إشارة
إشارة
هو المحبوب
رغم انزلاق الأعوام وتدحرج السنين استطاعت السيدة زهراء "فرشته" أن تسترجعها سرداً، عامًا بعام، فإذ بها تحملنا بعيداً؛ تارةً إلى "همدان" وتارة إلى "دزفول" حيث أمضت أجمل أيام حياتها.
تغدو ذاكرة "فرشته" حبلى بالحكايا والمغامرات، وبينما هي تسردها نتحسّس معها أويقات الحرّ، والشتاء، ونعيش زمناً يتّسع لعام وثمانية أشهر؛ ويضيق ليصبح عمراً بقياس ليلة واحدة.
تدفعنا روحيّتها في رواية "الروضة الحادية عشرة" لنجذّف معها في نفس القارب، يتقدّم لخطبتها شابٌ بعينين زرقاوين، لم تكونا سوى بحرٍ متلاطمٍ في حراكٍ دائم، لا تكلّان ولا تملّان في رحلة البحث عن المحيط.
لا يجد صاحب هاتين العينين سبيلاً للوصول إلى ذاك المحيط سوى ذرف الدموع، فيذرفها في آناء الليل ليذيب أسلاك نفسه الشائكة، بينما يحلُّ في أطراف النهار حارساً ثورياً، يجيد قطع أسلاك تحصينات العدو في الخطوط الأمامية لينفذ إلى عمق تخومه وينجز المهمّات.
في الكتاب؛ تحكي "فرشته" بِلُغة قلبها عن عشقٍ لم يترهّل؛ رغم انبعاث أجيالٍ وتعاقب سنين. فمن كان يناديها "يا وردتي" لا يزال في انتظارها ليقدّم لها كل ورود الجنة.
9
1
إشارة
هذا الكتاب..
لقراءة القائد الكتاب وتعليقه عليه أبعادٌ ومقاصد؛ لا تقف عند حدِّ التشجيع على الكتابة والدعوة إلى المطالعة؛ ولا تنتهي عند تكريم الرّاوية والكاتبة.. إنما تتصل بساحات العلم والجهاد العريضة، وترسم آفاقَ مدرسةٍ زاخرة بالنماذج والقدوات؛ ومحفوفة بالقيم؛ في عصر طُرحت فيه المغريات بشتى ألوانها وقُدّمت فيه زخارف الدنيا بأجلى حللها؛ عصرٌ أكثرَ ما يحتاج الشباب فيه إلى التعلم والاقتداء؛ وإلى العمل بلا سمعة أو رياء..
يسرَّ مركز المعارف للترجمة أن يقدّم للقرّاء الأعزّاء ولروّاد الأدب والنهضة كتاب "الروضة الحادية عشرة"؛ الإصدار الـ(22) من سلسلة "سادة القافلة" - مجموعة أدب الجبهة؛ للتعرّف على حياةِ هامَةٍ من هامات الجبهة وإحدى ذخائرها النفيسة: سيرة الشهيد "علي تشيت سازيان"، ترويها زوجته "فرشته".
نشكر كل من ساهم في إنجاز هذا العمل؛ ونخصّ بالذّكر:
المترجمة والمحررة: الأخت حنان الساحلي.
المدقق اللغوي: الحاج عدنان حمود.
د. رضوان راغبي والحاجة إيمان صالح في مراجعة الترجمة.
المخرج الفني: الأخ علي عليق.
والشكر موصول للراوية والكاتبة، ولناشر النسخة الأصلية: مؤسسة سوره مهر ومكتب أدب وفن المقاومة. ولا ننسى ناشر النسخة العربية: دار المعارف الإسلامية الثقافية.
مركز المعارف للترجمة
ربيع الأول 1439هـ.ق
10
2
إشارة
شكر
الشكر الجزيل للأخت القديرة، السيّدة فرزانه مردي، على الجهود التي بذلتها في إنجاز المقابلات الأولية، كذلك كلّ التقدير للأخ الكبير جناب السيّد محسن صيفى كار، على جهوده في إضافة الهوامش إلى الكتاب؛ والشكر موصول للأخ غلام رضا سليماني، صديق الشهيد علي تشيت سازيان لتوجيهاته ونصائحه الصادقة والمخلصة.
11
3
إشارة
المقدمة
لثلاثٍ وثلاثين سنة خَلَتْ، سكن هذا المنزل الذي تبينُ نافذته في الصورة أفرادٌ هم اليوم ليسوا بيننا. عاش في هذا البيت السيّد "علي تشيت سازيان"[1] مع أبيه السيّد ناصر وأمه السيّدة منصورة وأخوَيه السيدَين صادق وأمير وأخته الوحيدة مريم.
مِن هذا المنزل كان علي يذهب إلى الجبهة. وفي إحدى غرفه عاش مدّة من الزمن مع زوجته. ستبقى قِصّة رجولة علي وشجاعته ومبادئه جذّابة وممتعة، ليس فقط لجيلنا هذا، بل وللأجيال القادمة.
منذ سنتَين عندما قرّرتُ أن أكتب مذكّرات زوجة أخرى من زوجات الشهداء، شعرتُ بالقنوط والحيرة من ذلك، ولم أدرِ أيّهن أختار من بين كلّ زوجات الشهداء.
مضت أسابيع، إلى أن توسّلت بالشهداء أنفسهم وقلتُ: فليتقدّم الشهيد الذي ينبغي أن أكتب عنه.
بعد أيّام، اتصلتْ صديقةٌ لي من طهران وأخبرتني أنّ زميلتها أجرت مقابلات لساعات عدّة مع زوجة الشهيد تشيت سازيان، وتمَّ تسجيل ذكرياتها في أشرطة كاسيت، وسألتني إن كنت مستعدة لإيصال هذه المقابلات إلى خواتيمها؟!
[1] چيت سازيان: الحرف (چ) هو الحرف السابع في اللغة الفارسية ويلفظ ch (تش).
13
4
المقدمة
لم يكن ثمّة مجال للنقاش والتلكّؤ والتساؤل. ها قد تقدّم الشهيد بنفسه. وافقتُ، وبعد يومين أو ثلاثة وصلني التسجيل الصوتي للمقابلات التي أجرتها السيّدة فرزانه مردي مع السيّدة زهراء بناهي روا[1]، فسُررت بذلك كثيرًا. تمّ تفريغ المقابلات، وبعد ذلك بدأنا بإجراء المقابلات التكميلية.
قصدتُ طهران مرّات عدّة، كما أنّ السيّدة بناهي جاءت إلى همدان مرّات؛ وذلك لتحكي مذكراتها التي لم تروِها بعد.
في أحد الأيّام، وبينما كنّا واقفتين في الزقاق يودّع بعضنا بعضًا، قالت السيّدة بناهي: "يا لذكراه الطيّبة، لقد عشنا في هذا المنزل"، ثمّ أشارت إلى المنزل مقابلنا وقالت: "المبنى رقم 6، الطابق الرابع، كان منزل السيّدة منصورة".
في ذاك اليوم، انتبهتُ ولم أصدّق بتاتًا أنّ تلك النافذة البيضاء التي تظهر من بين أغصان الشجر الكثيفة مقابل نافذتنا هي إحْدى نوافذ شقّة الشهيد تشيت سازيان، وأنّ تلك الذكريات التي حدّثتني عنها السيّدة بناهي قد جرت في ذلك المنزل المقابل لمنزلنا!!
أحسستُ بشعورٍ غريب في داخلي، لا أعلم سببه، جارٌ لم أره مطلقًا، ومنزلٌ شبيه لمنزلنا.
مذّاك، أمَطْتُّ جانبًا ستارة النافذة المقابلة لمنزل هؤلاء الجيران لأراه جيّدًا من خلف أغصان الأشجار وأوراقها الكثيفة.
في المساء، وضعت مكتبي خلف النافذة لأتحسّس ليلًا وأنا أنظر إلى منزلهم، تلك الذكريات التي أكتبها، ذاك المنزل الذي يشبه منزلنا بتصميمه.
[1] روا؛ تلفظ: ( رفا).
14
5
المقدمة
تارةً، كنت ألمح السيّد علي من خلف النافذة ينتظر أصدقاءه، وتارةً أخرى كنت أرى في ليالي الجمعة لوحة منصوبة على مدخل المبنى وعَلَمًا متدلّيًا من على النافذة مكتوب عليه: "هيئة نهج الشهداء".
لقد أمضيت وتلك النافذة أيّامًا ولياليَ، وعشنا معًا ذكرياتِ عامٍ وثمانيةِ أشهرٍ من الحياة المشتركة للسيّد علي مع زوجته. كانت جارتنا السيّدة منصورة تعشق الحياة وتعشق أبناءها، مضافًا إلى شغفها بالتدبير المنزلي وتنسيق الأزهار والاعتناء بها.
عندما يُضاء المنزل، كنت أرى الأزهار والنباتات المنزلية المتسلّقة على الباب والجدار والنوافذ تنمو وتكبر على يدَي هذه السيّدة.
لكم عاين هذا المنزل حلو الحياة ومرّها، وشهد رحيل أفراد هذه العائلة واستشهادهم واحدًا تلو الآخر.
يا لها من أيّامٍ عصيبةٍ وقاسيةٍ مرَّت على هذا الزقاق؛ أيّامُ وداعٍ لساكني هذا المنزل الطيّبين.
أيُّ ليالٍ حزينة أضيئت فيها مصابيح ذلك المنزل حتّى الصباح..
أيُّ ليالٍ مريرة وطويلة..
في هذه الليالي، ها هي مصابيح هذه الشقّة، ومصابيح منزل الجيران، تُضاء ثانيةً حتّى الصباح.
خريف 2015
بهناز ضرابي زاده
همدان
15
6
ذكرياتي تصبح فيلمًا
ذكرياتي تصبح فيلمًا
كنّا نعبر من أمام مستشفى "أبو علي"[1]، فقلت: "عليّ[2]، سيولد طفلنا هنا بعد أشهرٍ عدّة".
سألني باستغراب: "هنا!؟".
قلت: "هذا مستشفى خاصّ، إنّه أفضل مستشفى في همدان".
عندها خفّف عليّ من سرعة السيّارة وقال: "لا، نحن نريد الذهاب إلى مستشفى يرتاده المستضعفون، هذا للأثرياء، وليس في وسع كلّ واحد أن يأتي إليه".
كنت حاملًا في الشهر الثامن، ولم تكن حالي جيّدة أبدًا. عصر يوم الخميس 31/ك1/1987م. توالت نوبات الألم، وأخبرتُ الجميع بوصية علي. في تلك الأيّام عجَّ منزل والدة زوجي بالضيوف وازدحمت أطرافه. أمّي أيضًا كانت هناك. ما إن قلت إنّي لستُ على ما يرام حتّى نقلتني بسيّارة إلى مستشفى "فاطمية" الحكومي.
[1] أبو علي سينا.
[2] دأبت الراوية في الكتاب على قول "علي آغا" عندما تذكر إسمه، وقد اكتفينا بذكر الإسم ليتناسب النص مع مزاج القارئ العربي. (المترجم).
17
7
ذكرياتي تصبح فيلمًا
لمّا دخلنا المستشفى، انتشر الخبر في الأرجاء: "سيولد ابن الشهيد تشيت سازيان". هُرع موظّفو المستشفى وغصّ المكان من حولي بالممرّضات والأطبّاء. انتشر الخبر في المدينة كانتشار النار في الهشيم. صار الناس يتّصلون بالمستشفى للاطمئنان إليَّ وإلى الطفل. أمّي التي كانت طوال الوقت تجلس فوق رأسي، اضطُرّت أحيانًا إلى الذهاب لتجيب على الهاتف. رغم تصريح الأطبّاء بعدم وجود علامات ولادة، إلّا أنّ مدير المستشفى أمر بأنْ أبقى هناك.
لم أشعر بالألم في تلك اللّيلة، لكنّه عاودني عند الصباح، فأحاطت بي الممرّضات والطبيبة من جديد، إلّا أنّه بعد ساعاتٍ تكرّر الكلام ذاته: "لا شيء يُذكر، لا تقلقوا، لا يُلحظ أيّ علامات لولادة مبكرة".
أصررت عليهم كي يَدَعُوني أذهب إلى البيت، لكنّهم لم يسمحوا لي بذلك. بعد ساعات، ساءت حالي ثانيةً، وقضّ الألم مضجعي. اضطربتْ أمّي واحتارت ماذا تفعل؛ تكرّر هذا الأمر، وكانت الممرّضات -في كلّ مرّة- يحضرن ويحطن بي، وبعد إجراء الكشف الطبّي يهززن رؤوسهن ويكرّرن يائسات ما قيل سابقًا.
في عصر يوم الجمعة 1/ك2/1988م[1]، ليلة ميلاد نبي الله عيسى عليه السلام، عاودني ألمٌ مميت. لا أدري لماذا خفتُ وخجلتُ من الجميع. ظننتُ أنّ مشكلةً ما قد حلّت بي، وقد لا أستطيع أن ألد طفلي!
ضاق صدري غمًّا وحزنًا؛ إذ إنّ غصّة فراق علي لمّا تبارحني بعد. ظلّ ألم فراقه غضًّا بالنسبة إلى الجميع، وخاصّة إليّ أنا.
حلّ وقت العصر مكدّرًا. انكمشتُ على نفسي ورحتُ أبكي بنحو متقطع وأُحدّث "علي". كنت خلال الأيّام السبعة والثلاثين المنصرمة
[1] (11دى ماه 1366 هـ.ش).
18
8
ذكرياتي تصبح فيلمًا
كلّما ضاقت بي الدنيا وقصرت يدي عن فعل شيء، أنادي "علي" وأقول في نفسي: "حبيبي علي ساعدني! لا قدّر الله أنْ يصيبنّ الجنين خَطبٌ ما؟! فأنا أخجل من الطبيبة والممرّضات، والناس ينتظرون قدوم ابنك. افعل شيئًا. إذا كان هذا الطفل سيولد فلينتهِ الأمر بيسر وعافية، فأنا لا أريد أن يتكبّد أحد العناء بسببي".
اشتدّت آلام المخاض بعد أذان المغرب. نهضتُ، توضأت وصلّيت بمشقة. في البداية كانت نوبات الألم تنتابني كلّ ساعة، ثمّ تقلّصت الفواصل الزمنية لتصبح كلّ نصف ساعة. كانت أمّي واقفة قربي، فقلت لها: "لقد ساءت حالي". وكما في كلّ مرّة، اضطربتْ وأسرعتْ نحو الممرّضات، فجئنَ وتحلّقن حولي. قالت لي الممرّضة المعاينة: "بإذن الله؛ ستكون الولادة اللّيلة". أتت الطبيبة وأمرت بالاستعداد للولادة. لبستُ ثوب العمليات بمساعدة الممرّضات اللواتي دفعنَ النقّالة صوب غرفة الولادة. كانت والدتي تذرف الدموع من دون إرادة منها. مددتُ يدي نحوها بقلق وتبعتني باكية. قالت الطبيبة المرافقة لإحدى الممرّضات: "أعطي الوالدة ثوب غرفة العمليّات أيضًا".
بعد قليل دخلت والدتي إلى غرفة الولادة وهي ترتدي لباس العمليات الأخضر، ووقفت بجانبي. في تلك اللحظات المليئة بالآلام كُنت أدعو للطفل فقط؛ كنتُ كسائر الأمهات قلقة عليه. فلكثرة ما بكيت خلال الأيّام الـ 37 الماضية، ولكثرة ما تجرّعته من غصّة الفراق ظننتُ أنّ الطفل سيولد نحيفًا ضعيف البُنية. في تلك الأيّام لم تكن الوسائل الحديثة[1] لفحص الجنين متوفرة كما هي الآن، فكان الأهل والأصدقاء والجيران يتنبّأون بجنس المولود قبل ولادته، من خلال بعض الوضعيات وشكل بطن الوالدة. وحسب تشخيص وتكهّن أغلب
[1] أجهزة السونوگرافي.
19
9
ذكرياتي تصبح فيلمًا
النسوة سيكون المولود القادم بنتًا.
كنت في شهري الثالث عندما استشهد أخو علي "السيّد أمير". يا لها من أيّام صعبة! كنتُ أطوي أوقاتي بالبكاء والنحيب، إلى أن جاءت شهادة علي. فبعد شهادتهما مضى أسبوعٌ من دون أن أتناول خلاله شيئًا سوى الماء، فهزل جسمي ولم أبدُ على هيئة النساء الحوامل. في الأساس كثيرات هنَّ اللواتي لم يصدّقنَ أنّني حامل.
سرى الألم كما تسري الدماء في كلّ أنحاء جسمي. لم أشأ الصراخ. كتمتُ ألمي وعضضتُ على شفتَيّ وأمسكتُ يد أمّي وصرت أضغط عليها بكلّ ما أوتيت من عزم. كانت أمّي تذرف الدموع؛ كذلك انهمرت دموعي بغزارة من شدة الألم. صارت أمّي تلثم يدي وتقبّلها بشدة وحرارة. تبلّلت يدي بدموعها، فصرتُ أنادي "علي" من شدّة الوجع، وألتمس منه المساعدة والعون.
وضعتُ يدي اليسرى على وجهي ورحت أقبّل خاتم زواجي الذي تفوح منه رائحة علي. فجْأة، رأيته يقف أمامي مبتسمًا، فأنْستني رؤيته كلّ آلامي. لم أصدّق، لقد حضر علي، وها هو حيٌّ حاضر، يضحك ويمدّني بالمعنويات.
قلت له: "علي حبيبي ساعدني كي لا أجزع ولأستمدّ القوّة منك، فأنا لا أريد أن يسمع صوتي أحد، أرجوك ساعدني".
عضضتُ على شفتَيّ وضغطتُ على يد أمي. لم تتحمل أمّي مشاهدة آلامي، فجلستْ على الأرض إلى جانب السرير، وصارت تدعو لي، ولساني يلهج بالذكر والدعاء، ولم أعد أسمع شيئًا؛ وكأنّي انقطعتُ عن هذا العالم؛ كان علي يضحك ويتكلّم همسًا؛ دون أن أفهم من كلامه شيئًا. عندما علا صوت بكاء الطفل همدت قوة جسدي وأصبح خفيفًا.
20
10
ذكرياتي تصبح فيلمًا
يا له من شعور جميل! أحببت أن أغفو وعلت أصوات "الصلاة على محمد وآله". كنت جالسة نصف جلستي والطبيبة والممرّضات يضحكن من حولي. قالت إحدى الممرّضات بسرور وبهجة: "إنّه صبي؛ إنْ شاء الله يَخْلُف والده لألف سنة قادمة!". كان بعض الممرّضات يبارك لبعض. رفعت الطبيبة الطفل عاليًا وقالت: "ها هو طفلك الجميل، أرأيتهِ؟ كم هو بهي الطلعة!!".
وُلِدَ ابني صغير الحجم ممتلئ الجسم، ورديّ الوجنات، وشعره كثيف سابل5 يضرب إلى السواد بشدّة.
كان علي لا يزال واقفًا هناك، قريبًا إلى حدٍّ أنّني شممت رائحته. وقف مبتسمًا، ووجهه الجميل يشعّ نورًا، كما في لحظات وداعه الأخير، همستُ قائلة: "علي حبيبي، شكرًا لك".
وضعت الممرّضات الطفل على طاولة بجانب السرير، وقمنَ بوزنه. سمعتُ حينها أنّه يزن "2.50كلغ".
تحلّقتْ بضعُ ممرّضات حول الطفل. انحنت والدتي وقبّلت وجهي؛ كانت لا تزال تذرف الدموع؛ لكنّ وجهها كان ينضح بالفرح والبهجة. همست في أذني قائلة: "يبدو كمَلاكٍ سماويّ".
نظرتُ إلى الجهة المقابلة حيث كان يقف علي، ألفيته ما زال واقفًا؛ وقلبي لا يزال يخفق لأجله كما في الأيّام الــ 37 الماضية.
تمنيّت أن ينزل من مكانه ويدنو من ابنه فيحتضنه ويقول: "عزيزتي فرشته، وردتي، سلّمكِ الله، يا لهذا الطفل اللطيف الذي أنجبتِه".
خرجتْ أمّي كي تتصل بوالدة زوجي وتأخذ منها بشارة الوليد الجديد. غادرت الطبيبة والممرّضات وأخذْنَ ولدي معهن. أتت
21
11
ذكرياتي تصبح فيلمًا
الممرّضات ووضعنني على النقّالة ودفعنني نحو قسم النساء. همدت أطرافي، لكنّ الألم لم يبارحني. التفتُّ إلى الخلف ونظرتُ إلى الجدار المقابل حيث كان يقف علي. قلت له والعبرة تخنقني: "علي حبيبي، شكرًا -لا أصدّق كم شعرت بالراحة بهذه السرعة- تعالَ معي أنت أيضًا، أرجوك لا تدعني وحيدة! لقد اشتقتُ إليك!".
خرجنا من غرفة العمليات. شعرتُ أنّ علي ليس بجانبي، اغرورقت عيناي بالدموع وأجهشت بالبكاء وقلت: "حبيبي علي، لقد تحمّلت كلّ هذا العناء بعد رحيلك، تجرّعت الغصص وحبست الدموع، كلّ ذلك من أجل أن يولد ذِكْراكَ سالمًا. اُنظر! لقد أتممتُ مهمّتي على أكمل وجه، لا تتركني وحيدة! لا تذهب! خذني معك! علي، أريد الذهاب معك! لقد أتعبني فراقك ورحيلك باكرًا. علي، لا طاقة لي على تحمّل فراقك. ليتك لم تعاملني معاملة حسنة إلى هذا الحدّ! لو أنّك آذيتني على الأقلّ!!".
تذكّرت يوم أردنا الذهاب إلى دزفول، قال لي: "ثمّة حرب دائرة؛ القصف لا يتوقّف ليل نهار، وأنا لست إلى جانبك دائمًا. ستبقين وحدَك هناك، أتتحملين ذلك؟!". أجبته بسرور: "ما تقوله صحيح، لكنّني سأتمكّن من رؤيتك أكثر ولن تطول فترة غيابك".
إذا كان لدي أيّام حلوة وأوقات طيّبة، فلا شكّ في أنّ تلك الأشهر الخمسة التي قضيتها مع علي في دزفول هي أجملها في كلّ مراحل حياتي.
كنّا في شهر دي في العام 136[1] هـ.ش (ك2/1987) في ذروة القصف الصاروخي على دزفول والأهواز، عندما سألني علي: "هل تأتين معي؟!".
أجبته من دون تردد: "أويمكنني ذلك؟!".
جمعت أغراضنا الضروريّة ليلًا (ماكينة الخياطة، مكواة، قدورًا
[1] ناعم كثيرًا كريش الغراب.
22
12
ذكرياتي تصبح فيلمًا
وصحونًا وأدوات طبخ)، مضافًا إلى حقيبة الألبسة، وبعض الأغراض الأخرى.
في الصباح الباكر، وضعنا الأغراض في صندوق السيّارة التي كانت بحوزته، واتجهنا صوب دزفول.
خلال هذه السنوات الـ27[1] لطالما استذكرت تلك الأيّام. في الأساس، كنت كلّما أشتاق إلى علي أتذكّر شهر دي من ذلك العام (ك2/87) ودزفول من دون إرادةٍ منّي. في الحقيقة، لم نشعر أنا وعلي بطعم الحياة إلّا في تلك الأيّام. لغاية الآن، ما زلت أشعر بلذّة مشاهدة أشجار البرتقال والليمون وعطر أوراقها المنعش، كذلك أشجار الكينا، والجوّ الممتع البهيج لذلك الشتاء. حتّى في هذه اللحظة وأنا أروي لكم هذه الذكريات، ما زالت ذكراها تضجّ في أعماقي.
لقد اعتدتُ في الأشهر الأولى بعد شهادة علي أن أضع البطانية لساعات على وجهي، أغمض عينيّ، وأتذكر تلك الأيّام وأكرّر مشاهدة تلك الذكريات في ذهني كفيلم سينمائي، من دون زيادة أو نقصان، وإذا قطع أحد ما خلوتي مع هذا الفيلم كنت أكمله في وقت لاحق، مثلما حدث معي في تلك اللّيلة في مستشفى "فاطمية"، كنت ما بين اليقظة والنوم نتيجة المسكنّات التي تناولتها بعد الولادة، قلت في نفسي: يودّ قلبي لو أنّ "علي" إلى جانبي، ككلّ النساء اللواتي يضعْنَ حملهنّ فقد غمرني الشوق إليه. أحببت أن يكون بجانبي. في تلك اللّيلة ولشدّة اشتياقي إليه ألقيت على وجهي غطاء السرير الذي تفوح منه رائحة البتادين والسبيرتو والدواء، وأغمضت عينيّ وبدأت أستذكر تفاصيل دخولنا إلى دزفول.
[1] السنوات الـ27 التي مضت من حياتها حتى عام (2014م)حينما كانت تروي سيرة حياتها للكاتبة. (المترجم)
23
13
خاطب ذو عينين زرقاوين
إنّي أعشق هذا المقطع من ذكرياتي. كانت ليلة السبت 20 دي (10ك2) عندما وصلنا. وجدت أنّ المنزل الذي تخيلته وتصورته في ذهني خلال الطريق من همدان إلى دزفول، يشبه المنزل الذي وصلنا إليه. كان منزلًا مؤلّفًا من طابق ونصف في مبنى حديث البناء في حي "بانصد دستكاه" الواقع في ضواحي مدينة دزفول. لم يكن في المنزل أيّ تجهيزات أو إمكانيات للعيش فيه. وصل قبلنا إلى هذا المنزل هادي فضلي[1] مع زوجته وابنته الصغيرة زينب.
كم كنتُ متعبة تلك اللّيلة؛ إلى حدّ لم أعرف كيف وضعنا الفراش على الأرض وكيف نمنا.
استيقظنا في الصباح الباكر على صوت علي؛ إذ إنّه ذهب بعد صلاة الصبح واشترى خبزًا طازجًا وصار يُحدِثُ جَلَبةً محاولًا إيقاظنا. اتخذنا من البهو مكانًا للنوم، بينما أسرة صديقه "هادي" كانت تنام في الصالون. نهضت ورتّبت الفراش بسرعة. جاء هادي ليساعد علي في إعداد الفطور، وبقيت زينب نائمة. بعد تناول الفطور لبس علي وصديقه بدلة الحرس الرسمية. سألته وهو يودّعنا: "ستعودان؟!".
أجاب علي بلهجة همدانية غليظة: "لا أعرف، سيأتي أحد الجنود يوميًّا ليتفقّدكم. اطلبوا منه ما تحتاجون إليه". عندما أقفلا الباب خلفهما وغادرا شعرتُ حينها بغربة في ذاك المنزل، لم يكن لديّ ما أفعله، وبدافع الفضول ربما صرت أجول في زواياه وأستكشف تفاصيله.
[1] ولد هادي فضلي في 14 خرداد 1341 (4/6/62) في منطقة مريانج من توابع مدينة همدان، استشهد في عملية مرصاد بتاريخ 1367/5/7(29/7/1988)، في منطقة تشارزبر اسلام آباد. كان هادي من أوائل منتسبي وحدة استطلاع العمليات، و كان حين شهادته مسؤول استطلاع عمليات "لواء 2 أنصار الحسين " في محافظة همدان، وهو من أصدقاء علي المقرّبين.
24
14
ذكرياتي تصبح فيلمًا
تقع المرافق الصحية إلى يسار فناء المنزل[1] الصغير الذي لا تتجاوز مساحته الـ 50-60م. كانت الجدران حديثة البناء، وأشعة الشمس القوية تؤذي العين. مشيتُ قليلًا في الفناء ثمّ صعدت الدرجات الخمس التي تصل الباحة بشرفة صغيرة تقع في مدخل المبنى. كان البهو كبيرًا نسبيًّا، وكذلك غرفة الاستقبال التي تبلغ مساحتها قرابة 24م. أمّا المطبخ فلا توجد فيه أيّ وسائل وإمكانات ولا حتّى خزائن، وجدرانه لم تكن قد رصفت بالسيراميك بعد. كان الغبار والتراب والأوساخ المتدلية منه تُرى كيفما جُلْتَ بنظرك في حيطانه وزواياه.
في آخر البهو درج يتألف من 14 درجة تقريبًا، وينتهي بطابق سفلي غارق في الظلام، مؤلّف من غرفتين، الغرفة الأولى كبيرة، لها نافذة صغيرة، والغرفة الثانية صغيرة ضيّقة مربّعة الشكل، لها نافذتان، إحداهما قريبة من السقف تطلّ على فناء صغير (منور) محاطٍ بسورٍ مرتفع؛ والأخرى تطلّ على فناء المنزل.
تتدلّى من السقف لمبة (W100) بالية؛ تضيء الغرفة الخالية بصعوبة بمساعدة نور الفناء الصغير. بعد أيّام صارت هذه غرفتنا أنا وعلي. لم يكن بناء المنزل قد اكتمل بعد.
بما أنّ زينب بقيت نائمة ولم تستيقظ، قرّرت أنا وفاطمة أن ننظّف المنزل. كانت زينب تبلغ من العمر آنذاك سنة ونصف السنة. خلعنا عباءتينا وعقدتْ كلّ واحدة منّا منديلها إلى الوراء. جمعنا مائدة الطعام، وبينما نحن نبحث عن المكنسة ارتفعت في الأجواء أصوات المضادات الأرضية، هرعتْ فاطمة نحو زينب، حَمَلَتْها ونزلنا إلى الطابق السفلي بسرعة. حدّقت زينب التي أفسدنا عليها نومها بنا
[1] يُطلق عليها في إيران اسم "حياط"، وهي باحة مسوّرة توجد في العمران القديم، أحياناً تكون من الجهة الخلفية. (المترجم)
25
15
ذكرياتي تصبح فيلمًا
مدهوشة مضطربة وبدأتْ تبكي. حاولنا إسكاتها فلم تهدأ. اشتدّ القصف واهتزّ البيت. جلسنا على الأرض المغطاة بالأتربة. صارت زينب تبكي وتصرخ مرعوبة، وسيطر القلق والخوف علينا؛ لأنّنا لم نكن نعرف ماذا يجري في الخارج. مضى أكثر من نصف ساعة ونحن على هذه الحال. سكتت زينب، لكنّها راحت تتململ جوعًا.
عندما هدأت أصوات القصف قليلًا عدنا إلى الطابق العلوي. كانت فاطمة تغسل زجاجة الحليب، وكنت أنا أُشعل النار تحت إبريق الشاي لمّا علت أصوات القصف هذه المرة، كان خوفنا أقلّ من السابق، ورغم ذلك هرعنا إلى الطابق السفلي.
مضى نصف ساعة، ولا خبر عن الجندي الذي وَعَدَنَا علي بمجيئه أثناء غيابه. في هذه المرة صعدنا إلى الطابق العلوي قبل أن يتوقّف القصف.
أعدّت فاطمة زجاجة الحليب لزينب وشرّبتها إياها، ثمّ لبست كلّ واحدة منّا تشادورها (عباءتها)[1] وخرجنا إلى الشارع، فدُهشنا عندما رأينا الناس يتردّدون في الزقاق من دون خوف.
لم نصدّق أنّه مع كلّ هذه الأصوات والجلبة، يعيش الناس هنا براحة بال إلى هذا الحد، فعلى بعد أمتار، اصطّف الناس أمام مخبز "لواش[2]" لشراء الخبز.
بدا الخبّاز رجلًا طويلًا نحيفًا ذا بشرة سمراء داكنة. كان يتحرّك بليونة فائقة إلى هذا الاتجاه وذاك، ثمّ يمدّ العجين بمهارة فيعلو ويهبط، ويقترب من التنور، وبقفزة احترافية واحدة يحمل رقائق
[1] تشبه العباءة العربية قليلا.. والمقصود في كلمة العباءة الواردة في الكتاب هو التشادور، أي العباءة الإيرانية.
[2] يطبخ في التنور يشبه الخبز المرقوق في بلادنا. (المترجم)
26
16
ذكرياتي تصبح فيلمًا
العجين ويلصقها على حائط التنور المتأجّج بألسنة اللهب الحمراء.
رأينا قبالة المخبز مزرعة بقر يبيعون فيها الحليب واللبن والزبدة البلدية. انفرجت أسارير فاطمة لما رأت ذلك، وانتابني الشعور نفسه عندما رأيت على رأس الشارع دكانًا يبيع الآش[1].
قلت لفاطمة: "غداً صباحًا أنت ضيفتي، سنتناول الآش معًا".
* * *
دخل الغرفة ممرّضات عدّة، نَحَّيْن الغطاء عن وجهي ففتحتُ عيني. سألتني الممرّضة الواقفة في الأمام: "هل أنتِ بخير؟!".
نظرتُ إليها مدهوشة وكأنّني قُذفتُ من عالم آخر وأُلقي بي إلى هذا السرير.
أتتْ الممرّضة الثانية، ورفعت كُمَّ القميص الرقيق الزهري اللون الذي ألبسوني إياه في غرفة الفحص وسألت:
- ألديكِ مشكلة؟ هل تشكين من شيء؟
لم أعرف بماذا أجيب. عندما رأت الممرّضة عدم إجابتي ثبّتت آلة قياس الضغط حول عضدي اليمنى ووضعت السماعة في أذنيها وشرعت في نفخ الهواء في آلة الضغط. ثمّ حدّقت بمؤشر الزئبق. رفعت السماعة عن أذنيها وقالت: "ضغطها 8".
نظرت الممرّضة الأولى إليّ بدهشة وقالت: "أين المصل الخاصّ بك؟".
لا أعرف لماذا كنّ يسألنني أنا عن هذه الأمور. لم أجب.
ذهبت الممرّضة الأولى، وبعد قليل رجعت مع شاريو التمريض المليء بالأدوية وأدوات الطبابة، وشرعت في إعداد المصل. أمّا الممرّضة
[1] الآش: حساء شعبي يحتوي على أنواع من الخضار والمعكرونة وحبوب الفاصولياء الحمراء. (المترجم)
27
17
ذكرياتي تصبح فيلمًا
الثانية فأخذت الدفتر المعدني المعلق على طرف السرير وقالت: "ألم تعاينكِ الدكتورة؟".
تبسّمت الممرّضة الأولى وهي تثبّت المصل في يدي وقالت: "من شدّة انشغالنا وسرورنا بابنك نسينا الأم!".
عندما وصلت الممرّضة المصل بيدي وحقنت فيه بعض الأدوية تبسّمتُ قليلًا. ذكّرتني مشاهدة الحقن باللوحة التي رسمها علي عندما كان جريحًا في مستشفى ساسان؛ حيث رسم فراشة أُصيبت برصاصة في جناحها والدم ينزف منه.
سألتُ: "كيف حال الطفل؟". وضعت الممرّضة يدها على كتفي، وأجابت بابتسامة مُطَمْئِنَة: "حاله جيّدة! يا له من مشاغب! فقد شغل كلّ من في المستشفى، ووالدتُك الآن في غرفة حديثي الولادة تحمل الطفل حتّى يتمكن الجميع من رؤيته من خلف الزجاج".
جمعت الممرّضة أدوات الطبابة ووضعتها على شاريو التمريض وقالت: "سيستغرق المصل مدّة ساعة، لقد حقنّا فيه المسكّن، وسوف يغلب عليكِ النعاس". بعد خروج الممرّضة، رحتُ أتأمل الغرفة من جديد، الساعة المدورة البيضاء الموجودة على الحائط تشير إلى الواحدة والنصف. أردتُ النهوض لإطفاء لمبة الفلورسانت المستقرة في السقف.حاولتُ فلم أستطع. شعرت بالملل. لماذا لا تأتي أمّي؟! لماذا لم أَنَم؟ صرتُ أتأمّل قطرات المصل التي تسقط بهدوء في الأنبوب لتصل إلى يدي. كلّ شيء هادئ وساكن. نظرتُ إلى السرير الخالي الموضوع على يساري، لو كان "علي" موجودًا؛ هل كان سيبقى بجانبي اللّيلة؟ وينام على هذا السرير مثلًا؟ أو سيكون في الجبهة والعمليات؟ تمنّيت أن يعود الزمن إلى الوراء. يا لها من أيّام عشناها في مدينة دزفول!
تذكّرت ذلك اليوم: الثلاثاء 24 دي (14ك2). كنتُ وفاطمة نكنس
28
18
ذكرياتي تصبح فيلمًا
المنزل وننظّف الجدران والسقف ونمسح الغبار والتراب. مهما حاولنا لم يأخذ المنزل شكله كبيت عادي. كان ينقصه الكثير من الأشياء فلا ستائر، ولا سجادَ كبيراً يغطّي أطراف وجوانب الغرفة، لا أدوات للعيش فيه. قمنا بأمور كثيرة، ومهما فعلنا لم يجدِ نفعًا.
قرابة العاشرة صباحًا طُرق الباب. ظننتُ أنّه الجندي الذي يأتي يوميًّا لتفقّدنا. تأزّرت بالعباءة وتوجهت إلى الباب. سألتُ: "من؟". كان صوتًا لا نعرفه:
- "أنا مساعد علي، سعيد صداقتي".
ما زلت عندما أتذكر ذاك اليوم وأتذكر أحداثه، أقول في نفسي: ليتني لم أذهب إلى الأهواز! ليتني لم أكن في البيت ولم أفتح الباب، لسارت أوضاعنا على نحو مختلف، لكن، وا أسفاه! فتحت الباب، ورغم أنّني لم أكن أرغب في الذهاب وأحسست بضرورة رفض ذلك ومقاومته إلّا أنّني قبلت وذهبت إلى الأهواز مع سعيد صداقتي.
* * *
وقفتْ ممرّضة عند رأسي تنظر إليّ مبتسمة، ثمّ حلّت عقدة المصل، فنزلت قطراته الأخيرة متسارعة في الأنبوب. رفعتِ الممرّضة الغطاء عنّي ووضعته جانبًا. شبكت أصابع كفّيها على شكل كمّاشة وراحت تضغط على بطني بقوّة وإحكام. شعرت بألم شديد يعتملُ في بطني. مرّة أخرى ومن دون أن تلتفت الممرّضة للألم الذي أقاسيه، راحتْ تضغط على بطني بكلتا يديها بنفس الطريقة التي يحاولون فيها إنعاش قلب المريض. صرختُ من دون إرادة منيّ. وضعت الممرّضة الغطاء على صدري وقالت: "لقد انتهى. أعتذر منك، لكن كان ذاك ضروريًّا".
هززُت رأسي بالإيجاب. نزعت المصل من يدي ووضعَته في سلّة المهملات. دخلت أمّي الغرفة وبيدها باقة زهور وضعتْها على الطاولة
29
19
ذكرياتي تصبح فيلمًا
بين السريرين، ووقفت بجانبي وقالت: "حبيبتي فرشته، كيف حالك؟ هل أنت بخير؟".
كان بطني يؤلمني بشدّة؛ أجبتها وأنا على هذه الحال: "نعم أنا بخير".
انهمكت أمّي بترتيب ما حولي من سرير وغطاء، كذلك عدّلت مقنعتي وقالت بسرور: "يا له من صبيّ! ما شاء الله! كالوردة! والناس يتصلون للاطمئنان عنكِ، لقد اتصلوا من مكتب إمام الجمعة والبلدية، ومسؤولون آخرون من أمكنة أخرى و..".
نظرتُ إلى أمّي وأنا أكتم غصّة في صدري. تمنيّت من أعماق قلبي لو أنّ علي حاضرٌ أيضًا ويتّصل عبر الهاتف. ليته كان بيننا. خنقتني العبرة، كم وددتُ لو أنّ أمّي تطفئ الأنوار وأنام وأرى علي في عالم الرؤيا، أو أن أغمض عينيّ وأعاود مشاهدة ذكرياتي معه.
حملت أمّي ورود زنبق الكلايون الأبيض من على المنضدة وقالت: "تنشّقي".
تذكّرت يوم وداع وتشييع جنازة علي. كان وجه التابوت مغطى بالورود، وحديقة الروضة مليئة بأكاليل الزنبق الأبيض. بدا علي كفراشة تطير وتتنقل بين كلّ تلك الورود وباقات الزهور.
فتحت أمّي برّاد الغرفة الصغير وقالت: "حبّذا لو يوجد إبريق أو أيّ شيء نضع فيه هذه الورود كي لا تذبل".
سألتُها: "هل يتساقط الثلج في الخارج؟".
تقدّمت أمّي إلى حافة النافذة ونظرت إلى الخارج والورود بيدها.
- لا، لكن إذا لم تتساقط الثلوج اللّيلة، ففي الصباح ستتساقط وتكسو الطبيعة ثوبها الأبيض.
30
20
ذكرياتي تصبح فيلمًا
تذكّرت ثلوج السنة الماضية القاسية. قلتُ: "أمّي، هل تذكرين الثالث من بهمن السنة الماضية؟ كان يوم جمعة. جاء أصدقاء علي وأحضروه معهم من أصفهان، يا له من يوم سيّئ!".
لم أرَ الورود في يد أمي. لم أعرف ماذا فعلت بها! جاءت واستلقت على السرير الآخر وقالت: "ألن تنامي؟" أجبتها بشيء من الاستياء: "أمي!".
التفتت إلى استيائي، وقالت:
- روحي، عزيزتي!
- هل تذكرين؟
- كيف لا أتذكر يا عزيزتي! بالتأكيد أذكره يا ابنتي الحلوة! يا لها من ثلوج كثيفة تساقطت على الأرض ويا له من صقيع يجمّد الدم في العروق. جاؤوا به إلى بيتنا. مددتُ له فراش النوم قرب المدفأة حتّى لا يصاب بالزكام، وأعددتُ له مرق الدجاج. كان يأكل ويقول: "سيّدة وجيهة، يا له من حساء لذيذ! سلمت يداك". انهمرت دموعي بشكل لا إرادي.
- أمّي، لقد قاسى علي الكثير من الشدائد، ففي ذلك الوقت لم أكن أخبرك حتّى لا تنزعجي ولا تغتمي. لكنّني عانيتُ كثيرًا.
وضعتْ أمّي رأسها على الوسادة مستديرة نحوي ويدها تحت خدها الأيمن.
قالتْ: "أَجرُكِ مع الإمام الحسين عليه السلام، أَجرُكِ مع إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف إن شاء الله".
حدّقتُ بالسقف وبلمبة الفلورسانت فوق رأسي. فكرتُ في حجم هذا الكم الهائل من الأحداث التي تسارعت. نظرتُ إلى أمّي، وقد
31
21
ذكرياتي تصبح فيلمًا
غلب عليها النعاس وهي مستلقية على جانبها الأيمن من دون غطاء. احترق قلبي لأجلها. نزلتُ عن السرير بمشقة وغطيّتها، قبّلتها كالعادة في رقبتها، يا لها من رائحة طيبة تفوح منها. أطفأتُ نور الغرفة. بدأ الثلج يتساقط شيئًا فشيئًا.
عندما استيقظتُ صباحًا نظرت إلى سرير والدتي فوجدته خاليًا، ولفت انتباهي الغطاء الملقى على أرض الغرفة حيث كانت تصلّي. قلت بصوت خافت: صباح الخير.
عندما أنهت صلاتها، حملت السُبحة وتقدّمت نحوي ووقفتْ إلى جانب السرير. أخذت بيدي وقالت:
- صباح النور يا عزيزتي، هل أنتِ بخير؟؟
- الحمد لله، أنا بخير.
بدا لي وجه أمّي ضجرًا مغمومًا. ظننتُ أنّ ذلك بسبب المقنعة والثوب الأسودين اللذين ترتديهما، أو لأنّها لم تنزع الشعر الزائد عن وجهها وحاجبيها؛ أو ربما كانت منزعجة من شيء آخر.
- سألتها: أمّي، كيف حال الطفل؟
ضحكتْ:
- إنّه بخير! في الصباح الباكر ذهبتُ وألقيتُ نظرة عليه. كان نائمًا كالملاك، وماذا عنكِ؟ كيف حالكِ؟ ألستِ بخير؟!
أومأتُ برأسي وقلت: "لا، أنا بخير" سألتها: "أبي، رؤيا، نفيسة، هل هم بخير؟!".
افترّ ثغرها عن ابتسامة لطيفة وقالت:
- الجميع بخير! سأتصل بهم بعد ساعة أو ساعتين لتتحدّثي إليهم.
32
22
ذكرياتي تصبح فيلمًا
تريّثتْ قليلًا، وكأنّها تذكّرت شيئًا، وقالت: "الحمد لله، لدينا هاتف الآن، وهذا الأمر سيريحنا".
في دزفول، كنت أذهب إلى مركز الاتصالات كلّما اشتقت إليهم، واتصل بمنزل السيّدة "سكينة روغني"، الواقع في أول الزقاق الذي يفصله عن بيتنا 8 منازل. كان الأمر يستغرق وقتًا طويلًا حتّى تأتي والدتي، أو أيّ أحد من أسرتي ليجيبوا على الهاتف، لكن، في النهاية تعلّمت أنّه عندما أريد محادثة أهلي أتصل بمنزل السيّدة "سكينة" وأقول لهم: "لو سمحتم أخبروا والدتي أنّني أريد التحدّث إليها"، ثمّ أقطع الاتصال لأعاود ذلك بعد نصف ساعة.
جلستْ والدتي على السرير وفي يدها سبحة تشتغل فيها بالذكر والتسبيح.
قلتُ لها: "أتذكرين عندما كنت أتصل بمنزل سكينة؟ كدتُ أستشهد في إحدى المرات!".
أوقفت أمّي تحريك السُبحة في يدها ونظرتْ إليّ بوجلٍ. ضحكتُ وقلتُ:
- لا تخافي! ها أنا لم أستشهد.
أومأت أمّي برأسها وهي تحرّك السُبحة بيدها:
- داهيةٌ أنتِ!! لطالما قلتِ إنّك بخير ومرتاحة البال والأمور تجري على أحسن ما يرام، وإنّك تمضين أوقاتك مع رفيقاتك، تستضفن بعضكن بعضاً بالتناوب.
- لم أكذب عليكِ. كنّا نجتمع معًا، ويستضيف بعضنا بعضًا، لكن، هذه الأمور المقلقة كانت موجودة أيضًا. ففي أحد الأيّام مرضتُ، وقضّ ألم بطني مضجعي، وكان علي قد غادر المنزل منذ أسبوع. استفقتُ
33
23
ذكرياتي تصبح فيلمًا
صباحًا على ألم في بطني واستمرّ حتّى المساء. لم تتوانَ فاطمة المسكينة عن القيام بأيّ عمل لأجلي، لكن من دون جدوى. كنّا في منتصف الأسبوع وانقطع أملي بشأن عودة علي في ذلك اليوم. لمّا حلَّ اللّيل؛ قلتُ في نفسي: إذا انتصف اللّيل وساءت حالي أكثر فماذا سأفعل؟! تمنيتُ في لحظةٍ أن ليته كان يوم خميس أو جمعة ويأتي علي. أقسم لكِ يا أمّي أنّه في تلك اللحظة نفسها سمعت صوت سيارته في الزقاق.
أظن أنّ الساعة كانت 2:30 بعد منتصف اللّيل. عندما دخل الغرفة ورآني على تلك الحال دُهش مع أنّه كان في حال يرثى لها، ووضعه أسوأ من وضعي؛ كان معفّرًا بالوحل والتراب، والتعب بادٍ عليه؛ عيناه متورمتان ووجهه منتفخ وكأنّه لم يذق طعم النوم أسبوعًا كاملًا. سألني: ما بك؟ أجبته: "منذ الصباح وبطني يؤلمني بشدّة". كان سائقه قد غادر. رجع علي عن الباب فورًا وذهب إلى أحد الجيران "السيّد صدّيق". أخذ سيارته، وأخذنا أنا وفاطمة إلى المستشفى. قال لي أمام المستشفى: "عزيزتي، أنا متعب جدًّا، أتذهبين وحدك؟". أطفأ محرّك السيّارة وألقى برأسه على المقود وقال: "إذا واجهتكِ أيّ مشكلة أخبريني".
قام الدكتور المناوب بفحصي وقال: "يحتمل أنّه عارض الزائدة الدّودية". كتب بعض الفحوصات المخبرية وطلب إجراءها فورًا. أُجريت الفحوص، بعدها رأى الدكتور النتيجة وقال: "الحمد لله لا شيءَ مهمًّا". كتب وصفة أدوية: حبوب وشراب. رجعت بعد ثلاث ساعات ومعي كيس أدوية. عندما وصلتُ إلى السيّارة وجدتُ علي نائمًا بالطريقة نفسها التي تركته فيها، فدته نفسي! كان رأسه على المقود وقد غطّ في النوم. أيقظته، فأدار محرّك السيّارة وانطلقنا. ولأنّني شعرت بالارتياح، صرتُ أرى الشوارع وكأنّني أراها لأوّل مرة. كانت ليلة 15 شعبان. رغم أنّ المدينة كانت خالية ولم يبقَ في دزفول
34
24
ذكرياتي تصبح فيلمًا
إلّا القليل، فقد زينوا الشوارع ببهجة ونشاط استثنائيين ووضعوا وسط الطريق زهريات الورود وعلب الحلوى احتفاءً بالعيد. كانت الحلوى تقتحم نوافذ السيارات، وازدانت أغصان الأشجار بالشرائط الملوّنة. شعرت بسعادة عارمة، وأومأت لعلي: "اُنظر هناك، اُنظر هنا؛ كم هي جميلة!". عندما لاحظ سروري وابتهاجي، جال بالسيّارة في الشوارع رغم تعبه وهو يقول: "إن أعجبكِ، فانظري أكثر". طال بنا الوقت كثيرًا ونحن نجول بالسيّارة. وعندما رجعنا إلى البيت رأينا السيّد هادي واقفًا في أول الزقاق، أمام الباب، فزينب قد أفسدت عليه نومه.
نهضت أمّي لتجمع سجادة الصلاة. كنتُ جائعة. شعرت أنّ بدني بتمامه يرتجف وهنًا وضعفًا. رفعتُ الغطاء عنّي بصعوبة حتّى أنزل عن السرير. أحسست بدوار عجيب وأنّ قلبي قد توقّف والغرفة تدور بي. كنت أبحث عن الخفّ الموجود على الدرج المعدني الصغير. أحسستُ أنّ قلبي لم يعد ينبض. زاغت عيناي، وبصعوبة بالغة قلت: "أمي..."، فهرعت وأمسكت بيدي:
- ماذا حدث فرشته؟! لماذا انخطف لون وجهك؟! ماذا حلّ بكِ؟!
فقدتُ الإحساس بكلّ جوارحي. كنت كمن لا يرى شيئًا. مدّدتني على السرير وأسرعتْ إلى الخارج. بعد قليل عُدت إلى وعيي. كانت بضع ممرّضات يقفن إلى جانبي، وصرتُ أسمع صوتَ أمّي: "افتحي فمك حبيبتي، عزيزتي فرشته".
فتحتُ فمي، فإذا بعصير الفاكهة الحلو المذاق يجري في بلعومي جرعةً بعد أخرى. شربته بنهم شديد، فدبّت الروح من جديد في عروقي وبدني. قالت الممرّضة لوالدتي: "ضغطها مُتدنٍّ جدًّا. ليس الأمر مهمًّا، لديها ضعف. شجّعيها لتأكل فطورها".
35
25
ذكرياتي تصبح فيلمًا
أدنت أمّي طاولة الطعام (المخصّصة للمريض) منّي وأطعمتني قطعة خبز ومربى. كانت شفتاي ترتجفان كالجائعين المنكوبين، وكأنّي لم أتناول شيئًا منذ سنوات. وضعت اللقمة الثانية، فالثالثة ثمّ أدنت كوب الحليب من فمي. سرت رائحة الحليب الساخن المغلي في مشامّي فقالت:
- لقد حلّيته.
كانت يد أمّي ترتجف وهي تضع كوب الحليب على شفتيّ. أمسكتُ الكوب بكلتا يديّ، وهما ترتجفان، فصار الكوب يصطك بأسناني، أمسكتْه أمّي بإحكام لأشربه على مهل.
قالت أمّي: "نسيت أن أخبرك، لقد اتصلت البارحة فاطمة والدة زينب، وسألت عنك وعن أوضاعك".
كلما سمعت باسم فاطمة تذهب بي ذاكرتي إلى دزفول. مع أنّنا كنّا تحت القصف والنار إلّا إنّها كانت أجمل أيّام حياتنا.
وضعت أمّي لقمة مربّى في فمي على مهل وقالت: "هل تحسّنتِ يا ابنتي؟".
كنت عاجزة عن قول شيء، فجسمي كان ما يزال يرتجف، وكل ما كنت أرغب فيه هو أن ألتهم طعام الفطور الموضوع على الطاولة بأكمله. لم تجبْ أمّي بشيء، وتابعت عملها بهدوء في تحضير اللقمة التالية.
ضحكتُ؛ فقالت أمّي: "ماذا جرى؛ لماذا تضحكين؟!".
- "تذكّرت دزفول؛ يا لها من أوقات جميلة!".
قالت أمّي وهي تطعمني ما تبقى من طعام الفطور: "كما كنتِ تخبرينني في السابق ها؟!".
- "كلّا، أقسم لكِ إنّني صادقة في ما أقول".
36
26
ذكرياتي تصبح فيلمًا
ابتسمت أمّي وقالت: "حسنًا، لا تقسمي فأنا أصدّقك، دزفول مدينة جيّدة. عندما زرناك السنة الماضية أمضينا وقتًا ممتعًا. يا لذكرى علي الطيبة!...".
مضغتُ اللقمة.
- يا لذكراه الطيّبة يا أمّي! حسنًا فعلتِ أنّك ذهبت إلى هناك. لقد أمضينا وقتًا ممتعًا حقًّا. عند الغروب جلستُ وفاطمة على الدرج في فناء الدار، كنّا ضجرتين نفكر ماذا نعدُّ للعشاء.
قالت أمّي: "لقد أعددْتِ يومها يخنة الفاصولياء".
- صحيح، فأنا أحبها. لكنّ فاطمة قالت إنّها ثقيلة على المعدة ليلًا. قلتُ لها: لا بأس.
- مسكين علي فهو لا يحب يخنة الفاصولياء!
- وضعتُ كوبًا من حبيبات الفاصولياء في الطنجرة، ثمّ ضحكتُ في نفسي وقلتُ: يا لسوء حظي إن أتى علي هذه اللّيلة تحديدًا. مسكين، لم يكن يكره طعام الفاصولياء وحسب، بل كان يكره كلّ طعام يصيبه بالنفخة. كانت معدته تتأذى، ويتألم كثيرًا. يا لذكراه الطيبة.. قطّعت فاطمة ثلاث أو أربع بصلات كبيرة، فانهمرت دموعنا ونحن نتكلّم. حمّرت فاطمة البصل بالزيت على النار بينما قليت أنا اللحم المفروم. كنت أطهوه على موقد غاز ذي شعلة واحدة[1]، بينما كانت فاطمة تطهو على موقد الغاز الخاصّ بها.
عندما فتحت غطاء القدر رأيت عجبًا! كانت حبّات الفاصولياء قد انتفخت وتضاعف حجمها. قلت ضاحكة: "فاطمة، هل سنأكل أنا وأنتِ كلّ هذه الفاصولياء؟!".
[1] غاز التخييم أو غاز الرحلات.
37
27
ذكرياتي تصبح فيلمًا
سمعنا من ناحية الزقاق ضجيجًا وجلبة؛ كانوا ضيوف الجيران. قالت فاطمة بحزن: "ليت أحدًا يأتي إلينا!". كنّا نمزح ونخطط لسرقة ضيوف الجيران حين وصلتم أنتم.
ردّت أمّي: "لقد كانت الكهرباء مقطوعة. أتينا بسيّارة والدك. عاشر أيّام عيد النوروز. لقد قررنا المجيء فجأة. جاء عمك أيضًا معنا. جلسنا أنا، نفيسة ورؤيا في المقعد الخلفي وسرنا، لم نكن قد ذهبنا إلى دزفول من قبل فطفنا وجُلنا كثيرًا حتّى وجدنا حي الـ "500 جهاز"، كذلك وجدنا ميدان "الفتح المبين"، أمّا شارع "كلستان يازدهم(الروضة11)" فلم نعثر عليه أبدًا. كنّا ندور حول أنفسنا ونسأل كلّ من نلتقي به عن "الروضة 11" مبنى 215؟". كان الظلام يلفّ المكان، ولم نستطع رؤية شيء، لم يجرؤ والدك على إضاءة مصابيح السيّارة. فجأة، رأينا سيّارة مضاءة المصابيح تتبعنا من الخلف. توقّف والدك فرأينا أنّ تلك السيّارة تعود لعلي.
- كنّا نجلس في الفناء نسمع ضجيجكم، لكنّنا لم نصدّق.
قالت والدتي: "ما أجمل تلك الأيّام!".
- عندما فتحت باب المنزل ورأيتكم اجتاحتني فرحة كبيرة، وكأنّ الدنيا قد أُعطيت لي! فيخنة الفاصولياء لن تُرمى هدرًا.
ضحكت والدتي وقالت: "أيتها المشاكسة! هل تذكرين كيف انهمكت في إعداد الأرز واليخنة لصهري".
جمعت أمّي صينية الفطور وقالت: "غداة ذلك اليوم ذهب أبوك وعمُّك وعلي إلى الجبهة، ونحن ذهبنا إلى مقام سبز قبا[1]".
[1] آقا سبزه قبا: أخو الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام. وقد خرج من المدينة إثرَ الظلم والجور الذي قاساه من الحكومة العباسية وبهدف تبليغ وترويج تعاليم الدين والإمامة. توفيَ غريبًا عن الوطن عن عمر 19 سنة. وما زال قبره في دزفول إلى الآن.
38
28
ذكرياتي تصبح فيلمًا
تنهدّتُ لسماعي هذا الكلام.
- بعد مغادرتكم في يوم الطبيعة[1]، شعرتُ وكأنّ حزن الدنيا وغمومها قد صُبّتْ على رأسي. عندما رأى علي شدّة كآبتي لم يذهب إلى الجبهة، وبقي يسلّيني حتّى وصلتم إلى همدان.
في اللّيل توجّه علي إليّ قائلًا: "أظنّ أنّ والدَيك قد وصلا إلى همدان، انهضي واتصلي ببيت السيّدة سكينة، وتحدّثي إلى والدتك قدر ما ترغبين".
بعد أن جمعت أمّي صينية الفطور شعرتُ بتحسّن. نظرتُ نحو النافذة؛ حيث يتساقط النفناف مخلفًّا منظرًا جميلًا. تنفسّ الصبح وأضاء السماء. كنت أشعر برغبةٍ شديدة في رؤية ابني. صرتُ أتمتم: "علي، هل رأيت ابنك؟!"، وتفطّر قلبي لذلك.
كلما راودتني فكرة أنّ علي لن يكون بيننا، وأنّ طفلي يتيم الأب، كان ينتابني حزن عميق، وتخنقني العبرة ويرتجف جسمي. هل يمكنني أن أربّي طفله وحدي؟ احترق قلبي لأجل الطفل! مرّة أخرى رأيت علي في الغرفة وهو يضحك. كنت أراه أينما يجول نظري: إلى جانب سرير أمّي، قرب النافذة، أمام سريري، خلف النافذة. تحت الثلج الجميل المتساقط، وكأنّ علي قد تكاثر بحجم قطع الثلج. تجمّع الثلج قرب النافذة، وفاحت رائحة عطره في الغرفة، رائحة شبيهة بعطر شجر الليمون.
فاحت رائحة الربيع في الغرفة. كانت رائحة جسد علي. ناديته: "علي، عليك أن تهتمّ بنا نحن الاثنين؛ أنا لا أستطيع ذلك وحدي".
شعرت أنّ علي يضحك، ويومئ برأسه كالعادة ويقول: "على عيني
[1] يوم الطبيعة: يطلق عليه في إيران "سيزده به در" وهو اليوم الثالث عشر من شهر فرفردين الشهر الأول في التقويم الشمسي. في هذا اليوم تخرج العائلات إلى الطبيعة .. (المترجم).
39
29
ذكرياتي تصبح فيلمًا
وردتي، على عيني". تنشقتُ مع هذه الأفكار نَفَسَ الراحة والانشراح، ارتحتُ قليلًا وسُرِرْتُ.
* * *
أشارت الساعة إلى الـ 11:30 صباحًا. لم أصدّق أنّني نمت كلّ هذا الوقت. لم تكن أمّي في الغرفة، رأيت ورود زنبق الكلايون الأبيض موضوعة على البراد في وعاء بلاستيكي، والثلج قد توقّف. أمّا السماء فلا زالت ملبّدة ومكفهرة. كانت ستائر الغرفة البنفسجية قد نُقِشتْ بالأزهار الناعمة البرتقالية والوردية والصفراء؛ وقد جُمعت أطرافها بإحكام. بدت الغرفة نظيفة ومرتبة تعبق فيها رائحة طيبة. نهضتُ وجلست على السرير. شعرت بحال جيّدة؛ فلم أعد أشعر بالنعاس وزال الألم عني. حدّقتُ بالنافذة وستارتها الجميلة. يا لهذه الستارة كأنّي رأيتها سابقًا! يا لذكرى تلك الأيّام! لقد اشترينا لمنزلنا في دزفول ستائر مشابهة لها.
نزلتُ من على السرير وتقدّمت نحو النافذة، أمسكتُ الستارة بيدي وشممتها، هي رائحة دزفول تنبعث منها.
رجعتُ ووقفت على باب الغرفة. بدا ممر المستشفى الطويل والنظيف أمامي خاليًا من أيّ أحد. كانت أمّي واقفة إلى جانب قسم الممرّضات وتتكلّم عبر الهاتف. عندما رأتني تبسّمت ولوّحت إليّ بيدها. كان قميصي الطويل الزهري اللون يُجرّ خلفي على الأرض.
وضعت أمّي سماعة الهاتف وأقبلت نحوي. ما إن اقتربت حتّى قالت: "عزيزتي، ها استيقظتِ من النوم؟!". تبسّمتُ وقلت: "نِمتُ كثيرًا".
أخذت بيدي وقالت: "منذ الصباح وأنا أجيب على المكالمات. قلت لهم إنّك نائمة، ولا تحوّلوا المكالمات إلى الغرفة". سألتها بدهشة: "لماذا يا ترى؟!".
40
30
ذكرياتي تصبح فيلمًا
أخذتني إلى حيث المرحاض وقالت:
- اغسلي وجهك، لتستعيدي نشاطك؛ هل غسلته؟
لم أكن قد غسلتُ وجهي بعد. فتحت أمّي باب المرحاض. كان كلّ شيء فيه نظيفًا لامعًا. فتحتُ صنبور الماء. قالت: "تَرِدنا مكالمات من العائلة والأصدقاء والجيران والمعارف، حتّى إنّه تردنا مكالمات من أفراد لا نعرفهم؛ كذلك اتصل عمك، زوجته، وخالك.. وكلّهم يريدون الاطمئنان عنكِ".
رأيتُ نفسي في المرآة باهتة اللون، والوهن بادٍ عليّ، وقد تجوّف تحت عينيّ. غسلت وجهي. ظننت أنّ الوقت قد طال لقرنٍ من الزمن، وأنا ذاهلة لا أعرف شيئًا. خرجت من المرحاض وسألتُ أمّي:
- مع من كنتِ تتكلّمين؟
- مع وحيد، ابن عمك.
ما إن سمعت اسم "وحيد" حتّى تمتمتُ بشكل لا إرادي: "وحيد؟ مسكين!".
جلستُ على السرير. تذكّرت تلك اللّيلة عندما أتى علي بوحيد إلى دزفول. أمسكتْ أمّي بيدي وقالت: "تمدّدي فرشته".
- "إلى متى سأبقى هنا؟ لماذا لم يأتوني بالطفل بعد؟!".
- "إلى صباح الغد".
اعتراني قلق، فسألتها: "هل هو بصحّةٍ جيّدة؛ هل أصابه مكروه لا قدّر الله؟! قولي الحقيقة؟".
ألقت أمّي الغطاء عليّ وقالت:
- ها قد عدتِ إلى الدلال مجددًا! أقسم بالله إنّني أخبرتك
41
31
ذكرياتي تصبح فيلمًا
الحقيقة. أتريدينني أن أكذب؟!
أغلقتُ جفوني. نشّفتْ أمّي الماء عن وجهي بالمنشفة، وعدّلتْ مقنعتي وأنزلتْ كُميَّ القميص إلى الأسفل. احتضنتها وقبّلتها في عنقها. يا لها من رائحة طيبة!
- سيأتون بعد الظهر لزيارتك.
انشغلتْ أمّي بترتيب السرير. شعرت بإحساس سيئ ولحظات قاسية. لم أكن أتصور لحظةً واحدة أن أنام على هذا السرير من دون أن يكون علي موجودًا. كلّما تذكرت تلك الأيّام رأيت علي إلى جانبي أيضًا..
يا لتلك الأيّام السعيدة التي كنت أتخيّلها وأرسمها. لم أكن أتصوّر أبدًا أن يكون الجميع في عزاءٍ عندما يولد طفلي. فهل يوجد أقسى من هذه الأيّام؟ قالت أمّي: "فرشته؟ هل أنتِ مستيقظة؟".
كم نفتقدك يا علي. كم أشتاق إليه! لكم أنا بحاجة إلى يديه الدافئتين. كم التاع قلبي، وكم كنت بحاجة إلى البكاء، البكاء طويلًا من كلّ أعماق وجودي!
قالت أمّي: "أبهذه السرعة استسلمتِ للنوم؟".
لم أفتح عينيّ؛ ولم أُجبها حتى. مع أنّ عينيّ مغلقتان، شعرت أنّ والدتي تجلس على السرير. سمعتُ صوت سحّاب حقيبتها. منذ اللحظة التي أصبحتُ فيها أمًّا ازداد عشقي وحبي لأمّي أكثر. فقد تفطّر قلبي لأجلها. كنت أكره أن أرهقها، أو أن أُزعجها ولو للحظةٍ واحدة.
فتحتُ عينّي ونظرت إليها خلسة بنحو لا أثير انتباهها. رغم أنّها لم تكن تجلس قبالتي إلّا أنّني رأيتها كيف كانت تتأمل صورة بين يديها وكتفاها تهتزان من البكاء. وضعت الحقيبة على صدرها، وكأنّها تُتمتم شيئًا ما. ظننتُ أنّها صورة لعلي. لقد ضاق صدري واكتوى قلبي.
42
32
ذكرياتي تصبح فيلمًا
شوقًا إليه. انتابني شعورٌ عجيبٌ وثقيل، كأنّي لا طاقة لي على تحملّ غيابه لحظة واحدة. كنت أشعر أنّني سأموت حتمًا ما لم أره في تلك اللحظة. وددتُ أن آخذ الصورة من بين يديها بأيّ طريقة. سألتها: "أمّي، ماذا تفعلين؟".
ارتعدتْ فرائصها وأخفت حقيبتها تحت وسادتها بسرعة. قلتُ: "كانت تلك صورة علي؟ هاتِ لأراها".
لم تجبْ ومسحت دموعها بسرعة. قلتُ والعبرة تخنقني: "أمّي، أقسم بربي أنّ قلبي يحترق شوقًا إليه!".
التفتت نحوي وتظاهرت أنّها لم تفهم كلامي ثمّ قالت: "صورة؟ أيّ صورة؟!". بدت عيناها حمراوين من البكاء. كانت تحمل في حقيبتها على الدوام "ألبوم صور" متنقلًا؛ تضع فيه صور: رؤيا، نفيسة، أنا، أبي، خالي ووالداها. منذ حوالي السنة أضافت صورة علي إلى ألبومها.
قلت: "أمي؛ بالله عليكِ أعطنيها لأراها!".
وكأنَّ قلبها قد تفطّر علَيّ. أخرجتْ حقيبتها من تحت الوسادة مكرهة ووضعتها قربي. كان علي يضحك من خلف لحيته وشاربيه الشقراوين، كانت هي الصورة نفسها التي وقف فيها إلى جانب زملائه في الجبهة بشالات سوداء حول أعناقهم. قصّت أمّي جوانب الصورة ليصغر حجمها ويظهر علي وحده في الصورة، ووضعتها إلى جانب صورتي. قلت: "هذه الصورة التقطت السنة الماضية في شهر شباط، في مناسبة الأيّام الفاطمية؛ عمليات "كربلاء 5". في تلك اللّيلة جاء علي إلى المنزل، ومعه لفافة من القماش الأسود وقال: فرشته، هل يمكنك أن تخيطي شالًا؟ أخذت لفافة القماش من يديه. سألته بدهشة: "أكلُّ هذه اللفافة من أجل شال؟!". أجاب: "اتفقنا أنا وشباب الوحدة أن نضع هذا العام شالًا أسود احترامًا للسيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام". فتحتُ اللفافة
43
33
ذكرياتي تصبح فيلمًا
وقلت: "حدّد لي طول الشال". قصصنا أول شالين معًا في البداية، ثمّ جاء السيّد هادي وفاطمة أيضًا. قاموا هم بقصّ الشالات، ورحت أنا أحيكها. في تلك اللّيلة بقينا نعمل حتّى طلوع الفجر تقريبًا. عند الصباح، بعد أن غادر علي والسيّد هادي، خطت أنا وفاطمة الشالات بالتناوب، لكنّ ماسورة الخيطان فرغت قبل إتمام العمل. فتشت عن خيطان في كلّ أزقة المحلّة، فلم أجد. في النهاية اضطررت إلى شراء مجموعة من خيطان الغزل اليدوي. كان عملًا شاقًّا. صارت الخيطان تنقطع والإبرة تنكسر باستمرار. خطنا الشالات بعد جهد جهيد. حينما عاد علي ليلًا فرح كثيرًا. أخذ شالًا ووضعه على رقبة السيّد هادي.
كنت أتحدّث إلى أمّي وأنا أذرف الدموع، بينما كانت تمسح دموعها بأصابعها. قالت لي وأنا مستلقية أتأمل في الصورة: "كفى فرشته!".
وضعتُ الصورة على صدري وقلت: "أعدكِ لن أبكي!"، لكنّني لم أستطع الوفاء بعهدي للحظة واحدة حتى. ثمّ أخذت أمّي الصورة منّي.
دخلت الممرّضة وهي تدفع عربة الطعام، وقالت والبِشْر يعلو وجهها: "سيّدة بناهي؟ هل أنتِ بخير؟".
مسحتُ دموعي بسرعة. نظرت إليّ بتعجب وسألتْ: "هل حدث مكروه؟!".
قالت أمّي بغصة وهي تدخل المحفظة إلى حقيبتها: "يا سيّدة، بالله عليكِ قولي لها كم سيتضرر الطفل إن أرضعته حليب الأحزان". نظرت الممرّضة إليّ وقالت بلوم: "ستلحقين الأذى بالطفل ويسوء طبعه"، ثمّ ربّتتْ على كتفي وقالت: "سيّدة بناهي! والآن أصبح لزامًا عليكِ أن تعتني بشخصين!".
أجبتها: "لا شيءَ مهمًّا؟ اشتاق قلبي قليلًا وحسب".
44
34
ذكرياتي تصبح فيلمًا
مسحتُ دموعي وحاولت أن أبدو هادئة. وضعت الممرّضة طعام الغداء على المنضدة أمامي. كان عبارة عن الشوربا والأرز بلحم الكباب، ثمّ قالت: "الآن عليك أن تتناولي غداءك بشهية، وأن تأخذي قسطًا من الراحة، سيبدأ موعد الزيارات من الساعة 2:00، أنا متأكّدة من أنّك ستشعرين بروحية أفضل".
* * *
في 2 كانون الأول كانت عيني تحدّق في الساعة الدائرية الشكل على الحائط، وددتُ لو أنّ الزمن يُسرّع الوقت قليلًا وتصبح الساعة الثانية، لقد اشتقت إلى الجميع، فأنا لم أرهم منذ مساء البارحة.
دخلت السيّدة منصورة والسيّد ناصر الغرفة ومعهما باقة ورد كبيرة. عندما نظرا إليّ علت البسمة وجهيهما، لكن بدت عيونهما منتفخة وحمراء كالجمر. أدركت مدى صعوبة أن يريا حفيدهما ويفقدا ولدهما. عندما رأيتهما خنقتني العبرة، وأبت الدمعة أن تخرج أو أن تعود إلى مجراها.
شعرت بالحزن لأجلهما، كانا لا يزالان يرتديان ثوب الحداد، وحرقة افتقاد ولدهما أمير كانت ما زالت حَرّى، ناهيك عن لوعة افتقاد علي التي تلهب قلبيهما. تفطّر قلبي لأجلهما، فأنا أعرف أنّ رؤيتهما لي وأنا على هذه الحال ستؤجج أوار حزنهما وستضاعفه. يا لصبرهما!! لقد اشتقت إلى ولدي الذي لمّا يمضي يوم واحد على ولادته بعد، فكيف بهما؟! وأنّى لهما أن يتحملا فقد ولديهما؟!
جلسا على كرسيّين بلاستيكيّين بجانب السرير. وكعادته استعاد السيّد ناصر مرحه بسرعة فقال: "لقد ذهبنا ورأينا ابننا، إنّه نسخة طبق الأصل عن طفولة علي، إنّه توأمه".
45
35
ذكرياتي تصبح فيلمًا
كانت السيّدة منصورة قلقة بشأن جوع الطفل فقالت: "طلبتُ أن يحضروه لترضعيه. عزيزتي انتبهي، لا تدعي الصمغ الذي يدرّ في أول مرّة يذهب هدرًا، أرضعيه إيّاه رغمًا عنه ليقوى عظمه ويغدو كعليّ".
بعد قليل عجّت الغرفة بالزائرين. جلس معظمهم على سرير أمي. زارني الجميع غبًّا للاطمئنان إلى أحوالي وأحوال الطفل، ومن ثمّ ذهبوا لرؤيته في غرفة حديثي الولادة. قام والداي ورؤيا بواجب الضيافة وقدّموا الحلوى للزائرين. أمّا نفيسة التي كانت تعشق الأطفال، فمنذ وصولها ما انثنت عن الوقوف بجانب نافذة غرفة حديثي الولادة لمشاهدة الطفل.
امتلأ البرّاد والطاولة بالحلوى والورود وعلب العصير. كان العديد من الزوار يعودون إلى الغرفة بعد مشاهدة الطفل، ويروون ما شاهدوه في غرفة حديثي الولادة.
بعد سماع وصفهم إيّاه تاق قلبي كثيرًا إلى رؤيته في أقرب وقت. قرابة الساعة الرابعة أُذيع من غرفة الاستعلامات أنّ موعد الزيارة أوشك على الانتهاء. ودّعنا الحاضرون واحدًا تلو الآخر وغادروا. وبقي في الغرفة والداي والسيّد ناصر والسيّدة منصورة فقط.
كان السيّد ناصر حسن العشرة، مرحًا ومزوحًا. روى لوالديّ قِصّة سفره إلى دزفول وزيارتنا هناك. فانجذب الجميع إلى حديثه وذكرياته التي سردها بدعابة.
قال: "كان لديّ موعد في المستشفى لإجراء تحضيرات عملية المياه الزرقاء في العين، لكنّ الحاجة منصورة صارت تلحُّ عليّ منذ الصباح الباكر حتّى المساء بقولها: "مسكينة فرشته، إنّها تقبع تحت القصف والصواريخ. سيّد ناصر، هي أمانة الناس بين أيدينا، اذهب وأتِ بها إلى هنا". ظلّت تلحّ وتلحّ حتّى أُرغمتُ على الذهاب إلى دزفول بدلًا
46
36
ذكرياتي تصبح فيلمًا
من الذهاب إلى المستشفى، ومهما قلت لها يا عيني يا عمري لم يعد باستطاعتي الرؤية جيّدًا، وإنّ بصيص النور المتبقي في عيني هو منّة منّها الله على هاتين العينين لم يجدِ نفعًا.
في نهاية الأمر قلنا يا علي[1] وانطلقنا. وصلتُ دزفول ليلًا، حيث لم أكن أرى شيئًا بعيني. وجدني أصدقاء علي في الزقاق فأرشدوني إلى بيته. طرقتُ الباب. فتحت السيّدة فرشته الباب وسلّمت عليّ. قلت لها: من أنتِ؟ أجابت: "أنا فرشته يا عمي،كنّتكم". قلت لها: "إذا كنتِ كنّتنا فماذا تفعلين هنا؟". أجابت: "يا عمي هذا منزل ابنك علي!". قلت: "هراءٌ أن يكون بيت ابني هنا!". هيا انهضي، نحن همدانيون. أحضري أشياءك وأغراضك لنذهب إلى همدان. أمّا فرشته هذه!! لا أعرف كيف خدعتني وانطلت حيلتها عليّ حتّى دخلت المنزل وجلست إلى مائدة العشاء. ثمّ حان وقت النوم. لم يكن هذا البيت بيتًا، كان أشبه بجهنم!! قلت: يا عزيزتي، أنا في عزّ الشتاء أنام في الفناء فكيف في الصيف؟!! الطقس حارّ جدًّا! فقالت كنّتي: "يا عمّاه لا يمكنك النوم في الفناء. فالمكان غير آمن، قد يقصفون المنطقة في منتصف اللّيل". قلت لها: "لا أبدًا، لن يقصفوا". تجادلنا، وفي النهاية رضختْ للأمر ونظّفت الفناء. لكنّها أردفت: "يا عمّاه توجد عقارب في الفناء". أجبتها: "بُعْ بُعْ أتخيفينني من العقرب؟!!". لن أطيل عليكم أكثر. نمت في اللّيل. وعندما أفقت في الصباح الباكر، صلّيت وذهبت إلى مزرعة بقر في الزقاق المجاور، اشتريت الحليب والقشطة مع الخبز الطازج وانقلبت عائدًا. عندما وطئت قدمي أرض الفناء وجدت فرشته كنّتنا تقف عند طرف الفراش حيث كنت نائمًا تحمل بيدها خفًّا، ما إن رأتني حتّى قالت: "اُنظر، قلتُ لك لا تنم هنا يا عمّي، يا له من عقربٍ
[1] أي الشروع في العمل بالتوكل على الله العليّ. (المترجم)
47
37
ذكرياتي تصبح فيلمًا
كبير! ". قلتُ: "لااااا يا عزيزتي لا تقتليه. إذا كان المسكين في فراشي اللّيلة الماضية ولم يؤذني فلماذا نؤذيه نحن؟! هل أنتِ من أعطاه الحياة حتّى تسلبيها منه. وهكذا وجدتني في الجبهة بدلًا من أن أعيد فرشته إلى همدان".
دخلتْ إحدى الممرّضات الغرفة، وأعلنت انتهاء وقت الزيارات مرّة أخرى. غادر السيّد ناصر مع أبي والسيّدة منصورة وهو ما زال يروي حكايته من دون أن يتوقّف عن الكلام والمزاح.
عبقتْ في الغرفة رائحة الورد الزكية. أينما ترسل نظرك في الغرفة تجد أكاليل ورد وباقات زهور الزنبق والقرنفل والكلايون...
في تلك اللّيلة نمت براحة أكثر من سابقتها.
عند الصباح، وبعد تناول الفطور، ساعدتني أمّي في ارتداء ملابسي. قالت: "لقد جاء أبوك وهو ينتظرك الآن في الصالة". وقفتْ إلى جانبي ممرّضتان تحملان معهما سلّة ورود وعلبة هدية ونسخة من المصحف الشريف. وطلب منها مدير المستشفى أن ترافقنا الممرّضتان إلى المنزل تقديرًا لنا كعائلة شهيد وتبريكًا بالمولود الجديد. جلست على كرسي نقّال، وتولّت الممرّضتان دفعه باتجاه الصالون. تقدّم والدي نحوي، وذهبت أمّي لتحضر الطفل.
في الخارج، سرت قشعريرة في جسدي بسبب البرد رغم أنّني كنت أرتدي ثيابًا سميكة. غطّى الثلج والجليد كلّ شيء، ولفحنا الهواء ببرده القارس. نزلتُ عن الكرسي بمساعدة الممرّضات، وركبتُ سيّارة كُتِبَ على بابها: "مستشفى فاطمية". رأيت أمّي من خلف زجاج النافذة تنزل على مهل من على درج المستشفى محتضنة القماط بين يديها. تريّث السائق لتنطلق سيّارة أبي فيتبعها. بدت الأشجار والأسطح والأرصفة والساحات في المدينة كأنّها قد طُليت بطلاء أبيض خفيف.
48
38
ذكرياتي تصبح فيلمًا
كان الطقس باردًا جدًّا.
مررنا بمحطة عباس آباد، ودخلنا شارع "ميرزاده عشقى"، فرأينا قناديل الثلج تتدلّى من الميازيب، والناس يمشون على الجليد والثلج بحذر. عندما عبرنا شارع "ميرزاده عشقى"، نظرت ثانية إلى زقاقنا بشكل لا إرادي. عبرت السيّارة الشارع بسرعة، وقطعنا منعطف "السجن". راقتني أصوات اكتساح إطارات السيارات لطبقات الثلج، وأصوات تكسّرها وتحوّلها إلى مياه، وتطايرها إلى جانبي الطريق.
دخلنا شارع "ديباج"، ومررنا بجانب معهد "شهداء ديباج"[1] للتعليم المهني. دخلت سيّارة والدي بصعوبة محيط مجمع المهنية السكني؛ إذ إنّه لم يكن قد تمّ جرف الثلج بعد.
توقّفت السيّارة أمام المبنى رقم (6). ترجّل أبي من سيارته وتقدّم نحو سيارتنا، كان الجيران ينتظروننا أمام شقّة والد زوجي تحت الثلج في هذا الطقس البارد. وكان قصّابٌ يمسك برأس خروف يصدر ثغاءً، وقد قطّع ثغاء الخروف نياط قلبي. نُصِبت على جانبي البوابة لافتتان، وصورة علي بوجهه الضاحك ظاهرة في كلّ واحدة منهما. رشّ أحد الجيران حبيبات البخّور على الموقد فتصاعد دخانه بهدوء في الجو البارد. تقدّمت الجارات وسلّمن عليّ وحضنَّني، وانفجرت
[1] الشهيد رضا ديباج، ولد في 1327/2/1(22/4/1958) في همدان، طالب جامعي في السنة الرابعة اختصاص علم النفس-جامعة شيراز، متأهل وله بنت. كان من المجاهدين الثوريين. بتاريخ 1351/4/17(8/1972) اعتقل واستشهد تحت التعذيب الوحشي لنظام الشاه في سجن عادل آباد شيراز بتاريخ1351/5/4. ودفن سرًّا في بهشت زهراء في القطعة (33) الصف الثالث.
الشهيد السيّد حسين ديباج مواليد 1330/2/1(22/4/1951) في همدان. طالب جامعي سنة ثالثة هندسة طرق وبناء في جامعة أمير كبير، اعتقل في 1353/2/20 على أيدي السافاك واستشهد بتاريخ 1353/2/28(11/5/1974) على أثر التعذيب القاسي في سجن (اوين) بطهران. ضريحه في القطعة (33) بهشت زهراء - الصف الثالث.
49
39
ذكرياتي تصبح فيلمًا
إحداهن باكية عندما رأتني. تلاشى ثغاء الخروف. ألقيت نظرة على الثلج فرأيت أثرًا أحمر اللون يجري ويتصاعد منه البخار.
تقع شقّة عمي (والد زوجي) في الطابق الرابع. فكّرت في نفسي كيف سأستطيع صعود كلّ هذه الدرجات. أمسكت إحدى الممرّضتين بساعدي ورفع الجيران أصواتهم بالصلاة على محمد وآل محمد. أُلصق على المصطبة[1] الأولى للدرج إعلان أربعينية "علي"، الذي بدا في الصورة ضاحكًا. توقّفتُ وقرأتها: "الاثنين، 1366/10/14(4ك2/1988)من الساعة 8 إلى 11:30، مسجد مهدية. ويقام مجلس للنّساء في القسم المخصّص لهن".
كُتب في أسفل الإعلان: وحدة استطلاع عمليات فرقة أنصار الحسين عليه السلام محافظة همدان، وعائلة الشهيدين أمير وعلي تشيت سازيان.
تابعتُ صعود الدّرج بتأنٍّ بمساعدة الممرّضتين. كان الجميع يصعد على مهل مراعاةً لوضعي. انتظرت "علي" كي ينزل من درج الطابق الرابع مسرعًا ضاحكًا وهو يردّد: "زهراء وردتي! عافاكِ الله. وردتي!.. وردتي!.. وردتي!..". لكم أحببتُ عبارته المعهودة هذه. مرّة أخرى توقّفت الغصّة في حلقومي، فلم تخرج ولم تهدأ. وبسبب برودة الطقس أسرعت أمّي في صعود الدرج، بينما الجارات اللواتي كنّ يَتُقْنَ إلى رؤية ابن علي تقدّمنَ أمامي. سألتُ الممرّضة: "في أيّ طابق نحن؟".
- الطابق الثاني.
أُلصق أيضًا على جدار مصطبة درج الطابق الثاني إعلان أربعينيّة علي. كان علي في هذه الصورة بلحية طويلة شقراء ينظر
[1] سفرة الدرج.
50
40
ذكرياتي تصبح فيلمًا
إلينا مبتسمًا. ارتجفت قدماي ولم يعد باستطاعتي الصعود. عندما وصلنا إلى مصطبة درج الطابق الثالث توقّفتُ. فتحت إحدى الجارات باب بيتها.
- تفضّلوا، سيّدة فرشته، تفضّلي إلى الداخل، استريحي قليلًا ثمّ نصعد معًا.
أجابتها إحدى الممرّضات نيابةً عني: "لا داعي إلى ذلك، ها قد وصلنا، لم يبقَ أمامنا سوى طابق واحد، سنصل بكلّ الأحوال".
ارتفعت أصوات الصلوات في الطابق الرابع وعبقت رائحة البخور في الأجواء وملأت فضاء الأدراج. ارتجفت قدماي من شدّة الوهن. لم أصدّق أنّني سأصل وأذهب إلى الغرفة وأجلس. عندما وصلت إلى مصطبة درج الطابق الرابع شعرتُ وكأنّ أُمْنِيَّاتي كلّها قد تحققت.
كان البيت مضيئًا ودافئًا؛ إذ جُمعت الستائر إلى جانبيّ النوافذ وأرسلت الشمس ضوءاً خجولاً منها على السجّاد. مُدّ فراش قرب جهاز التدفئة، وساعدتني الممرّضة لأتمدّد عليه إلى جانب ولدي حيث وضعوه. أزحتُ القماط عن وجهه، فبدا وجهُهُ متورّدًا، وهو يغطّ في نومٍ عميق. ما أجمل ذاك الشعور! جلست الجارات والممرّضتان حولي في الغرفة، وقد عُلّقت فيها صورتان: واحدة لأمير والأخرى لعلي. قلت في نفسي: "عمّو أمير، هل رأيت طفلنا؟ أرأيتَ كم هو جميل؟!".
خنقتني العبرة مرّة أخرى، لكنّني كنت أسيطر على نفسي كي لا أبكي.
كانت السيّدة منصورة تعشق أولادها: أمير، علي، الحاج صادق وأيضًا مريم. وضعتْ زهرتَيْ زنبق كلايون أبيض على كلتا الصورتين. كذلك كانت تعشق الورود. أحضرت مريم صينية الشاي ودارت بها على الضيوف. وزّعت منيرة زوجة الحاج صادق الصحون، ووضعت
51
41
ذكرياتي تصبح فيلمًا
الحلوى أمامهم. أيّ أيّام توالت على هذه الدار خلال الأشهر القليلة الماضية!! إذ امتلأت تارةً بالمعزين وتارةً بالمهنّئين.
ففي اليوم الذي استشهد فيه ابنها أمير، هنا على أرض هذا المطبخ هوت السيّدة منصورة في حضن علي. راحت تشمّه وتقبّله وتقسم عليه: "علي حبيبي، هل رأيت أمير؟!". كان علي يبكي بصمت، ولن أنسى بكاءه ذاك أبدًا.
ودّعتنا الممرّضتان وانصرفتا، وكذلك الجيران، احتست كلّ واحدة من السيدات فنجانًا من الشاي وتناولت قطعة حلوى وباركن لي وغادرن. كنت مرهقة، أشعر بدوار ووهن أصاب كلّ بدني. تمددتُ في فراشي. كانت المرة الأولى التي يعلو فيها صوت بكاء الطفل، فأسرعت أمّي وحملته قائلة:
- إنّه جائع؛ يلوي شفتيه، ماكرٌ يبحث عن مكان طعامه.
قالت أمّي ذلك وجلست بجانبي، تناولت قطعة حلوى من أحد الصحون ووضعتها في فمي. سرت نكهة الحلوى تحت لساني، فشعرتُ أنّ ما فقدته من نشاط قد عاد مجدّدًا وانتشر في أطرافي.
جاءت السيّدة منصورة بكوب عصير حلو المذاق، ووقفت قربي قائلة:
- اشربي هذا العصير ليطيب لبنك.
أخذت أمّي كأس العصير وصارت ترشفني إيّاه رشفة بعد أخرى. أحسست بشعور أفضل. احتضنتُ طفلي، كان يبحث بفمه عن شيء. بدا من داخل ثنية القماط الأبيض أصغر حجمًا وأكثر حمرةً. بدا صغيرًا إلى حدٍّ خفتُ أن أحمله. ما إن انشغل الطفل بالرضاعة حتّى تحلّق الجميع حولي وصاروا ينظرون إليه بدهشة وسرور. أغلق قبضتَي
52
42
ذكرياتي تصبح فيلمًا
يديه، ففتحتهما على مهل، بانت أظفاره وردية اللون وطويلة.
قالت السيّدة منصورة: "ماشاء الله، نسخة عن علي؛ إنّه شبيه علي. عندما كان علي حديث الولادة كان هكذا، ابني المسكين!".
أسندت ظهري إلى حائط المطبخ قبالة صورتيّ أمير وعلي. ولشدة جوعه صار طفلي يرضع بنَهَم. وضعتُ يدي على قبعته البيضاء وصرتُ أتأمل صورة علي وقرأت ما كتب أسفل الصورة بالخط الأحمر: "الشخص الذي يستطيع تخطي أسلاك العدوّ الشائكة هو الذي لم يعلق بأسلاك نفسه الشائكة".
غصّ الطفل بالحليب فحضنته أمّي ووضعت سبابتها بين حاجبيه وضغطت على الموضع. ازداد الطفل احمرارًا فقلقت، ثمّ ضربت بيدها على ظهره بهدوء ووَضَعَتْهُ في الفراش، وجعلته يغطّ في نوم هنيء. كانت قبضتا يديه مشدودتين إلى ما فوق رأسه وقد أغلقتا ثانية. فاحت في المنزل رائحة الطحين الذي يتمّ إعداد القيماق[1] منه. دخلت أمّي إلى المطبخ، وانهمكت كلّ واحدة بعملها.
في 18 أو19تشرين أول، قبل ذهاب علي إلى الجبهة بأسبوع، كان بطني يؤلمني، فأعدّت لي السيّدة منصورة "كاتشي"، وجلستُ في ذلك المكان نفسه. كان الوقت ظهرًا عندما جاء علي وقال: "أمّي ناوليني كاسة قيماق لعلّ طفلي يولد في غيابي".
جاءت أمّي وبيدها وعاء صغير مصنوع من الخزف قد وضعته على طبق من الستانلس وجلستْ بجانبي. كانت رائحة السمن الحيواني قويّة وحادّة.
[1] قيماق (كاتشي): نوع من الحلوى يشبه المهلبية في بلادنا ويصنع من الدقيق والزيت والسكر والزعفران، يقدّم للمريض والنفساء بعد الولادة. (المترجم)
53
43
ذكرياتي تصبح فيلمًا
قلت بغصّة: لا أريد أن آكل.
استاءت أمّي منّي فقالت:
- ماذا تقصدين؟
كانت الغرفة خالية، فبكيت بصوتٍ عالٍ. تململ الطفل في نومه وشرع في البكاء. ارتسمت على جبهته بضعة خطوط. حرّك قبضة يده مرّات عدّة. سألتْ أمّي بقلق: "ماذا حدث؟".
دخلت السيّدة منصورة مضطربة وفي يديها ملعقة ومقبض قماشي[1] شطرنجي الشكل باللونين الأصفر والأحمر كنتُ قد خطته بنفسي لها في ما مضى. نظرتْ إليّ بقلقٍ. فلم أرغب في إخبارهم بمّا يجول في ذهني، وأيّ أفكار تراودني وما الذي ألهب فؤادي!
جلست السيّدة منصورة إلى جانبي من دون الملعقة والمقبض القماشي، وترقرقت الدموع في عينيها. نظرتْ إلى صورتي ابنيها الشهيدين وقالت: "حتى لو لم ترغبي في الأكل؛ عليكِ أن تأكلي، هذا مقوٍّ ومفيد لكِ يا ابنتي. يا لذكراه الطيبة، كان علي يحب القيماق الذي أعدّه".
أرادت أمّي أن تلطّف الأجواء فقالت: "صلوات على النبي وآله".
قلتُ باكية: "أمّي، حتّى لو مضى على غيابه 40 سنة سأبقى أذكره، لن أنسى علي، وسأبقى أشتاق إليه، وتضطرم النار في أحشائي لأجله حتّى قيام الساعة".
تأوّهت السيّدة منصورة وناحت. شحب لونها، وغارت عيناها وارتخت أجفانها. سألتْ أمّي: "سيّدة منصورة هل أنتِ بخير؟".
[1] المقبض القماشي ويقصد به الشيّال بالعامية، وهو ما يوضع في اليد لحمل الأوعية الساخنة. (المترجم)
54
44
ذكرياتي تصبح فيلمًا
هزّت السيّدة منصورة رأسها مجيبة وكأنّها أرادت أن تنتحب وتبكي من أعماق قلبها وصميم روحها. وضعت أمّي الملعقة في وعاء القيماق -كان في الوعاء شعيرات من الزعفران جميلة اللون- وقالت: "أتأكلينها أم أعطيكِ إيّاها؟".
لم أكن أشتهي الطعام، فرائحة الدقيق المقلي والزعفران القابعة في الغرفة جعلتني أتهوّع وتذكّرت الحلواء[1] ومجلس الفاتحة ومراسم عزاء أمير وعلي. لقد هاجت هذه الذكريات في فؤادي فقلتُ باكية: "لقد اشتقت إلى علي كثيرًا".
نهضتِ السيّدة منصورة وخرجت بصمت. قالت أمّي: "اسمعي فرشته حبيبتي، إن بكيتِ ثانية فلن أكلّمكِ! لقد اتفقنا أن لا تبكي أمام الناس، عليكِ أن تكوني قويّة. غدًا يوم أربعين علي. قد يندسّ المنافقون بين المدعوّين، فإذا لم تتصبّري سيشمت الأعداء بنا، عليكِ بصلابة الرجال. أَنَسيتِ كيف كان "علي" عند استشهاد أمير. يجب أن تكوني مثله تمامًا. ابنك ليس يتيمًا. إنّه ابن شهيد، وأنتِ زوجة شهيد! وأنا لا أسامحكِ إن أظهرتِ ضعفًا. نحن قد اخترنا هذا الطريق بأنفسنا. هل نسيتِ عندما كان يأتيكِ خاطبٌ، ويطلب يدك كنت تقولين سأتزوج من شخصٍ يكون من أهل الجبهة والحرب. أريد القيام بتكليفي تجاه الثورة. والآن ألا تريدين أن تفي دَيْنك تجاه الثورة؟! حسنًا، حان وقت ذلك، أوفي بعهدك. ألم تقولي إنّ زوجك المستقبلي ينبغي أن يكون رجلًا شجاعًا ومؤمنًا! أليس علي كذلك؟! الآن جاء دوركِ أنتِ!! يجب أن تكوني شجاعة ومؤمنة فلا داعي إلى البكاء، البكاء دليل ضعف، والمسلم ليس بضعيف! خاصّة فرشته ابنتي!". أجبتها: "أمّي، أعرف ذلك كلّه، لكن
[1] الحلواء: نوع من الحلوى الإيرانية يُعّد من الطحين والزعفران والعقدة الصفراء. (المترجم)
55
45
ذكرياتي تصبح فيلمًا
ماذا أفعل؟ لقد اشتاق قلبي إليه! فهل يمكن خداع القلب!".
نادت السيّدة منيرة أمّي من المطبخ.
نهضت أمّي وقالت لي: "هيّا كُلي حتّى أرجع. عندما تتحسّنين سنذهب إلى روضة الشهداء، وسيزول عنكِ الهمّ".
سحبتُ الصينية إلى الأمام. كانت ستارة النافذة قد أُزيحت جانبًا؛ الثلج يتساقط على مهل، وكل شيء هادئ وساكن في الخارج. كان النفناف يتناثر بهدوء فيضفي على الأرض روعة وبهاءً، فتخيّلت أنّ صفحة بيضاء قد تشكلت على قبرَيّ علي وأمير.
اشتقت إلى دفتري، فقد مضت أيّام من دون أن أدوّن فيه شيئًا. أحببت أن أكتب رسالة لعلي وأقول فيها: "حبيبي علي، لقد أبصر ابنك النور، ترى ماذا أسميه "مصيب" أم "أمير"؟! ثمّ بكيتُ وقلتُ: يا إلهي قلبي مغموم، حبيبي يا الله، ماذا أفعل؟ قلبي حزين مغموم!".
واستسلمتُ للبكاء كالأطفال.
عصرًا، جمعوا الفراش ونقلوا أغراضي إلى غرفة النوم. ففي المساء سيعجّ المنزل بالضيوف، ويوم الغد هو "ذكرى أربعين استشهاد علي". ومن المؤكد أنه سيحضر الكثير من الناس لتقديم المساعدة لنا، لذلك بقيت أنا وابني في تلك الغرفة. وبينما أنا على تلك الحال، كان المدعوون يقولون لي: "لا تبكي، لا تحزني". أويمكنني أن لا أبكي أو أن لا أحزن وقد أمضينا ذكريات كثيرة معًا في هذه الغرفة؟! الله وحده يعلم لِمَ يحترق قلبي إلى هذا الحدّ ولا يقرّ لي قرار. الله وحده يعلم أيّ شخص افتقد. لا يزال ألبوم صور علي موجودًا داخل خزانة الحائط.
في المرة الأولى التي دخلت فيها الغرفة، لفت نظري خزانة حائط طويلة إلى الجهة اليسرى من الغرفة بتمامها، والجهتان اليمنى
56
46
ذكرياتي تصبح فيلمًا
واليسرى منها مخصّصتان للملابس. أمّا وسط الخزانة فله ديكور خاصّ مصنوع من طبقات عدّة مع جوارير وأدراج، مليء بالكتب والأغراض الشخصية لعلي وبينهما ألبوم صور. كم كان علي يحب هذا الألبوم الذي يضم صور رفاقه الشهداء! عندما كان يفرغ من العمل يقول لي: "فرشته، آتيني بذلك الألبوم لنشاهده معًا". أما باب الخزانة من الجهتين اليمنى واليسرى وكذلك جانبا الحائط فزُيّنت بصور الشهداء وكتاباتهم، وقلاداتهم وعصبات رؤوسهم. في ذلك الحين أدهشني هذا العدد الكبير من أصدقائه الشهداء! تنهّدتُ وفكّرتُ: "في نهاية المطاف فعلتَ ما تريد يا علي؛ وضعتَ هذه الصور على الكومود والجدار ورحلت. لقد التحقت بصور الشهداء".
دخل السيّد ناصر إلى الغرفة وقال: "سيّدة فرشته، ماذا ستسمّين ابن علي في نهاية الأمر؟".
- "لا أعرف يا عمّاه، أيّ اسم تتفضّلون به؟".
وكالعادة قال بدعابة ومرح: "لقد أوصاني علي بكل شيء، بدءًا من السمن والحلوى والعسل المصفّى إلى ألعاب الأولاد وحاجياتهم؛ لكن، نسي الشيء الأساس". قلت بخجل: "لكنّه أخبرني بذلك".
سأل السيّد ناصر بحماسة وفرح: "أخبرك!؟ وبماذا أخبرك؟!".
- كان يردّد دائمًا؛ إنّه إذا كان المولود بنتًا سمّها "زينب"، وإن كان صبيًّا أسموه "مصيب"[1]. انعقد حاجبا السيّد ناصر:
- لا يا عمّاه! كان هذا الكلام حين استشهد مصيب حديثًا، وأمير وعلي كانا ما يزالان على قيد الحياة.
[1] مصيب مجيدي؛ ولد في 1960/6/30 م، في بلدة دره مرادبيك-همدان. كان نائب وحدة معلومات عمليات فرقة 32 أنصار الحسين - محافظة همدان. ومن أصدقاء علي القدامى، وقد نال شرف الشهادة في م17/3/1986/في الفاو - العراق.
57
47
ذكرياتي تصبح فيلمًا
لم أنبس بأيّ كلمة. تنهّد السيّد ناصر تنهيدة هادئة:
- لمصيب محبة كبيرة في قلب علي، في الحقيقة كانا كالأخوين دومًا.
مشى السيّد ناصر ووقف قبالة صورة "مصيب مجيدي".
- السيّد مصيب يرحمك الله وأخيرًا دللت ابني على الطريق أيضًا.
ثمّ استدار ونظر إليّ، ثمّ رجع مرّة أخرى وتأمل في الصورة، ثمّ تنهّد:
- آ آ آه..! لقد قلتَ له وأخبرته بأنّ سبيل الشهادة هي الدموع.
جاء السيّد ناصر وجلس إلى جانبي.
- بعد شهادة مصيب، ظلّت عينا ابني علي حمراوين على الدوام.
نظرتُ إلى صورة أمير، كان بين مجموعة صور الشهداء.
أحنى السيّد ناصر رأسه على وجه الطفل وقال: أنا سمّيت أبنائي، صادق، علي، أمير. أمير كان اسمه محمد أمير. ولد علي في 13 رجب ذكرى ولادة الإمام علي عليه السلام".
بقيت صامتة ولم أردف بشيء. دخلت السيّدة منصورة إلى الغرفة. وكأنّها سمعت كلّ شيء، فقالت: "سيّد ناصر، يجب أن يبقى اسم علي حيًّا!".
تنهّدت السيّدة منصورة، ونظرتْ إلى صورتيّ علي وأمير.
- برأيي أنْ نسميّه "محمد علي"؛ تيمنًا بمحمد أمير وعلي. أجيدٌ هذا؟
قلتُ: "محمد علي! جيّد، اسمٌ رائع يا أمّاه".
انحنى السيّد ناصر مسرورًا وقبّل جبهة "محمد علي". كانت عينا محمد علي مفتوحتين؛ لكن من دون بكاء. حمله السيّد ناصر وقال: "هيا لنذهب يا حبيبي، هيا لنذهب كرجلين. كم أنت نؤوم!!".
58
48
ذكرياتي تصبح فيلمًا
خرج السيّد ناصر وتبعته السيّدة منصورة، بعد قليل ارتفعت الأصوات بالصلوات، ثمّ فاحت رائحة البخور وملأت الأجواء. نهضتُ من مكاني، وتقدّمتُ قليلًا، حدّقتُ بصور الشهداء: الشهيد حميد نظري[1]، علي دانا ميرزائي[2] حجت زماني[3]، محمد شهبازي[4]..
أمررت يدي على الصور. بأيّ عشق وبهجة أَلْصقَ علي هذه الصور على الجدار مستخدمًا دبابيس البينيز، كانت آثار أصابعه لا تزال ظاهرة على بعض الصور. كانت الصور زيتيّة لامعة؛ وصورتا أمير وعلي فقط كانتا داخل إطار.
وضعت جبهتي على واجهة صورة أمير الزجاجية؛ فانبعثت منها رائحة يد علي. فقد ثبّتها في الحائط بيده، قلتُ: "أصبح اسم ابننا "محمد علي"؛ لكنيّ تيمّنًا بذكر اسمك سأناديه علي، علي حبيبي".
خنقتني العبرة من هذه الأفكار. كانت رائحة يديه تفوح من كلّ الصور، الغرفة أساسًا تعبق برائحته. لكمْ سعيتُ أن أحفظ شكل تلك اليدين البيضاوين والدافئتين في ذاكرتي، ذاك الطول وتلك القامة، شعر لحيته الأشقر والطويل والعينين الزرقاوين، خطوط جبهته
[1] ولد حميد نظري في 1 تير 1346 هـ.ش(1967) في قرية دره مرادبيك - محافظة همدان. واستشهد في 20 شهريور 1365هـ.ش (1986)عندما كان غوّاصًا وعضواً في الفريق الإستطلاعي للوحدة في جزيرة مجنون.
[2] ولد علي ميرزائي في 10 فروردين1344هـ.ش (1965) في ملاير وفي 31 اردبهشت 1363 هـ.ش(1984) نال الشهادة في مضيق حاجيان.
[3] حجت إله زماني، ولد في 1فروردين 1338 هـ.ش. في قرية كوهين، قضاء كبودرآهنك. واستشهد في 15 مرداد 1362هـ.ش(1983) أثناء مشاركته في عملية (والفجر2) في منطقة الحاج عمران- العراق. استشهد أخوه نجات علي أيضًا في الفاو بتاريخ1364/11/28 هـ.ش(1985).
[4] محمد رضا شهبازي، ولد في 30 خرداد 1343 هـ.ش(1964). في قرية آبرومند قضاء بهار- همدان. وفي 16 اسفند 1363هـ.ش(1984) شرب كأس الشهادة على أثر القصف الجوي الذي تعرضت له ثكنة أبو ذر سربل ذهاب. وقد استشهد أخوه صمد في شلمشة أيضًا.
59
49
ذكرياتي تصبح فيلمًا
وتجاعيدها، شعره وحاجبيه الشقراوين المبعثرين.
في تلك اللّيلة نام في هذه الغرفة نفسها؛ لا، بل كنّا في منزل الحاج صادق. لم يكن على ما يرام. كان من المقرّر أن يذهب الساعة 2:30 فجرًا. قال: "فرشته، أتوقظينني إن نمت؟!". أجبته: نعم.
ليتني لم أوقظه! ليتني نمتُ وبقي كلانا في سُبات عميق! شعرت في داخلي أنّه إن ذهب هذه المرة فلن يعود. من أخبرني بذلك؟! كأنّ طنينًا كان يلازمني دائمًا: فرشته، انظري إليه جيّدًا، تأمّليه بدقة. يجب أن تبقى هذه الطلعة، هذا الشعر، وهذان الحاجبان وهذه الهيبة في ذاكرتك كلّ العمر، كذلك تلك القدمان ووقع خطاه الهادر حين كان يمشي على الأرض.
من سماته الحماسة والتأهب للذهاب إلى الجبهة على عجل. لم تنل تلك العينان الزرقاوان نصيبهما من النوم والراحة بشكل كافٍ، وكأنَّ إحدى عينيه لا تغفو. أمّا في تلك اللّيلة؛ فيا له من نوم عميق غطّ فيه! وراح يتنفس أنفاسًا عميقة متواصلة.
أيا فرشته لِمَ أيقظتِه؟! لِمَ لم تغطّي في ذلك السبات أيضًا!! أنتِ التي كنتِ تسمعين ذاك الطنين في أذنك: "هذه آخر مرّة سترينه فيها! هذا هو الوداع الأخير! هذا اللقاء الأخير! هذا آخر توديع!..".
عندما نمتَ، جئتُ إلى البهو[1]. لماذا جئتُ؟! لماذا لم أقف وأتأمّلك بشغف؟ أما كنتُ أعلمُ أنّ لقاءنا سيضرب أجله إلى يوم القيامة!
نادتني أمي:
- فرشته، فرشته حبيبتي. آتيك بطعام العشاء أم تأتين أنتِ إليّ؟
مسحتُ دموعي بسرعة، نظرت إلى نفسي من خلال زجاج إطار
[1] هال بالفارسية؛ بهو واسع في مدخل البيت؛ تتوزع الغرف حوله.(المترجم).
60
50
ذكرياتي تصبح فيلمًا
صورة علي، بدت عيناي وأنفي مُحمَرّينَ . ذهبت إلى غرفة الاستقبال رغم أنّني لم أكن أشتهي الطعام. وجدت مائدة كبيرة مبسوطة. لا غرباء بين الحاضرين، كان الجميع من الأهل والأقارب: مريم وزوجها وابنتهما، الحاج صادق وزوجته وأولادهما، السيّد ناصر والسيّدة منصورة وأخويها، الخال محمد الذي عاش سابقًا خارج البلاد، لكنّه منذ سنوات ترك زوجته وأولاده هناك وعاد إلى إيران ليعيش مع والدَيه، كذلك الجدّ والجدّة. تفطّر قلبي، كم كنّا عائلة سعيدة!! لو أنّ أمير وعلي حاضران معنا الآن؛ لعمّ المرح والمزاح والضحك. لماذا صرنا فجأة هكذا؟!
يا لهم من ضيوف هادئين صامتين. كانت حال السيّدة منصورة على غير ما يرام؛ إذ جاءها الوجع عصرًا في كُليتها، فأخذها الحاج صادق إلى الطبيب. الجميع يجلسون حول المائدة بصمت ما خلا السيّد ناصر الذي ما انفكّ يتمتّع بلطافته، فقال: "يا له من صبي! لقد قضى علينا، سيّدة فرشته، لماذا لا يبكي هذا الطفل؟!". أردفت نفيسة: "فرشته عزيزتي، إنّه وبدلًا من أن يبكي يتورّد وجهه".
كان العشاء عبارة عن أرز مع يخنة قيمة[1]. مرّت مريم بجانبي وبيدها صينية الطعام، فعبقت رائحة الحامض المجفّف في مشامّي.
جلستُ إلى جانب السيّدة منصورة. سألتها:
- هل تحسّنت حالكِ؟ ماذا قال الطبيب؟".
كان وجهها شاحبًا وعيناها غائرتين. قالت: "لقد تكيّست كُليتاي، وينبغي إجراء عملية لهما". نظرتْ بحزن وغمّ وسألت: كيف أتمالك
[1] يخنة القيمة: وهي نوعان، النوع الأول يحتوي على اللحم والباذنجان وحبوب اللبّة، والنوع الثاني يحتوي على شرائح البطاطا المقلية بدلاً من الباذنجان. وتختلف عن القيمة العراقية من حيث الشكل؛ إذ إن القيمة العراقية تطحن مكوناتها طحنًا.(المترجم)
61
51
ذكرياتي تصبح فيلمًا
نفسي ولا أغدو سريعة التأثّر والانفعال؟!
كان محمد علي لا يزال في حضن السيّد ناصر الذي قال: "خذي ابنكِ يا كنّتي. يا له من ولد! لقد فعلت كلّ شيء: صفعته، قرصته، عضضته، لم يبكِ!".
قلت بشفقةٍ ورقّة: "عمّاه!!".
قالت السيّدة منصورة وهي على تلك الحال من الإجهاد والتعب: "ما أشبهه بعلي، أطال الله في عمره. هكذا كان علي، يمرض ويتألم من دون أن يشتكي".
ضحك السيّد ناصر وقال بلهجته الهمدانية: عندما كان علي رضيعًا كان هادئًا كثيرًا، لكنّه ما إن شبّ قليلًا حتّى أخجلنا أمام الناس من شقاوته وشيطنته!! كان يتسلّق الجدران بمهارة.
أجابته السيّدة منصورة بصعوبة بالغة:
- مَنْ؟ ولدي أنا؟! أنسيت قبل شهادته، فدته أمه، أصيب بالإنفلونزا ولم يقل إنّه مريض! وقد عرفنا ذلك من خلال وجهه وعينيه. همس السيّد ناصر وكأنّه تذكّر ذلك: "إن لون الوجه يُظهر أسرار الباطن.. صحيح ما قلتِ، عندما عاد من الجبهة عاد بحال سيّئة، ولكنّه لم يتفوّه بشيء. سألته: ما بك عزيزي؟
أجاب: لا شيء.
سألته: هل أصبت بالزكام؟
- أظن ذلك.
- نذهب إلى الطبيب؟
- لا، ستعطيني فرشته الدواء.
62
52
ذكرياتي تصبح فيلمًا
أحضرتُ له من البرّاد استمينوفن[1] وأقراص ASA، وأجبَره أخوه صادق على الذهاب إلى الطبيب. أعطوه حقنة، ثمّ عاد إلى البيت وهيّأنا له الفراش. تدثَّر باللحاف ونام حتّى منتصف اللّيل. استيقظ ليلًا، رأيته يدلف إلى المطبخ، تبعته قائلةً: حالك سيّئة؟ أجاب: لا، أنا جائع.
قالت السيّدة منصورة: "استيقظت عند منتصف اللّيل على صوت الجلبة التي أحدثها، رأيت علي، فدته أمه، جالسًا على أرض المطبخ يأكل ويقول: "كم هو لذيذ! فيما بعد علمتُ أنّ ولدي لم يتناول شيئًا منذ أيّام متواصلة".
أردف والدي: "أنتم على حق، كانت قدرة علي على التحمّل كبيرة، أخبرني أصدقاؤه أنّه خلال المرّات السبع التي جرح فيها جراحًا بليغة لم نسمع أنينه ولو مرة واحدة".
نظر إليَّ والدي وقال: "أتذكرين بعد يومين من عقد القِران دعوناه على العشاء في منزلنا؟ كانت قدمه قد رُضّت خلال التدريب في النادي على "الكونغفو" عصر ذلك اليوم. بدا غير مرتاح خلال تناول الطعام وعدّل جلسته باستمرار، وانتفخت أدواجه لشدّة كظمه الألم من دون أن يخبرنا بذلك. لم أنتبه إلى أنّه يتألم".
هزّت أمّي برأسها وتابعت: "السابع من خرداد العام المنصرم. أتذكّر هذا اليوم جيّدًا؛ لأنّه كان يوم عيد ميلاد فرشته. أردتُ إعداد الحلوى لهذه المناسبة، لكنّها لم تقبل، وقالت: "لا أريد أن أُتعب أحدًا"، وأنا وافقتها على ذلك. الحاج محقّ، لقد رأيت علي تلك اللّيلة منتفخ الأوداج، وعدّل جلسته مرّات عدّة، جلس القرفصاء في إحدى الزوايا، فظننته يفعل ذلك خجلًا".
[1] استمينوفن: مركب أساسي في أقراص خفض الحرارة.
63
53
ذكرياتي تصبح فيلمًا
سألتني أمّي: "فرشته، ماذا أسكب لك: الكبسة أم القيماق؟".
بكيت ثانية، وددت الذهاب إلى الغرفة الأخرى وأبكي بقدر ما أستطيع. أجبتها بغصّة: "القليل من الكبسة".
أقيمت في يوم الاثنين (14 /كانون2/ 1988م) ذكرى أربعين علي في مسجد مهدية همدان.
بقيتُ أنا في المنزل، وبقي معي عدد من الجيران كي لا أبقى وحدي. كان الوقت المحدد للمراسم من الساعة التاسعة صباحًا حتّى الساعة الحادية عشرة والنصف، لكن، عندما عاد الجميع من المراسم كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد الظهر. قالوا لي إنّه أقيم ستون أو سبعون حفل تأبين لأربعين علي في جميع قرى وبلدات المحافظة، وذهبت جموع غفيرة إلى مسجد مهدية فعجّ المكان بالمشاركين كيوم الحشر، ولهذا، كان لدينا على الغداء عدد كبير من الضيوف، ولأجل ذلك أوصى الحاج صادق على الطعام مسبقًا.
في المسجد، سأل الأصدقاء والأقارب عن أحوالي، وكل من لم يعلم بولادة محمد علي علم هناك. عصرًا، كانت سيدات العائلة وزوجات الأصدقاء والأقارب يحضرن للاطمئنان إليّ، وجلّهن تكبّدن عناء شراء هدايا لي ولمحمد علي. تنوعت الهدايا ما بين أغطية، جهاز طفل وألعاب (سيّارة،طائرة وما شاكل)، وأهداني بعض الأقارب قطعة قماش، كنزة، مقنعة ملوّنة، وصاروا يوصونني من باب العطف بأن أخلع السواد وأخرج من الحداد. أصرّت بعض النسوة عليَّ كي أسمح لهن بأخذ موعد لي عند صالون التزيين النسائي. جلست إلى جانبي سيّدة من عمري، بشرتها بيضاء اللون، وعيناها ملوّنتان، وحاجباها بنيّان، وراحت تهتم بي طوال الوقت. حدست كثيرًا لأتذكر من تكون، لكنّني لم أفلح، قلت في نفسي قد تكون زوجة أحد أصدقاء علي.
64
54
ذكرياتي تصبح فيلمًا
أخيرًا تكلّمتْ وقالتْ: "سيّدة بناهي ألم تعرفيني؟". أجبتها: "آسفة، كلّا، حاولت ذلك لكنّني لم أستطع".
- معك حقّ في أنّكِ لم تعرفيني، لكنّ الجميع يعرفكِ، حسنًا فأنت زوجة علي تشيت سازيان، من ذا الذي لا يعرف الشهيد تشيت سازيان في همدان؟!".
- هذا من لطفكم، شكرًا لك.
- أتذكرين، في السنة الماضية بعد العيد أجرينا دورة رماية معًا في مسجد مهدية، أنت لم تلتفتي لنا، ولكننا نحن السيدات جميعًا كنّا نشير إليك بإشارات الحواجب وأطراف العيون، كنتِ قد عقدتِ قرانك حديثًا، فأومأ بعضنا لبعض: "إنّ هذه السيّدة الممشوقة القامة تكون زوجة السيّد تشيت سازيان. لا أدري لماذا كنت أظنّ أنّه لأنّكِ زوجةُ قائدٍ فسيكون رميك أفضل من رمي الجميع". ضحكت السيّدة وتابعت: "لكنّك كنت تطلقين كلّ طلقاتك خارج الهدف".
ضحكتُ كذلك من قولها.
انحنت مريم، وفي يدها صينية كبيرة عليها أقداح الشاي، طافت على الضيوف لتقدّم لهم واجب الضيافة. كذلك تبعتها نفيسة وفي يدها القندان[1].
أردفت المرأة: "سيّدة بناهي، نحن بصدد إعداد مجلّة في مسجد مهدية مع أخوات أُخريات. إذا كان لديك ذكرى مميزة عن السيّد علي، تفضّلي بسردها. فنحن نريد نشرها في المجلة"، ثمّ فتحت حقيبتها وأخرجت دفترًا وقلمًا.
[1] قندان: السكرية، وعاء يوضع فيه مكعبات السكر. ويشتهر في إيران أن يُوضع مكعب السكر تحت اللسان قبل احتساء الشاي. (المترجم)
65
55
ذكرياتي تصبح فيلمًا
غرقتُ في التفكير: ذكرى!! ذكرى عن علي. في تلك اللحظة لم أستطع أن أتذكر شيئًا.
فقلتُ لها: "أنا لم أكن مع علي في الجبهة. لقد كانت لعلي مآثره الخاصّة؛ إذ لم ينقل أخبار الجبهة والحرب إلى المنزل بتاتًا".
سألت المرأة بتعجب: "أتقصدين أنّه لم يكن يخبرك شيئًا عن العمليات، أو عن أصدقائه الشهداء والجرحى؟!".
- كلّا. لا شيء. وإذا ما سمعت شيئًا فمن أصدقائه أو المحيطين به. أمّا بخصوص الأمور التي تتعلّق به شخصيًّا فلم يكن يحدّثني شيئًا عنها".
شدهت المرأة فاهها وسألتني: "المعذرة، متى تزوجتِ؟".
- في شهر نيسان 1986م عقدنا القران.
بدأت السيّدة بالعدّ على أصابع يديها الاثنتين وقالت: "لقد عشتما معًا قرابة السنة والثمانية أشهر، صحيح؟".
- نعم، تقريبًا.
- بالتأكيد سيكون لديك خلال هذه الفترة ذكرى عنه. تفضّلي لو سمحتِ اذكري واحدة لافتة.
غرقتُ في التفكير، تُرى أيّ ذكرى ينبغي لي سردها، إحدى ذكريات حياتنا في دزفول، أو سفرنا إلى مشهد وقم، أم ذكرى زفافنا، أو قِصّة مستشفى ساسان. سألتها: معذرةً، ما هو الهدف من هذه المقابلة؟!".
- جيّد، أظنّ أنّ الناس يريدون التعرف إلى قادة الحرب، أيّ أناس هم. خاصّة في قضايا حياتهم الشخصية، مع زوجاتهم وأبنائهم، وأسرهم.
تبسمتُ وقلت: "أظنّ أنّ الناس يعرفون علي أكثر منّي ومن عائلته.
66
56
ذكرياتي تصبح فيلمًا
علي معروف بشجاعته ومحبته للإمام، واهتمامه الشديد بكلام الإمام. ففي كلّ خطبه كان يقول لا تدعوا كلام الإمام على الورق وبلا تطبيق. علي شخصٌ نشيطٌ، مقدامٌ، صاحب نخوة ومروءة أيضًا".
نظرت المرأة نظرة يائسة. وضعت القلم في الدفتر وأغلقته. وسألت: "أفهم منك أنّه ليس لديكِ أيّ ذكرى عنه؟".
كان لديّ الكثير من الذكريات عن علي؛ منذ اليوم الأول للخطوبة وحتّى لحظة الوادع. بالمناسبة، فكل هذه الذكريات كنت قد دوّنتها في روزنامة عامَي 1365 و1366*[1]. كان لدي رغبة شديدة في تدوين بعض الذكريات والحوادث في حياتنا؛ وإذا لم تتح لي فرصة كتابتها، كنت أشير إلى الأحداث المهمة أو أقوم بكتابة كلمة عنها، أو توضيح مختصر على المفكّرة نفسها وأَسِمُها بعلامة معيّنة. كنت أجمع الكثير من الأحداث تحت عنوان ذكرى، واحتفظتُ بكلّ رسائله وكل الأشياء التي أعطاني إياها: سجدة تربة حسينية، سجادة صلاة، سُبحة، قطعة قماش مباركة من يد حضرة الإمام، وزجاجات عطر صغيرة الحجم كان يتطيّب بها عند الصلاة، ويدهن منها خلف أذنيه. لكن، فكّرت ماذا تفيد الناس ذكريات حياتنا الخاصّة معًا!
عندما رأت المرأة أنّني توقّفت عن الكلام، بادرت لسؤالي ثانية: "أليس لديكِ ذكرى؟".
ضحكتُ وقلت: "أرجو المعذرة ففي ظروف كهذه ليس لدي حضور ذهن".
انقطعت المرأة عن الإصرار. وضعت القلم والدفتر في حقيبتها. احتست الشاي وتناولت الحلوى، ثمّ شدّت من قامتها، وقالت إنّها قد
[1] * (1987و1988م).
67
57
ذكرياتي تصبح فيلمًا
تأتي في وقت آخر لإجراء المقابلة، ودّعتني وانصرفت.
* * *
في اللّيل، عندما انصرف الضيوف، عاد والتأم مرّة أخرى هذا الجمع الصغير من الأقارب وأهل الحُزانة.
لم تكن حال السيّدة منصورة على ما يرام. كانت تتذرّع بتجهيز مريم لأغراضها واستعدادها للذهاب مع زوجها إلى طهران في الصباح الباكر. أمّا السيّد ناصر والبقية فقد جلسوا في زوايا الغرفة وقد ران عليهم الصمت واستولى عليهم الحزن والغم. كانت أمّي أيضًا تهيئ محمد علي. قالت: "فرشته، أنتِ أيضًا اجمعي أغراضك في الحقيبة كي نذهب غدًا إلى البيت، فوالدك هناك وحده، وأختاك لديهما مدرسة، ولا أعرف كيف أمضوا هذه الأيّام القليلة من دوني!".
وضعت أمّي محمد علي في سريره، فعبقت رائحة الطفل في الغرفة، رائحة الصابون، البودرة، والحليب. نهضت وطويت ملابسي وملابس محمد علي ووضعتها في الحقيبة، كذلك البطانيات، وعلبة الحليب وبراد الماء، جمعتها كلّها ووضعتها في مكانٍ واحد كي لا أنسى منها شيئًا عند الصباح. كان محمد علي مستيقظًا ووجهه كان ما يزال متورّدًا، لكنه بدا أكثر نحافة. كان هادئًا يحدّق بعينيه الرماديتين في السقف.
وقعت عيناي على صورة علي في الإطار وهو ينظر إلينا حزينًا. خاطبته: علي حبيبي، لِمَ أنت مستاء؟ إنّ شأن المرأة ومكانتها يرتبطان بحضور زوجها؛ كنت أستمد الشأنية من وجودك زوجًا لي. والآن أنت لست هنا، ويتملّكني شعور مختلف. لعلّي أصبح عبئًا وحملًا!!
تهيّأت للرحيل فربما لن أعود في القريب العاجل. كنت أغادر تلك الغرفة المليئة بالذكريات، غرفة كانت تتحوّل إلى غرفة خاصّة بنا
68
58
ذكرياتي تصبح فيلمًا
كلّما عاد علي من الجبهة، غرفة تنبعث منها رائحة علي. كانت ثيابه معلّقة في الخزانة، وكتبه منضودة على رفوف المكتبة، كذلك رسائله ومخطوطاته وألبوم صور رفاقه الكثيرة. وأنا أهمّ بالمغادرة، ارتأيت أن آخذ صورته معي. شددتُ قامتي لأنزع الصورة عن الحائط، لكنّ يدي التصقت بإطارها، ومهما حاولت إفلاتها لم أفلح. سمعت صوت السيّد ناصر يناديني من الخلف:
- فرشته، ماذا تفعلين؟
رفعتُ يدي عن الصورة.
- عمّاه، سأذهب غدًا إلى بيت أمي، أستأذنك بأخذ صورة علي معي أيضًا.
اعتراه التعجب فسألني: "تريدين الذهاب؟!".
ثمّ نظر إلى جهة الباب ونادى: "يا سيّدة منصورة، يا سيّدة منصورة، تعالي وانظري فرشته ماذا تقول. تريد المغادرة!".
بعد قليل، دخلت السيّدة منصورة ومعها أمّي والجدّ والجدّة. لم تتحمّل السيّدة منصورة مشهد الأغراض المجموعة، واستسلمت للبكاء. بقيتُ حائرة ماذا أفعل، فاستسلمت أنا أيضًا للبكاء. اختنق السيّد ناصر بعبرته. جاءت مريم أيضًا، وحينما رأت أمّها تبكي سألت متعجبة: أمّي ماذا حدث؟!
كان بكاء السيّدة منصورة يُبكي الحجر ويفتّته. احتضنتها مريم وبدلاً من أن تواسيها وتهدّئ من روعها راحت تبكي هي أيضًا. تبدّلت أحوال الغرفة، وصار كلّ من يدخلها ويرى هذا المنظر لا يتمالك نفسه عن البكاء. أعرف أنّه خلال الأيّام القليلة الماضية وخلال مراسم العزاء كان الجميع يمسكون أنفسهم عن البكاء كي لا يشمت بنا العدو
69
59
ذكرياتي تصبح فيلمًا
ويفرح، ونعطي المنافقين ذريعة في أيديهم للاستغلال.
الشخص الوحيد الذي لم يبكِ كان السيّد ناصر، فتوجّه إلينا قائلًا: "إن روحَيّ علي وأمير ها هنا، ولسرور روحيهما صلّوا على النبي وآله".
رفع الجميع أصواتهم بالصلاة على النبي وآله. كان الخال محمود جالساً بجانب محمد علي يداعبه. تابع السيّد ناصر قوله: "أنا على يقين من أنّ روحَيّ علي وأمير تنظران إلينا وتريان تصرفاتنا؛ إذاً بحق مولانا الأمير كفّوا عن البكاء".
عندما كان السيّد ناصر ينطق بهذه الكلمات، سرى اختلاج رجفة في صوته تمامًا كلوح زجاج تلقّى ضربة، وصدر منه صوت تشقق، وقد يهوي مع أيّ وكزة إصبع عليه.
هدأت السيّدة منصورة وسكتت مريم وأمي. التفت السيّد ناصر إليّ وقال: والآن يا سيّدة فرشته؛ هيّا قولي إنّكِ تريدين المغادرة؟ أمللتِ منّا وتعبتِ؟! هل أساء إليكِ أحد؟!
أجبته على الفور: "كلّا، أبدًا يا عمّاه، أيّ إزعاج؟! أيّ أذى؟!".
مرة أخرى استرسلت السيّدة منصورة في البكاء.
- إذاً لماذا تريدين الذهاب؟!
- أريدُ أن أرفع الزحمة، صرت عبئًا عليكم، لقد أتعبتكم معي.
التفتُّ ناحية أمّي وقلتُ:
أمّي أيضًا تريد الذهاب إلى منزلها، فوالدي وأختاي وحدهم.
أخذت السيّدة منصورة محمد علي، احتضنته وضمّته إلى صدرها وقالت نائحة: إلى أين ستأخذين حفيدي الجميل؟ أمير حبيبي فديتك نفسي، علي حبيبي فديتك نفسي! علي يا عمري إلى أين تريد الذهاب؟
70
60
ذكرياتي تصبح فيلمًا
ارتجف صوت السيّد ناصر مجددًا وقال لي: "لا يا عزيزتي! لا تقولي مثل هذا الكلام، هذا كلام الغرباء. أنتِ ابنتنا ومحمد علي ابننا. ماذا يعني أنّكِ مصدر إزعاج لنا؟! فهذا البيت بيتكِ، ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال: "الحمد لله، فإذا ما استشهد ابناي فلأنّهما جديران بالشهادة, وأنتَ أيضًا قبلت شهادتهما. حمدًا لك يا رب أنّ ولدَيَّ لم يكونا مبعث عار وهوان. شكرًا لك يا رب أن صار ولداي مبعث عزٍّ وفخار. ألف شكر لك ربي على ما أعطيت، وألف شكر لك على ما أخذت".
بعد دقائق ما لبث أن جنح السيّد ناصر إلى الدعابة والمزاح ليعدّل أمزجتنا فقال: "هيا خذي ابنك هذا واذهبي، لقد قتلنا بصمته وعدم بكائه، كم أتعبتُ نفسي وقرصته لأجعله يبكي، لكن من دون جدوى!! أصلًا إن الطفولة هي طفولة أيّام زماننا.. كنّا بمجرد أن نضرب الأطفال يصل صوت بكائهم إلى بيوت الجيران القريبة والبعيدة!!".
ومع كلام السيّد ناصر وبكاء السيّدة منصورة وجدتُ أن لا مناص من البقاء، بالرغم من أنّ الانسلاخ من هذه الغرفة بات صعبًا عليّ. ففي كلّ يوم كنت أتمنى أن يدبر النهار بسرعة ويقبل اللّيل لأنام أنا ومحمد علي في غرفة علي. كان لتلك الغرفة حالٌ عجيبة. كنت أتحسّس وجود علي فيها، وأراه في منامي حتّى الصباح.
في تلك اللّيلة مكثت في تلك الغرفة وتلتها كذلك ليالٍ أُخر.
بلغ محمد علي الشهرين من العمر. كنّا أحيانًا نحلّ ضيوفًا على بيت الحاج صادق لعدّة أيّام، وأحيانًا أخرى ننزل في بيت أمي، لكنّ بيتنا الأساس كان منزل الحاج ناصر.
ساءت حال السيّدة منصورة من جديد؛ إذ تكيّست كليتاها واختلّ نظامُ جسمها. قرّر السيّد ناصر نقلها إلى طهران لتبقى فترة هناك
71
61
ذكرياتي تصبح فيلمًا
للمعالجة. ولهذا السبب، توجّهتُ أنا ومحمد علي مع بعض الأكياس والحقائب إلى منزل أمي، لكن منذ ذلك الحين، قرّرنا أنّه عندما يعودون من طهران أن أبقى يومَي الخميس والجمعة في منزل السيّد ناصر، وباقي الأيّام في منزل والديّ.
تغيّرت أحوالي وظروفي هناك وكثُرت أوقات وحدتي، ففي كلّ صباح كان والدي يذهب إلى عمله. كان والدي حلّاقًا مشهورًا، ويقع محل عمله (صالون2000 للحلاقة) في تقاطع شريعتي في همدان، وكان لديه زبائنه الخاصّون؛ بينما أمّي كانت تذهب إلى مشغل الخياطة صباحًا وعصرًا برفقة عدد من النسوة، كنّ يخطن بدلات خاصّة بالمجاهدين مجانًا.
كان المشغل يقع في شارع "بابا طاهر"[1] قرب مسجد ميرزا داوود في الطابق الثاني لأحد الدكاكين.
أما أختاي فكانتا تلميذتين تذهبان إلى المدرسة يوميًّا، لهذا السبب، كان المنزل يخلو كلّ صباح وأبقى أنا ومحمد علي وحدنا. كان محمد علي طفلًا هادئًا وقليل الإزعاج.
قاسيتُ في تلك الأيّام الكثير من أوقات الشدّة، كانت أصعب أيّام وحدتي وعزلتي وانكماشي على نفسي، فأمضيها بكتابة المذكّرات، أو باستحضار الذكريات من تقويم عامَي (1986-1987).
كانت أمّي الشخص الوحيد الذي سعى إلى إخراجي من وحدتي. في أكثر الأوقات كانت تذهب إلى المشغل غبًّا لترتيب الأمور هناك، ومن ثمّ تعود بسرعة إلى البيت، وأحيانًا لم تكن تذهب إلى دوامها المسائي. في بعض الأوقات كانت تقيم مجالس عزاء في المنزل، أو
[1] بابا طاهر: عارف وشاعر ايراني الاصل عاش في أواخر القرن الرابع وأواسط القرن الخامس الهجري في زمن طغرل بيك السلجوقي؛ له مقام في مدينة همدان.
72
62
ذكرياتي تصبح فيلمًا
تأخذني معها لسماع التعزية.
أحيانًا كان أبي يلزم المنزل، فنوكل إليه مهمة الاعتناء بمحمد علي، ونذهب لنتمشّى مدّة نصف ساعة، فنجول في السوق، وتشتري لي أمّي شيئًا، ثمّ نعود إلى البيت.
كنت أمضي معظم أيّام آخر الأسبوع[1] في منزل السيّدة منصورة، عشت مع الوحدة والغُمّة أصعب فصول حياتي.
في النهارات كنت أركّز نظري في الباب، وأتمنى مجيء صديقة لي. لم يعد يزورنا إلّا نفر قليل. غرق الجميع في حياتهم اليومية، وكأنّي مع شهادة علي قد مُحيت أنا أيضًا من الذاكرة.
تلك الأيّام وما استتلاها، حوت الكثير من المتاعب والمآسي وما لا يُحكى أو يُقال، ولولا عشق الإمام والثورة وتمسّكي بالمبادئ والمعتقدات، لما تحمّلت تلك الصعوبات أبدًا.
وهكذا ولجت مرحلة صعبة من التحدّيات، تحتّم عليّ اتخاذ قرارات أصعب وأكبر. لقد مضى علي في سبيل أهدافه ومُثُله، وأنا بقيت في أثر اكتشاف أهدافي ومُثُلي والبحث عنها..
في العام التالي، وضعت الحرب أوزارها، وعاد المقاتلون من الجبهات إلى المدن، وانغمسوا في حياتهم الاعتياديّة، وشيئًا فشيئًا تغيّر الكثير من الأشياء.
في العام 1988م، وبتشجيع وإصرار من أمّي ومتابعتها، انتسبت إلى معهد "التهذيب" وللمرة الثالثة انشغلت في دراسة سنة ثانية حادقات الأطفال.
ربما كانت الأعوام الأولى من أصعب سنوات فراقي لعلي، ولكن مع
[1] الخميس والجمعة. (المترجم)
73
63
ذكرياتي تصبح فيلمًا
وجود التقاويم والمذكّرات التي كنت أخطّها على صفحاتها، كنت أعيش معه فأتحسّس وجوده بشكل عجيب. ما زلت أحتفظ بتلك التقاويم، ومن خلال النظر إليها وقراءة كلمتين أو ثلاث كلمات مشفّرة كنت قد كتبتها على شكل مذكّرات على رأس الصفحات تحيا من جديد أمام ناظري كلّ الذكريات منذ اليوم الأول للخطبة حتّى لحظة الاستشهاد.
74
64
خاطب ذو عينين زرقاوين
خاطب ذو عينين زرقاوين
في شهر آذار من عام1986م، رحت أنظر من خلف نافذة الحافلة إلى الأشجار العارية واليابسة جنب الرصيف، والثلوج التي غطّتها طبقة من الغبار والتراب، وقد أخذت تذوب شيئًا فشيئًا. كانت السماء صافية زرقاء، وأحيانًا كانت جوقة عصافير تخرج إلى الطيران وسط السماء.
ضغط السائق على مكابح الحافلة ونظر في المرآة مناديًا بصوت عالٍ "هنرستان"؛ أيّ المهنية.
ترجّلت من الحافلة فتاة ذات وجه دائري أبيض اللون، وعينين خضراوين جميلتين، بدت لي أنّها أجمل من كلّ الفتيات اللواتي رأيتهنّ. كانت تجلس دائمًا في آخر الحافلة وتتحدّث مع صديقاتها بصوت منخفض. كنت أعلم أنّها مثلي في السنة الثانية وتُدعى "مريم". سمعت ذلك من صديقاتها، لكنّنا لم نكن في الصف نفسه.
توقّفت الحافلة مقابل مهنية "شهداء ديباج". عدّلت مريم عباءتها، وغطّت بها طرف وجهها وترجّلت منها، ثمّ راحت تلوّح بيدها لصديقاتها من الخارج مودّعةً إيّاهن.
كان أغلب ركّاب الحافلة تلامذة في مهنية التهذيب، كانت تعبر من شارع "ميرزاده عشقي" حيث يقع منزلنا، وكل يوم كنت أنزل أمام مستشفى الإمام الخميني قدس سره. أطلق على زقاقنا في تلك الأيّام اسم
75
65
خاطب ذو عينين زرقاوين
"مهرغان" الواقع مقابل زقاق "قاضيان". بعد أن عبرت الشارع ودخلت الزقاق رأيت شاحنة صغيرة متوقّفة أمام منزلنا. دخل بعض الرجال إلى باحة المنزل، وبعد قليل خرجوا حاملين أوعية كبيرة ووضعوها في الصندوق الخلفي للشاحنة. عندما وصلت إلى الباحة وقفتُ جانبًا كي يخرج الرجال الذين وضعوا ثانيةً بعض الأوعية من المخلّلات في صندوق الشاحنة. غصّت باحة منزلنا بالجموع، وامتلأ فضاؤها بالروائح المختلفة، وانشغلت كلّ مجموعة من النسوة في أنحاء الباحة بعمل ما، جلوسًا أو وقوفًا. بينما وقف عدد من النساء إلى جانب موقد الغاز لإعداد المربّى داخل قدر كبير، وراح عدد آخر يسكب عصير السكنجبين[1] المبرّد داخل القوارير. جلست بعض النسوة على بساط كبير لتعبئة المكسّرات الموضوعة على صينيّة وسط البساط داخل أكياس النايلون الصغيرة وأغلقنها بشرائط صغيرة خضراء. عندما عبرت من أمام السيّدة "حميد زاده" سلّمتُ عليها، فهي صديقة أمّي، وتعمل في خياطة بدلات المجاهدين في المشغل التعبوي "في سبيل الله". ردّت سلامي ببشاشة وجه، وهمست شيئًا في أذن إحدى النساء الجالسات قربها. اعتراني الخجل وشعرت بحرارة وجنتيّ وأسرعت إلى البهو.
في البهو، جلست 7 أو 8 نسوة، ومُدّ خوان[2] أبيض كبير على السجادة، وجبل من قوالب السكّر[3] قد تكوّم وسطه. دخلت ذرّات السكّر المنتشرة حلقومي، فشعرت بمذاقها الحلو. كانت إحدى النسوة تقرأ دعاء التوسل غيبًا، بينما راحت باقي النسوة وهنّ يكسّرن قطع السكر الكبيرة في
[1] سكنجبين: شراب خاص يعدّ من النعناع والعسل أو السكر. (المترجم)
[2] مائدة، سفرة.
[3] قالب السكر معروف في إيران بشكله القاموعي؛ وقد يعد بطرق أخرى، ويعمد إلى تقطيعه وتحويله إلى مكعبات صغيرة حتى يسهل تناولها في الفم عند شرب الشاي مثلا؛ أو تذويبها في الأواني لإعداد الحلوى وما شابه. (المترجم)
76
66
خاطب ذو عينين زرقاوين
الهاون يرتّلن زمزمة "يا وجيهًا عند الله اشفع لنا عند الله".
دخلتُ خلسةً إلى المطبخ. كانت أمّي قد وضعت قِدْرًا كبيرةً على الغاز، وراحت تحرّك ما بداخلها بواسطة مغرفة كبيرة، فأزكمت رائحة الخلّ حلقومي.
ألقيت التحية على أمّي وسألتها عن أحوالها. أردتُ فتح البراد فإذا بالسيّدة حميد زاده تقف خلفي في المطبخ وتهمس شيئًا في أذن أمي.
شممت رائحة مؤامرة، وحثّني الفضول لمعرفة ما همستا به. أسرعت إلى الغرفة، وبقيت هناك بحجّة تبديل ملابسي وارتداء اللباس المنزلي. كانت نفيسة ذات السنوات الخمس نائمة في الغرفة.
بعد قليل نادتني أمّي. طرحتُ كنزتي فوق بنطالي وذهبت إليها. كانت السيّدة حميد زاده في انتظاري مع تلك السيّدة التي كانت تجلس قربها في زاوية الغرفة خلف النسوة اللواتي كنّ يكسّرن قوالب السكر. أومأت إلي أمّي كي أرتّب شعري، انتبهت للتوّ أنّي لم أسرّح شعري، كذلك أشارت إليّ بحركات العين والحاجب كي أحضّر لهنّ الشاي. بدا واضحًا لي السبب الذي جعل صديقة السيّدة حميد زاده تصبو إليّ بنظراتها كثيرًا. سكبت الشاي في أقداح مخصّصة للضيوف وملأت القندان بمكعّبات السكّر ووضعتها وسط الصينيّة.
رجعت قليلًا إلى الوراء ونظرت إلى لون أقداح الشاي وصفائه؛ كان لونها زهيًّا يتصاعد منها البخار.
تفحّصت نفسي أمام السماور المعدني وسرّحت شعري بيدي ودخلت البهو. كانت صديقة السيّدة حميد زاده متوسطة الطول، بيضاء البشرة، وكان حاجباها البنيّان عريضَين، وفمها ورديَّ اللون، ترتدي ثيابًا أنيقة جدًّا. عندما انحنيت أمامها لأقدّم الشاي لها
77
67
خاطب ذو عينين زرقاوين
تبسّمت ونظرت إليّ بتودد قائلةً: "سلمت يداك، أسعدك الله".
بعد ذلك، قدّمتُ الشاي لأمّي وللسيّدة حميد زاده بيدَين مرتجفتَين، وأخذت الصينيّة والقندان إلى المطبخ ثمّ ذهبت إلى الغرفة وحبست نفسي هناك.
أخرجتُ التقويم من حقيبتي ووضعت إشارة × صغيرة على يوم السبت 7 آذار 1986 وكتبت "مراسم الطلبة".
***
في اليوم التالي، كان عطلة ما بين الامتحانين، نمت بعد صلاة الصبح حتّى الساعة التاسعة والنصف. عندما استيقظت وذهبت إلى الحمّام لأنظف أسناني، اتّسعت عيناي من التعجّب؛ فالسيّدة حميد زاده وتلك السيّدة الأنيقة المظهر التي رأيتها البارحة كانتا تقفان مع أمّي في فناء المنزل وتتحدّثان إليها. ذهبت إلى المطبخ واختبأت هناك، وبعد قليل غادرتا. جاءت أمّي وقالت: "فرشته، إنّها السيّدة منصورة صديقة السيّدة حميد زاده، تلك السيّدة التي أتت البارحة معجبة بك، لقد مدَحَتها السيّدة حميد زاده كثيرًا، وقالت إنّها عائلة جيّدة وابنها صديق ابن السيّدة حميد زاده ورفيق جهاده".
أجبتها باستياء: "أمّي، لقد شرعتِ ثانيةً! كم مرّة أخبرتك أنّني لا أنوي الزواج، أريد أن أكمل دراستي وأدخل الجامعة".
أجابتني: "لا تفزعي! فهل تظنّين أنّهم سيأخذونك بهذه السرعة، أنا أيضًا أخبرتهم بذلك. لقد أخبرتني السيّدة منصورة أنّها معجبة بنجابتك، وأنّ ابنها يرغب في فتاة مثلك، ولا مشكلة لهم إن تابعتِ تحصيلك العلمي بعد الزواج، وذكرت لي أنّ ابنتها عقدت قرانها رغم أنّها تتابع تحصيلها".
78
68
خاطب ذو عينين زرقاوين
أحنيتُ رأسي ولم أجبها بشيء، تبسّمت أمّي وقالت فرِحة: "يبدو أنّهم عائلة جيّدة، وابنهم في الحرس الثوري".
كانت أمّي تعلم أنّ أحد شروطي للزواج هو أن يكون زوجي المستقبلي "حارسًا ثوريًّا". برأيي، إنّ الحرس الثوري هم أشخاص كاملون لا يشوبهم عيب، وهم أفراد مؤمنون ومتديّنون، ومن الناحية الأخلاقية متساوون في المنزلة والمقام مع العلماء.
ثم أردفت أمّي: "أخبرتني السيّدة منصورة أنّ ابنها في الجبهة منذ بداية الحرب".
شعرت أنّ والدتي راضية عن هذا الزواج، فهي ما تفتأ تذكر معاييري وشروطي للزواج. كان من شروطي أن يكون زوجي مجاهدًا. كنت قد أخبرت أمّي أنّني أرغب في فعل شيء للثورة، لا أحبّ أن أكون عبئًا على المجتمع، إنّ هدفي هو أن أكون في خدمة الثورة وفي خدمة وطني من خلال ارتباطي بمجاهد. عندما لاحظت أمّي صمتي، لم تردف شيئًا.
***
في اليوم التالي، عندما عدت من المدرسة كانت أمّي قد نظّفت البيت ورتّبته بشكل لافت ومميز. فقد كنست عتبة الفناء ورشّت الماء وشطفت الباحة، كذلك نظفت النوافذ ولمّعتها، ونظفت الغرف وكنستها وغيّرت ديكورها. وانتهت كلّ تلك الجلبة والانهماك بالمخللات والمربى التي كنّ يحضرنها للجبهة.
صارت رائحة البيت كالورد. تألمت كثيرًا من أجلها، فهي قامت بكلّ هذه الأعمال وحدها خلال 4 أو 5 ساعات.
همست أمّي قائلة: "من المقرّر أن تأتي السيّدة منصورة وابنها إلى منزلنا اللّيلة".
79
69
خاطب ذو عينين زرقاوين
تجمّدت أطرافي لدى سماعي هذا الكلام وخفق قلبي. بعد الغداء قمت بمساعدة "رؤيا" بإكمال تنظيف المنزل، بينما سيطر عليّ الاضطراب بسبب مجيئهم لطلب يدي.
حلّ المساء. كانت أمّي تعدّ طعام العشاء، وكانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف عندما رنّ جرس بوّابة الفناء، فنهض والدي وفتح الباب. لقد كانت السيّدة منصورة وابنها.
احتجبتُ أنا وإخوتي في غرفتنا، بينما ذهب والداي برفقة الضيوف إلى غرفة الاستقبال. لم أدرِ ماذا أفعل. زاد اضطرابي، وتصاعدت أنفاسي من القلق. وبسبب عدم اشتغالي بشيء ذهبت في أثر تقويمي. فتحته ووضعت علامة صغيرة قرب يوم الاثنين 18 آذار.
كانت مدفأة الكاز وسط الغرفة، والبخار يتصاعد من فتحة إبريق الشاي الموضوع عليها، مع أنّ جو الغرفة كان دافئًا إلّا أنّي كنت أرتجف من البرد وأسناني يصطكّ بعضها ببعض. شعرت أنّني أتجمّد شيئًا فشيئًا من الداخل.
بعد دقائق، دخلت أمّي إلى الغرفة وقالت بهدوء: "فرشته؛ هيّا بنا، لقد أجاز لك والدك محادثة العريس".
كاد قلبي ينخلع من مكانه، فقدت السيطرة على أطرافي، مشت أمّي أمامي وتبعتها. ما إن وطئت قدماي أرض غرفة الاستقبال حتّى أظلم كلّ شيء أمامي. نهضت السيّدة منصورة وابنها لاستقبالي وسلّما عليّ ببشاشة. خرج والدي وأمّي برفقة السيّدة منصورة من الغرفة. وقف العريس في آخر الغرفة، بدا لي أنّه ممشوق القوام. في تلك اللحظة مرّ في ذهني أنّني إذا انتعلت حذاءً ذا كعب عال (10سم) تقريبًا سأصبح بطوله. خفض رأسه إلى الأسفل، فانتهزت الفرصة ونظرت
80
70
خاطب ذو عينين زرقاوين
إليه جيّدًا. كان يرتدي بنطالًا عسكريًّا ذا ثماني جيوب، ومعطفًا فاتح اللون، وقميصًا بنّيًّا. كان شعره أشقر اللون ولحيته وشارباه شقراوين بلون الحنّاء. لم أرَ عينيه؛ لأنّه لم يرفع رأسه لحظة واحدة. لم أدرِ ما أصنع، خبّأت وجهي بطرف عباءتي[1] حيث لم يبن سوى أنفي.
وُضِعتْ على السجادة وسط الغرفة علبة حلوى وباقة زهور. ملأ عطر الورود الجميل أرجاء الغرفة. جلس هو في آخر الغرفة قرب نافذة تطلّ على الزقاق، بينما أنا جلست إلى ناحية اليمين وأسندت ظهري إلى الجدار. خيّم الصمت دقائق عدّة، لكنّه في النهاية بدأ الكلام:
- بسم الله الرحمن الرحيم، اسمي علي تشيت سازيان. أنا تعبويّ. تعبويّ من أتباع خط الإمام، يفصلني عن الموت ثانية واحدة. ادعي لي كي تكون الشهادة من نصيبي. في كلّ لحظة يمكن أن أستشهد أو أُجرح أو أقع في الأسر. في أغلب الأوقات لا آتي إلى همدان كلّ شهر.
صمتَ قليلًا، ربما انتظر منّي قول شيء. عندما رأى سكوتي تابع كلامه:
- لم أدرس أكثر من الصف الثاني ثانوي؛ وذلك بسبب الحرب، فالحرب في حياتي من أولى الأولويات. ولأنّ الإمام أصدر تكليفًا بعدم إخلاء الجبهات، سأبقى أحارب وأدافع عن الدين والمعتقدات والثورة حتّى لو استمرّت الحرب عشرين سنة قادمة. دراستي في فرع الكهرباء في معهد ديباج، ولا أملك شيئًا من مال الدنيا، لا منزل، لا سيّارة، لا نقود، ولا شيء.
صمتَ ثانيةً لعلّي أقول شيئًا، لكنّه تابع: "أشكر الله بالتأكيد أنّني سليم البنية، والحمد لله أنّني رياضي مقاتل. وإذا كنتِ لا ترغبين
[1] من عادة المرأة الإيرانيّة أن تغطي وجهها من الأنف إلى أسفل الذقن بطرف عباءتها عندما تتكلم مع الأجنبي. (المترجم)
إليه جيّدًا. كان يرتدي بنطالًا عسكريًّا ذا ثماني جيوب، ومعطفًا فاتح اللون، وقميصًا بنّيًّا. كان شعره أشقر اللون ولحيته وشارباه شقراوين بلون الحنّاء. لم أرَ عينيه؛ لأنّه لم يرفع رأسه لحظة واحدة. لم أدرِ ما أصنع، خبّأت وجهي بطرف عباءتي[1] حيث لم يبن سوى أنفي.
وُضِعتْ على السجادة وسط الغرفة علبة حلوى وباقة زهور. ملأ عطر الورود الجميل أرجاء الغرفة. جلس هو في آخر الغرفة قرب نافذة تطلّ على الزقاق، بينما أنا جلست إلى ناحية اليمين وأسندت ظهري إلى الجدار. خيّم الصمت دقائق عدّة، لكنّه في النهاية بدأ الكلام:
- بسم الله الرحمن الرحيم، اسمي علي تشيت سازيان. أنا تعبويّ. تعبويّ من أتباع خط الإمام، يفصلني عن الموت ثانية واحدة. ادعي لي كي تكون الشهادة من نصيبي. في كلّ لحظة يمكن أن أستشهد أو أُجرح أو أقع في الأسر. في أغلب الأوقات لا آتي إلى همدان كلّ شهر.
صمتَ قليلًا، ربما انتظر منّي قول شيء. عندما رأى سكوتي تابع كلامه:
- لم أدرس أكثر من الصف الثاني ثانوي؛ وذلك بسبب الحرب، فالحرب في حياتي من أولى الأولويات. ولأنّ الإمام أصدر تكليفًا بعدم إخلاء الجبهات، سأبقى أحارب وأدافع عن الدين والمعتقدات والثورة حتّى لو استمرّت الحرب عشرين سنة قادمة. دراستي في فرع الكهرباء في معهد ديباج، ولا أملك شيئًا من مال الدنيا، لا منزل، لا سيّارة، لا نقود، ولا شيء.
صمتَ ثانيةً لعلّي أقول شيئًا، لكنّه تابع: "أشكر الله بالتأكيد أنّني سليم البنية، والحمد لله أنّني رياضي مقاتل. وإذا كنتِ لا ترغبين
[1] من عادة المرأة الإيرانيّة أن تغطي وجهها من الأنف إلى أسفل الذقن بطرف عباءتها عندما تتكلم مع الأجنبي. (المترجم)
81
71
خاطب ذو عينين زرقاوين
في ذلك فكلّ شيء يتغيّر، أقصد إذا لم تكن زوجتي المستقبلية راضية فأترك الجبهة وأبقى هنا في همدان وأجد لنفسي عملًا". تعجّبتُ من سماعي هذا الكلام وقلت: "كلا! في الواقع إنّ أحد شروطي للزواج هو أن يكون زوجي من أهل الجبهة والحرب".
افترّ ثغره عن ابتسامة. كان في يده سبحة يحرّك حبيباتها واحدة تلو الأخرى بسرعة. فجأةً توقّفت يداه عن التسبيح وملأت الضحكة تمام وجهه. أحسستُ أنّني حزت علامة 20 في امتحاني الأوّل. قال بسرور: "الشكر لله؛ لأنّني نذرتُ نفسي للجبهة، فأنت عندما تنذرين شيئًا للمسجد (إناء أو سجادة) لا يمكنك بأيّ شكل من الأشكال إخراجه من المسجد إلّا في حال كُسِرَ هذا الإناء أو اهترأت السجادة، حينها يمكنك أيضًا رتقها ثانيةً وإعادتها إلى المسجد".
سألني: "وماذا عنك؟ ما هدفك من الحياة والزواج؟".
- أرغب كثيرًا في أن أساعد الثورة، فأنا أساعد أمّي في أعمال دعم ومساعدة الجبهة، لكنّي أعتقد أنّه ينبغي لي المساعدة أكثر من ذلك. لا أدري كيف، ربما إذا كان زوجي المستقبلي مجاهدًا يستطيع مساعدتي؛ حيث إنّ عقيدة الشخص وتديّنه وإيمانه مسائل مهمة بالنسبة إليّ كثيرًا.
لم أعرف في ذلك الوضع والحال كيف أوضّح أفكاري. كنت أصمت بين كلّ جملة أو جملتين.
في الحقيقة حاولت التكلّم باللغة الفصيحة وباللهجة الطهرانية[1]؛ كذلك هو بدا واضحًا أنّه حاول التكلّم باللغة الفصيحة. سألني: "إذًا، ليس لديك مشكلة إن استشهدت أو جُرحت أو أُسرت؟".
[1] حيث إن اللهجة الطهرانية أقرب إلى الفارسية الفصيحة من اللهجة الهمدانية.
82
72
خاطب ذو عينين زرقاوين
اضطربت قليلًا، ولم أدرِ كيف خطر على بالي ذلك وأجبته بخفّة: "لا سمح الله، إنّ الإنسان لا يستشهد ولا يُجرح ولا يؤسر دفعةً واحدة".
تبسّم قليلًا فظننت أنّني أجبت إجابة سطحيّة وهشّة، فقلت: "لقد أخبرتنا والدتك أنّك تذهب إلى الجبهة منذ بداية الحرب. الحمد لله لم يحصل شيء من هذا القبيل، وإن شاء الله من الآن فصاعدًا لا تطرأ أيّ مشكلة".
لم يردف شيئًا. وبينما كان ينظر إلى الأرض راح يدير حبيبات السبحة في يده ولسانه يلهج بالذكر. فجأة تذكّرت سؤالي الأساسي الذي تمرّنت عليه منذ البارحة:
- المعذرة، ما هو هدفكم من الزواج؟
أجابني من دون تفكير.
- "أريد أن أُكمل ديني، وأطبّق سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم سكت قليلًا وتابع ممازحًا:
- في الجبهة تُلغى الإجازات خلال العمليات، فيقول المجاهدون المتأهلون إنّ "علي" مرتاح البال لا زوجة له ولا أطفال؛ لذلك فالأمر سهل عليه. وأنا أبحث عن وضع يجعلني أتفهّم ظروفهم أكثر. أظن أنّه من الأفضل أن يُطبَّق القانون على الجميع ويجرى في ظروف متساوية. بالطبع هذا من الأهداف الثانوية.
تعجّبتُ من كلامه، وأعجبتني صراحته في آن. نظرتُ إليه بطرف عيني، فوجدت أنّه ما زال مطأطئ الرأس والسبحة في يده.
بعد مرور وقتٍ من الصمت المتواصل، قلت: على فكرة اسمي زهراء، طبعًا ذلك على بطاقة الهوية، ولكنّ الجميع ينادونني "فرشته"6[1].
[1] ملاك (بالعربية).
83
73
خاطب ذو عينين زرقاوين
ابتسم قائلًا: "آنسة زهراء، رائع! أنا أعشق أهل البيت عليهما السلام وأعشق السيّدة الزهراء عليها السلام، حتّى إنّ تلفّظ اسمها المبارك يحتاج إلى لياقة وجدارة".
نهضتُ وخرجت من الغرفة. كان والدي جالسًا في البهو عند الباب. عندما رآني سألني بإشارة الحاجب والعين:
- ماذا حصل؟
قلت بحياء:
- لا شيء، الأمر بيدك.
تبسّم وقال:
- مبارك!
كانت أمّي والسيّدة منصورة في البهو غارقتين في الحديث معًا، فدعاهما والدي إلى غرفة الاستقبال.
أردتُ الذهاب إلى الغرفة حيث أختاي، إلّا أنّ والدتي أمسكت بيدي وأخذتني ثانية إلى غرفة الضيوف. جلس والدي بالقرب من علي، وراح يسأله عن أوضاع الجبهة والحرب، كذلك أمّي راحت تحدّث السيّدة منصورة عن الأنشطة الكثيرة التي قاموا بها لمساعدة الجبهات، كمشغل الخياطة والنشاطات الأخرى.
فجأة انتبهت إلى أنّ والدي يحدّد موعد العرس، وتطرّقوا بعدها إلى مسألة المهر. قال والدي: "ليس في ذهني شيء محدّد، ما تجدونه مناسبًا".
نظرتْ إليّ السيّدة منصورة وقالت برضى: "نيابةً عن المعصومين الأربعة عشر عليهما السلام أضع مهر العروس أربع عشرة ليرة ذهبية".
همستُ في أُذن أمّي: "ما القصّة! إنّه رقمٌ كبير جدًّا". سمعتني
84
74
خاطب ذو عينين زرقاوين
السيّدة منصورة فقالت: "لا يا ابنتي، ليس كثيرًا عليكِ. إنّ قيمتك أغلى من ذلك، ولكن في النهاية هذا عرف".
قال والدي: "الأمور المادية غير مهمة بالنسبة إلينا، يشهد الله أنّنا لم نتحرَّ[1] عن عائلتكم حتى. ما شاء الله فعليّ شابّ متديّن وطاهر، يكفينا أنّه في الجبهة منذ اليوم الأول للحرب، وأودعه ابنتي بكلّ فخر. إنّه شجاع، غيور، ثوري وحزب اللّهي، وهذه الأمور قيّمة أكثر من أيّ شيءٍ آخر. أقسم بالله لو علمتُ أنّك ستتزوج اليوم وتستشهد غدًا لن أتوانى عن تزويجك ابنتي".
احمرّت وجنتا علي وردّ على كلام والدي: "نحن لدينا الشعور ذاته بالنسبة إليكم. والله لو رفضت تزويجي ابنتك فإنّي لن أنزعج منكم، الحمد لله فأنتم أيضًا عائلة تعبوية ولديها شأنها واحترامها، ونفخر بمصاهرة عائلة متديّنة ومضحيّة أمثالكم". صمتَ برهةً وقال بهدوء أكثر: "منذ أن وطئت قدماي أرض هذا المنزل كنت متأكّدًا من أنّني لن أخرج منه خائبًا".
***
في صباح اليوم التالي، قصدنا منزل جدتي، وذلك لدعوتهم للحضور مساءً، حيث إنّ عائلة العريس سيحضرون إلى منزلنا، وكي نسلّم على "خالي محمود" أيضًا الذي قدم من الجبهة حديثًا. قالت أمّي له: "عزيزي محمود، لقد تقدّم لفرشته أحد الخطّاب". ابتسم بشقاوة وغمزني بطرف عينه قائلًا: "مبارك عزيزتي".
طأطأتُ رأسي خجلًا ورحت أعبث بأطراف عباءتي السوداء. قالت أمّي: "إنّه مثلكَ في الحرس، واسمه علي تشيت سازيان". كان في يده
[1] لم نجرِ تحقيقًا.
85
75
خاطب ذو عينين زرقاوين
قدحٌ من الشاي يحتسيه، فعلق الشاي في حلقومه وغصّ بالسعال، كذلك اتسعت حدقتا عينيه من الدهشة.
- علي؟!
أجابت أمّي: وهل تعرفه؟!
تبسّمت أمّي ونظرت إليَّ نظرة الظفر قائلة: "قلت لكم فلنخبر محمود إنّه يعرفه".
عندما هدأ سعاله قال: "ألا تعرفون علي؟ إن علي قائدنا! إنّه يوازي فرقة أنصار الحسين! رجل مقدام لا يعرف الخوف، إنّه مسؤول "معلومات واستطلاع العمليات"، يتحدّث عنه الإخوة أشياء كثيرة، عن الدوريات وعمليات الاستطلاع التي يجريها؛ منها ما هو صحيح ومنها ما هو غير ذلك، لكننا نصدّق عنه حتّى الأساطير. يُقال إنّه يذهب إلى تخوم مواقع العدو، ويقف في أول صف الطعام عندهم. إنّهم يتحدّثون عنه الكثير.
في الواقع "قلبه لا يعرف الخوف". هو ذخر استطلاع عمليات فرقة الأنصار حفظه الله".
نظرت أمّي إليّ بتعجّب: "إنّه لم يخبرنا أصلًا أنّه قائد؛ حتّى أمه لم تخبرنا بذلك". قال محمود: "إن علي من المخلصين المؤمنين. سيّدة وجيهة! اعلمي أنّه إذا صار صهرك سيكون الحظ حليفك. وأهم شيء أنّه لا يكذب ولا يرائي، إنّه لا يكذب، لا على الله ولا على عبيده. عندما يتحدّث إلينا يبدأ كلامه بمضمون قول عن الإمام علي عليه السلام: "الضمير هو المحكمة الوحيدة التي لا تحتاج إلى قاض".
قال خالي محمود جادًّا: "ولكن يا أختي العزيزة، سأقول لك شيئًا: لقد نذر علي نفسه للجبهة والحرب. فكّروا جيّدًا. إنّه ليس من أولئك الأفراد الذين يتركون الجبهات عندما يتزوجون ويلتصقون بمنازلهم".
86
76
خاطب ذو عينين زرقاوين
أجابته أمّي معترضة: "وهل قلنا إنّه ينبغي له ترك الجبهة، عزيزي محمود، وهل اعترضنا أنا وأمّي على ذهابك إلى الجبهة أنت وأخي محمد[1]؟".
وبينما كانت جدّتي تحضّر الفاكهة والضيافة تأوّهتْ وأنّت لسماعها اسم محمد، فما كان من أمّي إلّا أن غيّرت الحوار بحذاقة قائلة: "وهل تزوّجت لتصبح جليس المنزل!؟". أطلق خالي محمود ضحكة مرحة.
- يا إلهي! أتقارني بيني وبين علي؟ إن ضربتِني بـ100، لا بل إن ضربتِني بـ 1000 فلا أصبح مثل علي.
نهض خالي محمود وأحضر ألبومه: "لديّ بعض الصور معه".
وبينما هو يقلّب الصور ليرينا صور علي قال: "أعتقد أنّه لم يتجاوز الـ23 سنة، ولكنّه يبدو أنّه ابن ثلاثين ونيّفاً، وهو ناضج".
كان خالي محمود يقلّب صفحات ألبومه ويعرّفنا إلى علي ويثني عليه. حتّى ذلك اليوم كنت أخال أنّ زوجي المستقبلي سيكون رجلًا طويلًا، عريض المنكبين، عيناه وحاجباه سودٌ. لم أَخَل يومًا أنّني سأتزوج من رجلٍ ذي عينين زرقاوين.
وضع خالي إصبعه على إحدى الصور وقال: "هذا أحد أفراد قواته، جرح في إحدى عمليات الاِستطلاع والدوريات وبقي في أرض العدو. لم يتجرّأ أحد على الذهاب لإحضاره إلى الخلف، لكنّ "علي" ذهب بنفسه بسيّارة الإسعاف إلى داخل أرض العدو، وأحضر عنصره من هناك. إن مئة سائق سيّارة إسعاف لا يملك جرأة علي". أشار خالي محمود بإصبعه إلى صورة أخرى:
[1] محمد فاميل دشتي: شهيد مفقود الأثر. ولد في 14 اسفند 1319 (1941). ومع بداية الحرب المفروضة التحق بالجبهة كعريف أول في الأمن، واستشهد في 9 آذر 1359 (1980) في ذو الفقارية -عبادان(آبادان)- ولغاية اليوم لم يعثر على جسده.
87
77
خاطب ذو عينين زرقاوين
- هذا أيضًا علي.
خجلتُ وطأطأت رأسي. قال خالي: "إنّه يهتم كثيرًا بعناصره رغم أنّه متشدّد ونظامي في القيادة، لكنّه رحوم بشكل لا يوصف. عندما يذهب عناصره في دورية يظل معهم حتّى يرجعوا، وإن لم يرجع العنصر الأخير فلا يعود، وهذا ناشئ من رحمته، وبالتأكيد سيكون في حياته مع زوجته وأولاده على هذا النحو".
في ذلك اليوم ظلَّ خالي يحدّثنا عن علي ويثني عليه حتّى الظهيرة.
عدنا إلى البيت في وقتٍ متأخر. كنت أفكّر طوال الطريق في كلام خالي محمود. انتابني شعور طيّب، وأنّني حصلت على أكبر أمنيّاتي، فالعيش إلى جانب مجاهد كلّ همّه الجبهة والحرب سيؤدي بالتأكيد إلى أن أجد أنا أيضًا طريقي للوصول إلى هدفي، ويكون لدي دورٌ في مساعدة الثورة.
في تلك اللّيلة جاء إلى منزلنا كلّ من السيّدة منصورة، السيّد ناصر، علي، أمير، الحاج صادق وزوجته وابنتهما ليلى وأخت علي. كان للسيّدة منصورة ابنة وحيدة، ابنتها التي عرّفتنا إليها، عندما شاهدتها فغرتُ فاهي للحظات من التعجّب ويبست في مكاني وسط الغرفة. مريم تلك الفتاة الخجولة والجميلة التي رأيتها في الحافلة، والتي أعجبت بها كثيرًا، وأحببت أن نصبح صديقتين، هي ابنة السيّدة منصورة، وها هي تأتي بقدميها إلى منزلنا وتقف أمامي، ومن المقرّر أن تصبح أخت زوجي.
كذلك هي تعجّبت حين رأتني.
من جهة أخرى، دُهش علي لدى رؤيته خالي محمود في منزلنا الذي هو أحد عناصره. كان علي دائمًا يسأل عن مصير خالي محمد الذي فُقِد جثمانه في أوائل الحرب (1980) في ماهشهر ولم يُعثر عليه
88
78
خاطب ذو عينين زرقاوين
إلى الآن.
كان السيّد ناصر، والد علي، رجلًا مسنًّا، مرحًا، مزوحًا وحنونًا، شعره أشهب[1] سابل، وكان متوسط الطول، وسمينًا بعض الشيء، وحديثه يضحك الجميع.
الحاج صادق، هو الابن البكر للعائلة، ولد في العام1958م، شغل منصب مدير الناحية في قهاوند، وزوجته السيّدة منيرة أستاذة مادة التربية؛ وابنتهما ليلى الحلوة الكلام، تبلغ من العمر سنتين.
أمير، وهو الأخ الثاني لعلي، ولد في العام 1960، كان أطول إخوته، عيناه وحاجباه سود، ويضع نظّارات، ويعمل في جهاد البناء. في تلك اللّيلة لفتني كم هو عطوف ورحوم. أمّا علي ومريم، فمن حيث الشكل، بدا أنّهما يشبهان أمهما، بينما الحاج صادق وأمير يشبهان والدهما.
في ذلك الاجتماع تحدّد موعد عقد قِراننا: السابع من فروردين 1365 (27آذار1986)، أمّا موعد العرس فيحدّد لاحقًا.
كذلك أهدتني السيّدة منصورة قطعة قماش تصلح لخياطة القمصان، ومع هذه الهدية أصبحت خطيبة علي بشكل رسمي.
في آخر اللّيل، وعند المغادرة، نظر علي إلى الجميع مودّعًا وقال: "سامحوني".
في صباح اليوم التالي كان من المقرّر أن يذهب إلى الجبهة. أحببت أن أقول له: "لا تنسانا من الشفاعة"، لكنّني مهما حاولت لم أستطع.
أردت في تلك اللّيلة وقبل أن أنام، أن أضع داخل تقويمي إشارة على اليوم السابع من فروردين، لكنّ تقويم العام 1364 انتهى، وكان عليَّ شراء تقويم السنة الجديدة. انتهى شتاء 1364(1986) وحلّت بداية ربيع العام 65 (آخر آذار عام 1986). حلّ ذلك العيد ككلّ أعياد ما بعد
نشوب الحرب؛ إذ لم يشهد بيتنا لون مراسم عيد النوروز، ولم تفرش مائدة الـ "هفت سين"[2].
[1] أشهب: مخلوط بالسواد والبياض.
[2] هفت سين: وهي تراث إيراني حيث تعدّ طاولة أو مائدة خاصة يوضع عليها قرآنٌ ومرآة وسبعة أشياء تبدأ بحرف السين: سيب (تفاح)، سير (ثوم)، سركه (خل) وغيرها للاحتفال بالسنة الجديدة. (المترجم).
89
79
خاطب ذو عينين زرقاوين
نشوب الحرب؛ إذ لم يشهد بيتنا لون مراسم عيد النوروز، ولم تفرش مائدة الـ "هفت سين"[1].
في نظر أمي، مواساةً لعوائل الشهداء الثكلى بأبنائها، ولأنّنا نعيش في حرب، لا ينبغي أن نقيم هذه المراسم، لكن، هل يأبه الربيع بهذه الأمور! لقد وفد بعطر الورود والبراعم وأمطار السنة الجديدة ونسيمها المفرح.
في اليوم الأول للعيد قصدنا بيوت الجدّات، وبعد الظهر جاء الأخوال والعمّات لرؤية أمّي وأبي. وفي اليوم الثاني بقينا في المنزل لاستقبال الضيوف. وأغلق مشغل الخياطة الذي تعمل فيه أمّي أبوابه في أيّام العيد؛ لذا سررنا برؤيتها أكثر.
تقرّر أن يكون يوم عقد القران في اليوم السابع من العيد، لكننا لم نكن قد أنجزنا شيئًا بعد، ولم نذهب لشراء أغراض عقد القران، حتّى إنّه لم يتمّ الحديث عنه، ولا خبر عن علي وعائلته.
في اليوم الرابع من شهر فروردين، علم والدي ليلًا أنّ معاون علي قد استشهد. استيقظت أمّي كعادتها عند الصباح الباكر واشتغلت بأعمال المطبخ. عند الساعة التاسعة أيقظتني من النوم وقالت بحزن: "انهضي فرشته، لقد أُذيع في الراديو أنَّ مصيب مجيدي، معاون علي، استشهد واليوم سيتم تشييعه. أسرعي تناولي الفطور لنذهب".
استيقظت نفيسة ورؤيا أيضًا، تناولنا الفطور، ارتدينا ملابسنا وانطلقنا. رغم أنّها كانت أوّل أيّام العام الجديد إلّا أنّ روضة الشهداء كانت مزدحمة. فقد أتت جموع غفيرة للمشاركة في تشييع جثمان
[1] هفت سين: وهي تراث إيراني حيث تعدّ طاولة أو مائدة خاصة يوضع عليها قرآنٌ ومرآة وسبعة أشياء تبدأ بحرف السين: سيب (تفاح)، سير (ثوم)، سركه (خل) وغيرها للاحتفال بالسنة الجديدة. (المترجم).
90
80
خاطب ذو عينين زرقاوين
الشهيد مجيدي. لقد غسل المطر الذي هطل ليلة البارحة القبور ونظّفها، ووُضع على العديد منها الورود والحلوى والـ "هفت سين".
في روضة الشهداء، هبّ نسيم عليل راح يهزّ الأشجار الصغيرة والكبيرة. ذهبنا إلى مكان قريب حيث ستلقى كلمة قبل بدء التشييع. كانت هذه الناحية المكان الأكثر ازدحامًا في الروضة. شاهدنا بين الجموع السيّدة منصورة ومريم، وسررت برؤيتهما سرورًا لا حدّ له. علا صوت تلاوة القرآن من مكبرات الصوت، ووقف عدد كبير من مسؤولي الحرس والجيش أمام الجموع. قالت مريم: "لقد أحضروا الشهيد هناك في الأمام، وعائلته هناك أيضًا".
في نفس الوقت قُطعت تلاوة القرآن، وصعد مقدّم الحفل خلف المنصة. عندما قال بصوته الجهوري: "بسم ربّ الشهداء والصدّيقين" سكت الجميع وكأنّ على رؤوسهم الطير، واكتنف صمتٌ حزين روضة الشهداء. شكر مقدّم الحفل المشاركة الغفيرة للنّاس، وبارك للأمة وعائلة الشهيد المكرّمة شهادة الشهيد مصيب مجيدي معاون قيادة المعلومات وعمليات فرقة أنصار الحسين عليه السلام. وبينما هو رافع قبضته أمام الملأ هتف:
"لدفن الشهداء... أقدم يا مهدي، أقدم".
اعتلى مقدّم الحفل شرفة طويلة وضيّقة حيث كانت في الطبقة الثانية للمغسل، وتجمّع الناس في ساحة كبيرة مقابل المغسل مخصصة لأداء صلاة الميت، وانتشرت الجموع الغفيرة حتّى مدخل الروضة وداخلها وفي كلّ أرجائها.
كنت أنظر إلى الأطراف حين وكزتني مريم بكوعها قائلة: "اُنظري! إنّه علي أخي". اعتلى علي المنصّة. انقطعت أنفاسي لدى
91
81
خاطب ذو عينين زرقاوين
رؤيته. نكصت إلى الوراء خطوات عدّة، ورحت أنظر إليه بدقّة بعيدًا عن أعين أمّي والسيّدة منصورة والآخرين. كانت المرّة الأولى التي استطعت النظر فيها إلى علي من دون تكلُّف وخجل. كان لا يزال يرتدي المعطف الكاكي ذاته، أمّا قميصه فلم يكن ظاهرًا؛ لأنّ سحّاب المعطف وأزراره كانت مغلقة. بدا بلحيته المرخاة مغمومًا ومنقبضًا، ورغم عرض منكبيه ضمر جسمه ونتأت عظام وجهه.
شرع في إلقاء كلمته: "مصيب ابن البندقية والشظايا والقذائف، مصيب ابن الجوع والعطش والتعب، مصيب مالك أشتر زمانه...".
رجعت خطواتٍ أكثر إلى الوراء واستندت إلى الحائط ورحت أصغي بدقة. كان يتكلّم بشكل محكم ورائع، رغم أنّ النشيج قد نخر صوته.
فكّرت كم أنّ ذلك صعب وثقيل بالنسبة إليه، يعني، أتراه كان قرب مصيب عند شهادته؟ كيف كانت حاله؟
نادتني مريم، فذهبت وجلست قربها. كانت السيّدة منصورة ومريم تبكيان. قالت مريم وهي تبكي: "كان علي ومصيب صديقين، كان يأتي إلى بيتنا كثيرًا، كان بالنسبة إلينا أخًا، ولم تفرّق أمّي بينه وبين أمير وعلي وصادق".
ثَقُلَتْ أجواء الروضة، وكأنّ جميع الأموات خرجوا من أجداثهم وراحوا يجولون بيننا وبالقرب منّا، وغطّت السماءَ غيومُ سوداء رمادية. وددتُ أن أجلس في مكانٍ منعزل وأبكي. اشتقت إلى خالي محمد، وتمنيت لو يصلنا عنه خبر! ليتهم يعثرون على جسده ليهدأ قلب جدّتي. كانت أمّي تبكي بشدة. لم أدرِ إن كان بكاؤها في الحقيقة شوقًا إلى خالي محمد أم من أجل مصيب.
عندما انطلقت الجموع رحتُ أجري أيضًا خلف النعش باكية
92
82
خاطب ذو عينين زرقاوين
ناحبة. وملأتْ فضاء الروضة صيحات "لا إله إلّا الله"، كان مشهدًا كئيبًا وحزينًا جدًّا، وكأنّ مَن في التابوت ابنٌ عزيز للجميع وها هو غافٍ فيه. والجموع تهتف وتردّد:
"أينعت هذه الزهرة.. وافتدت القائد"
"لدفن الشهداء... أقدم يا مهدي، أقدم".
وقع نظري على مريم، كانت تقف في زاوية تمسك عضد السيّدة منصورة وتسقيها الماء من "مطرة" صغيرة كانت بيدها. تقدّمت فوجدت السيّدة منصورة قد امتقع لونها وأعياها التعب، فزعتُ للوهلة الأولى فقالت مريم: "تعاني أمّي من مشاكل في الكُليتين؛ ولأجل ذلك لا ينبغي أن تحزن أو تغضب".
وصلت أمّي برفقة رؤيا ونفيسة، وحاولن فعل شيء ما لتتحسّن حال السيّدة بسرعة. لم تكن المراسم قد انتهت بعد، إلّا أنّنا وصلنا مع السيّدة منصورة ومريم حتّى مستديرة الإمام الخميني، وهي المستديرة الرئيسية في المدينة.
تحسّنت حال السيّدة منصورة قليلًا، وعند التوديع حدّدتْ مع أمّي يوم الأربعاء للمجيء إلى منزلنا والذهاب إلى السوق لشراء لوازم الخطبة.
عند الغروب، جلسنا في الغرفة، كان والدي مولعًا بمشاهدة الأخبار والتلفاز، فنادانا بصوت مرتفع: "يا أولاد، إنّه علي".
كان تلفزيون مدينة همدان يبثّ تقريرًا عن الجبهة ظهر فيه علي جالسًا على تلّة متحدّثًا عن "جادّة أم القصر" والمجاهدين الذين استشهدوا هناك، قال إنّ طائرات العدو مضافًا إلى قصفها المنطقة كانت أحيانًا ترمي على رؤوس المجاهدين كتل الحديد والحجارة
93
83
خاطب ذو عينين زرقاوين
والأكياس.. وأمثال ذلك.
راح الجميع يشاهد التلفاز بلهفة إلّا أنا فلم أستطع إظهار فرحتي.
في اليوم التالي، لم يكن والدي في المنزل، طُرق الباب عند حدود الساعة العاشرة صباحًا، قامت نفيسة، التي كانت تبلغ آنذاك من العمر ست سنوات، فتحت الباب وقالت: "أختي العزيزة، لقد جاء علي".
تأزّرتْ أمّي بعباءتها وهرولت ناحية الباب، دعته كثيرًا كي يدخل لكنّه لم يقبل. كنت قد كويتُ ملابسي منذ الصباح الباكر، ارتديت مقنعتي وعباءتي وانطلقت برفقة أمي.
كان علي والسيّدة منصورة يقفان أمام باب الفناء في انتظارنا، فسلّموا علينا. كان لا يزال يرتدي المعطف الكاكي ذاته، وقد أخفض قبعته إلى أسفل جبينه بنحو لا يظهر فيه حاجباه حتى، وردّ سلامي همسًا.
استعار علي من صديقه سيّارة رينو بيضاء وأتى في أثرنا. جلست السيّدة منصورة في المقعد الأمامي بينما جلست أنا وأمّي في الخلف. في ذلك اليوم رأيت عينيه الزرقاوين للمرة الأولى من خلال المرآة. في اللّيلة الماضية أغدق المطر بالهطول فتندّى الزقاق، وبدا الجو ربيعًا عليلًا.
أوقف السيّارة وسط شارع "شريعتي" بالقرب من مستديرة الإمام الخميني. نزلنا من السيّارة وذهبنا باتجاه سوق "مظفريه". وضع علي يديه في جيبه، وراح يتقدّمنا في السير مطأطئ الرأس محدوب الظهر من دون أن ينبس بكلمة. أنا أيضًا لم يكن لديّ أيّ كلام لأقوله.
عندما وصلنا إلى أول السوق، دنا منّي وبصعوبة سمعته يقول: "آنسة زهراء، المعذرة، من الأفضل أنّه ما دمنا في همدان أن لا نسير
94
84
خاطب ذو عينين زرقاوين
معًا حتّى لا يرانا أحد من عوائل الشهداء ويُحزنه ذلك".
أومأت برأسي تأييدًا لكلامه، وقلت: حاضر.
اقترحت السيّدة منصورة أن نذهب أوّلًا لشراء خاتم الزواج.
كانت محالّ الصاغة مقفلة ما عدا واحد أو اثنين. وجدنا في منتصف سوق "مظفريه" محل الصائغ "كبريائي" مفتوحًا. دخلنا المحل، فقالت السيّدة منصورة للبائع: "نريد خاتم زواج".
وضع الصائغ طبق المحابس أمامنا، فقالت السيّدة منصورة "آنسة فرشته، استحسني أحدها".
نظرت إلى الطبق، واخترت أخفّ المحابس وأقلّها وزنًا. وضعت الخاتم في إصبعي لأمتحنه. كان مناسبًا لقياس إصبعي. نظرت أمّي والسيّدة منصورة إلى يدي بينما كان علي سارحًا في التفكير في مكان آخر، بالتأكيد كان يفكّر في مصيب مجيدي.
قالت السيّدة منصورة: "عزيزتي فرشته، هذا الخاتم زهيد جدًّا، اختاري خاتمًا أفضل وأثمن".
نظرت إلى علي، أحببت أن يبدي رأيه هو أيضًا. بدا حزن ثقيل على وجهه، فأصرّت عليّ السيّدة منصورة ثانيةً. وكأنّني انتظرت علي ليقول شيئًا. قلت في نفسي فليكن ما يشاء. لم يقل علي شيئًا، واخترت أنا ذاك المحبس.
همست السيّدة منصورة شيئًا في أذن علي فتقدّم وتحدّث إلى الصائغ عن ثمن المحبس. بعد أن زان الصائغ المحبس قال لعلي: "2500 تومان".
عدّ علي النقود ووضعها على لوحة العرض، ثمّ كتب الصائغ فاتورة بذلك ووضع المحبس في علبة صغيرة زهريّة اللون معرّقة بورود صغيرة
95
85
خاطب ذو عينين زرقاوين
حمراء وبيضاء.
نظر إليّ وإلى علي وقال: "مبارك إن شاء الله.. حظًّا سعيدًا!".
أردفت السيّدة منصورة بسرور: "فلنذهب الآن لشراء الألبسة".
نظرتُ إلى علي، كانت يداه لا تزالان في جيبه. بدا فرحًا، لكن من الواضح أنّه كان خجلًا.
قالت السيّدة منصورة: "فلنشترِ قميصًا أبيض اللون يناسب استقبال الضيوف، ولنترك ثوب العرس إلى الصيف". أجبتها إنّي لا أريد قميصًا في ظروف كهذه، فسألتني متعجّبةً: "أيّ ظروف؟".
- لقد استشهد مساعد علي؛ وهو حزين لأجله.
نظرتْ إلى علي وقالت: "إنّ الموت والحياة متلازمان، فالسيّد مصيب استشهد والتحق بالحق تعالى، هنيئًا له، ويا لسعادته! أمّا الأحياء فلهم حياتهم. نحن ليلة البارحة لم نحدّد موعد العرس، فكم مرّة ستصبحين عروسًا؟ مرّة واحدة، فعليك أن تفرحي بذلك".
أخفضتُ رأسي ولم أتفوّه بأيّ كلمة. لكن، عندما انطلق الجميع قلت لأمي: "أمّي لا تخضعي لقولهم، لن أرتدي ثوب خطبة، قلبي يحترق من أجل علي، يبدو أنّه أتى إلى السوق رغمًا عنه".
قالت أمّي بهدوء: "حسنًا، لا تتفوّهي بأيّ شيء بعد الآن، أنا سأتولّى الأمر".
استطاعت أمّي إقناع السيّدة منصورة، ولم تعاود إصرارها، فقالت: "على الأقلّ فلنشترِ مرآة وشمعداناً".
عند أول سوق "مظفريه"، كان يوجد مقابل بائع الخضار بائع ثريات ومصابيح. جلنا على كافة المرايا والشمعدانات، وعندما عدنا إل النقطة التي بدأنا منها سألتني السيّدة منصورة: "هل أعجبك
96
86
خاطب ذو عينين زرقاوين
شيء؟".
وقفتُ أمام أرخص المرايا والشمعدانات وأخفّها وزنًا وقلت: "هذان جيّدان".
نظرت السيّدة منصورة إلى علي. لم يكن في المحل غيرنا نحن والبائع وأجيره.
تقدّم علي ونظر إلى المرآة والشمعدان اللذين اخترتهما، وأدرك أنّني فعلت ذلك مراعاةً لأوضاعه. أشار إلى مرآة وشمعدان آخرين، وقال: "ما رأيك بهذين؟".
كانت تلك المرآة والشمعدان في غاية الجمال، وبدا أنّهما صُنعا في الصين، وأنّهما باهظا الثمن. كان سعرهما مضعافًا؛ وذلك لزخرفتهما بالورود الناتئة والملوّنة بالألوان الجميلة، فمثل هذا النوع من المرايا والشمعدانات كان قد وصل حديثًا إلى السوق في ذاك الوقت وصار موضة.
سألنا صاحب المحل الذي كان واقفًا بالقرب منّا عن ثمنها فأجاب: "3500 تومان". قلت لعلي إنّهما باهظا الثمن، فالمرآة والشمعدان ليسا وسائل ضروريّة لندفع ثمنهما باهظًا. كان علي يصغي إليّ فقلت ثانيةً: "ألم تكن جميلة تلك المرآة التي اخترتُها؟ ليتها فقط كانت بيضاويّة الشكل". قال البائع الذي كان ينتظرنا لنختار شيئًا: "لحسن الحظ يوجد منها في المخزن واحدة بيضاويّة الشكل".
نادى العامل الذي كان مشغولًا بتعليق الثريات: "اذهب إلى المخزن بسرعة وأحضر المرآة البيضاويّة الشكل". خضعنا جميعًا للأمر الواقع، ولم ينبس أحد ببنت شفة. مضى العامل بخفّة وعاد سريعًا، أحضر المرآة والشمعدان ووضّبهما داخل كرتونة وأعطانا إياها، وبلغ ثمنهما 1000تومان. ولإصرار السيّدة منصورة، اشترينا حقيبة سوداء
97
87
خاطب ذو عينين زرقاوين
وذهبية اللون للمناسبات، وقطعة قماش بيضاء لتخيطها لي أمّي عباءة فيما بعد. واشترينا أيضًا قميصًا أبيض مقلّمًا بخطوط عموديّة سوداء وحمراء كثوب خطبة، مع صندل ذهبي اللون.
أما أمّي فقد اشترت لعلي قطعة قماش تصلح لسترة وبنطال، كان لونها جميلًا جدًّا، زرقاء بتروليّة. لكن، لم تسنح له الفرصة ليخيطها. عند الظهيرة، تعبت السيّدة منصورة فأحضر علي السيّارة إلى أول الزقاق، أوصل والدته أوّلًا، ثمّ أوصلنا، عندما وصلنا إلى باب منزلنا، لم يدخل رغم إصرارنا الكثير عليه.
بالرغم من أنّنا لم نتكلّم مع بعضنا البعض سوى بضع جُمل في السوق، تبسّم حين الوداع وقال: "آنسة زهراء، سامحيني، أمضينا وقتًا سيّئًا، كنت أشعر بالضيق". عندما ودّعنا وغادر غصصت بالحزن، أحببت أن يبقى لتناول الغداء عندنا، كنت أعلم أنّه إذا بقي في منزلنا ستتحسّن أحواله، سيجلس مع أبي ويتحدّث إليه، وأمّي بدورها ستقول شيئًا، كذلك نفيسة ستتحدّث بكلام حلو. أحببت أن يبقى عندنا كي تتحسّن حاله.
****
في يوم الأربعاء، 26 آذار 1986 أُصبت بوعكة صحيّة. قلقت أمّي كثيرًا، فذهبنا برفقة والدي إلى مستشفى الإمام الواقع في الجهة المقابلة لزقاقنا. قام طبيب الطوارئ بمعاينتي وشخّص حالي: تسمّم من الطعام. أعطوني حقنةً ومصلًا، وبعد بضع ساعات عدنا إلى البيت مع كيس من أقراص الدواء. لا أدري إن كانت الأعراض أعراض تسمّم، أم خوف واضطراب بسبب مراسم العقد. وجفاني الكرى حتّى الصباح.
عندما نهضت في الصباح ونظرت في المرآة إلى نفسي، هالني
98
88
خاطب ذو عينين زرقاوين
الروع، بدا لون وجهي شاحبًا، وعيناي غائرتين، وكأنّه لا يوجد قطرة دم تحت جلدي.
بدا المنزل موحشًا كئيبًا، لم تكن أمّي في البيت، بينما أبي كان يستعد للخروج. لم يشبه بيتنا أبدًا ذلك البيت الذي من المقرّر أن تُقام فيه مراسم خطوبة بعد الظهر.
سألت أبي عن أمّي فأجاب بحزن: "لقد استشهد ابن السيّد رستمي[1] وابن أخيه[2]، وذهبت أمك إلى منزلهم". كان منزل السيّد رستمي يقع مقابل منزلنا. وهما أخوان تزوّجا من أختين وسكنا معًا في المنزل نفسه. أخبرني والدي أنّ ابنيهما فُقد أثرهما في عمليات (والفجر 8)، وقد ساءت حالي أكثر لدى سماعي هذا الخبر.
رحت أحدس بفترة ما بعد الظهر ومراسم عقد القران وعائلة السيّد رستمي التي قدمت شهيدين. لقد كان تحمّل ذلك صعبًا بالنسبة إليّ وأنا جارتهم، فكيف بوالديهما!! احترق قلبي لأجلهم، وسحّت الدموع من عينَيّ.
أشارت الساعة إلى الحادية عشرة صباحًا، ولا خبر في منزلنا عن إقامة حفل أو تحضيرات لمراسم العقد. لقد تأثّر الجميع بالمصاب الجلل الذي حلّ بعائلة السيّد رستمي. انهمكت أمّي ما بين منزلنا ومنزل السيّد رستمي. كنت مشغولة بإعداد الطعام عندما نادتني نفيسة من فناء المنزل: "فرشته عزيزتي، خالي محمود يقف لدى الباب ويريدك في أمر ما".
[1] محمد هاشم رستمي؛ ولد 1347/4/25(7/1968) في همدان واستشهد في 19 شباط 1986 في الفاو.
[2] مسعود رستمي ولد في همدان 1346/4/1(6/1967)، واستشهد كذلك في 19 شباط 1986 في عمليات والفجر 8 في الفاو - العراق.
99
89
خاطب ذو عينين زرقاوين
أطفأت الغاز وأسرعت إليه. كان خالي وأمّي يقفان في الفناء يتحدّثان معًا. عندما رآني خالي قال باستياء: "ما هذا؟! فرشته، لماذا لم تقومي بفعل شيء حتى الآن؟ لماذا لم تجهّزي مائدة العقد؟!".
نظرتُ إليه متعجّبة وهززت كتفي، عنيتُ أنّني لا أدري شيئًا، فسألني زاجرًا: "ماذا يعني؟!".
- وما يدريني أنا؟ لم يقل أحد لي شيئًا.
نظر خالي إلى ساعته وقال بحدّة: "الساعة الحادية عشرة!".
أجابته أمّي: "عزيزي محمود، لقد قدّم جيراننا آل رستمي شهيدين".
هرول خالي ناحية باب الفناء وزمجر بصوت منخفض: "وماذا كنّا سنفعل؟ أترانا سنحضر فرقة موسيقية وآلة طرب وطبلاً؟!".
ثم التفت إليّ:
- فرشته، أسرعي ونظّفي غرفة الاستقبال لحين عودتي.
نطق خالي بهذه الجملة وغادر. بينما أمّي تولّاها الاضطراب فهرعت صوب خزانة الملابس وأحضرت منها قطعة قماش حريريّة وسجادة عرسها النفيسة وفرشتها شطر القبلة. كذلك أعطتني الرحل والقرآن وقالت: "ذوقك رفيع، نمّقيها بنفسك".
كان الشمعدان والمرآة في منزلنا، فأخرجتهما من العلبة، نفخت على المرآة ولمّعتها بمنديل ووضعتها وسط سفرة العقد. اخترت للقرآن مكانًا مقابل المرآة فانعكست صورته ذات الغلاف الأخضر فيها.
دلفت رؤيا إلى الغرفة وفي يدها زهرية ورد طبيعي ملفوفة بورق ألمنيوم وقالت: "هذه من علي". سألتها إن كان قد دخل فقالت لي: "كلا، لقد رافق أمّي في الذهاب إلى منزل السيّد رستمي".
نسّقت مكان الزهرية بجانب المرآة والشمعدان، فانعكست كذلك
100
90
خاطب ذو عينين زرقاوين
صورة الورود الحمراء والبيضاء في المرآة. خالجتني فكرة لو أنّي رافقتهما لأقدّم معهما واجب العزاء.
بعد قليل، عاد خالي ومعه أغراض كثيرة. وضع قرب سفرة العقد كلّ الأشياء المتبقية من سفرة عقده: سلّة بندق وجوز فضيّة اللون، فتات من خبز السنكك[1] مزيّنة بإكليل فضّي، وصدفتان بيضاوان، وتاج مجصّص يوضع فيه خاتم الزواج، مضافًا إلى الملبّس والحلوى وورد الصفصاف.
لقد شحن مجيء خالي الجميع بالطاقة والحيويّة، فخرج أبي وأحضر معه عُلبًا من الحلوى، ثمّ خرج ثانية وأحضر الفاكهة، ثمّ عاد وخرج لشراء الشوكولا والكز[2]. في كلّ مرّة كان يعود فيها إلى البيت تعود أمّي وتوكل إليه مهمة شراء أخرى.
حضرت جدّتي على الغداء. عندما رأتني سألت بامتعاض: "وجيهة! ألم تأخذي فرشته إلى مصففة الشعر؟!".
حانت من أمّي التفاتة إليّ وأشارت بالنفي، تأفّفت جدّتي غاضبة: انهضي! لم أرَ عروسًا على هذه الهيئة، أسرعي ونظّفي وجهها على الأقلّ!
كانت أمّي تجيد فعل كلّ شيء، ففضلًا عن كونها خيّاطة ماهرة، كانت أيضًا تجيد مهنة التزيين النسائي. وبأمر من جدّتي قامت بتمليس شعري، وراحت تحدّث جدّتي كيف ذهبت مع علي إلى منزل الشهيد رستمي، واستأذنا العائلة لإقامة مراسم العقد. كان علي قد قال لهم: "نحن لن نقيم حفلًا رسميًّا، ولكن يهمّنا أن تجيزوا لنا
[1] نوع من الخبز يوضع على الحصى الحار لينضج. (المترجم)
[2] نوع من الحلوى الإيرانيّة. اعتاد الزوار على شرائه كثيرًا. (المترجم)
101
91
خاطب ذو عينين زرقاوين
إجراء عقد القران".
عندما انتهت أمّي من تزيين شعري ذهبتُ وارتديتُ القميص الذي اشتريناه، لكن، ما أن رأتني جدّتي حتّى قطّبت حاجبيها ثانية وقالت: "ما هذا الذي ارتديتِه؟ ألم تشتري ثوب عروس؟!".
قلت: هذا جيّد، فهو من جهة ثوب عروس، ومن جهة أخرى، واحترامًا لعلي (بسبب شهادة معاونه) فيه خطوط سوداء.
هزّت جدّتي برأسها وغمغمت، فما كان من أمّي إلّا أن عضّت على شفتيها، وأشارت إليّ كي لا أتفوّه بأيّ كلمة.
بعد الغداء، باغتنا الضيوف بالتوافد؛ العمّات والأعمام وزوجاتهم، خالي وزوجته، وعدد من الأشخاص المقرّبين الذين تمّت دعوتهم.
عند الساعة الثالثة والنصف وصل علي وعائلته وعدد من أقربائهم المقرّبين. كان يرتدي المعطف الكاكي اللون ذاته، وقميصًا بنيًّا، وبنطالًا مخطّطًا، وقد أحضروا معهم قالب حلوى كبيراً تمّ وضعه وسط سفرة العقد.
تدثّرت بعباءة بيضاء اللون مرقطّة بزهور زرقاء صغيرة. جلست بجانب سفرة العقد، والنسوة توزعن من حولي في أرجاء الغرفة، دخل علي ليجلس بقربي جانب سفرة العقد، لكنّه عندما رأى النسوة يجلسن خرج إلى البهو حيث مجلس الرجال.
وتولّى عمّي مهدي مهمة تصوير الحفلة، أمّا مريم فراحت تحف قطعتين من السكر الجامد فوق رأسي. فجأةً، ارتفعت أصوات الصلوات والضحكات من ناحية البهو.
ذهبت أمّي إلى البهو، ثمّ عادت ولحقت بها كلّ من السيّدة منصورة
102
92
خاطب ذو عينين زرقاوين
ومريم، ثمّ عادتا.
قالت مريم: "لقد حضر أصدقاء علي، لكنّ علي لم يدعُ أحدًا منهم، لا أدري كيف علموا بالأمر".
ردّت السيّدة منصورة بسرور: "أخبرنا أمير أنّ أحد أصدقاء علي علم بالأمر وقام بإبلاغ الجميع. لقد تعقّبونا واختبأوا في الزقاق الخلفي، وعندما دخلنا تبعونا قائلين: يا الله يا الله. أشكرك يا رب؛ إذ إنّ أصدقاء علي إلى جانبه، وقد اجتمعوا حوله".
وزجل العم باقر:
إذا كنت مؤمنًا صادقًا
فلتكن معنا
رغمًا عن أنف كلّ منافق
صلّوا على النبي وآله
نادت ملائكة العرش
الأحبّة في صميم القلب
كتب على العرش بخط جميل
صلّوا على محمد وآله
لا شكّ في أنّ عليًّا وليّ
وقد ربّاه النبيّ
هو أمير الجميع
فصلّوا على محمد وآله
وبورود أصدقاء علي تبدّلت الأجواء، وجعلت أصوات الصلوات الجماعيّة لمجلس الرجال النسوة أيضًا يصلّين على النبي وآله.
بعد قليل، قالت أمّي وهي تقف لدى الباب: "إنّ السيّد يقرأ خطبة العقد".
تقوّض شيء في قلبي، شعرت كأنّي في أسحار شهر رمضان المبارك، ولم يتبقّ سوى وقت قليل لأذان الصبح، فاغتنمت الفرصة وشرعت في قراءة الدعاء على عجل، ودعوت الله أن يكتبنا في السعداء، ويجعل زيارة مكة وكربلاء من نصيبنا.
تناولت القرآن من الرحل، ورحت أقرأ ما تيسّر من الذكر. عُيّن
103
93
إشارة
خالي أحمد وكيلًا عنّي، وقال بالنيابة عنّي في مجلس الرجال: "نعم قبلت". دخل خالي إلى الغرفة حاملًا دفترًا كبيرًا يتضمّن دفتر تسجيل العقود ووثيقة الزواج. وجعلني أوقّع على كلّ الأوراق. قالت أمّي: "إنّ آية الله نجفي[1] يخطب خطبته".
سمعت ثانية أصوات صلوات الرجال، وراح العم باقر هذه المرّة ينشد:
أطلق لسانك طالما الدم يجري في عروقك
صلِّ على النبي وعلى وجهه الجميل الوردي
عمّت أصداء الصلوات أرجاء المنزل، فنادت أمّي عن الباب: "يا سيدات لقد جاء العريس".
جلس علي إلى جانبي، وسلّم عليّ بخجل وحياء. وضع خالي محمود دفترًا كبيرًا على ركبتي؛ وأشار إلى المواضع التي ينبغي أن أوقع عليها.
كذلك مريم وضعت أمام "علي" الصّدَفَة التي بداخلها المحبس. تناول المحبس مضطربًا، ولأنّه جلس عن يميني، وضع المحبس في إصبع يدي اليمنى. فقلت بهدوء: "لا يُوضع في هذه اليد، بل في اليد اليسرى".
قدّمتُ يديَ اليسرى فاحمرّ وجهه، وخلع المحبس من يدي اليمنى
[1] هو آية الله السيّد محمد حسيني همداني المعروف بالسيّد النجفي، من الحكماء والعرفاء المعاصرين. ولد في النجف الأشرف 1904 وقصد همدان برفقة والده منذ نعومة أظفاره. وفي الواحد والعشرين من عمره عاد إلى النجف ودرس على يد الآيات العظام السيّد أبو القاسم الخوئي والعلامة السيّد محمد حسين الطباطبائي دروس الفقه وأصول الفقه، الكلام والفلسفة وصار محطّ اهتمام الميرزا النائيني وحصل على شهادة الاجتهاد منه ،كذلك حاز مصاهرة هذا المرجع الكبير. عاد إلى همدان بعد اثنتين وعشرين سنة واشتغل في التدريس والتأليف وإرشاد الناس. أخيرًا، ودّع الحياة وقت السحر في التاسع من مهر 1996م ودُفن في جوار مرقد الشيخ البهائي في حرم الإمام الرضا عليه السلام. من مؤلفاته: الأنوار الساطعة في تفسير القرآن (18مجلداً) والأنوار الساطعة من أصول الكافي (6أجزاء) وغيرهما..
105
94
خاطب ذو عينين زرقاوين
ووضعه في اليسرى. وقام أبي بدوره بوضع خاتم عقيق في إصبع علي كان قد اشتراه سابقًا لمثل هذا اليوم.
في العام الماضي كنّا قد ذهبنا إلى العمرة أنا وأهلي، واشترى والدي لصهره المستقبلي ساعة أنيقة من مكة؛ قدّمها لعلي هدية يوم الخطبة.
جلت بطرفي في المرآة فرأيت علي ينظر إليّ، شعرت بالخجل، فخطفت نظرتي بسرعة وأخفضت رأسي. كانت المرة الأولى التي يراني فيها بشكل جيّد.
****
في اليوم التالي، ذهبتْ أمّي إلى المشغل؛ وانشغلتُ أنا وأختيّ بتنظيف المنزل، ولم تكن آثار التسمّم قد خرجت من جسمي بعد.
عند الظهر، لما رجعت أمّي قالت: "عندما كنتِ نائمة صباحًا جاء علي ودعانا إلى منزلهم لحضور الهيئة ليلًا". في المساء ذهبنا عائليًّا إلى الهيئة، ونصبت أمام مبنى منزلهم لافتة بيضاء مضاءة بمصباح مكتوب عليها: "هيئة سبيل الشهداء". أسّس الهيئة كلّ من أمير وعلي، وكانت تلك اللّيلة الأولى التي يقام برنامج الهيئة في منزلهم، والمرة الأولى التي نزورهم فيها. كانت مساحة الشقق في الطبقة الرابعة للمعهد الفني 130م وثلاث غرف نوم، كانت هذه هيئة الرجال. أمّا في قسم النساء، كنت أنا وأمّي وأختي والسيّدة منصورة ومريم والسيّدة منيرة.
في تلك اللّيلة علمت أنّ والدَي السيّدة منصورة اللذين ينادونهما الجدّ والجدّة، كذلك الأخت الوحيدة للسيّدة منصورة، وأخاها الذي يشبهها إلى حدّ كبير، يعيشون في طهران.
أمّا مريم فقد عقدت قرانها على ابن جيران الجدّة الذي يعمل في
105
95
خاطب ذو عينين زرقاوين
بنفسه. جلس خالي في المقعد الأمامي بينما جلست أنا وزوجة خالي في المقعد الخلفي.
ضغط علي على دواسة الوقود وانطلقت السيّارة تنعق كالغراب.
انهمكت أنا وزوجة خالي في الخلف بقصّ الأحاديث، وكذلك علي وخالي محمود.
شرع خالي محمود في المزاح وسرد الذكريات من وسط الطريق، ولم ننتبه من الضحك كيف حلّ الظهر، ووصلنا إلى "ساوه".
قصدنا مطعمًا يقدّم "جلو كباب"[1]، فطلب علي لي وله "جلو كباب سلطاني". ولأنّي كنت أجلس قبالة علي خجلت من تناول الطعام، فتناولت كمية قليلة من الأرز وتوقّفت عن الأكل.
لا أدري لماذا زوجة خالي لم تأكل أيضًا بشكل جيّد، وبقي نصف طعامها في الطبق. أمّا خالي محمود الذي كان يبحث عن موضوع للتعليق عليه فقد جعل من هذا الحدث مدعاة ضحك، فقال: "سيّد علي! لا تقلق أبدًا، مع هاتين الزوجتين سنحجّ في غضون سنة واحدة؛ وسينادوننا أنا وأنت في السنة اللاحقة حاجّ فلان، وحاجّ فلان..".
بعد ذلك سكب ما تبقّى من طعام زوجته في صحنه وتناول منه لقمة. قال وهو يأكل بشهيّة: "سيصبح كلانا سميناً، فهاتان المرأتان لا تأكلان شيئًا، وبعد أشهر عدّة سنصبح هكذا"، ثمّ نفخ خدّيه مقلّدًا الأفراد البدينين، وتابع: "في السنة القادمة مضافًا إلى سهولة امتلاكنا السيّارة سنمتلك منازل أيضًا".
كان خالي يطلق فكاهاته، ونحن نطلق ضحكاتنا.
وصلنا إلى قم عصرًا. راح علي وخالي يبحثان عن فندق مجاور
[1] كفتة مشوية مع الأرز المطبوخ. وجلو كباب سلطاني هو الطبق مع المقبلات. (المترجم)
107
96
خاطب ذو عينين زرقاوين
للحرم. طلب أصحاب الفنادق بطاقات الهويات، كان لدينا جميعًا بطاقات هويات بيد أنّ بطاقتي هويتنا أنا وزوجة خالي كانتا بلا صور شمسية. مهما حاول علي تسوية الأمر مع مدير الاستقبال في الفندق لم يفلح، فاضطُررنا إلى الذهاب إلى مديرية الفنادق، استغرق الوقت ساعتين أو ثلاث ساعات كي نعثر على ذلك المكان، حصلنا في النهاية على رسالة موافقة وعدنا إلى الفندق. حمل علي وخالي أغراضنا ووضعاها في الغرف، بينما بقيت أنا وزوجة خالي في صالة الانتظار. في البداية، عزمنا على الذهاب إلى الحرم، مشى أمامنا خالي وزوجته وهما يتحدّثان مع بعضهما البعض. بينما تبعناهما أنا وعلي صامتَين. تذكّرت كلامه في همدان، فتأخرت عنه بضع خطوات، فصار أمامي، انتظر قليلًا كي أصل إليه، لكنّني حرصت على البقاء خلفه دائمًا. ضاق ذرعًا فسألني: "هل أنت متعبة؟". أجبته: "كلّا، لكنّك قلت أن لا نمشي معًا في الطريق، أتذكُر موضوع عوائل الشهداء؟!". تبسّم وسحبني من يدي قائلًا: "هذا الموضوع يتعلّق بهمدان، أمّا هنا فلا أحد يعرفنا".
عدنا إلى الفندق منتصف اللّيل. كانت الغرف في الطابق الثاني. أخرج خالي مفتاحًا من جيبه وفتح باب الغرفة، ودعا زوجته إلى الدخول، بينما بقيت أنا حيرى لا أدري أين أذهب.
قام علي بفتح باب الغرفة المجاورة ودعاني قائلًا: "تفضلي".
انتابني شعوران؛ شعور بالخجل وشعور بالغربة. نظرت إلى زوجة خالي ورجوتها بنظراتي كي تأخذني إلى حيث هي، فما كان منها إلّا أن ودّعتني وقالت: "تصبحين على خير". أُسقط في يدي ودخلت الغرفة.
تولّاني شعور بالاضطراب، فالغرفة وجوّها كانا ثقيلين عليّ، جلست على إحدى الكنبات قرب النافذة، بينما راح علي يتمشّى في الغرفة ويُشغل نفسه عبثًا بالأغراض الموجودة فيها.
108
97
خاطب ذو عينين زرقاوين
حوت الغرفة سريرَين يفصل بينهما منضدة صغيرة، مضافًا إلى براد صغير، جهاز تلفاز، كنبتَين وطاولة قرب الكنبة.
سألني علي: "ألستِ متعبة؟ ألم يدهمك النعاس؟". أجبته بقلق: "كلّا".
كأنّه تنبّه إلى أوضاعي النفسيّة، وتكهّن سبب قلقي، فرفع أكمامه ودخل الحمّام. مضت مدّة من الوقت وهو داخله. نهضت ووقفت خلف النافذة، شاهدت قبّة حرم السيّدة المعصومة عليها السلام والمئذنة، كان مشهدًا جميلًا يهدهد العيون، فلم أرغب في أن أشيح نظري عنه.
رغم أنّ الوقت كان متأخّرًا إلّا أنّ السيارات المضيئة كانت تعبر الطرقات، وكذلك مصابيح النيون الملوّنة، وواجهات العرض لمحال بيع السوهان، وبيع اللوازم الدينية والسبحات والهدايا، كانت ما تزال مضاءة ومشعشعة، والناس يروحون ويجيئون على الأرصفة التي تنتهي إلى الحرم.
خرج علي من الحمّام وهو يرخي أكمامه، ووجهه ما زال مبلّلًا بالماء.
عندما رآني تعجب وقال: "ألم تنامي بعد؟!".
- لا أشعر بالنعاس.
تبسّم وقال: "من الواضح أنّ النّعاس قد غلبك وأنّك متعبة؛ سأصلّي، وأقوم بإنجاز بعض الأعمال المتوجّبة عليّ، إذا كان وجودي هنا يقلقك ويعذّبك أذهب إلى الأسفل".
قلت: "لا، فليرتح بالك".
ردّ قائلًا: "فلينعم بالك أنتِ أيضًا؛ اخلدي إلى النّوم، أتودّين أن أطفئ المصباح؟".
109
98
خاطب ذو عينين زرقاوين
وقبل أن أجيبه بنعم أو لا أطفأ الأضواء، واستعدّ للصلاة. انتهزتُ الفرصة فخلعتُ عباءتي وغطّيت وجهي بالبطّانيّة، ولفرط تعبي غططت في النوم سريعًا.
استيقظت من النوم على صوت الأذان المتسرّب من الشّارع، نظرت إلى سرير عليّ بشكل لا إرادي فوجدته خاليًا والبطّانيّة مرميّة جانبًا، واجتاحت أضواء الطّرقات الغرفة فأضاءتها. جلست على السّرير فتناهى إلى سمعي سرسقة مياه. كان الحمّام مضاءً، نهضت وارتديت العباءة. خرج عليّ من الحمّام وهو يكمل وضوءه؛ سلّمت عليه فقال متعجّبًا: "أنتِ مستيقظة؟! كنتِ متعبةً جدًّا ليلة البارحة ما إن وضعتِ رأسكِ على الوسادة حتّى غططتِ في نومٍ عميق".
- أجل؛ كنتُ متعبة.
- أنا والسيّد محمود سنذهب إلى الحرم لنصلّي صلاة الصّبح هناك. أتأتين معنا؟
- لست على وضوء.
فتح باب الغرفة وقال:
- حسنًا توضّئي وسأذهب أنا لإيقاظ السيّد محمود.
****
بعد تناول طعام الفطور توجّهنا إلى طهران. مضى على خروجنا من قم 40 دقيقة، فجأة قال خالي بلهجة همدانية غليظة: "عجبًا! ها قد نسينا شراء الهدايا".
رفع عليّ قدمه عن دوّاسة البنزين وخفّف من سرعة السيّارة قائلًا: "ماذا نفعل، هل نرجع؟!".
ضحكنا أنا وزوجة خالي في مقعدنا الخلفيّ مليًّا.
110
99
خاطب ذو عينين زرقاوين
أسرع خالي وقال: "أيعقل أن نأتي إلى قم ولا نشتري السّوهان! لن يسمحوا لنا بالدخول إلى همدان. سيقتلعون عيوننا".
وجدنا على بعد أمتار عدّة مستديرة؛ فاستدار عليّ بالسيّارة واتّجهنا مجدّدًا إلى قم. قبل وصولنا إلى قم وجدنا متجرين أو ثلاثة بجانب الطّريق، فاشترينا علب سوهان عدّة؛ ضحكنا مليًّا وعدنا.
مضت ساعة على انطلاقنا ناحية طهران, وخلال مسيرنا على أوتوستراد طهران - قم راح محرّك السيّارة يصدر صوت قرقرة، فقال خالي ممازحًا: "يا إلهي! هذه السيّارة قد أصابها السّعال مجدّدًا".
ضحكنا مرّة أخرى من قوله، بينما أوقف عليّ السيّارة على الجانب التّرابيّ للطريق؛ ترجّل منها وفتح الغطاء، وكذلك فعل خالي, سألتْ زوجة خالي: "ماذا حصل يا محمود؟".
أجابها ضاحكًا: "لقد دُكّت السيّارة أرضًا".
انتهزنا الفرصة أنا وزوجته ورحنا نتمشّى في الأطراف, هبّ نسيم عليل، فوجدنا إلى الأمام قليلًا أشجارًا عدّة، وجبلًا، وتلّة وسهلًا معشوشبًا, ولكن، حالت أصداء أبواق الشاحنات والسيارات المسرعة من أن نسمع زقزقات العصافير التي تنقر الحبوب، وتأكل فتات طعام المسافرين بالقرب منا. شمّر عليّ وخالي محمود عن ساعديهما، وأنزلا قلب السيّارة وأمعاءها.
بعد ساعة دارت السيّارة، ركبنا فيها ونحن نصلّي على النبي وآله. وجد خالي في السيّارة موضوعًا جديدًا لنكاته. ما إن قطعنا مسافة كيلومتر واحد حتّى راح محركها يصدر صوتًا من جديد، ومن ثمّ توقّفت.
تأفّف خالي وغمغم, وحلّ دور علي فقال ضاحكًا: "ألم أقلّ إنّها مدلّلة لم تصغ إليّ! تفضل فقد استاءت مجدّدًا".
111
100
خاطب ذو عينين زرقاوين
ترجّل علي وخالي من السيّارة ودفعاها بحذر إلى الجانب الترابي. أمّا أنا وزوجة خالي فبقينا في السيّارة، ورحنا نصلّي على النبي وآله، وندعو الله كي لا يحدث مكروه.
هذه المرة نفد البنزين من السيّارة، أعطى علي غالونًا خاليًا يسع عشرين ليترًا لخالي محمود وقال: "كي لا تسخر من سيّارة صديقي المسكينة! أسرع وعد بسرعة".
مرّ وقت طويل حتّى عاد خالي بالبنزين، وأفرغه في خزّانها وانطلقت السيّارة ثانيةً.
وصلنا طهران عند الساعة الرابعة بعد الظهر جائعين، عطاشى ومتعبين.
تناولنا طعام الغداء عند مدخل المدينة على جانب أحد طرقات مستديرة الحرية، ثمّ تفقّدنا عددًا من الفنادق، ولكن مجدّدًا، وبسبب عدم وجود صور شمسية على هويتي وهوية زوجة خالي، لم نستطع العثور على مكان.
بعد الكثير من المباحثات والمشاورات، قرّرنا الذهاب إلى كرج[1].
ولفرط التعب غلب النعاس على زوجة خالي؛ أمّا أنا فرحت أكتب حوادث ذلك النهار على تقويمي: الأحد: العاشر من فروردين1365*[2]9.
سألني خالي محمود بهدوء كي لا يوقظ زوجته: "ماذا تدرزين على تقويمك؟"[3]2.
قال علي ضاحكًا: "آنسة زهراء بالله عليكِ إن كنت تكتبين عن
[1] كرج: إحدى المدن القريبة من طهران؛ وتقع على أطرافها. (المترجم)
[2] * (30 آذر 1986 م).
[3] 2 - إشارة منه إلى كتابتها بنحو سريع في التقويم. (المترجم)
112
101
خاطب ذو عينين زرقاوين
سفرنا فلا تذكري سلبياته. اكتبي أن السفر كان ممتعًا". ثمّ عاد خالي ثانيةً إلى المزاح: "لا أراني الله يومًا كتبتِ فيه سوءًا عنّا، إذا علمت بذلك فسأقتلع عينيكِ". بعد ذلك شرع في تذكُّر أكل الكباب وفراغ السيّارة من البنزين؛ وأسهب بذكر هذه الحوادث حتّى استيقظت زوجته على صوت ضحكاتنا.
وصلنا كرج ليلًا، عثر علي وخالي على نُزل لا يحتاج الأمر فيه إلى صور شمسية على بطاقات الهوية وأعطونا غرفتين.
عندما ارتاح بالنا من قضية المأوى، قررنا الذهاب والقيام بجولة في شوارع كرج. جهد خالي وزوجته لفعل شيء يقرّبنا أنا وعلي من بعضنا البعض، فراح يدفع علي باتجاهي وكذلك زوجته راحت ترسلني ناحية علي. لكنّ الخجل استولى على كلينا، ومشينا بعيدين عن بعضنا البعض.
في اللّيل؛ تناولنا العشاء خارجًا، وجُلنا في المدينة حتّى وقت متأخر.
في صباح اليوم التالي عدنا إلى همدان؛ جاء علي إلى منزلنا، سلّمني إلى أمّي، ودّعنا وذهب. عند الوداع أعطاني عنوانه كي أراسله.
113
102
رسالة العشق
رسالة العشق
بعد أسبوع من ذهاب علي إلى الجبهة، أحضر عمّي مهدي صور حفل عقد القران. ألقيت نظرة سريعة على جميع الصور. وعندما ارتاح بالي لجودة تظهيرها، طفقت أتأملها بدقّة وأناة.
دارت الصور بين أيدي أمّي وأبي وأختَي ساعات عدّة، وعندما خمد غليل مشاهدتها حملتها ودلفت إلى غرفتي. أحيانًا كان يستغرق النظر إلى صورة واحدة مدة نصف ساعة، وزادت مشاهدة الصور من شوقي وصبابتي، فتناولت القلم عند منتصف اللّيل وشرعت في كتابة الرسالة الأولى إلى علي.
بدأ عدّ الأيّام منذ اليوم التالي، وبتّ كالسجناء أضع علامة على اليوم الذي يمرّ في التقويم.
ذهب علي إلى الجبهة بتاريخ 1/4/1986. وفي عصر السادس والعشرين من شهر نيسان قُرع جرس المنزل. حدّثني شعور داخلي أنّ الطارق هو علي. تجلببت بعباءتي وأسرعت لأفتح الباب. كان أمير يقف عند الباب، ألقى التحية بسرعة وسألني عن جميع أفراد العائلة فردًا فردًا، بدءًا من أبي وأمّي وصولًا إلى خالي وجدّتي. أخيرًا أخرج من جيبه ظرفًا وقال: "أخت فرشته، لقد أرسل لك علي هذه الرسالة".
لم أدرك لشدّة فرحتي كيف شكرت أمير وكيف ودّعته. فضضت
115
103
رسالة العشق
الظرف، وقرأت الرسالة مرّات ومرّات منذ أن أغلقت الباب خلف أمير وحتّى وصولي إلى الغرفة.
كانت رسالة عادية ومختصرة لم تحمل معها سوى السلام والسؤال عن الأحوال، لكنّها بالنسبة إليّ كانت إنعاشًا لقلبي، وكأنّ علي إلى جانبي يفيض عطفه ومحبّته على فؤادي.
كتب علي في الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله حارس حرمة دماء الشهداء
سلامٌ حارٌّ من جبهات الحقّ ضد الباطل التي ارتوت أرضها بالقاني والتي تذكرنا بكربلاء الإمام الحسين عليه السلام، والرائحة الزكية لذاك الإنسان العاشق لله.
سلامٌ حارٌّ من تلك الفلوات والوديان والدروب البعيدة، ومن قلب كربلاء إيران الملهبة.
سلامٌ حارٌّ من الأشتريين والمظاهريّين[1] الحقيقيّين لأبي عبد الله الحسين عليه السلام إليكم.
إن أردتم السؤال عن أحوالي فالحمد لله أنا بخير.
وإن تقبّل الله منّا فأنا أعمل على طاعة الله، وأتمنّى أن يأتي اليوم الذي سينتصر فيه الإسلام على الكفر في العالم، وأن تقتلع جذور الظلم على يد وليّ العصر صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وليتجدّد عمّا قريب لقائي بك سيّدة زهراء، وبعائلتك الحزب اللهية الثورية المحترمة.
أتمنّى أن تدعي لي في عباداتك كي يغفر الله ذنوبي، ويتقبّل منّي
[1] نسبة إلى الصحابيّين الجليلين مالك الأشتر وحبيب بن مظاهر.
116
104
رسالة العشق
ومنك هذا العمل الجهادي الذي تشاركينني فيه. لن أطيل عليكم أكثر من هذا. إنّ السيّد محمود أيضًا بخير.
بلّغي سلامي إلى أبيك وأمك العزيزين، وأختيك كذلك. ودمت في رعاية الله وحفظه.
خادم الإسلام
علي تشيت سازيان
عند خلودي إلى النوم، وضعت الرسالة تحت وسادتي، ومنذ ذلك اليوم صرت أصحبها في حقيبتي أينما ذهبت. في الواقع، كنت أحْسَبُ تلك الرسالة كأنّها علي نفسه، فعندما أفتح حقيبتي ويقع نظري عليها ينتابني شعور طيّب.
يوم الثلاثاء (16 أيار) عاد علي إلى همدان، واتجه مباشرةً إلى بيتنا. كذلك فعل في اليوم التالي، أمّا في اللّيلة التالية فانتظر مدة نصف ساعة خلف الباب بينما كنّا نحن في منزل جدّتي ولم ندرِ بذلك.
كنت وعائلتي نذهب يومي الاثنين والخميس من كلّ أسبوع إلى روضة الشهداء للمشاركة في تشييع الشهداء. فجأةً، رأيت علي هناك، ظننت في البداية أنّني مشتبهة في الأمر. أمعنت النظر ودللتُ والدي عليه، تقدّم نحوه وضمّه إليه كأنّه فلذة كبده. قبّل وجهه وجبهته، ثمّ أمسك بيده وشدّ عليها. راح والدي ينظر إلى علي مبتهجًا به. تضرّجت وجنتا علي حمرةً وحنا رأسه خجلًا وهو يكرّر امتنانه لوالدي على اهتمامه به ومحبته له. كان عدد من أصدقاء علي يقفون إلى جانبه. ولشدّة سرور أبي برؤيته أصرّ عليه أن يأتي إلى منزلنا لتناول العشاء معنا.
بعد صلاة المغرب، جاء علي إلى منزلنا. كان يرتدي قميصًا كحلي
117
105
رسالة العشق
اللون وبنطاله العسكري، وقد أسبل شعره الأشقر على جبينه وغيّر مظهره.
عندما رآه أبي ضمّه مجدّدًا، وأمسك بيده وأجلسه إلى جانبه، وراح يسأله عن الجبهة وأحوالها والحرب ونهايتها. بعد قليل تذرّعت أمّي بحجة ما ونادت أبي. عندما خرج والدي من الغرفة صارت أمّي تشغله وتعمد إلى إلهائه، ثمّ أومأت لي كي أذهب إلى علي. أحضرت الصور وجلست قربه كي أريه إياها. فرح كثيرًا عند رؤيته صور عقد القران. تأمل الصور التي التقطت لنا وحدنا ونحن نجلس على سفرة العقد مرّات عدّة وقال: "إنّ هذه الصور هي الأجمل". استغلّ علي فرصة وجودنا وحدنا وقال لي: "سيّدة زهراء، غدًا يوم الجمعة، تعالي إلى منزلنا عند الثالثة بعد الظهر".
وافقتُ على ذلك. في اليوم التالي أخبرت أمّي بالموضوع إلّا أنّها على عكس توقعاتي لم توافق على ذهابي وقالت: "الأفضل أن لا تذهبي إلى منزلهم إذا لم يوجد أحد، لكن إذا جاء علي في أثرك فلا مشكلة في ذلك، فليس من المناسب أن تسير فتاة وحدها بعد ظهر يوم الجمعة[1] وتذهب إلى منازل الناس".
أسقط من يدي ولم أستطع فعل شيء، كان عليّ أن أتوقّع عدم موافقة أمّي فهي تحرص علينا كثيرًا، حتّى إنّها لم تكن تسمح لنا بالذهاب إلى منازل الأصدقاء والمعارف. لقد تعلّمنا أن لا كلام فوق كلامها؛ لأنّها تريد صلاح أمورنا. شعرت بالتوتر كلّما اقتربت عقارب الساعة من الثالثة عصرًا، لم يكن لدينا هاتف في المنزل لأخبره بعدم مجيئي، فمن جهة خفت أن يستاء منّي ويغضب، من جهة أخرى،
[1] يوم الجمعة هو يوم عطلة في إيران كما هو معلوم، لذلك تخلو الأزقّة ظهرًا وعصرًا من المارّة. (المترجم)
118
106
رسالة العشق
احترق قلبي لأجله؛ لأنّني كنت أعلم أنّه ينتظرني.
لم تخطر ببالي أيّ وسيلة لأخبره بعدم مجيئي. رحت فقط أدعو أن تراوده فكرة المجيء في أثري.
في النهاية، صارت الساعة 3 بعد الظهر، وطال الوقت كثيرًا كثيرًا حتّى بلغت الساعة الرابعة، ثمّ الرابعة والنصف، والخامسة..
استأت كثيرًا وقلت في نفسي: تُرى ماذا يدور في خلد علي الآن؟ بالتأكيد هو منزعج وغاضب منّي، فهذه هي المرة الأولى التي نضرب فيها موعدًا وأُخلفه. كان أبي وأختاي يشاهدون التلفاز، أمّا أنا فبدوت وكأنّني لست في هذه الدنيا، فقد عميت عيني عن رؤية أيّ شيء، وصُمّت أذني عن سماع أيّ شيء.
كانت عيناي مسمّرتين على التلفاز الذي كان يبثّ بعد ظهر كلّ يوم جمعة فيلمًا سينمائيًّا، لكنّ فكري كان عند علي، لم يكن لديّ رغبة في فعل شيء أو محادثة أحد. غدوت مشوّشة الفكر شاردة الذهن واجتاحني اضطراب عجيب. فكّرت كيف سيكون ردّ فعله في الغد؛ هل سيكون مستاءً منّي؟ أم أنّه سيذهب إلى الجبهة من دون وداعي؟ هل سيكون غاضبًا ويتشاجر معي؟ أم أنّه سيأتي ويشتكي فعلتي؟
مرّ بعد الظهر ذاك بمرارة ومشقّة، مرّ وقته طويلًا حتّى بدا أنّ اللّيل لن يحلّ بعده أبدًا؛ ولهذا السبب، دلفت إلى غرفة النوم عند الغروب من دون أن أتناول عشائي بحجة وجع رأسي.
في اليوم التالي وأثناء عودتي من المدرسة تناهى إلى سمعي صوت محرّك يأتي من الخلف. شعرت أنّ أحدهم يتعقّبني، استجمعت قواي، وكالعادة رحت أجري بسرعة من دون أن تحين منّي التفاتة إلى الوراء.
119
107
رسالة العشق
بقي لي بضع خطوات للوصول إلى البيت، سمعت صوتًا مألوفًا من الخلف:
- سلام، كم تجرين بسرعة!
كان صوت علي، التفتّ إليه وشاهدت بسمةً تعلو شفتيه. عند ذاك تنفّست الصعداء. سألني: "هل أنت بخير؟".
لم يبدُ أيّ انزعاج في نظراته أو صوته. فأجبته: "شكرًا أنا بخير".
- إذاً لمَ لم تأتي البارحة؟
خجلت لذلك وأجبته بانقباض: "المعذرة، لم تكن العلّة منّي، أمّي لم تسمح لي بذلك، قالت لي إنّ ذهابي عصر الجمعة وحدي ليس محمودًا، فالشوارع تكون في هذا الوقت خالية".
سكت قليلًا، ثمّ هزّ رأسه مؤيّدًا كلام والدتي.
- قلقت عليكِ، فكّرت لا سمح الله أنّ مكروهًا قد أصابك. الحمد لله أنّك بخير.
تبسّمت، وأخرجت المفتاح من حقيبتي.
- على كلّ حال المعذرة، لقد قالت أمّي: "لا مشكلة إن أتى علي بنفسه وذهبتما معًا".
هزّ رأسه ثانيةً وأبدى تأييده لكلام أمّي قائلًا: "إنّ الحاجّة على حق، خيرًا فعلتِ في إصغائك إلى كلامها، إذاً سآتي في أثرك اليوم بعد الظهر".
شعرت بالارتياح. وضعت المفتاح في القفل ودعوته: "تفضّل بالدخول".
كان لديه ارتباط، لهذا ودّعني وانصرف. أسرعت مسرورةً إلى الفناء، وطرت فرحًا حتّى وصلت إلى المطبخ. لم تكن أمّي في البيت.
120
108
رسالة العشق
بعد بضع ساعات عادت من المشغل، أخبرتها بما جرى، وافقت على ذهابي، وانهمكت بتحضير ملابسي.
وصل علي بسيّارة صديقه عند الساعة الثالثة إلّا ربعًا. كانت هذه المرة الثانية التي أذهب فيها إلى منزلهم. لم يكن أحد في المنزل؛ إذ حلّ أفراد العائلة منذ أيّام ضيوفًا على منزل الحاج صادق. في هذه المرة، ولخلوّ المنزل من ساكنيه، استطعت رؤية تفاصيل المنزل بشكل أفضل.
عند دخولك المنزل يظهر أمامك ممرّ صغير، وإلى الجهة اليسرى يوجد حمّام إلى جانبه غرفة صغيرة (1.5x0.5) مخصّصة لتبديل الملابس، لكنّهم وضعوا فيها أسرّة.
وإلى الجهة اليمنى يوجد مطبخ ضيّق وطويل، ارتفعت الأزهار المتسلّقة على بابه وجداره. كذلك يوجد العديد من أنواع الأزهار المختلفة خلف نافذة المطبخ (المنور)، وملأت صور الأطفال الجميلة، وبوسترات عن الطبيعة الخلّابة واجهات خزائن المطبخ البيضاء، فكانت تجذب إليها الأفراد ليدخلوه ويتأملوها صورةً صورة.
في نهاية المطبخ يوجد باب حديدي قرب النافذة يطلّ على شرفة صغيرة، حيث كانت هذه الشرفة مكانًا مناسبًا لحفظ المخلّلات والبطاطا والبصل وغيرها من المأكولات. أعجبني ذوق السيّدة منصورة في تزيين المطبخ وترتيبه كثيرًا.
كان للمنزل غرفة جلوس وغرفة استقبال يفصل بينهما ستارة جميلة مطرّزة بالورود الصفراء الكبيرة. وأينما تضع قدمك في هذا البيت ترَ نافذة كبيرة قبالك تجذب الضوء وتنير المنزل، ووضعت زهريات عدّة للورود المتسلّقة في البهو وعلى أجهزة التدفئة؛ إذ كانت تتسلّق هذه الأغصان والأوراق التي تشبه القلوب في أشكالها على
121
109
رسالة العشق
الجدران وتصل إلى السقف. لقد زادت هذه الورود من جمال المنزل أضعافًا مضاعفة، وعند انتهاء الشقة، أيّ قبالة باب المدخل كان يوجد باب خشبي آخر يفتح على شرفة مسقوفة صغيرة، كان الحمّام هناك، مضافًا إلى غرفتَي نوم قبالة بعضهما البعض.
فتح علي باب غرفة النوم لجهة اليمين، وبدا أنّها غرفته المشتركة مع أخيه أمير. ملأت صور الشهداء وصور الإمام كافة جدران الغرفة، وعلّقت عصبة وقلادة بين الصور. في الغرفة أيضًا كان يوجد مكتبة.
جلس علي مستندًا إلى الحائط وأشار إليّ كي أجلس أنا أيضًا، عندما جلست ملأت رائحة عطره "Tea rose" مشامّي. نهض وذهب باتجاه المكتبة، وأخرج ألبوم صور من بين الكتب، أحضره وقال: "تعالي نشاهد الصور معًا".
راح يقلّب صفحات الألبوم بتأنٍّ؛ ووضع دوائر حمراء على بعض الوجوه، أشار بإصبعه إلى إحدى الصور وقال: "هذا صديقي الشهيد أمير حسين فضل اللهي[1]، لقد استشهد في جزيرة مجنون، وهذا الشهيد محمد علي جريان".
اختلطت رائحة عطره مع أنفاسه ورائحة جسده، غمرني شعور جيّد رغم حشرجات صوته، أحببت أن يتوقّف الزمن عند تلك اللحظة ونبقى معًا على تلك الحال قرب بعضنا البعض سنوات. شعرت أنّ أجواء ذاك المكان، رغم كلّ صور الشهداء تلك، تختلف عن كلّ الأماكن الأخرى. راح يتصفّح الألبوم، وفي كلّ صفحة كان إصبعه يتوقّف على صور عدّة، وعندما يهيج قلبه بحزن كبير كان ينهض ويخرج من
[1] الشهيد أمير حسين فضل اللهي: وُلد في همدان بتاريخ 1343-8-9/أيلول1964م واستشهد في جزيرة مجنون بتاريخ 1365-2-31/أيار 1986م. كان عضوًا في فريق الاستطلاع التابع لوحدة المعلومات لعمليات فرقة أنصار الحسين في محافظة همدان.
122
110
رسالة العشق
الغرفة متذرّعًا بإحضار الفاكهة أو الشاي.
كذلك دفعني أكثر من مرّة كي أنهض من مكاني بحجة إحضار شيء من صندوق الكتب. حدست أنّه كان يطلب منّي ذلك لخجله من النظر إليّ مباشرة. سألته: "سمعت أنّ عناصر فرقة الأنصار يحبونك كثيرًا، ويقولون إنك تصلح المجرمين، والذين صدر في حقّهم حكم الإعدام، حتّى يتحوّلوا إلى أشخاص آخرين، وترسلهم من السجون إلى الجبهات".
افترّ ثغره عن ابتسامة وقال: "ممّن سمعت ذلك؟"، أجبته: بكلّ ثقة واعتزاز: "حسنًا، سمعت ذلك".
ثم سألته بأدب واحترام كالصحفيّين: "أليس هؤلاء الأفراد خطرين؟ ألم تحدث لك مشكلة حتى الآن؟".
أجابني واثقًا: "كلّا على الإطلاق، أنا أقول دائمًا لعناصري.."، ثمّ تابع مبتسمًا: "وأقول لك أيضًا سيّدة زهراء؛ إذ إنّك أصبحت من عناصري أيضًا: الأخلاق هي سيّدة الكلام في المجتمع، إذا اهتممنا بالأخلاق بشكل جيّد، فإنّنا سنحصل على مجتمع نموذجي، وإذا صلحت أخلاق أفراد المجتمع سيصبح البلد مدينة فاضلة، علينا النفوذ إلى قلوب الناس كي يسير الوطن في المسار الإلهي. أنا أسعى لأن أكون مع عناصري على هذا النحو، والشيء الوحيد الذي يسعدني كثيرًا في الحياة هو أن أهدي إنسانًا كان قد سار في الطريق الخطأ، وأضعه على السكة الإلهية الأصلية. يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ الجبهة هي جامعة لصناعة الإنسان، وإذا كنّا من أتباع الإمام فعلينا العمل بوصاياه".
وبينما نحن كذلك، قُرع جرس الشقة. وقبل أن ينهض ليفتح الباب،
123
111
رسالة العشق
فتح علي الخزانة وتناول مسدّسه ثمّ أوثقه على خصره. حتّى ذلك اليوم لم أكن أدري أنّ لدى علي سلاحًا فرديًّا. بعد قليل عاد منقبضًا حزينًا، سألته قلقة: "ماذا حصل؟".
هزّ رأسه وقال: "منذ أيّام عدّة اختفت إحدى صوره من الألبوم، لقد أريتك إحدى صوره الآن: حسين شريفي[1] الذي أخبرتك أنّه جُرح، وأريتك صورته وهو يرقد في المستشفى، لقد استشهد وأحضروه إلى همدان، عليّ الذهاب". نهضت وأخذت صحون الفاكهة وصينية الشاي إلى المطبخ، وقمت بجلي الأقداح ريثما جهّز هو نفسه.
كان أصدقاؤه ينتظرونه عند الباب، أوصلني إلى البيت بتلك السيّارة المستعارة وغادر.
عندما رأتني أمّي سألتني بتعجب: "هل أنت ذاهبة أم أنّك أتيت للتوّ؟". أجبتها: "لقد أتيت للتوّ".
نظرت مستغربة وسألتني: "ماذا حصل؟ هل تشاجرتما لا سمح الله؟ لقد ذهبت منذ وقت قليل".
كنت أفكّر في مسدس علي، أخبرت أمّي بالموضوع، فهزّت رأسها قائلة: "إنّ الأوضاع غير جيّدة! فمن جهة توجد حرب، ومن جهة أخرى يوجد المنافقون والطابور الخامس الذين لا ينفكّون يزعجون الشباب، الحمد لله، إنّ شبابنا يتمتّعون بالحكمة، وعليهم أخذ الحيطة والحذر".
في صباح اليوم التالي، أخذت أمّي نفيسة معها إلى مشغل الخياطة، انتهزت الفرصة كي أدرس قليلًا، لكن، جاء علي لزيارتنا. جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، في هذه المرة حلّ دوري. أحضرت
[1] وُلد في همدان في 20 أردبيهشت 1345/ 1966م، والعجب كل العجب أنه استشهد في اليوم نفسه من العام 1365/ 1986م في الفاو في العراق. كان عضو فريق الاستطلاع في وحدة المعلومات لعمليات فرقة أنصار الحسين عليه السلام.
124
112
رسالة العشق
ألبوم صوري ورحنا نتفرّج عليه معًا. لم يطل كثيرًا، كان يريد الذهاب بسرعة.
في اليوم التالي؛ أيّ يوم الاثنين، انتظرته طويلًا لكنّه لم يأتِ. أحببت أن نرى بعضنا البعض كلّ يوم ما دام أنّه في همدان. كنت مشتاقة إليه، وكأنّني قد اعتدت على رؤيته. ذهبت مع أمّي إلى روضة الشهداء، ظننت أنّه قد يكون في تشييع جثمان الشهيد حسين شريفي فأراه في الروضة.
كانت الروضة مزدحمة جدًّا، مهما بحثت عنه بعينيّ لم أره. نظرت جيّدًا في الروضة، وحتّى في طريق العودة نظرت حولي في الشارع وترقّبت رؤيته.
يوم الثلاثاء كذلك كان يوم عطلة لي. وجدت فرصة للدرس من جديد، إلّا أنّ الباب طُرق وكان علي! مهما أصررت عليه كي يدخل، أبى. جاء ليودّعني متوجّهًا إلى الجبهة.
أحضرت كأسًا ممتلئةً بالماء ورميته خلفه، ثمّ وقفت عند الباب أنظر إليه. بعد وقت قليل التفت ونظر حوله، وعندما اطمأنّ إلى عدم وجود أحد في الزقاق رفع صوته قائلًا: "انتبهي لنفسك، سامحيني".
أجبته بصوت خافت، على نحو كنت أسمع نفسي فقط: "لا سمح الله، لا تنسانا من الشفاعة".
لوّح لي بيده فوضعت يدي داخل عباءتي البيضاء ولوّحت له بيدي أيضًا، وانتظرت حتى عبر من الزقاق إلى الشارع.
ومع ذهابه إلى الجبهة شرعت في وضع العلامات على تقويمي مجدّدًا. كان كلّما انتهى نهار وضعت علامة عليه بالآه والحسرة وكتبت: مضى يومان.. عشرة أيّام.. اثنا عشر يومًا..
125
113
رسالة العشق
مضى على ذهاب علي إلى الجبهة 13 يومًا. كان اليوم السابع من خرداد، كنت أرتدي ملابسي لأذهب إلى المدرسة، وإذ بالباب يطرق عند الساعة الثامنة إلّا ربعًا. اعتدت دائمًا انتظار قرع جرس المنزل، وأسرعت كالبرق لفتح الباب، كان علي يقف عند الباب معفّرًا بالتراب بحال يُرثى لها من التعب. عندما رأيته فرحت كثيرًا وكأنّ الدنيا كلها قد أُعطيت لي. دعوته للدخول، وكذلك هرعت أمّي ناحية الباب وأمسكت بيده بسرور وسحبته إلى الداخل كأنّه أحد أولادها.
سألته أمّي: متى وصلتم؟
- الآن. لقد استشهد أحد عناصري، وغدًا سأعود إلى الجبهة.
كان ذلك اليوم يوم عيد ميلادي. كانت أمّي تحفظ كلّ تواريخ ميلادنا. بعد ذهاب علي قالت أمّي: "أريد أن أحتفل بعيد ميلادك".
- لا يا أمّاه، ألم تسمعي أنّ صديق علي قد استشهد.
رغم أنّ أمّي قد خطّطت الكثير لعيد ميلادي وأرادت أن تدعو ضيوفًا آخرين مضافًا إلى عائلة علي، إلّا أنّها غيّرت خطّتها، وقامت في عصر ذلك اليوم بالتبريك لي وشراء هدية سلمتني إياها قائلة: "إن شاء الله تنتهي الحرب عما قريب، لا مشكلة، إنّ هذه الأيّام تمضي أيضًا، وإن شاء الله نحتفل بعيد ميلادك وعيد ميلاد ولدك العام القادم في منزلك".
في تلك اللّيلة استضفنا علي وعائلته، اللّيلة التي زلقت فيها قدم علي في النادي الرياضي خلال لعبة الكونغفو وأصيبت برضوض، وكانت أوداجه تنتفخ من شدّة الألم، لكنّه لم يكن يتفوّه بشيء.
لم ألتفت إلى رضوض قدمه إلّا في آخر اللّيل. أصررت عليه كثيرًا كي نذهب إلى المستشفى، لكنّه لم يقبل وردّ قائلًا: "المسألة بسيطة،
126
114
رسالة العشق
سأتحسّن". في النهاية قلت له: "كم أنت قوي الإرادة! كيف تستطيع تحمّل ذلك؟ لو أنّني مكانك لما تحمّلت هذا الألم مطلقًا".
قال ضاحكًا: "أنت أيضًا عليك أن تتدرّبي على ذلك، أحبّ أن تكون زوجتي صابرة قوية".
أذكر أيضًا أنّ السيّدة منصورة في تلك اللّيلة آلمتها كُليتاها، وأخذها الحاج صادق بعد العشاء إلى المستشفى. ذهبت أنا وعلي إلى غرفتي وسألته: "ماذا حصل؟ أنت لست على ما يرام". فأجابني: "لقد زلقت قدمي عصرًا في النادي".
رفعت طرف بنطاله بالقوة فخجل وأرجع قدمه إلى الخلف، نزعت جوربه فبدت شديدة البياض، أمّا كاحله فكان متورّمًا قاتم اللون بسبب الورم.
هالني ذلك وقلت: هيا انهض لنذهب إلى المستشفى". فضحك وقال: "لا تجزعي، المسألة بسيطة سأتحسّن". أردت أن أنادي أمّي، لكنّه رفض وقال: كلّا، كلّا.
لبس جوربه بسرعة، ومهما فعلت لم أستطع التغلّب عليه. جاء صديقه آخر اللّيل في إثره وذهبا إلى الحرس، وهناك دلّك الإخوة قدمه بالماء الساخن والملح، وأعادوا العظم إلى مكانه.
جاء علي نهار الخميس باكرًا. وقف أمام باب بيتنا. مهما حاولت كي يدخل لم يقبل. كان يريد الذهاب إلى الجبهة. كانت المرة الأولى التي أبكي فيها أمامه، فأمسك يدي وقال: "أهكذا تنسين بسرعة ما اتفقنا عليه؟ ألم أقل لك عشية البارحة أن تكوني قويّة وصبورة؟ قد لا أعود هذه المرة، ولا أرغب في أن تظهري ضعفًا أمام الملأ، أرغب في أن تكوني كالسيّدة زينب صابرة وصلبة". ومع كلّ كلامه هذا لم أستطع
127
115
رسالة العشق
أن أمنع نفسي عن البكاء.
كنت أعلم أنّه لا يُظهر مشاعره بسهولة، فطوال هذه المدة لم يظهر عواطفه مطلًقا، ولم يشكُ من شوقه وحنينه، بينما في المقابل كنت أنا حسّاسة وعاطفيّة كثيرًا، وودّعته وأنا أجهش بالبكاء. أغلقت الباب وأسندت رأسي إليه، ولم أستطع التوقّف عن ذرف الدموع. خلْتُ أنّه سيرجع بعد قليل ليهدّئني. مرّت دقائق من دون أن يصدر أيّ صوت من ناحية الشارع. بعدها فتحت الباب بهدوء ونظرت ناحية الزقاق فلم أجد أحدًا هناك على الإطلاق. لم أصدّق أنّ قلبه سيطاوعه على أن يتركني وأنا على هذه الحال.
عندما وصلت إلى البهو لم أتمالك نفسي وانفجرت بالبكاء. لقد قال لي إنّه ينبغي أن أكون صبورة وقوية. لقد اخترت ذلك بنفسي وعزمت على أن أكون شريكةً في الحرب ومتاعبها. لقد قبلت بنفسي أن أكون زوجة حارس ثوري، لمعرفتي أنّ الحرس الثوري هم أشخاص مقاومون ذوو أخلاق حسنة.
قلت في نفسي: حسنًا موافقة، سأتحمّل وسأصبر، لكن، يا رب، احرسه لي، فأنا أقبل إصابته وجراحه، لكن، لا طاقة لي على أسره وشهادته. إلهي احفظه من كلّ مكروه.
128
116
شهر العسل الثاني
شهر العسل الثاني
انتهت امتحانات حزيران 1986(خرداد1365). دأب والدي على الذهاب باكرًا إلى عمله؛ أمّا أمّي مضافًا إلى ذهابها إلى مشغل الخياطة؛ انهمكت في مشاركة النسوة ومساعدتهنّ في أعمال دعم الجبهة التي كنّ يقمن بها من تلقاء أنفسهنّ.
في بعض الأحيان كانت تأخذ معها نفيسة، حتّى إنّها لم تكن تأتي إلى البيت من أجل الغداء، فتُقسّم أعمال المنزل بيني وبين رؤيا. نهار الثلاثاء في 10 حزيران, قُرِع جرس منزلنا. تجلببت بعباءتي وطويت 10 خطوات أو 15 خطوة بخطوتين أو ثلاث كي أصل إلى باب الفناء الخارجي. فتحت الباب فإذا به علي! تعجبت لدى رؤيته. كانت يده مضمّدة ومعلّقة برقبته. بعد سلام عجول وسؤال سريع عن الأحوال، سألت بقلق: "ماذا حدث؟!".
أجابني بهدوء: "لا شيء؛ بضع شظايا صغيرة".
دعوته إلى الدخول. بدا متعبًا قد عبثت فيه الفوضى. رأسه حليق من المنبت، شفتاه متشققتان لا لون لهما، لحيته مرخاة، وحذاؤه العسكري ملطخ بالتراب.
قلت ضاحكةً: "أعُدتَ من الحرب؟".
129
117
شهر العسل الثاني
تبسّم وأجاب: "عمليّات جزيرة مجنون[1]".
أصررت عليه: "تفضّل وادخل".
- لا، فأنا متعب جدًّا، أحببت أن أراكِ أولًا، أليست السيّدة وجيهة موجودة في المنزل؟".
لم تكن أمّي في البيت، فسألته متعجبة: "ولأيّ شيء تسأل عنها؟ لا، إنّها في المشغل".
أجاب: "ينظّم الحرس برنامجًا ترفيهيًّا وعباديًّا للعناصر المتعبين إلى مشهد، وتقرّر أن تذهب معهم عوائلهم".
مسح بيده على لحيته الطويلة وقال: "أريد أن آخذكِ معي. برأيك هل تجيز ذلك السيّدة وجيهة؟".
لم أجب بشيء.
- سأذهب وآخذ قسطًا من الراحة، وسأعود عصرًا وآخذ الإذن لكِ".
لم يعترض والداي ووافقا على ذهابي. انطلقنا يوم الخميس في 12 حزيران 1986 من أمام مركز الحرس. انقسمنا في حافلتين، حافلة للمتزوجين وأخرى للعازبين. أجلسني علي في الصف الثاني أو الثالث، وبقي المقعد الذي بجانبي خاليًا. وضع معطفه وذهب إلى حافلة غير المتزوجين.
[1] جزر مجنون: جزر صناعية تم إحداثها داخل منطقة هور الهويزة، تقع هذه الجزر شمال طلائيه وجنوب مضيق تشزابه. قبل الحرب اكتشفت شركات النفط البريطانية هذه المنطقة الوافرة بالنفط. وقد أنشأت هذه الشركات الجزر للوصول بسهولة إلى هذه المنطقة وحفر آبار النفط مع مد طرق بعرض 4 إلى 6 أمتار داخل الهور. استولى جنود الإسلام على هذه الجزر في عمليات خيبر. يراجع: ده مترى جشمان كمين، ذكريات القائد جعفر مظاهرى،1388 (2009م).
130
118
شهر العسل الثاني
كان المتزوجون لا يزالون شبانًا في مقتبل العمر؛ إمّا مثلنا قد عقدوا قرانهم فقط، أو قد تزوّجوا حديثًا، ونادرًا ما رافقتنا عائلات لديها أكثر من ولدين.
انطلقت الحافلات، وبعد مضي ساعات عدّة توقّفنا للاستراحة. جاء علي إلى حافلتنا، لكنّه لم يجلس قربي، بل ذهب إلى آخر الحافلة. في البداية ظننت أنّه سيشاغب هناك بعض الشيء ويعود سريعًا. ولكنّه لم يأت مهما انتظرت. نظرت إلى الخلف فوجدت أنّ أغلب الأزواج يجلسون قرب بعضهم البعض يتجاذبون أطراف الحديث، أو يأكلون الفاكهة معًا.
أما علي وعدد من الأشخاص فاجتمعوا في آخر الحافلة وراحوا يتحدّثون ويضحكون. أشرت إليه ليأتي ويجلس في الأمام. لم يأتِ إلّا بعد مضي وقت ليس بوجيز. نقلتُ معطفه من المقعد بجانبي ووضعته على ركبتي وقلت له: تفضّل بالجلوس! أين أنت؟ لقد عيل صبري. جلس قربي، لكنّه تململ ورغب في القيام.
- وهل يُطبّق قانون همدان هنا أيضًا؟!
نظر إليّ مستغربًا، فتابعت موضّحة قصدي:
- أن لا نتحدّث معًا في الشارع مراعاة لأسر الشهداء.
ضحك وهزّ برأسه مجيبًا:
- نعم قد يُطبّق هنا أيضًا؛ فأنا أخجل من عناصري، وأخاف أن يظنوا أنّي قد تغيّرت بعد عقد قراني.
أجبته مخالفةً رأيه:
- وهل تعلم ما تكنّه صدورهم. قد لا يظنّون على هذا النحو.
- إنّه مجرد احتمال. قد يقولون إن علي عقد قرانه، وطار من بيننا
131
119
شهر العسل الثاني
وبقينا وحدَنا.
جميعهم يجلسون بجانب زوجاتهم؛ فهل تناولهم أحد بشيء؟
أجابني بتململ: "لكلٍّ أخلاقه؛ وأنا لست هكذا".
لم أردف شيئًا. لقد أصبحت لدي معرفة تامة بأخلاقيّاته. رغم هذا جلس مدة نصف ساعة قربي ثمّ نهض.
بعد قليل، صدح في الحافلة صوت ينشد شعرًا. كان أحد عناصر علي ينشد أشعارًا مسلّية بصوته العذب. والأشعار التي كان ينشدها بالعامية الهمدانية جعلت الحاضرين ينفجرون ضحكًا:
لدي حبيب كالبدر الكامل
لدي حبيب كالبدر الكامل
في كلّ ليلة يجلس على حافة النهر الجاري بجانب الشارع
له عينان له عينان تشبهان عينَي الغزال
له شفتان له شفتان ما أشبههما بورق الخس
بيدك كأس وتودّ الذهاب لتشتري اللبن
فلتكسر كأسك ويراق لبنها إذا لم تتزوجني
إن شئت تزوجني وإن لم تشأ فإلى الجحيم
سأكيل أمرك إلى زقاق "البساتين السبعة".
راحت رفيقات السفر يضحكن ويقدّمن لي من الفاكهة والأطعمة التي كنّ يتناولنها.
حلّ الظهر ومضى بعض الوقت. توقّفت الحافلة أمام مطعم خلال الطريق، فاصطفّت النسوة اللاتي لديهن أطفال أمام باب دورة المياه؛ ضجر ولد أو اثنان منهم، فذهبت إلى إحدى السيدات لأساعدها في
132
120
شهر العسل الثاني
أمورها، أردت أن أُدخل أحد هذين الولدين إلى دورة المياه متخطّية الصف. في تلك اللحظة نفسها، وصل رجل غريب وتخطى صف النساء ودخل المرحاض. احتجّت النسوة وعلت أصواتهّن، ولا أدري من أبلغ الرجال بهذا الأمر. رأيت علي يأتي راكضًا ومعه بعض الأشخاص. بدا غاضبًا عن بعد. عندما وصل إلينا أمرنا بالذهاب باتجاه الحافلة بينما دخل هو إلى دورة المياه.
وبركلة من قدمه فتح باب المرحاض؛ بعد قليل رأيته يمسك ياقة الرجل بيده السليمة ويسحبه خارجًا. كنت أسمع صوته معنّفًا إيّاه: "لا تظننّ أنّنا نحن جماعة الحرس بلا شهامة!". راح الرجل ينظر حوله مدهوشًا، ممسكًا بحزام بنطاله. علا صوت علي:
- في الجبهة نحن نحمل السلاح وندافع عن شرفك وعرضك، وأنت تندسّ بين أعراضنا جهارًا وتدخل مرحاض النساء؟!
لم أنتبه بماذا أجاب الرجل وماذا فعل، لكن عندما أتى علي كان غاضبًا، وأمر سائقي الحافلتين بالانطلاق.
بدا الانزعاج على الجميع، فعمّ الصمت وساد السكوت في الحافلة. حتّى أفراد جوقة السيّد رفيعي، التي كانت تنشد الأشعار المضحكة والمرثيات الهمدانية وتثير الشغب، جلسوا صامتين.
انطلقت الحافلة، ومجدّدًا بدأت قطع المسافات بنَهَم. كان علي قد نسّق مع إمام جمعة مدينة "رامسر" في وقت سابق لحجز فندق لنا هناك.
كان في الفندق قاعتان كبيرتان جميلتان مزينتين بالمرايا. جلست النسوة في قاعة وجلس الرجال في القاعة الكبرى، وجُعلت الأغطية والوسادات النظيفة والجديدة من نصيبنا. مهما بحثت عن علي لم
133
121
شهر العسل الثاني
أجده. كان يتابع موضوع العشاء والتجهيزات للعوائل.
جلست في الفندق بمعية إحدى السيدات؛ وبعد ذلك قصدنا البحر بشكل جماعي. كان الجو لطيفًا على الشاطىء، فصوت الأمواج والماء المرتطم بالشاطئ، وظلمة اللّيل والبحر المترامي الأطراف من دون حواجز، كلّ هذا يمدّ الإنسان بهدوء عجيب.
كذلك رائحة البحر، وتغريد طيوره من وقت لآخر، والأصوات العذبة التي تسرح بالخيال، وتشنّف الآذان، كانت تشعرني بالسعادة. كنّا في عالم أفكارنا وخيالاتنا عندما جاء علي. وبمجيئه ودّعتنا السيّدة وتركتنا وحدنا. سألني علي:
- هل تمضين وقتًا طيبًا؟
- إنّكَ دائمًا تركض إلى هنا وإلى هناك، فماذا أفعل؟ ليس لدّي مَن أحادثه. أبحثُ عن مكان هادئ.
حدّق علي في البحر وقال: "الحياة تمامًا كهذا البحر، إذا بقي ماء البحر ساكنًا فسيتعفّن، علينا أن نكون كالبحر في حركة دائمة، وهذه الحركة الدؤوب محفوفة بالمصاعب. إن عظمة البحر وجماله هما بسبب حركته هذه، إذا حصرنا الماء في مكان واحد فسيتعفّن. أحبّ أن أكون كهذا البحر، أحبّ أن أكون في حراك دائم، أحبّ تحدّي الصعاب وتحمّل المتاعب، أحبّ أن أصل إلى المحيط، وسأسعى جهدي لأصل إليه، وأنتِ أيضًا هكذا، صحيح؟".
جعلني كلامه أغرق في التفكير، ترى ما هو المحيط الذي يرغب في الوصول إليه، وأين هو؟
أجبته وأنا شاردة الذهن: "نعم".
في صباح اليوم التالي، كلّف علي الجميع بنقل "الطراريح" وأغراض
134
122
شهر العسل الثاني
الفطور إلى خلف الفندق، إلى حيث تحدّثنا ليلة أمس معًا عن المحيط. بعد تناول الفطور غطس الرجال بملابسهم في الماء، لكنّ علي لم يفعل بسبب الجبيرة التي في يده، فوقف جانبًا، وراح ينظر إلى البحر الممتد الفسيح.
وقفنا على الشاطئ بعيدين عن بعضنا البعض. وشرع الإخوة في المشاكسات، فحمل السيّد حسين رفيعي[1] وعدد من الأفراد السيّد مهربان[2] الذي كانت قدمه في الجبيرة حتّى أعلى ركبته، ويمشي متوكئًا على عصا تحت إبطه. صار كأرجوحة بين أيديهم، مهما نادى واستنجد لم يتقدّم إليه أحد لينقذه من أيديهم.
في النهاية، قذفوه في الهواء ورموا به وسط المياه بكلّ قساوة. حاول هذا المسكين أن يخرج من الماء بقدم واحدة، لكنّه لم يفلح. أشفق عليه بعض الناس، فأخرجوه وأجلسوه في زاوية كي يجفّ عنه الماء.
ثمّ جاء دور رئيس المشاغبين السيّد حسين رفيعي، فهاجمه بعض الأشخاص، وشدّوا يده وقدمه وأنزلوا به البلاء ذاته الذي أنزلوه بالسيّد مهربان، مع فارق أنّ السيّد رفيعي لم يكن مصابًا واستطاع الخروج بنفسه من الماء. وسط هذه المعمعة، خرجت بطاقاته الخاصّة ونقوده من جيبه وطفت على الماء، سعى السيّد رفيعي جاهدًا في الماء باحثًا عن وثائقه ونقوده.
أراد بعض الأشخاص الذهاب لمساعدته فقال لهم علي: "لا تساعدوه"، قلت له: "علي! إنّه مسكين!". تبسّم علي وقال: "الحق عليه،
[1] حسين رفيعي: أحد أفراد قسم المعلومات في الفرقة. وهو جريح الدفاع المقدّس. وشاعت مشاغباته بين مجاهدي قسم المعلومات. ويشتمل كتاب "كن فقط خادم الحسين" بقلم حميد حسام على مذكرات حياته وجهاده.
[2] السيّد مهربان: محمد إبراهيم مهربان, ولد في همدان في (تموز1961). التحق في بركب الشهداء في عمليات (كربلاء5).
135
123
شهر العسل الثاني
دعوه يتأدّب، وعليه أن يلاقي شرّ أعماله".
سقطت وثائق وحقيبة نقود السيّد حسين بين الأمواج، وراحت تتماوج قطعه النقدية، صرخ السيّد حسين: "النجدة، النجدة! يا من لا دين لكم، هذه نقود سفركم وليست نقودي!".
إلّا أنّ أحدًا لم يتقدّم لمساعدته، بل اشتركوا جميعًا في الضحك والإنشاد:
- تأتيني مترفعة تقولين وردتي وتضحكين
- وعندما ترينني تعبسين وعليّ تتهجّمين...
- لا تغترّي ولا تتكبّري فلا ينفع تكبّر المتكبّرين
- أنا أعطيتك المال كي على العربة[1] تركبين
- فلا تغترّي ولا تتكبّري فزوجك سائق العربة
- يُحكم الوثاق حول رقبة الحصان ويضربه بالعصا ليجدّ في المسير.
كان السيّد حسين من أنشد هذه الأبيات داخل الحافلة، والآن راح الجميع يردّدونها له بشكل جماعي ويضحكون عليه.
أخيرًا، خرج السيّد حسين من الماء بشقّ الأنفس، وهذه المرة لحق بعلي للانتقام منه، وجمع معه لذلك أشخاصًا عدّة. كان علي يرتدي ثيابًا نظيفة وأنيقة، فما كان منهم إلّا أن أخذوا برأسه وغطسوه هناك عند الشاطئ.
هالني المشهد فتقدّمت وقلت لهم: "اتركوه فيده مجروحة، قد يلتهب جرحه".
[1] العربة التي تجرها الحصان.
136
124
شهر العسل الثاني
لكنّ عناصره لم يدعوه وشأنه، فغطّسوا رأسه مرّات عدّة في الماء، ومن ثمّ أخرجوه.
جاءني علي مبتسمًا والماء يقطر من لباسه وضمادة يده. سألته قلقة: "علي، لمَ لمْ تقل لهم شيئًا! فالماء مضرّ بجرحك!".
ضحك قائلًا: "دعيهم يفرحون، فقد أتوا إلى هنا ليروّحوا عن أنفسهم، إنّه ترويح عن النفس، لا مشكلة في ذلك". ثمّ ذهب وبدّل ملابسه ورمى بضمادة يده بعيدًا.
وسط هذه الأجواء، وجد الإخوة موضوعًا للتداول فيما بينهم وهو "أنا وعلي". لاحظ الجميع أنّ علي لا يدنو كثيرًا إلى حيث أنا. فجعلوا ذلك موضوعهم للتداول، وأصرّوا على أخذ صورة ثنائية لنا بأيّ شكل من الأشكال.
ومع إصرارهم وقفنا أنا وعلي بجانب بعضنا البعض ليلتقطوا لنا صورة ثنائية، ولكن اهتزّت يد المصور فبدت الصورة قاتمة وملامح وجهينا مبهمة وغير واضحة، وكأنّ الصورة التقطت وسط الغيوم.
وصلنا أخيرًا مدينة مشهد. وهناك خُصصت غرف للمتزوجين، لكن بقيت في الغرفة وحدي في أغلب الأوقات، لانشغالات علي الكثيرة.
قررت في أحد الأيّام سوقه إلى الغرفة سوقًا، اتخذت من مبرِّد[1] الغرفة ذريعة، فناديت أحد عناصر علي الذي كان منهمكًا في العمل في القاعة، وقلت له: "أخبروا علي أنّ المبرِّد في الغرفة معطّلٌ فليأتِ لإصلاحه". قال الأخ متعجبًا: "لماذا معطّل؟". واستأذن كي يدخل إلى الغرفة ويفحص المبرّد بنفسه. ثمّ قال: "سيّدة تشيت سازيان، لا يشكو هذا المبرّد من أيّ شيء".
[1] ويطلق عليه cooler.
137
125
شهر العسل الثاني
خجلت وتلعثمت في الكلام: "أقصد أنّ صوته عالٍ".
أجابني الرجل الذي بدا مؤدبًا كثيرًا وهو مطأطئ الرأس: "أختاه، إن جميع المبرّدات تصدر هذا الصوت فالمبرّد في غرفتنا هكذا أيضًا".
وبكلامه هذا يئست من مجيء علي.
بعد وقت قليل، علمت أنّ علي على تواصل مع الإخوة في الجبهة، وأخبروه أنّ جزيرة مجنون حيث نُفذّت العمليات هوجمت مجدّدًا، واستشهد قائد كتيبة علي الأكبر الحاج رضا شكري بور[1]؛ ولهذا السبب، قويت نغمة عودتنا إلى همدان، حتّى إنّهم قالوا إنّ الرجال سينتقلون إلى الجبهة عبر الطائرات، والنساء سيعدن إلى همدان بالحافلة، وعلمنا كذلك وسط هذه المعمعة أنّ أحد عناصر المعلومات ويدعى "علي تابش"[2] استشهد منذ أسابيع عدّة.
اضطربت أحوال العناصر لدى سماعهم هذه الأخبار، وصارت مسألة عودتنا إلى همدان حتمية.
قلت لعلي: "فلنذهب اليوم معًا إلى السوق".
سألني متعجبًا: "السوق؟ ولأيّ شيء؟".
أجبته: "علينا شراء الهدايا".
وضع يده في جيبه وأخرج منها 6000 تومان وناولني إياها قائلًا: "تفضّلي، خذي هذه واشتري ما يحلو لك. اذهبي مع إحدى السيدات، فأنا لا أحبّ التجوال في الأسواق".
[1] رضا شكري بور: ولد في همدان (اسفند مه 1335) واستشهد في جزر مجنون في 28 خرداد 1365؛ كان الحاج رضا قائد كتيبة 154علي الاكبر عليه السلام في فرقة أنصار الحسين عليه السلام. استشهدت أخته فاطمة أيضًا في 1361/4/25 أثناء القصف الجوي المعادي لمدينة همدان.
[2] علي رضا وليان تابش ولد في همدان في الرابع من آبان 1340؛ واستشهد في جزر مجنون أثناء عمله في وحدة الاستطلاع والمعلومات. كان من رفاق علي المقربين.
138
126
شهر العسل الثاني
في ذلك الوقت كان مبلغ 6000 تومان مبلغًا كبيرًا، لم أُبدِ اعتراضًا وسألته: "ألا تريد شيئًا لك؟".
- لا، اشتري لنفسك.
- لقد اهترأت قمصانك، سأشتري لك قميصًا، أيّ لون ترغب؟
لم يرضخ لمسألة شراء القميص، بدا واضحًا أنّه لا يرغب في أمور كهذه، وفقط كي يجيبني قال: "أرغب في اللون الكاكي".
ذهبت برفقة إحدى السيدات إلى "بازار رضا". اشتريت لي ثوب صلاة زهري اللون، وكنزتين أنيقتين لأمّي وللسيّدة منصورة، وثيابًا لإخوة علي، ومريم التي تزوّجت حديثًا وانتقلت إلى طهران، وسجادتي صلاة جميلتين، لوالدي وللسيّد ناصر، وقميصًا بنيّ اللون، وبنطالا ذا 8 جيوب؛ وزعفرانًا، وحبوب رمان مجففة، وبومبونًا من المبلغ المتبقيّ.
عدت إلى الفندق وأريته الأشياء التي اشتريتها. نظر إلى الأغراض مستمتعًا وقال: "بارك الله فيكِ يا عزيزتي، كم أنّ بالك طويل لتقومي بشراء هدايا للجميع، وكم أنّ ذوقك جميل!".
كان الإخوة منزعجين بسبب الأحداث التي جرت في جزيرة مجنون، وخصوصًا أنّ العدو قد هجم على ضلعها الغربي؛ أيّ على الموقع نفسه الذي تتموضع فيه قوات محافظة همدان؛ ولهذا السبب، حزمنا حقائبنا وركبنا الحافلات.
خلال مسير مشهد - همدان استرحنا في أحد المطاعم، فجأة صرخ أحد عناصر علي: "علي!". نهضت من خلف طاولة الطعام وركضت إلى الخارج. ركض بعض الرجال أمامي. رأيت علي في ساحة خضراء تشبه الحديقة العامة، كان في الهواء تمامًا كالأفلام البروسلية، قد طوى إحدى قدميه وبالقدم الأخرى يركل بشدة فتىً يافعًا يرتدي كنزة
139
127
شهر العسل الثاني
حمراء، ثمّ ركل بالقدم الأخرى وجه رجل طويل القامة عريض المنكبين كان برفقة الفتى، وقد فكّ يده المربوطة من رقبته وراح يجري بيديه حركات قتالية وتكتيكية، حاول الرجلان أن يدافعا عن نفسيهما، لكنّ علي كان رياضيًّا أكثر منهما. أسرع عناصره وأخذوه وأنهَوا المعركة. كنت أعلم أنّه لا ينبغي لي التقدّم إلى الأمام في ظروف كهذه.
فجأةً وصل عناصر آخرون أيضًا وأدخلوا علي إلى المطعم. أحضر له أحدهم ماءً، وآخر طلب الشاي. فهمت من حديثهم أنّ أحد الرجلين قد عاكس زوجة أحد الإخوة، وقد سمعه علي الذي كان يجلس خلفهما عن طريق الصدفة. كان علي شديد الحساسية تجاه أمور كهذه؛ إذ بقي وجهه وحتّى جلد رأسه الحليق محمرّين من الغضب قرابة النصف ساعة بعد انتهاء الحادثة.
كان يتحرّق ألمًا لقيام هذا الشخص بمعاكسة امرأة متجلببة بعباءتها، وتحمل طفلها بين يديها، خاصّة أنّهما تشاجرا مع علي، وتعاركا معه بالأيدي بعد اعتراضه على فعلتهما.
جلست في إحدى زوايا المطعم، بعد وقت قليل شاهدت الرجلين يدخلان ويتقدّمان باتجاه علي. خشيت من المشاجرة ثانية، لكنّهما كانا خجلين، وجاءا لتقديم الاعتذار. توسلا إليه قائلين: "سامحنا! لم نعلم أنّك من المجاهدين، ولو كنّا نعلم لما أسأنا التصرف".
وصلنا إلى همدان ليلة الأحد 22 حزيران 1986 الساعة السابعة مساءً.
أوصلني علي إلى البيت، وجلس معنا قليلًا. ولأنّ أبي لم يكن موجودًا في المنزل قرّر أن يعود ثانية عند الصباح. لكنّه لم يحضر صباحًا، بل أتى مساءً برفقة خالي محمود.
جلسا مدة ساعة، وتحدّثا مطولًا مع والدي، تحدّثا عن 16 شهيدًا
140
128
شهر العسل الثاني
جيء بهم، وأحد الشهداء كان الشهيد شكري بور. في ظهيرة اليوم التالي، الثلاثاء 24 حزيران، توجّه علي وخالي محمود عند الساعة 12 إلى الجبهة، وقبل الذهاب إلى الجبهة جاءا إلى منزلنا لتوديعنا.
سألته: "متى ستعود؟".
- غير معلوم، ادعي الله كي أعود من أجل العرس.
كنا في فصل الصيف، وانشغلت أمّي بالمساعدة في أمور الجبهات من جهة، ومن جهة أخرى انهمكت في تحضير جهاز العرس.
مضى على ذهاب علي 24 يومًا. كانت ليلة جمعة حين أتى أمير والحاج صادق إلى منزلنا، وأحضرا لي رسالة من علي. تسلّمت الرسالة، وبعد ذهابهما أسرعت إلى غرفتي، فضضت الظرف وشرعت في القراءة:
"باسمه تعالى
باسم أصحاب إمام الزمان عجل الله فرجه الشريف الأوفياء والمخلصين
السلام عليكم
أتمنى أن تكونوا بخير، وأن تكونوا شاكرين لأنعم الله التي لا تحصى، وأيضًا نشكره ونخرّ له ساجدين أنْ منّ علينا بهذا القائد العزيز شيخ جماران[1]، وقرّ قدميه الراسختين على عيوننا المظلمة حتّى استطعنا من خلال هذا النور أن نميز بين الحق والباطل، وأن نختار طريقة عيشنا وحياتنا؛ وأن نبقى في مواجهة الباطل حتّى آخر قطرات دمائنا.
أوصلي سلامي الحارّ إلى والدك ووالدتك وأختَيك، وأدعو الله أن تكوني وعائلتك الفاضلة دائمًا موفقين في درب الله، وفي هذا الخصوص اجهدوا في الدعاء كي أعمل بشكل أفضل في سبيل الله،
[1] الإمام الخميني.
141
129
شهر العسل الثاني
فعسى أن يتقبّل الله منا.
فيما يتعلق بالعرس، أبلغوا العائلة أن يستعدّوا لذلك إن شاء الله في عيد الأضحى الواقع بتاريخ السادس عشر من أيلول 1986. وسآتي قبل ذلك بأيّام إذا لم يحصل مكروه. ليس لديّ مطلب آخر، وأستودعك الله".
بعد قراءتي الرسالة تنفّست الصعداء وارتاح بالي؛ فأمّي كانت قد أبلغت المدعوّين ودعتهم إلى العرس.
جاء علي إلى همدان في ليلة 11 آب. وتقرّر أن يأتي مع عائلته إلى منزلنا من أجل وضع برنامج للعرس. وكعادتها أعدّت أمّي عشاءً لذيذًا، حيث ملأت فضاء المنزل رائحة الأرز والزعفران والقيمة، وقمت عصرًا بشطف الفناء، أمَطتُ ستائر غرفة الاستقبال جانبًا وفتحت النوافذ، بدا كلّ شيء مرتبًا ونظيفًا. أعدّت لي أمّي جهاز عرس كاملاً، حيث وضّبت قسمًا منه في علب وصناديق كرتونية صغيرة وكبيرة ووضعته في الإيوان، كذلك رتّبت نصفه في مخزن صغير في زاوية الفناء.
أما نفيسة ورؤيا فكانتا تعدّان اللحظات عدًّا لحلول يوم العرس، كان تردّد الأقارب إلى بيتنا يكثر يومًا بعد يوم؛ جدّتي، بنات خالاتي، زوجات أخوالي ،كنّ يأتين كلّ يوم لزيارتنا ومساعدة أمي.
حلّ اللّيل، أضأنا مصابيح الفناء، وصرت أرشّ الماء داخل الفناء كلّ دقائق عدّة لتبريده، في النهاية غسلت الجدران أيضًا.
نظرت إلى الفناء والشجيرات الصغيرة الخضراء وحديقتنا المليئة بالزهور كيف أنّها أصبحت أكثر انتعاشًا وابتهاجًا تحت أضواء المصابيح والماء المرشوش عليها. فكّرت أنّه إذا نصبنا خيمة في الفناء وعلّقنا حبالًا من أضواء الزينة بين الشجرات فسيكون حفلنا رائعًا.
142
130
شهر العسل الثاني
كنت أتخيّل نفسي مرتدية الطرحة وثوب العرس، وعلي يقف بجانبي، بينما يمطرنا المدعوون بالزهور والنقود المعدنية وحبات الملبس، وفكّرت في إعداد مكان للعروس والعريس.
قُرع الباب، ودخل علي وعائلته إلى الفناء. أحسست منذ لحظة دخولهم أنّهم لا يحملون معهم خبرًا جيّدًا. لم تكن السيّدة منصورة والسيّد ناصر وعلي مسرورين كعادتهم، بينما راحت أمّي تتحدّث بإسهاب وتفصيل عن كلّ الأعمال التي أتممناها، فحدّثتهم مثلًا عن المدعوّين، وعن الحلوى التي وصّينا عليها، وعن فرش الفناء بالسجاد..، كانت السيّدة منصورة تعضّ على شفتيها وتعبث بالورود المطرّزة على عباءتها.
أشار السيّد ناصر إليها كي تقول ما ينبغي قوله. معمعت السيّدة منصورة في كلامها وقالت: "في الحقيقة لقد توفي أحد أقاربنا، ونحن لن نقيم حفلًا". فجأة تعجبنا جميعنا، وامتقع لون وجه أمّي. سألتْها بانكسار خاطر: "أتقصدين أن نؤجّل العرس؟!".
بدت السيّدة منصورة وكأنّها تعتصر ألمًا على أمّي، التفتت إلى السيّد ناصر وإلى علي ثمّ قالت: "لا، نحن لا دخل لنا، فأنتم أحرار، أنجزوا عملكم فقد تعبتم ودعوتم الضيوف وقمتم بالترتيبات اللازمة. أقيموا حفلًا لأنفسكم، ونحن سنأتي لأخذ العروس من دون جلبة".
نظر أبي وأمّي أحدهما إلى الآخر بتعجّب، وراحا يستفسران عن رأي كلّ منهما بإشارات الحواجب وحركات العيون. قالت أمّي: "لقد دعونا الكثير من الضيوف".
أما أنا فسررت برؤية علي كثيرًا، حتّى إنّني لم أشعر بالاستياء من هذا الحادث الطارئ.
143
131
شهر العسل الثاني
أصرّ علي علينا كي لا نفسد مراسم الحفل. في النهاية وافقنا على ذلك. منذ ذلك اليوم عجّلت أمّي وضاعفت همتها في تكميل أعمالها. رغم أنّ أوضاع أبي لم تكن ميسورة إلّا أنّ أمّي قد أعدّت لي جهازًا جيّدًا لا نقص فيه، لقد سعت جهدها كي يكون كلّ شيء يوم الحفل على أكمل وجه. فذهبتْ إلى السوق واشترت لي قميصًا عاجيّ اللون جميلًا جدًّا عوضًا عن ثوب العرس. بلغ ثمن القميص 2500 تومان، ولم يكن هذا المبلغ في ذلك الوقت مبلغًا زهيدًا.
في كلّ يوم وفي كلّ ليلة كان يجري التداول والبحث في إقامة مراسم عرس صغيرة ولائقة. أصرّت أمّي على أن تقام هذه المراسم بأيّ شكل من الأشكال. كانت تقول: "ما ذنب الشباب غدًا عندما يذهبون إلى حفلات الأعراس سيشعرون بغصة وسيسألون أنفسهم لماذا لم ننجز مراسم مثل هذه. علينا أن نصنع لهم ذكريات طيبة، فهم الآن لا يدركون أهمية ذلك".
في النهاية، أنجزت أمّي عملها بإتقان، رغم أنّنا لم نفرش الفناء، ولم ننصب خيمة، ولم نعلّق حبال أضواء الزينة على الأشجار. كانت مراسم العرس بسيطة وبلا جلبة، واقتصرت على تقديم الفاكهة والحلوى.
بالتأكيد تضمّن الحفل كرسيًّا خاصًّا بالعروس من دون العريس. مهما أصرّرنا على علي كي يأتيَ، لكنّه لم يفعل. كان يقول: "إنّها حفلة للنساء، أخجل أن آتي وأجلس وسط كلّ تلك النسوة، فأنا أعرف عادة النساء؛ ما إن يرين العريس حتّى يشرعن في التصفيق ويثرن الجلبة".
في اليوم التالي جاء علي إلى منزلنا وأخبرنا أنّ زوجة صديقه تم قبولها في جامعة مشهد وأنّنا نستطيع العيش في منزلهم من دون دفع بدل إيجار طوال مدة وجودهم في مشهد، وأنّهم وضعوا كلّ أثاث
144
132
شهر العسل الثاني
منزلهم في إحدى الغرف وأعطوا المفتاح لعلي.
قال علي: "تعالي لنلقي نظرة على المنزل، إذا أعجبك ننقل أغراضنا إليه".
كان للمنزل بابان يطلان على زقاقين: باب داخل الفناء، ويقع في زقاق مقابل زقاقنا، خاصّ بسكان الطابق الثاني. أمّا الباب الآخر، وهو الباب المخصص لنا، فكان داخل زقاق "قاضيان"، الذي لا يبعد كثيرًا عن منزلنا.
كان البيت وسط الزقاق إلى جهة اليمين، المبنى رقم(17)، مؤلّفًا من ثلاث طبقات. الطبقة الأولى عبارة عن موقف، بينما الطبقتان الثانية والثالثة فكانتا مأهولتين.
فتح علي الباب ودخلنا.
كانت السلالم واسعة والدرجات قصيرة، كذلك كان المنزل وسيعًا رحبًا ومضيئًا، تطلّ نوافذه على الفناء من جهة، ومن الجهة المقابلة تطلّ على زقاق "قاضيان".
لم تهمّني كثيرًا مسألة تصميم المنزل، كان يكفيني أنّه قريب من منزل أمي.
قال علي: "هل أعجبك؟".
- كثيرًا.
بعد ذلك قمنا بإطلالة على البهو وغرفة الاستقبال والمطبخ وغرف النوم. كان باب إحدى الغرف مقفلًا حيث وضع صاحب المنزل أغراضه.
سُرّ علي كثيرًا؛ لأنّ البيت نال إعجابي فقال: "سيّدة زهراء؛ لو تأذن لنا السيّدة وجيهة فنحضر أغراضنا ونوضّبها".
145
133
شهر العسل الثاني
قلت: "ولمَ لا تسمح لنا بذلك، متى رغبت في ذلك فهو جاهز".
في ذلك اليوم، جاء علي إلى منزلنا برفقة عدد من أصحابه ونقلوا الأغراض. وضعت لي أمّي مع الجهاز سجادة بحجم ستة أمتار. عندما فرشنا السجادة لاحظنا أنّ غرفة الاستقبال كبيرة.
ذهب علي عصرًا إلى تعاونية الحرس واشترى قطعتَي سجاد مقاسهما 12 مترًا وفرشناهما في البهو. رغم ذلك بقيت أطراف غرفة الاستقبال شاغرة، فاشترى أيضًا أمتارًا من الموكيت وغطّى بها الزوايا.
في يوم 18 آب مساءً كان الاتفاق أن يأتي علي وعائلته إلى منزلنا لينقلوني إلى بيتي، فدعت أمّي نساء أخوالي والأقارب من أجل ذلك.
بعد تناول العشاء، غسلنا الصحون ورتّبنا المنزل وبتنا في انتظار العريس وعائلته. شرعت أمّي في البكاء منذ أول اللّيل، وأعدّت البخور ودارت به حولي. حاولتُ كثيرًا منع نفسي عن البكاء فلم أستطع. ارتديت القميص العاجي الذي اشترته لي أمّي والعباءة التي ارتديتها يوم عقد القران.
انقضت الساعة العاشرة والساعة الحادية عشرة ولم يحضروا بعد، لا أدري لماذا سرى الخوف في عروقي. قلت لأمي: "أمّي هل أنت متأكّدة من أنّهم سيأتون اللّيلة، قد يكون الموعد ليلة الغد وأنت سمعت خطأً". كذلك أمّي وقعت في الشك. جلسنا مكتوفي الأيدي، بينما استغرق الأقارب في الأحاديث. كانت الدقائق تمرّ ببطء، مرّت ساعة من الوقت أيضًا، فقلت لأمي: "أشعر بالنعاس، ربما طرأت عليهم مشكلة ما". اضطربت أمّي وقلقت، حضنتني وقبّلتني قائلةً: "سيأتون الآن". وراحت تبكي في حضني. بعد قليل قُرع الجرس ودخل كلّ من علي، أمير، الحاج صادق والسيّدة منيرة ومريم.
146
134
شهر العسل الثاني
كان علي يرتدي قميصًا أزرق، فاتح اللون، وبنطالًا رماديًّا. اختلف شكله عن المعتاد، تقدّم وسلّم عليّ وسألني عن أحوالي.
حملت أمّي القرآن، فتحته وقرأت لنا آياتٍ عدّة. بعدها استأذن علي من أبي وأمّي، أمسك أبي وخالي محمود بيدي وأخذوني من غرفة الاستقبال إلى البهو والممرّ، ثمّ إلى الفناء وسط بكاء أمّي ودعواتها لي.
ارتبكت أمّي وهي تدعو لي همسًا وصارت تروح وتجيء إلى هذه الناحية وتلك وكأنّها تبحث عن شيء ما، كذلك نفيسة راقبت ذهابي بقلق وحزن. وقفت أمّي قربي وقبّلتني مرّات عدة. همستُ في أذنها: "أمّي عزيزتي، سامحيني". أجهشت أمّي بالبكاء قائلة: "أسعدك الله وجعل عاقبة أمركما خيرًا، سامحكِ الله يا عزيزتي".
عندما وصلنا إلى السيّارة، أمسك أبي بيد علي ووضعها في يدي وقال: "علي، أستودعك فرشته، هي نفسك حافظ عليها كما تحافظ على نفسك".
- استودعها الله يا عمّاه.
- بالتأكيد، بالتأكيد، أستودعكما الله أنتما الاثنين.
خفضت رأسي ولم أرَ أحدًا. سمعت علي يقول: "أتمنى أن أكون صهرًا لائقًا بكم، وأتمنى أن أكون زوجًا جيّدًا لزهراء".
- حتمًا إنّك كذلك، أقسم بالله إن عاشت ابنتي ليلة واحدة مع رجل مثلك، فإنّ ذلك أفضل بمئات المرات من أن تعيش كلّ العمر مع رجل عديم المروءة.
بعد ذلك وضع يده على رقبة علي وقبّله. وأركبتني زوجات أخوالي في سيّارة صديق علي، وجلسن قربي.
كانت السيّارة لأحمد صابري، صديق علي، وكان هو نفسه
147
135
شهر العسل الثاني
السائق. عبرنا شوارع عدّة، ووصلنا إلى مقام عبد الله[1] -أحد أولاد الأئمة عليهما السلام- طاف السيّد صابري بسيارته 7 مرّات حول المقام. كان يمازح علي ويشاكسه. بقيت أنظر إلى قبة المقام طوال ذلك الوقت ورحت أدعو من أجل سعادتنا وخير عاقبتنا.
بعدها ذهبنا إلى ساحة الإمام الخميني، ومن ثمّ إلى شارع "أبو علي". لم تتبعنا سوى سيّارة الحاج صادق، التي أقلّت مضافًا إلى الحاج صادق، زوجته وابنته مريم والسيّد أمير.
سارت السيارتان من دون إطلاق أبواق، ومن دون إحداث أيّ جلبة.
عبرنا شوارع عدّة. قال السيّد صابري: "فلنذهب إلى سنك شير[2]. لم يعارض علي الفكرة. بعد سنك شير عبرنا شوارع عدّة إلى أن وصلنا زقاق "قاضيان".
ترجّل علي من السيّارة، فتح الباب وأمسك بيدي. كان في انتظارنا أمام الباب كلّ من السيّد ناصر، الجدّ والجدّة، والسيّدة منصورة، وأمّي وأختَيّ.
فاحت رائحة البخور في الزقاق. أمسك السيّد ناصر بيدي ودخلنا، وشرع خلال صعودنا الدرج في إنشاد:
"هذا اليوم نقيم عرسنا على نحو حسن
هو من ألطاف الله والحجة بن الحسن عليه السلام
عروس جديدة كوردة الياسمين
[1] ساحة مشهورة في همدان، ودفن في هذا المكان الشريف جسد اثنين من أحفاد الإمام موسى الكاظم عليه السلام. ويؤمن أهل همدان ونواحيها بهذين الحفيدين إيمانًا شديدًا، وقد تمّ توسيع الضريحين في السنوات الأخيرة وأُعيد بناؤهما
[2] تُسمّى هذه الساحة "شير سنكي" أو الحجر العاجي، وهو يتعلق بزمن الأشكانيّين، بعض الناس يعتقدون بخرافات حول هذا المكان.
148
136
شهر العسل الثاني
عريس كوردة الشقائق والياسمين
من عشق محمد والزهراء عليهما السلام
يمتلئ حبًّا قلب هذا العريس وعروسه..".
تبعنا الباقون وهم يصلّون على النبي وآله. عندما وصلنا إلى منزلنا جلس الضيوف دقائق معدودة ثمّ باركوا لنا، وتمنّوا لنا السعادة وانصرفوا. عندما خلا المنزل وضع الجدّ يدي بيد علي ودعا لنا.
غادر جميع الضيوف تقريبًا ما عدا نساء أخوالي. توضّأ علي، وكذلك أنا حذوت حذوه، ووقفت للصلاة خلفه.
بعد الصلاة جلسنا، وراح يكرر كلّ ما حدّثني به يوم عقد القران: "إنّ والديك هما والداي، وكذلك والداي هما بمنزلة والديك. إذا احترم كلّ منّا عائلة الآخر فلن تحدث أيّ مشكلة، وبما أنّك فتاة مؤمنة وملتزمة ومحجّبة فلن أطلب منك شيئًا آخر؛ المرأة المسلمة تعرف واجباتها، فأنتِ قد نشأتِ في أحضان عائلة مؤمنة وأصيلة".
في اليوم التالي جاءنا ضيوف، عدد من عناصر علي، وعدة أفراد من أقاربنا. جلس الرجال في الطابق الثاني حيث منزل الجيران، بينما جلست النسوة في منزلنا. تمّ إحضار عشاء جاهز. بعد العشاء شرع أحد أصدقاء علي في الإنشاد. عندما كانت ترتفع أصوات الرجال بالصلوات كنّا نحن النسوة كذلك نصلّي على النبي وآله.
بعد العشاء، ودّعنا الرجال وانصرفوا؛ وهكذا بهذه السرعة بدأت حياتنا المشتركة بمراسم بسيطة من دون تكلّف وأعباء. بقيت السيّدة منصورة والسيّد ناصر وأمير في منزلنا. كانت السيّدة منصورة تحبّ أولادها حبًّا جمًّا، رغم أنّ حالها الصحيّة لم تكن على ما يرام، إلّا أنّها أخذت على عاتقها مسألة الطهو. بينما كنت أنا أعتني بتنظيف البيت
149
137
شهر العسل الثاني
والكنس وغسل الأواني وتنظيف الخضار. أمّا مهمّة أمير فاقتصرت على التسوّق.
كان أمير شابًّا عطوفًا وهادئًا مع الجميع. أحيانًا كانت السيّدة منصورة ترسله لشراء الحاجيات 4 أو 5 مرّات من دون أن يبدي اعتراضًا، أو أن يتفوّه بكلمة، كأنّ يقول مثلًا: لماذا لا تطلبين كلّ الأشياء دفعة واحدة.
بعد 4 أيّام ذهبت السيّدة منصورة والسيّد ناصر وأمير إلى منزلهم. يومها بقيت وحدي، وكانت المرة الأولى التي أقوم فيها بإعداد الطعام بنفسي.
قرابة الظهيرة طهوت الأرز مع الكباب المشوي. ملأت رائحة الكباب فضاء المنزل. بعد قليل قرع الجرس. عندما سألت من خلف الباب من الطارق، أجابني: "أنا علي، لدينا ضيوف". تجلببت بالعباءة على عجل وفتحت الباب. دخل علي مع أحد أصدقائه وهما يقولان: "يا الله". بعد الترحيب ذهبت إلى المطبخ فتبعني علي.
اغتظت منه بعض الشيء وقلت: "طالما أنّكَ أردت إحضار ضيوف معك أخبرني بذلك!". ضحك وقال: "شخص واحد لا يحتاج إلى إبلاغ مسبق، يكفي أن نأكل لقمة خبز وجبنة وهو أمر ميسور!".
- ولكنّني أخجل من ذلك.
- لا تخجلي أبدًا من أجل هذه الأشياء؛ لا بأس حتّى لو لم تقدّمي لنا الغداء فلن نشكو أو نعتب. كلّ ما نريد أن نجلس في مكان هادئ ونتحدّث عن أعمالنا. قدّمي لنا فقط لقمة خبز وجبنة وفنجان شاي محلّى، ولك منّا جزيل الشكر والامتنان.
بجوابه هذا صرت مجرّدة من السلاح، فقال لي ممازحًا: "والآن
150
138
شهر العسل الثاني
ماذا طهوتِ؟ لقد بثثتِ رائحة أرز شهيّة يا وردتي".
- أرز مع الكباب المشوي.
تنفّس الصعداء وقال: "أحسنتِ أحسنتِ! والله إنّ المرأة الحسنة لنعمة. ومن ليس لديه امرأة حسنة فهو خاسر".
ضحكت وناولته الطعام.
كانت كميّة طعام غدائنا تكفينا. أكل علي وصديقه في البهو وأنا تناولت الطعام في المطبخ، كانت مائدتنا مليئة بالنعم: خضار، لبن، شمّام وكذلك مياه غازيّة.
تذكّرت كلام أمّي: "إنّ الضيف يُدخِلُ رزقه معه".
151
139
وردتي
وردتي
بعد مضي أسبوع على حياتنا المشتركة، نهض علي في صباح أحد الأيّام بعد صلاة الصبح وقال لي: "سيّدة زهراء، يجب أن أغادر اليوم، أين حقيبتي؟".
- إلى أين؟!
ضحك وقال ممازحًا: "إلى منزل العم شجاع!.. معلوم يا عزيزتي، إلى الجبهة، وإلى أيّ مكان غير الجبهة سأذهب؟".
غلّفت سحابة من الغمّ نظراتي: "ألا يمكنك أن تتريّث قليلًا؟".
- كلّا، فعدوّنا لئيم.
وضعت في الحقيبة منشفة وأغراضًا شخصيّة؛ بعض القمصان والبناطيل، وقليلًا من الفاكهة والمكسّرات وأقفلتها.
تابع ممازحًا: "هنا يتّضح الفرق بين المتزوّج والعازب. وأخيرًا لم يحرمنا الله من رؤية حقيبتي ملأى بالمساعدات العينية!".
ترقرق الدمع في عينَيْ كلينا. كان علي إنسانًا لا يبرز مشاعره، ولكي يخفي ذلك؛ انحنى وانشغل بربط شريط حذائه العسكري. وضع الساعة التي أهداه إيّاها والدي له يوم عقد القران في معصمه، بدت واسعة بعض الشيء، فقرّرت أنّه عندما يعود في المرة القادمة سأعمل
153
140
وردتي
على تصغيرها.
عندما رفع رأسه وجدت أنّ عينيه ووجهه محمرّان حتّى أسفل حنجرته.
قال وفي صوته حشرجة: "عزيزتي، انتبهي لنفسك وسامحيني".
رغبت في البكاء بصوت عالٍ، وتمنيت أن يأخذني معه. حدّق في عينيّ، بدت عيناه الزرقاوان كبحر متلاطم. قلت له: "أنت أيضًا انتبه لنفسك، ولا تنسانا من الشفاعة".
فجأة وبدون أن يردف شيئًا نزل الدرج بسرعة؛ وبينما هو مندفع في مشيه لوّح لي بيديه من الخلف قائلًا: "عزيزتي وداعًا، ها قد ذهبت".
154
141
الروضة الحادية عشرة
الروضة الحادية عشرة
مضى على ذهابه أربعة أيّام، ومنذ اليوم الأول ذهبت إلى منزل أمي.
كان الوقت عصرًا عندما قرع الباب. في ذلك اليوم ومنذ استيقاظي في الصباح الباكر كان مزاجي عكرًا، ولم أرغب في فعل شيء، لم أدرِ ماذا أصابني، ما إن قرع الجرس حتّى أسرعت حافية القدمين وأنا أدعو: "إلهي، أرجوك أن يكون علي سالمًا، وأن لا يصيبه مكروه، إلهي أرجوك أن لا يحمل القادم إلينا خبرًا سيّئًا".
ما إن فتحت الباب حتّى تسمّرت مكاني من التعجب. لم أستطع فتح فمي لإلقاء التحية، فالواقف لدى الباب كان علي نفسه، أتى ضاحكًا، مسرورًا وبدون جراح في رأسه ووجهه أو في يديه ورجليه. تنحيّت جانبًا لأفسح له بالدخول، وأخذت الحقيبة من يده.
ضحك وقال: "لقد فرغت المساعدات".
- بالصحة والهناء.
- من يوجد هنا؟
- جميعهم.
عندما تحلّقنا حول بعضنا البعض وأحضرت لنا والدتي الشاي قال
155
142
الروضة الحادية عشرة
علي: "ذهبنا من الجبهة إلى طهران للقاء الإمام الخميني، لكن للأسف لم نوفّق لذلك، وقررت المجيء لزيارتكم قبل عودتي إلى الجبهة".
أعدّت والدتي طعام العشاء بسرعة. قلت له: "ليتك لم تقل إنّك ذاهب غدًا، فقد بدأ القلق يساورني منذ الآن". ضحك علي وأبي لذلك. بعد العشاء أخذتني أمّي جانبًا وقالت لي: "إذا رغبتم اللّيلة في البقاء عندنا فأهلًا وسهلًا بكما، لكن بما أنّ زوجك قد جاء لليلة واحدة فمن الأفضل أن تذهبا إلى منزلكم، لتغسلي له ثيابه المتسخة إن وُجدت".
في صباح اليوم التالي -الثلاثاء 2 أيلول- غادر علي باكرًا. كانت حقيبتي لا تزال أمام الباب؛ إذ إنّه لم تسنح لي الفرصة ليلة أمس لفتحها بسبب مجيئنا إلى البيت. حملتها من هناك وخرجت من المنزل. كان الشارع خاليًا، حتّى من رفرفة الطيور، لكن علي رفرف كطائر ورحل. في تلك الجهة من الشارع كان منزل أهلي، هرعت إلى زقاقنا بعينين باكيتين وغصة في الحلق، وقرعت الجرس.
في يوم الجمعة 12 أيلول 1986، تقرّر إرسال كتائب عدّة من محافظة همدان إلى الجبهة. خرجت أنا وأمّي إلى الشارع، وجاء حشد كبير من الناس لمشايعة المجاهدين، وملأت رائحة البخور مكان عبور الحافلات المرسلة إلى الجبهة.
اتجهت النسوة ناحية الحافلات وفي أيديهن مرشّات، وقمن برش ماء الورد على المجاهدين الذين أطلّوا برؤوسهم من نوافذها، وراحوا يلوّحون للناس بأيديهم. قرابة الظهر ذهبنا إلى المسجد الجامع، وعدنا إلى البيت بعد إقامة صلاة الجمعة.
ولأنّني كنت متعبة شعرت بوجع رأس فخلدت إلى النوم باكرًا. عندما استيقظت من أجل الصلاة، كان رأسي لا يزال يؤلمني، لذلك
156
143
شهر العسل الثاني
عدت إلى النوم مجدّدًا. عند الصباح اجتاحت أشعة الشمس فضاء غرفتي فأيقظتني.
كانت أمّي قد ذهبت صباحًا إلى مشغل الخياطة، وكذلك أبي ذهب كعادته إلى محل الحلاقة. عندما قرع جرس الفناء قفزت من الفراش وتأزّرت بعباءتي، أسرعت إلى الباب والرعشة تسري في كلّ بدني، لم أستطع أن أحدُس بالشخص الواقف خلف الباب، أو بالخبر الذي يحمله، فتحت الباب فوجدت السيّدة منصورة قبالتي، وَهنَت قدماي وتجمّدت أطرافي.
بدت السيّدة منصورة كعادتها أنيقة ومرتبة، وانتبهت لوهلتي عند رؤيتها فقالت: "عزيزتي فرشته، لا تخافي لم يحدث مكروه، نحن سنذهب إلى طهران لزيارة مريم، جئنا لنأخذك معنا، فأنت لم تستطيعي الذهاب إلى عرسها".
تنفست الصعداء وأجبتها: "أشكرك، ولكن ليتكم قلتم ذلك في وقت سابق، فالآن لست مستعدّة لذلك". في هذه اللحظة تقدّم الحاج صادق الذي كان يقف أبعد منها بقليل، سلّم عليّ، وسأل عن أحوالي، ثمّ قال مصارحًا إيّاي: "في الواقع يا سيّدة فرشته لقد أصيب علي بجراح".
عند سماعي باسم علي وخبر إصابته دارت بي الدنيا، أمسكت بباب الفناء كي لا أهوي. أمسكت السيّدة منصورة بيدي وقالت: "والله لم يحدث شيء؛ أردنا الذهاب بمفردنا، لكن إن علمتِ بالأمر ستنزعجين منّا".
لم تكن حالي جيّدة، شعرت بدوار وخفقَ قلبي بقوة. قالت السيّدة منصورة: "عزيزتي فرشته، والله لم يحدث شيء فأنا لا أكذب عليكِ".
كانت نفيسة ورؤيا لا تزالان نائمتين، لم يطاوعني قلبي على
157
144
الروضة الحادية عشرة
إيقاظهما، حملت حقيبة اليد التي كانت دائمًا في زاوية الغرفة وخرجت من دون إحداث جلبة.
عندما ركبت سيّارة الحاج صادق قلت لهم: "فلنذهب لإخبار أمي". كان مكان عمل أمّي على طريقنا، وهو عبارة عن مشغل يقع في شارع "بابا طاهر"، في شقّة سكنية في الطابق الثاني. كانت الشقة تتألف من غرف عدّة كبيرة: غرفة تفصيل الأقمشة، غرفة تلفيق أطراف الأثواب، وغرفة الخياطة.
كانت أمّي مسؤولة المشغل، فتراها تحوم بين الغرف وتشرف على الأعمال بكلّ أناة. اختلطت أصوات "قیزز قیزز" آلات الخياطة؛ من ماركات "مارشال وسينجر"؛ مع أصوات آلات تفصيل الأثواب. كانت النساء يجلسن خلف الماكينات ويخيطن الأثواب، وأمّي واقفة بالقرب من إحدى السيدات وتقول لها شيئًا. كان صوت الماكينات اليدوية يذكّرني بطفولتي وخياطة أمّي، كم كانت تخيط لنا ألبسة جميلة بتلك الماكينات السوداء التي طبع على هيكلها صورة الأسد!! تنانير مزمزمة ومكسّرة، وقمصانَ فضفاضة قطنية.
تقدمت نحوها وسلّمت عليها: "السلام عليك يا أمّاه، عافاكِ الله". تعجبّت لرؤيتي واضطربت، فقلت لها: "لم يحصل شيء، أصيب علي ونقلوه إلى طهران، سأذهب مع السيّدة منصورة والحاج صادق".
امتقع لون وجهها لكنّها حاولت أن تخفي ذلك، أمسكتْ بيدي وقالت: "أرجو أن لا تكون إصابته خطيرة، أتريدين أن آتي معك؟".
قلت لها: "لا، فالسيّارة لا تتسع لذلك؛ إذ إنّ السيّدة منيرة ستذهب أيضًا، وصديق علي كذلك". قرأت أمّي آية الكرسي وقالت: "لأذهب وأسلّم عليهم".
158
145
الروضة الحادية عشرة
جاءت أمّي إلى حيث السيّارة، وسلّمت على السيّدة منصورة والحاج صادق والسيّدة منيرة وسألتهم عن أحوالهم، بعدها عانقتني وقبّلتني وودّعتنا.
ركبت سيّارة الحاج صادق، جلست أنا والسيّدة منصورة والسيّدة منيرة في الخلف، بينما راحت أمّي تنظر إليّ بقلق، وتتمتم أحرازًا وتنفخ على جانبي السيّارة.
عندما وصلنا إلى مزار أحد أحفاد الأئمة "إمامزاده عبدالله" حانت منّي التفاتة إلى الخلف، فوجدت أنّ أمّي قد توارت عن مجال رؤيتي لها، قال الحاج صادق: "سنذهب إلى الحرس حيث ينتظرنا فرزان أمام الباب".
حدّثتني السيّدة منصورة قائلة: "إن حسين فرزان هذا مدين لعلي ولدنا، الآن عندما يركب معنا سأقول له أن يحكي لك القصة بنفسه. كان علي يحبّه كثيرًا، وعندما سمع بنبأ شهادته ذهب إلى "معراج الشهداء"[1] ليلقي عليه النظرة الأخيرة. لاحظ علي وهو في براد الموتى بخارًا داخل الكيس الذي يغطّي وجه حسين فرزان. وضع الجثمان على كتفه فورًا ونقله إلى المستوصف. وهكذا عاد السيّد حسين فرزان إلى الحياة ثانية".
بعد قليل، جاء السيّد حسين وركب في المقعد الأمامي. عندما علم أنّني زوجة علي شرع في مدحه، وبعد ذلك روى لنا ذكريات كثيرة فقال: "رغم أنّ علي هو قائدنا إلّا أنّه كان الشخص الأول الذي يذهب قبل أيّ عملية إلى الخط للاستطلاع، ويصل إلى أقرب خنادق العدو".
وتابع قائلًا: "في بداية الحرب قال علي لنا لا تستخدموا أجهزة اللاسلكي؛ لأنّه يمكن التجسس عليها، بل استخدموا الهاتف السلكي".
[1] معراج الشهداء: المكان المخصص لحفظ جثث الشهداء (المترجم).
159
146
الروضة الحادية عشرة
تحدّث كثيرًا عن شجاعة علي وجرأته فقال: "رغم كلّ ذلك، كان الأكثر تواضعًا وحنانًا ورأفة في الوحدة". ظل يسرد لنا ما سلف من ذكريات مع علي حتّى وصلنا إلى طهران.
كان مستشفى ساسان كبيرًا ومرتبًا ونظيفًا، بدا السيراميك على الأرض وعلى الجدران برّاقًا حتّى إنك تستطيع مشاهدة نفسك فيها.
صعدنا في المصعد الكهربائي الذي بدا شبيهًا بمصاعد الفنادق أكثر من كونه مصعد مستشفى.
توقّف المصعد بعد صعودنا طبقات عدّة، ورحنا نسير على السيراميك الأبيض اللامع. وبينما نحن نسير كانت أحذيتنا تصدر أصوات صرصرة من شدّة نظافة الأرض.اختلجت في رأسي أفكار مختلفة، وشعرت بالاضطراب. في الحقيقة لم أدرِ بعد لحظات، على أيّ حال، سأرى علي.
أخيرًا، دخلنا غرفة يوجد فيها سريران وسيّدة تقف قرب السرير. تقدّم الحاج صادق وحسين فرزان وعانقا الجريح المستلقي على السرير. كذلك تقدّمت السيّدة منصورة، وبعد العناق والسلام قالت: "عزيزي علي كيف حالك يا أماه؟ هل أنت بخير؟!".
فكّرت في نفسي: "أهذا هو علي حقًا؟!". شابّ بلحية وشارب خفيفين ورأس حليق، شاحب الوجه ونحيل، وشكله لا يشبه علي على الإطلاق.
تقدّمت نحوه السيّدة منيرة وسلّمت عليه إلّا أنا بقيت واقفة أسفل السرير مدهوشة وحيرى أنظر إلى ذاك الشخص الذي يناديه الجميع "علي". كنت دائمًا إنسانة عاطفية وسريعة التأثّر، لكن في تلك اللحظات حاولت أن أسيطر على نفسي، وأن أبدو قوية.
وصلوا في يده مصلًا ووضعوا إلى جانب السرير على الأرض خرطوم
160
147
الروضة الحادية عشرة
القسطرة (الميل). في ذلك الحين كنت أبلغ من العمر 18 عامًا تغمرني حماسة الحياة وعنفوانها، ويغمرني عشق رجل هو زوجي وكل آمال وأمنيات حياتي، لكن الآن، وبعد مرور أسبوعين من حياتنا المشتركة، أراه مستلقيًا على سرير المستشفى، ولا أدري ماذا أفعل لأجله.
عضضت على شفتيَ كي لا أسترسل في البكاء أمام الحاضرين، عندها تبسّم وأومأ لي برأسه كي أتقدّم نحوه. شعرت باستياء كبير وأحسست بعبء المكان، وأنّ قدميّ لا تستطيعان حمل ثقل القسم الأعلى من جسدي، وأنّ الغرفة تدور بي. رفعت يدي عن السرير فانتبهت لذلك السيّدة منيرة التي كانت تقف بقربي، أمسكت بيدي وقالت:
- فرشته ماذا بك؟ ألستِ بخير؟ إن كنت متعبة تعالي معي إلى الخارج.
تبعتها وأنا أشعر بدوار، ما إن وصلت إلى الصالة حتّى أجهشت بالبكاء، وتبعتنا كذلك تلك المرأة المتوسطة العمر التي كانت تقف قرب سرير علي.
عرّفتني إليها السيّدة منيرة قائلة: "هذه الخالة فاطمة، أخت السيّدة منصورة، إنّها الخالة الوحيدة لعلي".
عانقتني الخالة فاطمة وقبّلتني، لقد كانت المرة الأولى التي أراها وتراني. خاطبتني بلهجة طهرانية محببة: "كم هي جميلة عروسة ابن أختي، يا حلوتي! لماذا تبكين يا عزيزتي؟".
غصصت بالبكاء، ورحت أذرف الدموع دونما توقّف.
قالت لي: "أنت متضايقة من أجل علي؟ لكنّه لا يشكو من شيء، حاله جيّدة يا عزيزتي، لقد أجروا له عملية ليلة البارحة، كانت قد بقيت شظية في أعلى فخذه، وتم نزعها، وسهرت على راحته حتّى
161
148
الروضة الحادية عشرة
الصباح، تحدّثتُ مع طبيبه، وقد أقسم لي إنّ وضعه ليس خطيرًا".
حدّثتني الخالة فاطمة بشكلٍ هادئٍ جدًّا ولطيف، وواستني كثيرًا حتّى تحسنت حالي. بعد قليل شعرت بالارتياح وعدنا معًا إلى الغرفة. أبعدَت الجميع جانبًا، وأمسكت بيدي وأخذتني إلى قرب علي وقالت:
- علي عزيزي، زوجتك فرشته هل رأيتها؟
عندما رآني ضحك وقال: "فرشته ماذا بكِ؟ أبكيت؟".
تعجبت كيف أنّه فجأة تبدّلتُ من زهراء إلى فرشته. أخفضت رأسي ورحت أكفكف دموعي بمنديل ورقيّ كانت قد أعطتني إيّاه الخالة فاطمة.
سألني علي ثانية: "ماذا بكِ يا زهراء؟".
اختلط البكاء بالضحك وقلت: "لا شيء، هل أنت بخير؟".
غمر الهدوء وجهه فأجاب: "الشكر لله، أنا بخير".
وضع إحدى يديه على بطنه وعلّق المصل في اليد الأخرى، أردت أن أمسك بيده فتذكّرت شرطه، فتحت له علبة العصير، أردت أن أضعها في فمه فأخذها بتلك اليد التي كان يضعها على بطنه، أمّا الباقون فكانوا قرب النافذة مستغرقين بالأحاديث.
رشف من علبة العصير رشفات عدّة وقال: "لا أشتهي أكل شيء، اشربيها أنتِ".
ذهب الحاج صادق وحسين فرزان والسيّدة منيرة إلى الغرف الأخرى لعيادة الجرحى في المستشفى، وبقيت السيّدة منصورة والخالة فاطمة قرب النافذة تتجاذبان أطراف الحديث.
نظر علي إلي بعينيه الزرقاوين والعطوفتين قائلًا:
162
149
الروضة الحادية عشرة
- عزيزتي فرشته، لقد فعلت حسنًا بمجيئك، لم أعتقد أبدًا أنّك ستأتين.
تجرأت ووضعت يدي على السرير قرب يده، أدنى يده بهدوء من يدي، أمسكها وضغط عليها ثمّ ابتسم وتحدّثت عيوننا عن كلّ ما لم تتفوّه به ألسنتنا. كسرتُ برهة الصمت:
- لقد أبعدتنا الحرب عن بعضنا البعض.
- هذه هي ميزة الحرب.
- لا يهمّ ماذا سيحصل غدًا، ما يهم أنّك الآن بخير، وأنّنا قرب بعضنا البعض.
كان هناك دفتر غلاسور زهري اللون (60 ورقة) موضوعًا على طاولة معدنية قربنا، رسم علي عليه جبلًا وإلى جانبه حرم الإمام الحسين عليه السلام وقبّته الشريفة. أخذت الدفتر ورحت أنظر إليه. كان قد رسم أيضًا علمًا على قمة الجبل. أعجبني ذلك كثيرًا فقلت: "إنك بارع في الرسم!!".
كتب حول القبة أسماءً عدّة، وشرعت في قراءة الأسماء: "قاسم هادي[1]، مصيب مجيدي، محمد باقر مؤمني[2]، أمير فيصل إلهي،
[1] قاسم هادي: ولد بتاريخ 22/8/1961 في قرية سهل مراد بك، وهي من ضواحي محافظة همدان. تشرف بزيارة كربلاء برفقة عائلته وهو في السابعة من عمره. في تلك الأيّام حظي بشرف الحضور في منزل آية الله مدني مدة40 ليلة والمشاركة في صلاة الجماعة بإمامة الإمام الخميني قدس سره. بعد انتصار الثورة الإسلامية انتسب إلى الحرس الثوري، التحق بركب الشهداء بتاريخ 1364-11-27في عمليات والفجر8.
[2] محمد باقر مؤمني: ولد في همدان بتاريخ1344(1965)، كان قدوة للقوات في وحدة الاستطلاع بالتقوى والإخلاص، اقترب موعد عمليات صاحب الزمان وطلب المشاركة في العمليات لكن القائد علي تشيت سازيان حال دون اشتراكه فيه، ظل محمد باقر يبكي حتى الصباح لعلّه يستدر عطف ورأفة قائده. في اليوم التالي، في تاريخ 1365-2-8وبينما هو يستريح أصابت الخندق قذيفة واستشهد مع عدد من رفاقه.
163
150
الروضة الحادية عشرة
محمد قربانيان موحد[1]، وحسن سرهادي[2]".
سألته: "هل هذا من صنعك؟".
هزّ رأسه موافقًا، فقلت له: "إن رسمك رائع!". وكأنّ تشجيعي له قد فعل فعله فسألني: "أتريدين أن أرسم لكِ؟".
أخرجت دفتر مذّكراتي الموجود دائمًا في حقيبتي وناولته إياه فقال: "ناوليني إحدى هذه الأزهار".
وُضع على الطاولة أمام سريره زهرية بداخلها باقة ورود زنابق حمراء وبيضاء وزهرية اللون. تناولت غصنًا منها،كسرته من وسطه وأعطيته الوردة. عدّل جلسته ووضع الوردة بين ركبتيه وشرع في رسمها بواسطة قلم حبر أزرق. مهارته في الرسم لا غبار عليها؛ إذ إنّه وبعدّة حركات سريعة رسم شكل زنبقة بجانبها شمعة وفراشة، يقطر من جناحها قطرات دماء بعد أن أصيبت بطلقة، وقد وقع شيء من ريشها على الأرض. ثمّ كتب تحت الرسمة:
"رحل الأصحاب كلهم ناحية العشق
هيا أسرع كي لا تتخلف عن الركب".
قرأت الشعر بصوت مرتفع، ضحكنا ومازحته قائلة: "أتيت إلى طهران وأصبحت طهرانيًّا، ومضيت في درب العشق والعاشقين".
[1] محمد قربانيان موحد: ولد في عام 1350 (1971) في إحدى القرى الفقيرة التابعة لمحافظة همدان. عمل في وحدة الاستطلاع لعمليات فرقة أنصار الحسين عليه السلام في همدان. لبّى دعوة الحق واستشهد بتاريخ 1365-6-12 عندما كان عائدًا من مهمة موفقة في جزيرة مجنون بشظية قذيفة.
[2] حسن سرهادي: ولد في قرية صالح آباد التابعة لمحافظة همدان بتاريخ 1344. عمل أيضًا في قوات الاستطلاع، واستشهد بتاريخ 1365-6-20 في عمليات خاطفة (تضليل أو توغل) داخل الزورق بقذيفة سقطت على الـ(پد) الغربى (پد: موقع مائي فيه تحصينات وإنشاءات دشم، متاريس، وباحات وطريق يربط بينها).
164
151
الروضة الحادية عشرة
ضحك وبسرعة وضع خطًّا على كلمة عشق، وكتب مكانها "الموت". انزعجت لدى رؤيتي كلمة "الموت"، قطبت حاجبي وقلت له:
- أنت لا تجيد عمل شيء سوى إزعاجي؟
أراد أن يخرجني من حالي هذه فأعطاني الدفتر قائلًا:
- الإهداء إلى زوجتي العزيزة، عشقي السيّدة فرشته احفظي هذا تذكارًا يا وردتي.
أخذت الدفتر منه وقلت: "علي، ما رأيك في أن نبقى في طهران، لقد ناسبك جوّها، وأصبحت كالطهرانيين. ورحت أقلّده "أقدّم هذه الذكرى إلى زوجتي، عشقي" لم يبقَ إلّا أن تلفظ كلمة وردتي بلهجة الطهرانيين، وليس بلهجة الهمدانيين[1]".
ضحك مليًّ، وأنا كذلك ضحكت لضحكه فقال: "عندما دخلت من الباب دخلت كملاك، حقًّا يليق بك هذا الاسم (فرشته)".
شعرت بالخجل. انتزعتُ الصورة التي رسمها لي من الدفتر ووضعتها في حقيبتي. وضع يده ثانية على بطنه فلم أرَ الساعة، فسألته: "أين ساعتك؟". أجابني بلا مبالاة: "لقد أعجبت أحد الأصدقاء فأخذها ليلقي عليها نظرة، فقلت له إنّها لك".
أزعجني ذلك وقلت: "علي، إنّها هدية عقد قرانن، إنّها مباركة من مكة، مسكين والدي لقد اشتراها لصهره بشوق وحماسة، إنّها ساعة أصلية ماركة rado".
هزّ رأسه وأجاب: "سيأتي يوم نذهب نحن وتبقى هذه الساعات، فلتكن هذه الساعات فداءً لجذب القلوب".
[1] كان الشهيد يناديها (كُلُم)؛ أي عزيزتي باللهجة الهمدانية، ولكن أهل طهران يلفظونها (كُلَم) بفتح اللام.(المترجم)
165
152
الروضة الحادية عشرة
لم أتفوّه بشيء، لكنّ قلبي احترق من أجل الساعة.
عندما حلّ المساء، أردت البقاء معه "كمرافق للمريض"، لكنّ الحاج صادق قال: "أنا سأبقى عنده".
كان علي أيضًا يرغب في أن أبقى معه، لكن أسقط من يدينا نحن الاثنين، فذهبنا ليلًا إلى منزل الجدّ والجدّة الواقع في تقاطع كوكاكولا. كانت اللّيلة الأولى التي أقضيها في طهران. اضطرب قلبي من أجل علي كثيرًا. رغم نجاح العملية التي أجريت له إلّا أنّ جرحه كان حسّاسً، حيث قال الأطبّاء إنّه بحاجة إلى راحة كاملة وخاصّة، اضطربت لذلك، وفكّرت ماذا لو قام ومشى وحلّت به بلية، كنت أعلم أنّ علي لا يفكر في نفسه، ولا يولي أيّ اهتمام لصحته. في تلك اللّيلة دعوت الله حتّى الصباح، وطلبت منه أن يعيد لعلي عافيته.
صادف أن كانت تلك الأيّام يومي تاسوعاء وعاشوراء، أذكر أنّني كنت أقف جانب الطريق وأنظر إلى حلقات اللطم، كنت أخفي وجهي بالعباءة وأجهش بالبكاء، وعندما أشعر بالارتياح أرفعها عن وجهي وأطلب من كلّ الواقفات حولي الدعاء من أجل شفاء زوجي. بقيت أسبوعًا كاملًا في منزل الجدّة، كان الخال محمد قد أتى من السفر حديثًا من دون زوجتة وأطفاله، وأخبرنا أنّه جاء ولن يعود إلى السفر ثانية.
كنت أمضي أغلب فترات الصباح مع مريم[1]، وبعد الظهر كنّا نذهب إلى المستشفى لعيادة علي، هناك لم أكن أتزحزح من قربه، كنت أعتصر ألمًا؛ لأنّني لا أستطيع البقاء قربه ليلًا.
عدنا إلى همدان بعد أسبوع وذلك بعد إصرار الحاج صادق، رغم
[1] كانت مريم تسكن في نفس الزقاق في الطابق الثاني من منزل أم زوجها.
166
153
الروضة الحادية عشرة
أنّني كنت أرغب في البقاء عند علي، كذلك هو كان يرغب في بقائي معه، وهمس مرّات عدّة في أذني: "فرشته ابقي هنا"، لكن كلانا تهيّب قول ذلك للحاج صادق.
في 19 أيلول رجعنا إلى همدان. بقيت طوال الطريق من طهران حتّى همدان صامتة مكفهرة الوجه لم أكلّم أحدًا ولم آكل شيئًا. أحسست أن قطعة من بدني بقيت في طهران؛ إذ إنّ القلق والاضطراب وضيق الصدر وغمّ الفراق كادت تكتم أنفاسي.
لا أدري لماذا صرت هكذا فجأة. لم أتحمّل الابتعاد عنه. أصابتني حال عجيبة، وانزعجت من نفسي ورحت أدعو عليها بالويل والثبور، وكأنّ أحدًا قد وضع يده حول عنقي وضغط عليه. فعلت أيّ شيء لأهدأ لكنّني لم أستطع، كنت كالطائر الذي نتف ريشه، أفرفر حول نفسي، لمَ تركت علي وحيدًا؟ فقط لو أنّني تجرأت قليلًا لكنت الآن قربه.
عندما وصلنا إلى همدان ساءت أحوالي أكثر. كنت أوبّخ نفسي مئة ألف مرّة كلّ يوم، لماذا عدت؟ لماذا لم أبقَ قرب زوجي؟ أليس علي زوجي؟ من هو أقرب إليه منّي؟ لماذا لم أصرّ كي أبقى؟ شيئًا فشيئًا أسقمتني هذه الأفكار، فنحلت وتحول الخوف إلى خفقان قلب، طرحت سجادة صلاتي شطر القبلة طوال اليوم ورحت ألهج بالدعاء والذكر والصلاة.
في الأول من تشرين الأول علمنا أنّ أصدقاء علي قد أحضروه من طهران. كنت في منزل والدتي فحملت حقيبتي وأسرعت إلى منزلنا. أحضره الأصدقاء، فرشوا له السرير وأرقدوه. كان تحت إبطيه عكّازان، عندما رأيت العكازين دارت بي الدني، ماذا لو لم يستطع السير على قدميه مطلقًا؟! عندما دخلت الغرفة ودّعنا أصدقاؤه وذهبوا. كان أول عمل قمت به عندما أغلقت الباب أن رفعت طرف
168
154
الروضة الحادية عشرة
الغطاء عن قدميه فتنفست الصعداء، لا أدري لماذا كنت قلقة على قدميه، الحمد لله كانت كلتاهما في مكانهما.
في ذلك اليوم أتى كلّ من السيّدة منصورة، السيّد ناصر، أمير، الحاج صادق، السيّدة منيرة، وليلى، وبقوا عندنا طوال المدّة التي بقي فيها علي في البيت. بدأ توافد الضيوف من اليوم التالي، فجاء مسؤول الحرس والمديرون والموظفون، وإمام الجمعة، وقائد الجيش، جميعهم للاطمئنان إليه.
كانت السيّدة منيرة أستاذة في مادة التربية، ولأنّنا كنّا في بداية العام الدراسي كانت تذهب كلّ يوم إلى المدرسة. كذلك السيّد ناصر كان يذهب إلى محله، وهو عبارة عن مغسل سيارات يقع في أول جادة ملاير أسفل حديقة "بهشت"، فكنا أن، السيّدة منصورة، ليلى ابنة السيّدة منيرة، وعلي الممدد على السرير، نبقى وحدن، وبالتأكيد أمير الذي أخذ إجازة من عمله في جهاد البناء.
كان أمير كلّ يوم صباحًا يتسلّم لائحتنا الطويلة ويذهب إلى السوق من أجل شراء الأغراض. وأنا أصبحت ممرّضة علي الخاصّة، أنا أردت ذلك. كنتُ أعطيه العصير والفاكهة المعلّبة عند رأس الساعة. عند الظهر كنتُ أجلس قربه وأجبره على تناول الدجاج بالأرز أو اللحم المشوي. وإذا لم يكن لديه رغبة في تناول الطعام أو لم يأكله، كنت أرجع الطعام إلى المطبخ، ثمّ أعود وأحضره له 10 مرّات حتّى أظفر في النهاية، وأعيد الأطباق خالية.
كانت أيّام استراحة علي أيّامًا صعبة وحلوة في آن. وفي أغلب الأوقات كان السيّد أمير يبقى في البيت حتّى إذا ما جاءنا ضيوف بغتة استقبلهم.
168
155
الروضة الحادية عشرة
كنت أركض إلى هنا وهناك منذ الصباح الباكر، منذ أن أستيقظ لأصلّي صلاة الصبح وحتّى آخر اللّيل. أحيانًا كانت أوقات استراحتي هي عندما أحضر الطعام لعلي أو عندما أعطيه الدواء. أمّا في اللّيل فكنت أمدّ فراشي أسفل قدميه حتّى إذا ما تحرّك أقفز من نومي. كنت أعشق مداواته وأستمتع بذلك، تحسّنت حاله شيئًا فشيئًا، فاستطاع مستعينًا بالعكازين أن يسير في المنزل.
مرّت تلك الأيّام بسرعة الريح والبرق، كانت أيّامًا طيبة، أيّامًا بقيت أنا وعلي قرب بعضنا البعض، وتحدّثنا فيها بمقدار سنوات.
في 17 تشرين أول 1986ترك علي أحد العكّازين، وارتدى بزّة الحرس، واتجه ناحية الدرج بعكّاز واحد.
مهما أصررنا عليه أنا والسيّدة منصورة كي لا يذهب، لم نفلح. ولسوء حظنا لم يكن أمير في البيت ليساعده. ذهب بنفسه إلى الحرس، وعاد بعد ساعات عدّة ليأخذ حقيبته، رغم إلحاحنا أنا والسيّدة منصورة على نهيه عن ذلك -لأنّ مدة استراحته لما تنته بعد- لم يصغِ إلينا أبدًا.
في ذلك اليوم، ذهب إلى الجبهة بعكّاز واحد، وبذهابه ودّعنا الباقون واحدًا تلو الآخر وغادروا. فالبيت الذي كان في هذه الأيّام مختلف العديد من الناس، وتملأه الجلبة والضجيج، فجأة تحوّل إلى بيت خاوٍ وحزين. كان الجميع يشعر أنّ المنزل من دون علي لا يطاق لحظة واحدة. جمعت فراشه ودثاره وأنا أبكي، قبّلت عكازه ووضعته في الخزانة، أغلقت حقيبة اليد وأقفلت الباب وانطلقت إلى منزل أمي.
في 2 كانون الثاني (1987)، عاد علي فرحًا جدًّ، حيث إنّني لم أشاهده من ذي قبل وهو على تلك الحال من الفرح والسرور.
قال لي: "قرّرنا مع الإخوة في الحرس أن نذهب للقاء الإمام الخميني".
169
156
الروضة الحادية عشرة
نظرنا إليه بحسرة وزفرة، ورجته أمّي قائلة: "سيّد علي، أيمكنك فعل شيء من أجل أن نأتي نحن أيضًا؟
لقد كانت هذه رغبتنا جميعً، رغم أنّنا كنّا نعلم أنّها رغبة مستحيلة التحقّق.
ذهب للقاء الإمام يوم الثلاثاء، وعاد يوم الخميس في الأسبوع ذاته، عاد مشحونًا بمعنويات عالية. واستقبله الأهل بالعناق الحارّ. بمجيء علي وأحاديثه الجميلة حلّ في منزلنا جوٌّ آخر، كنّا نحن نسأل وهو يجيب.
بعد العشاء، ناولتني أمّي حقيبة اليد الجاهزة دومًا، واتجهنا نحو منزلن، كان الزقاق مظلمًا والأرض بدت كألواح زجاج من شدّة هطول الثلج، وفي اللّيل، عندما يشتّد البرد يتجلّد الثلج الذي ذاب في النهار، ويصبح السير على هذا الجليد صعبًا جدًّا. كنت أرفع قدمي على حذر، وأسير بخوف على مهل، كانت أسناني تصطكّ ببعضها البعض من شدّة البرد. انزلقت قدماي مرّات عدّة على الجليد، كنت أمسك بساعد علي عندما أشعر أنّني سأهوي أرضًا. وفي ظل هذا الوضع القاهر قلقت بشأن "قانون همدان"؛ لذا كنت أترك ساعده ما إن يزول الخطر.
عندما وصلنا إلى البيت، وبسبب فرحه وسروره وحماسته جراء لقائه الإمام قال لي: "فرشته، لا أدري لماذا أنّني ما زلت أشعر بالجوع، اطهي شيئًا لنأكله".
كنا قد أقفلنا باب المنزل وغادرناه مدة شهرين. دخلت المطبخ فتبعني، ورحت أفتح خزائنه وأغلقها لعلّي أجد شيئًا أعدّ منه طعامًا. فتّشت في البراد ووقفت قرب الجلاية. اتكأ علي على خزانة المطبخ ووضع يده عليها من الخلف ناظرًا إليّ.
170
157
الروضة الحادية عشرة
قال بحماسة وشوق: "فرشته، عندما ذهبنا إلى اللقاء الخاصّ بالإمام تقدّم أحد الإخوة وقبّل يد الإمام، وبينما هو يقبل يده حاول نزع خاتم الإمام من يده للتبرّك، سحبه إلى أن وصل إلى نصف إصبعه، لكنّه لم يفلح. عندما جاء دوري، أعدت الخاتم إلى إصبع الإمام ثمّ قبّلت يده، تبسّم الإمام وهزّ رأسه مؤيّدًا فعلي".
بعد ذلك حدّثني عن قطعة قماش بيضاء اللون كان قد أخذها معه ومسح عليها الإمام بيده مباركًا إياها.
في اللّيلة التالية كنّا في منزل الحاج صادق، كذلك أمير والباقون، قسّمنا قطعة القماش إلى قطع صغيرة (150 قطعة تقريبًا).
كان مع علي سبحة من تربة حسينية، لا أدري من أين أحضره، كانت رائحتها طيبة جدًّا. قطعنا خيطها بالمقصّ، ووضعنا في كلّ قطعة قماش حبة من السبحة قدر المستطاع، وثنينا القطع الصغيرة كالصرر، ووضعناها داخل كيس من النايلون. أراد علي بذلك أخذها إلى عناصره بعنوان هدية لقاء الإمام، لكن أعطاني أنا والسيّدة منصورة حصتنا قبل الجميع، قطعة قماش مباركة، وحبتين من السبحة الكربلائية.
كانت تلك اللّيلة هي اللّيلة الأخيرة لعلي في همدان، تأهّب في صباح اليوم التالي للذهاب إلى الجبهة، أغلقت حقيبته، وكلّما تفطّنت لشيء ما كنت أفتح الحقيبة من جديد وأدخل هذا الشيء.
كان يتبعني أينما اتجهت، أخيرًا قال: "فرشته، اهدئي قليلًا، اجلسي، أريدك في أمر".
نظرت إليه بتعجّب، أمسك يدي وجلسنا وسط الغرفة مقابل بعضنا البعض.
171
قال: "أريد أن أسألك شيئًا، أتقولين الحقيقة؟".
158
الروضة الحادية عشرة
خفق قلبي بسرعة، ولم أستطع أن أحدس بما يريد قوله لي. قلت: "نعم. قل ماذا هناك!".
عضّ على شفتيه وقال: "بالتأكيد أصبح معلومًا لديكِ كم أنّني إنسان كتوم".
ضحكت وقلت: "نعم، كثيرًا".
ثم ضحك هو وقال:
- لكن، هذه المرة سأحكي من صميم قلبي.
لم أدر ماذا يقصد، نظرت إلى عينيه الزرقاوين بتعجّب فقال: "غدًا سأذهب، لكن الذهاب من دونك صعب عليّ، لا أدري لماذا صرت هكذا!".
كاد قلبي ينخلع من مكانه، أطلقت أنفاسي الحبيسة، أحقًّا هذا هو علي الذي يتفوّه بهذا الكلام؟! علي الذي كان بالكاد يبرز مشاعره، ترى ماذا أصابه الآن!
قال: "أتأتين معي إلى دزفول؟".
في تلك الأيّام كانت دزفول تتعرّض لأشد أنواع القصف والصواريخ، فرحت لسماعي هذه الجملة، أمسكت يده وقلت: "يا إلهي لقد أخفتني! كنت أفكّر ماذا تريد أن تقول! نعم، ولماذا لا آتي معك".
سألني مبتسمًا وقلقًا في آن: "ماذا عن السيّدة وجيهة ووالدك، أيأذنان بذلك؟".
تنفّست الصعداء ثانية، وقلت:
- عذرًا! بما أنّني زوجتك أنت، فإذن ذهابي بيدك، فهذان المسكينان لا يقولان شيئًا.
172
159
الروضة الحادية عشرة
قال والقلق ذاته يعتريه: "ولكنّ الخطر هناك كبير".
فرحت لطلبه كثيرًا إلى حدّ أنّني شرعت في جمع أغراضي من دون الالتفات إلى الخطر المحدق بدزفول، فقلت: "أليس الخطر عليكم أيضًا؟!".
أجابني: "ثمّة فرق بيننا وبينكم، فرشته فكّري جيّدًا".
فتحت باب الخزانة لأتناول منها ألبسةً لي فسألته: "كيف الطقس هناك؟".
قال: "ربيعيّ كالجنة".
استدرت ولمزته بطرف عيني قائلة: "أيها الشرّير! أتريد الذهاب إلى الجنة وحدك؟".
لم يردف شيئًا. نهض وجمعنا أغراضنا الضروريّة ليلً، كانت أغراضنا عبارة عن طنجرة وملاعق وعدة أكواب وصحون نزهات وشنطة ألبسة وصور علي وعدة أغطية. كذلك جمعنا أغراضنا الأخرى ووضعناها في كرتونة لنودعها في منزل أمي. استغرق الوقت لإنجاز هذه الأعمال حتّى الصباح، فجأة قرّر علي إخلاء البيت وتسليمه إلى صاحبه، فقال: "نحن لسنا هنا، وقد يحتاج أحد غيرنا إلى البقاء فيه مدّة من الزمن".
عملنا معًا على توضيب الأغراض، وأبلغني أنّهم قد أعطوه وصديقه هادي فضلي منزلًا في إحدى قرى نواحي دزفول، حيث إنّ هادي فضلي قد سبقه إلى هناك برفقة زوجته وطفلتهما الصغيرة بعد أن نقل أثاثه إلى هناك.
وضّبنا الكراتين بعضها فوق بعض، لم يتبقَّ لحلول الصباح إلّا وقت قصير، وجدنا مكانًا نبيت فيه بين الأغراض، ونمنا مدّة ساعة
173
160
الروضة الحادية عشرة
أو ساعتين. عند الصباح أخذنا الأغراض ووضعناها داخل المخزن في فناء الدار عند أمي.
حدّث علي والدي بموضوع ذهابن، لم يعقّب والدي بشيء، واكتفت أمّي بالتأكيد علينا كي ننتبه لأنفسنا: "انتبهوا لأنفسكم، عندما تصلون إلى هناك اتصلوا بن، لا تتركونا بلا أنباء عنكم".
وضع علي الأغراض التي قرّرنا أخذها معنا إلى دزفول في صندوق السيّارة التي كانت بحوزته.
لم تكن السيّدة منصورة في همدان؛ إذ إنّ ابنتها مريم قد وضعت وليدتها الأولى "مونا" منذ أيّام عدّة فذهبت إلى طهران لمساعدتها. بعد توديع العائلة في همدان، ركبنا السيّارة وانطلقنا ناحية دزفول.
خلال الطريق من منطقة "معمولان" وصولًا إلى "دزفول" وضع علي شريط أناشيد ثورية في آلة التسجيل، أحبّ علي نشيدًا من بينها كثيرًا فصار يعيد الشريط لسماع النشيد ذاته.
- هو اللّيل ووجه الوطن يكسوه السواد
- حرام علينا الرقاد في الظلام
- هات بندقيتي لأبحث عن الدرب
- فكل عاشق قد سلك الطريق
- هذا أخي ألهبه الجوى والهيام
- صدره حقل من ورود الأقحوان
- هو اللّيل والبحر المهيب هو الطوفان
- ويشغل بالي إخوة التراب
- آتني بكفني وخنجري
174
161
الروضة الحادية عشرة
- فها هي القلوب الوالهة تقطر دمًا
- ها هو أخي اليافع؛ غارق في دمائه
- جمال شعره كالبركان
- يا من تدرك وجع العاشقين
- أنت ترافقنا في هذه الدروب
- انظر إلى دماء هؤلاء الأطياب قد نُقشتْ على الجدران
- اصدح بصوتك وكن سفيرًا للصبح المضيء
- أخي لا يقرّ له قرار؛ أخي اليافع المغوار
عندما وصلنا، ظلّ علي يدندن هذا البيت: "ها هو أخي اليافع، غارق في دمائه، جمال شعره كالبركان". كان علي محقًّا؛ إذ إنّ دزفول في ذلك الوقت من السنة تشبه الجنّة، أمر لا يصدّق، لقد غادرنا همدان صباحًا والثلج يملأ جوانب الأزقة، حتّى إنّ الجدران الثلجية كانت أحيانًا ترتفع أعلى من جدران بيوت الآجر أو الباطون. بدت قناديل الثلج معلّقة في مزاريب الأسطح، والطقس بارد جدًّا، حيث إنّه لا يمكن لأحد الخروج من المنزل من دون معطف وقبعة وقفازات.
والآن، فجأة خرجنا من مدينة ثلجية إلى جنّة. كان الجوّ بهيجًا وربيعيًّا، وأشجار البرتقال والليمون نضرة كثيفة الأغصان. وأوراقها الخضراء والبراقة تسرّ الناظرين. وعطر الورود يملأ فضاءات المدينة، ورائحة أوراق أشجار الكينا تسكر الناس.
ولأنّ الطقس كان لطيفًا، خلعنا الألبسة الشتوية منذ أن عبرنا "خرم آباد". كنّا على عكس أهل همدان الذين احدودبت ظهورهم من الصقيع وانكفأوا في منازلهم. كان أهل دزفول فرحين مسرورين يجولون في المدينة بكنزات وقمصان قصيرة الأكمام، ظننت أنّ دزفول
175
162
الروضة الحادية عشرة
خالية من السكان، ولكن لم تكن الحال هكذ، فقد دبّت الحيوية والحياة في المدينة.
كان الأولاد يلعبون في الشوارع، وتحلّقت النسوة أمام المنازل يتجاذبن أطراف الحديث، وكذلك الطرقات الساحلية بدت مليئة بالأشجار النضرة.
عبرنا طرقات عدّة، أحيانًا كنّا نشاهد خلال مسيرنا بعض البيوت المدمّرة والأعمدة المعوجّة، وهي علامات على القصف ورمي الصواريخ، وشاهدنا النوافذ المحطّمة والإسفلت المقتلع من الأرض بسبب القصف، والطرقات المليئة بالحفر، أمّا شجيرات النخيل فقد روت بنفسها حكاية الحرب المريرة.
دخلنا حي الـ 500مبنى، عبرنا شوارع عدّة، فوجدنا أنّ أزقتها مقارنة مع طرقات المدينة خالية نسبيًّا، كانت ترابية قاحلة. دخلنا الزقاق وعلي ما زال يدندن بكلمات النشيد: "ها هو أخي اليافع؛ غارق في دمائه؛ جمال شعره كالبركان". ثمّ توقّف أمام أحد المنازل منشدًا: "ها هو أخي اليافع؛ غارق في دمائه؛ جمال شعره كالبركان". هذا هو منزلك؛ تفضّلي يا وردتي، أهلاً وسهلاً بكِ".
176
163
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
عندما دخلنا المنزل، بدا في حالٍ مزرية والغبار يعلو كلّ شيء. لم يكن السيّد هادي فضلي وزوجته فاطمة قد استقرّا بعد في هذا المنزل الجديد، فانشغلا بترتيب الأغراض المكوّمة في الممرّ. وأوّل شيء خطر على بالي منذ اللحظة الأولى أنّ المنزل بحاجة إلى حملة تنظيف عامة.
في صباح اليوم التالي غادر السيّد علي والسيّد هادي، ثمّ حصلت تلك الحادثة، وحصل ذاك الخطأ الذي ارتكبته، والذي نتج عن قلّة خبرتي وحذاقتي في الحياة. ما زال الشعور بالندم إزاءه يلازمني حتّى اليوم.
بعد وصولنا دزفول بيومين أو ثلاثة، قُرع باب المنزل عند الساعة العاشرة صباحًا. ظننّا في البداية أنّه الشخص الذي أخبرنا علي عنه بأنّه سيأتي لتفقّدنا.
تأزّرت بعباءتي، ووقفت خلف الباب سائلة إيّاه: "من الطارق؟".
كان صوتًا غير مألوف وأجابني: "أنا سعيد صداقتي، معاون علي".
وأكمل السيّد سعيد قائلًا: "أتيت لأرى إن كان لديكم مشكلة".
أجبت: "لقد غادر السيّد علي والسيّد هادي صباح يوم السبت إلى الجبهة، وأخبرانا أنّهما لن يعودا عمّا قريب".
177
164
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
تعجّب وقال: "أنا ذاهب إلى الأهواز، زوجتي هناك، ومعها عائلة الحاج حسين همداني والسيّد بشيري وعدد آخر من الأُسَر، تعالوا واذهبوا معنا".
- ولكنّ السيّد علي لا علم لديه بذلك، قد يعود اللّيلة ويقلق علينا.
- سأبقيكم في الأهواز، وأذهب إلى السيّد علي وأخبره بنفسي، فقط أسرعوا قليلًا، فبقاؤكم هنا غير محمود.
ولسوء حظنا صارت الوضعية حمراء في تلك اللحظة، وارتفعت أصوات المضادات الجوية فقال السيّد سعيد قلقًا: "أسرعوا أسرعوا، سأذهب إلى السيّارة!".
بقيت متحيرة لا أدري ماذا أصنع. أخبرت فاطمة بالأمر فقالت: "فرشته، من الأفضل أن نذهب، في الحقيقة عندما تصبح الوضعية حمراء ليلًا أشعر بالخوف، نذهب إلى الأهواز، وعندما يريد السيّد علي والسيّد هادي العودة نعود معهما".
عندما سمعت وجهة نظر فاطمة انشغلت في جمع أمتعتنا، لكنّني بقيت أشعر بإحساس سيّئ، وكأنّ هاتفًا في داخلي كان يقول باستمرار: "لا تذهبي".
في كلّ مرّة أتذكّر تلك الحادثة أقول في نفسي ليتني لم أذهب مع السيّد سعيد إلى الأهواز، ليتنا لم نكن في المنزل، ولم نفتح له الباب، فبالتأكيد لجرت الأمور على نحو آخر؛ لكنّي للأسف فتحت الباب. حتّى في ذلك الوقت، كنت أفكّر في معارضة السيّد سعيد، لكنّني لا أعلم لماذا لم أقاوم، أساسًا لا أعلم لماذا ذهبت مع السيّد سعيد رغم مخالفة هواي لذلك. ركبنا سيّارة السيّد سعيد، وانطلق مسرعًا ناحية الأهواز فيما اجتاحني اضطراب شديد، ورحت أهمس لفاطمة بهواجسي. انتبه
178
165
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
السيّد سعيد لاضطرابي فقال: "لمَ أنت قلقة إلى هذا الحد؟ لا تقلقي، لقد أخبرتك أنّني سألتقي اليوم بالسيّد علي وأخبره بالأمر".
أخيرًا، وصلنا إلى الأهواز. عبرنا جسر كارون وخلّفنا وراءنا شوارع عدّة مزدحمة ومستشفى كبيرًا. توقّفنا أمام فيلّا جميلة، ضغط السيّد سعيد مرّات عدّة على بوق السيارة قائلًا: "إذا اجتمعت النسوة معًا سيرتاح بالنا أكثر".
بعد قليل، فتحت الباب سيّدة متجلببة بعباءة بيضاء معرّقة بورود بيضاء، أدركتُ أنّها حاملٌ رغم ارتدائها العباءة، وبعد قليل عرفنا أنّها زوجة السيّد سعيد. رحّبت بنا ودخلنا الفناء. كان المنزل على عكس منزلنا؛ كبيرًا وواسعًا وأنيقًا، تملأ الأشجار والحدائق المزهرة فناءه، وعُلّقت في وسطه أرجوحة أطفال بيضاء اللون، وبسرعة تصاحبنا مع زوجة السيّد سعيد التي صادف أن كان اسمها أيضًا فاطمة.
قلت لها إنّني أخشى أنْ ينسى السيّد سعيد إبلاغ السيّد علي والسيّد هادي بوجودنا هنا. فأجابتني: "سعيد! سعيد ينسى؟ مستحيل! حتمًا سيبلّغهما".
ارتاح بالي قليلًا عند سماعي كلامها. كانت الغرف في المنزل كبيرة وكثيرة، ونصيب كلّ عائلة غرفة واحدة. باستثناء المطبخ ودورات المياه فقد اشترك الجميع في استخدامها.
بعد قليل، جاءت زوجة الحاج همداني لاستقبالنا ورحّبت بنا أيضًا، كان إلى جانبها أطفالها، وهب ومهدي وزهراء. في تلك اللّيلة نمنا في غرفة السيّد سعيد؛ لأنّه لم يأتِ إلى المنزل. بقيتُ مستيقظة حتّى الصباح أتقلّب على السرير بسبب القلق والاضطراب. عندما نهضت لصلاة الصبح سيطر عليّ القلق أكثر. وما إن جلسنا صباحًا
179
166
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
حول مائدة الفطور حتّى قُرع جرس المنزل فنهضنا جميعًا.
ذهبت إحدى السيدات لتفتح الباب، عادت وقالت: "سيّدة فرشته، السيّد تشيت سازيان يريدك على الباب".
نظرتُ إلى فاطمة، عضضتُ على شفتي وهززت برأسي، تأزّرت بالعباءة بسرعة وهرعت نحو الباب. كذلك فاطمة لم تطق ذرعًا فلحقت بي.
وقف علي خلف الباب، وقد بدا نظيفًا وأنيقًا كأنّه قد أخذ حمامًا أيضًا. أمّا هادي فبدا غاضبًا وما إن رأى فاطمة حتّى نهرها: "أين أنتم إذًا؟!".
لم يقل علي شيئًا، ووقف ينظر إليّ بصمت.
سلّمتُ عليه بهدوء وأمسكت يده قائلة: "ادخل، هل تناولت الفطور؟".
لم يجبني، انقطع نفسي لتصرفاتهما، فأدركت أنّ كلّ ذاك الاضطراب والخوف لم يكونا جزافًا. سألت بارتباك وخجل: "ألم يقل لكما السيّد سعيد شيئًا؟ لقد قال إنّه سيخبركما بنفسه حتمًا!".
نظر علي إلى السيّد هادي بتعجّب: "من! أيّ سعيد؟".
- سعيد صداقتي.
- كلّا، لم نره منذ البارحة.
- لكن كيف علمتما أنّنا هنا؟
أجابني بتذمّر: "لقد رآكم أحد الجيران وأنتما تركبان سيّارة سعيد صداقتي، فقدّرنا أنّه ربما أتى بكما إلى هنا".
وبدلًا من أن يمتعض علي منّي، انزعجتُ أنا؛ لكنّني سيطرت على
180
167
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
نفسي كي لا أبكي. أتت السيّدة فاطمة زوجة السيّد سعيد صداقتي أيضًا ودعت الرجلان إلى الدخول. ذهب السيّد هادي وفاطمة وزينب إلى غرفة، وذهبت أنا وعلي إلى غرفة أخرى.
كان في المنزل الكثير من الغرف الخالية. استأتُ من نفسي فكيف لم أصغِ إلى حديث قلبي. فأنا أعلم أنّ قلبي لا يخدعني، فقد جرّبت هذا مرارًا، لا أذكر إن بكيت أم لا، لكنّني أذكر أنّني استأت كثيرًا، فقلت لعلي: "أقسم بالله، علي حبيبي لم يكن خطأنا، لقد أخبرنا السيّد سعيد أنّه سيراكما بالتأكيد، وسيخبركما بوجودنا هنا، أقسم لك إنّني لو كنت أعلم أنّه لن يراك، لتكسر قدمي ولا آتي معه".
بعد ذلك رحت أرجوه قائلة: "علي، بالله عليك، المعذرة، لا تنزعج مني، أعتذر منك".
تبسّم علي وقال: "يعني أنا منزعج الآن؟!".
لما رأيته يضحك بهدوء عادت لي روحي من جديد. نهضت وذهبت بكلّ سرور لأحضّر له فطورًا. كان خبز الـ "لواش" الأهوازي أسمك من الـ "لواش" الهمداني، وعندما يكون طازجًا وساخنًا يكون لذيذًا جدًّا. صرت كفراشة أطير بخفّة وسعادة، وأحضر له الشاي والخبز والمربى. رغم أنّه تناول الفطور بصمت، لكنّني كنت أعلم أنّه في عمق قلبه منزعج مني. خلال هذه الأشهر المعدودة اكتشفت أخلاقه، فعندما ينزعج أو يغضب من شيءٍ يعزف عن الكلام.
عندما أنهى تناول الفطور نهض وقال: "نحن ذاهبان، لدينا أعمال كثيرة، ابقي هنا الآن".
لم أعقِّب من خوفي، وفرحتُ لأنّ الموضوع قد ختم على هذا النحو، ذهبت إلى الممر وقلت بصوت عالٍ: "أيتها السيدات لا تخرجن فالرجال
181
168
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
سيخرجون".
بعد ذهابهما، هرعت إلى غرفة فاطمة، وجدتها مكفهرة الوجه. عندما رأتني سألتني: "ماذا حصل؟ هل شاجرك السيّد علي أيضًا؟!".
- كلّا.
- وهل قال لك السيّد هادي شيئًا؟
تململت وتأوّهت قائلة: "لقد كان هادي غاضبًا جدًّا، لكن، الحق معه. يا لحظّنا العاثر.. فمن بين كلّ هذه الليالي، ذهبا ليلة البارحة إلى البيت!".
حبست أنفاسي من التعجّب وقلت: "أأنت جادّة فيما تقولين؟ ذهبا ليلة الأمس إلى المنزل؟!".
حلّ دور فاطمة لتتعجّب، سألتني وهي تهمّ بالوقوف: "ألم يخبرك السيّد علي بذلك؟".
أومأت لها بالنفي، وبدأت فاطمة بشرح القصة:
- من حظنا العاثر، ذهبا ليلة البارحة إلى المنزل، عندما شاهدا أنّ الأضواء مطفأة ولا أثر لنا خاف المسكينان كثيرًا، حتّى إنّهما لم يتجرّآ على الدخول إلى الغرفة، قال هادي إنّه دفع السيّد علي ليتقدّم إلى الأمام والسيّد علي دفعه ليقوم هو بذلك؛ إذ إنّهما خافا من أن تكون نائبة ما قد أصابتنا. كذلك كانت "وصلة الكهرباء" (الفيوز) مفصولة، بعد معاناة شديدة عملا على توصيلها ودخلا المنزل. فرحا من ناحية؛ إذ إنّه لا حادثة وقعتْ كما ظنّا في بادئ الأمر، ومن ناحية أخرى احتارا؛ إذ أين نحن؟ وطار النوم من أعينهما جراء التفكير في هذا الموضوع. أخيرًا قال علي: "فرشته لديها أقارب هنا، لعلّهما ذهبتا إلى هناك". هكذا ارتاح بالهما قليلًا. ولأنّهما لم يستطيعا النوم انكبّا
182
169
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
على العمل في المنزل، فنفضا كلّ الموكيت وفرشاه، قال هادي إنّهما فرشا كلّ الأدثرة في غرفة الاستقبال بشكل مرتب.
عندما وصلت فاطمة إلى هنا طرفت بعينها وقالت: "والأفضل من ذلك أنّهما قاما بتنظيف كلّ النوافذ. ألم تري كم كانا مرتبين وأنيقين. بعد أن اتسخا جراء التنظيف استحمّا عند الصباح".
حدّثتني فاطمة بكلّ هذه التفاصيل بتأثّر وانفعال، ورحت أنا منذ تلك اللحظة وما بعدها أفكّر كيف أنّ علي لم يخبرني بشيء من هذا، وكيف استطاع إخفاء انزعاجه. أدّى هذا الأمر إلى أن أكتشف علي أكثر. عندها فهمت أنّه يختلف عن الآخرين، على الأقلّ يختلف عنّي كثيرًا، وعن الأشخاص الذين التقيتهم حتّى ذلك اليوم. لقد كانت تلك الحادثة بمنزلة صفعة شديدة لي.
في الأيّام العشرة أو الأحد عشر التي أمضيناها في ذلك المنزل، أتى علي والسيّد هادي لرؤيتنا مرّات عدّة، وبعد ذلك لم نعد نراهما.
عندما كنّا في الأهواز، ذهبنا مع فاطمة زوجة السيّد سعيد صداقتي مرّات عدّة إلى السوق، واشترينا بعض الأغراض حتّى لمنزلنا الكائن في دزفول.
في أغلب الصباحات كنت آخذ أولاد الحاج السيّد همداني إلى الفناء وأُركبهم على الأرجوحة. ولكن، في ذلك اليوم، وبمشيئة الله كان الأطفال نائمين، فذهبت لوحدي إلى الفناء، وجلستُ على الأرجوحة. فجأةً اكتسح الفضاء صوت طائرة حربية، وراحت تدنو أكثر فأكثر فأدركت أنّها عراقيّة. كانت طائرة ميغ سوداء مرعبة. مع أنّني كدت أموت من الفزع، لكن، لا أدري في تلك اللحظة أيّ قدرة منحني الله إيّاها. فما إن رأيت صاروخين ينفصلان عن طائرة الميغ باتجاهي، حتّى قفزت عن الأرجوحة بسرعة فائقة واتجهت ناحية الجدار، فيما
183
170
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
بعد وكلّما تذكّرت ما جرى، لم أصدّق نفسي. وضعت يدي على أذني وفتحت فمي وبسرعة نطقت بالشهادتين. كنت أرى كيف أنّ القذائف تتجه صوبي مباشرة، وانتظرت اللحظة التالية التي تشتعل فيها النيران وأستحيل رمادًا أو أقطّع إربًا. هزّت أصداء انفجارات متتالية كلّ شيء، ادلَهمّ المكان وغشّى الدخان والتراب كلّ شيء أمامي، ملأت رائحة البارود والغبار عمق حلقومي، وكأنّ القذائف قد انفجرت على بعد مئات الأمتار مني.
فهمتُ للتوّ أنّ هدف الطائرات كان مستشفى "كلستان" الذي يقع خلف منزلنا. عبقت في الأجواء الرائحة الكريهة مع حرارة الطقس الخانقة. لا أدري كيف نجوت من تلك الشدّة. عندما هدأت الأوضاع قليلًا، رأيت قطع حديد، وأسلاكًا، وشظايا كبيرة وصغيرة في الفناء وأمام قدميّ، ولكن، أشكر الله أنّه لم يصبني شيء منها.
في تلك اللّيلة، كنت قد رأيت في نومي أنّ علي قد أصيب بجروح في خصره، قفزت من فراشي ولم أستطع النوم حتّى الصباح. حينها انتابني شعور سيّئ. في الصباح أخبرت الجميع بمنامي، حاولت جاهدة كي أتناول طعام الفطور، لكنّني لم أستطع ولم يقرّ لي قرار، كنت أدخل من المطبخ إلى الغرفة ومن الغرفة إلى الفناء.
بعد قليل، جاء السيّد هادي والسيّد سعيد من دون علي. عرفت تفسير رؤياي في تلك اللحظة، وعرفت أنّ خوفي وفزعي لم يكونا عبثًا. مهما فعلت لم يخبراني بالحقيقة. قالا: "اتصلوا من المقرّ وطلبوه في جلسة، وذهب السيّد علي إلى همدان".
بعد ذلك قالا: "نحن نريد الذهاب إلى همدان وأنت تعالي معنا".
حدست أنّ شيئًا ما قد حدث؛ وأنّ كلّ هذا ما هو إلّا خطة. رغم ذلك قلت: "لا، لن آتي، ففي المرة السابقة التي أتيت فيها مع السيّد
184
171
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
سعيد تعلّمت درسًا لولد ولدي".
قال السيّد سعيد بانزعاج: "هذه المرة تختلف عن سابقتها، لقد تركنا السيّد علي للتو وهو بنفسه طلب منّا كي نأتي في أثرك. كان السيّد علي على عجلة من أمره؛ لذا اضطر إلى الذهاب مبكرًا مع أشخاص آخرين".
قلت: "سيّد سعيد، لقد قلت لي هذا الكلام ذاته في المرة السابقة، لقد قلتم لي إنّكم سترون علي بالتأكيد، أتذكر؟ مستحيل لن أتزحزح من مكاني".
عندما رأوا أنّ الوضع هكذا راحوا يلحّون عليّ ويقدّمون حججًا واهية، ولما رأوا أنّي لا أعير لكلامهم أيّ اهتمام، استنجدوا بخالي محمود. بعد ساعة، جاء خالي محمود برفقة محمد خادم، صديق علي، ومن جديد عملا على تكرار الكلام السابق.
- نحن نريد الذهاب إلى همدان، وطلب السيّد علي منّا أن تأتي معنا.
قلت: "أقسم عليك يا خالي، هل أصاب علي مكروه؟".
- أنا لا أكذب عليك، قلت لك إنّ ثمّة اجتماعًا طارئًا هناك، وذهب إلى همدان".
من جهة أخرى، جاءت النسوة وأصررن عليّ كي أذهب مع خالي إلى همدان، حتّى إنّهنّ رحن يساعدنني وأغلقوا لي حقيبتي. عندما رأيت ذلك، فكّرت أنّه عليّ الوصول إلى همدان بأسرع ما يمكن.
ركبت سيّارة محمد خادم "لاند روفر"، وأتى معنا خالي أيضًا، جلس هو في المقعد الأمامي وأنا في الخلف، ومحمد خادم خلف المقود.
عندما ركبنا السيّارة قلت لخالي: "فلنمر على دزفول لأحضر
185
172
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
ملابسي".
عندما وصلنا دزفول تذكّرت أنّني نسيت إحضار المفتاح، فاضطر خالي إلى تسلّق الجدار وفتح باب الفناء، لكن أيضًا لم يكن معي مفتاح المبنى، فصعد خالي إلى السطح وقفز من هناك إلى الباحة الخلفيّة، وبعناء شديد استطاع العثور على حقيبة ملابسي وأحضرها.
كنا على جادة "پل دختر" عندما قال لنا محمد خادم: "انظروا هناك، طائرة ميغ عراقية". كان صادقًا في قوله، فالطائرات كانت تحلّق على ارتفاع منخفض بمحاذاتنا.
قال محمد خادم: "اجلسوا بإحكام"، وداس على دواسة الوقود بكلّ ما أوتي من قوة، وعبر جادة "پل دختر" المليئة بالمنعطفات، وتقدّم إلى الأمام. عندما انتبهت الطائرة العراقية لوجودنا خفضت ارتفاعها أكثر وبدت كأنّها فوق رؤوسنا. أمسكت بإحكام بمقعد خالي من الخلف، وعند بداية كلّ منعطف كانت السيّارة تميل كثيرًا حتّى إنّني كنت أظنّ أنّها ستهوي على الطريق، أو أنّها ستنقلب أو أنّها ستصطدم بالجبل.
أصبحت طائرة الميغ على علوّ منخفض كثيرًا بنحو يمكن رؤية الطيار. وزاد من خوفي صوت طلقات رشاش الطائرة، كانت الطلقات تصيب إسفلت الجادّة، الجبل، وأطراف الطريق ثمّ ترتد نحونا. كان محمد خادم يقود السيّارة بحرفية عالية، ولحسن حظّنا لم تكن أيّ سيّارة أمامنا، فلو أنّ سيّارة ما كانت أمامنا، لاصطدمنا بها قبل أن تصيبنا الطائرات بسوء. في تلك اللحظات المهولة، دعوت الله أنّه إذا كان علي قد استشهد أنْ أستشهد أنا أيضًا هنا، وبهذه الفكرة هدأت بعض الشيء.
186
173
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
أفلتُّ مقعد خالي، وأسندت رأسي إلى ظهر مقعدي ورحت أقرأ الشهادتين بهمس، لكن بعد قليل، مرّت طائرة الميغ من أمامنا، وتركتنا لا مبالية، وغيّرت مسير تحليقها واختفت بسرعة خلف الجبل.
قال خالي إنّ هدفها كان محطة توليد الكهرباء.
وصلنا همدان عصرًا. كانت سحابة دخان كثيف تحجب سماء المدينة؛ والطقس بارد بخلاف طقس أهواز الربيعي، فالأشجار هناك خضراء، حتّى إنّنا زرعنا في الحديقة بعض الخضار. لكنّ طقس همدان كان باردًا كسيبيريا. والأشجار عارية ومنكمشة على بعضها البعض، تغطّيها الثلوج.
ضغط محمد خادم على مكابح السيّارة، وسأل رجلًا: "يا عم، ماذا استهدفوا؟".
قال الرجل: "لقد استهدفوا مخازن النفط، ومضخّة الوقود في درويش آباد منذ أربعة أيّام. واشتعلت حافلة صغيرة بالنيران مليئة بالركاب، وقضى جميع المسافرين فيها".
تعجّبنا كثيرًا، هذا يعني أنّ حاويات النفط اشتعلت منذ ثلاثة أو أربعة أيّام! أيّ منذ 30 دى إلى ذاك اليوم!
تابع الرجل: "لقد جرح 400 إلى 500 شخص، واستشهد 50 إلى 60 شخصًا".
ولأنّنا قدمنا من الأهواز، لم أكن أرتدي ملابس شتوية؛ لذا، صارت أسناني تصطكّ ببعضها البعض من شدّة البرد.
عندما وصلنا إلى محطة عباس آباد[1]، رحت أبحث بعينيّ في
[1] شارع شريعتي أحد الشوارع الستة المتفرعة من مستديرة (الإمام الخميني - همدان) وهو يتصل بمستديرة تحمل هذا الاسم نفسه (شريعتي)، ثمّ بشارع مهدية. منذ القديم كان أهل همدان يستقلّون السيارات المتواجدة على خط متنزّه "عباس آباد" و"كنج نامه" الجميل..؛ لذلك سميت هذه المستديرة " ايستكاه" أي (مستديرة المحطة).
187
174
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
الشوارع عن أحدٍ أعرفه. قال خالي: "فرشته، حقًّا، أتدرين ماذا حصل؟".
فجأة تجمّد قلبي كالثلوج على الطرقات، وصارت أسناني تصطكّ ببعضها البعض بقوة. أحسست أنّ الدماء قد تجمّدت في عروقي، عندما وجد خالي أنّني لم أجب قال: "السيّد علي..."، لم أدعه يكمل كلامه فقلت: "استشهد؟!".
نظر إليّ محمد خادم وقال: "كلّا يا حاجّة، أقسم لك إنّه جرح".
غضبت كثيرًا وانزعجت إلى حدّ لو أنّني طُعِنتُ حينها بسكين فلن تخرج منّي قطرة دم واحدة. صرخت أمامهما: "بلا فائدة! لا تكذبوا عليّ، لقد أخبرتكم أنّني رأيت منامًا ليلة البارحة، كنت متأكّدة من أنّ علي قد أصابه مكروه. لماذا خدعتموني؟ لمَ لمْ تقولوا لي الحقيقة في دزفول؟ توقّفا هنا أريد أن أنزل من السيّارة!".
حاول خالي تهدئتي فقال:
- انظري عزيزتي فرشته، لقد تعمّدنا ذلك كي لا تنزعجي، ولا تضطربي، ولا تراودك الأفكار السيئة، أقسم لك إنّ علي بخير، لقد جرح، وهو الآن في مستشفى شيراز.
- أريد أن أنزل من السيّارة!
انعطف محمد خادم داخل زقاق منزل والدتي، انزعج خالي كثيرًا وقال: "فرشته عزيزتي، سامحيني بالله عليك، أقسم لك إنّنا فعلنا ذلك من أجلك!".
ما إن توقّف محمد خادم أمام المنزل، حتّى أمسكت بقبضة باب
188
175
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
السيّارة وفتحته. كانت أمّي تنتظر خلف باب الفناء، وكأنّها كانت تعلم بمجيئنا، بينما أنا أنزل قلت لهما: "لقد أخطأتما! لقد لعبتما بمشاعري من الأهواز إلى هنا!". ثمّ أغلقت الباب بقوة.
هرعت أمّي أمامي فعانقتها وقبّلتها. وكالعادة، فاح منها عطرٌ طيّبٌ، واحتضانها لي بثّ فيّ السكون والراحة. وشكوت خالي إليها:
- أيظنّان أنّني فتاة صغيرة ضعيفة، فلم يخبراني أنّ علي جريحٌ، قالوا لي إنّ لديه اجتماعًا، كنت أعلم ما حلّ به، لقد رأيت أوّل أمس منامًا*[1].
قبّلت أمّي رأسي وهدّأت من روعي وقالت لي بحنان: "لا مشكلة، لقد أخبرنا السيّد أمير، ليس بالأمر المهم. ما شاء الله، إن علي قويّ، وسيتحسّن بسرعة".
في تلك الإصابة مرت رصاصة طائشة من جنب خاصرته واستقرت في الحوض واستعصى أمر إخراجها حتّى على الأطبّاء.
بعد أسبوع، ذهب علي لعيادة أصدقائه الجرحى في مستشفى طهران وهو على تلك الحال. ومن هناك عاد إلى همدان. جمعنا أغراضنا الضروريّة وعدنا معًا إلى دزفول.
[1] * أنّ علي قد جُرح.
189
176
الستائر البنفسجية والوردية
الستائر البنفسجية والوردية
بعد شهر تقريبًا عدنا إلى دزفول مجدّدًا. عاهدت نفسي أن لا أبرحها، وأن أبقى قرب علي.
في شباط من عام 1987، كان الجوّ ربيعيًّا. اشترى علي في اليوم الذي عدنا فيه إلى دزفول كيلوات عدّة من الدجاج وقال: "فرشته، اطهي لنا طعامًا لذيذًا كالطعام الذي يقدّم ليلة العمليات، فإنّنا سننطلق إلى الجبهة بعد الغداء".
شرعتُ في تنظيف الدجاج بسرعة، غسلته وأضفت إليه الملح والعقدة الصفراء وكثيرًا من البصل، ثمّ وضعت الخليط على غاز الرحلات[1] تحت نار عالية. كان السيّد هادي وعائلته في غرفتهم. لم تمض نصف ساعة من الوقت حتّى سمعنا صوتًا مهولًا مصدره الطابق الثاني، اهتزّ المنزل على أثره.
في البداية ظننت أنّه قصف. هرع علي والسيّد هادي حافيَي الأقدام وصعدا الدرج، وتبعناهما أنا وفاطمة، نظرنا إلى المكان فلم نجد أثرًا لطنجرة الضغط على الغاز، بينما ألسنة النار تتأجّج من الغاز. كان غطاء الطنجرة في مكان، والطنجرة في مكان آخر، وتوزعت قطع الدجاج والمرق على الجدار والسقف.
[1] picnic gaz.
191
177
الستائر البنفسجية والوردية
الدجاج والمرق على الجدار والسقف.
أحنيت رأسي خجلًا وحياءً. ضحك علي، وراح يجمع قطع الدجاج المتناثرة عن الباب والحائط ويأكلها بفرح طفولي. وتقدّم ليحضر الطنجرة، كان كمن وجد كنزًا؛ فقال فرحًا: "الحمد لله ما زال يوجد بعض الدجاج في قعرها!". تناولنا ذلك المقدار المتبقّي بلذّة عارمة.
كانت الحياة في دزفول -وأنا ابنة منطقة همدان الباردة- تختلف كثيرًا. ففي أوّل أيّام وجودنا في دزفول، نهضت مرّة من النوم، ورحت أوضّب سريري -لم يكن الرجال في المنزل- كنّا أنا وفاطمة وزينب ننام في الغرف السفلية حيث غرفة نومنا. وبينما كنت أجمع فراشي صرخت فاطمة وأيقظت زينب بصراخها.
رأينا تحت الفراش حشرة سوداء قبيحة المنظر، لها مخلبان طويلان وثماني أقدام بشعة، وذنب منتفخ ومعوجّ كالقوس في نهاية بدنها. أمسكت فاطمة بيدي وقالت: "إنّه عقرب!"، كنت قد سمعت بالعقرب سابقًا، وعلمت أنّ لسعته قاتلة وسامّة كلسعة الحية. رجعت فاطمة خطوات عدّة إلى الوراء من شدّة خوفها فقلت لها: "لا تخافي، العقارب تملأ المكان، إنّها تعيش في المناطق الدافئة، إن لم تؤذها فلن تؤذِيكِ".
قالت فاطمة: "لنقتله!".
أجبتها بهدوء: "إن قتلتِ هذا، ماذا ستفعلين بذلك؟". وأشرت إلى حواف الأبواب.
وبجولة واحدة عثرنا على 3 أو 4 عقارب أخرى. كانت فاطمة قلقة أكثر بشأن زينب فقلت لها: "لا تخافي، الآن ستختفي بنفسها، فالحشرات تخرج من حجورها ليلًا لتأمين طعامها وعند الصباح تختفي بين ثقوب الأبواب وفي فجواتها".
192
178
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
انحنيت ورفعت فراشي ووضعته في زاوية. كانت فاطمة من مدينة مريانج[1]، وترعرعت بين أحضان الطبيعة، لذلك ما لبثت أن تمالكت أعصابها.
أحضرتُ مكنسة وكنست العقارب إلى خارج الغرفة. ركضت العقارب الدميمة بسرعة وأخفت نفسها من أمام أعيننا من دون أن ننتبه متى وإلى أين اتجهت. لم نكن نراها طوال النهار، ولكن ما إن يحلّ اللّيل حتّى تخرج واحدة تلو الأخرى. لم أستطع النوم في الليالي الأولى، كنت أخال دائمًا أنّ عقربًا ما تحت غطائي أو وسادتي. ولدى سماعي صوت خشخشة، كنت أهبّ من الفراش وأضيء الأضواء، لكنّني اعتدت بسرعة على كلّ شيء.
كل صباح، عند استيقاظي من النوم، كنت أوضّب فراشي بحذر، فأجد عقارب عدّة مستقرة تحت وسادتي وفراشي. شيئًا فشيئًا صارت رؤية العقارب بالنسبة إليّ أمرًا اعتياديًّا. كنت أحضر المكنسة من دون أيّ جلبة وأكنس العقارب. رغم ذلك، لم أستطع القضاء على الخوف عند رؤيتها.
في أحد الأيّام، جاء علي والسيّد هادي مسرورين وقالا إن لديهما ضيفَين أو ثلاثة ضيوف على العشاء. فكّرنا أنا وفاطمة وقلنا، إنّ مسألة ضيفين أو ثلاثة ليست بالشيء الصعب.
في تلك الأيّام، نزلتْ لأول مرّة إلى السوق أشكال مختلفة من المعكرونة، اشترينا منها ذات الشكل اللولبي، وطهونا طنجرة كبيرة.
[1] مريانج: بلدة صغيرة هادئة بمحاذاة همدان. أهلها المتدينون معروفون بانحيازهم للثورة. وتقع على سفح جبل الوند الجميل، وفيها مياه وافرة وجوّها منعش. فيها محصولات زراعية وفيرة. وقدمت العديد من الشهداء أيّام الدفاع المقدس، ولهذا تُصنّف في المرتبة الأولى بين قرى المحافظة.
193
179
الستائر البنفسجية والوردية
خلطنا اللحم وكثيرًا من البصل مع الصلصة وسكبناها على المعكرونة، فبدا لونها جميلًا جدًّا.
عند حدود الساعة الثامنة من مساء يوم الجمعة، بدأ الضيوف بالتوافد برفقة زوجاتهم وأطفالهم. نظرنا أنا وفاطمة من النافذة، كانت بداية صفّهم على الدرج ونهايته في الزقاق. دخل علي مناديًا: "يا الله"، ما إن سلّم حتّى اعترضته قائلة: "عزيزي، لقد قلت إن الضيوف شخصان أو ثلاثة، لم تقل إنّك دعوت كلّ دزفول".
ضحك وقال: "لا تنزعجي".
- ماذا يعني لا تنزعجي! لم نطهُ سوى طنجرة معكرونة، تعال وانظر، هل تكفي هذه الجميع؟
أجابني بهدوء: "لا تنزعجي، لم يأتِ أحد من أجل العشاء، لا تزعجي نفسك، يأتي الضيف ويأتي رزقه معه".
جلست النسوة في البهو والرجال ذهبوا إلى غرفة الاستقبال. شعرت أنا وفاطمة بالاضطراب من أجل العشاء، مهما أجرينا حساباتنا وجدنا أنّ طنجرة المعكرونة لا تشبع كلّ هذا الجمع.
لهذا السبب، استأذنا من النسوة ودخلنا المطبخ وقمنا بتقطيع كلّ ما كان لدينا من بطاطا و"فقشنا" فوقها 10 أو 15 بيضة وطهونا "مقلاتين" أو 3 مقالٍ كبيرة من البطاطا المهروسة مع البيض.
ثم سكبنا المعكرونة في أطباق كبيرة، بدت جميلة اللون مليئة بالدهن. كان قعر المقلاة برتقالي اللون محمّرًا. جعلنا المعكرونة وقعر الطناجر من نصيب مائدة الرجال. أمّا البطاطا المهروسة بالبيض فوضعناها على مائدة النسوة، وأضفنا إليها البندورة، كبيس الخيار، والخضار.
بعد العشاء، وبينما كنّا نجمع المائدة ارتفعت أصوات المزاح وضحك
194
180
الستائر البنفسجية والوردية
الرجال من غرفة الاستقبال. كان علي زعيم المشاغبين. جلست قرب الباب حيث أستطيع رؤيته من الشقّ.
رأيته يحرّك كلتا يديه ويقول: "من يليني فليتناول منّي"[1].
لقد فرح الجميع في تلك اللّيلة، في آخر اللّيل وعندما غادر الضيوف، قال علي: "أرأيتِ؟ لم يحدث أيّ بلبلة واضطراب، أرأيت كم فرح الإخوة، لم يغادر أحد وهو جائع".
- أنت لا تدري كم اضطربنا أنا وفاطمة، لقد أُثقلنا همًّا، ونازعنا حتّى استطعنا تهيئة المائدة.
- عافاكما الله، سامحانا إن تعبتما وشعرتما بالغم. الإخوة في الجبهة لا يتنزّهون ولا يجدّدون نشاطهم، فدعونا الجميع. كان القليل من المشاغبة ضروريًّا ليضحكوا ويشحنوا بالمعنويّات.
في اليوم التالي، فكرنا أنّه إذا أردنا العيش مع الولائم في هذا المنزل، ينبغي لنا إجراء تعديلات عليه. ولأجل ذلك قصدنا السوق أنا وفاطمة، وبقينا نسأل حتّى وجدنا محلًّا لبيع الأقمشة. كانت المدينة نصف مأهولة بالسكان، وأغلب المحال مقفلة، ما خلا تلك التي تبيع اللوازم الضروريّة للناس. اشترينا من محل بيع الأقمشة قطعة قماش 10 أو 12مترًا للمطبخ، شطرنجيّة الشكل، ولونها ورديّ وأبيض، كان جذابًا جدًّا. واشترينا كذلك لغرفة الاستقبال قطعة قماش بنفسجيّة
[1] تناول يا رفيق: وهي لعبة تقليدية تتألف من ثلاثة أشخاص أو أكثر. يبدأ الشخص الأول بتحريك عضو من جسده (يديه مثلًا), يحركهما على نحو مضحك ويقول "خذ رفيق" ويعطي الحركة للشخص الذي يليه فيضيف الشخص الثاني عضوًا آخر ويحركه, فيحرك يديه وإحدى قدميه ويقول "خذ رفيق" ويعطي الحركة للشخص الذي يليه فيحرك القدم الأخرى مضافًا إلى اليدين والقدم الأولى، وهكذا دواليك، إلى أن يصل الدور إلى آخر شخص فيحرك تمام بدنه كالمرتعش، ويضحك لذلك جميع أعضاء اللعبة ضحكًا مدوّيًا. (المترجم).
195
181
ليتنا لم نذهب مع السيّد سعيد
منقوشة بالورود، فكم رضينا وقنعنا بذلك المنزل!! كنّا متحمّستين للوصول إلى البيت، إلى درجة أنّني جلست خلف ماكينة الخياطة فور وصولنا، وشرعت في خياطة الأقمشة.
كانت زينب متعبة، بعد أن نامت بدأت فاطمة بالطهو. قبل كلّ شيء خطت ستارة غرفة الاستقبال، كانت نوافذ غرفة الاستقبال قبالة الفناء وتطلّ على الزقاق، فعمدنا إلى تغطيتها بأثواب الصلاة. عندما أنهيت خياطة الستارة ونصبتها بمساعدة فاطمة تغيّر شكل المنزل برمّته. إن جمال المنزل بسجاده وستائره. صحيح أنّه لم يكن لدينا سجاد، لكن تلك الستارة جعلت منه منزلًا يشبه المنازل. كانت الستارة بنفسجية اللون، معرّقة بورود صغيرة صفراء وبرتقالية.
بعد غرفة الاستقبال جاء دور المطبخ، لقد أضفت الستارة عليه انشراحًا وحيويّة. كان في وسط المطبخ طاولة حديدية كبيرة فوضّبنا عليها كلّ ما يوجد من طناجر وأوعية ومعالق وشوك، أمّا في أسفلها فوضعنا أكياس خيش البطاطا والبصل، وعلب الفاصوليا الحمراء والحمص والعدس. جلست خلف ماكينة الخياطة وأدرت دولابها حتّى خطت شرشفًا كبيرًا لطاولة المطبخ، وأحكمت أطرافه بالمغيط كي لا ينزلق.
رتّبت الطاولة مع فاطمة، وفرشنا الشرشف المكشكش عليها، ووضعنا كلّ الأشياء الصغيرة تحتها. كان جمال الشرشف أنّه أخفى كلّ الأشياء الموضوعة تحت الطاولة. كذلك خطت قميصًا جميلًا للمجلى المعدني الذي لا يوجد أيّ خزائن في أسفله. كان قماش الشرشف والمجلى أيضًا من قماش ستارة المطبخ نفسه.
فرحنا كثيرًا لكلّ هذه الألوان والتنوّع. كنّا نروح ونجيء وننظر إلى الستائر، ثمّ نقف في غرفة الاستقبال ونقول: "كم غدت جميلة!"، ثمّ
196
182
الستائر البنفسجية والوردية
نأتي إلى المطبخ ونقول: "صار شبيهًا بالمطابخ".
خطت أيضًا من قطع القماش الإضافية قطعة سميكة توضع على طنجرة الأرز بعد طهوه لتنضج حبّاته على مهل، ويحافظ على سخونته، وعدة مقابض قماشية علّقناها على باب وجدران المطبخ.
بعد ترتيب وتزيين الطابق العلوي، نزلنا إلى الطابق السفلي. قرّرنا أن تقوم كلّ واحدة منّا بترتيب غرفتها. وجدت في الزقاق كرتونة فارغة، أحضرتها كطاولة زاوية في الغرفة وضعت بداخلها ألبومات علي لتصبح ثقيلة ولا تهتز، وغطيتها بقطعة قماش.
أحضرت معي من همدان شرشف كروشيه، كنت قد حكته بخيط أبيض حريري، وملأت البطّات ذات المناقير الحمر والنافرة وسط الشرشف، وحشوت البطّات بالقطن، كان للبطّات مناقير حمراء وأجنحة صغيرة نصف مفتوحة.
منذ سنوات درجت موضة الكروشيه، وأحبّ معظم النسوة والفتيات أنواعه المختلفة كثيرًا. وضعت الشرشف على الطاولة الكرتونية، وكنست الغرفة ومسحت الغبار. في اليوم التالي ذهبت أنا وفاطمة وزينب إلى السوق، واشترينا طقم صحون طعام. وانشغلنا أيّامًا عدّة بالكنس والغسيل وترتيب المنزل.
في إحدى الليالي، كانت كلّ المصابيح مضاءة، وكنا مشغولتين بإعداد الطعام في المطبخ. شاهد علي والسيّد هادي الستائر وهما في الزقاق. عندما كانت الأضواء تشعشع عليها ازداد جمالها أضعافًا. نزلا من السيّارة مسرورين.
قال السيّد هادي لعلي: "انظر! لقد صار لمنزلنا ستائر، ما أجملها!".
عندما دخل علي والسيّد هادي تعجّبا لكلّ التغير والألوان والجمال الحاصل في المنزل. فرحا وراحا ينظران إلى كلّ مكان بسرور.
197
183
الستائر البنفسجية والوردية
في تلك اللّيلة، وكالعادة كانا متعبين معفّرين بالتراب، فخلدا إلى النوم بسرعة. انتهزت الفرصة أنا وفاطمة وخرجنا إلى الفناء، ومسحنا لهما حذاءيهما جيّدًا ولمعناهما. ومن ثمّ غسلنا زيّيهما العسكريَّين. عند الصباح، تفاجأ الرجلان كثيرًا عندما شاهدا ملابسهما على الحبل، وحذاءيهما ملمّعين خلف الباب.
في تلك الأيّام شعرت أنا وفاطمة بالاشتياق إلى أهلنا كثيرًا. كان السيّد بختياري مكلّفًا بالمجيء كلّ يومين للقيام بشراء حاجيّاتنا. عندما قرع جرس الفناء كي نذهب إلى السوق فرحنا كثيرًا، وجهّزنا نفسينا أنا وفاطمة وقلنا له: "نريد الذهاب إلى مركز الاتصالات".
كان مركز الاتصالات (السنترال) يقع وسط المدينة، وهو عبارة عن قاعة كبيرة تضمّ حجرات عدّة للهاتف، ومقاعد خشبيّة، أكثر من كان يجلس عليها الجنود المجاهدون. كان المركز يغصّ بالأفراد في معظم الأوقات، فجلسنا ننتظر دورنا مدة ساعة.
أثارت زينب الفوضى حتّى أنهكت فاطمة. في النهاية حان دورنا، اتصلت بمنزل جارتنا السيّدة سكينة، وكم عانت أمّي حتّى وصلت إلى مكان الهاتف وتحدّثنا مليًّا. بعد أن أنهينا المكالمات كان السيّد بختياري ينتظرنا في السيّارة على بعد مسافة قليلة من مركز الاتصالات.
بينما كنّا نتّجه صوب السيّارة، ارتفع صوت المضادات الجوية، كان الشارع خاليًا، وزينب في حضن فاطمة، فجأة ضعضع المكان أصوات محركات عدد من الطائرات، ومن ثمّ توالت الانفجارات.
لم أدرِ إلى أيّ اتجاه أذهب، قالت فاطمة: "فلنذهب إلى ذاك الاتجاه!".
عندما هممنا بالذهاب إلى الاتجاه الذي أشارت إليه، امتلأ فجأةً
198
184
الستائر البنفسجية والوردية
بالدخان والغبار والتراب، وأظلم كلّ شيء، لم أستطع الرؤية وسمعت أصوات صراخ الناس ونحيبهم، وهبّ في وجهي حرّ شديد وسط ذاك الدخان والغبار.
اتجهت شظية حمراء وكبيرة بسرعة كبيرة ناحيتي. لا أدري أيّ قوة مدّني بها الله في تلك اللحظة. تركت المكان وانبطحت أرضًا. سمعت صوت الشظية وهي ترتطم بقوة بجدار دكان خلف رأسي، وقد أحدثت فجوة في جداره، كلّ هذا حصل في لحظات عدّة. لم أرَ فاطمة، ناديتها: "فاطمة! فاطمة!". سُمعت أصوات انفجارات أخرى من أماكن أبعد، كان مشهدًا مرعبًا.
مرّت الشظايا من جنب أذني كالجراد المتوغل في مزرعة، كان علي قد نبّهني مسبقًا إلى أنّه في مواقف كهذه ينبغي لي التمدّد أرضًا، وأن أضع يديّ على أذنيّ وأفتح فمي.
فكّرت طوال هذا الوقت في فاطمة وزينب. بعد مرور وقت قصير، هدأت الجلبة قليلًا. رفعت رأسي ورأيت سيّارة السيّد بختياري من بين التراب والجوّ الملوّث بالغبار. نهضت وأسرعت ناحية السيّارة، وارتميت على المقعد الخلفي.
في هذا الوقت وصلت فاطمة وزينب، حملتُ زينب وقبّلتها، أغلقتْ فاطمة الباب بخوف واضطراب وقالت: "فرشته، هل أنت بخير؟".
كانت حالي جيّدة. وضعت رأس زينب على صدري، سمعت صوت قلبها الذي كان يخفق بسرعة كقلب عصفور. في تلك اللّيلة فزعنا كثيرًا، وقرّرنا أن لا نخبر زوجَينا بما حدث؛ لأنّهما سيقلقان علينا.
عندما كان يحضر زوجانا لا نشعر بالشوق إلى أيّ أحد أو إلى أيّ مكان، لكن، ما إن يغادرا حتّى يبدأ غمّنا وحزننا. في إحدى المرات،
199
185
الستائر البنفسجية والوردية
عندما همّا بالذهاب إلى الجبهة قلت لعلي: "عزيزي علي، لقد اشتقت إلى همدان بعض الشيء".
- لهمدان أم للهمدانيّين؟
أجبته ضاحكة: "للاثنين معًا".
في اللّيلة التالية، عاد علي على عجل وقال: "فرشته، ضعي عباءتك على رأسك لقد جاء أحد أقربائك".
تعجبت وسألته: "أيّ أقارب؟".
ضحك وقال بشقاوة: "ألم تشتاقي إلى الهمدانيين؟!".
تجلببت بالعباءة وذهبت إلى الفناء. غمزني بطرف عينه وقال: "هذا ابن عمّك".
كان قد أحضر معه وحيد ابن عمّي باقر. رأى وحيد علي في الجبهة فتقدّم إليه وعرّفه إلى نفسه.
أمسك علي بيده وقال: "ستأتي اللّيلة وتتناول العشاء في منزلنا، فرشته مغمومة، ستُسرّ برؤيتك حتمًا".
في الحقيقة لقد سررت كثيرًا، جلست أنا ووحيد واستغرقنا بالحديث.
- أتذكر يا وحيد عندما كنّا صغارًا كم كنّا نثير الشغب؟
ضحك وحيد وقال: "أتذكرين كم كنتُ مشاغبًا؟".
عندما رآنا علي مستغرقين بالأحاديث فرح كثيرًا، فأحضر طعام العشاء بنفسه، ومدّ السفرة، وبعد العشاء جمع الأواني ونقلها إلى المطبخ. عندما علا صوت قرقعة الصحون احترق قلبي لأجله، قلت في نفسي إنّ علي متعب، فذهبت إلى المطبخ كي أغسل الصحون بنفسي،
200
186
الستائر البنفسجية والوردية
فلم يقبل وقال: "ألم تكوني مغمومة! اذهبي وتحدّثي إلى وحيد فيذهب عنك الغم".
لم أذهب، بل ساعدته وغسلنا الصحون معًا. عندما دخلنا الغرفة وجدنا أنّ وحيد نائم في إحدى زوايا الغرفة من دون فراش. انزعجت كثيرًا، وتفطّر قلبي عليه، أردت إيقاظه كي أفرش له فراشًا، لكنّ، علي لم يقبل فقال: "دعيه، اتركيه نائمًا، إن هؤلاء اعتادوا في الجبهة على النوم على الحجارة والتراب، فوحيد الآن يشعر أنّه نائم على ريش النعامة في فندق هيلتون".
رغم ذلك، لم يطاوعني قلبي فقلت: "عزيزي علي، لقد أتى ضيفًا ليلةً واحدة، فلو كانت زوجة عمي هنا الآن أتترك ولدها ينام من دون فراش؟!".
غطّيته بالشرشف وأعطيت علي وسادة ليضعها تحت رأسه.
كان طقس دزفول بالنسبة إلينا -نحن الهمدانيّين- شديد الحرارة، وكأنّ الصيف هنا يبدأ من أواسط أسفند (أوائل آذار)، فكنا نضطر في ذلك الفصل من السنة إلى تشغيل المبرّدات. أحضر الرجلان مبرّدًا قديمًا وعملا على تركيبه وتلحيمه في نافذة غرفة النوم لجهة الفناء. كانت قناة المبرّد الحديدية تمتد في الغرفة كالبئر إلى ما لا نهاية، وعندما تسكن الأصوات ليلًا، نلتفت إلى أنّ صوت المبردات مخيف جدًّا، وغير محتمل، لكن بعد مرور ساعات عدّة نعتاد على أصواتها وننام.
في صباح أحد الأيّام، استيقظت من أجل صلاة الصبح، عندما فتحت باب الشرفة تعجبت كثيرًا؛ إذ رأيت علي نائمًا هناك من دون غطاء وفراش، متوسّدًا حذاءه العسكري، وضامًّا قدميه إلى بطنه،
201
187
الستائر البنفسجية والوردية
كان قد عاد باكرًا. تفطّر قلبي عليه، انحنيت وهززت كتفه.
- علي، علي عزيزي لمَ أنت نائم هنا؟
نهض وجلس، لم يكن قد اكتمل طلوع الشمس بعد، عندما رآني تبسّم وسلّم عليّ وسألني عن أحوالي.
سألته: "لمَ نمت هنا؟".
أخذت حذاءه العسكري لأضعه جانبًا، فركض عقربٌ مسرعًا من تحت حذائه العسكري باتجاه الحائط فقال: "لقد طرقت الباب والنافذة كثيرًا ليلة البارحة لكنك لم تستيقظي".
- ألم يكن معك مفتاح؟
- ظننت أنّ فاطمة قد تكون نائمة في البهو، فلا يصح أن أدخل كيفما كان.
جلست قربه وأمسكت بيده وقلت: "المعذرة كان صوت المبرّد قويًّا فلم أسمع طرقك، هل تأذيت؟".
- كلّا، لحسن الحظ كان ذلك جيّدًا، كنت أعلم أنّك تنامين خلف الباب فرأيت أحلامًا جميلة حتّى الصباح.
ذهب علي ظهر ذلك اليوم إلى الجبهة، ولكن رغم حرارة الجوّ لم نشغّل المبرد بعد ما جرى تلك اللّيلة.
ها قد أفل شهر اسفند[1]، ونحن على أبواب عيد رأس السنة (الشمسية)، العيد الأول لحياتنا المشتركة. وعدنا الرجلان أن يحضرا إلى المنزل عند بداية السنة الجديدة. في تلك السنة كان لدينا حماسة وشوق عجيبان لتعزيل المنزل. رغم أن الوضعية في دزفول
[1] اسفند: وهو آخر شهر في السنة الهجرية الشمسية (ما بين 20شباط الى 20 آذار).
202
188
الستائر البنفسجية والوردية
كانت دائمًا حمراء، وكنّا كلّ ساعات عدّة نسمع صوت انفجار قريب أو بعيد. في تلك الظروف دبّت فينا مشاعر جيّدة. كنّا نستيقظ باكرًا ونقوم بتنظيف الأبواب والجدران جيّدًا، ونلمّع زجاج النوافذ، وننزع الموكيت من الأرض، ونأخذه إلى الفناء، ونغسله بواسطة المكنسة بالماء ومسحوق الغسيل ونصعد به إلى السطح بمشقة كبيرة، ونعلّقه على حافة السطح.
رغم أصوات المضادّات الجوية وأصوات الانفجارات والقذائف شطفنا الفناء وعقّمنا دورة المياه. ملأت رائحة المبيّض ومسحوق الغسيل المنزل، عشيّة العيد، أصبح كلّ شيء نظيفًا ورائحته جميلة.
عندما انتهت أعمال المنزل، انتقلنا لتجهيز طاولة الـ "هفت سين". بشوق عارم فرشنا خوانًا وسط الغرفة، ووضعنا عليه كلّ ما استطعنا الحصول عليه، أو ظننّا أنّه يصلح لمائدة الـ "هفت سين": قرآن، رحل (مسند التلاوة)، ساعة، ليرة ذهبية، وتفاح. لم يكن لدينا نبتة خضراء، ومن أجل شرائها جُلنا أيّاما عدّة داخل المدينة، وحتّى إنّنا جلنا في كلّ دزفول، ومع ذلك لم نجدها.
ففكّرنا أنّ نضع على المائدة خضارًا مكان النبتة الخضراء. حملت سلّتي واتجهت نحو الزقاق. لسوء حظنا كان محل بيع الخضار في ذاك اليوم مقفلًا. مررت لأول مرّة بعدّة أزقة في ذاك الاتجاه بسرور، رأيت من بعيد امرأة تجلس أمام باب منزلها وأمامها على الأرض بسطة مليئة بالخضار. حثثت الخطى نحوها، كانت امرأة عربيّة المظهر، ترتدي شالًا أسود اللون، وعباءة بأكمام، ورُسم على ذقنها وشم أزرق.
سلّمت عليها وسألت: "هل الخضار للبيع؟".
أجابت المرأة بلهجة غليظة: "ها! بكم تومان تريدين؟".
203
189
الستائر البنفسجية والوردية
- أريد كيلوًا واحدًا.
وضعت السلّة قربها، كانت تعفش الخضار بقبضتي يديها الغليظتين وترميها في السلة حتّى امتلأ نصفها.
- لقد صارت كثيرة.
كانت ملامحها توحي بالجديّة والصلابة ومن دون أن ترفع رأسها، ناولتني السلّة قائلة:
- أعطني ثمن كيلو.
لم أفهم ماذا قالت. مررت يدي بين الخضار، ونقيّت منها أوراقًا عدّة رطبة وقلت: "إنّها مليئة بالأعشاب".
نزعت المرأة تلك الأوراق من يدي بسرعة وهي على تلك الحال من الجدّية وراحت تمضغها قائلة: إنّه "پربين[1] وليس عشبًا، هو مضادّ للحرارة والاستفراغ، يفيد القلب، وله خصائص جمّة، تذوّقيه حتّى تري كم هو لذيذ، فهو مع البصل المقلي والنعنع اليابس لذيذ جدًّا".
وبصعوبة بالغة فهمت من كلامها أنّ پربين ليس عشبًا أو علفًا، وهو نوع من الخضار المفيدة للقلب، ومضادّ للاستفراغ والحرارة. بالتأكيد، فيما بعد علمنا أنّ الهمدانيّين يطلقون عليها اسم "خرفه".
عندما أردت أن أدفع ثمن الخضار، تناولت المرأة الكثير من خضار "الخرفه" ولاكتها أمامي.
لمّا وصلت إلى المنزل، رحت أحدّث فاطمة عن الخرفه، وكأنّني اكتشفت أمرًا عظيمًا.
قالت فاطمة: "نحن أهل مريانج نعتبر هذا عشبًا ونرميه بعيدًا".
[1] بربين أو بربهن أي الفرفحين. (المترجم)
204
190
الستائر البنفسجية والوردية
حملت أوراقًا من الخرفه ووضعتها في فمي مقلّدةً المرأة العجوز، كان مذاقها رطبًا وحامضًا قليلًا، وطعمها مختلفًا وجديدًا، فقلت: "لها فوائد كثيرة: جيّدة للقلب، مضادّة للاستفراغ، والإسهال، من قال إنّها أعشاب!".
ضحكنا لذلك ورحنا ننظّف الخضار. وخلافًا لما اعتدنا عليه حيث كنّا نرمي الخرفه، أخذنا نأكلها بشهية هذه المرة قبل الغسل وبعده قدر ما استطعنا. وضعنا الخضار المغسّلة في طبق كبير وسط خوان الـ"هفت سين".
ثمّ وضعنا داخل طنجرتين منفصلتين قشر بصل وخضارًا وقليلاً من الماء، ووضعنا الطنجرتين على الغاز. عندما غلا الماء رمينا داخل الطنجرتين بيضاتٍ عدّة لتغلي مع الخضار وقشر البصل وتصطبغ بالألوان.
بقي القليل من الوقت لحلول السنة الجديدة. بدّلنا ملابسنا، وألبسنا زينب طقمًا جميلًا، وغسلنا يديها ووجهها، وسرّحنا شعرها على شاكلة أذنَي فأرة، فبدت جميلة جدًّا، وجلسنا بجانب الخوان ننتظر زوجينا وحلول العام الجديد.
كلما اقترب موعد حلول السنة الجديدة تضاعف القلق في داخلنا. كنّا نعلم أنّ عمليات "كربلاء 4، و"كربلاء 5 وكربلاء6"[1] ستستمر ابتداءً من شهر دى (ك1 - ك2) فصاعدًا. كنّا قلقتين على زوجينا، وانتظرناهما حتّى وقت متأخّر من اللّيل خلف النافذة.
[1] بدأت عمليات كربلاء 4 في تاريخ1365-10-3 (24/ ك1/ 1986) في منطقة البصرة أبو الخصيب. وعمليات كربلاء 5 بتاريخ 1365-10-19(9/ك1987/2) في منطقة شلمجه. وعمليات كربلاء 6 بتاريخ 1365- 10-23 (9/ك2/ 1987)في منطقة كرمانشاه (نفت شهر). واستغرقت كل واحدة منها مدة من الزمن. أحدثت عمليات كربلاء 5 ملحمة كبرى, حيث قال محسن رضائي حول هذه العملية: "لقد وصلنا في عمليات كربلاء 5 إلى كل ما أردناه".
205
191
الستائر البنفسجية والوردية
رفعت فاطمة الستارة من زاوية وأنا من الزاوية الأخرى. عندما كنّا نرى سيّارة ما تدخل الزقاق، تغمرنا الفرحة لذلك، لكن ما إن تتوقّف أمام منزل أحد الجيران، وتفتح الباب زوجة أحد القادة، نزفر آهًا لخيبتنا، ونترك طرفي الستارة ونجلس في أماكننا.
لكنّنا ما نلبث أن نعاود الكرّة، فترفع فاطمة طرف الستارة من زاوية وأنا من زاوية أخرى. حلّ وقت رأس السنة الجديدة ونحن ما زلنا واقفتين خلف النافذة ننتظر. أُطفئت مصابيح المنازل من حولنا الواحد تلو الآخر، فيما بقينا مستيقظتين ساعاتٍ عدّة بعد منتصف اللّيل والرجلان لم يحضرا بعد. لم نطفئ المصابيح، جلسنا طويلًا جنب خوان الـ"هفت سين" حتّى ثقلت جفوننا شيئًا فشيئًا وغفونا.
في الأول من فروردين يوم السبت 21 آذار1987. كنّا بين النوم واليقظة عندما تناهى إلى سمعنا صوت على الباب. نهضنا بسرعة ورفعنا طرفي الستارة. كانا قد حضرا معًا: متّسخين، أسودين، وبمجيئهما كأنّهما أعطيانا الدنيا كلّها عيدية. دخل علينا أول ضيوفنا لرأس السنة باكرًا مع طلوع الفجر ملطّخين بالوحل والتراب.
عندما دخلا الغرفة سلّما علينا ضاحكين. وضع علي يده في جيبه، وتناول منها بعفويّة ومن دون مقدّمات زجاجة عطر خضراء اللون وقدمها لي قائلًا: "كل عيد وأنت بخير".
كم كانت هدية رائعة جاءت في وقتها! غمر الجميع البهجة والسرور، ولكنّ فرحتهما بدت كفرحة الأطفال لدى رؤيتهما مائدة الـ"هفت سين". تسمّر علي على المائدة، وبينما هو واقف راح يعدّ الأشياء التي تبدأ بحرف سين واحدًا تلو الآخر.
قلت بامتعاض: "عزيزي علي، للأسف لم نجد سمكة حمراء!".
206
192
الستائر البنفسجية والوردية
فما كان منه إلّا أنْ مثّل بحركات خدّيه وفمه شكل سمكة قائلًا: "أنا سأكون سمكة مائدة الـ"هفت سين" خاصّتكم، وقد أتيت للتوّ من قناة السمك[1]. المعذرة لقد أصبحت سمكة دخانية بدلًا من السمكة الحمراء!".
جلس الرجلان عند المائدة بذينك اللباسين العسكريين، تحدّثنا وضحكنا وأكلنا الشوكولاتة والحلوى، ورششنا عليهما ماء الورد.
بعد الظهر، ذهبنا إلى مزار "سبزه قبا" -وهو ضريح أحد أحفاد الأئمة عليهما السلام- وقد مدّتنا الزيارة بشعور جيّد، وأشعرتنا بالهدوء. ومن بعدها ذهبنا إلى شوش، إلى مزار النبي دانيال عليه السلام وعدنا من هناك بحال وشعور طيّبين.
يوم الأحد 22 آذار 1987، قصدنا سد "دز". كان سدًّا جميلًا ورائعًا بطبيعته الخلابة وأرضه المتموّجة. انتعلت حذاءً رياضيًّا أزرق وأسود اللون، ورحت أصعد التلال بخفّة وسرعة. فرح علي كثيرًا لذلك وقال: "لطالما أحببت أن تكون زوجتي رياضية. إنّني سعيد جدًّا؛ لأنّك لست متقاعسة، ابقي دائمًا هكذا".
انتهى شهر فروردين وأتى شهر ارديبهشت بِحَرِّه وقيظه، وكأنّ الشمس كانت تهبط على سطوح المنازل صباحًا، وتفرغ حرّها على المدينة فتبدو وكأنّ الجدران يتصاعد منها اللهب. كان المبرّد يقرقر منذ الصباح حتّى المساء، لكنّه لم يقدر على فعل شيء. كان الجوّ حارًّا مثقلًا بالرطوبة، فلم نبرح غرفة الاستقبال لوجود المبرّد فيها. كنّا نتردّد على معظم الجيران الذين هم أبناء مدينتنا، وكان أزواجهم
[1] قناة السمك: أنشأ العدو في منطقة شلمتشة عوائق دفاعية كثيرة طبيعية وصناعية. كانت قناة السمك العائق الثامن من حيث الضخامة والحجم. أنشئت قناة تربية السمك قبل الحرب بطول 29 كلم وعرض متر واحد، وعمقها 2.5 متر. وحتّى هذا العائق لم يكن شيئًا أمام إرادة المجاهدين الحديدية.
207
193
الستائر البنفسجية والوردية
في الجبهة مثل زوجينا، لكن بمجرد أن ترتفع حرارة الطقس ينقطع التواصل وكأنّ الجميع مثلنا قابعون تحت المبرّدات. شيئًا فشيئًا، جمع الجيران أمتعتهم وغادروا. في كلّ يوم، كانت إحدى العائلات تطرق باب منزلنا لتوديعنا.
بعد أيّام عدّة تدهورت حال زينب الصحية؛ إذ أصيبت بالإسهال والاستفراغ جرّاء ضربة شمس. كذلك أنا، لم تكن حالي أفضل من حالها. فقد ساء مزاجي، ولم أستطع أكل شيء سوى شرب الماء. صارت فاطمة ممرّضتي وممرّضة زينب. عندما جاء علي ورأى ما حلّ بي، وعندما رأى السيّد هادي جسم زينب النحيل ولونها الأصفر قالا: "اجمعا أغراضكما لنعود إلى همدان".
قاومت ذلك بشدّة، لم أشأ العودة إلى همدان، لقد أتيت إلى هنا لأبقى إلى جانب زوجي، وأعيش في دزفول، فقلت لعلي: "هذا منزلنا فأين نذهب؟".
- "أنتما لم تعتادا على طقس هذه المنطقة.. ستمرضان".
- وأنتما ستمرضان، أنتما في الصحراء ونحن تحت المبرّد".
أصرّ علي على أن نترك دزفول فقال: "إن تكبّدكما العناء لأجلنا في هذا الحرّ الشديد يعذّب وجداني، فعملنا ووضعيّتنا غير واضحين؛ يحتمل أن نذهب غدًا أو بعد غد إلى جبهة الغرب، عندما تكونان في همدان يرتاح بالنا أكثر".
أجبته بانزعاج: "وأنا ماذا عن بالي غير المرتاح، ألا تفكّر فيّ! ماذا أفعل؟ لقد أتيت لأفي ديني، أريد أن يكون لي دور في هذه الحرب".
ضحك وقال:
- لقد قمت بوظيفتك إلى الآن على نحو جيّد، المعذرة، سيكون بالنا
208
194
الستائر البنفسجية والوردية
مرتاحًا أكثر إن ذهبتما إلى همدان.
كلّما أصررت على البقاء أصرّ هو على المغادرة، فقلت: "على الأقلّ دعونا نبقى هنا إلى حين ذهابكما إلى الغرب".
في النهاية انتصر علي والسيّد هادي، وضّبنا أغراضنا في كراتين، ووضعناها في السيّارة، وعدنا من حيث أتينا. في ذلك اليوم وصلت حدّة القصف وسقوط الصواريخ في دزفول إلى الذروة، ما إن عبرنا الطريق حتّى سمعنا بعد دقائق صوت انفجار، وارتفع خلفنا دخان غليظ في الأجواء.
داس علي على دواسة البنزين وبسرعة أبعدنا عن تلك المهلكة. خلال هذه المرات العديدة التي أتيت فيها دزفول، كنت أستمتع بشعور جيّد، وعند العودة منها يجتاحني شعور بالخوف والاضطراب. كنت أعلم أنّه في همدان سيُكتب لي أيّام عصيبة من البعد والوحدة والانتظار. رغبت في البقاء، ظننت أنّني لم أقاوم كما يجب، والأنكى من ذلك كلّه كنت أسمع علي والسيّد هادي يخطّطان للعودة وحدهما.
مرّت الساعات الثمانية من دزفول إلى همدان بالنسبة إليّ وكأنّها ثماني دقائق، لم أرغب في الوصول إلى همدان أبدًا، ولكن هذه المرة ما كان أسرع الوصول!!
قبل وصولنا إلى همدان أمطرت السماء، وغسلت الأرض والأشجار جيّدًا، كان الجوّ لطيفًا، وفاحت في الأجواء رائحة البراعم الربيعية، ولبست السماء قطعًا من الغيوم المتداخلة فيما بينها.
وضعنا الأغراض في المخزن في فناء منزل والدتي، وذهبنا لرؤية السيّدة منصورة. لم تكن حالها جيّدة، وعاودها الكسل في كُليتيها من جديد. فأمير أُرسل في الرابع من فروردين إلى جبهة الغرب، وبذهابه
209
195
الستائر البنفسجية والوردية
فقد المنزل نشاطه وحيويّته السابقين. كانت السيّدة منصورة متعلقة بأمير أكثر من الآخرين. فعندما لا يكون أمير في الجبهة، تكون كلّ أعمال التسوّق ومتطلّباتها على عاتقه، وبعد ذهابه يفقد المنزل رونقه.
كانت السيّدة منصورة تشكو من الوحدة والبعاد عن أمير، فمريم في طهران مشغولة بحياتها وطفلها، الحاج صادق أيضًا مشغول في وظيفته وحياته، كذلك نحن، ومع ظروف كهذه كان ذهاب أمير صعبًا عليها.
احترق قلبي لأجل السيّدة منصورة ووحدتها؛ لهذا السبب، قرّرت العيش عندها إلى أن نجد منزلًا لنا. في اليوم التالي، عاد علي إلى الجبهة. تتالت الأيّام، وساءت حالي، ذهبت إلى الطبيب بعد إصرار السيّدة منصورة في الثلاثين من أيار، طلب لي الطبيب بعض التحاليل. أخذت نتيجة التحاليل مع أمّي إلى الطبيب، فرحت أمّي كثيرًا عندما سمعت الخبر، وأخذتني ليلًا إلى منزلها لتهتمّ بتغذيتي على حدّ قولها، لم أبقَ في منزل والدتي سوى أيّام قلائل.
كنت قد وعدت علي أن أبقى عند السيّدة منصورة. في تلك اللّيلة كانت عائلة الحاج صادق أيضًا في منزل السيّدة منصورة، وكان المنزل مزدحمًا. اتصل علي ليلًا، أردت أن أخبره قبل الجميع بالخبر، حملت السماعة وكالعادة سلّمنا على بعضنا البعض، حاولت أن أخبره، لكنّني لم أستطع، وضعت يدي على السماعة وقلت بهدوء: "لقد حدث شيءٌ مهمّ، اسألني كي أجيبك".
بدا علي وكأنّه في وضعية لا تسمح له بالتكلّم بحريّة، فقال: "ساعديني".
- أنا أحبّه وكذلك أنت.
- لم أفهم مَن تقصدين، ساعديني أكثر.
210
196
الستائر البنفسجية والوردية
- هذا هو، ماذا أقول بعد؟ في بعض الأحيان كنّا نتحدّث عنه، أنت تحبّه..
انتبه السيّد ناصر بشكل أسرع من علي، فنهض وقال للجميع: "فلنذهب إلى البهو لتُسلِّم السيّدة فرشته براحة أكثر على زوجها، ماذا يعني هذا؟ كلّكم قد تموضعتم هنا!".
انتظرت حتّى خرج الجميع من الغرفة لأخبره بالأمر. قلت له بسرور: "علي عزيزي، ستصبح أبًا".
فرح كثيرًا، سكت قليلًا ثمّ قال: "أحقًّا ما تقولين؟ خيرًا إن شاء الله، مبارك! إذًا من أجل هذا الأمر كانت حالك سيّئة؟ والآن هل تحسّنت حالك؟".
- لم تتحسّن حالي، ولكن لا مشكلة.
في تلك اللّيلة علم الجميع بالموضوع. أظن أنّ السيّد ناصر قد أخبر الجميع بموضوع الحمل، لكنّهم تظاهروا أمامي بأنّهم لا يعرفون شيئًا.
بعد أيّام عدّة ذهبت إلى منزل والدتي وكتبت رسالة إلى علي. ردّ علي سريعًا، وطلب منّي الذهاب إلى الطبيبة لتشكّل لي ملفًا. ساءت حالي يومًا بعد يوم، ولم ينفعني لا طبيب ولا دواء. في هذه المدة أتى علي إلى همدان مرّة أو مرّتين، بقي أيّامًا ورجع سريعًا إلى الجبهة.
211
197
التفاح الموشّح
التفّاح الموشّح[1]
في الخامس والعشرين من شهر آب 1987كنت في منزل والدتي وحالي سيّئة. وكعادتها انهمكت أمّي في أعمالها ما بين مشغل الخياطة وأعمال دعم الجبهة. عند الظهر، جاء "وحيد" ابن عمّي إلى منزلنا، بدا مرتبكًا مشوّش الفكر، كان مجيئه على هذه الحال يكفي لأنْ أحدس بكلّ الأفكار السيئة الموجودة في العالم. سألته بقلق: "ماذا حصل؟ قل الحقيقة، هل حدث مكروهٌ لعلي؟".
لم يستطع وحيد أن يجيبني من شدّة حزنه، بعد قليل قال: "فرشته، ليس خبرًا جيّدًا، طلب منّي علي أن أخبرك بهدوء".
- "أخبرني بسرعة، سيبلغ قلبي حنجرتي".
- "أتعديني أن لا تجزعي؟".
- "وحيد بالله عليك، أسرع!".
- "لا أحد يدري سوى علي، يقول لك أن تذهبي إلى منزل والدته".
ضقت ذرعًا منه فقلت: "هل ستخبرني أم لا؟ بالله عليك لا تلعب بأعصابي!".
[1] التفّاح الموشّح: وهو تفاح جرديّ صغير الحجم، لونه أخضر موشّح بالزهري ورائحته زكيّة جدًّا. (المترجم)
213
198
التفاح الموشّح
غصّ بالبكاء وقال: "سأقول لكِ، لقد استشهد السيّد أمير وطلب منّي علي أن أخبرك بهدوء". ثمّ أجهش بالبكاء قبلي.
وقعت في حيرة من أمري، ولم أدرِ ماذا أصنع، صدمني الخبر، وكأنّ أحدًا ضرب رأسي بمطرقة كبيرة فلم أعِ شيئًا، ورحت أحدّث نفسي، ترى ماذا قال وحيد، ولماذا كان يبكي؟!
كان الطقس حارًّا وتدهورت حالي الصحيّة من هول الخبر، أسرعت ناحية دورة المياة في الفناء ولفظت كلّ ما في جوفي وأنا أفكّر في أمير غير مصدّقة ما قاله وحيد، كلّا لم أصدّق، أحسست بثقل في رأسي، ظننت أنّني أحلم، فهل رحل أمير بهذه السرعة؟!
كانت مياه الصنبور في الفناء باردة، أحنيت ظهري ووضعت وجهي تحت الماء، لعلّي أفيق من الحلم، لكن ما كنت يومًا بوعيٍ كهذا. أغلقت الصنبور، وجفّفت وجهي، مضى شهر على ذهاب علي إلى الجبهة، وها هو يعود، ولكن بأيّ حال تراه يعود؟! ارتديت ملابسي وذهبت إلى منزل والدته. كانت السيّدة منيرة هناك أيضًا، شعرت أنّها على علم بذلك، لكنّها لم تبدِ شيئًا. سلّمت بحزن، وسألت الجميع عن أحوالهم. كانت حال السيّدة منصورة جيّدة وتتصرف بشكل عادي، بدا أنّها لم تعلم بشهادة أمير بعد.
دخلت السيّدة منصورة إلى المطبخ، لتحضر عصير الكرز. في هذا الوقت، جاء علي والسيّد ناصر والحاج صادق، تبعها علي إلى المطبخ وقبّلها، كم بدا هرمًا وحانيًا، أمسك علي والحاج صادق بيدَي أمّهما، ودخلا مع السيّد ناصر إلى غرفة النوم.
كنت أسمع خفقان قلبي وكأنّه بلغ حنجرتي، أثقل الحزن فضاء المنزل، ورحت أفكّر كم هي صعبة تلك المهمة التي ينبغي لعلي القيام
214
199
التفاح الموشّح
بها. احترق قلبي من أجل السيّدة منصورة، وكادت أنفاسي تتوقّف. وددت لو أنّني أستطيع الخروج من ذلك البيت. فجأة علا نحيب والدة زوجي من داخل غرفة النوم، وصارت تنوح وتنادي أميرها. كان الجميع يعلم أنّها تحب أمير بشكل مختلف عن محبّتها لأولادها الآخرين. خرج علي من الغرفة، وارتفع صوت نحيبها أكثر:
- أمير!! حبيبي، يا ولدي الجميل، يا روحي ويا عمري، يا إلهي.. لقد ذهب كلّ عمري، أمير ولدي الجميل رحل، يا إلهي...
قطّع نواحها نياط قلبي، وأحرق أنينها أحشائي. أسرعت باكية ووقفت أمام علي: "علي، قل الحقيقة، ماذا حصل؟".
احمرّت عيناه، وانتفخت أوداجه، لكنّ الدموع لم تسحّ من عينيه، وكأنّه رآني للتوّ، نظر إليّ بحنوٍّ وحزن، ثمّ قال: "لقد استشهد أخي أمير".
هرعت السيّدة منصورة من الغرفة تنتحب: "علي، علي، قف هنيهة وأخبرني الحقيقة، أين أمير الآن، أين أمير؟".
غصّ فؤاده حزنًا، لكنّه لم يبكِ، فتح ذراعيه وحضن أمه وراح يلاطف كتفيها ورأسها ويرنّم في أذنيها: "أمّي، قاومي! استعيني بالسيّدة زينب والسيّدة الزهراء عليهما السلام، اطلبي العون من الله، عليك بالصبر! أمّاه، أمير الآن إلى جانب شهداء كربلاء، لقد لبّى نداء الحسين عليه السلام ونحن أيضًا، أنتِ، أبي، أنا والجميع علينا أن نلبّي النداء. أمّي، إن مقام أمير عند الله ليس مقامًا بسيطًا، فلا تنزلي من شأن مقامه، كوني كالطود، فهذا كله امتحان، لا تبكي لشيء قدّمتهِ في سبيل الله. افتخري، أمّي، أقسم بالله لقد أصبحت اليوم مسلمة حقيقيّة".
هدأت السيّدة منصورة قليلًا. التفت إلينا علي وقال: "أمسكوا عن
215
200
التفاح الموشّح
البكاء قدر ما تستطيعون، ارفعوا هاماتكم واستقبلوا ضيوف أمير بعزّة وافتخار، من اليوم، كلّ تصرفاتنا ستكون تحت مجهر العدو، لا تظهروا ضعفًا من أنفسكم".
شيئًا فشيئًا، بلغ الجيران والأصدقاء والمعارف نبأ شهادة أمير، وجاؤوا للتبريك والمواساة إلى منزل والدة زوجي. لم يعتقد أحد أنّ أمير سيستشهد بهذه السرعة. كان الجميع قلقًا على علي أكثر من أمير. فعلي شارك في الجبهات منذ بداية الحرب بينما أمير بدأت مشاركته منذ أربعة أشهر فقط. لم تكن حال السيّدة منصورة جيّدة، لكنّها حاولت أن لا تبكي، وأن تصطبر كما أمهات الشهداء.
وصل أبي وأمّي وأختاي، واتّشح الباب والجدار بالسواد، وعُلّقت صورة أمير على الحائط، وحولها شرائط سوداء، كان الحزن ينضح من كلّ زوايا البيت.
توجّه الجيران إلى المطبخ للمساعدة وتحضير الماء البارد وعصير الزعفران، وليقدّموا للضيوف التمر والـ"ميشكا"[1]، وملأت أرجاء البيت رائحة "الحلواء". كنت عليلة لا أقوى على فعل شيء، أردت الذهاب إلى مكان خالٍ والنوم فيه بهدوء، وعندما أستيقظ أرى "أمير" حيًّا بكلّ عطفه ورأفته وحيويّته.
كان أمير بنظّارته ذات الإطار الكوتشوكي الأسود يضحك عندما يراني ولا ينفكّ يناديني: "أختاه فرشته، أختاه فرشته".
جاءت مريم وعائلة زوجها، كذلك الجدّ والجدّة والخال محمد والخالة فاطمة والعوائل الطهرانية مساءً، دخلوا باكين مولولين، وانبعثت عاشوراء من نحيبهم وعزائهم. لقد كان أمير قرة عين العائلة
[1] ميشكا: نوع من الحلوى الإيرانية تشبه الرقائق الهشة المحشوّة بالشوكولاتة. (المترجم)
216
201
التفاح الموشّح
كلها، وبالأخص الجدّ والجدّة.
لولا وجود علي لانهرنا جميعًا في تلك الليلة. تارة كان يضع رأس السيّدة منصورة في حجره ويهدّىء من روعها، وتارة أخرى يجلس قرب السيّد ناصر يحضنه ويواسيه، كذلك كان يفعل مع الجدّ والجدّة فيهدآن لحديثه، لكنّه ما إن يصل الدور إليّ حتّى يبدأ ببثّ شكواه ولواعج فؤاده فيقول: "منذ بدء الحرب وإلى الآن استشهد من الأصدقاء والرفقاء بعدد أفراد كتيبة وأنا ما زلت حيًّا، أمير ذهب إلى الجبهة منذ أربعة أشهر فقط، وأنا منذ سبع سنين، هذا ليس عدلًا! أيّ ذنب اقترفت كي لا يتقبّلني الله، وبدلًا من ذلك يأخذ أمير بهذه السرعة! لماذا استشهد أمير وأنا ما زلت حيًّا؟!".
كنت أصغي إلى كلامه وأتجرّع الغصّة من أجله.
- علي، لا تجحد! ألم تقل لي يومًا رضىً برضاك يا رب.
في صباح اليوم التالي، غصّ الزقاق بسيارات Land rover عليهما السلام التابعة لجهاد البناء وسيارات pat rol الحرس، والحافلات لنقل الناس الذين تجمعوا أمام المنزل والزقاق إلى روضة الشهداء.
كان علي يرتدي قميصًا بنّيًّا، يهلهل على بدنه لشدّة ضعفه، وكأنّ عظام أكتافه فقط هي التي تمسك بقميصه. كان وجهه ضامرًا شاحبًا. بدا واضحًا أنّه أمضى ليلة مريرة. منذ البارحة، لم يتناول أحدٌ من أفراد العائلة شيئًا من الطعام.
حضن علي السيّدة منصورة وراح يهمس باستمرار في أذنيها: "أمّي، سيطري على نفسك، قاومي، تصرّفي كالسيّدة زينب عليها السلام، احذري أعداء الثورة".
لم تستطع مريم أن تتغلّب على دموعها، كانت تبكي بكاء أخت
217
202
التفاح الموشّح
فقدت أخاها. قال لها علي: "عزيزتي مريم، ابكي، لكن ليس بصوت عالٍ، انتبهي كي لا يسمع صوت بكائك غير المحارم".
منذ أن سمعت نبأ شهادة أمير ساءت حالي أكثر، شعرت بتحفّز للتقيّؤ، أسرعت باتجاه الحمّام فرآني علي، سألني: "ماذا بكِ؟ ألم تتحسّني؟ أتريدين أن أطلب من أحد الإخوة إرسالك إلى المستشفى؟".
لم يخطر على بالي أنّ علي يفكر فيّ وهو في تلك الظروف، فكيف به يريد إرسالي إلى المستشفى. أجبته: "كلّا، ليس بالشيء المهم، سأتحسّن بعد قليل".
كانت حرارة الطقس تزيد حالي سوءًا. خرج الجميع من المنزل على هون، وبقي عدد من الجيران لكي يعدّوا العصير والحلواء والماء البارد للمعزّين بعد عودتهم من التشييع.
نزلت مع أمّي وأبي، وحضرتْ جموع غفيرة لتشييع أمير. ركب الجميع الحافلات والسيارات الخاصة، واتجهوا نحو روضة الشهداء. كان الطريق إلى هناك يزدحم بالسيارات العسكرية التابعة للحرس، والسيارات الرباعية الدفع التابعة لجهاد البناء، حيث غطّت صور أمير والرايات السوداء معظم زجاج نوافذها وهياكلها.
عندما وصلنا روضة الشهداء كانت فرقة الموسيقى تعزف، ويقف على الجانبين عدد كبير من الجنود والحرس يؤدون التحية احترامًا، ويقيمون مراسم العزاء بصمت عميق. كان التابوت قد وضع في باحة المغسل مغطّى بالعلم والورود.
ارتجفت قدماي لدى رؤيتي تابوت أمير، وقف كلّ من السيّد ناصر، السيّدة منصورة، الحاج صادق، وعلي، تحت شرفة المغسل. أمّا وجها السيّدة منصورة ومريم فقد تشيّطا احمرارًا، لكنّهما لم تبكيا.
218
203
التفاح الموشّح
أمسكتني أمّي من معصمي وقدماي ترتجفان، تذكّرت يوم أتيت لتشييع جثمان مصيِّب. توقّفت الموسيقى وارتفع صوت تلاوة القرآن من مكبّر الصوت، كان القارئ يتلو القرآن من على الشرفة. صارت الجموع تزداد لحظة بعد أخرى، صعد الحاج صادق وعلي والسيّد ناصر وإمام الجمعة والمحافظ وعدة أشخاص آخرين إلى الشرفة.
عندما انتهت تلاوة القرآن، طلب مقدّم الحفل من إمام الجمعة أن يقف خلف المنصة. ألقى إمام الجمعة والمحافظ كلمتيهما، وجاء دور علي من بعدهما. كان طقس روضة الشهداء حارًّا، وصارت حالي تسوء في كلّ لحظة، وعلي يلقي كلمته:
- السلام على الحسين، السلام على أنصار الحسين، أشكر أهالي محافظة همدان حاضنة الشهداء جزيل الشكر لمجيئهم إلى هنا لتشييع جثمان أمير تشيت سازيان. لقد تحمّلتم المشقات، لكن، أيها الناس أريد منكم مطلبًا أكبر من ذلك، وهو أن لا تتركوا الإمام وحيدًا. تلقّفوا كلام الإمام بأسماع قلوبكم، لقد طلب منّا الإمام منذ 3 سنوات أن لا نخلي الجبهات واعتبر الدفاع واجبًا شرعيًّا. لا ينبغي أن نفتعل جبهات متفرّقة، الجبهة هي فقط الخط الأمامي، والوجود فيها واجب على الجميع. لا تدعوا الإمام يقف ثانية خلف المنصة ويطلب منّا مجدّدًا أن نذهب إلى الجبهة. إن كنّا جنودًا لائقين، فقد أمر الإمام العزيز مرّة واحدة، وهذه المرّة تكفينا. علينا أن نؤكّد للعالم أنّ كلّ ما يطلبه الإمام نلبّيه بأرواحنا وقلوبنا، ارفعوا القرآن بيد والسلاح باليد الأخرى، وتحرّكوا ناحية جبهات الحق ضد الباطل، واهتفوا: حربًا حربًا حتّى النصر.
هتف الناس بصوت واحد: "حربًا حربًا حتّى النصر".
كانت روضة الشهداء مزدحمة على نحو لا يمكن الحراك فيها. توقّفت أنفاسي فقلت لأمي: "حالي سيّئة جدًّا". أمسكت أمّي بيدي
219
204
التفاح الموشّح
وشقّت الطريق قدر المستطاع، وذهبنا لنجلس تحت شجرة في روضة الشهداء. كان معها قارورة ماء، ملأت كفّها بالماء وغسلت وجهي به.
انتشر صوت علي عبر مكبر الصوت قائلًا: "أشكر الله أنّ أخي استشهد على أيدي أعداء الله، وليس على أيدي الأصدقاء المموّهين. لقد استشهد أمير بعد أربعة أشهر من ذهابه إلى الجبهة وكأنّه خطف الأسبقية منا".
جلست تحت شجرة صفصاف وراحت أمّي تجول في الأطراف تقرأ الفاتحة على القبور. بعد قليل، توقّف صوت المكبّر، أتت أمّي وقالت: "أعتقد أنّهم يصلّون، ابقي هنا، سأصلّي وأعود".
بعد أن ذهبت أمّي بقليل، علا صوت الجموع:
من أجل دفن الشهداء أقدم يا مهدي أقدم..
حُمل تابوت أمير على أكتاف الجنود، وأسرع الناس خلفه. نهضت من مكاني ورحت أنظر إليهم، كان علي والحاج صادق في المقدّمة تحت التابوت. ما إن هممت بالتقدّم إلى الأمام حتّى غصّ المكان من حولي بالجموع وهم يهتفون: "لا إله إلّا الله"، ويركضون من كلّ حدب وصوب، فلم يعد هناك طريق لأتقدّم إلى الأمام ولا لأرجع إلى الخلف. كذلك هتفت الجموع:
هذه الوردة المرفرفة من أين أتت
أتت من زيارة كربلاء
وردتنا المرفرفة هذه
نهديها إلى قائدنا
ضيّق الحرّ والازدحام المساحة من حولي، فشعرت بأطرافي ترتجف وأنفاسي تتوقّف من الوهن. وانتابني شعور سيّئ جرّاء تفكيري أنّ أمير
220
205
التفاح الموشّح
داخل التابوت. وكأنّ كلّ شيء قد انهار، كأنّ أحدًا يجرّني إلى القبر، لا أدري كيف أعبر عن تلك الحال والمشاعر، لكن، ما أعلمه أنّ كلّ شيء في تلك اللحظات بات محزنًا، مدلهمًّا، هامدًا بلا روح، وغدت دناءة الدنيا وحقارتها ماثلة أمامي.
كان الناس يركضون إلى الأمام من دون انتباه إلى ما يوجد حولهم، فذكّروني بيوم القيامة. أخذ رجل مسنّ تعبويّ يرشّ على رؤوسنا رذاذ ماء الورد بمرشّة معدنية يحملها على كتفه؛ إذ ألهبت الهاجرة الأديم، والسماء الحرّى لا غيوم فيها.
بدت روضة الشهداء رغم الحشود المتجمهرة فيها وحيدة، حزينة وموحشة. وعجّت الأصوات بصنوف الخلائق فلم يسمع معها أيّ صوت آخر، لا صوت عصفور، لا صوت فرح ولا نسيم، لقد غادر أمير حرًّا طليقًا بجناحين خفيفين، ولبس المكان ثوب العزاء. جلستُ على شاهد أحد القبور، كان شاهد القبر قديمًا ترابيّ اللون، واختفى أثر الكتابة عنه بسبب تحاتّها مع الريح والمطر على مرّ السنين. أمّا عمر شجرة الصنوبر المعمّرة التي ألقت بظلّها على القبر فكان يبلغ قرابة 40 أو 50 عامًا؛ إذ اسودّت أوراقها بسبب الحر وقلّة الريّ. جلست في ظلّها، وملأت رأسي أفكار مشوّشة ومقلقة.
بالتأكيد، مضت ساعات عدّة حتّى تفرق الناس عن بعضهم البعض كقطع الغيوم التي تناثرت للتوّ، وكلٌّ ذهب في اتجاه. كانت حرارة الشمس القاتلة تمور وتتصاعد من على القبور كالبخار. اصطفّت الحافلات فاتحة أبوابها للناس الذين هرعوا باتجاهها. وصلت إلى إحداها، كنت أشعر بروح أمير الحنون وهي تحلّق فوق رأسي باسمة. ركبت حافلة تفوح منها رائحة ماء الورد، وفيها نسوة يرتدين عباءات سوداء يصلّين على النبي وآله عن أرواح الشهداء بذريعة وبأخرى.
221
206
التفاح الموشّح
جلست في الصف الثاني قرب إحداهن. شعرت بدوار ورغبت في النوم. أغمضت عينيّ وقلت: "أمير، وداعًا!". انطلقت الحافلة وارتفعت أصوات الصلوات أكثر فأكثر. رمقت من خلف النافذة أناسًا تجمعوا حول القبر، أغمضت عينيّ ثمّ فتحتهما، ثمّ أغمضتهما وهمست: "وداعًا، عزيزي أمير، سامحني إذا لم أستطع فعل شيء لك، ولكن، لا تنسى أن تشفع لنا".
كان الوقت ظهرًا، والبيت يعجّ بالضيوف، لم أكن على ما يرام، لكنّني سيطرت على نفسي. كنت أخجل من الذهاب إلى دورة المياه كلّ لحظة أمام كلّ هذه النسوة وهؤلاء الرجال، لم أستطع النهوض للمساعدة، ولم يكن وضعي ملائمًا للجلوس بشكل عادي.
غطّيت وجهي بعباءتي ونمت في غرفة نوم تطلّ نافذتها على الزقاق. كان في الغرفة أيضًا بعض النسوة، سمعت إحداهنّ تقول: "أرأيتِ أنّ علي نزع زرًّا من ملابس أمير!"، أجابتها الأخرى: "كلّا، لم أره، لماذا فعل ذلك؟".
- يقولون إنّه أخذ الزر رهنًا.
سألتها المرأة بتعجب: "رهنًا؟".
أرهفت سمعي أكثر.
- نعم، "أبعد الله عنه الشرّ وقطع لساني" يقولون إنّه نزع زر قميص أخيه وأقسم عليه أن يأخذه معه ويستشهد بأسرع وقت ممكن.
قفزت من نومي، ورحت أنظر إلى الامرأتين بحيرة واضطراب، عرفتهما، كانتا من أقرباء السيّدة منصورة، علا صوت خفقان قلبي وبلغ حنجرتي ثانيةً. سألتهما: "ماذا حصل؟".
عندما رأتني الامرأتان اضطربتا وقالتا بخجل: "لا شيء!".ش
222
207
التفاح الموشّح
مسكينتان، لم تتوقعّا رؤيتي. نهضت ودخلت إلى البهو، كانت النسوة ينظّمن المائدة والرجال يناولونهنّ الأغراض من على الدرج كالمياه الغازية، الخبز، الخضار.
كانت أمّي أمام الباب تساعد في هذه الأعمال. أظلم كلّ شيء أمامي، ودار كلّ شيء فوق رأسي، ما إن رأتني أمّي حتّى أسرعت إليّ وقالت: "عزيزتي فرشته، هل أتيت؟ أين كنت؟ أأنت بخير؟".
فتحت باب المرحاض، أمسكت أمّي بيدي ودخلنا معًا إلى المرحاض الموجود قبالة المدخل. حفّزت رائحة الكباب شعوري بالتّهوّع، وغليان ما في أمعائي، غسلت وجهي بكفّها مرّات عدّة، وتركتني أتقيأ قدر ما أستطيع.
عندما تحسّنت حالي وضعت رأسي في حضنها، كم كانت رائحتها طيبة، جعلتني هذه الرائحة أتحسّن، فضحكت أمّي وقالت: "هيا يا ابنتي، لا تتدلّعي!"، ومن ثمّ أمسكت بيدي وأخذتني إلى غرفة النوم. أحضرتْ مروحة ووضعتْها أمامي، خلعتُ عباءتي وأغلقت عينيّ، كم أحببت أن أغطّ في سبات عميق.
دخل علي الغرفة وجلًا.
- عزيزتي فرشته، وردتي، ماذا حصل؟! أتريدين أن نذهب إلى المستشفى؟
وبإشارة من حاجبي وعينيّ أجبت بالنفي.
- أتريدين تناول الغداء؟
أجابته أمّي بدلًا عني: "إن حالها تضطرب بسبب رائحة الطعام".
قال علي منزعجًا: "ولكن يا وردتي هذا لا يصحّ، عليك أن تأكلي شيئًا في النهاية، ماذا تريدين لأحضر لك؟".
223
208
التفاح الموشّح
قلت: "أريد تفاحًا".
كنت أرغب فقط في تناول التفاح. ذهب علي مسرعًا. كانت أصوات الملاعق والشوك المرتطمة بالصحون تُسمع من داخل غرفة الاستقبال، لم ترقني رائحة الكباب، فقلت لأمي: "أمّي بالله عليك أغلقي الباب".
فجأة، شعرت بدوار، وانقلبت أمعائي، صار كلّ ما في الغرفة يدور من حولي، ثقلت جفوني، هرعت أمّي مضطربة إلى الخارج، سمعت صوتها تنادي: "سيّد علي، اتصلوا بالمسعف ليأتي، فرشته...".
دخل علي إلى الغرفة حاملًا بيده كيس نايلون بداخله 2 أو 3 كيلوات من التفاح الموشّح، ويرافقه رجلان يرتديان زيًّا كحليًّا، كان أحد الرجلين يحمل حقيبة صغيرة، وأمّي تشرح له ما حلّ بي. وصل الرجل بيدي مصلًا، وأفرغ إبرًا مقويّة داخله. مرّت حينها في ذهني رسمة علي والطلقات التي أصابت جناح الفراشة.
قال الرجل: "إن ضغطها منخفض جدًّا، دعوها تستريح".
أغمضت عينيّ وأحببت أن أغطّ في سبات عميق.
224
209
سبيل الشهادة هي الدموع
سبيل الشهادة هي الدموع
في الأسبوع التالي، بدأ المنزل يخلو شيئًا فشيئًا من الناس والأقارب إلّا منّا نحن الذين لم يكن لدينا مأوى، الجدّ والجدّة، الخال محمد، مريم وابنتها مونا ذات الأشهر الستّة، كذلك الحاج صادق وعائلته أيضًا بقوا في بيت السيّدة منصورة. ليلًا، كان كلّ واحد منّا ينام في أيّ مكان يجده. كان علي والحاج صادق معظم الأوقات ينامان على الشرفة، بينما أنام أنا والسيّدة منصورة ومريم ومونا في غرفة الاستقبال قرب باب الشرفة.
في إحدى الليالي، استيقظت منتصف اللّيل فرأيت علي في تلك الفينة يخرج من الشرفة ويمرّ من قربنا على مهل كي لا يوقظ أحدًا، أماط الستارة المعلّقة ما بين البهو وغرفة الاستقبال، ودلف باتجاه دورة المياه. ظننت أنّه سيعود بسرعة. انتظرته كثيرًا، لكنّه لم يرجع. نهضت ولحقت به، وجدته في البهو ساجدًا وكتفاه يهتزان من البكاء. جلست خلفه، واستندت إلى الجدار على نحو لا يشعر بوجودي. كم كان قلبه ممتلئًا بالشكوى، راح يبثّ مناجاته بحرقة خاضعًا مستكينًا. تفطّر قلبي لأجله، ما رأيته يومًا يبكي على هذا النحو! عندما استشهد أمير لم أرَ علي يذرف قطرة دمع واحدة. كان منذ الصباح وحتّى المساء يحنو على والديه ويشحذ همّتهما ويواسيهما ويمازحهما، لكن الآن ها
225
210
سبيل الشهادة هي الدموع
هو يبكي ويبكي بحرارة. انتظرته كي يرفع رأسه من السجود، ناديته همسًا كي لا يسمعني أحد: "علي عزيزي". استدار ناحيتي، كانت نافذة البهو مفتوحة، وأضواء الزقاق تضيء المكان، بحيث نستطيع رؤية بعضنا بشكل جيّد.
دُهش لوجودي وقال متعجبًا: "فرشته!".
أجبته: "حبيبي".
سألني: "ماذا تفعلين هنا؟".
- لا أستطيع النوم.
- هل ساءت حالك ثانيةً؟
- لا.
قال: "أعلم أنّك لست على ما يرام، أنت الآن أقرب إلى الله منّي، ادعي لي".
نظرت إليه متعجبة، كان لا يزال في صوته حجرشة بكاء وتابع: "لقد وعد الله المجاهدين بالجنة، هنيئًا لأمير، استطاع بجهاد أربعة أشهر أن ينال أجره. أظنّ أنّ لديّ مشكلة، ثمّ أضاف متّهمًا نفسه بالتقصير، أنا صاحب الدواهي العظمى مضى على ذهابي إلى الجبهة 7سنوات وما زلت حيًّا أُرزق".
أجبته باكية: "علي، لا تكن جاحدًا".
شرّع مواجع فؤاده قائلًا:
- أنا لا أكذب يا فرشته، فالله يعلم أنّني لا أرغب في ميتة على الفراش، أعلم أنّ الحرب ستنتهي عاجلًا أم آجلًا، وسيعود الجميع إلى منازلهم ومعاشهم، أمّا نحن الذين سيكتب لنا البقاء على قيد الحياة سنموت ونعيش الحسرة كلّ يوم مئة ألف مرة.
226
211
سبيل الشهادة هي الدموع
- "علي، ما هذا الكلام! ارضَ بما يرضاه الله".
- "وأنتِ، أترضين بما يرضاه الله؟".
قلت واثقة: "نعم أرضى".
سألني بسرور: "وإذا استشهدت فهل ترضين أيضًا؟ ألن تحزني؟!".
تمهلت قليلًا، ثمَّ قلت له:
- أيّ حزن؟! سأموت حزنًا عليك، أنت زوجي، أعزّ إنسان لديّ، أنت نصف وجودي، نحن نحبّ بعضنا البعض، أنت والد طفلي، إن مجرّد التفكير في ذلك لأمرٌ صعبٌ عليّ، لكن عندما يكون أمر الله فأنا سأصبر وأرضى.
سُرَّ لإجابتي فسألني بلهفة: "حقًّا ما تقولين؟!"، بكيت لهذا الكلام.
لم ينتظر جوابي، بل تابع قائلًا: "فرشته، إن هذه الدنيا من أولها إلى آخرها ستنتهي يومًا ما. سنموت جميعنا في النهاية، وفرصة الشهادة هي في هذه الأيّام المعدودة".
بعد ذلك جلس باتجاه القبلة ورفع يديه بالدعاء قائلًا: "إلهي، أنت مطّلع على كلّ حاجات عبادك، وأنت تعلم أنّ الموت على الفراش بالنسبة إليّ مذلّةٌ وهوانٌ، إلهي اجعل الشهادة من نصيبي".
ما بكى علي يومًا أمام أحد قطّ. ففي ذروة الحزن والغم كانت أوداجه تنتفخ، لكنّه لم يكن يبكي، بينما في هذه المرة بكى أمامي وقال بحسرة: "عندما استشهد مصيّب رأيته في نومي، أمسكت بيده وقلت: "مصيّب لقد جرّبنا كلّ السبل معًا، بالله عليك أخبرني عن هذا السبيل الأخير الذي لم أفلح فيه"، لم يجبني مصيّب، أمسكت يده بإحكام، كنت أعلم أنّه إذا أمسك أحد في المنام بيد ميت وأقسم عليه فسيجيبه عن أيّ سؤال يسأله إيّاه: "لن أفلت يدك ما دمت لم تخبرني
227
212
سبيل الشهادة هي الدموع
عن السبيل الأخير"، برأيكِ ماذا قال لي مصيّب؟ قال: "إن السبيل لذلك هو الدموع"، الدموع، يا فرشته، إن سبيل الشهادة هو الدموع".
ثمّ رفع يديه ثانية بالدعاء وقال: "إلهي، إذا كنت تعطي الشهادة بالدموع فاقبل دموعي وبكائي أنا العاجز العاصي".
بعد شهادة أمير تبدّلت أحوال علي كثيرًا. وأضيف "سبيل الدموع" إلى خصاله الجديدة أيضًا. صار كثير الصمت، حييًّا ومنطويًا على نفسه، فلا شقاوة ولا مزاح ولا صخب، قلّ مطعمه وهزل جسده، لكنّه صار أكثر حنانًا ورحمة، كذلك هجر النوم وصار بكّاءً يمضي لياليه بالتهجّد والصلاة.
بعد انتهاء مراسم أربعين أمير، ومن أجل تغيير معنويات السيّدة منصورة والسيّد ناصر، نسّق علي مع عدد من أصدقائه لزيارة مشهد، وشاركنا عدد من عوائل الشهداء في هذه الزيارة، فعائلة الشهيد ترنجيان تصاحبت مع السيّدة منصورة والسيّد ناصر، وساعدتنا في تغيير الأجواء المعنوية لهما.
عندما عدنا من مشهد ذهب علي إلى الجبهة، لم تتحمل السيّدة منصورة ذلك، فذهبت إلى منزل الحاج صادق واضطُررت إلى الذهاب معها.
صادف قدوم شهر أيلول 1987. مع بداية شهر محرم الحرام. وعلى حدّ قول علي إنّه منذ 7 سنوات كانت هذه المرة الأولى التي يُمضي العشرة الأوائل من محرم في همدان. في كلّ ليلة كان يذهب إلى مكان ما من أجل المشاركة في التعزية، ومن ثمّ يعود بعد منتصف اللّيل.
كنت أنا وأمّي وأختاي نذهب إلى هيئة الحرس في السنوات الماضية، فهيئة الحرس جيّدة، وبرامج التعزية فيها أفضل من الأماكن الأخرى.
228
213
سبيل الشهادة هي الدموع
في إحدى الليالي قال علي: "فرشته، أنا أريد الذهاب إلى هيئة الحرس، أتأتين معي؟".
وافقت بسرور؛ لأنّني تذكّرت ذكريات السنين الماضية، والنشاط الروحي الذي رسخ في ذاكرتي حول مراسم العزاء تلك.
في تلك السنة دهم البرد همدان من أواسط أيلول، كان الطقس يشتدّ بردًا في الليالي أكثر. ولأنّنا لم يكن لدينا مأوى ثابت لنعيش فيه، لم أعرف أين وضعت ملابسي الشتوية، فأعطتني السيّدة منيرة سترة سوداء كبيرة لأرتديها. ركبنا السيّارة وذهبنا.
اتشحت المدينة بالسواد، وعُلّقت الرايات واللافتات السوداء والحمراء على الأبواب والجدران. ركن علي السيّارة في مكان قريب من مستديرة ضريح "بابا طاهر". وكالعادة حدّدنا مكانًا لنلتقي فيه عند العودة قبل أن نترجّل من السيّارة؛ لأنّنا كنّا لا نزال نطبّق قانون همدان[1]، خاصّة أنّنا كنّا ذاهبين إلى الحرس، وخلال الطريق هناك الكثير من الأصدقاء والمعارف.
قبل النزول من السيّارة قال علي: "فرشته، ادعي لي".
أجبته: "أنا دائمًا أدعو لك".
قال: "كلّا، لا تدعي أن أعود سالمًا معافىً، ادعي لي أن أستشهد سريعًا".
نظرت إليه بتجهّم.
أردف بحزن: "أنتِ الآن ذاهبة إلى مجلس الإمام الحسين عليه السلام، وأنا منذ أول الحرب اقتديت بسيّد الشهداء عليه السلام وذهبت إلى الجبهة. أريد اللّيلة أن آخذ صكّ الشهادة منه، أتيت ليمنحني لياقة الشهادة
[1] أن لا نمشي معًا في همدان كي لا يرانا أحد من عوائل الشهداء.
229
214
سبيل الشهادة هي الدموع
وأهليّتها، لكنّني أعلم أنّه إن لم يتّحدْ قلبك معي، ولم تدعي لي، فلن أصل إلى أيّ نتيجة، فرشته وردتي ادعي لي".
أحنيت رأسي ولم أنبس ببنت شفة. كان من الطبيعي جدًّا أن لا أحمل كلامه هذا على محمل الجدّ في تلك اللحظات، ففي أيّ وقت وعندما يتحدّث عن الشهادة كان يرتجف قلبي.
غمرته حال عجيبة عندما قال: "فرشته، أتذكرين عندما قلتِ: ارضَ بما يرضاه الله، إذا لم يرضَ الله عن أعمالنا، ولم يقبل جهادنا، فسنخسر خسرانًا مبينًا، لا أعلم أبدًا إن كنّا سننقلب إلى ربّنا بيض الوجوه ومفلحين أم لا! لكنّني تعبت من هذه الدنيا التي تشبه القفص. اطلبي لي من الإمام الحسين عليه السلام في هذه اللّيلة أن يساعدني لأحطّم هذا القيد كبقية الشهداء الذين كسروا قفص الدنيا ورحلوا، كمصيّب مجيدي وأمير، كالإمام الحسين عليه السلام نفسه. سأذهب اللّيلة لأقول مجدّدًا لأبي عبد الله: "لبيك"، ولأعيش كالحسين حتّى آخر لحظة من عمري. وكما تقولين الباقي على الله، رضًى برضاك يارب".
بعد أن أنهى علي كلامه تنفّس الصعداء. ترجّلنا من السيّارة وأقفل بابها، بدا كأنّه يحلّق، كان يتقدّم بسرعة، مهما حاولت الوصول إليه لم أستطع. كانت تهبُّ رياحٌ باردة، وعليّ أصبح في الأمام وقد تقدّم كثيرًا. كان كثير من الناس يسيرون على الطريق، لكنّني ما كنت أرى سوى عليّ من بينهم جميعًا بقميصٍ أسود وأكتاف قويّة يتقدّمُ إلى الأمام.
230
215
الحياكة
الحياكة
حلّ خريف همدان ابتداءً من أواسط أيلول، حاملًا معه الرياح والبرد، وانطلق علي إلى الجبهة بعد اليوم العاشر من المحرّم.
بقيتُ خلال هذه المدّة في منزل السيّدة منصورة. أغلقنا النوافذ باكرًا في وجه البرد، وأخرجنا الألبسة الشتوية من الصرر. قست الريح على أوراق الأشجار الخضراء فأسقطتها عنوة قبل أن تصفرّ، وعرّت الأشجار باكرًا.
علم الجميع أنّ خريفًا وشتاءً طويلَين ينتظراننا، فأمضينا ليالي الخريف الطويلة بحياكة ألبسة المولود المرتقب. أخرجت السيّدة منصورة من خزانتها صنّارتيها وراحت تحيك كنزة جميلة لحفيدها على لحن أهزوجة دندنتها بحزن.
كذلك علّمت السيّدة منيرة كيفية الحياكة بالصنارة، ورحنا نحيك معًا أطقُمًا عدّة من الكنزات والبناطيل والقبعات للمولود المرتقب.
231
216
الرمان المشقوق
الرمان المشقوق
كان الوقت عصرالثامن عشر من تشرين الثاني. أراد علي الذهاب إلى الجبهة ليلًا وهو الذي أتى إلى همدان منذ أيّام عدّة فقط. حاول خلال هذه الأيّام المعدودة أن يعطف قدر المستطاع على والديه. ساءت حال السيّدة منصورة أكثر بعد شهادة أمير، وأخذ كلّ يوم يعتلّ جزء من بدنها، لكن مشكلة كُليتَيها كانت الأسوأ وتردّت أكثر يومًا بعد يوم.
نقلها علي مرّات عدّة إلى المستشفى، وتحدّث إلى أطبّاء ماهرين وذوي خبرة حول موضوع مرضها، لكنّه لم يحصل على نتيجة.
كنّا جالسين في البهو. نهض علي ورفع أكمام كنزته، وطوى أسفل بنطاله طيّات عدّة وذهب ليتوضأ. كان يتوضأ دائمًا في المطبخ، تبعته إلى هناك، وكأنّ هاتفًا ظلّ يردّد في مسمعي: "فرشته، انظري إليه جيّدًا". نظرت إليه، وحدّقت في تلك القامة الرياضية، وإلى منكبَيه العريضَين. كان عنقه عريضًا ومفتولًا، لصيقًا برأسه من الخلف، وساقاه الممتلئتان البيضاوان باديتين للعيان، وكعبا قدميه بارزين بلونهما الزهري. عندما كان يمشي في البيت كأنّما يتد في الأرض قدمه. مسح على رأسه وقدميه ظنّ أنّني أريد أن أتوضّأ مثله، ابتعد عن حوض الجلي ليفسح لي المجال، ورحت أراقب كلّ حركاته وسكناته بدقة، وأحسست أنّه ينبغي لي أن أحفر تلك التفاصيل في ذاكرتي.
233
217
الرمان المشقوق
دلف إلى غرفة الاستقبال، وأخرج من جيب قميصه رقعة صغيرة كان يحفظ في داخلها سجدة على الدوام. وشرع في الأذان والإقامة بصوت شجيّ. لحقتُ به وجلست خلفه، نظرت إليه بحزن، كان يصلّي ملويّ العنق ويردّد في قنوته متضرّعًا: "اللهم ارزقني توفيق الشهادة في سبيلك".
عندما أتمّ صلاته جلس بجانب السيّد ناصر، وشرع في توصيته:
- أبي العزيز، قد أتأخر هذه المرّة في العودة، ولعلّه بعد شهرين، حتّى إنّني قد لا أستطيع المجيء من أجل الولادة، لقد أوصيت أحد الإخوة أن يحضِر لفرشته سمنًا حيوانيًّا من القرية، وكذلك خروفًا، إن لم أكن موجودًا اذبحوه وقدّموه أضحية من أجلها.
عندما انتهت توصياته، تقدّم نحوي وقال:
- فرشته، أحضري الألبوم خاصّتي.
أحضرت الألبوم من الغرفة، عندما أردت الخروج منها اصطدمنا ببعضنا البعض لدى الباب. ضحك وقال: "تعالي واجلسي هنا".
جلسنا. فتح علي الألبوم وراح يتصفّحه، كان ينظر إلى صور أصدقائه الشهداء ويتأوه قائلًا: "أين الشهيد نظري[1]؟ الشهيد تكرلي[2]! يا لذكراك الطيّبة شهيد شاه حسيني[3]!".
انتفخت أوداجه، وتضرّج وجهه حمرةً، وتلألأت الدموع في عينيه.
[1] حميد نظري: ولد في 1 تير 1346 في قرية سهل مرادبيك في همدان، واستشهد في 20 شهريور 1365 عندما كان غواصًا وعضو فريق الاستطلاع في جزيرة مجنون.
[2] هاني تكرلي: ولد في 3 خرداد 1342 في قرية بيغش ملاير. كان في قوات الاستخبارات لعمليات لواء أنصار الحسين عليه السلام واستشهد في 30دى 1362 في منطقة قصر شيرين.
[3] الشهيد علي شاه حسيني دستجردي: ولد في همدان بتاريخ 11/4/1954 واستشهد بتاريخ 9/ت2/ 1977 في منطقة عمليات ماووت في العراق.
234
218
الرمان المشقوق
أخذت الألبوم لأضعه جانبًا، فشدّه من يدي وقال: "وردتي، دعيه، هذا الألبوم كلّ حياتي، إنّه سبب بقائي وجهادي".
- "إنّك تؤذي نفسك".
تقاطرت دموعه على خدَّيه قطرةً قطرة.
- فرشته، لقد كان هؤلاء جميعهم عشّاق أبي عبد الله الحسين عليه السلام، لقد تصبّبوا عرقًا لأجله، وأصيبوا بجراح كثيرة، أرقوا دمًا كثيرًا، عطشوا وجاعوا، اكتووا تحت حرّ اللّظى، لكنّهم لم يقولوا تعبنا، عطشنا، نشعر بالنعاس، حتّى مرّة واحدة. أنظر إلى هذه الصور حتّى إذا ما بقيت حيًّا لا أنسى الشهيد قراكوزلو[1] الذي كان يقوم اللّيل ليصلّي، ويقرأ زيارة عاشوراء، ويناجي بحرقة، بدلًا من النوم والراحة. أنظر إلى هؤلاء حتّى إذا ما تمنيت في إحدى المرات أن يكون لديّ منزلي وحياتي أتذكّر مصيّب وهو يقول: "لا تأملوا كثيرًا؛ لأنّ الموت يضحك من أمانيكم"، لأتذكر أنّ اليوم هو ليس وقت أمانيّ وليس وقت كلام، علينا أن نعمل، فكلّ من لديه رأس عليه أن يقدّمه هدية، ومن لديه يدان أن يفتدي بهما، وإن كان عجوزًا ولا يستطيع المجيء إلى الجبهة عليه أن يدافع عنها.
كنت أعلم أنّه حزينٌ ومتعبٌ، فعلى حدّ تعبيره لقد استشهد منذ أول الحرب ما يقارب كتيبة من أصدقائه. جلست بجانبه، ورحنا ننظر إلى صور الشهداء. كان يذرف الدموع أمامي من دون تكلّف، بينما كنت أبكي لبكائه.
عند المساء تناول عشاءً بسيطًا، ثمّ قال: "وردتي، أريد أن أنام، أيمكنك إيقاظي عند الساعة 2:30؟".
[1] محمد مهدي قراكوزلو: ولد في همدان في 20 آذر 1343. كان من وحدة الاستخبارات للعمليات. استشهد في فاو العراق، وكذلك استشهد أخوه مصطفى بتاريخ 7/8/1365 .
235
219
الرمان المشقوق
في كلّ مرّة قبل ذهابه إلى الجبهة بعدّة ساعات كانت هموم الدنيا تنصبّ كلّها على قلبي. تلبّدت أفكاري وتشوّشت، ولم أطق فعل شيء. هيّأت له الفراش وأطفأت نور الغرفة وتركته ينام. كنت أعلم أنّه لن يغفو في السيّارة حتّى الصباح.
خرجت من الغرفة، كانت السيّدة منيرة في المطبخ، أمّا السيّدة منصورة والسيّد ناصر والحاج صادق فكانوا يشاهدون التلفاز. عرض التلفاز برنامجًا وثائقيًّا عن الشهيد خرازي، اقتربت عدسة الكاميرا على وجه ابنه الصغير مهدي بينما كانت زوجته تروي ذكرياتها مع الشهيد.
فجأة، ارتجف قلبي وتغيّرت أحوالي، فكّرت في نفسي -وليُقطع لساني- أيعقل أن يستشهد علي ويصبح ولدي هكذا؟! نهضت وذهبت إلى الغرفة، أضأت مصباحها. كان علي قد غفا بسرعة، لقد كان نومه عميقًا لدرجة أنّ ضوء الغرفة لم يوقظه. جلست عند رأسه بقلب كسير. تذكّرت العصر، كيف غصّ حزنًا من أجل أصدقائه الشهداء.
كم كان شكله بريئًا وهو نائم!! وكأنّ هاتفًا ظلّ يطرق في أذني: "فرشته، حدّقي فيه جيّدًا. فرشته، احفظي ملامح هذا الوجه، وتفاصيله، احفظيها إلى الأبد".
حدّقت في وجهه مليًّا، وفي كلّ خطوط تجاعيد جبينه وحول عينيه، يا إلهي! إنّه في الخامسة والعشرين من عمره، فما كلّ هذه التجاعيد على جبهته!!
كانت قدماه ظاهرتين من تحت الغطاء. نظرت إليهما جيّدًا كي لا أنسى شكل أصابعه البيضاء. بدت قدماه البيضاوان كقطعة بيضاء رقيقة مدّت على العروق الزرقاء الكثيرة التي تشبه شجرة قوية. أردت أن أحفظ كلّ تفاصيل جسده، عليّ أن أحفظ شكل ذينك الساعدين
236
220
الرمان المشقوق
المفتولين، ذاك القد الممشوق، تلك الذقن المرخاة الشقراء، العينين الزرقاوين، الحاجبين المبعثرين والكثيفين، الشعر المبعثر الذي لم يُسرّح جيّدًا أبدًا. كيف كان حاجباه يسترسلان بسرعة!! أحيانًا كنت أحمل المقصّ وأركض خلفه قائلة: "دعني أقصّ لك حاجبيك"، لم يدعني أفعل ذلك، لم يستسلم لتقصيرهما، بل كان وبإصرار منّي يرطّب أصابع يديه بلعابه ويمسح على حاجبيه فينتظمان.
تلك العينان الزرقاوان لم تهنئا يومًا بنوم عميق، كان ينام وكأنّه يغمض عينًا وتبقى العين الأخرى مستيقظة. لكنّه في تلك اللّيلة! كم كان نومه عميقًا! جلست فوق رأسه وقتًا طويلًا، ثمّ نهضت وخرجت.
أغلقت حقيبته. كنّا في موسم الرمان واليوسف أفندي، فوضعت له رمانتين كبيرتين مشقوقتين داخل الحقيبة. كان الحاج صادق والسيّدة منيرة والأطفال في غرفة نومهم، بينما السيّد ناصر والسيّدة منصورة نائمين في البهو.
ذهبت إلى المطبخ. جليت الصحون وبكيت، مسحت الخزائن، ولم أستطع النوم. لم تكن حالي جيّدة، انقلبت أحوالي مجدّدًا، أردت أن أتقيأ ثانية، ورحت مع ذلك البطن الممتلىء[1] وتلك الحال أشطف أرض المطبخ المصنوعة من السيراميك الأبيض.
كم أحببت أن يصبح لديّ منزل بسرعة، فقد سئمت من الإزعاج الذي نسببه لهذا وذاك. كلّا، لست سئمة، كذلك لا اعتراض على ذلك، ما دام أنّ علي موجود فأنا مستعدّة لأن أعيش إلى جانبه هكذا طول عمري.
جفّفت الصحون ووضعتها في الخزانة. لم أستطع النوم ولم أرغب
[1] في الأشهر الأخيرة من حملها. (المترجم)
237
221
الرمان المشقوق
في ذلك. كنت أنظر إلى الساعة في المطبخ بعجالة ويزداد اضطرابي. وضعت شادوري على رأسي، ومن ثمّ ذهبت ووقفت على الشرفة، فهبّت ريح باردة. كانت أضواء المنزل المجاورة مطفأة، قلت في نفسي هنيئًا لمن ناموا منعّمي البال. كان الطقس باردًا، باردًا جدًّا، لم أستطع تحمّل لسع البرد، فعدت إلى الداخل. تمشّيت في المطبخ والبهو وغرفة الاستقبال وأنا مشوّشة الفكر مبلبلة الخاطر.
عدت إلى الغرفة، وجلست قرب رأسه، كان المصباح مطفأً والغرفة مظلمة، كان يكفيني أن يكون موجودًا داخل الغرفة ويتنفّس. هدأت، وأحببت أن يتوقّف الزمن عند تلك الحال وأن لا يتقدّم إلى الأمام مطلقًا، إلّا أنّ عقارب الساعة كانت تعاندني وتدور بشكل أسرع وأسرع وأسرع من ذي قبل. بلغ الوقت الثانية والربع بعد منتصف اللّيل. وضعت يدي على كتفيه وهززتهما بلطف.
- علي، علي حبيبي انهض.
استيقظ على الفور، استوى على السرير وسأل وجِلًا: "كم الساعة؟".
أجبته بهدوء: "لا تقلق، إنّها الثانية والربع".
نهض وتوضّأ، ارتدى ملابسه، وناولته الحقيبة بيده قائلة:
- لقد وضعت لك في الحقيبة رمانتين للذكرى. تذكّرني مع كلّ حبة رمان تأكلها، بالله عليك تعال هذه المرّة سريعًا!
نظر إليّ وقال: "سآتي، سريعًا جدًّا، ولكن لا تخبري أمي".
سألته: "مثلًا متى ستأتي؟".
- سريعًا، بعد أيّام عدّة، فليبق ذلك بيننا ولا تخبري أحدًا، وكحدٍّ أقصى إن طالت غيبتي كثيرًا فلأسبوع فقط.
سررت لهذا الكلام. استيقظت أيضًا السيّدة منصورة فقال علي
238
222
الرمان المشقوق
منزعجًا: "أماه، لماذا استيقظت من نومك؟ لا داعي للوداع كنت سأذهب إليكِ بنفسي".
انحنى علي وقبّل وجه أمه. وضعت السيّدة منصورة يدها حول رقبته وضمّت رأسه على صدرها قائلة: "حبيبي علي، انتبه لنفسك، اذهب بأمان الله".
قال لها: "أمّاه، انتبهي لنفسك".
استيقظ كذلك السيّد ناصر فقبّله علي أيضًا وقال: "أبي انتبه لكلّ شيء، ولا تنس الوصايا، انتبه لأمي".
ربّت علي على كتفَي أمّه وقبّل وجهها ثمّ نظر إلى ساعته. ربط شريط حذائه على عجل، ثمّ قال لي وللسيّدة منصورة: "ادخلا أنتما إلى الداخل، فالطقس بارد".
لكننا تبعناه رغم البرد القارس. كنت أرتدي لباسًا رقيقًا، فارتجفت من البرد وراحت أسناني تصطك ببعضها البعض. كانت السيّارة مركونة في الزقاق، خنقتني العبرة وأردت أن أصرخ وأقول: "علي لا تذهب! علي! من أجلي ومن أجل طفلك لا تذهب!".
رغبت في الصراخ: "أيها الجيران! استيقظوا! لا تدعوا زوجي كلّ سعادتي يذهب! بالله عليكم فليعترض طريقَه أحد!".
ولكن، بدلًا من كلّ هذا، قلت له عند الوداع والغصّة في عمق حلقومي كالعادة: "علي حبيبي، لا تنس أن تشفع لنا، من أجل...". خجلت أن أقول شيئًا عن الطفل أمام السيّدة منصورة، فقلت بصوت خافت: "عُد بسرعة".
نظر إليّ مبتسمًا: "وردتي فرشته، حبيبتي سامحيني".
ثمّ فتحت السيّدة منصورة ذراعَيها ثانية وعانقته مليًّا. قبّلتْه عشر
239
223
الرمان المشقوق
منزعجًا: "أماه، لماذا استيقظت من نومك؟ لا داعي للوداع كنت سأذهب إليكِ بنفسي".
انحنى علي وقبّل وجه أمه. وضعت السيّدة منصورة يدها حول رقبته وضمّت رأسه على صدرها قائلة: "حبيبي علي، انتبه لنفسك، اذهب بأمان الله".
قال لها: "أمّاه، انتبهي لنفسك".
استيقظ كذلك السيّد ناصر فقبّله علي أيضًا وقال: "أبي انتبه لكلّ شيء، ولا تنس الوصايا، انتبه لأمي".
ربّت علي على كتفَي أمّه وقبّل وجهها ثمّ نظر إلى ساعته. ربط شريط حذائه على عجل، ثمّ قال لي وللسيّدة منصورة: "ادخلا أنتما إلى الداخل، فالطقس بارد".
لكننا تبعناه رغم البرد القارس. كنت أرتدي لباسًا رقيقًا، فارتجفت من البرد وراحت أسناني تصطك ببعضها البعض. كانت السيّارة مركونة في الزقاق، خنقتني العبرة وأردت أن أصرخ وأقول: "علي لا تذهب! علي! من أجلي ومن أجل طفلك لا تذهب!".
رغبت في الصراخ: "أيها الجيران! استيقظوا! لا تدعوا زوجي كلّ سعادتي يذهب! بالله عليكم فليعترض طريقَه أحد!".
ولكن، بدلًا من كلّ هذا، قلت له عند الوداع والغصّة في عمق حلقومي كالعادة: "علي حبيبي، لا تنس أن تشفع لنا، من أجل...". خجلت أن أقول شيئًا عن الطفل أمام السيّدة منصورة، فقلت بصوت خافت: "عُد بسرعة".
نظر إليّ مبتسمًا: "وردتي فرشته، حبيبتي سامحيني".
ثمّ فتحت السيّدة منصورة ذراعَيها ثانية وعانقته مليًّا. قبّلتْه عشر
239
223
الرمان المشقوق
مرات، وشمّته. كنت واقفة أنظر إلى تلك القبلات. وضع رأس أمه على صدره وهمس شيئًا في أذنها، لكنّه كان يوجه نظره إليّ، حدّق في بطني وبدا قلقًا، قلقًا عليّ وعلى طفله. أكان يوصي والداه بنا؟! لم أسمع همسه، ذهب بسرعة وجلس داخل السيّارة، شغّل المحرك، دارت السيّارة، وضغط على دواسة الوقود وانطلق. كم حوت تلك السيّارة من ذكريات لنا. انطلقت السيّارة وهو يلوّح لي بيديه، لكنّه فجأة انعطف وعاد من منتصف الطريق. عاد بهدوء وعبر من جانبنا، أنزل زجاج النافذة وقال بقلق: "ادخلوا إلى الداخل، فالطقس بارد".
بقيت واقفة حتّى انعطفت السيّارة باتجاه الشارع. كنت أراه في اللّيل المظلم يلوّح لنا بيده. دخلنا مع السيّدة منصورة إلى الداخل. كم صار المسير من الفناء حتّى المبنى طويلًا. لم ينبس أحدنا ببنت شفة، وبصمت عميق أطفأنا الأنوار بحزن وهدوء.
نمت على سرير علي وغطّيت رأسي بالغطاء، كانت رائحته تفوح من الغطاء والسرير، فبعد الآن لن تسبّب لي هذه الرائحة حال تهوّع، فشممت وشممت، وأجهشت بالبكاء تحت الغطاء.
240
224
العيش مع رجل ذي مروءة
العيش مع رجل ذي مروءة ليلة واحدة أفضل من العيش مع رجل عديم المروءة كلّ العمر
في ليلة الخامس والعشرين من تشرين الثاني، كنّا ما زلنا نقيم في منزل الحاج صادق. كان علي قد قال لي قبل مغادرته إلى الجبهة: "ابقي عند والدتي أثناء غيابي، فبوجودك معها ستشعر بوجودي قربها". ولأنّه كان قد أخبرني أنّه سيعود بعد أسبوع فضّلت انتظاره، وأن لا أذهب إلى أيّ مكان.
في تلك اللّيلة شعرت بالاضطراب ولم يغلب عليّ الكرى. لجأت إلى غرفة الاستقبال، وتناولت من المكتبة كتابًا للأستاذ مطهّري، قلّبت صفحات عدّة منه من دون أن أعي منها شيئًا. لم أستطع التركيز مهما حاولت، رحت أقلب صفحة واحدة كلّ نصف ساعة، تركزّ نظري على الكتاب، لكن تفكيري شتّ في مكان آخر.
أخرجت دفتر مذكّراتي وأشغلت نفسي بكتابة مقاطع من الكتاب. تذكّرت اللّيلة الأخيرة وتلك النظرات العميقة، خالجني الروع، لماذا حاولت تلك اللّيلة أن أحفظ كلّ تفاصيل وجهه؟ ربما شعور ما حينها
241
225
العيش مع رجل ذي مروءة
قد أُلهِم إليّ إلهامًا. فكرت في نفسي: كلّ، لا ينبغي أن تراودني أفكارٌ سيّئة. لقد أخبرني بنفسه أنّه سيأتي سريعًا. إذا كان سيأتي فلماذا لا أنام؟ لماذا أنا مضطربة إلى هذا الحدّ؟ واسيت نفسي قائلة: "فرشته، لا ينبغي أن تراودك أفكار سوء، فهذا ليس محمودًا للطفل، وبالتأكيد فهذا الاضطراب طبيعيٌّ، وهو من عوارض الحمل. وهذا القلق أيضًا له علاقة بالحمل، فكلّ النساء الحوامل يشعرن بهذا الاضطراب".
وبينما نحن نتناول الفطور، انتبه السيّد ناصر إلى تعبي ونعاسي، سألني عن ذلك فأجبته: "لم أنم ليلة البارحة، كنت مضطربة".
وكالعادة واساني بحنوّه الأبوي. حاولت أن أعدّل مزاجي، وهل رنين الهاتف يسمح بذلك؟! كان يرن من دون توقّف منذ الصباح الباكر يطلبون الحاج صادق.
لم يذهب الحاج صادق إلى عمله، هدّأت من روعي وعللّت ذلك أنّه ربما يكون لديهم عمل ما معه، ولكن أيمكن خداع القلب! لقد عمّ الضجيج كياني، قلت في نفسي: "لا مشكلة، إن عمل الحاج صادق حساس بعض الشيء، فالمسؤولية هكذ، إن لم يذهب يومًا إلى العمل سيتضعضع كلّ شيء، وسيضطرون إلى الاتصال به لمشاورته في بعض الأمور"، لكنّ هاتفًا في داخلي صار يرددّ: "حقًّا! لمَ لمْ يذهب الحاج صادق إلى عمله؟"، تشاجرت مع نفسي قائلة: "وما دخلك أنتِ؟ أأنت مفتش! لم يذهب فلا يذهب! لا يرغب في الذهاب، يريد البقاء في المنزل يومًا للراحة".
لكن، ليت رنين ذاك الهاتف اللعين يتوقّف، تسمّرت إحدى عينيّ على الباب، والعين الأخرى على فم الحاج صادق الذي كان يتكلّم على الهاتف بعيدًا عن البقية بشكل مثير للريبة. لماذا لم يفتح الباب أحد؟ لماذا لم يأتِ عليّ؟ لقد قال بنفسه إنّه سيأتي خلال أسبوع. كم كان يوم
242
226
العيش مع رجل ذي مروءة
الأربعاء قاسيًا.
انتظرت نهار الخميس كي يُفتح الباب منذ الصباح الباكر، لقد وعدني علي أنّه سيعود سريعً، وها قد مضت 7 أيّام على ذهابه، لم يقل يومًا إنّه سيعود بسرعة على هذا النحو من اليقين، كم ساورني القلق! ولماذا طلب منّي أن لا أخبر والدته؟
خرج الحاج صادق يوم الخميس من البيت باكرًا، ولم يقرّ للسيّد ناصر قرار. بدا منقبضًا ومرتبكً، كان الهاتف مقطوعًا ولا يرنّ، وظلّ الهاتف ذاته في داخلي يجلب لي الأخبار السيّئة، وينبئني أنّ مكروهًا قد حصل، لكنّني تظاهرت بأنّني لا أعلم شيئًا، وأخذت منّي الحيرة كلّ مأخذ. كنت دائمًا أحدس تصرفات الآخرين المشكوكة والمبهمة جيّدً، انقبض قلبي، وسدّت الغصّة مجرى حلقومي، أحببت أن يقول أحد لي: "فوق عينيك يوجد حاجبان[1]"، كي أبكي، لكن كان كلّ فرد منّا منطويًا على نفسه، وأطبق على المنزل صمت مريب. يا له من خميسٍ قاسٍ وحزين!!
عند صباح يوم الجمعة، جاء والدي في أثري. ما إن رأيته حتّى دبّ الخوف في قلبي؛ إذ لم يسبق أن أتى أحد من أفراد عائلتي إلى منزل الحاج صادق من قبل، حدستُ أنّ مكروهًا قد حدث بالتأكيد. حاول أبي أن يُظهر نفسه أنّه بحال طبيعية، لكن الاضطراب كان يمور من خلف هاتين العينين العطوفتين باستمرار. وقف لدى الباب وقال: "فرشته، لدينا ضيوف، لقد جاء عمّك وقالت أمك أن تأتي أنتِ أيضًا لتناول الغداء معن، لنجتمع معًا على مائدة الطعام".
كانت سيّارة رينو بيضاء اللون متوقّفة أمام باب المنزل. جلس خلف
[1] كناية عن الأمر الواضح والجلي. (المترجم)
243
227
العيش مع رجل ذي مروءة
المقود رجل لا أعرفه، وباضطراب كبير ذهبت وارتديت ملابسي، وعدت لأجلس في المقعد الخلفي.
قلت لأبي: "من المقرّر أن يأتي علي اليوم؛ لذا عليّ العودة بسرعة".
لكنّه لم يلتفت لينظر إليّ حتى! داس الرجل على دواسة الوقود واتجه بنا من تلك الشوارع الباردة والخالية نحو المنزل. كانت الأشجار اليابسة والعارية متجمّدة بطبقة رقيقة من الثلج.
وصلنا إلى المنزل، ولم يكن أثرٌ لعمّي أو للضيوف. كانت أمّي تذرع الأرض مشيًا في فنائنا الصغير، ما إن رأتني حتّى هرعت نحوي، وقبل أن تقول شيئًا سألتها: "أمي، ماذا حصل؟ أخبريني الحقيقة".
استنجدت نظراتها بأبي وقالت بصعوبة بالغة: "لا شيء، لا شيء إنّما... إنّما".
صرخت: "إنّما ماذا؟!".
فرّ اللون من وجهه، بينما رؤيا ونفيسة كانتا تنظران إلينا من خلف ستائر النافذة بقلق.
قالت أمّي بهدوء: "لا تفزعي، لم يحصل شيء لقد أصيب علي بجروح قليلًا فقط".
لا أدري ماذا أصابني، غضبت بشدة وقلت: "حسنًا جُرِحَ فليُجْرح! ماذا تعني لعبة القط والفأرة هذه؟! فليست المرة الأولى التي يُجْرح فيه، لقد جُرِحَ حتى الآن مئة مرة!!".
خرجت الكلمات من فم أمّي بصعوبة، قالت على نحو متقطّع: "ولكن، هذه المرة تختلف عن سابقاته، يده! يده... لقد قطعت".
فجأة فكّرت أنّه ليس بالشيء المهمّ، فقلت: "حسنًا قُطِعَت يده فلتُقْطَع، فلا إشكال في ذلك، على أيّ حال هو حيّ".
244
228
العيش مع رجل ذي مروءة
نظرت أمّي إلى أبي نظرات يأس ومسكنة فقال أبي: "فرشته عزيزتي، ليت يده فقط قد قُطِعَت، لكنّ قدمه أيضًا قد قُطِعَت".
في تلك اللحظة فكّرت أنّه لو قُطِعَت كلّ أطراف بدنه إربًا فلا ضير في ذلك. أريده حيًّا فقط، فأجبت أبي بسرعة: "لا ضير في ذلك"، ومن ثمّ أجهشت بالبكاء.
- أقسم بالله لا يهمّني حتّى لو قطعت كلتا يديه، ولو قطعت كلتا قدميه أيضًا لا مشكلة بالنسبة إليّ. أخبروني فقط، هل هو على قيد الحياة!! بالله عليك يا أبي أخبرني هل هو حيّ؟
أشاح والدي بوجهه إلى الجهة الأخرى كي لا أرى دموعه. قال وهو يغصّ بالبكاء: "فرشته حبيبتي، أتدرين ماذا حصل؟".
تصلّبت شرايين صدري وأجتثّ قلبي من بين أضلاعي، يمّمت وجهي شطر السماء الباردة المتجمّدة وقلت: "يا إلهي... لماذا لا يخبرني أحدهم بالحقيقة! أنا أعلم، أعلم أنّ علي قد استشهد، يا إلهي ماذا أفعل الآن؟".
نظرت إلى أمّي وأبي ورجوتهما بعجز: "أليس كذلك يا أمّي! أليس كذلك يا أبي! لقد استشهد علي؟! أليس كذلك".
بكت أمّي بمرارة، واتخذ أبي زاويةً في الفناء وأسند رأسه إلى الحائط، أمّا رؤيا ونفيسة، فأسدلتا الستارة، وانسلّتا إلى داخل الغرفة. جلست على الأرض الباردة. أردت أن أتشبّث بالأرض وأقبض قبضةً من التراب وأهيله على رأسي، ولكن لم يكن بين يدي سوى بلاط السيراميك المتجمّد.
انحنيت ناحية الجنينة، وقد غطّت طبقة ثلج رقيقة وجه ترابها. كانت يداي تبحثان عن شيء في التراب عبثًا. لم أرغب في البكاء،
245
229
العيش مع رجل ذي مروءة
نشجت قائلة: "كنت أعلم، لم يُخلف علي في وعده مطلقً، كان يفي بوعده دائمًا. ولكن، علي حبيبي، لقد قتلني الانتظار، لقد انتظرتك منذ ليلة الأربعاء، لقد وعدتني أن تعود في ظرف أسبوع، علي حبيبي أيها المجحف، اليوم هو يوم الجمعة، ألم تقل إنّ فرشته لا يمكنها تحمّل ذلك! ألم تقل إنّ فرشته ليست على ما يرام! ألم تقل إنّ كلّ هذا القلق والاضطراب سيؤذي فرشته، ماذا أفعل من دونك!".
تقدّمت أمّي وأمسكت بذراعي، كان وجهها قد اختفى وراء طبقة من الدموع، قالت بصعوبة: "انهضي عزيزتي، فديتك نفسي! انهضي فالأرض باردة، سوف تصابين بالزكام يا حبيبتي".
لم أهدأ ولم يقرّ لي قرار، شعرت برغبة في الذهاب إلى مكان بعيد، إلى مكان لا توجد فيه أنباء كهذه. ماذا عساي أفعل؟ نهضتُ وسألت: "أتدري السيّدة منصورة بذلك؟!".
أومأتْ لي برأسه، فقلت: "لنذهب إليها".
تقدّم أبي، وقد تلظّت عيناه كالجمر، لم أرَه على هذه الحال من قبل. نفضتْ أمّي شادوري وقبّلتني. كان وجهي نديًّا. قلت لوالدي: "أبي، أتذكر ماذا قلت لي ليلة العرس؟".
هزّ رأسه والدموع تنهمر من عينيه:
- يا ابنتي إن العيش ليلة واحدة مع رجل ذي مروءة أفضل من العيش مع رجل بلا مروءة كلّ العمر.
أردفت أمّي باكية: "وكأنّ الجميع كان يعلم منذ اليوم الأول أنّ حياتك ستُخْتَم على هذا النحو! حتّى أنتِ نفسك، أليس كذلك، كلّنا كنّا نعلم ذلك!".
تذكّرت يوم الطلبة وحديثي مع علي: "أريد أن يكون لي مساهمة في
246
230
العيش مع رجل ذي مروءة
الثورة والحرب، أتمنى أن يكون زوجي في الحرس، مؤمنًا ثوريًّا".
إن عناصر الحرس مؤمنون متديّنون. قال علي حينها: "قد أقع في الأسر أو أُجرح أو أستشهد".
فأجبته: "ليس من المقرّر أن يحدث كلّ هذا دفعة واحدة".
كنت أعلم أنّ علي لن يُؤسر أبدً، لكن في نفس الوقت كنت متأكّدة من صميم قلبي أنّه كما كانت دربه محفوفة بالجراح فهي كذلك محفوفة بالشهادة.
مسحت أمّي دموعي بسرعة بطرف شادورها وقالت: "مولاتي يا زهراء، مُنّي بالصبر على ابنتي! مولاتي يا زينب مُدّي ابنتي بالعون!".
كانت كتفاي تهتزّان من دون إرادة منّي، وسيّارة الرّينو كانت ما زالت متوقّفة أمام باب المنزل، ترجّل السّائق مع أبي، وراح ينظر إلينا بحزن وغمّ.
نشجت ناحبة: "أقسم بالله، كلّ هذا كان ليلة واحدة، لقد عشت معه ليلة واحدة فقط".
أردت المسير في الطرقات لا ألوي على شيء، أردت الذهاب إلى مكان بعيد، إلى قمة الجبل، إلى وسط البحر، أو إلى الأعالي حيث السماء. أردت الذهاب إلى مكان لا يوجد فيه أحد، أردت أن أصرخ وأبكي قدر ما أستطيع.
لم أكن أرى أيّ مكان ولا أيّ شيء. كانت أمام ناظري فقط صورة علي. عمّت الضوضاء أمام المبنى السادس، ووقف عدد من الشبان بملابسهم السوداء مقابل منزل والدة زوجي، وراحوا يبكون بصمت.
ساعدني أبي وأمّي وصعدنا 54 درجة بصعوبة. كان باب الشقة مفتوحًا والسيّدة منصورة تجلس وسط البهو. ما إن رأتني حتّى نهضت
247
231
العيش مع رجل ذي مروءة
وتقدّمت باتجاهي، عانقنا بعضنا البعض، قالت لي وهي تعانقني باكية: "عزيزتي فرشته، أرأيت ماذا حصل؟ لقد رحل علي! لقد رحل علي من بيننا! لقد حُرم رؤية طفله! يا حسرتاه عليك يا حبيبي، والهفتاه عليك يا علي! فدتك أمك أيها العريس! عريس لم يشبع من الحياة!...".
شعرت بيدٍ على كتفي، شعرت بيدٍ تحضنني وتحضن السيّدة منصورة، كان السيّد ناصر قد وضع رأسه وسط كتفينا وعانقنا نحن الاثنتين وقال باكيًا: "يا إلهي، يا ربّاه، الصبر، ألهمنا الصبر! يا إلهي، يا ربّاه، الحمد لك. علي حبيبي! علي ولدي إلى أين رحلت يا أبتاه!".
وراح يبكي معنا بشدّة، ومع بكائه ونواحه ضجّت الجموع من حولنا بالبكاء. وقفت أمّي جانبًا لكنّني كنت أسمع صوتها:
- صلّوا على محمد وآل محمد. يا مولاتنا الزهراء ألهميهم الصبر! يا مولاتنا زينب كوني في عونهم!
بعد قليل، تفرّقنا عن بعضنا البعض، جلس السيّد ناصر في زاوية، ووضع رأسه على ركبتيه، والسيّدة منصورة كانت تذهب إلى هذه الناحية وتلك وتنوح: "علي! الآن على كتف من سأضع رأسي! علي! الآن من سيواسيني! تعال وقل إنّ ذلك كذب! تعال وقل إنّك لم تتركني وحدي! لهفي عليك يا علي! واحسرتاه عليك. يا إلهي لقد انتهت حياتي! علي كلّ ما أملك، حبيبي علي رحل!..".
تسللت إلى حضن أمّي وسألتها: "أين علي؟ فلنذهب لنراه".
همست أمّي في أذني: "لم يأتِ بعد، إنّه عند أصدقائه".
سألتها: "وأين استشهد؟".
- في ماووت العراق على لغم.
قلت وأنا أبكي: "إنّه في جبهات الغرب منذ أيّام عدّة وأصدقاؤه
248
232
العيش مع رجل ذي مروءة
يودعونه".
وفد الأصدقاء والمعارف والأقرباء لتعزيتن، فلم يصدّق أحد ما حدث، كان الجميع ينظر إلينا مبهوتًا؛ إذ إنّه قد مضى على شهادة أمير 6 أشهر فقط.
وصلت مريم والجدّة والجدّ والأقارب الطهرانيون ليلً، كم كانت لحظة مريرة! كم كان ضجيجًا ملولًا! كم كان بكاء مريم بانكسار، والآهات المظلومة للسيّدة منصورة والسيّد ناصر مؤلمًا وجارحًا! كم كان ليلًا لا نهاية له! كم كان يوم جمعة قاتمًا وطويلاً!
في صباح السبت، أخبرنا أحد أصدقاء علي أنّ الجنازة قد أُحضِرت إلى همدان، وأخذوها إلى مريانج، وأقاموا لها المراسم هناك حتّى الصباح. كان قلبي يغلي من الاضطراب، ولم يقرّ لي قرار.
ارتدى الجميع ملابسهم فقلت لهم: "وأنا أيضًا سآتي معكم".
قالوا: "كلّ، لا يمكن ذلك".
قلت: "بل سآتي".
قالوا: "يوجد كراهية في ذلك، فمجيئك ليس محمودًا من أجل الطفل".
بكيت، ووعدتهم أن لا تسوء حالي: "أقسم لكم وأعدكم أن لا أبكي، خذوني معكم".
رجوت الحاج صادق:
- بالله عليك دعني آتي معكم.
قلت لأمي: "لقد اشتقت إليه".
لا فائدة، رجوت السيّد ناصر قائلة:
249
233
العيش مع رجل ذي مروءة
- بالله عليك سيّد ناصر خذوني معكم.
استنجد السيّد ناصر بالسيّدة منصورة:
- فلنأخذ فرشته أيضًا.
أمسكت بيد أمّي:
- أمّي، قولي شيئً، افعلي شيئًا كي آتي أنا أيضً، أقسم بالله أعدكم أن لا تسوء حالي.
اتصلت أمّي بعدة جهات، وسألت عدّة أشخاص، فقالوا إن نظر المرأة الحامل إلى الميّت مكروه.
أجبتها: "لكنّ علي ليس ميّتً، علي شهيد".
في النهاية رقّت قلوبهم لحالي وقالوا: "تعالي معنا لا مشكلة في ذلك".
خفضت رأسي وتبعتهم بهدوء. وكي لا يُحدث "المنافقون"[1] أيّ مشكلة لجثمان علي، تم وضع التابوت في مكان معزول ليلًا في مستشفى الجيش، على مسافة 5كلم من جادة كرمانشاه، وكذلك مُنِع دخول الأفراد الذين ليس لديهم عمل إلى هناك.
دخلنا المستشفى، توقّفنا قليلًا في حرمه، تقدّمت إحدى سيارات الإسعاف وتبعتها سيارتان. كان خلف حرم المستشفى شارع ضيّق طويل جدًّا لا نهاية له. وأحاطت بالمستشفى فسحة تشبه الحديقة، وملأت أشجار الصفصاف المعمِّرة العارية واليابسة جانبي الطريق الذي عبرناه، واستقرت عليها طبقة رقيقة من النفناف. كان الثلج هناك على التلال والجبال أكثر ما جعل اللون الأبيض يكتسح الأرض والسهل والجبل.
[1] المنافقون: يقصد بهم منظمة (منافقي خلق).
250
234
العيش مع رجل ذي مروءة
عبرنا الشارع الطويل جدًّا بسرعة، وران الصمت على الجميع. نظرنا بسكوت إلى الأرض المغطاة بالثلوج من خلف نوافذ السيّارة. بعد قليل، وجدنا في آخر ذاك الشارع حاوية خلف شاحنة كبيرة، وقد توقّف حولها سيارات عدّة تابعة للحرس.
ترجّل بعض الأشخاص من سيّارة الإسعاف واتّجهوا ناحية الحاوية. كذلك ترجّلنا نحن من السيّارة. فتحوا براد الحاوية وأنزلوا التابوت. تقدّم الحاج صادق نحوه محنيّ القامة وكتفاه متهدّلان. ركض السيّد ناصر وحضن التابوت. أمسكت أمّي بيدي. فتحوا التابوت وناحت السيّدة منصورة: "فديتك نفسي! فدتك أمك يا علي! أقضيت ليلة البارحة هنا يا ضيا عيني!".
وضجّ الجميع بالعويل والنحيب، كانت أمّي تشهق وهي تبكي، كذلك أنا من دون أن أحسب للأفراد من حولي حسابًا. كانت يد أمّي تلاطف كتفي، وازدحم المكان حول التابوت. اتجهت نحو علي، كان قلبي يخفق بسرعة وقدماي ترتجفان. تنحّى أشخاص عدّة جانبًا. جلست قرب التابوت، عانق الحاج صادق رأس أخيه. بينما أمسك السيّد ناصر والسيّدة منصورة بيده اليمنى. جلست على يسار علي. أزحت غطاء النايلون جانبً، كانت يده اليسرى ظاهرة، باردة ومدمّاة، لقد أثخنت شظايا اللغم الجهة اليسرى من بدنه بالجراح، وأدمت قسمًا من رأسه. ضغطت على يده، تذكّرت اللّيلة الأخيرة كم نظرت إلى هاتين اليدين وقلت في نفسي: "عليّ أن أحفظ شكل هاتين اليدين، وأن لا أنسى شكل هذه الأصابع". لم تدفأ يده مهما حاولت. نهض الحاج صادق وأعطاني مكانه.
بدا نائمًا بهدوء وطمأنينة بوجهه الأبيض المنير. كان أصدقاؤه قد وضعوا على جبهته عصبة خضراء اجتازت شعره الأشقر. وذقنه
251
235
العيش مع رجل ذي مروءة
مسرّحة، وشعره نظيف ومهندم، كذلك كان حاجباه مرتبين. كم كنت أستاء لزعل هذين الحاجبين!
انحنت أمّي وأمسكتني قائلة:
- انهضي عزيزتي فرشته، انهضي.
قلت وأنا أغصّ بالدموع: "أنا لا أبكي، أنا بخير".
خاطبت السيّدة منصورة أصدقاء علي: "أهكذا اعتنيتم بعلي! لقد تجمّد ولدي منذ ليلة البارحة من البرد!".
بكى الجميع لكلامها. وضعت أمّي يدها تحت ذراعي وقالت:
- انهضي فرشته حبيبتي، انهضي ستصابين بالزكام.
كان الجميع يبكي ما عدا علي، فقلت: "حبيبي علي، لقد ارتحت الآن، نم قرير العين يا حبيبي، لقد عانيت أرق سبع سنوات. لقد انتهى الأمر وارتحت، نم، نم بهدوء، لكنّ قلبي يحترق؛ لأنّك لم ترَ طفلك، ليتك رأيته ورحلت بعد ذلك!".
تذكّرت الرمانتين من دون إرادة مني، ليتني أستطيع معرفة ما إذا كان قد أكل الرمانتين المشقوقتين أم أنّه قد وهبهما كما يهب الأشياء الأخرى. تأبّطتْ أمّي يدي من كتفي فنهضت، كانت قدماي واهنتين لا قدرة بهما، وأسناني تصطك ببعضها البعض ويدي ما تزال متجمّدة من برودة يد علي. وقف الجميع حول التابوت يرتدون أثواب الحداد ويرثونه، ومرة ثانية أطبق الوجوم على كلّ شيء أمامي، ولم أشعر بوجود شيء، وابتعدت مع أمّي بسرعة.
أحببت أن نبتعد ونبتعد، لم أرغب في أن أصدّق أنّني لن أرى علي ثانية. هو جالس هناك على ذاك الجبل، داخل السماء وسط الغيوم، ينظر إلينا ويرعانا ويحذر من أن أصاب بالبرد، أو أن يصيب طفله مكروه.
252
236
العيش مع رجل ذي مروءة
قلت لأمي: "لنذهب". وذهبت معها بسرعة إلى مقربة من سفح الجبل من دون أن ننبس بكلمة. لم أرغب في أن أصدّق أنّ علي استشهد، لكنّ تلفزيون محافظة همدان أذاع ليلًا بيانًا جاء فيه: "لمناسبة شهادة القائد البطل علي تشيت سازيان، يعتبر يوم غدٍ الاثنين الثامن من آذر يوم عطلة، وسيعلن الحداد 3 أيّام في المحافظة".
اجتمع أفراد العائلة وتحدّثوا عن مراسم الغد ومراسم الدفن. تقرّر أن يلقي الحاج صادق كلمة في المراسم، أمّا السيّد ناصر فلا يطيق إلقاء الكلمات. وأنا أيضًا كنت متأكّدة من أنّني لست ضمن الأشخاص الذين سيتحدّثون في المراسم.
تجمهر الناس صباح الأحد أمام منزل والدة زوجي كالحشر، وتجمعوا حاملين الأعلام واللّافتات الخاصّة بالتعزية في ساحة مباني المهنية. كنت أقف خلف النافذة أنظر إلى الجموع، فقال أحد الأشخاص من داخل الغرفة: "لقد أحضروا السيّد علي".
دخلت سيّارة الإسعاف الى الزقاق، فتحوا بابه، كان بداخلها تابوت ملفوف بعلم الجمهورية الإسلامية ذي الألوان الثلاثة. ارتجفت قدماي، وضعت يدي على الحائط كي لا أهوي، غصصت بالبكاء؛ إذ إنّ علي بعد سنة وثمانية أشهر من الزواج ما زال لا يملك بيتًا. تذكّرت أغراضنا التي وضع كلّ قسم منها في مكان: قسم منها في أنبار[1] أمّي، وقسم آخر في منزل الحاج صادق، وحقيبة ملابس في زاوية غرفة السيّدة منصورة.
كان الناس يهتفون في الزقاق: "وا ويلاه قُتِل علي، قُتِل أسد الله".
كان بدني يرتجف لسماعي هذه الأصوات. أنزلوا التابوت من خلف
[1] 1 أنبار: غرفة غالبًا ما تكون في الفناء الخارجي للمنزل؛ تحفظ فيها اللوازم والمعدّات و..، وتشتهر المنازل الإيرانية القديمة بوجودها. (المترجم)
253
237
العيش مع رجل ذي مروءة
سيّارة الإسعاف، ووقف جيران المباني المقابلة خلف النوافذ يبكون. لم يسع الزقاق حتّى لرمية إبرة؛ إذ إنّ قسمًا من الناس كانوا في شقّة والدة زوجي والقسم الآخر كان في الشارع.
لم يستطيعوا رفع التابوت، فوضعوه ثانية داخل سيّارة الإسعاف. عندما انطلقت السيّارة ركض خلفها الناس وهم يهتفون. كانت الأجواء مثقلة بالحزن، كذلك كان المنزل حزينًا ومنقبضًا. لم يشهد شارع المهنية وساحة المباني حشودًا كهذه حتّى اليوم. كان الناس يهتفون: "يا حسين، يا حسين".
تفطّر قلبي. أحببت أن أفتح النافذة وأطير كطائر وأرحل إلى البعيد حيث علي، أرحل إلى حيث علي وأصدقاؤه الشهداء يتسامرون ويضحكون. تجمّع الناس حول التابوت كاللجج، يلطمون الصدور والرؤوس والوجوه ويهتفون: "يا حسين..".
انطلقت سيّارة الإسعاف وتبعها الناس. لقد أتى الكثير من المشيّعين حافي الأقدام على الثلوج. وقفت أمّي جانبً، وانتظرنا سيارات عدّة في الزقاق كي تقلنا إلى روضة الشهداء. كان الزقاق ما يزال يغصّ بالجموع. شقّوا لنا طريقًا وركبنا السيّارة. شاهدت بوابة المبنى مغطاة بلافتة وقماش أسود. عندما دخلنا الشارع رأيت صورة علي على الجدران وخلف زجاج المحلّات، وكُتِب على الستائر السوداء: "علي أيها الحبيب... شهادة مباركة"، كذلك عُلّقت الرايات السوداء على أبواب المؤسسات وفوق الأسطح والنوافذ والأبواب.
همست أمّي في أذني قائلة: "حبيبتي فرشته، سيطري على أعصابك، فالمسألة في روضة الشهداء مختلفة، هناك يختلط الحابل بالنابل، الأعداء والأصدقاء، كوني قويّة ولا تبدي أيّ ضعف".
كانت الشوارع مزدحمة وعلي يضحك في الصور على الزجاج
254
238
العيش مع رجل ذي مروءة
الخلفي للسيارات. كان في كلّ مكان كيفما أدرت رأسك. لم يزدحم الطريق في يوم من الأيّام من المنزل حتّى الروضة كما ازدحم اليوم، ولم يطل بالقدر الذي طال فيه الآن. أخذونا من طريق مختصرة فقال السائق: "لقد تجمّع الناس في مستديرة الإمام، ومن المقرّر أن يتم تشييع السيّد علي من المستديرة حتّى الروضة".
يبلغ هذا المسير 5 كلم تقريبًا. عندما وصلنا إلى الروضة، كان صوت علي يُبثّ عبر مكبّر الصوت من شريط كاسيت قديم. كانت حالي سيّئة، كيف عليَّ أن أصدّق أنّ صاحب هذا الصوت لم يعد بيننا. لم أستطع تصديق رحيله وأفوله إلى الأبد. كلّ، كلّ، لقد اشتقت إليه بهذه السرعة، أنا أريده، كنت أتذرّع، أريد علي كطفل يتذرّع يريد أمه.
كذلك مريم لم تتحمّل، عندما سمعت صوت علي بكت من دون أن يرتفع صوت بكائها. كنت أراه قبالتي كالعادة قويًّا ثابتًا يمشي بكتفين مفتولتين. فكّرت في نفسي: "إلى أين تراه ذاهب؟ ألم يكن من المقرر أن نحصل على منزل بعد عامين، وأن ننظّم حياتنا! أخبرني إذً، لقد كان كلّ هذا التملّص من شراء المنزل وامتلاك بيت من أجل هذ، كنت تسعى لمكان أفضل".
بكيت، وفكّرت أنّ علي يعتبر الموت أجمل من الحياة؟! قلت في نفسي: "الشهادة، فهل الشهادة عذبة وجذابة إلى هذا الحدّ حتّى لحقتَ بها على هذا النحو من العشق، وتركتني والطفل، وتركت أبًا وأمًّا يحبّونك كي تحصل عليها! كيف أدركت هذه اللذّة؟ كيف وصلت إلى هذه البصيرة؟ فكم كان عمرك؟ أقصد ما هو شعورك الآن! مسرور، حرّ أم طليق؟ إذا كنت هكذا فلماذا أنا حزينة هكذا! لماذا أنا مضطربة وقلقة!؟ لماذا لا أستطيع ابتلاع غصّتي! لماذا لا أستطيع أن أمسك عبراتي! لمَ أنا قليلة التحمّل إلى هذا الحد!". انكسر فؤادي مع
255
239
العيش مع رجل ذي مروءة
كلّ هذه الأفكار التي ازدحمت في رأسي.
في تلك اللحظات أحسست جيّدًا معنى انكسار القلب واحتراقه. حضرت جموع غفيرة إلى الروضة، ولم يكن هناك مكان لرمي إبرة. ترجّل شابّ من الحرس من سيّارة رباعية الدفع، تقدّم وتحدّث إلى السائق. بعد ذلك، فتح لنا الطريق أشخاص عدّة، ودخلت سيارتنا إلى باحة تقام فيها صلاة الميّت.
إلى جهة يمين الباحة يقع مغسل الرجال ومغسل النساء، وبين كلا المغسلين درج يصل إلى الطابق الثاني، وهناك أفسح لنا الطريق أفراد عدّة وأصعدونا الدرج. كان في الطابق الثاني غرفتان، جلس في إحدى الغرفتين الرجال وهم: قادة الحرس والجيش والقوة الجوية والمحافظ وإمام الجمعة ومسؤولو المحافظة. كان أمام المبنى شرفة ضيقة وطويلة تستخدم من أجل إجراء المراسم.
عندما دخلنا غرفة السيدات، ساءت حالي. قلت في نفسي: "فلتكسر قدمي يا علي، أتيت إلى هنا من أجلك".
كانت في الغرفة أيضًا السيّدة منصورة والجدّة والخالة فاطمة، وقد وصلن إلى هنا قبلنا. ذهبت أمّي وأحضرت لي كوب ماء. مريم التي أتت بالسيّارة ذهبت وجلست إلى جانب والدتها. بعد ساعة، سمعنا ضجيجًا من الخارج، كان الناس يهتفون:
"ارتدوا ملابس العزا فقد قُتِل علي
وا ويلاه قُتِل علي قُتِل علي".
دخلت سيّدة شابّة إلى الغرفة، وقد غطّت نصف وجهها بالشادور تقريبًا.
قالت تلك السيّدة: "معذرة، أين تجلس زوجة الشهيد؟".
256
240
العيش مع رجل ذي مروءة
أشارت أمّي إليّ. قلت: "بلى".
تقدّمت السيّدة نحوي، كنت أرى فقط أنفها وعينيه، فقالت: "أختاه، من المقرّر أن تلقي كلمة في المراسم".
ارتبكت لسماعي هذه الكلمات وقلت: "ماذا؟ ألقي كلمة!! لا، ليس من المقرر ذلك".
قالت السيّدة: "اسمك في اللائحة، سيحين دورك بعد أن يلقي أخو الشهيد كلمته".
تأففت بصوت منخفض:
- لمَ لمْ تخبروني من قبل؟ على الأقلّ أخبروني ليلة البارحة.
لم تردف السيّدة شيئًا وذهبت. لم يكن يوجد نافذة في الغرفة التي كنّا نجلس فيه، إلّا أنّ أصوات الخارج كانت تُسْمع بشكل واضح. فجأة سمعنا صوت علي، كانوا قد بثّوا شريطًا لإحدى كلماته، فهمّ الجميع بالنهوض، وبكت السيّدة منصورة قائلة:
- فديت صوتك يا علي يا حبيبي! علي ليتني أموت يا حبيبي!
كان علي يقول [في الشريط]: "إن كلّ الفضائل والقيم تكمن في الشهيد. هنيئًا للشهداء، لقد كانوا ورودًا زكية الرائحة فانتقاهم الله. لقد اختارهم الله. إن الشهداء أحياء، إن الشهداء أحياء بالأفراد الذين يكملون طريقهم. كونوا أمناء جيّدين للشهداء".
كانت السيّدة منصورة تنوح قائلة:
- فديتك يا مهجتي، فقد كنت وردة انتقاها الله! فديتك نفسي، كنتَ دائمًا تقول هنيئًا للشهداء! والآن نحن علينا أن نقول هنيئًا لك! هنيئًا لك يا مهجة فؤادي!
كانت السيّدة منصورة تقول هذه الجمل وتبكي.
257
241
العيش مع رجل ذي مروءة
فكّرت في نفسي: "حبيبي علي، أنا لست متحدّثة لبقة مثلك، أخاف أن أقول شيئًا وأريق ماء وجهك".
أحضرت أمّي قلمًا وورقة وأعطتني إيّاهما قائلة:
- خذي حبيبتي فرشته، اكتبي كي لا تنسي.
أخذت القلم والورقة. كانت المرة الأولى التي ألقي فيها كلمة في حياتي، وذلك أيضًا بين كلّ هذه الجموع، أنا التي لم أحصل على شهادة البكالوريا بعد، ماذا أستطيع أن أقول؟ وماذا يمكنني أن أكتب؟!
قلت: "حبيبي علي، لقد قلت الآن إنّ الشهداء أحياء، الشهداء أحياء من أجل الذين يريدون أن يكملوا طريقهم. إذا كنت الآن هنا عندي فساعدني".
عندما مرّرت القلم على الورقة جرت الكلمات في ذهني ولساني. كنت أكتب على الورقة وأشعر أنّ علي يقف إلى جانبي. كنت أسمع صوته، وكأنّه كان يلقّنني الكلمات. أحببت أن أكتب كما يقول كي أسمع صوته الدافئ من دون توقّف. لكنّ علي ختم قائلًا: "والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وأنا كتبت ذلك.
عندما وضعت القلم على الورقة كنت ما أزال أشعر بوجوده. كنت أشعر أنّه يقول هكذا: "حبيبتي فرشته، قفي زينبية، زينبية".
انهمرت دموعي وقلت: "ساعدني، ساعدني كي أقرأ من دون أخطاء".
ابتسم علي وهدأ كلّ وجودي مع ابتسامته. ارتفع صوت الناس من الخارج:
"من أجل دفن الشهداء أقدم يا مهدي أقدم"
وبكت السيّدة منصورة ومريم والجدّة لسماعهنّ هذا الشعار.
كانت أمّي أكثر صلابة. بعد قليل توقّفت الأصوات وسُمِع صوت
258
242
العيش مع رجل ذي مروءة
فرقة الموسيقى، كانوا يعزفون مارش العزاء. بعد ذلك، تلا أحد الأشخاص القرآن بصوت شجيّ جدًّا، بينما مريم والجدّة والخالة فاطمة والسيّدة منصورة كنّ يتقبّلن التعازي.
ساءت حال السيّدة منصورة خلال هذه الأيّام وتأذّت كُليتاها كثيرًا. فقالت مريم: "أمي، إن بكيت كثيرًا ستسوء حالك أكثر! أنسيت ماذا قال الطبيب، إن البكاء والحزن سمٌّ لكِ".
أجابتها بتململ: "فليكن سمًّ، لا أريد الدنيا بعد علي!".
بعد قراءة القرآن هزّت أصوات الجموع الغرفة:
"اليوم عزاء اليوم عزاء اليوم هو يوم عزاء
مهدي صاحب الزمان اليوم صاحب العزاء"
دخلت إلى الغرفة تلك السيّدة الشابّة مجدّدًا وقالت: "سيّدة پناهي كوني جاهزة، فبعد كلمة أخي الشهيد يحين دورك".
فجأة تجمّدت قدماي، كنت أسمع صوت دقات قلبي، ورحت أهدّئ من روعي. بعد كلمة الحاج صادق هتف الناس: "الله أكبر، الله أكبر، خميني قائد، الموت للمنافقين وصدّام، السلام على مجاهدي الإسلام، السلام على الشهداء".
نهضت من مكاني وظهرت السيّدة لدى الباب. كذلك نهضت أمّي ورافقتني إلى أمام باب الشرفة، وراحت تصلّي على النبي وآله بسرعة من أجلي. تنحّى أحد الشباب في الحرس من أمام باب الشرفة قائلًا:
- تفضّلي سيّدة تشيت سازيان.
كانت الجموع تطلق شعار:
"وا ويلاه قُتِل علي
أسد الله قد قُتِل
259
243
العيش مع رجل ذي مروءة
يا حسين...".
غصّت الشرفة بالمسؤولين الواقفين قبالة الناس. فسح لي الطريق أحد شباب الحرس الذي رافقني حتّى المنصّة، وانشغل بتنظيم الميكرو.
عندما وقفت خلف المنصّة، وقع نظري على الجموع الممتدّة داخل الباحة. بعضهم وقف على سطح المسجد المقابل للمغسل، وحمل جنديّان طرفي لافتة، كانت صورة علي على يسار اللافتة، وكُتِب إلى جانبها "علي أيها العزيز! شهادة مباركة".
إلى ناحية اليمين - حيث مرقد آية الله الفاضل ملّا علي معصومي همداني[1]- احتشد الكثير من الناس، كذلك إلى جهة اليسار حتّى أمام مدخل الروضة إلى الأعلى لم يكن يُرى سوى جموع غفيرة. كانت تُرى الحشود باللباس الأسود على امتداد النظر قد أتت لتشييع قائدهم المحبوب.
لم أكن قد رأيت حشدًا كهذا في الروضة لغاية الآن. أشار إليّ الشابّ في الحرس الذي عمل على تنظيم الميكرو لي كي أبدأ.
- باسم الله حارس حرمة دماء الشهداء وناصر المظلومين.
أحسست أنّ صوتي يرتجف، فهتفت في قلبي: "علي، علي حبيبي ساعدني".
وتابعت...
- أرى نفسي أصغر من أن أقف في هذا المكان المقدّس لأتحدّث
[1] حضرة آية الله العظمى السيّد ملّا علي معصومي (ولد في عام1274ق) وهو من تلامذة الشيخ عبد الكريم الحائري، العالم الزاهد والتقي ومنشأ البركات المعنوية. كان آية الله خلال وجوده في همدان يعمل على تأهيل المدرسة العلمية للحوزة، وقد أسّس أيضًا مكتبة هذه الحوزة. وفي 31 تير 1357 توفي بعد معاناة مع المرض.
260
244
العيش مع رجل ذي مروءة
إليكم. أردت فقط أن أكون في خدمتكم أيها الأعزاء الذين تكبّدتم العناء وحضرتم من أجل هذا القائد الإسلامي العزيز "علي تشيت سازيان".
تنفّست الصعداء، كانت الجموع غارقة في صمت عميق. رفعت رأسي، فكانت صورة علي يبتسم على لافتة قبالتي.
فتابعت:
- كذلك أرى نفسي أصغر من أن أكون زوجة شخص كهذا شديد الإيمان، شهم، شجاع، مغوار ومضحٍّ.
في نفس الوقت الذي كنت أقول فيه هذه الجمل تذكّرت علي الذي كان يتحلّى بكل هذه الخصال الحميدة، ونُقش في ذهني مصداق على كلّ خصلة من خصاله.
فقلت: "كان علي معين اليتامى"، وتذكّرت أنّ أحد أصدقائه أخبرنا منذ أيّام أنّ علي وعدّة أشخاص آخرين كانوا يملأون شاحنة بالطعام والمؤن ويذهبون إلى قرية فقيرة تدعى "سنك سفيد"، فيضعون الطعام خلف أبواب المنازل التي تم رصدها مسبقً، ومن ثمّ يرجعون. عند العودة كانوا يطلقون أبواقًا عدّة فتعرف العوائل الفقيرة معنى تلك الأبواق. كان علي وأصدقاؤه يخرجون بسرعة من "سنك سفيد" كي لا يراهم أحد، فتخرج العائلات من منازلها وتأخذ حصصها التموينية.
تابعت كلمتي: "علي هو شخص تبقى ذكراه في كلّ الجبهات، وبين كلّ إخوتنا الأعزاء والمجاهدين الأفاضل الذين هم في الجبهة".
فجأة ارتفع صوت بكاء الجموع. سيطرت على نفسي.
- أنا الحقيرة[97] أطلب من كلّ الأمهات والزوجات والأخوات أن يرسلن
261
245
العيش مع رجل ذي مروءة
أولادهنّ، كما طلب الإمام الخميني، إلى جبهات الحق ضدّ الباطل.
تذكّرت بأقلّ من ثانية أنّ علي قد وقف على هذه المنصة ذاتها يوم شهادة أمير، وطلب من الناس أن يذهبوا إلى الجبهة. كان صوت علي يطنُّ في أذني قائلًا: "لا تفعلوا شيئًا يجعل الإمام يقف ثانية ويطلب من الناس الإسراع في الذهاب إلى الجبهات".
فقلت: "إن شاء الله ستعمى عيون الأعداء بحضوركم في الجبهات، وسينتصر جيش الإسلام بسرعة، وأشكركم ثانية، وأطلب منكم أن تكملوا طريق كلّ الشهداء، وبالخصوص طريق هذا الشهيد الفاضل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
ما إن وصلت إلى هنا حتّى رأيت السيّدة منصورة تقف إلى جانبي، أعطانا أحد العناصر ورودًا فرميناها معًا أنا والسيدة منصورة من على الشرفة باتجاه الجموع. هزّت أصوات التكبير "الله أكبر" ثانيةً روضة الشهداء.
ومن بين كلّ هذه الأصوات قطّع نياط قلبي نواح محرق لعدّة أشخاص:
- سيّد علي... سيّد علي يا حبيبنا...
عدت إلى الداخل مع السيّدة منصورة، ولم يتوقّف صراخ وهتاف الناس ولطمهم.
دخلت تلك السيّدة الشابّة إلى الغرفة وقالت: "شكرًا جزيلًا سيّدة تشيت سازيان. لقد أبليت بلاءً حسنًا".
قلت: "خذوني، أريد أن أكون عند علي خلال التشييع".
نظرت المرأة إلى السيّدة منصورة وإلى والدتي وقالت: "الجموع
262
246
العيش مع رجل ذي مروءة
غفيرة جدًّا، حتّى إن المسؤولين لن يستطيعوا التقدّم من أجل الدفن. لقد مدّ أصدقاؤه منذ ليلة البارحة سياجًا وحبلًا حول القبر كي لا يتقدّم أحد إلى الأمام، لكنّهم يقولون إنّهم لا يأمنون من الناس، فالحشود هناك كالحشر. ويقوم أحد أصدقاء الشهيد وهو عالم دين، ويدعى السيّد "إلهي" بقراءة القرآن وزيارة عاشوراء داخل القبر منذ الصباح، لا تستطيعون الذهاب إلى هناك".
قالت السيّدة منصورة: "ليتهم يدفنون علي قرب أخيه!".
أجابت السيّدة الشابّة: "يا حاجة، إن القبر الذي يقع على الطرف هو قبرٌ يخصّ شهيدًا مفقود الأثر، ولكي يُفرح والد الشهيد المفقود الأثر قلب زوجته (أم الشهيد) وَضع شاهدًا على القبر وكتب عليه اسم شهيدهم، وفي ليالي الجمعة يأتون إليه ويقرأون الفاتحة. لقد أهدى والدا هذا الشهيد المفقود الأثر القبر لولدكم علي، فقالوا طوبى لهم أن يكون قبر ولدهم من نصيب السيّد علي، فهكذا هم سيفرحون أكثر، وولدهم سيكون راضيًا. ادعوا يا حاجة أن يكون ولدهم لم يستشهد بعد، وأن يعود إلى كنفهم".
رفعت السيّدة منصورة يديها نحو السماء:
- إلهي آمين، إلهي لا تخيّب آمالهم وأفرح قلوبهم. إلهي أقسم عليك بحق قلبنا الكسير أفرح قلوبهم، وأن لا يخيب أملهم، إلهي بضلع الزهراء عليها السلام أقسم عليك أن ينتهي انتظارهم لولدهم.
ثمّ قالت السيّدة منصورة وهي تنوح: "أمير، هنيئًا لك، انهض فاللّيلة لديك ضيف، لقد جاء علي، لقد أتى إليك أخوك علي..".
بكى الجميع لكلامه، ومع الإلحاح الشديد ذهبت السيّدة منصورة، مريم، والجدّة، والخالة فاطمة إلى التشييع، لكنّهم مهما حاولت لم
263
247
العيش مع رجل ذي مروءة
يسمحوا لي بذلك، فجلست أنا وأمّي في الغرفة.
كم كانت الدقائق تمر ببطء وقسوة!! مرّت الساعتان أو الثلاث ساعات وكأنّها يومٌ أو يومان! كم ألححت على أمّي كي تأخذني للوداع الأخير!! أمسكت أمّي بيدي وراحت تقرأ آية الكرسي، والحمد، وقل هو الله أحد. أحيانًا كانت تضع يدها على قلبي وتقرأ تسبيحة الزهراء عليها السلام ليهدأ بعض الشيء.
أنصتُّ جيّدًا، وحاولت معرفة ماذا يحدث في الخارج، أحسست أنّ قلبي قد توقّف لعدة دقائق وتهاوى شيءٌ ما في داخلي، نهضت وأسرعت باتجاه باب الغرفة، أمسكتني أمي، انفجرت بالبكاء وجلست على الأرض أتأوّه وأئنّ:
- أمي، لقد رحل علي، لقد رحل، أنا متأكّدة من أنّه قد رحل الآن من بيننا.
بكت أمّي، ألقيت برأسي على صدرها وقلت لها:
- أمّي لن أراه بعد الآن أبدً، أنا متأكّدة من أنّهم دفنوه تحت التراب، لقد رأيته يودّعني.
أمّي التي إلى ذاك الحين كانت تسيطر على أعصابها انفجرت بالبكاء.
- علي حبيبي، وداعًا...
كان حضن أمّي ملاذًا جيّدًا لأذرف دموعي فيه. بعد قليل جاء الحاج صادق والسيّد ناصر وعدة أشخاص آخرين والتراب يغطّي ملابسهم السوداء والمبعثرة. نزلنا الدرج، كانت الباحة خالية، لكنّ الروضة ما زالت تغصّ بالجموع. رغم ذلك، استطعنا أن نعبر من بين الجموع سيرًا على الأقدام، مع أنّ قدمَيّ كانتا ترتجفان ولا قدرة
264
248
العيش مع رجل ذي مروءة
لهما على المسير، سمعتهم يقولون إنّ شخصين أو ثلاثة أشخاص من أصدقاء علي قد ساءت حالهم ونقلوهم إلى المستشفى.
ازدحم المكان بالجموع حول الضريح، فلم نستطع المسير، قلت في نفسي: "علي، لقد وصلت إلى أمنيتك، لكنّني لا طاقة لي على كلّ هذا الغمّ والفراق".
رآنا أفراد عدّة فصاحوا: "افسحوا الطريق، فأمّ الشهيد وعائلته يتقدّمون إلى الأمام".
فُتِح الطريق، كان الحاج صادق يمسك السيّدة منصورة من إبطه، والسيّد حميد "زوج مريم" يمسك بيد زوجته، كذلك كان أبي وأمّي يتقدّمان ويتحدّثان إلى السيّد ناصر، فقلت: "علي حبيبي، من سيأخذ بيدي! على كتف من سأضع رأسي! علي، لقد تركتني وحيدة باكرًا! ما زلت في التاسعة عشرة من عمري!".
لم أستطع أن أتربّع في جلستي فوقفت في زاوية. وغطّت ورود الزنبق الأبيض ضريح علي، وضعت شادوري على وجهي، وملأت رائحة ماء الورد الأجواء. لم أرغب في التفكير أنّ علي هناك في الأسفل، في أسفل ذاك التراب، كلّ، علي لم يكن هناك، علي هناك في الأعالي، في السماء، أمطت الشادور عن وجهي ورفعت رأسي. رغم صفاء السماء إلّا أنّ البرد كان يلسعني لسعً، قلت: "علي، أين أنت؟!". وسط السماء! جلت بنظري لكنّني لم أره.
- في أيّ مكان عليّ أن أبحث عنك يا حبيبي!
أحسست بحرارة قربي، ظننت أنّها أمي، نظرت، فلم تكن أمّي هناك، لم يكن أحد قربي. إذاً من أين أتت هذه الحرارة؟ هذه الحرارة جسد من؟! بدت صورة علي جليّة أمامي بذلك الشعر الأشقر والعينين
265
249
العيش مع رجل ذي مروءة
الزرقاوين، واللحية التي لم تشذّب منذ مدّة طويلة.
كنت دائمًا أقول له: "حبيبي علي، شذِّب لحيتك".
فيجيب: "كلّ، ما زال الوقت باكرًا".
حدّثتُ نفسي: "علي حبيبي، لقد أطلت لحيتك لهذا اليوم؟"، ومع هذه الفكرة تفطّر قلبي وانفجرت باكية، لكن فجأة أحسست أنّه يقف قربي، استندت إلى ذاك الدفء، وسمعت صوت علي يقول لي بتلك اللكنة الهمدانية العذبة: "فرشته، سامحيني، يا وردتي كوني زينبية، عيشي زينبية، زينبية...".
رمت السيّدة منصورة ومريم بنفسيهما على الورود، كانت أكتافهما تهتزّ من البكاء بصمت. أحسست بإحساس غريب، فكّرت إن أردت أن أعيش زينبية، فماذا عليّ الآن فعله؟ وكيف عليّ أن أتصرّف؟!
تملّكني حزن قاسٍ، وأحكم قبضته في عمق حلقومي. عضضت على شفتي، وبصعوبة ذهبت لأجلس قرب قبر أمير. وضعت أصابعي على شكل قبة على القبر، وقرأت الفاتحة وهمست: "أمير عزيزي انتبه لعلي".
عبرت سيّارة رباعية الدفع من أمامي. كانت صورة كبيرة لعلي مُلصقة على السيّارة، عبر علي سريعًا من جانبن، رحل علي، وهبّت ريحٌ باردة.
انحنى السيّد ناصر ورفع السيّدة منصورة، كذلك تقدّم زوج مريم وأخذها من بين الورود، أمسكت أمّي بساعدي الأيمن وأبي أمسكني بساعدي الأيسر بحنان، أردت أن أبكي ولم أرغب في الذهاب. لم أرغب في أن أنفصل عن علي بهذه السرعة، فقلت: "أمّي لا أريد الذهاب".
بكت أمي.
266
250
العيش مع رجل ذي مروءة
فقلت لأبي: "أبي، أرغب في البقاء".
فاهتزّت كتفا أبي القوّيتان وارتجفت قدماي، وتجمّدت يداي. لقد اشتقت إلى علي سريعًا. في تلك اللحظة أحببت أن يذهب الجميع وأبقى لوحدي. أحببت أن يقف علي إلى جانبي، كما وقف منذ دقائق عدّة، وأسأله: "علي، ماذا يعني أن أكون زينبية؟". أحببت أن لا يكون أحد في الروضة، وأن أبكي وأبكي بصوت عالٍ.
عندما جلسنا في السيّارة، أدار السائق كاسيتًا يبثّ رثاءً ملهبًا للروح، فتذكّرت مصيبة السيّدة زينب من أجل أخيها الإمام الحسين عليهما السلام. فبكيت، وضعت رأسي على كتف أمّي وغطّيت وجهي بشادوري، ورحت أذرف دموعي بصمت، وما جفّت دموعي حتّى وصلنا البيت.
267
251
نجمة الوالد
نجمة الوالد
أُقيمت مراسم العزاء حزنًا على علي في كافة أنحاء المحافظة حتّى الأربعين، بل وحتّى الخمسين يومًا من شهادته.
في الأيّام الأولى كنّا نشارك في المراسم بشكل عائلي. لكن، بدءًا من الأسبوع الثاني كان يذهب فقط الحاج صادق والسيّد ناصر، بعد ذلك صارت المشاركة بالتناوب، فمرّة يذهب الحاج صادق ومرّة يذهب السيّد ناصر.
شيئًا فشيئً، بدأت الرؤى العجيبة بمداهمتنا، كان بعضها حسنًا وبعضها مكدّرًا. كان الأقارب والجيران يرونه في المنام، فيسرعون إلينا ليخبرونا عن مناماتهم بحماسة وشوق. كان الاستماع إلى المنامات يزيد من شوقنا إلى علي، ويمدّنا بهدوء قلبي.
كان الجميع يراه في المنام في أفضل منزلة وأبهى حلّة. كانت المنامات تروي أنّ علي مرتاح، وحظي بمكانة رفيعة، لكنّه كان قلقً، قلقًا علينا نحن أهل الأرض، وخصوصًا على أمه.
بعد شهادة علي، اشتدّ مرض السيّدة منصورة سوءًا، بحيث إنّ الحاج صادق والسيّد ناصر اضطُرّا إلى نقلها إلى طهران بعد مرور الأربعين بعدّة أسابيع.
269
252
نجمة الوالد
وصلت شدّة الصقيع في تلك الأيّام في همدان إلى أوجها؛ إذ إنّ الثلج وتجمُّد الماء لم يسمحا لأحد بالخروج من المنزل. وهكذ، مع ذهاب السيّدة منصورة إلى طهران، جمعت أشيائي القليلة وحقيبتي، ولففت محمد علي بعدّة بطانيات لحديثي الولادة، وشددت الرحال نحو منزل أمي.
وكالعادة، استقبلني أبي وأمّي بالترحاب. كنت أرتاح أكثر عندهم، فيغمرني شعور أنّ علي في الجبهة وسيعود سريعًا. كانت أيّام الشتاء تزحف ببطء. لم تكن الأنباء الواردة من طهران مرضية وجيدة. لقد تضخّم التّكيُّس في كُليتَي السيّدة منصورة، وأصيبتا بالكسل أكثر من الحدّ الطبيعي، واعتبر الأطبّاء أنّ الحلّ هو في غسيل الكلى. وهكذ، بدأت عمليات غسيل الكلى المنهكة.
في عصر أحد الأيّام، كنت جالسة في البيت مع أبي وأمّي، أنظر من خلف النافذة إلى الثلج المتساقط من دون توقّف. جلست أمّي تحيك لمحمد علي ثيابً، فسألني والدي: "فرشته، في النهاية ماذا ستفعلين؟".
تعجّبت من سؤال والدي فقلت: "حسنً، ما سأفعله واضح، سأقوم بتربية محمد علي".
سألني والدي: "فقط!".
قلت: "إن تربية محمد علي تحتاج إلى سنين مديدة".
تدخلت أمّي وقالت:
- فرشته، خلال ذلك، ينبغي لك متابعة الدراسة والتحصيل العلمي.
لم يكن لديّ جلد على الدرس وكتابة الوظائف، فقلت لها:
- كيف سأتمكن من الدرس مع طفل؟
270
253
نجمة الوالد
قالت أمّي: "نحن سنساعدك، عليك أن تدرسي".
نظر إلي ّوالدي وقال: "حسنً، دَرَسْنا، وماذا بعد الدرس؟".
أدركت قصد والدي من هذا الكلام جيّدً، لم أتحمّل ذلك فبكيت. كان محمد علي نائمًا في زاوية الغرفة، تقدّمت نحوه بتؤدّة وأنا أبكي كي لا يستيقظ وقلت: "لا شيء، سينتهي عمري ها هنا".
تقدّمت أمّي نحوي والقلق بادٍ عليه، نهضت من مكاني وأردت الخروج من الغرفة. قلت لأبي: "أبي، أتذكر ماذا قلت لعلي ليلة العرس؟! قلت له إذا عاشت ابنتي ليلة واحدة مع رجل صاحب مروءة أفضل لها من أن تعيش العمر كله مع رجل بلا مروءة. إن هذه السنة والثمانية أشهر مرّت كالبرق ومضت كالريح، لقد كانت بالنسبة إليّ ليلة واحدة مع رجل شهم وانتهى. لا أعتقد أنّني سأجد أحدًا مثل علي".
ثمّ نظرت إلى محبسي وأنا أبكي قائلة: "أبي، أتعرف رجلًا أكثر شهامة من علي؟!".
نهض والدي، تقدّم ووقف بجانبي، كانت عيناه حمراوين مليئتين دمعًا. لم أرَه على هذا النحو من قبل مطلقًا. حضنني وقبّلني قائلًا: "كلّا يا حبيبتي، والله لم أرَ أحدًا أكثر شهامة منه، لقد كان شهمًا كثيرًا. لم يَشُبْهُ عيب".
وضع أبي رأسه على كتفي، كنت أحدّق بمحبس زواجنا، ومرّت في ذهني ذكريات أيّام شراء تجهيزات عقد القران. فقال: "فرشته، أنا وأمّك خادمان لك ولطفلك، فقدومك علينا أنت وطفلك في أهداب عيوننا".
بكيت لكلامه، كذلك فعلت أمّي، واستيقظ محمد علي على صوت بكائنا. حملته أمّي وقبّلته. وقف أبي خلف النافذة وقد غطّى الثلج
271
254
نجمة الوالد
الفناء الخارجي بثوب أبيض وقال: "عندما يحلّ الربيع سأبني لك طابقًا على السطح. عليك أن تنظّمي أمورك وتستقلّي، وأخبريني بكلّ ما تحتاجين إليه لأشتريه لك، لا تحملي همّ شيء، فنحن مدينون لك ولعلي ولولدك".
في السنة التالية، عندما حلّ الربيع وأصبح الطقس مساعدً، أحضر أبي بنّائين عدّة، وضعوا أعمدة الحديد ومواد البناء على السطح، وتم بناء غرفة ومطبخ وحمام، أمّا القسم المتبقي من السطح فقد أصبح فناءنا الخاصّ.
عندما كبر محمد علي أكثر صرنا ننام في ليالي الصيف على السطح أو على ذاك الفناء.
كان محمد علي يسأل عن والده:
- أين والدي الحبيب؟
- ذهب إلى الله.
- لماذا لا يأتي إليّ؟
- لأنّه يرعانا هناك في الأعلى.
- أنتِ تقولين إنّ الله يرعان، والجدّ والجدّة وأنتِ ترعونني.
كنت أجيب باختصار، وكالعادة أغيّر مجرى الحديث:
- هل ترى تلك النجمة؟
كان يجيبني بسرور: "نعم".
- إنّ تلك النجمة هي والدك.
كان يفرح فيمدّ يده ليحضن والده، لكن لا يتمكن من ذلك فيبكي. أحاول تهدئته، لكنّه لا يهد، فأحضنه وأقبّله، فتفوح منه رائحة علي.
272
255
نجمة الوالد
كنت أناديه "حبيبي علي" لأتذكّر علي. كان الجميع ينادي محمد علي "علي" وذلك ليبقى ذكر "علي" بيننا.
كان علي حبيبي في أغلب الليالي ينام باكيًا.
273
256
الأمّ التلميذة
الأمّ التلميذة
بدأت بالذهاب إلى المدرسة, واضطُررت إلى دراسة البكالوريا القسم الثاني مجدّدًا. ففي العام 1986 لم أنجح في الامتحانات بسبب عقد القران والزواج وبعدها ذهبنا إلى دزفول. ولكن في العام الدراسي (1988-1989) وبتشجيع وإصرار والدتي تسجّلت للمرة الثالثة في السنة الثانية للبكالوريا.
قلّلت أمّي من ساعات عملها في مشغل الخياطة, كانت تبقى صباحًا في المنزل لرعاية شؤون ولدي علي. مرّ عام على هذا المنوال.
قام مدير مهنية التهذيب بتجهيز إحدى غرف المهنية وجعل منها حضانة أطفال، وذلك من أجل راحة بال المعلمين الذين لديهم أطفال صغار.
كنت أذهب في الصباح أبكر من الجميع وأودع علي في الحضانة, وعند الظهر كنت آخذه بعد مغادرة الجميع كي لا يعرف أحد من التلاميذ أنّني متأهلة ولديّ ولد. ولكن في السنة التالية, ومن أجل الابتعاد عن كلام كهذا سجّلت علي في حضانة خارجية.
حصلت على الشهادة الثانوية في ظروف كهذه. كان علي قد أصبح عمره 4 سنوات.
275
257
الأمّ التلميذة
أصرّت أمّي أن أشارك في امتحانات دار المعلمين. فعلت ذلك, وقُبلت. واشتغلت بالتدريس معلمةً في صفوف مرحلة ابتدائية في مدرسة "22 بهمن" للصبيان الواقعة في منطقة صناعة الجلود في همدان (منوتشهري).
276
258
خلف صفّ الأشجار
خلف صفّ الأشجار
في 16 أيلول 1995، كانت قد مضت أيّام عدّة على دخول السيّدة منصورة إلى مستشفى اكباتان إثر نوبة قلبية. رغم أنّ عملية زرع الكلية تمت بنجاح، لكن هذه المرة أرقدتها النوبة القلبية في سرير المستشفى.
في ذلك اليوم، ذهبت أنا وأمّي لعيادتها. كانت مريم هناك أيضًا مضطربة وهلعة، ما إن رأتنا حتّى انهمرت دموعها:
- فرشته حبيبتي، سيّدة وجيهة، إن حال أمّي سيّئة!
ثمّ نظرت إلى أمّي ورجتها قائلة: "سيّدة وجيهة، بالله عليك ادعي لها".
وبوساطة من مريم دخلت أنا وأمّي إلى قسم C.C.U وبقيت هي في الخارج. كانت السيّدة طريحة الفراش، نحيلة وشاحبة الوجه قد أوصلت الأسلاك والأمصال والأنابيب في يديها وأنفها.
وُضع بالقرب منها جهاز مراقبة (Monitor) صغير يشير إلى دقات قلبها. كان يعطي أرقامًا غير منتظمة: 200،120،100،180،105. أمسكت بيده، شعرت ببرودته، نظرت إلى أمّي بقلق. هزّت أمّي رأسها بتأسّف وأخرجت من حقيبتها قرآنها الصغير الذي تضعه في
277
259
خلف صفّ الأشجار
محفظة جلدية ويبقى برفقته، وقالت: "فرشته أحضري كوب ماء".
ثمّ قالت للسيّدة منصورة بعطف: "سيّدة منصورة عزيزتي، هل أنتِ بخير؟!".
فتّشت عن كوب، كان فوق البراد قرب النافذة إبريق ماء وكوب زجاجي. ملأت الكوب بماء بارد من البراد، وناولته لأمي.
فتحت السيّدة منصورة عينيها بهدوء. عندما رأتني سألتني بمشقّة: "فرشته حبيبتي، أنت بخير؟ علي بخير؟ أين هو؟".
أجبتها مضطربة: "سلام، هل أنتِ بخير؟ أردت أن أحضر علي معي لكنّني خفت أن لا يسمحوا لي بذلك، سأتحدّث إلى مسؤول المستشفى، وغدًا سأحضره حتمًا".
أغمضت السيّدة منصورة عينيه، وانزلقت من طرفي عينيها قطرات عدّة من الدموع واستقرّت على الوسادة، ثمّ فتحت عينيها وقالت لأمّي وهي تبكي: "سيّدة وجيهة إذا متّ، هل يعني أنّني سأرى أمير وعلي...". قالت لها أمّي بحنان وهدوء وكأنّه لا يوجد أيّ مشكلة: "لا سمح الله يا سيّدة منصورة! تأكّدي أنّهما الآن هن، بالقرب منك، كلّ واحد منهما على ناحية، إنّهما يساعدانك لتتحسّني بسرعة. ومن المقرّر أن يكبر علي ويشتري سيّارة، وسيأتي في إثرنا أنا وأنتِ ويأخذنا في نزهة، فقد حان أن تعيشي حياتك، مدّ الله في عمرك".
زفرت السيّدة منصورة زفرة وقالت: "كلّا سيّدة وجيهة، لقد انتهى الأمر. لا طاقة لي بعد على فراق أولادي، فأنا لم أرهم منذ ثماني سنوات، أريد الرحيل، لقد اشتقت إليهم".
بكت، أغمضت عينيها ولم تُفتحا ثانية. وضعت أمّي المصحف الشريف فوق كوب الماء، ثمّ أعطتنيه وقالت: "بلّلي شفتيها بمنديل ورقي".
278
260
خلف صفّ الأشجار
أخذت منديلًا ورقيًّا من على الطاولة المعدنية ورحت أبلّل شفتي السيّدة منصورة بماء الكوب.
فتحت السيّدة منصورة نصف عينيها بهدوء، نظرت إليّ بوهن، ثمّ أغمضتهما ثانية. أشارت لي أمّي إلى قدميها. بلّلت منديلًا ورقيًّا آخر وأزحت البطانية جانبً، وضعت يدي على قدمي السيّدة منصورة، كانت قدماها باردتين جدًّ، قلت لأمّي بهلع: "أمي، لمَ قدماها متجمّدتان إلى هذا الحد؟!".
وكأنّ أمّي كانت تعلم ماذا يحدث، فتحت القرآن ووضعت يدها بهدوء على قلب السيّدة منصورة، وشرعت في تلاوة بضع آيات.
وقع نظري على الشاشة: 30،25،20،32. كانت خطوط المنحني تتحوّل إلى خطوط مستقيمة شيئًا فشيئًا.
أمسكت يد السيّدة منصورة، كانت باردة جدًّا، وحبيبات العرق تلمع على جبينها وشفتيها. كانت تتنفّس وتشخر خلال تنفّسها.
نظرت إلى أمّي قلقة وأسرعت إلى الخارج خائفة مرتعبة، كانت إحدى الممرّضات قادمة نحو الغرفة فقلت لها: "أيتها الممرّضة، أسرعي يا سيّدة ألطافي إن حال والدة زوجي سيّئة جدًّا".
هرعت الممرّضة إلى الغرفة، كذلك دخلت ممرّضات عدّة أخريات إلى الغرفة بسرعة، وتحلّقن حول سرير السيّدة منصورة. جلست أمّي على كرسي قرب السرير وراحت تقرأ القرآن بهدوء.
وكأنّ شخصًا وضع يده حول حلقومي، شعرت بالاختناق وكأنّ أحدًا يقبض على قلبي، كانت رائحة الحزن تفوح من كلّ شيء، حينها مثلت أمامي حقارة الدنيا... يا إلهي! أرحلت السيّدة منصورة بهذه السرعة؟! ضاقت الغرفة بي ولم أعد أرى الممرّضات. وقع نظري على
279
261
خلف صفّ الأشجار
النافذة. لمحت هناك في البعيد خلف صفّ الأشجار الخضراء الباسقة علي وأمير، كانا في قلب السماء. انتشرت رائحة الحزن والغمّ في الأرجاء، مللت من الدنيا، فلم أصدّق أنّ السيّدة منصورة قد تركتنا سريعًا هكذا!
أخرجتنا الممرّضات من الغرفة، وأحضرن جهاز الإنعاش، كُنَّ يعطينها صدمات كهربائية، كذلك حضر بعض الأطبّاء إلى الغرفة. لكن بعد قليل من دون أن أصدّق، رأيت من الممر أنّ الأنابيب والأسلاك قد فُصِلت جميعها عن بدن السيّدة منصورة.
280
262
جُرحُ الاثني عشر
جُرحُ الاثني عشر
رغم أنّ الأيّام تمرّ دائمًا كالبرق والريح، إلّا أنّ تلك السنين كانت أصعب سنيّ حياتي، وراحت تمرّ بصعوبة لحظة بلحظة. بعد وفاة السيّدة منصورة أصبحت حياتنا أشدّ محنة، وأصبحنا أكثر غربة ووحدة.
بعد شهادة علي، اتّخذ السيّد ناصر والحاج صادق منزلًا مشتركًا وعاشا معًا. كنت وعلي نمضي نهاية الأسبوع معهم دائمًا، واستمرّ هذا البرنامج حتّى بعد وفاة السيّدة منصورة، وخصوصًا أنّ الحاج صادق أجرى عملية زرع كُلى بسبب المرض الوراثي. وبرحيل السيّدة منصورة فقدت أنا وعلي سندًا قويًّا. مع كلّ هذ، كانت تمرّ الأيّام بمشقة وغمّ وتمضي بوحدة ووحشة.
في العام 1998 بلغ عمر علي 11سنة، وكان في الصف الخامس الابتدائي. بعد أشهر عدّة أصيب بوعكة صحية فصار يشكو من وجع في معدته، ويرافق هذا الألم غثيان وتقيؤ.
وهكذا كان يبدأ عملنا الشاقّ أنا وأمّي بعد ظهر كلّ يوم. كنّا نأخذ علي ونبحث عن طبيب متخصّص. وبعد إجراء بعض الصور السونوغرافية ومنظار وصور ملونة أخبرونا أنّ علي يعاني من "جرح في الاثني عشر"، ومع سماع هذا الخبر هوت الدنيا على رأسي، لقد ربَّينا أنا وأمّي هذا
281
263
جُرحُ الاثني عشر
الولد على ريش النّعام، فلماذا آلت الأمور إلى هذا المآل؟!
اقتربت الذكرى السنوية لعلي[1]، في كلّ عام كنّا نقيم مراسم الذكرى السنوية ما بين الرابع والثامن من شهر آذر (25-29 تشرين ثاني)، وإذا صادف أن كان يوم جمعة فنورٌ على نورٌ.
اشتغلت أمّي بتحضيرات الذكرى، فنظّفت البيت وجمعت الكنبات، غسلت أكواب الشاي والصحون والسكاكين والممالح، كما دعت الكثير من الضيوف، واشترت الفاكهة والحلوى.
اشتدّ مرض علي في تلك الأيّام، لقد وصل به الأمر إلى أنّه لم يستطع حتّى شرب كوب ماء.
في اليوم الرابع من شهر آذر، اضطررنا إلى تأجيل إجراء مراسم الذكرى حتّى اليوم الثامن، وأخبرنا آخر طبيب بعد إجراء فحوص عدّة مختلفة: "لقد شوهد في الصورة جرح صغير في الاثني عشر، خذوه إلى طهران بسرعة".
في السادس من شهر آذر ومع البحث وسؤال الكثيرين، وجدنا عنوان أفضل طبيب أمعاء في طهران. حجزنا موعدًا، واتجهنا ليلًا بالحافلة إلى طهران.
لم يكن التلفون المحمول متوافرًا لدى الجميع حينه، فأودع أحد الأصدقاء هاتفه النقال أمانة معنا.
لم يكن علي يأكل شيئً، كان فقط يتهوّع ويتقيّأ. ساءت حاله في الحافلة كثيرً، حتّى صار المسافرون المرافقون لنا في المقاعد الأمامية والخلفية يساعدوننا من باب المؤازرة والتفكير في حلول. رغم ذلك، كان علي يواسيني ويقول لي: "أمّاه أنا لا أشكو من شيء، إنّي أتعافى".
[1] استشهد علي تشيت سازيان في الرابع من آذر ودفن في الثامن منه.
282
264
جُرحُ الاثني عشر
كنت قد أحضرت معي حقيبة ملابس، فعندما يتقيأ أغسل يديه ووجهه بإناء ماء، وأغير له ملابسه. يا إلهي كم مرّت تلك اللّيلة بمشقّة! لم تكن تنتهي مسافة الست ساعات إلى طهران.
في النهاية، مرّت ساعات عدّة على منتصف اللّيل فوصلن، اتخذنا غرفة في "بيت المعلم" وكان قريبًا من المستشفى. أخذنا علي إلى الطوارئ، فتم الكشف عليه، وكتبوا له وصفة دواء.
ذهب أبي لشراء الأدوية، وبقيت أنا وعلي في بيت المعلم. كانت حرارته مرتفعة ووصلت إلى 43 درجة تقريبً، سعيت جهدي لإخفاضها، لكنّني لم أفلح، ولم يكن بوسعي فعل شيء، كذلك والدي لم يكن قد عاد بعد. انهمرت دموعي من دون إرادة مني، فولدي توقّف عن محادثتي ومواساتي.
أغمض عينيه وصار يغلي في الحرارة. بلّلت بالماء كلّ الشراشف الموجودة ووضعتها على جبهته وبدنه وقدميه. اتصلت بالطوارئ فسألوا: "ما مشكلته؟".
- حرارته مرتفعة.
- لا يحتاج إلى طوارئ، انقعي قدميه بالماء[1].
بكيت خلف السماعة ورجوتهم.
أتوا بعد ربع ساعة لكنّهم لم يفعلوا شيئًا أيضًا، أعطوه إبرة مسكن وقالوا: "إذا كنت قلقة جدًّا عليه انقليه إلى المستشفى، فعسى يدخلونه هناك".
بعد ذهابهم انهمكت ثانية بتبليل قدميه. لم تتحسن حال ولدي
[1] پشويه: وهي عادة إيرانية عندما ترتفع حرارة الطفل يضعون قدميه في طشت ماء. (المترجم)
283
265
جُرحُ الاثني عشر
الحبيب، ولم تنخفض درجة حرارته.
كذلك لم أتوصل إلى فعل شيء، ولم يكن أبي قد عاد بعد. أنا التي طوال هذه السنوات لم يسمع أحد صوت اعتراضي، صرت أنوح وأبكي: "إذًا أين أنت يا علي!! إذا كنت أبًا فافعل شيئً، أقسم عليك بكلّ عزيز لديك، أقسم عليك بالسيّدة الزهراء عليها السلام التي كنت تعشقها. أنت الآن شهيد، هناك في أعلى عليين وترانا. أعلم أنّني مقترفة للذنوب ومرتكبة للمعاصي، أعلم أنّ وجهي أسود، اطلب أنت الشفاء لطفلنا من الله، أتذكر كم كنت تحبّ أن يولد ابننا سريعًا؟ والآن قد أتى، أحببت أن تسميّه، فأسميناه باسمك كي تبقى دائمًا قربنا. علي إن طفلك يكاد يهلك، فديتك نفسي افعل شيئًا له! لقد هلك طفلك. أنت المعروف بمروءتك، كان قلبك يتفطّر على الناس، كنت تعتبر الأسير ونفسك شخصًا واحدًا. عندما كبر ولدنا بعض الشيء صار جلّ فرحه أن يحلّ اللّيل ليجدك في السماء بين النجوم. علي حبيبي، حبيب فرشته، حبيب زهراء زوجتك، تعال إليّ من عليائك! أغثنا اللّيلة أنا وطفلك! دُلَّ ولدك عليك اللّيلة! انقطع عن العالم الفوقي قليلًا. بالله عليك يا علي ساعدني، فأنا أريد منك علي حبيبي، بالله عليك يا علي!".
لم أدرِ ماذا أفعل وماذا أقول! رفعت يدي نحو السماء وبكيت. كنت أنادي علي علي، والدموع تملأ وجهي.
لم أدرِ كم مرّ من الوقت، لكنّني عندما أدرت رأسي رأيت أنّني أجلس قرب سرير علي واضعةً رأسي على وسادته وممسكةً بيده. وجدت وسادته مبلّلة بدموعي. كان علي حبيبي نائمًا بهدوء وراحة وطمأنينة. وضعت يدي على جبهته، فوجدت أنّ درجة الحرارة قد انخفضت، لكنّني لم أكتفِ. توضّأت وتأزّرت بثوب الصلاة، لا أدري كم ركعة صلّيت تلك اللّيلة، وكم مرّة قرأت دعاء التوسّل وزيارة عاشوراء،
284
266
جُرحُ الاثني عشر
لكنّني أتذكّر جيّدًا أنّه بعد كلّ صلاة ودعاء كنت أهوي للسجود وأنوح وأرتجي: "علي، لقد قلت أن أكمل نهجك زينبيّة. أقسم بالله وأقسم بروحك، لقد أكملته صابرة زينبيّة. كلّ ما قيل في وجهي وفي غيبتي لم أكترث له ولم أتذمّر، أنا ما زلت أعشقك وأعشق حياتنا. فمع ذكراك لم أولع بأحد ولن أولع بأحد، ففي هذه الدنيا بات ولدنا فرحتي الوحيدة، بعد ذكراك والتفكير فيك. علي حبيبي هو ذكرى منك، قطعة من وجودك، لقد رعيت ذكراك جيّدًا إلى الآن، لم أدع ظلّ أحد غير الله وظلّك فوق رأسه. اطلب حبيبي علي من الله كي يعيده إليّ، أنا أعلم أنّ لا أحد يحبّنا بقدر ما أنت تحبّنا. اصغِ إليّ اللّيلة، أعدك أن أبقى وفيّة لك طول العمر. علي أرجوك لا تخيِّب طلبي. علي، بالله عليك لا تردّ رجائي إلى الأرض. إذا كنت تستطيع فعل شيء فافعل. أين يدك الحنون! قلبي مغموم، قلبي مغموم.. امسح بيدك الحنون على رأسي، امسح امسح يا علي جبيني..".
في تلك اللّيلة بكيت حزن عمر بأكمله. ولم يكن لبكائي ودموعي نهاية.
بعد كلّ هذه الصلوات والأدعية، وقفت قرب ولدي، كان ابني يغطّ في نوم عميق ويتنفّس بهدوء. قبّلت جبهته. كان المسكين يتألم لشهرين متتاليين، وتغيّب عن المدرسة بسبب مرضه هذا. وضعت يدي على بطنه بهدوء، كانت خاوية وضامرة. قبّلت بطنه وقلت بحزن: "علي حبيبي أعلم أنّك هنا، وأنا أستودعك طفلنا، انتبه إليه جيّدًا، أعلم لو أنّك حيٌّ لأحببت ابنك كثيرًا كجميع الآباء، رغم أنّني أعلم أنّك حيّ ومتيقّظ أكثر من جميع الآباء".
في اليوم التالي، أخذت علي إلى نفس الطبيب الذي كنت قد أخذت له موعدًا عنده، وتقرّر أن يجري له الطبيب صورة تُدعى التصوير
285
267
جُرحُ الاثني عشر
الطبقي المحوري قبل المعاينة. لم يسمحوا لي بالذهاب معه. أخذوا طفلي وحده، بعد قليل خرجت الممرّضة مضطربة ونادتني، وصلت إلى الغرفة وقد زهقت روحي مئة مرّة قبل أن أصل، كان ابني قد تقيّأ واتّسخت كلّ ملابسه. بدّلت ثيابه بسرعة وقلت: "علي حبيبي لا تجزع، ستتحسّن الآن". وراح ولدي يواسيني وهو على تلك الحال ويقول لي: "أمّي حبيبتي، أنا بحال جيّدة، لقد تحسّنت كثيرًا، وخفّ ألمي".
وتقرّر أن آخذه ظهر اليوم التالي إلى الدكتور ملك زاده لمعاينته؛ إذ صادف في هذا اليوم إقامة الذكرى السنوية لعلي. كانت أمّي تتابع كلّ شيء لحظة بلحظة من خلف الجهاز المحمول، وتسأل عن علي، وتخبرني عن برنامج الذكرى فتقول: "لقد جاء كلّ الضيوف، وغصّ المكان بهم. إنّنا نقرأ لعلي ولدك دعاء التوسّل، اسمعي: "يا وجيهًا عند الله اشفع لنا عند الله".
كان قلبي يتخبّط بالضجيج. وشعرت بعلي أكثر من أيّ وقت. شعرت به جالسًا قربي بيني وبين ولدي، وأتحدّث إليه طوال المدة التي انتظرنا فيها وصول دورنا.
رنّ الهاتف: "..فرشته، اعقدي النيّة".
ارتفع صوت السيدات وهنّ يقرأن معًا: "يا أبا الحسن، يا موسى بن جعفر، أيها الكاظم، يا بن رسول الله..".
وصل دورنا في النهاية، كان الدكتور ملك زاده طبيبًا متخصّصًا في الجهاز الهضمي، وشخصًا وقورًا جدًّا. كان يتحدّث بطريقة محترمة ورسميّة. بعد اطلاعه على الصور والفحوصات ونتيجة المنظار. كشف على علي وقال: "يا سيّدة، لا عمل لي مع هذا الملف والفحوصات، لو سمحتِ جهّزي المريض، سنُجري له عملية منظار في تلك الغرفة".
286
268
جُرحُ الاثني عشر
كان مبلغ 50 ألف تومان في ذاك الوقت مبلغًا كبيرًا. دفعنا هذا المبلغ الزهيد[1]، وأتت ممرّضات عدّة أمسكن بيدَي ولدي وأخذنه.
بعد وقت قليل، نادتني ممرّضة: "فليتفضّل الشخص المرافق لمحمد علي تشيت سازيان".
كان قد تقيّأ ثانيةً. أخرجت من حقيبتي طقم ملابس، ورحت أبكي بينما أبدّل ملابس ابني وأتكلّم همسًا مع علي: "علي، علي حبيبي، لقد رجوتك كثيرًا ليلة البارحة. حسنًا يعني هذا أنّك لم تشفق علينا.
كنت تشفق على الأسرى العراقيّين، وتخلع معطفك وتلبسهم إيّاه. اُنظر، اُنظر ماذا حلّ بنا أنا وطفلك! انظر أيّ معاناة نعانيها! إنّ ولدك سيهلك! علي، معك حق؛ فأنت سعيد هناك في الأعلى، فلماذا عليك أن تفكّر فينا؟!".
وبمشقّة بالغة سيطرت على دموعي كي لا تنهمر. ألبست علي ملابسه وأنا منهكة. عندما خرجت من الغرفة انفجرت بالبكاء.
وقفت قربي ممرّضة حسنة القوام بهيّة الطلعة، بدا وكأنّها أشفقت عليّ، فقالت: "سيّدة تشيت سازيان لا تقلقي كثيرًا، ليس بالأمر المهم، سيتحسّن إن شاء الله".
كان صوتها ناعمًا وحنونًا، ذهبت وجلست قرب والدي. اتصلت والدتي وقالت: "فرشته، إننا نقرأ دعاء الجوشن الكبير. اقرئي أنت أيضًا".
سمعت أصوات السيدات يقرأن معًا: "اللهم إنّي أسألك باسمك يا حافظ يا بارئ، يا ذارئ يا باذخ، يا فارج يا فاتح، يا كاشف يا ضامن،
[1] نا قابل: الزهيد أو غير المعتدّ به وهي كلمة شائعة الاستخدام في المجاملات الإيرانيّة، وهنا تقصد أنّها زهيدة من أجل ولدها. (المترجم)
287
269
جُرحُ الاثني عشر
يا آمر يا ناهي، سبحانك يا لا إله إلّا أنت الغوث الغوث".[1].
فجأةً، شرعت في البكاء، كان قلبي حزينًا، كم أحببت أن يكون علي في تلك اللحظات إلى جانبي، فكتفاه القويّتان أكثر متانةً من كتفيّ. قلبه أكبر من قلبي، وحاله دائمًا أفضل من حالي، نفسه أكثر اطمئنانًا من نفسي، وتوكّله أكبر. كم أنّ حضوره مريح، وعدم حضوره.. آه آه، ورحت أرثي همسًا: "علي، كم أنّك تركتني باكرًا، لو أنّك موجود لكنت بالتأكيد أكثر هدوءًا منّي، ولعلّمتني كيفية التوكّل. علي ما زلت موجودًا، أعلم أنّك موجودٌ، أعلم أنّك موجود. إذا كنت موجودًا أظهر نفسك، قل إنّك موجود، قل إنّك ترعاني كتلك الأيّام. قل إنّني لم أترمّل، قل إنّ ظلّك ما زال يظلّلني. أنا متأكّدة من أنّ الشهداء أحياء، وأنّ لديهم مكانة خاصّة عند الله، قل شيئًا حتّى يزداد يقيني أكثر، قل إنّك موجود دائمًا، ولن تتركنا وحدنا أبدًا. قل إنّك كباقي الآباء قلق الآن على ولدك. قل إنّك عاشق لولدك، قل إنّك تحبّنا. علي، بالله عليك، حدّد لي اليوم ما ينبغي لي فعله! علي حبيبي دلّني عليك!".
فتحت الممرّضة ذات الصوت الناعم باب غرفة عملية المنظار، ابتسمت وأشارت إليّ كي أدخل. كان ولدي نائمًا على السرير، وجلس الطبيب خلف مكتبه. كان طبيبًا أنيقًا جدًّا.
أشار إلينا بكلّ احترام كي نجلس، ثمّ قال بيقين وجديّة: "سيّدة تشيت سازيان، إنّ ولدك لا يشكو من شيء خطير، إنّه يشكو فقط من بعض الالتهاب المعوي، وسيُعافى منه مع برنامج غذائي بسيط سأكتبه لكم، لا ينبغي أن يتناول الفاكهة النيئة على الإطلاق لعدة أشهر، وحاليًّا يمنع تناول الحبوب والمرق والآش ومرق اللحم والخضار والبهارات
[1] المقطع رقم 95 من دعاء الجوشن الكبير.
288
270
جُرحُ الاثني عشر
والحر والمشروبات الغازية". وبينما هو يتكلّم بكيت وأنا أنظر إليه غير مصدّقة، وتابع قائلًا: "وتوجد أدوية عدّة أيضًا، فليتناولها لشهرين".
- المعذرة حضرة الطبيب، لكن أطبّاء عديدين اطّلعوا على نتيجة المنظار في همدان وأجمعوا على أنّ هناك جرحًا في الاثني عشر، وينبغي إجراء عمليّة له".
تناول الطبيب ملف همدان الطبي الكبير بكلّ احترام وأعطاني إيّاه:
- نعم سيّدة تشيت سازيان، هذه الفحوصات تؤكّد أنّ هناك جرحًا في الاثني عشر، لكنّني أؤمن بنتيجة عملية الناضور خاصّتي، برأيكم بأيّهما أثق؟ بعينيّ أم بهذا الملفّ؟!
قال أبي بهدوء وتردّد: "سيدي الطبيب، أنتم تقولون إنّ أطبّاء همدان مخطئون، أم إنّ التحاليل قد تغيّرت؟".
هزّ الطبيب رأسه وقال واثقًا: "كلّا؛ مطلقًا، أنا لم أقصد ذلك؛ لكنّني أثق بعملي. إنّ عملية المنظار التي أجريناها هنا لا تؤكد نتيجة تحاليل ومنظار الشهر المنصرم".
لا يوجد كلام لتداوله، ولم أرغب في أن يكون هناك كلام للتداول أصلًا. أردت أن أصدّق كلام الطبيب ملك زاده بكلّ وجودي. فجأة اجتاح السرور كلّ كياني. نهضت وحضنت طفلي الذي كان نائمًا على السرير وقبّلته. لم تكن نتيجة تحليل منظار همدان مهمة بالنسبة إليّ. المهم عندي كان كلام الدكتور زاده: "ولدك لا يعاني من أي مشكلة".
المهم أنّ ولدي تحسنت حاله؛ والمهم أنّ علي سمع كلامي، وأنّه يهتمّ بنا؛ المهم أنّ علي يقف بجانبي كالطود، المهم أنّني لست أرملة، وأنّ علي كان زوجي وسيبقى؛ المهم أنّ ولدي لديه أب عطوف ويرعاه
289
271
جُرحُ الاثني عشر
دومًا؛ المهم أنّ علي لم يكن يتيمًا؛ المهم أنّ علي سواء أكان أم لم يكن فهو بركة ونعمة لنا. اجتاحني سرور فردوسي عجيب. لقد أجاب علي أمنيتي وحقّق لي ما طلبته.
قبّلت ولدي الحبيب بسرور؛ كانت تفوح منه رائحة أبيه بشكل عجيب. وضعت رأسي على صدره وشممته، تذكّرت محبس زواجي الذي ما زال في إصبعي، وضعته على شفتي. أغمضت عيني وقبّلته بعمق، وعبقت في مشامي رائحة قمح تفوح من حقل فسيح.
290