًا مثل تلك الجثة.

 

وصلت إلى مكان الجثة بشقّ الأنفس! كان الميت قد سقط على وجهه. دائرة الدماء المتجمدة الواسعة حوله دلّت بوضوح على حجم النزيف الذي تعرض له بدنه عند إصابته، كانت الدماء قد يبست وجعلت الجثة تلتصق بالأرض. حاولتُ تحريكه وقلبه على ظهره فلم أستطع. نظرت ورائي فإذا بالشباب قد وصلوا زحفًا إلى المكان. قلت لهم: تقدموا، تعالوا ساعدوني!

- لا، نحن لا نستطيع.

 

الحق معهم. كانت الأيام الثلاثة والشمس المحرقة والتراب والنار، قد فعلت فعلها مع الجثمان وأحالته إلى ما يصعب تصوّره أو الاقتراب منه، بحيث يشعر الإنسان بالغثيان وينقلب مزاجه. وضعت يديّ تحت خاصرته ودفعته بكلّ ما أوتيت من قوة بحيث صدر صوت عجيب من انسلاخ الجثمان من الأرض. تمكنت من تحريك الجثة، لكنّ الوضع صار أصعب وأكثر تعقيدًا! خرجت أمعاؤه من مكانها وكذلك حنجرته المصابة بشظية. كان واضحًا، أنّه قبل إصابته، قد أكل خبزًا وجبنًا.

 

حين شاهد الشباب هذا الوضع قالوا: دعي عنك هذا الأمر، لا يمكن لنا أن نسحب هذه الجثة.

 

98

 


86

الفصل العشرون

 

- نحن الآن تحت القصف، لماذا تفعلون هذا؟ إلى متى ستضعون يدًا على يد ولا تحركون ساكنًا؟

- لا مجال أصلًا لحمل هذه الجثة.

 

قالوا ذلك وهم يشيحون بوجوههم للجهة الأخرى كي لا تقع أنظارهم على المشهد.

 

عندها غضبتُ وصرخت بهم: قطعنا كل هذه المسافة بشق الأنفس، ماذا نفعل الآن؟ ما هو تكليفنا؟

- حسنًا فلنغطِّ الجثمان كي لا يبقى مكشوفًا بالعراء.

- بماذا نغطيه؟ ما هذا الكلام؟

- لا نعرف، ولكن لا يمكننا لمسه وحمله على هذه الحال.

 

بقيت حائرة مترددة ماذا أفعل؟ أشفقت على ذلك الميت المسكين، كيف نترك جثته ونرجع هكذا؟ لا شيء يمكن أن نستخدمه في تلك الصحراء القاحلة. فجأة خطرت في ذهني فكرة: أن أغطي الجنازة.. بعباءتي! ولكن هذا صعب جدًّا عليّ. فأنا، وتحت أصعب الظروف والأوضاع، لم أخلع العباءة. لم أكن أشعر بالراحة أبدًا من دون عباءة. بعض البنات كنّ يدعونني بإصرار إلى خلعها. كنت أرفض ذلك بشدة وأقول لهنّ: أنا أحب العباءة من جهة ومن جهة أخرى فأنا أشعر بالراحة والطمأنينة عند ارتدائها.

 

هذه المرة لم يكن هناك مجال، يجب علينا سحب هذا الشهيد بأي شكل من الأشكال. كنت أرتدي تحت العباءة لباسًا طويلًا فيروزي اللون وذا خطوط فضية، كان أبي قد اشتراه لي في عيد ذلك العام.

 

99


87

الفصل العشرون

وكان حجابي أسود طويلًا وبنطالي الكحلي واسعًا، وعليه، قررت ونفّذت، خلعت العباءة وغطيت بها الجثة بشكل كامل، ثم قلت للشباب: والآن تفضلوا واسحبوا هذا الرجل!

 

تعاونّا ووضعنا الجثمان على الحمّالة، وسحبناه وراءنا ببطء. حين وصلنا إلى الشاحنة، تنفسنا الصعداء. حين انطلقت الشاحنة قلت للمرأة العجوز التي كانت تبكي تأثرًّا على ذلك الميت: أمّاه هل تعيريني عباءتك؟ رفعت رأسها وقالت: إنّ حجابك كامل، فلماذا تريدين العباءة؟

- لطالما جُلتُ بالعباءة، ولا يمكنني الآن أن أظهر بين الناس بهذا الشكل.

- دعي عنك هذا يا أماه، ما أهدأ بالك! في هذه الأوضاع من يفكّر فيك وفي عباءتك!

 

بقيت أصرّ وأرجوها حتى قبلت وأعارتني عباءتها البيضاء. كان خلع العباءة صعبًا عليها أيضًا. أوصلنا العجوز والجثمان إلى "جنت آباد" وذهبت بتلك العباءة البيضاء ذات الورود الصغيرة إلى العيادة. تعرضت للكثير من التعليقات والإزعاج من الصبايا بسبب هذه العباءة. قلت لهنّ: بالله عليكنّ أليس لدى إحداكنّ عباءة سوداء تعيرني إياها؟

- كلا.

 

في نهاية المطاف، رضيت وأقنعت نفسي بارتداء المعطف الواسع "المانتو"*[1]. كانت ملابسي متّسخة وقد لوثتها الدماء ويبست على بدني وكأنها بدلة مُنشّاة في المصبغة! من محاسن القضاء، أنّ "إلهة حجاب" التي جاءت عائلتها وأخذتها في الأسبوع الأول، كانت قد جاءت تتفقّد

 


[1]  * يشبه اللباس الشرعي اللبناني.

 

100


88

الفصل العشرون

منزلهم في "خرّمشهر". حين أتت لزيارتنا قالت لي: أنا سأحضر لك معطفًا. خرجت إلهة من العيادة وكان أفراد أسرتها قد سبقوها إلى البيت، وعادت بسرعة ومعها معطف قماشه من نوع "الكريب". حين ارتديت المعطف قلت للصبايا: بالله عليكن فكّروا في طريقة ما، بحيث نذهب إلى آبادان للاستحمام، فلم أعد أستطيع التحمّل.

 

لقد اتّسخت أجسامنا؛ لكثرة ما انشغلنا بأعمالنا. لم نكن نلتفت إلى هذه المسألة، لكن حين سنحت لنا الفرصة وجلسنا معًا، صرنا ننظر إلى أنفسنا، فانتبهنا إلى وخامة وضعنا. صارت بشرتنا متشقّقة ورائحة أجسامنا كريهة، وكنّا على وشك أن نصاب بأمراض جلدية. كان وضعي أنا بالذات أسوأ من بقية الفتيات لكثرة ما تعاملت مع التراب والدماء والأموات. أصبحت رائحة الدماء تفوح مني وصارت ملابسي كالورقة اليابسة، وشعري مجعّدًا "معربسًا"*[1] بشكل لم أعد أتحمّله.

 

في الأيام الأولى كدت أجنّ من الحكاك فقد جُرح جلد رأسي من كثرة ما حككته، ولكن شيئًا فشيئًا، وكأنني تعودت على هذا الوضع؛ فخفّت الحساسيّة وخفّ معها الحكاك والإزعاج، ولم أعد أفكّر أصلًا في تمشيط شعري "المعربس" الذي لا يمكن حلّه وتفكيك بعضه عن بعض. حين جاء المغاوير في الأسبوع الأول قالوا لشباب المسجد أن يقصّروا شعرهم كي لا تنتقل الأمراض بواسطته، فقد كانوا يخشون من انتشار الوباء والتلوث والتيفوس بسبب تعفّن جثث القتلى تحت المباني المدمّرة. حين سمعت هذا الكلام تذكرت الحرب العالمية الثانية، ولكني لم أصدق أنّ الحرب ضدنا ستطول وتستمرّ إلى الحدّ الذي نُبتلى فيه بمثل تلك الأمراض.


 


[1]  * المعربس كلمة عامية دارجة تعني المتشابك كثيرًا.

 

101


89

الفصل العشرون

في الكثير من الأحيان، حين كنا نقوم بإجلاء الناس أو بإحضار الماء، كنت أذهب إلى الشاطئ، وأضع قدميّ قليلًا في الماء الموحل الملوّث بالنفط والكاز الطافي على وجهه. كنت أغسل يديّ ورجليّ قدر المستطاع وأرشّ بعض الماء على ملابسي وأمسحها بيدي. لم يكن الأمر بلا طائل فحسب، بل كان وضعها يزداد سوءًا!

 

في إحدى المرات وقبل استشهاد علي، قرّرت أنا والصبايا أن نذهب إلى الحمام العمومي للاستحمام. خرجنا معًا من المسجد. قلنا للسيد نجار: إننا ذاهبات إلى الخارج، لدينا عمل ونعود.

- إلى أين تخرجن كلكنّ معًا؟

 

اضطررنا إلى الإفصاح عن مشروعنا، فقلنا له: نريد الذهاب إلى الحمام العمومي.

 

وصلنا إلى آبادان بشقّ الأنفس. ولكن بما أننا لا نعرف مقصدًا محدّدًا ولا نملك أي قرش في جيوبنا، عدنا بخفّي حنين. خجلنا من أن نطرق باب أي منزل ونطلب من أهله أن يسمحوا لنا بالاستحمام عندهم. في ذلك اليوم، عندما أخبرت زينب بما حصل معنا قالت لي وقد استولت الشفقة على قلبها: "إنّها ستفكر في طريقة لحلّ هذه المعضلة". كانت زينب امرأة نظيفة تتردّد على بيتها وتغير ملابسها. اعتادت أن تستحمّ في غرفة تغسيل الموتى، أما أنا فلم أتحمّل هذه الفكرة، كان ذلك الشعور السيّئ لا يزال ينتابني تجاه تلك الغرفة. تحدثت زينب مع عبد الله الذي قام وأخوه خليل بعد أيام بأخذي أنا وصباح وليلى وزهرة إلى آبادان. كان مفتاح منزلهم مع خليل. فتح لنا باب المنزل وقال: سنذهب إلى السوق لإحضار ما نجد من طعام.

 

102


90

الفصل العشرون

حين ذهبا، دخلنا تباعًا إلى الحمّام وبسرعة البرق غسلنا رؤوسنا بالماء ومسحوق غسيل الملابس، ثم عصرنا ملابسنا وارتديناها وهي مبلّلة. عاد عبد الله وخليل بعد قليل، وقد اشتريا بعض الخبز ومعلبات السمك والباذنجان. قمنا بتسخينها على الغاز وتناولنا غداءً فاخرًا، ثم اكتملت فرحتنا بالنظافة حين تناولنا الشاي الساخن اللذيذ.

 

أيام عديدة مضت على تلك المغامرة. لم نكن نعرف إلى أين تم إرسال عبد الله وماذا حلّ به. وافقت الصبايا على اقتراحي ولكنهنّ قلن إنهنّ لا يعرفن أحدًا في آبادان، ومع هذا فقد انطلقنا. وصلنا إلى آبادان ولم نكن نعرف إلى أين نذهب. ترجلنا من الحافلة في أحد الشوارع ثم جُلنا صعودًا ونزولًا. مرة أخرى لم يسمح عنفوان أي منّا أن نطرق أبواب المنازل. قررنا أن نرجع إلى "خرّمشهر". قالت بعضهنّ: لقد قطعنا كل هذه المسافة، فلنأكل شيئًا على الأقل، نكاد نموت من الجوع. قلت: أنا لا أملك من المال إلا.. الآه.. البقية كنّ مفلسات كذلك، فتشنا عمّا تبقّى من "فكة" في جيوبنا وجمعناها، فلم تبلغ سوى عدة تومانات. ذهبنا إلى سوق "كفيشة". انتابتنا دهشة عارمة؛ إذ إنّ بعض المحلات لا تزال مفتوحة. اشترينا أولًا بعض أرغفة الخبز الطازجة، فأموالنا لا تكفي للكماليات. والمبلغ القليل الذي بقي لنا، استطعنا أن نشتري به نصف كيلو من الكبيس المخلّل. بلّلنا الخبز في كيس المخلّل النايلون وتناولنا تلك الوجبة بشهية ولذة. قلت للصبايا: خل الكبيس سينهك معدتنا الخالية والضعيفة، قلن: كلا، معداتنا أصبحت منيعة.

 

تحدّثنا مع بعضنا قليلًا، ثم لمحنا فتى في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من العمر قد أقبل نحونا. كنّا مشغولات بالطعام والكلام، بينما

 

103

 


91

الفصل العشرون

هو يناوب في حراسة مركز جهاد البناء في آبادان. حين وصل إلينا وقال: عفوًا يا أخوات، لا أقصد التطفّل، هل تنتظرن أحدًا هنا؟ نظرنا بعضنا إلى بعض وقلنا: كلا.

- فلماذا تقفن هنا إذًا؟ منذ أكثر من ساعتين وأنا واقف للحراسة وأنتن واقفات هنا.

 

احترنا ماذا نقول. في النهاية تصدّت إحدى البنات للإجابة وقالت: "لقد جئنا من "خرّمشهر" إلى هنا، لعلّنا نجد حمّامًا عموميًّا، لكننا لا نعرف أحدًا وقد خجلنا من أن نطرق أبواب الناس".

 

أجابنا ذلك الشابّ الصغير ذو الشكل البريء والبشرة المحترقة من الشمس: "منزل خالتي قريب من هنا ولا يوجد فيه أحد، والمفتاح في بيتنا، سأذهب لأحضره وتتوجّهن للاستحمام، وعندما تنتهين أحضرن المفتاح إلى مركز جهاد البناء، إن لم أكن موجودًا حينها سيستلمه أحد إخوان جهاد البناء".

 

نظرنا بعضنا إلى بعض ولم ننطق بأي كلمة. قال: والله إنّ المنزل خالٍ، فليرتح بالكن وخذن راحتكن. هززنا رؤوسنا. ركض الفتى وأحضر دراجته الهوائية من المركز، ثم انطلق مسرعًا حتى اختفى في نهاية الشارع. ولكنه تأخر كثيرًا. أثناء انتظارنا له وصلت شاحنة تحمل عددًا من شباب المسجد والمغاوير الذين نعرفهم، وأحدهم "يدي" صهر السيّدة مريم. حين وقعت أعينهم علينا، توقّفوا وسأل "يدي" معاتبًا: لماذا أتيتنّ؟

 

قلت في قلبي: "لم يبقَ أحد سوى الخواجة "حافظ الشيرازي" لم يعرف بمشروع استحمامنا!" لم تجد الفتيات بدًّا من قول الحقيقة: جئنا للاستحمام. سأل "يدي" مجدّدًا لماذا تقفن هنا؟

 

104

 


92

الفصل العشرون

- ليس لدينا مكان محدد ولا نعرف أحدًا.

- هيا اصعدن لنذهب.

 

لم أعرف إن كان يجب أن نفرح من نخوة هؤلاء الشباب أو ننزعج! سألَت الفتيات: إلى أين؟ قال "يدي": إلى منزل أحد أقاربنا.

 

صعدنا إلى القسم الخلفي من الشاحنة. عندما انطلقنا، ظهر لنا الشاب الذي ذهب لإحضار المفتاح، كان يقود دراجته بسرعة وحين رآنا في الشاحنة، رفع المفتاح بيده وصار يشير إلينا ويقول: توقفوا توقفوا.

 

احترقت قلوبنا تأثرًا على لهفته، لوّحنا له بأيدينا وودّعناه. خلال مسيرنا ترجّل شباب المسجد، بينما أخذنا "يدي" وأصدقاؤه المغاوير إلى منزل رجل عجوز وزوجه. فرحا كثيرًا عند رؤيتنا. قالت لنا المرأة العجوز: إلى أن تنتهين من حمّامكن يكون الغداء قد جهز. رمينا الماء على أنفسنا بسرعة وخرجنا بملابسنا المبلّلة ووقفنا تحت أشعة الشمس. بعد أكثر من عشرة أيام على حمامنا السابق، كانت تلك فرصة مغتنمة. سرّحت شعري بالمشط الذي أحضرته معي، بعدما وصل إلى مرحلة من التشابك لا يمكن لليد حتى أن تدخل في طيّاته. استخدمت الصبايا كلهن ذلك المشط.

 

نادونا لتناول طعام الغداء. كانت المرأة العجوز قد أعدّت طنجرة صغيرة من "اليخنة" لها ولزوجها، أحضرتها لنا، وجدناه غداءً لذيذًا ومفعمًا بالبركة أشبع خمسة أو ستة أشخاص بالإضافة إلى أربعة مغاوير وأصحاب البيت.

 

في طريق العودة، كان الهواء البارد يمرّ على أجسامنا المبلّلة فيزيدها ارتجافًا. قالت الصبايا: فلننشد نشيدًا ننسى معه البرد. أنشدنا معًا

 

105

 


93

الفصل العشرون

نشيد "الله الله كم كان جميلًا ما قاله إمامنا بالأمس"، وشحنّا أنفسنا بالمعنويات. عندما انتهينا من النشيد، سكتّ فجأة وتذكرت عبد الله كيف أخذنا في المرة السابقة إلى منزل خالته بكل عزة واحترام ولم يقبل أن يتركنا كالمشردين وكذلك كيف ظلّ يُضحكنا ويدخل السرور إلى قلوبنا بلطائفه ومقالبه أثناء عودتنا بالشاحنة.

 

لا أدري تحديدًا أي يوم كان. كلّ ما أذكره أنه ذات غروب حضرنا في المسجد ولم يكن قد أذّن المؤذّن لصلاة المغرب، مررت بالقرب من "إبراهيمي" وإذا بي أسمع صبيًّا نحيلًا أسمر البشرة يقول بلهجة عربية: "ليس هناك أي صوت. لا أحد في منزله، لم نجرؤ على الدخول. بما أنكم هنا تعالوا لإحضاره".

 

قال إبراهيمي له: "من سأرسل في هذا الوقت المتأخّر؟ دعه إلى الصبح". تحركت فضوليتي فسألت: ماذا حدث؟

 

قال إبراهيمي: لا شيء، يقول إنّ شخصًا قد مات في "عباره"[1] ويطلب منا أن نذهب لإحضار جثته.

 

سألت الصبي: لماذا لم تحضروا أنتم جثته؟

 

نحن لم نجرؤ على الدخول إلى منزله، لا يوجد أحد، كلهم رحلوا. ذلك الرجل العجوز كان مريضًا وطريح الفراش. والآن لا نسمع له أي صوت. نعتقد أنه قد مات.

- حسنًا، ماذا ستفعلون الآن؟

- لا شيء، أتيت إلى هنا طلبًا للمساعدة، نحن لا نملك سيارة لنقله.


 


[1]  اسم إحدى القرى القريبة من "خرّمشهر".

 

106


94

الفصل العشرون

- ألا يوجد عندكم في الحيّ عدد من الأشخاص يمكنهم نقل الجثة إلى المقبرة؟

- كلا.

 

قلت لإبراهيمي: ما رأيك؟ ماذا يمكننا أن نفعل؟

- لا أدري، الآن لا يمكن القيام بأي شيء.

- لماذا؟ أمّنوا لنا سيارة ونحن نذهب ونحضر الجثة.

- لا يا عم! في هذا الوقت! ليس معلومًا إن كان هذا الفتى صادقًا في كلامه، الذهاب خطر، والطريق طويل من هنا إلى عباره.

- إذا جاء معي بعض الشباب فأنا مستعدّة للانطلاق الآن.

 

رفض إبراهيمي القبول برأيي. ناديت حسين وعبد الله من المسجد وشرحت لهما الموضوع. قال عبد الله: يا أختاه، هل من الضروري أن نذهب الآن؟

- إنه يقول إنّ الرجل لم يسمع له صوت منذ الصباح. لا شك في أنّه مات. ينبغي أن نحضره قبل أن يتعفّن أو تتعرّض له الحيوانات والحشرات.

 

وافق حسين وعبد الله على الذهاب معي. أثناء تأمين السيارة قالت صباح وزهرة إنّهما ستأتيان معنا أيضًا. اعترض "إبراهيمي" وبعض الشباب بشدة على فكرة ذهابنا. كانوا يقولون: لقد حلّ الظلام، من المحتمل أن يكون هذا الصبي كاذبًا أو أن يكون في الأمر كمين أو مؤامرة ما.

 

قلنا لهم: "عباره" لا تزال حرّة ولم تسقط بيد العراقيين. العمل لا يعرف ليلًا أو نهارًا، وعلى كل حال فنحن مجموعة.

 

107

 


95

الفصل العشرون

صعدنا إلى الشاحنة التي أحضرها حسين وعبد الله. جلس الصبي الأسمر قرب السائق ليدلّه على الطريق. انعطف السائق من "مستديرة فرماندارى" (البلديّة) نحو مستديرة العشائر. بعد أن عبرنا منطقة "بارس آون" دخلنا وسط صحراء لا طريق معبّدة فيها. رحنا نرتفع في الظلام ثم نسقط على أرض الشاحنة من وعورة الأرض.

 

كلما تقدّمنا أكثر، كان كلام "إبراهيمي" يزداد حضورًا وقوة في ذهني. ماذا لو كان هناك فخّ أو كمين مدبّر لنا؟ بقية الرفاق شاركوني تلك الحال والهواجس. نظرنا إلى بعضنا وكرّرنا ذكر الصلوات بشكل خافت. جهّز الشباب أسلحتهم لإطلاق النار عند شعورهم بأي حركة مريبة. بدأت تظهر آثار قرية بعيدة. انعطف السائق بين الأزقة والبيوت الطينيّة ليتوقّف أخيرًا أمام أحد البيوت. قفزنا إلى الأرض، قال الصبي الذي رافقنا إلى بيت مجاور: ذاك هو بيتنا أيضًا.

 

قلت له: حسنًا، اذهب إلى بيتكم واقفز فوق السور وافتح لنا الباب.

- أنا أخاف.

 

قال حسين: أيها الرجل الضخم! ممّ تخاف؟

- أنا أخاف، لو لم أكن أخاف لما ذهبت وقطعت كل هذه المسافة لتساعدونا، ولكنت أحضرته وحدي، ولكنّي أخاف أن تأتي روحه إليّ.

- لماذا تردّد هذه الخزعبلات. اذهب وافتح الباب.

 

لما رفض الذهاب قلت له: حسنًا نحن سندخل.

 

قال لي حسين وعبد الله: لا، أنتِ ابقي هنا، لا حاجة إلى دخولك.

 

108

 


96

الفصل العشرون

- كيف هذا؟! أنا المسعفة وإن كان الرجل حيًّا يجب أن أعاينه وأسعفه.

 

صعد حسين إلى مدخل البيت، أما أنا وعبد الله فقد دخلنا عبر درج المنزل المجاور. كان الدرج يؤدي إلى ممرّ، وهناك باب غرفة يفتح على الممرّ، تمامًا كالبيوت القديمة التي يفصلون فيها غرفة الضيوف "البرانية" عن حرم البيت "الجواني". عبرنا الممرّ فأصبحنا في باحة داخلية. توجّه الشابّان نحو الغرف الأخيرة في نهاية الممرّ، أما أنا فأنرت مصباحي ومشيت بالسلام والصلوات نحو الباب الثاني باتجاه غرفة الضيوف. هاجمني الخوف بقوة في تلك الظلمات. بدأت ألوم نفسي، بما أنّني وصلت إلى هنا لماذا لم أقف وأنتظر في الخارج؟ لو أنّ هناك من يكمن لنا هنا فماذا سأفعل؟ ثم كنت أجيب نفسي بنفسي: ليس من المروءة أن أرسل حسين وعبد الله وحدهما إلى داخل البيت. إن حصل لهما أي مكروه، فلم أكن لأغفر لنفسي. حين وجّهت نور المصباح إلى داخل عتمة الغرفة، شاهدت شخصًا نائمًا مقابل الباب الذي أقف عنده. أجلت المصباح حوله، فلم أجد غيره. عندما ركّزت الضوء على الوجه النائم، رأيت رجلًا عجوزًا. ناديت: حسين، عبد الله تعالا إلى هنا!

 

ركضا نحوي مسرعين. فتحنا الباب ودخلنا الغرفة. سلّطت الضوء على وجه العجوز؛ عيناه لا تزالان مفتوحتين وكذلك فمه، بقي متجمّدًا كما كان لحظة وفاته. وضعت يدي على شريان عنقه، كان نبضه متوقّفًا. كنت لا أزال آمل بأن أسمع ضربات نبضه ولو بشكل خفيف، لهذا وضعت أذني على صدره. لا صوت ولا نبض، وكأنّ هذا القلب لم ينبض أبدًا في كل حياته! كانت أسنانه بارزة من شدة الضعف. وعلى الرغم من تعوّدي على الأموات وسحب الجثث، إلّا أنني شعرت بما يشبه الغثيان وانقلب

 

109

 


97

الفصل العشرون

مزاجي. أجلت ضوء المصباح حوله، لا شيء سوى كوب ماء، وسجادة صلاة ومسبحة معلّقة على حافة الطاقة الصغيرة (الكوّة) في الحائط.

 

ذهب عبد الله وفتح الباب فدخل الجميع. أخذ السائق الشرشف الذي كان يغطي الرجل العجوز وبسطه على أرض صندوق الشاحنة. قام الشباب بحمل الجثة ووضعها على الشرشف ولفّها به. ذلك الصبي الذي أخبرنا وجاء معنا، عندما رآهم يحملون الجثة فرّ هاربًا بسرعة.

- لا تخف، هذا العجوز السيّئ الحظ قد مات، لن يأكلك!

 

حضورنا وتحركنا هناك، أخرَجَ بعض الرجال والنساء من الذين بقوا من منازلهم. سألت: أين هي عائلة هذا العجوز؟

- كلّهم رحلوا، حاولوا المستحيل لأخذه معهم ولكنّه رفض، رحمه الله، كان يقول: أنا لا أترك بيتي.

- هل يوجد أحد غيركم في هذه المنطقة؟

- نعم، هناك بعض الأهالي الذين بقوا في الطرف الآخر من الشارع.

- أنتم أيضًا يجب أن ترحلوا من هنا. العراقيون يتقدمون من جهة الجادة الرئيسية. بعد يوم أو يومين ستصبح المنطقة تحت نار القذائف والرصاص.

 

فيما كان السائق يشغّل محرّك الشاحنة للرجوع، ظهر عدد من السكان الآخرين. طلب منهم الشباب أن يخلوا المنطقة ويرحلوا عن قريتهم. في طريق العودة كان الظلام قد حلّ أكثر وصارت الشاحنة تتخبّط بين الحفر وتضاريس الأرض الترابية الوعرة. وقعنا بشكل لا إرادي على جثة ذلك المسكين. كان عبد الله يضحك ويقول للشباب: إن كان

 

110

 


98

الفصل العشرون

هناك أمل وبقية من روح لديه، فالآن انتهى أمره، نحن أجهزنا عليه!

 

سلّمنا الجثة إلى مستشفى طالقاني ورجعنا إلى المسجد. لم تكن أقدامنا قد وطئت أرض المسجد، حتى هطلت علينا عواصف اللوم وأمطار التوبيخ. قام "محمود فرخي" بالصراخ علينا ومن ثم أكمل البقية تأديبنا.

 

كانوا يقولون لنا: كيف ذهبتم في هذا الوقت من الليل من دون أخذ إجازة ومن دون تنسيق مع أحد؟ ما معنى عملكم هذا؟ هل تعملون وحدكم وعلى هواكم؟

 

كذلك شارك "السيّد مصباح" و"الحج نوري" في القصف علينا. توجّهت أكثر الكلمات والحملات ضدي أنا. قلت لهم: لم يحصل شيء، لقد رأيتم، كان هناك عجوز ميّت وقد أحضرنا جثّته.

- لو كان العراقيون هناك ماذا كنتم فاعلين؟ إن كمن لكم الطابور الخامس؟ وخلاصة الكلام، وقع المشكل وقالوا: لا يحقّ لكم بعد الآن أن تخرجوا في الليل. انتبهوا ولا تظنّوا أنه يمكن لأي أحد هنا أن يقوم بما يخطر على باله.

- حسنًا، بعد الآن سنعطي خبرًا ونأخذ إجازة، وسنفعل كل ما تقولونه وترونه مناسبًا.

 

111

 


99

الفصل الواحد والعشرون

الفصل الواحد والعشرون

 

لم يكن يقنعني ويرضيني أن أشتغل فقط في العيادة وجمع الجرحى والقتلى من أنحاء المدينة، إضافةً إلى أنّ الأسلحة كانت خَرِبة معطّلة، ما يجعل أعصاب الإنسان تتلف وحاله تسوء. كنت أحدّث نفسي بأنّ كل هذا ليس عملًا أساسيًّا. رغبت في التوجه إلى خطوط التماس.،حيث أعلم أنّ هناك أعمالًا أهم يجب إنجازها. كذلك كانت "زهرة فرهادي"، فهي مثلي لا تتحمّل أن تجلس وتبقى منتظرة ليأتي العمل. قالت لي ذات مرة: هناك مجموعة باسم "مجموعة أبي ذر" يتوجّه أعضاؤها للقتال في الخطوط الأمامية. ما رأيك في أن نذهب معهم؟ هيا بنا!

- بالأصل لا يعجبني أن أنتمي إلى أيّ من هذه المجموعات، بحيث أخسر حريتي واستقلالي. أنا أحب أن أتحرك بحرية وأذهب إلى حيث يجب أن أكون من دون أن أتبع أحدًا يتحكّم بعملي.

 

لم تقل لي زهرة شيئًا بعد هذا الحوار، حتى جاءت في أحد الأيام سيارة لـ"مجموعة أبي ذر" وراء زهرة للتوجه إلى الخطّ الأمامي، فذهبت معها مدفوعة بحبّي ورغبتي الشديدة. أعتقد أنّ "مريم أمجدي" قد جاءت معنا أيضًا.

 

 

113


100

الفصل الواحد والعشرون

صعدنا إلى الشاحنة. كان فيها عدد من المسلّحين، ومع أنها مجموعة مقاتلة فإنه لم يكن معها سوى رشاش متوسط. جالوا حوالي الساعة في المدينة. توقفوا في عدة أماكن وأخذوا معهم عدة أشخاص. مللت وضقت ذرعًا. لم أعد أستطيع التحمّل والمتابعة معهم. حين وصلنا إلى شارع "نقدي" قلت للسائق: توقف، أريد الترجّل هنا.

 

مريم وزهرة اللتان أصبحتا عضوتين في تلك المجموعة وذهبتا إلى الخطوط الأمامية سابقًا مع المجموعة، قالتا لي: قليلًا من الصبر وسنصل إلى خطّ التماس.

- لا أريد، توقّف.

 

نزلت وعدت إلى العيادة. بعد بضع ساعات، عادت زهرة. سألتها: ما الذي حدث؟

- وصلنا عند مفترق الطرق الثلاثي، حيث تدور اشتباكات عنيفة، لم يُسمح لنا بالتقدم. بعض الشباب أكملوا سيرًا على الأقدام ولكنهم أرجعونا من هناك.

 

منذ أن تعهّد الشيخ شريف بضمان حضورنا ومشاركتنا في العيادة، صرنا نهتم وننتبه أكثر من السابق. كل من يعدّ نفسه من أهل العمل والجدّ، يحقّ له أن يبقى، وإلا فإننا نقبل عذره بكل احترام.

 

كان رجال المسجد وشباب المنطقة منتبهين إلى حركة تردّد الناس إلى العيادة ويراقبوننا من دون وجود أي حساسية وسوء تفاهم.

 

كان "محمود فرخي" والسيّد "مصباح" هما الأكثر إظهارًا للنخوة والغيرة علينا. حين يحلّ الغروب، كانا يأتيان لدقائق إلى العيادة، وإن

 

114

 


101

الفصل الواحد والعشرون

لاحظا غياب إحدى الأخوات يسألان عنها، فنقول لهما: "ذهبت لإنجاز أمر ما، ماذا تريدان منها؟" فيجيبان: "لا شيء، لدينا عمل معها". وطالما استفسرا عن الأوضاع، أو إذا ما كان هناك أي مشكلة.

 

ومن جهتنا إذا لاحظنا أمرًا مريبًا أو غير عادي، نطلعهما عليه. على سبيل المثال؛ أحد الأشخاص ممّن جاؤوا مع الفريق الطبي الذي بقي ليلة واحدة وفرّ قبل طلوع الصباح، رجع إلى عيادتنا بعد بضعة أيام. كان رجلًا ضخم الجثة وذا شارب ضخم مفتول يتكلّم بلهجة كردية ويقول إنه من "سنندج".

 

حين عاد لم يحقّق إنجازًا يُذكر، بل تسلّى فقط بفرز الأدوية. كان يدافع بشراسة وحدّة عن مجموعات "الكوملة" و"الحزب الديمقراطي" ويروّج أفكارها. ولأني كنت على معرفة واسعة بحقيقة هذه الأحزاب فقد واجهته وتصدّيت له، حيث كان أخي علي قد أخبرني عنهم وكيف أنهم أذلّوا الناس وقمعوهم باسم الدفاع عن الشعب الكردي.

 

في تلك الفترة، أحضر لي أخي ملصقات سجن "دوله تو"[1] الذي قصفوه، وصورًا عن قيامهم بتعذيب شباب الحرس الثوري وحتى الأهالي الأكراد. وكان يقول لي: انظري كيف يسفكون الدماء ويستعبدون الناس هناك.

 

وعليه، فإني لم أرتح لوجود ذلك الشخص. فقد كان كذلك يسعى دومًا لخلق الفتن والتفرقة بيننا، فينقل لنا كلامًا سيّئًا وكاذبًا عن "نجار"


 


[1]  سجن دوله تو: سجن أقيم في منطقة جبليّة مستورة بين (سردشت) و(باني) في قلب الغابات الطبيعيّة بأمر من المجموعات الديمقراطيّة، وقد بُني بواسطة سجناء تلك المجموعات أنفسهم. يعجر اللسان والبيان عن وصف ألوان التعذيب الجسديّ والنفسيّ الذي تعرّض له سجناء هذه المجموعات فيه. في 19/2/1360 (أيار 1981) وعندما بات هذا المكان غير آمن بالنسبة إلى تلك المجموعات، تمّ وبالتنسيق مع حزب البعث قصف السجن على من فيه، مخلّفًا سبعين شهيدًا من السجناء.

 

115


102

الفصل الواحد والعشرون

من حولنا وينقل عنا كلامًا آخر للآخرين. وعلى الرغم من محاولتنا عدم الجدل والنقاش معه، إلّا أنني ذات مرة انتقدته بشكل صريح وواضح، وذلك عندما عرف أنني كردية أيضًا فصار يحرّضني: "ألست كرديّة؟ يجب أن تنصري الشعب الكردي. لماذا تقولين عن "الكوملة" و"الحزب الديمقراطي" إنّهم منحرفون؟". كنت قد قلت سابقًا هذا الكلام للفتيات وقد سمعه هو.

 

أجبته: هل تظنّ أنّ كلّ مَن هو كردي يجب أن يكون خائنًا؟ نحن مسلمون أولًا ومن ثم أكراد.

 

أصرّ على قوله إنّ هذه المجموعات هي المنقذ للشعب الكردي. حدّثته عن المجازر والمآسي التي قاموا بها، فسكت ولم يتكلّم بعدها.

 

حين جاء "محمود فرخي" عند الغروب وسألنا عن الأوضاع، أخبرته بكلّ ما حدث، وكانت دهشتي كبيرة عندما أفصح عن معرفته بكلّ شيء عن هذا الموضوع، وأنّ ذلك الشخص مراقَب وهم يعرفون هدفه من المجيء إلى هنا، وأنّه هو بالطبع لم يأتِ للعمل والخدمة.

 

كذلك التقينا بأشخاص كهؤلاء منذ الأيام الأولى لمجيئنا إلى عيادة "شيباني"، ومنهم شاب في مطلع العشرينيّات من عمره، اسمه "جونشان". كان يتردد كل فترة إلى العيادة كلما سنحت الفرصة. ومع أنه كثير الادعاء بالالتزام والتديّن وبأنه منفّذ عنيد لأحكام الشريعة، إلّا أننا لم نكن نرتاح لوجوده، ومِثْلنا كان "نجار" الذي لم يكن يعجبه أيضًا، ويقول عنه: إنّ ظاهره لا ينسجم مع باطنه، فلا تفسحوا المجال له بالتردّد على العيادة.

 

ومع هذا كله، فإنّ هذا الشخص لم يتركنا وشأننا. كان دومًا يحوم

 

116


103

الفصل الواحد والعشرون

حولنا ويخطّط لنا المشاريع والاقتراحات: تعالوا نشكّل معًا مجموعة جهادية.. إنّ علينا أن نعمل بشكل مستقل وخاص.. إذا كنا تابعين للآخرين فلن نتمكن من القيام بأي عمل!

 

إضافةً إلى هذا، فإنه كان عندما يرانا، يبدأ بإصدار الأوامر والنواهي: يجب أن تكنّ رصينات، عندما تمشين اخفضن رؤوسكنّ..

 

لم يكن أحد منا يقبض كلامه أو يقيم له وزنًا. وبين الجميع كنت أنا ألتفت إلى تناقضاته وأحذّر الأخوات منه. وهو أيضًا كان يهاجمني قائلًا: أنتِ وقحة جدًّا!

- وهل أنت وكيلنا أو وصيّنا كي تتدخّل في شؤوننا؟ نحن لا نعتقد بك ولا نقبل كلامك.

 

وعليه، فقد كان الوضع بيننا متوتّرًا. سمعت أنّه كان ينبّه الأخوات ويحذّرهم مني: لا ترافقن هذه الفتاة فهي وقحة ومتجرّئة.

 

كان يقوم بهذا كلّه، ثم يحاول من جهة أخرى أن يجذبني ويستقطبني لألتحق به. كان يقول إنّه مكلّف من المحكمة أن يتعرّف إلى أفراد الطابور الخامس ويقوم باعتقالهم. مع مرور الوقت غدت أكاذيبه تزداد وادّعاءاته تتراكم، ومعها تضاعفت رغبتي في أن أكشفه وأفضح أمره بشكل أو بآخر.

 

عصر أحد الأيام، قبل الغروب، كنا مشغولين بالحديث وبإعداد أدوات الإسعاف، جاء "صاحبنا" إلى العيادة وقال: لقد اعتقلنا شخصًا مشتبهًا به في القوات البحرية، وأنا ذاهب لمحاكمته. تعالوا معي لتشاهدوا المحاكمة.

- ومن أنت حتى تحاكم أي إنسان؟

 

 

117


104

الفصل الواحد والعشرون

- أنا وكيل النيابة العامة!

- وما الداعي إلى ذهابنا نحن إلى هناك؟

- لا شيء، تعالي لرؤية عملي، خاصةً أنتِ التي تدّعين أشياء وأشياء.

 

كلما حاولنا التهرب من الموضوع أصرّ أكثر وازداد تبريرًا وتحدّيًا. قلت لزهرة: تعالي لنذهب وننهي كل هذا الموضوع ونكشف كذبه من صدقه، ولننتبه جيدًا كي لا يخدعنا بألاعيبه.

 

وافقت زهرة على اقتراحي. ذهبنا مشيًا على الأقدام حتى وصلنا إلى الشاطئ، انعطفنا هناك ودخلنا إلى أحد الشوارع. وقف "جونشان" أمام مبنى أبيض اللون مؤلف من طابقين وقال: هنا، لقد وصلنا.

 

نظرت إلى المبنى بدقّة، بدا كمنزل مهجور، لا يصدر عنه أي صوت أو نور أو آثار تدلّ على حياة وحركة. قال لنا: لماذا تقفان هنا؟ ادخلا!

- لماذا ندخل نحن؟ إنها محكمتك، تفضل أنت بالدخول أولًا.

 

هزّ بكتفيه وصعد درجًا معدنيًّا إلى باحة المنزل المفروشة بالأشجار والنباتات، جال قليلًا ثم عاد ليقول: وكأنهم لم يحضروا ذاك المجرم حتى الآن، يجب أن ننتظر.

 

تأكدت من أنّ هذا الشخص هو كما كنت أظن وأعتقد. وبناءً عليه، قلت له:

لا يوجد أي سبب يدعونا إلى البقاء هنا، وكأنك تحسب أننا أطفال صغار. هل نحن عاطلون عن العمل؟ وبالأصل ما لنا وللمحاكمة التي تدّعيها؟

 

همست لي زهرة، وقد بدت خائفة نوعًا ما: ماذا نفعل الآن؟

 

118

 


105

الفصل الواحد والعشرون

- لا شيء، سنرجع إلى العيادة. الله أعلم بالخطة التي في رأس هذا الإنسان المريب. إن لم أكن مخطئة فهو بنفسه يعمل في الطابور الخامس وقد تواعد معهم هنا. هيا بنا نذهب.

 

حين تحرّكنا صرخ بنا: إلى أين تذهبان؟ اصبرا قليلًا حتى يأتوا.

- أنت ابقَ، نحن سنذهب. حاكم كما تشاء فلا علاقة لنا بالأمر.

 

عدنا إلى المسجد وبحثنا عن السيّد فرخي[1] والسيّد مصباح وأخبرناهما بكل ما حدث وقلنا لهما: ليتكما تفكّران في حلّ لهذا الشخص.

 

وكما قال لنا "محمود فرخي" سابقًا، كرّر السيّد مصباح: "نحن نتابع قضية هذا الشخص. أنتنّ قمن بعملكنّ بشكل طبيعي بدون أن تثيروا شكوكه وانتبهن واحذرن منه".

 

حين وصلنا إلى العيادة قمت بتنبيه الفتيات واحدة واحدة وأوصيتهنّ بالحذر والانتباه. بعد هذا الحادث صرنا نتعامل معه بدقّة ورصانة أكبر وهو نفسه أدرك أنّ الجميع ينظرون إليه بعين الريبة والشك. كان شخصًا حادًّا جدًّا. بعدها خفّت زياراته إلى أن اختفى نهائيًّا[2].

 

 


[1]  محمود فرخي: استشهد بعد أيام وهو يقاوم قوات الاحتلال.

[2]  بعد مدة، سمعت أنه ملاحق من قبل الثورة وأنّ الحكم قد صدر بإعدامه. وكما قيل فإنه كان من مجموعة الفرقان المنحرفة (التي اغتالت الشهيد مطهري ومجموعة من العلماء من أنصار الإمام الخميني قدس سره) وإنّ بطاقته ووثائقه كانت مزوّرة.

 

119


106

الفصل الثاني والعشرون

الفصل الثاني والعشرون

 

كنّا في حيّ "آريا"، ننقل ثلاثة جرحى في الشاحنة إلى مستشفى "طالقاني"، في الطريق أشار لنا أحد الأشخاص بيده لنتوقف. توقف السائق إلى جانب الطريق. تقدّم الرجل منا، تذكرته، فقد كان يساعدنا أحيانًا في المسجد وفي "جنت آباد". قال: لقد وجدنا جثة هنا، علقت بالجرافة خلال حفرنا.

 

قلنا له: معنا جرحى، لنوصلهم إلى المستشفى ونعود إليكم.

 

حين رجعنا، كان ذلك الرجل يعمل مع بضعة أشخاص على حفر الأرض ثم تعبئة التراب والرمل في أكياس صغيرة، قالوا إنهم يجهزونها لبناء متاريس لحماية مستشفى "طالقاني".

 

اقتربنا من الجرّافة. شاهدنا في رفشها جثة عسكري عالقة من الرأس ونصف البدن، فبدت كالمومياء. وحيث إنّه قد نشف الدهن من الجسد، فلم يبق عليه أثر للّحم. كان الجلد محترقًا ومليئًا بالكدمات. واضح أنه قد مات وبقي هنا منذ عدة أيام، ومع أنّ عشرات الشظايا اخترقت جسده، لم تكن عليه آثار نزيف دماء، بل تعفّن وفاحت منه رائحة كريهة ولكن ليس للحد الذي يهرب الإنسان منها. كان مثيرًا للدهشة

 

 

121


107

الفصل الثاني والعشرون

بالنسبة إليّ كيف أنه لم يتلاشَ ويتحلل بعد. تخيّلت أنّه من القوات العراقية التي اخترقت أراضينا عن طريق جزيرة "مينو"، ثم سقطت عليه قذائف مدفعيتهم، فزحف حتى يختبأ على هذه التلة الرملية، ولكنه مات من شدة الضعف والنزيف.

 

سألتهم: هل فتّشتم جيوبه؟

- كلا، لم نجرؤ على لمسه.

 

أرغمت نفسي على تفتيش جيوبه، وجدت بطاقة هوية وصورة عائلية وعدة سجائر تالفة. بطاقته كانت مبللة وكتابتها ممحية، استطعت فقط أن أقرأ عليها كلمة "النقيب". نظرت إلى الصورة التي شملت عدة نساء وأطفال وقفوا جانبه، وكان يظهر في نوع ملابسهم أنهم من العرب العراقيين.

 

وضعوا الجثة في الشاحنة. بقينا هناك وذهب السائق ليسلّم الجثة للمدافن ويعود. جُلنا قليلًا في المنطقة بحثًا عن جهاز اللاسلكي والسلاح والعتاد المحتمل وجوده مع "النقيب" الميت. عبرنا إلى الجانب الآخر في الشارع، لفت نظري برميل على بعد 150 مترًا تقريبًا. قلت: تعالوا نبحث داخل هذا البرميل لعلّنا نجد شيئًا.

 

كانت دهشتنا لا توصف حين وجدنا جثة عسكري آخر في البرميل الممزق من كثرة الشظايا. كانت الدماء تغطي الأرض وتملأ أرض البرميل.توقعت أن يكون هذا العراقي قد مات اليوم. سحب الرجال الجثة من البرميل وتناثرت الدماء بغزارة وفاحت رائحة كريهة، ما سبّب لي حال غثيان. لا أعلم إن كان صاحبا الجثتين مرتبطين ببعضهما أم لا؟ هل جاءا

 

122

 


108

الفصل الثاني والعشرون

للتجسّس أم لتسليم نفسيهما؟ فتشت جيوب هذا فلم أجد شيئًا. كان وضعه مؤسفًا جدًّا، فالرصاص اخترق ظهره وبطنه وهشّم كليته وأمعاءه.

 

عاد السائق المسكين ليجد جثة ثانية بانتظاره. فوُضعت في الشاحنة وأخذناها إلى براد مستشفى طالقاني وسلمناها كالمعتاد. كنت أهمّ بالصعود إلى الشاحنة أمام المستشفى وإذا بسيارة إسعاف عليها شعار شركة النفط وهي تحمل جريحًا.

 

قال السائق للممرضات: إنه محروق، وعندنا في مستشفى شركة النفط العديد من حالات الحريق ولم يبقَ أسرّة ومجال لمعالجته فأحضرناه إلى هنا.

 

تقدّمت نحو الإسعاف. كنت قد سمعت أنّ أربعين عاملًا قد استشهدوا وأكثر من مئة وعشرين قد جُرحوا، حين قصفت مصفاة النفط في اليوم الأول للعدوان. ومن وقتها للآن، ظلّت النار مشتعلة والكثير من رجال الإطفاء استشهدوا أو أصيبوا خلال محاولتهم السيطرة على الحريق. كل يوم كان يأتينا خبر جديد من هناك. قالوا مرة: إن سبعة رجال إطفاء قد احترقوا وإنّ هناك رجلًا قد وقع في أتون النار بحيث لم يتمكّنوا من انتشال جثته.

 

فُتح باب سيارة الإسعاف. كان هناك جريحان، نظرت إليهما متطفّلة. كان أحدهما قد احترق بشكل رهيب، فأصبح قطعة سوداء، لا يميز من يراها أهي جسد أسود أو قطعة فحم، والمنطقة الأقل تضررًا في جسده كانت وجهه الذي انسلخ جلده من وهج النار. كانت الدماء تسيل من جراح وجهه ويديه. حين حملوه ووضعوه على النقالة، لم يصدر عنه

 

123

 


109

الفصل الثاني والعشرون

أيّ آه أو صوت تألم. غطوه بشرشف وأسرعوا به إلى الداخل. أما الثاني فكان وضعه أفضل نسبيًا. يداه وقدماه محترقتان، وجهه ملتهب وشعره محترق وشكله مخيف. ولكنه كان أفضل من رفيقه. أجلسوه على النقالة ولم يمددوه بسبب احتراق ظهره وأدخلوه للعلاج.

 

بعد كل هذه المدة، لم يستطيعوا حتى الآن السيطرة على حريق المخزن الكبير في المصفاة. تم منع المرور على الجادة الموصلة إلى شركة النفط. حين كنا نذهب إلى "آبادان" كنا نشعر بوهج النار عن بعد، ونرى ألسنة اللهب قد راحت تعلو أمتارًا فوق مصفاة النفط. ارتفعت الحرارة في آبادان أكثر من مستواها المعروف عادةً. في بعض أحياء المدينة، التي غطّاها الدخان أكثر من غيرها، لم نكن نستطيع التنفس أصلًا.

 

سبق لي أن رأيت في الأيام الخوالي جسدًا متفحمًا؛ وقتها كنا ننقل جثمان شهيد إلى براد المستشفى. مع بداية حلول الظلام، كنت أمشي في المقدمة كي أفتح باب البراد. حين أدرت المقبض وفتحت الباب، لمحت رجلًا يجلس القرفصاء ويده فوق رأسه. لم أميز بدقة في الظلام وانقطاع الكهرباء واعتقدت بأنّ لديه شهيدًا وقد جلس قربه بحزن وهدوء. لم أكن أرى بوضوح. قلت: السلام عليكم ولكن لم أسمع جوابًا. فكرت في نفسي لعله غارق في تأثره لدرجة لم يسمع معها سلامي ولا التفت لدخولي. حين أدخلوا جثمان الشهيد، فتحتُ الباب على مصراعيه لإدخاله، وخاطبت ذلك الرجل الغارق في العزاء: عفوًا، إن سمحت افسح المجال لنا لإدخال الشهيد. ولكنه لم يرد عليّ ولم يحرك ساكنًا. أنرت المصباح ووجهته نحوه. فإذا بجسد محترق متفحم. ارتجف جسدي وتزلزل قلبي من هول المنظر. خفت كثيرًا وركضت هاربةً إلى الخارج. قال الشباب إنّ

 

 

124


110

الفصل الثاني والعشرون

هذه قد تكون جثة عسكري وقد احترقت خلال جلوسه في الدبابة وكوننا لا نملك دبابات فهذه جثة عسكري عراقي.

 

وقد رأيت أيضًا في الأيام الأولى للحرب أحد الأسرى العراقيين، حين ذهبنا من المسجد إلى عيادة "شيباني". لأنّ المسجد قد أُخلي ولم يبقَ تقريبًا سوى بعض العسكريين والمقاتلين. في صباح ذلك اليوم، قالت الأخوات في العيادة: إنّ المدافعين قد تمكنوا من أسر عسكريين عراقيين على خطوط التماس.

 

حين ذهبت إلى "جنت آباد" كرّروا هذا الأمر؛ وأضافوا بأن هناك أسرى بريطانيين وألمانًا وعراقيين ومن جنسيات متعددة.

 

تعجّبت كثيرًا وقلت: خيرًا إن شاء الله! من أين ظهر لنا كل هؤلاء من تلك البلدان؟! لم نكن نعلم حينها بأن العالم كله يقف خلف نظام العراق ويؤمّن له الدعم والقوات والتجهيزات.

 

في طريق العودة إلى المسجد سمعت أيضًا عن توقيف سيارة فيها مراسلون أجانب وأسر مجموعة من العراقيين. سمعت أن هناك الكثير من النساء في خنادق الجيش العراقي و.. كل هذه الأخبار ضاعفت فضولي لأرى وأُشاهد بعيني إن كان بين الأسرى أجانب أم لا؟ عصرًا قال الشباب إنّه سيتم إحضارهم إلى المسجد، ذهبت إلى هناك، ووجدت الكثير من أمثالي يريدون مشاهدة الأسرى.

 

سادت الفوضى والازدحام في الباحة. بعد حوالي ربع ساعة، وصل شبّان صغار السنّ نسبيًا وقد جاؤوا برجل سمين طويل القامة يبدو في الخامسة والثلاثين من عمره. كان رجلًا مرتب الشكل لا يشبه العراقيين؛

 

125

 


111

الفصل الثاني والعشرون

لون عينيه فاتح وشعره بني، بشرته بيضاء وقد احمرّت من الحر أو من الخوف، كل هذه الصفات أشارت إلى أنه غير عراقي. كان يلبس بدلة عسكرية نظيفة ومرتبة من دون شارة على كتفيه. وعلى عكس ما تصوّرت لم يكن مقيد اليدين والقدمين. وصل ذلك الأسير وجلس في زاوية الباحة. مدّ رجليه ووضع يديه وراء رأسه. كان يرتجف بشدة ويقول بصوت عالٍ: "دخيلكم، دخيلكم".

 

كان كل فرد من المجتمعين حوله يقول شيئًا ما؛ بعضهم كان يسب ويشتم وبعضهم أراد ضربه، لكنّ الآخرين منعوهم. أحد الشباب قال: "هذا اللعين عندما صار هنا يقول "دخيلكم.. دخيلكم" بينما حين كان يقاتل على خطّ التماس يطلق النار بشراسة وحتى الرصاصة الأخيرة! ثم دلّنا على شارته وقال إنه رقيب. عندما وصلنا إليه كان قد نزع شارتيه عن كتفيه ورماها، لكنني فتشت ووجدتها".

 

عندما سمع الناس هذا الكلام، اشتدّ غضبهم عليه، فانتبه وصار يتوسّل: هنا مكان آمن، هنا بيت الله. أنا شيعي.. أنا شيعي. أنا عطشان، اسقوني ماءً.

 

كان الشباب يجادلونه ويقولون له: لا تخف، لا تخف. نحن لسنا مثلكم آكلي لحوم البشر. لسنا بعثيين. أنتم الذين تقومون بتلك الأعمال الوحشية.

 

وأنا التي كنت أنتظر وصول الأسرى لأفرغ جام غضبي على رؤوسهم، حين رأيت هذا الرجل الأسير وكيف جلس ذليلًا خائبًا يرتجف خوفًا من الموت، خفّ غضبي وأشفقت لحاله. تقدّمت وتكلمت معه باللغة العربية: لا تخف لن نؤذيك.

 

 

126


112

الفصل الثاني والعشرون

نظر إليّ متسائلًا : هل أنتِ إيرانية؟

- نعم، من أين أنت؟ من بغداد أو البصرة؟

- أنا لست عراقيًا، أنا من الأردن.

- إن كنت أردنيًا فماذا تفعل هنا؟ لماذا أتيت لتقاتلنا؟

- أنا لم أرد أن أشارك في الحرب، لقد أجبروني على المجيء.

- كلّكم تقولون هذا. تقاتلون حتى الرصاصة الأخيرة وعندما تنتهي ذخيرتكم ولا يبقى أمامكم سوى الاستسلام، تقولون إنّهم أجبروكم على القتال. إن كنت مجبرًا فلماذا حاربت حتى الطلقة الأخيرة.

 

أخفض رأسه أرضًا. تابعت كلامي: انظر إلى الطرف المقابل لكم؛ جمع من النساء والفتيان الذين لا يملكون أيّ إمكانات ولا ذخائر. لقد رأيت قواتنا، هم في عمر أبنائك وقد قاتلوكم وصمدوا أمامكم.

 

شعرت بحرقة وغصة ولكني تابعت: ماذا تريدون منا؟ بماذا أخطأنا معكم؟ لماذا لا تتركوننا وشأننا نعيش في أرضنا؟ عاد الرجل ليقول: العفو، العفو.

 

قلت له: لا تخف، نحن نسير على سنّة رسول الله، فلا نتعرض للأسرى. قل لنا ماذا تريد ونحن نحضره لك. لا أحد يؤذيك هنا. أنت أسير ونحن نتعامل معك وفق قوانين الإسلام، وليس حتى وفق قوانين الصليب الأحمر. هدأ قليلًا وقال: أريد أن أشرب.

 

قلت للشباب: أحضروا له ماءً.

 

ثم سألته: هل تريد أن تدخّن؟ قال بلهفة واستغراب: نعم، نعم.

 

127

 


113

الفصل الثاني والعشرون

أعطاه الشباب سيجارة. وفيما كان ينفث دخان السيجارة، انقبض قلبي وقلت له: انظر إليّ، أنا بقيت وأريد أن أقف بوجهكم وأتصدّى لاجتياحكم. أنا دفنت أبي وأخي بيدي. أنتم قتلتموهما. أنتم تقاتلوننا ونحن لا نعرف أيّ شيء عن الحرب ولا نملك السلاح والذخيرة. ولكن لنا الله. نحن نقاتلكم بقوة إيماننا.

 

حين قلت له إنّكم قتلتم أبي وأخي. جمدت السيجارة في يده! كان ينظر إليّ ويعتذر ويعتذر، هدأتُ وتركته لحاله. انتظرت أن يحضروا بقية الأسرى، ولكنهم أخبرونا أنهم نقلوهم مباشرة إلى "آبادان".

 

128

 


114

الفصل الثالث والعشرون

الفصل الثالث والعشرون

 

مرّت أيام وأيام على مغادرة "دا" وبقيّة أفراد الأسرة. عميت عنّي أنباؤهم، فلم أعد أعلم أين هم وماذا يفعلون. قلقت كثيرًا على "دا"، كان خوفي الأكبر أن تعلم باستشهاد علي. ولهذا، انشغل بالي على الدوام. كنت أحدّث نفسي: إن علمت "دا" بالأمر فستصاب بسكتة قلبية أو ستُجنّ حتمًا وتتيه في البراري والقفار. إن حدث شيء من هذا القبيل ماذا سيحل بالأولاد؟! من سيعتني بهم في هذه الحال من التشرد والتهجير؟ لم تتركني هذه المخاوف وشأني، لقد نويت اللحاق بهم منذ مغادرتهم المدينة؛ للاطمئنان إليهم. ولكن لم تتهيّأ الفرصة المؤاتية. راودتني فكرة اللحاق بهم والعودة فورًا، فالمهم أن يرتاح بالي عليهم.

 

تمّ نقل غرفة عمليات المعركة إلى "ماهشهر"، ولهذا كثرت حركة التنقّل بينها وبين مدينة "خرّمشهر". كانت "سربندر" قريبة من "ماهشهر"، وكلّما عرفت أنّ أحدًا سيقصد تلك المنطقة، أوصيه بالسؤال عن "دا" وتقصّي أخبارها وتطمينها عني وعن ليلى. ذهب شخصان أو ثلاثة إلى هناك وقالوا بعد عودتهم: "المهجّرون كثر وأماكنهم متفرقة وبعيدة عن بعضها، ولهذا لم نعثر على أمك".

 

 

129


115

الفصل الثالث والعشرون

زاد هذا الكلام من قلقي. كان التفكير فيهم يزداد أكثر في الليل، فتجتاحني الهواجس والأوهام. أسأل نفسي: أين هم الآن؟ ماذا يفعلون؟ هل لديهم ما يأكلونه أم لا؟ كنت أشعر أحيانًا بالذنب لأني أخفيت خبر شهادة علي عن "دا"، دخلت في جدال مع نفسي وقلت لها: كيف استطعتِ أن تحرمي هذه المرأة من تلك الفرصة! ستبقى تتحسّر حتى قيام الساعة، وسيبقى قلبها يحترق لأنها لم ترَ ولدها. لو أنها شاهدت جثمان علي لتأكدت من رحيله، لكنّها الآن لن ترضى بأي كلام ولن تصدّق نبأ شهادته. كنت أذرف الدمع وأعاتب نفسي، وعندما أهدأ، أسلّي نفسي قائلة: كلا، لم يكن ما فعلته خطأً. لم تكن "دا" لتتحمّل فقد علي وتظلّ على حالها. فهي تحبّه حبًّا جمًّا لدرجة يصعب معها تقبّل أنّه استشهد هو بالذات بعد شهادة أبي. لو أنّها علمت بشهادته ورفضت الخروج من المدينة، ماذا كنا سنفعل حينها؟ لو أنّها بقيت هنا ووقع الأولاد في الأسر أو استشهدوا جرّاء القصف عندها ماذا سيكون موقفي؟ لهذا، فإنّ ما قمت به هو الخيار الأفضل.

 

ذات يوم، التقيت في المسجد بعائلة "رعنا نجار". كنت قد تعرّفت إليهم في الأيام الأولى للحرب حين كانت ابنتهم معنا في المسجد. سلّمت عليهم وسألتهم عن "رعنا"، قالوا إنّها في "سربندر"، وإنّهم يقيمون في أحد المنازل ريثما يهدأ الوضع هنا. وقد جاؤوا لتفقّد بيتهم في "خرّمشهر" وسيعودون اليوم إلى "سربندر".

 

سألتهم: "ألديكم مكان لي في السيارة لأذهب معكم؟ أريد أن أبحث عن أمي هناك، فقد رحلت منذ أكثر من خمسة أيام ولم يصلني منها أي خبر". رحّبوا بي كثيرًا وقالوا تفضلي.

 

130

 


116

الفصل الثالث والعشرون

أخبرت الفتيات في العيادة بذلك ورجعت بسرعة إلى ساحة المسجد. لا أذكر بالضبط إن كانت سيارتهم "تويوتا عادية" أو "غالانت". ركبت أنا واثنتان من أخوات "رعنا" في المقعد الخلفي، وانطلقت رحلتنا إلى "سربندر".

 

كان هناك عدد من الأهالي لا يزالون يرحلون سيرًا على الأقدام أو بالسيارات، ولكنّ الجادة بدت هادئة وأقل اكتظاظًا من تلك الأيام التي كنا ننقل فيها الشهداء إلى "ماهشهر". رحت أنظر وأتأمّل بصمت تلك الصحراء على جانبي الطريق. حين عبرتُ هذه الجادة آخر مرة، لم أكن أعلم بشهادة أبي. في ذلك اليوم، انصبّ تركيزي على الشهداء في الشاحنة وعلى منظر الأهالي المهجرين. لم ألتفت أصلًا لمياه الأمطار المتجمعة في المناطق المنخفضة في تلك الصحاري. قواعد الأنابيب الضخمة التي تنقل النفط إلى "ماهشهر" ترتفع وتنخفض بالتناسب مع الأرض، وتغمرها المياه في بعض الأماكن. كانت الطيور البحرية تحلّق فوق تلك المستنقعات، وكان الطقس حارًا والسراب يتراءى على الإسفلت من بعيد. كلما اقتربنا من "ماهشهر" أكثر، كانت المنطقة تبدو جرداء وقاحلة غير ذات زرع. بالقرب من "ماهشهر" انعطفنا إلى جادة "سربندر"، ووصلناها حوالي الساعة العاشرة والنصف. كانت مدينة عجيبة؛ شعرت أنها أقرب إلى القرية أو المجمعات السكنية منها إلى المدن. تختلف بيوتها كثيرًا عن بيوت "خرمشهر"، ويتبع أكثرها لمؤسسات وإدارات، تشبه الفيلات الصغيرة بأسقف وجدران قصيرة. كانت نيران صدام قد طالتها أيضًا، حيث شاهدنا دمار البيوت المحاذية للسوق.

 

ترجّلت من السيارة على مفترق أحد الطرق. أصرّت عليّ أخوات "رعنا" كثيرًا كي أذهب معهم إلى منزلهم فلم أقبل، قلن لي: "تعالي معنا،

 

131

 


117

الفصل الثالث والعشرون

نتناول الغداء معًا وتستحمّين، ثم نذهب للبحث عن أمك". قلت: "كلا، يجب أن أجدهم بأسرع وقت ثم أعود بعد الظهر إلى خرمشهر".

 

شكرتهنّ كثيرًا وسلكت ذلك الشارع سيرًا على الأقدام. كل المدينة كانت عبارة عن "بازار" وعدة مجموعات من البيوت. جلتُ فيها صعودًا ونزولًا فانتهت المدينة! سألت عدة أشخاص: "أين أماكن تجمع مهجّري الحرب؟".

- لا يوجد لهم مكان محدد في سربندر، إنّما يتوزعون على الأحياء، العدد الأكبر منهم في ماهشهر.

 

انقبض قلبي في سربندر. كل شيء فيها جافّ وحارّ، كل أرضها ملحية وناسها غرباء بالنسبة إلي. أحسست بغربة موحشة. تحرّقت على "دا". كلما سألت أحدًا قال: "لا أعرف، إنهم موزّعون في أماكن شتى".

 

يئست من العثور على "دا" والأولاد في سربندر. قلت لعلّهم ذهبوا إلى ماهشهر، بقيت أسأل حتى وصلت إلى مفترق الطريق الذي تمر عليه الباصات الصغيرة نحو ماهشهر. أشرت بيدي لباصٍ فتوقف وصعدت. كنت آمل أن أجد هناك منزل السيّد بهرام زاده الذي كان من أقاربنا وتربطه علاقة حميمة بخالي حسيني، فأنا متأكدة من أنّه سيساعدني. جُلت في الشوارع ذهابًا وإيابًا وأنا أسأل عن السيّد حميد بهرام زاده، وأصف شكله وأخلاقه ووظيفته في شركة البتروكيمياء.. لكن من دون جدوى، فلا أحد يعرفه. حتى إنّني سألت النساء اللواتي يجلسن أمام بيوتهن إن كنّ يعرفن عائلة كهذه، لكنّهنّ أجبن بالنفي وسألن لماذا أبحث عنهم. وعند جوابي بأني قادمة من "خرّمشهر" للبحث عن أمي،

 

132

 


118

الفصل الثالث والعشرون

كنّ يدعينني ببشاشة للاستراحة قليلًا عندهم وبعدها أتابع البحث، لكنّي أرفض إذ إنّه عليّ العودة إلى "خرّمشهر".

 

استفسرت بلهفة عن الأوضاع هناك، حيث أقلقهنّ استمرار الحرب. تساءلت امرأة عجوز من "خرّمشهر" وقد تهجرت إلى منزل ابنتها هناك: بنيّتي! ترى هل سنعود إلى مدينتنا وديارنا؟

 

أنا نفسي لم أكن أملك الجواب، ولكنني قلت لها: طبعًا يا أمي الحبيبة، لا تقلقي، ستعودين.

 

لم أتوصّل إلى أيّ نتيجة في ماهشهر أيضًا. كنت أمشي خائرة القوى والأرض الملحية تعكس نور الشمس فيؤذي عيني. احترقت بشرتي من الحرارة المرتفعة. شعرت أن دماغي يغلي وأني سأقضي نحبي جوعًا، إذ لم أكن أملك نقودًا، لقد تآزر ضغط الحرّ والجوع ضدّي فأشعراني باليأس والتشرد. انتابتني غصة وحرقة شديدة، ولكنّي لم أسمح لها بالانفجار ولا لعيني بالبكاء.

 

رجعت إلى الجادة المؤدية إلى سربندر. توقّف الباص الصغير أمامي وفتح الباب. وقفت في مكاني مترددة، ماذا أقول للسائق وجيبي خالٍ من المال. في تلك اللحظة رأيت راكبًا يخرج من جيبه مالًا ليعطي السائق ولكنه رفض وقال: ليست سيارة أجرة، إنها صلواتية، صلّ على محمد وآل محمد.

 

سررت كثيرًا وصعدت مرتاحة البال، وكذلك في سربندر فقد رجعت مجانًا في شاحنة تابعة لشركة النفط. حين توقّفت لأجلي، قال لي الرجلان الجالسان إلى جانب السائق: يا أختنا، نحن نركب خلف الشاحنة وتفضلي أنت للأمام. شكرتهما قائلة: كلا، أنا مرتاحة هنا.

 

133

 


119

الفصل الثالث والعشرون

- حرارة الهواء ستؤذيكِ.

- كلا، شكرًا جزيلًا.

 

انطلقت الشاحنة، أسندت ظهري على غرفة السائق وجلست، كانت أرضها ساخنة جدًّا. والهواء الحار يلفح وجهي ويحرق كل جسمي. بعد قليل صعد ركاب جدد إلى "آبادان" وبعدها، ركبت شاحنة أخرى إلى "خرّمشهر".

 

لحظة وصولي إلى "خرّمشهر" أحسست بشوق كبير إلى رؤية السيّدة زينب. كانت زينب أمًّا حقيقية بالنسبة إليّ. حتى إنّها طلبت مني ومن ليلى أن نناديها "أمي". وصلت إلى جنت آباد وكالعادة جاء غسّالو الأموات ليسألوا: ما هي آخر الأخبار؟ إلى أين وصل العراقيون؟ ماذا نفعل؟ نرحل أم نبقى هنا؟

 

لقد أنهك التعب هؤلاء المساكين، وأرادوا حسم مصيرهم وتكليفهم، لم يصلهم أي قرار إداري من مسؤوليهم حتى تلك اللحظة. ما دام هناك شهداء فإنهم يعملون. كنت أفكر أحيانًا بأن الغسّالين ورجال الإطفاء هم العمال والموظفون الوحيدون الذين صمدوا وتحمّلوا كل هذه المخاطر ولا يزالون يعملون بكدّ واجتهاد.

 

كانت السيّدة مريم تذهب لتفقّد بيتها وتعود. لكن المرأة العجوز وزوجها كانا هناك، وكأنّ جنت آباد مكان مريح وآمن بالنسبة إليهما ولا شأن لهما بمنزلهما الأصلي. سألت عن السيّدة زينب، قالوا: ليست هنا، لقد ذهبت إلى أحياء المدينة بحثًا عن الشهداء والجرحى!

 

منذ أيام وزينب لا تبقى في جنت آباد، كانت تشعر بثقل البقاء هناك

 

 

134

 


120

الفصل الثالث والعشرون

حيث خفّ عدد الشهداء، فراحت تجول في الشوارع والأحياء. عند سقوط القذائف على مكان ما، نذهب أنا والأخوات لتفقد الأضرار ومساعدة المصابين، فنشاهد زينب قد سبقتنا إلى هناك. أول مرة رأيتها في المدينة، في شارع "نقدي" حيث كان قد تعرض للقصف، ذهبنا فورًا، هدّمت قذيفة (عيار 230ملم) منزلًا بالكامل فاستحال ركامًا. لكنّه والحمد لله كان خاليًا فلم تقع إصابات. رحت واثنتان من بنات عيادة "شيباني" نعاين المكان وإذ بزينب قد وصلت على متن شاحنة. تعانقنا وقبّلنا بعضنا، سألتها: ماذا تفعلين هنا يا أمي؟

 

جئت لأرى إن كان بوسعي المساعدة. عندما تغيبين عنّي ساعات، أشتاق إليكِ كثيرًا. لا أدري عندما تنتهي الحرب أو نفترق ماذا سأفعل وكيف ستكون حالي من دون رؤيتكما؟ أنا آنس بكما كثيرًا، تمامًا كابنتي مريم.

 

ضحكت وقلت لها، قدرة الله كبيرة. خجلت أن أعبّر لها عمّا يختلج في قلبي أنا أيضًا. لقد أحببتُ زينب لدرجة أني تعمّدت الذهاب أحيانًا إلى جنت آباد شوقًا إلى رؤيتها.

 

135

 


121

الفصل الرابع والعشرون

الفصل الرابع والعشرون

 

بعد ظهر أحد الأيام، تحركنا نحو خطوط الاشتباكات، كنا سبعة أو ثمانية أشخاص ومعنا الدكتور سعادت أيضًا. اتجهنا إلى آخر حي "مولوي" سيرًا على الأقدام. توزّع الشباب المدافعون هناك بين الأزقة، تقدمنا قليلًا فوجدنا أنّ الاشتباكات أعنف بالقرب من "سنتاب". كانوا يقومون بالقنص من جهة، ومن ثم يركضون بسرعة ويطلقون النار من جهات أخرى. حين لمحنا بعض المقاتلين قالوا لنا على الفور: هناك جريح خلف حائط ذلك البيت، لقد وضعناه هناك منذ فترة طويلة، وكلّما سنحت الفرصة نذهب إليه لنتأكد إن كان لا يزال حيًا أم لا.

 

قصدنا مع الدكتور سعادت مكان المصاب الذي دلّونا عليه. ظننت أن جراحه عادية ولهذا وضعوه هناك. لكن عندما وصلنا إليه، وجدته شابًا يستند إلى الحائط مثخنًا بالجراح. كانت الإصابة الأكبر في قدمه حيث تهشّم فخذه بشكل مفجع. لم يتجاوز الشابّ العشرين من عمره، ولشدة النزف سقط أرضًا. بدا أنّ قدمه هذه لا يمكن معالجتها وأنّ مصيرها سيكون القطع.

 

بدأ الدكتور سعادت عمله فورًا، عثر على الشريان، وضع له كيس

 

137

 


122

الفصل الرابع والعشرون

مصل، أعطاه عدة إبر في المصل. في تلك اللحظة لم نستطع القيام بأكثر من ذلك. كان رفاقه قد مزقوا ثيابه ولفوا بها جراحه. بناءً على إصرار الدكتور سعادت، ترك اثنان من المقاتلين الرماية وإطلاق النار وذهبا لإحضار سيارة. لقد صعّب استمرار إطلاق النار من إيصال السيارة إلى حيث الجريح. قبل وصولها سألت الجريح الذي لم يفقد وعيه، لكنّه لم يستطع فتح عينيه من الإنهاك، ما اسمك؟ هل أنت تعبوي أم من الحرس؟ لم يتمكن من الإجابة. أحيانًا كان يجهد نفسه ليفتح عينيه، لكنّهما تطبقان رغمًا عنه، فيتمتم بصوت ضعيف بكلمات لم أتمكن من فهمها.

 

حين وصلت إلى الشاحنة، حملتُ المصل، بينما قام الدكتور سعادت والبقية بحمل الجريح ووضعه على أرض الصندوق. فجأة، بدأ الشاب يرتجف بشدة وكأنه أصيب بنوبة تشنج عصبي، كان يهتز كسمكة أُخرجت من الماء. صرخ الدكتور سعادت: أسرعوا، تحركوا، أوصلوه فورًا إلى المستشفى.

 

انتابني شعور سيّئ. كان الشاب في حال احتضار، لم أستطع النظر إلى المشهد، لذا أعطيت المصل لأحد الشباب وقفزت.

 

تحركت الشاحنة، أما نحن فاضطررنا إلى الانبطاح أرضًا، بسبب غزارة رصاص الـG3 وقذائف الـB7 و"الـهاون60". زحفنا بهدوء والتجأنا خلف حائط. كنت مضطربة جدًّا، فقد شعرت أن ذلك الشاب لن يصل حيًّا إلى المستشفى؛ كل هذا بسبب نزف دمائه. لماذا كان عليه أن يبقى هنا طوال هذه المدة بعد إصابته؟ قلت لنفسي: نحن مصرّون على الذهاب إلى خطوط التماس بسبب هذه الحالات.

 

 

138

 


123

الفصل الرابع والعشرون

بعدها، تذكرت صهر "عمو شنبه". منذ أيام، حين كنت أوصل جريحًا إلى مستشفى شركة النفط، رأيت زوجة "عمو شنبه" هناك، تعجبت كثيرًا وسألتها: ماذا تفعلين هنا؟

- لقد أصيب صهرنا بجراح.

 

كنت قد رأيت صهرهم سابقًا. هو ضابط في القوة البحرية، رجل مؤمن ومحترم. دلتني زوجة عمي على غرفته فذهبت لعيادته. كانت السيّدة "مهين" ابنة "عمو شنبه" تجلس قرب زوجها الجريح وفي يدها قطعة كرتون مقوّى تستعملها كمروحة لتخفيف الحر. سلمت عليهم وسألت عن حاله، قالوا إنّه أصيب بشظية في قدمه.

 

لاحظت أنّ وضعه سيّئ جدًّا، بدا كأنه محموم. كان دائمًا يطلب الماء، فكانوا يرطّبون شفتيه ترطيبًا. كان يتأوه ويتألم بصمت. حين خرجت، سألت الممرضات عن وضعه. قالوا إنّ إصابته لم تكن خطرة، ولكن التهاب جرحه جعل وضعه يسوء من شدة النزيف؛ ولهذا ينبغي أن لا يشرب الماء. لما رجعت إلى غرفته لم أخبر زوجته وأمها بشيء، وقفت قليلًا ثم ودّعتهم وخرجت من المستشفى. في اليوم التالي أيضًا، ذهبنا إلى مستشفى شركة النفط لإيصال عدد من الجرحى، قلت للسائق: انتظرني قليلًا وسأعود. ركضت بسرعة نحو الغرفة التي كان فيها صهر "عمو شنبه". لم أجده على السرير. لما سألت الممرضات عنه، قالت لي إحداهن: لقد استشهد بالأمس.

 

سألتها بتعجب: كيف هذا. لم تكن حاله صعبة إلى تلك الدرجة، صحيح كان جريحًا ويتألم عطشًا، ولكن كيف استشهد بهذه البساطة؟!

 

139

 


124

الفصل الرابع والعشرون

- بسبب الالتهاب الذي امتزج بدمه.

بكيت من دون إرادةٍ منّي. لم يكن صهر "عمو شنبه" كبيرًا في السن، فهو لم يبلغ الأربعين بعد، ولديه خمسة أو ستة أولاد. رجعت وجلست في السيارة. كنت منزعجة جدًّا، إذ إنّه بسبب تقصير بسيط في العلاج نخسر مقاتلًا جيدًا وزوجًا وأبًا حنونًا.

 

حين نادوني بعدها، خرجت ولم أعد أفكر في صهر "عمو شنبه" حيث انشغلت بمتابعة أوضاع الجرحى. بدأ القصف يشتدّ ويقترب فطلبوا منّا الرحيل فورًا من هناك.

 

سرنا في عدة أزقّة متعبين. في الطريق، توقفت شاحنة تسير باتجاه وسط المدينة وأقلّتنا معها. لم نكن قد خرجنا من حي "مولوي" بعد، وإذ بقذائف تنفجر وتصيب عدة بيوت. قاد السائق الشاحنة نحو مكان القصف. كانت أصوات نواح النساء والرجال تُسمع من بعيد. قفزنا قبل أن تتوقف الشاحنة وركضنا نحوهم، كنت متأكدة من أنّ شخصًا عزيزًا لهم قد أصيب وينازع أمامهم ولهذا فهم يصرخون بهذه الطريقة. كان جدارًا يحيط بمنزلين قد تهدّم والتراب والغبار يغطيان الأجواء. قلت يا الله، ودخلت إلى باحة ذلك المنزل الذي ترتفع منه الأصوات. رأيت عدة نساء ورجال تحلّقوا حول أحد ما كما يبدو، كانت النساء يلطمن ويبكين بشدة والرجال يصرخون بهنّ: اهدأن ولا تفعلن هذا!

 

دنوت منهم وأنا أتوقع رؤية جثة غارقة في الدماء، لكنّي فوجئت ببقرة ملقاة على الأرض وقد مزّقت شظية كبيرة جنبها، وحطّمت شظايا صغيرة قوائمها. أكثر ما يؤلم أنّها كانت حاملًا بعجل صغير، وكان من

 

 

140


125

الفصل الرابع والعشرون

المفترض أن يولد في هذه الأيام، فأحاطها بكاء وتفجّع النسوة. والرجال اضطربوا أيضًا، وكانوا يتكلّمون بالعربية. أرادوا شقّ بطن البقرة لاستخراج جنينها وإنقاذه، لكن من جهة، لم يكن أحد يجرؤ على فعل هذا، ومن جهة أخرى، كانت البقرة تنازع وتضرب بقوائمها محاولةً رفع رأسها وفتح عينيها المرعوبتين. ظلّت تخور ثم تقع منهكة. قال أحد الشباب الذين جاؤوا معي للرجال: لماذا تقفون هكذا متفرجين؟ ألا ترونها تتعذّب؟ بالله عليكم، أطلقوا عليها رصاصة الخلاص وأريحوها.

 

سأل شاب آخر: ألا يوجد أحد يمكنه ذبحها؟

 

كان عويل النساء يعلو ويرتفع عند سماعهنّ هذا الكلام. لم أتحمل رؤية مشهد كهذا. كان احتضار ذلك الشاب لا يزال ماثلًا أمام عيني. خرجت من هناك، وجُلتُ في الشارع. وجدت الكثير من المنازل قد تعرضت للقصف، ولكن لحسن الحظ فإنّ أغلبها كان خاليًا من السكان. انتظرت في كل لحظة سماع صوت رصاصة الخلاص التي أرادوا إطلاقها على رأس البقرة. أغلقت أذنَي بيدَي وابتعدت من هناك. بقيت أسمع صوت بكاء النسوة خاصة تلك المرأة العجوز التي يبدو أنها أم تلك الأسرة. بعد قليل، عاد الشباب إلى الشاحنة، توقفوا بالقرب منّي وصعدت معهم من آخر الشارع. انطلقنا من دون أن أسألهم عمّا جرى ولا تكلمت عن الموضوع.

 

141

 


126

الفصل الخامس والعشرون

الفصل الخامس والعشرون

 

خَلَت معظم الأحياء من أهلها، وبقي الأفراد في منازلهم بشكل متفرّق هنا وهناك. أفادنا الشباب خلال تجوالهم وتردّدهم في المناطق، أنّ عددًا كبيرًا من أهالي حيّ العرب في منطقة "مولوي" لم يهجروا بيوتهم، على عكس المناطق الأخرى.

 

كان الشباب يقولون إنّ هؤلاء يظنون أنّ العراقيين لن يؤذوهم؛ لأنّ قوميّتهم عربيّة. أشاعت الإذاعات العراقية في بعض الأذهان هذه الفكرة؛ كانوا يوصون المواطنين العرب بشكل يومي: "لا تتركوا بيوتكم ومناطقكم. نحن قادمون لإنقاذكم. نحن وأنتم عربٌ ولا خلاف بيننا وبينكم. إنّ مشكلتنا فقط مع المجوس. نحن نريد تحريركم من نظام الخميني. عليكم الأمان أينما كنتم".

 

بالطبع، لم يستطع هذا الجو الإعلامي التحريضي التأثير كثيرًا على السكان العرب. كانوا يتمتّعون بالوعي الكافي كي لا يُخدعوا بهذه الشعارات. في السابق أيضًا، تمّ بثّ الكثير من هذه الفتن والأجواء المسمومة، لكنها لم تحقّق أهدافها، إذ إنّ الكثير من شباب العرب كانوا ينتسبون إلى الحرس الثوري الذي هو منظمة ثورية بامتياز.

 

143

 


127

الفصل الخامس والعشرون

أما أولئك الذين بقوا في بيوتهم وأحيائهم، فهم من الأساس لا علاقة لهم بالسياسة ولا بالحكومة. كانوا يقولون إنّهم يريدون العيش من دون التدخل في أمور الآخرين، ولا شأن لهم بالصراعات والخلافات.

 

عندما أراد الشباب التوجه إلى منطقة "مولوي" لإخلاء السكان من هناك، قال لي السيّد نوري والسيّد مصباح: اذهبي أنتِ معهم أيضًا، فأنت تتكلمين اللغة العربية ويمكنك المساعدة أكثر من البقية. قومي بإقناع السيّدات هناك وإلا فيجب إجلاؤهم من هناك ولو بالقوة.

 

قال رجلٌ كان يزوّد الشباب بالأسلحة: هذه المرة يجب إخلاء المنطقة ولو بقوة السلاح. أشعِروهم بالخوف، أطلقوا النار في الهواء!

 

قلت له: هؤلاء الناس الذين بقوا هنا ولم يخافوا من المدافع والدبابات، هل سيخيفهم إطلاق رصاصاتنا في الهواء؟

 

وقال آخر: إن لم تُخِفهم الطلقات الهوائية سنطلق النار قرب أقدامهم.

 

ردّ عليه الجميع: كلا، هذا العمل ليس صائبًا.

 

كانت الساعة حوالي العاشرة صباحًا حين توجهنا إلى هناك بشاحنة "بيك آب". منطقة مولوي هي من الأحياء القديمة والمستضعفة. وهي شارع رئيس طويل يتشعّب منه الكثير من الأزقّة الفرعية والضيّقة وينتهي ببساتين النخيل المتصلة بالمرفأ والجمرك. كان يعجّ بالسكان وخاصة لوجود سوق قديم ذي محلات مكتظة على الجانبين وبضائع الباعة المتجولين المفروشة دومًا على الأرض، هذا الازدحام كان يزيد الحيّ اكتظاظًا وشعبية. سُمّي ذلك السوق "بازار الشيطان"!

 

يوجد في آخر الشارع المتصل بالسكك الحديدية بستان نخيل يُقال

 

144

 


128

الفصل الخامس والعشرون

إنه كان كبيرًا وقديمًا جدًّا، لكن بسبب مشروع توسيع الجمرك تمّ قضم أجزاء منه. وصار الناس هناك يزرعون في فناء بيوتهم الخضار والبامية والبندورة ليبيعوها لاحقًا في السوق.

 

حين توقف السائق، وكما كان يوصينا سابقًا، قال: لا يتفرّق بعضكم عن بعض وامشوا معًا كمجموعة بحذر واحتياط.

 

انقسمنا إلى مجموعتين؛ مجموعة في آخر الشارع، ومجموعتنا في أوّله. بدأنا بالتجوال والبحث، كنا نطرق أبواب البيوت واحدًا تلو الآخر.

 

وجدنا أكثر البيوت خالية. كان الشباب يلقون نظرة من فوق حائط الفناء الذي لا يفتح بابه أحد للتأكد من خلوّ المنزل من سكانه. أحيانًا كان يفتح شخص باب داره ويقول: لم يبقَ أحد في هذا الزاروب، أو أنّ العائلة الفلانية قد رحلت منذ أيام، أو أنّ المنزل الفلاني قد أُخلي من أول أيام الحرب.

 

كنا نقول لهم: اخرجوا من المنزل. كانوا يرفضون ذلك ويقولون: لا نريد ترك بيوتنا. حين أردنا نقلهم بالسيارات، أخذوا يبكون ويلعنون صدام باللغة العربية. فحاولنا إقناعهم: نحن مثلكم عرب، ولكن وجودكم هنا لا فائدة منه، ولن يزيد سوى في عدد الضحايا والأسرى. إن بقيتم هنا فماذا ستفعلون؟ لا تملكون أي وسيلة للدفاع في وجه العدو.

 

بعد أن قطعنا بعض الأزقة، توصّلنا إلى هذه النتيجة: إنّ بقاء عدد من الناس هنا هو بسبب مواشيهم! فالأبقار والجواميس والأغنام رؤوس أموالهم في هذه الحياة. حين كانوا يصعدون في السيارة كانوا يتوسلون إلينا: دعونا نحضر مواشينا معنا. ونحن نجيبهم: نأسف لذلك، فإنّ

 

 

145


129

الفصل الخامس والعشرون

السيارات لا تكفي لنقل الناس، والجسر تحت مرمى نيران العدو الذي لا يسمح لكم بالعبور إلّا بشق الأنفس. سوف تنتقلون بالمراكب، وهي أيضًا لا تتّسع للمواشي. حتى إن صعدت الحيوانات إلى المراكب فإنها ستخاف وتهيج فتنقلب المراكب وتؤذي الناس.

 

قال لنا بعض الأهالي: خذوا هذه المواشي إلى المسجد واذبحوها وأعدّوا لحمها طعامًا للمقاتلين، إن بقيت هنا فإنها إما ستموت بقصف الراجمات أو سيأخذها البعثيّون، وهذا ما لا نريده.

 

في أحد الأزقّة، كان الباب مفتوحًا قليلًا. طرقتُه وقلت يا الله. ناديت مرات عدة بالعربية وبالفارسية: هل أصحاب الدار هنا؟ لم يجب أحد. نظرت قليلًا إلى الداخل؛ كان هناك امرأة شابة تغسل الصحون قرب الحوض وأخرى متوسطة العمر تشعل التنور وكأنها تريد إعداد الخبز. ما إن لمحتاني حتى ركضتا إلى إحدى الغرف الملاصقة للفناء.

 

دخلت الفناء وناديت مجدّدًا: يا أصحاب الدار يا أصحاب الدار!

 

جاءني صوت من الداخل: ماذا تريدون؟ دعونا وشأننا لا نريد الرحيل من هنا.

 

دنوت من تلك الغرفة، اقتربت من الباب وقلت: هل تسمحون لي بالدخول؟"، ووقفت خارجًا إلى أن سمعت ذلك الصوت مجدّدًا: تفضلي تفضلي.

 

طرقت الباب. كانت الغرفة حالكة الظلام وعندما فتحت الباب، انتشر النور في أرجائها. لم أكن أستطيع الرؤية جيّدًا وتمييز الأشكال في داخلها. الغرفة مبنيّة من الطين والتبن، تفوح منها رائحة الرطوبة، وقد فُرشت

 

 

146

 


130

الفصل الخامس والعشرون

ببساط ملوّن على الأرض وتخت قديم وبعض الوسائل المستهلكة. وقد تمّ إلصاق النايلون بالسقف كي لا يدلف الماء إلى الداخل. حين اعتادت عيناي على الظلام قلت: هل تعلمون أي خطر ستتعرضون له إن بقيتم أحياء؟ ألا ترون القذائف تسقط علينا من البرّ والجوّ؟ لماذا تفعلون هذا؟ لماذا تفرّون منّا؟ نحن لم نأتِ إلى هنا لنخرجكم من بيوتكم بالقوة، نحن نطلب منكم الذهاب؛ لأنّ المكان غير آمن، صدام لا يميّز بين العرب والعجم، إنهم يكذبون عليكم حين يقولون إنهم لن يتعرضوا للعرب بسوء.

 

قالت إحداهما: أصلًا نحن لا شأن لنا بصدام. فليذهب إلى الجحيم. نحن لا نريد ترك بيوتنا، نحب أن نبقى هنا ونعيش حياتنا.

- وهل يمكنكم أن تعيشوا حياتكم؟ لن يسمحوا لكم بهذا؟ إن بقيتم هنا فستُقتلون. أهذه هي الحياة؟

 

تكلّمتُ وتكلّمت حتى جفّ حلقي. رغم هذا قالتا: نحن لا نستطيع الخروج الآن. رجالنا ليسوا هنا، إن جاؤوا فسنرحل، وإلا فنحن باقون.

- وأين هم رجالكم؟

- خرجوا إلى أعمالهم.

- نحن سنعود عند الظهر، وإن لم يتمّ الأمر سنعود بعد الظهر. انقلا ما قلته لكما إلى الرجال وجهّزا كل ما تريدان أخذه معكما واستعدّا لإخلاء المنزل إلى حين عودتنا.

 

عند خروجي، شاهدت اثنين من الشباب واقفين في آخر الشارع يهدّدان رجلًا عجوزًا ضامر الجسم بالسلاح. اقتربت منهما؛ كان أحدهما يقول للعجوز: إما أن تأتي معنا أو أطلق عليك النار!

 

147

 


131

الفصل الخامس والعشرون

فقال الرجل: أطلق النار هيا! أنتم صرتم مثل صدام. في نهاية الأمر سوف أموت؛ أطلق الرصاص، عليّ أن أموت في بيتي.

 

احترق قلبي عند سماعي كلماته. قلت للشباب: لماذا تفعلون هذا؟ لماذا ترتكبون هذه المعصية؟ هؤلاء الناس متعلّقون بأرضهم وبيوتهم وحياتهم هنا. إنهم ينتمون إلى هذا التراب وهذا الماء. لماذا تستخدمون العنف؟ تعالوا نتكلم معه لنقنعه.

 

قال أحدهما: والله إننا نتكلم معه لمصلحته. ثم التفت إلى الرجل العجوز وقال: يا حاج لا تغضب منّا، الحق عليك لأنّك لا تسمع كلامنا.

 

قلت له: يا أبي العزيز، إن قُتلت هنا هل ستستفيد أو تفيد الآخرين؟ أليس هذا انتحارًا؟ إن بقيت هنا فإما أن تموت وإما أن تقع في الأسر. لماذا تدع الأمور تصل إلى تلك المرحلة؟ تفضل واخرج من المدينة، وإن شاء الله عندما ندحر العدو سترجعون كلكم إلى حياتكم ودياركم بأمن وأمان.

 

نظر العجوز إليّ نظرة عميقة وقال لي: أنتِ لم تكوني يومها، حين احتلّ الإنكليز هذه المدينة. والآن جاء هؤلاء البعثيون بأمر الإنكليز وتحريضهم ليأخذوا منا "خرّمشهر" مرة أخرى. يريدون أن يكرّروا حكاية الشيخ "خزعلي" مجدّدًا.

 

قلت: كلا، إن شاء الله لن يحصل هذا الأمر. كان هذا في زمان الشاه، والشاه نفسه كان خادم الإنكليز والأمريكيين. لقد ولّى ذلك الزمان.

 

تابع "حسين عبدي" الذي كان قد وصل للتوّ الكلام مع الرجل وإقناعه بلطف ومحبة، حتى استطعنا إقناعه بترك المنطقة. لم يكن ذلك الرجل العجوز يعرف كيف ينسلخ من منزله المتواضع. صار يروح ويجيء، هنا

 

 

148


132

الفصل الخامس والعشرون

وهناك في فناء الدار، كان قد بنى بأعمدة الخشب والبراميل المعدنية جدران الفناء، وقف يرمق بيته قائلًا: كيف أقوى على الرحيل؟ لقد بنيت هذا البيت بيدي وعرق جبيني. كان ذلك البيت الطيني قديمًا يكاد يهوي أرضًا، والألواح الخشبية قد نفذت من السقف على مرّ السنوات المتمادية، أما أرض الفناء فهي ترابية وتضمّ بضع نخلات وشجيرات ونباتات زرعت بشكل عشوائي، وقد شُقّ مجرى مياه الخدمة من الحوض إلى الخارج. كان العجوز قد بنى إسطبلًا ملاصقًا لمدخل البيت، من الواضح أنه لتربية الأبقار، فالتبن المكوّم ورائحة السواد يدلّان على ذلك. شابهت هيئة العجوز بيته إلى حدٍّ كبير؛ فدشداشته بيضاء مهترئة يرتدي فوقها سترة كانت كحلية اللون في يوم من الأيام. يضع كوفية بيضاء على رأسه، وخفّه الممزّق يُظهر أقدامه السوداء المحترقة من الكدّ والحرّ.

 

لقد أثار هذا العجوز إعجابي. فهو رغم معاناته من هذا الفقر المدقع لديه هذه النخوة والشهامة وإرادة الصمود من جهة، ومن جهة أخرى يحلّل أبعاد هذه الحرب بعمق وبصيرة بمقدار ما لديه من اطلاع وتجربة. دققت النظر في وجهه الحزين؛ بدت آثار تعب السنين تحفر أخاديدها عليه. كان واحدًا من أولئك الكادحين الذين أمضوا عمرهم بتعب سواعدهم وصبرهم وجدّهم.

 

بعد قليل، حصل ما أزعجني كثيرًا. وصلنا إلى بيت فيه عدة أُسر وأولاد وأحفاد. كلهم كانوا يرفضون المغادرة. تناقشنا معهم كثيرًا حتى استطعنا إقناع الأبناء بوجوب إخلاء المنزل. أشرت إلى السائق كي يتقدم، خرج الأبناء ونساؤهم وأطفالهم مع أغراضهم إلى جانب الشاحنة. ولكن مهما حاولنا لم نستطع إخراج الرجل العجوز وزوجته من المنزل. لم ترضَ

 

149

 


133

الفصل الخامس والعشرون

الزوجة العجوز التي يظهر بوضوح تعلّقها بزوجها، أن تتركه وترحل من دونه. كان الرجل يقول: ارحلي أنتِ مع الأولاد ولا تقلقي عليّ.

 

كانت تبكي بشدة. احمرّت بشرة وجهها اللطيف من شدة البكاء. قال الرجل: لا تبكي، لماذا تبكين؟ أنا سألحق بكم فيما بعد.

 

كان حزن العجوز يزداد أكثر لسماعها هذا الكلام. عانقتُها وقبّلتُها. صرت أواسيها وأقول لها ألّا تقلق على زوجها وأن ترحل الآن مع أولادها. قالت لي باللغة العربية: وكيف أتركه وأذهب؟ أنا كل شيء في حياته، أعدّ له الخبز وأطهو له الطعام، إنّه يحبّ السمك كثيرًا، من سيعدّ له السمك في غيابي؟

 

قلت لها: يا أمي العزيزة، إن لم يأكل سمكًا في هذه الأوضاع فلا ضير في ذلك! أساسًا أين السمك الآن؟!

 

تكلّم الرجل كثيرًا مع زوجته وأرسلها مع الأولاد. بقي هو من أجل الاعتناء ببقرتين! كانت المرأة العجوز تروح وتجيء على استحياء، تنظر إلى الأمام وإلى الوراء من دون أن تقوى على الرحيل. تقبّل ابنها الصغير العازب الذي قرّر البقاء مع والده، وتوصيه به: انتبه لأبيك. أعطِه الدواء بانتظام وعلى الوقت. لا تجُل هنا وهناك فتنزل عليك الراجمات، ابقَ مع والدك دومًا.

 

كذلك جاء الأحفاد وزوجات الأبناء يقبّلون يد الرجل وقدمه، وهو راح يلاطفهم ويقبّل رؤوسهم. كانت الزوجات يتوسّلن إليه ويقلن بإصرار: تعال معنا يا عماه، اترك هذه الأبقار الآن.

 

لوهلةٍ، تأثر العجوز عند سماع هذه الكلمات وقال بحدّة: أنتم لا

 

150


134

الفصل الخامس والعشرون

تدركون أنّ كل عمري وحياتي من هذه الأبقار، كيف أتركها؟ أليست هي التي تعطيكم الحليب واللبن؟ ألم تأكلوا من خيرها؟ ألم تكن تؤمّن لكم كل معاشكم؟

 

تحلّق الأبناء وزوجاتهم حوله مجدّدًا قائلين: انتبه لنفسك!

 

كلّما اقتربنا من آخر منطقة مولوي، كانت الأزقة تفقد روحها وحيويتها أكثر فأكثر. تهدّمت جدران عدد من البيوت. رأيت ملابس أطفال ملونة منشورة على حبل غسيل فتذكرت سعيد وزينب وحسن وتحرّق قلبي شوقًا إلى رؤيتهم. وجدت دميةً صغيرة بين الركام، أحسست أنها تنظر إليّ بعينيها الزرقاوين بشكل غريب.

 

كأنّ الحياة هنا قد انتهت، وقد غطّى تراب الموت كل شيء. كنا نتوقع الاشتباك مع العراقيين أو الوقوع في كمينهم لحظةً تلو أخرى. الرياح تهبّ في الشوارع الترابية الخالية فتحمل معها الأوساخ وتنشرها في الأطراف. كان يسود الصمت أحيانًا ثم تصفر الريح كعواء الذئاب محدثةً أجواءً وهمية ترعب الإنسان. أعادني هذا الصمت بالذكرى إلى نهارات الصيف الحارة والطويلة في سنواتنا الماضية. كان الجميع ينامون بعد الغداء مقابل المكيّف أو تحت المراوح المعلّقة بالأسقف، لكنّنا لم نمتلك أي وسيلة للتبريد. في بعض الأيام، حين كان يشتدّ الحر ويجفّ الطقس، كان أبي يضع التبن في وعاء كبير يبلّله بالماء، ثم يضعه أمام المروحة الصغيرة كي تحمل إلينا النسيم الرطب. وفي أحيان أخرى، يبلّل قطعة قماش بالماء ثم يضعها على المروحة. لكن القماش كان يجفّ بسرعة ولا يفي بالغرض. أما أنا فلم أعتد على النوم بعد الظهر، كنت أتسلّل بهدوء وأطلّ من الباب أمام الدار. في ذلك الحر الشديد، حيث تختبئ الطيور

 

151

 


135

الفصل الخامس والعشرون

في أعشاشها، يخيفني الصمت السائد في الخارج من الشوارع الخالية فأغلق الباب بسرعة. كانت "دا" تحذّرنا من اللصوص الذين يجولون في الشوارع الخالية؛ هذا الجوّ راح يتكرّر اليوم. لم أعرف كم مضى من الوقت ونحن نجول. تعب الشباب كثيرًا. حين عادت الشاحنة التي كانت تنقل الناس منذ الصباح، ركبنا فيها وذهبنا إلى المسجد.

 

لا أذكر بم كنت مشغولة هناك حين سمعت صوتًا مرتفعًا. التفتّ ناحية الصوت فإذا بفتًى نحيل أمام المسجد، يرفع صوته عاليًا محاولًا التأثير على الآخرين بقوله: الشباب في الخطوط الأمامية منهكون من العطش. إنهم يشربون المياه الآسنة. يجب أن توصلوا المياه لخطّ التماس.

 

تقدمت نحوه، شعرت أنّ وجهه مألوف. ركّزت كثيرًا لأتذكّر من هو وأين رأيته سابقًا. سألت نفسي: من أين يعرف هذا الفتى أنّ خطوط التماس لا ماء فيها؟!

 

فجأةً تذكرت: إنه "بهنام محمدي" من أقارب "عمو شنبه". كان كلما أتى لزيارتهم تسبقه مشاغباته وألاعيبه الصبيانية. كان يصعد أحيانًا على سطح منزلنا ويلاعب الكلب الذي كنا نربطه هناك. تعجّبت كثيرًا، فقد صار نحيفًا جدًّا وبدا مرهقًا. قد أصابت الشمس بشرته بحروق وجعّدت شعره الطويل. سألته: ماذا تفعل هنا يا بهنام؟

 

لم ينظر إليّ ولم يُجب، كأنه لم يعرفني. قلت له: ألا تذكر حين كنت تأتي إلى منزل "عمو شنبه" كنت تصعد إلى سطح بيتنا وتزعجنا بشغبك؟

 

ضحك وتذكرني. قال: ماذا حصل لكلبكم؟

- لا شيء، لا شك في أنه مهجّر مثلنا.. ما القصة؟ ماذا كنت تقول؟ هل تذهب إلى خط التماس؟

 

152

 


136

الفصل الخامس والعشرون

أجاب بانزعاج واضح: نعم، أنا أذهب مع الشباب المدافعين إلى الجبهة. منذ أيام، حوصرنا ولم نتمكّن من كسر الحصار من الصباح حتى المساء. كان الشباب يقولون لي: أنت صغير نحيل الجسد وذكي، اذهب وابحث عن ماء. تسلّلت ووجدت ماءً بشقّ الأنفس، لكنّه كان وسخًا. اضطررت إلى إحضار ذلك الماء. شرب الشباب بكل فرح حتى ارتووا. لكنهم بعد ذلك أصيبوا بالغثيان واستفرغوا. عند الغروب تمكنّا من فكّ الحصار والانسحاب من كمينهم، لكننا كدنا نموت عطشًا. بحثنا وفتّشنا في كل مكان حتى وجدنا ماء في حوض مسجد قديم. لكن أيّ ماء كان! كان قد بقي راكدًا لأيام حتى تجمّع عليه الخزّ وأعشاب الطحالب. أزلناها بأيدينا ووضعنا رؤوسنا في الحوض وشربنا من ذلك الماء الحار الآسن. أصبنا جميعنا بالغثيان واستفرغنا مجدّدًا. لكن لم يرتوِ عطشنا فعدنا وشربنا من ماء ذلك الحوض.

 

انزعجت وتأثرت كثيرًا. قلت له: لا بأس. سأتابع ما بوسعي وأقول لهم أن يوصلوا المياه إلى خطوط التماس. بعد ذلك، حاولنا أن نأخذ معنا غالونات المياه الكبيرة أنّى اتجهنا، ونعبّئها من شاطئ النهر. صحيح أنّ مياه النهر كانت ملوّثة بطبقة من النفط والكاز على وجهها. لكنها تبقى أفضل بقليل من الماء الآسن المتعفّن.

 

153

 


137

الفصل السادس والعشرون

الفصل السادس والعشرون

 

بعد شهادة أبي لم يعد العمل في جنت آباد بالنسبة إليّ أولوية كما في السابق. فقد قلّ عدد الشهداء، وكذلك فإنّ الحفاظ على حياة الجرحى أحياءً كان بالتأكيد أكثر أهمية. ومع هذا، بقيت أساعد هناك إن أحضروا جثة خلال زيارتي المقبرة. مع أنّ مأساة فقدان علي وأبي قد أضعفت تحمّلي وصبري على هذا العمل. لم أعد أطيق البقاء في المغسل. في الأيام الماضية، كنت أدخل إليه صباحًا ولا أخرج منه إلّا عند سماع صوت الأذان. أما الآن فلا رغبة لي في ذلك ولا طاقة لي عليه، وباتت رؤية الوجوه والأجساد المتحلّلة أو سماع صوت القصف أمورًا تنهكني. صُدمت برؤية مشاهد واقعية، كان مجرد تخيّلها يؤذي الذهن والأعصاب معًا؛ شظية في بطن طفل أخرجت أمعاءه منها؛ امرأة أخرجت الشظايا كليتها فضلًا عن أمعائها. أحد الضحايا كان وضعه مأساويًّا لدرجة أردت معها الفرار. كان جسده مهشّمًا بالكامل لدرجة لا يمكن فيها تحديد أي ملامح له أو تكهّن عمره، كأنّ القذيفة قد انفجرت مباشرة فوق رأسه، لم يسلم أي قسم في جثته. لم يُغسّل، بل أجروا عليه حكم التيمّم والتكفين فقط. بعد ذلك نزفت الجثة حتى ابتلّ الكفن كله بالدماء. قالوا: ضعوه جانبًا حتى تجفّ الدماء ثم نعود فنكفّنه مجدّدًا.

 

155

 


138

الفصل السادس والعشرون

احترق قلبي عليه لدى رؤيته، ولكنّي لم أقترب منه. صرت أحدّثه قائلة: "لماذا استشهدت؟ لماذا بقيت هنا ونزل بك هذا البلاء؟ ألم يكن أفضل لك لو أنّك رحلت؟ ولكن إلى أين تذهب؟ إلى حيث تطالك يد الأجل ولا مفرّ لك من ذلك! جيّد أنك استشهدت هنا ودُفنت شهيدًا". ثم بدأ الغضب يغلي في عروقي، وصرخت في داخلي: لعنك الله يا صدام. قتلك الله شرّ قتلة. أصلًا لماذا يجب أن تقع الحرب؟ لماذا أنا هنا الآن؟ إلى متى يجب أن أتحمّل؟ إلى متى يجب أن أرى هذه المشاهد؟ فجأةً، أحسست بحرارة شديدة في وجهي وأذنيّ. تركتُ قدميّ تلك الجثّة التي كنت أسحبها من مكانها، وبدأت أبكي بشدة. قلت: لقد تعبت. لن آتي بعد اليوم إلى هذا المغسل اللعين، لن أضع قدمي هنا بعد الآن.

 

ضربتُ الباب بقوة وخرجت من المغسل. تبعتني زينب، لكنّي ركضت وركضت لأصل إلى أي مكان أرتاح فيه من هذا الوضع. وصلت زينب إليّ وأمسكت بيدي. حاولتُ أن أفلت يدي من يديها لكنّها لم تسمح بذلك. عانقتني وقبلتني، وبينما هي تمسح على رأسي بحنان قالت: معكِ حق، لقد تعبتِ. نحن كلنا تعبنا ومللنا. أي شخص مكانك كان سيُصاب بأكثر من هذا. ولكن يا حبيبتي زهراء ماذا نفعل؟ إن شئتِ لا تأتي بعد الآن إلى هنا ولا تعملي في جنت آباد.

 

صمتتْ قليلًا وتابعت: أنا أعرف أنك لا تتحملين هذا وستعودين ثانيةً إلى هنا، ولكن من الجيّد أن تستريحي بضعة أيام.

 

أجبتها وأنا أجهش بالبكاء: كلا، هل يمكن أن لا آتي إلى جنت آباد؟!

- طيب، ماذا يمكنني أن أفعل لأجلك؟

 

156

 


139

الفصل السادس والعشرون

جعلني تصرّف زينب أخجل من نفسي. عاهدت نفسي يومها أن أضبط مشاعري ولكن لم أستطع الوفاء بذلك! أظنّه كان اليوم العشرين من مهر، حيث فقدت أعصابي في المغسل وثارت ثائرتي مجدّدًا، رميت الضمادات والكفن الذي كان بيدي أرضًا. ركضت إلى الخارج، هذه المرة أيضًا لحقت بي زينب ولكنها لم تستطع الوصول إليّ. ركضت وركضت حتى تقطّعت أنفاسي وتوقّفت. حين هدأت قليلًا قلت لنفسي: "أيتها المسكينة، ممّ تفرّين؟ من نفسك؟ من الشهداء؟"؛ وعادت دموعي لتنهمر مجدّدًا.

 

رحت أسير باكيةً. حين فتحت عيني، وجدت نفسي قد وصلت إلى أمام مدخل بيتنا. فتحت الباب ودخلت. شعرت بكل وجودي أنّ أبي وعلي موجودان وأني سأهدأ وأفرح برؤيتهما. سأعانقهما وأقبّلهما الآن وأصرّ عليهما أن يأخذاني معهما، لكن كل آمالي انهارت عندما وصلت إلى باحة المنزل؛ ووجدته خاليًا منهما، فلم أرغب في دخول البيت. نظرت إلى الغرفة والصالة من النافذة. كل شيء كان في مكانه، ولكن قد غطت طبقة سميكة من التراب كل أغراض المنزل. حين شاهدت أثاث المنزل، تذكرت تلك الأيام التي كنت أسحب فيها السجاد والمفروشات إلى الخارج، أشدّها بصعوبة وأضربها بالعصا لأنفض عنها الغبار والرمل. كنت أحرص على أن يكون كل شيء في البيت نظيفًا ومرتّبًا. فيما بعد، حين كان يعجّ البيت بالضيوف والأصوات فلا يكاد يسمع أحد شيئًا، كانت البهجة تغمرني فأنسى كل تعبي.

 

تقدمت نحو حديقتنا الصغيرة. وجدت الورود والنباتات قد يبست، حتى "الفرفحين" احترقت من العطش. فجأة خطرت في ذهني مظلومية دا. لم أكن أعلم أين هي الآن وماذا حلّ بها، هذا الشعور زاد إرهاقي

 

157

 


140

الفصل السادس والعشرون

وحزني. بقيت واقفة جامدة في الفناء حوالي عشرين دقيقة، لكني لم أستطع التحمل أكثر. لما خرجت كانت الشوارع خالية وحتى السماء خلت من الطيور. بدأ الظلام يحلّ واكتست الأشياء لونًا أحمر قانيًا يؤذن باقتراب المغيب. مررت في حي جدّي، واختلست النظر إلى بيته. اشتاق قلبي كثيرًا له ولعمتي "مي مي".

 

كنت متعبة فلم أرغب في المرور من شارع "أردبيهشت" للوصول إلى المسجد الجامع؛ لتقصير المسير، عبرت طريقًا مختصرة من بستان النخل وراء مطحنة القمح كي أصل إلى مفرق محلات بيع الورود "محمدي" في شارع الأربعين مترًا. حين تقدمت قليلًا، سمعت أصوات وشوشات في صمت بستان النخيل. كدت أموت رعبًا. أنصتّ بدقة لأسمع. لم أفهم ما كانوا يقولون ولكن بدا أنّ عدة أشخاص كانوا يتحدثون بصوت منخفض. حاولت التغلّب على مخاوفي. قلت في نفسي: أنتِ تتخيّلين.. إنها أوهام فحسب. ثم بدأت أركض وأنا على هذه الحال.

 

بعد قليل رأيت ملابس عسكرية عراقية على الأرض أمام إحدى النخلات. كنت متأكدة من أنها ملابس الجيش العراقي، لأنّ لونها أخضر غامق. كان الشباب يقولون إنّ هذه البدلات إسرائيلية. وقد سبق وسمعت كيف أنّ النفوذيين العراقيين يتسلّلون إلى المدينة، يغيرون ملابسهم العسكرية في بساتين النخل ويرتدون ملابس محلّية ودشداشات ويجولون في المدينة لجمع المعلومات.

 

عند رؤيتي لهذه الملابس، تأكّدت من أني لم أكن أتوهم وأني سمعت حقًّا تلك الوشوشات. لا شك في أنهم اختبأوا عند رؤيتي وصاروا يتحدثون بصوت منخفض. مرّ في خاطري أنّهم الآن ينسّقون فيما بينهم ويحاصرونني

 

 

158


141

الفصل السادس والعشرون

بكلّ أسلحتهم وقواتهم.

 

أرعبتني هذه الفكرة لدرجة لم أكن قد اختبرتها قبل ذلك الموقف. أردت أن أهرب، أحسست أنّ قدميّ ثقيلتان وقد تسمّرتا بالأرض. أخرجت إحدى القنبلتين من جيبي وحملتها استعدادًا لأسحب الصاعق بمجرّد أن ألمح أحدًا منهم. بدأت بالركض وذكر الصلوات على محمد وآل محمد. كنت أركض كمن يلحق به ذئب مفترس. غيّرت رأيي عن الطريق المختصرة بين النخل، حتى عندما وصلت إلى شارع "أردبيهشت" لم أتوقف عن الركض، بل تابعت الركض بنفس واحد حتى المسجد. وخوفًا من كلام الشباب أو لومهم لي، لم أنبس ببنت شفة وسكتّ عن الموضوع. إن عرف أهل المسجد بهذا فسيكررون كلامهم وعتابهم بأنك كالعادة عرّضت نفسك للخطر بسبب عنادك.

 

159

 


142

الفصل السابع والعشرون

الفصل السابع والعشرون

 

في الأيام الأخيرة، انتابتني حال خاصة. وقتها غفلتُ عن نفسي ولم أعد أراها أصلًا. أينما ذهبت ومهما فعلت لم أكن أرى سوى أبي وعلي. كان وجه علي حاضرًا دومًا أمامي. لا أدري لعلّ السبب أنه آخر من استشهد وفُجعت به. أصبحت أشتاق وأحنّ إليه دومًا. لم أعد أرغب في الأكل ولا في الاستراحة. لم يعد يهمني أي شيء. كنت أقوم بعملي وأمشي في الطريق بشكل روتيني كالآلة، وفي ذهني أتكلم معهما باستمرار، وأتصوّر أنهما يجيباني ويبادلاني أطراف الحديث. كنت أشعر حتى بوقع أقدامهما واقتراب خطواتهما.

 

اشتدّ حزني وغضبي أكثر عندما راحت معالم المدينة تتبدّل إلى ساحة حرب ودمار ومعارك. كانت الظروف تصعب وتسوء لحظة بلحظة. كلما ابتعدنا عن المسجد خلت الأحياء من سكانها، وأينما توجهنا رأينا آثار الدمار والخراب. قلّما وجدنا بيتًا لم يتهدّم أو لم تصبه القذائف. سيارات الناس المركونة إلى جانب الطريق بسبب فقدان البنزين علاها التراب والردم هذا إن نجت من الاحتراق. بدا سلوك الحيوانات التي رأيناها هنا وهناك بشكل متفرّق عجيبًا ولافتًا للنظر أيضًا. في السابق، حين كانت ترى إنسانًا تندفع نحوه وتحاول الاحتماء به، ولكنها الآن تهرب

 

161


143

الفصل السابع والعشرون

عند رؤية الإنسان وكأنها خائفة مستوحشة من كل شيء. غدت جيف الحيوانات ملقاة على أطراف الطرق، فيما عصفت الرياح وحملت معها أشواكًا لتنشرها في الأحياء والشوارع. كل شيء هنا كان يوحي بكابوس مدينة منكوبة على وشك السقوط.

 

أصبحت طائرات العدو الحربية تحلّق براحة على ارتفاع منخفض. فلا أثر لبضعة مضادات أرضية كانت تعمل قبل أيام؛ لذا، ناور طيّارو العدو بسهولة فوق الشوارع مخترقين جدار الصوت، حتى إن لم يقصفوا، كان صوت الغارات كافيًا لتكسير ما تبقّى من زجاج. جدار الصوت وحده أصابنا بصداع شديد.

 

قلّ عدد الفتيات في العيادة. لم يبقَ سوى "زهرة فرهادي وصباح وطن خواه ومريم أمجدي وبلقيس ملكيان ومهرانكير دريانورد" وأنا. لم نعد نجرؤ على التجوال في الكثير من المناطق والأحياء. حتى منطقة "طالقاني" التي كنت أعرفها جيدًا صارت موحشة مخيفة لي. لم يكن يكسر الصمت المريب سوى قصف مدافع العدو. صرت أذهب إلى جنت آباد خائفة أترقب! أحتمل في كل لحظة أن أقع في كمين العراقيين. كنت قلقة جدًّا على ليلى والسيّدة زينب. خاصة أنّ الإخوة يتناقلون هذه الأيام أحاديث عن أسر عدد من أهالي منطقة "طالقاني" و"قزلي"، وفي منطقة "هيزان"[1] كيف تمّ اغتصاب النساء أمام أعين الآباء والإخوة، ثم قتلوا الرجال وتركوا الضحايا على تلك الحال المفجعة. قيل إنه عند وصول قواتنا إلى هناك، كانت المتعرّضات لهذه الجريمة يبكين ويرجونهنّ


 


[1]  تفاصيل هذه الجريمة ذكرت بالتفصيل عن لسان خالد سلمان محمود كاظمي، المقدّم في أركان الجيش العراقي. في ص67 من كتاب آتش وخون در خرمشهر"النار والدماء في خرمشهر" من إصدار "سوره مهر" (طهران).

 

162


144

الفصل السابع والعشرون

بتوسّل أن يطلقوا النار عليهنّ ويقتلوهنّ كي يتخلّصن من هذا العار.

 

عندما سمعت هذه الأخبار، بقيت ليومين أو ثلاثة عاجزة عن الكلام. أُصبت بصدمة ولم أجرؤ حتى على تصوّر نفسي محلّ تلك النسوة. كدت أموت غصّة وحرقة كيف كان هؤلاء الناس بسطاء وسذّجًا، وصدّقوا أنّ البعثيين عندما يأتون سيتركونهم وشأنهم. كيف ارتكبوا تلك الحماقة وبقوا هناك. في لحظة، خفت كثيرًا على نفسي وعلى ليلى، لكني عدت فقلت: ألم نكن نعرف هذه الأشياء منذ البداية؟ والحال أنّ هذه الحادثة قد وقعت في اليوم الثامن من الحرب ونحن سمعنا بها الآن. عندما تعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام، أدرك جيدًا سبب تعامل الرجال معنا بتلك القسوة والشدة كي نترك المدينة ونرحل، لم يقولوا لنا شيئًا حول هذا الموضوع، ولكن كانوا يصرّون علينا كي لا نبقى هناك. قلت في نفسي: ليس عبثًا إذًا كيف كانوا يقولون لنا بغضب وعصبية، حين نطلب منهم الذهاب معهم لإسعاف الجرحى على خطوط التماس: لم يمت الرجال بعد، حتى تذهبن أنتن إلى الخطوط الأمامية.

 

في المسجد، ذهب كل الرجال إلى خط التماس. إبراهيمي لم يعد هنا، انتقلت مهمة العلاقات العامة إلى الشباب في النقطة أمام المسجد. لم أعد أرى السيّد مصباح والبقية. كان الشيخ شريف يمضي أكثر أوقاته على خطوط القتال ويعمل بجدٍّ وجهد مضاعف. سمعنا أنّ ابنه قد جُرح ويعالج في المستشفى ومع هذا لم يتمكّن الشيخ من عيادته.

 

كنت أعرف الشيخ شريف بهدوئه وبشر وجهه الدائم، أما الآن فألاحظ غضبه وانزعاجه.

 

163

 


145

الفصل السابع والعشرون

على الرغم من محاولته المستمرة للمحافظة على الهدوء والتصرّف بشكل طبيعي، إلّا أنّ ملامح وجهه تحكي عن شدة الاشتباكات التي كان يخوضها على الجبهات. لباسه النظيف والمرتّب قد توحّل والتراب غطّى عمامته. لمحته مرات عدة باللباس العسكري.

 

كأنّه صار واضحًا للجميع أنّ مسألة الحرب جدّية جدًّا، وأنّ نظام البعث العراقي مع كل هذه التجهيزات والأسلحة والقوات لن يكتفي فقط باحتلال "خرّمشهر".

 

بات وضع المسجد الجامع أكثر حساسية ودقة. أغلب من يتردد إلى هنا هم من العسكريين. لا يزال بعض الأهالي الرافضين ترك المدينة يحتمون بالمسجد. هؤلاء رفضوا إخلاء المدينة ولم ينفع معهم لا ضغط شبابنا ولا قصف البعث ونيرانه القاتلة. لكن الحيدرية والعباسية فرغتا بالكامل من سكانهما. سمعت أنّ القصف المدفعي قد وصل إلى هناك أيضًا. توقف عمل الطبخ وإعداد أصناف المأكولات، فقد غادرت السيّدات اللواتي كنّ يقمن بهذا العمل. وبالأصل حتى لو مكثن بعد، ما عادت المواد الأولية متوافرة لإعداد الطعام. كل شيء وصل إلى حدّه الأدنى.

 

كنّا ندبّر وضعنا بالخبز والبطيخ، وفي أحسن الأحوال بالمعلبات التي كان المقاتلون يحضرونها معهم. أحيانًا لم نكن نملك سوى الخبز الناشف؛ كنا نبلّه بالماء ونأكله.

 

في نهاية المطاف، غادر مغسّلو الأموات في جنت آباد أيضًا. السيّدة مريم جاء صهرها المغوار وأخذها. لم يبقَ سوى السيّدة زينب. جنت آباد كذلك لم تسلم من القصف الوحشي. سقطت القذائف على عدد من

 

164

 


146

الفصل السابع والعشرون

القبور القديمة، بعضها تهدّم والآخر تشقّق، ووقع الكثير من شواهدها أرضًا. كنت أخشى دائمًا أن يحدث شيء لقبرَيْ أبي وعلي. فأمسيت أقتنص الفرص للاطمئنان إليهما ولو بنظرة عن بعد. تغيرت ملامح قبرَي أبي وعلي عن السابق، فلم يعد لهما ذلك الرونق الخاص. حين كنت أرشّ عليهما الماء سابقًا كان يفوح من التراب عطر خاص، ولكن الآن كل شيء تغيّر؛ لون التراب الأحمر جفّ وتشقّق وصار مائلًا إلى الأبيض. تجمّع الرمل فوق القبور. كنت كلما زرتها أكنس تلك الرمال وأعيد ترتيب شكل قبريهما.

 

كنت أنظر أيضًا إلى المكان الذي دفنت فيه ثياب علي، فقد خشيت أن ينبشها حيوان ما ويسحبها من قلب التراب.

 

165

 


147

الفصل الثامن والعشرون

الفصل الثامن والعشرون

 

تفاقمت الأوضاع وازدادت خطورتها وتقدّم العراقيون كثيرًا إلى حدّ أنّه انتفت الحاجة إلى مناشدة الإخوة ليأخذوني إلی الجبهة وبدأت مواقع المواجهات بالسقوط واحدًا تلو الآخر حتّى وصلتْ إلی مناطق أعمق داخل المدينة وحوّلتها إلی جبهات قتال. ونظرًا إلى تعذّر مرور السيّارات لنقل الجرحی، طُلب من المسعفين التوجّه إلی الجبهات لمن استطاع ذلك. أظنّ أنّ الدکتور "صادقي" هو الذي طلب ذلك من أجل إنقاذ أرواح الجرحی.

 

في ليلة ما قبل العشرين من مهر، وصل خبرٌ مفاده أنّ المواجهات محتدمة في منطقة المرفأ، وقد أحدثت عدّة جبهات، وأنّ هناك حاجة ملحّة لقوات الدعم. فعلی کلّ من يستطيع من الموجودين في العيادة التوجّه إلی "سنتاب".

 

في صباح العشرين من مهر، خرجنا إلی الباحة وجمعنا بعض صناديق الذخائر الخالية وملأناها بما تيسّر من المعدّات الطبّية؛ أشرطة لاصقة، ضمادات، مقصّ، إبرة حقن لوقف النزيف، حقن للتخدير، معقّمات وأنواع من المراهم والأدوية المسكّنة. كانت تلك الأدوية متوافرة لدينا

 

167

 


148

الفصل الثامن والعشرون

بعد أن أحضرتها الفرق، ولم نعد قلقين بشأن تلك المسألة. کما ملأنا صندوقين آخرين بالأسلحة ومخازنها وقذائف الـ"B7".

 

عندما وصلت الشاحنة وضعنا الصناديق فيها، ثمّ رکبتُ أنا وصباح والدکتور سعادت يرافقنا شابّان من الذين حضروا إلى العيادة مؤخّرًا لنقل الجرحى. ولئلاّ تخلو العيادة من طاقم طبّي معالِج لم يسمح السيّد نجّار للباقين بالذهاب. وكان في الشاحنة أفراد آخرون أيضًا. جلستُ وصباح قرب الباب وجلس الفتية في القسم الخلفي منها، أمّا الدكتور سعادت، فجلس بردائه الأبيض في الوسط على الصناديق مستندًا بيده إلى حافة الشاحنة.

 

انطلقنا، ولكي لا نكون تحت مرمى النيران سلك السائق طرقًا جانبيّة أكثر سهولة للوصول إلى المرفأ. عبرنا من قرب المسجد الجامع فشارع "40 متري" و"نقدي" ومستديرة "دروازة" وشارع مولوي إلى أن وصلنا إلى "البازار المنحوس"[1] بمشقّة بالغة بعد عبورنا عدة أزقة وبستان نخيل.

 

قبل أيام تعرّضت المدينة لقصف عنيف ومركّز، أحسست وكأنّه اليوم العاشر من الحرب، ذاك الذي اختُتم بقصف مدرسة "دريابد رسايي".

 

قرابة الساعة التاسعة ترجّلنا من الشاحنة وأنزلنا الصناديق في بساتين النخل. حملتُ جعبة مليئة بقذائف "B7" وأمسكت بطرف أحد صناديق الذخيرة. وقف أحد الفتية في الوسط وأمسك بإحدى يديه الطرف الآخر من صندوقي وبيده الأخرى طرف الصندوق الذي حمله الدكتور سعادت. كما وضعوا أشياء أخرى على الصندوق الوسطي، وحمل


 


[1]  عبّر بالفارسيّة بـ"شيطان بازار".

 

168


149

الفصل الثامن والعشرون

الآخرون الصناديق الأخرى.

 

لم يفصلنا عن سكّة الحديد الواقعة في نهاية شارع مولوي مسافة طويلة. تقدّمنا إلى هناك، كان رصاص القنص والقذائف من حولنا وعلى البيوت المحيطة بنا كثيفًا. اقتربنا من سكّة الحديد، وإذا ببعض المقاومين الكامنين في المحيط أطلّوا برؤوسهم سائلين: "إلى أين تذهبون؟".

- نريد أن نذهب بمحاذاة السكّة نحو باب "سنتاب".

- هذا غير ممكن، النيران غزيرة على هذا الطريق، وعبورها صعب.

- ما العمل إذًا؟

- إن أردتم الوصول إلى باب "سنتاب"، عليكم عبور سكّة الحديد ثمّ الزقاق الخلفي يليه أزقّة الناحية الأخرى، وإلّا فلا يمكنكم السير إلى الأمام. العراقيّون موجودون في الجمارك وقد تمترسوا هناك؛ ولذا استطاعوا أن يطلقوا علينا الرصاص بهذا الشكل.

- ماذا علينا أن نفعل الآن؟

- سنفتح النار عليهم، وعليكم أن تعبروا بسرعة. لا ترفعوا رؤوسكم وإلا أصابوكم.

 

كان مستوى سكّة الحديد وشارعها أعلى من مستوى السوق وشارع مولوي، لذا فقد كانا في مرمى نيران العراقيّين المباشرة. تقرّر أن يعبر هذا الجزء من الطريق كلّ شخصين على حدة. ولكي نتمكّن من حمل ما في الصناديق معنا قمنا بفتحها؛ وضعتُ على كتفيّ ثلاث بندقيات "G3"، وربطت على خصري حزامًا من الرصاص، وأمسكتُ بطرف صندوق

 

169

 


150

الفصل الثامن والعشرون

الأدوية. فقالوا لي: "لن تستطيعي الركض هكذا"!

- بلى، أستطيع.

 

ناء جسمي بما حملت إلّا أنّ كبريائي منعني من إظهار ذلك؛ إذ خشيتُ أن ينفد عتادنا عندما نصل إلى خطّ المواجهات فلا نتمكّن من الرجوع. أمّا الدكتور "سعادت" فحمل جعبتين من الرصاص وأمسك بالطرف المقابل للصندوق الذي أمسكته. كان عرض السكّة مع الشارع يقارب السبعة أمتار، وكان علينا أن نقطع هذه المسافة بسرعة فائقة ومحنيّي القامة. فإن أصابتنا رصاصة أو شظيّة ما مع ما نحمل من ذخيرة، لن يبقى منّا شيء غير الرماد!

 

أشاروا إلينا بالانطلاق؛ ركضتُ والدكتور "سعادت" في حين راح المقاومون خلفنا يطلقون الرصاص على العراقيين لكي يقطعوا عليهم فرصة إطلاق النار علينا من بوابات الجمارك التي تصل إليها سكّة الحديد والطريق المعبّدة. وصلتُ والدكتور إلى المنحدر الترابي المحاذي للطريق الإسفلتيّة ونحن نلتقط أنفاسنا، وكذا فعل الآخرون، ثمّ سرنا معًا نحو باحة ترابيّة تليها بيوت قرويّة من الطين وبستان نخيل.

 

شاهدنا على طرف أحد الأزقّة دشمةً يجلس فيها عسكري شابّ من الجيش وهو يتكلّم بواسطة جهاز لاسلكيّ وحوله عدد من الجنود وآخرون بلباس مدنيّ. اقتربنا منهم فرأيتُ على أرض الدشمة أجهزة لاسلكيّة أخرى وقد أخذ الجندي الشابّ يتكلّم كلّ دقيقة عبر أحدها. دقّقت النظر فعرفتُ أنّه جريح، وقد اصفرّ لون وجهه وأعياه التعب! وُضع تحت قدمه اليمنى الملفوفة بالضماد قالبٌ من الإسمنت ورُبطت

 

170


151

الفصل الثامن والعشرون

القدم بنعل بلاستيكيّة. وظهرت من الضماد أصابع قدمه المجروحة قاتمة اللون متورّمة!

 

قال الفتية: "إنّه الملازم أقارب برست".

 

ما إن وقع نظره عليّ وعلى صباح، وكنّا في مقدّمة المجموعة، حتّى صرخ فينا: "لماذا جئتما إلى هنا، وهل هذا المكان للّهو، العراقيّون هنا"!

 

ثمّ توجّه نحو الفتية قائلًا: "لماذا أحضرتم الفتاتين معكم؟ إلى أين تريدون الذهاب"؟

 

قالوا: "إلى باب سنتاب".

 

قال الدكتور "سعادت": "لقد طُلب منّا المجيء إلى هنا، فهم يريدون حضور مسعفين. ونحن بصفتنا مسعفين حضرنا للمساعدة".

- حسنًا يمكنكم الذهاب، لكن فلترجع هاتان الأختان.

 

عندما قال ذلك مشيرًا إليّ وإلى صباح قلت له: "لن نرجع، وهل أنت قائدنا لكي تأمرنا بالرجوع؟ لقد جئنا بأنفسنا ونعلم ماذا علينا أن نفعل".

- أختاه، يجب أن تنفّذي ما أقول، كيف تتصرّفين من تلقاء نفسك وتأتين إلى هذا المكان؟

- لم نتصرّف من تلقاء أنفسنا. إننا مسعفون، وقد طُلب منّا الحضور ففعلنا، ولا يحقّ لأحد أن يعيدنا!

 

خلال جدالنا ظهر أحد الصحفيّين من حيث لا أدري وقال لي ولصباح: "انتظرا لكي ألتقط لكما صورة".

 

قلت له وأنا مغتاظة جدًّا: "إليك عنّا يا هذا، وهل هذا وقت التقاط

 

171

 


152

الفصل الثامن والعشرون

الصور! عليك الآن أن تحمل بيدك بندقيّة"!

 

مرة أخرى أصرّ الملازم على منعنا أنا وصباح من مرافقة المجموعة، ما أثار حفيظتي فقلت: "لا يحقّ لأحد أن يسلبني هذه الفرصة، ومن يُرِدْ منعي سأطلق عليه النار ببندقيّتي هذه"!

 

ركّز المسكين نظره إليّ ثمّ إلى الآخرين قائلًا: "إن ذهبتما ستقعان في الأسر، فالعراقيّون في كلّ مكان".

- فليكن ذلك، عليّ أن أقوم بواجبي.

- ولكنّك ستُقتلين!

- هذا الاحتمال وارد أينما كنت في هذه المدينة، الفارق هو أننا هنا نواجه العدوّ ونقاومه، أمّا في غيره من الأماكن فإننا سنُقتل من دون أن يكون لدينا فرصة الدفاع عن أنفسنا.

 

قال الدكتور "سعادت": يا سيّد، لقد مرّ علينا الكثير من المصاعب. أمّا بالنسبة إلى هاتين الأختين فإنّهما لا تهابان شيئًا. إنّهما تعلمان كلّ شيء وقد حضرتا عن سابق تصوّر وتصميم.

 

أيّدتْ صباح كلام الدكتور، أمّا أنا فاستطردتُ قائلة: إنّنا على يقين من أنّ بانتظارنا إمّا الشهادة أو الأسر أو الجرح! ثمّ وضعت يدي على إحدى القنبلتين التي في جيبي وقلت: "لقد ادّخرت هاتين القنبلتين في جيبي ليوم أقع في أسر العدو"!

 

قال الملازم مستسلمًا: "أنتما أدرى بنفسيكما، لا أعلم ماذا يمكنني أن أقول أكثر ممّا قلت. ولكن على الأقلّ تريّثا قليلًا، فأنتما لا تعرفان مكان

 

172

 


153

الفصل الثامن والعشرون

وجود العراقيّين. ثمّة مجموعة تريد التوجّه نحو باب سنتاب، انتظرا لكي ترافقاها".

 

انتظرنا بعض الوقت ريثما تشكّلت المجموعة. سمعتُ من لسان بعض الجنود أنّ قائدهم "أقارب برست" رفض العودة رغم إصابته ووضعه المتدهور. اعتقدتُ أنّه سبق لي أن رأيت ذلك الشخص في مكان ما. شيئًا فشيئًا تذكّرت أنّي رأيت ذلك الشابّ البالغ من العمر حوالي ثلاثين عامًا أمام المسجد برفقة الرقيب "شريف نسب".

 

لم يطل انتظارنا حتّى خرجتْ مجموعة من المسلّحين من أحد البيوت القرويّة بشكل مفاجئ. كان بينهم جنود وأفراد من الحرس الثوري والقوى الشعبيّة من مختلف الفئات العمريّة. انضمّت إليهم مجموعتنا المؤلّفة من اثني عشر شخصًا. وقبيل الانطلاق تحدّث قائد المجموعة -وهو شاب من الحرس- إلى الملازم "أقارب برست". أنصتُّ جيّدًا لحديثهما لكنني لم أفهمه، فمعظمه كان مصطلحات عسكريّة. بعد ذلك توجّه القائد بخطابه إلى الجميع قائلًا: "ابتداءً من لحظة انطلاقنا على الجميع التزام السكوت والسير بصمت".

 

عند الانطلاق قال لنا "أقارب برست": "انتبها لنفسيكما أيّتها الأختان، حاولا أن لا تنفصلا عن الإخوة. سيرا وسط المجموعة لا في المقدّمة ولا في الخلف. ولا يحقّ لأيٍّ منكما أن تتحرّك بأي اتجاه من تلقاء نفسها".

 

ثمّ خاطب الإخوة: "اهتمّوا بهاتين الأختين، وأعيدوهما سالمتين معافتين إن شاء الله". ثمّ قال لي: "لستِ مضطرّة لأن تحملي كلّ هذه الأسلحة".

 

احتفظتُ ببندقيّة "G3" وأعطيتُ الباقي للآخرين. في هذه المرّة

 

173

 


154

الفصل الثامن والعشرون

وقفت في الوسط ممسكة بطرفي صندوقين. أثناء المسير كنّا نتبادل أماكننا لتخفيف الأذى عن الشخص الواقف في الوسط، والذي كان يمسك بيديه طرفي صندوقين.

 

کان الطريق أمامنا عبارة عن بستان نخيلٍ وبيوت قرويّة مبنيّة من الطين في صفوف عشوائيّة أو موزّعة، بحيث شكّلت أزقّة المنطقة وشارعها. دخلنا ذلك البستان حيث سُمعت أصوات إطلاق النار من كلّ اتّجاه، وتساقط الرصاص والشظايا من كلّ حدب وصوب. كان وضع البستان يرثى له؛ أصيب عدد كبير من النخل فاحترق بعضها وسقط سعفها على الأرض، كما أصابت القذائف جذوع عدد آخر فاجتُثّت من جذورها، إلّا أنّ بعض النخيل لم يقع، بل صمد واتّكأ على نخل آخر! أمّا التمر فقد غطّى الأرض. كذلك تدمّرت أعشاش الطيور، خصوصًا بلابل البستان وسقطت بين الأعشاب اليابسة والمحترقة.

 

خلال الطريق لم يكلّم أحدٌ أحدًا، بل أشاروا إلينا بالتزام الحيطة والحذر حتى خشينا أن نتنفّس! زاد من قلقنا أصوات تكسّر الأعشاب والأغصان اليابسة تحت أقدامنا. تقدّمنا معًا بهدوء وحذر. كلّما وصلنا إلى بداية زقاق كانوا يشيرون إلينا بالتوقّف، فتتفّحص المجموعة الأماميّة المكان ثمّ تشير إلينا بأن نعبر عرض الزقاق أو التقاطع الواحد تلو الآخر.

 

أمّا العراقيّون فما إن يتناهى إلى أسماعهم صوت حتّى ينهالوا علينا بوابل شديد من الرصاص، فنضطرّ إلى المكوث هنيهة أو تغيير الطريق والسير في اتّجاه آخر. لم نكن نراهم لكننا كنّا نتوقّع ظهورهم من وراء النخل أو الجدران أو سطوح البيوت في أيّ لحظة. لم نلبث إلّا قليلًا حتّى خرجنا من البستان واقتربنا من جدار الجمارك. وبحسب ما فهمت؛ بدلًا

 

174

 


155

الفصل الثامن والعشرون

من أن نسلك الطريق المستقيم من شارع مولوي والموازي لسكّة الحديد بغية الوصول إلى باب سنتاب، اضطررنا إلى عبور السكّة والسير مباشرةً إلى جدار الجمارك، ومن ثمّ السير بمحاذاة الجدار للوصول إلى باب سنتاب.

 

خلال المسير اقتربنا من بيوتٍ بدت أكبر حجمًا وأحدث بناءً من غيرها. فجأة انهمرت علينا النيران الكثيفة من كلّ جانب، وفوجئنا إلى حدٍّ لم نستطع أن نحدّد مكان العراقيّين وكيف استطاعوا رؤيتنا. لم نفهم سوى نداءات القائد ومساعديه وهم يقولون: "ارجعوا، ارجعوا بسرعة. تحرّكوا"!

 

كان دويّ رصاص الـ"كلاشينكوف" والرشّاشات وقذائف الـ(B7) يُسمع من كلّ جهة. أخذ منّي الذهول والحيرة كلّ مأخذ، ولم أعد أعي إلى أين أفرّ وبمَ ألوذ! فهذه المرّة الأولى التي أدخل فيها خطوط التماس إلى هذا العمق. لحقت بأفراد المجموعة أينما ذهبوا وتبعنا الرصاص، ما أجبرنا على الجلوس القرفصاء. مكثنا بضع لحظات من دون الإتيان بحركة، أشاروا إلينا مجدّدًا بالتحرّك من جلوس. أخذ الفتية الصناديق منّا وراحوا يجرّونها على الأرض، ما أحدث جلبة وأصواتًا عالية. كان السير بهذه الطريقة في غاية الصعوبة، وشعرت بألم في ساقَيّ وركبتَيّ غير أنّي كنت مجبرة على مواصلة السير. بعد قليل لم أعد أستطيع التحمّل أكثر، فجلستُ على الأرض ومددت قدميّ لأُريحهما لثوانٍ قليلة.

 

تابعنا السير على هذا النحو حتى خرجنا من دائرة مرأى العراقيين. جلسنا خلف أحد البيوت لنستعيد قوانا، أمّا أنا فتصبّبت عرقًا وخفق قلبي بشدّة. وصل القائد غاضبًا مستاءً. قال أحد مساعديه: "لقد لطف الله بنا! كاد دليلا المجموعة أن يأخذانا إلى عرين العدوّ. ولو التزمنا

 

175

 


156

الفصل الثامن والعشرون

بتعليماتهما في اللحظات الأخيرة لكنّا الآن حتمًا في عداد الأسرى"!

 

أصابني الهلع لما سمعت؛ إذ كدنا نقع في قبضة العدوّ! بالرغم من أنني كنت قد قلت للملازم "أقارب برست" إنني أتوقّع الوقوع في الأسر وإنّني مستعدّة لذلك. أمّا الآن وقد كنّا على شفا حفرة من ذلك، فقد صعب عليّ القبول به. لقد آلمتني فكرة أسري من دون أن أتمكّن من المقاومة والقتال. اعتقدت أنّ من يُحاصَر لا بدّ له من أن يكون قد قاوم، فإذا ما ضاق خناق الحصار عليه يقدم على أمر ما ثمّ يُقتل. أمّا أنا فلم أفعل شيئًا بعد، لم أقاتل ولم أسعف جريحًا!

 

أخذنا جرعةً جديدة من الهواء في ذلك المكان. ثمّ قيل لنا: "لن نسلك هذا الطريق ثانية".

 

رجعنا حتّى منتصف المسافة التي سرناها. بعدها اختار القائدبمشورة عدد من أفراد المجموعةطريقًا آخر، ثمّ سرنا بهدوء وصمت مجدّدًا. عبرنا بين البيوت القرويّة الفقيرة حتّى وصلنا إلى مبنى غير مكتمل قرب الجمارك. كان المبنى مؤلّفًا من ثلاث طبقات تشرف على مركز الجمارك، ما يسمح لنا بالسيطرة نسبيًّا على الأطراف المحيطة. طلب القائد من أفراد المجموعة أن ينقسموا وينتشروا في طوابق المبنى المختلفة بهدوء وصمت؛ ثلاثة من المسعفين الستّة في الطابق السفليّ والثلاثة الآخرون في الطابق الوسطيّ، وأمّا المقاتلون فتوزّعوا على السطح وفي أماكن أخرى.

 

عند صعودنا قالوا لنا: "انتبهوا جيّدًا فالبناء غير مكتمل، ويُحتمل أن ينهار السقف. تموضعوا على الدعائم الحديديّة".

 

دخلنا المبنى؛ تقرّر أن أصعد أنا وصباح والدكتور سعادت وشابّ

 

176

 


157

الفصل الثامن والعشرون

آخر إلى الطابق الثاني. صعدنا بصعوبة على ممرٍّ منحدِر لم يكتمل بناؤه، وكانت الصناديق ثقيلة في حين لم يكن هناك موطئ مريح لأقدامنا. وبعد انزلاق متكرّر وصلنا إلى الأعلى وجلسنا عند بداية الطابق. لم يكن السقف مكتملًا ما سمح لنا برؤية الطابقين السفليّ والعلويّ بسهولة. كما كانت أصوات العراقيّين الموجودين في المرفأ تُسمع بوضوح. كان أحدهم -وبدا أنّه القائد- يأمر أفراد مجموعته بإطلاق النار.

 

كنّا قد جلسنا للتو؛ أردنا إلقاء نظرة على ما حولنا فسمعنا صوت أحدهم من الأعلى يصرخ: "الموت لصدام، الموت للعراقيين، الموت لصدام" وراح يطلق النار. تبيّن أنّه ذلك الفتى الذي غضب كثيرًا واصطكّت أسنانه بعضها ببعض عندما كنّا تحت النار، وكان مستاءً بحيث لم يستطع أن يتكلّم. في ذلك الوقت حاول مَن حوله تهدئته. أمّا الآن فقد بدا أنه استشاط غيظًا لرؤية العراقيّين، ولا أدري لعلّه رأى النهب الذي يحصل لبضائع المرفأ فضاق ذرعًا من ذلك.

 

مع إطلاق النار من قِبل الشابّ انهمر علينا وابل من القصف المتفرّق، وأخذوا يقصفون المبنى بقذائف الـ(B7) فيهتزّ بأكمله. فجأة، اخترقت قذيفةٌ جدار الطابق الموجودين فيه وانفجرت قرب الجدار المقابل لنا. نهضنا مصدومين فسألني الدكتور سعادت: "ماذا نفعل الآن يا آنسة حسيني؟ هل ننزل إلى الأسفل."؟

- أجل، تقدّم أنت.

 

ثمّ أمسكتُ طرف أحد الصناديق وعدنا أدراجنا مسرعين على نفس الممرّ الذي كنّا قد سلكناه بكلّ حيطة وحذر. ما إن وطئت قدمي منحدر

 

177

 


158

الفصل الثامن والعشرون

السلالم حتّى انزلق الصندوق أمامي نحو الأسفل، ورأيتُ أنّي إن لم أتركه فسيسحبني معه، لذا تركته بينما انحرف وهوى حتى استقرّ على تلّ الرمل أسفل المنحدر. وبما أنّ بابه كان مقفلًا بإحكام، لم يُفتح ولم يخرج منه شيء. أمّا أنا فتزحلقتُ على السلّم ووصلت معفّرة ومجروحة. بقي المبنى يرزح تحت القصف وأنا أتوقّع تدميره على رؤوسنا وانهيار الدعائم الحديديّة في وسطه في أيّ لحظة!

 

قالوا لنا: "اتركوا المعدّات واركضوا"!

 

هرعنا جميعًا تحت زخّات الرصاص نحو جدار طينيّ قصير يبعد عنّا مسافة قليلة -يُحتمل أنّه كان جدار إسطبل- ولُذنا به. تساءلنا فيما بيننا: "من ذاك اللعين الذي أطلق النار"؟!

 

قال بعضهم: "إنّه ذاك الفتى الذي فار من الغيظ لرؤيتهم يسرقون البضائع من المرفأ، لم يتمالك نفسه وأطلق النار، ثم ما لبث أن رمى بنفسه من الطابق العلوي إلى الأسفل"!

 

قال آخرون: "لا بدّ أنّه قُتل".

 

ولكي نطمئنّ أكثر، نهضنا وركضنا ثانية واختبأنا خلف جدار طينيّ آخر أكثر ارتفاعًا. كانت حدّة القصف علينا شديدة بحيث لم نستطع رفع رؤوسنا. أخذ الشبّان يختلسون النظر لكي يتسنّى لهم رؤية المجموعة التي تطلق علينا النار فيردّوا عليها، إلّا أنّ أيّ مجموعة مسلّحة لم تكن مرئيّة في الأطراف. بدا واضحًا أنّهم كانوا يراقبوننا من داخل إدارة المرفأ والجمارك، فالأبنية التابعة للمرفأ والمستوعبات الموضوعة بعضها فوق بعض في باحته قد سمحت للعراقيّين بالسيطرة علينا. أمّا نحن فبتنا محاصرين

 

178

 


159

الفصل الثامن والعشرون

وغير قادرين على التحرّك بتاتًا. كانت الدقائق تمرّ ببطء ووضعُنا يزداد سوءًا. قلق الجميع على ذلك الشاب الذي رمى بنفسه من الأعلى. وقالوا: "إنّ تصرّفه الأرعن هو الذي أوقعنا في هذه المخمصة وأودى بحياته. لقد تسبّب بأن ينتبه العراقيّون لوجودنا ويطلقوا النار علينا".

 

أشار إلينا قادة المجموعة بالتريّث والهدوء، وهمس بعضهم قائلًا: "علينا التحرّك من هنا". إلّا أنّ قادة آخرين أصرّوا على عدم التحرّك من مكاننا حتّى تخفّ حدّة القصف. في الطرف المقابل لنا، تفصلنا أرض خالية عن بيوت الناس. لبثنا في مكاننا ساعتين حتى خفّت وطأة القصف. وما إن عزمنا على التحرّك حتى سمعنا صوتًا بدا غير مألوف في ظلّ ذلك السكوت الذي لم يكن يخرقه سوى أصوات الانفجارات. ظننّا أنّ العراقيّين قادمون نحونا. لكنّ أحد الشبّان نظر من زاوية الجدار ثمّ قال: "عجبًا، إنّه حيّ"!

 

فسأله الآخرون: "ماذا تقول؟ من هو الحيّ"؟!

 

أجاب: "ذاك الفتى الذي رمى بنفسه من أعلى المبنى، إنّه قادم"!

 

أنصتنا للصوت. كأنّ الشاب لم يكن يقدر على السير وأخذ يجرّ قدمه. استرقتُ النظر فرأيته مغطًّى بالتبن من رأسه إلى أخمص قدميه، ويمشي نحونا وهو يحرّك إحدى رجليه بصعوبة بالغة. كان أحيانًا يمشي على أطرافه الأربعة تحت نيران القصف. عندما رآه العراقيّون زادوا من حدّة نيرانهم باتّجاهنا، فأشار الشبّان له بأن يأتي نحونا. لقد بدا لي أنّ رجله كُسرت وأنّه يعاني ألمًا فظيعًا. كما إنّه، ورغم قصر المسافة، تمدّد على الأرض مرّات عدّة ثم نهض قبل أن يصل إلينا. عندما وصل إلى خلف

 

179


160

الفصل الثامن والعشرون

الجدار ثمّ جلس سأله بعضهم: "لماذا فعلت هذا؟ وكيف بقيت حيًّا"؟!

 

قال: "لم أجد فرصة للنزول من السلالم، ورأيت من الأعلى مخزنًا للتبن فرميت نفسي إليه، وكدت أختنق في داخله"!

 

وبعد أن سكن روعه أنّبه بعضهم: "عملك لم يكن صائبًا، كدت أن تودي بحياة الآخرين. انظر كم مضى علينا من الوقت ونحن محاصرون."!

 

قال الشاب متألّمًا: "عندما رأيت جنود العدوّ يجولون في أرجاء المرفأ بحريّة تامّة شعرت باستياء شديد ولم أتمالك نفسي".

 

أجابه الشبّان: "قد نضطرّ إلى مواجهة مواقف أسوأ من هذا، وإن لم نستطع التحمّل فالأفضل بنا أن لا نطأ خطوط المواجهات أبدًا"!

 

ونظرًا إلى التعب الذي حلّ بأفراد المجموعة من جهة، وتذبذبِ بعضهم من جهة أخرى تقرّر أن نتراجع إلى الخلف. قال القائد: "سنرجع؛ نصلّي ونستعيد قوانا، ثمّ نعاود السير من طريق آخر".

 

وبالفعل رجعنا كلّ ذلك الطريق الذي سلكناه بعناءٍ ومشقّة. لم نرَ الملازم "أقارب برست" في تلك الدشمة، بدا أنّه وأفراد مجموعته قد تقدّموا إلى الأمام. عبرنا سكّة الحديد ثمّ دخلنا أحد المساجد الصغيرة في أحد أزقّة محلّة "مولوي". كانت باحة المسجد مكتظّة وعلى ما يبدو أنّها مركز دعم القوات. أكثرهم من الجنود بالإضافة إلى عدد من رجال المحلّة الذين راحوا يركضون هنا وهناك. كانت المواد الغذائيّة والمعدّات الحربيّة موضوعة في الغرف المقابلة لبهو المسجد، أما باب البهو ومكان إقامة الصلاة فقد أُقفلا، والجميع في حال ذهاب وإياب في الباحة. وُضعت في إحدى زوايا الباحة مجموعة من المعدّات وغُطّيت بأقمشة ساترة. لم يثر

 

180


161

الفصل الثامن والعشرون

فضولي ما تحت الأقمشة، خصوصًا أنّ الباحة ملأى بالمقاومين فلم أستطع تفحّص المكان.

 

كان حال المَرافِق الصحيّة يرثى لها نظرًا إلى انقطاع المياه واستعمالها من قِبل هذا الكمّ من الأفراد، وفاحت رائحتها المزعجة في الأرجاء! بالقرب منها رأيت خزّان ماء لم أعلم إن كان فيه ماء أم لا. مع هذه الحال، صرفنا النظر أنا وصباح وفتاة أخرى -لا أذكر أين التحقت بنا بالدقّة- عن الدخول إلى الحمّام. بعد ذلك وجدنا قطعة قماش فأمسكناها على هيئة ستارة لكي يتسنّى لنا الوضوء من مياه الحوض الذي يتوسّط الباحة. أمّا مياه الحوض تلك فقد نتنت رائحتها وتغيّر لونها نتيجة عدم تبديلها!

 

صلّينا نحن الثلاثة قرب الأغراض في زاوية الباحة، وصلّى الآخرون ثمّ انشغلوا في تناول الخبز والتونا. جلسنا قرب صناديق الأدوية الخاصّة بنا، أعطونا علبة من سمك التونا. وعندما رفضناها، خاطبَنا القائد قائلًا: "تناولنها، فليس ثمّة فرق بينكنّ وبين الآخرين. أنتنّ الآن ترافقننا إلى الجبهات".

 

كانت العلبة مفتوحة فوضعناها على حافّة مشرفة على إحدى الغرف وشرعنا بأكلها بأيدينا المتّسخة. صار الخبز اليابس يتكسّر داخل العلبة. كان ذلك الخبز من المعونات المقدّمة من الناس والذي تمّ تجفيفه خشية أن يتعفّن. بدورنا كنّا قبل ساعتين من توزيع الطعام نبلّل ذلك الخبز اليابس بالماء.

 

تناولنا الطعام، فجاء الدكتور سعادت -الذي كان يعتني بنا من بعيد- وقال: "أيتها الأخوات، إن كنتنّ تردن المزيد من الطعام فسأحضر، لا تخجلن".

 

181

 

 


162

الفصل الثامن والعشرون

فقلنا له: "لا، شكرًا".

 

ذهب وأحضر لنا نصف بطيخة تمّ كسرها ضربًا بالأرض نظرًا إلى عدم وجود سكّين. بينما أخرج بعض الجنود أغطية العلب المعدنيّة وصاروا يستعملونها كسكين لأكل البطيخ.

 

أثناء تناولنا البطيخ قالت صباح: "أنا لن أرافقكم بعد الآن. أريد أن أعود".

 

سبق أن قالت لي عندما كنّا محاصرين خلف الحائط: "إنّ عملنا هذا جنون محض، وإن خرجنا ممّا نحن فيه سالمين فلن آتي ثانية". ظننت أنّها تمزح، لكنّها كرّرتها الآن فسألتُها: "ولكن لماذا، أليس هذا مؤسفًا! لقد كنّا نتوسّل إليهم ليأخذونا إلى الجبهة، وحين جئنا تريدين العودة"؟

 

قالت: "انظري إلى حالنا! إننا لا نعلم مكان العدو ولا هويّته. لقد أمطرونا بوابل من الرصاص من دون أن نتمكّن من رؤيتهم وإطلاق النار عليهم، وليس مستبعدًا أن نقع في قبضتهم من دون أن نشعر. أنا لا أرغب في أن أقع في الأسر، وأنتِ أيضًا عليكِ أن تعودي".

 

- لقد جئتُ بغية الوصول إلى الجبهة، ولن أعود ما لم أُحقّق رغبتي.

 

لم أصرّ عليها لتعود عن قرارها، فهي التي يجب أن تختار. في هذه الأثناء كان هناك عدد من الجنود واقفين قربنا يتحدّثون بصوت عالٍ، ثمّ أشاروا إلى رشّاش كان في أيديهم -ولا أدري سبب ذلك- قائلين: "من يستطيع أن يرمي رصاصًا برشّاش "G3" هذا فهو له".

 

قالت صباح التي لطالما ودّت في زمن قحط العتاد العسكريّ أن تمتلك سلاحًا: "أنا أستطيع".

 

182

 


163

الفصل الثامن والعشرون

كنت قد سألت الجنود سابقًا عن الفرق بين بندقيّة "G3" ورشّاش "G3"، وعرفتُ الكثير عن حسنات ومساوئ كلٍّ منهما، وتغير مسار الرصاص وغيره. إن لم أخطئ فإنّ مريم أمجدي هي الأخرى كانت ممّن تحبّ هذه الأمور، وكانت تكتب كلّ ما تسمعه عمّا يتعلّق بها. قلت لصباح: "انسي الأمر، إنّهم يمزحون. لماذا تصدّقين كلامهم؟ إنّ هذا السلاح ثقيل وله ارتداد قويّ، وينبغي وضعه على قاعدة لكي تتمكّني من الرمي به"!

 

لم تصغِ صباح لكلامي، بل لقّمت الرشّاش ورفعت رأسها إلى السماء، فقلت لها ثانية: "ستضطربين وتريقين ماء وجهنا يا صباح."!

 

فقالت: "لا، أنا أستطيع ذلك".

 

وما إن أطلقت النار حتّى وقعت أرضًا، فأمسكتُ بيدها سريعًا وساعدتُها على النهوض. غضبتُ كثيرًا في حين كاد أن يغشى على صباح من شدّة الضحك.

 

فجأة نادونا للانطلاق فوجّه القائد خطابه إلى القوى قائلًا: "من يودّ العودة يمكنه أن يفعل ذلك من هنا، ومن يودّ الالتحاق بنا فعليه أن يتعاون معنا قدر الإمكان. من الضروري جدًّا التزام الصمت والانتظام. إن ظنّ أحد أنّه سينفعل لدى رؤية العراقيين فعليه أن لا يأتي معنا أبدًا"!

 

قال عدد من الأشخاص إنّهم لن يأتوا، كما انضمّت إلينا مجموعة جديدة فصار عددنا اثنين وعشرين شخصًا. ولدى انطلاقنا قلت لصباح ضاحكة: "إن لم آتِ حاولي أن تخرجي أختي ليلى من "خرّمشهر" في أسرع وقت، واعتني بأمّي وإخوتي".

 

كنت أعلم أنّي إن لم أتكلّم مازحة فإنّ دموعي ستنهمر. تذكّرت وجه

 

 

183


164

الفصل الثامن والعشرون

أمّي الثكلى وتألّمت بشدّة. ذهبت صباح برفقة عدد من الأشخاص العائدين إلى مركز المدينة، أمّا نحن فانطلقنا مجدّدًا. أثناء الطريق أخذتُ أفكّر في كلام صباح. باعتقادي لقد أمسى حضور النساء في الجبهات واجبًا في هذه المرحلة الحرجة، حيث بدت الحاجة ماسّة في خطوط المواجهات إلى القوى العسكريّة والطبّية. لو أنّنا نقاتل في ظروف عادية وعدد الرجال على الجبهات يكفي، لما استدعى ذلك حضور النساء. استودعت الله نفسي. كانت البندقيّة على كتفي والقنابل في جيبي كما وضعت المسدّس الذي أعطانيه أحد الجنود قبل أيّام في حزامي تحت الثوب. لقد ادّخرت ذلك المسدّس ليوم وقوعي في الأسر. غير أنّي كلّما وقفتُ أو انحنيتُ خشيتُ أن تخرج منه رصاصة ما فترديني قتيلة!

 

سلكنا الطريق السابق نفسه حتّى سكّة الحديد، لكنهم بعد عبور السكّة اختاروا طريقًا آخر. سار الجميع بصمت وهدوء في صفٍّ واحد وكنّا نتحدّث بلغة الإشارة إذا ما اضطُررنا إلى ذلك. ظلّ هناك شخصان يذهبان ويجيئان باستمرار بهدف تنظيم أوّل الصفّ وآخره، كما ساعدا أفراد المجموعة على عبور الأزقّة كلّ فرد على حدة، مع مراعاة فاصل زمنيّ بيننا. في النهاية عبرنا الأزقّة الضيّقة التي تتوسّط بيوت موظّفي المرفأ ووصلنا إلى حائط المرفأ الإسمنتي. واصلنا التقدّم حتى وصلنا إلى باب "سنتاب"، حيث أطلق العراقيّون الرصاص بشكل عشوائي خوفًا من دخول قوّاتنا إلى المرفأ، في حين لم يتجرّأوا على الخروج من محيطه نهارًا. هذا وقد تمكّنوا من التقدّم والسيطرة على كل المناطق التي احتلّوها حتى ذاك الحين بواسطة الدبّابات

 

184

 


165

الفصل الثامن والعشرون

وناقلات الجند أو بمساندة المروحيّات. وذكرت قوّاتنا أنّ مروحيّاتهم كانت تقصف المواقع أوّلًا، ثم تتقدّم الدبّابات يتبعها عناصر الجيش.

 

عندما وصلنا، كان باب سنتاب المزدوج مفتوحًا على مصراعيه، كأنّ دفّتيه خُلعتا من مكانيهما. ويفصل بينهما عمود بعرض متر واحد، جُعِلت إحداهما بابًا لسكّة قطارات النقل ذهابًا وإيابًا، والأخرى لجادّة معبّدة لمرور وسائل النقل الكبيرة والشاحنات المخصّصة للحمل الثقيل ذهابًا وإيابًا. شكّل كلا البابين مدخلًا كبيرًا وعريضًا. ويُعتبر "سنتاب" أحد الأبواب الأصليّة الثلاثة للمرفأ، وعُرف البابان الآخران بـ"فيليه" و"دوربند".

 

شيّد أفراد قوّاتنا دشمة خلف العمود الإسمنتي الفاصل بين دفّتي الباب، بواسطة أكياس الرمل، ووضعوا فيها ذخائرهم الحربيّة؛ قنابل يدويّة وآليّة، رصاص رشّاش و(B7) وغيرها... وكان عدد جميع الموجودين عند الباب لا يزيد على الستّة. فرح هؤلاء كثيرًا لدى رؤيتنا؛ إذ إنّ التعب بدا واضحًا على وجوههم. وكذلك بدا أنّهم لم يتذوّقوا طعم النوم منذ أيّام؛ لأنّهم كانوا يحاولون إبقاء عيونهم مفتوحة بالقوّة!

 

قسّم قائد مجموعتنا القوّات وحدّد وظائفها، وأرسل عددًا منهم بعيدًا عن باب سنتاب، وآخرين إلى حائط المرفأ الإسمنتي. كما تراجع اثنان أو أكثر من القوّات السابقة والذين لم يعودوا قادرين على الوقوف من شدّة التعب والجوع. قالوا لنا: "لقد استطاعت مجموعات صغيرة ومتفرّقة من قوّاتنا النفوذ إلى داخل الجمارك، كنّا نقاتل هنا لنمنع العراقيّين من الخروج من المرفأ والتقدّم من الناحية الأخرى".

 

طلب القائد منّي ومن الفتاة الأخرى أن نجلس قرب الجدار ونناول الأفراد الذين تسلّقوا الجدار وجلسوا عليه قذائف الـ(B7). كان هؤلاء

 

185

 


166

الفصل الثامن والعشرون

الأفراد قد تسلّقوا جدار المرفأ ذا الأربعة أمتار تقريبًا بسرعة وبمساعدة بعضهم البعض، وقد حجبتهم أغصان الشجر الكثيفة على الطرف الآخر من الجدار عن عيون العراقيين. راح هؤلاء ينامون على عرض الجدار أحيانًا، أو يسارعون في تبديل أماكنهم لكي لا تُعرف مواقعهم أحيانًا أخرى.

 

في الجهة المقابلة لمكان تموضعنا، أي على بعد مسافة من جادّة سكّة الحديد، رأينا بيوتًا متفرّقة ومتواضعة، قال أحد أفراد قوّاتنا الذي حضر في اليوم السابق، إنّ سيّارة إسعاف استقرّت خلفها، وذلك لنقل الجرحى بشكل سريع.

 

بادرتُ والفتاة الأخرى إلى نصب قذائف الـ(B7) وتعبئة الأسلحة بالرصاص وتسليمها إلى الأفراد الموجودين فوقنا على الجدار. عندما كان رصاص رشّاشاتهم ينفد كانوا يرمونها من أعلى الجدار بكلّ سهولة ويسر على الأرض، أمّا نحن فكنّا نجد عناءً في إيصال الأسلحة إليهم؛ لأنّ أيدينا لم تكن تصل إليهم. ولو وقع أحدها من أيدينا وضرب رأس الـ(B7) الأرض أو انكسر الزناد لقضي علينا حتمًا!

 

ولتسريع العمل انشغلتُ بتعبئة السلاح فقط في حين اهتمّ أحد الفتية بأخذ الأسلحة وتسليمها. كان يدخل الدشمة الموجودة بين البابين أحيانًا، فيأتي بمخازن الأسلحة والرصاص ويضعها على الأرض. أمّا الدكتور سعادت، الذي عرفته دقيقًا ومنظّمًا جدًّا في أعماله، فقد حمل الآن السلاح وأخذ يطلق النار. كان يقول بين الفينة والأخرى: "كم أنّ الحرب صعبة"!

 

وددتُ كثيرًا لو أعلم ماذا يجري في المرفأ. سمعتُ بوضوح أصوات العراقيّين، ولكنني عندما استرقتُ النظر من زاوية الجدار لم أستطع رؤية

 

 

186


167

الفصل الثامن والعشرون

شيء. فقد كان المرفأ مليئًا بالأمتعة والمستوعبات التي اختبأ العراقيّون خلفها وأخذوا يطلقون النار علينا. أكّد القائد والآخرون مرارًا على أن لا نقف أمام المدخل. وعند ازدياد كثافة النّيران كنت والفتاة الأخرى نطلق النار خوفًا من تقدّم العدوّ، فنفتح خطّ نار تسهيلًا لعبور أفراد قوّاتنا إلى داخل المرفأ أو إلى الطرف الآخر من الباب. مع مرور الوقت كانت حدّة النيران تشتدّ على جهتنا فكانت الشظايا تصيب الشبّان فأبادر والدكتور سعادت إلى تضميد جروحهم السطحيّة.

 

نظرًا إلى قلّة عدد القوّات طُلب منّا إطلاق النار. في تلك الأثناء، نفدت قذائف الـ(B7) لديّ فقلت للجنديّ الواقف قربي: "لقد نفدت القذائف، ماذا أفعل"؟

 

قال: "هناك قذائف في تلك الدشمة".

 

وأشار إلى الدشمة بين البابين. نهضتُ لأتوجّه نحوها، ولكن نظرًا إلى كثافة النيران واحتمال الخطر قال لي: "لا تذهبي أنتِ، سأذهب أنا فافتحي خطّ نار لي".

 

لم أرغب في أن يراعيني إلى هذه الدرجة وأن يُبقيني بعيدة عن الخطر فحياته مهمّة أيضًا؛ لذا قلت له: "لا، اسمحْ لي بأن أذهب بنفسي. الآن وقد وصلتُ إلى هنا فلا أرى فرقًا بيني وبينك في الذهاب تحت النار. افتح لي خطّ نار، كما إنّ الـ(B7) جاهز للرمي ويمكنك أن ترمي به".

 

بعد ذلك ألصقت أسفل البندقية على بطني ولقّمتها، ثمّ شرعت في إطلاق النار وركضت مسافة ثلاثة أو أربعة أمتار من جانب الباب حتّى الدشمة في الوسط، فيما أخذت البندقيّة تهتزّ ولم أستطع السيطرة

 

187

 


168

الفصل الثامن والعشرون

عليها. في الأثناء أخذت أفكّر في احتمال أن تصيبني قذيفة (B7) فتفتّت رأسي. وما هي إلّا لحظات حتّى وصلتُ إلى العمود الذي يتوسّط البابين، وضعتُ يدي على أكياس الرمل وألقيت بنفسي داخل الدشمة. لم أكد أتمالك نفسي حتّى رأيت الجنديّ قربي. كان جسمه في ظلّ العمود، لكنّ يده التي حملت الـ(B7) ظهرت للعدوّ، غير أنّه لم يبدُ منتبهًا لذلك وقال لي غاضبًا: "ما هذا الذي فعلتِه"؟!

 

لم ينتظر جوابي ومرّ من أمامي، وما إن ابتعد خطوة عن الدشمة والعمود ووضع قدمه على سكّة الحديد حتّى انفجر! فرماني عصف الانفجار على أرض الدشمة، وكنت لا أزال جاثية على ركبتيّ، تبع ذلك دويّ ضجيج في رأسي. في تلك اللحظة ظننتُ أنّ كلّ ما أراه أو أسمعه مجرّد كابوس! دويّ الانفجار العظيم، قطع العظم واللحم المتطايرة في الهواء وصوت ارتطامها بالأرض وصوت تحطّم رأسه الذي سمعته بوضوح! ورأيت دخانًا ونارًا لبرهة قصيرة بعدها بات كلّ شيء أحمر اللون! لم تعد عيناي تبصران سوى حمرة الدماء كأنّ كلّ ما حولي طُلِي بالأحمر، وملأت روائح الدماء والبارود والشعر واللحم المحترق أجواء المكان!

 

تهشّم جسد ذلك الجنديّ -الذي كان ملازمًا أو عريفًا- بالكامل! لقد رأيت القذيفة التي عبرت بجانبه قبيل الانفجار. ومن المؤكّد أنّ شظيّة من تلك القذيفة أصابت الـ(B7) الذي كان بيده ما أدّى إلى انفجاره وشهادته.

 

نهضت وأنا أرى كلّ ما حولي قاتمًا. اعتقدت أنّي ما زلت أحلم. لم يبقَ من ذلك الجنديّ سوى قطع محروقة، وكأنّ أحدًا رفعه ثمّ ضرب به الأرض. كنت أرى آثار الدماء والاحتراق على الأرض بذهول. نظرت حولي ثمّ إلى المكان الذي كان واقفًا فيه، وتسمّرت في الأرض بحال يُرثى لها.

 

188

 


169

الفصل الثامن والعشرون

نظرتُ إلى الدشمة والعمود من خلفي، حيث ملأت الثقوب بعض أجزائه وتدمّر قسم منه. أمّا أنا فلم ينلني من كلّ ذلك أيّ شظيّة!

 

لا أدري لأي سبب تعطّل عقلي بالكامل، أتحت تأثير رؤية ذلك المشهد أم جرّاء عصف الانفجار الذي رماني أرضًا؟ لم أعد أشعر بأيّ شيء. بقيت أنظر إلى المكان مدّة من الوقت، ثمّ وضعت عددًا من الرصاص والقذائف تحت إبطيّ بشكل لا إرادي، ومشيت عابرةً عرض الشارع من دون أن أطلق أيّ رصاصة أو أن أركض. بلغتُ مكاني السابق وجلستُ ثمّ أخذت أنظر مرارًا إلى بقايا أشلاء تلك الجثّة المهشّمة والمتناثرة في كلّ مكان، والتي بدت من حيث أنا كأنّها شيء ملفوف حول نفسه. لا أعلم لماذا، ومنذ لحظة وصولنا إلى باب سنتاب ورؤيتي لذلك الشخص، تراءى لي وجه أبي. فقد كانت سيماء وجهه شبيهة به إلى حدٍّ كبير! حتّى إنّني ذكرت لتلك الفتاة التي كانت معي مرارًا أنّه يشبه أبي كثيرًا. طول وجهه، حاجباه المتّصلان وشعره المسرّح إلى الأعلى على وجه خاص كانت جميعها تذكّرني بأبي كثيرًا، وشدّني ذلك نحوه من دون إرادة منّي. أحسستُ أنّه أبي؛ لم أكن أرى أيّ فرق بينهما سوى أنّ هذا الجندي يصغر والدي بثمانية أعوام تقريبًا. فضلًا عن شكله الخارجي، فقد ذكّرتني سجاياه بأبي أكثر، حيث كان يركض بين المقاومين ويحدّثهم ويحثّهم. بدا جليًّا أنّه شخص مؤمن يوقن بهدفه. كان يردّد: "أحسنت، بارك الله بك، أنت جنديّ حقيقي، و...".

 

عندما استذكرتُ أقواله وأفعاله أخذت أقول بلا وعي: "اللعنة عليّ، اللعنة عليّ، ما برحتُ أقول إنّه يشبه أبي حتّى ذهب إليه"!

 

استمررتُ بتكرار هذه الجملة بشكل لا إراديّ حتّى صرخت في وجهي

 

189

 


170

الفصل الثامن والعشرون

الفتاة التي كانت ترافقني -وكانت مشغولة بربط رِجل أحد الجرحى- بغضب قائلة: "كفّي عن هذا وإلّا صفعتك على وجهك، نكاد نصاب بالجنون بسببك"!

 

ظننتُ أنّني كنت أردّد تلك الجملة في ذهني، ولم أعِ أنّي كنت أكرّرها بصوت عالٍ! كان ذلك رغمًا عنّي، ظننت أنني ما زلت أحلم جرّاء الدوار والذهول. ولكي أتأكّد إن كان كل ذلك حلمًا، نظرت إلى المشهد مرارًا، غير أنّي رأيت كلّ ذلك عين الحقيقة. وكمن أصابه مسٌّ من الجنون، لم أعرف أأبكي أم أضحك...

 

ولم يكن الآخرون أفضل حالًا منّي. فجأة وعلى أثر تلك الحادثة، ازدحمت نقطة وجودنا، فحضرت مجموعة أخرى من قوّاتنا تبعها إطلاق كثيف للنار. لم يستطيعوا جمع أشلاء ذلك الشهيد، وبقي مكانه على تلك الحال. انهمر القصف من داخل المرفأ باتّجاه الجهة الخلفية للجدار وأخذ يهتزّ حتى ظننتُ أنّه سيتدمّر في أيّ لحظة وسنُدفن تحته! اضطّر رماة الـ(B7) الموجودون فوق الجدار إلى النزول بسبب اشتداد كثافة النيران. وكان القائد قبل ذلك قد طلب منهم عدم الثبات في مكان واحد لئلّا يحدّد العراقيّون مكانهم، لكن رغم ذلك، اكتشفوا المكان وأمطرونا بوابل من القذائف وقذائف الـ(B7).

 

في تلك الظروف الحرجة لم أعد كسابق عهدي، أحسستُ وكأنّني قُيّدت بالأثقال. لم أعد أستطيع تحريك يديّ بسهولة، وفقدت سرعتي وخفّتي في السير. كان رأسي يعجّ بأصوات وهمهمات، وراودني احتمال انفجار قذيفةٍ بي في أي لحظة. تسمّرت في مكاني ورحت أكرّر الأعمال المنوطة بي. حاولت قوّاتنا جاهدةً الردّ على نيران العراقيّين، وضجّ المكان

 

190

 


171

الفصل الثامن والعشرون

من حولي بالأصوات العالية، وبدا أنّ عددًا من الأشخاص تسلّقوا الجدار ثانية وراحوا يركضون ويرمون العدوّ برصاص رشّاشاتهم. مضت برهة من الزمن لا أدري ماذا حدث خلالها. كلّ ما أذكره أنّ أحد الفتية أعلى الجدار أنزل بندقيّته وقال: "لقد روكبت".

 

أخذت البندقيّة واتّكأتُ على الحائط. وضعت أسفل البندقيّة على رجلي محاولِةً تحريك مخزنها إلى الأمام والخلف، إلّا أنّي لم أستطع. ما إن حاولتُ تفكيك أسفل البندقيّة حتى دوّى انفجار قذفني نحو الأمام فوقعتُ على وجهي أرضًا! اشتدّ شعوري بالدّوار ولم أعد أسمع أيّ صوت وشعرتُ بقدميّ ترتجفان. قبل دقائق كان الدكتور سعادت وتلك الفتاة يضمّدان جروح أحد الفتية، فناديته بصوت مرتجف: "دكتور سعادت، دكتور سعادت"!

 

لم أسمع جوابًا، فناديتُ تلك الفتاة[1] لكن من دون جدوى. حاولتُ النهوض من مكاني فلم أستطع. أحسستُ بثقل شديد في ظهري ورجليّ وظننتُ أنّ الجدار الإسمنتيّ قد انهار عليّ حتمًا، غير أنّي لم أستطع الالتفات إلى الخلف لأرى ما حدث، ولم أعد أشعر بظهري وقدميّ على الإطلاق! ناديتهم مستغيثة مجدّدًا: "تعالوا وأخرجوني، لقد انهار الجدار عليّ، أين أنتم"؟

 

في النهاية، رأيت الدكتور سعادت عند رأسي ممسكًا بساعده النازف دمًا. كنت أرى شفتيه تتحرّكان من دون أن أسمع أي كلمة كأنّه يتكلّم من دون صوت. ظننتُ أنّ صوته قد بُحّ أو أنّه لم يستطع التحدّث عاليًا. لمّا رأى أنّه لم يستطع إفهامي شيئًا نهض وذهب، فناديته مجدّدًا، ثمّ وضعت يديّ


 


[1]  التي لم أعد أذكر اسمها.

 

191


172

الفصل الثامن والعشرون

على الأرض محاولة أن أرفع جسمي لكنّي لم أقوَ إلّا على رفع رأسي! بعد وقت قصير رأيت -في حدود مجال رؤيتي- الدكتور سعادت وتلك الفتاة يركضان هنا وهناك محاولَين إسعاف الجرحى. استغربت لمَ لمْ يحاول أحد إزالة الأنقاض عنّي! شيئًا فشيئًا بدأت أسمع أصواتًا فعرفتُ أنّ أذنيّ كانتا معطّلتين، وأنّ المشكلة ليست في صوت الدكتور سعادت المسكين!

 

عاد الدكتور سعادت إليّ، أشار متأثرًا إلى ساعده وقال: "انظري يا آنسة حسيني، لقد أصيب ساعدي بشظيّة".

 

لا أدري إن أراد مواساتي أم أنّه لم يستطع تحمّل الإصابة والعناء بسبب رقّة قلبه. فقلت له: "لا بأس يا دكتور، سأضمّد لك جرحك".

 

مددتُ يدي فأعطاني الضماد الذي كان في يده، فحاولت جاهدةً النهوض لتضميد جرحه إلّا أنّي لم أستطع. أمّا الدكتورالذي لم ينتبه لحالي وظنّ أنني وقعت أرضًا فحسب، راح ينظر بذهول وحيرة إلى ما حوله وكأنّه دُهش لدى رؤية هذا العدد الكبير من الجرحى. قلت له: "إنني أحاول النهوض يا دكتور ولكنّي لا أستطيع، إنّ قدميّ ترتجفان".

 

نظر الدكتور إليّ وقال: "يا أخت حسيني لقد جُرحتِ أنت أيضًا، إنّ ظهركِ ينزف بشدّة"!!

 

مرّرت يدي على ظهري فتبلّلتْ ثمّ دخلت أصابعي في نسيج طريّ وساخن وأحسست أنّ النسيج قد قُطع. ذُهلت لأنّي لم أشعر بالألم، وأخذت أفكّر في أنّهم سيأخذونني من هنا نظرًا لوضعي، فقلت مستاءة: "ماذا أفعل الآن يا دكتور؟ لا أريد الرجوع إلى الخلف. أودّ البقاء هنا فماذا أفعل"؟

 

192


173

الفصل الثامن والعشرون

أجاب الدكتور: "يظهر أنّنا جميعنا سنرجع لأننا أُصبنا بجروح".

 

قال هذا ثم ابتعد عنّي، في حين صرت أسمع أنّ حال أحد الجرحى وخيمة، وسمعت الدكتور يقول: "أسرعوا، يجب أن توصِلوا هذا الجريح إلى المستشفى سريعًا".

 

حاولت مجدّدًا النهوض، فرفعتُ رأسي وصدري قليلًا فأحسستُ بألم فظيع في فقرات ظهري، وعدت إلى مكاني ثانية. قرّرت أن أحرّك قدميّ، لكنّي بعد أن حاولت وظننتُ أنني استطعت ذلك، وجدت أنّهما لم تتحرّكا، بل بقيتا على الأرض على حالهما. ناديتُ الدكتور مستفسرة: "ألا تستطيع تضميد جرحي في هذا المكان، فأنا لا أشعر بالألم".

 

قال: "لا، أنتِ تظنّين أنّكِ بخير، لكنّ المسألة تبدو خطيرة".

 

حاولت أن أفهم كيف أُصبت، فتذكّرت أنّ الجدار خلفي اهتزّ أوّلًا ثمّ ارتميتُ أرضًا، إذًا لا بدّ أنّ شظيّة من شظايا القذيفة التي أصابت الجدار ودمّرته قد أصابتني. بعد ذلك أخذتُ أفكّر في حجم الشظيّة وكيفيّة اختراق القذيفة لجدارٍ بسماكة حوالي 40 سنتيمترًا!

 

بعد وقت قصير وصلت مجموعة لنقلنا. وسمعتُ القائد أثناء تحدّثه عبر اللاسلكيّ وطلب النجدة يقول إنّ حوالي ستة عشر فردًا من أفراد مجموعته المؤلّفة من بضعة وعشرين فردًا قد أصيبوا بجراح خطيرة.

 

عندما وصل شخصان إليّ وأرادا حملي قلت لهما: "لا، لا تلمساني، فأنا لن أرجع إلى الخلف"!

- يجب أن نأخذكِ إلى المستشفى.

 

193

 


174

الفصل الثامن والعشرون

- لا، قولا لتلك الأخت وللدكتور أن يأتيا ويضمّدا جرحي هنا، فأنا بخير.

 

فجأة سمعت صوت الدكتور سعادت يقول: "كيف تقولين إنّكِ بخير؟ إنّكِ لا تستطيعين النهوض. يجب أن تذهبي يا آنسة حسيني"!

- لا يا دكتور، أنا لا أريد الذهاب.

- علينا جميعًا أن نذهب، لا يمكننا البقاء هنا، لقد أصيب الجميع بجروح.

 

ثمّ قال: "احملاها".

- لا، لا يقترب منّي أحد!

 

فقالا: "إذًا كيف نحملكِ"؟!

- لا أعلم، اسحباني على الأرض، لكن لا أريد أن يلمسني أجنبيّ.

- ولكنّ عدد نقّالاتنا قليل.

 

أمسكت بسلاحيهما وجرّاني على الأرض جرًّا. لم نكد نتقدّم بضع خطوات حتّى انفجرت بقربنا قذيفة أصابت إحدى شظاياها ساعدي فأفلتت يدي البندقيّة، عندها خلع أحدهما حزامه العسكريّ ولفّه على يده فأمسكت به. لم نكد نتحرّك ثانية حتّى اشتدّ القصف فألقى الاثنان بنفسيهما على الأرض فوقعتُ وبقينا كذلك لمدّة نصف ساعة تقريبًا.

 

في تلك الأثناء، تداعت إلى ذاكرتي أيّام طفولتي حين قدمنا من العراق ورأينا أبي على هذا المرفأ، حيث كان قد مضى عام من دون أن نراه. أمّا الآن فقد مرّ على غيابه خمسة عشر يومًا. كانت تلك المناسبة الأجمل والأحلى في حياتي، أمّا اليوم... تذكّرت حين عبرنا شطّ العرب، كم كنت

 

194

 


175

الفصل الثامن والعشرون

متشوّقة للوصول إلى الحدود الإيرانيّة. من جهة ثانية كنت مستغربة لعدم وجود اليابسة وتساءلت عن مكان إيران وكيف قالوا لنا إننا وصلنا إلى الحدود الإيرانيّة! لم أكن أعلم معنى المياه الإقليميّة وكيف تُحدّد من دون وجود علم أو إشارة! وعند وصولنا إلى نقطة معيّنة توقّف قاربنا ونُقلنا إلى قارب أكبر. أمّا أنا التي كنت أخاف من الماء، كدت أموت فزعًا عند اهتزاز القارب.

 

عندما أبحر القارب الإيراني أخذت أفكّر كيف سألقى أبي، فبعد هذا الغياب الطويل أخجل أن أقفز في حضنه. بعد ذلك توالت خواطري حول صورة إيران قديمًا.

 

عندما كنت في السنة الأولى من عمري سافر خالي حسيني من البصرة إلى إيران بقصد الزواج. في بعض الأحيان، راح يبعث رسائل إلى جدّي وجدّتي ويُلحقها بصور. كانت ملابس خالي وعائلته تبدو لي نظيفة ومرتّبة جدًّا، إذ لم يلبسوا الثوب العربي المعروف بالدشداشة. ورغم صغر سنّي آنذاك أدركت الاختلاف الشاسع في نمط العيش بين إيران والعراق. كذلك ما برحت جدّتي تتصدّق لسلامة خالي حسيني وتظهر محبّـتها له حتّى غدت رؤيتهم أمنية بالنسبة إلينا.

 

في النهاية، وصلنا إلى المرفأ ورأينا أبي وخالي حسيني. لم يفسح أبي لنا مجالًا لأن نأتي بأي حركة، بل أسرع نحونا ولا يدري من يضمّ أوّلًا. ما إن وصل إلى أمّي حتى اغرورقت عينا كليهما بالدموع. ما زلت أذكر نظراتهما جيّدًا، إذ لم يتكلّما معًا، بل كانت نظراتهما غنيّة عن كلّ كلام...

 

عندما خفّت حدّة القصف جيء بنقّالة ووضعوني عليها وأنا ممدّدة بذات الوضعيّة. لم أشعر بأيّ ألم في قدميّ أثناء نقلي، بل تركّز الألم الشديد

 

195


176

الفصل الثامن والعشرون

في عمودي الفقري، ثمّ في رأسي ورقبتي ولكنّه كان ألمًا محمولًا بالنسبة إليّ. صرت أتساءل في نفسي عن سبب رجوعي مع أنّ أيًّا من أعضائي لم يُقطع ولم يكن ثمّة مشكلة خطيرة.

 

توقفت سيّارة الإسعاف القديمة والمهترئة بزجاجها المكسور خلف البيوت الطينيّة. كان فيها جرحى آخرون قبلي. وضعوني على الكرسيّ الأمامي لكنّي لم أستطع الجلوس، فوُضعت على جنبي بكيفيّة عجيبة فيما جلست بجانبي تلك الفتاة التي أصيبت بشظيّة في ركبتها! وبما أنّي لم أستطع التحكّم بنفسي فقد أخذتُ أميل مع حركة السيّارة نحو المقود. أمّا السائق الذي لم يغلق بابه نظرًا لضيق المكان فقد أمسك بإحدى يديه المقود وأمسك الباب باليد الأخرى.

 

أثناء الطريق وبسبب جلوسي المائل رأيت وجه جريح إصابته حرجة. بدا لي أنّه مغمىً عليه، إذ اختفت حدقتا عينيه، كما كان يخرج من حنجرته صوت شخير ما لبث أن انقطع.

 

مع مرور الوقت ازداد ألم رأسي وشعرت وكأنه يتضخّم لحظة بعد أخرى حتّى كاد ينفجر. لا أدري من أيّ طريق رجعنا. عندما توقّفنا أمام عيادة الدكتور شيباني خرج الجميع من العيادة. وددتُ لو أنّي أستطيع النزول، لكنّي لم أتمكّن من القيام بأي حركة بدون مساعدة. نظر السيّد نجّار إلى الجرحى الثمانية خلف سيارة الإسعاف ثمّ قال: "يجب أن يُنقلوا جميعًا إلى المستشفى".

 

بعدها جاء إليّ وقال: "إنّ حالك ليست جيّدة أيضًا".

 

نظر إليّ نظرة عميقة شعرتُ من خلالها أنّه يريد القول: "أرأيت ماذا

 

196

 


177

الفصل الثامن والعشرون

حلّ بك في نهاية الأمر"؟!

 

تحلّقت الفتيات حولي. أحسستُ بانتفاخ في رأسي ولم أعد أعي كثيرًا ممّا يقال. جُلّ ما أذكره هو أنّ صباح قالت لي بعد أن رأت الدماء على المقعد وعلى أرض السيّارة: "ألم أقل لكِ ارجعي، انظري ماذا فعلتِ بنفسك! لو رجعتِ لما حدث لك هذا"!

 

لم يكن لديّ جلد كي أجيبها. ركبت زهرة وصباح السيّارة وأغلقتا الباب ثمّ انطلقنا.أخذت أشعر بالبرد نظرًا للوقت الطويل الفاصل بين إصابتي وركوبي سيّارة الإسعاف حيث كنت أنزف طوال هذه المدّة. صرت أشعر بوهن وضعف أكثر فأكثر مع مضيّ كل لحظة.

 

وددتُ لو أنام. وضعت يدي على قدميّ فوجدتهما مبلّلتين جرّاء النزف الشديد. تلوّث المقعد وباب السيّارة الذي اتّكأت عليه بالدماء التي أخذت تسيل على الأرض من قدميّ أيضًا. كنت أنظر إلى ذلك المنظر فيزداد شعوري بالضعف، لقد أخافني النزف الحاد بعض الشيء! أخذت أواسي نفسي قائلة: "ليس ثمّة ما يُقلق. أولم أكن أقول للجرحى إنّ هذا أمر يمكن إصلاحه؟ ها قد عرفتِ الآن لماذا حين كنت تتحدّثين مع الجرحى بهذا الكلام لم يفقهوه.

 

توقّفت سيّارة الإسعاف أمام مدخل مركز التوليد الواقع على الجهة الأخرى من الجسر. كان الجميع قلقًا على ذلك الجريح ذي الحال الحرجة وأرادوا إيصاله إلى طبيب متخصّص. ولكنّ ما إن فُتح باب السيّارة ووقع نظر الممرّضة عليه حتّى قالت: "انقلوه إلى الثلّاجة"!

 

في تلك اللحظة فقدت وعيي. حين فتحتُ عينيّ رأيت زهرة فرهادي عند رأسي وهي تحمل كيس المصل المتّصل بيدي والقلق بادٍ على وجهها.

 

197

 


178

الفصل الثامن والعشرون

- حسنًا، لا ضرورة لهذا، ابقي كما أنت.

 

ذهبتْ لتحضر الجهاز، ثم ما لبثت أن عادت وهي تواسيني وتقبّلني قائلة: "إنّهم يصوّرون بقيّة الجرحى، سوف يأتون في الحال".

 

استغربت شدّة ملاطفتها لي. بعد برهة قصيرة أحضرت جهاز الأشعّة الكبير والثقيل بمساعدة أحد الرجال. كان الجهاز مستقرًّا على قاعدة متحرّكة، وقد غطّته الدماء والأوساخ لكثرة ما استُعمل لتصوير الجرحى، كما تركت الأيدي والأشرطة اللاصقة آثارها عليه بوضوح.

 

عندما بدأوا بتنظيم الجهاز على جسمي قال مرافقو المريض الذي كان في السرير المحاذي لي، وكانت معظم أعضائه مكسّرة: "صوّروا لنا مريضنا أوّلًا، فإنّ حال هذه السيّدة ليست سيّئة".

 

نظرتُ إلى المصاب وهو مغطّى بالتراب والدماء فرأيته يئنّ بلا وعي. قال مصوّر الأشعّة: "إنّ حال هذه السيّدة جيدة بحسب الظاهر، لكنّ مكان جرحها حسّاس".

 

ثمّ نظّم الجهاز وأخذ لي عددًا من الصور من زوايا مختلفة. أمّا تلك الممرّضة فكانت أثناء تشغيل الجهاز تمسك يدي بلطف أو تمسح على رأسي. تعجّبتُ من سبب تعاملها معي كما الأمّ، فتذكّرت أمّي وزاد شوقي وحنيني لها أكثر.

 

بعد ذلك التقطوا صورًا لذلك المريض. لم تدم مدّة تظهير الصور الشعاعيّة أكثر من عشر دقائق نُظّف خلالها ظاهر جرحي بالضماد والسائل المعقّم. كانت الضمادات تمتلئ بالدم سريعًا جرّاء النزيف فاضطرّوا إلى تغييرها. كما أحضروا لي كيس مصل آخر وأعطوني حقنًا في

 

199

 


179

الفصل الثامن والعشرون

الوريد والعضل. وبعد تحديد فئة دمّي حقنوا بيدي كيسًا من الدم. أما زهرة وصباح فكانتا تساعدان الممرّضات وتواسياني. عندما ظهرت نتيجة الصور قالت الممرّضة: "لقد أصابت الشظيّة جزءًا حسّاسًا في جسدك ولا ينبغي تحريكك كثيرًا، ليس بإمكاننا معالجتك، وينبغي نقلك إلى مكان آخر. كوني مطمئنّة، سنرسلك إلى مكان مجهّز بآلات وتقنيّات أكثر".

 

ظننت أنّ مشكلتي بسيطة وسأكون بخير خلال بضعة أيّام، لذا قلت: "أنا لست قلقة، ادعي لي فقط أن أعود إلى "خرّمشهر" سريعًا".

 

فقالت: "سأدعو لكِ بالشفاء العاجل".

 

غرقتُ في النوم مجدّدًا إثر النزيف أو تحت تأثير الأدوية، عندما انتبهت من نومي وجدت نفسي في مستشفى "شركة النفط". كان المكان أكثر ترتيبًا من قسم الطوارئ في مركز التوليد، حيث كدت أصاب بالجنون بسبب الضجيج هناك. أمّا هنا فقد كانت المسافة الفاصلة بين الأسرّة كبيرة. كان في القاعة حوالي ثلاثين رجلًا جريحًا. والنور يدخل من النوافذ المواجهة لأشعّة الشمس، لم أعد أشمّ رائحة الدماء ولم أرَ زهرة وصباح إلى جانبي. شعرتُ بعدم الارتياح لوجودي في قسم الرجال! عندما انتبهت الممرّضات أنّي عدتُ إلى وعيي أخبرن الأطبّاء فازدحم المكان من حولي بشكل سريع، وأخذوا يفحصون كليتيّ، خاصرتي وقدميّ، وهم يسألونني: "هل تشعرين بألم"؟

- كلّا.

 

أدخلوا إبرة في أسفل قدمي وسألوني: "هل تشعرين بشيء"؟

- "كلّا، إنني أشعر بثقل في قدميّ فحسب، ولا أدري مكان ركبتيّ أو

 

200

 


180

الفصل الثامن والعشرون

أصابع رجليّ"!

 

كتبوا لي عددًا من الأدوية والحقن وذهبوا. استأت لكوني ممدّدة بهذه الوضعيّة أمام جميع أولئك النّاس، فقلت لهم مرارًا: "أخرجوني من هنا"!

- ليس هناك أماكن شاغرة.

- ضعوني في الممرّ إن لزم الأمر، فأنا لست مرتاحة هنا. ضعوا عليّ عباءة!

 

لكن لم يُصغِ أحد إلى كلامي، أعني أنّهم لم يكن لديهم فرصة الاستماع. غفوت من شدّة الضغوط الروحيّة والجسديّة، واستيقظت بعد قليل من الوقت على صوت امرأة. كانت شابّة تجلس على كرسيّ متحرّك وقد أخذت تصرخ: "لن أبقى هنا، فالمكان ملوّث وستلتهب جروحي. انقلوني من هنا".

 

غضبت الممرّضات منها وقلن لها: "لماذا تفعلين هذا يا سيّدة، إنّ وضع هذه السيّدة والآخرين أسوأ منك ولم يتصرّفوا مثلك"!

- لا علاقة لي بهم، إنني صحفيّة، لن أبقى هنا هذه الليلة، انقلوني إلى طهران.

 

جيء بسرير ووُضع قرب سريري ثمّ حملنها قائلات: "ساعدينا لننقلك إلى هذا السرير".

 

أثناء نقلها صرخت ونادت: "رجلي تؤلمني و..".

 

لم تتمدّد على السرير، بل مدّت رجلها المصابة في حين وقف مرافقاها قرب سريرها، بعد ذلك جاء الطبيب وسأل: "من هي زهراء حسيني"؟

 

201

 


181

الفصل الثامن والعشرون

قلت وتلك السيّدة في آن معًا: "أنا"!

 

نظرت إحدانا إلى الأخرى، ويا للصدفة! فقد تشابه اسمانا! قال الطبيب: "تلك التي دخلت الشظيّة في عمودها الفقري".

 

فأجبت: "أنا هي".

 

عندما أنهى الطبيب عمله وذهب، سألتني الشابّة: "هل أنت من هذه المدينة"؟

- أجل.

- كيف جُرحتِ؟

- أنا مسعفة وقد جرحتُ في سنتاب.

- أعلم ما تقصدين، إنني أعرف ذلك المكان. لقد قدمت من طهران وأنا صحفيّة أعدّ الأخبار وألتقط صورًا وأبعث بها إلى طهران".

 

ثم سألتني: "ألستِ مستاءة من وجودك هنا؟ لماذا لم ينقلوكِ حتى الآن مع وجود جرحٍ كهذا"؟

- لا أريد الانتقال، ولا أشعر بالاستياء فأنا أرغب في العودة سريعًا إلى "خرّمشهر". أنا مستاءة لبقائي في هذا القسم فحسب.

- اطلبي منهم نقلك إلى مدينة أخرى نظرًا إلى وضعك هذا.

- إنني مثل الآخرين، وهم يقومون بكلّ ما يقومون به لغيري.

- إنّك متفائلة جدًّا. لقد أصابت الشظيّة مكانًا خطرًا. لقد قال الطبيب ذلك للتوّ.

- لو كان الأمر بيدي لما بقيت هنا أيضًا ولرجعت إلى عيادة الدكتور

 

203

 


182

الفصل الثامن والعشرون

شيباني في "خرّمشهر".

 

فقالت: "أعلم أين تقصدين، لقد ذهبتُ إلى هناك".

 

أرادت مواصلة حديثها، ولكن لم يكن لديّ جلد على ذلك. في الواقع لم يعجبني صراخها، وقد قلت لها مرارًا: "حاولي أن تتحمّلي أكثر، إنّ وضع الجميع هنا أسوأ حالًا منّي ومنك. جميع الأطبّاء والممرّضات متعَبون، فعدد الجرحى كبير جدًّا".

- كلّا، فإنّك إن لم تثيري جلبةً لا يلبّون لك طلبًا. صحيح أنّ الشظيّة بحجم حبّة عدس لكنّها أصابت ركبتي وهي تؤلمني كثيرًا".

 

عاين الطبيب ركبتها وقال: "ليس ثمّة وسيلة لنقلك الآن. يجب أن تتوافر وسيلة ما".

- ليس عليك سوى أن تكتب ورقة انتقالي وسأهيّئ وسيلة نقلي بنفسي.

 

ثمّ جلستْ بمساعدة زميليها في العمل على الكرسيّ المتحرّك وخرجت من القسم. كنت أسمع صوتها وهي تجادل الممرّضات إلى أن كُتبت لها ورقة الانتقال فأخذتها وخرجت.

 

شعرت أنّ يديّ يبستا جرّاء بقائي على نفس الوضعيّة وأحسستُ بوهن شديد فيهما. أمّا معدتي فكادت تطحن نفسها من الجوع. قالت لي الممرّضات إنني يجب أن أبقى من دون تناول طعام. عندها تمنّيت لو أنّني لم أستحِ من الدكتور سعادت والتهمت علبة التونا التي عرضها علينا عند الغداء وأكلنا حتى الشبع لما كنت الآن أشعر بهذا الوهن الشديد. نمت مجدّدًا ثمّ فتحت عينيّ لأرى شابًّا مصابًا بجروح في قدميه وقد أخذ يؤدّي الصلاة ممدّدًا على ظهره. عندها تذكّرت أنني لم أصلِّ بعد.

 

203

 


183

الفصل الثامن والعشرون

في الوقت نفسه أحضرت الممرّضات ساترًا نقّالًا ووضعنه حولي، فتنفّستُ الصعداء. كانت الشمس تشرف على المغيب، فصلّيت من دون أن أعلم اتجاه القبلة وبلا وضوء، وقد غطّت الدماء جسدي بالكامل!

 

بعد الصلاة شعرتُ بالراحة؛ نمت وأنا مطمئنّة بسبب وجود الساتر الذي حجبني عن عيون الآخرين. كلّما استيقظت أحسستُ أنني في مكان مجهول، وكانت الصور في ذهني بيضاء كأنّ كلّ شيء مُحي من ذاكرتي. ونظرًا لوجود الساتر حولي كنت أستغرق وقتًا طويلًا لكي أدرك مكان وجودي وما حدث لي. طالت الليلة الصعبة حتى ظننتُ أنّ الصبح لن يطلع. بعد كلّ استيقاظ كنت أظنّ أنني لم أنم سوى بضع دقائق، في حين أنّي كلّما سألت الممرّضات عن الوقت رأيت أنّ ساعات قد مرّت.

 

خلال الليل أيقظتني الممرّضات مرّات عدّة بغية تغيير الأغطية التي تبلّلت بالدم حتّى ظهري بسبب عدم توقّف النزيف. كما كنّ يحقنّ الأدوية في أكياس المصل ويعلّقن لي أكياسًا جديدة. لم أنتبه لجرح ساعدي على الإطلاق إلّا حين كنّ يمسكنه فأشعر بالألم. أردن أن يقصصن ملابسي قائلات: "إنّ الدم الذي جفّ على ثيابك ملوّث".

 

لكنّي رفضت، وبعد إصرارهنّ سمحت لهنّ بأن يقصصن سروالي ولبست سروالًا خاصًّا بالمستشفى. وكان الميل يؤذيني فقلت لهنّ: "انزعن هذا منّي، إنّ خاصرتي تحرقني".

 

فقلن: "هذا غير ممكن".

 

في النهاية قلت لهنّ: "أريد الذهاب لقضاء الحاجة".

 

فنزعت الممرّضات الميل وأجلسنني على الكرسيّ المتحرّك وساعدنني في

 

204

 


184

الفصل الثامن والعشرون

دخول الحمام. كان السائل الذي خرج منّي دمًا رقيقًا، خفّ بعد خروجه ألم خاصرتي. بعد ذلك أحضروا جهازًا متّصلًا بشاشة تلفاز، ثمّ مددوني على جنبي ووضعوا أسلاك الجهاز على يديّ ورجليّ ووضعوا شيئًا شبيهًا بالقبعة على رأسي. لم أفهم ماذا كانوا يفعلون! مضى اليوم التالي من دون أن أشعر به. مضى الصبح والظهر والليل من دون أن أعي شيئًا. تساءلت في نفسي عن سبب نومي الكثير! كنت أستيقظ أحيانًا قلقة وكلّي خوف من أن يكون الغطاء قد كُشف عنّي، وأفتح عينيّ أحيانًا أخرى لأجد الأطبّاء وقد تجمّعوا حولي وأخذوا يسألونني ويدخلون الإبر في أسفل قدمي. في إحدى المرّات أجروا صدمة كهربائيّة ليديّ ورقبتي فاحترقت وارتفع صراخي، في حين لم أشعر بذلك على رجليّ رغم انتفاخهما.

 

في صباح اليوم التالي؛ أي صباح اليوم الثاني والعشرين من شهر مهر (14 ت1) استيقظتُ على ألم فظيع. كنت كمن أفاق من نوم طويل، لم أعد أشعر بالدوار، وبتّ أعلم بكل ما يجري من حولي. لم يعد الساتر موجودًا، رأيت ثلاثة جرحى على الأسرّة في آخر الصالة. نظرتُ إلى نفسي فرأيتني ما زلت نائمة على بطني وقد استُبدلت حال اللاشعور لديّ بألم شديد في ظهري وقدميّ خصوصًا اليمنى. ارتجفت قدماي بشدّة فارتجف معهما كل جسدي وشعرت بالبرد. أحيانًا كنت أتصبّب عرقًا من شدّة الألم حتى وصل بي الأمر إلى أنّي وضعتُ طرف منديلي بين أسناني وجعلتُ أضغط عليه! حاولتُ أن أمسك رجليّ بيدي، لكن من دون جدوى. عندها ناديت الممرّضات فأجبن: "هذا أمر طبيعيّ، إنّك لم تكوني تشعرين بالألم بسبب فقدانك للإحساس، سنعطيك حقنة مسكّنة الآن وسننقلك الليلة".

 

 

205

 


185

الفصل الثامن والعشرون

قلت: "لا، بالله عليكنّ، لا أريد الذهاب من هنا"!

 

انهمرت الدموع من عينيّ وأخذت أتذكّر الأيّام التي قضاها أخي عليّ في المستشفى وحيدًا، وحين وقع حادث لأبي. ففي أحد الأيّام أثناء قيامه بعمله، وقع لوح ثقيل من الخشب على قدمه فهشّمها. وفي المستشفى لم يعتنوا بجرحه كما يجب فالتهب وأصيب جسمه بالحمّى. ما زلت أذكر معاناة أبي تلك حيث إنّه كان يغمى عليه من شدّة الألم أثناء تضميد الجرح، لكنّه لم يصرخ قطّ. كنتُ حينها في الرابعة من عمري، أرى أمّي تتّخذ ناحية من البيت بحجّةٍ ما وتذرف الدموع، وبعد أن تهدأ ترجع إلى زوجها.

 

عندما تذكّرت تلك المشاهد زاد شوقي إلى أبي وأخي أكثر، ووددتُ لو أنهما بقربي الآن، فتهون الآلام عليّ. من جهة ثانية شعرت بالاستياء من هذه الإصابة الطفيفة بحسب الظاهر والتي سببت ابتعادي عن مدينتي. خاطبت الله قائلة: "إلهي، لماذا الآن؟ لمَ لم تنتظر حتى نُخرج العراقيّين بعدها تبتليني بهذه الإعاقة؟! لقد سألتك الشهادة، ما هذا البلاء الذي لا طاقة لي به؟".

 

ثمّ دعوت على المحتلّين البعثيّين: "ثكلتكم أمّهاتكم، كان عليكم أن تقصفوا قذيفة من عيار 230 بدلًا من عيار 60 وتنهون أمري"!

 

وإذا بممرّضة خلوقة أخرجتني ممّا أنا فيه قائلةً: "عجبًا، لقد استيقظت آنستنا، إنّك اليوم أفضل بكثير من الأمس".

 

ثمّ نزعتْ كيس المصل والدم الفارغين من يدي. كانت عروقي قد جفّت كما اسودّت وتورّمت أصابع يديّ وقدميّ. أحببتُ أن أنكمش

 

206

 


186

الفصل الثامن والعشرون

(أتكوّر) على نفسي. كنت أتضوّر جوعًا لكنني خجلتُ أن أقول إنّي جائعة! فسألتها: "هل تريدين وضع كيس مصل جديد لي؟"

- لا، يمكنك من اليوم تناول الطعام.

 

ذهبت وأحضرت لي علبة بسكويت هشّة. بينما كنت آكل البسكويت وإذا بالسيّدة زينب، أختي ليلى، زهرة، صباح، حسين وعبد محمّدي بالإضافة إلى سائق الإسعاف التي أخرجتني من سنتاب قد دخلوا جميعًا إلى القسم. أسرعت زينب قبل الجميع نحوي، فحضنت رأسي وقبّلتني ثمّ قالت: "لماذا فعلتِ هذا بنفسك يا فتاة؟ ماذا سأقول لأمّك؟ ألم تفكّري فيما سيحلّ لك في الجبهة؟ كم على أمّك المسكينة أن تتحمّل"؟!

- إنني بخير الآن، ألا ترين ذلك!

 

عانقتني بحنان ثانية وضمّت رأسي إلى صدرها بقوّة وراحت تكرّر: "الحمد لله، لقد قلقتُ عليك كثيرًا"!

 

تنحّت زينب جانبًا فتقدّمت الفتيات الواحدة تلو الأخرى وقبّلن وجهي. أمّا أختي ليلى فبالرغم من أنّها بدت هادئة إلّا أنني رأيت في وجهها علامات القلق والضيق. همستُ في أذنها: "صدّقيني ليس هناك ما يقلق. إنّها مجرّد شظيّة صغيرة جدًّا!"

 

أمّا حسين عيدي فقال لي متألّمًا وكأنّه المسؤول عن وقوع الحادث: "ما كان عليكِ أن تذهبي يا أختاه، إنّها وظيفتي أنا!"

- لم يجبرني أحد على الذهاب. وهل أنت مسعف؟

- في السابق عبد الله والآن أنتِ، إنني خجل من نفسي أنّي ما زلت سالمًا.

 

207

 


187

الفصل الثامن والعشرون

أردفت زينب: "ليس المطلوب أن يسقط الجميع شهداء أو جرحى، وإلّا فمن الذي سيقف في وجه العدوّ. إن كان الله يحبّنا فسيأخذنا إليه سريعًا، وإن لم يكن راضيًا عنّا فسننتظر حتّى نحصّل رضاه. ورضى الله اليوم هو في مقاومتنا وثباتنا. ستتحسّن حال زهراء قريبًا بإذن الله، وسنقف جنبًا إلى جنب في وجه العدو. لا داعي للقلق".

 

ثمّ سألتْني: "كيف حالك؟ ماذا ستفعلين؟"

 

حين تقلّبت بين النوم واليقظة سمعت أنّني من بين الجرحى الذين سيُنقلون من هنا؛ لذا وخوفًا من نقلي إلى ماهشهر قرّرتُ العودة إلى "خرّمشهر" معهم. فأجبتُ زينب قائلة: "لا شيء، عليّ أن أعود إلى "خرّمشهر". لقد سمحوا لي بالرجوع".

 

سألتْ مستغربةً: "ستعودين إلى "خرّمشهر" وأنت على هذه الحال؟ هل هذا ممكن؟!".

 

قالت الفتيات: "دعينا نذهب ونسأل ماذا علينا أن نفعل، وما هو سبب قرار إخراجك من المستشفى".

 

فقلت: "لا، لا داعي لذلك. إنّهم مشغولون كثيرًا، هلمّوا لنذهب".

 

لكنّهم لم يقبلوا حتّى تمكّنتُ من إقناعهم. طلبتُ المساعدة من الفتيات فأجلسوني على السرير. شعرت بثقل فظيع في قدميّ. قلت لهنّ: "ضعن أكتافكنّ تحت كتفيّ".

 

أنزلت زينب وليلى قدميّ، اللتين لم تكونا تحت سيطرتي من السرير، فوضعتُ يديّ على كتفيهما ثمّ مشيتا، بينما كانت قدماي تُسحبان على الأرض لأنّي لم أستطع السير عليهما. سرنا قليلًا، التفتّ إلى أنّ بنطالي قصير

 

 

208


188

الفصل الثامن والعشرون

فطلبت من زهرة أن تضع عليّ الغطاء.

 

في الخارج ملأت الجلبة والضجيج المكان بحيث لم يشعر المعنيّون بخروجي. غير أنّ القلق والاضطراب كادا أن يقتلاني إلى حين خروجي من الصالة. ودعوت الله أن لا يراني أحد فيفتضح أمري. عندما خرجنا من الصالة شعرت بشيء من الراحة، مع ذلك ظلّ الرعب مسيطرًا عليّ إلى أن خرجنا من المستشفى بشكل نهائي ووصلنا إلى الجادّة الأساسيّة. عندما أيقنت أنّهم لم يلتفتوا لخروجي شرعت في الحديث إلى الفتيات قائلة: "إنّه لأمر عجيب أنكنّ تذكرتنّني وحضرتنّ لرؤيتي"!

 

فأجبن: "لقد جئنا مرّات عدّة، ولكنّك كنتِ غائبة عن الوعي".

 

بعد ذلك سألتهنّ عن وضع عيادة الدكتور شيباني. حين وصلنا إلى محطّة الوقود اتّكأت على يديّ بصعوبة لكي أتمكّن من النظر إلى الخارج من خلال النافذة. كدت أطير من الفرح وقلت: "يا إلهي، نكاد نصل إلى خرّمشهر"!

 

ضحكت زينب وقالت: "إنّك تقولين ذلك وكأنّك تأتين إلى "خرّمشهر" لأوّل مرّة يا فتاة"!

 

عندما عبرنا الجسر وشممت رائحة النهر فرحت كثيرًا. هاج قلبي بالعواطف والأحاسيس وأنا أشكر الله مرارًا. كنت في غاية الشوق إلى أبي وأخي علي؛ كلّما قصدت قبريهما كنت أشعر بأنّهما يتحدّثان إليّ وينظران إليّ من الأعلى ويسمعان كلامي! ورغم أنّي كنت بعيدة عن أمّي وإخوتي إلّا أنّي لم أقلق عليهم لشعوري أنّهم بعيدون عن الخطر. من جهة أخرى اعتبرت هذا البعد مفيدًا لأمّي؛ إذ إنّ أملي هو الالتحاق بأبي وعليّ، فكنت أقول: "هكذا ستعتاد أمّي على غيابي".

 

209

 


189

الفصل الثامن والعشرون

تضاعفت سعادتي مع اقترابنا من عيادة الدكتور شيباني، فقد اشتقت إلى هذا المكان أيضًا. ما إن وصلنا حتّى تحلّق الجميع حول سيّارة الإسعاف؛ بلقيس ملكيان، مهرانكيز دريانورد، السيّد نجّار، الدكتور سعادت، مريم أمجدي، أشرف فرهادي و...

 

ساعدتني الفتيات على السير. صعدنا درجات العيادة بصعوبة، فرفعت الفتيات رجليّ وصعدنا السلّم. شعرت بخجل كبير من هذا العمل، ولكنّي كنت مجبرة على التحمّل لأنّي أحببت المجيء والبقاء في هذا المكان. هذا في حين لم أتمكّن من الوقوف على قدميّ ولو للحظة لأنهّما كانتا ترتجفان بشدّة كما إنّ ألمًا شديدًا أصاب كامل جسمي وانتقل إلى رأسي.

 

في العيادة تقدّم أطباء البعثات الطبّية ورحّبوا بي. أثناء انشغالنا بالسلام خرج طبيب من الغرفة الخاصّة بحقن الإبر مرتديًا بزّة عسكريّة، وكان في الخامسة والأربعين تقريبًا. ما إن وقع نظره عليّ حتى سأل: "في أيّ مكان أصابت الشظيّة هذه الفتاة"؟

 

أجابت الفتيات: "أصابت عمودها الفقري".

- وكيف جئتنّ بها إلى هنا وهي على هذه الحال؟!

- لقد أذنوا لها بذلك.

- حسنًا، ولكن ينبغي أن لا تتعرّض لأيّ ضغط في ظلّ وضعها هذا. احملوها إلى مكان مناسب لكي تتمدّد.

 

أخذتني الفتيات إلى غرفة ومدّدنني على بساط وُضِعت تحته قطعة ورق مقوّى. ولمّا رآني الطبيب نائمة على بطني سأل: "من قال إنّهم أذنوا لها بالخروج"؟

 

210

 


190

الفصل الثامن والعشرون

- هي، هي التي قالت ذلك.

- هذا هراء! يجب أن تُنقل إلى مستشفى متخّصص، ليس صحيحًا أن يُسمح لها بالخروج!

 

ثمّ تقدّم منّي غاضبًا. نزع الغطاء عنّي ونظر إلى الجرح الذي عاود النزف بشدّة. أرته الفتيات صورة الأشعّة التي أُجريت لظهري، فاستشاط غضبًا وتشاجر معهنّ: "ألم تحتملن أن يُقطع نخاعها الشوكي؟! ألم تدركن أنّها قد تُشلّ حتّى آخر عمرها وتبقى عبئًا على الآخرين"؟!

 

وقفت الفتيات حائرات، فقد كنت أتصرّف بشكل طبيعيّ للغاية بحيث لم يصدّقن كلام الطبيب. ثمّ قلن: "لم نكن نعلم أنّ وضعها وخيم إلى هذا الحدّ. لقد قالت بنفسها إنّها أفضل، وأصرّت على الخروج".

 

قال: "فلتقل!! ألا ترين مكان الجرح؟ إنّها لا تعي خطورة وضعها، وإن أصيبت بالشلل الآن فأنتنّ المقصّرات".

- إنني بخير، وسأكون بحال أفضل. إنّه مجرّد جرح سطحي.

 

 

فقال غاضبًا: "هل أنتِ طبيبة أم أنا؟ هل تستطيعين أن تقفي على قدميكِ أو أن تسيري بمفردك"؟

- كلّا.

- إذًا، لمَ تريدين البقاء هنا؟ إن قُصف هذا المكان وفرّ الجميع هل تستطيعين أن تذهبي وتختبئي في مكان ما"؟

 

لم أعرف بماذا أجيب، فقلت: "الله كريم".

 

فقال: "ماذا تقصدين؟ إنّ الله قد أعطانا عقلًا. إنّك تريدين بعملك

 

211

 


191

الفصل الثامن والعشرون

هذا أن تشلّي نفسك شيئًا فشيئًا". ثم أردف ساخرًا: "لو كنت طبيبًا مختصًّا لشخّصت لك عدم البقاء في المنطقة على الإطلاق، ويجب نقلك مباشرة إلى خرّمشهر"!

 

تألّمتُ كثيرًا. وفكّرت في أنّي لو كنتُ أستطيع المشي ولم يُسمح لي بالبقاء في العيادة لذهبت إلى المسجد الجامع. فإن لم يسمحوا لي هناك أيضًا لذهبتُ إلى جنّت آباد كما في السابق، فهناك لا يستطيع أحد أن يعترض عليّ. لكنّ المصيبة أنّي كنت عاجزة عن الوقوف والسير على قدميّ!

 

قال الطبيب: "غيّروا لها ضماد جرحها".

 

عقّمت الفتيات الجرح ثمّ ضمّدنه ثانية، وأحضر الطبيب نفسه حقنة من نوع "كفلين" والتي تعتبر مضادًّا حيويًّا قويًّا وقال لي: "إنّ جرحك هذا يفتقر لأدنى المقوّمات الصحية وإن التهب فإنّ إصابتك بالشلل حتميّة".

 

فقلت له: "اضربها في يدي".

 

شعرت بحريق في يدي جرّاء الحقنة بحيث انتشر في سائر أجزاء جسدي. حاولت السيطرة على نفسي قدر الإمكان كي لا أبكي. بينما كنت أتلوّى من الألم خطر لي: "إنّ هذا الطبيب غير صادق فيما يقول. إنّه يقول ذلك لأنّه يريد أن يريح نفسه منّي ولا يريد الاهتمام بي. إنني سأكون بخير غدًا كحدّ أقصى وسأتمكّن من المشي ثانية".

 

عندما عاد حسين ليخبرنا بأنّه أحضر شاحنة لنقلي شعرت باستياء شديد من هذا الطبيب. تحلّقت الفتيات حولي وقالت إحداهنّ: "لقد قمتِ بخداعنا، ولو كنّا نعلم مدى خطورة وضعكِ لما جئنا بكِ إلى هنا بتاتًا. إنّك بعملك هذا قد مضيت على ورقة طردك بيدك".

 

212


192

الفصل الثامن والعشرون

كان لهذا الكلام وقع مؤلم، فانهمرت دموعي. أخذت أتوسّل إلى الطبيب باكية: "اسمح لي بالبقاء. أرجوك اصبر قليلًا، سأكون بخير حتّى الغد، أعدك بهذا. لا تأخذوني من هنا"!!

 

ضحك الطبيب وقد رقّ قلبه لحالي: "ولكن، هل الأمر إليكِ حتى تعدينني بأن تكوني بحال أفضل؟ نحن لا نريد بك سوءًا. نحن لسنا أعداءك"!

- أقسم بالله إنّني لن أضايقكم. لن أكون عبئًا على كاهل أحد. سأقوم بكلّ ما بوسعي من أجلكم".

- لا يمكنك القيام بشيء، ماذا تقولين؟

- بلى، يمكنني وأنا على هذه الحال أن أحضّر القطن المعقّم، أو أنظّف الأسلحة.

- يا ابنتي، يا أختي، أنا أريد مصلحتك؛ عليكِ الذهاب، وإلّا فبقاؤك هنا لن يسبّب لنا أي مشكلة، بل سيسبّب مشكلة لكِ. إن بقيتِ فسوف تصابين بالشلل، اذهبي وعندما تشفين تمامًا ارجعي إلى مدينتك. حتّى ذلك الحين سيكون العدو قد خرج بإذن الله".

 

لقد كان محقًّا، غير أنّ الصوت الذي كنت أسمعه من أعماقي كاد يقتلني: "إنّك لن تري "خرّمشهر" ثانية. هذا آخر عهدك بها. ستذهبين بلا عودة"!

 

لم أفكّر في مسألة إصابتي بالشلل، فباعتقادي أن لا شيء سيحدث من دون مشيئة الله. فمن كان عوني طوال تلك الأيّام الصعبة الماضية؟ كنت أستشعر عناية الله بي في كلّ لحظة. لذا فكّرت في بقائي وأنا أذرف

 

213

 


193

الفصل الثامن والعشرون

الدموع. فتحتْ أشرف فرهادي علبة من الكرز المحفوظ وطلبت منّي بإلحاح أن أتناولها. أدنت الملعقة من فمي، بينما استمرّ نحيبي من دون توقّف، ولم أستطع أن آكل شيئًا! كانت جميع عروق رقبتي وعضلات صدري تؤلمني حتّى وددتُ لو أصرخ، لكنّ حيائي حال دون ذلك!

 

حملوني إلى الشاحنة. ودّعتُ جميع الفتيات وطلبتُ المسامحة منهنّ. جعلتُ أبكي وأقول بصوت مرتجف: "اعتنين بحقيبة أخي عليّ، إنّها أمانتي عندكنّ فلا تضيع. تعالين لعيادتي ولا تنسينني"!

 

بكت الفتيات وواسينني قائلات: "ستعودين إن شاء الله وستكونين بخير، لا تقلقي. أمّا أشرف التي كانت تبكي أكثر من الأخريات فراحت تمسح على رأسي. صعدت ليلى وزينب الشاحنة، كما رافقنا حسين وآخران أظنّ أنّ أحدهما كان خليل معاوي شقيق عبد الله معاوي. جلس خليل على سقف الشاحنة ووقف الآخران في ناحية أخرى، في حين وضعتْ زينب رأسي في حضنها وقد تمدّدتُ على بطني ووضعتْ عليّ الغطاء.

 

انطلقت الشاحنة. كنت مضطربة جدًّا لدرجة أنّي لم أنظر إلى المسجد الجامع. خبّأت وجهي بيديّ وواصلتُ البكاء. كانت لحظات صعبة جدًّا، وما دفعني إلى أن أرفع رأسي تفكيري بأنّ هذا اللقاء هو الأخير. عند ميدان "فرمانداري"، نهضت متّكئة على يديّ ومددت رأسي، فلم أجد أيّ أثر للزّهور الملوّنة، معالم الجادّة والميدان تدمّرت بالكامل، كما إنّ الشظايا أصابت بشكل كبير العمود الذي كان يتوسّط الميدان، وقد نُصب عليه تمثال الشّاه حتّى السنوات الأخيرة. ألقيتُ نظرة نحو مستشفى "مصدّق" فتذكّرت يوم رأيت جثمان شهناز، وذاك الطفل الذي فقد جميع أفراد عائلته، والضجيج وعويل ذلك الرجل الذي فقد زوجته

 

214


194

الفصل الثامن والعشرون

وأبناءه، بالإضافة إلى ذاك الحارس الذي فصلت شظيّة الصاروخ رأسه عن جسده! ثم سرح ذهني في جنّة آباد وسألتُ نفسي: "هل يعلم أبي وأخي على أيّ حال أُحمل من هنا"؟

 

شعرت أنّهما واقفان ينظران إليّ من بعيد. وددتُ لو أصرخ: "أبي، أستحلفك بالله أن تأتي إليّ وترجعني! لا تدعهم يأخذونني. علي! لطالما كنت سندي، لمَ لا تفعل شيئًا من أجلي الآن"؟!

 

أخذتُ أتخيّل أنّهما يودّعاني الآن، فقلتُ لهما: "أردتُ اللحاق بكما، لكنّكما لا تريدان هذا على ما يبدو. لقد تركتماني وحيدة، والآن تريدان إبعادي عنكما"!

 

تكلمت ودموعي تنهمر بحيث لم أعد أرى أيّ شيء حولي. فوق الجسر خاطبت ماء النهر: "ليتك جرفتني يوم كنتَ هائجًا واقتربتُ منك لآخذ الماء".

 

رأيت نفسي كشجرة تُقتلع من جذورها، في حين كانت الجذور في عمق الأرض ولا تريد الانفصال عنها. كيف لي أن أُقلع من هنا. مع أنني ولدت في البصرة إلّا أنني لم أظنّ يومًا أنني منها. لقد أحببت إيران كثيرًا بحيث تعلّمت اللغة الفارسيّة بمجرّد وصولي إلى "خرّمشهر". كنت أظنّ أنني عشت في هذا المكان سابقًا، وأنّني أعلم جميع أنحائه. لقد ترعرعتُ في خرّمشهر؛ لذا فإنّ قلبي يخفق بالعواطف والأحاسيس تجاهها. اشتقت إلى حنان الجيران الذين كانوا يؤثرون الآخرين على أنفسهم بالرغم من فقرهم وفاقتهم! لا ينبغي أن أذهب من هنا، فالذين أرادوا إخراجي من هذه المدينة هم ليسوا من أهلها، وسيرجعون إلى أرضهم عاجلًا أم آجلًا. إنّهم لا يعون أنّ مدينتي ستقع في قبضة العدوّ. إنّهم لا يدركون أنّها

 

215


195

الفصل الثامن والعشرون

تحتاج إلي. كأنّ المدينة كلّها باتت عينًا تنظر إليّ. أحسستُ أنني كسمكة خرجت من الماء وهي تنشد الرجوع إليه. عشت في صراع لن يحقّق أيّ نتيجة، كتلك الأسماك التي لطالما رأيتها في سوق السمك، والتي كانت حيّة تتحرّك في سلال الباعة، فتقفز إلى الأعلى وتجرح نفسها. كنت أنظر إليها غير قادرة على أن أرجعها إلى الماء خوفًا من بائعي السمك. فأضطرّ إلى أن أضع رأسي تحت عباءة أمّي وأبكي عليها!

 

عندما عبرنا الجسر أحسستُ كأنّ جميع الأبواب سُدّت في وجهي، ولم يعد أمامي سوى الإذعان للرحيل. خطر لي أن ألقي بنفسي من الشاحنة، لكنني لم أقوَ على ذلك. عندما رأيت أنني غير قادرة، أنصفت ذاك الطبيب في ما قاله. مع ذلك فإنّ عشقي وعواطفي لخرّمشهر غلبت عقلي ومنطقي، فخاطبتُ تلك الشظيّة، ضيفتي الجديدة: "ليتكِ أصبتِني في مكان آخر ولم تعيقي حركتي. ليتك قطعتِ قدمي"!

 

لدى سماعي دويّ الانفجارات والقذائف وقنابل الطائرات تمنّيت لو تستهدفنا. تضرّعت إلى الله بأن تُقفل الطريق ونُمنَع من الخروج من المدينة. كانت هذه الأفكار تبرّد إلى حدٍّ ما ذلك الألم القاتل الذي لم أشعر به سوى الآن. عبرنا من أمام مستشفى طالقاني ووددتُ لو يقول أحدهم إنّهم سيدخلونني هذا المستشفى وإنني سأتحسّن هنا. عبرنا ولم يقل أحد شيئًا! اقتربنا من محطّة آبادان الثانية عشرة، فرأيتُ من بعيد مقام السيّد عباس، فتوسّلت قائلة: "أسألك بجدِّك أن تردّني إلى مدينتي"!

 

لم أعد أقدر على فتح عينيّ من كثرة البكاء. ولمّا رأت زينب حالي سألتني: "هل تشعرين بألم يا ابنتي"؟

 

فأجبتها لكي لا تكثر من السؤال: "أجل".

 

216

 


196

الفصل الثامن والعشرون

فقالت زينب للممرّضة التي رافقتنا من العيادة: "هل يمكنك أن تعطيها حقنة مسكّنة؟ إنّها تتألّم بشدّة".

 

قالت: "لا، فقد أخذت مهدّئًا لتوّها، لا يمكن ذلك الآن. إنّها تقاوم المسكّن، وإلّا فإنّ من يتلقّى مثل هذه الحقنة التي أخذتها قبل انطلاقنا، عليه أن يغطّ في نوم عميق".

 

لدى عبورنا المحطة الثانية عشرة أيقنتُ أنّني لن أعود أبدًا. خلال الطريق رأيت الناس يخرجون من آبادان وقد حملوا معهم أمتعتهم وبدوا بحال يُرثى لها. ساروا جميعًا على الأقدام وقد أعياهم التعب. أمّا الأطفال فمشَوا باكين منتحبين. كلّما مرّت سيّارة هجم الناس عليها وأخذوا يتوسّلون إلى ركّابها ليقلّوهم. وبما أنّ سيّارتنا كانت تسير ببطء لكي لا يتعرّض ظهري لصدمة ما فقد تعلّقوا بالآليّة وقالوا: "نستحلفكم بالله، إننا بشر مثلكم. لقد أضنانا التعب فأوصِلونا إلى مكان ما"!

 

ولمّا رأوا جريحًا ممدّدًا على أرض الشاحنة ذهبوا من دون أن ينبسوا ببنت شفة. فجأة حلّقت الطائرات الحربيّة فوق رؤوسنا على علوّ منخفض جدًّا بحيث وقعت ظلالها على رؤوسنا. صار الناس يفرّون وهم يصرخون، وسمعت عددًا من الأشخاص يخاطبون حسين عيدي وخليل معاوي قائلين: "أنتما لديكما أسلحة فلمَ لا تطلقان عليها النيران؟!".

 

وما إن أطلقا النار على الطائرات حتّى أمطرتنا بوابل من الرصاص. قال أحدهم: "أطلق النار، يمكنك أن تصيبها!".

 

واستنكر آخر: "اتركها، لا تطلق النار".

 

حاول السائق إخراج السيّارة من دائرة إطلاق الرصاص، فزاد سرعته

 

217

 


197

الفصل الثامن والعشرون

متّجهًا نحو التراب وتوقّف في مكان ما. ضجّ المكان بعويل النساء ونحيب الأطفال وصياح الرجال الممتزج بدويّ الانفجارات وتحليق الطائرات! كانت أصوات غريبة تدوّي في رأسي، وزادت رؤية هذه المشاهد حالي سوءًا. كرهت كلّ ما حولي وأخذت أبكي بهدوء. اعتقدت أنّ أختي ليلى تودّ الرجوع إلى "خرّمشهر" حتمًا، لكن عليّ أن لا أدعها هناك وحدها. وشيئًا فشيئًا فقدت وعيي وغرقت في النوم.

 

218

 


198

الفصل التاسع والعشرون

الفصل التاسع والعشرون

 

لا أعلم کم مضی من الوقت حين استيقظت علی أصوات وضجيجٍ، فوجدت أننا قد وصلنا إلى مستشفی ماهشهر. توقّفت الشاحنة أمام مبنیً حجريّ قديم، أحضروا نقّالة ووضعوني عليها، ثم جاء رجلان ضخما البنية وحملا النقّالة وذهبا بي سريعًا إلی غرفة العمليّات. لم يُسمح لليلى وزينب بالدخول معي فبقيتا خارج الغرفة. سمعتُ صوت زينب تقول: "أستودعك الله يا بنتي، اذهبي وأَخرجي تلك الشظيّة من ظهرك، وستتعافين إن شاء الله".

 

في تلك الغرفة ذات المصابيح الكبيرة المضاءة حيث ارتدى الجميع رداءً أخضر، نظرتْ إليّ ممرضةٌ وقالت لي: "سوف نجري لك فحصًا هنا ثمّ يُتّخذ القرار بشأن العمليّة".

 

بعد ذلك قدّمت لي الأطباء المختصّين بجراحة الدماغ والأعصاب والجراحة العامّة الذين کانوا معنا في الغرفة. بينما کانوا ينظّفون جرحي، قام الأطباء بإلقاء نظرةٍ علی الصور التي أُخِذت لظهري في مركز توليد "خرّمشهر" ومستشفی شرکة النفط، ثم تکّلموا فيما بينهم. بعد ذلك فحصوا قدمَيّ وقاموا بإدخال إبرةٍ في رکبتَيّ وباطن قدمَيّ وساقيّ. لم

 

221

 


199

الفصل التاسع والعشرون

أشعر بالألم، بل شعرت بشيءٍ يصطدم بتلك المنطقة التي تُغرز فيها الإبرة فحسب. وفي أغلب الأماکن الأخری لم أکن أشعر بشيءٍ مطلقًا، فقدت الإحساس بأصابع قدمي اليمنى، وكأنّها كانت مخدّرة بالكامل!

 

بعد تضميد جرحي قال لي رئيس الطاقم الطبي: "المكان الذي أصابته الشظيّة صغيرٌ جدًّا لکنّه مکان حساسٌ. من الأفضل أن يتمّ نقلك إلى إحدى المدن الكبيرة؛ طهران أو شيراز مثلًا".

 

سألني عن حالي منذ أن أُصبت إلی الآن، فأخبرته عن حال کُليتيّ وقدميّ. أخذ أفراد الطاقم الطبي يتناقشون، أمّا أنا فلم أستطع أن أفهم الکثير من كلامهم المليء بالمصطلحات الطبيّة. الشيء الوحيد الذي فهمته هو أن عمليّتي کانت خطيرة جدًّا. ولمّا أنهوا حديثهم سألت الطبيب: "هل سأتعافی بسرعة يا دكتور؟".

 

وظنًّا منه أنّي خائفة قال: "إن شاء الله ستكونين بخير، لکن، لا بدّ من أن يفحصكِ أطباء آخرون لکي يقرّروا بشأن العمليّة. لا نستطيع أن نُجري لك العمليّة هنا، فمکان الشظيّة حساسٌ جدًّا، ولا يمکن إجراؤها بهذه السهولة. هناك سيقرّرون إن كان سيتمّ ذلك أم لا".

 

عند الساعة الثالثة تقريبًا أخرجوني من غرفة العمليّات. کانت صديقاتي ينتظرنني خارج الغرفة، فسرن بجانب نقّالتي. دخلنا إلی القسم العموميّ، فرأيت المكان مكتظًّا بالأسرّة الممتلئة بالجرحى، ولم يکن هناك مکانٌ لي. اضطرّوا إلی وضعي في النقالة علی الأرض، واجتمعت صديقاتي حولي، لکنّي لم أرَ زينب بينهم فظننت أنّها عادت إلی "خرّمشهر". بعد مرور ربع ساعة أو أكثر وبينما أنا أتحدّث مع الفتيات، سمعت صوت

 

222

 

 


200

الفصل التاسع والعشرون

زوجة خالي "نادعلي" تقول: "تعال يا ناد علي، إنّها هنا!".

 

جاءا إليّ، فقبّلتهما والغصّة تملأ حلقي، قالت زوجة خالي بحزن: "ما هذا الذي فعلتِه يا ابنتي؟ لماذا لم تأتِ مع والدتك وإخوتك؟ هل هذا ما أردتِه؟ ما ذنب والدتك الثكلى؟ ماذا ستفعل إن رأتكِ بهذه الحال؟".

 

أما خالي الذي بدا الحزن على وجهه فقد کان ساکتًا كأنّه شعر بغصّة مثلي. سألتني زوجته عن أحوال "خرّمشهر" وقالت: "إنّ الإذاعات لا تنقل لنا شيئًا، إلی أين وصل العراقيّون؟".

 

بينما كنّا مشغولين بالحديث وإذ بـ"دا" تدخل من باب القسم -وکنت أنا عند الباب- فرأتني على الفور. كاد عقلي أن يطير وتَملّکَني خوفٌ رهيبٌ، فقد خشيتُ أن تسألني عن أخي عليّ، عندها ماذا عساي أجيبها؟ أخذت أتضرّع إلى الله ألّا تواجهني بالسؤال عنه. لکن، کيف عرفت أنّي هنا؟ لم أرغب في أن تعلم أنّي مُصابة. کنت خائفة من أن تمنعني من العودة إلی "خرّمشهر" بعد الآن. من جهةٍ أخری کنت في غاية الشوق إليها، تمنّيت لو لم يکن أحدٌ معنا في ذلك المکان لأرمي نفسي في حضنها وأبکي. تمنّيت لو أستطيع إخبارها بما جری عليّ من مصاعب، وأحدّثها عن کلّ اللحظات التي کنت فيها مع علي من حين استلام جثّته من المستشفى إلی أن دفنته في التراب. أردت أن أخبرها بکل شيء، لعلّ ذلك يخفّف من الألم الجاثم على صدري. كان کلّ کياني توّاقًا إلى الحديث معها، لکن کان عليّ أن ألزم الصمت، حتی إنّي لم أخبر خالي نادعلي الذي ما برح يسألني عن أخي.

 

أخذت "دا" تُقبّلني وتلاطفني کما کانت تفعل أيّام طفولتي. لقد

 

223

 


201

الفصل التاسع والعشرون

کبرتُ بسرعة، فلطالما استغرقت برعاية إخوتي الصغار ولذا لم تستطع أن تعتني بي كثيرًا، أقصد أنّها لم تحظَ بالفرصة لذلك. لكنّها في أيام مرضي، دأبت على الاعتناء بي أكثر؛ فکانت تحضنني وتُقبّلني وتُفيض عليّ من حنانها وعطفها، عندها کنت أتمنّی أن لا أتعافی أبدًا! أمّا الآن فقد خشيت ألّا تسمح لي بالعودة، وهذا ما جعلني أضطرب. علت حدّة صوتي: "من الذي أخبرها؟ لماذا قلتم لها إنّي هنا؟".

 

فلم يجِبني أحد. قلت لها: "کيف عرفتِ أنني هنا؟ من طلب منكِ المجيء؟".

 

فجأة سمعت صوت زينب تجيبني: "ما هذا الذي تقولينه؟ إنها أمّك! ويحقّ لها أن تعلم ما جری لابنتها!".

- وماذا جری لي؟ أنا بخير، أنا أفضل منكم جميعًا!

 

فضحکت زينب وقالت: "بلى، أنتِ علی حق، أنتِ التي تُسنّديننا وتساعديننا علی المشي".

 

علّقت "دا" بغضب: "وهل تعتقدين أن لا أهل لكِ لتطلقي العنان لقراراتك هكذا؟ أتظنّين أنني بعيدة عنك فلا أعلم أخبارك؟ کلّما قدم أحد من "خرّمشهر" كنت أسأله عنك وعن أختك، أمّا أنتم فلا تُفکّرون فيَّ. لقد أدميتم قلبي، أبوكم من جهة، وعليّ من جهة ثانية، والآن أنتِ. كم عليّ أن أعاني الآلام بسببكم!؟".

 

عندما سمعتُ اسم علي، حاولت أن أغيّر الموضوع فبدأت أضحك، فغضبت "دا" أکثر وقالت: "انظروا إليها، تضحك في موقفٍ كهذا کأنّه يوم زفافها!".

 

224

 


202

الفصل التاسع والعشرون

 

قالت هذا ثم أجهشت بالبکاء، فرقّ قلبي لحالها. قلت لها: "لماذا تبکين يا أمّاه؟ إنني على ما يرام، إنّها مجرّد شظيّة صغيرة، سوف أتعافی خلال يومين وأعود إلی خرّمشهر".

 

ما إن ذكرت العودة حتى ازداد غضبها وبکاؤها وقالت: "أقسم بالله لو وضعتِ قدميكِ خارج هذا المکان سوف أکسر رجلك!".

 

حاول خالي أن يهدِّئ من روع دا، وقالت زينب: "لا تقلقي عليهما، إنّهما أختا الرجال، لقد قاما بأعمال عظيمة. هذه الفتاة التي ترينها مرميةً علی النقّالة قادرةٌ علی أن تقلب الدنيا رأسًا على عقب، ما شاء الله، إنّها طيّبة ونجيبة للغاية، وأنت محظوظة بها. ينبغي أن لا تقلقي علی فتاةٍ مثلها".

 

عندما سمعت "دا" كلام زينب تغيّرت حالها، کأنّها صدّقت أنّي مجروحة ولا ينبغي أن تضايقني أکثر. جلست بقربي واحتضنت رأسي وقبّلته وقالت: "لقد قلتِ إنّ الشظيّة أصابت يدها، فلماذا هي مستلقية؟".

 

قالوا: "لقد أصابتها شظيّة أخری في ظهرها".

 

تألّمت "دا" کثيرًا لسماع ذلك وقالت: "ماذا فعلتِ بنفسكِ؟ فدتكِ أمّك. ماذا سأفعل إن أُصبتِ بالشلل وجلستِ قعيدة البيت؟".

- لا تخافي، أنتِ تعرفينني، لن يصيبني مكروه.

 

فقالت باستهزاء: "أجل، أعرف أنّك جنّية، ولن يصيبك أيّ مکروه!".

 

بعد ذلك قامت "دا" نحو ليلى التي أخذت تبكي منذ لحظة وصول أمي، فاحتضنتها وقبّلتها وأفاضت عليها من حنان الأمومة، قائلة لها -وقد لاحظت نحولها خلال تلك الفترة-: "فدتكِ أمّك، انظري ماذا حلّ

 

225


203

الفصل التاسع والعشرون

بك، ألم يکن ثمّة طعامٌ تأکلينه؟ انظروا کم نحلت وذابت!".

 

"دا" أيضًا كان قد نحل جسدها كثيرًا، أظنّ أنّها فقدت ما يقارب خمسة عشر كيلوغرامًا. لم تعد كما عرفتها حيويّة ونشيطة. بالرغم من أنّها عنّفتني إلّا أنّها باتت كثيرة الصمت والهدوء وقد بدا غمّ كبير على قسمات وجهها. حاولت أن تتصرّف معنا بشكل طبيعيّ، لکنّ عينيها الممتلئتين بالعذاب والعناء كانتا تفصحان عمّا يختلج في أعماقها. شعرت أنّها أصبحت أكثر حساسيّةً وضعفًا من السابق، وإلاّ لما فقدت السيطرة على نفسها ووبّختني هکذا أمام الجميع. وصرت كلّما نظرت إليّ أخجل من عينيها، فأتحوّل بنظري إلى ليلى. ورغم أنني کنت قد أوصيت ليلى عدة مرّات بأن لا تخبر أمّي بشهادة عليّ حاليًّا، وأنّ علينا انتظار الفرصة الملائمة حيث تكون العائلة مجتمعة فنخبرهم بالأمر، لكنني خشيت أن تفقد السيطرة علی نفسها وتبوح بشيء.

 

عندما دخل السيّد بهرامزاده وزوجته القسم، تحسّن الوضع وتوقّفت أمّي عن البکاء. کان السيّد بهرامزاده شخصًا عجيبًا. أخذ يشکرنا بإجلالٍ وإکرامٍ حتی إنّنا خجلنا منه. عندما فرغ من الاستعلام عن حال خالي، تحدّث إلی الأطبّاء الذين قالوا له: "ينبغي أن ننقل المصابة، لكن ليس هناك مروحيّة حاليًا، لذا يجب أن تبقى هنا فلربّما استطعنا نقلها آخر الليل".

 

ظلّ المکان من حولي مزدحمًا لمدّة ساعة. کنت أشعر بالنعاس الشديد بسبب المسکّنات والأدوية المهدّئة، لکن لم أستطع أن أنام بحضور "دا" والآخرين. سألتُ "دا" عن حال إخوتي: "ماذا عن مدارسهم؟".

 

226

 


204

الفصل التاسع والعشرون

لا شيء، فالمدارس مقفلة، وهي عرضة للقصف أيضًا.

 

بعد ذلك سألَتني: "لماذا لم يأتِ معکم عليّ يا زهراء؟ هل يعلم أنّك جُرحتِ؟".

 

لم أعرف بماذا أجيب، فتدخّلت زينب مساعِدة وقالت: "لا تقلقي، مكان عليّ آمن وأفضل من مکان الجميع".

 

شكرت زينب بنظراتي، لکنّي خشيت أن تشعر "دا" بشيء فاعترتني حال من الاضطراب الشديد؛ صرت أسأل خالي عن شيء تارة وأتكلّم مع زوجته طورًا، سعيًا منّي لأن أحرف ذهن "دا" عن التفكير في عليّ. بعد قليل جاءت ممرّضة وطلبت من جميع مرافقي الجرحى إخلاء القسم. فودَّعَنا السيّد بهرامزاده، خالي، حسين عيدي والآخرون ورحلوا. لکنّ قلب "دا" لم يسمح لها بأن تترکني وأرادت أن تبقی بجانبي، حاولت زينب إقناعها بالرحيل قائلة: "لماذا تريدين البقاء، لن تستطيعي أن تقدّمي لها شيئًا. لو أمكن البقاء لبقيتُ أنا لأعتني بها، لکن کما ترين، إنّهم لا يسمحون لأحدٍ بذلك".

 

ذهبت "دا" وبقيت زينب معي. أرادت زينب أن تغادر، لکنّها أخذت تمازحني قائلة: "أرأيتِ، لقد نقلتِ الكثير من المصابين والجرحی إلی المستشفيات، كان المساكين يتوسّلون إليكِ كي تسعفيهم في العيادة لكنّك لم تقبلي. والآن جاء دوركِ کي ترتشفي من الکأس نفسها".

 

لقد أخطأتُ في ذلك ولن أکرّرها ثانية، لکننا کنّا نقول ذلك من أجل مصلحتهم. کان لا بدّ من ذهابهم إلی المستشفی.

 

227

 


205

الفصل التاسع والعشرون

- أنتِ أدرى بما عليكِ فعله فلماذا ترفضين؟ لمَ ترفضين البقاء في المستشفى؟

- دعكِ من هذا المزاح يا أمّاه، ماذا ستفعلين الآن؟ هل ستذهبين أم ستبقين؟

- کنت سأبقی معكِ لو أنّهم يسمحون بذلك. سأعود الآن إلی "خرّمشهر".. ماذا ستفعلين يا زهراء؟ إلی متی تُريدين أن تكتمي خبر شهادة عليّ عن والدتك؟

- لن أخبرها حاليًّا، لننتظر ونرَ مشيئة الله، يجب أن أستعيد عافيتي أولًا.

- يا لأمّك المسكينة، کأنّها أُلهمت بحدوث شيء، کانت تسأل عن عليّ طوال الطريق، وتستحلفني أن أخبرها إن حصل له مكروه، وقالت: "إن لم يكن لديك خبر فخذيني معك إلى "خرّمشهر" لأرى ولدي".

- وماذا قلتِ لها؟

 

قلت لها: "الحمد لله لم يحدث له مكروه. اسألي الله أن يكون كلّ شيء خيرًا مهما كان". لكن أعترف يا زهراء أنّ الأمر صعب جدًّا، فقد مرّت عليّ هاتان الساعتان بصعوبة كبيرة لكثرة أسئلتها لي. ليكن الله في عونكِ! كيف ستتصرّفين معها؟!

 

حرّکتُ رأسي وقلت: "لا أعلم".

- الله کريم، والآن أستأذنك، عليّ الذهاب، فإن تأخّرت أکثر فقد لا أجد سيّارة تُقِلّني إلی "خرّمشهر". هل هناك رسالة تريدين إيصالها إلی صديقاتك؟

 

228

 

 


206

الفصل التاسع والعشرون

خنقتني العبرة وصارت زينب تقبّلني. فأجهشت بالبكاء وراحت دموعي تسيل علی خدّي، فقالت: "أنا ذاهبة يا زهراء ولا أعلم متی سنری بعضنا ثانية". ثم ضحکت وقالت: "ربما استشهدت، لکن أين أنا من الشهادة؟ أتمنّى أن يشفع لنا أولئك الشهداء الذين دفنّاهم، فيعفو الله عن تقصيرنا ويجعلنا في منزلتهم".

 

أحسست بشفافيتها وصدقها. بدأت أشتاق إليها منذ الآن. أرادت أن تُخفّف عنّي قليلًا فقالت: "إن نلتِ الشهادة فلا تنسيني".

 

اطمئنّي، أنا لن أستشهد، أنت من سيذهب إلی "خرّمشهر".

 

إنّ الشهادة ليست في "خرّمشهر" فحسب، فاحتمالها وارد الآن في کل بقعةٍ من إيران. نحن نحتاج فقط إلی عون الله لنحثّ الخطى في طريق الشهادة.

 

ثم قالت ممازحة: "حسنًا سوف أذهب الآن، عليّ العودة إلی الخبز والجبن والبطيخ".

 

حاولت زينب مرارًا النهوض إلّا أنّي کنت أمسك يدها وأمنعها من ذلك قائلة: "انتظري أرجوكِ، ابقي معي قليلًا، أرجوكِ". فتقول لي: "يا بنتي سأرحل عاجلًا أم آجلًا، ما الفرق بين الآن أو بعد دقيقة أو بعد عشر دقائق؟".

 

کنت مضطربة جدًّا، کأنّها أشعلت نارًا في صدري. صارت نفسي تحدّثني بأنّنا لن نرى بعضنا البعض ثانية! بدت زينب کعصفور تحرّر من قفصه! أخذت تواسيني وتقول: "اهدئي، إن استطعت فسوف آتي لرؤيتك إن شاء الله".

 

229

 


207

الفصل التاسع والعشرون

قلت لها باكية محاولة تصنّع الضحك: "لقد كنتِ لنا أمًّا طوال هذه الفترة. اعتنيتِ بأختي ليلى، ووقفت إلى جانبي كلّما احتجتُ إليك. لقد أتعبناك كثيرًا".

 

أجابت بتواضع: "أنا لم أفعل لکما أي شيء، أنتما كنتما شجاعتين واعتنيتما بنفسيکما. لقد أخرجتماني من وحدتي وهوّنتما عليّ فراق ابنتي".

- أخبري والدي أنني لم أُرِد أن أترك خرّمشهر؛ لقد أخرجوني منها بالقوّة.

- لا داعي إلى أن أخبره بذلك، فهو يعلم کلّ شيء. إنّ الشهداء أحياء، أحياء أکثر مني ومنك. نحن لا نراهم لکنّهم يروننا جيّدًا.

- لو کان الأمر کذلك، فلماذا لا يفعلون لنا شيئًا؟

- وما أدراكِ؟ لعلّ أباك وأخاك هما اللذان طلبا من الله أن يجري عليك ما جرى.

- إذًا، فهما ليسا وفيّين!

- لا تقولي هذا، إنّها حكمة الله أن تصابي بجروح. لا بدّ من أن خيرًا ما يكمن في هذا.

 

غضبت منها، لکنّ تعاملها معي لم يسمح لي أن أُظهر غضبي أو أن أکلّمها بِحِدّة، وإلا لقلتُ لها: "أنت أنانيّة، ولا تفکّرين إلّا في نفسك. تدّعين أنّك أمي وصديقتي، ولو کنتِ کذلك لما ذهبتِ وترکتِني هنا!".

 

أحسست حينها بأنّه لم يُشفق عليّ أحد، لا والدي ولا علي ولا حتی زينب التي كانت تضرم النار في قلبي فقط.

 

230

 


208

الفصل التاسع والعشرون

اقتربت منّي مرة أخری وأمسکت وجهي لتُقبّله، فأمسکتُ يديها وانهلت عليهما بالتقبيل قائلة: "أرجوكِ لا تذهبي، انتظري حتى الصباح، لعلّ الله يشاء أن أتعافی وأعود معك إلی "خرّمشهر". الوقت متأخّر الآن، لمَ العجلة، لن تستطيعي فعل شيءٍ علی أيّ حال! ابقي الليلة هنا وستغادرين في الصباح وأنت أكثر اطمئنانًا من وجود وسيلة نقل!".

- کلاّ، الأفضل أن أذهب الآن. صحيحٌ أنّي لن أفعل شيئًا في هذا الوقت، لکن فلأسترِح الليلة بالحدّ الأدنى وأنهض في الصباح لأؤدّي عملي بنشاط.

 

أردت أن أستبقيها بجانبي؛ کنت أحبّها كثيرًا. کلّما تکّلمت عن الرحيل ارتعش داخلي من الخوف. فقد راودتني الأحاسيس بأنّه اللقاء الأخير وأنّها لن تعود أبدًا! عندما قالت "سأذهب" تذکّرت أبي حين قال لي آخر مرّة: "عليّ الذهاب الآن". فقد غدت أفعال زينب شبيهة بأفعاله. قلت لها: "ابقي هنا، ألا تُريدين أن تعملي؟ إنّهم يحتاجون إلى المساعدة هنا أيضًا. ابقي واعملي هنا، وعندما يُرسلونني إلی مستشفًی آخر، حينها يمكنكِ الذهاب!".

- أعلم أنّ ثمّة عملًا کثيرًا هنا، لکن الحاجة الفعليّة في جنّت آباد؛ إذ ليس كل شخص يمكنه الذهاب والعمل هناك. أمّا نحن فننتمي إلی ذلك المكان وعلينا أن نبقی فيه. يجدر بنا ألّا نخرج من مدينتنا ولا نتركها، بل علينا أن نصمد ونقاوم كي لا تقع في يد العدو بهذه السهولة. فإمّا أن نُدحِر الغازي من أرضنا أو نرزق الشهادة کالآخرين، فنرحل عن هذه الدنيا ولکننا لن نرحل من أرضنا أبدًا!.

- إذًا، لماذا تطلبين منّي البقاء هنا وعدم العودة إلی خرّمشهر؟

- لأنّك لو عُدتِ إلی هناك وأنتِ على هذه الحال، فلن تستطيعي

 

231

 


209

الفصل التاسع والعشرون

تقديم أي مساعدة فضلًا عن أنّك ستکونين عبئًا علی كاهل الآخرين. ابقي في المستشفی، وعندما تتعافين يمکنك العودة. فلعلّ البعثيّين يخرجون من أرضنا حتّى ذلك الحين.

 

قالت ذلك ونهضت، فزاد نحيبي وأمسکت بيدها وسحبتها، فأخذت تواسيني بکلامها وهي تسحب يدها من بين أصابعي. ابتعدت بضع خطوات فعَلا صوتُ بکائي، توقّفت لحظة والتفتت إليّ قائلة: "لا تبکي، استودعتكِ الله، توقّفي عن هذا وإلاّ سبّبتِ لي الأذى!".

 

أخفيت وجهي بيديّ حتی لا أرى رحيلها وارتفع صوتي بالبكاء. أخذت أقول في نفسي: "أنتِ أيضًا عديمة الوفاء كالآخرين! أتمنّی ألّا تجدي وسيلة نقل فتعودي إلی هنا فيشفی غليلي!".

 

عندما غادرتْ أوحشتني وحدة مؤلمة لم ينتبْني مثلها عندما غادر خالي ودا. لکن عند رحيل زينب شعرت أنّي الإنسان الأكثر وحدة وغربة في العالم! کرهت المکان الذي کنت فيه، وسألت نفسي: كيف استطاعت زينب أن تعرض عنّي وتغيب بهذه البساطة؟ کأنّها کانت تحلّق!

 

بکيت کثيرًا إلی أن غفوت، فعادت إليّ تلك الکوابيس المريرة، وأزعجتني تلك المشاهد المزدحمة المليئة بالجلبة والضوضاء. كلّما هممت بفتح عينَيّ بخوف خُيّل إليّ أنّ نورًا شديدًا يشعّ في عينيّ ويمنعني من فتحهما! أردت أن أصرخ لکنّ صوتي کان يختنق في حنجرتي. کنت أتخيّل نفسي أتخبّط فأحرّك يديّ ورجليّ إلى أن أستيقظ من النوم مرعوبة! حاولت أن أبقی مستيقظةً قدر المستطاع حتی لا أعاني ذلك العذاب مجدّدًا.

 

کان الجوّ شديد الرطوبة. مع أنّ المراوح المعلّقة في السقف تعمل

 

232

 


210

الفصل التاسع والعشرون

لکنني كنت أتصبّب عرقًا، والتصق شعري المبلّل برقبتي! أحسست كأنّهم وضعوا عليّ وزنًا ثقيلًا منعني من الحركة. لم أکن أری شيئًا في تلك العتمة؛ فقد ستروا النوافذ بأغطية بلاستيکية سوداء، ولم يشعلوا سوى المصابيح المعلّقة في الممر. کانت الممرّضات يتفقّدن الجرحی وهنّ يحملن المصابيح اليدويّة. أغارت الطائرات الحربيّة عدة مراتٍ في تلك الليلة.

 

في منتصف الليل، أيقظتني ممرّضةلتعطيني حقنة وسقتني جرعة من الدواء وغيّرت لي الضماد. قبيل الفجر جاءت الممرضات وقلن: "فليستعدّ الجرحى المطلوب نقلهم. المروحيّة قادمة".

 

قرابة الساعة التاسعة صباحًا سمعتُ صوت المروحيّة. أعتقد أنّها هبطت في الباحة الخلفيّة للمستشفی. جاءت الممرّضات فألقين نظرة ثمّ أخذن الجرحى المصابين بغيبوبة. بعض الجرحى ادّعوا أنّهم من ضمن لائحة المطلوب نقلهم! أمّا أنا فلم أتفوّه بکلمة. حتی عندما سألن إن بقي أحد ممّن عليهم أن يرحلوا، لم أجب بشيء. فجأة مرّت بقربي ممرضةٌ ونظرت إلي بتعجب وقالت غاضبة: "ألست ضمن اللائحة؟ لماذا أنت ساکتة؟ لماذا لا تقولين شيئًا؟!".

 

لم أعرف بماذا أجيبها، فقلت لها: "لا أحد معي، عائلتي لم تَحضُر بعد".

- ليس هناك داعٍ لأن يرافقكِ أحد.

- ولکن، في النهاية يجب أن تعلم عائلتي إلی أين أنا ذاهبة؟

- يمکنكِ إخبارهم بذلك فيما بعد.

- وکيف سأخبرهم بذلك؟

 

233

 


211

الفصل التاسع والعشرون

- علی کل حال، لن تنتظرك المروحيّة، إن لم تذهبي في الحال فسوف تُقلع.

 

فقلت كمن ينتظر ذلك: "لا بأس، فلتذهب".

- ماذا تقصدين بذلك؟ هل الأمر بهذه البساطة؟ هيّا، يجب أن تُنقلي من هنا.

- هناك الكثير ممّن هم أسوأ حالًا منّي، أرسلوهم مکاني وأنا سأنتظر حضور عائلتي. يمكنكم إرسالي في الرحلة القادمة.

 

غضبت الممرّضة منّي، لکنّها مع ذلك حاولت أن تراعي حالي فقالت: "ليس معلومًا متى ستأتي المروحيّة ثانية في ظلّ الأوضاع الراهنة، ولا نستطيع أن نُقدّمَ لك شيئًا هنا. إن بقيتِ هنا فسيلتهب جرحك. فإن لم تسبّب الشظيّة قطع نخاعك الشوكيّ فسيؤدّي التهاب جرحك إلى الشلل الكامل فضلًا عن وجود احتمال الموت، أتفهمين ذلك!؟".

 

ذهبت الممرضة وسمعتُ صوت المروحيّة تقلع ثم تهبط. أخذت أتضرّع إلى الله أن تغادر سريعًا، وعندما غادرت فرحتُ کثيرًا. عند الساعة العاشرة تقريبًا حضر خالي والسيّد بهرامزاده فأخبرتهما الممرّضات أنني رفضت أن أغادر بالمروحيّة، فعاتبني خالي کثيرًا وقال: "المکان هنا ملوّثٌ جدًّا، ويقولون إنّ الأدوية نفدت. ماذا سنفعل إن التهب جرحك؟".

 

کان خالي علی حقّ، فأرض غرف المستشفى والممرّات متّسخة وملوّثة بالدماء والتراب. كما إنّ الوحل الموجود في الباحة الخارجيّة جرّاء الأمطار في الليلة الماضية انتقل إلى الداخل. حاولوا غسل المكان وتنظيفه، لکنّ الأمر ازداد سوءًا، فالماء والوحل انتشرا في المكان أكثر. وبما أنّي كنت ممدّدة

 

234

 


212

الفصل التاسع والعشرون

على النقّالة أرضًا، فقد زادت نسبة تعرّضي للخطر. قصد خالي والسيّد بهرامزاده الممرّضات ثانية، ولمّا رجعا صرّحا: "حسب قول الممرضات، إنّه ليس معلومًا متى ستعود المروحيّة مجدّدًا، ولا يُعرف موعد عمليّة النقل التالية. قد يستغرق الأمر أسبوعًا کاملًا؛ لذا طلبنا منهنّ السماح لنا بأخذك إلی المنزل إلی حين قدوم المروحيّة. فأجبن إنّه لا مانع لديهنّ، لکن علينا أن ننتظر خروج الأطبّاء من غرفة العمليّات، لنأخذ الإذن منهم".

 

استغرق خروج الأطباء من غرفة العمليات إلی ما بعد الظهر. کنت أتضوّر جوعًا، فلم يعطوني سوى المصل. كان وضع کُليتَيّ مختلًا، فمع کل ذلك المصل الداخل إلى جسمي، لم يخرج منه أيُّ شيء ما أدّى إلى تورّم جسمي بالكامل. أحيانًا کنت أشعر بثقل الجهة السفلى من جسمي إلّا أنّي لم أشعر بقدميّ أبدًا. أمّا يداي فكانتا تؤلمانني لأنّهما بقيتا علی حال واحدةٍ لفترة طويلة. سألتني الممرضات مرارًا: "هل تريدين أن نضع لكِ ميلًا؟"، وأجتبهنّ: "کلاّ".

 

عندما کنّ يعطينني حقنة، لم يکن الدواء يصل إلی شرياني بسبب تورّم جسمي، فکنت أشعر بالأذى وأرفض الحقنة، فقلن لي: "أيُّ نوع من المرضى أنت؟ كم أنتِ عنيدة!".

 

شعرتُ أنّ دهرًا قد مضى حتى حلّ العصر. کنت في حال سيئة وأحسستُ بثقلٍ في رأسي. كلّما أغلقت عينَيّ راودتني کوابيس مزعجة واعترتني حال من الدوار. ضقت ذرعًا من الاستلقاء على بطني عدّة أيّام. من جهة أخرى، ما فتئوا يأتون ويذهبون بجرحى، وأنينهم يملأ المكان، فأتألّم لحالهم وأتمنّى لو أستطيع النهوض وتقديم المساعدة. خصوصًا أنّ الممرّضات قد أعياهنّ التعب، فعددهنّ لم يكن كافيًا لتلبية حاجات هذا

 

235

 


213

الفصل التاسع والعشرون

العدد الكبير من الجرحى.

 

أخذت أراقب الباب بانتظار حضور الأطباء لعلّي أستريح من هذا المكان سريعًا. کنت أعاني من وهنٍ شديد، وأتوق إلی کوب شاي ساخنٍ، فلو کنت الآن في بيتنا لشربت عدة أکوابٍ من الشاي حتّى العصر. قلت للممرضات مرارًا: "لقد يبست يداي، أرجوکنّ ساعدنني کي أستلقي علی جنبي!".

- لا يمكن، ثمّة خطر عليكِ قد تتحرّك الشظيّة من مکانها.

 

بتّ في حال يُرثی لها عندما حضر الطبيب، وما إن رآني حتى سأل مستغربًا: "ماذا تفعل هذه هنا؟".

 

قالت الممرضة: "لقد رفضت أن تذهب".

 

فغضب الطبيب وقال: "لماذا لم تذهبي"؟

 

قالت الممرضة: "لم تتبوّل حتّى الآن يا دكتور"!

- لماذا لم تضعي لها الميل؟

- لم تسمح لنا بذلك.

- ماذا تعنين بذلك؟ وهل الأمر يرجع إلى المريض؟ هل تُنفذّين رغبات المرضى هنا؟!

 

ثم التفت إليّ وقال: "لماذا تتدخّلين في مسائل العلاج؟".

 

لم أشأ أن أزيد الأمر سوءًا فسکتُّ. قال خالي: "لو سمحت لنا نريد أن نأخذها إلی البيت".

 

قال الطبيب: "إن أردتم أن تأخذوها إلی البيت فعليکم أن تعطوها الأدوية والحقن بانتظام وتضعوها في مكان نظيف وصحيّ. أنا موافق

 

236


214

الفصل التاسع والعشرون

على أخذها نظرًا إلى تلوّث المكان هنا، بشرط أن لا تقف علی قدميها بتاتًا. هل هناك من يستطيع أن يعتني بها ويقوم لها بهذه الأمور؟".

 

قال السيّد بهرامزاده: "أجل، سوف تحضر ممرّضة من أقاربنا لتعتني بها".

 

ذهب السيّد بهرامزاده لإحضار الأدوية، وفي الأثناء وصلت "دا" وأختي ليلی. جهّزوا لي سيّارة إسعاف فوضعوني داخلها. جلس السيّد بهرامزاده قرب السائق، وجلست أمي وليلی وخالي معي في الخلف.

 

ما إن تحرّكت السيّارة حتى أجهشت "دا" بالبكاء قائلة: "فدتكِ أمّك أّيتها اليتيمة الغريبة! کم تورّم جسدك يا بُنيتي!".

- لماذا تبکين يا أمي؟

 

لقد اشتقت إلی عليّ، لا أحد يعرف مکان عزيز أمّه الآن! إنّه مثلكِ عنيد جدًّا! عندما کان في المستشفی لم يدعني أساعده بشيء. کان يتألّم کثيرًا لکنّه کان يکتم أَلَمه مثلكِ تمامًا. کلّما ذهبت إليه قال: "لماذا جئتِ إلی هنا؟ لا تأتي إلی هنا، أنتِ تأتين لتبکي فقط". وأنتِ تقولين لي کذلك: "لماذا أتيتِ، لماذا تبکين"، لقد أصبحتِ مثله، لا تمتثلين لأوامري. ليت أباكِ کان حاضرًا! ليته جُرِح، لرأيته ولو لبعض الوقت ثمّ فليستشهد بعدها!".

 

كان وقع كلامها كاللظى في قلبي، قلت في نفسي: إنّك لا تعرفين أين عليّ الآن أيّتها المسكينة. لو عرفت مکانه لما ذكرتِ أيّامه في المستشفى!

 

وددتُ لو أستطيع أن أحضن رأس "دا" وأعطف عليها. کنت أعرف جيّدًا بأيّ لغة أهدّئ روعها أو أطلب منها القيام بشيء. فهي ومنذ صغري جعلتني مستشارة لها، وهذا ما ساعدني -نظرًا لقدرتي على التأثير

 

 

237


215

الفصل التاسع والعشرون

عليها- أن أغيّر تفكيرها. بكاؤها أمامي بهذه الطريقة جعلني راضية عن كتماني عنها خبر شهادة عليّ.

 

عندما وصلنا إلی بيت السيّد بهرامزاده قلت: "لا أريد أن أدخل علی النقالة، أمسکوا بيدَيّ".

 

لقد عانيت الأمرّين حتی تلك اللحظة؛ كلّ جسمي کان يؤلمني، أمّا رقبتي ويداي فقد يبستا. مع ذلك، لم أصرخ في المستشفى خشية أن يتمّ نقلي بسرعة.

 

خرج لاستقبالنا عدد من العوائل -من أقارب السيّد بهرامزاده- الذين هُجّروا من "خرّمشهر" وآبادان وجاؤوا إلی بيته. كان بينهم فتى من عناصر الحرس الثوري في "خرّمشهر" اسمه سعيد، حضر لزيارة عائلته، فتقدّم نحوي وسلّم عليّ قائلًا إنه يعرف أخي عليّ. كاد لبّي أن يطير وتملّکني خوفٌ شديدٌ. فلو نطق بشيء فماذا سأصنع! أمّا دا، التي كانت تُحبّ أفراد الحرس حبًّا لعليّ، أخذت تحنو علی ذلك الفتی کعادتها وتدعو له بطول العمر. ولحسن الحظ لم يتفوّه الفتى بأيّ كلمة عن شهادة عليّ.

 

دخلنا البيت فرأيت امرأة كئيبة جالسة في زاوية غرفة المعيشة. ما إن رأتنا حتّى نهضت وقالت: "لعنة الله علی صدّام، لقد قضی على کل شُبّاننا، لقد سوّد عيشنا!".

 

قال السيّد بهرامزاده بهدوء: "إنّ ابن هذه السيّدة مفقود الأثر. لهذا فإنّ حالها النفسيّة سيّئةٌ جدًّا".

 

شعرت بالأسی لحالها. وزاد من عدم ارتياحي وجود هذا الازدحام

 

238


216

الفصل التاسع والعشرون

وکلّ هؤلاء الضيوف في البيت. بعد ذلك أخذتنا السيّدة مريم -زوجة السيّد بهرامزاده- إلی غرفة حيث مدّدوني على بطني على فراش وتبعتنا النساء اللواتي أخذن يسألنني عن حالي. اعتذر السيّد بهرامزاده من الضيوف قائلًا: "فلنترك السيّدة حسيني بمفردها، ينبغي أن ترتاح".

 

خرج الجميع من الغرفة وأرادت "دا" أن تعود إلی إخوتي فقلت لها: "أمّاه، ابقي معي قليلًا". نظرت إليّ وكأنها أرادت أن تبکي مجدّدًا وهزّت برأسها ثمّ جلست. سألتها: "أين أنتم الآن؟".

- في مخيّم مهجّري الحرب.

- لقد حضرت إلی "سربندر" و"ماهشهر" بحثًا عنکم ولم أجدکم، لکنّي لم أكن أعرف أيّ مكان هناك فتُهت.

 

لطالما انتظرت قدومكم، وقد ترکت لکم رسالة عند العم "غلامي" ليخبرکم أننا في المخيّم.

 

کان العمّ غلامي عاملًا في البلديّة، لذا عاد إلى "خرّمشهر" بعد أن أخرج زوجته وأولاده منها. لكنّني لم أره، وأخبرت "دا" بذلك. عندها قالت: "عليّ أن أعود الآن إلی الأولاد، لقد ترکتهم بمفردهم".

- لمَ تقولين إنّهم بمفردهم، إنّ الله معنا يا أمّي!

 

ثمّ سألتها عن حالهم فأخذت تشتکي وتقول: "إنّ زينب تطلب رؤية أبيك على الدوام، لقد صارت عنيدة وهي تؤذيني کثيرًا!".

 

ذهبت "دا" وبقيتُ وليلی في الغرفة. مضی زمنٌ طويل لم أجتمع فيه بعائلتي تحت سقف واحد، فشعرت بالسعادة. حاولت أن أنام على

 

239

 


217

الفصل التاسع والعشرون

جنبي لعلّي أشعر بالراحة، لكنّ ليلى أصرّت عليّ أن أتمدّد على بطني. قلت لها: "لقد تعبت کثيرًا، دعيني وشأني".

 

ثم بدأنا نتحدّث عن "خرّمشهر". لم يكن لدينا أيّ خبر عنها ولا عن أخبار الحرب هناك. أخذنا نتساءل بأسى: "إلی أين وصل العراقيون في خرّمشهر؟ ماذا جری لعبد الله معاوي؟ هل تَحَسّنت صحّته أم لا؟ فلم تكن حاله على ما يرام". لكننا لم نستطع أن نقول إنّه استشهد! كانت روحي توّاقة إلى "خرّمشهر"، وشعرت كأنني لم أرَ أبي وأخي منذ سنوات. وددت لو أراهما في المنام فتقرّ عيني!

 

عند الغروب، حضرت الممرّضة وهي من أقارب السيّد بهرامزاده؛ امرأةٌ خلوقة، أسهبت بحديثها اللطيف معنا، ثمّ أعطتني الحقن وغادرت. عندما رُفع الأذان، أحضرت زوجة السيّد بهرامزاده إبريقًا من الماء وطشتًا، فتوضّأتُ وصلّيت. بعد ذلك أحضروا لنا طعام الشوربا على العشاء إلى داخل الغرفة، ثم قدّموا لنا الفاکهة. کان قد مضی علينا قرابة شهر لم نذق فيه مثل هذا الطعام والفاكهة. عندما نظرت إلی الفاکهة تذکّرت الأصدقاء في عيادة الدكتور شيباني، فتألّمت للتفكير في حالهم وبأنّهم لم يتناولوا طعامًا جيّدًا منذ فترة. تذکّرت إخوتي سعيد، حسن ومنصور. لا بدّ من أنّهم يعانون الکثير إلی الآن، عندما تذکرت هذه الأمور لم أعد أرغب في تناول الفاکهة.

 

أخذتْ زوجة السيّد بهرامزاده تروح وتجيء وتقدّم لنا الطعام والشراب والفاکهة. أمّا أنا فبقيت حزينة وفضّلت أن أنام.

 

لا أدري کم يومًا بقينا في منزل السيّد بهرامزاده، ربّما خمسة أو

 

240


218

الفصل التاسع والعشرون

ستّة أيّام. کان السيّد بهرامزاده قد أعطی رقم منزله للمستشفی لكي يعلمونا بوصول المروحيّة فورًا. وبدوره ظلّ يتّصل بهم باستمرار. أمّا زوجته السيّدة مريم فقد كانت تقوم بما يلزمني بكلّ تواضع، ورغم وجود جميع أولئك الضيوف لم تسمح لليلی بمساعدتها، کانت تقول لها: "ابقي إلی جانب أختك واعتني بها فحسب".

 

وکانت تُذکّرني بتناول الأدوية في مواعيدها وتُحضر الطعام لي باستمرار. کان طبخها لذيذًا جدًّا، كانت رائحته وهي تطهوه تفتح شهيّتي. ولکن ما إن تقدّمه لي حتّى تسيل دموعي، فآکل القليل منه والغصّة تخنقني! في إحدى المرّات فرشت قطعة من النايلون علی الأرض وأحضرت طشتًا من الماء فغسلت يديّ ورأسي بمساعدة ليلی، ثم نظّفت جسمي بخرقةٍ مبلّلة. شعرت بخجل شديد، لکنّي كنت مجبرة على ذلك.

 

کانت عائلة السيّد بهرامزاده مثله مرتّبة ومنظّمة جدًّا. لقد قاموا بأكثر من الواجب تجاهنا. فحبّهم للسادة الهاشميّين من جهة، واستشهاد والدي وصمودنا في "خرّمشهر" من جهة أخری، كلّ ذلك جعلهم يحترموننا کثيرًا لدرجة أنّنا خجلنا منهم كثيرًا.

 

أمّا الممرضة فکانت تأتي لتتفقّدني باستمرار، وعلّمت ليلی کيفيّة إعطائي الحقن وتدليك قدمي أثناء دوامها في المستشفى، لکنّها مع ذلك کانت تخاف أن أصاب بقطعٍ في النخاع الشوكي. تدريجيًّا، ومع هذه التمارين والمراقبة، تحسّن عمل المسالك البوليّة لديّ، وبالتالي بدأ الورم يزول وظهر النحول الذي أصابني! عندما جاءت "دا" ومعها أختي زينب -ابنة السنوات الخمس- خافت الطفلة منّي ولم تجرؤ على الاقتراب، واختبأت خلف دا! أمّا أنا فقد كنت في غاية الشوق إليها ورحت أناديها

 

241

 


219

الفصل التاسع والعشرون

قائلة: "هلمّي إليّ يا عزيزتي، هذه أنا، زهراء".

 

فنظرت إليّ واختبأت ثانية، فما كان من ليلى إلّا أن حضنتها لكي يزول خوفها وشعورها بالغربة. استغرق الأمر بعض الوقت حتّى رضيت، ومع هذا الاستغراب فإنّها حين اقتربت منّي ألصقت نفسها بي ووضعت رأسها على صدري وأخذت تمسح على وجهي، فأخذت ألاطفها وأداعب شعرها وأقبّل وجهها. وشيئًا فشيئًا بدأت تتكلّم ولم نستطع إسكاتها، وقالت: "لقد اشتقت إليكِ، أين كنتِ؟ لماذا أرسلتِنا وبقيتِ؟ لماذا لم تدعينا نبقى معك؟ متى سنرجع إلى بيتنا؟ لقد تعبتُ كثيرًا، متى سيأتي أبي؟؟..".

 

كلّما أجبتها عن سؤال سألت آخر. زينب هي الأخرى كانت قد نحلت. بدا واضحًا أنّها مهمومة وأنّ بالها غير مرتاح. أمّا شعرها فكان أشعث ويداها متّسختين بحيث يخيّل للناظر أنّهما ملفوفتان بضماد! لم تعد زينب كالوردة الغضّة الطريّة كما كنّا نراها سابقًا، وكان أبي يشتري لها ثيابًا ملوّنة فتبدو فيها كالدمية. أما الآن فقد ارتدت فستانًا طويلًا مع سروال للنوم فضفاض مخطّط، وفوق الفستان كنزة صوفيّة خضراء اتّقاءً للبرد. وربطت على رأسها شالًا مثلّث الزوايا. تألّمت لوضع ثيابها كثيرًا، لكنّ الأسوأ شعرها الذي غدا خشنًا ككيس الخيش! بينما أخذت أقبّل يدي زينب اغرورقت عيناي بالدموع، فقلت لأميّ: "لماذا تبدو زينب هكذا؟ لمَ هي متّسخة إلى هذا الحدّ؟ انظري إلى يديها كم هما خشنتان وغليظتان!".

 

أجابت: "وماذا عساي أفعل؟ ليس هناك ماء. بعد جهد جهيد تمكّنت من أن أغسلها مرّة واحدة. كم أنت مرتاحة البال! لم يعد لديّ جلد على أن أهتمّ بنفسي!".

 

242


220

الفصل التاسع والعشرون

ندمت على ما قلته لـ"دا". فقد كان واضحًا أنّها كئيبة ولا تقوى على القيام بشيء. كان طرف منديلها لا يزال معصوبًا على جبينها ومعقودًا من الخلف للدّلالة على أنّها ثكلى!

 

باعتقادي، كانت "دا" لا تزال تحيا على أمل رؤية أخي عليّ فقط، وإلاّ فإنّ مصاب أبي كاد يقتلها! بالرغم من أنّها كانت ذات كبرياء ولم تظهر مدى حبّها لزوجها. حتى إنّي أذكر أنّ أبي كان يخاطبها مازحًا: "لم تخبريني حتى الآن عن مدى حبّك لي!".

- لكنّني الآن أدرك مدى حبّها لأبي!

 

خلال حديثنا اتّكأت زينب عليّ، وقد أنِست بي ثانية، فقالت أمّي لها: "تعالي إلى هنا، إنّ أختك مصابة في ظهرها".

 

نظرت إليّ بتعجّب وسألت: "كيف أُصبتِ؟!".

- قذيفة عمياء لم ترني، وقعت قربي، وأصابت شظيّة منها ظهري.

 

ثمّ سألتها كي أنسيها الأمر: "هل لديك رفاق في المخيّم؟".

- ألعب مع الأطفال، لكنّي لم أصبح صديقتهم بعد.

 

بعد مضي ساعتين تقريبًا نهضت "دا" وأرادت الرحيل. كانت حزينة جدًّا، شعرَتْ بأننا نسبّب الإزعاج والحرج لعائلة السيّد بهرامزاده، لذا لم تزُرنا كثيرًا. عندما طلبت من زينب أن تنهض للرحيل قالت لي زينب: "تعالي معنا".

 

فقالت دا: "لا يمكن ذلك، ينبغي لها أن تبقى هنا".

 

أجهشت زينب بالبكاء ولم تتركني، فأخذتها "دا" بالقوّة. مسحت

 

243


221

الفصل التاسع والعشرون

زينب عينيها بيديها وهي تقول: "أمّاه، دعيني أبقى!".

 

ما إن ذهبتا حتّى شرعتُ في البكاء. فقد هيّجت رؤية زينب أشواقي وشعرت بفقد أبي أكثر. ولكي لا يلتفت أحد لحالي وضعت رأسي تحت الغطاء متظاهرة بأنّي نائمة، وبكيت حتّى جفّت دموعي. بعد ذلك، لم تحضر "دا" زينب معها.

مع مرور الوقت بدأت أشعر بالضجر، بالرغم من أنّ السيّد بهرامزاده كان يحرص على أن أكون في حال أفضل وأستريح هادئة البال. فقد طلب الأطبّاء منه ومن خالي أن لا أسمع أخبار الحرب أو أغضب، وأن يكون المكان من حولي هادئًا؛ لذا، كلّما سألتهم عن الأخبار أجابوني: "لا شيء يُذكر، نحن مثلك ليس لدينا أخبار".

 

أحيانًا، كان ضجيج الضيوف يصل إلى غرفتي. كان عددهم يزداد أو يقلّ، فبعضهم يغادر إلى مدن أخرى وبعضهم كان يسكن بيتًا مستأجرًا في ماهشهر. كانت أحاديثهم -وجميعها حول خرّمشهر- تتناهى إلى سمعي. وددت لو أعرف ماذا يجري هناك مع أنّي لم أكن أسمع بوضوح. كلّما جاء أحد لزيارتي أجريت معه تحقيقًا. كان قلبي ينبئني بالسوء. فكلّ إصراري للبقاء في "خرّمشهر" يعود لشعوري بأنّها المرّة الأخيرة لي فيها! كدت أجنّ من التفكير في تقدّم العراقيّين واحتمال عبثهم بقبرَي أبي وأخي وتخريبهما. كانت تلك الساعات الطوال من النوم بلا حركة فرصة لأستعيد في ذاكرتي كلّ الأماكن التي ذهبت إليها واللحظات التي عشتها والأشخاص الذين صادفتهم والمشاهد التي رأيتها. حتّى إنّي اشتقت إلى غنوة التي ضقت ذرعًا من تصرّفاتها في تلك الأيّام. أمّا الآن فأخذت أدعو الله أن يردّني إلى "خرّمشهر" ويسمح لي أن أعود للعمل. فها أنا

 

244

 


222

الفصل التاسع والعشرون

ذا طريحة الفراش في زاوية بيت، جاهلة بكلّ ما يجري من حولي، بعد عشرين يومًا من العمل المتواصل!

 

كان ثمّة غمّ كبير يقبع في صدري. ظننتُ أنني لم أعمل كما يجب خلال تلك الفترة التي كنت فيها في المدينة، وعليّ أن أبذل المزيد من الجهد من أجل مدينتي. لم أعد راضية عن نفسي، ولم أستطع أن أبوح بما يختلج في داخلي لأحد.

 

في إحدى الليالي، بينما كنت مستلقية أستريح، قالت لي ليلى: "هل تذكرين الفتى "سعبري"؟".

- أجل، تقصدين إسماعيل، لقد نقلنا جثّته إلى ماهشهر.

- أوتذكرين أخاه الأكبر إبراهيم؟

- أجل، ماذا به؟

 

في اليوم نفسه الذي جُرحتِ فيه في سنتاب، وصل العراقيّون إلى معسكر القلعة وتراجعت القوّات الموجودة فيه. وبينما كنت أمشي في جنّت آباد، إذا بي أرى إبراهيم سعبري ملقى عند بابها. تقدّمتُ منه فرأيت شظيّة قد أصابت فكّه فقطّعته! كان يتنفّس بصعوبة شديدة والدم والزبد يخرجان من فمه. أعتقد أنّه استشهد هو الآخر.

- ساعد الله قلب أمّه. لقد ربّته وأخاه بمشقّة كبيرة!

 

تابعت ليلى: "عندما وصلت إليه كان يلفظ أنفاسه ويتشهّد بصعوبة. وقفت حائرة فإذا بسيّارة من نوع "جيب" مليئة بالجنود تسير في الجادّة الخارجية من جهة معسكر القلعة. أخذت أصيح في مكاني وأشير لهم

 

 

245


223

الفصل التاسع والعشرون

بيدي لكي يتوقّفوا، لكنّهم مرّوا من أمامي بسرعة من دون توقّف. حزنت كثيرًا وصحت بهم قائلة: "يا عديمي المروءة، يا عديمي الحميّة، ما لكم تتركون هذا الجريح مرميًّا وتذهبون!". لم أكد أنهي كلامي حتّى رأيت في الجادّة نفسها عددًا من العسكريّين قادمين من الناحية ذاتها. حرّكت يديّ مجدّدًا لعلّهم يفعلون شيئًا من أجل إبراهيم. فجأة رأيتُ سيّارة الجيب، وبعد أن ابتعدت عن جنّت آباد، رجعت سريعًا نحوي. تعجّبت كثيرًا مستغربة سبب ذهابهم ورجوعهم الآن. حين توقّف الجيب ترجّل منه شخصان فحملا إبراهيم وقالا لي بارتباك: اصعدي بسرعة، جميع القوّات العسكريّة خلفنا هم عراقيّون!".

 

لدى سماعي هذا الخبر شعرت أنّ مخّي قد تجمّد وساءت حالي. نظرت إلى ليلى مرعوبة خائفة وأخذت أفكّر فيما لو وقعت أسيرة. كدت أُصعق لمجرّد التفكير في ذلك! سألتها: "وماذا جرى بعد ذلك؟".

 

لا شيء، لم أصدّق أنّ العراقيّين استطاعوا التقدّم إلى ذلك المكان! صعدت السيارة مرتبكة، وما إن انطلقنا حتّى ظهرت سيّارة عسكريّة عراقيّة. ولو أنّني بقيت في جنّت آباد يومها لكنت في عداد الأسرى. لا أعلم ماذا حدث لأولئك الذين كانوا هناك. أحمد الله أنّ السيّدة زينب لم تكن في جنّت آباد حينها[1].


 


[1]  في ما بعد، بحثنا كثيرًا عن زينب رودباري، تلك المرأة التي كانت لنا أمًّا في أيّام الغربة تلك. في إحدى المرّات صادفت ليلى إحدى فتيات "خرّمشهر" المقاومات، فأكّدت الأخيرة لها أن السيّدة زينب بقيت في "خرّمشهر" حتّى الأيام الأخيرة لما قبل سقوطها ثمّ أصيبت بجراح حرجة، فنقلت إلى مستشفى في طهران ما لبثت أن استشهدت هناك ودفنت في مقبرة "بهشت زهراء". راجعت إدارة المقبرة مرارًا وبحثت في جميع الدفاتر التي سُجّلت فيها أسماء الشهداء والموتى، فلم أجد اسمها لا في الدفاتر ولا في ملفّات الحاسوب الإلكتروني. كما ولم أجد زوجها ولا ابنتها مريم في "خرّمشهر". ما زلت أبحث عنها في كلّ مكان، وما زلت في غاية الشوق إليها، امرأةٌ كانت من حيث الظاهر مغسّلة موتى، أمّا في الواقع فالله وحده يعلم ما هو مقامها!

 

246


224

الفصل التاسع والعشرون

فقلت بغصّة: "ماذا كنت لأفعل لو وقعتِ في الأسر!؟".

- لا شيء، فأنا كالأخريات. ألم يفعلوها سابقًا؟ ألم يقتحم العراقيّون بيوت الناس ويأسروا عددًا منهم؟!

- توقّفي عن هذا، هذا يكفي، لا تقولي شيئًا!

 

أمسكتُ يدها بقوّة. كلّما فكّرت في الأمر أكثر، ازداد هول الفاجعة عليّ. وبّخت نفسي على تركي ليلى هناك وحدها. فلو حدث ذلك الأمر ماذا كنت سأقول لأمّي؟ ماذا عن أبي الذي قد أوصاني بليلى؟ أين سأكون من ثقته بي في حال لم أحفظ أمانته. نظرت إلى ليلى وأنا أعاتب نفسي وأشكر الله في الوقت عينه. صرت أواسي نفسي أنّ ليلى الآن هنا آمنة سالمة، لكنّي لم أكفّ عن التفكير فيما لو أصابها أيّ مكروه، حينها لم أكن لأسامح نفسي إلى آخر عمري!

 

حين رأت ليلى وضعي ضحكت وقالت: "لم يحدث شيء الآن، هوّني على نفسك".

 

لكنني لم أهدأ. عندما أشاحت بوجهها إلى ناحية أخرى أخذتُ ثيابها لعلّي أهدأ وأشعر بالأمان لوجودها قربي. وحين نامت جعلتُ أنظر إليها وأذرف الدموع. بقي هذا الأمر يشغل بالي لأيّام، وقلت في نفسي: "عليَّ ألّا أتساهل في مثل هذه الأمور ثانية. عليّ أن لا أجعل أبي يندم على ثقته بي. لن أدع ليلى تغيب عن ناظري أبدًا".

 

مرّت أيّام وجودنا في منزل السيّد بهرامزاده على هذا المنوال، وصرت أتعافى شيئًا فشيئًا. فزال الورم في قدمي إلى حدّ كبير، وبدأت أشعر بأصابع قدمي اليسرى، كما استطعت بمساعدة الآخرين أن أقف وأضع رجليّ

 

247


225

الفصل التاسع والعشرون

على الأرض، إلّا أنني لم أكن أشعر بهما. وحين غصّ بيت السيّد بهرامزاده بالناس مجدّدًا طلبت من خالي أن ينقلني إلى مكان آخر. في البداية لم يقبل مضيفنا، لكنّه وافق بعد إصرار منّي. وبعد مضيّ حوالي أسبوع على مكوثي في منزله، وعند الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام جاء خالي بسيّارة وأخذني إلى المخيم (ب) العائد لعمّال الشركة البتروكيميائيّة اليابانيّين والصينيّين والكوريّين، وقد غادروا المكان مع بداية الحرب. يقع المخيم خارج سربندر ويبعد عنها مسافة ربع ساعة تقريبًا.

 

في المخيّم أخرج خالي سريره الخاصّ بالسفر من الغرفة ومدّدني عليه. شعرت بالارتياح لوجودي في الهواء الطلق، لكنّي في الوقت عينه خجلت من طريقة استلقائي. بعد دقائق من وصولنا حضرت "دا" وإخوتي. فركضت زينب نحوي، أمّا الصِبْية فوقفوا في الخلف واسترقوا النظر إليّ خجلين. فقلت لهم: "تعالوا".

 

كانت "دا" قد أخبرتني بأنّهم يلعبون في الباحة على الدوام ولا يصغون إلى كلامها، فقلت لهم: "سمعت أنّكم أصبحتم مشاغبين!". فصاروا يضحكون.

 

إلى جهة غرفة خالي نادعلي آخر المخيّم تقريبًا، كانت تقطن خمس عوائل من أقارب زوجته. جاؤوا جميعًا لعيادتي وتجمّعوا حولي. لكن المساكين لا يجيدون الفارسية وتحدّثوا بالعربية فقط، إذ أخرجهم صدّام قبل سنة من العراق فقدموا إلى "خرّمشهر".

 

قبيل الظهر جاء السيّد بهرامزاده إلينا وقال: "لقد اتّصلوا بي من المستشفى وأخبروني بوصول المروحيّة". فقلت له إنّي لن آتي.

 

248

 


226

الفصل التاسع والعشرون

استاء خالي والسيّد بهرامزاده وسألا: "لماذا!؟".

- أستطيع الذهاب بالسيّارة.

 

كنت قد رأيت في المستشفى كثيرين من المصابين بجروح خطرة ما دفعني لأخذ هذا القرار. لم أجد لنفسي حقًّا باستخدام المروحيّة، لأنني لم أستطع تقبّل ذهابي من دون أولئك المصابين بغيبوبة أو ببتر أحد أعضائهم.

 

قال خالي: "قد يصيبك مكروه جرّاء حركة السيّارة!".

- لا، لن يحدث لي شيء.

 

حاول الاثنان إقناعي بأيّ وسيلة لكنني رفضت، فغضب خالي منّي وغادر السيّد بهرامزاده.

 

في تلك الليلة عادت أوجاعي ثانية، كما دلّت الحكّة في مكان الجرح على وجود التهاب فيه. وفي اليوم التالي طلب خالي من سيّارة الإسعاف الخاصّة بالمخيّم الحضور. ظنّت "دا" المسكينة أنّي سأبقى في ماهشهر فوافقت على عدم مرافقتي.

 

في المستشفى كتب لي الطبيب تقريرًا فوريًّا بالنقل إلى مستشفى آخر، فوضعوني في سيّارة إسعاف متّجهة إلى شيراز، تُقلّ عائلة جُرح جميع أفرادها، لا تكاد السيّارة تتّسع لهم. جلست ليلى على الحافّة البارزة التي تعلو عجلة السيّارة فيما جلستُ على حافّة الباب الداخليّة ومددت رجليّ. ثمّ أُغلقت الأبواب وانطلقت السيّارة بنا يرافقنا طبيب وممرّضة.

 

لم أكن مرتاحة في مكاني، فقد جلستُ بصعوبة في زاوية بين باب السيّارة وجانبها. لم يكن ثمّة زجاج للنوافذ فصار الهواء يدخل من الباب باردًا تارة وحارًّا أخرى. توقّف السائق في إحدى المرّات لتفقّد وضع السيّارة،

 

 

249


227

الفصل التاسع والعشرون

فوضعت الممرّضة عليّ غطاءً فيما اشترى الطبيب المرافق لنا -ويُدعى دكتور مصطفوي- بعض المأكولات ووزّعها علينا. في هذه الأثناء خاطب الطبيب الناس الذين أثارهم الفضول فأخذوا ينظرون داخل السيّارة قائلًا: "تقدّموا وانظروا ماذا جرى لأهل "خرّمشهر". لقد صمد هؤلاء وقاوموا".

 

کنت قد سمعت أنّ أهل إحدى المدن فتحوا خراطيم المياه على النازحين وآذوهم وألصقوا بهم التّهم قائلين: "لقد سلّمتم مدينتكم للعدوّ لأنّكم جبناء! اخرجوا من مدينتنا أيّها الخونة!".

 

لقد كسرت قلبي تلك الكلمات! في البداية لم أرد أن أصدّق لكنّي ما لبثت أن صدّقت ذلك حينما سمعت أهل "خرّمشهر" يقولون: "لن نخرج من مدينتنا، لا طاقة لنا على النزوح والذلّ والهوان. ألم تسمعوا كيف تعامل البعض مع أولئك الذين تركوا المدينة!".

 

لدى سماعهم كلام الطبيب أخذ الناس المجتمعون حول السيّارة يسألوننا: "ما أخبار خرّمشهر؟ إلى أين توغّل العراقيّون؟".

 

اغتنمت الفرصة وأخذت أحدّثهم عن أوضاع "خرّمشهر" فحزنوا كثيرًا، حتّى إنّ بعض النساء أجهشن بالبكاء، ودعانا بعض الناس إلى بيوتهم، فيما قال بعضهم بشفقة: "ماذا تحتاجون فنحضر لكم من بيوتنا؟".

 

قبل أن تنطلق السيّارة تجمهر عدد كبير من الناس حولنا وجعلوا ينظرون من خلال نافذة الباب إلى الجرحى ويظهرون تعاطفهم معنا. تكرّرت هذه الحادثة عدّة مرّات خلال الطريق. وكانت ليلى تحدّث الناس عن أحداث "خرّمشهر" بالتفصيل.

 

250

 


228

الفصل التاسع والعشرون

كانت رحلتي إلى شيراز مؤلمة جدًّا، فقد أتعبتني طريقة جلوسي. كنت أغفو بين الحين والآخر إلى أن فتحتُ عينيّ مرّة فرأيت أننا وصلنا إلى المستشفى، والسيّارة ترجع إلى الخلف بغية التوقّف أمام مدخل الطوارئ. وعلى الفور خرج عدد من الأطبّاء والممرّضات ومعهم نقّالات ونقلونا إلى غرفة كبيرة بدت أنّها غرفة تجهيز المرضى قبيل العمليّات الجراحيّة.

 

بدا لي المكان نظيفًا ومرتّبًا جدًّا، كما إنّ الممرّضات كنّ في غاية اللطف. أُخِذت لي صورة أشعّة سريعة ثمّ وضعوا غطاءً أخضر ذا طبقتين على جرحي وعاينوه. كان أغلب الأطبّاء جرّاحي دماغ وأعصاب. غرزوا إبرة في أسفل قدميّ، وأدخلوها عميقًا في الأماكن الفاقدة للحسّ، كما أخذوا يضربون على ظهري. لكنّي لم أقُم بأيّ ردّ فعل تجاه هذه الأعمال! كنت أشعر وكأنّ قدميّ تجمّدتا. بعد ذلك قالوا إنّ الجرح ملتهب وما كان يجب أن يُخاط! لم أتمكّن من فهم معظم حديثهم. كلّ ما فهمته هو أنّي لن أخضع للعمليّة الجراحيّة، بل يجب أن يأخذوا رأي الدكتور "فقيه" رئيس المستشفى. ثمّ أخذوا يسألونني عن تفاصيل الحادث.

 

بعد ذلك سألتهم: "ما هو تشخيصكم لوضعي الآن؟".

 

فأجاب رئيس الفريق الطبّي: "لم تُصب قدماك بأذى، لكن، من المحتمل أن يكون عصف الانفجار قد أثّر على جهازك العصبيّ. ينبغي أن تبقَي تحت المراقبة وتستريحي لكي يعود عمل الأعصاب إلى حالته العاديّة مع مرور الوقت". ثمّ غسلوا الجرح وفتقوه وأعادوا تضميده، وبعد ساعتين تقريبًا اتّصلوا بالقسم ونقلوني إليه.

 

بقيت في مستشفى "نمازي" قرابة عشرة أيّام. أوصى الدكتور مصطفوي ممرّضات القسم بي وبليلى، وقد كان يعرفني منذ وجودي في عيادة

 

251

 


229

الفصل التاسع والعشرون

الدكتور شيباني. مع ذلك لم أشعر بالارتياح لوجودي هناك. فقد كان عدد الجرحى كبيرًا، ولم أرَ في علاجي ما يستدعي حجز سرير، وكنت مقتنعة بإمكانية متابعة أمور التضميد وحقن المسكّنات والمضاد الحيويّ خارج المستشفى. لذا فقد أبديت عدم ارتياحي إلّا أنّ الأطبّاء قالوا لي: "عليكِ أن تنتظري حتّى انتهاء فترة العلاج. يجب أن نسيطر على الالتهاب".

 

مع مرور الوقت أخذت أستعيد إحساسي في حين زادت أوجاعي. صرت أشعر بحريق شديد في جرحي -الذي اتّسع أكثر- نظرًا إلى التهابه. من جهة ثانية كان عليّ أن أبقى ممدّدة على بطني، فعندما كنت أحاول النوم على جنبي كانت رجلاي ترتجفان أكثر. أمّا كليتاي فكانتا تعملان مرّة في كلّ بضعة أيّام. وزاد من سوء حالي وآلامي رؤيتي لجرحى قادمين من آبادان وخرّمشهر. وددتُ لو أنهض وأعرف منهم الأخبار. سألت في بعض الأحيان مَن كنت آلف وجوههم من المارّين من أمام باب الغرفة أو الداخلين إليها بحثًا عن شخص ما، وأجابني الجميع باقتضاب: "لقد تقدّم العراقيّون كثيرًا، وشارفت المدينة على السقوط".

 

بعدها قيل لي إنّ مدينتي سقطت وإنّ العدوّ ارتكب مجازر بحقّ أهلها! إلّا أنّي لم أشأ أن أصدّق. عند سماعي هذه الأخبار صرت في حال سيّئة يعجز لساني عن وصفها! كان وقع ذلك عليّ ككابوس مرعب، حتّى ظننتُ أنّ "خرّمشهر" ضُمّت إلى أراضي العدوّ كما "هرات" و"كنجه" و"قره باغ"، وأننا لن نستطيع استعادتها أبدًا! كدت أصاب بالجنون لدى تفكيري في هذا الأمر! كيف لا وقد دُفن أغلى من لديّ في تلك الأرض. كنت أختلي بنفسي في الليل وأبكي بصمت وأنا أتصوّر سقوط خرّمشهر!

 

ضاعفت المسكينة ليلى عنايتها بي، لدى رؤيتها حالي هذه. فكانت

 

252


230

الفصل التاسع والعشرون

تضعني أحيانًا على الكرسيّ النقّال وتأخذني إلى باحة المستشفى، إلّا أنّ تلك الباحة الخضراء الجميلة لم تهدّئ من روعي، وكلّما نظرت إلى قسم منها تجدّدت أحزاني؛ فأشجار نخيلها ذكّرتني بأشجار النخيل في "خرّمشهر"، والأزهار المزروعة في حديقتها كانت تشبه إلى حدّ كبير أزهار مستديرة "فرمانداري" والشوارع المؤدّية إليه! لقد اشتقت كثيرًا إلى النهر وإلى الحرّ، اشتقت إلى جوّ "خرّمشهر" المثقل بالرطوبة! أحسستُ أنّي بعيدة عنها منذ سنوات.

 

في أحد الأيام وبينما كنت غارقة في بحر أفكاري مرّ شابّ بقربي، فمشى بضع خطوات ما لبث أن رجع وسألني بدهشة: "هل هذه أنتِ يا أخت حسيني؟!".

- أجل، ولكن من أنت؟

- أنا من أبناء "خرّمشهر"، رأيتك مرارًا في المسجد الجامع، كما إنّي أعرف أخاك عليّ.

- متى قدمت من "خرّمشهر"، ما هي أخبار المدينة؟

- جئت منذ أسبوع، ماذا عنكِ؟

- منذ العشرين من مهر (12 تشرين الأوّل).

- لقد سمعت أنّك جُرحتِ. من حسن حظّك أنّك لم تكوني هناك لترَي ماذا حدث! لو تعلمين ماذا حصل في شارع "40 متري"؛ لقد سُوّي لحم الشباب وجلدهم بالأرض! أعدموا الجرحى ولم يرحموا حتى جثث الشهداء، فأطلقوا عليها النار بـ(B7). أغاروا على جميع البيوت ولم يحفظوا حرمة المسجد الجامع. لقد دمّروا المدينة دمارًا شاملًا بقصفهم.

 

253

 


231

الفصل التاسع والعشرون

قال الشهود على تلك المجازر إنّ المدينة كانت أشبه بحمّام من الدم.

 

صار الشابّ يحدّثني ويبكي بشدّة، أمّا أنا فلم أتمالك نفسي من أن أذرف الدموع رغم محاولتي السيطرة عليها. تابع الشاب كلامه قائلًا: "حين سقط معسكر القلعة اتّجهوا نحو آبادان بغية السيطرة عليها عبر التفافهم من الأعلى، وهذا ما يعرّض مدينة أهواز للخطر أيضًا، لأنّهم يشدّدون الحصار من جهة معسكر "حميد". ماذا يمكننا أن نفعل بأيدينا الخالية؟ لا أسلحة ولا معدّات. لا يمكننا المقاومة في ظلّ هذا الوضع!".

 

كان كلامه برمّته باعثًا لليأس. أخذت أواسيه قائلة: "لا تيأس هكذا. لقد قمنا بثورتنا في سبيل الله، وسندافع عن أرضنا في سبيله أيضًا. لسنا نحن مَن بدأ الحرب. توكّل على الله".

 

هدأ روع الشابّ الذي بدا أنّه مصاب بجراح هو الآخر. فسألته: "هل لديك خبر عن الشيخ شريف قنوتي؟".

 

فانقلبت حاله وقال بحسرة وتأوّه: "لقد قتلوه شرّ قتلة!".

- ماذا تعني؟ كيف ذلك؟ ماذا فعلوا به؟؟

 

في الرابع والعشرين من مهر(16ت1) وصل البعثيّون إلى شارع "40 متري" فأطلقوا نار رشّاشاتهم على الشيخ وآخرين كانوا في سيّارة، فأصيبوا جميعًا بجروح، حتّى إنّ أحد المرافقين للشيخ أصيب بستّ عشرة رصاصة! بعدها أطلقوا رصاصة الانتقام على الجرحى. أمّا الشيخ فأخرجوه وطلبوا منه شتم الإمام الخميني فرفض، فما كان منهم إلّا أن بالوا في فمه وأطلقوا رصاصة فيه فاستشهد. ثمّ نزعوا عمامته وسلخوا جلد رأسه وصاروا يركضون ويهلّلون قائلين: "قتلنا خمينيًّا...". إنّ حال

 

254

 


232

الفصل التاسع والعشرون

أولئك الذين رأوا هذا المنظر سيّئة للغاية!!

 

لم أصدّق ما سمعته! تساءلتُ في نفسي كيف يمكن للبشر أن يكونوا قساة القلب ومجرمين إلى هذا الحدّ؟! وعندما ذهب الشابّ كدت أختنق فأطلقت لصوتي العنان وأخذت أبكي عاليًا.

 

بعد أيّام بُثّ خبر سقوط "خرّمشهر" على الإذاعة والتلفزيون. وقال مقدّم الأخبار إنّه ورغم كلّ الفداء والتضحيات التي بذلها شباب "خرّمشهر" وأهلها، فإنّ "خونين شهر[1]"- وبكلّ أسف سقطت في يد العدو.

 

لقد أطلق الإمام الخميني عليها هذا الاسم، وقال: "إننّي أتعاطف مع عوائل الشهداء. لقد أدّت خوزستان دَينها تجاه الإسلام...".

 

لم أعد أحتمل أجواء المستشفى. في النهاية وافق الأطبّاء، بعد إصراري، على خروجي منه، بشرط المراجعة الدوريّة والعناية الطبيّة. قال لي الدكتور مصطفوي الذي علم بالأمر: "بما أنّك يجب أن تبقي تحت العناية فلنذهب إلى بيتنا، ستكونين مرتاحة مع أمّي وأختي".

 

إلاّ أنّي لم أوافق. لم أرغب في تلبية دعوته مطلقًا، لكنّه تكلّم معي مطوّلًا بغية إقناعي. من جهة ثانية لم يكن لدينا نقود تخوّلنا اتّخاذ قرار العودة بأنفسنا، وكان علينا إمّا انتظار سيّارة الإسعاف التابعة للمستشفى أو أن ننتظر مجيء خالي لأخذنا، وهذا ما اضطرّنا إلى الموافقة.

 

أحضر الدكتور سيّارة أقلّتنا إلى منزله، وهناك استقبلتنا بحفاوة عائلته التي علمت مسبقًا بمجيئنا، فخصّصوا لي ولليلى إحدى غرف بيتهم المؤلّف


 


[1]  أي المدينة الدّامية، ويعني بها مدينة "خرّمشهر".

 

255


233

الفصل التاسع والعشرون

من طابقين، وهي تُشرف على باحة خضراء مليئة بالأشجار. خلال ذلك الأسبوع الذي قضيناه في بيته حضر أقارب الدكتور مصطفوي لزيارته بعدما علموا برجوعه من "خرّمشهر". كان من لحظة وصوله إلى "خرّمشهر" ودخوله عيادة الدكتور شيباني، قد حمل السلاح وتوجّه إلى خطوط المواجهات، لكن لم يتسنّ لي لقاؤه هناك كثيرًا. أمّا الآن فقد رأيت أنّه محلّ تقدير عائلته وأقاربه! ولدى علم ضيوف الدكتور بوجودنا هناك كانوا يبادرون لرؤيتنا ويسألوننا عن "خرّمشهر"، وكان كلامنا يثير اهتمامهم.

 

كم تمنّيتُ لو أتعافى سريعًا لكي لا نثقل على تلك العائلة المحترمة، أما هم فقد حرصوا كثيرًا على راحتنا وأن لا نشعر بالثقل. فما إن كنت أشعر بالدّوار والارتعاش حتّى تسرع أخت الدكتور وتحضر فاكهة معلّبة، فيما تعدّ والدتها السيّدة مصطفوي كبابًا وتطعمنيه بالقوّة. قلت لوالد الدكتور مصطفوي: "أرجو المعذرة، لقد أثقلنا عليكم".

 

فأجابني بنُبل: "لا، لا تقولي هذا، أنا أعتبر الآن أنّ لي ثلاث بنات!".

 

بعد مراجعات متكرّرة للمستشفى بدّلوا أدويتي تدريجيًّا. وحين صرت بحال أفضل ذهبتُ ووالدة الدكتور يومًا إلى مقام أحد أبناء الأئمّة الملقّب بـ"شاه تشراغ"[1]. خلال الطريق أثار اهتمامي كلّ ما في المدينة؛ الأسواق مفتوحة ومليئة بالأطعمة، والنّاس يجولون في الطريق من دون أدنى قلق. قلت في نفسي: "انظري، الحياة لا تزال مستمرّة! صحيح أننا فقدنا أبي وأخي عليّ، لكننا نستطيع أن نعيد الدّفء إلى أجواء أسرتنا".

 

في نهاية المطاف وصلنا إلى مقام "شاه تشراغ". ما إن وقعت عيني


 


[1]  الذي يُعتقد بأنّه أخو الإمام الرضا عليهما السلام.

 

256


234

الفصل التاسع والعشرون

على قبّة أخي الإمام الرضا عليهما السلام وضريحه حتّى انتابني شعور غريب؛ أخذ جسدي يرتعش وخنقتني العبرة، أحسست أنّه المكان الأمثل والأقرب حيث أستطيع بثّ شجوني والتعبير عمّا يختلج في قلبي. فصاحب هذا المقام هو الوحيد الذي يفهم كلامي. عندما رأيت منكوبي الحرب في محيط المقام، على الأخص السيّدات اللواتي ارتدين العباءة العربيّة، سُررت وزادت غصّتي في آن معًا! وددت لو أعانق أهل مدينتي وأقول لهم إننا شركاء في الألم. نظرتُ إليهم نظرات ملؤها المحبّة وهم يجلسون بألم وحزن في زوايا الباحة، بعد ذلك دخلت إلى المقام. سرت بهدوء، قرأت الزيارة، ثمّ قصدت الضريح بينما أخذ جسدي كلّه يرتعش! قدّمت رأسي لكي أقبّل الضريح والدموع تنهمر من مقلتيّ بصمت. بعد قليل هدأ روعي فذهبتُ لتأدية الصلاة، إلّا أنّي لم أملك عباءة كما إنّ ثوبي كان مليئًا بالثقوب، إضافة إلى تمزّقه من طرف الساعد، فألقيت شالي على مكان الثقوب وأدّيت صلاتي. بعدها قصدت الضريح ثانية لكنني هذه المرّة بُحت للسيّد صاحب المقام بمكنون قلبي. أمضينا هناك ساعتين من الوقت شُغفت خلالهما بجوّ ذلك المكان الباعث على الطمأنينة، فشعرت حين خرجنا من هناك أنّي أحلّق! كما إنّ آلامي قلّت وأخذت أسير بشكل أفضل. وفي طريق العودة زرنا سوق "وكيل" القديم ثمّ قفلنا راجعين إلى البيت.

 

شعرت أنّ حالي قد تحسّنت كثيرًا. لم أعد أشعر سوى بقوّة كهربائيّة تضغط على ظهري عندما أقف أحيانًا، بحيث كنت أحبس أنفاسي، بعدها كانت رجلاي تتسمّران فأضطرّ إلى أن أعرج أثناء المشي.

 

وفي المرّة الأخيرة التي راجعت فيها المستشفى، قال لي الأطبّاء إنّ الالتهاب قد زال تمامًا وأصبح وضع الجرح جيّدًا، ثمّ وصفوا لي دواءً

 

257

 


235

الفصل التاسع والعشرون

وسمحوا لي بالمغادرة. ولدى عودتنا من المستشفى، طلبت من الدكتور مصطفوي أن ينسّق مع سائق الإسعاف التي أقلّتنا إلى شيراز لكي نرجع معه إلى ماهشهر، فقال: "إنّ تلك الإسعاف لا تتردّد إلى شيراز باستمرار".

- إذًا، ماذا عسانا نفعل؟

 

فقالت والدة الدكتور وأخته "سونيا" ذات الخمسة عشر عامًا: "حسنًا، ابقيا هنا".

 

فشكرتهما، وبعد إصراري الشديد ذهب الدكتور إلى موقف حافلات شيراز واشترى تذكرتين إلى ماهشهر. في اليوم التالي خرجنا بمرافقة الدكتور نفسه إذ كان لديه عمل في المنطقة، وشايعتنا عائلته.

 

أمضينا الليل بأكمله ونحن نشعر ببرد الطريق القارس، وقد منعني ألمي من النوم. لم أستطع أن أستند إلى مقعدي، فألصقت رأسي على الكرسي الأمامي طوال الطريق. كنت في غاية الشوق إلى "دا" وقلقة عليها. سألت الله أن لا تكون قد علمت بشهادة عليّ. لقد بتُّ شديدة الحساسيّة بعد علمي بسقوط "خرّمشهر" وبسبب الظروف التي عشتها مؤخّرًا، فخشيت أن أفقد صبري لدى رؤية "دا" فأشرع في البكاء وأقرّ لها بكلّ شيء؛ لذلك عندما وصلنا إلى ماهشهر طلبتُ من الدكتور مصطفوي أن يوصلنا إلى بيت خالي "نادعلي"، لكي لا أواجه "دا" مباشرة. وكما توقّعت، كان خالي مستيقظًا في ذلك الوقت من الصباح، ثمّ استيقظت زوجته على صوت طرق الباب. وحين رأياني أقف ولو بمشقّة على قدميّ فرحا كثيرًا. دعا خالي الدكتور لتناول طعام الفطور عنده، لكنّه رفض وقال قبل أن ينصرف: "إنّ هاتين الفتاتين كانتا أمانة عندي، لذا لزم عليّ

 

258


236

الفصل التاسع والعشرون

إيصالهما إلى أهلهما".

 

مع أنّي ظننتُ أنني سأخلد إلى النوم بمجرّد أن أصل إلى بيت خالي نظرًا إلى تعبي الشديد، إلّا أنّي لم أستطع إغماض عيني لفرحي برؤية عائلتي. جاء أقارب زوجة خالي وأبدوا سرورهم لتحسّن وضعي الصحّي. كما أخبر أحدهم "دا" بالأمر، فحضرت برفقة أختي زينب بعد عدّة دقائق. وحين رأتني أقف على رجليّ غمرتها سعادة لا توصف! باعتقادي بدت "دا" أفضل حالًا من ذاك اليوم حين رأيتها كئيبة هرمة في المستشفى. أخذت تنظر إليّ وتقول: "لقد نحل جسمك وشحب وجهك كثيرًا!".

 

أمّا زينب فلم تفارقني بتاتًا. ومع أنّ شعرها بدا أكثر اتّساخًا من السابق إلّا أنّها ما زالت جميلة. تذكّرت كلام أبي حين كان يقول: "إنّ نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم كان يكرم ابنته، فإن كنّا ندّعي الإسلام فعلينا أن نكرم بناتنا".

 

لذلك فقد كان يولينا عناية أكثر من الفتية، خصوصًا زينب بصفتها آخر العنقود... لم تبقَ "دا" معي طويلًا؛ إذ كانت قلقة على الصبيان فقالت: "عليّ أن أذهب".

 

قلت لها: "اتركي زينب معي".

 

حين ذهبت أمي طلبتُ من زوجة خالي مشطًا لأمشّط شعر زينب، فقالت: "لا تفعلي هذا، ستتألّم الطفلة مع ما هي عليه!".

 

حين أحضرت المشط، أخذت أسرّح شعر زينب الأشعث والملتصق ببعضه برويّة ومشقّة، وبينما أنا كذلك التفتّ لوجود قمل في شعرها فتألّمت كثيرًا وبكيت وقلت لزوجة خالي: "انظري ماذا جرى لها، لقد حكّت جلدة رأسها حتّى جرحتها!".

 

 

259

 

 


237

الفصل التاسع والعشرون

فقالت زوجة خالي: "لا داعي للحزن، علينا أن نقصّ شعرها".

 

ثمّ ذهبت لتأتي بإحدى أقاربها التي كانت تجيد قصّ الشعر، فقصّته كالصبيان. في تلك الأثناء سخّنت زوجة خالي بعض الماء وغسّلت زينب في الغرفة الأخرى. أمّا أنا فبقيت لأيّام أجلس خارج غرفة خالي وأنظّف شعر زينب من القمل من دون أن تعترض على ذلك بتاتًا.

 

بدأت أطّلع على أوضاع المخيّم تدريجيًّا. فقد رأيت النساء يخرجن صباحًا واضعات أوعية كبيرة على رؤوسهنّ ويسرعن في اتّجاه واحد، فسألت: "إلى أين تذهب هذه النسوة؟".

 

نحو صنابير المياه، حيث يغسلن الأوعية. فعدد الصنابير قليل والجميع لا يراعي الدور، فتعمّ الفوضى.

 

عند الظهر ازدحم المكان قرب بيت خالي مجدّدًا فسألتهم: "ماذا هناك ثانية؟!".

 

قالت زوجة خالي: "المطبخ قريب من هنا، والناس يسرعون لأخذ الطعام لأنّ الكمّية محدودة ولا تكفي الجميع".

 

إلاّ أنّ خالي لم يكن يحبّ أن يأخذ الطعام من هناك فكان ينفق من ماله الخاص، ويقول: "ما زال باستطاعتنا أن نتدبّر أمرنا، لندع الطعام للآخرين".

 

كان خالي يقصد سوق "سربندر" لشراء الحاجات ويأتي بها إلى زوجته، فتعدّ الطعام على الموقد الغازيّ المحمول، مستخدمة بضع أوانٍ أخذتها من أقاربها في سربندر.

 

في أحد الأيّام ذهبت لأتمشی قليلًا في المحيط وأنا أعرج. کان المخيّم

 

260

 


238

الفصل التاسع والعشرون

"ب" عبارة عن بيوتٍ وغرف صغيرة تتّسع لأربعة أشخاص تقريبًا، ويبعد عن مدينة ماهشهر حوالي خمسة وأربعين کيلومترًا. كانت الطرق الأصلية المؤدّية إليه معبّدة، أمّا الفرعيّة منها فمفروشة بالحصی الناعمة، وجميع أطرافه مسيّجة، غير أنّ الناس غطّوا بعض أجزاء سياجه بالثياب والأمتعة والفرش بحيث لم يبقَ للسياج أثر. ضمّ المخيّم قرابة ثلاثمئة عائلة، وكان من الطبيعيّ أمام ذلك العدد الكبير من الناس أن لا تفي تلك الإمكانيّات المحدودة بحاجاتهم، بما فيها من مرافق صحيّة وطعام وماء!

 

كانت نسبة استهلاك المياه عالية جدًّا؛ ما يؤدّي إلى نفاد الخزّانات سريعًا. أمّا مجاري الصرف الصحّي فكانت ممتلئة؛ ما أدّى إلى تجمّع المياه الآسنة ذات الرائحة الكريهة قرب المرافِق الصحيّة؛ أمّا النفايات فلم يكن ثمّة من يخليها فتكدّست فوق بعضها وغصّت مستوعباتها بالذباب، هذا بالإضافة إلى تزايد عدد الفئران.

 

عندما رأيت تلك المناظر شعرت أنّ المكان مليء بالجراثيم، وأنّ من الممكن أن نُبتلى بأمراض جرثوميّة في أيّ لحظة. لم يكن شعوري مجرّد أوهام، فقد كان مستوصف المخيّم يعجّ بمصابين بالتهاب معويّ وإسهال حادّ، أو بالتهاب في العين. هذا وقد وصل الأمر ببعض الأطفال إلى احتياجهم لعمليّة جراحيّة. من جهة أخرى، كانت غرف العمليّات في المستشفيات ملأى بالجرحى، كما إنّ رياحًا قويّة حاجبة للرؤية كانت تهبّ بين الحين والآخر، ما سهّل انتشار أوبئة متنوّعة.

 

بعد عدّة أيّام قالت لي دا: "حان الوقت لتأتي إلى البيت".

 

منذ يوم عودتي إلى سربندر كنت أفكّر في الذهاب إلى آبادان؛ لذا لم أرغب في الوقوف كثيرًا في وجه "دا". فقد خشيتُ إن ذهبت إلى البيت

 

261

 


239

الفصل التاسع والعشرون

أن توكل إليّ مسؤوليّة إخوتي فلا أتمكّن من العودة إلى منطقة المواجهات. فهمت "دا" ما يدور في خلدي فقالت لي ذات مرّة: "ن أدعكِ تذهبين. انتظري أخاك فإن جاء رافقكِ بنفسه. لن أدعك تذهبين بمفردك".

 

لم أعلم ماذا أقول لها، وكيف لي أن أخبرها أنّ عليّ قد رحل إلى غير رجعة!

 

أخيرًا توجّهت في أحد الأيام برفقة زوجة خالي نحو غرفتنا التي تقع في بداية المخيّم، والتي تبعد عن بيت خالي مسافة لا بأس بها. كانت أمّي قد اشترت دجاجة من السوق، وحين أردت الدخول إلى البيت ذبح الدجاجة عند قدمي عجوزٌ كان يقطن غرفة مجاورة لغرفتنا مع ابنه وكنّته. قلت لـ"دا": "ما هذا العمل يا أمّاه؟!".

 

أجابت: "لقد نذرت إن خرجتِ من "خرّمشهر" سالمة أن أقدّم أضحية".

 

بعد أن عبرت درجات السلّم الثلاث دخلت بيتنا المؤلّف من غرفة واحدة تبلغ 12م2. غطّى أرض الغرفة بساط أخضر اللون من نوع اللباد. أمّا أثاثه فكان سريرين بطبقتين استقرّا على طرفي الغرفة وشغلا الحيّز الأكبر من فضائها، بالإضافة إلى خزانة ذات أدراج حديديّة وشوفاج للتبريد والتدفئة (نظام قديم). كان هناك نافذة صغيرة شكّلت المنفذ الوحيد لدخول النور إلى الغرفة. كان بيت خالي على نفس الشاكلة إلّا أنّه عبارة عن غرفتين، مع ذلك لم أشعر بالراحة فيه. لمّا رأيت بيتنا هذا لم أستطع تقبّله. شعرت وكأنّي أدخل زنزانة في مخيّم للأسرى، مع فارق أنّ إمكانيّات محدودة بأيدينا. أحسست بضيق في صدري ليس لصغر

 

262


240

الفصل التاسع والعشرون

المكان بل لأنّي لم آلفه. أردت أن أكون في بيتنا الحقيقي، ذلك البيت الذي حصلنا عليه بعد سنوات من العذاب والمرارة، والذي كان لنا دور في بنائه. أخذت أسأل نفسي: "لماذا كُتب علينا أن نتشرّد؟ من الذي له يد في مآسينا؟".

 

بينما أنا قابعة في زاوية من زوايا الغرفة، دخلت "دا" وبيدها سيخ _صُنع من سلك حديديّ غليظ_ فيه لحم دجاج مشوي، فناولتني إيّاه قائلة: "كليه، أنت مصابة بفقر في الدم!".

 

لم أرغب في أن آكل اللحم المشوي بمفردي لأنّ إخوتي كانوا حولي في الغرفة. وحين رأتني أمّي حائرة ظنّت أنني لا أرغب في أكل اللحم المشوي بذلك السلك الحديديّ فقالت: "لا تبتئسي، لقد أحضر الصبية هذا السلك فغسّلته جيّدًا ثمّ أحميته على النار، إنّه نظيف".

- لا يا أمّاه، ليس الأمر كما تظنّين. في الواقع لا أستطيع أن آكل هذا، أعطيه للأولاد.

- ولكنّ الكمّية لا تكفي الأولاد!

- لا أريد يا أمّي.

 

فقالت "دا" لإخوتي: "اخرجوا من الغرفة".

 

فتألّمتُ وقلت: "إن فعلتِ هذا لن آكل منه لقمة"!

 

في النهاية رضيت أن تقسّم اللحم بيننا، فيما أعدّت ما بقي من لحم الدجاجة لطعام الغداء على موقد حطب كانت قد صنعته من الحجارة خلف الغرفة. وعند الظهر قدّمت طعامًا بنيّة النذر لبعض العائلات التي

 

 

263


241

الفصل التاسع والثلاثون

بنت معها علاقة وطيدة. كان ذلك ألذّ طعام تذوّقته بعد فترة طويلة من يدي أمّي!

 

بعد الغداء، استلقى الصِبية على الأسرّة وتمدّدنا نحن على البساط لنأخذ قسطًا من الراحة. لقد أحبّ الصبية تلك الأسرّة. ظننت أنّهم باتوا أكثر هدوءًا من السابق غير أنّهم مع ذلك لم يكفّوا عن الشيطنة، وكانوا ينصتون بدقّة إلى أحاديث الكبار واستشرافهم المستقبل. وبينما نحن كذلك وإذا بأخي حسن ينظر إليّ قائلًا: "متى نرجع إلى بيتنا، لقد تعبت".

 

عجبت لسماع هذا الكلام من لسان حسن المعروف باندفاعه وكثرة مشاغباته. ولأنّي كنت آمل أن تنتهي الحرب في أسرع وقت قلت له: "سنعود في القريب العاجل. لعلّي سأعود قبلكم".

 

صدّق سعيد الذي كان توّاقًا للذهاب إلى المدرسة أنني سأعود إلى "خرّمشهر" وقال لي: "هلّا أحضرتِ لي كتبي من خرّمشهر؟ هل سيدعك العراقيّون تحضرين كتبي؟!".

 

كان يقصد كتب العام المنصرم الخاصّة بحسن. قلت له: "إنّهم لا يجرؤون على منعي. سنخرجهم من أرضنا، وعندها سآخذك إلى "خرّمشهر"، بدل أن آتي بكتبك إلى هنا".

 

في اليوم التالي رافقت الصبية لأراقبهم عن كثب. ولأنّ أبواب الغرف مشرّعة على بعضها البعض لم نستطع ترك باب غرفتنا مفتوحًا، فبعض الجيران لم يكن يراعي حرمة الآخرين ما يضطرّنا إلى إغلاق باب الغرفة بشكل دائم، وهذا ما يزيد من شعورنا بالسجن فيها. كان الصبية يريدون اللهو واللعب وتعذّر حبسهم في تلك الغرفة. من جهة ثانية كنت أخشى

 

 

264

 


242

الفصل التاسع والعشرون

تجوالهم في أرجاء المخيّم، فالوضع الصحّي المتردّي وأخلاق الناس المختلفين ذوي الثقافات المتنوّعة وغيرها من الأمور كلّ ذلك أقلقني، لذا كنت أرافقهم وأقف قربهم أثناء اللعب، وغدا هذا عملي لمدّة أسبوعين، حيث كان سعيد، حسن ومنصور يتسلّقون السياج وخزّانات المياه ثم يقفزون منها.

 

في بعض الأحيان كنت أشعر بضيق في صدري فأخرج من المخيّم وأقف تحت أشعّة الشمس بقرب الطريق المؤدّية إلى آبادان، وأتساءل في نفسي: "كم تبعد آبادان عنّا؟ هل يمكنني أن أذهب إلى هناك سيرًا على الأقدام".

 

قيل إنّ جادّة ماهشهر- آبادان باتت تحت سيطرة العراقيّين، عندها قرّرت أن أسلك البراري لأصل إلى هناك. لكن سرعان ما كنت أقرّ باستحالة هذا الأمر فتعتريني حال من الغضب الشديد! لقد فقدت صبري وطاقتي، فما إن يكلّمني أحد حتى أجهش بالبكاء. كانت "دا" تعلم أنّ عليها أن تتركني وشأني عندما أكون على تلك الحال. أمّا أختي ليلى فبالرغم من استيائها من الوضع إلّا أنّها تكيّفت مع الظروف. كانت تواسيني قائلة: "زهراء، يمكننا أن نعمل هنا أيضًا. لنذهب إلى المستوصف".

 

لكنني لم أرضَ بذلك، فروحي كانت توّاقة للرجوع إلى مدينتي. كنت أشعر أنّي عصفور مكسور الجناحين. في الليل لا أستطيع النوم! حيث كانت مشاهد جنّت آباد، المسجد الجامع، عيادة شيباني وخطوط المواجهة جميعها تتراءى لي وتطرد النوم من عينيّ. شعرت بالحسرة لعدم إحضاري مجموعة الصور الخاصّة بنا. لعلّ قلبي كان ليهدأ لو نظرتُ إلى صور أبي وأخي عليّ.

 

265

 


243

الفصل التاسع والعشرون

تجوالهم في أرجاء المخيّم، فالوضع الصحّي المتردّي وأخلاق الناس المختلفين ذوي الثقافات المتنوّعة وغيرها من الأمور كلّ ذلك أقلقني، لذا كنت أرافقهم وأقف قربهم أثناء اللعب، وغدا هذا عملي لمدّة أسبوعين، حيث كان سعيد، حسن ومنصور يتسلّقون السياج وخزّانات المياه ثم يقفزون منها.

 

في بعض الأحيان كنت أشعر بضيق في صدري فأخرج من المخيّم وأقف تحت أشعّة الشمس بقرب الطريق المؤدّية إلى آبادان، وأتساءل في نفسي: "كم تبعد آبادان عنّا؟ هل يمكنني أن أذهب إلى هناك سيرًا على الأقدام".

 

قيل إنّ جادّة ماهشهر- آبادان باتت تحت سيطرة العراقيّين، عندها قرّرت أن أسلك البراري لأصل إلى هناك. لكن سرعان ما كنت أقرّ باستحالة هذا الأمر فتعتريني حال من الغضب الشديد! لقد فقدت صبري وطاقتي، فما إن يكلّمني أحد حتى أجهش بالبكاء. كانت "دا" تعلم أنّ عليها أن تتركني وشأني عندما أكون على تلك الحال. أمّا أختي ليلى فبالرغم من استيائها من الوضع إلّا أنّها تكيّفت مع الظروف. كانت تواسيني قائلة: "زهراء، يمكننا أن نعمل هنا أيضًا. لنذهب إلى المستوصف".

 

لكنني لم أرضَ بذلك، فروحي كانت توّاقة للرجوع إلى مدينتي. كنت أشعر أنّي عصفور مكسور الجناحين. في الليل لا أستطيع النوم! حيث كانت مشاهد جنّت آباد، المسجد الجامع، عيادة شيباني وخطوط المواجهة جميعها تتراءى لي وتطرد النوم من عينيّ. شعرت بالحسرة لعدم إحضاري مجموعة الصور الخاصّة بنا. لعلّ قلبي كان ليهدأ لو نظرتُ إلى صور أبي وأخي عليّ.

 

 

266

 


244

الفصل التاسع والعشرون

له مشاكله الخاصّة، فقد كان خالي "نادعلي" يقدّم المساعدة لأمّي لكي لا تعاني صعوبة في الحصول على الطعام، لكنّه لم يكن قادرًا على ذلك باستمرار. بعد مدّة أخذوا يوزّعون الطعام المجفّف بدلًا من المطبوخ، فكانت أمّي تقف بانتظار دورها لتستلم الطعام، فكنت أتألّم للمشهد وأشعر بالذلّ والهوان. في البداية قلت لها: "لا تحضري شيئًا من هناك يا أمّاه!".

- ماذا تقولين؟ ومن سيشبع بطون هؤلاء الأطفال؟!

- إذًا لا تذهبي بنفسك، دعي الأطفال يذهبون.

- هذا غير ممكن، إنّهم لا يعطون الأطفال.

 

في إحدى المرّات حضر خالي حسيني من خرّم آباد ووجدنا في المخيّم. حاول جاهدًا أن يأخذنا معه لكننا رفضنا، فناول أمّي بعض النقود ثمّ ذهب.

 

أخذت أوضاع الناس تزداد سوءًا يومًا بعد آخر. ارتفعت أصوات التذمّر: "ما هذه الحال. لقد رمونا هنا ولم يسألوا عنّا!!".

 

كثيرٌ من العائلات كعائلة عمّي غلامي الذين كان وجودهم سندًا لنا أرادوا الرحيل. في البداية ظنّ الجميع أنّهم سيقضون هنا فترة قصيرة، لكن حين وصلت أخبار اتّساع رقعة الحرب واستهداف العدوّ مدنًا أخرى فكّروا في الذهاب إلى مدن آمنة والنجاة من المخيّم.

 

في ذلك الوقت لم تتصدَّ أيّ مؤسّسة أو تنظيم لتحديد مصير عوائل الشهداء والمفقودين، سوى منظّمة في ماهشهر باسم "منكوبي الحرب" والتي كانت تتولّى أمور المخيّم. يومًا بعد آخر أخذت أعداد منكوبي

 

267

 


245

الفصل التاسع والعشرون

الحرب تتزايد فيضيق المكان ويزدحم أكثر فأكثر؛ حتى إنّهم أخلوا مخزن الأدوات المستهلَكة فسحًا للمجال أمام الناس. أحيانًا كانت تأتي سيّارة فتوزّع أكياس الملابس على الناس، وكانوا يعطون كلّ عائلة كيسًا من الثياب يحتوي على ملابس مستعملة للنساء والرجال والأطفال. كنت أشعر بالاستياء من طريقة التعامل تلك، فألعن صدّام لأنّه البادئ بالحرب، وكلَّ من قصّر بحقّ الناس وأدعو عليهم بالموت! وكان الناس يعترضون قائلين: "ماذا تفيدنا هذه الثياب القديمة؟"، أو يقولون: "ليس لدينا أطفال، ماذا نفعل بها؟"، أو يقولون: "نحن لنا كرامتنا وعزّتنا لماذا تذلّوننا وتستخفّون بنا؟!".

 

قصدتُ وزوجةَ خالي يومًا خيمة توزيع الطعام حيث أرادت أن تحصل على الحليب المجفّف لطفلتها التي لم تكن قد أكملت العامين. قالت لمسؤول التوزيع: "إنّ حصّة الحليب التي أعطيتها لنا لم تكن كافية لطفلتي، ولم نجد في السوق. هل يمكن أن تعطيني علبة أخرى؟".

 

قال الرجل: "ماذا أفعل، علّمي ابنتك أن تشرب كمّية أقلّ"!

 

كان وقع هذا الكلام صعبًا على زوجة خالي فخنقتها الغصّة؛ أمّا أنا فثار غضبي وأردت أن أقلب مكتب الرجل على رأسه، لكنّي تمالكت نفسي وقلت لزوجة خالي: "فلنذهب، ليس بالأمر المهم. إنّهم يظنّون أننا مساكين مستضعفون وأنّهم يتصدّقون علينا. وربّما يظنّون أننا نحتكر المواد الغذائيّة!".

 

حين رأى الرجل حالنا ندم على كلامه وقال: "لم أقصد الإساءة، لكنّ الكميّة محدودة ويجب أن توزّع على الجميع!".

- ولكن ما هذا الكلام الذي قلته؟

 

268


246

الفصل التاسع والعشرون

- أنا مأمور ومعذور، وإلّا فالله يعلم أنّه لو كان الأمر بيدي لأعطيت الجميع كلّ ما يريدون!

- كان ينبغي لكَ أن تقول إنّ الكمية محدودة لا أن تزيد من آلام الناس!

- أقسم بالله إنّ رأسي يكاد ينفجر لكثرة ما جادلت الناس من الصباح حتى الآن، ولم أعد أقوى على الكلام!

- إن كنت كذلك فلم لا تأتي بشخص آخر غيرك. إنّ عذرك غير مقبول.

- أنتِ محقّة، ما كان عليّ أن أقول ذلك.

 

مرّت عشرة أيّام على حضوري إلى المخيّم. كان ذلك في أواخر شهر "آبان" (منتصف تشرين الثاني) حين ضقت ذرعًا، فقصدت خيمة المشرفين على المخيّم والموكلين من قبل المنظّمة لعلّي أشغل نفسي بشيء ما. ذهبت برفقتهم إلى المطبخ، وهناك وجدت أنّ الأمور تسير وفق النظام وأنّهم لا يحتاجون إلى المساعدة، ثم قصدت المخزن حيث وُضع في إحدى غرفه الكبيرة ملابس جديدة وأخرى مستعملة. وكان المتطوّعون هناك يفصلون الملاءات والفرش والملاحف والبطّانيّات والثياب عن بعضها البعض. ساعدت في تصنيف الملابس لبضعة أيّام، ثمّ تقرّر أن يحصوا عدد النازحين ليتمّ توزيع الملابس على العوائل وفقًا للجنس والعمر. بدوري قصدت وأنا أعرج بيوت المخيّم، إلّا أننا ورغم محاولاتنا الجادّة لم نستطع إحصاء عدد سكان المخيّم بشكل دقيق. ففي كلّ يوم كان هناك عدد من الأشخاص ذوي القدرة المالية أو ممّن كانوا يبيعون ما لديهم من ذهب فينتقلون إلى إصفهان أو شيراز أو بهبهان وغيرها. في المقابل كان هناك عدد آخر جديد يأتي فيبقون في باحة المخيّم بانتظار أن يجدوا لهم مكانًا.

 

كان لتلك المنطقة نصيبها من قصف العدوّ. ففي إحدى المرّات وقع

 

269

 


247

الفصل التاسع والعشرون

صاروخ في مستنقع ماء في أرض وعرة قرب المخيّم، فدبّ الذعر في قلوب الناس. رغم كلّ تلك الظروف الصعبة لم أشأ أن أترك المخيّم، لأنّه أقرب إلى "خرّمشهر". حاولت أن أتكيّف مع تلك الظروف لئلّا أشعر بالأذى. عند الظهر كنت أعود إلى البيت فأجد الصبية قد أحضروا الطعام من المطبخ أحيانًا، أو أنّ "دا" قد أعدّت طعامًا متواضعًا أحيانًا أخرى. كنت أتناول طعامها البسيط بشهيّة رغم فقدانه بعض المكوّنات، فقد كان برأيي ألذّ من طعام المخيّم، لأنّه غير مشوب بمنّة. حين كنّا نجلس حول المائدة كنّت أفتقد أبي وأخي عليّ فتخنقني العبرة. لطالما حرص أبي على أن نجتمع حول المائدة، فكان يقول: "تناول الطعام معًا يجلب العافية، كما إنّ الملائكة تفرح لجلوسنا معًا".

 

أمّا أمّي فكانت لواعج أحزانها تتجدّد على المائدة وقلّ أكلها. كان من الواضح أنّها شاردة الذهن، وكانت كثيرًا ما تتأوّه قائلة: "فدتك أمّك يا علي. أين أنت الآن؟ هل أكلت شيئًا أم لا؟".

 

زارنا في المخيم حسين طائي نجاد وآخرون من عناصر حرس "خرّمشهر" مرةً أو مرّتين. كنت قد رأيت "حسين" ذات مرّة في "خرّمشهر" فأوصيته أن لا يذكر شيئًا لأمّي عن شهادة عليّ؛ لذا، عندما جاء وسألته "دا" عن عليّ قال: "إنّ عليّ مشغول، لكنّه في مكان جيّد. سنطلب منه أن يأخذ إذنًا ويأتي". لكنّه كان مستاءً منّي لأنّي أجبرته على الكذب.

 

في ظهر أحد الأيّام خرجت من خيمة الإغاثة فرأيت من بعيد عددًا من السيّدات مقبلات نحوي ويلوّحن لي بأيديهنّ. بدا لي أنّي أعرفهنّ. حين اقتربن أكثر عرفت أنّهن فتيات عيادة الدكتور شيباني! كدت أطير فرحًا لدى رؤيتهنّ، وصرت أركض نحوهنّ عرجاء. ركضت زهرة وأشرف

 

270

 


248

الفصل التاسع والعشرون

وصباح نحوي، ولمّا وصلت إليهنّ عانقتهنّ وقبّلتهنّ ورحت أشمّهنّ! فاضت عيوننا جميعًا بالدموع، لكنّ أشرف فرهادي صاحبة القلب الرؤوف كعادتها بكت بكاءً شديدًا.

 

بعد بضع خطوات رأيت عبد محمّدي والدكتور مصطفوي قد حضرا مع الفتيات. ذهبنا إلى البيت فسُرَّت "دا" كثيرًا لرؤيتهم وسألتهم كالعادة: "هل رأيتم ولدي عليّ؟ لا أعلم لماذا يأتي الجميع إلّا علي لمَ لا يأتي ليطمئنّ علينا؟". ثمّ صبّت الشاي وذهبت لتعدّ الطعام فيما خرج عبد والدكتور مع الصبية إلى الباحة، فخلا الجوّ لي وللفتيات فأخذنا نتحدّث ونمزح. سألتهنّ: "ماذا جرى في غيابي؟ متى خرجتنّ من "خرمشهر"؟ ماذا حدث لفلان..؟".

- ما الأمر؟ اصبري لنجيبك عن أسئلتك واحدًا تلو الآخر. حين وصل العراقيّون إلى شارع "40 متري" في الرابع والعشرين من مهر (16 تشرين الأوّل) أخرجونا جميعًا من المدينة لعدم إمكانيّة بقاء الفتيات فيها.

- إذًا أين كنتنّ طوال هذه المدّة؟

- ذهبنا لزيارة عائلاتنا ورجعنا لنعود إلى آبادان.

 

ثمّ حدّثنني عن معاناتهنّ ونفاد نقودهنّ في المدن الأخرى. ريثما أعدّت أمّي طعام الغذاء سألتهنّ عن كثير من الأمور، تمازحنا وتسلّينا معًا. سُعِدت كثيرًا لمجيئهنّ، خصوصًا أنني كنت أنوي الذهاب إلى آبادان وبالتالي فإنّ مجيئهنّ سيساعدني على تنفيذ هذه النيّة.

 

بعد تناول الغداء ذهب الدكتور مصطفوي وعبد محمّدي فجلست مع الفتيات ثانية، أخذنا نتحدّث عن سبُل الوصول إلى آبادان. فأدلت

 

272

 


249

الفصل التاسع والعشرون

كلّ منّا بدلوها، إلّا أنّ المشكلة الأهمّ كانت الحصول على إذن مرور إلى المنطقة العسكريّة. فللحصول عليه، أمامنا مصاعب ومتاعب واستجوابات نظرًا لتوسّع فعّاليّات الطابور الخامس.

 

لم يكن لدى أيّ منّا أدنى أمل بالحصول على مساعدة شبّان "خرّمشهر" في شركة "أبيكا[1]" الواقعة على أطراف سربندر. إذ قالوا لنا إنّ العدوّ يتقدّم ولا يمكن التنبّؤ بتحرّكاته.

 

قلت للفتيات: "يوجد عدد من العسكريّين في المخيّم. سبق لي أن رأيت بعضهم في "خرّمشهر" أو في المسجد الجامع. لعلّهم يحصّلون إذنًا لنا".

 

قالت الفتيات: "من الأفضل البدء من القيادة".

 

کانت "دا" تستمع إلی حديثنا فقالت: "سوف آتي معکنّ".

 

نظرت إليها مستغربة وقلت: "إلی أين؟".

- سأذهب للبحث عن علي.

- ماذا عن إخوتي؟ ماذا ستفعلين بهم؟

 

فاضت عيناها بالدموع وخرجت من الغرفة. أمّا أختي زينب التي فهمت من حديثنا أنّي عازمة على الذهاب، فتمدّدت بجانبي في المساء وأخذت تسألني كعادتها: "أين هو أبي الآن؟".

- ذهب إلی جوار الله، أخذه الله إليه لأنّه يحبّه. إنّ الله يأخذ جميع من يحبّ إلی جواره لکي ينتهي عذابهم في هذه الدنيا. ووالدنا کان من هؤلاء الأخيار الطيّبين، وقد تعذّب کثيرًا في هذه الدنيا!


 


[1]  شركة استيراد وتصدير آلات كانت قد أخليت بعد قصف المنطقة.

 

272


250

الفصل التاسع والعشرون

- وهل يفتقدنا أبي؟

 

هززتُ برأسي، فسألَت: "زهراء، هل يسمح الله لأبي أن يعود إلينا؟".

- کلّا، لن يعود أبي إلينا، لکنّه معنا دائمًا، إنّه يرانا من الأعلى ويفرح كثيرًا عندما نقوم بأعمال جيّدة.

 

فسألت ثانية: "إذًا لماذا لا يأخذنا الله إلی جواره؟ هل نحن أشرار؟".

- کلا، لکننا لسنا طيّبين جدًّا مثل أبي. علينا أن نصير كذلك لكي يأخذنا الله إليه.

- وماذا علينا أن نفعل لنصبح طيّبين كأبي؟

- علينا أن نفعل الخير ونساعد کل الطيّبين الآخرين، وأن لا نقوم بالأفعال التي لا يحبّها الله، إلی أن نستشهد ونذهب إلی جوار الله.

- هل الشهداء فقط هم الذين يذهبون إلی جوار الله؟

- لا، جميع الطيّبين يذهبون إلی جوار الله وإن لم يُرزقوا الشهادة.

- ومن هو الله؟ لماذا علينا أن نفعل ما يقول لنا؟

 

فأجبتها ووضّحت لها مطوّلًا حتی اقتنعت. کلّما أجبتها عن سؤال سألت آخر حتّى عجزتُ عن الإجابة. في النهاية قلت لها: "انتظري حتى تكبري وتذهبي إلى المدرسة وحينها ستفهمين ما أقول".

 

كان سماع هذا الكلام من لسان زينب الصغيرة صعبًا عليّ. تألّمت وخنقتني العبرة ولم أستطع تحمّل لوعة اشتياقها لأبي. في كثير من الأحيان لم تسأل عن أبي مباشرة، لكنّ تذمّرها كان دليلًا واضحًا على أنّها اشتاقت

 

273

 


251

الفصل الثامن والعشرون

إليه، فبتُّ مضطرّة إلى أن أتمالك نفسي وأخفي مشاعري أمامها وأحاول إقناعها بهدوء.

 

في صباح اليوم التالي، وأنا أهمّ بغلق الباب لأذهب برفقة الفتيات، خاطبتُ أمّي قائلة: "لا أعلم متى سنرجع. ربما سنذهب اليوم إلى آبادان".

 

ثمّ أوصيتها بأن تعتني بالأولاد أكثر، وأن لا تدعهم يسرحون في المخيّم. ثمّ نظرتُ إلى إخوتي الذين استفاقوا على أصواتنا وأخذوا يسترقون النظر من تحت البطّانيّات، وقلت لهم: "نحن ذاهبات، ولعلّ غيابنا يطول. لا تؤذوا أمّكم، ولا ترافقوا الغرباء ولا تثقوا بهم".

 

أمّا زينب فقفزت من مكانها ومضت نحوي بنظرات مستفهمة، ثمّ تعلّقت بعنقي قائلة: "لماذا تذهبين؟ ابقي هنا، سأشتاق إليك. لقد رحل أبي وعلي وها أنتِ راحلة وسترافقك ليلى!".

 

ارتعش جسدي وساورني شكّ وتساءلت في نفسي: "أليس من الأفضل أن أبقى بجنب إخوتي في ظلّ هذه الظروف؟ ماذا لو انحرفوا..؟".

 

لكنّي أيقنت أنّي إن بقيت فسينتابني توتّر شديد وسأفقد القدرة على التحمّل بحيث يؤثّر ذلك سلبًا على إخوتي. لذا قلت لزينب: "عزيزتي، علينا أن نذهب لنساعد الجرحى لكي لا يستشهدوا ويتركوا أولادهم وحيدين".

 

عندما سَمِعت ذلك أفلتت عنقي فقبّلتُها ثمّ قبّلت "دا" التي کانت تبکي وقلت: "لا تبکي هکذا أمام الأولاد، ستُدمين قلوبهم. أنت الآن أمّهم وأبوهم. لقد عانوا الکثير من المآسي والعذابات حتی اليوم، فلا تزيدي من جراحهم. أعلم أنه صعبٌ عليكِ، وأدرك ما تعانينه، لکن حاولي أن لا تجزعي أمامهم، فبكاؤك يجرح مشاعرهم. إنّ أبي وجميع الشهداء رحلوا

 

274

 


252

الفصل التاسع والعشرون

إلى جوار الله، فما الداعي للبكاء؟".

 

فانفجرتْ ناحبةً وقالت: "لقد رحل وتركني للشقاء والعناء!".

- لا تقولي ما يُسخط الله. لقد سلك أبي السبيل الذي طالما أحبّه. وإنّه لشرفٌ عظيم لنا أنّ أبانا سلك طريق آبائه. هل تظنّين أنّه سيعود إن بكيتِ؟

- لا، أعلم أنه لن يعود. لكنّي أبكي لعلّ غليل قلبي يبرد!

 

ثمّ تأوّهت وقالت: "أعلم أنّي سأصبح عمياء ولن يبرد غليل قلبي!".

 

قبّلتُ رأسها ثانيةً وودّعتها، ثمّ خرجنا من المخيم على أمل الحصول على جوازٍ للعبور إلى المناطق العسكرية. قصدتُ والفتيات مركز الهلال الأحمر، القيادة، الحرس الثوري، القوات البحرية ومنظّمة منكوبي الحرب وغيرها من المراكز التي خطرت على بالنا. وکلّما ذكرنا لأحد أننا نريد الذهاب إلى المنطقة قال لنا: "هذا غير ممكن، هل تعتقدنَ أنّه مكان للّهو؟!".

 

فنقول: "إننا مسعفات وكنّا موجودات في المنطقة سابقًا، ثمّ إنّ ما تسَمّونه لهوًا هو الذي ساهم في عرقلة تقدّم العدوّ".

 

في النهاية عندما فقدنا الأمل بالحصول على الإذن قلت للفتيات: "لقد ذهبتُ مرّة إلى غرفة العمليّات الحربيّة، ولا بدّ من أنّهم ما زالوا يذكرونني. لنذهب ونرَ إن كان باستطاعتنا القيام بعمل ما".

 

سألنا هنا وهناك حتى وجدنا غرفة العمليّات الموجودة في منطقة عسكريّة مغلقة. على مدخل المبنى انهالوا علينا بالأسئلة، ماذا نفعل هنا؟ وماذا نريد؟ فقلت لهم: "إنّ السادة في غرفة العمليّات يعرفونني،

 

275

 


253

الفصل التاسع والعشرون

وقد حضرنا لأخذ إذن دخول إلى منطقة المواجهات".

 

عندما سمعوا ذلك قالوا: "وهل الأمر بهذه البساطة؟ إنّ إذن الدخول لا يعطى لأيٍّ كان. اذهبن إلى أعمالكنّ".

 

وبعد إصرار شديد سُمح لنا بالدخول، فرأينا عددًا من الجنود الذين رأيناهم مرارًا في المسجد الجامع أو الشوارع المحيطة به. وهم بدورهم عرفونا، وأخصّ بالذكر اثنين ضخمي البنية سبق لي أن تجادلت معهما في العيادة. فقد كنّا في تلك الأيام لا نسمح لأيّ شخص بدخول العيادة نزولًا عند رغبة محمود فرّخي والسيّد مصباح. وفي إحدى المرّات طلبت من هذين الرجلين ترك العيادة فوقع بيننا شجار. ومنذ ذلك الحين أخذا يُظهران لي وللفتيات الشحناء والبغضاء من خلال نظراتهما وتصرّفاتهما. عُرف الجنديّان بأنّهما خضعا لدورة عسكريّة تدريبيّة في الخارج فراحا يتباهيان بقدراتهما العسكريّة، فلم يتوقّعا أن يعامَلا بهذه الطريقة، في وقت كان أفراد فرقتهما -على عكس غيرها من الفرق التي ما برحت تساند المقاومين- يعزفون على وتر اليأس ويجولون في الشوارع من دون أيّ عمل، ويكتفون بتحليل الأوضاع قائلين: "هذه الحرب ليست متكافئة ولا تنسجم مع أيّ معادلة عسكريّة!".

 

ما إن وقع نظرهم علينا حتّى تقدّموا نحونا، فسألنا أحدهم: "ماذا تفعلن هنا؟ من سمح لكنّ بالمجيء؟".

 

قلت: "إنّ هؤلاء السادة الموجودين في غرفة العمليات الحربيّة يعرفونني، وأريد أن آخذ منهم إذن دخول إلى المناطق العسكرية".

 

فما كان منهم إلّا أن ضحكوا وأخذوا يسخرون من قولي. زهرة فرهادي التي عرفت أني سأفقد صوابي، أمسكتْ بيدي سريعًا وجرّتني وأومأت إليّ

 

276

 


254

الفصل التاسع والعشرون

بأن لا أقوم بأيّ رد فعل. فابتعدنا عنهم وانتظرنا حتى نتكلّم مع شخص آخر، غير أنّ الجنود لم يدعونا وشأننا. وحيث إنّهم كانوا يعرفون ما يثير غضبنا أخذوا يتعرّضون للإمام الخميني بكلامهم ويقلّدون حركات المسؤولين، وتفوّهوا بألفاظ نابية بحقّنا! ولم يزدهم سكوتنا إلّا وقاحة وتجرّؤًا. فلم تسمح لي مروءتي بأن أقف غير مبالية بقلّة أدبهم وتوهينهم للإمام. وحين وصلت بهم الوقاحة أن قالوا: "..لقد أرسل الشبّان ليقفوا أمام الرصاص وبقي هو جالسًا في أفضل مكان في طهران"، ضقت ذرعًا وقلتُ كارهة للخوض في الحديث مع هؤلاء الأراذل: "هذا ليس من شأنكم. لقد وقفنا بملء إرادتنا أمام الرصاص. إنّ مسبّب هذه الهزيمة شخص آخر". فقال أطولهم قامة وأضخمهم جثّة: "أنتم حفنة الأطفال ماذا تعرفون عن الحرب وفنون القتال؟!".

- إنّ حفنة الأطفال الذين تتکلّم عنهم هم من عرقل تقدّم العدوّ لخمسة وثلاثين يومًا!

- وهل أنتم فرحون بصمودکم هذا؟ أخبروني ماذا ستفعلون من الآن فصاعدًا؟

- إنّ شبابنا المقاومين ما زالوا صامدين إلی الآن، وإذا ترکهم الخونة يقومون بعملهم، فسيبقون كذلك وسيقاتلون بعون الله!

 

فاستشاط غضبًا وصاح: "من تقصدين بالخونة؟!".

 

فغضبت وقلت: "إنّ أبسط الناس يعلمون أنّ سبب هزيمتنا مقابل صدام وسقوط "خرّمشهر" هو الخيانة! لقد خاننا كثير من ذوي الرتب الرفيعة وغير الرفيعة!".

 

277

 


255

الفصل التاسع والعشرون

حاولت أن لا أذكر اسم أحد في كلامي، لكنّه فهم قصدي فسألني مجدّدًا: "لماذا جبنتِ؟ قولي من تقصدين بكلامك؟!".

 

قلت: "الجبان هو أنت وأصدقاؤك الذين انسحبتم بمجرّد أن ضاقت عليكم الأرض بما رحبت، وفررتم بحثًا عن جحور آمنة لتختبئوا فيها. أنا لا أخاف شيئًا. إنّ الخائن الأكبر لهذا الوطن ولهذا الشعب ليس إلّا بني صدر!".

- اصمتي والزمي حدودك.

- بل اصمت أنت! أنتَ من أهان الإمام الخميني. مهما كان وأينما كان فهو لم يخن هذا البلد. إنّ الخمينيّ هذا هو الذي جعل منکم بشرًا وإلا لکنتم الآن عبيدًا لأمريكا تحت عنوان أنهم شرطيّ المنطقة!

 

فصاح آخر منهم: "أنتنّ خونة، أنتنّ منافقات. سنسلّمكنّ لمحكمة ميدانيّة كي تُحاكَمن. وسيحكموا عليكنّ جميعًا بالإعدام!".

 

فقلت وأنا أرتعش من شدّة الغضب: "لا تُهدّدونا بمحکمتکم العسكريّة، نحن لم نفعل شيئًا، هناك شخص آخر ينبغي تقديمه للعدالة!".

 

فما كان منهم إلّا أن لقّموا أسلحتهم وصوّبوها نحونا. کان منظرًا مروّعًا؛ ثمانية جنودٍ طويلي القامة، عظيمي الجثّة، مجهّزين بكامل المعدّات الحربيّة من أحزمة رصاص ورؤوس حراب وأسلحة فرديّة وغيرها، يلبسون بدلات مرقّطة داكنة وينتعلون جزماتٍ عسکريّة، وقد حرفوا قبّعاتهم ورفعوا أكمامهم حتّى المرافق، وقفوا يستعرضون قوّتهم أمام بضع فتيات يافعات! ثمّ قالوا لنا بعنف: "انطلقن!".

- إلى أين؟ لن نذهب معكم، فنحن لا نثق بكم.

 

278

 


256

الفصل التاسع والعشرون

قلت ذلك انطلاقًا من محاولاتهم السابقة في العيادة في تبادل الحديث والمزاح معنا، لكننا حينها أفهمناهم من خلال تصرّفاتنا أننا لسنا أهل طيش وأنّ العيادة ليست المكان المناسب لمثل هذه السخافات.

 

قالوا: "إن لم تذهبن معنا فسنطلق النار عليكنّ الآن!".

 

خلال هذا الجدال علت الأصوات وعمّ الصخب المكان. كلّما مرّ أحد بجانبنا وقف وسأل عن سبب الجلبة المُثارة والنقاش الحادّ.

 

خرج جنديّان أو ثلاثة رفاق لهم من الغرف المجاورة وحاولوا إقناعهم بأن يدَعونا وشأننا. وسمعتهم يقولون: "ماذا تريدون منهنّ، دعوهنّ يذهبن".

 

لکنّهم لم ينصتوا لرفاقهم، أما نحن فأخذنا نصيح بهم: "نحن لن نأتي معکم!".

 

فجأةً فُتح باب إحدى الغرف وخرج منها شخصٌ ذو رتبة عسكريّة رفيعة وقال غاضبًا: "ما الأمر؟ لماذا تجمّعتم هنا؟ لمَ کلّ هذا الضجيج؟ هل هذا مكان للشجار؟!".

 

فقال أحد الجنود: "هؤلاء الفتيات خائنات وقد ألقينا القبض عليهنّ".

 

فأجبته: "أنتم الخونة، أيها الجبناء المنافقون!".

 

في تلك اللحظة أطلّ رجل آخر برأسه من الغرفة نفسها قائلًا: "هذا يكفي، ما كلّ هذا الصخب والجلبة؟".

 

ركضت نحوه قائلة: "يا سيّد، جئنا لنأخذ إذنًا للدخول إلى المنطقة التي تدور فيها المعارك. نحن مسعفات "خرّمشهر". كنا فيها قبل أن

 

279


257

الفصل التاسع والعشرون

تسقط، ونحتاج إلى إذن، وهؤلاء كالوا لنا شتّى أنواع السبّ والإهانة!".

 

نظر الرجل إلى الجنود وقد بدت عليه الهيبة والرصانة، وسألهم: "ماذا حدث، ماذا قلتم لهنّ؟".

 

أجابه أحدهم: "سيدي، لقد أهنّ القائد الأعلى للقوات المسلّحة وشتمنه".

 

نظر إليّ ذلك الرجل مرتابًا -وقد جذبتني هيبته- وسألني: "هل صحيح ما قاله؟".

 

تحيّرت بماذا أجيبه، وقلت في نفسي: إن كان هؤلاء هكذا، فكيف بقائدهم! لقد أخطأنا بالمجيء. ليتني لم آتِ بالفتيات إلى هذا المكان! ولكن، إلى متى يريدون إخفاء خيانة بني صدر؟ في النهاية ينبغي للشعب أن يعرف لماذا سقطت "خرّمشهر". إلى متى علينا أن نسمع من الجميع أننا قصّرنا في الدفاع عن مدينتنا؟ لقد سمعت أهل شيراز عدّة مرّات يقرّعون النازحين أنْ لماذا هربتم وسلّمتم مدينتكم إلى العدوّ ثمّ جئتم إلى هنا لتكونوا عبئًا علينا؟ لقد غصّت جميع الأمكنة بكم و...! لقد ضقتُ ذرعًا من هذا الكلام الجارح والمذلّ! فليكن ما هو كائن، إنّما هي موتة واحدة! وبما أننا سنُقاد إلى المحكمة العسكريّة فسأقول ما عندي وليعلم الجميع أننا أُعدمنا لأننا أفشينا خيانة بني صدر...

 

مرّت هذه الأفكار في ذهني سريعًا. وبعد قليل من المكث وبينما غدا فؤادي فارغًا قلت بجرأة: "أوليس حقًّا أنّ بني صدر خائن؟؟".

 

فارتفعت الضجّة في المكان، واجتمع حولنا كلّ من كان فيه من ضبّاط وجنود. أخذ رأسي يؤلمني بشدّة وقلبي يخفق سريعًا وجفّت شفتاي بحيث لم أعد قادرة على فتح فمي، كما شعرت بحرقة في حلقي. قلقت

 

280

 


258

الفصل التاسع والعشرون

على مصير الفتيات، فقد كنّ يشاركنني الحديث بما يؤيّد رأيي، أمّا الآن فقد بدا الخوف والاضطراب على وجوههنّ. كنت مطمئنّة لأنّهم لن يقوموا بإعدامنا، فليسوا مخوّلين بذلك. من جهة أخرى فإننا تصرّفنا وفقًا لمعتقداتنا وإيماننا والله تعالى لن يتركنا وحدنا، لكنّ ما أقلقني هو الوقت الذي سيأخذه حلّ هذه المشكلة، وما سيفعله هؤلاء. فماذا لو آلَ الأمر إلى منعنا من الذهاب إلى المنطقة؟!

 

وبينما كنّا هدفًا للتّهمة والتقريع، وقع نظري من بين الجمع على وجه هادئ يختلف عن الآخرين، فشعرت أنّه يتفهّمنا. بدا لي أنني أعرفه وشعرت بالسكينة لدى رؤيته. بعد ذلك سمعت القائد يخاطبنا قائلًا: "ينبغي لَكُنّ ألّا تخلطن الأمور ببعضها. إنّ ما تقلنه لا يصبّ في مصلحة البلد".

- أن تسقط "خرّمشهر" أمرٌ في مصلحة البلد، أما أن نقول إنّ بني صدر خائن فليس من مصلحته؟!

 

قلت هذا الكلام ولم أعد أستطيع حبس الغصة في حلقي، فانهمرت دموعي. لم أعد أستطيع أن أحتمل كلّ تلك الضغوطات النفسيّة الملقاة عليّ من كل جانب. وحين رأتني "أشرف" على تلك الحال، قالت: "لا يحقّ لكم أن تعاملونا بهذا الأسلوب. اتّهمتمونا بالخيانة والنفاق في الوقت الذي قمنا فيه بكلّ ما بوسعنا. هذه السيّدة التي تشنّون عليها هجومكم دفنت أباها وأخاها بيديها، وقد خرجت مؤخّرًا من المستشفى بعد تعرّضها للإصابة!".

 

هدأ القائد بعد سماع هذه الكلمات وقال: "رحم الله جميع الشهداء،

 

281

 


259

الفصل التاسع والعشرون

نحن نعرف ما حدث في "خرّمشهر" ولكن علينا أن نحافظ على وحدتنا. لا ينبغي أن نقول كلامًا يستغلّه الأعداء".

 

قلت باكية: "ما دام الأمر كذلك فلماذا لا تقول شيئًا لعناصرك الذين أهانوا الإمام الخميني والمسؤولين؟ ألا يضرّ كلامهم بالوحدة الوطنية؟ نحن نعمل وفقًا لتكليف القائد "جهان آرا". لقد طلب منّا أن نوصل أخبار مظلوميّة "خرّمشهر" وشبابها إلى أسماع الجميع. أراد منّا أن نتحدّث عن الوقائع أينما ذهبنا. فإن كنت قائد هؤلاء الجنود فإنّ قائدي هو محمّد جهان آرا وأنا أنفّذ أوامره".

 

أجهشت أشرف وصباح وزهرة وليلى بالبكاء لدى سماعهنّ كلامي. سرى أثر ذلك كالماء على النار، سكن الجميع وتوقّفوا عن تهجّمهم. تقدّم الرجل ذو الوجه الهادئ، وكان يرتدي بدلة ترابيّة اللون وقد بدا بريق عينيه الجذّابتين من خلف نظّارته وسألنا متبسّمًا: "إلى متى بقيتنّ في "خرّمشهر" أيّتها الأخوات؟".

 

أجابت الفتيات: "حتى الأيام الأخيرة تقريبًا".

 

فسألني: "هل كنتِ معهنّ؟".

- لا.

- متى خرجتِ من خرّمشهر؟

- أخرجوني منها في الثاني والعشرين من مهر.

- هل جُرحتِ؟

- أجل، جرحتُ في اليوم العشرين أثناء المواجهة في منطقة جمارك "خرّمشهر".

 

282

 


260

الفصل التاسع والعشرون

نظر إلي نظرة غريبة ملؤها الافتخار والغبطة، ثمّ قال: "أحسنتِ! لقد أدخلتِ السرور على قلب الإمام الخميني، ولكن عليكنّ الآن أن تبقين بجانب أُسَرِكنّ، فالوضع الميداني للحرب بات أفضل. والأحسن أن لا تحضرن إلى المنطقة العسكرية الآن".

 

قالت الفتيات: "لا نستطيع أن نبقى بعيدين عن مدينتنا. نودّ القيام بما نستطيع لننتصر في الحرب. إنّ عائلاتنا على معرفة بما نقوم به".

- جزاكنّ الله خيرًا. لديكنّ من المروءة ما يرفع من معنويّاتنا ويقويّ من عزائمنا لقتال العدوّ. وعملكنّ هنا هو خدمة للوطن أيضًا، فثمّة أعمال كثيرة هنا تفوق ما يُنجز في المنطقة العسكريّة من حيث الأهمية.

 

ثم نظر إلى الآخرين وقال: "هؤلاء أخواتنا العزيزات، اسمحوا لهنّ بالعودة إلى منازلهن".

 

لقد أُخذتُ بنظراته وإيقاع صوته الهادئ واللطيف! وكذا كان حال صديقاتي على ما أظنّ. ومع هذا الإيعاز غير المباشر من قِبل هذا الشخص، نظر الجنود إلى قائدهم بعد أن هدأوا بانتظار أن يسمعوا رأيه، فقال لهم القائد: "أيها السادة، عودوا إلى أماكنكم".

 

ثم أخذ يتحدّث معنا وقال: "أنا والآخرون مطّلعون على تفاصيل ما يجري، ولكن، وحرصًا على الوحدة الوطنية ولكي لا يستغلّ العدو هذا الأمر، علينا أن نلتزم الصمت".

 

لكنّي لم أستسغ هذا المنطق فهمست في آذان الفتيات قائلة: "نحن ننفّذ أوامر جهان آرا، ولا يهمّنا ما يفكّر فيه هؤلاء. هيّا بنا نذهب!".

 

أمّا القائد فقد فهم من سكوتنا أننا لم نقتنع بهذا الكلام، فما كان

 

283

 


261

الفصل التاسع والعشرون

منه إلّا أن ودّعنا وذهب، وتفرّق من بقي من العسكريّين. شكرنا ذلك الشخص ذا الوجه المألوف الذي كان لا يزال ينظر إلينا بعطف، وطلبنا منه أن يصدر لنا إذنًا بالدخول. فقال: "هذا غير ممكن في الوقت الراهن، فضلًا عن أنّ عدد المسعفين المتطوّعين كثير، كما إنّ المستشفيات تعمل بفعّالية، وعدد الجرحى قليل. والعدوّ من جهة أخرى قد ثبّت مواقعه في ذلك الطرف، ونحن استقررنا في مواقعنا على الجبهات ولن يكون هناك مواجهات جدّية لحين رسم خطة للعمليات الحربيّة. الأوضاع مستقرّة حاليًّا، وهم ليسوا في حالة تقدّم الآن، فقد استطعنا أن نعيق حركتهم".

 

ودّعناه وخرجنا. مررنا بكبرياء أمام أولئك الجنود فما كان منهم إلّا أن قاموا بحركات توحي بأنّهم يقولون: "أرأيتنّ كيف استطعنا أن نبكيكنّ؟!".

 

شعرنا بخيبة أمل وحزن شديدين لأننا عدنا خاليات الوفاض ولما فُعل بنا. بعد فترة قصيرة من الصمت نتيجة الضغط النفسي الذي تعرّضنا له، شرعنا نضحك. ضحكتُ وأنا أنظر إلى وجوه صديقاتي وأعينهنّ المحمرّة والمتورّمة. قالت زهرة: "يا إلهي، ماذا لو قاموا باحتجازنا ماذا كنّا لنفعل؟ فهؤلاء الجنود لا دين لهم ولا إيمان".

 

قالت صباح: "ما كان يجدر بنا أن نبكي. لقد ظنّ هؤلاء أننا ضعيفات فتغطرسوا علينا وأخافونا أكثر".

 

مع كل ذلك كنّا جميعًا نشعر بالراحة لأننا لم نستسلم وصرّحنا بكلّ ما لدينا. فجأة قالت إحدانا: "نحمد الله أنّ "شمران" كان هناك!".

 

فسألتها باستغراب: "شمران؟! هل حقًّا كان ذاك الشخص الدكتور شمران؟!".

 

284

 


262

الفصل التاسع والعشرون

- نعم هو بعينه، ألم تنتبهي! ألم تسمعي كيف نادوه أكثر من مرة بهذا الاسم؟!

- لا لم ألتفت لذلك. لماذا لم أعرف ذلك منذ البداية؟!

 

كنت أعرف أنّ الدكتور شمران هو وكيل الإمام في المجلس الأعلى للدفاع المقدس. لطالما كان اسمه مميّزًا بالنسبة لي، وقد رأيته مرّات عديدة في التلفاز. وحين شاهدته الآن ارتحت إليه كثيرًا وأحسست بشعور جيد نحوه. اعتقدت أنه كان يعي كلامنا جيدًا.

 

بعد مسافة قصيرة، قررنا أن نعرّج على ميناء ماهشهر إذ سمعنا أنّهم يذهبون إلى آبادان بواسطة المراكب، وأنّ المروحيّات تقوم بإخلاء القوّات الحربيّة والجرحى من هناك. قطعنا مسافة قصيرة سيرًا على الأقدام، من ثمّ ركبنا شاحنة متّجهة نحو مصنع البتروكيميائيات، ما لبثنا أن ترجّلنا وتابعنا المشي. كانت الساعة الرابعة أو الخامسة عصرًا، وكنّا نتضوّر جوعًا. ولكي نصل بسرعة قرّرنا أن نسلك طريقًا مختصرًا، فخرجنا من الجادّة لنجد أنفسنا بعد قليل وقد ضللنا الطريق. لم نجد في تلك الأرض المقفرة سوى بعض أنابيب النفط أو آثار مواد كيميائيّة. أنهكنا الجوع والتعب والحرّ الشديد، وكنّا نتصبّب عرقًا. كما إنّ سخونة الأرض الشديدة زادت من حرارة الجو. في بعض أجزاء تلك الأرض بدا أنّ مياه الأمطار الموسميّة كانت قد تجمّعت لكنّها تبخّرت بفعل الحرارة فتحوّلت إلى أرض سبخة. ونظرًا لعدم معرفتنا بذلك المكان فقد وقعنا في أوحاله وقذاراته مرارًا، وإذا ما علِقت إحدانا في تلك المستنقعات علت ضحكاتنا ومددنا أيدينا لنسحبها خارجًا. كانت صباح أطولنا قامة، لذا استطاعت المساعدة أكثر، إلّا أنّها كانت تفقد السيطرة على نفسها من شدّة الضحك ما يمنعها من

 

285

 


263

الفصل التاسع والعشرون

العمل جيّدًا! قالت الفتيات: "نحن الذين قررنا العودة إلى ساحة المعركة بملء إرادتنا، علينا أن نتحمّل كلّ هذه الصعوبات والمحن، في حين أنّ بعضهم من يذهب إلى هناك بالإجبار والإكراه!".

 

شيئًا فشيئًا أخذت معالم الميناء تظهر. عندما رأينا أبراج البواخر العالية أخذنا نركض بما بقي لدينا من قوّة في ذلك الاتجاه بسرور وغبطة. كان محيط الميناء كبيرًا جدًّا، وُضع في أحد أقسامه عدد كبير من الصناديق الخشبيّة الضخمة التي تحتوي على بضائع مختلفة. كما وُضع في قسم آخر منه براميل زرقاء كبيرة خُتمت ورُتّبت فوق بعضها البعض. رأينا هناك سيّارات ورافعات متنوعّة تنقل الصناديق من مكان إلى آخر. إضافةً إلى عدد من السفن والزوارق الراسية على طرف الميناء. عبرنا حواجز كثيرة أثناء دخولنا، وحين قلنا إننا نريد الرجوع إلى آبادان، سمحوا لنا بالدخول.

 

في قسم آخر من باحة الميناء استقرّت على المدرج مروحيتان عليهما شعار القوّة الجويّة. أقلعت إحداهما بمجرّد دخولنا فارتفع غبار شديد هناك. لم نعلم إلى أين نذهب وممّن نطلب المساعدة، فما كان منّا إلّا أن وقفنا جانبًا كأطفال أبرياء ننظر إلى المتردّدين في المكان! بعد برهة قصيرة دخلت الميناء شاحنة تحمل عددًا من الجنود الذين سبق أن تعرّفنا إليهم في المسجد الجامع والعيادة، بينهم "يدي" صهر السيّدة مريم مغسّلة جنّت آباد. تقدّمنا منهم، وهم ساروا نحونا حين رأونا. سلّمنا عليهم، لكن بدا من خلال كلامهم أنّ حميّتهم ثارت وانزعجوا لرؤيتنا كفتيات في ذلك المكان! فسألونا: "ماذا تفعلن هنا لوحدكنّ؟!".

 

- أتينا لنرى إن كانوا سيوافقون على أخذنا إلى آبادان.

 

286

 


264

الفصل التاسع والعشرون

- إلى متى تردن البقاء هناك؟ هذا يكفي، لقد قمتنّ بواجبكنّ، بل أكثر. دعن الآخرين يقومون بعملهم.

- نحن نرغب بأن نتابع عملنا. نريد أن نكون في منطقة العمليات الحربيّة لنساعد المقاومين ونغيث الجرحى، لسنا معتادين على البقاء هنا.

- لكنّهم لا يسمحون لأحد بدخول آبادان من دون إذن.

- وماذا عسانا نفعل؟ حاولنا أن نأخذ إذنًا لكننا لم نتمكّن من ذلك، وكاد الحصول على هذا الإذن أن يسبّب لنا متاعب كبيرة.

 

فسألوا: "هل أنتنّ عازمات على هذا الرأي؟ ألا تردن إلغاء الأمر؟".

- لا.

 

مكث "يدي" الذي كان يتحدّث أكثر من الآخرين بعض الوقت ثمّ قال: "نحن ذاهبون غدًا إلى آبادان، إن استطعتُ أن أحصل على إذن لكنّ، أخبركنّ بذلك. عدن إلى المخيم الآن وانتظرن".

كنت في غاية الشوق إلى السيّدة زينب فسألت السيّد يدي: "هل لديك أخبار عن زينب؟".

- لا.

 

فسألته عن السيّدة مريم والدة زوجته، فأجاب: "إنّها عندنا، لقد أحضرتها إلى منزلنا".

 

وبعد أن أنهوا عملهم في الميناء أوصلنا السيّد "يدي" وأصدقاؤه إلى المخيم. في المساء تناولنا كبّة البطاطا المقليّة التي أعدّتها أمي مع بعض الخضروات التي أحضرتْها من "سربندر". بعد ذلك أرسلنا أخي محسن

 

287

 


265

الفصل التاسع والعشرون

إلى بيت الخال "نادعلي" نظرًا لضيق مساحة غرفتنا ونمنا بصعوبة داخل الغرفة. كان ظهري يؤلمني كثيرًا. فقد تحمّلت منذ الصباح ضغوطًا نفسية كثيرة، كما إنّنا مشينا مسافة طويلة، مع ذلك نمت مطمئنّة البال.

 

في صباح اليوم التالي وقبل طلوع الشمس، استيقظت من النوم مضطربة وناديتُ الفتيات. أيقظنا صباح، التي كانت لا تزال منهكة من تعب الأيّام الماضية، بصعوبة. ارتدينا ملابسنا وهممنا بالخروج فإذا بأمّي دخلت الغرفة وبيدها إبريق من الماء الساخن ووعاء لحفظ الحرارة. وحين رأتنا على أهبة الاستعداد سألتنا: "إلى أين؟".

- نريد أن نرى إن كانوا سيسمحون لنا بالذهاب إلى آبادان أم لا.

 

فقالت وقد بدا أنها غير مرتاحة لمغادرتنا لكنّها في الوقت نفسه حاولت إخفاء ذلك: "اجلسن الآن وتناولن الفطور، لا يصحّ أن تذهبن قبل تناول الفطور".

 

أثناء تناول الفطور، أتينا على ذكر ما جرى معنا بالأمس من دون ذكر التفاصيل، فذكرنا قصة إعدامنا وصرنا نضحك. زهرة فرهادي، التي كانت أصغرنا سنًّا، كانت تخاف من أن يصيبنا مكروه في نهاية الأمر، فأصرّت على أن لا نتحدّث بطريقة تثير حفيظة الآخرين. وقالت صباح: "أجل، علينا أن نكون على حذر لئلّا نفتعل شجارًا مع أحد قدر الإمكان".

 

خلال الحديث ارتفع صوتي فجأة وقلت: "ليس من المفترض أن نقبل كلّ ما يتفوّه به الآخرون ونذعن له. إن كان ما نقوله حقًّا، علينا أن لا نتراجع عنه!".

 

رفعت "دا" رأسها وهي مشغولة بصبّ الشاي قائلة: "إنّ زهراء هذه

 

288

 


266

الفصل التاسع والعشرون

كأبيها، سيتسبّب لسانها بقطع رأسها يومًا".

 

تذكّرت أنّها كانت تخاطب أبي بالكلام نفسه. حين قال ذات مرّة: "من يظنّ نفسه؟ إنّ ربّ عملنا يقول للعمّال قولًا زورًا، وهم لا يجرؤون على أن يجيبوه بكلمة! أمّا أنا فلم أستطع أن أتحمّل أن أسمع كلام ذلك الرجل من دون أن أواجهه، فرددت عليه بما يستحق!". فاستاءت "دا" آنذاك لأنّ أبي كان قد حصل على العمل حديثًا، وكانت تخاف أن يخسر عمله بعد كلّ ذلك الفقر والمعاناة! فأخذت تتمتم بالكردية قائلة: "إنّ لسانك هذا سيصبح نارًا تحرقنا جميعًا يومًا ما!"، فضحك أبي وأجاب: "لا تخافي، لن ينالكِ أذى بسبب لساني".

 

واليوم كرّرتُ الموقف لـ"دا": "لا تخافي، لن أسمح أن يصيبك مكروه. إن كان لا بدّ من حصول مكروه فأنا من سيُصاب به".

 

فنظرتْ إليّ بغضب وقالت بالكرديّة: "فلتقطعْ ضفائرك، تريدين أن تحذي حذو أبيك!".

 

عند خروجنا، سألتني: "إن كنت تريدين الذهاب فلماذا تأخذين ليلى معك؟".

- لا علاقة لي بذلك، ليلى هي من أرادت مرافقتي، ولا أستطيع منعها من ذلك.

 

في الطريق قلت لليلى: "عودي إلى البيت. إنّ أمّنا وحيدة، ولا تستطيع الاعتناء بالأولاد لوحدها. إنّ قلبها الآن كسير لشهادة أبي، وتحتاج إلى من يؤنسها. ويُحتمل أن يأتي أحد في أي لحظة ويبلّغها خبر شهادة علي. إن بقيتِ بجانبها يمكنك السيطرة على الوضع بشكل أفضل والاعتناء بها أكثر".

 

289

 


267

الفصل التاسع والعشرون

قالت ليلى: "ما دام هذا رأيك لمَ لا تبقين أنتِ؟ تظنّين نفسك ذكيّة جدًّا! تريدين أن تذهبي وحدك وتتركيني هنا؟".

- إنني أستطيع أن أعمل أكثر منك، فأنا أتقن الإسعافات الأوّليّة.

- سأتعلّم كما تعلّمتِ أنتِ.

- تحتاجين إلى الكثير من الوقت لكي تتعلمي.

- وهل كنتُ أعرف كيف أكفّن الشهداء وأدفنهم؟ لكنني تعّلمت ذلك في يوم واحد وتخلّصت من خوفي.

- حسنًا، كما تشائين، ولكنّ بقاءك بجانب "دا" أفضل.

 

كنّا قد تجادلنا حول هذا الأمر مرارًا. فحين كنت أقول إنّني أنوي العودة، ظلّت ليلى تجيبني: "سآتي معك، سأرافقكِ أينما ذهبتِ".

 

أحيانًا كانت تصرّ إصرارًا شديدًا حتى أستشيط غضبًا فأصيح بوجهها قائلة: "وماذا عن مصير "دا" والأولاد؟!".

 

ذهبنا لنركب إحدى الحافلات المتّجهة إلى ماهشهر، ولكننا ارتأينا السير على الأقدام بسبب الازدحام الشديد فيها. في الطريق أوصلتنا شاحنة صغيرة إلى ماهشهر، من ثمّ ركبنا الشاحنة التي تنقل العمال إلى الميناء، فوصلنا قرابة العاشرة صباحًا، وقد بسطت الشمس أشعّتها على الأرجاء، وساد الحرّ الأجواء.

 

بينما كنّا نبحث عن الجنود، تقدّمت نحونا سيّارة بنّية اللون وتوقّفت بجانبنا. التفتنا إلى السيارة التي جلس بداخلها عنصران من الحرس الثوري، فعرفت أحدهما: إنّه محمد جهان آرا. شعرت بسعادة لا

 

290

 


268

الفصل التاسع والعشرون

توصف، وأحسستُ أنني أرى أبي. لا أعلم ما سرّ ذلك! فبالرغم من أنّه لم يكن كبيرًا في السنّ إلّا أنّه كان كالأب للجميع. سيماء وجهه تُظهر بأسًا وطمأنينة في الوقت نفسه. ترجّل من السيارة وسلّمنا عليه، فردّ السلام وهو يجول بنظره في محيط الميناء المليء بالعمال والعسكريين، ثمّ سأل بخشونة: "ماذا تفعلن هنا؟".

 

تعجّبت كثيرًا من أسلوبه المختلف عن ذاك الذي ما زال عالقًا في ذهني من المكالمة الهاتفية، والذي غلب عليه الصدق والهدوء! نظرتُ إلى الفتيات فرأيتهنّ ينظرن إلى بعضهن وقد تحيّرن ماذا يجبن. فما كان مني إلّا أن قلت: "نريد الذهاب إلى آبادان، وجئنا إلى هنا لنحصل على إذن دخول".

- لماذا تردنَ الذهاب إلى آبادان؟

- نحن مسعفات، ونريد الذهاب للمساعدة في إسعاف الجرحى.

- هناك ما يكفي من المتطوّعين حاليًا.

- نحن نودّ أن نقوم بأيّ عمل نستطيع القيام به.

 

فالتفت إليّ فجأة وقال: "هل أنت أخت السيّد علي حسيني؟".

- أجل.

- هل أنتِ التي جُرحتِ؟

 

تعجّبت كيف علم بأنني جرحت، وقلت: "أجل".

- كيف تريدين العودة وأنت بهذه الحال؟ لا ضرورة لذهابك إلى منطقة المواجهات. لقد أدّت أسرتكِ واجبها في هذه الحرب، فقدّمت شهيدين

 

291

 


269

الفصل التاسع والعشرون

وأنتِ جُرحت. كما أنّكم تهجّرتم من منزلكم وفقدتم كلّ ما تملكون. لقد سقط التكليف عنكم. لو كان الإمام هنا لقال هذا الكلام أيضًا.

 

تضايقت كثيرًا من كلامه. ورغم أنّي لم أغيّر قناعتي بأنّ جهان آرا مثل والدي، إلّا أنني قلتُ بصوت خافت: "لا، بل أريد الذهاب. فلديّ إذن من أبي، ولا أحد يستطيع أن يمنعني".

 

قالت الفتيات: "لكننا نريد أن نعمل، ونودّ الذهاب إلى آبادان. لقد تعفنّا جرّاء البقاء هنا من دون عمل. لا يمكننا الجلوس هكذا!".

 

أخذ كلّ منّا يدلي بدلوه. فجأة نظر إلينا عنصر الحرس الثوري الآخر الذي كان يجلس في السيارة -وكان حتى تلك اللحظة يحدّق في شيء ما بصمت والانزعاج بادٍ عليه- نظرة غاضبة والاستياء ظاهر في عينيه. لقد أخافتني تلك النظرة كثيرًا، فرجعت إلى الوراء قليلًا ووقفت بإزاء زهرة فرهادي، ثمّ سألتها: "من هو هذا الرجل؟!".

- إنّه رضا موسوي، مساعد جهان آرا.

 

تابع جهان آرا كلامه قائلًا: "لا تبقين هنا، المكان هنا غير مناسب لكُنّ. إن لزم الأمر سأصدر لكنّ إذنًا بنفسي وأطلب منكنّ القدوم إلى آبادان" ثمّ سكت. فنظرنا إلى بعضنا البعض حائرات، أمّا هو فكان ينتظر رحيلنا، وبدورنا أخذنا ننتظر أن يغادر. وبعد وقت قليل من الانتظار والنظر إلى بعضنا البعض أدركنا أنّ جهان آرا لن يدعنا وشأننا حتى يخرجنا من الميناء. قلت للفتيات بصوت خافت: "هيا بنا نذهب".

 

نظرن إليّ نظرات ملؤها التعجّب والتساؤل عن سرّ قبولي بالرجوع بعد إصراري الشديد. قلت لهنّ مجددًا: "فلننطلق، ألم تسمعن ما قال؟".

 

292

 


270

الفصل التاسع والعشرون

وقبل أن أهمّ بالانصراف سألته: "هل ستعلمنا واقعًا إن لزم الأمر؟".

 

أردت بذلك أن أعرف إن كان سيعلمنا واقعًا في حال اقتضت الحاجة، أم أنّه قال ذلك الكلام كي يقنعنا بالعودة فقط. فأجاب: "في الوقت الراهن ليس هنالك ضرورة، ولا أظن أننا سنحتاجكنّ فيما بعد. نحتاج في الوقت الحاليّ إلى رجال. ولكننا سنعلمكنّ إن احتجنا إليكنّ".

 

تأكّدت من جوابه أنّها مجرّد وعود في الهواء. بينما أخذنا نبتعد قالت الفتيات: "ما عدا ممّا بدا؟ كيف قبلتِ بأن تعودي؟".

- بدا واضحًا من وقوفهما أنّهما لن يتحرّكا حتى يخرجانا من الميناء.

- لكن ماذا لو حضر الجنود ولم يجدونا، كيف سنحصل على الإذن؟!

- ومن قال إننا سنذهب يا عزيزاتي، سنمشي ببطءٍ، حتّى إذا اطمأننّا من رحيلهما عدنا ثانية.

 

مشينا قرابة عشر دقائق بجانب الطريق. وكلّما نظرنا إلى الخلف رأيناهما ما يزالان واقفين حتى يتأكّدا من رحيلنا. صرنا نراقب السيارات المتّجهة نحو الميناء، لكي نطلب من الجنود (المغاوير) إن رأيناهم أن ينتظرونا في الميناء. بعد برهة مرّت شاحنة جهان آرا وعبد الرضا موسوي بقربنا وتوقّفت أمامنا، ثمّ أخرج جهان آرا رأسه من الشباك وسألنا: "هل تردن أن أوقف لكنّ سيارة؟".

- لا، لا. عندما نصل إلى الطريق الرئيسي سنركب سيارة.

- إلى أين ستذهبن الآن؟

- إلى المخيم (ب).

 

293


271

الفصل التاسع والعشرون

كنت متأكّدة أنّه لو كان لديه مكان خالٍ في السيارة لما توانى عن أحذنا معه. لكن لحسن الحظ أنّها كانت ممتلئة. تابعنا السير في الاتجاه نفسه حتى ابتعدا وتأكّدنا من أنّه لم يعد باستطاعتهما رؤيتنا عبر المرايا، عندها استدرنا وركضنا عائدين إلى الميناء ونحن نضحك. قالت زهرة: "جيد أنّ جنود غرفة العمليات لم يكونوا هنا، وإلا لقالوا لنا: "هذا جهان آرا الذي قلتنّ إنّه أمركنّ أن تتحدّثن عن الخيانة التي أدّت إلى سقوط "خرّمشهر" أنّى ذهبتن! لماذا لا تسمعون كلامه الآن؟".

 

فقالت إحدى الفتيات: "جهان آرا والمقاتلون في الجبهات، ويمنعوننا من الذهاب. كأنّ الجبهة تضيق بنا فقط!".

 

عدنا إلى الميناء. وقفنا ساعة في إحدى زوايا الميناء المزدحم، حيث كانت السيارات تحضر الشبّان المقاتلين باستمرار، وأخذنا نراقب حركتهم وصخبهم. كنّا نخشى أن نتكلّم أو نقوم بأيّ عمل فيخرجونا من الميناء. صار الجوّ حارًّا جدًّا بحيث أحمى رؤوسنا وأحرق أرجلنا. أخيرًا وصل الجنود على متن شاحنة صغيرة بيضاء اللون. ركضنا نحوهم بلهفة، لكن سرعان ما خاب ظنّنا حين عرفنا أنهم لم يتمكّنوا من الحصول على إذن لنا. قالوا إنّهم سيحاولون ثانية، لأنهم حصلوا على إذن لخمسة أفراد من المجموعة من بين ثمانية. أشارت صباح إلى المبنى الذي يتمّ فيه إصدار الأذونات لركوب المروحيات قائلة: "لنتولّ نحن هذه المهمّة".

قال الجنود: "لا، لا تقمن بأيّ عمل. لدينا أمر بالتوجّه إلى مركز القوة البحرية في "خرّمشهر" لإخراج الوثائق والمستندات من هناك، وقد أضفنا أسماءكن إلى اللائحة. فلو ذكرتنّ أنكنّ مسعفات فسيطلبون منكنّ ورقة تثبت ذلك. لا تبقين هنا، اذهبن وعدن بعد الظهر، حتى ذلك الحين

 

294


272

الفصل التاسع والعشرون

سنحصل على الإذن من دون شك".

 

قالت صباح: "لنبقَ هنا، لا بدّ من أن نجد أحدًا ما نعرفه يسهّل لنا أمورنا".

 

تناقشنا في الأمر ثمّ عزمنا على الرجوع إلى المخيّم. كان الغداء حساء العدس. فتناولنا الطعام ونمنا. عدنا إلى الميناء في عصر ذلك اليوم بعد أن خفّت حدّة الشمس. وهناك ذكر لنا جنديّان من مجموعة السيّد "يدي" أنّ خمسة أفراد من المجموعة غادروا ظهرًا على متن المروحيّة فيما يحاول السيّد "يدي" الحصول على تصريح لمن بقي. بينما نحن واقفون لفت انتباهنا دخول الجنود الذين تشاجرنا معهم في اليوم السابق في غرفة العمليّات الحربيّة. وحين رأونا أخذوا الجنديَّين اللذين كنّا نرافقهما جانبًا وجعلوا يكلّمونهما. لم نتمكّن من سماع حديثهم، لكننا عرفنا من تعابير وجهَي الجنديَّين ونظرات الاستغراب أنّ أولئك الجنود كانوا يشون بنا. قلت للفتيات: "هؤلاء يذكروننا بالسوء".

فقالت زهرة قلقة: "ماذا لو صدّقا كلامهم ومنعانا من مرافقتهما؟!".

-ماذا تقولين؟! وهل هذه المرة الأولى التي يرانا فيها السيّد "يدي" وأصدقاؤه؟ إنّهم يعرفوننا منذ مدة. ثم إنّهم لو قرّروا أن يمنعوا عنّا الإذن بسبب كلام تافه لا أساس له فمن الأفضل أن لا يفعلوا، سنذهب إلى آبادان بأي طريقة إن شاء الله.

 

بعد دقائق عاد الجنديّان. ورغم رغبتنا بمعرفة حديث الجنود عنّا لكننا بقينا ساكتين. فبدآ بالكلام وقالا: "هل تعرفن هؤلاء؟".

- لا، لم نكن نعرفهم، ولكنّا تعرّفنا إليهم بالأمس.

- كيف تعرّفتنّ إليهم؟

 

295

 


273

الفصل التاسع والعشرون

فذكرنا لهم تفصيل حادثة الأمس، فنظر الجنديّان إلى بعضهما البعض وضحكا قائلين: "هل تعرفن ماذا قالوا عنكنّ؟".

- لا!

- لقد سألونا: لماذا ترافقان هؤلاء الفتيات؟ هل تعرفانهنّ؟ هؤلاء من تيّار المنافقين، إنّهنّ تحت المراقبة والملاحقة، وسنقبض عليهن في اللحظة المناسبة ونقدّمهنّ للمحاكمة. لقد أهنّ رئيس الدولة، ونحن نريد تسليمهنّ للقضاء.

- حسنًا، وماذا قلتما لهم؟

 

فضحكا وقالا: "وهل نحن سذّج حتى نصدّق كلامًا كهذا؟!".

 

بدورنا ضحكنا وقلنا: "يا لبساطتهم! فلينتظروا حتى يملّوا من الانتظار".

 

جاء السيّد "يدي" وأخبرنا بسرور أنّه استطاع الحصول على الإذن، ولكن علينا الذهاب بالحوّامة إلى آبادان ليلًا لئلّا تكون تحت مرأى العدوّ. كانت المرّة الأولى التي سمعنا باسم وسيلة النقل تلك، وظننّا أنها نوع من المروحيّات كالـ"شنوك" والـ"كوبرا". لكنّ الجنود قالوا إنّ الحوامة وسيلة تستطيع الحركة في الماء واليابسة، وتسير بسرعة كبيرة جدًّا لدرجة أنّها تقفز أحيانًا فوق الماء. لم نعِ ماذا نصنع لشدّة الفرحة، فسنعود إلى آبادان وتحت عنوان عسكريّ، إذ إنّ السيّد "يدي" قال: "إنّ الحوّامة تنقل العسكريّين فحسب".

 

كان وقت الانتظار طويلًا ومملًّا. قيل لنا إنّنا سنتحرّك في الثامنة مساءً. ولتقطيع الوقت أخذت والفتيات نتمشّى قرب الماء. كان الميناء متّصلًا باليابسة من الجهة التي دخلنا منها، أما الجهات الثلاث الأخرى فمحاطة

 

 

296


274

الفصل التاسع والعشرون

بالماء. وقفت أمام الخليج فلم أرَ سوى الماء، حيث اتّصل الأفق به حتّى آخر نقطة واقعة تحت أبصارنا. على يميننا بدأت الشمس تغرب، وقد بدت دائرة كبيرة حمراء بلون النار لوّنت السماءَ بلونها، فانعكس ذلك اللّون على سطح الماء راسمًا منظرًا رائعًا جدًّا. في "خرّمشهر" كان سطح ماء النهر منخفضًا جدًّا بالنسبة للطّريق الساحلي. أمّا هنا فسطح المياه موازٍ للشاطئ، والأمواج تصل إلى اليابسة. عند الغروب انخفض مستوى الماء قليلًا فبان القسم الرمليّ المتصل بالإسفلت، لكن سرعان ما عاد كما السابق. عندما رُفع الأذان دخلت والفتيات إلى مبنى داخل الميناء، توضّأنا وصلّينا على بطّانيّة مفروشة على أرض الممرّ، ثمّ عدنا إلى الباحة.

 

ما برحت القوات العسكريّة تدخل إلى الميناء، معظمها جنود من الجيش بالإضافة إلى عدد قليل من عناصر الحرس الثوري. بلغ عددهم حوالي المئتين إلى ثلاثمئة عنصر. معظم تلك المجموعات الداخلة كانت تُحضر معها صناديق ذخائر فيضعونها قرب الميناء. عرفت أنّ بعض الصناديق احتوت طلقات أو أعيرة ناريّة، وأنّ في الصناديق الحديدية قواذف من نوع "هاون". سألت الجنود عن الصناديق الخشبية الكبيرة التي كانت بحجم التابوت، فأجابوا بأنّ في داخلها صواريخ.

 

مع اقتراب موعد الانطلاق ازداد الاضطراب بداخلي بشكل غريب. كان حضورنا نحن الفتيات الخمس في منطقة عسكرية أمرًا لافتًا، فكلّما رآنا أحد نظر إلينا باستغراب. أمّا نحن فتصرّفنا بطريقة لم نسمح من خلالها لأحد أن يقول لنا شيئًا، لكنّ الرهبة التي داخلَتني كانت أعظم من أي شيء. قلت في نفسي: "ماذا لو كان طاقم الحوّامة من الطابور الخامس، وسلّمونا إلى العراقيين؟!".

 

297

 

 


275

الفصل التاسع والعشرون

طالما سمعت عن مجموعات من الخونة الذين باعوا وطنهم وتسبّبوا بأسر مواطنيهم. لقد كان وجودنا في ظروف الحرب والعمل مع أشخاص لا نعرفهم باعثًا لأن نحتاط بشكل كبير. تمنّيت لو أنّ أختي لم تأتِ ولو أنّها بقيت مع "دا"، فإن حدث شيء ما أُصبتُ بالأذى وحدي، وهكذا يهون الخطب على "دا" وتعيش ليلى حياتها، إلّا أنّها لم ترضخ لضغوطي.

 

عند الساعة العاشرة تحرّكت الأمواج وسمعنا صوتًا خفيفًا. بعد لحظات ظهرت الحوامة بهيبتها على الماء! وكلما اقتربت أكثر زادت هيبتها في نظري. لم تكن ذات شكل هندسي منظّم، بل كانت مكعبًا مستطيلًا منحني الزوايا، رماديّة أو سوداء اللّون. أمّا حجمها فكان بحجم مروحية "شنوك" تقريبًا، ولها مروحتان على سقفها. تقدّمتْ على مهل وتوقّفت قرب الميناء. تجمّع الجميع أمامها، ونحن بدورنا تقدّمنا بهدوء. لم أعرف المواد التي صنعت منها الحوامة بسبب الظلام، فقد كان المكان مضاءً ببضعة مصابيح عسكرية كبيرة حملها بعض العناصر.

 

طُلب من الجميع الابتعاد حتى يقوموا بتحميل الذخائر أولًا. نُقلت الصناديق من يد إلى أخرى على عجل ووُضعت داخل الحوّامة. بعد ذلك قرأ شخص يرتدي زيّ الجيش الكامل الأسماء عن اللّائحة وأدخل العناصر. لقد كُتبت هذه اللائحة وفق تصاريح الدخول التي سُلّمت إلى مكتب الميناء. أخذ قلبي يخفق بشدة، وتساءلت في نفسي هل سنذهب إلى آبادان أخيرًا؟ نادونا بأسمائنا فتقدّمنا وعبرنا على اللوحة التي وُضعت بين الحوامة والميناء ثمّ دخلنا الحوّامة. أرشدونا للجلوس على مقعد موجود في إحدى زواياها حيث وُضع بجانبنا عدد كبير من الحقائب العسكريّة. جلسنا وأخذنا نجول بنظرنا في الأرجاء الأشدّ ظلمةً من الميناء.

 

298

 


276

الفصل التاسع والعشرون

لم يمض وقت طويل حتى امتلأت مقاعد الحوامة فجلس البقيّة على الأرض. أحسست أننا داخل خيمة عسكرية. كانت الجوانب مجوّفة بحيث لم تسمح لنا بأن نسند ظهورنا إليها. نظرت إلى الفتيات، لقد كنّ مسرورات أيضًا. تذكّرت "دا" مجدّدًا، وقلت في نفسي: " لا بدّ أنّها قلقة علينا وأنّها تفكّر بنا الآن".

 

في تلك اللحظة قالت زهرة لي ولليلى وكأنّها قرأت أفكاري: "ليت إحداكما بقيت مع أمّكما".

 

فبرّرت قائلة: "لم يكن بوسعي أن أبقى".

 

أجابت زهرة: "لا، أنتِ لا يمكنك ذلك".

 

فقالت ليلى مستاءة: "أتقصدين أنّه كان عليَّ البقاء؟".

 

ضحكت زهرة قائلة: "والله لا أعلم".

 

زاد قلقي على "دا" بعد ما قالته زهرة. صار ضميري يؤنبني لأنني تركتها وحدها مع إخوتي. اعتقدت أنني قصّرت بحقهم. ولكنّي من جهة ثانية دافعت عن نفسي: "لماذا رحل أبي، ولحق به أخي علي، أما أنا فعليّ أن أبقى بسبب الأطفال؟ إذا كانت الشهادة أمرًا جيّدًا فلمَ لا أطلبها أنا أيضًا".

 

وبين ذلك التأنيب والتبرير فوّضت أمري إلى الله، وأخذت أناجيه في قلبي قائلة: "إلهي، إن كان ما نقوم به صحيحًا فساعدنا، وإن كان لا صلاح فيه وأنت غير راضٍ عنه فقدّر لنا أن نعود".

مع التوكّل على الله شعرت بالراحة بعض الشيء. في تلك الأثناء أخذ الجنود يرفعون أصواتهم بالصلوات والتكبير. وحين أعلن الجنود المتولّون إدخال القوّات أنّ الحوامة قد امتلأت أُغلقت أبوابها. بقي كثيرون واقفين

 

 

299


277

الفصل التاسع والعشرون

بسبب الازدحام الشديد. تعجّبت كيف ستتحرّك هذه السفينة الحربية مع ما فيها من أثقال المقاتلين والذخائر. لكنّها وعلى عكس ما تصوّرت تحرّكت بخفة على الماء، فكنّا نهتزّ قليلًا حين تعلو عن سطح الماء ثم تعود.

 

لم يدم فرحي وسروري أكثر من عشر دقائق حتى انتشرت رائحة حريق في المكان، سرعان ما بدأنا نشعر بحرارة في الحلق. ثارت ضجة وتساءل الجميع عمّا يجري. قال شخص يضع سماعات كبيرة على أذنيه بصوت عالٍ: "اهدأوا يا سادة، سنعود، يبدو أنّ المحرّكات قد احترقت".

 

فجأة علت أصوات الموجودين. قال بعضهم خائفين: "إذا انفجرت هذه الحوامة مع كلّ ما فيها من ذخائر سنصبح رمادًا في الهواء".

 

وقال آخر: "ولماذا تحترق، هل أطلقوا طربيدًا باتجاهنا؟".

 

فأجابه آخر: "وهل هذه غواصة حتى يطلقوا عليها طربيدًا!".

 

في الواقع أنا أيضًا كنت خائفة بعض الشيء. قلت لنفسي: "أرأيتِ؟ إنّ "دا" لم تكن راضية بذهابنا، لذلك قدّر الله أمرًا لكي لا نذهب. حتى الآن لم نفعل شيئًا، ولم نصل إلى آبادان، وسنموت لسبب بسيط. هذا فضلًا عن أنّه عليّ أن أكون حاضرة لأدافع عن نفسي فيما لو سئلتُ عن سبب ذهابي من دون إذن وتسبّبت بكسر قلب أمّي! والأدهى من هذا كلّه لماذا قصّرت في مسؤوليّتي تجاه إخواني وأخواتي؟ وهل هذا ما وعدت به أبي؟". لم أكن أرغب في أن أموت بهذه الطريقة وأشعر بمؤاخذة والدي.

 

أخذ الدخان يزداد لحظة بعد أخرى فيما تسمّرت عيوننا على صناديق الذخائر. عادت الحوامة إلى الميناء بسرعة فاقت مدّة الذّهاب. وقبل أن يُفتح الباب أو تقترب من المرفأ، هجم الجنود نحو الباب. سمعنا أصواتًا

 

 

300


278

الفصل التاسع والعشرون

المحترق. بعد إخماد النيران قيل لنا إنّ المهندسين يعالجون الأعطال، ولكننا لن نتمكّن من التحرّك قبل إصلاحها".

 

تجاوزت الساعة الثانية عشرة. وصلت إلى هناك حوامة ثانية بغية تحميل الذخائر أثناء استعدادنا للتحرّك. لكنّها بقيت في الميناء.

 

طُلب منّا إخلاء المكان وقيل لنا: "اذهبوا وعودوا عند الفجر. سوف نتحرّك في ذلك الوقت لكي نصل إلى آبادان قبل طلوع الشمس".

 

ركب الجنود سياراتهم وتركوا الميناء تدريجيًّا. أما نحن فوقفنا حائرين ماذا نصنع. وحين رأينا السيّد "يدي" ومجموعته قلنا لهم: "ماذا نفعل نحن؟ لن يسمحوا لنا بالبقاء هنا وليس معنا أي وسيلة نقل لكي نعود. فضلًا عن أنّنا إن ذهبنا فلن نتمكّن من العودة صباحًا!".

 

أجابونا: "إن أردتنّ المغادرة فلن نستطيع إحضاركنّ صباحًا. أوشك الفجر أن يطلع، تعالين معنا إلى مقرّنا".

 

نظرت كلّ منّا إلى الأخرى. ماذا نفعل، أنذهب أم لا؟ هل نستطيع الوثوق بهؤلاء؟ أين يقع المقرّ؟ تحيّرنا ماذا نقول؛ إن قلنا إنّنا لن نأتي معهم، سيعرفون أنّ السبب هو عدم الوثوق بهم. حينها سيقولون لنا: "بما أنكنّ لا تثقن بنا فلمَ طلبتنّ منّا أن نحصل لكنّ على إذن"؟ ولكن، ماذا سنفعل إن لم نذهب مع هذه المجموعة التي لم نرَ منها شيئًا سيّئًا حتى الآن؟ فنحن لا نستطيع العودة إلى المخيم ولا البقاء هنا. تحدّثنا مع بعضنا البعض وتشاورنا. قالت إحدانا: "فلنذهب معهم". وقالت أخرى: "لا ينبغي أن نذهب، فنحن لا نعرفهم جيدًا".

 

أمّا أنا فارتأيت أن لا نذهب، وقلت: "صحيح أنّ السيّد "يدي" هو

 

301

 


279

الفصل التاسع والعشرون

صهر السيّدة مريم، ومنذ أن تعرّفت إليه في "خرّمشهر" وحتى الآن لم أرَ أو أسمع منه أي عمل أو كلام غير لائق، لكن مع ذلك فنحن لا نعرفه جيّدًا. من جهة ثانية فإنّ بقاءنا هنا قد يسبّب لنا متاعب أكثر..".

 

شعر المساكين بما يدور في رؤوسنا فقالوا: "أنتنّ أدرى بما هو أفضل. إن شئتنّ يمكننا أن نوصلكنّ إلى المخيم، لكننا عندئذ لن نتمكّن من إحضاركنّ في الصباح الباكر".

 

مع كلّ تلك الاحتمالات توكّلنا على الله وركبنا في الشاحنة الصغيرة. جلس اثنان منهم بجانب السائق والثالث في مؤخّرة الشاحنة التي أخذت تشقّ طريقها في الظلام الموحش. أمّا نحن فلم نتوقّف لحظة عن ذكر الله. أمسكت بيد ليلى وقد اعتراني الخوف. كنت أظنّ أنني أستطيع الدفاع عن نفسي في حال حدوث أي مكروه، لكنّ ليلى التي تصغرني سنًّا معرّضة للخطر أكثر مني. خفت على الأخريات أيضًا. كأنّ مسؤولية الجميع باتت على عاتقي بطريقة غير مباشرة. فقد كنت السبّاقة إلى الكلام ومتابعة الأمور، كما إنّهنّ أيضًا كنّ يطلبن منّي أن أتحدّث نيابة عنهنّ مع الآخرين (الشباب). كنت أعلم بما يعصف من خوف ورهبة في قلوبهن مثلي، غير أنّهنّ لم يبدين ذلك.

 

كلّما سلكت السيارة طريقًا فرعيًّا، ازداد الخوف والشكّ في قلبي. لكنّي ما ألبث أن أشعر بالراحة النسبيّة حينما تعود إلى الطريق العام. في النهاية دخلت السيارة إلى منطقة عسكرية. وما إن عبرنا من أمام نقطة الحراسة والتفتيش حتى قلت في نفسي: "يا إلهي، هذا هو المكان نفسه الذي كدنا بالأمس أن نقدَّم للإعدام فيه".

 

قلت بصوت خافت: "هل عرفتنّ أين نحن يا فتيات؟!".

 

302


280

الفصل التاسع والعشرون

- نعم، ماذا سنفعل الآن؟

- لا شيء. سندخل بكلّ بساطة، وإن تفوّه شخص بكلمة أجَبناه بما يستحق.

 

قلت ذلك وقد توقّفت نبضات قلبي من شدة الخوف. أخذت أعزّي نفسي قائلة: "أنا قويّة، وليس ثَمّ ما يدعو للخوف". إلّا أنني مع ذلك لم أنسَ كلام أولئك الجنود أثناء خروجنا حين قالوا: "اصبرن وسنريكنّ. سنسلمكنّ إلى المحكمة العسكرية مهما كلّف الأمر، وسنعلّقكنّ على المشانق".

 

ترجّلنا من السيارة، ثمّ أرشدونا مباشرة إلى القاعة التي كنّا فيها بالأمس. كان الظلام حالكًا خارج المبنى والقاعة التي سُترت جميع أبوابها ونوافذها. وعندما دخلنا، ذهب السيّد "يدي" وطلب منهم أن يعطونا غرفة خاصّة بنا. بعد ذلك أرشدونا إلى قاعة أخرى فيها أربع أو خمس غرف وفُتح باب إحداها؛ كانت غرفة كبيرة ونظيفة ولم يكن بداخلها سوى بعض الأسرّة. قال السيّد "يدي": "استرحن هنا وأقفلن الباب. وعندما يحين وقت ذهابنا سنأتي ونطرق الباب".

 

ولمّا همّ بالانصراف التفت إلينا قائلًا: "سأذهب لأرى إن كان بوسعي إحضار بعض الطعام". فشكرناه.

 

في تلك اللحظة فُتح باب غرفة أخرى، وخرج منها بعض المغاوير الذين تشاجرنا معهم بالأمس. أرادوا أن يعرفوا سبب الضجّة فوقع نظرهم علينا. فسألوا السيّد "يدي" بتعجّب: "ما تفعل هؤلاء الفتيات هنا؟!".

 

قال السيّد "يدي": "إنّهنّ سيرافقننا غدًا إلى آبادان. كنّا في مسيرنا إلى هناك مساءً بالحوامة البرمائية، لكنّ حريقًا نشب فيها ممّا اضطرّنا

 

303

 


281

الفصل التاسع والعشرون

- نعم، ماذا سنفعل الآن؟

- لا شيء. سندخل بكلّ بساطة، وإن تفوّه شخص بكلمة أجَبناه بما يستحق.

 

قلت ذلك وقد توقّفت نبضات قلبي من شدة الخوف. أخذت أعزّي نفسي قائلة: "أنا قويّة، وليس ثَمّ ما يدعو للخوف". إلّا أنني مع ذلك لم أنسَ كلام أولئك الجنود أثناء خروجنا حين قالوا: "اصبرن وسنريكنّ. سنسلمكنّ إلى المحكمة العسكرية مهما كلّف الأمر، وسنعلّقكنّ على المشانق".

 

ترجّلنا من السيارة، ثمّ أرشدونا مباشرة إلى القاعة التي كنّا فيها بالأمس. كان الظلام حالكًا خارج المبنى والقاعة التي سُترت جميع أبوابها ونوافذها. وعندما دخلنا، ذهب السيّد "يدي" وطلب منهم أن يعطونا غرفة خاصّة بنا. بعد ذلك أرشدونا إلى قاعة أخرى فيها أربع أو خمس غرف وفُتح باب إحداها؛ كانت غرفة كبيرة ونظيفة ولم يكن بداخلها سوى بعض الأسرّة. قال السيّد "يدي": "استرحن هنا وأقفلن الباب. وعندما يحين وقت ذهابنا سنأتي ونطرق الباب".

 

ولمّا همّ بالانصراف التفت إلينا قائلًا: "سأذهب لأرى إن كان بوسعي إحضار بعض الطعام". فشكرناه.

 

في تلك اللحظة فُتح باب غرفة أخرى، وخرج منها بعض المغاوير الذين تشاجرنا معهم بالأمس. أرادوا أن يعرفوا سبب الضجّة فوقع نظرهم علينا. فسألوا السيّد "يدي" بتعجّب: "ما تفعل هؤلاء الفتيات هنا؟!".

 

قال السيّد "يدي": "إنّهنّ سيرافقننا غدًا إلى آبادان. كنّا في مسيرنا إلى هناك مساءً بالحوامة البرمائية، لكنّ حريقًا نشب فيها ممّا اضطرّنا

 

304

 


282

الفصل التاسع والعشرون

للعودة. ويحتمل أن ننطلق مجدّدًا عند الفجر لذلك جئنا إلى هنا معًا".

 

غضبت لأنّ السيّد "يدي" شرح لهم القصة مفصّلة. في تلك الأثناء دخل أحدهم إلى الغرفة ثانية وما هي إلّا لحظات حتى خرج قائد مجموعتهم مع باقي أفرادها الواحد تلو الآخر. فأخذوا السيّد "يدي" وأصدقاءه جانبًا وبدأوا بالتحدّث إليهم. جعل السيّد "يدي" ورفاقه يتحدّثون وهم ينظرون إلينا: "لا، أنتم مخطئون، هنّ لسن كما تعتقدون، هؤلاء لسن منافقات. إننا نعرفهنّ جيدًا. لقد تعرّفنا إليهنّ في "خرّمشهر". هؤلاء قدّمن الكثير من التضحيات، حتى إنّهنّ ذهبن إلى الخطوط الأمامية. كيف يمكن أن يكنّ من المنافقين!".

 

تكلّم أولئك بصوت خافت ثانية، فردّ السيّد "يدي" وأصدقاؤه عليهم بعصبية وانزعاج. وقفتُ والفتيات أمام الباب ونحن نسمع أصواتهم. أخذت أطلّ برأسي بين الحين والآخر فرأيتهم يحاولون إقناع السيّد "يدي" ورفاقه الذين غضبوا وعلت أصواتهم. فجأة سمعت السيّد "يدي" يقول: "لا، كلامكم غير صحيح. هذه التي تزعمون أنّها منافقة دفنت أباها وأخاها بيديها!".

 

استأت كثيرًا من هذا الكلام. وأحسست بالمذلّة جرّاء افتراءات الجنود كذبًا علينا، ولاضطرار السيّد "يدي" ورفاقه إلى الدّفاع عنّا بهذا الشكل. قلت في نفسي: "لماذا نبقى هنا؟ أنبقى لنصبح عرضة للتوهين!؟".

 

فما كان منّي إلّا أن ناديت السيّد "يدي" قائلة: "أرجو المعذرة يا سيد "يدي"! إذا ما كان بقاؤنا هنا سيسبّب لكم المتاعب، فسنرحل من هنا".

 

نظرت الفتيات إليّ بتعجّب وقلن: "إلى أين سنذهب في هذا الوقت

 

305


283

الفصل التاسع والعشرون

المتأخّر؟ ماذا تقولين؟ لم يبقَ سوى ساعتين أو ثلاث حتى موعد ذهابنا إلى آبادان!".

- أن نصرف النظر عن الذهاب إلى آبادان خير من أن يمنّ علينا هؤلاء الأوغاد الذين يتصرّفون بهذا الشكل لنبقى هذه السُوَيعات.

 

أجابني السيّد "يدي": "لا تقلقن، ابقين هنا ونحن سنحلّ المشكلة".

- أي مشكلة ستحلّ؟

- لا عليكنّ.

- إن كان الأمر كذلك فلماذا تجمّعتم هناك تتهامسون؟ تعالوا وقولوا ما لديكم كالرجال.

 

قال أحدهم: "هل عدتِ إلى كلامكِ التافه مجدّدًا؟ فكّري مليًّا في كلامك قبل أن تنطقي به".

 

عندها علت أصوات صباح، زهرة، أشرف وليلى قائلات: "من تكونون أنتم حتى تسمحوا أو لا تسمحوا لنا بالبقاء؟ إن كنتم رجالًا فعلًا فما هذه الحركات الصبيانية التي تقومون بها؟".

 

وكما حصل بالأمس علت الضجّة في المكان فخرج الكثيرون من غرفهم وجاؤوا باتجاه غرفتنا. أمّا السيّد "يدي" وأصدقاؤه فوقفوا حيارى وأخذوا يصيحون: "اهدأوا! لماذا تثيرون كلّ هذا الضجيج؟".

 

أخذ أولئك الجنود الذين عرفوا نقطة ضعفنا بسبب ما حدث بالأمس يعيدون كلامهم حول الإمام الخميني، معتبرين أنّه المقصّر وقالوا بحقّه كلامًا مهينًا. كما اتّهموا السيّد "بهشتي" بأمور باطلة. كأنّهم شعروا أنّه

 

306


284

الفصل التاسع والعشرون

الوقت الأمثل لتفريغ ما في صدورهم. كان أهمّ ما قالوه هو أنّ الإمام هو من تسبّب بنشوب الحرب!

 

قلت لهم: "لماذا تقولون هذا الكلام؟ أنتم موجودون في ساحة المعركة، وكلّ الدلائل تظهر بوضوح من أشعل فتيل الحرب. ليس بعيدًا عمّن يدّعي أنّه تدرّب في إسرائيل أن يقول مثل هذا الكلام، فالأمر واضح كالشمس. بعد أن فقدت أمريكا والاتحاد السوفياتي مصالحهما في إيران دفعا صدّام وحزب البعث للقيام بهذه الحرب ضدّنا".

 

كان جوابهم غريبًا جدًّا. لقد كانوا ضعفاء لدرجة أنّهم قالوا: "ومن نحن حتى تحرّض أمريكا العراق للقيام بحرب ضدنا؟!".

 

غضبت من غبائهم وحماقتهم ولم أعد أستطيع التحمّل فقلت: "نحن نعرف أنّكم نكرة وأنّ الحرب لا تُشنّ لأجل أمثالكم. لقد هاجم العدو أراضي الجمهورية الإسلامية لأنّه يريد القضاء على الثورة الإسلاميّة فيها!".

 

فصاح قائدهم فجأة: "ألم أقل لكم إنّ هؤلاء جئن ليقمن بأعمال تخريبية. أحضروا الأسلحة. سأسلّمهنّ الليلة إلى المحكمة العسكرية!".

 

أسرع بعضهم وعاد يحمل الأسلحة. رفع سبعة أو ثمانية أشخاص من تلك المجموعة السلاح، وشهر أحدهم مسدّسه في وجهي؛ كان أكثرهم اغتياظًا. سُررت كثيرًا لأنني أشعلت غضبه، فقد أشعل النار في داخلي بتوهينه للإمام الخميني، وها هو الآن يحترق من الداخل وأنا أشعر بالرضى لذلك. وبعد أن طار لُبّه لعدم قيامي بأيّ ردّ فعل قال: "لقد صدر حكم إعدامك، ستعرفين الآن من تواجهين".

 

نظرتُ إليه. بدا في العقد الثالث من عمره، وجهه حنطيّ، تسريحة

 

307

 


285

الفصل التاسع والعشرون

شعره إلى الأعلى، وقد نفخ صدره الممتلئ بالأوسمة، وأبعد يديه عن خاصرتيه قليلًا. كأنّه كان يحاول أن يستعرض عضلاته ويرهب الجميع. لا أدري لماذا كلّما صاح وعلا صوته أكثر شعرت بضعفه أكثر. ثم طلب ممّن كان حوله وهم أكثر منه حمقًا أن يصفّونا على الحائط ويقوموا بتفتيشنا. فاعترضنا معًا قائلين: "لا يجرؤنّ أحد على أن يقترب منّا، لا يحقّ لكم أن تلمسونا".

 

حين تحدّثنا بهذه اللّهجة الجادّة وقع جدال بينهم. قال أحدهم: "يجب أن نفتّشهم". وقال آخر: "تراجعوا، فهذا العمل غير صائب".

 

تشاجروا فيما بينهم. فقال لهم قائدهم: "اذهبوا وشغّلوا الحافلة".

 

تقدّم أحدهم منّا بينما صوّب الآخرون أسلحتهم نحونا وقالوا: "تحرّكن".

 

فقلنا: "وما الذنب الذي اقترفناه؟".

 

بعد ذلك قلنا لبعضنا البعض: "لمَ نخاف ونحن لم نفعل شيئًا. لنذهب معهم وسيصابون بالخيبة كما حدث بالأمس".

 

انزعج السيّد "يدي" وأصدقاؤه وأرادوا المجيء معنا، لكنّ أولئك لم يسمحوا لهم بذلك وأجبرونا على السير تحت ضغط السلاح. نظرت إلى وجوه الفتيات ونحن نقترب من الحافلة. كانت المسكينات مرتعبات، وقد اصفرّت وجوههنّ كالعصافير الواقعة في مخالب النسور. زاد الأمر سوءًا حين رأينا أنّ السيّد "يدي" وأصدقاءه لم يستطيعوا فعل شيء. حاولت رفع معنويّاتي قائلة في نفسي: "إننا رفضنا إهانة الإمام وإننّي على يقين أنّنا لم نفعل سوى ما يرضي الله". ولأنني كنت في الأمام خفّفت من حركتي وهمست ذلك الكلام في آذان الفتيات.

 

308

 


286

الفصل التاسع والعشرون

عندما وصلنا إلى الحافلة قالوا لنا ثانية: "علينا أن نفتشكنّ ونعصب أعينكنّ ونكبّل أيديكن قبل أن تصعدن إلى الحافلة".

 

ارتعبت زهرة فلاذت بي وقالت بعصبية: "مستحيل، أنا لن أسمح بذلك".

 

حين رأيت تصرّفهم الوضيع بدأ جسدي يرتعش، وقلت: "وهل نحن أعداء حتى تعاملونا بهذه الطريقة؟ أنتم أسوأ من البعثيّين! لا يحقّ لكم أن تلمسونا. إن شئتم أعدمونا بالرصاص هنا أمام الحافلة، ولكننا لن نسمح لكم بتفتيشنا!".

 

اعترضت صباح وأشرف أيضًا، فاضطرّوا إلى التراجع عن قرارهم. صعدنا إلى الحافلة وجلس بعضنا خلف بعض. في تلك الأثناء شاهدنا السيّد "يدي" وأصدقاءه يركبون سيارتهم، فاغتنمت الفرصة وهمست لصباح قائلة: "هؤلاء يريدون أن يكسروا من شوكتنا حتى نتوسّل إليهم. لا تضعفن، فإنّهم لا يعرفون كيف يتصرّفون فيما بينهم فضلًا عن تصرّفهم مع الآخرين!".

 

التفت مسؤول المجموعة أنّني أتمتم فقال بعصبية شديدة: "بماذا تتهامسن فيما بينكنّ؟ قومي واجلسي تلك الناحية".

 

فلم أكترث لكلامه، فأشار إلى أحد عناصره الذي جاء من خلفي ووضع فوهة السلاح على رقبتي ودفعني لكي أقوم. ثمّ أجلسوني والأخريات متفرّقات ووقفوا فوق رؤوسنا.

 

أشرف التي طفح بها الكيل قالت: "ماذا تظنّون أنفسكم فاعلين؟ هل نحن أسيرات عندكم حتى تعاملونا بهذه الطريقة!؟".

 

309

 


287

الفصل التاسع والعشرون

قال أحدهم بصوت عال: "صه".

 

تحرّكت الحافلة وأخذ أولئك الجنود يستهزئون بنا ثانية. أمّا نحن فجلسنا صامتات نفكّر إلى أين ستؤول بنا الأمور. قلت في نفسي: "لن أحضر معي ليلى إلى أي مكان من الآن فصاعدًا".

 

قطعنا مسافة طويلة في الظلام. كنت أشعر بالإعياء الشديد بالإضافة إلى الجوع والنعاس الشديدين. وددتُ لو نستطيع الإفلات من قبضة هؤلاء المجانين بأسرع ما يمكن ولو كلّف ذلك إعدامنا! لكنّني مهما فكرت، لم أكن لأصدّق أنّ بإمكان هؤلاء أن يسوقوا دليلًا ضدنا يودي بنا إلى حبل المشنقة.

 

أخيرًا وصلنا إلى المكان المحدّد. أنزلونا بشكل متفرّق، وأدخلونا إلى أحد المباني. بعد وقت قصير من الانتظار في الممرّ أدخلونا إلى غرفة كبيرة جلس فيها ضبّاط في الجيش رفيعو الرُّتب حول طاولة مستديرة، وقد ارتدوا زيًّا عسكريًّا مرقّطًا واعتمروا قبّعات خضراء. عندما دخلنا قالوا للجنود: "أنتم قفوا خارجًا".

 

سأل أحدهم الذي بدا أرفعهم رتبة: "ما القصة؟ ما حقيقة ما يقوله هؤلاء؟".

 

بدأنا التحدّث معًا فقال ذلك الضابط: "لتتكلّم إحداكنّ فقط".

 

وكالعادة بدأتُ أشرح له فقلت: "ما برح هؤلاء الجنود منذ يوم أمس يتهموننا بأننا من المنافقين ويريدون تقديمنا للمحاكمة".

- لماذا؟ ما هي القضية؟

 

310


288

الفصل التاسع والعشرون

- القضيّة تعود إلى مسألة خيانة "بني صدر" التي كدّرت صفاء عيشهم.

 

وبمجرد أن نطقت ذلك تسمّر جميعهم ثمّ نظروا إلى بعضهم البعض وسألوا: "ما هذا الذي تقولينه؟ ألا تعرفين أنّ السيّد "بني صدر" رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلّحة؟!".

 

قلت: "وإن يكن. أوليس الإمام الخميني قائد هذه الدولة وجميع مسلمي العالم؟! كيف يُسمح لهؤلاء بإهانة الإمام وتحقير مقدّساتنا وتوهينها، في حين أنّهم لم يقدروا على تحمّل حقيقة ظاهرة للعيان كالشمس؟!".

 

قال الضابط ذو الرتبة الرفيعة: "في الوقت الراهن لا يجب قول هذا الكلام".

 

وقالت الفتيات: "نحن شاهدات على أنّ هؤلاء أهانوا الإمام وانتهكوا حرمته. إذا تحدّثنا عن الخيانة فهذا لأننا من "خرّمشهر"، وقد فقدنا كلّ ما نملكه في هذه الحرب التي يقودها بني صدر. فقدنا مدينتنا، شبابنا، منازلنا وكلّ ما لدينا".

 

بعد استجواب طويل، سأل أحدهم: "كم هو عمركنّ؟".

 

قلت بعد أن طفح الكيل: "وما علاقة عمرنا؟ إذا كنتم تريدون إعدامنا بالرصاص فافعلوا".

 

فضحكوا وقالوا: "ماذا؟ إعدام بالرصاص؟! ومن قال إنّنا نريد إعدامكنّ بالرصاص!".

- إذًا ماذا تريدون أن تفعلوا؟ قرّروا مصيرنا بسرعة. افعلوا ما تريدون

 

311

 


289

الفصل التاسع والعشرون

فعله، فلقد تعبنا. لقد تعبنا خلال الأيام الثلاثة الماضية من أجل الذهاب إلى آبادان.

- لن نقوم بإعدام أحد رميًا بالرّصاص. ومصيركنّ يقرَّر في مكان آخر.

 

بعد ذلك قام أحد الضبّاط من خلف الطاولة ونادى شخصًا ثمّ أعطاه رقمًا هاتفيًّا وقال: "اتّصل على هذا الرقم، قل لهم لدينا عدد من المشتبه بهنّ، ونريد إرسالهنّ إليكم".

 

بعد عدّة دقائق أركبونا في حافلة بيضاء اللون وأخذوا ينصحوننا قائلين: "أنتنّ لا تعرفن شيئًا عن السياسة وإدارة البلاد. ما زال الوقت مبكرًا حتى تتمكنّ من معرفة جذور القضايا وفهمها و...".

 

تحرّكت الحافلة ومعها شاحنة صغيرة يركبها أفراد مسلّحون. أمّا نحن فأخذنا نتثاءب من شدّة التعب. وددنا لو نستلقي في زاوية ما وننام. كان اللّيل قد انتصف حين توقّفت الحافلة أمام الباب الرئيسيّ لأحد الأبنية. شعرت أنّني أعرف المكان. نظرت إلى اللافتة على الباب التي كُتب عليها: "الحرس الثوري الإسلامي في ماهشهر". عندما رأيت هذا الاسم شعرت بالراحة والاطمئنان، وقلت: "الحمد لله، هؤلاء يعرفونني حتمًا. من المؤكّد أنّهم ما زالوا يذكرون ذلك اليوم الذي أحضرنا فيه الشهداء إلى ماهشهر".

 

قام المسلّحون بتسليمنا إلى عناصر الحرس الذين أرشدونا إلى داخل البناء والدهشة ظاهرة على وجوههم. ثمّ أدخلونا إلى غرفة وقالوا: "انتظرن هنا".

 

وعلى الفور دخل عنصر آخر وسألنا بلطف عن أسمائنا ثمّ قال: "أين

 

312

 


290

الفصل التاسع والعشرون

كنتنّ في هذا الوقت المتأخّر؟ ماذا حدث حتى اعتقلكنّ هؤلاء؟".

- لم يعتقلنا أحد، بل ذهبنا بأنفسنا إلى هناك.

 

ثم سألنا عن أُسرِنا، فأجابت كلّ واحدة عن السؤال، وفي النهاية قلت: "هؤلاء كنّ ضيفاتي".

 

ثمّ سألنا شخص آخر بعض الأسئلة وما لبث أن خرج. فهمت من كلامه أنّه يريد أخذنا إلى قائده. أمّا نحن فلم نعد قادرات على الجلوس على الكراسي جرّاء النعاس الشديد. بعد فترة قصيرة دخل القائد فسلّم علينا ودخل إلى غرفة لها باب مفتوح على غرفتنا. ثمّ نادوا باسمي أولًا، فنهضت ودخلت الغرفة، فقال لي: "اجلسي".

 

جلست على الكرسي أمام القائد، في حين بدأ عنصر آخر بطرح الأسئلة عليّ: "ما اسمك؟ متى خرجت من خرّمشهر؟ ما النشاطات التي كنت تقومين بها هناك؟ من تعرفين من الحرس في "خرّمشهر"..؟".

 

ثم طلب منّي أن أضع كلّ ما أحمله معي على الطاولة. أخرجت بطاقتَي التعريف الملطّختين بالدماء واللّتين كانتا في جيب قميص أخي علي ووضعتهما على الطاولة. حمل العنصر البطاقتين وسأل: "من أين أتيتِ بهما؟".

- إنّهما لأخي.

- ما هو عمل أخيك؟

- ألا ترى ما كتب على بطاقته؟

 

فقال عنصر آخر: "أجيبي عن كلّ الأسئلة التي تطرح عليك!".

 

313

 


291

الفصل التاسع والعشرون

- هذا ما أفعله.

 

فسأل مجددًا: "ما هو عمل أخيك؟".

- أخي كان عنصرًا في الحرس الثوري.

- كان؟! وأين هو الآن؟

 

ارتجف صوتي وأجبت: "لقد استشهد".

 

شعرت بالوحدة والمظلوميّة لعدم وجود عليٍّ قربي وأنا أعامَل بهذه الطريقة المهينة. فلو كان عليّ موجودًا لما سمح بأن يتعاملوا معي بهذه الطريقة. تمالكت نفسي كثيرًا لكي لا أبكي. أعطى أحد العناصر البطاقتين للقائد، فبدا لي أنّه يدقّق في اختلاف تاريخ الولادة بين البطاقتين، وشعرت أنّه يريد بطريقة ما أن يثبت أنني أكذب. قال وهو ينظر إلى البطاقتين: "أنا أعرف عناصر الحرس في "خرّمشهر"، ولكنني لم أرَ هذا الشخص في حياتي".

 

ازداد حزني وقلت: "إنّ عدم رؤيتك لهذا الشخص ليس دليلًا على أنّه لم يكن في الحرس. أمّا الاختلاف في تاريخ الولادة بين البطاقتين فهو لأن التاريخ المسجّل كان خطأً، وصحّح عليٌّ التاريخ بنفسه فكتبوا له التاريخ الصحيح في البطاقة الجديدة. كان علي في التاسعة عشرة من العمر".

 

قلت هذا ولم أعد أستطيع أن أحبس الدّمع في عيني. فتكلّم القائد الذي بدا في العقد الثالث من العمر قائلًا: "لماذا تضايقتِ؟ لماذا تبكين؟".

 

ضاق صدري وفقدت الصبر فقلت: "لقد أرهقونا خلال هذين اليومين. إنّ عصابة من المناهضين للثورة يقومون بإيذائنا، يهددوننا بأنّهم سيقدّموننا للمحكمة العسكرية، وأنّهم سيعدموننا، هلّا سأل أحد

 

314

 


292

الفصل التاسع والعشرون

هؤلاء الخونة لماذا أهنتم الإمام واتّهمتموه تهمًا باطلة؟ أنحن خونة وضدّ الثورة أم أولئك الذين يكيلون لوجوه الثورة شتّى أنواع الشتم والسباب ويدافعون عن شخص خائن؟".

 

فقال القائد: "ما لكِ أنّى ذهبتِ قلتِ إنّ بني صدر خائن؟".

- لو لم يكن خائنًا لما خرج الناس من بيوتهم وتشرّدوا في المدن والبراري.

- وما أدراكِ أنّه كذلك؟

- لقد قال لي أبي إنّه شاهد هذه الخيانات عن كثب، وقال إنّ بني صدر هو من سمح للعدو بأن يتجرّأ ويتوغّل في أرضنا.

- وما هو عمل والدك؟

- كان أبي موظفًا في البلدية. لكن حين وقعت الحرب لم يستطع أن يجلس في البيت ويشاهد العدوّ يحتلّ أرضنا.

- وأين هو الآن؟

 

قلت باكية: "لقد استشهد هو الآخر".

 

فجأة تغيّرت معالم القائد فأحنى رأسه واغرورقت عيناه بالدموع. ساد الصمت لدقائق، ولم يُسمع سوى صوت بكائي في الغرفة، إذ لم أعد قادرة على أن أتمالك نفسي. رفع القائد رأسه وأخذ يواسيني قائلًا: "إنّي أغبطك على أبيك وأخيك، وأبارك لك شهادتهما وأعزّيك بفقدهما. لماذا لم تقولي من البداية إنّكِ من عوائل الشهداء؟".

- وماذا سيتغيّر إن قلت إنّني من عوائل الشهداء؟ إنّكم أحضرتمونا إلى هنا كمتّهمات.

 

315

 


293

الفصل التاسع والعشرون

 

- لا يا أختي، لا تخطئي. نحن لم نحضركنّ إلى هنا كمتّهمات. يتوجّب علينا استجوابكنّ ومعرفة الحقيقة لأنّهم أرسلوكنّ إلى هنا.

 

ثمّ تابع: "فلتدخل بقية الأخوات إلى الغرفة".

 

حين دخلت الفتيات رفعت رأسي ونظرت إليهنّ، فرأيتهنّ قد بكين كثيرًا. عرفت أنّهنّ قد سمعن الحديث الذي دار بيننا ولم يتمالكن أنفسهنّ فبكين. جلست الفتيات فطرحوا عليهنّ الأسئلة بكلّ لطف، وحين عرفوا أنّ أخا صباح كان عنصرًا في الحرس وأنّه وقع في الأسر، وأنّ أباها قد جُرح، وأنّ ليلى هي أختي، حسُنت معاملتهم معنا أكثر فأكثر. بعد ذلك خضنا في الحديث عن النشاطات والأعمال في "خرّمشهر". فجأة سأل القائد: "هل أنتِ تلك الأخت التي أتت إلى ماهشهر مع موكب الشهداء؟".

- أجل، أنا هي.

- إذًا، لماذا لم تقولي ذلك من البداية؟ لو ذكرتِ ذلك بادئ الأمر لما حدث سوء التفاهم هذا، ولما تأذّيتنّ بهذا الشكل. نحن أيضًا نعرف أنّ بني صدر خائن، وسكوتنا هو بسبب أوضاع البلد الحسّاسة. إننا نحتاج إلى الوحدة الآن أكثر من أي وقت مضى. فالعدوّ هو المستفيد الوحيد من تفرّقنا. أنتنّ جميعًا أيّتها الأخوات ضيفات كريمات، ويمكننا إيصالكنّ الآن إلى المخيم إن رغبتنّ بذلك، أو تبقين هنا حتى الصباح وتذهبن بعدها أينما تشَأْن.

 

ونظرًا لاضطرابنا وحالنا المزرية قرّرنا قضاء هاتين الساعتين اللتين تفصلاننا عن الصبح في المكان نفسه، لكي لا تصاب "دا" بالصدمة لرؤية وجوهنا المتعبة والعبوسة. أرشدونا إلى غرفة فُرشت أرضها بالسجاد،

 

316

 


294

الفصل التاسع والعشرون

وأحضروا لنا بعض الأغطية والمساند، فرشناها بعد أن أقفلنا الباب. وعلى الرغم من غلبة النّعاس علينا، بدأنا نتحدّث معًا. قالت صباح: "الحمد لله أنّ الأمور مرّت على خير".

 

زهرة وأشرف سألتا: "زهراء، ألم نتّفق على أن لا نحكي ولا نردّ على أحد مهما حدث حتى تتيسّر أمورنا؟!".

- أنا لا يمكنني أن أبقى صامتة أمام الكلام الزور. ألم تسمعا ما قالوه من أباطيل وبهتان!

 

فتوسلتا إليّ قائلتين: "نسألك بالله أن لا تتكلّمي، مهما حدث غدًا ولو ضربونا، لعلنا نستطيع الوصول إلى آبادان".

 

قالت صباح: "دعينا نصل إلى آبادان، سأعطي أسماء كلّ الخونة للشبّان الذين أعرفهم لكي يحاسبوهم على خيانتهم. سأقوم بعمل يجعلهم يندمون طوال حياتهم".

 

بعد ذلك لم أدرِ ما قالته الفتيات بسبب إعيائي الشديد فخلدت إلى النوم. ورغم ما بي من تعب إلّا أنني رأيت كابوسًا، إذ رأيت أنّ حرمة الإمام تنتهك مجدّدًا فتألّمت لذلك. لم يمضِ كثير من الوقت حتى دُقّ الباب وأيقظونا لصلاة الصبح. نهضنا بصعوبة كبيرة، فتوضأنا وصلّينا ثم عدنا إلى النوم. دُقّ الباب ثانية عند الساعة السابعة والنصف تقريبًا، حيث أحضروا لنا الفطور. وكان عبارة عن خبز وجبن وزبدة ومربى بالإضافة لإبريق ماء ساخن وإبريق شاي. بعد حوالي عشرين ساعة من القهر والغضب والتعب والجوع جلسنا حول المائدة. ورغم جوعي الشديد غير أنّي لم أشتهِ الطعام. انزعجت من نفسي لأنّ الأمور وصلت

 

317

 


295

الفصل التاسع والعشرون

بنا إلى هنا ولأنّي تسبّبت بالمتاعب للفتيات. فلو تمالكت نفسي لما تأذّين لهذه الدرجة. أضف إلى ذلك أننا دخلنا إلى أماكن لم تكن "دا" لتسمح لنا بالدخول إليها، فقد كانت تثق بنا بالكامل. فشعرت بالذنب لأنّنا دخلنا إلى هذه الأماكن من دون علمها، وكان هذا الشعور يؤذيني. لذا لم أتمكّن من تناول الطعام.

 

في هذه الأثناء قالت الفتيات: "ماذا سنفعل الآن؟ هل نعود إلى الميناء أم نذهب إلى مكان آخر للحصول على إذن؟".

 

لم أقل شيئًا. قرّرنا أخيرًا العودة إلى المنزل. سلّمنا أواني الفطور وشكرناهم ثمّ خرجنا. عرضوا علينا أن يقوموا بإيصالنا لكننا رفضنا. ركبنا حافلة صغيرة متّجهة إلى سربندر. وهناك حاولنا إيجاد منزل خالة صباح، لكنّ أحدًا لم يستطع مساعدتنا أو إرشادنا إلى مكانها. شعرت بآلام شديدة في ظهري وقدمَيّ بسبب الضغط العصبيّ الذي تعرّضت له بحيث لم أعد قادرة على الوقوف أو الحركة، فجعلت أجلس وأستريح بين الفينة والأخرى. في النهاية قلت لصباح: "لا تتعبي نفسك من دون فائدة فأنتِ لا تملكين عنوانها. عندما أتيتُ للبحث عن أمي وإخوتي عدت خالية الوفاض أيضًا".

 

بينما نحن نسير على الطريق المؤدّي إلى المخيّم ظهر أمامنا فجأة جيب عسكري. ولمّا اقترب رأينا الجنود المتعطّشين للانقضاض علينا جالسين بداخله. وحين رأونا بُهتوا فخفّفوا من سرعتهم وقطعوا الطريق أمامنا. ثمّ تحدّثوا فيما بينهم قائلين: "ماذا حدث إذًا، لمَ هؤلاء طليقات!".

 

سألَنا أحدهم: "ماذا تفعلن هنا؟ ألم نقم بتسليمكنّ مساء أمس؟!".

 

قالت صباح: "أنتم ماذا تفعلون هنا؟ ينبغي أن لا تتسكّعوا في

 

318

 


296

الفصل التاسع والعشرون

المدينة، فمكانكم في جبهات القتال، لا هنا".

- يبدو أنّ لسانكِ ما زال طويلًا!

- أتدرون، لقد قاموا بإعدامنا بالأمس، وما ترونه الآن هي أرواحنا وقد جاءت لتنتقم منكم.

 

كانت زهرة وأشرف خائفتين من حدوث شجار جديد فجعلتا تشدّان ثوبي لكي أكفّ عن الكلام. ثمّ قالتا للجنود: "ماذا تريدون منا؟ لقد فعلتم ما أردتم، اتركونا وشأننا".

 

مشيت فتبعتني الفتيات، إلّا أنّهم لم يتركونا فأخذوا يقولون كلامًا استفزازيًا لكي يضطرّونا للدّفاع عن أنفسنا... إلى أن قالوا: "أيتها الجبانات، لماذا تراجعتنّ؟".

 

فاستدرت وقلت: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا".

 

وصلنا إلى الطريق العام وركبنا الحافلة وما لبثنا أن ترجّلنا أمام المخيم. خجلت من الذهاب إلى المنزل، فماذا سأجيب "دا" إن سألتني أين كنّا مساء الأمس! لذا دعوت الله أن لا تكون في المنزل. أخبرت الفتيات عن القلق الذي يساورني، فقلن: "سنقول الحقيقة، فلقد كان من المقرّر أن نذهب بالحوامة، لكنّها تعطلت فطلب منّا الانتظار ريثما يتمّ إصلاحها. بقينا حتى الصباح لكنّها لم تصلح، فطلبوا منّا أن نذهب حتى يعلمونا.. وهكذا لا نقع في الكذب وفي الوقت عينه لا نقول كلّ ما جرى بالتفصيل لكي لا تقلق أمك".

 

لحسن الحظ، لم أجد "دا" عند دخولنا، وقال إخوتي إنّها ذهبت لتغسل الأطباق.

 

319

 


297

الفصل التاسع والعشرون

بقي ضميري يعذّبني لأنني سأخفي بعض أحداث ليلة البارحة عن "دا". لكنني كنت أعرف أنّها لو شعرت بالخطر علينا لن تسمح لنا بالذهاب مطلقًا. أقلّ ما يمكن أن تقوله إنّها لن تسامحنا بالحليب الذي أرضعتناه، حينها سأضطرّ لأن أرضخ لها.

 

حين جاءت "دا" تعجّبت لوجودنا. فشرحت القصة لها كما قالت الفتيات فلم تعلّق. ورغم أنّ بقاء الفتيات كان غنيمة بالنسبة لي، إذ اعتقدت أنّ وجودهنّ يزيد من احتمال عودتي إلى آبادان، كما إنّ "دا" كانت مسرورة بوجودهن، إلّا أنّهنّ قدّرن حراجة ظروفنا فقرّرن المغادرة بعد الغداء. فأصررت عليهنّ أن يبقيْن وقلت: "إنّني متأكدة أن السيّد "يدي" سيقوم بشيء ما من أجلنا".

 

عصرًا، جُلت مع الفتيات في المخيم. فرأينا عددًا كبيرًا من الناس يقفون أمام خيمة المساعدات من دون أن يتمكّنوا من الحصول على المساعدة. أمّا النساء فكنّ يبكين ويشكين إلى الله بسبب كلّ هذا الذل والتعب. وحين رأينا الازدحام أمام المستوصف رغبنا بالمساعدة في أعماله. وصلنا بصعوبة إلى مقصورة المستوصف، وأخبرناهم أننا نريد المساعدة. أخذنا أقلامًا وأوراقًا وكتبنا عليها أسماء المراجعين الذين وصل عددهم إلى ستين شخصًا تقريبًا. سجّلنا لهم مواعيدهم ثمّ أدخلناهم الواحد تلو الآخر. في تلك الأثناء أخذنا نتحدث مع المهجّرين فسألناهم عن أحوالهم واستمعنا إلى همومهم. وحين أدخلنا المراجعين وخفّ الازدحام في المستوصف عدنا إلى المنزل.

 

في تلك الليلة انتظرنا طويلًا عسى أن نسمع خبرًا عن السيّد "يدي" وأصدقائه، ولكن من دون جدوى. وفي صباح اليوم التالي ودّعتني الفتيات

 

320

 


298

الفصل التاسع والعشرون

وهممن بالانصراف، فرافقتهنّ حتى الطريق العام. شعرت بانزعاج شديد لاعتقادي بأنّنا قد لا نلتقي مجددًا، حتى إنّني لم أستطع أن أتفوّه بكلمة. وحين رأيْن الدمعة في عيني حاولن إضحاكي وإخراجي من هذه الحال. في النهاية ركبن الحافلة وذهبن. وقفتُ بجانب الطريق وجعلتُ أنظر إلى الحافلة حتى اختفت عن ناظري والدموع تترقرق من عينَي. بقيت والغم والحزن يعصران قلبي. حينها شعرت بآلام ظهري ورجلَيّ، فحتى تلك اللحظة لم أكن أفكّر بآلامي ولم أبالِ بها. وددتُ لو أختلي بنفسي وأبكي قدر ما أشاء. فكرت فيما أفعل؟ أأذهب إلى آبادان أم أبقى في المخيّم؟ ومهما حاولت وجدت أنني لا أستطيع أن أغضّ الطرف عن فكرة الذهاب إلى آبادان.

 

بدأت أجول في المخيم لتقطيع الوقت حتى رأيت نفسي مجدّدًا أمام المستوصف الذي ازدحم كالعادة. دخلت وقلت للرجل الذي كان موجودًا بالأمس: "جئت للمساعدة، أستطيع القيام بأي عمل".

- حدّدي لهم مواعيد كما بالأمس.

 

بقيت في المستوصف حتى الخامسة عصرًا. كنت أقوم بتنظيم حركة الدخول والخروج، وأترجم للمراجعين العرب وأوضّح ما كتبه الطبيب لهم. كان عددهم كبيرًا لا يكاد ينتهي.

 

ألقيت بنفسي على السرير فور عودتي إلى المنزل. سألتني دا: "أين كنتِ حتى الآن؟".

- في المستوصف.

- هل آلمك ظهرك؟

 

321

 


299

الفصل التاسع والعشرون

- لا، ذهبت للمساعدة.

 

ثمّ أحضرت لي الطعام والشاي. قرأت في وجهها علامات الرضى لبقائي أنا وليلى. شربنا الشاي، بعد مرور وقت طويل لم نجلس معًا هكذا. نظرت إلى وجه "دا" وقد بدت آثار الشيخوخة فيه كأنّ الفرحة والبسمة أبتا أن تسكناه مجددًا. وأظنّ أنّها لولا وجود إخوتي ما كانت لتقوم بأيّ عمل حتّى إنّها لم تكن لتعدّ الطعام.

 

بعد احتساء الشاي، لعبنا لعبة "الشرطي والحرامي" مع حسن وسعيد. بعدها حملت ليلى على ظهري وأخذت أدور بها في الغرفة وأنا أعرج. فضحكت زينب وأخذ الصبيان يلحقون بي وهم يضحكون. قالت "دا" منزعجة: "ضعيها أرضًا، ستؤذين نفسك هكذا".

 

لم أرغب بإنهاء اللعبة لأنني رأيتهم مسرورين. قبيل الغروب أطلّت جارتنا برأسها داخل الغرفة وقالت: "يا أمّ علي، هناك عسكريّان في الخارج يسألان عنك وعن ابنتيك".

 

خرجت مع "دا" وليلى فرأينا السيّد "يدي" وأحد رفاقه. اعتقد الجيران أنّهما حضرا ليخبرانا بشهادة علي، فأخذوا ينظرون إلينا بقلق بانتظار معرفة ماذا سيجري. فقد سبق ذات مرة أن وزعت "دا" بعض الصدقات عن روح والدي، وقد أسررت لهم خبر شهادة علي كل واحد على حدة. وهكذا انتقل الخبر بين الجيران..

 

بعد تبادل التحيّة والسلام، أخبرنا يدي أنّه حصل على إذن لشخصين فقط، وبالتالي فإنّ اثنتين منّا تستطيعان الذهاب إلى آبادان صباح الغد إمّا بالمروحيّة أو بالزورق السريع. ثمّ سألني عن صباح وزهرة وأشرف،

 

 

322


300

الفصل التاسع والعشرون

فأجبت: "لقد غادرن صباحًا".

 

سألته: "حسنًا، متى أذهب أنا وأختي إلى الميناء؟".

- لا ضرورة لذهابكما سنأتي نحن ونقلّكما.

 

وأضاف: "أرجوكِ أن لا تعيري أولئك الجنود اهتمامًا إذا رأيتِهم. إنّهم يبحثون عن المشاكل".

 

سألت "دا" السيّد "يدي" عن علي. ولأنّه يعرف أننا أخفينا الخبر عنها، نظر إليّ بحزن وقال لها: "سيعود إن شاء الله يا حاجّة. لا تقلقي. إنّها حرب، ولا يمكنه ترك مكانه والمجيء إلى هنا".

 

بعد انصرافهما، دخلنا إلى الغرفة. تعانقت أنا وليلى من شدّة الفرحة. قالت دا: "لقد هجّركما العدوّ وقتل والدكما ومع ذلك فأنتما تشعران بالسرور لأنّكما ذاهبتان إلى جبهة الحرب. ترى إلى أيّ حدّ ستصل سعادتكما لو كان الوضع غير هذا؟".

 

في المساء ذهبت لأودّع خالي "نادعلي". لم يكن راضيًا عن ذهابنا وقال: "يمكنكما العمل في المخيم والاهتمام بإخوتكما في الوقت عينه".

 

لكنني كنت مصمّمة على الذهاب. لقد سبق لي أن تعرّفت في جولاتي إلى الممرّضات في مستشفَيي طالقاني وشركة النفط في آبادان. كنت متأكّدة من أنهنّ سيسعدن بقدومنا بسبب ضغط العمل هناك. كما إنّ كلام زهرة وصباح يؤكّد هذا، فقد ذكرتا أنّ المسعفات ذهبن إلى مستشفى طالقاني بعد سقوط "خرّمشهر".

 

صباح اليوم التالي، وبعد أداء الصلاة تهيّأتُ وليلى وانتظرنا. قبّلت

 

323


301

الفصل التاسع والعشرون

إخوتي مرارًا ولم أرغب بإيقاظهم. حضّرت أمّي الفطور ولمّا تشرق الشمس بعد. بينما نحن نتناول الطعام سمعنا صوت سيارة الجيب، فقفزنا من مكاننا. عانقت والدتي مجددًا وكرّرت ما أوصيتها به سابقًا على عجل، فقاطعتني وقالت: "أستحلفك بالله أن تقولي لعليٍّ أن يأتي!".

- حسنًا، حسنًا.

 

ثمّ قبّلتها ومشينا. بقيت ألتفت بوجهي إلى الخلف وأنظر إلى "دا" حتى وصلنا إلى الطريق العام. وحين رأيتها تضع طرف شالها أمام فمها عرفت أنّها تبكي. خلال الأيام الماضية التي كنتُ فيها في البيت مع الفتيات قلّ بكاؤها، أمّا وبعد ذهابنا فقد عادت لتغرق في أحزانها. لكنّني كنت توّاقة للذهاب، ولم يكن بوسعي إضاعة فرصة كهذه.

 

حين وصلنا إلى الميناء كانت الشمس قد طلعت. لم ننتظر كثيرًا حتّى حطّت مروحية من نوع "شنوك". ركب عدد من المقاتلين وفقًا للأسماء المكتوبة على اللائحة وحمّلوا الكثير من الذخائر والمعدات الطبية والنقّالات، كما دخلت دبابة أيضًا. بعدها طارت المروحيّة، بعد أن أثارت في المكان غبارًا كثيفًا، وأدّت إلى تلاطم مياه النهر.

 

قرابة العاشرة وصل دورنا، إذ حطّت طائرة مروحية وصعدنا على متنها. جلس ما يقارب الأربعين شخصًا على المقاعد داخل المروحية وعلى أرضها. كنت قد رأيت سبع أو ثماني ممرّضات من الهيئة الصحية في الجيش يصعدن في مروحية الشنوك. أمّا في مروحيّتنا فكنت أنا وليلى الفتاتين الوحيدتين، وكان البقيّة رجالًا من العسكريين أو عمّال شركة النفط أو من طاقم المستشفيات.

 

324


302

الفصل التاسع والعشرون

اهتزّت الطائرة كثيرًا حتى حلّقت وارتفعت. لم يعد أحدٌ يسمع أحدًا، إذ كانت أصوات المحرّكات والمراوح قوية جدًّا. نظرت إلى الخارج فرأيت الماء فقط على مدّ نظري. ورغم أنّ المسافة التي تفصلنا عن منطقة "تتوئبده" لم تكن بعيدة، إلّا أنّ الطيّار اختار طريقًا أطول ليبقى بعيدًا عن مرأى رادارات العدو ونيران مدافعه. فالتفّ فوق الخليج الفارسي في حين أنّه كان من المفترض أن يمرّ فوق اليابسة في الحالة العادية، كما أخذ يغيّر ارتفاع المروحية طوال الرحلة. بالإضافة إلى الطّيار ومساعده، كان برفقتنا مهندس طيران واثنان من طاقم المروحية، وكانوا يتواصلون بالسماعات مع الطيّار. وعندما كانت المروحية تهتزّ بشكل كبير بحيث نفقد توازننا قالوا لنا: "لا تقلقوا، هذا بسبب الأحوال الجوية".

 

أخذت وليلى نتهامس فيما بيننا، فقلت لها ضاحكة: "لقد ركبنا بالمروحية قبل أن نموت يا ليلى".

 

أحببت كثيرًا أن أذهب إلى مقرّ مجاهدي الجنوب فور وصولي إلى آبادان، فقد سمعت أثناء وجودي في مستشفى "نمازي" في شيراز أنّ السيّد مصباح أحد متولّي المسجد الجامع قام بتشكيل هذا المقرّ بالتعاون مع عدد من الأشخاص. حيث كانوا يقيمون دورات تدريبيّة في حرب العصابات للراغبين بالذهاب إلى ساحة المعركة. أعجبني كثيرًا استخدام كلمة "مجاهدين" في تركيب اسم هذه المنظّمة. فقبل الآن كنّا نسمّي العسكر حرسًا أو مدافعين، ورأيت أن كلمة "مجاهد" تحمل معنىً أعمق.

 

ترجّلنا من المروحية. كان الماء على جهة واليابسة على الجهة الأخرى وقد شُقّت طريق في وسطها. الزوارق السريعة كانت مركونة بجانب الماء وقد تجمهر عدد كبير من الناس بانتظار ركوبها. كان أكثرهم قد أخرجوا

 

325


303

الفصل التاسع والعشرون

أسرهم وعادوا لأخذ ما يحتاجون من أغراضهم من تحت النار والركام. مشينا مع السيّد "يدي" ورفاقه على الطريق. كان الجوّ حارًّا، وزاد من شعورنا بالعطش ذلك الغبار المثار بفعل المروحيّات. كما إنّ السيّارات المارّة كان لها دور في نثر الغبار علينا. وفي غضون دقائق معدودة علا التراب والغبار كامل ثيابي، وأخذت حنجرتي تحرقني بشدّة. كان السيّد "يدي" وأصدقاؤه يحملون حقائب عسكرية كبيرة بغية وضع الوثائق والمستندات فيها، أخذوا يتحدّثون عن مهمّتهم، ثمّ سألونا: "هل ستأتيان معنا لجمع الوثائق؟".

- كلاّ، سنذهب إلى المستشفى.

 

اقتربنا من المستديرة، فأوقفوا شاحنة صغيرة كانت تنعطف حولها فركبنا فيها. أخرج السائق رأسه وقال: "هل لديكم إذن دخول؟".

- أجل.

- أنا لا أقصد إذن ركوب المروحية. أمامنا نقطة تفتيش وسيطلبون إذن الدخول إلى آبادان.

- امضِ الآن والاتّكال على الله.

 

مُنعنا من المضيّ أمام نقطة التفتيش الأولى، ما لبثوا أن سمحوا لنا بالمرور بعد أن رجوناهم وتوسّلنا إليهم. لكنّهم قالوا إنّ من المستحيل أن يتم لنا ذلك عند النقطة الثانية، وهي أمام مدخل المدينة على بعد كيلومتر واحد. وهناك أنزلوني وليلى من السيارة، فترجّل السيّد "يدي" وأصدقاؤه رغم امتلاكهم إذنًا بالدخول لكي لا يتركونا لوحدنا. حاولوا جاهدين إقناع الحرّاس بأن يسمحوا لنا بالدخول معهم لكنّ الحراس رفضوا ذلك.

 

326


304

الفصل التاسع والعشرون

قال السيّد يدي: "كونوا على ثقة بأننا سنحصل لهما على إذن ونحضره لكم".

- لا، هذا غير ممكن.

 

في النهاية قال السيّد يدي: "إن لم تعد هاتان الآنستان وبحوزتهما إذن الدخول فيمكنكم إلقاء القبض علينا، وهذا هو عنوان مقرنا".

 

شعرنا بالخجل لأنّنا تسببّنا بكل هذا الإحراج للسيد يدي ورفاقه، لكنّنا كنا ممتنّتين لهم كثيرًا على كلّ هذه المساندة. وبعد كفالة السيّد "يدي" وبكائي الشديد لأنّني لم أستطع تصوّر أنني وصلت إلى آبادان من دون أن يُسمح لي بالدخول إليها أتاحوا لنا المجال، لكنّهم عادوا وقالوا: "سيمنعونكم من المرور عند نقطة التفتيش التالية، من المستحيل أن يسمحوا لكم بالبقاء".

- لا أدري، لقد جئنا للعمل في المستشفى.

 

قال أحد أصدقاء السيّد "يدي": "ما رأيكما في أن آخذكما إلى منزل أهل زوجتي، لقد عزمت على أن أصطحبهم معي حين أعود إلى ماهشهر. ابقيا هناك في الوقت الراهن ريثما نحصل لكما على إذن".

 

لم يكن لدينا خيار آخر، فوافقنا. أخذونا إلى منزل في منطقة "أحمد آباد". فتح لنا الباب رجل عجوز برفقته ابنتاه اللتان كانتا في الثالثة عشرة والسابعة عشرة من العمر تقريبًا، وقد لبستا وتهيّأتا بانتظار قدوم زوج أختهما الكبرى فيصطحبهما إلى خارج آبادان. كانت إحداهما تحمل قفصًا فيه عصافير لها، كما رأينا أمتعة العائلة قد وُضّبت. قال صديق السيّد "يدي" لوالد زوجته: "فلتبقَ هاتان الأختان هنا ريثما نعود".

 

دعاهم الرجل العجوز لتناول الغداء، فقالوا إنّهم سيأكلون في المقرّ.

 

327

 


305

الفصل التاسع والعشرون

جلسنا في إيوان المبنى حول باحة منزل العجوز والشعور بالخجل والغربة يؤذيني. تضايقت لأننا سبّبنا الإزعاج لهذه العائلة. مرّت تلك الساعات كعمر بالنسبة لي. في النهاية اضطررنا للعودة لأنّهم لم يتمكنوا من الحصول على إذن لنا، فعدنا إلى "تشوئبده".

 

حين جاء دورنا وركبنا في المروحية، خاطبنا الطيّار الذي عبر مسير "تشوئبده" "ماهشهر" عدّة مرات طوال ذلك اليوم غاضبًا وقال: "ما هذا! لماذا تأتيان وتذهبان في أوضاع كهذه؟ هل هذه سيارة أجرة؟!".

- وما عسانا نفعل؟ ليس الذنب ذنبنا، لم يُسمح لنا بالدخول، وها نحن نعود.

 

ركبت عائلة زوجة صديق السيّد "يدي" معنا أيضًا. كانت إحدى ابنتيهم رافضة لفكرة ترك آبادان، فقالت وهي تحمل قفص العصافير: "مسكينة هذه العصافير، إن تركتها هنا ستموت!".

 

في طريق العودة بالمروحية أخذت أفكّر في سبب عدم نجاحنا في الوصول إلى ساحة المعركة مهما حاولنا. ما لبثت أن واسيت نفسي بالقول إنّ هذا ما شاءه الله. بعد العودة إلى سربندر، ذهبنا إلى مستوصف المخيم وشرعنا بالعمل هناك.

 

328

 


306

الفصل الثلاثون

الفصل الثلاثون

 

أُقيم المستوصف في آخر المخيّم، في الشارع الرئيس، عنبر كبير بسقف من الصفيح مطليّ باللون الأزرق، ومساحته 50 مترًا تقريبًا. جدرانه الداخليّة والخارجيّة بيضاء اللون. يـتألّف من غرفتين وعدّة طواقم صحّية، يقسم الغرفة الأكبر جدارٌ مصنّع إلى قسمين. يعاين الطبيب المرضى في القسم الأوّل منهما، أمّا القسم الثاني فقد وُضع فيه سريران للاستشفاء السريع. فيما خُصّصت الغرفة الثانية من المستوصف للحقن وتضميد الجراح. كان الإخوة في الهلال الأحمر قد جهّزوا المستوصف هذه المرّة تجهيزًا جيّدًا، كما أوفدوا الأطبّاء إليه من طهران وشيراز والمدن الأخرى، لتقديم الخدمات الصحيّة والعلاجات الجيّدة للنازحين في المخيّم. حتّى إنّ المصابين في مدينتَي سربندر وماهشهر كانوا يُنقلون إلى هناك. بالرغم من وجود هذه الخدمات، انتشرت أمراض كثيرة بين النازحين، خاصّة التهاب العيون والإسهال والاستفراغ. فكان المستوصف يعجّ بالناس معظم الأوقات، ويضجّ بأصوات بكاء الأطفال. مع بداية هطول الأمطار، وكثرة تردّد المراجعين وهم ينتعلون الأحذية البلاستكيّة في الغالب، كانت أرض المستوصف تمتلئ بالوحل، فنكنسها في ساعات الخلوة، ولكنّ أرضه فُرشت بالموكيت، فغدا إتمام الأمر صعبًا للغاية، لذا

 

329

 


307

الفصل الثلاثون

عمدنا، بعد كنس الموكيت، إلى مسحه بخرقة مبلّلة لإزالة الوحل عنه. كان هطول الأمطار يصعّب علينا عملنا، ويستهلك وقتنا وطاقاتنا. ذات مرّة غسلنا أرض المستوصف بخرطوم الماء، وأوقفنا حارسًا على الباب ليطلب من الزائرين خلع أحذيتهم قبل الدخول. جهدنا كثيرًا من خلال التوجيهات والطرق المختلفة لحثّ الناس على مراعاة النظافة. مع كلّ هذا، لم تكن نظافة المخيّم كما ينبغي.

 

كان هناك خزّانان كبيران للماء في مدخل المخيّم يغذيّان الحيّ، وكانت المياه تنفد أحيانًا. من ناحية ثانية، كان عدد الحمّامات قليلًا، ولأنّها حمّامات عموميّة، ساعد ذلك على انتشار الأمراض بسرعة هناك. في بعض الأيّام، حين كان المستوصف يغصّ بالزائرين، ويطول انتظار المسنّين، فتعلو أصواتهم: "ماذا تفعلون بنا؟". كنّا نقول لهم: "إنّنا نحن أيضًا نازحون مثلكم، وقد أتينا إلى هنا لنرى ما يمكن أن نقدّمه لكم من خدمة. لِمَ تصيحون في وجوهنا؟ ما هو ذنب العاملين هنا، إن كان لديكم اعتراض اذهبوا وقولوا هذا للمسؤولين".

 

عادةً ما كانوا يتراجعون عند سماعهم هذا الكلام، ويبقون واقفين في صفوف الانتظار. وخلال الازدحام الذي كان يحدث في المستوصف، نبدأ بسماع أخبار الحرب على ألسنة الناس. وحيث كنّا نعلم أنّ الإذاعة لا تبثّ الأخبار الصحيحة، فقد آمنّا وصدّقنا أخبار الناس أكثر. جرى حديث أكثرهم عن الزمن الذي ستنتهي فيه الحرب ليتخلّصوا من التشرّد. قالوا إنّ الحرب لن تطول كثيرًا، وإنّها ستنتهي، وسنعود إلى بيوتنا. فكم دامت حرب العرب والعجم؟ والمشرّدون فيها من الطرفين قد ابتلوا معًا بمصيبتها، وكانوا جميعًا معتقدين بأنّ صدّام بشعاره الزائف "نجاة أمّة

 

330

 


308

الفصل الثلاثون

العرب"، إنّما يبتغي فقط طلب السلطة واحتلال البلدان والتوسّع. كنّا مع سماع نقد هؤلاء وتحليلاتهم، لا نتوقّف عن السعي لأن ننجز أعمالنا بسرعة. وكلّفنا شخصًا ليُدخل المرضى بالترتيب إلى الطبيب. بعض هؤلاء المرضى كان يتحدّث العربيّة فقط، ولم يكن قادرًا على التواصل مع الأطبّاء الموفدين، فوجدت أنّ عليّ، إلى جانب عملي بتعليق الأمصال في غرفة حقن الإبر، القيام بدور المترجم.

 

بالإضافة إليّ وإلى ليلى، خَدَم هناك أيضًا مسعفو الهلال الأحمر في منطقة آبادان. تولّى الأخ عجرش مسؤوليّة المستوصف. وكانت الأخت كريمي، والأختان راضية ومرضيّة علي زاده، وشهناز كبيري وابنة عمّها وبعض الممرّضات الأخريات الموفدات من قبل وزارة الصحّة يتناوبن على العمل نهارًا فقط. كنّ يعملن من الصباح إلى الظهر، أو من الظهر إلى العصر، ثمّ ينصرفن، أمّا المسعفون فكانوا يقضون أيّامهم ولياليهم في المستوصف.

 

ذات يوم ناداني الأخ عجرش قائلًا: "سيدة حسيني، ألا تذكرينني؟! أنا الذي نقلت جثمان أخيك علي من آبادان".

- لا.

- كيف لا تذكرين؟! كنت سائق الإسعاف الذي ينتظر الجرحى أمام باب المسجد، وحين قلتِ لي إنّك تريدين دفن أخيك إلى جانب والدك، لم أستطع قول لا. حينها كانت حالتك عجيبة. كنت أراقبك في طريق العودة إلى "خرّمشهر" من خلال المرآة، حيث احتضنتِ جثمان أخيك، ورحت تذرفين الدموع وتتكلّمين معه. لقد أدمت كلماتك قلوبنا جميعًا.

 

331

 


309

الفصل الثلاثون

أساسًا لم أتمكّن من القيادة، ولم أكن أرى أمامي. كنّا نسير ببطء. جعلك الله من الصابرين.

 

بين الوفد الطبّي المرسل من طهران، كان هناك طبيب ضخم البنية يميل إلى السمنة شيئًا ما، يلبس نظّارات سميكة، يتراوح عمره ما بين الأربعين والخامسة والأربعين. لم يعرّفنا عن نفسه، ولم يذكر لنا اسمه. فأطلقنا عليه اسم "عالي الجناب"، وهي عبارة نستخدمها عند مناداة الرجال قبل ذكر أسمائهم. كان إنسانًا متواضعًا. المدهش في الأمر أنّني كلّما رأيته تذكرت الدكتور سعادت. كان يؤدّي صلاته بطريقة أداء الدكتور سعادت نفسها. ليلًا، حين تقلّ مراجعة المرضى، كان المسعفون يتناوبون على الجلوس في الصالة خلف المكتب، ليخبروا الباقين في حال وصول مريض. أمّا نحن فكنّا نجلس في الغرفة الكبرى أرضًا، وكان الدكتور عالي الجناب يفسّر لنا آيات من القرآن الكريم، رغم نظره الضعيف، حيث صعبت عليه القراءة من مصحفه الصغير الحجم. ذات يوم، وحين كنت أزور معرض الكتاب في سربندر أحضرت له مصحفًا عريض الخطّ وأهديته إيّاه، فسُرّ كثيرًا لذلك.

 

في ليالي الأربعاء والجمعة، كنّا نقرأ دعاء التوسّل ودعاء كميل، فنطفئ المصابيح ونضيء الشموع. معظم الأوقات كان الدكتور عالي الجناب يقرأ الدعاء. بالقرب من هؤلاء الأشخاص الذين، وبعيدًا عن اختصاصاتهم ومهنهم، يفكّرون في العمل الصائب فقط، كنت أشعر بالطمأنينة، هذا ما خفّف إلى حدّ ما من غمّي وهمِّي.

 

شعرت منذ مدّة بوخز في عضدي، وذات يوم لاحظت أنّ ذلك الموضع قد تورّم، وكأنّ شيئًا ما تحت هذا الورم. عرضتُ الأمر على طبيب

 

332

 


310

الفصل الثلاثون

المستوصف، وبعد المعاينة قال: "أيّتها السيّدة، هل أُصبتِ يومًا ما؟ يبدو أنّها شظيّة؟".

- نعم، إنّ شظيّة أصابت عضدي لكّنها خرجت.

- لم تخرج، اخترقت العضلة وهي تسير باتّجاه القلب مع جريان الدم. وهذا سبب الوخز في يدك. ينبغي أن تخضعي لعمليّة جراحيّة.

 

بعدها، كتب لي طلب الدخول إلى مستشفى الإمام الخميني في ماهشهر. لم أرغب بدخول المستشفى بسبب شظيّة صغيرة. طلبت من السيّد إسماعيلي، ممرّض المستوصف، الذي يتمّتع بخبرة جرّاح في عمله، أن يخرج الشظيّة من يدي. وعند خلوّ المستوصف من المرضى، تمدّدت على سرير حقن الإبر، فعقّمت يدي السيّدة عليزاده، وهي من مسعفات الهلال الأحمر في منطقة آبادان، وخدّروا لي المنطقة المحدّدة، فشقّ السيّد إسماعيلي يدي وأخرج منها شظيّة بحجم خمسة ريالات.

 

خلال عملي في المستوصف، كانت تتداعى إلى فكري ذكريات العمل في عيادة الدكتور شيباني، أو جرحى المدينة. فكرة الذهاب إلى آبادان وخدمة جرحى الحرب هناك لم تبارح مخيّلتي. كنت أعمل هنا، إلّا أنّه لم يكن العمل الذي يرضيني. لكنّي استمررت بهذا المبرّر، وهو أنّ الناس هنا بحاجة إليّ، ولعلّ خدماتنا تخفّف شيئًا من همومهم وغمومهم.

 

ذات يوم، أحضروا صبيًّا في الخامسة أو السادسة من العمر إلى المستوصف؛ كانت قطعة خشب قد اخترقت وجهه بالقرب من عينه، وجرحت تلك المنطقة من وجهه جرحًا بليغًا. كان موضع الجرح حسّاسًا جدًّا، وقد تشعّب الجرح إلى شعبتين أو ثلاث. ما إن رآه أحد الأطبّاء حتّى

 

333

 


311

الفصل الثلاثون

قال: "أرسلوه إلى ماهشهر".

 

كنت أعرف الأوضاع في مستشفى ماهشهر. وفكّرت أنّه من الأفضل، مع ذلك الكمّ الهائل من العمل الموجود هناك، أن ننجز الأمر بأنفسنا. وهكذا، أجلست الصبيّ، الذي كان على ما يبدو هادئًا وصبورًا، وطلبت منه إغماض عينه، رششت بعض رذاذ البنج على الجرح، التقطتّ إبرة، ورحت أخيط الجرح بعناية ودقّة فائقتين، ومن ثمّ أمسكت يد الصبيّ بحماسة، أخذته إلى غرفة الطبيب، وأريته مكان القطب. ما إن وقعت عينا الطبيب على الصبيّ، حتّى خرج عن طوره وراح يصرخ في وجهي أمام المرضى: "لقد أمرتك بنقل الصبيّ إلى ماهشهر، لِمَ فعلتِ هذا؟".

 

سيدي الدكتور، لا حاجة لذلك. حتّى يصل هذا الصبيّ إلى ماهشهر، تكون كلّ دمائه قد نزفت. لقد خِطتُ الجرح هنا وانتهى الأمر.

 

لم يقنعه كلامي، وظلّ يصرخ في وجهي ويؤنّبني. بعد فترة، جاءت والدة الطفل إليّ وقالت لي: لقد خطتِه جيّدًا، اختفى تقريبًا أثر الجرح.

 

وحتى الطبيب نفسه بعد مدّة قال لي: "يا سيدة، كان ردّ فعلي حادًّا، لكن لا أخفيك سرًّا أنّك خِطت الجرح بنحو ممتاز".

 

لقد شهدنا كثيرًا أمثال هذه الجروح؛ طفل في الشهر السادس من عمره، بالكاد يستطيع الجلوس، يسقط باب حديديّ على رأسه فيشقّه على شكل مثلّث. خاط الإخوة في المستوصف جرحه أربعين قطبة، وكانت أمّه تأتي به من وقت لآخر لتغيير ضمّاده. قلق الجميع من أن تُسبّب هذه الضربة على رأس الصبيّ، حالة تأخّر ذهنيّ.

 

أسوأ من هذا، شابّ في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من العمر،

 

334

 


312

الفصل الثلاثون

كانت قدمه قد احترقت قبل أعوام، ولم يتعافَ من حروقه. قَسى جلد قدمه وصار مثل قوقعة (صدفة) السلحفاة، والتهبت بشدّة من الركبة إلى الأسفل. ساء وضع هذه الجروح وبات شكلها يدمي القلب. واضطررنا إلى جلخها، وإزالة التقرّحات التي تحوّلت إلى فتائل. بعد شهرين، قال الطبيب إنّه ينبغي إجراء عمليّة لقدم الشابّ وإلّا فإنّ الالتهاب سيصل إلى أعصابه وسنضطرّ حينها إلى بتر قدمه.

 

بعض المرضى كانت لديهم حالات هستيريّة ونفسيّة، وبرأي الأطبّاء لم تظهر عليهم أيّ علامة من علامات المرض. إلّا أنّهم كانوا يتظاهرون بذلك.

 

ذات مرّة، أحضروا سيّدةً انتقلت إلى بيت الزوجيّة للتوّ، كانت تردّد أنّها ليست على ما يرام، وتلقي بنفسها إلى الأرض من وقت لآخر، وتتظاهر بالإغماء. بعد معاينة الطبيب لها قال إنّها لا تشكو من شيء، والمسألة مسألة نفسيّة فقط. وصف لها حقنًا مهدّئة للأعصاب، وعندما كنّا نريد حقنها بالإبرة كانت تقفز من على السرير، وتشرع بالدوران حوله هربًا منّا، فيما كنّا نلحق بها إلى أن نمسكها بالقوّة في النهاية، ونحقنها.

 

في ليلة من الليالي جاءت زهراء شرّه إلى المستوصف. كنت في الغرفة عندما سمعت صراخها وشجارها. وقفت أمام الممرّ وقلت لها ضاحكةً: "ماذا حصل؟ ما الخبر؟ أتريدين افتعال شرّ؟!".

 

أشارت إلى طفلها وقالت: "إنّه يعاني من إسهال واستفراغ شديدين. هؤلاء يقترحون أن أنقله إلى المستشفى ويقولون إنّه ليس بالإمكان معالجته هنا".

 

335

 


313

الفصل الثلاثون

تلك الليلة، رافقتُ زهراء شرّه، ونقلنا ابنها بسيّارة الإسعاف إلى مستشفى ماهشهر. وهناك أيضًا، راحت تصرخ وتصيح، وتشاجرت مع الطبيب، إلى أن قال: "لن أعاين ابن هذه السيّدة أبدًا".

 

هنا تدخّلت وقلت: "إنّ حالة هذه السيّدة ليست جيّدة، وهي تعاني اضطرابًا نفسيًّا". وما إن أُدخِل الطفل إلى المستشفى، حتّى عدت أدراجي إلى المستوصف.

 

اضطُررنا مرّتين أو ثلاث مرّات، بسبب عدم وجود الطبيب، إلى القيام بأعمال نفتقد فيها للخبرة والجرأة والشجاعة. ذات يوم، جاء رجلٌ عربيّ إلى المستوصف، وقال إنّ حالة امرأته سيئة للغاية وإنّها ستموت. ذهب الممرّض ورجل آخر معه بسيّارة الإسعاف، فوجدوا امرأة عربيّة في حالة مخاضٍ عسيرة، تسكن بالقرب من مدخل المخيّم. اشتدّ عليها الطلق في الإسعاف، ولم نتمكّن من نقلها إلى الداخل. فلم يجد الممرّض بدًّا من أن يقول فلتلد هنا داخل الإسعاف. لم تكن أيّ واحدة منّا مستعدّة لمساعدته. كانت أولّ مرّة أرى فيها امرأة تضع حملها. كنت خجلة من ناحية، وخائفة من ناحية أخرى. لكنّ الممرّض في المستوصف كان بحاجة إلى مساعد، ولا يتمكّن لوحده من القيام بشيء.

 

في البدء قرّرنا أن نطلب من والدة الزوج التي أتت برفقتها، وكانت خارج سيّارة الإسعاف أن تتصدّى لهذا الأمر. لكنّ المرأة على ما يبدو لم تكن جديرة بذلك. كان الأمر صعبًا عليّ، لكن إن لم أتصدَّ لهذا الأمر وماتت المرأة فلن أسامح نفسي. دخلت سيّارة الإسعاف، فوجدتّ أنّ المرأة أيضًا منزعجة من كون ممرّض رجل يشرف على ولادتها.

 

حقن الممرّض إبرة في يد المرأة، وقال لي: "حاولي أن تتعلّمي هذا

 

336

 


314

الفصل الثلاثون

العمل، ففي حالة الحرب هذه عليك أن تتعلّمي القيام بمختلف الوظائف. وإذا ما لزم الأمر، تقومين بها بنفسك".

 

أنا التي كنت أخاف أن تموت المرأة، أدرت لها ظهري، وحتّى إنّي لم أنظر في وجهها، لم أقل شيئًا وبقيت هادئة. فقط عندما كان الممرّض يطلب منّي شيئًا كنت أعطيه إيّاه. أمّا المرأة المسكينة، فعلى الرغم من حالتها السيّئة، لم يكن يُسمع لها صوت. كانت تمسك بيدي فحسب وتضغط عليها بشدّة.

 

أخيرًا، وُلِد الطفل، من دون أن يصدر عنه أيّ صوت. كان أزرق اللون، ويكاد يختنق. قال لي الممرّض: "اقطعي الحبل السرّي فورًا".

- لا أستطيع.

 

فصاح بي بعد أن وصل غضبه منّي إلى ذروته: "إذًا، متى عليك أن تتعلّمي؟".

 

قلت بخوف: "من أيّ جهة ينبغي أن أقطعه؟".

 

كنت خائفة جدًّا. قطعت الحبل بيدين مرتجفتين. بعدها التقط هو الطفل من رجليه وحمله بالمقلوب وراح يضربه على ظهره، ومن ثمّ نظّف أنفه وحلقه، فارتفع صوت الطفل بالبكاء. عندها أحضر الإخوة الواقفون خارج سيّارة الإسعاف، ملحفة وحرامًا ولفّوا المولود وقد كان بنتًا سمینة، وراحوا يتداورونها من يد إلى يد ويصيحون: "يا لها من طفلة لطيفة، كم هي جميلةو..".

 

ومرّةً أخرى صاح الممرّض فينا: "ما هذا الوضع؟ هل هذه حضانة؟ ما هذه الفوضى التي تحدثونها؟".

 

337

 


315

الفصل الثلاثون

أدخلنا والدة الطفلة التي لم تكن بحال جيّدة، إلى المستوصف، وعلّقنا لها مصلًا. وحيث تعسّر عليها إرضاع الطفلة، سقيناها بالملعقة بعض الماء والسكّر. أمّا والد الطفلة فبدا منزعجًا لكون مولوده الثاني أنثى أيضًا، كأنّ زوجته وطفلته لم تكونا على وشك الموت. والمرأة المسكينة كانت أيضًا خائفة من زوجها. أظنّ أنّها كانت تتمنّى الموت. طلب منّا الزوج غاضبًا أن نسمح له بأخذ زوجته وطفلته. ومهما شرحنا له بأنّ وضعها خطير وينبغي تحويلها إلى المستشفى لم يقبل. عندما نفد المصل، نقلنا المرأة إلى الدائرة الصحيّة في سربندر. أنّبنا الطاقم الصحّي في الدائرة بشدّة، بسبب تعريض المرأة للخضخضة، وعدم نقلها منذ البداية إلى هناك. ومهما حاولنا إقناعهم بأنّ الطفل كان على وشك الولادة وأنّنا اضطُررنا للمساعدة، لم نفلح، وبعد جدل طويل وافقوا على استقبالها.

 

بعد ليلتين أو ثلاث، وقعت أيضًا حادثة. المشكلة أنّ النسوة أردن أن يلدن أطفالهنّ في البيوت، ولم يقبلن القدوم إلى المستوصف، غير أنهنّ في الحالات الحرجة، يفكّرن بالذهاب إلى الطبيب. المشكلة الثانية التي حصلت معنا، هي أنّ امرأة كانت تتلوّى من الألم، وقد فقدت الوعي بعد أن ولدت طفلها. فوضعناها في سيّارة الإسعاف ونقلناها إلى تلك الدائرة الصحيّة نفسها. وهذه المرّة احتدم الشجار إلى حدّ قالوا فيه إنّهم سيعملون على إقفال المستوصف.

 

قلنا: "أنتم أحرار، افعلوا ما بدا لكم. نحن قمنا بواجبنا، فلسنا قابلات، ولا خضعنا لدورات تدريبيّة في هذا المجال. هاتان المرأتان كانتا على وشك الموت عندما أُحضرتا إلى المستوصف. وإلى أن نوصلهما إلى الدائرة الصحيّة، تكون حياة كلّ من الأمّ والطفل قد انتهت. أيّهما أفضل؟ أن نأتي

 

338

 


316

الفصل الثلاثون

بهم وهم على هذه الحال، أم أن نسلّمكم جثثهم؟".

 

عندما جاء الطاقم الطبّي اللاحق، كان يبيت في المستوصف. فكنّا نحن المسعفين المحلّيّين ننام في غرفة حقن الإبر، فيما كان الطاقم الموفد من المناطق الأخرى ينام في غرفة المرضى. كان السيّد "آتشكده"، مدير الهلال الأحمر في منطقة آبادان، يزور المستوصف ويتفقّده من وقت لآخر، ويحضر معه الأدوية والمعدّات. أما مسؤول الطاقم الطبّي الجديد، الدكتور حسيني، فقد وزّع أعمال المستوصف منذ اليوم الأول لوصوله. حتّى أعمال الجلي والتنظيف، التي كانت على عاتق الأخوات، جعلها على جدول أعمال كل الأفراد في المستوصف بالتناوب. قلنا له: "إنّ عملك هو الطبابة، دع هذا الأمر لنا".

 

فكان يقول: "ما الفرق؟ العمل عمل. والأطبّاء ليسوا مستثنين منه. لقد أتينا إلى هنا لنعمل. ولو لزم الأمر لحملنا السلاح وقاتلنا. عندما لا يكون هناك مرضى، علينا المبادرة أيضًا. أساسًا، هل تعهّدتنّ أنتنّ بتنظيف هذا المكان؟!".

 

لقد التزم بهذا البرنامج بالرغم من ضغوط العمل عليه. كلّما رأيت الدكتور حسيني يأخذ الطعام من مطبخ المخيّم، وبعد الانتهاء من تناوله، يكنس صالة المستوصف بدقة بالغة، ما يتطلّب مشقّة خاصة، أو يغسل الأواني، كنت أشعر بالخجل الكبير، وأصرّ عليه قائلةً: "اسمح لي يا دكتور أن أقوم أنا بهذا الأمر".

 

فيجيبني: "لا، إنّه واجبي، اذهبي أنت وتابعي أعمالك الأخرى".

 

مرّت الأيّام، وأنا ما زلت أعاني من آلام ظهري ورجلَيّ. وكان الأطباء

 

339

 


317

الفصل الثلاثون

في مستشفى شيراز قد قرّروا أنّ عليّ الذهاب إلى طهران للمعاينة المجدّدة ومتابعة العلاج. ذات مرّة، تحدّثت هاتفيًّا عن طريق أحد الإخوة في الحرس، إلى الأخ جهان آرا، وطرحت عليه المسألة. فأرسل رسالة تعريف عنّي لأقدّمها إلى مستشفى الحرس في طهران. عند تسلُّمي الرسالة، لم أدرِ ما أفعل. إلى ذلك الحين لم أكن قد زرت طهران بعد، فلم أعرف أيّ مكان فيها، ولا أقارب لي هناك لأذهب إليهم.

 

في تلك الآونة، جاء ممثل "خرّمشهر" في مجلس الشورى الإسلامي يونس محمّدي، لتفقّد النازحين في المخيّم "ب". فتحدّثت إليه وقلت له إنّي أريد الذهاب إلى طهران لمتابعة علاجي، فأبدى استعدادًا لمساعدتي. وكان هو أيضًا يريد العودة إلى طهران، لكنّه أراد أوّلًا الذهاب إلى بهبهان لتفقّد الأسر الخرمشهريّة النازحة إلى هناك. ثم سألني إن كنت أستطيع مرافقته إلى هناك، وقال: "إنّ وجود سيّدة في المجموعة، يجعل العوائل يطرحون مشاكلهم براحة أكبر". وبعد أن استشرت أميّ، أخبرته بموافقتي.

 

بعد يوم أو يومين، ذهبت بصحبة السيّد محمّدي، وأخيه عبد العظيم، وخسرو نوعدوستي، وشخصين آخرين لا أذكر اسميهما، بالباص الصغير إلى ماهشهر. ولعدم توافر وسيلة نقل تنقلنا مباشرة إلى بهبهان، قطعنا الطريق بواسطة سيارات المارة على الطريق. حلّ الظلام، فأخذنا خسرو نوعدوستي إلى بيته. ما إن رأت والدة خسرو ابنها حتّى صاحت من الفرحة. تذكّرت كيف أنها كانت قد تحدّثت بشأن ارتباطه بإحدى الأخوات العاملات في المسجد، وكانت ذات عينين خضراوين، وقد أظهرت أم خسرو محبّتها البالغة لها، وطلبت من الله تعالى أن تنتهي الحرب لتحتفل بعرس ولدها.

 

340

 

 


318

الفصل الثلاثون

بعد رؤيتها، والاستقبال الحارّ في منزل عائلة خسرو، ذهبنا إلى بيت جيرانهم، والد حسين فخري[1]. وكلا البيتين كانا مستأجرين. وحين علم السيّد فخري بوضعنا الماليّ المزري، قال: "سأكلّم ابن أخي، إن كان بالإمكان توفير بطاقات سفر، فتسافروا من الآن فصاعدًا بالطائرة".

 

بدا أنّ ابن أخيه كان محافظ منطقة بهبهان أو رئيس بلديّتها. في اليومين أو الثلاثة أيّام التي أمضيناها هناك تفقّدنا العائلات الخرّمشهريّة المهجّرة، وتحدّثت مع السيّدات هناك حول مشاكلهنّ، وأوضاعهنّ المعيشيّة، وما يلزمهنّ وينقصهنّ، ووضعت السيّد محمّدي في الأجواء. عندما أنهينا عملنا، قصدنا ابن أخي السيّد فخري لتهيئة بطاقات الطائرة، لكنّه قال: إنّ في هذا الأمر إشكالًا من الناحية الشرعيّة، ولا يمكنه تأمين البطاقات لنا.

 

تحيّرت كيف سأصل إلى طهران، إذ لم أكن أملك أيّ مال. السيّد محمّدي هو الذي تولّى المصاريف حتى ذلك الحين، لكن يبدو أنّ وضعه المالي أيضًا لم يكن جيّدًا.

 

بالنهاية، تأمّن مبلغ من المال وقُدّم لنا. بقي السيّد يونس محمّدي في بهبهان لمتابعة أعماله. وذهبت أنا وأخوه وشخصان آخران بالحافلة إلى طهران. قبل الانطلاق طلب إليّ السيّد محمّدي أن أذهب إلى بيت أهله، الذين كانوا قد نزحوا إلى طهران عند اشتداد وطأة الحرب.

 

عندما وصلنا إلى محطّة حافلات الجنوب، لم نعلم ماذا نفعل، فلم يكن أحد منّا يعرف الطريق. قلنا فلنتوكّل على الله ولنذهب إلى وسط


 


[1]  من رواديد خوزستان المحبوبين والمشهورين.

 

341


319

الفصل الثلاثون

المدينة. سألنا شخصًا عن المكان فقال:

- ميدان "توبخانه".

 

كانت أوّل مرّة نسمع فيها بهذا الاسم، العجيب بالنسبة لنا، ولذا عندما وصلنا إلى ميدان توبخانه سألنا بعض الأشخاص عن سبب تسميته.

 

كان الجوّ باردًا جدًّا. كنت لا أزال أرتدي "المانتو" الذي تمزّق إثر إصابتي واختراق الشظايا له. وأرتدي تحته فقط قميصًا قصير الكمّ استعرته من إحدى الأخوات في المستوصف لأستر به جسدي. ولهذا، آلمتني عظام ظهري بشدّة وكأنّ السكاكين تُشكّ فيها، فيما ارتجف صوتي من شدّة البرد. وهكذا كان البقيّة، لذا حاولنا أن نمشي تحت أشعّة الشمس.

 

خلال تلك الفترة، كنت عندما أغسل ثوبي الذي لا أملك غيره، وريثما يجفّ، ألبس عباءة أمّي أو ثوبها، إذ لم أرغب بأخذ مساعدة من الآخرين.

 

ذات مرّة، ذهبت وصباح وطنخواه إلى ماهشهر لننتقل من هناك إلى آبادان. كنّا ننتظر شخصًا لينقلنا إلى آبادان في مكان أظنّ أنّه كان تابعًا للجنة إمداد الإمام الخميني. بقينا هناك ننتظر طويلًا من دون أيّ عمل. كان الناس يأتون ويأخذون الطعام، وكان الازدحام والجلبة كبيرين. طال انتظارنا، فجاء أحد العاملين هناك وكان يراقبنا فسألنا: "ماذا تريدان؟". فخلال هذه المدّة لم نفعل شيئًا ولم نبحث عن شيء، فقال: "عذرًا أختَيّ، أتريدان شيئًا؟".

- لا

- هل تريدان لباسًا أو طعامًا أو شيئًا آخر؟

 

مع أنّنا كنّا نتضوّر جوعًا، قلنا أيضًا: لا.

 

 

342


320

الفصل الثلاثون

إلا أنّه ذهب وأحضر لنا أكلة يخنة بالأرزّ الساخن، تناولناها ودَعَونا له كثيرًا. وأتى مرّة ثانية وسألنا: إن كنتما تريدان الملابس، فتعاليا واذهبا إلى المستودعات وخذا ما تريدانه.

- لا، فالناس أحقّ منّا.

 

كنّا في ميدان توبخانه واقفتين في موقف الباصات. ولأنّ مبنى الاتّصالات العالي في تلك المنطقة حجب عنّا ضوء الشمس، شعرنا بالبرد الشديد. قلت لرفيقاتي: "بالله عليكنّ فلنذهب ونقف في تلك الناحية تحت أشعّة الشمس"، ففعلنا.

 

في تلك الأثناء جاء راكب درّاجة، وقف على مقربة منّا وراح يحدّق فينا تارةً، وفي السلاح الذي في يدي تارةً أخرى، ثم انطلق وتوجّه إلى مبنى الاتّصالات. قلت في نفسي: ما الخطب فينا؟ لِمَ يحدّق بنا هكذا؟ فالسلاح بحوزتي هو عبارة عن (G3) الخاصّ بالسيّد محمّدي، والذي أصرّ على إبقائه. قال لي: هؤلاء الفتية متهوّرون، أخشى أن يتسبّبوا لنا بالمتاعب، لا تسلّميهم إيّاه بأيّ شكل من الأشكال.

 

ما هي إلّا دقائق، وإذا به يعود مع حارس مسلّح، مشيرًا بيده قائلًا: "ها هم، يبدو أنّهم منافقون، كما إنّهم يحملون السلاح".

 

سألَنا المكلّف بحراسة مبنى الاتّصالات: ماذا تفعلن؟ ومن أين أتيتنّ؟ ولمن هذا السلاح؟ فأظهرت له بدوري رخصة حمل السلاح التي كان السيّد محمدي قد أعطانيها، وشرحت له سبب مجيئي إلى طهران. أمعن النظر في الرخصة، وسأل عدّة أسئلة أخرى، ثمّ دعا لنا وذهب في سبيله.

 

كان من المقرّر أن نذهب أوّلًا إلى المستشفى الذي تمّ التعريف عنّي

 

343


321

الفصل الثلاثون

للذهاب إليه. لكن لم نعلم أنّ اسمها قد تغيّر. وكلّما سألنا شخصًا عن "مستشفى ميثاقيّة" وكيفيّة الوصول إليها، لم يعرفه. إلى أن أَخْبرنا أحدهم أنّ اسمه أصبح مستشفى الشهيد السيّد مصطفى الخميني.

 

وصلنا إليها بعد طول عناء. ولأنّنا لم نكن نملك المال الكافي، قطعنا معظم المسافة إلى شارع إيطاليا سيرًا على الأقدام. أمام باب المستشفى قلت في نفسي: "إلى من أذهب؟ ومن الذي يعرفني هنا؟ ليس باليد حيلة، لقد قطعت كلّ هذه المسافة، فلأذهب إلى هؤلاء الإخوة في الحرس وأنظر ماذا سيحصل".

 

ما إن ذهبت إلى مكتب الدخول وعرّفت عن نفسي، حتّى قال الجميع: "أين كنتِ أيّتها الأخت؟ إنّنا ننتظرك منذ عدّة أيّام. لقد اتّصل بنا الأخ جهان آرا وقال إنّك قادمة".

 

بعدها، عرّفوني إلى الممرّضات، فعاملنني بحميميّة كأنّهن يعرفنني منذ زمن.

 

أظهر العاملون في المستشفى احترامًا كبيرًا لي، وكانوا يقولون: إنّنا نشمّ فيك رائحة عليّ. وأنت ذكرى لنا منه. عندما نراك كأنّنا نرى الشهيد".

 

كان من الواضح، أنّ علي خلال هذه الأشهر الثلاثة أو الأربعة التي قضاها هنا في المستشفى، قد لفت أنظار الجميع إليه، فأحبّوه وأنِسوا به أنسًا خاصًّا.

 

كنت مشتاقة لأرى الغرفة التي أُدخل عليّ إليها. طلبت من الممرّضات أن يرشدنني إليها. قلن: "اصبري حتّى نستكمل أوراق دخولك، ومن ثمّ نريك إيّاها".

 

344

 


322

الفصل الثلاثون

- لا، أريد أن أعرف كيف أمضى عليّ تلك الأشهر هنا.

 

وافقن على ذلك، فذهبنا إلى الطابق الثاني. وقفن أمام باب وقلن: "هذه كانت غرفة أخيك".

 

عندما سمع عليّ بخبر اندلاع الحرب، ولم يسمح له الأطبّاء بالخروج من المستشفى، ربط الملاءات ببعضها البعض ونزل من الطابق الثاني إلى الشارع. سرعان ما علم طاقم المستشفى بالأمر فباءت محاولته بالفشل. في المرّة الثانية، استطاع الفرار عندما أخذوا الجرحى لزيارة قبور الشهداء في مقبرة "بهشت زهراء".

 

اقتربت أكثر، كان للغرفة ممرّ صغير عند مدخلها. وقفت فيه إلى جانب ثلّاجة وُضعت هناك ورحت أنظر. كان في الغرفة ثلاثة أسرّة، تمدّد جريحان على اثنين منهما، فيما كان السرير في الوسط خاليًا. أشارت الممرّضة إلى السرير المحاذي للنافذة وقالت: ذاك كان سرير أخيك.

 

في لحظة، تذكّرت علي وتجدّدت كلّ أحزاني. لم أعد أحتمل. أجهشت بالبكاء وخرجت من الغرفة مسرعةً. تعجّب الجرحى، فأوضحت لهم الممرّضة الأمر. حاولت السيطرة على نفسي في الممرّ. رجوتهنّ أن يسمحن لي بالدخول إلى الغرفة مرّة أخرى، ووعدتهنّ أن لا أسبّب الإزعاج لأحد. حاولت أن أضبط نفسي وأحبس أنفاسي. تحدّث إليّ الجريح الذي كان مستلقيًا على سرير علي وقال: "أنا أفخر كوني أنام مكان شخص نال الشهادة".

 

بعد ذلك أخبرتني الممرّضة بأنّ الهيئة الإسلاميّة في المستشفى أقامت في إحدى ليالي الجمعة مراسم تقبّل التعازي بشهادة علي، وقد

 

345

 


323

الفصل الثلاثون

دُعي الواعظ المعروف السيّد فلسفي ليلقي خطابًا في تلك المراسم. وقد أرتني الممرّضات الملصقات والبيانات التي كانت قد أُلصقت على جدران المستشفى حول شهادة علي. ومن ثمّ رأيت الصور التي كان الإخوة في الحرس قد التقطوها لعلي. كانت الورقة التي تضمّنت بيان إقامة مراسم شهادة علي حمراء اللون، وقد طُبعت عليها صورة له مرتديًا لباس المستشفى. جاء عنوان البيان بالخطّ العريض:

"الأخ الشهيد السيّد علي حسيني، شهيد من نسل المظلومين".

 

تابع البيان موضّحًا كيف ذهب إلى "خرّمشهر" واستُشهد. فأخذت بدوري أحد البيانات واحتفظت به لنفسي.

 

ذلك الوقت، لم يحضر طبيب متخصّص في المستشفى، فحُدّد لي موعد. ومن ناحية أخرى، بسبب مضيّ عدّة أشهر على إصابتي، لم أعد بحاجة إلى دخول المستشفى. أراد الأطبّاء أن يعلموا مكان الشظيّة من العمود الفقري، وحجم الخطر الذي يتهدّد النخاع الشوكي نتيجة تحرّكها.

 

بعد ذلك، ذهبت إلى مكان إقامة عائلة السيّد محمّدي الذي يقع في آخر طهران. حينذاك، كانت الجامعات مقفلة بسبب الثورة الثقافيّة. وكانت عائلة السيّد محمّدي وعدد من العائلات المهجّرة يسكنّ في كلّيّة من كلّيات الضبّاط الواقعة في منطقة تخضع لحراسة مشدّدة تشبه المعسكر. كنتَ ترى الجنود في كلّ مكان، يراقبون حركة دخول الأفراد وخروجهم.

 

كانت صفوف الكلّيّة كبيرة، فمُنحت كلّ عائلة صفًّا. مع عائلة السيّد محمّدي، سكنت هناك أيضًا عائلة والده وعائلة والد زوجته. طوال مدّة

 

346

 


324

الفصل الثلاثون

مكوثي في طهران، كنت أنام في غرفة والدة السيّد محمّدي إلى جانب أخواته.

 

كان الطقس يومها باردًا جدًّا. ومع أنّ صفوف الكلّيّة كانت تحتوي على أجهزة تدفئة، لكنّها لم تعمل بسبب نقص الوقود. كانت مياه الأنابيب باردة جدًّا. ولأنّنا لم نعتد على ذلك في "خرّمشهر" فقد تورّمت أيدينا.

 

عندما رأت والدة السيّد محمّدي أنّني لا أملك شيئًا ألبسه، وأنّني دائمًا أتحدّث عن برودة الطقس وأرتجف، أعطتني سترة سوداء من الخيوط الصناعية. كانت ضيّقة عليّ، ولا يمكن إقفال أزرارها، كذلك كانت محروقة في طرف من أطرافها، واتّخذت لونًا بنّيًّا، فيما انحلّت بعض أنسجة الكمّ وتمزّقت. كانت هذه السترة المستعملة وبعض الألبسة الأخرى قد وصلت إليهم عن طريق هيئة الإغاثة، فكانت أفضل من لا شيء، وقد نفعتني كثيرًا، أنا التي كنت أرتجف من شدّة البرد دومًا، فلبستها تحت المانتو.

 

بعد أيّام جاء السيّد محمّدي من خوزستان إلى طهران، اصطحبني وأخاه عبد العظيم ذات يوم إلى مجلس الشورى الإسلامي.

 

في تلك الآونة، لم يكن الذهاب إليه صعبًا كما هي الحال عليه اليوم. تمكنّا من الدخول برفقة السيّد محمّدي من دون أيّ إجراءات. فعرّفني السيّد إلى الشيخ رفسنجاني والشيخ كرّوبي، وعرّفهما عن أعمالي. فقال الشيخ رفسنجاني: "إنّنا نفخر بأخوات وفتيات مثلكنّ، كنّ وما زلن حاضرات بشجاعة في جبهة القتال". كما تعاطف الشيخ كرّوبي معي كثيرًا، وأعطاني رسالة عرّف بها عنيّ وقال اذهبي إلى مؤسّسة الشهيد واسألي عن السيّد مازندراني.

 

 

347


325

الفصل الثلاثون

خلال المرّتين أو الثلاث التي ذهبت فيها إلى مجلس الشورى الإسلامي، التقيت بالسيّد الخامنئي، والدكتور ديالمه، والدكتور آيت، وحجّة الإسلام محمّد منتظري، وتحدّثت معهم حول الحرب، وتضحيات الناس في "خرّمشهر" وأوضاعهم. فكانوا يقولون: "إنّ الذين يجب عليهم نقل هذا الكلام والوقائع إلى الإمام مقصّرون، على أمثالكم أن يأتوا ويوصلوا الأخبار". بدت لي شخصيّة السيّد الخامنئي والدكتور ديالمه قويّة جدًّا، وفي الوقت عينه محبّبة ولطيفة. عندما كنت أتحدّث إلى الدكتور ديالمه، أشعرني تواضعه بالخجل. فلوجهه براءة مميّزة، وكان يتحدّث بهدوء تامّ. قيل إنّه أستاذ في جامعة طهران، وهو أوّل من أحيا سنّة دعاء كميل في طهران.

 

في إحدى جلسات المجلس رأيت مشهدًا سيّئًا، حيث احتدّ الجدال القائم بين النوّاب فيما يخصّ العلاقة مع أميركا، إذ كان رأي النوّاب المعارضين لإقامة علاقات مع أميركا، أنّ الحكومة الأميركيّة قد جمّدت الأرصدة ورؤوس الأموال الإيرانيّة وغصبتها، وكان من المفترض بها، بالحدّ الأدنى، أن تعيد هذه الأموال كبادرة حسن نيّة في العلاقة بين الدولتين. لكنّها لم تقم حتّى بهذه الخطوة البسيطة، وأنّها ترسم سياساتها وفقًا لمصالحها فحسب.

 

وقد عارض بعضهم هذا الرأي بشدّة، وهم القوميّون، بحسب قول السيّد محمّدي، وكانوا من المطالبين باستئناف العلاقات مع أمريكا.

 

تغيّب الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيس المجلس حينها، بسبب اشتداد آلام الجرح الذي أصابه إثر محاولة الاغتيال التي تعرّض لها. فأدار الجلسة السيّد سحابي، وكان هو أيضًا من القوميّين. وعندما احتدم

 

348

 


326

الفصل الثلاثون

النقاش، تقدّم أحد المطالبين باستئناف العلاقات مع أميركا، هاجم حجّة الإسلام منتظري بغضب، وأخذ بتلابيبه، وراح يصيح بوجهه ويهزّه، وحجّة الإسلام منتظري لا يبدي أيّ ردّ فعل أو يتكلّم بكلمة. كان ينظر إلى المشهد فحسب. فجأة، تقدّم شخص آخر من القوميّين وصفع حجّة الإسلام منتظري صفعةً قويّة على وجهه، فما كان منه إلّا أن قال: "هذا هو منطق القوميّين".

 

كثيرًا ما كان يحضر أشخاص إلى قاعة المجلس فيجلسون في الطابق الثاني ويسعون لإثارة الفوضى أكثر فأكثر مستغلّين احتدام الأمور فيما بين النوّاب. ساءتني جدًّا سهولة دخول الناس إلى المجلس وقيامهم بإثارة الفوضى. قلت في نفسي: إنّنا في حالة حرب، وجميع القرارات التي تُتّخذ هنا تتعلّق بمصير الشعب وحياته في هذا البلد، فلماذا يسمحون لجماعة من الناس، والذين إن لم نسمّهم منافقين، فهم بالتأكيد جهلة وقصيرو نظر، أن تأتي وتتعاطى مع هذه الأمور بسخريّة؟

 

في النهاية، بعد الاغتيالات المتوالية التي نفّذها المنافقون، وخاصّة بعد أحداث 7 تير و8 شهريور (27 حزيران و9 آب) واغتيال رجالات الثورة المتألّقة والمميّزة، بدأ المسؤولون يفكّرون بتشديد الحراسة وضمان الأمن في المجلس، وإقامة حواجز التفتيش حيث ينبغي. في تلك الأيّام، كان أعضاء المجلس أشخاصًا يعيشون البساطة ومتواضعين، يمكن للناس لقاؤهم والتحدّث معهم بكلّ سهولة. في المرّات القليلة التي تناولت فيها الطعام في المجلس، كان الطعام بسيطًا وعاديًّا جدًّا، وكان أعضاء المجلس يتنقّلون، ويروحون ويجيئون، من دون أيّ حراسة أو سائق خاصّ.

 

349

 


327

الفصل الثلاثون

ذات مرّة، وبينما كنت خارجةً والسيّد محمّدي من المجلس، رأينا الدكتور "آيت" قد حضر بسيّارة "البايكان" خاصّته، وركنها في زقاق من الأزقّة شمالي المجلس. فجأةً، هاجمته مجموعة من المنافقين، يبدو أنّها كانت تترصّده، فخرج من كان داخل المجلس وفرّقوها. هكذا كان أعضاء مجلس الشورى في تلك الفترة، ومن جملتهم الدكتور "ديالمه" الذي قضى في انفجار الحزب الجمهوري، والدكتور "آيت" الذي اغتيل أمام منزله ونال شرف الشهادة.

 

وكذا كان السيّد "محمّدي"، رجلًا يعيش حياته من دون تكلّف. بعد سنة من ذلك، ذهبت إلى منزله، فوجدت زوجته قد مرضت من شدّة البرد، حيث لم يكن لديهم وقود لإشعال المدفأة، فاكتفوا بفرش أرض الغرفة بالموكيت ووضعوا فوقه حرامًا. كانت حال زوجة السيّد محمّدي سيّئة إلى درجة لم تستطع فيها إرضاع طفلها بسهولة. أمضيت أسبوعًا في منزلهم، ولمّا رأيت أنّ المسؤولين ليسوا أفضل حالًا من عامّة الشعب، هانت عليّ مشاكلي ومصائبي.

 

کانت للسیّد محمّدي مزحاته الخاصّة أيضًا. قال لي ولأخيه ذات يوم ونحن نسير مشيًا على الأقدام من المجلس إلى "ميدان انقلاب": أتعرفون ما معنى كلمة سچفخا؟

- هي اختصار لـ"سازمان چريك هاى فدايى خلق"; أي القوّات الخاصّة في منظّمة مجاهدي خلق.

- لا، بل تعني "ساواکی چاقوکش فراری خائن أمريكايى". أي "السافاكي الأميركيّ البلطجي الفارّ الخائن".

 

350

 


328

الفصل الثلاثون

ذهبت يومًا بتلك الرسالة التي أعطاني إيّاها السيّد كرّوبي إلى السيّد مازندراني. لم أكن أعرف لماذا عرّف الشيخ كرّوبي عنّي لدى مؤسّسة الشهيد. بعد أن تحدّثت إلى السيّد مازندراني، أرشدني باحترام كامل إلى قسم آخر. فسلّمني مسؤول القسم ثلاثة حرامات وخمسة عشر ألف تومان. تعجّبت من الأمر ولم أقبل. قلت: "لم آتِ إلى هنا لآخذ شيئًا".

- ولكّنك في وضع تلزمك فيه أمور، ولا بدّ من تأمينها.

 

كنت أتمنّع عن قبولها وهو يصرّ عليّ بأخذها. خجلت من أخذ المال والحرامات. على الرغم من الضائقة الماليّة التي كنت أعاني منها، لم تسمح لي مروءتي بأخذها. بالنهاية، أقنعني بتبريراته وإيضاحاته الكثيرة. ومع ذلك أخذتها بصعوبة.

 

عندما رأيت الأموال بين يدي، قلت في نفسي إنّ عليّ أوّلًا أن أخيط معطفًا، فتوجّهت إلى خيّاط رجّالي في ميدان الإمام الحسين عليهما السلام وأوصيته أن يخيط لي معطفين، واحدًا لي وآخر لليلى. بعد خروجي من عند الخيّاط قلت في نفسي، لم يعد بإمكاني خياطة عباءة لي. فعدت إليه وطلبت منه أن يوسّع المعطفين قدر الإمكان. بعد يومين أو ثلاثة ذهبت إليه وتسلّمت المعطفين. كان قد خاطهما بنحو جيّد. معطفان كحليّا اللون تبلغ قيمتهما معًا 400 تومان. أخيرًا خلعت المانتو الذي أعطتني إيّاه "إلهة حجاب"، واحتفظت به للذكرى.

 

بعد عدّة أيّام، حين جاء موعد زيارتي للطبيب، ذهبت إلى مستشفى مصطفى الخميني، وهناك عاين الطبيب المتخصّص مكان الشظيّة. قرّر أن يطرح المسألة على لجنة طبّيّة، فجاء ردّ اللجنة بعدم إمكانيّة إجراء

 

351

 

 


329

الفصل الثلاثون

عمليّة جراحيّة لي. حين رأيت أن الأطبّاء غير قادرين على فعل أيّ شيء لي، قرّرت العودة إلى سربندر.

 

عند وداعي للممرّضات وطاقم المستشفى، تسلّمت منهم أغراض عليّ. كانت عبارة عن الحقيبة التي جهّزتها له بنفسي، وفيها أغراضه الشخصيّة، ملابسه، ومشغّل الصوت "الووكمان" وكاميرته، مع عدد من الصور التي كان عليّ قد التقطها مع الشخصيّات التي أتت لعيادته، ومن جملة هؤلاء كان آية الله بهشتي، والدكتور شمران، وأبو شريف، الذين كانوا في تلك الفترة يتفقّدون الجرحى، كما كانت هناك بعض الصور لعلي وللجرحى، التقطوها أثناء تأدية صلاة الجمعة. وقد طلب أحد الإخوة في الحرس، وكان يعمل في المستشفى، منّي الاحتفاظ بـ "الووكمان" وشريط أذان مسجّل بصوت عليّ للذكرى.

 

في تلك المدّة، طلبت من السيّد محمّدي أن يأخذ لنا موعدًا للقاء الإمام في حسينيّة جماران، لكنّنّا لم نوفّق لذلك، فذهبت في الأيّام الأخيرة لزيارة روضة "بهشت زهراء"، كما كانت زيارة برج آزادي في ميدان آزادي ممتعة بالنسبة إليّ، فالتقطتّ بعض الصور لتلك الأماكن بكاميرا علي. ذهبت مرّة أخرى بتوصية من الشيخ كرّوبي إلى مؤسّسة الشهيد. كان يصرّ على إحضار عائلتي إلى طهران، لكنّني لم أرضَ بذلك. كنت أعلم أنّ المجيء إلى طهران يعني الابتعاد عن "خرّمشهر". وبالمناسبة، لقد تلفت أعصابي في تلك المدّة التي قضيتها في طهران. فالكثيرون هناك كانوا كأنّهم لم يسمعوا بالحرب، كانوا غارقين في ملذّاتهم وحياتهم الشخصيّة، ويتذمّرون لعدم توافر الأمور الكماليّة التي يرغبون فيها. كما شاهدت الكثير من الأمور عن كثب، عند ذهابي مرّات عدّة إلى ميدان انقلاب

 

352


330

الفصل الثلاثون

لشراء بعض الكتب التي أوصاني الإخوة بشرائها. لذا، قلت لن آتي إلى طهران. قيل لي: ينبغي لإخوتك وأخواتك أن يتابعوا دراستهم، ومن غير المعلوم إلى متى ستبقى المدارس هناك مقفلة.

 

منذ بداية الحرب إلى ذلك الحين، كان أولاد المهجّرين مشتّتين ولا يرتادون المدارس. فأوضاع المدارس جميعًا، في محافظة خوزستان كانت غير مستقرّة، وكانت الطائرات تغير بنحو متتالٍ على مدن الأهواز، ودزفول، وأنديمشك، وماهشهر وسربندر التي كنّا نسكن فيها. وقد تسلّمت رسالة باسم مؤسّسة الشهيد، تفيد بأنّهم منحوني غرفة في مبنى كوشك[1]، ويمكنني السكن فيها.

 

قررت إخفاء أمر هذه الرسالة عن "دا" والبقيّة. تركت الحرامات وأغراض علي الشخصيّة في بيت السيّد محمّدي خوفًا من "دا". ودّعت عائلة السيّد محمّدي، ركبت الحافلة وتوجّهت إلى الأهواز، ومن هناك ركبت الميني باص متجهةً إلى سربندر.

 

لم أحضر من أغراض عليّ سوى آلة التصوير. حين دخلت المخيّم، رأيت "دا" جالسة أمام باب الغرفة وقد حفرت حفرةً وأشعلت فيها النار، تريد قلي السمك. وكما هي العادة، كانت تسرح في خيالها، تنوح باللغة الكرديّة، تبكي وتذرف الدموع بهدوء. كانت زينب تقف وراءها، فجهّزت الكاميرا وناديت: "دا".

 

ما إن رفعت رأسها ورأتني حتّى تهلّل وجهها وضحكت من شدّة الفرح.


 


[1]  مبنى كوشك كان مبنى تابعًا لمركز إدارة التخطيط والموازنة سابقًا، ويقع في شارع كوشك. وهو ما يُعرف الآن بشارع الشهيد تقوي الذي يتفرّع منه طريق إلى شارع سعدي من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى شارع فردوسي.

 

353


331

الفصل الثلاثون

فالتقطتّ لها صورة وهي تبكي وتضحك في آن. بعد السلام والسؤال عن الأحوال، سألتني عن عليّ. كانت مصرّة على الذهاب والبحث عنه، وقد هيّأت نفسها في الصباح الباكر وقالت: "أنا ذاهبة للبحث عن علي".

 

عارضتها وقلت: "إنّ عليّ قد أُرسل في مهمّة إلى الخطوط الأماميّة، ولا يمكنه المجيء".

 

لم تقتنع؛ جلست وراحت تبكي حتّى الثمالة. لم أكن أدري ماذا أفعل، اضطُررت كي أهدّئها أن أكتب رسالة لها باسم عليّ. كنت سمعت من الإخوة أنّهم أرسلوا عددًا من عناصر الحرس إلى بوشهر ليخضعوا لدورة تدريبيّة في الغطس. فكتبت في الرسالة على لسان عليّ: "إنّني في بوشهر ولا يمكنني المجيء".

 

فرحت "دا" كثيرًا برؤية هذه الرسالة إلى درجة أن اشترت الحلوى ووزّعتها على الجيران في المخيّم. كانت تقول: "لقد وردتني رسالة من ولدي". هدّأت الرسالة المزيّفة "دا" لفترة من الزمن، لكنّها بعد ذلك عادت تسأل من جديد: "ماذا حصل لعليّ".

 

كان خالي سليم وخالي ناد علي والسيّد عباس زوج خالتي سليمة يأتون لتفقّد أحوالنا من وقت لآخر، كما كان خالي حسيني يفعل ذلك بنحو دائم. لا أدري كيف وقعت رسالة الشيخ كرّوبي بيد خالي حسيني. فقال لنا: "جهّزوا أغراضكم، لنذهب إلى طهران".

 

354

 


332

الفصل الثلاثون

كنت وليلى معارضتين لفكرة الذهاب إلى طهران. كنّا إلى ذلك الوقت، قد أخفينا الرسالة حتّى لا يعلم أحد بذلك ولا يجبرنا على الذهاب إلى طهران.

 

في إحدى الليالي، جاءت السيّدة أعظم طالقاني، كانت حينها نائبًا في البرلمان، لزيارة المخيّم، وأحضرت معها بعض اللوازم الطبيّة والأدوية والكتب. عندما سألتنا عن أوضاع المخيّم، قدّمنا لها شرحًا مختصرًا عنه. أمّا أنا فقلت لها: إنّ الناس المهجّرين لا يحتاجون الآن إلى الكتب، وإنّما هم بحاجة إلى اللباس والطعام. فلو كنتم أحضرتم الأدوية والوسائل الطبيّة بدل الإنفاق على شراء الكتب، لكان أفضل. وأنّى للناس أن يُقبلوا على قراءة الكتب وهم بهذه الحال؟ بعدها قلت لها: "إنّ الشيخ كرّوبي قد سلّمني رسالةً لآخذ عائلتي إلى طهران، ولكي يتابع إخوتي وأخواتي دراستهم".

- لِمَ تريدون الذهاب إلى طهران؟ طهران تعجّ بالناس ولن تستطيعوا العيش فيها. الأفضل أن تبقوا هنا. عليكم أن تحافظوا على هذه الأرض.

- كأنّك لا تهتمّين لأمور الفقراء، ولا تدركين المعاناة التي يعانيها الناس هنا، برأيي، إنّك لا تستطيعين تحمّل يوم واحد من معاناتهم. لا تظنّي أنّنا توّاقون للذهاب إلى طهران، لكن أردت أن أعرف رأيك فحسب.

 

بدا وكأنّ كلامي لم يعجبها، لكنّي لم أستطع البقاء ساكتة. غادرت السيّدة طالقاني المخيّم في تلك الليلة، بعد أن سلّمت الأدوية والكتب إلى مسؤول المستوصف.

 

بعد ذلك، عاد الحديث ليدور حول الذهاب إلى طهران. كنت وليلى وإخوتي غير راضين بترك المخيّم. وخفنا من الابتعاد عن "خرّمشهر" وآبادان. كنّا نتحيّن الفرص للذهاب إلى آبادان لنسعف الجرحى في مستشفياتها. لكنّ خالي حسيني كان يصرّ على الذهاب، كنّا نخجل منه

 

355

 


333

الفصل الثلاثون

فهو كبير العائلة، ولا يمكننا مخالفته. شعرنا بالضيق، وحين رأى خالي ذلك قال: "يمكنكم في طهران المساعدة في أمور الجبهة أيضًا".

 

بالإضافة إلى عملنا في المستوصف، قمنا بأعمال ثقافيّة أيضًا. كنّا مكلّفين من قبل المسؤولين عن المخيّم بالذهاب لاستطلاع أمر العوائل الذين يعانون صعوبات مادّيّة، فندرس أوضاعهم من خلال الأحاديث غير المباشرة معهم، لنقدّم المساعدات للعوائل الأكثر احتياجًا من غيرها. كانت مشاكل بعض العوائل كبيرة، بحيث إنّ بعضهم لم يكن يقدر على تأمين خبز يومه. كان للبعض منهم أقارب في ماهشهر وسربندر، فيتدبّرون أوضاعهم عن طريق مساعدة هؤلاء لهم. فيما انتقل موظّفو الدولة منهم إلى مناطق أخرى، وظلّوا يتقاضون رواتبهم الشهريّة. هذا وقد خصّصت الدولة ميزانيّة لتيسير أمور العوائل المهجّرة. تولّى إدارة المخيّم كلّ من الحرس الثوري، والهلال الأحمر والجيش. كما استقرّت مجموعة من مغاوير الجيش في أقسام معيّنة من المخيّم، وقد أُنشئت فيه مكتبة ومسجد، فكان علماء الدين يأتون باستمرار، يقيمون صلاة الجماعة ويلقون الخطب في الناس.

 

بالطبع، برزت هناك مشاكل أخرى في مخيّم النازحين، بعضها مشاكل أخلاقيّة وسلوكيّة. كان عدد النازحين كبيرًا، ولم يكن الناس يراعون قواعد النظافة. ولأنّ الحمّامات كانت عامّة، ازدادت الأمراض الجلديّة، وأمراض العيون، والجرب والأمراض الفطريّة. وقد انتشر القمّل إلى درجة خفنا فيها من تفشّي وباء "التيفوس". ولهذا السبب، رحنا نقصد البيوت ونرشّها بالمبيدات، ونعالج رؤوس الأولاد التي غزاها القمّل، أو نحلق شعر رؤوسهم. بعض العوائل كانت تعارض ولا

 

356

 


334

الفصل الثلاثون

تقبل بحلق شعر أولادها، خاصّة البنات منهم، لكنّنا كنّا مجبرين على فعل ذلك من أجل مصلحتهم.

 

بسبب هذه المشاكل، ظلّ الخال حسيني يحثّنا على الذهاب إلى طهران، ولكنّنا بقينا نماطل ونتلكّأ ليُعرض عن فكرته.

 

357


335

الفصل الواحد والثلاثون

الفصل الواحد والثلاثون

 

فی صباح باكر من أيّام شهر دي[1] من العام 1359، جاء الخال حسيني في أثرنا، أخذني وليلى إلى سربندر، واشترى قماشًا لخياطة "تشادور" لكلّ منّا. عدنا نحن إلى المخيّم، وذهب هو إلى ماهشهر ليخيطهما لنا عند زوجة السيّد بهرام زاده. لم يكن باستطاعتنا خلال هذه الأشهر شراء تشادور. في المساء، عاد خالي بالتشادورين المخاطين وقال لنا: جهّزا أغراضكما، سننطلق غدًا في الصباح الباكر. سنذهب أوّلًا إلى مخيّم "ملاوي" لرؤية پاپا ومي مي، ومن ثمّ إلى طهران.

 

لم نكن نستطيع معارضة خالي أكثر من ذلك، وبعد تقطيب الحاجبين وعبوس الوجهين، انطلقنا. في تلك الأوضاع، رفع بعض السائقين أجرة النقل كثيرًا. جادلهم خالي إلى أن ركبنا إحدى السيّارات. في الطريق، جلست وليلى يائستين إلى جانب بعضنا البعض، فيما قال خالي الذي يعلم مدى انزعاجنا من ترك المخيّم: "عليكما أن تفكّرا في إخوتكما. لم تعد أجواء المخيّم مناسبة للبقاء، وما ذنب هؤلاء الأطفال ليتحمّلوا


 


[1]  الموافق لشهري 12/1980 و 1/1981.(21/12 ? 21/1).

 

361


336

الفصل الواحد والثلاثون

تلك الأجواء؟!".

 

كان خالي محقًّا في ما يقول. أنا أيضًا كنتُ قلقة على الأولاد، فقد أودعهم والدي أمانة في عنقي. وطوال تلك الفترة، كنت أصطحبهم معي إلى المستوصف، فاحتمال الانحراف في تلك البيئة كان موجودًا بالنسبة لمنصور لأنّه كان فتًى حدثًا. أمّا سعيد وحسن وزينب فكنت أحضرهم معي وأجلسهم في مكان ما، وأعمل ورفاقي على تسليتهم، وأوكل إليهم بعض المهامّ. كان حسن ولدًا دائم الحركة ويثير الفوضى، لذا راقبته دومًا لكي لا يفعل ما يؤدّي إلى إخراجه من المستوصف.

 

أخيرًا، عصر اليوم الذي توجّهنا فيه إلى طهران، وصلنا إلى مخيّم "ملاوي"، الواقع بين "بلدختر" و"خرّم أباد". كان المخيم عبارة عن منطقة واسعة بمحاذاة نهر، وقد سُوّيت أرضها بالجرّافة، ونُصبت فيها الخيم في صفيّن متقابلين، تفصل بينهما مسافة لإيواء مهجّري الحرب. حين وصلنا إلى هناك، رأينا الكلّ مجتمعين حول بعضهم البعض؛ خالي ناد علي، جدّي، الخالة سليمة، أبناء عمومة والدي، وعائلة زوجة خالي، فسُررنا لرؤيتهم ثانيةً. أمضينا ذلك اليوم بالضيافة وتبادل الأحاديث. معظمهم أراد معرفة ما جرى في "خرّمشهر"، وكيف استشهد والدي. قضينا تلك الليلة ونحن نتحدّث حول هذه القضايا حتى اقتراب الفجر.

 

منح مسؤولو المخيّم كلّ عائلة خيمة تتّسع لأربعة أو ستّة أشخاص. فكانت خيمة الخال حسيني في أولّ المخيّم، وبعد خيمتين أو ثلاث تقع خيمة الخال ناد علي، وبعدها مباشرة تقع خيمة جدّي ومي مي. وقد زُوّدت العائلات في المخيّم باللوازم الضروريّة كالحرامات والأواني ومواقد الطبخ; وذلك لعدم إحضارهم أي شيء من أثاثهم معهم.

 

قبل ذلك، كان الخال حسيني قد علم بشهادة علي عن طريق الخال

 

362


337

الفصل الواحد والثلاثون

ناد علي، فأخبر جدّي في تلك الليلة نفسها. بقي جدّي في خيمته ينوح ويندب حتّى الصباح. خبر الشهادة حُصر عند الثلاثة فقط. ظنّ الجميع في تلك الليلة أنّ جدّي يبكي لشهادة أبي. نامت أمي تلك الليلة في خيمة جدّي، وبتّ أنا والخالة سليمة وزوجة خالي ناد علي في خيمة الخال ناد علي.

 

انقضت ساعات الظلام والنوم. وعند الساعة الرابعة والنصف أو الخامسة فجرًا، رفع جدّي الأذان. كان صوته حزينًا، وبدا حين كان يقول: "أشهد أن لا إله إلّا الله"، وكأنّه يشكو إلى الله. خرج الجميع من خيمهم في فجر تلك الليلة على صوت جدّي الحزين وأنّاته. فقالت زوجة خالي: "أظنّ أنّ حسيني أخبر الجدّ بشهادة علي".

 

علمت فيما بعد أنّ خالي قد أخبر جدّيّ بالأمر من أوّل الليل، وقد تحمّل إلى الصباح ولم يخبر "دا" التي كانت تبيت في غرفته.

 

ما إن أنهى جدّي أذانه الممزوج بالغصّة، حتّى شرع بقراءة مجلس عزاء الإمام الحسين عليهما السلام في ظهر عاشوراء بصوت مرتفع. جدّي الذي كان يتكلّم دومًا بهدوء ووقار، غدا يرفع صوته عند ذكر المصيبة أكثر فأكثر. راح يستحضر أصحاب الإمام الحسين عليهما السلام المستشهدين بين يديه واحدًا واحدًا ويذكر كيفيّة استشهادهم، وما فعلت زينب عليها السلام. وقفنا جميعًا خارج الخيمة ورحنا نذرف الدموع. لم نكن ندري بأيّ طريقة سيخبر جدّي ابنته بالأمر. فـ"دا" كانت تظنّ أنّ جدّي يقرأ هذا العزاء لشهادة أبي. وهكذا بقي الجدّ يبكي ويقرأ مصرع أبي عبد الله عليهما السلام، ويصف مشاهد كربلاء بصوت مرتفع، إلى أن وصل إلى مجلس عليّ الأكبر -الابن الأكبر للإمام الحسين عليهما السلام- وقال بنحو جميل جدًّا: "لقد انكسر ظهر

 

363


338

الفصل الواحد والثلاثون

الإمام بشهادة عليّ الأكبر"، وأردف بعدها مباشرة: "لقد استُشهد السيّد علي أيضًا كعليّ الأكبر"..

 

علا نحيب "دا". خرج جميع الجيران من خيمهم، وغصّت خيمة جدّي بالجموع.

 

أسرعتُ وراءها إلى الداخل. وما إن وقع نظر "دا" عليّ حتّى هاج حنينها، صرخت وغابت عن الوعي. عندما استفاقت قالت لي: "لماذا لم تخبريني، ولم تقولي شيئًا طوال تلك المدّة؟".

 

وجّهت نظراتها إليّ بغضب واستياء كبيرين. كانت تغلي من الداخل وتنتحب، ثم خرجت من الخيمة. لقد حانت اللحظة التي كنت أخاف منها. ابتعدت ذاهبةً لأداء صلاة الصبح. وقف جدّي يصلّي، فبدأ الأقارب والجيران بالبكاء والنحيب. توجّه إليهم الخال حسيني قائلًا: "قوموا وصلّوا، أمامكم الكثير من الوقت للبكاء".

 

عند سماع كلام الخال حسيني، تهيّأ الجميع لأداء الصلاة. بعد الصلاة، أعدّت زوجة خالي طعام الفطور. ولكن من ذا الذي يمكنه تناوله؟ كان الجميع يبكي وينتحب. أمّا أنا فكأنّي قد عرفت بالأمر للتوّ. فلوعة شهادة علي لم تبرد في قلبي طوال تلك المدّة. كنت كلّ يوم، حين أستيقظ وأذكر أنّ أبي وعلي غير موجودين، تنقلب أحوالي وتهيج أحزاني كما هي حالي الآن.

 

أحرق خبر استشهاد عليّ قلب "دا" من ناحية، ومن ناحية أخرى، اشتدّ استياؤها منّي كوني أخفيت عنها الأمر كلّ هذه المدّة. فقالت: "لقد استشهد عليّ منذ أربعة أشهر وأنا لا أعرف! لِمَ لم تقولي لي؟ لِمَ كذبت عليّ؟".

 

364


339

الفصل الواحد والثلاثون

كانت تنظر إليّ وتغلي غضبًا. فجأة التقطت غصن شجرة ضخمًا مكسورًا على الأرض هناك، وضربت به رأسها، فشُجّ بنحو كبير وبدأ الدم يسيل منه. أحضروا إلى خيمة جدّي مسعفة كانت قد جاءت من "خرّم آباد" للقيام بأعمال التمريض والإسعاف في المخيّم. ومهما حاولت المسعفة تقطيب رأس أميّ لم تفلح، فشدّة بكاء أميّ ونحيبها لم يسمحا لها بذلك. ظلّ الدم يتقاطر من شعر أمّي. رأيت من الخطأ الاستمرار على هذه الحال، ولا ينبغي تركها على رسلها، فقد تموت من النزف. لذا، اضطُررت إلى أن أقفز وأجلس على كتفي أمّي، وثبّتُّ يديها برجليّ، وبسرعة فائقة حلقت الشعر مكان الجرح، وبدأت بتقطيبه من دون مخدّر. حاولت أمّي جاهدةً الإفلات منّي، فاضطُررت أيضًا لإتمام عمليّة التقطيب بسرعة. ومن ثمّ قمت بتعقيم الجرح كي لا يلتهب. كانت يداي ترتجفان، ولكنّي مجبرة على ذلك. قلقت عليها بشدّة. كانت زينب واقفة، تنظر إلينا مذعورة وتبكي. أمّا سعيد وحسن فتسمّرا في مكانهما. بعد جهد جهيد، قطّبت الجرح خمس قطب. ومن ثمّ غطّيته بقطعة من الشاش المعقّم وربطت رأسها بالشال. لقد أنجزت كلّ ذلك بسرعة مذهلة بحيث لم أعِ ما فعلت. فيما أصاب أمّي الإعياء بسبب النزف. فسقتها زوجة خالي قليلًا من الماء والسكّر، ثمّ حقنتها بحقنة B12 المغذّية.

 

كان الخال حسيني قد دعا الأقارب والعائلة في "دره شهر" و"زرّين آباد" إلى ملاوي، للمشاركة في مراسم التأبين. فوصلوا قرابة الظهر، وبدأوا بمراسم التعزية الخاصّة بالكرد. جلسوا حول بعضهم البعض، وراحوا يندبون ويبكون. لم تحتمل النسوة ذلك، ورحن يخدشن وجوههنّ. كما شارك سكّان المخيّم في هذه المراسم.

 

365

 


340

الفصل الواحد والثلاثون

ذهب الخال حسيني إلى "آخر ملاوي" بمحاذاة "بل دختر"، وأحضر معه من المطعم الواقع على الطريق العامّ، طبّاخين، حيث أحضرا معهما اللحم والخبز والأسياخ والمناقل و... وأعدّوا الكباب، فيما غسلت النسوة الخضار، وقُدّم طعام الغداء للضيوف. بعد الظهر، غادرنَا المعزّون من "درّه شهر" و"زرّين آباد".

 

طوال الأسبوع الذي أمضيناه هناك، كان الأقارب الذين يعرفون بشهادة عليّ، يأتون زرافات ووحدانًا لتقديم واجب العزاء. وظلّ أهالي المخيّم يأتون من وقت لآخر ويقيمون المآتم. كما ساعدنا القيّمون على المخيّم في إقامة المراسم. أمّا جدّي فكان كسير القلب. كان يحبّ عليّ حبًّا جمًّا، وكان بالنسبة له كنور بصره، لذا عزّ عليه فقده كثيرًا. ما انفكّ جدّي في مراسم العزاء تلك يكبّر الله ويتشهّد، ويقول بصوت مرتفع: "لماذا لم أمت أنا؟ كيف بقيت وشهدت مصيبة السيّد علي والسيّد حسين؟".

 

كثيرًا ما كان يقبّل رأسي ويواسيني قائلًا: "أيّ قلب تمتلكين يا ابنتي؟ كيف استطعت تحمّل هذا العبء الثقيل لوحدك؟! أنت حقًّا بطلة، ونحن فخورون بك، لقد رفعت رأسنا".

 

عرفت أنّه ابتغى مواساتي بهذه الكلمات. أمّا مي مي فقد كانت حزينة جدًّا، وغير مصدّقة ما حصل. ولا عجب أنّها و"دا" صارتا كالأشباح خلال أسبوع واحد. أجل، لقد هرمت أمّي وشابت وظهرت آثار الشيخوخة على وجهها في غضون فترة قصيرة. خلال تلك الأيّام القليلة، كانت زينب، التي لم تتجاوز الخامسة من العمر، تنتقل في مجلس النساء من يد إلى يد. فيقبّلنها ويمسحن على رأسها، فيما بدا سعيد مظلومًا جدًّا، كان يجلس بجانبي وينظر إلى الناس. وما إن أقوم من مكاني حتّى يتبعني.

 

366

 


341

الفصل الواحد والثلاثون

وقد زاد من حزننا وغمّنا ذهاب الخال سليم للقتال في تلال "الله أكبر".

 

بعد مرور أسبوع، وانتهاء مراسم العزاء، قال لنا الخال: "جهّزوا أنفسكم للذهاب إلى طهران".

 

كان وداعًا صعبًا. فمع كلّ تلك الأحداث، وفي ظلّ الأوضاع المتأزّمة في البلاد، لم يكن لدينا أيّ أمل برؤية بعضنا البعض مرّةً أخرى. بدا بالنسبة لنا وكأنّه الوداع الأخير، واللقاء الأخير.

 

انطلقنا إلى خرّم آباد وسط بكاء ونحيب پاپا ومي مي والبقيّة، ومن هناك ركبنا الحافلة وتوجّهنا نحو طهران. كان الناس يتشاجرون مع السائق لتخفيض الأجرة.

 

وصلنا إلى طهران قرابة العصر. كانت ليلى قد جاءت إلى طهران بعدي، واستلمت من مؤسّسة الشهيد رسالة تتضمّن عنوان البيت المقرّر أن نسكن فيه، إلّا أنّها أضاعت الرسالة ولم تتذكّر العنوان بالدقّة، سوى أنّه يقع بالقرب من إحدى الساحات العامّة.

 

حمدًا لله أن اسم شارع "كوشك" ظلّ عالقًا في ذهنها. وبعد الاستفسار من هذا وذاك، حصلنا على العنوان. مضينا سيرًا على الأقدام بأغراضنا وأمتعتنا من ميدان "توبخانه" إلى ميدان "فردوسي". ومن ثمّ عدنا ثانيةً إلى شارع "منوتشهري". كنّا نسأل المارّة عن شارع كوشك؟ فلم يعرفه أحد.

 

غربت الشمس وحلّ الظلام، وبعد جهد جهيد وجدنا شارع "كوشك" ودخلناه، وما إن وقع نظر ليلى على المبنى حتّى قالت: هذا هو.

 

367

 


342

الفصل الواحد والثلاثون

وقف على مدخل المبنى حارس تابع لمؤسّسة الشهيد. بعد أن تحدّث الخال إليه وشرح له الأمر، اتّصل بمؤسّسة الشهيد، ثم سمح لنا بالدخول، ودلّنا على غرفة في نهاية الممرّ. كانت مفتوحة على غرفة أخرى، فقال: إحدى هاتين الغرفتين لكم.

 

كان المبنى مؤلّفًا من سبعة طوابق. وهو مركز سابق لإدارة التخطيط والموازنة. وفيه الكثير من الغرف المتداخلة التي تؤدّي الواحدة منها إلى الأخرى. كانت أرجاء المبنى متّسخة بشدّة، أمّا غرفه فكانت مفروشة "بالموكيت"، ووسائل التدفئة والمياه الساخنة متوافرة فيه، بيد أنّ جهاز التدفئة المركزي كان معطّلًا في غرفتنا. أردنا أن ننظّف الغرفة، لكنّنا لم نكن نملك أيًّا من وسائل التنظيف. فقد تركناها في المخيّم وأحضرنا معنا الأغراض الضروريّة فحسب. استعار الخال من جيراننا في الغرفة المقابلة مكنسة ومجرودًا وشرع بتنظيف الغرفة بنفسه. بقيتُ وليلى متضايقتين لقدومنا إلى طهران، فبدا خالي مستعدًّا للقيام بأيّ عمل لاسترضائنا، إلى أن باشرنا بالنهاية العمل معه وقمنا بتنظيف الجدران والأبواب. كان البرد قارسًا، بحيث إنّ أسناننا بدأت تصطكّ ببعضها البعض، وليس بحوزتنا هنا أغطية ولا مساند. فقلنا لخالي: "ما العمل الآن؟".

 

- إنّ المتاجر مقفلة. سأذهب لإحضار العشاء، بعدها نرى ما يمكن أن نفعل.

 

ذهب خالي ومحسن وأحضرا معهما الكباب وخبز "البربري"[1]. كانت المرّة الأولى التي نأكل فيها الخبز البربري، فوجدناه شيئًا جديدًا بالنسبة لنا. كما كان الطعام لذيذًا جدًّا، لكنّ البرد ما برح يؤذينا. فالغرفة المشرفة


 


[1]  نوع من الخبز التقليدي في إيران، أرغفته طويلة وتشتهر به المناطق الآذريّة.

 

368


343

الفصل الواحد والثلاثون

على الشارع واجهتها زجاجيّة من أسفلها إلى أعلاها، ما تسبّب بتسرّب الهواء من بين شقوق الزجاج. ذهب خالي مرّة ثانية إلى غرفة الجيران وسألهم إن كان عندهم أغطية إضافيّة.

 

جاءت السيّدة خرّمي، الجارة التي كان الخال قد قصدها في المرّة السابقة، وأعطتنا لحافًا كبيرًا، وبطّانيّتين، وعددًا من المساند. فرشنا بطّانيّة من البطّانيّتين أرضًا كفراش، ونمنا جميعًا ما عدا خالي عليها، وتغطّينا باللحاف، فيما بقيت بطّانيّة لخالي يسّر أمره بها. ومع أنّ اللحاف كان واسعًا، إلّا أنّ عددنا لم يكن قليلًا أيضًا، لذا رحنا نتجاذبه فيما بيننا، بعد أن جعلنا الأولاد في الوسط، حتّى الصباح، وعندها ضحكنا لفعلتنا، فلحسن الحظّ لم يتمزّق اللحاف من شدّة ما تجاذبناه. قال خالي إنّه سيعود مع محسن إلى سربندر لإحضار أغراضنا، فما كان منّي ومن ليلى سوى أن آذيناه بكلامنا قائلتين: "نحن غير راضيتين بمجيئنا إلى طهران، ماذا سنفعل إذا مرض الأطفال؟".

 

بعد ذهاب الخال حسيني ومحسن، حلّ الظهر، وحرنا ماذا نفعل من أجل الغداء. ذهبت مع منصور وسعيد لإحضار الطعام. لم نكن نعرف أيّ مكان. سرنا إلى نهاية شارع "كوشك"، فلم نجد أيّ محلّ أو مطعم. كما لم نكن نطمئنّ لسلامة الساندويشات من الناحية الصحيّة. انعطفنا إلى أن وصلنا إلى شارع انقلاب. وهناك بالقرب من شارع "لاله كزار" وجدنا مطعمًا لبيع الكباب، له سلّم إلى الطابق السفلي. أرسلت منصور لشراء الطعام فيما انتظرته مع سعيد أمام الباب. عاد منصور ومعه خمسة صحون من الكباب. بعدها، رحنا نفكّر في طريق العودة وكيف سنصل إلى البيت من دون طيّ هذه المسافة الطويلة التي قطعناها. سألنا: "في

 

 

369

 


344

الفصل الواحد والثلاثون

أيّ اتّجاه يقع شارع فردوسي؟".

 

قيل لنا: "اذهبوا في هذا الاتّجاه مباشرةً تصلوا إليه".

 

عندما وصلنا، تبيّن لنا أيّ خطأ ارتكبناه، فقد كان ثمّة طريق مختصر بين المطعم والبيت.

 

بتنا ليلتنا تلك بالطريقة نفسها التي بتناها الليلة الماضية.

 

بعد يومين أو ثلاثة من قدومنا إلى طهران، مرضت "دا" بشدّة، أصبحت طريحة الفراش بحيث لم يعد بإمكانها النهوض. قلقنا عليها كثيرًا، فقد ساءت حالها إلى درجة خفنا أن نفقدها. لم تكن تتوقع بعد أربعة أشهر من عدم رؤية عليّ، أن يصلها خبر استشهاده. في تلك الفترة، أخبر بعض الأقارب "دا" أنّه أُجري حوار في إحدى الصحف مع أحد الجرحى اسمه السيّد علي حسيني، فلعلّه لم يستشهد، بل جُرح. صدّقت أمّي ذلك. قلت لها: "إنّ فلانًا مخطئ. لقد دفنت علي بيديّ هاتين. أَوَ أو يمكن أن لا أتعرّف إلى أخي؟ إنّه تشابه في الأسماء. تعالي لنذهب إلى مؤسّسة الشهيد لنرى كم ملفًّا عندهم مسجّلًا باسم السيّد علي حسيني".

 

تبيّن لاحقًا أنّ الجريح الذي دلّنا عليه قريبنا كان يتكلّم التركيّة وهو من تبريز. مع كلّ ذلك لم تصدّق أمي شهادة عليّ وبقيت تنتظر قدومه يومًا ما. شعرتُ بالندم لعدم إخبارها بشهادته حينها. لكنني كنت أعلم أنّها لو رأت قبر علي فمن المستحيل أن تترك ذلك المكان أبدًا، بل ستلازم الجلوس على قبره ولن تترك "خرّمشهر" لشدّة تعلّقها به. كانت تعتقد بكلامه اعتقادًا عجيبًا، كأنّ كلامه آية من القرآن؛ لذلك قبلت أن تخرج من "خرّمشهر" من دون أي اعتراض، عندما أخبرتها ليلى أنّ علي طلب

 

370


345

الفصل الواحد والثلاثون

منّا ترك المدينة.

 

في أحد الأيّام، حضر الأخ "مازندراني" برفقة شخصين من مؤسسة الشهيد وطلبوا منّا كتابة لائحة باحتياجاتنا لكي يرسلوها إلينا. كنت قد أوصيت "دا" وسألتها أن لا تطلب ولو شيئًا واحدًا من أيّ شخص يحضر، فنحن لم نقدّم الشهداء لكي نأتي إلى هنا ونطلب مقابلَ ذلك. وعلى هذا الأساس، قلنا للأخ مازندراني إنّنا لا نحتاج شيئًا.

- خذوا بعض الملابس لكي لا يمرض الأطفال.

- لسنا بحاجة لأيّ شيء.

- أختي الكريمة، أنتم الآن لا تملكون شيئًا، ينقصكم حتّى الأمور الضروريّة!

- سنؤمّنها بأنفسنا.

- هذا غير مقبول، من غير المعلوم متى يُصرف لكم راتب شهري من قبل المؤسسة، لا تكوني عنيدة.

- كلا، لا ينقصنا شيء.

 

أمّا أمي فقالت: "القرار لابنتي".

 

عزّ عليّ أن يسألنا أحد عمّا نحتاج إليه، كان ذلك يشعرني بالمذلّة. تحدّث السيّد مازندارني مطوّلًا، وقال: لا تظنّوا -لا سمح الله- أنّ ما تأخذونه صدقة أو منّة عليكم، فأنتم أولياء نعمتنا.

 

بقي يتحدّث ويتحدّث حتى اقتنعت بأخذ بعض الأغراض منهم. حين عاد محسن وخالي، ذهب مسؤول المبنى السيّد زين الدين برفقة محسن

 

371


346

الفصل الواحد والثلاثون

إلى مؤسسة الشهيد وأحضر بطّانيات وفرشًا حسب عددنا، بالإضافة إلى بعض الصحون والأواني. حين وصل محسن مع الشاحنة الصغيرة المحمّلة بالأغراض تضايقت كثيرًا. رأتني "دا" بهذه الحال فقالت: نحن بحاجة لهذه الأغراض يا ابنتي، ألم تري شدّة البرد في الليالي الماضية. لو بقينا على هذه الحال لمرضنا جميعًا.

 

بعدما تسلّمنا الأغراض أعدنا البطّانيتين واللحاف التي استعرناها من السيّدة خرّمي. ذهبت إلى مسؤول المبنى تكلّمت معه: "قلت إنّ عائلة أخرى ستسكن معنا في الغرفة. بغضّ النظر عن صغر حجم الغرفة، فإنّها متداخلة مع الغرفة الأخرى ولا يوجد لهما سوى باب واحد. من أين ستدخل وتخرج العائلة الأخرى؟ هلّا وجدتم لنا حلًّا؟".

 

عندها سلّمنا مسؤول المبنى غرفة أخرى مقابل السلالم. كانت غرفة كبيرة ذات بابين؛ أحدهما من الجهة الأماميّة والآخر من الخلف. وكانت الغرفة مقسومة بجدار رفيع حتى الوسط بحيث يمكن التردّد بين قسميها بسهولة. وهكذا نظّفنا المكان وسكنّا فيه.

 

في الطابق نفسه كانت تسكن عوائل شهداء حضرت قبلنا. إحدى تلك العائلات أسرة كبيرة من "خرّمشهر" يعيش معهم صهرهم وكنّتهم. احتكر هؤلاء المطبخ الوحيد في الطابق، وكان مطبخ الإدارة سابقًا، ووضعوا فيه أغراضهم وثلّاجةً وموقدًا ولم يسمحوا لنا بالاستفادة منه، محتجّين بأنّهم أول من حضر إلى الطابق. جارتنا الأخرى -السيّدة أكبري- التي كان لغرفتها مطبخ صغير لم تصطدم معهم. بعد فترة من الزمن، استأجرت تلك العائلة بيتًا وخرجت من المبنى لأنّ وضعها المالي كان يسمح بذلك. بعد رحيلهم، أعلن مسؤول المبنى أنّه لا يحقّ لأحد أن

 

 

372


347

الفصل الواحد والثلاثون

يحتكر المطبخ لنفسه وأنّ للجميع حقّ التصرّف فيه. منذ ذلك الحين، صار الجميع يتسابقون إلى دخول المطبخ وإنجاز أعمالهم قبل الآخرين.

 

كان في كلّ طابق مرحاضان قد أُغلق أحدهما. فكان سكّان كل طابق يستخدمون مرحاضًا واحدًا. مع مرور الوقت امتلأت غرف المبنى تدريجيًّا وازداد طول صفّ الانتظار أمام المطابخ والمراحيض. وما لبثوا أن نزعوا الموكيت من الممرّات لأنهم لاحظوا أنه بات عاملًا لنقل الأوساخ والتلوّث. لم يكن في المبنى مكان للاستحمام، فكنّا لذلك نضطرّ للذهاب إلى الحمّامات العامة.

 

احتاج الأمر وقتًا طويلًا حتى تعوّدنا على العيش في طهران في ذلك المبنى. فبغضّ النظر عن المشاكل التي ذكرتها، كانت مشكلة التفلّت الأخلاقي الذي شاهدته في الشوارع تؤلمني كثيرًا. في المرّة السابقة التي قدمت فيها إلى طهران للعلاج، وأثناء عودتي إلى منزل عائلة السيّد محمدي، وقفت أنتظر في صفّ الحافلات في منطقة "طهران الجديدة". كان وقت الغروب، وقد وقف الناس يتحدّثون مع بعضهم منتظرين قدوم الحافلة، فسمعتهم يقولون: "لقد ترك الناس بيوتهم في "خرّمشهر" من دون سبب وقدموا إلى طهران وباقي المدن".

 

فجأة علا صوت صفارات الإنذار، وأُطفئت المصابيح في كلّ المكان. بدأت مضادات الطيران بإطلاق النار، وخاف الجميع وأغمي على سيدتين كانتا واقفتين في الصف. وجدتها فرصة مناسبة فقلت: "لقد خفتم وفقدتم وعيكم لمجرد رؤية طائرات العدو وبدأتم تفكّرون في البحث عن مكان تلتجئون إليه. كيف تتحدّثون عن أهل "خرّمشهر" بهذه الطريقة وهم الذين تنهمر عليهم الصواريخ والقذائف ليل نهار.

 

373


348

الفصل الواحد والثلاثون

تقولون إنّ سكان "خرّمشهر" جبناء وقد هربوا من أرضهم. ماذا عنكم؟ هل بإمكانكم أن تصمدوا في ظروف كهذه؟".

 

بعدما أنهيت كلامي سكتت المجموعة التي كانت تنتقد مهجّري الحرب، وأيّدني بعضهم. فقلت: "لا تؤذوا النازحين بهذا الكلام الباطل. يكفينا ظلم صدام، لا تظلمونا أنتم أيضًا. إنّ الناس في آبادان يعانون ما عانيتم قبل لحظات بشكل مستمرّ وهم محاصرون من قبل العدو، ولا يصل إليهم شيء".

 

لم يكن الأمر بيدي، فسماع تعليق كهذا كان صعبًا عليّ. فأنا التي رأيت شبابنا يُستشهدون في الجبهات، لم أستطع التزام الصمت. اعتقدت أنّ الناس لا يعرفون ما هي الحرب وما الذي يجري. بالطبع، في البداية لم تكن الأخبار تصل بشكل صحيح وعلى نطاق واسع. لكن مع مرور الوقت عرف الناس أمورًا أكثر عن الحرب.

 

أحد الأشخاص الذين بذلوا جهدًا كبيرًا في مساعدة سكّان مبنى كوشك كان الشيخ "طلايي"[1]. كان يمتلك مؤسسة تجارية في شارع "منوتشهري"، وعضوًا في هيئة أمناء مسجد القائم. كان إنسانًا نجيبًا ومتدينًا، يأتي إلى المبنى باستمرار ويسأل السكّان عن حاجاتهم لكي يؤمّنها لهم، ويقول: وظيفتنا هي خدمتكم.

 

بالإضافة إلى عوائل الشهداء ونازحي الحرب، كانت بعض العائلات المستضعفة في طهران تسكن في مبنى كوشك. مع مرور الوقت أخذت الأجواء الأخلاقيّة في المبنى تتغيّر، فطلبنا من مؤسسة الشهيد أن تجد


 


[1]  انتقل إلى رحمة الله تعالى.

 

374


349

الفصل الواحد والثلاثون

حلًّا للأطفال الصغار. حوّلت المؤسسة الطابق السابع من المبنى، الذي كان صالة الطعام والمؤتمرات لإدارة التخطيط والموازنة، إلى روضة أطفال وصفوف ثقافية. وشُكّلت صفوف لتعليم حياكة السجاد، تلاوة القرآن، الخياطة وغيرها. كما أنشأوا مستوصفًا في الطابق الثالث، واستدعوا طبيبًا وممرضة للعمل فيه، أمّا أنا فتولّيت قسم الحقن. تدريجيًّا تطور عمل المستوصف حتى صار جيران المبنى يقصدونه للاستشفاء. مع تشكيل الصفوف التعليمية والترفيهية للأطفال، تضاءل قلق العائلات وخلت الممرّات من ضجيج الأطفال وصخبهم.

 

في ذكرى عشرة الفجر من العام 1359 هـ ـش/ شباط1981م، أقامت مؤسسة الشهيد برنامجًا مميزًا. حيث كانوا يأخذون عوائل الشهداء خلال تلك الأيام إلى ملعب "آزادي" بشكل يومي. أثناء تردّدنا إليه صادفنا معارفنا القدامى وأبناء مدينتنا. وقد أقيمت برامج رياضية وثقافية متنوعّة في قاعة الملعب التي تتّسع لاثني عشر ألف متفرّج، كما حضر في إحدى المرات العلّامة محمد تقي جعفري وألقى كلمة في الحضور. كان العلّامة جعفري شخصًا بسيطًا لا يعرف المداهنة، وكذلك خطبته كانت بسيطة وسلسة يسهل على الجميع فهمها.

 

في أحد الأيام، رأيت وليلى في القاعة عبد الله معاوي وقد حضر مع الجرحى الذين كانوا في المستشفى. سررنا كثيرًا لرؤيته، وتقدّمنا وسلّمنا عليه. لاحظت أنّ عبد الله لم يعرفني وتذكّر ليلى فحسب. تألّمت كثيرًا وحاولت أن أذكّره قائلة: "عبد الله، أنا زهراء، أخت السيّد علي، ألا تذكر السيّد علي حسيني؟ لقد عملنا معًا في جنت آباد!".

- لا أعرفك، لا أذكر.

 

375

 


350

الفصل الواحد والثلاثون

تعجّبت لذلك. أخذت أذكّره ببعض ما جرى في تلك الأيام وقلت له: "هل تذكر يا عبد الله، ذاك الكلب الذي لحقنا ذات مرة ونحن عائدين من جنت آباد إلى المسجد الجامع، ومهما فعلنا لم يتركنا؟".

-لا، لا أذكر.

 

القصة حصلت عندما كنت أسير من جنت آباد مع زهرة فرهادي وصباح وطنخواه وليلى باتّجاه المسجد الجامع يرافقنا حسين عيدي وعبد الله اللذان كانا يتقدّماننا ببضعة أمتار. في ذلك اليوم، اشتدّ القصف العراقي على المدينة إلى درجة لم تعد حتى الحيوانات تشعر بالأمان. وبينما نحن كذلك، إذا بكلب يتبعنا وكلّما سمع صوت انفجار يقترب منّا أكثر فأكثر. في تلك الأثناء، مرّت سيارة "بيكان" فأوقفها عبد الله وطلب منّا أن نركب، ثمّ فتح لنا الباب الخلفي وركبنا، فقفز الكلب داخل السيارة أيضًا. عندها نزلنا من الباب الثاني فتبعنا الكلب. أخذنا نضحك بصوت خافت، فالتفت إلينا عبد الله فرآنا نضحك فقال: ما بكنّ، لماذا ترجلتنّ؟!

 

فأشرنا إلى الكلب. وقف عبد الله أمام الكلب حتى ركبنا، ثمّ جلس وحسين في المقعد الأمامي. بقي الكلب يتبع السيارة حتى اقتربنا من المسجد الجامع.

 

لم يتذكّر عبد الله أيًّا من تلك الأحداث. ذهبت إلى مرافقيه وسألتهم: لمَ هو بهذه الحال؟

- لقد أصابته شظيّة في رأسه ففقد ذاكرته.

بعد عدّة أيّام رأيته مجددًا، لكنّه هذه المرة عرفني ولم يتعرّف إلى

 

376

 


351

الفصل الواحد والثلاثون

ليلى. التقيناه بعدها مرة أو مرتين وكان لا يزال على الحال نفسها. فيما بعد، سمعت من أصدقائي أنّه استشهد جرّاء تلك الشظية!

 

خلال وجودي في طهران، لم تفارقني فكرة العمل في مستشفيات آبادان وخدمة الجرحى هناك. قرّرت أن أشارك في دورة إسعاف لكي أحصل على شهادة تمكّنني من العمل في الخطوط الأماميّة أو في مستشفيات طهران. راجعت جمعية الهلال الأحمر من دون أن أصل إلى نتيجة، وقيل لي إنّ الكتب الدراسيّة تحتوي على مصطلحات باللغة الإنجليزية، ولا يمكن إلّا لمن يتقن هذه اللغة أن يلتحق بالدورة. وحيث إني لم أصل في دراستي سوى للصفّ الخامس الإعدادي فقط، ولم أكن أعرف شيئًا عن تلك اللغة، أصررت على المسؤول متعهّدة بتعلّم المصطلحات في الصف أثناء الحصّة، لكنّه لم يقبل.

 

ذات مرّة حضر الدكتور "كماري زاده" مع مجموعة إلى مبنى كوشك، كانت هذه المجموعة تقوم بزيارات مستمرّة للعائلات المهجّرة. وهو ضمن الأطبّاء الموفدين إلى مستوصف مخيم سربندر، وقد تعرفت إليه هناك. وبما أنّه كان رجلًا كبيرًا في السنّ ومحل ثقة، دعوته إلى غرفتنا. أولى الطبيب عناية خاصّة بالنظافة والترتيب، فأعجبته نظافة غرفتنا التي وضعنا على أرضها بساطًا قديمًا قد اهترأ من كثرة ما كنسناه. علّق قائلًا: "لقد نظّفتِ الغرفة هنا كما كنتِ تفعلين في المستوصف".

- أجل، فهذا مكان إقامتنا.

 

بعدها، طلب مني بإصرار بحكم معرفته بي أن آتي لأعمل عنده في العيادة، وقال إنّ سكرتيرته من المؤيّدات لمجموعة المنافقين، وإنّها تتشاجر مع المرضى باستمرار، لذلك أراد إقالتها وتوظيف سكرتيرة

 

377


352

الفصل الواحد والثلاثون

جديدة بدلًا منها.

 

قصدتُ عيادته في أحد الأيام في منطقة شهرري. كان الطريق بعيدًا جدًّا عن مكان سكني ويتعذّر عليّ قطع تلك المسافة ذهابًا وإيابًا بشكل يومي. من جهة أخرى لم أكن مقتنعة بالعمل هناك لأنّها عيادة خاصة، ورغبتي هي أن أداوي الجرحى في المستشفيات. لذلك اعتذرت من الدكتور لأني لم أقبل عرضه للعمل.

 

رغم البرامج القائمة في مبنى كوشك وعملي في المستوصف إلّا أنّني أحيانًا ضقتُ ذرعًا من طهران. لم أكن أحتمل الأجواء في المدينة إلى حدٍّ أشعر أنّني سأنفجر. لذا كنت أضطرّ للذهاب إلى سربندر أو ملاوي. اصطحبتُ الأطفال معي خلال ذهابي إلى ملاوي لملء أوقات فراغهم نظرًا لعدم ارتيادهم المدرسة. فعندما قدمنا إلى طهران في شهر كانون الثاني، كانت المدارس قد أنهت امتحانات الفصل الأوّل من السنة; لذلك تأخّروا عن صفوفهم سنة دراسية كاملة.

 

كنت أصطحبهم معي خشية أن يتعرّضوا لأذيّة ما في تلك المدينة الكبيرة المترامية الأطراف. كنت أذهب وحدي إلى سربندر لأنّ القصف اشتدّ على جادة آبادان - ماهشهر التي سقطت بأيدي العراقيين. قصدت منزل السيّدة "براتي" في سربندر عدّة مرّات، وقد سبق لي أن زرتها عدة مرات أثناء إقامتنا في المخيم. كانت ممرّضة وزوجها يعمل في شركة البترو-كيماويات ويسكنان في بيوت تابعة للشركة. حين جئتُ إلى المستوصف في المخيم لم أجد أحدًا ممن كنت أعمل معهم، حتى إنّي لم أعرف معظم السكان. فأغلب العائلات غادرت إمّا إلى شيراز أو إلى بهبهان. كما استأجر بعضهم بيوتًا في سربندر أو ماهشهر. شاهدت عددًا قليلًا من الجيران

 

378

 


353

الفصل الواحد والثلاثون

ممّن بقوا في المخيم أملًا بالعودة إلى آبادان.

 

خلال سفري إلى ملاوي وسربندر ارتاح بالي تجاه "دا"، إذ إنّ الخالين نادعلي وحسيني كانا قد نقلا عملهما إلى طهران بسبب الحرب، فسكنا معنا، وصارا يغادران إلى أسرتيهما في خرّم آباد مرّة في كل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. هذا، وقد كانت القوات العراقية تقصف خرم آباد بشكل مستمرّ. تعرّضت المنطقة المحيطة بمنزل الخال حسيني لقصف عنيف مرة أو مرتين بحيث اضطر إلى الانتقال إلى منزل آخر. حضور خاّلي في طهران بعث فينا الطمأنينة، مع ذلك غدت "دا" الأب والأم بالنسبة لنا. فقد أُلقيت كلّ المسؤوليات على عاتقها، فكان عليها إدارة المنزل بالمبلغ القليل والمؤقّت الذي نأخذه من مؤسسة الشهيد فتشتري الطعام والثياب لإخوتي.

 

مع أن محسن كان أكبر منّي سنًّا، لكنّه لم يستطع تحمّل المسؤولية. إضافة إلى ذلك، فإنّ سقوطه عن السطح أثّر على ذاكرته بشكل كبير. كان يحبّ الذهاب إلى العمل لكنّه كان يختار أصعب الأعمال، لذلك، حين أُوكلت إليه مهمّة الردّ على الاتّصالات الواردة إلى مبنى كوشك، لم يستمرّ طويلًا في هذا العمل. وقال: "الجلوس خلف الطاولة والردّ على الهاتف ليس عملي".

 

أصرّ محسن على "دا" كثيرًا حتى قبلت أن يعمل مكان أبي في بلدية "خرّمشهر". كانت البلدية قد انتقلت إلى منطقة "كوت شيخ" الواقعة جنوب المدينة بعد احتلالها. وبالرّغم من أنّ والدي كان حديث العمل معهم فقد وافقوا على توظيف محسن. كان عمله مع عدد من رجال الإطفاء لإطفاء الحرائق الناشبة جرّاء القصف. لم توافق "دا" بدايةً على

 

379

 


354

الفصل الواحد والثلاثون

انضمامه لخطورة العمل وخافت أن يصيبه مكروه، لكنّه ذهب في النهاية.

 

في ذلك الوقت، كان وضع الحرب غير معلوم. لم نكن نتصوّر أن تطول الحرب كلّ تلك المدة; ولذلك لم يتّضح مصير النازحين وعوائل الشهداء. لكن ومع طول أمد الحرب وضعت مؤسسة الشهيد برامج وقوانين خاصة، وخصّصت رواتب لعوائل الشهداء. بعد عامين أو ثلاثة، تكفّلت بلدية "خرّمشهر" بعوائل شهداء موظفيها وعمّالها فخرجنا بذلك من كفالة مؤسسة الشهيد. ولكي يُعيّن الراتب، كان على "دا" أن تصبح هي القيّم علينا. بداية، قصدنا مخفر المنطقة وملأنا استمارة. ثم حضر عدد من عناصر المخفر إلى غرفتنا لتسجيل المقتنيات. مهما حاولنا إقناعهم أننا نازحون، وقد تركنا كلّ ما نملك في خرمشهر، وأنّ ما لدينا قد حصلنا عليه في طهران لم يقتنعوا بذلك، وسجّلوا كما أرادوا. أحصوا كل ما كان موجودًا في الغرفة وكتبوا لائحة بالأغراض؛ عدد من البطّانيّات والمساند، موقد غاز بعين واحدة، موقد نقّال وبعض الصحون. سلّمونا صورة طلب الوصاية وقالوا: "يجب أن تؤكد إدارة مقبرة "بهشت زهراء" وفاة أبيكم. أحضروا شهادة الوفاة لنكمل لكم معاملتكم".

 

قررنا الذهاب إلى "بهشت زهراء" وسط الأسبوع، ورافقنا زوج خالتي سليمة، السيّد عباس. سرنا طويلًا لأننا لم نكن نعرف الطريق. وقفنا بجانب الجادّة ثم ركبنا سيارة واتّجهنا إلى مكتب إدارة "بهشت زهراء". وصلنا قرابة الواحدة أو الثانية ظهرًا، وكانوا على وشك الإقفال. طلبت من أمّي الانتظار خارجًا، ودخلت أنا والسيّد عباس. فتح الرجل الجالس خلف الطاولة دفترًا كبيرًا ذا غلاف أسود، فأخذ هويّتي أبي وعلي، وسجّل معلوماتهما الشخصيّة في الدفتر. كان نور الشمس يسطع على الدّفتر من

 

380


355

الفصل الواحد والثلاثون

خلال الشباك الزجاجي الكبير في الغرفة. فتح الرجل الصفحات الأخيرة في الهويتين وختم عليها بختم الإلغاء ورفعهما نحوي. للمرة الأولى بعد شهادة أبي بكيت في حضور الآخرين. كان من الصعب عليّ مشاهدة منظر كهذا. عزّ عليّ أن أرى آخر ما بقي من أبي وأخي علي قد أُلغي، وأن أصدّق أنّهما لم يعودا موجودين. كانت بطاقتا الهويّة بمنزلة أمل بوجودهما حتى تلك اللحظة، لكن عندما ختم على آخر ذكرى منهما بـكلمة "مُلغى"، أحسست أنّ كلّ شيء قد انتهى فعلًا. أثناء عودتنا، بقيت أنا وأمي وزوج خالتي ساكتين حزينين طوال الطريق. لقد عدونا وأسرعنا كثيرًا منذ الصباح من أجل إنجاز هذا العمل. أمّا الآن وبعد أن أنجزناه، خرجنا من "بهشت زهراء" على غير عجل يلفّنا السكون، مطأطئي الرؤوس.

 

منذ ذلك الحين، صرت كلّما أذهب إلى "بهشت زهراء" لزيارة قبور الشهداء: جهان آرا، غيور أصلي[1] وحسين حمزئي[2]، أتذكّر، عند رؤية المكتب، أحداث ذلك اليوم.


 


[1]  أحد قادة الحرس الثوري في خوزستان. كان رجلًا شجاعًا وغيورًا. استشهد في بدايات الحرب.

[2]  من عناصر الحرس الرسميّين في منطقة "خرّمشهر". كان قبل الحرب يعمل في محلّ التلحيم. وغالبًا ما كنت أراه وهو يزاول عمله حين عودتي من المدرسة.

 

381


356

الفصل الثاني والثلاثون

الفصل الثاني والثلاثون

 

لم يكن الوضع السياسي في طهران مستقرًا. كان المنافقون يجتمعون كلّ يوم في مكان ويثيرون الجدال والمشاكل. لم يُبنَ كلامهم على أسس منطقيّة، وكثيرًا ما يحتدم النقاش ليتحوّل إلى تضارب مع معارضيهم. من الأماكن التي كانوا يجتمعون فيها بشكل دائم حديقة "لاله" التي شهدت مواجهة بعد كل نقاش. كنت أحاولُ المشاركة في نقاشاتهم لعلّي أتمكّن من إثبات ضعف استدلالهم فلا يظهرون وكأنهم وحدهم فرسان الميدان.

 

في تلك الأيام، كان المنافقون يكمنون للشبّان الثوريين في الأزقّة الخالية ويضربونهم حتى الموت. ثم يتبجّحون قائلين: "قضينا على العدو".

 

في الرابع عشر من شهر أسفند من عام 1359 هـ.ش*[1]. كنت حاضرة في الخطاب الذي ألقاه بني صدر، حين بدأ المنافقون بإطلاق الهتافات لتعكير الأجواء. في طريق عودتي شعرت أنهم يلاحقونني. كانوا ثلاثة؛ فتاتان وشاب، أشكالهم عجيبة وغريبة. أقنعت نفسي أوّلًا بأنّ هؤلاء لا شأن لهم معي. لكن بعد لحظات، وبينما كنت أحثّ الخطى، رفستني إحدى الفتاتين بكل قوة على ساقي من الخلف بحذائها الرياضي الضخم.

 


[1]  * (22 شباط 1981).

 

383


357

الفصل الثاني والثلاثون

رأيت أنني لن أتمكن من مواجهتهم. فهم ثلاثة وأنا وحدي ولا أمتلك شيئًا أدافع به عن نفسي، أمّا هم فمجهّزون بالسلاح الذي كان أقلّه شفرة حادّة. بدأت أركض حتى وصلت إلى الشارع العام ودخلت بين الناس، فلم يعد باستطاعتهم القيام بأعمالهم البطوليّة أمامهم.

 

كان يوجد مركز للجنة في شارع فردوسي طلب مسؤولوها من حرس مبنى كوشك تعريفهم على عدد من النساء الموثوقات للعمل معهم، فقدّمني حرس المبنى أنا وليلى. ونظرًا لأنني لم أكن أقيم في طهران لفترة طويلة اقترحت أن تكون صباح وطنخواه بدلًا منّي ومن أختي.

 

في ذلك الوقت، كانت صباح قد سكنت مع عائلتها في مبنى كوشك أيضًا. وهناك استمرّت صداقتنا التي بدأت مع بداية الحرب.

 

كلما كان الإخوة في اللجنة يلقون القبض على المنافقات إثر المواجهات وعمليات تفجير العبوات والقنابل، كانوا يستدعوننا حتى نفتّشهن جسديًّا. كثيرًا منهنّ كنّ يلقين ما بحوزتهنّ من معدّات في مكان ما قبل وصولهنّ إلى اللجنة فلا يبقين أيّ أثر أو دليل. لكن محاولاتهنّ تلك كانت تبوء بالفشل في بعض الأحيان. كنت أشعر أنّهن غريبات الأطوار. وجدت بحوزة بعضهنّ في إحدى المرّات فلفلًا وملحًا فسألتهن: "لماذا تحملن الفلفل والملح؟ هل ستطهين الطعام على الطريق؟".

 

فأجبن بكلّ وقاحة: "نريد أن نرشّه على جروحكم".

- لنفترض أنّ جروحنا احترقت، هل يشفي ذلك صدوركنّ؟

- أجل، لمَ لا؟!

 

 

384


358

الفصل الثالث والثلاثون

الفصل الثالث والثلاثون

 

لم تكن طهران مدينة محببة بالنسبة لنا، لكنّ وجود الإمام الخميني فيها وأملنا بزيارته شغل بالنا كثيرًا. كنت أذهب أنا وليلى والأخوات وطنخواه؛ صباح وصالحة وفوزية، يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع في الساعة السادسة صباحًا إلى حسينية جماران لنحضر لقاءات الإمام العامة. كان موعد اللقاء بالإمام عادة في الساعة الثامنة والساعة العاشرة صباحًا. حضور الناس كثيف إلى درجة أنّ جماران تعجّ وتضجّ بزوّارها. مهما حاولنا أن نحضر مبكّرين لم نفلح. كان هناك من يسبقنا في الحضور دائمًا. كان الازدحام أمام المداخل شديدًا لدرجة أنه لا يمكن لأحد التحرك بإرادته هناك، إنّما يميل الجميع مع حركة الأمواج البشرية.

 

عندما يحضر الإمام كان يسلّم على كل الحشود ويحيّيهم بيده ثم يذهب. أحيانًا كنّا نبقى هناك حتى نرى الإمام ضمن جماهير اللقاء التالي. فتأتي سيّدات الانضباط لإخراجنا، فنقول لهن: "نستحلفكنّ بالله أن تسمحن لنا بالبقاء لعلّنا نرى الإمام مرة أخرى!".

 

وهكذا تمكنّا من رؤية الإمام عدّة مرات، لكننا لم نرتوِ. وددنا لو نلقاه في لقاء خاص. حاولنا جاهدات، لكنّهم لم يعطونا موعدًا خاصًّا مع سماحته.

 

385

 


359

الفصل الثالث والثلاثون

بعد فترة، قرّرتُ أنا والأخوات وطنخواه أن نعود إلى آبادان، إذ إنّهن بتن يعملن في مستشفى طالقاني في آبادان مع عدد من فتيات "خرّمشهر".

 

أخيرًا، في أحد الأيام، وقفنا بعد أداء صلاة الظهر أمام باب حسينية جماران. في تلك اللحظة رأيت الشيخ كرّوبي، فتقدّمنا منه وقلنا: "شيخ كرّوبي، نرجوك أن تسعى لنا في مقابلة الإمام".

 

قال الشيخ كرّوبي: "كيف لي أن أدبّر الأمر وأنا نفسي أدخل بصعوبة!".

- بلى تستطيع ذلك. إننا ننوي الذهاب إلى آبادان قريبًا، فلا تجعل رؤية الإمام تبقى حسرة في قلوبنا.

- ألستِ أنتِ الأخت التي حضرت مع السيّد محمدي إلى مجلس الشورى وقدّمك لنا هناك؟

- أجل، أنا هي.

- حسنًا، سأكتب الآن رسالة. لكنني لا أعدكنّ أنهم سيوافقون.

 

أخذ يبحث عن ورقة بين أغراضه وسط الزقاق فلم يجد. عندها أخرج ظرف رسالة وكتب عليه: "الأخوات من خرمشهر، ويردن الذهاب إلى منطقة المواجهات. اسمحوا لهنّ بلقاء خاص مع الإمام".

 

في تلك الأثناء، رآنا عناصر الحرس الثوري الذين يحرسون بيت الإمام الخميني ونحن نتسلّم الرسالة من الشيخ كرّوبي. أمّا نحن فسُررنا كثيرًا بأخذها. مع ذلك، لم نكن متأكدين من أنّهم سيوافقون. وبينما نحن كذلك تقدّم منا أحد الإخوة في الحرس وقال: "لماذا تقفن هنا؟".

 

386

 


360

الفصل الثالث والثلاثون

فأخبرناه بأمرنا فقال: "هل أنتنّ حقًا من "خرمشهر"؟".

- أجل.

- تعالين غدًا صباحًا وأنا سأتدبّر الأمر.

- هل أستطيع أن أحضر آخرين معي؟

- نعم، ولكن لا تُحدثوا جلبة وازدحام.

- حسنًا.

 

سررنا كثيرًا بحيث إننا لم نلتفت أنّا أضعنا صالحة وطنخواه بين الجموع. ركبنا الحافلة من جماران حتى "تجريش" من ثم ركبنا حافلة متّجهة إلى ميدان "توب خانة". ترجّلنا في ميدان فردوسي ومشينا إلى المنزل من هناك. بعد أن وصلنا إلى المنزل تذكّرنا أن صالحة كانت معنا، فسألنا بعضنا: "عجبًا، أين هي صالحة يا فتيات؟!

 

كنا متعبات جدًّا ونعلم أننا إذا ذهبنا للبحث عنها فلن نجدها. أمّا صالحة المسكينة فلم يكن معها بطاقة ركوب حافلة أو نقود. انطلقت من هناك سيرًا على قدميها ظهرًا ووصلت إلى المنزل بعد الغروب وقد أنهكها التعب. حين رأتنا عاتبتنا بلهجة قاسية وقالت: "لم أكن أعرف الطريق، فمشيت شارع ولي عصر بأكمله ابتداءً من تجريش، وحين وصلت إلى تقاطع ولي عصر انعطفت ناحية ميدان فردوسي.

- لماذا لم تقترضي بعض النقود.

- خجلت أن أفعل ذلك.

 

في صباح اليوم التالي ذهبنا جميعًا إلى جماران والسرور يغمرنا بانتظار

 

387

 


361

الفصل الثالث والثلاثون

تحديد موعد لقائنا الذي تقرّر أن يكون صباح يوم الأربعاء. في اليوم الموعود توجّهت مع أمي وإخوتي عقب صلاة الصبح وطلبت من أخي محسن، وكان آنذاك في الثامنة عشرة من العمر، أن يرافقنا. كما حضرت معنا أسرة "وطنخواه".

 

انطلقنا عند الساعة السادسة صباحًا، وحين وصلنا إلى جماران لم نجد أحدًا غيرنا. انتظرنا قليلًا، بعد لحظات وقعت عيني على شخص سبق أن جرت بيني وبينه مشادة كلامية في مؤسسة الشهيد. قلت له يومها: "سأشكوك إلى الإمام الخميني"، فسألني: "ومن الذي سيوصلك إلى الإمام؟".

 

كان قد جاء مع خطيبته ليعقد الإمام قرانهما. حين رأيته ضحكت وقلت له: "أرأيت! ها نحن عند الإمام، ماذا أفعل الآن؟ هل أشكوك إليه؟".

 

فضحك ولم يقل شيئًا.

 

بعد ذلك وقفنا صفًّا ثم دخلنا الواحد تلو الآخر إلى باحة صغيرة لمنزل يقع خلف الحسينية. كان الإمام جالسًا على كرسيّه على الشرفة، وقد ارتدى ثيابًا بيضاء ووضع قلنسوة على رأسه كما وضع غطاءً على رجليه. تقدّم الرجال أولًا بالتدريج ثم النساء. قبّل الجميع يدي الإمام من فوق غطاء وُضع على يديه. حدّقتُ بالإمام والغصّة في حلقي. ولحظة لمس يدي للغطاء على يدَي الإمام تذكّرت أبي وأخي عليّ الذي كان يرغب برؤية الإمام بشدة.

 

تذكّرت أول صورة رأيتها للإمام وأنا في الخامسة من عمري. تلك

 

388

 


362

الفصل الثالث والثلاثون

الصورة التي علّقها والدي على جدار منزلنا في البصرة. لم أكن أرغب أن تفارق يدي يد الإمام. حين لمست يد الإمام من فوق الغطاء شعرت أنني ألمس الشيء الأكثر قداسة في الدنيا، كنت أبكي وتنهمر دموعي. قبّلت يد الإمام ومسحت بأثرها على رأسي. شعرت وكأنني لم أعد في هذه الدنيا. وشعرت براحة كبيرة وكأنني أسير على الغيوم.

 

كنت غارقة في تلك الأجواء الجميلة حين قال صهر الإمام، السيّد إشراقي: "لا تُحرجوا الإمام".

 

ابتعدت جانبًا ووقفت مقابل الإمام. لم أستطع حتى أن أتفوّه بكلمة واحدة. عرّفنا الإخوة المسؤولون إلى الإمام وقالوا إننا من عوائل الشهداء. كان الإمام ينظر إلينا ويبتسم ويدعو لنا. علا صوت بكائي من دون إرادتي ولم أستطع السيطرة على نفسي. لم تكن هذه حالي أنا فحسب، كان الجميع كذلك. بكت "دا" أيضًا وبدورها قبلت يد الإمام فدعا لها بصوت خافت. بعد ذلك دخلنا إلى الحسينية حتى نلتقي الإمام مجددًا مع الحشود القادمة. ترك ذلك اللقاء أثرًا جيّدًا على "دا". فمع أنّها لم تتحدّث مع الإمام، لكنني أحسست أنها تقبّلت شهادة علي. ومنذ ذلك اللقاء باتت صبورة جدًّا.

 

كان ذلك اليوم أفضل يوم في حياتي. كنت أشعر بضيق في صدري منذ بداية الحرب وخروجنا من "خرّمشهر" وقدومنا إلى طهران للسكن فيها لدرجة أنّه لم يكن شيء يفرحني. حاولت دائمًا أن أتظاهر بالفرح، لكنني كنت أشعر بحزن عميق في داخلي، إلّا أنني في ذلك اليوم أحسست أنّ ذلك الحزن قد أزيح عن قلبي وأنني أتنفّس ملء رئتيَ وروحي.

 

كانت لشهناز وطنخواه صديقة تُدعى نسرين تسكن في زقاق

 

389

 


363

الفصل الثالث والثلاثون

حسينية جماران. في إحدى المرّات رأتنا صدفة في الحسينية وأصرّت علينا أن نرافقها إلى منزلها. منذ ذلك الحين صرنا نتناول غداءنا يومي الاثنين والأربعاء حين نذهب إلى جماران في منزل نسرين. عاهدت نسرين وعائلتها أنفسهم على استقبال ضيوف الإمام. أعجبتني بساطة المائدة التي كانوا يعدّونها؛ خبز، جبن، خضروات، زبدة، مربى، مخلّل وحواضر البيت. وأعجب من ذلك أنّ كل ما كانوا يضعونه على المائدة هو من صنعهم. فكانوا يأتون بالخضروات من حديقة منزلهم، يعدّون المربى بأنفسهم، وكل الحواضر من كدّ اليمين وعرق الجبين، وظلّوا يستضيفون الجميع بالطريقة نفسها. جعلوا باب منزلهم مفتوحًا للجميع ممن يريد أن يصلي ويستريح ويتناول وجبة خفيفة.

 

بعد مدة، عندما ساء وضع الإمام الخميني الصحي، منع الأطباء اللقاءات العامة.

 

390

 


364

الفصل الرابع والثلاثون

الفصل الرابع والثلاثون

 

 

كلّما تعبت من طهران، كنت أذهب إلى ملاوي وأقضي عدة أيام عند پاپا ومي مي. كانت تجمع أهل مخيم ملاوي علاقة حميمة، وكانوا يتعاملون بحنان ورأفة شديدة مع بعضهم البعض. أهالي مدن انديمشك، شوش، دزفول، خرمشهر،عباس آباد وغيرها من البلدات كانوا يقطنون ذلك المخيم. تقع قرية عباس آباد بين مدينتي انديمشك وشوش. قال أهلها إنّها تقصف يوميًّا من قبل العدو بهدف تدمير منصّات الصواريخ البعيدة المدى الموجودة هناك.

 

يحيط بمخيم ملاوي سلسلة جبال زاكرس. في فصل الربيع، تُغطى تلك الجبال ببساط أخضر راسمة مناظر خلابة. حول المخيم كان هناك أشجار كبيرة وطويلة مصفوفة في صفّين يشكّلان سورًا طبيعيًا. أحد صفّي الشجر كان محاذيًا للنهر، وأضفى على المكان روعة خاصة. لم تكن مياه النهر صالحة للشرب فاستخدمها أهالي المنطقة لغسل ثيابهم. في آخر المخيم، عين ماؤها صافية وباردة. كانوا يضعون البراميل البلاستيكية في القسم الذي تنبع منه المياه ويتركونها لتمتلئ شيئًا فشيئًا، أو يحفرون قناةً صغيرة لتتجمّع المياه فيها ثمّ يغرفون منها بأوعيتهم ويملأون البراميل.

 

391

 


365

الفصل الرابع والثلاثون

عند بداية دخول الأهالي إلى المخيم سلّمت مؤسسة تتولّى أمور المهجرين كل عائلة أدوات الطبخ والأغطية والوسائل الضرورية. وكانوا يزوّدون العائلات بالمواد الغذائية الأوليّة فتطبخ العائلات طعامها بنفسها. مع مرور الوقت قُطعت المساعدات وصار الناس يؤمّنون حاجاتهم من منطقة "بلدختر". قرب خيمة تجهيزات المخيّم، خُصّصت خيمةٌ كمستوصف، عمل فيها طبيب وعدد من المسعفين والممرّضات. ونظرًا لأن المخيم كان يحوي الكثير من الأفاعي والعقارب وغيرها من الحشرات المؤذية فإنّ وجود المستوصف هناك أمسى ضروريًا.

 

عندما ازداد عدد النازحين، نُصبت خيام جديدة على أطراف الطريق. وتجنّبًا للدغات الأفاعي والعقارب، صُبّ الإسمنت فوق الأرض الترابية قبل نصب الخيام. لم يكن في المخيم الأوّل مكان للاستحمام. أما المخيم الجديد فكان مزوّدًا بوسائل أفضل. أحسست بالسكينة هنا، وتذكّرت مع پاپا وخالي نادعلي الأيام الجميلة التي عشناها في "خرّمشهر". كان پاپا يشرح لي الكثير من الفضائل الأخلاقية من آيات القرآن الكريم، تمامًا كما فعل أيّام طفولتي في البصرة. كان يحفظ بعضًا من آيات القران، ويستشهد بأبيات من أشعار الـ "شاهنامه" بما يتناسب مع كلامه. شابهت شخصيّة خالي نادعلي كثيرًا شخصيّة پاپا. في معظم الأحيان كنت أرى خالي يبتعد عن المخيم في الصباح الباكر ويختار مكانًا هادئًا على ضفّة النهر يقرأ فيه الأشعار العرفانية والوجدانيّات. كما كان يصطاد السمك أحيانًا. راقبته عدّة مرّات من بعيد، والتقطتُ له أنا وزوجته بعض الصور؛ واضح أنّه استاء من وجودنا لأننا أفسدنا عليه خلوته.

 

في ربيع العام 1360 (1981)، وبعد انتهاء عطلة النوروز، انتقل پاپا

 

392

 


366

الفصل الرابع والثلاثون

وخالي نادعلي إلى مخيم يبعد عن بروجرد حوالي خمسة كيلومترات. ذهبت إلى هناك مرة أو مرتين. الناس في ذلك المخيم كانوا من المهجَّرين مثلنا. كان وضع مخيم بروجرد أفضل بكثير من مخيم ملاوي، إذ إنّه يحتوي على مكتب للاتصالات الهاتفيّة وخُصّص له حافلتان صغيرتان لنقل سكّانه في ساعات معينة من النهار إلى بروجرد ومنها إلى المخيّم. في صيف تلك السنة كان الجو حارًّا جدًّا وفيه صادف وقوع شهر رمضان المبارك. كان علينا أن نقضي الأيام الحارّة والليالي الباردة داخل الخيم. في أغلب الأحيان كنّا نشتري اللبن المعلّب من بروجرد للإفطار، ونجد ذلك اللبن البلدي لذيذًا جدًّا.

 

لتأمين راحة سكان المخيم، بُنيت قاعتا جلوس كبيرتان زُوّدت أنابيبهما بمياه من النبع، فكانت المياه تصل إلى الحوض وسط القاعتين وتملأه، فتنتقل برودة مياه النبع إلى داخل القاعتين. عند الظهر، حين تصير حرارة الخيم غير محتملة، كان الجميع يهرب إلى هاتين القاعتين اللتين خُصصّت إحداهما للرجال والأخرى للنساء. كان اثنان أو ثلاثة من علماء الدين قد جاؤوا من قم للتبليغ الديني، فكانوا يغتنمون فرصة اجتماع الناس، ليعلّموهم تفسير القرآن وأحكام الدين ومسائل الصوم، ويشرفون على البرامج الثقافية في المخيّم.

 

أحد أولئك العلماء كان الشيخ مجاهد، وهو عراقي الأصل طُرد من العراق. كان يجيد اللغة الإنجليزية بشكل كامل ويتكلّمها بطلاقة. ومع أنّه درس العلوم الدينيّة في النجف الأشرف، فقد شارك في دورة تقنيّة لصيانة الطائرات في بريطانيا.

 

كانت المرّة الأولى التي أرى فيها عالم دين لديه اختصاص كهذا. دأب

 

393

 


367

الفصل الرابع والثلاثون

الشيخ، إضافة إلى محاضراته، على إقامة صلاة الجماعة، كما طلب من الأولاد الذين تأخروا عن دروسهم حضور حصص اللغتين الإنجليزية والعربية، كان يتقنهما ويدرّسهما أيضًا. إضافةً لإلمامه باللغة الفارسيّة.

 

وبما أنّي لم أدرس سوى للصّف الخامس حيث كانت الصفوف الأعلى مختلطة، لطالما تمنّيت أن أكمل دراستي. فأحببت أن أغتنم فرصة وجودي في المخيم وأحضر حصص اللغة.

 

أقيمت تلك الدروس في صالة كبيرة ليس لها سقف خُصّصت لإقامة صلاة الجماعة. كان أكثر الطلاب يتكلّمون الفارسية أو اللورية، وقلّما تجد بينهم من يتكلّم العربية. في حصّة اللغة الإنجليزية كان الشيخ يكتب المفردات والمعاني على اللوح ثم يوضحها. وفي كثير من الأحيان كان يترجم الكلمات الإنجليزية إلى العربية لأنه لا يعرف معناها في الفارسية. على سبيل المثال، كتب كلمة apple ثم تلفّظها بشكل غليظ، فسأله الطلاب: "ماذا تعني apple؟".

 

لم يعرف الشيخ مجاهد معناها باللغة الفارسية، فجعل يديه على شكل دائرة وحرّكهما وقال apple يعني تفاح!

 

فسأله الطلاب ثانية: "ماذا يعني تفاح؟".

 

صارت المشكلة مشكلتين، وارتفع الضجيج في الصف. أمّا أنا فخجلت من أن أقوم من مكاني وأتحدّث، لكنّي رفعت يدي وقلت: "أنا أتقن العربية والفارسية". ثم توجّهت إلى الطلاب وقلت: "تفاح تعني سيب".

 

في يوم آخر طلب الشيخ مجاهد من أحد الطلاب البارعين في الرياضيات واللغة أن يقوم إلى اللوح. لكن الطالب لم يدرس ذلك اليوم جيّدًا، فقال له الشيخ: "أنت كنت شاطرًا والآن لست كذلك".

 

394

 


368

الفصل الرابع والثلاثون

فظنّ الطالب أنّ كلمة شاطر تعني "خباز"[1] فقال بتعجّب: "كلا يا سيدي، والله أنا لست شاطرًا، إنّ ابن عمي هو شاطر".

 

فقلتُ للطالب: "يقصد الأستاذ بأنك كنت مجتهدًا، أما الآن فلست كذلك".

 

فضحك جميع طلاب الصف، وصاروا يردّدون كلّما التقوا ببعضهم البعض: "أنت كنت شاطرًا والآن لست شاطرًا". منذ ذلك الحين صرت أترجم كلام الأستاذ للطلاب وأترجم كلامهم له.

 

وفي صباح أحد الأيام رأتني زوجة خالي نادعلي فسألتني: "هل سمعت الأخبار اليوم"؟

- لا.

- لقد استشهد الدكتور "بهشتي" في انفجار وضعه المنافقون.

 

أظلمت الدنيا أمام عيني. لم أصدق ذلك. قلت في نفسي إنها مخطئة حتمًا. ذهبت باتجاه خيمة پاپا الذي كان لديه مذياع صغير أحضره من "خرّمشهر" لمتابعة أخبار الحرب لحظة بلحظة. رأيت أمام الخيمة زوج خالتي سليمة الذي كانت عيناه شديدتي الاحمرار من فرط البكاء. عندما سمعت الخبر من المذياع أيقنت أننا خسرنا الشهيد بهشتي.

 

تذكّرت أنّ الدكتور بهشتي حضر إلى مخيم ملاوي لرؤية المهجّرين قبل عدة أشهر وتكلّم مع پاپا. فقد كان السيّد عباس، زوج خالتي سليمة يقطع أغصان الأشجار اليابسة من الجبل ويأتي بها إلى جدّي الذي وبالرغم من ضعف بصره وخضوعه لعمليّتين جراحيّتين، كان يصنع لوحات لتقطيع


 


[1]  بالفارسية.

 

395


369

الفصل الرابع والثلاثون

اللحم، مغزلًا، صنّارة للحياكة، وغيرها من الأدوات الخشبيّة. وبدورهما كانت "دا" وخالتي سليمة تستعملان تلك المغازل والصنارات لحياكة القلنسوات والليف وغيرها. عندما جاء الدكتور بهشتي إلى المخيم ورأى پاپا يعمل رغم كبر سنّه، وأعجب به وتكلّم معه. فرح جدّي كثيرًا لتواضع الدكتور بهشتي فقبّل يده. ولم يزل جدّي يذكر تلك الحادثة جيّدًا.

 

في ذلك اليوم، أعلنوا عبر المكبّرات الصوتيّة في المخيم بأنه ستُقام مسيرة ومراسم عزاء عن روح الدكتور بهشتي في بروجرد. كانت مسيرة حاشدة هتفت الجماهير فيها شعارات مناهضة لأمريكا والمنافقين.

 

لم يقف خبث المنافقين عند ذلك الحد فقاموا باغتيال الشهيدين "رجائي" و"باهنر" إضافة إلى محاولة اغتيال السيّد الخامنئي. كنت خلال تلك الأحداث في المخيم حيث أقام جميع الأهالي مجالس عزاء لأرواح الشهداء.

 

بعد صيف 1360 هـ ش(1981)، خرج خالي نادعلي وپاپا من مخيم بروجرد وذهبا إلى "خرم آباد" حيث استأجرا بيتًا هناك. وبدوري رجعت إلى طهران وبقيت هناك; إذ لم يكن لي مكان ثانٍ أذهب إليه هربًا من طهران. عملت مدّة في الانضباط في صلاة الجمعة. رأيت في إحدى المرّات "مجده أنباشي" في صلاة الجمعة. سبق أن سمعت من صديقاتي أنّ مُجده أصيبت بجروح في اليوم الرابع والعشرين من مهر، اليوم الذي استشهد فيه الشيخ شريف، وذلك أثناء نقلها لجريح إلى المستشفى في شارع الأربعين مترًا في "خرّمشهر"، لكنني لم أرها حتى ذلك اليوم. فقد أصيب رأسها ويداها بشظايا، وهذه الإصابات أدّت إلى شلّ إحدى رجليها. ورغم تلك الظروف فإن مجده تزوّجت، وسُررت كثيرًا بلقائها.

 

396

 


370

الفصل الخامس والثلاثون

الفصل الخامس والثلاثون

 

في خريف العام 1360(1981م) حدثت قصّة زواجي. كانت هذه المسألة قد طُرحت مرات عديدة قبل بدء الحرب، بل حتى في أوائل أيامها، وفي مخيم ملاوي وفي طهران كذلك. لكنني كنت أرفض الأمر بشدة.

 

في ذلك الزمن عانينا فقرًا شديدًا، وحمل خالي حسيني على عاتقه مسؤوليّة عائلتنا وعدة عائلات أخرى. وكان "جهان آرا" قد طلب من بعض الإخوة في الحرس الثوري أن يقوموا بزيارات لعوائل الشهداء في المدن المختلفة. وبالفعل زارنا السيّد محمدي أخو بهنام محمدي[1]، محمود زمانيِ والسيّد صالح موسوي ترافقه زوجته بتول كازروني من قبل جهان آرا. استغربت الجميع إلّا السيّد محمدي الذي كنت على معرفة سابقة به. وعندما سألت "دا" عنهم أجابت: "لا أعرف. إنهم من شباب الحرس، من أصدقاء علي".

 

في يوم من الأيام لم تكن أمي موجودة في البيت. کان خالي حسيني وخالي نادعلي في العمل، ولم يكن في البيت إلّا أنا وليلى. جاء اثنان من


 


[1]  بهنام محمدي، فتى في الثالثة عشرة من عمره من خرمشهر، كان لصغر سنّه وجسمه يسحب وراءه سلاحه G3، وكان يقومبالرصد والاستطلاع ويخبر المجاهدين بنقاط تسلل العدو. في آخر ايام المقاومة أصابت شظية قلبه أدت إلى استشهاده.

 

397


371

الفصل الخامس والثلاثون

الإخوة في الحرس الثوري في "خرّمشهر" وقدّمنا لهما الضيافة. في تلك الأثناء سمعت أحدهما يقول للآخر بالعربية: "تكلّم ماذا تنتظر!".

 

فأجابه الأول: "لا يوجد أحد هنا مع من أتحدث؟".

 

اعتقدت بأنهما أتيا ليسلّمانا الراتب الشهري فقلت في نفسي: "من ينتظران، ليعطيانا المال؟!".

 

لا أعلم لماذا تأخّرت أمي ذلك اليوم. وعندما أراد هذان الرجلان الانصراف دعوتهما للبقاء وتناول الغداء. أردت بذلك أن تأتي "دا" إلى البيت لتتسلّم الراتب منهما، كما إنّ رؤيتهما أحيت ذكرى أخي علي في قلبي.

 

أحدهما كان حبيب مزعلي. أصيبت يده بجراح في الجبهة إثر انفجار قذيفة آر بي جي بقربه; ما أدّى إلى قطع إصبعه، فأجريت له عملية وصلوا له فيها ذلك الإصبع في مستشفى طالقاني[1]. في ذلك اليوم كانت يده مضمّدة. حين استبقيتهما للغداء قال لي: "كلا، أريد أن أذهب وأغيّر ضماد الجرح".

- إن لم يكن لديك مانع آخر فأنا لدي الوسائل اللازمة هنا. إن أردت غيّرت لك الضماد.

- إن لم يكن هناك إزعاجٌ لك، أكون من الشاكرين.

- أحضرت عدة الإسعافات الأوّلية، وبدأت بغسل الجرح. في تلك الأثناء خرج صديق حبيب من الغرفة. ذكر حبيب أخي علي، أخبرني أنّه


 


[1]  وإلى الآن لا يزال هذا الإصبع شبه معطّل.

 

398


372

الفصل الخامس والثلاثون

على اطّلاع على أعمالي وإصابتي وأنّه أعجب بوقاري وحيائي وحجابي. قال إنّه كان مصمّمًا على خطبتي قبل وقوع الحرب، لكنّ أمر الحرب جعله يؤجّل ذلك. ثمّ طلب منّي إذنًا بالتحدّث مع عائلتي في الأمر إن لم يكن لديّ مانع.

لدى سماعي ذلك الكلام شعرت بانزعاج شديد وبدأت يداي ترتجفان. فما كان منّي إلّا أن أجبته وأنا ألفّ الجرح بصعوبة: "لا رغبة بالزواج لديّ، وهذا أمر محسوم بالنسبة لي!".

 

فيما بعد قال لي حبيب: "لقد كان ردّ فعلك عنيفًا جدًّا ذلك اليوم، بحيث أردت الهروب من المكان فورًا!".

 

بالرغم من رفضي القاطع، بقي حبيب مصرًّا على طلبه. وأخيرًا وبعدما تكلّم الأصدقاء معي وبعد مدح شخصية حبيب من قبل أشخاص أثق بهم، تردّدت في قراري. أحد أولئك كان حسين طائي نجاد، صديق عليّ المقرّب وخطيب ليلى، فقد عُقد قرانهما قبل أشهر. كنت أفكّر في نفسي بمصير أمّي وإخوتي إن أنا تزوّجت، فقد أوصاني أبي بهم. ماذا سيحلّ بهم إن وافقت على الزواج واضطررت إلى الرحيل عن طهران!

 

أخيرًا، وبعد عدة أشهر من التردّد على بيتنا، زارنا أهل حبيب وتقرّر أن نتكلم مع بعضنا البعض وندرس شروطنا وظروفنا. قال حبيب إنّه ليس لديه أي شرط وإنّ إيماني هو المهم بالنسبة له وقال: "لن أطلب منك أي شيء. لن أطلب منك أن تطبخي بهذا الشكل أو تغسلي الصحون بهذا الشكل، بل وإن أردتِ أن لا تعملي فلَكِ ذلك أيضًا. قومي بما يحلو لك، ولكن سأقبل شروطك على قدر وسعي".

 

399

 


373

الفصل الخامس والثلاثون

- شرطي الأول هو أن لا أبتعد عن عائلتي، والآخر أن لا تمنعني من الذهاب إلى الجبهة.

- ليس لديّ الآن بيت ونستطيع أن نبقى مع أهلك حاليًا. كما إنني الآن أذهب إلى الجبهة فإن أمكنني آخذك معي.

- لا أريد أن يكون هذا الكلام من باب استرضائي. فذهابي إلى الجبهة ليس مجرّد رغبة عابرة. لا تقل لي لاحقًا ما دخل المرأة بالجبهة!".

 

بعد قبول الشروط، أُجريت صيغة العقد الشرعي. لم تمضِ سوى أيام قليلة على هذا الحدث حتى استشهد قائد قوات "خرّمشهر" "جهان آرا" بحادثة سقوط الطائرة[1]، وفُجعنا جميعًا برحيله. بعد ثلاثة أو أربعة أشهر، عاد حبيب من الجبهة إلى طهران وحدّدنا مع عائلته موعد العرس. اختلفنا على المهر قليلًا إذ إنّي طلبت بأن يكون المهر قليلًا، فقال حبيب: "يجب أن يكون المهر كبيرًا بحيث لا يضيع حق المرأة".

 

في النهاية، حدّد خالي حسيني المهر؛ مصحف من كلام الله المجيد ومئة ألف تومان. فوافق الجميع على ذلك.

 

في الثاني عشر من شهر دي (الثاني من كانون الثاني)، أقمنا حفلًا صغيرًا داخل الغرفة في بناية كوشك. كان أغلب الأقارب متفرّقين. لم يحضر من عائلة حبيب سوى أبيه وإخوانه وعائلاتهم[2]. وحضر من أفراد عائلتي خالي نادعلي وعائلته، خالي سليم، خالتي سليمة، أحد أصدقاء خالي حسيني ويدعى السيّد قاروني وابن عمّ أمي السيّد جعفر مع عائلته بالإضافة إلى

 

 


[1]  في تاريخ 8/7/1360 (ایلول 1981) وبعد عدة أيام من عمليات ثامن الأئمة التي أدت إلى كسر حصار آبادان، كان جهان آرا وعدد من القادة الآخرين في طريقهم إلى طهران وإذا بطائرتهم تنفجر وتؤدي إلى شهادتهم.

[2]  توفّيت والدة حبيب سنة 1979.

 

400


374

الفصل الخامس والثلاثون

بعض الجيران. كما حضر عبد الله وخليل معاوي ومعهما باقة من الزهور، ومن بين كل الهدايا، كانت هذه الزهور الأغلى على قلبي.

 

اقتصر الحفل على هؤلاء الضيوف. حتى پاپا ومي مي لم يكونا حاضرين. لقد دعونا الكثيرين، ولكن لم تسمح لهم ظروفهم بالحضور فضلًا عن أن غرفتنا لم تكن مناسبة لاستضافتهم عدة أيّام. في البداية لم أرغب بإقامة هذا الحفل وأصررت على أن لا نشتري شيئًا، لكنّ حبيب قال: "صحيح أننا في حرب وهناك بعض المشاكل المادية ولكنّ الأوضاع ليست صعبة إلى هذه الدرجة".

 

كنت أقول له: "إنّ كثيرًا من الأمور لا تعني لي شيئًا في مثل هذه الظروف الحرجة".

 

مع ذلك اقتصرنا على شراء محبس بقيمة خمسمئة تومان، مرآة وشمعدان بقيمة ثمانمئة تومان، وفستان. وفي النهاية، لم يتجاوز المبلغ الذي صُرف في المشتريات ومأدبة العرس الثلاثة عشر ألف تومان. بعد ثلاثة أيام، ذهب حبيب إلى آبادان، وتوافقنا على أن يجد بيتًا هناك حتى ألحق به لنبدأ حياتنا.

 

بعد ذهاب حبيب سألتني زوجة خالي: ألست حزينة؟

- كلا، ولماذا أكون كذلك؟

- الآن لن تفهمي ما أعنيه، ولكن بعد مدّة من الزمن ستعرفين بأن البعد صعب.

- كلا، البعد لأجل الله له لذة خاصة.

 

401

 


375

الفصل الخامس والثلاثون

بعد مضي شهر على زواجنا، قررت أنا وأخي محسن الذهاب إلى آبادان للمشاركة في مراسم عشرة الفجر. في الحادي عشر من بهمن حضرنا في برشين هتل[1] مكان إقامة الحفل، حيث قام بهروز مرادي[2] خطيبًا. كان بيانه بليغًا وفصيحًا يبهر سامعيه. في ذلك اليوم تكلّم عن المنافقين والمخالفين والذين وقفوا بوجه خط الثورة...

 

طالت مراسم تلك الليلة. أنشد حسام الدين سراج مع فرقته أنشودته الجميلة "المدينة، مدينة الدم" وعندما كان يقول:

البيت دم والشارع دم

العين والقلب كلاهما دم

وراء الدشمة بقي بلا رأس جسد أخي الطاهر

وبقيت عين الأخت وعين الأم على الباب تنتظرك أيّها البطل..

 

كنت أشعر بحزن تلك الأبيات ووجعها في أعماق قلبي وتنهمر دموعي. كما أنشد "كويتي بور" ندبة "رحل الأحباب غرباء عن هذه الديار".

 

بعد إصابتي، لم أعد أستطيع الجلوس ولا الوقوف لمدة طويلة. لذلك ساءت حالي كثيرًا في ذلك الحفل ولم أستطع الوقوف أبدًا. أخذت كليتاي تؤلماني بشدّة. لم أكن أعرف أحدًا بين الحاضرات. لم أعرف ماذا أفعل. فجأة وبعد انتهاء المراسم رأيت طاهرة بندري زاده[3]. كنا صديقتين من


 


[1]  برشين هتل مقر الحرس الثوري لخرمشهر بعد سقوط المدينة. هذا الفندق كان على طريق آبادان خرمشهر.

[2]  بهروز مرادي من العناصر القديرة والفعالة في الحرس الثوري لخرمشهر. كان يدرس في كليّة الفنون. صور بهروز عن وقائع الحرب وكتاباته تسلّط الضوء على شخصيته إلى حد ما. استشهد في شلمشة في العام 1367 ودفن في جنة آباد "خرّمشهر".

[3]  كانت صديقتي في أيام الابتدائية، وأخواتها أعضاء في الحرس الثوري لخرمشهر.

 

402


376

الفصل الخامس والثلاثون

أيام المدرسة، لكننا كنّا نختلف كثيرًا وننزعج من بعضنا البعض إلّا أننا لم نكن نتخاصم أبدًا. ناديت طاهرة، فتعجّبت لرؤيتي وعندما لاحظت حالي سألتني: "ماذا حدث"؟.

- أشعر بأنّ أضلعي أصبحت كالحجارة، ولا أستطيع أن أتحرك من مكاني.

 

ذهبت طاهرة وأخبرت أختين أخريين ثمّ اتّصلت بالإسعاف، فترجّل منها مسعفان يحملان نقّالة، وحملاني إلى سيّارة الإسعاف وتوجّها بي مباشرة إلى مستشفى شركة النفط..

 

كانت تلك المرة الثانية التي أدخل فيها تلك المستشفى بعد شهادة علي، عادت ذكريات ليلة شهادته إلى ذهني. شخّص الأطبّاء أنّي مصابة بالتهاب حادّ في كليتَيّ. تعجّبت وقلت: "لا بدّ أنّ هناك خطأ ما. لم يسبق لي أن عانيت من ألم في كليتَيّ!".

 

تقرّر إجراء صورة أشعّة لكليتيّ. أخذوني إلى قسم الأشعة وقاموا بالإجراءات اللازمة. وبعد نصف ساعة قالوا لي: "ثمّة جسم غريب في الصورة، ويلزم إعادتها".

 

وبعد إعادة الصورة قالوا الكلام نفسه. تساءلت: "ما هو هذا الجسم الغريب؟ لقد نزعت جميع ثيابي ولبست رداء المستشفى. من الممكن أن يكون على السرير شيء ما".

 

لم يخطر في ذهني أبدًا أنّها تلك الشظية الموجودة في ظهري. ذهبت لإعادة الصورة للمرّة الثالثة فتمدّدت على السرير. وحين نظرت إلى الصورة قلت للممرّضة: "أظنّ أنّ هذا الجسم الغريب هو الشظيّة التي

 

403


377

الفصل الخامس والثلاثون

بقيت في ظهري".

 

بقيت في المستشفى سبعة أو ثمانية أيام أعطوني خلالها حقن "البنسلين" صباحًا وظهرًا ومساءً. لم يعلم محسن ماذا حلّ بي. كنت قد أخبرت حبيب في طهران بأنني سأذهب مع محسن إلى آبادان، لكنّي لم أوفّق لرؤيته لعدّة أيام. كان حبيب مسؤول محور "محرزي"[1]. عندما جاء السيّد "جباربيكي" لعيادتي لم يكن يعرف العلاقة التي تربطني بحبيب، مع ذلك قلت له: "أرجو أن تخبر السيّد حبيب مزعلي بوجودي هنا".

 

في تلك الليلة حضر حبيب لزيارتي واستغرب وجودي في المستشفى فأخبرته بما حصل فأخبر محسن بالأمر. المسكين محسن لم يترك مكانًا إلّا وبحث فيه عنّي. بعد خروجي من المستشفى اصطحبني حبيب برفقة أخي محسن إلى البيت الذي تسلّمه من الحرس. كان مؤلّفًا من طابقين ويقع في أحمد آباد على رأس شارع. وكان يسكن البيت عنصران من الحرس مع زوجتيهما. نظّف حبيب البيت قبل مجيئنا ووضع فيه بعض الوسائل التي تسلّمها من الحرس كهدية زواج. وهي عبارة عن بعض البطّانيّات، موقد غاز صغير، أربعة صحون ومعالق، طنجرتين وقنديل.

 

ذكر حبيب أنّ صاحب البيت غادر المكان منذ سنة ونصف ولم يسكنه أحد قبل أن يتسلّمه حبيب، والسيّد مظفر موسوي ورحيم إقبال بور من الحرس. كان لذلك البيت باحة صغيرة. بعد عبور الباحة ودخول المبنى ممرّ ضيّق يؤدّي إلى صالة مربّعة الشكل. على يمينها غرفتان متداخلتان وعلى شمالها غرفة ثالثة ومطبخ صغير نسبيًّا وحمّام. يلي ذلك سلّم يصعد إلى الطابق الثاني. كانت أرض الغرف مغطّاة بالموكيت. وقد سكن


 


[1]  محرزي، المنطقة الجنوبيّة الشرقيّة لخرّمشهر، وكانت بأيدي شبابنا.

 

404


378

الفصل الخامس والثلاثون

كلّ زوجين منّا في إحدى تلك الغرف.

 

بقيت في أحمد آباد. أحسست بالغربة لأنني ابتعدت عن أهلي. كان حبيب يأتي إلى البيت مرة في الأسبوع، فيحضر ظهرًا ويغادر في صباح اليوم التالي. أمّا السيّدان موسوي وإقبال بور فكانا يأتيان بشكل دائم، أو يحضر أحدهما على الأقلّ في حالات الاستنفار. وجودي في آبادان أحيا في ذاكرتي جميع أحداث أيام المقاومة في خرمشهر، فعادت معها جميع أحزاني وأشجاني. اشتقت إلى "دا" كثيرًا ووددت لو أكون بقربها. عندما يأتي حبيب كنت أفرح كثيرًا وأنسى تلك الأفكار والأوهام. حين يغادر كنت أتظاهر بالفرح وعدم الانزعاج لذهابه، لكنني في الواقع لم أكن كذلك. كان داخلي يشتعل جرّاء أزماتي الروحية من جهة وخوفي من أن أفقد حبيب من جهة أخرى. كنت أواسي نفسي قائلةً إنّ كلّ من يوجد هنا مهدّد بالخطر في أيّ لحظة. إذًا يجب أن أكون حاضرة لأيّ طارئ. لذلك كنت أودّعه وداعًا لا لقاء بعده، وأقول له: "أينما تكُن طمئنّي عن سلامتك".

 

حين كان يغلق الباب، كنت أقف خلفه حتى إذا ما ركب السيارة وأدارها وسمعتُ صوتها كنت أفتح الباب وأظلّ أنظر إليه حتى يختفي من أمام ناظري.

 

كانت السيارة تتجّه نحو مركز شرطة آبادان السابع ومن ثم تنعطف نحو الميدان المؤدّي إلى فندق "برشن". شعوري بأنني قد لا أراه مجدّدًا، كان يدفعني لأن أطيل النظر في حبيب لئلّا أندم لاحقًا. عرفت فيما بعد بأنه كان يراني في مرآة السيارة، ولكنّه لم يبُح لي بذلك.

 

تقرّبت من جارتَيّ في وقت قصير جدًّا هربًا من بحر أفكاري وأوهامي.

 

405

 


379

الفصل الخامس والثلاثون

كنا نذهب معًا للتسوّق ونطبخ ونأكل معًا أيضًا. كان في باحة البيت حديقة صغيرة، فاشترينا من العطار بذور أزهار وزرعناها فيها. ونظرًا لحبّي الشديد للورود والنباتات كنت أجلس دائمًا قرب تلك الحديقة وأتذكر الأيام الماضية عندما زرع أبي في حديقة منزلنا زهرة "شاه بسند"، فكنا نمازحه قائلين: "أنت تزرع هذه الوردة لأنّ اسم "دا" شاه بسند".

 

كان لدى السيّدة إقبال بور مذياع صغير، نستمع من خلاله إلى نشرات الأخبار وغيرها من البرامج. وبعد مدة أحضر السيّد موسوي تلفازًا. زارتنا إحدى السيّدات مرّة، وتدعى سكينة حورسي، وكانت على معرفة سابقة بالسيّدة موسوي. كان عمر مهدي، طفل السيّدة حورسي في ذلك الوقت ستة أشهر. فرحنا بمهدي كثيرًا في تلك الظروف الحربية خاصة أنّه لم يكن لدى أحدنا أطفال.

 

كنا نواجه مشكلة كبيرة في البيت وهي وجود الفئران فيه، لأنّ في الزقاق قرب البيت ساقية تسكنها الفئران وتتكاثر فيها، ولذا تتردّد بكلّ سهولة في البيوت والأزقّة. كما إنّها عشّشت في أكياس الرمل التي ستروا بها النوافذ حماية لها من عصف انفجارات القذائف. الأسوأ من ذلك أنّها كانت تدخل بكلّ سهولة من خلال أنابيب المياه الممدودة في البيت، فتخرق الأرض وتسرح هنا وهناك كيفما تشاء. كلّما كنّا نخرج من الغرفة نراها تهرب في كلّ اتّجاه.

 

كنت أخاف كثيرًا من تلك الفئران التي كان حجمها كبيرًا جدًّا لدرجة أنّ القطط تذعر منها! في أحد الأيام دخلت قطّة إلى باحة البيت، فهجمت عليها الفئران هجومًا أرغمتها معه على أن تتسلّق الحائط وتلوذ بالفرار خائفة مولولة! لقد قضت الفئران على جميع المواد الغذائيّة الموجودة

 

406

 


380

الفصل الخامس والثلاثون

في البيت، حتّى إنّها قضمت البصل والبطاطا فكنّا نرى آثار أكلها على السلالم. كنت أفتح باب غرفتي فأرى أكثر من عشرة فئران ضخمة تقفز مسرعة لتختبئ في زاوية من الزوايا. وكلّما وقع نظري عليها صرخت بشكل لا إراديّ وأغلقت باب الغرفة سريعًا. كنت أسمع صوت قضمها لأكياس الرمل من خلف النافذة، فيساورني الخوف من أن تتمكّن الفئران من قضم إطار النافذة والدخول إلى الغرفة. حاولنا جاهدين أن نتخلّص منها، لكن من دون جدوى، إذ لم يكن لدينا مبيد للفئران.

 

حاول حبيب والسيّد إقبال بور باستمرار قتل الفئران لدى حضورهما وأغلقا معابر المياه، لكنّها راحت تقضم كل شيء. ولحسن حظي بأنّ الفئران لا تسبّب لجارتيّ أي رعب، وخاصة السيّدة إقبال بور.

 

في ظهر أحد الأيام جاء حبيب. فتحت له الباب فرأيت الدماء تغطّيه من رأسه إلى أسفل قدميه. قلقت كثيرًا، فقال لي: "أنا بخير. لقد أصيب أحد الشبّان بشظايا فأوصلته إلى المستشفى".

 

لكنّ حبيب نفسه تأثّر بعصف ذلك الانفجار. أمّا الجريح وهو إياد برام زاده فقد أدّت الشظايا إلى فقد بصره. رجع حبيب أكثر من مرّة مغطّى بالدماء؛ إمّا بسبب شهادة أحد إخوانه في حجره، أو بسبب إصابة أحدهم بجروح، فيقوم بنقله إلى المستشفى. وبالرغم من أننا كنا شاكرين الله على وجودنا قرب أزواجنا ولو لوقت قصير، إلّا أنّ ظروف الحياة تلك لم تكن سهلة على الإطلاق.

 

كان المنافقون وأفراد الطابور الخامس يسبّبون الإزعاج والأذى للعائلات، لذلك اتّفقنا على وضع رموز وعلامات خاصّة بكلّ من الرجال الثلاثة بحيث تعرف إحدانا متى تفتح الباب لزوجها؛ السيّد إقبال بور

 

407

 


381

الفصل الخامس والثلاثون

يرنّ الجرس ثلاثًا، السيّد موسوي يطرق مرّتين على الباب، فيما يطلق حبيب بوق السيارة ويرن الجرس مرّة واحدة. وكانت كلّ واحدة منّا تفتح لزوجها الباب بعد سماع الرمز الخاصّ به. بعد مدة غيّرنا تلك الرموز للاحتياط. أحضر حبيب إلى البيت سلاح G3، واصطحبنا الرجال يومًا إلى ورشة تصليح سيارات الحرس ليدربونا على الرماية. فأعطونا السلاح وقالوا لنا: "افترضن أنّ العدو أمامكن وعليكنّ أن تطلقن الرصاص نحوه".

 

قررنا أن نجلس الواحدة تلو الأخرى ويمسك أزواجنا بأكتافنا لكي لا تدفعنا قوّة الطلقة إلى الخلف. جلسنا الواحدة تلو الأخرى وبدأنا بالرماية. صوّبتُ البندقيّة نحو الحائط المقابل بينما أمسك حبيب بكتفيّ وبدأت أطلق النار, فاشتعل الحائط الذي يظهر كأنّه قد دُهن بالقطران سابقًا جرّاء إطلاق النار، سارع الرجال إلى إطفاء الحريق. قال لي حبيب: "أظننتِ أنّك تواجهين العراقيين؟ إنّ هذا الحائط يعود لبيت مال المسلمين!".

 

ونظرًا لثقل الـG3 فقد أحضر الرجال بندقية "كلاشينكوف" ووضعوها في البيت. منذ ذلك الحين كلّما طرق الباب حملت إحدانا السلاح وجلست أمام باب الغرفة المقابلة للباحة، فتسأل الأخرى عن الطارق ثم تفتح الباب بهدوء.

في إحدى المرات لم يكن أحد من الرجال في البيت، طُرق الباب فسألنا: "من الطارق"؟.

 

أجاب أحدهم: "افتحوا الباب، ثمة مشكلة في التيار الكهربائي لبيتكم".

- لا يوجد مشكلة في التيار الكهربائي.

- بلى، هناك عطل كهربائي في المنطقة.

 

408

 


382

الفصل الخامس والثلاثون

رغم أن أزواجنا كانوا خارج البيت إلّا أننا قلنا له: "انتظر حتى نوقظ أزواجنا".

- لا، لا داعي لذلك. أطفئن مصباح الممر وسنصلح السلك من الخارج.

 

قلنا له ثانية: "يمكننا أن نوقظهم إذا لزم الأمر".

 

لكنّ أحدًا لم يجبنا بعد ذلك! وتكرّرت حوادث مماثلة قام بها المنافقون في تلك الأيام. هذا بالنسبة للعدو الداخلي، وأمّا العدو الآخر فما برحت المدينة تتعرّض لنيران مدافعه وقذائفه. اعتدنا على القصف الجوي لطائرات العدو وألفنا تلك الأصوات بحيث كنّا نشعر بالوحشة إذا ما انقطعت لبعض الوقت.

 

كانت المناطق المأهولة بالسكّان أكثر عرضة للقصف الجوي للعدو وقذائف مدفعيّته بسبب المعلومات التي كان المنافقون يعطونها للعراقيّين. لكن، مع مرور الوقت وبعدما عادت الأوضاع إلى شكلها الطبيعي بدأ الناس يعودون إلى المدينة. عندما ذهبت إلى آبادان لأول مرة كانت السوق خالية من أيّ حركة، فيما بعد عادت النساء العربيّات لبيع الحليب واللبن اللذين تنتجهما أبقارهنّ، إضافة إلى وجود خبّاز ومطعم يقدّم الحساء والكباب المشوي. ذهبت مرة مع السيّدة إقبال بور إلى السوق فرأينا صاحب الدكان يبيع الزلابيا فطلبنا منه بفرح أن يعطينا كيلو منها. لم يكن لدى البائع علبة فأخذ الزلابيا بيده ووضعها داخل كيس من النايلون. وعندما رأت السيّدة إقبال بور ذلك المنظر قالت له: "هل تمسكها بيدك"؟.

 

- بماذا أمسكها إذًا؟ برجلي!

 

409

 


383

الفصل الخامس والثلاثون

فقالت السيّدة إقبال بور: "ولكن يدك غير نظيفة".

- ومن أين آتي بقفازين؟ إن لم يعجبك ذلك فلا تشتري".

 

إحدى المشاكل التي عانينا منها هناك أيضًا شحّ المياه أو انقطاعها. فلم نكن نستطيع في كثير من الأحيان الاستحمام بواسطة صنبور المياه، بل كان علينا أن نسخّن المياه وندخلها معنا إلى الحمام. بالنسبة لي كان دخول الحمام مرعبًا جدًّا؛ لأنه كان مليئًا بالفئران التي قد تتسلّق على الإنسان! بسبب خوفي الشديد من الفئران، وبالرغم من الآلام التي أعانيها من كليتيّ، كنت أقف في الباحة وأغسل نفسي من فوق ثيابي بالماء البارد. في أيّام الشتاء كنت أشعر بالبرد ينخر عظامي، لكنّي كنت مستعدّة أن أستحم بهذا الشكل ولا أدخل ذلك الحمّام وأستعمل الماء الساخن. كنت أشعر بآلام في جسمي كلّه، إذ أُصبتُ بحساسيّة جلديّة لكثرة استحمامي بالماء البارد، وتشققّت يداي وانبعث الدم منهما.

 

في الثاني عشر من فروردين من العام 1361 (الأول من نيسان 1982)، دعا الحرس الثوري في "خرّمشهر" جميع عوائل الشهداء من أهالي "خرّمشهر" إلى مدينة آبادان لإحياء مراسم يوم الجمهورية الإسلامية. أقيم الحفل في بيت الشهيد في آبادان، وهو عبارة عن مبنى مؤلّف من طابقين خصّص لاستضافة العوائل أيضًا. حضر الكثير من العوائل إلى ذلك الحفل. وهناك التقيت "دا" بعد فراق عدة أشهر. وما إن وقع نظري عليها حتى ركضت نحوها وتعانقنا. صارت تدعو لي، فوضعت رأسي في حضنها وأخذت أبكي ولم أستطع أن أتكلّم لشدّة تأثّري.

 

بعدما جلست عدّة ساعات مع "دا" أردت أن أتهيّأ للوضوء وأداء

 

410

 


384

الفصل الخامس والثلاثون

صلاتي المغرب والعشاء، وإذا بي أسمع أنّ إحدى عوائل الشهداء التي فقدت الأب وأحد الأبناء فقدت اليوم عزيزًا آخر، لكنّهم لم يذكروا اسم تلك العائلة.

 

صُدمت لسماعي هذا الكلام. نظرت إلى "دا" وقلت في نفسي: "إلهي! كيف سأتحمل هذه المرّة! ماذا سأفعل مع أمي، ماذا سأقول لها"؟!.

 

كان محسن حينها مع حبيب في الجبهة. توقّعت أنّ أحدهما قد استشهد. أنهيت أداء الصلاة ثمّ توسّلت بالقرآن وفتحت المصحف فكانت آية الكرسي. أخذت أتلو القرآن، ثمّ تضرّعت إلى الله وسألته أن يهبني الصبر والقوّة لأخبر "دا". جاءت الأخوات في الحرس وصرن يواسينني وخاصة "سيما بندري زاده"، أمّا أنا فحاولت أن أسيطر على نفسي. وُضعت مائدة العشاء فجلست قرب أمي وشرعنا بالأكل. أخذت الفتيات ينظرن إليّ ولكنّي لم ألتفت إليهنّ أبدًا. كنت غارقة في بحر من الأفكار. كنتُ أطعم أمي وأعانقها وأقبّلها مسرورة برؤيتها، لكنّ داخلي كان يضجّ بالتضرّع إلى الله بأن يساعدني.

 

مضت تلك الليلة وما من خبر يقين. في اليوم التالي علمنا بأن الشهيد كان من عائلة حسيني، لكنّه ليس من أقربائنا. عندما تبيّن عدم صحة الخبر جاءت إليّ سيما بندري زاده وقالت: "كنت أراقب جميع تصرفاتك بالأمس، يا لك من مقاومة وصابرة!!".

 

قلت لها: "أنت لا تعلمين ما كان يجري في داخلي، لقد توسّلت بالسيّدة زينب عليها السلام".

 

بعد يومين قرّروا أخذ عوائل الشهداء إلى مكان آخر، لكنّي وبعض

 

411

 


385

الفصل الخامس والثلاثون

الأخوات لم نذهب. بعد صلاة المغرب والعشاء طُرق الباب فنادوني. نزلت إلى الأسفل، رأيت حبيب والدم يغطي جسمه بالكامل. سألته: "هل جرحت؟".

- كلا. لم أجرح، أحد المجاهدين قد جرح.

- لكنّ جسمك مغطى بالدماء!

- كنت أحمله لكنّه استشهد قبل وصولنا إلى المستشفى. أتيت لأقول إنّ محسن معي، لا تقلقي عليه. وقعت اشتباكات عنيفة جدًّا بالأمس وقصفت المنطقة بشدّة، استشهد اثنان من شبابنا وجرح عدد آخر.

 

بعد انتهاء مراسم الحرس الثوري، بقيت "دا" عندنا في أحمد آباد لعدة أيام. أخبرها حبيب بأنّي سأصبح أمًا، ففرحت كثيرًا وقبلتني عدّة مرات وقالت: "بقاؤك هنا تحت القصف غير مناسب".

 

قلت لها: "لقد تعوّدت على هذا المكان، وأنا أحبه ولا أستطيع الابتعاد عنه".

 

وما برحت تصرّ على عدم بقائي هنا وأنا أرفض الخروج من آبادان. اغتنمت فرصة وجود أمي خلال تلك الفترة لأستحمّ داخل الحمام. حيث كانت "دا" تجلس خلف الباب تراقب تحرّكات الفئران لئلّا تدخل الحمام. بقيت "دا" عندنا لأسبوع ثمّ غادرت يرافقها محسن. عند الوداع شعرت كأنّ قطعة من وجودي ترحل معها وأنّي سأفتقدها كثيرًا.

 

رغم الإمكانيّات الضئيلة وشحّ المياه وانقطاع التيّار الكهربائيّ وندرة وسائل الاتّصال وغيرها من المصاعب، إلّا أنّ الناس كانوا يعيشون حياتهم بشكل طبيعي. كانوا يحتفلون بذكرى انتصار الثورة في الثاني والعشرين

 

412

 


386

الفصل الخامس والثلاثون

من بهمن من خلال إقامة المسيرات تحت نيران الرصاص والقذائف، محاولين التغلّب على الصعاب. في تلك الظروف الخطرة التي يفكر فيها المرء بإنقاذ نفسه، لم يبخل الكثيرون في تقديم أرواحهم وأموالهم من أجل الآخرين.

 

في بداية حياتنا الزوجيّة، كان حبيب يشتري حاجات البيت من حين إلى آخر. لكن لم يكن كل شيء متوافرًا في المنطقة. اشتهيت الخيار ذات مرّة، ذهبت أنا وحبيب إلى سوق "أميري" وشممت رائحة الخيار. طلبت من حبيب أن يشتري لي بعضًا منه، فقال لي: "لا أرى أثرًا للخيار؟ من أين علمتِ أنّ في السوق خيارًا؟؟"

- إنّ رائحته تفوح في الأرجاء بشدّة.

 

جُلنا في السوق حتى عرفنا مكان الخيار، حيث أخفى البائع صناديق الخيار تحت الصناديق الأخرى. فسأله حبيب: "هل لديك خيار؟".

 

أجابه البائع وهو يحمل كيسًا من الخيار محاولًا إظهار نفسه أنّه لا يكذب: "كان لدينا وقد نفد. هذا آخر كيس".

- ألا يمكنك أن تعطينا خيارتين من هذا الكيس؟

- إن هذا الخيار لأحد الأشخاص، أوصاني أن أضعه له جانبًا.

 

غير أنّه ما لبث أن أخرج صندوق الخيار ووزن لنا بعضًا منه وهو يقول: "صدّقاني، لقد قلت لكما إنّ الخيار قد نفد؛ لأنّ الكثيرين أوصوني بأن أترك لهم بعضًا منه. ولا أريد أن أُحرج أمام الناس لذلك أخفيت الصناديق".

 

413

 


387

الفصل الخامس والثلاثون

عندما اشترينا الخيار لم أصبر حتى أصل إلى البيت، فشرعت بالأكل مباشرة. لمّا وصلنا إلى البيت كنت قد قضيت على نصف الكمّية!

 

بدأت عمليات الفتح المبين[1]. كنت وحبيب في طريق العودة من طهران إلى آبادان. حين وصلت الحافلة إلى مشارف مدينة "أنديمشك" توقّف السائق لأداء صلاة الصبح. في تلك اللحظة سمعت حبيب يتكلّم في نومه قائلًا: "محمد، محمد...".

 

فأيقظته وسألته: "ماذا هناك؟ من هو محمد؟ نحن في الحافلة".

 

استيقظ حبيب وقال: "لقد رأيت المجاهدين في المنام. رأيت بأنني ومحمد جهان آرا وأكثر الشباب الذين استشهدوا جالسين في غرفة نمزح ونضحك. وكنت أزعج المجاهدين، فقال لي محمد جهان آرا وهو جالس وراء الطاولة: "لقد جئت لاصطحاب الشباب معي وإذا لم تكفّ عن إيذائهم فلن أصطحبك معي". ثم نظرت إلى السندويشات والشراب الموجود على الطاولة وأشرت إليها قائلًا: "أعطني الشراب". فقال محمد: "خذ سندويشًا". فتناولت أحدها وأكملت مزاحي مع الشباب حتى أخرجوني وفرهاد ملايي[2] من الغرفة فيما بقي الآخرون بداخلها".

 

ضحكتُ وقلت لحبيب: "كان عليك أن تتناول الشراب؛ لأنه شراب الشهادة!".

 

وصلنا إلى آبادان. ونظرًا لقربنا من منطقة العمليّات الحربيّة قيل


 


[1]  تم تنفيذ هذه العمليات في تاريخ 2/1/1361 (24/3/1982) بنداء "يا زهراء" في منطقة غرب شوشدزفول. في تلك العمليات تمّ تحرير مناطق واسعة مثل مرتفعات الرادار ومواقع دزفول، سهل عباس، مرتفعات ميشداغ وغيرها.

[2]  فرهاد ملايي أحد عناصر الحرس الثوري في "خرّمشهر".

 

414


388

الفصل الخامس والثلاثون

لحبيب إنّه ما كان عليه أن يأتي بي؛ لذا لم أبقَ في آبادان أكثر من أسبوعين واضطررت أن أعود إلى طهران. وفي أحد الأيام حضر حارس مبنى كوشك أمام غرفتنا وقال لي إنّ هناك من يريدني على الهاتف.

 

نزلت إلى الأسفل وإذا بحبيب على الهاتف، فاستغربت من اتّصاله لعلمي بانقطاع الاتصالات أثناء العمليات. سألته: "أين أنت؟".

- أنا في طهران.

- كيف أتيت؟

- أنا لم آتِ بنفسي، لقد أحضروني.

 

تفاجأت وقلت: "ماذا تعني؟".

- أعني رجعت أفقيًّا. لقد كان للسندويش الذي أعطانيه محمد تأثيرٌ فعّالٌ!

 

ولأنّ حبيب لم يكن يعرف طهران، فإنّه لمّا قيل له إنّهم سيأخذونه إلى مستشفى "دادكستري"[1] اعتقد أنّه بعيد عن بيتنا فطلب منهم أن يأخذوه إلى مستشفى آخر. فأخذوه إلى مستشفى "مولوي".

 

ذهبت مع خالي حسيني و"دا" إلى المستشفى. وُضع حبيب مع سبعة أو ثمانية جرحى في غرفة كبيرة. حين وصلنا إلى هناك كانوا يؤدّون الصلاة، انتظرنا حتى انتهوا. كان وضع حبيب جيدًا بحسب الظاهر. لكنّ الجهة اليمنى من جسمه لا سيّما رجله كانت مليئة بالشظايا. قلت لحبيب: "هذا المستشفى بعيد جدًّا وطريقه مزعج".


 


[1]  تقع هذه المستشفى في شارع بارس، قرب ميدان فردوسي.

 

415


389

الفصل الخامس والثلاثون

- المكان هنا أفضل. لقد أرادوا أن يأخذوني إلى مستشفى "دادكستري"، وهو أبعد من هنا، ولكني لم أقبل.

- ماذا فعلت، ذلك المستشفى قريب جدًّا من بيتنا.

 

أصّر حبيب على أن يخرج من المستشفى. تكلّمنا مع طبيبه فقال: "هذا غير ممكن. هناك احتمال بأن تلتهب جروحه، كما إنّ الشظايا قريبة من العصب. وعليه أن يبقى في المستشفى".

 

في اليوم التالي، ذهبنا إلى المستشفى فقال حبيب إنّه لا يستطيع أن يتحمّل البقاء هناك. لكنّ الطبيب قال إنّ عليه أن يبقى ليخرجوا تلك الشظايا، وإلّا فمن الممكن أن تنتقل الشظايا مع الدم إلى الأعلى. في النهاية، وقّع حبيب تعهّدًا ومضاه حتى استطعنا أن نأخذه إلى البيت. في البيت تولّيت تضميد جروحه. وبينما كنت أغسل له الجرح وأضمده قال لي حبيب: "أخرجي تلك الشظايا بالملقط قبل أن تسبّب مشكلة ما".

- لا أستطيع.

 

لم أكن أجيد سوى إعطاء الحقن وخياطة الجروح، ولم يسبق لي أن قمت بعملية جراحيّة. وإن أخرجت شظية ما في السابق فلأنّها كانت سطحيّة، وكان ذلك تحت إشراف الأطباء والمتخصّصين، لكنّ حبيب ظلّ مصرًّا على أن أخرج الشظايا بنفسي. إخراج الشظايا السطحية كان سهلًا، أما الشظايا العميقة فقد أتعبتني. لا أدري لعلّ السبب هو الحساسيّة المفرطة التي رافقتني في شهور حملي الأخيرة أو لأنّ حبيب هو زوجي! حين أدخلت الملقط لإخراج الشظايا أخذ كلّ جسدي يرتجف وصرت أبكي، ثمّ أخرجت الشظايا وخطت الجروح وضمّدتها. بقي حبيب في

 

416

 


390

الفصل الخامس والثلاثون

بيتنا لمدة أسبوعين تقريبًا ثم رجع إلى الجبهة.

 

بعد انتهاء العمليات عدت إلى آبادان وأكملت حياتي في أحمد آباد. بعد مدة، أخذ السيّد موسوي والسيّد إقبال بور إجازة من عملهما واصطحبا زوجتيهما معهما. بعد ذهابهما أصبحت وحيدة. بما أنّ حبيب كان في أغلب الأوقات في خطوط المواجهات فقد تكلّم مع أحد أصحابه ويدعى "السيّد مصبوبي" لكي أذهب إلى بيتهم وأبقى مع زوجته. بقيت عندهم فترة، كان حبيب يأتي خلالها مرّة في الأسبوع، فنذهب إلى بيتنا ثمّ أعود في اليوم التالي إلى بيت صديقه.

 

خلال تلك الفترة، حصلت حادثة جعلتني أكتشف أنّ حبيب لا يرى جيدًا. فقد ضعف بصره نتيجة قيادة السيّارة في المنطقة الحربيّة بلا ضوء أثناء الليل. سألته: "كأنّ نظرك أصبح ضعيفًا!".

- كلا، إنّ نظري ممتاز. إنني بحمد الله أقود السيّارة في الظلام بشكل جيّد.

 

في تلك الأثناء أحسست بأنّه لا يرى المستديرة أمامنا لأنه لم يخفّف سرعته أو يغيّر اتّجاهه. قلت له: "انتبه، سنصطدم بالحافة!".

- كلا، لم نصل إلى المستديرة بعد.

 

لم يكد ينهي كلامه حتى صارت مقدّمة السيّارة فوق الحافة! قلت له: "يبدو أنّ المستديرة تقدّمت إلى الأمام!".

 

في إحدى المرّات عدنا إلى البيت فرأينا أنّ قذيفة من عيار مئتين وثلاثين أو هاون من عيار مئة وعشرين -لا أذكر بالضبط- قد سقطت على البيت، فانهار قسم كبير من الطابق الثاني وتضرّر سقف الطابق

 

417

 


391

الفصل الخامس والثلاثون

الأول. كل شيء كان مبعثرًا ومغطّىً بالتراب والغبار. لم يعد بالإمكان العيش هناك، فاضطررنا للخروج من ذلك البيت.

 

ذهبت السيّدتان موسوي وإقبال بور إلى الأهواز وبقيت أنا في آبادان. في محلّة "بريم آبادان" أرض واسعة قفراء بُنيت عليها بيوت موظفي الراديو والتلفاز في آبادان. هذه البيوت عبارة عن سبع عشرة شقة "دوبلكس"، اتّصلت كلّ شقّتين منها ببعضهما البعض. أكبر تلك الشقق كانت على الظاهر للمدير العام للإذاعة والتلفاز في آبادان.

 

بُنيت البيوت بحيث يحاذي ظهر أحدها ظهر الآخر فشكّلت في وسطها مثلّثًا فارغًا. وكان لكلّ بيت ثلاثة أبواب خارجيّة وشرفة كبيرة مرتفعة عن سطح الأرض، تحيط بها أحواض صغيرة وفي وسطها طاولة وكراسٍ. أمّا الأرض المحيطة بالبيوت فكانت مغطّاة بالعشب الأخضر، فيها حديقة كبيرة مجهزّة بألعاب الأطفال. وقد زرعت أشجار سرو لفصل البيوت عن بعضها البعض وحفظ حرماتها. وتفرّعت من الشارع الأصلي طرق ضيّقة تمرّ بين السرو والعشب الأخضر وتؤدّي إلى تلك البيوت. عمومًا، إنّ بيوت موظّفي الإذاعة والتلفاز كانت مبنيّة على الطراز الإنكليزي. أمّا من الداخل فكان الطابق الأول من كل شقّة عبارة عن مطبخ وبهو وغرفة استقبال وحمّام. ولغرفة الاستقبال باب يؤدّي إلى الشرفة التي تتّصل بالمرج الأخضر عبر ثلاث درجات. في الطابق الثاني، غرفة نوم يليها ممرّ على هيئة جسر يصل الغرفة بغرفة مقابلة وحمّام. عندما بدأت الحرب خرج السكّان من البيوت وحملوا معهم أغراضهم مخلّفين وراءهم الأثاث من الأحجام الكبيرة.

 

تقرّر أن نحضر أغراضنا إلى إحدى تلك الشقق. عندما وصلنا كان

 

418

 


392

الفصل الخامس والثلاثون

الأثاث متّسخًا جدًّا. لم يكن للفئران أثر في هذا البيت نظرًا لعدم وجود ما تأكله ولكنّه كان مملوءًا بالسّحالي. حين رأيت السحالي ارتعبت وقفزت على الطاولة الموجودة وسط البهو بانتظار أن يقتلها حبيب. قضى حبيب على سبع أو ثمانٍ منها.

 

بعد جهد جهيد نظّفنا البيت. كان للبيت نوافذ كثيرة تكسّر زجاجها بالكامل جرّاء عصف الانفجارات. وضع حبيب مكان الزجاج قطعًا من النايلون الأسود السميك للاستتار واتّقاء الرياح والعواصف. كما كان الباب الرئيسي المؤدّي إلى الشرفة مخلوعًا من مكانه بالكامل بسبب سقوط قذيفة عليه، فأغلقنا إطار الباب بقطعة كبيرة من النايلون وبطانية وثبّتناهما بمسامير، وصرنا نتردّد من الباب الموجود في المطبخ. كان التيار الكهربائيّ يُقطع بين الحين والآخر جرّاء إصابة الأسلاك بالقذائف فيصلحون الأعطال، لكن سرعان ما يتكرّر الأمر...

 

أمّا المياه فكانت تصل بشكل ضعيف من الحنفيّة خارج المبنى. فإذا أردنا غسل بعض الأوعية لزم الأمر ساعة من الوقت نتيجة الضخّ الضعيف للماء، خصوصًا عند استخدام سكّان البيت المجاور المياه! بعد مدة من الزمن قطعت هذه المياه الشحيحة أيضًا بسبب انقطاعها من المصدر الأصلي حسب ما قيل. عندئذ أحضر الحرس الثوري لكلّ بيت خزّانًا للمياه، فكانت شاحنة تعبئة المياه تحضر مرّتين أو أكثر كلّ أسبوع وتملأها. ثم وصلوا أنابيب نقل المياه في البيت إلى ذلك الخزّان فجرت المياه في الحنفيات. غير أنّ حفرة تصريف المياه في مطبخ بيتنا كانت مسدودة ولم يكن لدينا وسيلة لفتحها ما يؤدّي إلى فيضان المياه فيها فتملأ رائحتها المتعفّنة أرجاء البيت. بالإضافة إلى ذلك كلّه، كان الغاز

 

419

 


393

الفصل الخامس والثلاثون

غير صالح للاستعمال ولم يكن لدينا براد. في ظلّ كلّ تلك الأوضاع، لم يكن قد بقي لموعد ولادتي سوى شهرين تقريبًا. وكانت الشمس الحارقة تسطع بدءًا من الثامنة صباحًا فتصل حرارة الجو إلى تسع وخمسين درجة مئويّة، مع ذلك كنت أضطرّ للخروج إلى حديقة البيت لأحضّر الطعام على نار موقد الحطب، فيخاطبني حبيب قائلًا: "لا داعي لأن تجهدي نفسك بهذا الشكل!".

- لقد جئت إلى هنا من دون أن أقوم بأي عمل، دعني على الأقل ألبّي حاجاتك أنت كمجاهد!

 

لم يرضَ حبيب أن أغسل له ثيابه عند مجيئه إلى البيت مرّة كلّ أسبوع، بل بادر هو ليغسل لي ثيابي أيضًا. في المقابل كنت أحاول -رغم المشقّة عليّ- أن أنظّف البيت وأرتّبه في غيابه، لكنّ آلام العمود الفقري كانت تشتدّ أحيانًا بحيث لا أقدر على الحركة! فأشعر وكأنّ إبرة تغرز في نخاعي الشوكيّ. وصل بي الأمر في بعض الأوقات إلى حدّ أنّي صرت أحبو على الأربع وأنا أكنس أرض البيت!

 

كان بيتنا يقع في آخر مجموعة البيوت تلك. في ذلك الحين زاد تردّد المنافقين إلى تلك المنطقة فكانوا يأتون في الليل ويطرقون الأبواب لمعرفة ما إذا كان فيها رجال أم لا! وقد أظهر المنافقون حساسية بالغة بالنسبة لتلك البيوت لعلمهم بسكن عوائل أفراد الحرس فيها. كنت على معرفة سابقة ببعض السيّدات هناك، إمّا لصداقة قديمة ربطتني بهنّ، أو بحكم عمل أزواجنا معًا، فكنّا نزور بعضنا البعض. بعد فترة صادقت جميع السيّدات هناك.

 

من بين جميع تلك الصداقات كان تعرّفي إلى بتول كازروني الأكثر

 

420

 


394

الفصل الخامس والثلاثون

غرابة. ففي أحد الأيام جاءت إلي طاهرة بندري زاده وقالت: "تعالي لنذهب إلى بيت بتول".

- من هي بتول؟

- زوجة صالح موسوي.

- سمعت باسمها، ولكنّي لم أرها.

 

ارتديت عباءتي وذهبنا. كان منزل بتول في الوسط قرب بيت طاهرة. وكنّا في شهر "أرديبهشت" على ما أذكر أثناء القيام بالمراحل التمهيدية لعمليات "بيت المقدس". بينما نحن نمشي وإذا بوابل من القذائف ينهمر وتطايرت الشظايا في كلّ مكان. نظرت وطاهرة من حولنا ونحن نشير إلى الشظايا. فجأة رأينا جواد كارزوني وهو يقف خلف نافذة بيت بتول وقد أخذ يشير إلينا مستاءً أن تنحيا جانبًا، لماذا تقفان في الخارج؟!

 

لم نعر كلامه وحركاته أيّ اهتمام. قالت لي طاهرة: "دعكِ منه. ليقل ما يشاء".

 

عندما طرقنا باب بيت بتول ودخلنا، قال لنا جواد غاضبًا: "هل شبعتما من حياتكما؟ ألا تريان القذائف تسقط من السماء؟".

 

لم نجبه بشيء وذهبنا إلى بتول. عندما وقعت عيناي عليها قلت: "يا إلهي، إنّها الفتاة التي تشاجرت معها".

 

تعود تلك المسألة إلى فترة ما قبل زواجي. ففي أحد أيام شهر محرم ذهبت إلى بيت عائلة السيّد محمدي الذين انتقلوا من كلية الضباط في "طهران نو" إلى مجمع مقابل حديقة "لاله" في شارع "كاركر". كان المجمع عبارة عن قسمين؛ أحدهما خصّص لعوائل الشهداء والآخر

 

421

 


395

الفصل الخامس والثلاثون

للنازحين. ونظرًا لأنّ الجميع من أهالي خوزستان، أقيمت المجالس العاشورائيّة في سرداب ذلك المجمع على الطريقة الخاصة بالخوزستانيين. فكنت أذهب من مبنى "كوشك" إلى هناك للمشاركة في تلك المراسم. في ليلة العاشر من المحرّم، كان هناك سيّدة حسنة الوجه مرحة الطبع تمازح السيّدات من حولها. غضبت بشدّة وقلت مستنكرة: "هل هذه الليلة مناسبة للضحك؟ إنها ليلة عزاء. إذا أردتنّ أن تضحكن فاذهبن إلى بيوتكنّ واضحكن هناك، ودعن الآخرين يحيون مراسم العزاء!".

 

وصل بنا الأمر إلى مسؤولي الانضباط الموجودين في المبنى، سرعان ما حُلّت المسألة هناك. وها أنا ذا الآن أتيت لرؤية تلك المرأة الضاحكة المرحة.

 

كانت بتول في حال يُرثى لها. فقد أتعبتها طفلتها هاجر ذات الستة أشهر. قالت إنّ ابنتها لا تنام فتضطرّ إلى أن تبقى مستيقظة معها. ونظرًا للوهن الشديد الذي أصابها لم تستطع القيام بواجباتها المنزليّة. شعرتُ بالخجل لدى رؤيتها فبادرت إلى إنجاز أعمال بيتها. في ذلك اليوم لم تفصح إحدانا عمّا جرى بيننا سابقًا. ومنذ ذلك الحين تشكّلت علاقة صداقة بيننا. فيما بعد، وبينما كنّا نتحدّث، قالت بتول ذات الشخصية الصريحة والمباشرة: "أتذكرين تلك الليلة؟".

- أجل، سقى الله تلك الأيام.

- لقد كنتِ حادّة جدًّا!

- لكنّك بالغتِ في الضحك والمزاح.

 

في المراحل التالية لعملية بيت المقدس طلب منّي حبيب الذهاب إلى طهران لكنّني رفضت. وبما أنّه كان ملتزمًا بما اشترطته عليه من أن

 

422

 


396

الفصل الخامس والثلاثون

أكون معه دائمًا لم يصرّ على ذهابي، وقال: "كما تشائين، ولكن برأيي من الأفضل لك أن تذهبي".

 

قبل أيام من بدء العملية العسكريّة، جاء إلى بيتنا حسين طائي نجاد زوج أختي ليلى وقال لحبيب: "لماذا لا تزال هنا؟".

- إنّها تصرّ على البقاء.

- ماذا تقصد أنّها تصرّ على البقاء في هذا الوضع، ألا تقول لها شيئًا؟

- لقد حاولت إقناعها بالذهاب، لكنّها لم توافق.

 

فقال لي حسين: "بقاؤك هنا غير مناسب، كما إنّ حبيب قلق عليكِ. لا يستطيع أحد أن يزوركِ. المكان خطير هنا والوضع حرج. أنت الآن لا تحملين مسؤوليّة نفسك فحسب...".

 

وظلّ يتكلّم ويتكلّم وأنا أدافع عن قراري. لكن بما أنّي شعرت بالإحراج منه لم أستطع الإصرار على البقاء. قال حسين: "اذهبي إلى أصفهان وابقي مع أختك ليلى بضعة أيام فهي وحيدة أيضًا، وانتظرا مجيئنا".

 

بعد عدة أيام، ذهبتُ برفقة حسين إلى أصفهان؛ لأنّ حبيب لم يستطع ترك عمله في الجبهة. رأيت ليلى لأوّل مرّة بعد خمسة أشهر، إذ إنّها تزوّجت بعد ثمانية أيام من زواجنا وذهبت إلى أصفهان. أما أنا فلم أستطع البقاء طويلًا عندها، ذهبت بعد عدة أيام إلى طهران وبقيت هناك مضطرة.

 

مع بدء العمليات، صار تردّد الناس إلى تلك المنطقة ممنوعًا وألغيت جوازات المرور خاصّتنا. لم نستطع إرسال رسالة أو إجراء اتصال هاتفي؛ وذلك لانقطاع جميع وسائل الاتصالات في تلك المنطقة بسبب العمليّة

 

423

 


397

الفصل الخامس والثلاثون

العسكريّة. كنا نسأل الجرحى في المستشفيات عن مستجدّات الوضع في المنطقة.

 

وأخيرًا، عند الساعة الثانية من الثالث من شهر خرداد سنة 1361*[1]. أُعلن عن تحرير "خرّمشهر"!

 

من ذا الذي يستطيع أن يدرك شعورنا وأحاسيسنا عند سماع ذلك الخبر الذي ضجّ مبنى كوشك على وقعه؟! أخذ الجميع يتعانقون ويبكون فرحًا. قدّم لنا أهل طهران والجيران التهاني والتبريكات. كان الجميع مسرورًا ولم نعد ندري ماذا نفعل لشدّة فرحنا. خرجنا من المبنى فوجدنا الناس وموظّفي الإدارات قد تركوا وظائفهم ونزلوا إلى الشوارع فرحين بهذا الخبر. ضجّت المدينة بأسرها فرحًا وسادت الاحتفالات كلّ مكان. أوقفنا شاحنة في الشارع وركبنا في الخلف وطلبنا من السائق أن يذهب بنا إلى جماران. لكننا لم نستطع رؤية الإمام الخميني إذ قيل لنا إنّه مجتمع مع مسؤولي الدولة. أصررنا كثيرًا على رؤيته ولكنّهم لم يقبلوا. لم نكن وحدنا، فقد جاء كثيرون ليباركوا للإمام ويشاركوه فرحتهم. رجعنا في الشاحنة نفسها. كأنّ الله أرسل لنا ذلك السائق. جُلنا في شوارع طهران التي ملأها الصخب والضوضاء. أينما وضعنا أقدامنا رأينا الناس يوزّعون الحلوى والعصير. أنار السائقون أضواء سياراتهم وأطلقوا عنان أبواقها. كما رفع كثيرون علم الجمهورية الإسلامية وأخذوا يلوّحون به. في تلك اللحظات مرّت ذكرى الشهداء في أذهاننا. لقد ملأت الضحكات ودموع الفرح الأجواء. كان حدثًا يعجز اللسان عن وصفه.

 

مرّ ذلك اليوم من دون أن تصلنا أيّ أخبار عن منطقة العمليّات. أمّا أنا


 


[1]  * (23 أيار 1982).

 

424


398

الفصل الخامس والثلاثون

فما برحت ألعن نفسي لمجيئي إلى طهران. لماذا لست هناك الآن. وفي أول اتصال لحبيب قلت له إنّي أريد الرجوع إلى آبادان. رجعت مع محسن إلى هناك مباشرة. لم ترجع جميع السيّدات اللواتي يسكنّ بيوت مؤسّسة الإذاعة والتلفاز، لكن الأخوات في الحرس الثوري كنّ حاضرات هناك.

 

استشهد الكثير من شباب "خرّمشهر" في عمليات بيت المقدس؛ غلام رضا وعلي رضا آبكار، عبد الرضا موسوي قائد الحرس الثوري في "خرّمشهر" بعد جهان آرا وإسماعيل خسروي زوج رباب حورسي، والذي وُلدت ابنته "وديعة" بعد عدّة أيّام من شهادته.

 

تسلّم حبيب مسؤولية محور محرزي وقيادة اللواء هناك. في زمان احتلال "خرّمشهر" كان محور محرزي خط المواجهات الأول للقوات الإيرانية مع العراق. معظم القوات والقيادات التي زارت المنطقة تفقّدت محور محرزي، بينهم آية الله الخامنئي والشيخ مهدوي كني. ولأن هذا المحور كان يُعتبر الخط الأمامي قبل تحرير "خرّمشهر" لم يُسمح بدخول غير العسكريين إليه ولا النساء. أصررتُ على حبيب ليأخذني إلى هناك فرفض رفضًا قاطعًا، ولكنّه عندما رأى بأنّي راضية ولو برؤية جادّة آبادان-خرّمشهر، أخذني حتى ما بعد دوار المطار؛ الطريق المؤدّي إلى جزيرة مينو.

 

425

 


399

الفصل السادس والثلاثون

الفصل السادس والثلاثون

 

بما أنّ "خرّمشهر" قد تحرّرت، طلبت من حبيب أن يأخذني في أقرب فرصة إليها. كنت في غاية الشوق لرؤية مدينتي. لم يكن مسموحًا لعموم الناس تفقّد المدينة أو الرجوع إليها بعد. يوم قال لي حبيب: "هيا سنذهب إلى خرّمشهر"، فرحت فرحًا شديدًا، وانتابني شعور لا يوصف. سررت كثيرًا لأنني سأرى مدينتي بعد حوالي سنتين. اعتقدت أنّ "خرّمشهر" لا تزال "خرّمشهر" التي أعرفها. لم أعلم ماذا حدث لها. عندما دخلنا المدينة فوجئت بشدّة. لقد دُمّر الجسر الموجود على النهر والذي يصل شمال المدينة بجنوبها؛ أي منطقة كوت شيخ ومحرزي وجادّة آبادان. عبرنا إلى الطرف الآخر على جسر عائم نُصب في المكان وسُمّي بجسر آزادي[1].

 

لم أصدّق ما رأيته. لم أرَ أثرًا للمدينة. كلّ شيء قد سُوّي بالأرض. حتى إنّي لم أعرف أين نحن. كلّما ذهبنا إلى مكان، كان حبيب يشرح لي المعالم السابقة للمدينة. لم أستطع تمييز أيّ مكان رأيته؛ لم يكن ثمّة شارع أو ميدان أو بيت. بدا المكان أرضًا مقفرة ولم يبقَ أثر للبيوت سوى تلال من التراب وبضع قطع من الحديد! كانت تحيط بنا حقول واسعة من الألغام،


 


[1]  جسر الحرية.

 

427


400

الفصل السادس والثلاثون

وضع الجيش العراقي لوحات تشير إلى وجودها في كل مكان. وقد فوجئوا بدخول قوّاتنا بحيث لم تكن لديهم الفرصة لجمع تلك اللوحات.

 

ذهبنا بدايةً إلى المسجد الجامع الذي تلقّى الكثير من الضربات، لكنّه بقي صامدًا. دخلت المسجد، فتذكّرت الأيام الأولى للحرب وما حصل فيها من أحداث. لم يبقَ من عيادة الدكتور شيباني سوى كومة من التراب. بحثت في تلك الخربة عن حقيبة أخي علي. قلبت التراب رأسًا على عقب، ولكنّي لم أجد شيئًا. قالت لي صباح فيما بعد: "بعد أيام من ذهابك ضاعت حقيبة علي".

 

أخذني حبيب نحو بيتنا ولم أستطع أن أميّز المكان. صحيح أنّ محلّة "طالقاني" لم تُدمّر دمارًا شاملًا كغيرها من المناطق، إلّا أنّ بيوتها تضرّرت إلى حدّ كبير بحيث شعرت كأنّي أدخل منطقة غريبة عنّي. عندما وقع نظري على بيتنا تجدّدت ذكرى أبي وعلي في ذهني. كنت أسمع صوتهما حين كانا يعمّران هذا البيت الذي بنيناه معًا بعرق الجبين وكدّ اليمين. لم يكتفِ بعثيّو صدّام بقتل صاحب البيت، بل دمّروا البيت أيضًا ونهبوا ما فيه، حتّى إنّهم سرقوا مصراعَي البوّابة الرئيسيّة حيث كانوا يستخدمون الأبواب الحديديّة لسقف دشمهم! دُمّر المطبخ والحمّام على الجهة اليمنى للباحة، التي تعتبر كبيرة نسبيًّا، وهُدّم حائطها من جهة الزقاق، كما انهار السقف. مع ذلك فقد كانت نسبة الأضرار التي لحقت ببيتنا أقلّ من غيره من بيوت الحيّ.

 

ذهبنا من البيت إلى جنت آباد. كانت المقبرة مبعثرة وقد زالت الشواهد والعلامات التي سبق أن وضعتها على القبور. بحثت قليلًا حتى وجدت قبرَي أبي وعلي. لكن لشدة صدمتي لم أستطع البكاء. عند قبر

 

 

428


401

الفصل السادس والثلاثون

عليّ حكى لي حبيب:

- من ليلة العاشر من مهر وحتى اليوم التالي اشتبكنا مع العراقيين في ميدان سكّة الحديد، حيث شنّوا هجومًا واسعًا بدباباتهم. أعلمني الشباب بمجيء السيّد علي. قلت: "السيّد علي من؟"، قالوا: "السيّد علي الحسيني". بعد عدة دقائق رأيت علي. كان بيده قاذف آر بي جي وأمامه دبابة عراقية. وقف علي وصوّب نحو الدبابة ليرميها، وقبل أن يتمكّن من ذلك أطلقت الدبّابة قذيفة أصابت حائطًا خلفه. ارتفع غبار وتراب كثيف في المكان ولم نستطع أن نرى شيئًا. حزنت كثيرًا لأنّنا كنّا صديقين حميمين. قلت في نفسي: "يا لحسن حظّ هذا الفتى، لقد وصل لتوّه ونال شرف الشهادة!". بينما أنا كذلك وإذا بعليّ يخرج كالرجل الحديدي من بين الدخان والغبار! فرحنا لرؤيته حيًّا. لم أره بعد ذلك. بقيت الاشتباكات بيننا وبين العراقيين مستمرّة، دمّر الشباب فيها عدة دبابات عراقية. قبيل الغروب، قال لنا جهان آرا: "ارجعوا أنتم لقد تعبتم. إنّكم هنا منذ الليلة الماضية. اذهبوا واستريحوا. ستأتي قوّة جديدة لتحل ّمكانكم".

 

رجعنا إلى مقر الحرس لنستريح، وكان المقرّ مدرسة "دريابد رسايي". جلستُ وتقي محسن فر وعلي وطنخواه وعناصر من حرس "آغاجري" وآخرون في صالة في الطابق الأرضي نتحدّث. سألت تقي محسني فر الذي كان يجلس أمامي وبجانبه قذيفة آر بي جي عن السيّد علي. قال: "ذهب السيّد علي مع حسين طائي نجاد لرؤية أمه". بعد قليل، وبينما كنّا نتحدّث، ذهب علي وطنخواه وآخران إلى مدخل صالة المدرسة ليناموا. فقلت لعلي وطنخواه: "هذا ليس مكانًا مناسبًا للنوم يا علي، إن أطلقوا قذيفة ستصيبكم الشظايا بشكل مباشر. قوموا وناموا في

 

429

 


402

الفصل السادس والثلاثون

هذه الجهة". وقفوا وغيّروا مكانهم. لم تمضِ بضع لحظات حتى بدأت المدفعية العراقية بالقصف. أخذ الصوت يقترب أكثر فأكثر. لم نتصور أنّهم سيستهدفون المقر ظنًّا منّا أنّه قصف عشوائيّ. سرعان ما أصابت قذيفة باحة المدرسة، ثم وقعت أخرى عند مدخل الصالة، تبعتها ثالثة استقرّت وسطنا! في تلك اللحظة لم أسمع سوى صوت السيّد علي وهو يكبّر. لم أعِ بعد ذلك شيئًا. اعتقدت بأنني استشهدت. بعد قليل، فتحت عينيّ فلم أرَ شيئًا على الإطلاق. وضعت يدي على جسمي فوجدت بأنّ رأسي ويدَيّ ورجلَيّ سليمة. ظننت أنني في الجنة، لكنّي ما لبثت أن حرّكت يدَيّ ورجلَيّ بصعوبة. لم أكن أسمع ولا أرى شيئًا ولم أستطع النهوض لأنّ عصف الانفجار قد أثقل جسمي. كدت أختنق من الغبار في مجرى تنفّسي. حاولت بصعوبة شاقّة أن أحبو على يدَيّ ورجلَيّ للوصول إلى الباب. أحسست أنّي أمشي بين الدماء واللحم! عندما دخل الهواء النقيّ إلى حلقي عرفت بأنّي وصلت إلى الباب. ناديت علي. في تلك الليلة، كان كلّ شيء غارقًا في الظلام الدامس! بعد عدّة دقائق خرج علي وطنخواه، فوقفنا حائرين لا نعرف ماذا نفعل. ولم تتوقّف المدفعيّة العراقيّة عن القصف. بعد ذلك خرج من المدرسة عدد من حرس آغاجري وهم لا يدرون إلى أين يتوجّهون. المساكين لم يكونوا على معرفة بالمنطقة. عندما أردنا أن نخرج إلى الزقاق تبعنا ثلاثة منهم، عند ذلك قررنا أن نبقى مكاننا إلى أن تهدأ الأوضاع. فجأة رأيت رجلًا يرتدي ثيابًا أنيقة ومرتّبة يسير نحونا فسألنا: "ماذا حدث؟".

- قصفوا مقرّنا، ومزّقوا أجساد شبابنا. لقد دمّروا المبنى.

- هل سقطت القذيفة داخل المقرّ؟

 

430

 


403

الفصل السادس والثلاثون

- نعم، أكثر من قذيفة.

 

أثناء حديثي لفتت أناقته انتباهي، استغربت من أين أتى بهذه الثياب الأنيقة في ظلّ المعارك الدائرة والهرج والمرج. لم أكد أنهي كلامي حتى توارى الرجل عن الأنظار، ولم نره في المدينة بعدها. الظاهر أنّه جاسوس للعدو وقد أعطى إحداثيّات مقرنا للعراقيّين، وأراد من خلال أسئلته أن يطمئنّ إلى صحّة ما قام به.

 

بعد كلام حبيب لم أنطق بأي كلمة. أحببت أن أرى كلّ مكان في مدينتي. لكنّ العبور من جهة المسلخ ومركز شرطة المرور كان ممنوعًا؛ لأنّ العراقيين ما يزالون في "شلمجه". جُلنا في أنحاء المدينة، حبيب يوضح ويشرح وأنا أستمع له بصمت ودهشة. دامت جولتنا من الصباح حتى الساعة الثانية ظهرًا. ما إن وصلنا إلى البيت حتى انفجرت باكية. كان ذلك صعبًا عليّ. لم يكن سقوط المدينة بالنسبة لي بمثل هذه الصعوبة. لا أدري لماذا، لعلّي كنت أتمنى أن نستردّ المدينة سالمة. ولكن، عندما رأيت دمار "خرّمشهر" والظلم الذي لحق بها شعرت بألم وحزن عميقين. لقد قتل العدوّ الكثير من شباب المدينة ودمّر بيوت أهلها بهذا الشكل!

 

بعد فترة، جاءت "دا" برفقة شخصين من أقرباء أبي إلى بيتنا لرؤية "خرّمشهر". صباح اليوم التالي أخذنا حبيب إلى "خرّمشهر". وقبل أن نصل إلى الجسر بدأت أمّي باللطم والبکاء بهدوء. كانت تنوح باللغة الكردية والعربية وتبكي حتى وصلنا إلى جنة آباد.

 

مرّ عامان على لقائها الأخير بأبي وعلي. كان قبراهما لا يزالان ترابيّين. لقد سوّى هطول الأمطار خلال هذين العامين تراب القبور مع الأرض. بدا

 

431


404

الفصل السادس والثلاثون

واضحًا بأنّ العراقيين خرّبوا القبور عمدًا لكي لا يستطيع الناس التعرف إلى قبور أحبّتهم. أخذت أمي تبحث مذهولة عن قبري أبي وعلي. دللتها على القبرين، فرمت بنفسها عليهما وقبلت ترابهما. جعلت تحدّثهما وتبكي. أكثر كلامها كان مع علي، أظنّ أنّ حياءها وخجلها لم يسمحا لها بأن تتكلم مع أبي أمامنا.

 

وكأنّ "دا" حديثة العهد بالمصيبة؛ تفتّحت آلامها وجروحها من جديد. لم يكن لبكائها وأنينها الشجيّ نهاية. أخذت أواسيها أنا وليلى ونبكي. بقينا هناك حتى الظهر. جلست في إحدى الزوايا وبدأت أفكر في الأيام التي مرّت علينا. طوال تلك المدة لم تستطع "دا" إقناع نفسها بشهادة علي. ظلّ حزنها يتجدّد عند أي ذكر له في البيت فتبدأ بالبكاء. كثيرًا ما كنت أهرب منها؛ إذ لم يعد الكلام المنطقي يجدي نفعًا معها؛ بل صارت تصرّ على رأيها وتحاول إقناعي بمرافقتها للبحث عنه! أو تقول: "ليتني كنت حاضرة عند جثمان علي وبكيت حتى يبرد غليلي". وصل بي الأمر في بعض الأحيان إلى الذروة بحيث صحتُ في وجهها. كنت أفقد السيطرة على نفسي من الغضب. فلماذا لا تريد أن تقتنع بأن ولدها استشهد؟ لماذا تجادلني في هذا الموضوع بين الحين والآخر وتعذّبني بكلامها؟! وعندما كنت أصيح وأضرب نفسي تبدأ بالبكاء والنحيب، فأضطرّ إلى أن أخرج من البيت وأجول في الشوارع هربًا منها إلى أن أهدأ. كانت تتوتّر لدرجة أن تقول: "ليت يدَي عليّ ورجليه قُطعت أو صار مشلولًا، ولكنه لم يمت".

 

وعبثًا قلنا لها إنّ بكاءها يؤلم روح علي وأبي ويضيّع أجرها، لكن من دون جدوى. في النهاية اصطحبتها يومًا إلى مستشفى الجرحى في "نياوران"، وأريتها الجرحى المصابين بقطع النخاع أو قطع أحد الأعضاء،

 

432

 


405

الفصل السادس والثلاثون

ومرضى الأعصاب وقلت لها: "انظري إليهم كيف يتألّمون، هل ترغبين بأن يتعذّب عليٌّ أمام عينيك هكذا؟!".

 

عندها، هدأت وقالت: "الحمد الله الذي منّ على عليّ بالشهادة".

 

بعد مدة عرّفتها إلى والدة الإخوة الشهداء "أفراسيابي" وقلت لها: "انظري إلى السيّدة أفراسيابي، لقد فقدت خمسة شبّان في الحرب، لكنّ عزيمتها ما زالت راسخة وقويّة. نحن قدّمنا شهيدين فقط. عليكِ أن تعلمي بأن كثيرين فقدوا جميع أفراد عائلتهم في الحرب!".

 

قلت هذا الكلام لأمي بالرغم من شوقي الكبير لأبي وأخي علي. كنت أراهما في المنام باستمرار. وهما أرشداني في كثير من أموري.

 

في إحدى المرّات رأيت في المنام أنّ علي حضر إلى بيتنا، وقد بدا متعبًا ومنزعجًا. عانقته وقبّلته. كنت أعلم أنّه استشهد، ولكن نظرًا لأنّي لم أره في المنام منذ مدّة قلت له: "انتظرتك طويلًا، لماذا تأخرت هكذا؟".

- لدينا الكثير من الضيوف.

 

بعد ذلك دخلت "دا" إلى الغرفة. نظر علي إليها نظرة غضب ثم أدار وجهه. قلت له: "علي، إنّ "دا" بانتظارك، لماذا تتصرّف معها هكذا؟".

- إنّها تعذّبني كثيرًا ببكائها.

 

أخبرت أمّي بهذا المنام، تأثّرت جدًّا وقالت: "ماذا أفعل، إنّ قلبي لا يهدأ".

 

قلت لها: "ابكي، ولكن تذكّري مصائب السيّدة زينب والإمام الحسين عليهما السلام".

 

هذا هو كلام جدّي. لطالما قال عند ذكر عاشوراء والإمام الحسين:

 

433

 


406

الفصل السادس والثلاثون

"نحن السادة كأنّنا خُلقنا للمعاناة كأجدادنا الطاهرين، نحن ورثة نبيّ تعذّب كثيرًا من أجل الإسلام. لا بدّ من وجود فرق بين السادة وغيرهم من الناس. إن الله سبحانه يبتلينا بمصائب لكي نتذكّر ما عاناه أجدادنا من أجل الدين ونعرف نعمة ديننا".

 

بقينا في جنت آباد لمدة ساعتين أو ثلاث. كان الوقت ظهرًا. اصطحبنا "دا" لرؤية بيتنا في مجمع بيوت البلديّة. جالت "دا" في أرجاء البيت واستعادت في كلّ زاوية منه ذكرياتها وآلامها. لقد أخذ العراقيون معظم وسائل البيت. بعثروا الأشياء التي لا تنفعهم كالثياب والفرش والمواد الغذائيّة ورموها عند مدخل البيت. قبيل الحرب اشترى أبي أرزًا وزيتًا لتأدية نذرٍ كان عليه. نشر العراقيون الظَلمة الأرز في أرجاء البيت وفتحوا عبوة الزيت التي تسع سبعة عشر ليترًا ورموا بداخلها فأرة ثم أغلقوها ثانية. بحثت عن مجموعة صورنا ولكنّي لم أجدها. لم يبقَ من تلك الصور سوى صورة لأبي وصورة أخرى جماعية كانتا معلّقتين على حائط غرفتي أنا وليلى. الظاهر أنهم لم يجدوا فرصة ليأخذوهما[1]. وجدت بين الثياب فيلمًا غير مظهّر. أخذت أمي بعض الأغراض للذكرى. أما أنا فقد تأثّرت كثيرًا بحيث لم يعد هناك شيء مهم بالنسبة لي. أصبحت مستعدّة للموت بشظية أو صاروخ أو قذيفة. لم يكن ذلك الشعور ينتابني بالخصوص، فكلّ من كان هناك بات مستعدًّا لذلك أيضًا. لذلك لم أكن أفكّر بأخذ شيء للذكرى. اكتفيت بأخذ دراجة أبي النارية المرمية في إحدى زوايا البيت لعلّ عناصر الحرس الثوري يستفيدون منها.


 


[1]  في عام 1370 (1991) بعد حرب العراق والكويت، جاء عدد من أقربائنا الذين كانوا يسكنون في العراق إلى إيران، وقالوا إنّ البعث العراقي أقام معارض ضخمة لصور العوائل الإيرانيّة ليثبت أنّه قد فتح "خرّمشهر".

 

434


407

الفصل السادس والثلاثون

كان يوم ذهابنا مع "دا" إلى "خرّمشهر" يومًا سيّئًا جدًّا. تأثّرتْ كثيرًا وبقيت على تلك الحال لأيّام. انطوت على نفسها بالكامل. حاولتُ وليلى مرارًا أن نحدّثها أو نضحكها لكي تخرج ممّا هي فيه ولكن من دون جدوى! أصرّت أمي على الذهاب يوميًّا إلى "خرّمشهر" إلّا أنّ عدم تطهير المنطقة بالكامل جعل الأمر صعبًا. أقيمت حواجز حراسة على طول الطريق منعًا لدخول الناس إلى "خرّمشهر". فالمدينة بأسرها كانت مهدّدة بالخطر، كما إنّ الألغام ملأت مناطق واسعة منها، غير أنّ أهالي "خرّمشهر" الذين تركوا مدينتهم لمدة طويلة ازدادوا شوقًا لرؤيتها ثانية. أصرّت أمي على البقاء في "خرّمشهر"، فقدّمنا لها حججًا كثيرة حتّى اقتنعت بعدم إمكان ذلك حاليًّا. طوال فترة بقائها في آبادان، اصطحبنا "دا" مرّات عديدة إلى "خرّمشهر". أعطيت الفيلم الذي وجدته في البيت إلى مصوّر لكي يظهّر الصور. ظهرت بعض تلك الصور لعلي وأصدقائه، غير أنّ الكثير منها كان محترقًا.

 

كم هي غربة الأحباب وقد رحلوا عن هذه الديار

ذابوا مثل الشمع احترقوا كالفراشات

تكسرت أقداحنا فقد مُلئت بدم القلوب

وارتفعت الصرخات والأنين في تلك الحانة

حيثما نظرت وأينما عبرت

لم أرَ سوى الرماد خرابٌ في خراب

سقط الرأس على الأرض وتخضّبت الضفائر بالدماء

 

435

 


408

الفصل السادس والثلاثون

لم يبقَ يد ولا أصابع كي تمشط تلك الجدائل

طالما هناك دم في العروق فهذه البدلة هي الكفن

صرخات أنصار أبي ذر تقطع الطريق في وجه الأعادي

أين الضحكات والبسمات أين السكر والشغف

الكؤوس غدت دامية والشراب سال على الأرض

اشتعلت النيران في كل شيء ولم يبق سوى الرماد والأطلال..

أين هم أحبتي؟ ورود ربيعي.. رحلوا بغربة هاجروا هذه الديار!

 

بعد تحرير "خرّمشهر"، كثّف العدو قصفه على آبادان. من ناحية أخرى انتقلت مدفعية قواتنا إلى مكان قريب من بيتنا، فكان القصف يشتدّ في بعض الأوقات بحيث يعيقنا عن الحركة لساعات، فتهتزّ البيوت جرّاء ذلك القصف وتتساقط شظايا المدافع والقذائف عليها أو تخرقها. ازداد الدمار مع الوقت، وكانت القطع البلاستيكيّة التي وضعناها بدلًا من الزجاج المكسور تحترق باستمرار. كذلك تابع المنافقون أعمالهم العدوانيّة على البيوت. في إحدى الليالي مزّق أحدهم النايلون الموضوع على نافذة بيت عباس برهيزكار محاولًا الدخول إلى البيت. وحين أناروا الأضواء فرّ هاربًا. تكرّر حصول ذلك مع الآخرين. لهذا السبب كنت أنام في المستودع أثناء غياب حبيب، وكان عبارة عن غرفة صغيرة جدًّا مفروشة بالموكيت. باعتقادي كان ذلك المكان الأكثر أمنًا. في طقس آبادان الحار، بتُّ في جهوزية دائمة، إذ كنت أنام مرتدية العباءة والثوب والبنطال والمقنعة. ما دام هناك احتمال بأن أستشهد فيجب أن أحافظ على ستري وحجابي.

 

437

 


409

الفصل السادس والثلاثون

في تلك الليالي والأيام الحارة كان الوضع مرهقًا، لكني لم أملك سوى الصبر. تقرّح جلدي من شدّة الحر والعرق. كان المكيّف في البيت معطّلًا. لبثت كذلك إلى أن ساءت حالي في أحد الأيام وأصبت بحمى نتيجة الحرارة المرتفعة، قلت لحبيب: "لم أعد أحتمل الحر أكثر من ذلك، أصلح المكيف".

- لا أستطيع أن أتصرّف بأموال الناس.

- ولکنّهم عندما سمحوا لنا بالسكن، فهذا يشمل كلّ شيء بما فيه المكيف.

- كلا.

- حسنًا أنا سأتحمّل، ولكن فكّر في طفلنا الذي سيولد قريبًا، فهو لا يستطيع تحمّل هذه الحرارة.

- على ابني أن يتحمّل الصعوبات.

 

عندما سأل حبيب عن الحكم الشرعي لهذه المسألة اقتنع بأن يصلح المكيف. في تلك الليلة قال السيّد حسين زوج ليلى لحبيب: "إنّك تأتي مرّة واحدة في الأسبوع، وليس ثمّة من يهتم بأمر زوجتك إن ساءت حالها".

 

في تلك الليلة تقرّر بأن يأتي حسين بليلى من أصفهان لتبقى معي. سُررت كثيرًا لأنني سأتخلّص من هذه الوحدة وسينتهي قلقي واضطرابي ونومي في المستودع. جاءت ليلى إلى بيتنا وقضينا معًا أيامًا وليالي تحدّثنا فيها عن الأيام الماضية وأحداثها فتأثّرنا لذكر بعضها وضحكنا لذكر البعض الآخر.

 

437

 


410

الفصل السابع والثلاثون

الفصل السابع والثلاثون

 

 

حين دخلت في الشهر الأخير من الحمل، ذهبت إلى مستشفى طالقاني الواقع على طريق آبادان-خرّمشهر. وبما أنّ ظروف المنطقة حتّمت أن تُخَصّص غرف العمليات في المستشفى لجرحى الحرب، طلب الأطبّاء مني الذهاب إلى مستشفى في مدينة أخرى للولادة. في شهر شهريور (أيلول) عدتُ مع زينب وسعيد وحسن الذين حضروا إلى آبادان لقضاء العطلة الصيفيّة إلى مبنى كوشك في طهران.

 

عندما ذهبت إلى المستشفى إثر إصابتي بألم نتيجة التهاب الكلى، اضطررت لإجراء صورة أشعة وتلقّي العلاج اللازم. لذلك احتملت الطبيبة النسائيّة أن تكون الأشعة والأدوية قد أثّرت سلبًا على الجنين. لذلك لم أكفّ عن التفكير في هل سيكون طفلي سالمًا أم لا. حاولت أن لا أُحبط وكنت أقول: "إلهي ارزقني طفلًا قبيح الوجه، ولكن تامّ الخلقة!".

 

بعد أسبوع، حضر حبيب إلى طهران أيضًا. اقتربت أيام وضعي وساءت حالي بشدّة فكنت أبقى مستيقظة طوال الليل من الألم. وكي لا أزعج الآخرين، صرت أخرج من الغرفة وأتمشّى في الممرّ فتتبعني "دا" وتجلس على السلالم. في الليلة الأخيرة لم أستطع السير إلى الممر. ضقت ذرعًا ولم

 

439

 


411

الفصل السابع والثلاثون

أعد أحتمل. أخذوني إلى المستشفى حيث أمضيت ساعات عصيبة، لأنّ غرف العمليّات تغصّ بجرحى الحرب. في عصر اليوم التالي ولد طفلي في ظروف حرجة جدًّا؛ إذ فقدت وعيي جرّاء الآلام والمشكلات التي أعاقت الولادة الطبيعية. عندما استعدت وعيي اشتدّ بي القلق على طفلي، فبشّرتني الطبيبة التي كانت مطّلعة على مخاوفي بأنّ طفلي سالم. غير أنّ دقّات قلبه كانت سريعة؛ وذلك نتيجة قربي من أصوات الانفجارات أثناء حملي، ولذلك بقيت مع الطفل ثلاثة أيام في المستشفى.

 

في العاشر من مهر(1 ت1) عدت وطفلي إلى حيث أمّي وإخوتي في مبنى كوشك. هناك كانت أختي ليلى وخالتي سليمة التي حضرت ورضيعها ذو الشهر الواحد إلى طهران لرؤيتي. اكتظّت غرفة "دا" بنا حيث حلّ فيها إضافة لنا جميعًا رضيعان حديثا الولادة! في تلك الظروف حضر كثير من الضيوف لعيادتي.

 

في تلك الليلة، وبعيد حلول الظلام، شرع حبيب بالصلاة، أمّا أنا فلم أكن بحال جيّدة فسرت قليلًا في الغرفة، فجأة دوى انفجار رهيب تبعه صوت تحطّم زجاج النوافذ. في البداية اعتقدنا أنّ الانفجار وقع في المبنى المقابل التابع للبلدية. لكنّ الناس قالوا إنّ الانفجار قد وقع في مبنى شركة الاتصالات في ميدان الإمام أو ما يُعرف بميدان "المدفعية". أمضينا تلك الليلة بخوف وقلق شديدين. لم تنقطع أصوات أبواق سيّارات الإسعاف والإطفاء حتى الصباح. في اليوم التالي أعلن في الأخبار عن استشهاد الكثيرين إثر تلك العبوة.

 

بعد ثلاثة أيام، شعرت من تصرّفات أمّي أنّها لا تشجّع تسمية طفلي باسم حسين أو علي، فسمّيناه عبد الله. وبعد 17 يومًا قررت الرجوع إلى

 

440

 


412

الفصل السابع والثلاثون

آبادان. اقترحت خالتي سليمة أن نذهب أولًا إلى خرم آباد لكي يتمكّن پاپا من رؤية طفلي ومن ثمّ أذهب إلى آبادان.

 

وصلنا إلى خرّم آباد فجرًا. كان پاپا يؤدّي صلاة الصبح. انتظرت حتى أنهى صلاته. وبعد أن أتمّها استدار نحونا. وما إن وقع نظره على عبد الله حتى شرع بالبكاء. قالت مي مي بالكردية: "هل جننت أيها العجوز؟ لماذا تبكي؟".

قال جدي: "إنّ رأس عبد الله من الخلف يشبه السيّد علي عندما كان طفلًا".

 

نهض وأخذ الطفل منّي وقبّله، ثمّ أذّن وأقام في أذنيه. بقي عبد الله في الأيام التي قضيناها هناك في حضن پاپا معظم الوقت. بعد ذلك ذهبنا إلى آبادان.

 

بعد شهر جاءت مي مي إلى بيتنا لرؤية خرمشهر، وهناك لم تكن أفضل حالًا من "دا". قالت عندما جلست على قبر علي: "لا أصدق بأنّي ما زلت حيّة وأجلس عند قبر علي".

 

قدّمت عمّتي الكثير من أجلنا وخاصة علي ومحسن. فلأنّ أمّي أنجبت أولادها الواحد تلو الآخر تولّت عمّتي الاعتناء بالأطفال. مشاغل أمّي الكثيرة جعلتنا نمضي أوقاتًا أطول مع عمّتي التي كانت تعاملنا بحنان كبير وتحكي لنا القصص بكل صبر وأناة أيّام طفولتنا في البصرة.

 

ذهبنا إلى بيت پاپا بتوصية منه، بحثًا عن شجرة العائلة. لقد نُهبت ممتلكات البيت أيضًا. لم يبقَ أيّ أثر لجهاز خالتي سليمة وهدايا عرسها التي لم تُفتح بعد! أخيرًا وجدنا شجرة العائلة بين الأشياء التي خلّفها

 

441

 


413

الفصل السابع والثلاثون

الصدّاميّون. كان جدّي قد وضعها في قصبة خيزران ثم في أسطوانة حديديّة لحرصه الشديد عليها. تلك الأسطوانة كانت تذكّرني بالقوس والسهم. فرحت كثيرًا عندما وجدت شجرة العائلة لعلمي بأنّها أجمل هدية لجدّي.

 

عادت مي مي إلى بيت پاپا في فصل الخريف حين بدأ الجو يبرد. كان بيتنا في آبادان مليئًا بالمنافذ والثقوب، ولم يكن لدينا وسائل تدفئة لذلك كنّا نتجمّد من البرد. وعلى الرغم من أنّا وضعنا قطع النايلون إضافة إلى البطّانيّات على جميع النوافذ إلّا أنّ الهواء البارد ظلّ ينفذ إلى الداخل من تحت الأبواب. لذلك اضطررت أن أقضي أنا وطفلي معظم أوقاتي داخل المستودع؛ لأنّه دافئ نسبيًّا لصغر حجمه.

 

كان عبد الله يكبر يومًا بعد يوم ويزداد لطافة. لقد كان ولدًا صبورًا وغير متعب. كان سكان بيوت الإذاعة والتلفاز يأخذون عبد الله معظم الأحيان. ونظرًا لعدم توافر الحفّاضات وغيرها من حاجات الأطفال في آبادان كنّا نجد صعوبة في تأمينها، كمن يقيم في جزيرة نائية. كنت أوصي كلّ من ينوي الخروج من آبادان بأن يشتري لي بعض الحاجات. عندما يأتي علي شوشتري إلى بيت أخته كان دائمًا يُرسل وراء عبد الله. في أحد الأيام كنت في بيت أخته، لم يكد يدخل البيت حتى قال لأخته: "اذهبي وأحضري لي عبد الله".

 

قالت أخته: "إنّ عبد الله هنا".

 

كنت أعرف عائلة شوشتري منذ الصغر. كان أبوهم ناظر مدرستنا. وعلى ذلك الأساس تقدّمت من علي شوشتري وسلّمت عليه وسألته عن أحواله وقلت له: "أخي علي أنت لم تأخذ موعدًا سابقًا لرؤية عبد الله".

 

442


414

الفصل السابع والثلاثون

فقال: "اعذريني هذه المرّة. أنا ذاهب وقد تكون المرة الأخيرة التي أرى فيها عبد الله".

- سأسمح لك هذه المرة، ولكن في المرة المقبلة لن أفعل.

 

قال علي شوشتري: "لا أعتقد أنّ هناك مرة أخرى، انتهى نصيبي من هذه الدنيا".

 

وهذا ما حصل. ذهب علي واستشهد في العملية التالية. حين جاؤوا بخبر شهادته كنت في بيت أخته فاطمة. تلقّت فاطمة خبر شهادة أخيها بصبر جميل. وقفت وأدّت صلاة الشكر لله! في تلك اللحظة شعرت بفاطمة جيدًا. عندما وقفت للصلاة أحسست بأن ظهرها قد انحنى. لم تبكِ فاطمة أبدًا؛ بل بدت قوية جدًّا. أما ضحكتها فاختلفت عمّا قبل.

 

كان لعبد الله ثلاثة أشهر عندما ساءت حاله في إحدى الليالي وأخذ يتقيأ من دون أن أعرف سبب ذلك. في تلك الليلة اتّسخت جميع ثيابه وفراشه. في صباح اليوم التالي أرضعت عبد الله ونظّفته. وعند حدود الساعة التاسعة صباحًا وكعادتي أثناء عملي وضعت عبد الله على فراشه على الشرفة لكي يتعرّض لأشعّة الشمس ووضعت فوقه الناموسيّة. ثمّ جلستُ قرب خزان الماء وبدأت أغسل ثيابه. كان ضغط الماء ضعيفًا، بقيت ساعتين في غسلها ثمّ نشرتها بأناة على الحبل. أثناء عملي كنت أسمع سقوط القذائف على أطراف مسجد الموعود في آبادان. غير أنّي لم أُعر الأمر أهميّة لأننا اعتدنا على ذلك. عندما أنهيت عملي حملت الطشت، وما إن نهضت وسرت خطوة باتّجاه حتّى سمعت صوت قذيفة مدفعيّة بدا من صوتها القريب أنّها من عيار 230. أخذ الصوت يقترب لحظة بعد أخرى. كان عبد الله يبعد عنّي حوالي عشرة أمتار. حاولت

 

 

443


415

الفصل السابع والثلاثون

بسرعة أن أصل إليه. لم أكد أرفع قدمي حتّى انقلب كل شيء رأسًا على عقب في ثوانٍ. لم أعد أرى سوى قطع الآجر والحجارة والتراب تتطاير في جميع الجهات، وملأ التراب والغبار كلّ مكان. صرخت وناديت: "يا إمام الزمان، طفلي!".

 

ركضت نحو عبد الله في حين كانت الحجارة الناتجة عن القذيفة تتطاير باتجاهي. وصلت إليه وقد غطّى الغبار المكان. ضربت على رأسي وقلت في نفسي: "لقد انتهى كل شيء، لقد تقطّع عبد الله إربًا إربًا".

 

وضعت ركبتيّ على الأرض. لم أتجرّأ أن أفتح عينيّ وأرى ماذا حدث. في النهاية وضعت يدي على فراش عبد الله حيث علقت الشظايا في الناموسية كما وقعت الحجارة الكبيرة على أطرافها. بدا المكان كأنّ شاحنة محمّلة بالحجارة والتراب أفرغت حمولتها في لحظات!

 

رفعت عبد الله ونظرت إليه. ظننت أنني سأراه مخضبًا بدمه، ولكن لم يكن هناك أي أثر للدماء. وضعت يدي على جسده. لم يكن هناك أي جرح بل لم يستيقظ من نومه. فجأة قلت: "هل من الممكن أنّه أصيب بسكتة قلبيّة. وضعت أذني على قلبه فوجدته يخفق بسرعة. رأيت أنّ طفلي سالم ولم يستيقظ من نومه حتى جرّاء ذلك الصوت المهيب. حضنته ثمّ جلست في المكان وشرعت بالبكاء. كانت المرّة الأولى التي بكيت فيها بعيد حدوث انفجار.

 

ركضت جارتي السيّدة "كلبهار" بعد سماعها صوت بكائي وصراخي. سمعتها تقول لزوجها: "أسرع يا محمد يبدو أنّ عبد الله أصيب بمكروه".

 

لم يكن هناك رضيع صغير في بيوت الإذاعة والتلفاز - كما ذكرت

 

444

 


416

الفصل السابع والثلاثون

سابقًا- ولهذا كان عبد الله يدور بين البيوت وكان الجميع يعرفه. عندما استعدت رشدي وجدت جميع سكّان الراديو والتلفاز مجتمعين قرب البيت. بعد عدة دقائق وصلت سيارة الإسعاف، فجاء المسعف وسألني: "ماذا حدث؟ هل جُرح أحد؟".

- الحمد الله، لم يصب أحد بشيء.

 

ومنذ ذلك الحين صارت تلك الحادثة تتداول بين المجالس، فكانوا يقولون: "وقعت قذيفة مدفع 230 قرب ابن حبيب، فأمسكها وردّها إلى العراقيين!".

 

في ذلك اليوم، بعدما بكيت حتى جفّ دمعي ذهبت لأرى الثياب التي غسلتها. لم يكن هناك أي حبل. جميع ثياب عبد الله قد اختفت. وجدت آثار بعضها بين الحجارة والتراب. لقد تلاشت الثياب من شدة النار وحرارة الانفجار.. اعتقدت أثناء الانفجار بأنّ القذيفة سقطت في بيتنا، ولكنّ ما حدث هو أنّها وقعت على سقف مستودع البيت المجاور الذي كان تقريبًا محلّ اتصال بيتنا مع بيت السيّدة "عباس بور". ولأنّ البيوت مؤلّفة من طابقين وعلوّ السقف كان مرتفعًا، كما إنّ الإنكليز قد أحكموا بناء تلك البيوت، لم يُهدم البيت، أحدثت القذيفة فجوة كبيرة في السقف فحسب. في ذلك الوقت لم تكن السيّدة "عباس بور" في البيت، فقد خرجت من آبادان لولادة ابنها الثاني. وكان زوجها يوسف قد استشهد على يد المنافقين قبل عدّة أشهر حينما ذهبت أنا إلى طهران لأضع عبد الله. كانت وصية يوسف بأن يسمّوا المولود باسمه إن كان ذكرًا. بعد ذلك لم تعد السيّدة "عباس بور" إلى آبادان فبعث أقرباؤها أثاث البيت إليها.

 

445

 


417

الفصل السابع والثلاثون

يوم أخذوا أثاث بيت يوسف عباس بور تذكّرت يوم التقيت به في المخيم لأول مرّة. في الفترة التي عملت فيها في مستوصف المخيم، كنا نُدخل العسكريين والتعبويّين، وكنا نعرفهم من ثيابهم، إلى غرفة الطبيب من دون موعد مسبق، وذلك بسبب الضغط الموجود وضرورة حضورهم في الجبهات. في أحد الأيام كان يوسف عباس بور وفاطمة التي كانت حاملًا بطفلها الأول "زهرة" واقفين في صف الانتظار، فاعترض عليّ قائلًا: "لماذا تدخلينهم بدون موعد؟ نحن ننتظر هنا منذ مدة طويلة!".

 

فقلت له: "نحن نُدخل العسكريين من دون موعد، وليس هناك فرق بين أفراد التعبئة والجيش والحرس الثوري،فلديهم واجبات وينبغي أن يرجعوا سريعًا إلى عملهم".

 

قال يوسف: "أنا أيضًا من أفراد التعبئة!".

- من أين لي أن أعرف، أنا لا أعلم الغيب. كان عليك أن تقول لي ذلك قبل الآن حتى أدخلك، ثم تذهب إلى عملك.

 

شاء القدر أن نكون جيرانًا. كلما رأيت في البيت سحلية، كنت أخرج إلى الشرفة صارخةً: "زهرة، زهرة". عندها كان يعرف السيّد يوسف بوجود سحلية في البيت فيحضر نعله ويقتلها.

 

بعد شهادة يوسف عباس بور لم يسكن أحد ذلك البيت. منذ حادثة الانفجار أصبحت أخاف أن أضع عبد الله على الشرفة، كنت أنزع البلاستيك والستار والبطّانيّة وأمدّده قرب النافذة. قالت صديقاتي لي: "هل تظنّين أنّك وضعتِ الطفل في مكان آمن؟ هكذا أسوأ. فلو وقعت قذيفة فسينهار السقف على الطفل".

 

كنت أقول: "لن يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا".

 

446

 


418

الفصل الثامن والثلاثون

الفصل الثامن والثلاثون

 

في بهمن 1361 (شباط 1983) جاء حبيب إلى البيت على غير عادة، فرأيته غير مرتاح. سألته: "هل حدث شيء ما؟".

 

قال لي بابتسامة مصطنعة فيها شيء من الغضب: "لقد رحل حسين. حسين عيدي استشهد أيضًا!".

 

أصبت بصدمة من وقع الخبر. لم أصدق ذلك. حسين الفتى الأسمر ذو الشعر الأجعد الذي عرفته منذ الصغر قد التحق بالقافلة هو الآخر. تذكّرت الأيام التي عملنا فيها معًا. في اليوم الأول الذي رأيته مع عبد الله، اعتقدت بأنهما لا ينفعان للعمل في جنت آباد، ولكنّهما كانا الأكثر حبًّا للعمل، وقد بذلا جهدًا كبيرًا، ولطالما اعتنيا بنا. كنّا في السنّ نفسها تقريبًا. كان دائمًا يناديني بأختي، وأنا واقعًا كنت أعتبره أخًا لي. لقد تجدّدت مصيبة أخي علي. حزنت حزنًا شديدًا وتمنيت الموت. ولكنّ حبيب قال لي كما في كلّ مرّة: "هؤلاء اختاروا الطريق الذي يريدونه ويحبّونه. شهادتهم لا تُحزن".

 

وبالرغم ممّا قال إلّا أنّه لم يذهب مرّة لزيارة قبور رفاقه الشهداء. كلّما طلبت منه الذهاب إلى مقبرة الشهداء كان يتهرّب، ولا يصطحبني

 

447

 


419

الفصل الثامن والثلاثون

إلّا بعد إصراري الشديد. كانت حاله تسوء ويغرق في بحر من الأفكار لعدّة أيام، ويبدو واضحًا بأنّه يستذكر ذكرياته مع الشباب. ويردّد: "عجيبة هذه الدنيا، ذهب جميع الشباب وتركوني هنا".

 

كان حسين عيدي ضمن قوات حبيب، وقد أحبّه حبيب كثيرًا. وروى لي -بعد السؤال- عن كيفية شهادته، فقال: "أثناء تطهير "خرّمشهر" كان حسين ومحمد رضا بورحيدري ومرتضى كاظمي يقومون بجمع الصواريخ التي لم تنفجر من المدينة، ويضعونها في شاحنة من نوع نيسان صغيرة ليأخذوها إلى مكان آخر لكي يتمّ إبطال مفعولها. أثناء مسيرهم وقعت الشاحنة في حفرة صغيرة ما أدّى إلى انفجار إحدى القذائف وانفجار سائر القنابل معها. وعلى أثر ذلك الانفجار طار حسين، سائق الشاحنة، إلى الخارج واحترق جسده بشكل فظيع، فيما تلاشى جسدا محمد رضا بور وحيدي ومرتضى كاظمي".

 

رأيت صورة الأجساد. لم يبقَ من جسد مرتضى كاظمي سوى جزء من أذنه، وأما محمد رضا فبقي من جسده كاحل إحدى رجليه. نُقل حسين إلى المستشفى ولكنّه لم يبقَ على قيد الحياة أكثر من أربع وعشرين ساعة جرّاء الحروق البليغة.

 

لقد سجل الإخوة في الحرس صوت حسين وهو في المستشفى. في ليلة دفن الشهداء الثلاثة في جنة آباد أقام الحرس مراسم تأبين لهم شارك فيها عوائل الشهداء الثلاثة. وقد بُثّ شريط أثناء حفل التأبين يظهر صوت حسين. لم يكن الصوت واضحًا بسبب الاحتراق الشديد الذي وصل إلى حنجرته، وقد سُئل: "ممن تطلب الشفاء؟" قال: "أطلبه من صاحب الزمان".

 

448

 


420

الفصل الثامن والثلاثون

عندما سكنّا في آبادان وخاصة بعد ولادة عبد الله، زارنا حسين مرارًا. كان يحبّ عبد الله كثيرًا. وحين سمع أنّ قذيفة سقطت على بيتنا جاء وحضن عبد الله وقبّله. وقال له ضاحكًا: "أنت محصّن ضدّ الضربات يا عبد الله!".

 

وإذا أراد أن يذهب في مهمة إلى طهران كان يأتي إلينا ويقول: "أختي، أنا ذاهب إلى طهران. هل تحتاجين شيئًا؟ هل تريدين أن أحضر لعبد الله شيئًا؟".

 

حضور حسين كان يذكرني بالأيام الأولى للحرب، فأفرح برؤيته معافًى سالمًا. عندما سمعت خبر شهادته تمنّيت الموت. طلبت من الله أن يأخذ روحي. فالشباب الذين نعرفهم يرحلون واحدًا تلو الآخر. وكذلك الكثير من الرجال الذين تسكن عائلاتهم بجوارنا. لم أستطع أن أصدّق ذلك. نتحدّث مع أحدهم وبعد ساعة يخبروننا بأنّه استشهد، أو نرى أحدهم وبعد ساعة نشارك في تشييعه.

 

كالعادة ذهبت إلى سيما بندري زاده لشعوري بأنّها أمي. كلماتها المفعمة بالأمل كانت تدخل إلى قلبي. قلت لها: "سيما، إنّ حسين استشهد. أتمنّى أن أموت".

 

فقالت سيما: "عندما استشهد مجيد خياط زاده، قالت بتول كارزوني الكلام نفسه. هي الأخرى قالت إنّها لا تحب أن تعيش أبدًا بعده".

 

بعد استشهاد حسين جاءت والدته إلى منازل الإذاعة والتلفاز ومكثت هناك. أقيمت مراسم عزائه في ذلك المكان. كان أربعين حسين مصادفًا مع شهر رمضان المبارك. ولأنّ حسين أحبّ سمك "بياح[1]" كثيرًا، اشترت أمّه


 


[1]  نوع من السمك الصغير، تشبه سمك الكولي، ويكثر في السوق في فصلي الربيع والخريف.

 

449


421

الفصل الثامن والثلاثون

الكثير منه لإقامة مأدبة إفطار للمشاركين في ذكرى أربعينيّته. وبدوري ذهبت لمساعدتها في تنظيف السمك. في تلك الليلة أنجبت أخت حسين بنتًا. وقد أثّرت شهادة حسين عليها بحيث لم تستطع أن تعتني بطفلتها. بدت معنويات أمه أفضل بكثير من أخته، فجاءت بحفيدتها وأبقتها عندها لتعتني بها. كنت أزور أم حسين باستمرار.

 

450

 


422

الفصل التاسع والثلاثون

الفصل التاسع والثلاثون

 

أكثر ما شغل ذهني وتفكيري أثناء إقامتي في آبادان هو إخوتي؛ ماذا يفعلون في طهران ومن يرافقون. كنت أطّلع على أحوالهم باستمرار عبر الهاتف وأسأل كلّ واحد منهم عن الآخرين، فأستفسر عن منصور من حسن والعكس. أمّا سعيد فكنت مرتاحة البال بالنسبة له، فهو ولد هادئ منذ ولادته. كان حسن ولدًا جيّدًا أيضًا، ولكن كثُرت حركته (المتهوّرة) ولم يكن يخاف شيئًا على الإطلاق. ونظرًا لصغر سنّهما، تمكّنت من ضبطهما بشكل أفضل، إلّا أنني كنت أقلق على منصور لأنّه كان يمرّ في مرحلة عمريّة صعبة ولها ظروفها الخاصة. واجهنا في مبنى كوشك مع الأسف مشكلة المواد المخدّرة والکحول. فقد أسّس أحد سكّان المبنى هيئة عزاء باسم الإمام الحسين، كانت كذلك بحسب الظاهر، لتشكّل ستارًا لأعماله الفاسدة. وخوفًا من انجذاب منصور إلى تلك الأمور، كنت أدخل الهيئة وأُخرجه من بين أولئك الرجال مع كُرهي النظر إلى أمثالهم، وأقول لمنصور: "لا أريدك أن تختلط بهؤلاء. إنّهم يقومون بأعمال قبيحة باسم الإمام الحسين".

 

سعيت جاهدة كي لا يسلك إخوتي طريقًا منحرفًا عن درب الاستقامة. بالرغم من احتياجي أنا نفسي لمن يرشدني، إلّا أنّي حاولت أن أعوّض

 

451

 


423

الفصل التاسع والثلاثون

غياب الوالد والأخ الأكبر في البيت.

 

في تلك السنوات، كان يقام دعاء التوسل ودعاء كميل في مقرّ الحزب الجمهوري أو مدرسة الشهيد مطهري. اعتدت الذهاب أنا وعائلتي وبعض سكّان مبنى كوشك قبل زواجي، وبعده عند وجودي في طهران، للمشاركة في تلك الأدعية. غالبًا ما اصطحبت إخوتي إلى مسجد القائم أو مسجد جليلي ليأنسوا بالمسجد ويكون ذلك صيانةً لأنفسهم. وقد علّمتهم الصلاة قبل الحرب وذلك أداءً لنذر كنت قد نذرته من أجل حسن. وعند حلول فصل الصيف وبدء العطلة الصيفيّة، كنت أتّصل بـ"دا" وأقول لها: "أرسلي إخوتي إلى آبادان عندما ينهون امتحانهم الأخير". فإن لم تستطع أمّي إرسالهم ذهبت بنفسي إلى طهران واصطحبتهم إلى آبادان. ورغم أنّهم يثيرون الشغب إلّا أنني كنت أفضّل بقاءهم عندي.

 

في الصيف كنت آتي إلى طهران أحيانًا. كان للقسم الثقافي في مبنى كوشك برامج متنوعة للأولاد. فكان حسن وسعيد وبقية الأولاد في المبنى يذهبون يوميًّا إلى القسم الواقع في الطابق السابع. وهناك صاروا يلهون ويلعبون بحريّة ويستمتعون بالبرامج المعدّة لهم.

 

كان الطابق السابع عبارة عن قاعة كبيرة لها جدران خشبيّة وسقف صناعي، أمّا الجدران المطلّة على الشارع فهي عبارة عن ألواح زجاجيّة ممتدّة من السقف حتى الأرض. في بداية القاعة غرفة صغيرة مفصولة بجدار خشبي فيها سلّم يوصل إلى السطح.

 

في أحد الأيام نسي حسن وبعض الأولاد ألعابهم في تلك الغرفة، فطلبوا من مسؤول القسم أن يفتح لهم باب الغرفة لكي يأخذوا أغراضهم منها

 

452

 


424

الفصل التاسع والثلاثون

طعامه ثم ذهب يستريح، وبعد ساعة استيقظ وخرج من المنزل. ما لبث أن عاد بعد ثوان وقال: "وضعت في الشاحنة قنبلتين، لكنّي وجدت الآن واحدة فقط. هل من الممكن أن يكون أحد ما قد أخذها؟". كنّا كثيرًا ما نجد في السيارة التي يقودها حبيب سلاحًا أو قذيفة ما.

 

قلت له: "غير معقول، هناك الكثير من الأسلحة والمواد المتفجّرة في المنطقة، من الذي سيأتي ليأخذ قنبلتك بالذات؟!".

- إذًا أين هي؟

- لا بدّ من أنّك مخطئ، حتمًا وضعتها في مكان آخر.

- كلا، أقسم أنني وضعتها على رفّ السيارة!

 

تكهّنت بما قد حدث، فناديت حسن وسعيد. قلت لحسن: "ماذا أخذت من السيارة؟".

- لم آخذ شيئًا.

- بلى، لقد أخذت شيئًا. اذهب وأحضره.

 

فما كان من سعيد إلّا أن فضح الأمر قائلًا: "نحن أخذنا القنبلة".

- ماذا فعلتما بها؟

 

قال حسن: "لا شيء. أعطيت القنبلة لسعيد ليمسكها بقوة وأخرجت الأمان منها".

 

شعرت بدوار شديد. لقد نجونا من خطر عظيم! لقد حرّر سعيد وحسن ضامن القنبلة. لم أعلم كيف ومن علّمهما ذلك! نظرت إلى يدي

 

454

 


425

الفصل التاسع والثلاثون

سعيد، كان أثر نتوءات القنبلة ظاهرًا على باطن كفّيه جرّاء قبضه لها بقوّة. قلت لحبيب: "يجب أن تعاقبهما، هذه المرة كانت قنبلة ومن الممكن أن تكون قذيفة في المرة المقبلة!".

 

فقال حبيب وكان يحبّ إخوتي كثيرًا: "لا أستطيع أن أفعل ذلك لهذين البرعمين. فهما أوّلًا من السادة وابنا شهيد أيضًا. ماذا عساي أقول لهما؟!".

- إن لم تقل شيئًا فهذا أسوأ. يجب أن تكون حازمًا معهما وتصفع كلّ واحد منهما صفعةً.

 

ضغطتُ كثيرًا حتّى أقنعتُ "حبيب" بأن يؤنّب أخوَيّ ويصفع أخي حسن. كان انزعاج حبيب من تأنيب أخوَيّ أشدّ من غضبهما! لذا غادر سريعًا. بعد ذهابه افتقدت حسن ولم أجده. بحثت عنه في كلّ مكان؛ في محيط البيت، في بيوت الجيران، لكنّي لم أجد له أثرًا. ألقيت نظرة على السطح فلم أجده هناك أيضًا. انتابني قلق شديد. اقتربت من سعيد وقلت له: "كيف استطعت أن تمسك القنبلة بإحكام بهاتين اليدين الصغيرتين؟!".

- لقد قال لي حسن إنّي إن تركت القنبلة فستمزّقنا إربًا إربًا. فخفت من كلامه. لذلك أمسكتها بكلّ ما لديّ من قوة.

 

فجأة خطر في بالي أنّه من الممكن أن يكون حسن قد اختبأ في غرفة الكهرباء الخاصّة بالبيوت. وكان ظنّي في محلّه. فقد كان حسن رغم مشاكساته ولدًا حساسًا. لعلّه لم يتوقّع أن يُصفع على وجهه وترك هذا الأمر أثرًا سلبيًّا عليه. أتيت به إلى البيت. أمّا حبيب فقد رجع تلك الليلة إلى البيت حزينًا غاضبًا، وقال لي: "لماذا طلبتِ مني أن أضرب الصبيّ؟ لم

 

455

 


426

الفصل التاسع والثلاثون

أتمكّن اليوم من أن أقوم بعملي!".

 

بعد ذلك ذهب وحضن حسن وقبّله واعتذر منه عدّة مرات طالبًا منه المسامحة.

 

أحد الأعمال التي كان ينشغل بها حسن وسعيد يوميًّا هي صناعة الدشَم؛ إذ كانا يقلبان تراب الحديقة وأطراف البيت ليصنعا دشمًا جميلة جدًّا في جبهتين متقابلتين، ويشقّان أقنية متشعّبة ثم يملآنها بالماء. كانا يقومان بعملهما بشكل متقن وجميل جدًّا يدهش من يراه. لكنّ الحديقة وأطراف البيت حينها تمتلئ بالحفر فأعمد إلى ردمها حتى أصاب بالعناء. لذا كنت أشدّ أذنيهما وأؤنّبهما فيضطرّان إلى ردمها. لكنّهما يكرّران فعلتهما في اليوم التالي.

 

أمّا بالنسبة لمحسن ومنصور فكنت مرتاحة البال؛ إذ توظّف محسن في بلدية "خرّمشهر" وأصبح رجل إطفاء، فيما انجذب منصور إلى التعبئة وصار عنصرًا فيها، فذهب إلى الجبهة ضمن أفراد مجموعة حبيب.

 

في كثير من الأحيان، عندما تكون أوضاع المنطقة متوتّرة بحيث تنهمر علينا القذائف والصواريخ، كان عناصر الحرس يرسلون عوائلهم إلى مدن أخرى. وبدوره كان حبيب يرسلنا إلى بيت أخته في الأهواز، التي وإن كانت تُعدّ من المناطق الحربيّة، إلّا أنّها أكثر أمنًا من آبادان. لم يكن يمر يوم هناك إلّا وتُقام مراسم تشييع شهيد.

 

في المدة التي بقيت فيها في الأهواز، زرنا مرارًا مقبرة شهداء الأهواز. كنت أشعر أنّ الذهاب إلى هناك واجب. ينتابني شعور خاص في هذه الأماكن. وكذلك كلّما قصدت بهشت زهراء (جنة الزهراء) أحببت أن

 

456

 


427

الفصل التاسع والثلاثون

أرى المكتب الذي ألغى بطاقتَي هويّة أبي وأخي علي. فرؤية ذلك المكان كانت تحيي ذكراهما في قلبي.

 

في إحدى المرّات ذهبت وأخت حبيب وزوجها إلى مقبرة الشهداء. انشغلنا بقراءة الفاتحة على قبر شهيد كنّا نعرفه، مرّ من أمامنا عدد من عناصر التعبئة والحرس. بدأ عبد الله يحرّك يديه وينادي بصوته الطفولي: "بابا، بابا"؛ إذ كان معتادًا على رؤية أبيه حبيب بزيّه العسكريّ. وعندما مروا من أمامنا بدأ عبد الله بالبكاء، كأنّه كان يتوقّع أن يحضنوه.

 

أنا أيضًا أصبحت أشتاق لحبيب وأفتقده كثيرًا. أحببت أن أشعر بحضوره الدائم معنا. على الرغم من أنني أنا من أردت أن أكون زوجة لشخص يكون في الجبهة دائمًا، بل اشترطت ذلك في زواجي. ما دفع السامعين للعجب، فكانوا يقولون: "ما هذا الشرط الذي وضعتِه؟ النساء تشترط على أزواجهنّ بأن يشتروا لهنّ كذا وكذا، وأنت وضعتِ هذا الشرط؟!".

 

كلّما أتى حبيب إلى البيت، جلب معه باقة ورد ذي رائحة زكية تنتشر في أرجاء البيت. بقيت باحات البيوت المهدّمة في محرزي[1] مليئة بأحواض الورود التي تمتدّ وتتدلّى إلى الشارع. فعمد حبيب إلى جمع الورد بأي طريقة ممكنة تحت نيران القصف المدفعي. وعند تقديمه لي كنت أرى آثار الشوك على يديه.

 

مع مرور الزمن، ازداد قلقي على حبيب لازدياد الأخطار المحدقة به. بعد ولادة عبد الله صرت عند مغادرته أحمل عبد الله وأذهب


 


[1]  منطقة قروية في جنوب شرق "خرّمشهر".

 

457


428

الفصل التاسع والثلاثون

إلى الباحة لكي أراه. وعندما يخرج من أمام البيت أذهب إلى الطرف الآخر لأراه. حتّى إذا انعطفت السيارة إلى الطريق العام وقفتُ إلى جهة الحديقة وأطلتُ النظر إلى السيّارة حتى تختفي من أمام ناظري.

 

نظرًا لحضور حبيب المؤثّر في الجبهة، اعتبرت أنّي سأكون أنانية إن طلبت منه البقاء بقربنا دائمًا. كان حبيب يسألني باستمرار: "أخبريني إن أردتِ أن لا تبقي في المنطقة أو أن لا أكون هنا. عندها سأوافق على ذلك". لكنّي أعلم بأنه لا يستطيع تحمّل لحظة واحدة بعيدًا عن المواجهات. وأنا أيضًا كنت كذلك.

 

كان عمر عبد الله ثلاثة أشهر عندما انتقلنا من بيتنا إلى بيت آخر من البيوت التابعة للإذاعة والتلفاز. فقد أصابت قذيفة البيت الأول قذيفة في الأهواز، فقُلع بابه وتهدّم القسم الأمامي فيه. حين رأينا أنّه غير قابل للسكن انتقلنا إلى البيت الجديد وسط البيوت القريبة من مقرّ الحرس الثوري-قسم الأخوات. كانت مساحة هذا البيت أصغر من سابقه نسبيًّا، ولكنّه أفضل منه، فيه غاز وبراد وزجاج بعض نوافذه سالم. وجدت هذا البيت جيّدًا بشكل عام. وأهم من ذلك أنّ خزّان المياه في الخارج كان موصولًا بأنابيب إلى الداخل. مع توافر الماء في المطبخ والحمام حُلّت بعض مشاكلي.

 

في بعض الأحيان كان عناصر الحرس يطلبون من السيّدات الاجتماع في مكان واحد وأخذ الحيطة في تحرّكاتنا حرصًا على سلامتنا بسبب الخطر الذي يتهدّدنا من المنافقين. سمعنا أنّ المنافقين راقبوا تحركات أحد الإخوة في الحرس وانقضّوا عليه وذبحوه هو وامرأته وأولاده الثلاثة! في بعض الأيام ورغم الحرارة الشديدة والشمس الحارقة في آبادان كنت

 

458

 


429

الفصل التاسع والثلاثون

أرى رجالًا غرباء يجولون في الأطراف. لذا كنّا نجتمع في بيت إحدانا كلّ مرّة لأخذ الحيطة والحذر.

 

ذات ليلة كنت أنا وعبد الله وحدنا في البيت والتيار الكهربائيّ مقطوع. في هدأة ذلك الليل سمعت صوتًا مشبوهًا. دقّقت أكثر، خرج الصوت من فتحة المكيف وراح يعلو لحظة بعد أخرى. اعتقدت بأن قطة أو فأرة قد علقت في القناة. فالمكيف معطّل وبإمكان الفئران الدخول والخروج منه بسهولة. أصابني الهلع. لم أعرف أين أذهب أنا وعبد الله. فلم أكن أتأثّر بصوت مدافع صدام بقدر ما كنت أخاف الفئران. حضنت عبد الله وذهبت إلى بيت السيّدة جبار بيكي أخت الشهيد جمشيد بناهي. طرقت الباب وقلت: "هناك صوت في قناة المكيف. أعتقد بأنّ الفئران قد هجمت".

 

قالت السيّدة جباربيكي وهي تعلم أنّي حامل بطفلي الثاني: "تعالي وابقي هنا".

- كلا، لا أريد أن أزعجكم، إن سمحتِ اطلبي من السيّد جبار بيكي أن يأتي ويُخرج الفئران حتى نرتاح الليلة منها.

 

عادة كانت عائلة جبار بيكي تهتمّ بنا في غياب حبيب. وبالفعل حضر السيّد جبار بيكي وعاين المكيّف وأصدر بعض الأصوات لكي تخرج الفئران. ولكن عندما عدت إلى البيت عاد الصوت ثانية. تلك الليلة الصيفيّة الحارّة حضنت عبد الله وبقيت مستيقظة حتى الصباح خوفًا من أن تؤذيه الفئران. من جهة ثانية وبسبب انقطاع التيار الكهربائيّ لعدّة أيام استغلت أسراب البرغش والبعوض الفرصة وهجمت إلى داخل

 

 

459


430

الفصل التاسع والثلاثون

البيت. شعرت بوخز الإبر في كلّ جسمي، فقلقت على عبد الله من لدغات الحشرات الناقلة للأمراض نظرًا لتفشّيها آنذاك.

 

بعد عدّة أيام انطلقت بولدي إلى أصفهان فأقمنا فيها أيّامًا ثمّ ذهبنا مع ليلى إلى طهران. ما إن وطئت أقدامنا طهران حتّى أصيب الطفل بحمّى. قلقت عليه كثيرًا. الجميع في آبادان حذّر من الإصابة بالوباء وحمّى "التيفوئيد" نظرًا لتلوّث المياه. بينما أنا أفكّر في هذا الأمر قلت لليلى: "يبدو أنّ عبد الله أصيب بالبرد أثناء الطريق، فحرارته مرتفعة".

- ليس الأمر خطيرًا، أعطيه قرصًا لخفض الحرارة.

 

أعطيته الدواء ولكنه لم يتحسّن وبقيت حرارته مرتفعة. أخذته عدّة مرات خلال يومين إلى طبيب الأطفال الذي قال لي إنّه مصاب بالبرد. صار شغلي الشاغل غسل رجلَي عبد الله بالماء بغية تخفيض حرارته. كان قد ضعُف كثيرًا وصار يئنّ من الألم. في النهاية أخذته إلى المستشفى حيث أعطوه حقنة ثمّ رجعنا إلى البيت. بعد عدة لحظات تدهورت حالته. ظننتُ أنّه قد فارق الحياة. أخذته مرة ثانية إلى المستشفى فعاينه الأطباء، ثمّ أخرجوني أنا وليلى من الغرفة بسبب بكائنا وأغلقوا الباب من الداخل.

 

تناهى إلى سمعي كيف كانوا يقومون بكل ما بوسعهم وهو لا يستجيب. عندها طلب الطبيب حقنة مضادّة للتشنّج وبعدها سمعت صوت عبد الله. فُتح الباب فأسرع الأطبّاء نحو الصيدلية والصبي بين يدي أحدهم. تبعتهم أنا وليلى. فتح الطبيب حنفيّة الماء ووضع عبد الله تحتها. كان الهواء باردًا والماء أبرد، لكنّه أبقاه تحت الماء خمس دقائق. أمّا أنا فلم أستطع تحمّل ذلك وقلت: "سيتجمّد الطفل تحت هذه المياه".

 

460

 


431

الفصل التاسع والثلاثون

قال الطبيب: "لا تقلقي لن يحدث له شيء".

 

عندما وضعوا طفلي على السرير أسرعتُ إليه. كانت عيناه مفتوحتين. حركت يدي ولكنه لم يبدِ أيّ ردّ فعل!

 

قال الطبيب: "لا تقلقي، لقد أغمي عليه. هذه من عوارض التشنّج. سيتحسّن مع الوقت".

 

عندما أرادوا أن ينقلوه إلى إحدى غرف المستشفى سألت الممرضات عن أبيه، فقال خالي حسيني لهنّ: "إنّ أباه في الجبهة".

 

عند ذلك أخذوا منّي موافقة خطّية لإجراء أي عملية جراحية له إذا لزم الأمر. في ذلك الوقت وصلت أمي، وعندما رأت حالة الطفل بدأت بالصياح: "لقد أخذتِ الطفل وتسبّبتِ بمرضه. كم مرة قلت لكِ لا تذهبي من هذه المدينة إلى تلك المدينة، لا تأخذي الطفل إلى منطقة الحرب، إنّها ملوّثة، لكنّك لم تستمعي إلى كلامي!".

 

تدخّل خالي حسيني لحلّ المسألة قائلًا: "ليس الآن وقت هذا الكلام".

 

مضى أسبوع على وجود عبد الله في المستشفى. لم يبقَ أيّ مكان سالم في جسده من أثر الحقن. ونظرًا لعدم حركته تورّم جسمه. كان يصرخ لدى رؤية الممرّضات. في تلك الفترة لم أخبر حبيب بمرض عبد الله كي لا يقلق. ولكن عندما رأيت بأن وضعه أخذ يزداد سوءًا، وأنّه بحسب تشخيص الأطباء مبتلًى بالحصبة، قررت أن أطلع حبيب على الأمر. اتّصلت به وقلت له: "إنّ عبد الله مريض وهو في المستشفى، من الأفضل أن تأتي".

 

في اليوم التالي وصل حبيب عند منتصف الليل. قال إنّه انطلق من

 

461


432

الفصل التاسع والثلاثون

المنطقة صباحًا، ولكن نظرًا لعدم وجود وسيلة نقل معه اضطر للمجيء بشكل متقطّع راكبًا عددًا من الشاحنات والسيّارات وغيرها من مدينة إلى أخرى حتى وصل إلى طهران. في صباح اليوم التالي ذهبت مع حبيب إلى المستشفى. منذ أربعة أيام كان وزنه اثني عشر كيلو ونصف الكيلو، لكنّه الآن فقد حوالي أربعة كيلو غرامات! كان وجهه أصفر اللون وقد قصّوا له شعر رأسه بالكامل. كما إنّ عينيه قد تورّمتا وجحظتا. كان أشبه ما يكون بالمخلوقات الفضائيّة!

رأى عبد الله أباه، ارتفعت معنوياته، وصار يتماثل للشفاء يومًا بعد يوم حتى أخرجناه من المستشفى في اليوم التاسع. عندما أراد حبيب أن يعود إلى منطقة العمليات بعد أسبوع قلت له: "سأعود معك". ولكن ليلى التي تعبت معنا كثيرًا خلال تلك المدة أصرّت على أن لا أعود إلى المنطقة، إلّا أنني لم أحتمل البقاء فعدت مع حبيب إلى آبادان.

 

ما إن وصلنا حتى ارتفعت حرارة عبد الله ثانية وظهرت علامات المرض عليه مرة أخرى. وحينها صارت حرارتي ترتفع أيضًا وأصابت جسمي وصوتي حال من الارتعاش. لم أغب عن طفلي لحظة واحدة خوفًا من أن يصاب بتشنّج مرة أخرى. لم تؤثّر الأدوية فيه. في تلك اللحظات تذكّرت قصة الرمانة التي طلبتها السيّدة الزهراء من الإمام علي أثناء مرضها، فأتى الإمام عليهما السلام بالرمان، ولكنّه أعطاها لفقير أثناء عودته إلى البيت. وعندما وصل رأى سلّة رمان سماوية. اعتقدت أنّ الرمان سيحسّن حالة عبد الله. قلت ذلك لحبيب فاشترى بعضًا منه. عندما أكل عبد الله الرمان انخفضت حرارته وتحسّنت حاله.

 

بعد أن خَلع الإمام الخميني بني صدر من منصبه كقائد القوات

 

 

462


433

الفصل التاسع والثلاثون

المسلّحة هرب الأخير من البلاد بشكل مفتضح. على أثر ذلك قام المجاهدون بأربع عمليات كبيرة تُوّجت بالنجاح. فتمّ إبعاد مدفعية العدو وقلّ قصفها على المدينة. كما خفّت حدّة القصف الجوي على آبادان واستقرّت الأوضاع في الجبهة.

 

في عام 1362 (1983) بدأت الهجمات العراقية تشتدّ على المدينة مرة أخرى. كانت شلمجة لا تزال محتلة من قبل العراقيّين. فأخذ شبابنا يستعدّون للهجوم، وطلب منّا عناصر الحرس الخروج من مكان سكننا إلى منطقة آمنة. كلما اشتدّت حدّة القصف العراقي وطلب منا الحرس إخلاء المنطقة كنّا نعرف أنهم يحضّرون لعمليّة عسكرية. في ظلّ تلك الظروف تعرّف عبد الله إلى أصوات القذائف والمدفعية، فكان بمجرد أن يسمع صوت قذيفة يقول لي : "أمّي نامي، لقد جاءت".

 

غادرت جميع العوائل التي كانت تقطن في بيوت الإذاعة والتلفاز. حتى حارس المجمع أرسل عائلته أيضًا. بقيت أنا والسيّدة جبار بيكي فقط. كان العيش في تلك الظروف صعبًا جدًّا بالنسبة لي. فقد بتّ أخاف. لم أكن كذلك قبل ولادة عبد الله، أمّا الآن فقد بتّ أقلق كثيرًا عندما تكون المنطقة غير آمنة. قررنا أن أذهب أنا وعبد الله إلى طهران. وبسبب مسألة حملي وضع الحرس الثوري سيارة تحت تصرّف حبيب. طوال المسير كانت الطريق تتعرّض للقصف بشدة. استطعنا بصعوبة أن نصل ظهرًا إلى شوش حيث بيت أخت السائق الذي كان من عناصر الحرس أيضًا. رافقنا حبيب إلى خرم آباد، حيث بيت جدّي، ثمّ طفق عائدًا إلى المنطقة. في تلك الليلة ساءت حالي جرّاء القلق والاضطراب الذي اعتراني أثناء الطريق. وفي صباح اليوم التالي ذهبت مع خالتي

 

463

 


434

الفصل التاسع والثلاثون

سليمة وزوجها وأولادها إلى طهران.

 

في أوّل إسفند عام 1362 (آخر شباط 1984) وصلنا إلى طهران. كان من المفترض أن ألد طفلي الثاني بعد شهر، ولكني ولدته في اليوم الثاني من وصولي؛ الثاني من إسفند (21 شباط) وأسميت المولودة هدى.

 

عندما خرجت من المستشفى أتيت إلى بيت "دا" التي كانت آثار التعب والعناء بادية عليها، لذا لم أرد أن تقوم بأيّ عمل لي. كان شتاء تلك السنة باردًا وانقطعت المياه الساخنة في مبنى كوشك. غير أنّ إصراري على القيام بالأعمال بنفسي أدّى إلى إصابتي بمشاكل جسدية واضطراري للدخول إلى المستشفى. كان عمر عبد الله سنة ونصف السنة، وعمر هدى شهرين. اتصلت بليلى في أصفهان لكي تحضر وتعتني بالطفلين. كما حضر حبيب إلى المستشفى وعاد فورًا إلى المنطقة لأنه لم يستطع الحصول على إذن للبقاء. طوال فترة بقائي في المستشفى كانت ليلى و"دا" تحضران هدى ثلاث مرات يوميًا لكي أرضعها. بعد فترة عدت أنا وطفلَيّ إلى آبادان.

 

في تلك السنة استخدم النظام البعثي الغازات الكيميائية بشكل واسع في شلمجة والفاو وغيرهما. كنت أشمّ رائحة تلك المواد من دون أن أعرف ما هي، إذ كانت تنتشر في المنطقة كرائحة موز أو ثوم أو خيار أو غيرها من الفواكه عند اشتداد الريح خاصّة. قال حبيب لي مرّة: "إذا شممتِ رائحة فاكهة فلا تستنشقيها. فالعراقيون قصفوا شلمجة بالغازات الكيميائية وهي تنتقل مع هبوب الريح".

 

عندها فهمت قصة رائحة الفواكه. في ذلك الوقت، اضطرّ حبيب لأن

 

464

 


435

الفصل التاسع والثلاثون

يذهب إلى مناطق مختلفة لمتابعة العمليات العسكريّة وقال لي إنّه من المحتمل أن يغيب عنّا لعدّة أشهر. لذا طلب منّي أن أذهب إلى طهران. وعلى الرغم من رغبتي في البقاء، ولكنّي وافقت على الخروج من أجل سلامة طفليّ وإرضاء حبيب. عندما قدمنا إلى طهران كان عمر هدى ثمانية أشهر، لم أستطع بعد ذلك العودة إلى آبادان وبقيت أغراضنا هناك.

 

كان العيش داخل غرفة في مبنى كوشك مع عدد من الأطفال وتردّد الضيوف صعبًا عليّ ولم أكن أشعر بالراحة. وعندما كان حبيب يأتي أيّام عطلته كان يقول: "أشعر بالحرج، فعائلتك غير مرتاحة. هذا صعب جدًّا عليّ".

 

كان بيتنا وبالأحرى غرفتنا بمنزلة المحطّة. فإذا كان لدى أحد عمل في طهران، أو قُبل شخص في الجامعة أو أراد أحد أن يذهب إلى طبيب متخصّص أقام عندنا. كما إنّ اهتمام أخوالنا وأقاربنا وحبّهم الشديد لنا دعاهم إلى زيارتنا بشكل دائم. عند حضور ضيف عازب كنّا نفصل الغرفة بستارة مراعاة للحرمة.

 

عندما رأيت أنّ مدة بقائي في طهران غير معلومة، طرحت مشكلتي مع مؤسسة الشهيد. فأرسل مسؤول المؤسسة رسالة إلى مسؤول المبنى ليضع غرفتين تحت تصرّفنا. كان حبيب يكره أن نطلب شيئًا من أحد ويرفض بأن نأخذ شيئًا بعنوان هدية. كان يقول: "إنّ اختيارنا لنكون من المجاهدين على الجبهات هو بحدّ ذاته مدعاة لشكر الله".

 

في إحدى المرّات أرسل تاجر كويتي عددًا من البرادات والمكيفات مع كمية من الحلويات والمكسّرات إلى شباب الحرس في "خرّمشهر" بعد

 

465

 


436

الفصل التاسع والثلاثون

أن سمع بأعمالهم وتضحياتهم. في ذلك الزمن كان أكثر عناصر الحرس القدامى قد تزوّجوا، وكانوا يعيشون بإمكانيّات محدودة. ونظرًا لأنّ حبيب من الرعيل الأول في الحرس فقد كان نصيبه أحد المكيفات، لكنّه أبى أن يأخذ حصّته حتى نفدت الكميّة. تعود هذه المسألة إلى الفترة نفسها حين لم يكن في بيتنا مكيّف وكان حبيب يتهرّب من إصلاحه مراعاة للأحكام الشرعيّة. بعد مدة توقّفت شاحنة صغيرة أمام منزلنا وأنزلوا منها برادًا وقالوا لي: "هذا لكم".

 

عندما حضر حبيب بعد ظهر ذلك اليوم ورأى البراد أمام الباب سألني: "ما هذا؟".

- لا أدري، أحضروه وقالوا هذا لكم.

- ألم أقل إنّي لا أريد شيئًا؟ لماذا يقومون بهذه الأعمال؟

 

ذهب حبيب إلى مقرّ الحرس واعترض على عملهم. فقالوا له: "كان المكيف من نصيبك فلم تأخذه. هذا البراد عوضًا عن المكيّف وهو لك".

 

فقال حبيب: "نحن الآن لدينا براد وغاز أيضًا. لا نحتاج إلى شيء".

 

فقالوا له: "إن هذه الوسائل التي لديك الآن هي خاصّة بالمنطقة، ولكنّ هذه الثلّاجة ملك لك أنت".

 

لم يرضَ حبيب بأن نُدخل البراد إلى البيت، فبقي تحت أشعّة الشمس عدّة أيام إلى أن جاء زوج أختي ليلى ونقله إلى طهران.

 

وذات مرّة عرضوا سجادًا صناعيًّا للبيع بسعر الكلفة، بحيث يحقّ لكل شخص شراء سجّادة واحدة فقط. فلم يقدم حبيب على الشراء أيضًا

 

466


437

الفصل التاسع والثلاثون

وتكفّل زوج ليلى حسين طائي نجاد بشرائها وحملها إلى أصفهان ليحتفظ بها لنا هناك. قال حسين لحبيب: "أنت لا تريد أن تأخذ أكثر من نصيبك فضلًا عن أنّك تدفع ثمنه، فهو ليس مجانيًا".

 

اقتصرت الأدوات المنزليّة في بيتنا في السنوات التي عشناها في آبادان على عدد من الصحون وغاز صغير وبضع بطّانيّات قدمها لنا الحرس عند زواجنا. الشيء الوحيد الذي امتلكناه هو حقيبة سفر كانت مع حبيب عند زواجنا. عند ذهابنا إلى أصفهان أو طهران اعتدت أن أضع أغراض عبد الله داخلها.

 

عندما سلّمتُ الرسالة إلى مدير المبنى اختار لي غرفتين في الطابق السادس. لم يكن لديّ ما أضعه فيهما. أخذت قطعتين من الموكيت من أمي وغطّيت بهما أرض الغرفتين. وكانت أمّي قد اشترت لي من دون أن تخبرني بعض الأواني فقدّمتها لي عندما سكنت في الغرفتين. تعجّبت من عملها هذا. بعد مدة عرف صهري السيّد حسين بأنّي سكنت في غرفة مستقلّة فأحضر السجّادة التي سبق أن اشتراها لنا.

 

عندما أراد حبيب أن يُسلم بيت الإذاعة والتلفاز اتّصل بي وسألني: "ماذا أفعل بالأغراض الموجودة؟".

- أحضرها معك عندما تأتي.

 

عندما جاء حبيب ورأى بأني سكنتُ في غرفة مستقلّة تعجّب وفرح في آن معًا. ولأنّ بيتنا في آبادان بقي خاليًا لمدة من الزمن، اختفت مع الأسف بعض الأغراض فيه. من ضمنها بعض الكتب وأشرطة العزاء لجمشيد برون وحسين فخري ومقابلات أُجريت مع إخوة قد استشهد الكثير منهم.

 

467

 

 

 


438

الفصل التاسع والثلاثون

بعد مدّة اقترح علينا مسؤول المبنى أن ننتقل إلى الصالة في الطابق السابع أنا وأولادي وأمي وإخوتي وأخي محسن -الذي تزوج في شهر مهر (أيلول) من تلك السنة من ابنة عمتي- نظرًا لأننا جميعًا محارم. وقال المسؤول لنا: "إننا لا نستفيد من الطابق السابع ولا نستطيع أن نُسكن فيه أحدًا. من جهة أخرى هناك الكثير من العائلات تعاني من عدم توافر مسكن لها. فإن وافقتم على ذلك سنتمكّن من أن نُسكن عددًا من الأشخاص في هذا المبنى".

 

وافقنا جميعًا على الانتقال إلى هناك مع علمنا المسبق بصعوبة التردّد إلى الطابق السابع.

 

كان الطابق السابع عبارة عن صالة كبيرة جدًّا ذات جدران زجاجية. تنقسم الصالة بواسطة أبواب جرّارة إلى ثلاثة أقسام. في آخر الصالة غرفة مفصولة بحائط من مادّة "الفايبر"، استُخدمت في السابق كغرفة لإعداد الطعام في مؤسسة التخطيط والموازنة. ولأن بيت "دا" لا يخلو من الضيوف فضّلت السكن في تلك الغرفة الصغيرة، وهذا يمكّنني من استخدامها كمطبخ أيضًا. في الصيف كانت أشعّة الشمس الحارّة تدخل من خلال الزجاج فترتفع حرارة الصالة كثيرًا بحيث نظنّ أننا نسكن في الفرن. لم يكن لدينا أي وسيلة تبريد. وعند هطول الأمطار في الشتاء كان الماء ينفذ من خلال الثغرات الموجودة في النوافذ فيملأ المكان. مع مرور الزمن اهترأت أطراف السجاد بسبب الماء الداخل. ورغم أننا غطّينا الجدار الزجاجي ببساط منعًا لتسرّب البرد، لكنّ ذلك لم يُجدِ نفعًا. فقد كان سقف الصالة صناعيًّا فتخرقه الريح وتنتشر في الصالة. وعندما كانت تأتي الطائرات الحربية العراقية لقصف طهران، کان الزجاج يهتزّ بقوة

 

468

 


439

الفصل التاسع والثلاثون

ويصدر أصواتًا مزعجة؛ لذا کنت أضع عبد الله وهدی في جهة آمنة وأنام أنا في الجهة الأخرى بحيث إنّه إذا انکسر الزجاج أکون حائلًا دون إصابة طفليّ بأذى.

 

بعد مرضه أصيب عبد الله بحساسيّة خفيفة. لم يعد يستطيع تناول الألبان والفاكهة الصيفيّة وكان عليه اتّباع حمية غذائية خاصة. في أغلب الأوقات کان صدره يصدر أصواتًا. أثناء الليل يصعب تنفّسه بحيث يصاب بالاختناق، فکان يشدّ شعره ظنًّا منه بأنه إن اقتلع شعره فسيتمكّن من التنفس بسهولة ويقول لي ببراءة: "أعطني الهواء، أعطني الهواء!".

 

فأسارع إلى وضع جهاز التنفّس الذي وصفه الطبيب في فمه، وأضغط على الجهاز حتى يلتقط أنفاسه. أصابت هذه الحال عبد الله في معظم الليالي حين يكون الجميع نيامًا. لم أرغب بأن أزعج أحدًا. مرّت تلك الليالي صعبة جدًّا، وكنت أفتقد حبيب وأتمنّى أن يكون معي في تلك الأوقات. ولكن عندما أفكر في أهميّة الحرب ووجود حبيب الفعّال، كنت أتحمّل الصعاب.

 

رغم سكني في غرفة مستقلّة إلّا أنّي لم أغفل عن "دا" بتاتًا. فعندما كانت في الطبقات السفلى شغلت نفسها مع الجارات في المطبخ المشترك. فلم يكن هناك مجالٌ لتغرق في أفكارها. ولكن انتقالنا إلى الطابق السابع أتاح لها ذلك. فعلَّقت صور شهداء "خرّمشهر" على الجدران وغدت تروح وتجيء وتنوح بالكرديّة والعربيّة وتذرف الدموع. أمّا أنا فكنت أتحمّل ذلك وأُغلق أُذنيّ حتى لا أسمع صوتها لكني كنت أبكي أيضًا. وعندما أرى أنّ بكاء أمي وأنينها لن ينتهيا وكأنها بانتظار أحد يواسيها، كنت أذهب إلى غرفتها فأرى إخوتي قد تجمعوا في زاوية واضعين رؤوسهم بين

 

469


440

الفصل التاسع والثلاثون

أرجلهم، فيحترق كبدي لرؤية هذا المنظر. كنت أحضن "دا" وأضع رأسها على صدري وأقبّلها محاولة تهدئتها. هذا في الوقت الذي كان داخلي يلتهب كالجمر. أمّا إخوتي فكنت أصطحبهم إلى الحديقة وأشتري لهم بعض المأكولات وأجول معهم في الشوارع ثم نعود إلى البيت. لكن لم يكن ثمّة من يشعر بي، بل كان بعض الناس يواسونني بطريقة غير لائقة ويجرحونني بلسانهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون، أو يشفقون عليَّ من خلال تصرّفاتهم. كلّ تلك الأمور كانت تثير استيائي!

 

في عام 1364 (1985م) أرسل الحرس الثوري حبيب إلى طهران للمشاركة في دورة تخصصية في الأسلحة، مدّتها سنتان، لكنّه رجع إلى المنطقة قبل إتمام السنة الأولى منها. طوال فترة وجوده في طهران كان مضطرب الحال. ما إن يسمع بشروع عمليّة عسكريّة حتى تثور ثائرته ويغضب، فيمشي ويضرب على رأسه وهو يقول: "لعنك الله يا حبيب، أنت هنا والشباب في العمليات. ترى ماذا يفعل الشباب الآن؟ يا ليتني كنت معهم الآن!".

 

كنت أقول له: "حسنًا، قم واذهب. لماذا تبقى هنا تتحسّر هكذا؟".

- لا أستطيع، هذه الدورة ضروريّة وعليَّ أن أنهيها.

 

في النهاية لم يُكمل من الدورة إلّا عامًا واحدًا وتركها. هكذا كان حبيب دائمًا؛ عندما يأتي في إجازة، في كل وجوده يريد العودة إلى الجبهة. في بعض الأوقات عندما يرى وضعي ووضع الأولاد وصعوبة العيش كان يقول: "إذا كنت غير راضية فلن أذهب".

 

لكن لعلمي أنّي إن طلبت منه البقاء سيأتي بمئة حجّة وذريعة لكي

 

470

 


441

الفصل التاسع والثلاثون

يذهب، كنت دائمًا أُشعره بأنّي غير حزينة، بل مسرورة جدًا.

 

كان حبيب يسألني دائمًا: "ماذا ستفعلين إذا استشهدت؟".

 

لقد رأيت الكثير من النساء اللواتي استشهد أزواجهن؛ زوجة الشهيد عبد الخاني، زوجة الشهيد عباس بور ورباب حورسي زوجة الشهيد خسروي التي رأيت صورتها وهي تمسح الدم عن وجه زوجها الشهيد. في ذلك الوقت كانت رباب حاملًا وبعد شهادة إبراهيم خسروي وُلدت ابنتها وديعة. ونظرًا لأنّي وضعت نفسي مكانهن مرارًا وشاركتهن لوعة فراق أحبّتهن، كنت أقول لحبيب: "شأني شأن الأخريات، لست أفضل منهنّ".

 

ولكني أحيانًا عندما أرى حبيب يكتب وصيته، كنت أقول له: "بالله عليك لا تكتب في الوصية بأن اصبروا ولا تبكوا عليّ، لا أستطيع أن أصبر أكثر من ذلك. لا أستطيع أن ألبّي طلبك. صعب عليّ أن لا أبكي بعد الآن".

 

فيضحك حبيب ويقول: "حسنًا ابكي قدر ما تشائين، ولكن من أين لك أن تعلمي بأني سأستشهد؟".

- على كل حال، لقد هيّأت نفسي لكل شيء.

 

في تلك الأيام ونظرًا لظروف الحرب والحصار الاقتصادي على البلد كانوا يعطوننا بطاقة لشراء بعض البضائع. عندما كان خالي حسيني يعود إلى البيت بعد انتهاء عمله عند الساعة الثانية ظهرًا، يأكل طعامه بسرعة ويذهب لشراء الحليب الجاف لعبد الله وهدى وبعض حاجات البيت. ظلّ دائمًا معنا كالمدير الجيد يهتم بجميع المسائل. يسألنا دائمًا عن حاجاتنا ويحرص على أن لا نبقى بلا نقود. في بعض الأحيان عند مواجهة بعض التصرفات غير اللائقة من الآخرين، أقول في نفسي لو كنت

 

471

 


442

الفصل التاسع والثلاثون

برفقة رجل لما حصل معي مثل هذه المواقف. لطالما شعرت بصعوبة غياب رجل عن البيت لكن سرعان ما كنت أتغلّب على تلك الأفكار وأتعزّى لدى رؤية أخوالي. لقد كان وجود خالي حسيني وخالي نادعلي نعمة كبيرة في تلك السنوات الصعبة.

 

بلغ راتب حبيب عند زواجنا ألفًا وثمانمئة إلى ألفي تومان. وصل في عام 1362 (1983م) تقريبًا إلى ثلاثة أو أربعة آلاف تومان. في أوائل أيام حياتنا الزوجيّة سألت حبيب مرة: "هل أستطيع أن آخذ من هذه الأموال وأعطيها لأشخاص مستحقّين أو متضررين من الحرب والزلازل و...؟".

- البيت والمعيشة تحت تصرّفك، تشعلينها أو توزّعينها، الأمر لك.

 

مع أنّ وضعنا المادي كان غير جيد، ورغم أنّ حبيب أعطاني حرّية الاستفادة من المال إلّا أنني وفّرت بعضه. فتحت حسابًا في مصرف "ملت" في شارع فردوسي بمبلغ بسيط بحيث لو احتجنا إلى المال لن يضطرّ حبيب لأن يطرق باب أحد.

 

أصرّ أخواي حسن وسعيد عليّ أن يذهبا إلى الجبهة مثل منصور ومحسن اللذين كانا في المنطقة آنذاك، ولكنّهما رُفضا لصغر سنّهما. أخيرًا وُفِّق حسن وسعيد للذهاب إلى الجبهة عام 1365 (1986م) حيث خضع حسن لدورة تدريبيّة لستة أشهر وخضع سعيد لثلاث دورات. في كل مرة كانا يريدان تسجيل اسميهما للذهاب إلى الجبهة كانا يطلبان منّي أن أرافقهما لتوقيع ورقة الموافقة على ذهابهما مكان أمهما. لكن انطلاقًا من سوء سابقتي عند "دا" في قضيّة إخفاء شهادة أخي عليّ، لم أُخفِ

 

472


443

الفصل التاسع والثلاثون

عنها أنّ سعيد وحسن يريدان الذهاب إلى الجبهة. قلقتُ من أن يحصل لهما أي مكروه، عندها لن تسامحني "دا" أبدًا.

 

كنت أحاول إقناعها فكانت توافق ولكنّها تقول: "فليذهبا، بشرط أن يعودا سالمين".

 

كان حسن قد أدّى اثنين من امتحانات الفصل الأول للسنة المتوسطة الأولى عندما حان وقت ذهابه إلى الجبهة، حيث بقي ستة أشهر كاملة. تواصلنا مع بعضنا البعض عبر الرسائل. لم أحبّ كتابة الرسائل إطلاقًا، وكنت لا أردّ على رسائل حبيب أبدًا، بل أجيبه هاتفيًّا. على عكس حبيب الذي كان يحب الكتابة. وعندما رأى بأني لا أجيب على رسائله اقتنع بعدم إرسال رسائل أخرى إلّا ما شذّ وندر.

 

لكنّ ظروف أخي حسن كانت مختلفة، لذا فقد ألزمت نفسي بإرسال أجوبة لرسائله. ذهب حبيب عدّة مرات لرؤية حسن الذي لم يضعوه في الخط الأمامي، بل عمل حارسًا في منطقة خلفية، الأمر الذي أزعج أخي، لكن تلك المنطقة كانت تعتبر حساسة وغير آمنة إلى حدّ ما، وكثيرًا ما قصفتها طائرات العدو.

 

في إحدى المرات كتب حسن في رسالته بأنّ أحد المجاهدين أسقط طائرة عراقيّة وقد شاهدها حسن وهي تسقط... لقد كنت أرى الحماسة والاندفاع جليّين في رسائله. قبل أن يعود حسن من المنطقة بدأ سعيد بالتوسل إليّ. كان سعيد ولدًا عجيبًا، هادئًا جدًّا ومجتهدًا. كانت أفعاله وأعماله محطّ اهتمام الجميع. درس هو وحسن في المدرسة نفسها، وفي حين اشتكوا من مشاغبات حسن مدحوا سعيد.

 

473

 


444

الفصل التاسع والثلاثون

كانت أخلاقه وصفاته تلك تذكرني بعليّ، كما إنّ وجهه شابه وجه علي كثيرًا، خصوصًا بحاجبيه المتّصلين ببعضهما البعض. وكلّما احتاج حسن وسعيد أمرًا في المدرسة كان عليّ أن أذهب بنفسي. كنت أقول لهما: "لن أذهب إلى مدرستكما، إنّها مليئة بالرجال"، لكنّهما يصرّان عليّ حتى أضطرّ إلى الذهاب.

 

انتسب سعيد إلى فرقة الإنشاد والمسرح في التعبئة الطلابية. أراد مدير الفرقة السيّد جواد هاشمي، الممثّل في السينما والتلفاز، أن يأخذ الفرقة إلى الجبهة. وكان عمر الفتيان في الفرقة يتراوح بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة. بعد أخذ الموافقة من أمي ذهبت إلى مؤسسة الثقافة الواقعة في ميدان الحر، وقابلت السيّد هاشمي ووقّعت على الأوراق المرتبطة بمشاركة سعيد الذي كان يرغب بالذهاب إلى هناك للقتال، ولكنّ مسؤولي الفرقة تعهّدوا للأهالي بأنّ أولادهم سيؤدّون الأناشيد والمسرحيات فقط. ذهب سعيد وأصدقاؤه إلى دو كوهه، هويزة، بستان، سوسنكرد، الفاو،... وأقاموا برامج متنوعّة للمجاهدين المرابطين هناك.

 

في شهريور من العام 1366 (آب 1987م) انتقلت العمليات العسكريّة إلى غرب إيران. ذات ليلة رأيت في المنام الشهيد شمران وتحدّثت معه كثيرًا. ونظرًا لقلقي على وضع منصور، سألت الشهيد عنه فقال إنّهم سيأتون به. وسألته عن أشياء أخرى، إلّا أنّه أجابني ضاحكًا: "لا أستطيع البوح بهذه الأشياء".

 

بعد رؤية هذا الحلم تغيّرت حالي وكرهت كلّ ما يرتبط بهذه الدنيا. لم تُمحَ مشاهد الحلم من أمام عينيّ. لقد شغل ذهني وجه الدكتور

 

474

 


445

الفصل التاسع والثلاثون

شمران العرفانيّ وكلامه.

 

لم أستطع أن آتِ على ذكر شيء من ذلك الحلم لأمي. لم أذكره سوى لفوزية وطن خواه. قبل ذلك الحين، وبالتحديد في بهمن من العام 1364 (كانون الثاني 1986)، أُصيب منصور في رجله اليسرى وبقي ثمانية أشهر في البيت. وُضع في رجله قضيب جرّاء الإصابة، ولكنّه ما إن فكّ الجبيرة عنها واستطاع أن يمشي عليها حتّى عاد إلى المنطقة.

 

بعد ذلك الحلم بعدّة أيام، حدث أن شعرت بالإعياء فطلبت من فوزية أن تذهب معي إلى مستشفى "أمير أعلم" الواقع على رأس شارع كوشك. أثناء الطريق بدأت فوزية بالكلام. أحسست بأنّها تريد أن تخبرني عن شيء ما، ولكنها تُهيّئني لذلك. قلت لها: "ادخلي في صلب الموضوع، قولي ماذا حدث؟ أنا أنتظر".

- رأيت شخصًا من مؤسسة الشهداء والجرحى يسأل عنك في المبنى، يبدو أنّ حلمك قد تحقّق.

 

لدى سماعي هذا الكلام انفجرت باكية وقلت: "إلهي، إنّ "دا" لا تحتمل ألم الفراق مرة أخرى!".

- والله إنّ أخاكِ منصور لم يستشهد، ولكن يبدو أنّ إصابته بليغة.

- بالله عليكِ كوني صريحة. ماذا حدث؟ ليس هناك مشكلة بالنسبة لي ولكني قلقة على "دا".

- والله إنّي لا أقول هذا الكلام لمواساتك. لقد طلب منصور نفسه أن يذهبوا إلى بيتكم ويخبروكِ أنت فقط بأنّه أُصيب. وقد حضر مندوب المؤسسة مرتين إلى بيتكم ولم يجدك هناك، ووجد أمّكِ لكنّه لم يخبرها

 

 

475


446

الفصل التاسع والثلاثون

بشيء. ولقد رأيتُه صدفةً في ممرّ المبنى.

 

رغم وضعي الصحيّ السيّئ، إلّا أنني صرفت النظر عن الذهاب إلى المسشفى وذهبت مع فوزية إلى مؤسسة الشهداء والجرحى(وزارة الصحة) حاليًا الموجودة في تقاطع جمهوري-حافظ. عندما أعطيت موظّفي المؤسسة اسم منصور نظروا في اللائحة وقالوا إنّه أصيب في رجله وأُخرج من المنطقة على الفور ونُقل إلى مستشفى في مشهد. أخذت عنوان ورقم المستشفى وأجريت مكالمة هاتفية. قيل لي إنّ منصور موجود هناك وقد أُجريت له عدّة عمليّات جراحية ويلزمه بضع عمليات أخرى. عندما تأكّدت من وجود منصور في المستشفى في مشهد، حجزتُ تذاكر للقطار وعدت إلى البيت.

 

لم أدرِ ماذا أقول لـ"دا". كنت أعلم أنّها ستصاب بالجزع. تصرّفاتها تلك كانت تثير غضبي. في النهاية قلت لها: "أمّاه، أريد أن أقول لك شيئًا شرط ألّا تبدأي بالعويل والنواح".

- ماذا هناك؟ والله لن أقول شيئًا.

 

ما إن ذكرت اسم منصور حتى أخذت تضرب نفسها. فقلت: "لن أقول شيئًا". وهممت بالخروج من الغرفة، فقالت: "تكلّمي. والله لن أقول شيئًا"، وصارت تبكي بهدوء.

 

قلت: "لقد أصيب منصور برصاصة في رجله، ونقل إلى مشهد. وقد أُجريت له عدّة عمليات جراحية. سأذهب لزيارته".

 

وبعد وعود قطعتها أمّي لي بأن لا تجزع ذهبنا إلى مشهد ومعي عبد الله وهدى. عندما وصلنا إلى مشهد، أخذت من غرفة استعلامات

 

476

 


447

الفصل التاسع والثلاثون

سكة الحديد عنوان المستشفى وذهبنا مباشرة إلى هناك. كان المسشتفى خارج المدينة، واسمه "كامياب". عندما وصلنا، كان المكان مزدحمًا جدًّا ولم يسمحوا لأحد بالدخول. تقدّمت وتحدثت مع الحارس وقلت له: "إنني أول مرة آتي إلى مشهد، وليس لدينا أحد هنا. جئت برفقة أمي وهذين الطفلين لرؤية أخي".

 

نظر الحارس إلى أمي وطفليّ وقال: "حسنًا، ولكن ستدخلون فرادى".

 

ولأني لم أكن على اطّلاع دقيق على وضع منصور، لم أسمح لـ"دا" بأن تدخل، فدخلت أولًا. ورغم أني ما برحت أوصي أمي طوال المسير قائلة: "لا تبكي، عندما نذهب إلى هناك. منصور حساس وستؤذينه، وهذا سيؤثر سلبًا على معنويات بقية الجرحى..."، لكني حين دخلت الغرفة ورأيته ممدّدًا على السرير، لم أتمالك نفسي وبدأت بالبكاء محاولةً عدم إظهار ذلك. عانقت منصور وقبّلته. لقد تغيّرت ملامحه ونحل جسده. ومع علمي أنّ أمي تنتظرني في الخارج، إلّا أنّ قلبي لم يسمح لي بأن أترك منصور. جلست إلى جنبه فقال: "مع من جئتِ؟".

- مع أمّي وهدى وعبد الله.

 

فقال مستاءً: "لماذا أتيتما إلى هنا وتكبّدتما عناء السفر؟".

- لم يكن بوسعنا ألّا نأتي.

 

في تلك الأثناء دخلت إحدى الممرّضات إلى الغرفة فطلب منها منصور بأن تأتي بأمي وولدَيّ إلى الغرفة. ذهبت الممرضة وعادت معهم. بدأت "دا" بالبكاء قبل أن تدخل إلى الغرفة. حاولت جاهدة أن أسكتها فلم أستطع فشرعت بالبكاء أنا أيضًا. حاولت "دا" أن تتوقّف عن البكاء لكنّها

 

477

 


448

الفصل التاسع والثلاثون

لم تستطع. عندما كانت تكفّ عن البكاء تبدأ يداها وشفتاها بالارتجاف، وتسيل دموعها بصمت كالنبع الجاري. بقينا مع منصور حتى أذان الظهر. بعد ذلك طُلب منّا بكل احترام الخروج من المستشفى. ذهبنا إلى مقام الإمام الرضا عليهما السلام وصلينا جماعة هناك. ثمّ اشترينا طعامًا من السوق وتناولناه ثمّ عدنا إلى المستشفى. بعد زيارتنا الثانية لمنصور، تذكّرت بأنّي لم أفكر في مكان للنوم بعد. كنا في شهر شهريور (آب) والمدينة تغصّ بالزوار. بحثنا في جميع الفنادق وشقق الإيجار الموجودة في أطراف حرم الإمام الرضا عليهما السلام لكنّها كانت ممتلئة. بدأت الشمس تغرب والهواء يبرد. وسمعنا صوت القرآن الذي يبثّ قبيل الأذان. شعرت بضيق في صدري لأننا لم نجد مكانًا. توجّهت إلى حرم الإمام الرضا عليهما السلام وطلبت منه أن يجد لنا مخرجًا لما نحن فيه من غربة وتشرّد. عاودنا البحث مرة أخرى في أطراف ميدان آب وفي الأزقّة القديمة، فوجدنا فندقًا باسم "بيت المقدس". دخلت إلى هناك وسألت: "هل لديكم غرفة خالية؟".

- كلا.

 

هممت بالخروج فإذا بأمّي وولديّ قد دخلوا خلفي. عندما رآهم عامل الاستعلامات قال: "هل هؤلاء معكِ؟".

- أجل.

- لماذا أتيتم؟ للزيارة أو لعمل آخر؟

- إنّ أخي جريح نقلوه إلى هنا وقد أتينا لزيارته.

 

عندما أنهيت كلامي قال رجل الاستعلامات: "أنا خجل منكِ، لقد أُمرتُ بعدم تأجير غرف للنساء اللواتي يأتين بمفردهنّ، لذلك قلت لكِ إنّه ليس

 

 

478


449

الفصل التاسع والثلاثون

هناك غرفة خالية. ولكن لأنكما أتيتما لرؤية جريحكما، يمكنكما الذهاب إلى لجنة الحرم لكي يعطوكما رسالة تعريف، وسأكون في خدمتكما.

 

عدت مرة أخرى إلى الحرم وذهبت إلى اللجنة وتحدثت معهم حول القضية. فقال الأخ الموجود هناك: "لماذا لم تراجعوننا منذ البداية؟ إن لمؤسّسة الشهيد فندقًا مخصّصًا لعوائل الشهداء".

- لم أكن أعلم بذلك.

 

أخذت الرسالة وعدنا إلى فندق بيت المقدس، فأعطانا الرجل هناك غرفة صغيرة. لم تكن مساحة الغرفة أكثر من متر ونصف في مترين. وُضع على أرضها سجّادة صغيرة قديمة جدًّا. كنت قد حملت معي ملاءتين وبعض الثياب للطفلين. وضعت إحدى الملاءتين على أرض الغرفة، وأخذت عباءة أمي وعلّقتها على النافذة الخشبية القديمة كستار. كان عشاؤنا عبارة عن خبز وعنقود عنب اشتريته أثناء الطريق. أحضر لنا عامل الفندق بطانيّة ووسادة. ولكنّي لم أشعر برغبة باستعمالهما لوضعهما الرثّ، فأرجعتهما إليه ونمنا بهذا الشكل. ولأن عبد الله وهدى كانا يلعبان طوال الوقت فقد خلدا إلى النوم سريعًا من شدّة التعب. فيما اضطررت أنا و"دا" لأن نجمع أرجلنا أثناء النوم لضيق المكان.

 

قضينا ثلاثة أيام ما بين الحرم والمستشفى. كان عمر عبد الله خمس سنوات وعمر هدى ثلاث سنوات ونصف السنة. كانا يلعبان ويشاغبان من الصباح عند خروجنا وحتى الليل عندما نعود بحيث إنّ ملامح وجهيهما تغيّرت. كنا نصلّي في الحرم ونأكل الطعام في المطعم، وعندما يحين وقت الزيارة نذهب إلى المستشفى. كنا نجلس منصور على عربة

 

479

 


450

الفصل التاسع والثلاثون

المُقعدين ونُخرجه إلى باحة المستشفى.

 

كان الجرحى الآخرون الموجودون مع منصور في الغرفة أفضل حالًا منه ويتنقّلون مستعينين بالعصا، وكانوا يلعبون مع عبد الله وهدى فيما نتحدّث نحن مع منصور. سألت منصور: "كيف أُصبت؟".

 

- خرجت ذات ليلة مع صديقي على درّاجته النارية. أثناء عبورنا بسرعة على أحد الجسور. انهمر سيل من القذائف والشظايا على رؤوسنا. فجأة وقعت بقربنا قذيفة مدفعية وانفجرت. ففقدنا التوازن وطرنا إلى مكان آخر. كنت قد لقّمت سلاحي استعدادًا لأي هجمة محتملة، فعلقت يدي بالزناد وأطلقت النار فأصيبت رجلي بثلاث طلقات.

 

أدّت شظايا القذيفة والطلقات الثلاث والوقوع عن الدرّاجة الناريّة إلى تكسّر رجل منصور وتهشّمها من الساق إلى الأسفل، وكُسر فكّه وأسنانه، كما وُضعت رجله اليمنى في الجصّ من الحوض.

 

لأننا لم نستطع البقاء كثيرًا في مشهد طلبنا من مسؤولي المستشفى نقل منصور إلى طهران. في البداية قالوا إنّهم لن يستطيعوا ذلك. لكن ما لبثوا أن قالوا: "ليس لدينا أي مشكلة، نسّقوا مع طهران فقط".

 

عدنا بعد ثلاثة أيام إلى طهران. كانت صديقة فوزية وطن خاه تعمل في مركز إخلاء الجرحى في مستشفى الإمام الخميني، وعندما علمت بأننا نريد نقل منصور إلى طهران قامت بالتنسيق مع مؤسسة الشهداء والجرحى. في أحد الأيام اتصلوا من المؤسسة وسألونا: "إلى أي مستشفى تريدون نقل جريحكم؟".

- لا فرق لدينا، نريد نقله لأننا لا نستطيع الذهاب دائمًا إلى مشهد

 

480


451

الفصل التاسع والثلاثون

لزيارته، وإلاّ فإنّ دمه ليس أثمن من دماء الآخرين.

 

اتّصلوا مرة أخرى وقالوا: "سينقل أخوكِ إلى مستشفى مهراد في شارع مير عماد. تعالي في التاريخ الفلاني إلى المطار حيث قسم إخلاء الشهداء والجرحى الموجود في أطراف مدرج ساها".

 

ذهبنا في التاريخ المقرر إلى المطار. كانت الطائرة قد وصلت قبل موعدها وأُخلي الجرحى منها. كانت الساعة الثانية عشرة في منتصف الليل. ذهبنا إلى مستشفى مهرداد بسيارة أحد الجيران الساكنين في مبنى كوشك، وكان من عوائل الشهداء أيضًا. عند الباب الرئيسي لم يسمحوا لنا بالدخول وقالوا إنّ الجميع نيام.

- أريد أن أرى أخي لحظة واحدة وسأعود بسرعة.

 

كان منصور مستيقظًا ومعه صديقه السيّد لشكري. حين اطمأننت عليه انصرفت. بعد مدّة خرج منصور من المستشفى وبقي كالمرة السابقة فترة طويلة في البيت. كان ينزعج من أن يبقى مدة طويلة في مكان ما بانتظار أن يتعافى. كان يصيح ويئن من ألم رجله. وضع الأطباء في رجله قضيبًا من "البلاتين" من المفصل إلى الركبة ومنها إلى الحوض ولفّوا كامل رجله بالجصّ حتّى حوضه. كانت براغي القضيب البلاتيني خارج الجص. هذا وقد مُلئ جسمه بالشظايا. في كثير من الأحيان كان منصور يخرج الشظايا الموجودة في سطح الجلد خاصة منطقة الوجه وأطراف العين بحيث يتورّم مكان الشظايا. فأقول له: "لا تفعل هذا يا منصور، من الممكن أن يتمزّق شريان أو عصب ما أو تتأثّر أعصاب العين ويؤدّي ذلك إلى مشكلة". فيقول: "لا تقلقي، جميعها سطحيّ".

 

481

 


452

الفصل التاسع والثلاثون

ذكر لنا منصور أنّ الأطبّاء أرادوا أن يبتروا له رجله في مستشفى "صحرائي"، لكنه لم يسمح لهم بذلك. وبعد أن نُقل إلى مشهد أجرى له طبيب ماهر لا أذكر اسمه، ولكن منصور كان يتحدث عنه كثيرًا، عمليّة جراحيّة دامت تسع ساعات حتى استطاع أن يرمم عظم رجله ويحول دون قطعها. بعد العملية قال الطبيب لمنصور: "إنّ قدمك لن تُقطع ولكن لا تتوقع أن تكون كما في السابق. هناك أقسام قد تفتّتت بشكل يستحيل ترميمها".

 

عندما نُقل منصور إلى طهران كان الجو حارًّا. صار يشعر بحكّة شديدة في رجله، ولكنّه لم يستطع أن يقوم بشيء، فيضيق ذرعًا وينهال ضربًا على الجص. لقد أثّر الضعف والإغماء والمخدّر في العمليات سلبًا على منصور وبات سريع الغضب. لم أعرف كيف أساعده. حاولت أن أحكّ على الجص، لكن من دون جدوى. بعد مدّة وجدت حلاًّ لذلك، أتيت بسلك معدني وصرت أدخله إلى داخل الجص وأحكّ له رجله. لم يكن لدينا مكان للاستحمام في مبنى كوشك. فقد كنّا طوال هذه السنوات نذهب إلى حمام عموميّ في شارع الأستاذ نجات اللهي. عندما انتقلنا إلى الطابق السابع، حوّلنا الغرفة الصغيرة إلى حمام. فكنت آخذ منصور إلى هناك فأغطي رجله بكيس كبير وأقوم بتدليك جسمه بالماء والصابون، ثم أنظفه بقماشة مبلّلة. عندما أغسّل رأسه ويديه بالماء كنت أحرص على أن لا يدخل الماء إلى الجص ويتبلّل ما قد يؤدّي إلى التهاب الجروح؛ لذا فقد كان منصور ينزعج عند الاستحمام كثيرًا. عندما كنت أساعد منصور في الاستحمام كنت أتذكّر أخي علي، فتنهمر دموعي على خدّي وأخفي ذلك عن منصور كي لا يحزن. فقد غسلت رأس علي مرّة

 

482

 


453

الفصل التاسع والثلاثون

أو مرتين، حيث كان يقوم بإكمال بناء بيتنا التابع لبيوت البلديّة، وبعد انتهائه من العمل كنت أغسل رأسه.

 

خضع منصور للعلاج لمدة سنة. في تلك المدة نزعوا الجبيرة عن رجله عدة مرات ليأخذوا صورة لها ثم يغطّوها مجدّدًا. قصُرت رجله اليمنى عشرة سانتيمترات فكان يعرج عند المشي. في البداية كانت رجله ضعيفة جدًّا بحيث لم يعد فيها أثر للعضل. قال له الطبيب إنّ عليه أن يتسلّق الجبال ويمشي كثيرًا لكي تنمو عضلات رجله. ولا تزال رجله اليمنى حتى اليوم أنحف من الأخرى، ولكن نحمد لله بأنه يستطيع الوقوف على قدميه.

 

بعد العام 1985م، تغيّرت أوضاع المبنى؛ حلّت عوائل الشهداء الطهرانيين الذين كانوا يعانون من مشكلة في السكن تدريجيًّا مكان العوائل الخوزستانية المتضرّرة من الحرب. فأدّى اختلاف العادات والثقافات للعوائل إلى بعض المشاكل. كلّ يغنّي على ليلاه! في السنوات الأولى كان الناطور يقوم بتنظيف المبنى، ولكنّ هذا الأمر أصبح من مسؤولية سكان المبنى، لكلّ عائلة يوم محدد. كان البعض يراعي ذلك ويبذل ما بوسعه للتنظيف، لكنّ البعض الآخر لم يكن يؤدّي واجبه. لم تكن المشكلة تقف على مسألة النظافة فحسب. ففي السنوات الأولى كان القسم الثقافي يقوم بفعاليات وأنشطة هادفة كما افتُتح مستوصف لخدمة الأهالي، لكنّ هذا القسم ألغي فيما بعد. لم أكن أؤمن بضرورة تأمين كافّة الخدمات لعوائل الشهداء والجرحى، ولكنّي أعتقد بأنّهم عندما يجمعون عدّة عائلات ذات عادات وتقاليد مختلفة، فلا بدّ من وجود إدارة صحيحة لهذا التجمّع.

 

483


454

الفصل التاسع والثلاثون

لقد كان في ذلك المبنى عائلات لا تراعي حقّ الجار ولا تهتمّ بالقيم الأخلاقية. ربّ إحدى الأسر الذي فقد قدمه في الجبهة كان يرتكب أعمالًا غير أخلاقية ومتحجّرة ويضيع أجره من خلالها. فقد دخل مدة من الزمن في سلك الدراويش وكان يأتي بعدد من أمثاله إلى المبنى، فيقومون بأعمال عجيبة وغريبة. قيل إنّهم كانوا يدخلون سيخًا في طرف من جسمهم ويخرجونه من الطرف الآخر. في بعض الأوقات كان والدا تلك الأسرة يحبسان أولادهما في غرفة ليخرجا ويرفّها عن نفسيهما. وقد يطول غيابهما لعدّة أيام، فيقوم الأولاد بالهرج والمرج والضرب على الجدران. ولا يخفى ما قد يرتكبه خمسة أولاد مشاكسين في غرفة! كانت غرفتهم تعجّ بالجراثيم. مع أن الجيران كانوا يتضايقون منهم ولكنّهم يثيرون الشفقة!

 

لم تُجدِ شكاوي الأهالي إلى مؤسسة الشهداء للاهتمام بهذه العائلة. فبقيت في المبنى إلى أن خرج الجميع منه. وكانت عاقبة جميع الأفراد الذين رافقوا ذلك الرجل الإدمان، كما تشتّتت عائلته وطلّق زوجته وانحرف أولاده. تخلّى الرجل عن امرأته وأولاده السبعة وذهب إلى مشهد وتزوّج امرأة أخرى.

 

كان في مبنى كوشك مشاكل كثيرة مماثلة. فقد حُكم على ربّ أسرة أخرى بالسجن لمدة طويلة بتهمة تهريب المخدّرات. وبعد قضاء عدة سنوات خرج من السجن بعفوٍ عام. ومع ذلك عاد إلى التهريب، وكان أولاده يساعدونه في تجارة المخدّرات والتهريب.

 

شكّل ابن الناطور السابق عصابة من الشبّان، وقاموا بسرقات مسلّحة في بعض الأحيان. في إحدى المرات قتلوا شخصًا أثناء السرقة، ما أدى إلى إلقاء القبض على عدد منهم وفرار الآخرين. كان الشبّان المدمنون في

 

484


455

الفصل التاسع والثلاثون

المبنى يقومون بأعمال السرقة أيضًا ولا يغضّون الطرف عن شيء. حتى إنّهم سرقوا صفائح الألمنيوم الموضوعة على سلالم الطوابق السبع للمبنى والتي توضع منعًا لتفتّت حوافّها، وباعوها. وجود هؤلاء الأشخاص سبّب الأذى للجميع خاصة النساء والبنات. هذه الأمور كانت تثير غضبي، فقد خفت على إخوتي من أن يميلوا إلى هؤلاء الأشخاص، كما قلقت بشأن زينب التي أصبحت حينئذ في عمر المراهقة. صحيح أنّ خُلق إخوتي وسلوكهم جيّد، ولكنّ القلق لم يفارقني.

 

لم يكن ثمّة فائدة من تردّدي إلى مؤسسة الشهيد بغرض الشكاية على الأسر ذات المشاكل الاجتماعيّة. كان المسؤولون يقولون لي: "إنّهم من عوائل الشهداء أيضًا ولديهم الحق في العيش هناك".

 

قلت لهم: "عندما تسكنون المدمنين والمجرمين مع عوائل الشهداء، فستُفجع هذه العوائل المثكولة أكثر برؤية أشخاص كهؤلاء. أسكنوهم في مكان آخر على الأقلّ. لماذا تتسبّبون في انحراف الآخرين بسببهم!".

 

في خريف عام 1982م، انتسبت زينب إلى مدرسة شانديز[1] الواقعة في شارع رامسر. علمت معلّمات المدرسة بأن زينب ابنة شهيد. في أحد الأيام أتين مع طالبات الصفّ الخامس إلى بيتنا وطلبن منّي أن أحدثهنّ عن شهادة أبي وعلي. عندما عرفن بأني أسكن في آبادان، قلن إنّهنّ يرغبن في الذهاب إلى "خرّمشهر" لرؤيتها. فما كان منّي إلّا أن دعوتهنّ إلى هناك. في فروردين 1362 (آذار 1983م) حضرت المديرة برفقة معلمتين من مدرسة زينب إلى آبادان واستضفتهنّ لعدة أيام. وبعد التنسيق مع حبيب اصطحبناهنّ لرؤية المناطق العسكريّة في "خرّمشهر".


 


[1]  لم تكن مدارس شاهد قد أنشئت بعد. بعد مدة تغير اسم هذه المدرسة إلى مدرسة بعثت.

 

485


456

الفصل التاسع والثلاثون

بعد تأسيس مدارس شاهد، سجّلنا زينب في مدرسة "شاهد روشنكر". ونظرًا لأنّ زينب كانت فعالة في الأنشطة المدرسيّة والبرامج الثقافية وقارئة قرآن أيضًا، فقد حظيت بمحبّة المعلّمات. وكانت معلمة الاجتماعيات، السيّدة "رئيس قاسم"[1] وبعض المعلمات يأتين إلى بيتنا كثيرًا. في إحدى المرّات عندما كانت السيّدة رئيس قاسم في بيتنا تحدثت معها عن الوضع الأخلاقي والثقافي الرديء في المبنى وعن قلقي على زينب والأولاد. بعد مدّة من الزمن جاء مدير مؤسسة الشهيد، الشيخ كرّوبي، لرؤية مدرسة شاهد وكانت زينب هناك. فسألته السيّدة "رئيس قاسم" معترضة: "لماذا تسكنون عوائل الشهداء في أماكن تعرّضهم لخطر المخدّرات والفساد الأخلاقي؟ هذا لا يليق بشأن عوائل الشهداء!".

 

فقال الشيخ: "ما الموضوع؟ وبمن يرتبط؟".

 

فقامت السيّدة رئيس قاسم بتعريف زينب إلى الشيخ كرّوبي. فطلب منها أن تكتب اسمها واسم عائلتها وعنوان سكنهم. فأملت السيّدة رئيس قاسم على زينب سطورًا تشرح فيها وضع عائلتنا والمبنى، ثمّ سلّمت الورقة إلى الشيخ.

 

بعد سنتين من كتابة هذه الرسالة؛ أي في العام 1987م، تسلّمت "دا" شقة ذات وضع سيّئ، وكانت من بين البيوت المصادرة[2]. أثناء ذهاب "دا" من مبنى كوشك تم إخلاء شقة في الطابق الرابع. تشاجر جميع أهالي الطوابق العليا من أجل الحصول على تلك الغرفة، ولحلّ هذه


 


[1]  زوجة السيّد خرازي وزير الخارجيّة الأسبق .

[2]  البيت الذي أعطوه لأمي والأولاد من ضمن مجموعة المباني التي صودرت من الصهاينة. كانوا من يهود بنام في إيران وبعد الثورة الإسلامية هربوا إلى خارج البلاد. كان اسم الزقاق الموجود فيه البناء هارونيان، وتغير اسمه لاحقًا إلى اسم أبي الشهيد السيّد حسين حسيني.

 

486


457

الفصل التاسع والثلاثون

المشكلة قال مسؤول المبنى إنّه سيعطي الغرفة لمن له الأولوية. من جهتي كنت قلقة بشأن العيش وحدي في صالة الطابق السابع الواسعة بعد ذهاب "دا" وإخوتي.

 

كان الطابق السابع بعيدًا عن مشاحنات الطوابق السفلى ومشاكلها. خاصة غرفتي التي كانت في آخر الصالة إذ كانت تغرق في سكون عجيب. لم نكن ندري بما يحدث في الأسفل وكنّا ننشغل بعملنا فحسب. في خرّمشهركانت الأسر كبيرة، فكان الأولاد يخرجون صباحًا ليلعبوا في الأزقة والشوارع. وعندما يجوعون ظهرًا يعودون إلى البيت ليأكلوا ثمّ يخرجون مرة أخرى عصرًا ويسرحون ويمرحون حتى يتعبوا فيعودوا ليلًا إلى بيوتهم. ولأنّ أبي كان يهتم بالناحية التربوية كثيرًا، فكان لا يحب أن يخرج أولاده ويبقوا في الأزقة والشوارع بتاتًا. أتذكّر حين كنّا نقوم بعمل مشين في نظره، كان ينادينا وينظر إلينا من دون أن يتفوّه بكلمة. كانت نظراته الثقيلة تكفي. فنطرق برؤوسنا لعدّة دقائق ولا نتجرأ أن نرفعها وننظر إليه حتى يسمح لنا بالذهاب. هذا النوع من التربية جعلنا لا نقيم روابط مع سكّان الطوابق السفلى فعشنا في عالمنا الخاص.

 

كان الطابق السابع كالمعزول عن بقية الطوابق. عندما أنزل إلى الأسفل أسمع بأن شيئًا قد حدث أو أنّ مشاجرة حصلت بين الجيران، ونحن غافلون عن ذلك كلّه. كان مبنى كوشك الأطول بين الأبنية المجاورة، ما سمح لسكّان الطابق الخامس وما فوقه بالإحاطة بجميع ما حولهم. أمّا نحن في الطابق السابع فقد كنا نرى السماء فقط من خلال جدرانه الزجاجية. ولطالما شعرت بأني أجلس في سفينة في محيط أزرق تدور حول نفسها ولا تهتدي إلى اليابسة. واشتدّ شعوري

 

487

 


458

الفصل التاسع والثلاثون

بالوحشة عندما كانت طهران تتعرّض للقصف فيهتزّ المبنى ويرتعش زجاج الجدران من حولي!

 

كان العمل والصعود والنزول على السلالم للوصول إلى الطابق السابع يضغط على ظهري بشدة. حذّرني الطبيب من خطورة الحركة والمشي وخاصة الانحناء، ومن إمكانيّة أن تؤثّر الشظيّة الموجودة في العمود الفقري على النخاع ما قد يؤدّي إلى شللي. وأوصاني أيضًا بأن أصلّي من جلوس وأستريح قدر المستطاع.

 

مع أني لم أحبّ أن يؤدي أحد عنّي أعمالي أو أزعج الآخرين بسببي، ولكن في بعض الأحيان كان خالي حسيني و"دا" يقومان بشراء بعض الحاجات لي. بعد ذهاب "دا" تحتّم عليَّ أن أقوم بأعمالي بنفسي. لهذه الأسباب ذهبت إلى السيّد سياهبوش[1]، مسؤول المبنى، وكان رجلًا كادحًا ومتفهّمًا. لم أذكر له شيئًا عن إصابتي، واكتفيت بالقول بأنّي مصابة بـ"الديسك" وقد منعني الطبيب من الصعود على السلالم، وإذا ذهبت والدتي فلن أستطيع العيش في صالة الطابق السابع مع طفلين في ظلّ غياب أبيهما.

 

فقال السيّد سياهبوش: "أنتِ محقّة فيما تقولين، فأنا أمارس الرياضة، ومع ذلك فإنني أشعر بانقطاع أنفاسي عند صعود السلالم، فكيف بكِ وحالك هكذا!".

 

وبالفعل انتقلت أنا وعبد الله وهدى إلى الطابق الرابع. وقد أدّى هذا إلى اعتراض الكثير من السكان.


 


[1]  السيّد سياهبوش مدرب بينغ بونغ وإنسان شريف. ذهب عدة مرات إلى الجبهة، لذلك كان يشعر بمشاكلنا.

 

488


459

الفصل التاسع والثلاثون

تركت أمي وإخوتي مبنى كوشك في العام 1988م. كان عمر زينب ثلاثة عشر، سعيد خمسة عشر، حسن سبعة عشر ومنصور واحدًا وعشرين عامًا. مع ذهابهم إلى البيت الجديد الخاصّ بهم شعرت براحة البال إلى حدّ ما، وبقيت أنا وحدي مع ثلاثة أطفال. إذ ولدت ابنتي فاطمة، ثالث أبنائي، وكان لها من العمر حينئذ ثلاثة أشهر. لم أكن أرغب أن يلعب عبد الله وهدى مع أولاد المبنى في الممر، خصوصًا أني رأيت بأمّ عيني الشبّان الفاسدين يتعاطون المواد المخدرة على السلالم الاضطرارية، وخشيت أن يرى عبد الله وهدى هذه المناظر؛ لذا كنت مجبرة على اللعب معهما بنفسي. كنت أقرأ لهما القصص والكتب وأسلّيهما. أعلم بأنّ اللعب مع الأتراب كان له نكهته الخاصّة بالنسبة لهما. فلا أنا أستطيع أن أفهمهما بشكل جيد ولا هما يستطيعان أن يفهماني جيدًا. لذلك كنت في بعض الأوقات أسمح لهما باللعب مع أولاد المبنى لكن تحت إشرافي. كما كنّا أحيانًا نذهب إلى الحديقة أو نزور بعض الأصدقاء.

 

خلال تحرّكي في بعض الأحيان كنت أحسّ بأن فقرات العمود الفقري تتحرك من مكانها. وقد يصل بي الأمر إلى أن أصرخ جرّاء اصطكاك الفقرات ببعضها البعض، فلا أستطيع تحريك رجلَيّ. حينها لم أكن أستطيع أن أمشي خطوة إلى الأمام ولا إلى الخلف فأضطرّ أن أجلس في مكان أينما كنت ولو في الشارع حتى تزول آلام ظهري ورجلَيّ. لم أرغب أن يعرف أحد سبب وقوفي وجلوسي الفجائيين.

 

في الطابق الرابع كانت تسكن أربع عائلات. الأولى سيدة مستضعفة من أهل طهران كانت تعيش وحدها، وقد أعطوها ذلك المسكن لظروف خاصة فيها. والثانية عائلة شهيد توفّي أبوه وتزوّجت أمّه

 

489


460

الفصل التاسع والثلاثون

-وكانت أفغانية الأصل- ثانيةً وقد عقد الإمام الخميني قرانها. وكان لها حفيد بعمر عبد الله. الزوج الثاني كان رجلًا محترمًا جدًّا، يقلّل من تجواله في المبنى. وكان يهتم كثيرًا بالولد ويعتبره ذكرى من الشهيد ويشتري له أفضل الأغراض والثياب.

 

أما الغرفة الثالثة فكان فيها والدة شهيد تتكلم بالآذريّة اعترضت على سكني مكان ولدها. وقالت: "إنّ هذه المرأة -وتعنيني أنا- أخت شهيد وولدي أخ لشهيد أيضًا. أنتم لم تراعوا الإنصاف في هذا الأمر!".

 

تحدّثت معها وقلت: "ولدك رجل في أشدّه، ولم يذهب إلى مكان بعيد، إنه ما زال يعيش في طهران مع عائلته، ولكن زوجي لا يمكنه أن يرانا سوى مرّة واحدة في الشهر". هذا فضلًا عن يقيني بأنّ كنّتها وبحسب ما عرفته عن طباعها، لا تقبل السكن في مكان كهذا إطلاقًا. لكنّ العجوز بقيت على موقفها!

 

وفي الغرفة الرابعة تسكن عائلة شهيد كثيرًا ما كان ربّ الأسرة يغيب بداعي سفر عمل أو أنّه يخرج إلى عمله في الصباح الباكر ويعود ليلًا.

 

أمّا والدة الشهيد الآذريّة فكانت تعيش وحدها، تهتمّ بالنظافة كثيرًا وهذا ما أعجبني فيها، لكنّها مع الأسف كانت تزعج الجيران كثيرًا. فقد كان المطبخ في كلّ طابق حقًّا مشتركًا لجميع العائلات، فما إن تدخل المطبخ إحدى السيّدات لتغسل وعاءً أو تقضي حاجة حتى تحضر تلك السيّدة وتعترض على مكوثها الطويل في المطبخ! ونظرًا لأنّها اعتادت أن تكون وحدها وليس ثمّة ما يُشغل وقتها فقد كانت تتشاجر مع الأولاد مانعة إيّاهم من اللعب في الممرّ. رغم أنّهم

 

490


461

الفصل التاسع والثلاثون

يخرجون للّعب في الوقت المحدّد لهم. بدورنا كنّا ننبّه الأولاد باستمرار أن يراعوا حال كبار السنّ والمرضى قدر الإمكان. غير أنّ الصبيان لم يعيروا كلامنا أيّ اهتمام، وظلّوا يلعبون بالكرة ويثيرون الضجّة، حتى تعلو معها شتائم المرأة وسبابها!

 

حصلت معي بعض المواقف جعلتني أشعر أنّ تلك السيّدة طيّبة وأنّها لا ترغب في التصرّف بتلك الطريقة القاسية، فكنت أحاول تبرير تصرّفاتها تلك. في أحد الأيّام أحببت أن تفصح لي عن ما يختلج في قلبها من آلام فسألتها عن ماضيها. قالت لي: "في التاسعة من عمري أُكرهت على الزواج من رجل يكبرني سنًّا. وغدت حياتي مع زوجته الأولى صعبة جدًا! من جهة أخرى كنت لا أزال أحبّ اللعب والمرح نظرًا لصغر سنّي وهذا ما كان يثير غضب حماتي التي لطالما أجبرتني على العمل، وانهالت عليّ ضربًا".

 

لدى سماعي هذا الكلام قلت في نفسي: "إنّ المعاناة التي عاشتها هذه السيّدة جعلت أذيّة الآخرين بالنسبة لها أمرًا عاديًّا". بعد ذلك حاولت جاهدة أن أتحمّل تصرّفاتها.

 

أمّا السيّدة الأفغانية فكانت غريبة الأطوار. عندما تتصادق مع أحد تفديه بحياتها وتبوح له بكلّ أسرار حياتها، فتتحدّث وتتحدّث حتى يُصاب السامع بالجنون. وإن ساءت علاقتها مع أحد كانت تحاربه حتى آخر نفس، وتقلب الدنيا على رأسه! كانت تنزعج بشدّة حين يناديها أحد بالأفغانية، وتقول: "أنا زوجة إيراني، ووالدة شهيد إيراني".

 

قلت لها: "سيدتي وما المشكلة في ذلك؟ ألم تقولي إنّ الأفغانيين عقلاء

 

491

 


462

الفصل التاسع والثلاثون

وشجعان وغيارى، إذًا لماذا تنزعجين من هذا الكلمة؟". لكن لم يكن من طائل من كلامي بالنسبة لها.

 

ذات صباح جاءت جارتي التي سافر زوجها في مهمة وطلبت مني بعض الأموال. اعتذرت منها وقلت: "إنّه آخر الشهر وإلى الآن لم يرسل لنا حبيب الراتب. ليس معي شيء الآن".

 

ودّعتني وذهبت. في الممرّ التقت بزوج السيّدة الأفغانيّة واقترضت منه بعض النقود بخجل شديد. هذا الأمر أدّى إلى حصول مشاحنة كبيرة. فقد كانت السيّدة الأفغانية تغار على زوجها لأنّها تكبره بعدّة سنوات. لذا فقد سلبته طعم الراحة بسبب فعلته تلك. هذا ولم يسلم الجيران من اتّهاماتها خاصة المرأة التي اقترضت من زوجها النقود طيلة شهرين أو ثلاثة.

 

كانت غرفتي متّصلة بغرفة السيّدة الأفغانية وزوجها عن طريق باب، قد أغلقه من كان يسكن الغرفة قبلي بالآجر والإسمنت. ورغم أني وضعت بعض الأثاث هناك ولكني كنت أسمع أصواتهما. صراخ تلك المرأة على زوجها ظلّ يُسمع حتى منتصف الليل! في تلك الفترة كنت أنتظر مولودي الرابع وأشعر بأصوات الشجار تنهال على رأسي كالمطرقة فتسلبني النوم. ورغم محاولتي عدم التركيز على صراخهما عبر الاستماع إلى القرآن، أو الصلاة على النبي وآله، ولكن كانت أصواتهما تغطي على كل شيء. في اليوم التالي كانت المرأة تتشاجر مع الجيران؛ تذهب إلى المطبخ وتبقى فيه طويلًا بسبب وسواسها الشديد، لذا لم يكن أحد يتجرّأ على الدخول. كانت تقول: "لا يحقّ لأحد الدخول إلى هنا ما دمتُ موجودة".

 

ولأنّي أراعي وضعها، تعاملت معي بطريقة أفضل من الأخريات. كثيرًا

 

492

 


463

الفصل التاسع والثلاثون

ما كنت أذهب إلى المطبخ فأرى المياه تجري من الصنبور هدرًا في حين أنّها مشغولة بعمل آخر.

 

أوكلت مهمّة تنظيف كلّ طابق بما يشمل من ممرّات وسلالم ومطبخ وحمّامات إلى سكّانه. في أغلب الأوقات لم تكن العجوز الطهرانية موجودة في بيتها، وفي فترة وجودها في غرفتها يأتي ضيوف لزيارتها. ومع أنها كانت تستخدم المطبخ والحمّامات لكن لم تعاونّا في تنظيف المكان. لم يكن لديها مانع بأن تنظّف أمهات الشهداء الممرّات والحمّامات وتقوم هي وضيوفها باستخدامها.

 

كان من الصعب عليّ تنظيف الممرات نظرًا لتردّد الرجال على السلالم وفي الطوابق الأخرى. فمن جهة لم أشعر بالراحة إن ربطت عباءتي حول ظهري أثناء العمل. أما إن تركتها مرخاة فسوف تصعّب عليّ عملي فضلًا عن أنّها ستتنجّس حتمًا. فالممرات والسلالم كانت متنجّسة نتيجة عدم مراعاة الأهالي للطهارة، كما إنّ نور الشمس لم يكن يسطع عليها. لم تكترث السيّدتان الآذرية والأفغانية بمسألة ربط العباءة لأنّهما مسنّتان. لذلك كنت أضطرّ للتنظيف آخر الليل أو في الصباح الباكر. ولكن، سرعان ما يتّسخ كل شيء مع حلول الظهر فيقلن الجارات لي: "إنّه دورك، لماذا لم تنظّفي؟".

 

في نهاية الصالة، غرفة صغيرة فُصلت عنها بواسطة جدار خشبي. ولأنّ غرفتي تقع في نهاية الصالة أجاز لنا مسؤول المبنى الاستفادة من تلك الغرفة كمطبخ. ولكي أتمكّن من أن أذهب إلى هذا المطبخ متى شئت من دون اضطراري لارتداء العباءة على رأسي، تحدّثت إلى السيّد "سياهبوش" الذي سمح لي بتقديم الجدار الخشبي إلى الأمام بحيث أصبح لدينا غرفة مستطيلة الشكل يفتح باب غرفتنا عليها، وصرت

 

493

 


464

الفصل التاسع والثلاثون

أستخدمها كصالة وكمطبخ في آن معًا. كما رفعنا الجدار الخشبي قليلًا إلى الأعلى صيانة للستر أثناء عملي. وهذا العمل دفع والدة الشهيد التي أرادت أن يسكن ابنها مكاننا إلى الاعتراض مجدّدًا، إذ ادّعت هذه المرّة بأنّ رفع الجدار أدّى إلى إظلام الممرّ ما يتسببّ في انقباض قلبها لأنّها تعاني من مرض القلب. مع العلم بأنّ نوافذ الممرّ الموجودة عند بداية كلّ طابق ونهايته هي المنفذ الوحيد الذي يسمح بدخول شحيح لنور الشمس. وبما أنّ الطوابق الخمسة السفلى من المبنى محاطة بالأبنية كان داخل المبنى مظلمًا جدًّا. لذلك كانت مصابيح الممرّات منارة بشكل دائم. فإذا انقطع التيار الكهربائيّ حلّ ظلام دامس في المكان بحيث تتعذّر الرؤية. لذلك ومراعاة لحال والدة الشهيد أرجعنا الجدار الخشبي إلى حاله السابقة!

 

أخيرًا، رغم المدّ والجزر والأحداث المختلفة والكثير من الكلام الذي لم أقله، انتهت الحرب في شهر تير من العام 1367 (حزيران 1988). لكنّ حبيب بقي في المنطقة نظرًا لمسؤوليته التنظيميّة. كبر الأولاد وكبرت مشاكلهم أيضًا، وبلغوا سنّ دخول المدرسة. عمليًا كانت مسؤولية الحياة بتمامها على عاتقي. في تلك السنوات كانوا يوزّعون النفط عن طريق البطاقة. فإذا لم نتمكّن من شرائه بواسطتها لم نستطع أن نشتريه من السوق وإن وجدنا فهو غالي الثمن. عندما تتوقّف شاحنة تعبئة النفط أمام المبنى كان الأهالي يقفون إلى جانبها في صفّ لشراء النفط قبل أن تبطل البطاقات. حمل أوعية النفط أو جرار الغاز إلى الأعلى كان المصيبة العظمى. فكلّما كانت الغرفة أعلى كان العيش أمرّ وأصعب. لذلك أراد الجميع أن يسكن في الطبقات السفلى.

 

494

 


465

الفصل التاسع والثلاثون

في تلك السنوات التي عشتها في مبنى كوشك زارنا پاپا، الذي ترك خرم آباد وسكن في دره شهر، عدّة مرات. كان يلبس كعادته "دشداشة" وشالًا أسود يربطه حول ظهره وعباءة على كتفيه ويعتمّ بعمامة. لم يكن يخلع عباءته سوى في أثناء العمل. وفي بعض الأوقات كان ينزع عمامته أمّا القلنسوة فتبقى على رأسه دائمًا. كان يعتقد بأنّ على السادة أن يحفظوا عظمة نسبهم، ويؤكّد علينا دائمًا أن نحترمهم.

 

كان عمر عبد الله ثلاث سنوات عندما جاء پاپا إلى بيتنا أول مرة. وصل في الصباح الباكر وذهب إلى غرفة "دا". كان عبد الله يستيقظ باكرًا ويذهب إلى غرفتها أيضًا. في ذلك اليوم عندما رأى پاپا فتح باب غرفتنا وقال بصوته الطفولي: "تعالي يا أمي، لقد جاء الإمام الخميني إلى بيتنا".

 

تعجّبت وركضت نحو غرفة "دا" فرأيت جدّي.

 

عندما كان پاپا يأتي لزيارتنا، يبقى عدة أيام عندنا ثمّ يذهب إلى بيت خالي حسيني. ذات مرّة كان صهر خالي موجودًا في بيت خالي حين قرّر پاپا الذهاب إلى هناك. ولكنّه لم يرَ جدي من قبل، بل ولم يسمع باسمه وكنّا نناديه بالكرديّة "پاپا" لأنّ أولاد خالي كانوا ينادونه بـ"پاپا". وفي ذلك اليوم ردّد أولاد خالي بسرور: "پاپا يريد أن يزورنا، پاپا يريد أن يزورنا!". فاشتبه الأمر على الصهر واعتقد بأن پاپا هو رجل أوروبي "مودرن" وسيحضر مرتديًا بدلة رسمية وربطة عنق وفي يده محفظة "سامسونايت"... أخذ ينتظر رؤيته وسأل الأولاد: "من أين سيأتي پاپا؟".

- من دره شهر.

 

495

 


466

الفصل التاسع والثلاثون

تعجّب صهر خالي وتساءل: "أين هي دره شهر؟ ماذا يفعل هناك؟".

- إنّها في محافظة إيلام.

 

بعد ذلك لم يقل شيئًا إلى أن أراد پاپا الدخول فقال الأولاد: "وصل پاپا".

 

فتقدّم وهو يقول: "أين پاپا؟".

 

فأشاروا إليه فقال: "عجبًا، أهذا هو، إنه سيّد، لقد اعتقدت شيئًا آخر".

 

فأوضحوا له أن لفظ "پاپا" بالكرديّة تعني الجدّ وليس پاپا بالفرنسيّة.

 

كان لجدّي محفظة قد اشتراها من العراق. وضع في داخلها مقصًّا يقصّر به لحيته، مقصّ أظافر، فرشاة أسنان، مرآة ومذياعًا. في الصباح، يؤذّن جدّي ويؤدّي صلاته ثم يستمع إلى المذياع ويتابع أخبار الجبهة.

 

قبل شهرين من وفاته تقريبًا جاء إلى بيتنا. كانت المرة الأولى التي يزورني فيها پاپا في بيتي الخاص لأنّ "دا" كانت قد انتقلت إلى بيت آخر. حاولت أن أحسن ضيافته قدر الإمكان. كنت أعينه على السير من الغرفة إلى الحمّام. ولأنّه كان دائم الوضوء اشتريت له إبريقًا ووعاءً كي لا يضطرّ إلى الخروج من الغرفة ليتوضّأ. كان پاپا كثيرًا ما ينظر إليّ ويقول: "أنت أخت الرجال، أنت شجاعة جدًّا". ثم يدعو لي. سمعت أنّه عندما كان يلتقي بحبيب كان يقول له: "اعرف قدر زوجتك الشجاعة".

 

بعد عدّة أيام، ذهب پاپا إلى بيت "دا"، فاصطحبت أولادي إلى هناك لقضاء أيّام حضوره في طهران معه. كان أولادي يحبّون پاپا كثيرًا.

 

لم تكن حاله الصحيّة جيدة في المرة الأخيرة التي جاء فيها إلى طهران.

 

496

 


467

الفصل التاسع والثلاثون

اصطحبه خالي حسيني إلى الطبيب. كان قلبه ورئتاه وكلّ جسمه سالمًا، إلّا أنّ سنّ الشيخوخة تسبّبت في ضعفه. تولّيت أمر القيام بأعماله، فكنت أغسل ثيابه، وأجلب له الماء ليغسل يديه أو ليتوضّأ، فيشكرني دائمًا ويقول: "أسأل الله أن يمكنني من أن أردّ جميلك".

 

فأقول له: "ما أقوم به ليس شيئًا بالنسبة إلى كل ما قمت به من أجلنا".

 

في تلك الأيام انتاب الجميع شعور غريب. اعتقدنا بأننا لن نرى پاپا مرة أخرى، وأنّ هذه الأيام لن تتكرر. أصرّ پاپا على العودة إلى دره شهر. فذهب هو وعمّتي وخالي نادعلي وعائلته للسكن في دره شهر بعد القصف العنيف على خرم آباد، ولحقهم خالي سليم وخالتي سليمة. قبل دخول الأهالي النازحين إلى دره شهر، كانت المنطقة ذات طابع قروي يعاني سكانها من الحرمان. ولكن بعد ذلك تطوّرت المدينة وبني فيها مسجد[1] ومستشفى كبير.

 

في البداية، أسكنوا المهجّرين في بيوت غير مكتملة كانت معدّة لموظّفي المؤسّسات الثقافيّة. بعض تلك البيوت لم يكن لها سقف ولم يكونوا قد أنهوا سوى الجدران وكانت الأرض لا تزال ترابيّة. لجأت عوائل من دهلران، مهران، إيلام، "خرّمشهر" وآبادان إلى المدينة. لم أسمع باسم دره شهر[2] قبل ذهاب جدّي وأخوالي إليها. تعرّضت المدينة للقصف بعد هجرة نازحي الحرب إليها. بعد القصف رفع أهالي المنطقة هذا الشعار:


 


[1]  عيّن زوج خالتي سليمة وكنا نناديه بخالي عباس خادمًا لهذا المسجد.

[2]  كانت مدينة (دره شهر) في زمن حكومة الإيلاميين مدينة مهمة جدًّا ومقرًّا لحكومتهم، اسمها القديم "ماداكتو" وهي جزء من حضارتهم وتمدّنهم. في السنوات الأخيرة أثبتت محاولات علماء التاريخ القديم وجود مدينة قديمة وتاريخية في تلك المنطقة. تبعد هذه المدينة مسافة 110 كيلومترًا من "انديمشك" قرب "بلدختر". إنّها مدينة جميلة يمرّ بجانبها نهر "سميرة" وتحيط بها الجبال من جميع أطرافها.

 

497


468

الفصل التاسع والثلاثون

"كانت درّه شهر ضائعة والآن وجدت على الخريطة!".

 

بقي پاپا في طهران لشهر واحد وقد سُرّ الجميع به. كان خالي حسيني نعم الولد لجدي وكان يهتمّ به كالأم الحنون. أمّا پاپا فكان يردّد دائمًا: "الحمد الله الذي أبقاني عزيزًا في عائلتي".

 

لم يتخلَّ پاپا حتى في أيامه الأخيرة عن عادته في الكرم والمساعدة. لم يألُ أبناؤه جهدًا في شراء الثياب الجديدة والأنيقة والأحذية الجيدة له، ولكنّه كان يصر على ارتداء ثيابه القديمة ويتبرّع بأفضل أغراضه إلى المحتاجين. قال له خالي حسيني: "أبي العزيز، نحن نشتري هذه الأغراض لك، لماذا تتبرّع بها، قل لنا وسنشتري نحن لهم".

 

فقال جدّي: "إنّ لهؤلاء الأشخاص كرامة وعزّة نفس، ولا أحب أن يذهب ماء وجههم أمامكم".

 

رأيته يفعل ذلك مرارًا عندما كنّا في البصرة أيّام طفولتي. ففي إحدى الليالي الباردة عاد پاپا إلى البيت بعد أن تبرّع بثيابه التي كان يلبسها للمحتاجين. فاستاءت جدّتي منه وقالت له بعصبية: "أيّها العجوز ستمرض هكذا، لماذا لم تحتفظ بأحدها على الأقل حتى تعود إلى البيت ولا تُصاب بالمرض".

 

توفي جدي بعد زيارته الأخيرة لنا؛ أي في مرداد عام 1371 (تموز 1992م)، ودُفن، حسب وصيّته، في مقبرة إبراهيم بن الإمام محمد الباقر عليهما السلام في مدينة زرين آباد في دهلران الواقعة في قلب تلّة خضراء. لم يذهب پاپا إلى "خرّمشهر" بعد تحريرها. أعتقد أنّه عزّ على جدّي أن يذهب إلى هناك؛ إلى المدينة التي دُفن فيها أبي وأخي. كأنّه لم يرد أن

 

498

 


469

الفصل التاسع والثلاثون

يصدق هذا الأمر. كلّما دعوته إلى هناك كان يقول لي: "لا أستطيع"، ثمّ يقرأ هذا الشعر باللهجة اللورية: "لقد تلبّدت السماء بغيوم سوداء مظلمة، من رأى أبًا وابنًا يموتان معًا!". وكان يقصد من السماء الملبّدة بالغيوم السوداء الغمّ والحزن اللذَين يثقلان قلب المفجوع.

 

 

499

 


470

الفصل الأربعون

الفصل الأربعون

 

أخيرًا، عاد حبيب في العام 1372 (1993م). حتى ذلك العام كان العدوّ يأسر أو يقتل أفرادًا من قوّاتنا الموجودة على الحدود رغم وجود قوّات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. رضي حبيب أن يرجع إلى طهران بعدما تأكّد من استقرار الأوضاع بشكل كبير جدًّا. مرّت السنوات التي غاب فيها حبيب عنّي وعن الأولاد بصعوبة كبيرة. حدثت أمور كثيرة كنّا بأمسّ الحاجة إليه، ولكنّي تحمّلت مسؤوليتها بنفسي. منعت نفسي من ذكر شيء له عن المصاعب التي عشناها، كي لا أُضعف من عزيمته أو أصرفه عن الذهاب إلى الجبهة. مع أني غالبًا شعرت بالوحدة كثيرًا، ولكني اعتقدت دائمًا أنّ حبيب ليس لنا. لقد خُلق للجهاد في سبيل الله، وإذا جاء إلينا فهذا لطف من الله سبحانه وتعالى.

 

وهكذا شعرت بالنسبة لمنصور ومحسن، وفيما بعد بالنسبة لحسن وسعيد، حين التحقوا بالجبهة. لقد هيّأت نفسي لتحمّل غيابهم. فالتجربة التي اكتسبتها من شهادة أبي وعلي جعلتني لا أتعلّق بأحد كثيرًا، حتى بحبيب لكي يكون وقع شهادتهم أسهل عليّ. بدوره، ورغم كلّ المحبّة التي يكنّها لنا، كان حبيب يتعامل معنا بحيث لا يتعلّق قلبه بي وبعبد الله وهدى.

 

501

 


471

الفصل الأربعون

في إحدى المرّات، رأى حبيب في المنام حسين عيدي في جمع من الشهداء في حديقة خضراء لأحد الأبنية الكبيرة. قال حسين لحبيب: "نحن ننتظرك منذ وقت طويل"، ثم قال: "إن شئت أخذت ورقتك لكي يوقّعوها". فقال له حبيب: "يجب أن آخذ ورقتي بنفسي".

 

عندما حدّثني بهذا الحلم قال حبيب بحزن: "أنتم السبب في ذلك، أنتم تمنعوني من الذهاب!"؛ لذلك لم يكن يكترث لما يقوم به عبد الله من حركات طفوليّة محبّبة. وإذا طلبتُ منه أن يحمل عبد الله لأقوم بعمل ما كان يطلب منّي أن أقوم به لاحقًا، لكي لا يمضي وقتًا طويلًا معه أو مع هدى.

 

لطالما تساءلت كيف يستطيع أن يحبّ عائلته بهذا الشكل ويبقى بعيدًا عنها ولا يظهر عاطفته! كنت أراه أحيانًا قاسي القلب، ولكنّه في بعض الأحيان كان يذرف الدموع لرؤية مشرّدٍ في البرد فلا أصدّق ذلك وأقول في نفسي: "يا إلهي هل هذا هو حبيب الذي أعرفه؟!".

 

مع كل هذا، فقد تعرّضت طوال تلك السنوات، خاصة المدة التي تركت فيها آبادان عام 1363 (1984م)، وحتى العام الذي عاد فيه حبيب إلى البيت، لضغوطات جسديّة وروحية كبيرة وتجرّعت الغصص جرّاء الظروف العائلية والاجتماعية التي خلّفت آثارها السلبيّة على أعصابي بحيث إني لا أزال أعاني من عوارضها حتى الآن.

 

عندما عاد حبيب ورأى بعضًا من مشاكل المبنى قال لي: "لماذا لم تقولي لي شيئًا؟ ما هذا الصبر الذي لديكِ حتى استطعتِ تحمّل كل هذا!".

 

فقلت له: "كانت مسؤوليّتي في ذلك الزمن أن أتحمّل".

 

بعد مدة من مجيء حبيب، تركنا مبنى كوشك وسكنّا في بيت جهّزه

 

502

 


472

الفصل الأربعون

حبيب قرب ميدان فردوسي مع أولادنا الأربعة؛ عبد الله، هدى، فاطمة ومينا.

 

رغم مرور كل تلك السنوات، لم تزل "دا" مفجوعة بشهادة أبي وعلي، فتذهب إلى "خرّمشهر" بحجج مختلفة. عندما كنتُ هناك كانت تتذرّع بشوقها لرؤية عبد الله أو مساعدتي. وبعد مجيئي إلى طهران صارت تتذرّع بأمور أخرى: أريد أن أقضي محرم وصفر في "خرّمشهر"... لقد اشتقت إلى ليلى وأولادها... لقد توفّي فلان ويجب أن أذهب للعزاء و..

 

كنت أعلم أنّ كل هذه المبرّرات كي تزور قبرَي أبي وأخي مع أن الطبيب طلب منها عدم الإكثار من السفر. لقد فقدت أمي والدتها في صغرها، ولهذا السبب، كثيرًا ما اهتمّ بها الجميع وخاصّة جدي. ولكنّ أبي اعتقد بضرورة التعوّد على تحمّل الصعاب وكان يقول: "على الولد أن يتحمّل الصعاب لكي يتمكّن من التأقلم والعيش في المجتمع". إنّ الأعمال والمسؤوليات التي عهدها أبي إلينا جعلتنا نواجه المشاكل من دون أن نضعف.

 

لذلك عندما أتينا من سربندر إلى طهران ومع أننا قد خرجنا من محيط صغير إلى بيئة كبيرة، إلّا أنّ إخوتي استطاعوا أن يتعاملوا مع هذه المسألة بسهولة. لكنّ الصعوبات التي عانتها "دا"؛ الصدمات المعنوية، صعوبة الحياة في المخيم في ظلّ الوضع الصحي المتردّي وشحّ الماء والطعام، مصاريف العيش وتربية الأولاد، كلّ ذلك ساهم في إنهاكها وضعفها. لقد انحنى ظهرها وصارت تمشي بصعوبة جدًّا، وتعاني من رعشة في يديها وكتفيها. "دا" هي ذكرى حياتنا، هي ذكرى شجرة ما زالت تمنحنا ظلّها وثمرها وخضرتها النضرة.

 

503

 


473

الفصل الأربعون

تزوّج جميع إخوتي وأخواتي وصار لكلّ منهم حياته الخاصّة. ليلى في الأهواز، والسيّد محسن والسيّد منصور يسكنان في "خرّمشهر"، فيما لا يزال خالي سليم وخالتي سليمة في دره شهر. توفّيت عمّتي في آخر أيام العام 1385 (بداية 2007م).

 

عام 1383 (2004م) سنحت لي الفرصة وذهبت إلى البصرة. لم يكن لدي متّسع من الوقت، مع ذلك أخذت عيناي تبحثان في الأزقة والشوارع عن بيتنا. أردت أن أجد بيتنا وبيت پاپا لكي أحيي ذكريات الطفولة في خاطري.

 

أردت أن أعود طفلة، حيث تجلس جدتي في باحة بيت پاپا وكنا نحن الأولاد، أنا وعليّ والآخرون، نتشاجر للنوم بجانبها لكي نسمع قصصها. في ذلك الوقت، كانت جدتي تنشد لنا بالكرديّة:

أيها القمر الجميل

أيها القمر الجميل

هل رأيت جدّي في الطريق

يحمل بندقيّته على كتفه

ويذهب إلى غابة الأسود..

 

504

 


474

الملحقات

الملحقات

 

ـ مقابلة مع عبد الله سعادت

ـ مقابلة مع أحمد رضا برويزبور

ـ حوار مع زهرة فرهادي

ـ حوار معايران خضراوي

ـكلام أفسانة قاضي زادة

ـ كلام مريم أمجدي

ـ كلام السيّدة حورسي

ـ مقاطع من كتاب "خرّمشهر خلال الحرب الطويلة"

 

505


475

الملحقات

محادثة هاتفية مع السيّد عبد الله سعادت،

 

المقيم في قم، في شهر مرداد 1386 (2007):

تركت بهبهان وذهبت إلى الأهواز قاصدًا طهران. كان بيت جدي يقع في شارع نادري في الأهواز. كنت أودّ رؤيته أوّلًا ثمّ المضيّ إلى طهران. في ذلك اليوم استُهدف مخزن الذخائر العسكريّة في الأهواز وغرقت المدينة بالنار والدخان. لم يعلم أحد ماذا حصل. انقطع بثّ البرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة. لا يعرف أحد، حتى مركز المحافظة والقيادة، ما مصدر الانفجارات الضخمة المتواليّة. كان الجميع خائفًا.

 

أمّا أنا فوقفت في الشارع تائهًا وحيرانَ. وإذا بحافلة صغيرة قد توقّفت أمامي ونادى سائقها: "خرّمشهر، خرّمشهر". ركبت الحافلة بشكل لا إراديّ ومن دون أيّ قرار مسبق، بل ربما بدافع الفضول فحسب. كان فيها عدد من الرجال والنساء. ما إن وصلنا إلى "خرّمشهر" حتّى ترجّل كلّ الركّاب في مكان معيّن. كانت أجواء الحرب تسيطر على المدينة. يقع بيت خالتي -والدة حسين فخري، الرادود المعروف- في "خرّمشهر"، لكنني لم أقصده قبل ذلك ولم أعرف كيف أذهب إلى هناك. بينما أنا غارق في بحر من الأفكار وإذا بسيدة تقول بالعربية: "أنا روح إلى المسجد الجامع".

 

507

 


476

الملحقات

كان اسم المسجد الجامع مألوفًا لي وقد سمعت باسمه مرارًا، فقلت للسائق على الفور: "أنا في المسجد الجامع".

 

لم أعرف ماذا أقول بالعربيّة. ما إن انعطفت الحافلة من شارع الأربعين مترًا باتّجاه المسجد حتى دوّى انفجار رهيب. أراد السائق أن يتوقّف لأترجّل فخفّف سرعته، وقبل أن تصل قدمي إلى الأرض انطلق بالسيّارة وقفزتُ منها. لم يصبر لكي يأخذ أجرته، بل وضع قدمه على دواسة الوقود وابتعد بسرعة.

 

على الفور، دوّى الانفجار الثاني فصاح عدد من الأشخاص من بعيد: "انبطح، انبطح على الأرض".

 

وقفت وأنا في حيرة من أمري لا أدري ماذا أصنع. رأيت الناس يركضون ويقفزون في الوحل والتراب. دوّى صوت انفجار آخر فناداني أحدهم: "انبطح".

 

بقيت على ما أنا عليه من الحيرة، وكنت أرتدي بدلة بيضاء وقميصًا مكويًا. فجأة دفعتني يدٌ بقوّة فقذفت بي نحو الأمام ورمتني على الأرض. وطارت محفظتي الـ"سامسونايت" إلى الجهة الأخرى. عندها وقع انفجار ثالث تمامًا في المكان الذي كنت واقفًا فيه قبل لحظات. لم أخف، لكنني أصبت بصدمة بحيث لم أستطع الوقوف.

 

بعد لحظة اقترب مني ذلك الرجل الذي دفعني إلى الأرض، فأمسك بيدي وساعدني على الوقوف. عرفت فيما بعد أنّ اسمه محمود فرّخي. عانقني واعتذر منّي وقال: "أتعلم إلى أين أتيت؟ ما لك تسير كيفما تشاء؟ هنا ساحة معركة، ستتحوّل إلى جحيم عند الغروب".

 

 

508


477

الملحقات

دخلت إلى المسجد مع فرّخي فرأيت شيخًا قد خلع عباءته، يقف إلى جانب شاب ويتحدّث إلى مجموعة من المسلّحين. كان الشيخ معروفًا باسم الشيخ شريف أو الشيخ قنوتي وذلك الرجل باسم السيّد مصباحي. دخلت إلى الرواق. ما إن وطئت قدمي المكان حتى ارتعش قلبي وتغيّرت حالي وقلت بشكل لا إراديّ: "لا إله إلّا الله". انتابني شعور غريب، وأحسست بكل وجودي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موجود في المسجد.

 

رأيت عددًا من الأشخاص جلسوا في إحدى زوايا المسجد يفكّكون قطع الأسلحة وينظّفونها، وبعض الفتيات نصبن ستارًا وأخذن يعملن في إسعاف الجرحى، ورجلين يسلّمان الأسلحة للقوات العسكريّة. بعضهم يوزّع المساعدات الإنسانية، وآخرين يكسّرون الثلج وغيرهم يسكب الطعام في الأوعية. هنا رجل يصلّي وآخر يصيح: "العراقيّون يتقدّمون، ولا نملك قوات كافية"، وآخرون مشغولون بأعمال أخرى. عند رؤية هذه المشاهد، انتابني شعور ثوري يعجز اللسان عن وصفه. حدّثت نفسي قائلًا: ترى هل يمكن أن يقبلوني وأبقى هنا، لكنّني لم أذهب للخدمة الإجباريّة ولم أخضع لأيّ دورة عسكرية. لم أستخدم أي سلاح في حياتي سوى المسدس الذي حملته في زمن الثورة.

 

ذهبت إلى حيث يتمّ إسعاف الجرحى وقلت: "أنا حاضر لأساعد في إسعاف الجرحى".

 

رفعوا رؤوسهم وتأمّلوا وجهي وشكلي للحظة. في تلك الأثناء قال لي أحدهم: "عذرًا، نحن لسنا بحاجة لأيّ شيء، فالمكان هنا يضيق بنا".

 

أصبت بخيبة أمل. خرجت إلى باحة المسجد فرأيت عددًا

 

 

509


478

الملحقات

من الأشخاص قد أحاطوا بالشاب الذي دفعني إلى الأرض وهو الأخ فرّخي. انتظرت ريثما أنهوا كلامهم ثم تقدّمت منهم وقلت له إنّي قدمت من بهبهان وإنّي من أقرباء فلان وأخبرتهم بعنوان منزل خالتي، ثم قلت: "هلّا أوكلتم لي عملًا ما؟".

- هل تجيد استخدام الأسلحة؟

- كلا، أنا صيدلي.

- تعال معي.

 

اتّجهنا نحو المسعفين الذي رفضوا مساعدتي سابقًا وقال لأحدهم: "يا سيد خليلي، إنّ السيّد سعادت يستطيع مساعدتكم في أعمالكم".

 

لقد جاء بنفسه إلينا، لكن عددنا كبير بحيث لا نعلم ماذا علينا أن نفعل، كما إنّ الطبيب قد ذهب.

 

بينما كان يتكلم أخذت أتأمّل علب وأكياس المساعدات الإنسانية المملوءة بالأدوية والمتكدّسة بعضها فوق بعض.

 

حلّ الظلام شيئًا فشيئًا وعلا صوت الأذان. وقفت للصلاة بقلب مكسور؛ لأنّهم لم يقبلوني. كانت الظلمة حالكة وانتابني شعور غريب. صلّيت بحالة معنوية لم أشهدها من قبل. بعد الصلاة سمعت السيّد خليلي يقول لأشخاص يطلبون منه دواءً: "لقد ذهب الطبيب صباحًا ولم يعد إلى الآن. لا أعلم أين هو".

 

فهمت أنّهم بحاجة إلى شخص خبير في الأدوية لكي يعطيهم دواءً مضادًّا للتسمّم. نهضت وتقدّمت منهم. وانطلاقًا من خبرة اثني عشر عامًا في الصيدلة والأدوية واحترافي مهنة صناعة الأدوية، مددت يدي على

 

510


479

الملحقات

كيس الأدوية وأخرجت من بينها الدواء المطلوب.

 

بعد تلقّي ذلك العلاج تماثل المصابون بالتسمّم للشفاء. تعجّب السيّد خليلي كثيرًا. من هنا استطعت أن أدخل إلى محيط العمل في المسجد. طلبت من السيّد خليلي أن يعرّفني إلى عدد من الأشخاص المجتهدين لكي نتمكّن معًا من فرز وتوزيع الأدوية التي وصلت، والتي طُبع على أغلبها علامات تجارية أوروبية.

 

أعلنت كل من السيّدات مهرانكيز دريانورد، بلقيس ملكيان، زهرة فرهادي، صباح وطنخواه، بريوش صاحبي، زهرة معيني وأخريات استعدادهنّ للعمل، وبدأ عملنا الجماعي من تلك الليلة تحت جنح الظلام وعلى ضوء الفانوس. رغم أنني لم أتناول طعام الغداء، إلّا أني لم أشعر بالجوع أو التعب، وانشغلت بالعمل بجدّية. وهكذا، تابعنا في اليوم التالي. عندما كنت أرى الشباب ذوي الوجوه النورانيّة الذين يعملون بإخلاص شديد، كنت ألوم نفسي على عدم الحضور إلى هنا باكرًا. صار كلّ كياني مفعمًا بحبّ العمل.

 

في اليوم الثاني، بدأت أرافق المجموعات الذاهبة إلى الجبهات بصفة مسعف. كان العدو قد تقدّم حتى سكة الحديد. تضاعف عملنا كثيرًا إلى حدّ لم نكن ننتبه إلى حلول الظهر أو الليل. كنا نسمع الأخبار من بعضنا البعض. من الشخصيات التي تكرّر ذكر اسمها على الألسن وكثر الحديث عنها: السيّدة حسيني. في البداية أنا لم أعرفها جيدًا. لكن قيل إنّها كانت تأتي إلى المسجد، فتلقي نظرة ثمّ تذهب إلى جنت آباد. وشيئًا فشيئًا، صارت ترافق المقاتلين إلى الخطوط الأمامية. لقد أصبح نشاط السيّدة حسيني وشجاعتها في ذلك الوقت حديث كلّ لسان. تعرّفت إلى السيّدة حسيني

 

511

 


480

الملحقات

في عيادة الدكتور شيباني حيث كانت الأخوات، إضافة إلى تنظيف الأسلحة وصيانتها، يساعدن في مداواة الجرحى ويأخذنهم إلى المستشفى.

 

في اليوم الذي ذهبنا فيه مع السيّدة حسيني إلى "سنتاب" حاملين معنا صندوق المعدّات والأدوية، أصيبت السيّدة حسيني بشظية في ظهرها، لكنّها بقيت في غاية الهدوء. لم يصدر منها أي صرخة أو خوف أو هلع. بالنسبة إليّ كانت شجاعة هذه الفتاة ومقاومتها عجيبة ومنقطعة النظير! قبل ذلك الحين، كوّنت في ذهني صورة عن شخصيّتها الجادّة والقويّة نتيجة ما رأيت من آرائها الدقيقة وتصرّفاتها وحنانها طوال تلك الفترة. لم تتوانَ لحظة عن أداء الأعمال التي أوكلت إليها. كانت تتخذ أهم القرارات من دون تردّد وتبادر إلى تنفيذها. كانت سريعة وحازمة جدًّا في اتخاذ القرارات. إنّ أغلب النساء تغلب عليهنّ العاطفة والأحاسيس المرهفة. ومن الطبيعي أن يضعف الإنسان ويتردّد لدى رؤية الأيدي والأرجل المقطّعة، نزيف الدماء، الرؤوس المليئة بالشظايا، العيون الدامية والبطون الممزّقة تجري الدماء منها! لكنّ هذه السيّدة لم تظهر كذلك. لم تكن تتردّد ولو للحظة. فإذا لزم إرسال مريض إلى المستشفى، تسرع وتؤمّن سيارة أو سيارة إسعاف بسرعة وتوصل الجريح إلى مستشفى طالقاني أو مستشفى شركة النفط. لم تفتر لحظة وحاولت بكل وجودها إنقاذ مدينتها. كانت في كل لحظة في مكان معيّن؛ تساعد في جنت آباد في أمور الغسل والدفن، تدور في أرجاء المدينة وتجمع المصابين والقتلى أو تنسّق بعض الأعمال. لم يُسمح للكثير من النساء القيام بأعمال كهذه، فكنّ يأتين إلى المسجد الجامع ثمّ يعدن، إلّا أنّ السيّدة حسيني ظلّت تدير نفسها بنفسها. كان حجابها كاملًا، تتصرّف باحترام واتّزان كبيرين. كانت تقوم

 

512

 


481

الملحقات

في عيادة الدكتور شيباني حيث كانت الأخوات، إضافة إلى تنظيف الأسلحة وصيانتها، يساعدن في مداواة الجرحى ويأخذنهم إلى المستشفى.

 

في اليوم الذي ذهبنا فيه مع السيّدة حسيني إلى "سنتاب" حاملين معنا صندوق المعدّات والأدوية، أصيبت السيّدة حسيني بشظية في ظهرها، لكنّها بقيت في غاية الهدوء. لم يصدر منها أي صرخة أو خوف أو هلع. بالنسبة إليّ كانت شجاعة هذه الفتاة ومقاومتها عجيبة ومنقطعة النظير! قبل ذلك الحين، كوّنت في ذهني صورة عن شخصيّتها الجادّة والقويّة نتيجة ما رأيت من آرائها الدقيقة وتصرّفاتها وحنانها طوال تلك الفترة. لم تتوانَ لحظة عن أداء الأعمال التي أوكلت إليها. كانت تتخذ أهم القرارات من دون تردّد وتبادر إلى تنفيذها. كانت سريعة وحازمة جدًّا في اتخاذ القرارات. إنّ أغلب النساء تغلب عليهنّ العاطفة والأحاسيس المرهفة. ومن الطبيعي أن يضعف الإنسان ويتردّد لدى رؤية الأيدي والأرجل المقطّعة، نزيف الدماء، الرؤوس المليئة بالشظايا، العيون الدامية والبطون الممزّقة تجري الدماء منها! لكنّ هذه السيّدة لم تظهر كذلك. لم تكن تتردّد ولو للحظة. فإذا لزم إرسال مريض إلى المستشفى، تسرع وتؤمّن سيارة أو سيارة إسعاف بسرعة وتوصل الجريح إلى مستشفى طالقاني أو مستشفى شركة النفط. لم تفتر لحظة وحاولت بكل وجودها إنقاذ مدينتها. كانت في كل لحظة في مكان معيّن؛ تساعد في جنت آباد في أمور الغسل والدفن، تدور في أرجاء المدينة وتجمع المصابين والقتلى أو تنسّق بعض الأعمال. لم يُسمح للكثير من النساء القيام بأعمال كهذه، فكنّ يأتين إلى المسجد الجامع ثمّ يعدن، إلّا أنّ السيّدة حسيني ظلّت تدير نفسها بنفسها. كان حجابها كاملًا، تتصرّف باحترام واتّزان كبيرين. كانت تقوم

 

513

 


482

الملحقات

محادثة هاتفية مع السيّد أحمد رضا برويز،

 

المقيم في أصفهان، في شهر مرداد سنة 1386 (آب 2007)

 

في ذلك اليوم، حين انهمرت على "خرّمشهر" نيران المدافع والقذائف من الأرض والسماء، وصلت بسرعة إلى مكان عملي في الإطفائية حيث حضر زملائي في غير وقت عملهم. ركبنا سيارات الإسعاف والإطفاء وذهبنا إلى النقاط التي تمّ استهدافها. أوصلنا الجثث والجرحى إلى المستشفى وأخرجنا الناس من تحت الأنقاض.

 

استمرّ عملنا حتى الليل ثم عدنا إلى مركز الإطفائية الذي بات مقرّ الزملاء العاملين في البلدية. عند الساعة الثامنة تقريبًا، تلقّينا اتّصالًا من المستشفى وأخبرونا أنّ المكان امتلأ بالجثث والمستشفى لا يحتمل استيعابها كلها. لم يكن أمامنا حلّ سوى نقل الجثث إلى مقبرة جنت آباد ودفنها هناك، فلا يمكن الانتظار حتى يتمّ التعرّف إليها. ذهبنا بما لدينا من سيّارات إلى المستشفى ونقلنا الجثث إلى المقبرة. غصّ المغسل بالجثث التي سالت الدماء منها وغطّت المكان. قلقنا من أن تجذب رائحة الدم الحيوانات إلى المقبرة. كان علينا أن نحفر القبور لدفنها، لكن لم يكن باستطاعة العمال القيام بهذا الكمّ الهائل من العمل، فطلبنا من سائق جرّافةالحضور لكي يباشر الحفر ليتمكّن العمال بعدها من تجهيز القبور في مدة زمنية أقصر. بدأنا العمل في ظلّ الخوف من هجمات العدوّ الجويّة، في حين لم يمكننا استخدام المصباح، ولو أشعل أحد سيجارة اعترض الجميع عليه؛ لذلك، وضعنا قطعة فلّين لكي يتمكّن سائق الجرّافة من معرفة المكان الذي ينبغي حفره.

 

514

 


483

الملحقات

أذكر أنني تعرّفت إلى السيّدة حسيني صباح اليوم التالي. واجهنا مشكلة كبيرة في غسل الشهداء وتكفينهم ودفنهم، خصوصًا النساء والأطفال، نظرًا إلى عددهم الكبير. شرعت السيّدة حسيني وأختها الأصغر ليلى بالعمل فور وصولهما. كانت الظروف صعبة. لم يكن البقاء في المقبرة ومشاهدة تلك المناظر التي تؤذي الروح عملًا سهلًا. هذا في وقت لم يتوافر فيه -وبكلّ صراحة- قليل من الطعام في ظلّ الضعف الجسدي والروحي لدى الجميع. أنا كنت أدخّن وأشرب الماء فقط.

 

في ظلّ العدوان، ساد قلق الجميع، كلٍّ على عياله، فبعض لم يعرفوا مصيرهم أو فقدوهم، وبعضٌ أراد إخراج أسرته إلى مكان آمن؛ إذ إنّ البقاء في المدينة يعني الهلاك الحتمي.

 

كان الأمر يتطلّب الكثير من التضحية لكي يتخلّى المرء في ظروف كهذه عن عائلته. السيّدة حسيني كانت من بين الأشخاص الذين فضّلوا البقاء والعمل المضني في تغسيل ودفن الشهداء ليل نهار.

 

السيّدة الأخرى التي بذلت جهدًا شاقًّا في هذا العمل هي الشهيدة زينب رودباري. كانت حسبما أذكر من أهالي كرمان وتعمل في بلدية "خرّمشهر". عملت زهراء وليلى حسيني إلى جانب السيّدة زينب. أنا تركتُ المدينة في الثامن عشر من شهر مهر لكي أوصل عائلتي إلى خرّم آباد. عدت بعد أيام قليلة وسمعت أنّ السيّدة زينب قد استشهدت لكن لم يعلم أحد مكان دفنها بالدّقة. يعجز البيان عن وصف العمل الدؤوب الذي قامت به هذه السيّدة. لقد تعاملت مع الأختين ليلى وزهراء بعاطفة أموميّة جيّاشة.

 

515

 


484

الملحقات

لا أزال أذكر اسم أحد العمال المغسّلين وهو السيّد رازي، إضافة إلى مغسّلتين من النساء، إحداهنّ كانت عجوزًا وتتعب بسرعة والأخرى تدخّن باستمرار. هؤلاء عملوا وبذلوا جهودًا كذلك. عند إحضار الجثث تولّوا إنزالها من السيارات أيضًا.

 

في البداية، كنّا نبحث عن بطاقة شخصية أو هوية لنتعرف إلى الشهيد. فإذا وجدنا بحوزته بطاقة أو خاتمًا أو ساعة أخذناها ووضعناها في كيس بلاستيكي. بعد عدة أيام، حضر مصوّر لا أذكر اسمه لكن كان اسم محلّه "استديو مجاهد". ذكرت له أن هويّة الكثير من الشهداء الذين يتمّ إحضارهم مجهولة ويستحسن تصويرهم لأن هذا سيساعد كثيرًا، فما كان منه إلّا أن ذهب وأحضر آلة التصوير "كاميرا فورية". ونظرًا لقلّة الأفلام بحوزته لم يتمكّن من العمل إلّا لبضعة أيام. بعد ذلك، حضر مصوّر آخر اسمه السيّد مجتهد، وكان محل عمله قرب النهر واسم الاستديو "سبيد سايه" أو "سايه سبيد". كان أصغر سنًّا من المصور السابق. صوّر الشهداء في ثلاثة أفلام. كانت بعض الأجساد غير قابلة للتصوير فلا فائدة من أخذ لقطات لها نظرًا لتشوّهها بنسبة عالية بحيث لا يمكن التعرّف إليها، كما إنّ رؤيتها تؤذي الناظرين.

 

في تلك الأيام، لم أعد أشعر بشيء. كنت كالتائه، وهذه لم تكن حالي أنا وحدي. لقد أصيب الجميع بأزمات نفسيّة، أمام فاجعة عظيمة لم نعلم نهايتها. كانت جثث بعض الضحايا متفحّمة وأخرى مهشّمة! دُفن في الأسبوع الأول من الحرب أكثر من ثلاثمئة شهيد في جنت آباد. بعد ذلك، حالت الانفجارات المتتالية والغارات الجوية دون دفن الأجساد بسهولة.

 

كان نقل المياه إلى جنت آباد في تلك الفترة يتمّ عبر شاحنات الإطفاء

 

516

 


485

الملحقات

ذات الخزّانات والتي تُملأ من الجانب الآمن من النهر، ويتمّ تأمين المواد المنظفة وقماش الأكفان من أرجاء المدينة. لكن الهجمات حالت دون إكمال العمل؛ إذ لم نعد نمتلك قدرة المواجهة، كما إنّ الإخوة على الجبهة كانوا يحاربون بأقلّ العتاد والتجهيزات.

 

في اليوم الثالث أو الخامس من الحرب على ما أظنّ جاء "بني صدر" إلى "خرّمشهر"، فتفقّد معسكر القلعة إلى جانب أماكن أخرى بعد أن توقّفت سيّارته أمام قاذفة صواريخ "تاو" الوحيدة التابعة للقوة البحريّةوالموضوعة مقابل مدخل جنت آباد تواكبه عدّة سيّارات أخرى. عندما انتبهت لوجوده خرجت من جنت آباد. تقدّمت منه وسمعته بنفسي يقول: "مدفعية المكان الفلاني والمكان الفلاني -أظنّه قال كركان وأصفهان- في طريقها إلى "خرّمشهر" وستصل قواتنا إلى هنا سريعًا". انتظرنا طويلًا لكن من دون جدوى وكانت كلّ وعوده كاذبة!

 

واجهت قواتنا بمظلومية. في الواقع كانوا يدافعون في النهار ولا يتمكّنون من القتال ليلًا لفرط التعب والجوع وقلّة العتاد والأسلحة. كان عددهم قليلًا جدًّا في مقابل تلك الأعداد الهائلة للعدو. إذا سمعوا أنّ الهجوم تكثّف من جهة سكة الحديد أسرعوا إلى هناك. وإذا قيل إنّ العراقيين أصبحوا على حدود الجمارك توجّهوا إلى هناك. لهذا ظنّ العراقيّون أنّ قوّاتنا موجودة في كل مكان، في حين أنّ المقاومة كانت بعدد محدود من المجاهدين الذين يتنقّلون من مكان إلى آخر بسرعة فائقة.

 

في الخامس من مهر (27 أيلول) استشهد والد السيّدة حسيني. كنت في جنت آباد. لقد رأيت معنويّاتها العالية في الأيام السابقة. أذكر جيدًا كم كانت قوية. لم يؤثّر العمل في المغسل وفي جنت آباد سلبًا عليها. لم أرَ في

 

 

517


486

الملحقات

وجهها أثرًا للبكاء أو الضعف أو الهوان وهذا ما أثار إعجابي بشخصيّتها. لقد وقفت يوم دفن الشهيد بقوة وصمود رغم التأثر والألم العميق الذي ألمّ بها وعائلتها، بل شاركت ودفنت جسد والدها فأدهشت الجميع. مع أنها كانت في السابعة عشر من عمرها تقريبًا، لكنّها تصرفت بصلابة؛ إذ إنّها حملت على عاتقها ثقلًا كبيرًا من الألم والمشقّة. لقد انحنى ظهر أفراد عائلتها تحت وطأة تلك المصيبة وكانت السيّدة حسيني ترعاهم. بعد ذلك لم تتوقف عن العمل، ولم يثنِها شيء عن مواصلة العمل. طلب الكثيرون منها الرحيل ولم يتوقّع أحد منها البقاء، لكنّ التفكير في الشهداء أبقاها في المدينة.

 

في أحد الأيام، أحضرت شاحنة حوالي عشرين جثّة في الصباح وبعد الظهر، عندها خارت كلّ قواي. قرّرت الرحيل أكثر من مرة لكنّي لم أستطع. شعرت أنني لا أقوى على الوقوف على قدميّ. حتى إنّ السيّدة حسيني قالت لي: "إنّك لا تبدو بخير. لقد اصفرّ لونك بشكل ملحوظ!".

 

أنا بخير.

 

اتّصلت بمركز الإطفائية وطلبت منهم إرسال سيارة لي. ونظرًا لسوء حالي هممت بالخروج من جنت آباد فإذا بالشاحنة الثالثة تصل وقد امتلأت بالجثث. لم أقف وخرجت على الفور من باب جنت آباد إلى الشارع بانتظار السيارة. أحسست بوهن شديد فجلست على رصيف. بعد بضع دقائق وصلت سيارة إسعاف تابعة للإطفائية، لكنّي لم أستطع النهوض من مكاني ولا الكلام، كما إنّ عينَيّ لم تعودا تبصران بوضوح. أحسست أن جسمي قد شلّ بالكامل. مرّت سيّارة الإسعاف من أمامي ثانيةً فلم أستطع أن أشير لها لكي تتوقّف وتأخذني معها. بقيت على هذه الحال مدة نصف ساعة أو أكثر إلى أن تمكّنت من التلويح بيدي

 

518


487

الملحقات

لسائق دراجة نارية. ابتعدت بمساعدته عن ذلك المكان، وتخلّصت من تلك الحال تدريجيًّا.

 

إذا لم أكن مخطئًا، أظنّ أنّي حملت في اليوم العاشر بندقيّة (G3) ومضيت إلى الخطوط الأماميّة. تقدّمت الدبابات العراقية من جهة شلمجه حتى وصلت إلى ميدان المسلخ أو ما يعرف حاليًّا بميدان المقاومة بهدف التقدم إلى ميدان سكّة الحديد. كان عددهم كبيرًا جدًّا. وتقدّموا إلى الأمام على طول الجدران. كمنتُ لهم أنا وبعض الإخوة، لكن لم يكن بحوزتنا أسلحة ثقيلة، وبالتالي لم يكن بوسعنا فعل أي شيء مقابل ذلك العدد الكبير من الدبابات؛ لذا أخذنا نترقّب الفرصة لكي نقترب منهم أو نتصيّد دبابة إذا انفردت عن الرتل. أثناء ذلك الكرّ والفرّ وجدت نفسي أقف بقرب السيّد علي حسيني وقد أخذنا نطلق النيران عند ابتداء أحد الأزقّة في محيط البيوت التابعة لأساتذة وزارة التربية. تبادلت الأسلحة مع السيّد علي أثناء تعبئتها، وبقيت معه بالإضافة إلى حسن آذرنيا وشخص آخر من بين مجموعة مؤلّفة من خمسة عشر شخصًا في ذلك المكان. أمّا الآخرون فاشتبكوا مع العدوّ في أماكن أخرى، وأصيب بعضهم بجراح وسقطوا في أماكن مختلفة. فجأة دخلت دبابة الشارع واقتربت منّا. ونظرًا لعدم امتلاكنا للخبرة المطلوبة في كيفية استخدام الأسلحة والمعدّات الحربيّة فنحن لم نخضع سابقًا لدورات عسكريّة، وأهم من ذلك أننا لم نستطع أن نصدّق أنّ الدبابات العراقية قد تقدّمت إلى هذا الحد قال لي السيّد علي: "يحتمل أن تكون هذه الدبابة لقوّاتنا".

 

لكنّنا تعقّبناها من نقطة المسلخ، لا بدّ من أنّها التفّت من خلف الشوارع حتى وصلت إلى هنا.

 

519

 


488

الملحقات

بهذه السهولة؟ لا أعتقد ذلك. لا بدّ من أنّ هذه الدبابة لنا.

 

بينما نحن نتحدّث تقدّمت الدبابة إلى الأمام ورآنا الجنديّ الذي جلس خلف الرشّاش. كانت المسافة بيننا وبين الدبابة حوالي مئتي متر. ركضنا نحن الأربعة باتجاه شارع مولوي، لكنّ الدبابة لم تطلق النار. تعجّبنا! لماذا لم نُستهدف؟ لهذا ساورنا شكّ في أنّها إحدى دباباتنا. عندها خرجنا من أحد الأزقّة ووقفنا على بعد مئة متر من الدبابة،ثمّ اقتربنا منها لدرجة أن السيّد علي قال للجندي الجالس خلف الرشّاش: "كيف حالك؟".

 

فأدار السائق رأس الدوشكا باتّجاهنا، وقال باللهجة العربية العراقية: "ها، إيراني؟!"، ثمّ بدأ بإطلاق النار علينا.

 

أمّا نحن فركضنا واختبأنا خلف محل صيانة سيارات كان أمامنا. انهمر وابل من رصاص الدوشكا فوق رؤوسنا، وأصمّ آذاننا صوت سقوط الرصاصات المرعب على الجدران والأطراف. عُصرنا خلف حائط المحلّ بينما أخذنا ننظر بين الحين والآخر إلى الدبابة عبر ثقوب الجدار. قال اثنان ممّن كانوا معنا إنّ الدبابة لم تستطع أن تطلق قذيفة مدفعيّة نظرًا لقربها منّا، فاكتفت بإطلاق رصاص الدوشكا.

 

بقينا هناك بلا حراك حوالي نصف الساعة أو أكثر حتى هبّت عاصفة رمليّة وكانت من ألطاف الله حالت دون وضوح الرؤية. اغتنمنا الفرصة فنهضنا ونجونا من الموت الحتمي. في اليوم الذي تلا الحادثة، رأيت وبتعجب كبير جسد السيّد علي في جنت آباد. لم أصدّق ما رأيت أبدًا، وزاد استغرابي عندما اكتشفت أنّ هذا الشاب السيّد علي هو أخو السيّدة حسيني، فاشتدّ تأثّري وحزني. كانت شجاعة ومقاومة السيّدة حسيني عند شهادة أخيها مضربًا للمثل. بعد ذلك لم أذهب أبدًا إلى جنت آباد

 

520


489

الملحقات

ولم أرَ تلك العائلة.

 

خلال عمليات تحرير "خرّمشهر" أصبت بجروح ونُقلت إلى طهران. ما إن عدتُ إلى "خرّمشهر" حتى ذهبت إلى جنت آباد. لكني رأيت وللأسف مبنى المغسل وجميع الغرف الإدارية مدمّرة. وددتُ كثيرًا لو أجد تلك الدفاتر المرتبطة بهويّة الشهداء لكي يتمّ التعرّف إلى قبورهم المبعثرة، ويصبح باستطاعة الكثير من العوائل زيارة شهدائها.

 

بين عامَي 1985-1986م أرسل إليّ الحاج صالح كاظمي، مسؤول مؤسسة الشهيد في خرمشهر، إحدى العوائل الباحثة عن قبر ابنها الشهيد. قالوا لي: "قيل لنا إنّك كنت في جنت آباد وتولّيت دفن الشهداء، والتقطت الصور لمجهولي الهوية...".

 

ساءت حالي لدى سماع هذا الكلام لأنني لم أستطع إعطاءهم أيّ علامة. لم أعد أذكر شيئًا نتيجة ذلك العدد الكبير من الشهداء. لم أعرف ما أقول لأولئك الذين أتوا على أمل العثور على قبر ابنهم. كان الأمر في غاية الصعوبة بالنسبة لي. اعتذرت منهم بخجل. عندما ذهبوا، انطلقت نحو الحاج كاظمي وقلت: "يا حاج، كيف أستطيع أن أتذكّر من دفنّا في تلك الظروف الحرجة؟ هل تنوي القضاء عليّ؟! أتودّ أن تُلحق الأذى بروحي ونفسي؟! أنا لا أقوى على أن يأتي أحدهم ويعرض عليّ صورة ويسألني إن كنت أذكره أو لا!".

 

من بين كل تلك الأجساد لا أذكر سوى جسد واحد، وهو الشهيد عتيقي، صديق طفولتي وكنّا نعيش في حارة واحدة. عندما رأيت جثّته في جنت آباد اتّصلت فورًا بحسينية أصفهان وقلت للإخوة هناك: "أبلغوا عائلة عتيقي نبأ استشهاد نجلهم".

 

521

 


490

الملحقات

حوار مع السيّدة زهرة فرهادي

 

كان اليوم الرابع أو الخامس من الحرب؛ أي بعد يومين على استشهاد والد السيّدة حسيني على ما أعتقد، حين رأيتها في المسجد وعيادة الدكتور شيباني وهناك بدأت صداقتنا. أثار تعجّب الجميع كيف أن السيّدة حسيني، ورغم استشهاد والدها، تعمل بتلك الروحيّة. كنت في تلك الأيام أرى السيّدة حسيني مشغولة بالعمل الدؤوب؛ من تغسيل وتكفين ودفن الشهداء أو إيصال الجرحى أو أجساد الشهداء إلى المستشفيات. تعلّقت في تلك الظروف الصعبة بالسيّدة حسيني بشدة. كانت فتاة حنونة جدًّا. كلّما رأيتها شممت منها رائحة الشهداء ورائحة الدم. كان عددنا في عيادة شيباني أو جنت آباد كبيرًا. استشهد أخوها بعد عدة أيام أيضًا. سمعت من الأخوات أنّ أخاها، السيّد علي، رغم فترة علاجه ورقوده في المستشفى في طهران إلّا أنّه فرّ إلى "خرّمشهر" لمحاربة العدو واستشهد هناك على الفور. صمدت السيّدة حسيني بقوة أمام هذه المصائب. لم أسمع بكاءها سوى في مراسم الأدعية التي كنّا نقيمها في عيادة شيباني. في العشرين من مهر، أتيت إلى العيادة فقالت لي الفتيات: "لقد أصيبت زهراء حسيني بجروح وتمّ نقلها إلى المستشفى".

 

بعد مخيم "ب" في سربندر، لم أرها حتى سنة 1364 (1985) حيث قابلتها في مبنى كوشك. سررنا لرؤية بعضنا البعض وتحدّثنا كثيرًا واستحضرنا ذكرياتنا. قد يبدو عجيبًا أنني ما زلت حتى اليوم عندما أرى السيّدة حسيني تتداعى إلى ذهني تلك الصور نفسها ورائحة الدماء في تلك الأيام.

 

522

 


491

الملحقات

حوار مع السيّدة إيران خضراوي

 

صيف 1382 (2003)

عرفتُ عائلة حسيني قبل الثورة، إذ كان منزلهم على بُعد عدّة أزقة من منزلنا. كانوا من عائلة مستضعفة. والدهم رجل مكافح ومحترم جدًّا. توطّدت معرفتي بعلي وزهراء كثيرًا. صادفتهم كثيرًا خلال أحداث الثورة وما بعدها. عندما بدأت الحرب انشغلت زهراء وليلى حسيني في جنت آباد في "خرّمشهر" بدفن الشهداء. عندما يكثر العمل، كانوا يتّصلون أحيانًا بالمسجد الجامع ويطلبون منّا أن نأتي إلى جنت آباد للمساعدة. كنت ألبّي الطلب وألاحظ في بعض الأحيان أنّ ليلى في المقبرة بمفردها فأقول لها: "كيف تستطيعين البقاء وحدك مع كلّ هؤلاء الموتى؟!".

 

ماذا أفعل يا سيدة خضراوي؟ إن غادرت أنا أيضًا فمن سيبقى هنا؟ إني أخاف أن تهجم الكلاب على الجثث.

 

ذهبت وابنتي التي كانت في الصف الرابع الابتدائي عدّة مرات إلى هناك. ساعدنا في التعرّف إلى هويّة الشهداء وتكفينهم ودفنهم.

 

ذات مرة تقرّر أن ننقل الشهداء إلى مكان آخر لكي ندفنهم. ذهبت مع ليلى في شاحنة تحوي عشرين جسدًا. جلست مع ليلى وابنتي في الخلف بقرب الشهداء. كانت الجثث مقطعة وغير كاملة؛ لهذا لُفّت في قماش ثم في أكياس من النايلون. قالت لي ابنتي مرعوبة: "أمي، إنّي خائفة.. ضمّيني إليك!".

 

قلت لها وقد اعتراني الخوف والهلع: "لا يا عزيزتي، لا تخافي".

 

 

523


492

الملحقات

لم تكن عائلة "حسيني" من أهل "خرّمشهر"، ولكنّهم مع هذا دافعوا عنها بكلّ وجودهم. لقد استشهد أبوهم في الأيام الأولى وبعده أخوهم السيّد علي. تملّكني شعور غريب يوم دفن السيّد علي في جنت آباد. أخذت أبكي وأصرخ بشدّة. أمّا السيّدة زهراء حسيني فكانت تبكي بهدوء وتهدّئ من روعنا. نزلت إلى القبر عند الدفن ووضعت أخاها هناك ثم أهالت التراب عليه ووارته في الثرى! انقلبت حالنا لرؤية هذا المنظر، صرت أبكي وأحدّث نفسي قائلة: "إلهي كيف أعطيت كلّ هذه الجرأة لفتاة كي تتمكّن من القيام بشيء كهذا!!".

 

منذ ذلك الحين صرت أناديها زينب زمانها لما رأيته من خصال لديها.

 

تابعت ليلى وزهراء عملهما بعد شهادة أخيهما، ولكن زهراء عملت في المستشفى وفي أرجاء المدينة وفي جنت آباد معًا، رغم ما كان عليها من آثار الدماء وما يختلج في صدرها من آلام فراق أبيها وأخيها. فيما بعد حملت السيّدة حسيني على عاتقها عبء مسؤوليّة عائلتها وإخوتها. كنت أرى بنفسي كيف واجهت الصعاب سعيًا للوصول بإخوتها إلى برّ الأمان، إضافة إلى تحمّلها وتخطّيها لصعوبات العيش المرير في مبنى كوشك.

 

524


493

الملحقات

مذكرات السيّدة أفسانة قاضي زادة

 

منقولة عن كتاب "بيتي ها هنا".

 

قرابة الساعة الحادية عشرة من صباح أحد الأيام، وبينما أنا مشغولة بعملي داخل المسجد الجامع، سمعت فتاة تتحدّث للفتيات بلهجتها الخوزستانية الجميلة عن وضع جنت آباد. دفعني فضولي إلى سماع كلامها فاقتربت منها. ما زلت أذكر وجهها؛ فتاة بعمر السادسة عشرة أو السابعة عشرة تقريبًا، طويلة القامة، نحيلة وذات بشرة قمحيّة. كانت ترتدي حجابًا بنّي اللون، يعلو الغبار ثيابها، وهيئتها مزرية للغاية. عندما نظرت إلى حذائها لم أستطع تحديد لونه الأصليّ لما غطّاه من التراب. سألت الفتيات عن اسمها فقلن لي: "زهراء حسيني، إنّها تعمل في المقبرة من اليوم الأول في غسل الجثث ودفنها".

 

كانت تقول بانفعال وعصبية بالغين: "لماذا اجتمعتنّ هنا؟ هناك الكثير من العمل في جنت آباد. إنّ جثث الشهداء مرميّة على الأرض وليس ثَمّ من يغسلهم ويكفّنهم. فليأتِ بعضكنّ معي إلى هناك".

 

فأجابت واحدة: "نحن نخاف من الأموات".

وقالت أخرى: "نحن لا نعرف كيف نغسل ونكفّن..".

فتلت آية من القرآن وذكرت حديثًا شريفًا محاولة حثّنا على الذهاب إلى مغسل جنت آباد وتعريفنا إلى مدى ثواب هذا العمل. بقيت تحدّثنا وتحدّثنا حتى اقتنعت بعض الفتيات بالذهاب معها. في الطريق ركبنا شاحنةً كانت متّجهة إلى هناك. كانت أجسامنا نحيفة بحيث استطعنا

 

525

 


494

الملحقات

نحن الأربع الجلوس قرب السائق وانطلقنا إلى هناك. عندما وصلنا إلى جنت آباد أصابتني دهشة شديدة. فقد طال المقبرة من الدمار في غضون الأيام القليلة الماضية ما جعلنا نظنّ أنّنا أتينا إلى مقبرة أخرى! سألتُ زهراء حسيني: "هل هذه هي مقبرة جنت آباد؟".

- أجل.

- لماذا أصبحت هكذا؟!

- إنّهم يقصفون بشكل متواصل، وهذا يؤدّي إلى تأجيل القيام بالعمل، فضلًا عن عدم مجيء أحد للمساعدة.

كلّما توغّلنا في المقبرة زادت حالي سوءًا! لقد امتلأت المقبرة بالشهداء تقريبًا. الكثير من القبور كانت محفورة استعدادًا لدفن الشهداء. عندما وصلنا إلى غرفة المغسل لم تتجرّأ أيٌّ منّا على الدخول. أصرّت زهراء حسيني علينا فدخلت معها ورأيت داخل غرفة المغسل الصغيرة جثّتين؛ إحداهما لامرأة عجوز والأخرى لفتاة صغيرة. كانت جثّة المرأة العجوز ممدّدة على صخرة المغتسل غارقة في دمائها. اقتربت منها فلم أرَ ملامح وجهها من كثرة الدماء. ومع أنّي لم أكن خائفة ولكن عندما طلبت منّي أن أنزع ثيابها تغيّرت حالي وشعرت بالغثيان. اقشعرّ بدني وبرد. هذا فضلًا عن الخجل والحياء اللذين حالا دون القيام بذلك. سألتها: "كيف ذلك؟".

- لا تسأليني كيف. انزعي ثيابها بأي طريقة تستطيعين، فسوف نحرق الثياب ولن يُنتفع بها بعد الآن.

وحيث إنّي أبحث عن عذر للتهرّب من هذا العمل قلت: "لكنني لا أعرف كيفية التغسيل والتكفين!".

 

526

 


495

الملحقات

- أنا أعلّمك.

قلت في نفسي: "هاتان ليستا بحاجة إلى تغسيل، إنّهما شهيدتان. لماذا تصعّبين الأمر هكذا؟".

وبينما انشغلت بتحضير جسد الطفلة للتغسيل قالت: "ما دام الماء والكفن متوافرين، علينا تغسيلهما وتكفينهما".

في تلك الأثناء وُضعت عند الباب جثّة أخرى مقطّعة الأوصال جمجمتها مصابة من الخلف، ولم يبقَ من وجهها سوى أنفها وفمها. حملت مع زهراء النقّالة التي وضعها الرجال قرب الباب وأدخلناها إلى الداخل ووضعناها على المغسل. قالت زهراء: "لا نستطيع تغسيلها وهي بهذه الوضعية، ستسيل دماء كثيرة على الأرض عندما نسكب الماء". ثمّ شرحت لي كيفية التيمّم بدلًا من الغسل. ارتحت نوعًا ما بالنسبة لهذه الجثّة نظرًا لعدم ضرورة نزع ثيابها. وقفت أمام المغتسل وضربت يديّ على الصخرة نيابة عن الشهيدة ومسحت بهما على النصف المتبقي من وجهها. لحسن الحظ كانت دماء رأسها ووجهها متجمّدة لأنّها استشهدت منذ بضعة أيام بحسب الظاهر. بعد ذلك مسحت على يديها اليمنى واليسرى.

عندما أردنا حملها مرة أخرى ووضعها على النقالة، وضعتُ إحدى يديّ تحت رأسها غافلة عن أنّها فقدت يافوخها فغرقت يدي في حفرة رأسها. في تلك اللحظة أحسست أنّي وُصلتُ بشحنة كهربائيّة قويّة! اعترتني حالة عجيبة. لم تعد عيناي تريان شيئًا. انحبست أنفاسي في صدري وأحسست أنني لم أعد قادرة على الوقوف. حين نقلنا الجسد شعرتُ أنّ قلبي لم يعد يقوى على هذا العمل. قلت لزهراء حسيني:

 

527

 


496

الملحقات

"لم أعد أستطيع، اعفِني، إذا كان هناك أي عمل آخر أنا بالخدمة، وإلّا فدعيني أرحل".

انزعجت وقالت: "هنا يجب عليك إمّا أن تغسّلي الموتى أو تحفري القبور. هل تستطيعين حفر القبور؟".

- نعم، سأذهب وأحفر.

- اذهبي من هنا، فلستِ أهلًا لهذه الأعمال.

خرجتُ من الغرفة وأنا أقول في نفسي: "من هذه بحقّ السماء! كيف تستطيع بالقيام بهذا العمل!".

عندما رأيت الفتيات قلت لهن: "هذه الفتاة شجاعة للغاية يا بنات، لن تصدّقن ماذا تفعل!".

ماذا جرى هناك؟

حكيت لهنّ ما حصل فساءت حالهنّ أيضًا. ذهبنا إلى القبور فرأينا الكثير من المعاول والرفوش هناك. كان عدد من الرجال مشغولين بالعمل. حملنا الرفوش والمعاول وبدأنا الحفر بأنفاس متقطّعة. آلم يدي مقبض الرفش الخشن منذ اللحظة الأولى. وقبل أن أفرغ من حفر القبر الأول سارع أحد الرجال لإكمال العمل عنّي. بقينا حتى الغروب نبحث عن أيّ عمل في المقبرة لنقوم به وننجزه. وفي اليوم التالي عدنا للعمل في المسجد ثانية. قبل ذهابنا إلى المقبرة اعتقدنا أنّ الأعمال في المسجد كثيرة وصعبة جدًّا حيث لا يجد المرء فرصة لحكّ رأسه. لكن، بعد تلك الحادثة أحسسنا أنّ الأعمال هنا لا تقاس مع أعمال جنت آباد الشاقّة.

 

 

528


497

الملحقات

مذكّرات السيّدة مريم أمجدي،

نقلًا عن كتاب "جزمة مريم"

عصر اليوم الثاني أو الثالث من الحرب، حضرت فتاة سمراء طويلة القامة وبدأت بالصراخ والصياح: "أنتم الإخوة لماذا لا تلقون نظرة على مقبرة جنت آباد؟ لماذا لا تساعدوننا؟ لماذا تتركوننا مع كلّ هذه الأجساد؟! زوّدونا بالأسلحة على الأقل إن لم تستطيعوا المجيء..".

فأرسلوا عددًا من الإخوة معها، وأوكلوا إليهم حراسة المقبرة ليلًا، وأن يقتلوا جميع الكلاب. قبل مغادرتها تحدّثت مع تلك الفتاة، كان اسمها زهراء حسيني، وكانت منذ اليوم الأول للحرب تساعد المغسّلات في المقبرة بتغسيل الموتى. كانت مرهقة للغاية وكان مظهرها الخارجي غير مرتب؛ ثيابها مليئة بالدماء وتفوح منها رائحة كريهة نظرًا لعملها في التراب والجثث! كما إنّ وجهها ويديها كانت مليئة بالتراب والغبار.

غبطتها على حالها. لقد فاقت شجاعتها الوصف حيث أمضت تلك الأيام في المقبرة مع جثث القتلى.

 

529

 


498

الملحقات

حوار السيّدة حورسي -عضو حرس خرمشهر-

مع مركز دراسات وأبحاث الحرب

دفنت زهراء حسيني في أول أسبوع من الحرب والدها الشهيد، ودفنت في اليوم الحادي عشر من شهر مهر جسد أخيها المقطّع، علي، الذي استشهد في مدرسة دريابد رسايي. لقد ألهم الله زهراء حسيني وأختها قوّة خوّلتهما العمل في مقبرة الشهداء ودفن الجثث وحراستها. سنة 1360 (1981)، السند 118، الصفحة 20 من كتاب "خرّمشهر" خلال الحرب الطويلة.

 

رواية حادثة العاشر من مهر مدرسة دريابد رسايي نقلًا عن كتاب "خرّمشهر" خلال الحرب الطويلة:

بعد إجبار العدو على التراجع وهدم قواه, وبعد أن قام مدافعو "خرّمشهر" ومن دون وجود تشكيلات عسكرية كلاسيكية مع افتقارهم إلى الأسلحة اللازمة، تمكّنوا من إلحاق خسائر فادحة في صفوف مدرّعات العدو ومشاته. بعد ذلك، خلت الجبهات ورجع المجاهدون إلى مقرّاتهم لكي يجدّدوا قواهم ويستعدّوا للمواجهة الآتية. انتقل معظم الإخوة في الحرس الثوري إلى أحد مقرّاتهم الجديدة، مدرسة دريابد رسايي، فأدّوا صلاتهم وتناولوا طعام العشاء، ثمّ استلقوا في محيط الدار لأخذ قسط من الراحة. بدأوا بالتحدّث فيما بينهم؛ فسرد أحدهم كيفية استهدافه للدبّابة، وآخر كيفية هروب العراقيين وملاحقته لهم. بقوا على تلك الحال حتى أغمضت الجفون وخلدوا إلى النوم الواحد تلو الآخر. في تلك الأثناء، دخل أحد الإخوة إلى المدرسة وسأل عن الأخ نوراني وقال:

 

530

 


499

الملحقات

"محمد، اذهب أنت إلى المرفأ، فهو خالٍ ولا يوجد أحد هناك".

 

لم يقبل نوراني بأن ينادي أحدًا فالجميع غارق في نوم عميق، فخرج بحثًا عن مجاهد آخر. بعد مضي نصف ساعة؛ أي قرابة الساعة العاشرة، استيقظ الإخوة النائمون على وقع انفجار شديد في أطراف المدرسة، فذهبوا إلى باحتها؛ إذ إنّها أكثر أمنًا، وناموا غافلين عن أنّ عملاء العدو قد أعطوه إحداثيات المكان ليضرجوا المجاهدين العاشقين لشوق الوصال بالدماء والتراب.

مجاهدون من أمثال صبيّ لم يبلغ الثالثة عشرة من العمر هرب من المنزل مرّات عدة لكي يصل إلى أرض الميعاد ويتشاجر مع مجاهد من عمره من أجل بندقية كلاشينكوف غنمها من العدو. مجاهدون من أمثال علي حسيني الذي فرّ من المستشفى قبل التئام جراحه حتى يوصل نفسه إلى الجبهة ولا يبقى سلاح والده الشهيد ملقى على الأرض، وكان قد شنّ في اليوم نفسه هجومًا كاسحًا على دبّابات العدوّ بحيث قال بفرح: "انتقمت لأبي![1] ".

 

اقتربت نيران العدوّ من المدرسة لحظة بعد أخرى إلى أن خرقت قذيفة مدفعية السقف وسقطت وسط الإخوة مسطّرة ملحمة كربلائية أخرى وغرق أتراب علي الأكبر الخرمشهريّون في الدماء. علت أصوات التشهد والتهليل والتكبير طالبة العون من إمام الزمان. انقسم جسم تقي محسني فر إلى قسمين، تقطّع جسم علي حسيني إربًا إربًا. قطعت يد أحدهم ورجل آخر. كسرت رقبة هذا، وتمزّق صدر ذاك. في تلك الظلمة


 


[1]  الوثيقة رقم 5598ـ مركزأبحاث ودراسات الحرب، حسين طاهري نجاد عضو في الحرس الثوري في "خرّمشهر" في حوار أجراه معه المركز عام 1360 (1981م)، صفحة11.

 

531


500

الملحقات

أينما وطئت قدماك وقعت إمّا على جسد شهيد أو أعضاء مقطوعة من جريح أو غرقت في الدماء! محمد كرمي، رضا حيدري، مهدي مصطفوي وإسماعيل فرهادي الحرس المبعوثون من منطقة آغاجاري، جميعهم استشهد على الفور. أغمي على البعض وطار البعض الآخر إلى الجهة الأخرى من شدة عصف الانفجار. هبّت المقرّات الأخرى للنجدة وإيصال الأجساد المقطعة والجرحى إلى المستشفى. لدى رؤيته محمد جهان آرا في الطريق شرع محمد نوراني بالبكاء وقال: "محمد! أرأيت أيّ مصيبة أنزلوا علينا".

 

فعانق جهان آرا نوراني مطلقًا العنان لدموعه[1].

 

هذا ما جاء في منشور حرس خوزستان في تقرير يوم 11/7/1359ه.ق (3/10/1980):

في الليلة الماضية تعرّضت "خرّمشهر" إلى أعنف هجمات من مدفعية العدو. وعلى أثر إصابة القذيفة مقرّ الحرس، استشهد سبعة إخوة في الحرس وجُرح عدد آخر[2].

 

خرمشهر في الحرب الطويلة. طباعة مركز دراسات وأبحاث الحرب التابع للحرس الثوري للجمهورية الإسلامية.


 


[1]  الوثيقة رقم 77ـ عام 1360ه.ق (1981)، صفحة 12، و70 صفحة 1ـ10 عام 1360ه.ق (1981)، و34 صفحة 10، في حوار مع محمد نوراني، جواد كازرونيان، سيد عبد الرسول بحر العلوم وهمايون سلطانيفر، أعضاء الحرس الثوري في خرمشهر، وحسين خطيري عضو الحرس الثوري في آغاجاري. مركز أبحاث ودراسات الحرب.

[2]  الوثيقة رقم 001074 مركز دراسات وأبحاث الحرب، قسم أبحاث حرس خوزستان 11/7/1359 (3/10/1980) الصفحة الثالثة.

 

532


501
دا - الجزء الثاني