المقدّمة
ومن أنماط الحياة التي يجب تنظيمها والاهتمام بها، تقدير المعيشة، والتكافل الاجتماعيّ، وعمارة الأرض، وخدمة الناس، وحسن إقراضهم، والعيش بقناعة، والتحلّي بالعفّة، والتزام مبدأ الإيثار والتضحية، وهي الموضوعات التي ستتناولها مواعظ هذا العدد من السلسلة، راجين من الله أن يكون ما فيها من هدي الذكر الحكيم وحديث الأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) شفاءً وهدًى ورحمة.
والحمد لله ربّ العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
4
1
المقدّمة
ومن أنماط الحياة التي يجب تنظيمها والاهتمام بها، تقدير المعيشة، والتكافل الاجتماعيّ، وعمارة الأرض، وخدمة الناس، وحسن إقراضهم، والعيش بقناعة، والتحلّي بالعفّة، والتزام مبدأ الإيثار والتضحية، وهي الموضوعات التي ستتناولها مواعظ هذا العدد من السلسلة، راجين من الله أن يكون ما فيها من هدي الذكر الحكيم وحديث الأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) شفاءً وهدًى ورحمة.
والحمد لله ربّ العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
5
2
المقدّمة
الموعظة الأولى
حُسْنُ التَّقْدِيرِ فِي المَعِيشَةِ
هدف الموعظة
تعرّف أهمّيّة حسن التقدير في المعيشة، وضرورة تطبيقه.
محاور الموعظة
1. معنى حُسن التقدير في المعيشة
2. أهمّيّة حُسن التقدير في المعيشة
3. آثار حُسن التدبير
4. عاقبة سوء التدبير
5. كيف نُحْسِنُ التقدير في المعيشة؟
تصدير الموعظة
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾[1].
[1] سورة الفرقان، الآية 67.
6
3
الموعظة الأولى: حُسْنُ التَّقْدِيرِ فِي المَعِيشَةِ
تمهيد
عن داوود بن سرحان، قال: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَكِيلُ تَمْرًا بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! لَوْ أَمَرْتَ بَعْضَ وُلْدِكَ، أَوْ بَعْضَ مَوَالِيكَ، فَيَكْفِيَكَ. فَقَالَ: «يَا دَاوُودُ، إِنَّهُ لَا يُصْلِحُ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّائِبَةِ، وَحُسْنُ التَّقْدِيرِ فِي الْمَعِيشَة»[1].
معنى حُسن التقدير في المعيشة
نعني بحُسن التقدير في المعيشة: وعي مكوّنات الأسرة، من أهلٍ وأبناء، لضرورة تنظيم عمليّة الإنفاق، وإدارتها بالشكل الذي يسمح بتلبية متطلّباتهم المعيشيّة وفق الأولويّات، التي تبدأ من الحاجات الأساسيّة، وصولًا إلى الحاجات الثانويّة، بما لا يسبّب عجزًا في ميزانيّة الأسرة، وبنحوٍ يتناسب مع مدخولها، ولا يؤدّي إلى الوقوع في محذور التبذير والإسراف، أو وضع المال في غير محلّه.
أهمّيّة حُسن التقدير في المعيشة
يمكن اختصار أهمّيّة حُسن التقدير في المعيشة في ثقافتنا الإسلاميّة، ضمن نقطتَين:
الأولى: المسؤوليّة يوم القيامة
مِن أهمّ ما يُسأَل عنه الإنسان يوم القيامة، هو أمر معيشته، وكيفيّة صرف ماله الذي رزقه الله -عزّ وجلّ- إيّاه، حيث ورد في رواية عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ينقل فيها
[1] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفّاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج5، ص87.
7
4
الموعظة الأولى: حُسْنُ التَّقْدِيرِ فِي المَعِيشَةِ
موعظةً للقمان الحكيم، يقول فيها: «اِعْلَمْ أَنَّكَ سَتُسْأَلُ غَدًا إِذَا وَقَفْتَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ أَرْبَعٍ: شَبَابِكَ فِيمَا أَبْلَيْتَهُ، وَعُمُرِكَ فِيمَا أَفْنَيْتَهُ، وَمَالِكَ مِمَّا اكْتَسَبْتَهُ وَفِيمَا أَنْفَقْتَهُ؛ فَتَأَهَّبْ لِذَلِكَ، وَأَعِدَّ لَهُ جَوَابًا»[1].
الثانية: الحياة الصالحة في الدنيا
ثمّة عدّة أمور يتوقّف عليها صلاحُ حياة المؤمن بشكلٍ عامّ، ومنها حُسن التقدير في المعيشة، فعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، قوله: «لا يَصلُحُ المؤمنُ إِلَّا على ثَلاثِ خِصَالٍ: التَّفقُّهِ في الدِّينِ، وحُسْنِ التَّقْدِيرِ في المعيشةِ، والصَّبْرِ على النَّائبَةِ»[2].
بل إنّ بعض الروايات جعلَت حُسنَ التقدير في المعيشة نصفَ العيش، حيث رُوِيَ عن الإمام الصادق (عليه السلام): «التَّقدِيرُ نِصْفُ العَيْشِ»[3].
وورد أنّ تمام صلاح معيشة الإنسان متوقِّفٌ على حُسنِ التدبير، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «قِوامُ العيشِ حُسْنُ التَّقدِيرِ، ومِلاكُهُ حُسْنُ التَّدبيرِ»[4].
فظهر أنّ سعادة الدارَين تتوقّف على حُسنِ التقدير في المعيشة، والإنفاق المتوازن.
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص135.
[2] الحرّانيّ، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1404ه - 1363ش، ط2، ص263.
[3] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1414هـ، ط2، ج4، ص416.
[4] الليثيّ الواسطيّ، الشيخ كافي الدين أبو الحسن عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص370.
8
5
الموعظة الأولى: حُسْنُ التَّقْدِيرِ فِي المَعِيشَةِ
آثار حُسن التدبير
عن عبيد بن زرارة، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال له: «يَا عُبَيْدُ، إِنَّ السَّرَفَ يُورِثُ الْفَقْرَ، وَإِنَّ الْقَصْدَ يُورِثُ الْغِنَى»[1].
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ صَحبَ الاِقْتِصَادَ، دَامَتْ صُحْبَةُ الغنَاءِ لَهُ، وَجَبَرَ الاِقْتِصَادُ فَقْرَهُ وَخَلَلَهُ»[2].
عاقبة سوء التدبير
قال -تعالى-: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾[3].
وعن الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام): «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي حَقٍّ، وَإِنَّهُ لَمُسْرِفٌ»[4].
عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «لِلْمُسْرِفِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ: يَأْكُلُ مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَشْتَرِي مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَلْبَسُ مَا لَيْسَ لَهُ»[5].
[1] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، إيران - قمّ، 1414ه، ط2، ج17، ص64.
[2] البروجرديّ، السيّد حسين الطباطبائيّ، جامع أحاديث الشيعة، المطبعة العلميّة، إيران - قمّ، 1399ه، لا.ط، ج17، ص108.
[3] سورة الإسراء، الآية 29.
[4] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج17، ص65.
[5] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج3، ص167.
9
6
الموعظة الأولى: حُسْنُ التَّقْدِيرِ فِي المَعِيشَةِ
كيف نُحْسِنُ التقدير في المعيشة؟
يعتمد حُسنُ التقدير في المعيشة، بشكلٍ أساسيّ، على الحكمة والتوازن في الإنفاق. ويمكن الإلفات إلى بعض النقاط والآليّات الهامّة في هذا المجال:
1. التنظيم والضبط: أي دراسة الإنفاق وضبطه بما يتناسب مع دخل الأسرة. فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «حُسْنُ التَّقْدِيرِ مَعَ الْكَفَافِ خَيْرٌ مِنَ السَّعْيِ فِي الْإِسْرَافِ»[1].
2. الاقتصاد: أي العمل على توفير المال وادّخاره؛ لاستثماره، بدلًا من صرفه في الحاجات غير الضروريّة. فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «ضَمِنْتُ لِمَنِ اقْتَصَدَ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ»[2].
3. عدم الإسراف والتبذير: ورد النهيُ الشديد عن الإسراف والتبذير، لِما يتسبّب به من ضياع مال الإنسان من جهة، وفساد روحه من جهة أخرى؛ ولذلك، عدّه الله من الأخلاق الفرعونيّة: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾[3]، وجعل المبذِّرين إخوان الشياطين: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾[4].
4. تحديد الأولويّات: أي وعي أفراد الأسرة للفرق بين الحاجات الأساسيّة والثانويّة، وعدم الخلط بينها، وتقديم الأولويّات في مورد التزاحم، والقناعة في ساعة العسرة.
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يَابْنَ مَسْعُودٍ، إِذَا عَمِلْتَ عَمَلًا، فَاعْمَلْ بِعِلْمٍ وَعَقْلٍ، وَإِيَّاكَ وَأَنْ تَعْمَلَ عَمَلًا بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ وَعِلْمٍ، فَإِنَّهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- يَقُول: ﴿وَلا تَكُونُوا
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص227.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص53.
[3] سورة يونس، الآية 83.
[4] سورة الإسراء، الآية 27
10
7
الموعظة الأولى: حُسْنُ التَّقْدِيرِ فِي المَعِيشَةِ
كَالتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثًا﴾[1]»[2].
[1] سورة النحل، الآية 92.
[2] الطبرسيّ، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1392ه - 1972م، ط6، ص458.
11
8
الموعظة الثانية: نَمَطُ الحَيَاةِ
الموعظة الثانية
نَمَطُ الحَيَاةِ
هدف الموعظة
بيان الرؤية الإسلاميّة لنمط الحياة، مقارنةً مع نمط الحياة الغربيّ.
محاور الموعظة
1. ما هو نمط الحياة؟
2. محدّدات نمط الحياة الإسلاميّ
3. مقوّمات نمط الحياة الإسلاميّ
4. نمط الحياة الغربيّ
5. كيفيّة المواجهة
تصدير الموعظة
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[1].
[1] سورة النحل، الآية 97.
12
9
الموعظة الثانية: نَمَطُ الحَيَاةِ
تمهيد
عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام): «مَنْ طَلَبَ الْغِنَى وَالْأَمْوَالَ وَالسَّعَةَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّمَا يَطْلُبُ ذَلِكَ لِلرَّاحَةِ. وَالرَّاحَةُ لَمْ تُخْلَقْ فِي الدُّنْيَا، وَلَا لِأَهْلِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا خُلِقَتِ الرَّاحَةُ فِي الْجَنَّةِ وَلِأَهْلِ الْجَنَّةِ؛ وَالتَّعَبُ وَالنَّصَبُ خُلِقَا فِي الدُّنْيَا وَلِأَهْلِ الدُّنْيَا... ثمّ قال (عليه السلام): كَلَّا، مَا تَعِب أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا، بَلْ تَعِبُوا فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَة»[1].
ما هو نمط الحياة؟
يُبيِّن نمطُ الحياة مجموعةً كبيرة وواسعة من السلوكيّات الإنسانيّة، التي تحكي علاقة الفرد بخالقه، وبنفسه، وبالأفراد المحيطين به، لا، بل علاقته بالموجودات الأخرى. ويتمحور نمط الحياة، بشكل أساسيّ، حول القيم التي تُحدّد علاقات الإنسان تلك، وتجعله يرجّح نوعًا معيّنًا من التعاملات مع محيطه[2].
محدّدات نمط الحياة الإسلاميّ
تحدّث الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) حول نمط الحياة ودوره وأهمّيّته، فأكَّد أنّه تابعٌ لفهمنا للحياة
[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ص65.
[2] راجع: مهدوي كني، سعيد، الدين ونمط الحياة، جامعة الإمام الصادق (عليه السلام)، إيران - طهران، لا.ت، لا.ط، ص78.
13
10
الموعظة الثانية: نَمَطُ الحَيَاةِ
والهدف منها[1]. فإذا كان هدف الإنسان المؤمن الوصول إلى رضا الله -تعالى- والسعادة الدنيويّة والأخرويّة... فهذا يرتّب عليه طريقةً خاصّة في الحياة الدنيا، توصله إلى ذلك الهدف. من هنا، حَدّد الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) الأطرَ التي تحدّد نمط الحياة الإسلاميّ، منها:
1. الاستناد إلى القرآن الكريم في تنميط الحياة: إذ إنّ التطوّر في الأبعاد المعنويّة والمادّيّة للإنسان، يتوقّف على العمل بالقرآن الكريم[2]، باعتبار أنّه أوضح الأنماط السلوكيَّة التي بها تتحدَّد شخصيّة المؤمن؛ ومن ثمّ الهويّة الإسلاميّة للمجتمع.
في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في ختمة القرآن: «اللَّهُمَّ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْبُرْ بِالْقُرْآنِ خَلَّتَنَا مِنْ عَدَمِ الْإِمْلَاقِ، وَسُقْ إِلَيْنَا بِهِ رَغَدَ الْعَيْشِ وَخِصْبَ سَعَةِ الْأَرْزَاقِ، وَجَنِّبْنَا بِهِ مِنْ الضَّرَائِبِ الْمَذْمُومَةِ وَمَدَانِي الْأَخْلَاقِ، وَاعْصِمْنَا بِهِ مِنْ هَبْوَةِ الْكُفْرِ وَدَوَاعِي النِّفَاقِ، حَتَّى يَكُونَ لَنَا فِي الْقِيَامَةِ إِلَى رِضْوَانِكَ وَجِنَانِكَ قَائِدًا، وَلَنَا فِي الدُّنْيَا عَنْ سَخَطِكَ وَتَعَدِّي حُدُودِكَ ذَائِدًا»[3].
2. الرجوع إلى الدين الإسلاميّ في كافّة الشؤون: والتي تُبيِّن أنّ الدين الإسلاميّ هو الذي يتولّى مسؤوليّة التكامل البشريّ في كافّة الأبعاد والشؤون الفرديّة والاجتماعيّة[4].
قال -تعالى-: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى
[1] من كلام الإمام الخامنئيّ دام ظلّه بتاريخ 2/10/2012م.
[2] المصدر نفسه.
[3] الطوسي، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م، ط1، ج2، ص519.
[4] من كلام الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) بتاريخ 2/10/2012م.
14
11
الموعظة الثانية: نَمَطُ الحَيَاةِ
لِلْمُسْلِمِينَ﴾[1].
وبعبارة مختصرة، أَوْلى الإسلامُ اهتمامًا خاصًّا لنمط الحياة، فجعله منسجمًا مع الأهداف العليا للوجود الإنسانيّ، الذي يضمن صلاح الدارَين.
مقوّمات نمط الحياة الإسلاميّ
1. الاقتصاد والاعتدال
والمقصود منه الابتعاد عن الإسراف والإقتار. أمّا الإسراف، فهو الاستزادة من الأمور الدنيويّة، وصرف الشيء في غير المصلحة المقرَّرة له. وأمّا الإقتار، فهو التضييق على النفس والعيال[2]. وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «وَعَلَيْكَ بِالقَصْدِ، فَإِنَّهُ أَعْوَنُ شَيْءٍ عَلَى حُسْنِ العَيْشِ»[3].
2. القناعة
القناعة هي شعور النفس بعدم الرغبة فيما هو أكثر من حاجتها، ويترتّب عليها الرضى بالرزق الإلهيّ، وعدم الاعتماد على غيره. يُروى أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال لرجلٍ لا يقنع بما يصيب من الدنيا: «إِنْ كَانَ مَا يَكْفِيكَ يُغْنِيكَ، فَأَدْنَى مَا فِيهَا يُغْنِيكَ؛ وَإِنْ كَانَ مَا يَكْفِيكَ لَا يُغْنِيكَ، فَكُلُّ مَا فِيهَا لَا يُغْنِيكَ»[4].
[1] سورة النحل، الآية 89.
[2] راجع: الراغب الأصفهانيّ، أبو القاسم الحسين بن محمّد، المفردات في غريب القرآن، دفتر نشر الكتاب، لا.م، 1404ه، ط2، ص292.
[3] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص335.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص139.
15
12
الموعظة الثانية: نَمَطُ الحَيَاةِ
3. الزهد
والمقصود به عدم التعلّق باللذائذ الدنيويّة، بحيث يكون لها التأثير الكبير على مستوى الحياة، على حساب الأبعاد الأخرويّة للحياة الإنسانيّة. عن الإمام الصادق (عليه السلام): «جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّه فِي بَيْتٍ، وجُعِلَ مِفْتَاحُه الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا»[1].
نمط الحياة الغربيّ
لا يمكن اعتبار نمط الحياة الغربيّ، بالنسبة إلى البلاد الإسلاميّة وغيرها، مجرّد سلوكيّات أو أفكار بعيدة عن أهداف الهيمنة، بل هو وسيلة إخضاع ثقافيّ وسياسيّ واقتصاديّ. يقول أحد الكتّاب الغربيّين: إنّ وسائل الإعلام الأمريكيّ «تُروِّج عبر العالَم للحلم الأمريكيّ، الذي أصبح هو النمط المثاليّ للحياة، وهو الذي يسعى لتحقيقه كلّ إنسان، وحينها تتلخَّص السعادة بالنسبة إليك، في أنْ ترتدي الجينز الأزرق، وتستمع لموسيقى الروك...»[2].
قال -تعالى-: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾[3].
وقال سبحانه: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[4].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص128.
[2] راجع: نيثان غردلز، الإعلام الأمريكيّ بعد العراق: حرب القوة الناعمة، المركز القومي للترجمة، مصر - القاهرة، 2015م، ط1.
[3] سورة هود، الآية 113.
[4] سورة النساء، الآية 115.
16
13
الموعظة الثانية: نَمَطُ الحَيَاةِ
مقوّمات نمط الحياة الغربيّ
1. ثقافة الاستهلاك
راجت ثقافة الاستهلاك على يد شركاتٍ تجاريّةٍ وماليّة عالميّة، تهدف إلى الربح وزيادة نسبة المستهلكين، وبالطبع تغيير الهويّة الثقافيّة؛ لخلق بيئة ثقافيّة تُروِّج للبضاعة، مستفيدةً من الرموز والإشارات ومظاهر الغناء والحفلات... ومستغلّةً جسد المرأة في التسويق. وتعمل هذه الشركات على درس عادات الشعوب وتقاليدها، لتوظّف ذلك في عمليّة تحويل الأذواق والميول إلى الصور النمطيّة التي تريدها. فظهر الميل نحو شراء الكماليّات على حساب الأساسيّات، وظاهرة التسوّق التي لا تنبع من الحاجة، بل بدأنا نشتري على أساس جمال المكان وأساليب العرض... وليس على أساس الحاجة الواقعيّة.
عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «لِلْمُسْرِفِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ: يَأْكُلُ مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَشْتَرِي مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَلْبَسُ مَا لَيْسَ لَهُ»[1].
2. ثقافة الترفيه
ليس المقصود رفض الترفيه بالمطلق، بل المقصود رفض الترفيه الذي يصبح وسيلةً لترويج الأفكار والأيديولوجيّات. وأمّا مظاهر الترفيه، فعديدة وكثيرة، تبدأ بأجهزة التلفزيون والكمبيوتر وتقنيّات الإنترنت، ولا تنتهي في كيفيّة إقامة الاحتفالات والأعياد ومراسم الزفاف وغيرها.
قال -تعالى-: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾[2].
[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج3، ص167.
[2] سورة الأنعام، الآية 32.
17
14
الموعظة الثانية: نَمَطُ الحَيَاةِ
وقال سبحانه: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾[1].
3. سطوة الموضة
تحتلّ الموضة، بأشكالها، حيِّزًا كبيرًا من حياة أغلب الناس، يُقبِلون عليها تقليدًا للآخر، من دون معرفة الأسباب الحقيقيّة لذلك، متناسين أنّ الموضة تحكي عن نوع الثقافة والقيم التي نحملها، بدءًا من اللّباس والمظهر وتسريحة الشعر والأوشام، وليس انتهاءً بالعبارات والسلوكيّات التي تحكي عن الآخر، وليس عن المجتمع المتديِّن.
قال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ﴾[2].
كيفيّة المواجهة
1. الحفاظ على الثقافة المحليّة الأصيلة
يؤكّد الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) على التحوّل الذي يُحدِثه تقليدُ الغرب في نمط حياة الشعوب الأخرى، قائلًا: «إنّ تقليد الغرب، بالنسبة إلى الدول التي استحسنَت هذا التقليد لنفسها وعملَت به، لم يَعُد عليها إلّا بالضرر والفاجعة، بما في ذلك الدول التي وصلَت -بحسب الظاهر- إلى الصناعات والاختراعات والثروة، لكنّها كانت مقلِّدة. والسبب هو أنّ ثقافة الغرب هي ثقافة هجوميّة. هذه الثقافة هي ثقافةٌ لإبادة الثقافات. فأينما جاء الغربيّون، أبادوا الثقافات المحلّيّة، واجتثّوا الأسُس الاجتماعيّة، وغيّروا تاريخ الشعوب ولغاتها وحروفها (خطوطها) ما استطاعوا»[3].
[1] سورة الأنعام، الآية 70.
[2] سورة آل عمران، الآية 156.
[3] من كلام الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في تاريخ 14/10/2012م.
18
15
الموعظة الثانية: نَمَطُ الحَيَاةِ
2. ثورة النخب والمؤسّسات الثقافيّة
وحول ضرورة تحمُّل المسؤوليّة تجاه ذلك، قال الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «وبعد كشف العلل والأسباب، ننهض لتناول كيفيّة معالجة هذه الأمور. فعلى مَن تقع هذه المهامّ؟ إنّها تقع على عاتق النخب الفكريّة والسياسيّة، وعلى عاتقكم، وعلى عاتق الشباب. النخب مسؤولون، وكذلك الحوزة والجامعة والوسائل الإعلاميّة والمنابر المختلفة ومديرو الكثير من الأجهزة، وخصوصًا الأجهزة العاملة في المجال الثقافيّ والتربية والتعليم، وأولئك الذين يخطّطون للجامعات أو المدارس في المجال التعليميّ، والذين يحدّدون المناهج التعليميّة ومخطَّطات الكتب الدراسيّة. يجب علينا أن نستنفر جميعًا ونعلّي الصوت»[1].
[1] من كلام الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في تاريخ 14/10/2012م.
19
16
الموعظة الثالثة: الصَّبْرُ
الموعظة الثالثة
الصَّبْرُ
هدف الموعظة
حثّ العباد على الصبر وتحمّل الصعاب والمكاره.
محاور الموعظة
1. مفهوم الصبر
2. منزلة الصبر من الإيمان
3. أنواع الصبر
4. علامات الصابر
5. آثار الصـّبر ونتائجه
تصدير الموعظة
﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾[1].
[1] سورة البقرة، الآيتان 155 و156.
20
17
الموعظة الثالثة: الصَّبْرُ
تمهيد
قال - تعالى - على لسان لقمان في عِظَته لابنه: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور﴾[1]. وتصدّى الله -عزّ وجلّ- بذاته لتبشير الصابرين في كتابه، فقال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾[2].
وعن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «الصَّبْرُ مِنَ الإيمانِ، بمنزلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ؛ فإِذا ذَهَبَ الرَّأْسُ، ذَهَبَ الجسدُ؛ كذلِكَ، إذا ذَهَبَ الصَّبْرُ، ذَهَبَ الإيمانُ»[3].
مفهوم الصبر
يمكن أن يُعرَّف الصبر بأنّه فعلُ تَحَمُّلِ المرارات والآلام والظروف القاسية التي يمرُّ بها الإنسان في الحياة، والعمل على تجاوزها، نفسيًّا وعمليًّا، وعدم إفساح المجال لأيٍّ من الشعور باليأس أو الجزع أو بالفشل أو الانهيار النفسيّ، بأن يتسرّب إلى باطن الإنسان. إذًا، فالصبر يعطي للإنسان القدرةَ على مقاومة الظروف، والقفز فوق العقبات، ليواصل مسيرة تكامله، ولا يقف سائسًا عند أيٍّ من الحواجز.
منزلة الصبر من الإيمان
لو عدنا إلى حقيقة الإيمان الذي يمكن أن يحمله الإنسان، لوجدناه عبارة عن تَحَرُّك الإنسان
[1] سورة لقمان، الآية 17.
[2] سورة البقرة، الآيتان 155 و156.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص88.
21
18
الموعظة الثالثة: الصَّبْرُ
نحو تحقيق رضى الله -سبحانه وتعالى-، وذلك من خلال سلوك طريق العبوديّة. وطريق العبوديّة لله -عزّ وجلّ- يُختَصَر بمجموعة الأحكام والتكاليف الصادرة من الله -تعالى-، والتي تشمل: فعل الواجبات، وترك المحرّمات.
وفي هذه الأحكام ما هو سهل القيام به أو الامتناع عنه، ومنها ما يحتاج إلى بذل الجهد وتحمُّل المشاقّ، كالجهاد في سبيل الله، أو ترك بعض المحرّمات، كالغيبة والنظر الحرام وغيرها. وهذا كلُّه لا يتمّ من دون الصبر؛ ولذلك، كان من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
أنواع الصبر
إنّ العوامل المانعة من تكامل الإنسان وسلوكه في صراط العبوديّة لله -تعالى-، يمكن أن نقسمها إلى ثلاثة:
أ. العوامل المانعة التي تؤدّي إلى ترك الواجبات.
ب. العوامل التي تدفع نحو فعل المحرّمات وارتكاب الذنوب.
ج. العوامل التي تجلب حالة عدم الاستقرار وعدم الثبات الروحيّ.
أمّا الصبر، فإنّه يعني المقاومة وعدم الاستسلام في مواجهة هذه العوامل الثلاثة، التي لا شكّ أنّها تقف وراء فعل المحرّمات وارتكاب الذنوب.
وبهذا التوضيح، يمكننا أن نفهم عمق الحديث الذي ينقله أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «الصبرُ ثلاثةٌ: صبرٌ عندَ المصيبةِ، وصبرٌ على الطاعةِ، وصبرٌ عَنِ المعصيةِ»[1].
1. فالصبر على المصيبة: حينما يُبتَلى الإنسان برزقه، أو بموت أحد أقاربه وأحبّائه، أو
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص91.
22
19
الموعظة الثالثة: الصَّبْرُ
المرض...
2. أمـّا الصبر على الطاعة: فالصبر على الصلاة والصوم والحجّ والجهاد وأداء الخمس...
3. والصبر عن المعصية: كالصبر على ترك الغيبة والكذب والنظر المحرَّم. وقد عبّرَت عنه بعض الروايات بالتصبُّر، في إشارة إلى زيادة معنى الصبر فيه، فعن إمامنا الصادق (عليه السلام)، حين سُئِلَ عن الصابرين، قال: «الصَّابِرُونَ عَلَى أَدَاءِ الفَرَائِضِ، وَالمُتَصَبِّرُونَ عَلَى تَرْكِ المَعَاصِي»[1].
في كلّ مورد من الموارد الثلاثة، عندما تأتي الحوادث المؤلمة، وعندما يُطلَب من الإنسان القيام بتكليف، أو يقع بامتحان ارتكاب معصيةٍ ما، يأتي دور ظهور القوّة والبطولة والصلابة أمام هذه العواصف والمغرَيات.
علامات الصابر
عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «علامةُ الصَّابِرِ في ثَلَاثٍ: أَوَّلُهَا أَنْ لَا يَكْسَلَ، والثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَضْجَرَ، وَالثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَشْكُوَ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأنّهَ إِذَا كَسِلَ فَقَدْ ضَيَّعَ الحُقوقَ، وإَذا ضَجِرَ لَمْ يُؤَدِّ الشُّكْرَ، وَإِذَا شَكَا مِنْ رَبِّهِ -عزّ وجلّ- فَقَدْ عصَاهُ»[2].
آثار الصـّبر ونتائجه
النتائج القريبة: وهي التي تظهر في الدنيا، كما قال -تعالى-: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ
[1] الحسين بن سعيد الكوفي، الزهد، تحقيق ميرزا غلام رضا عرفانيان، لا.ن، لا.م، 1399ه، لا.ط، ص95.
[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، علل الشرائع، تقديم السيّد محمّد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1385ه - 1966م، لا.ط، ج2، ص498.
23
20
الموعظة الثالثة: الصَّبْرُ
صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾[1]. وهكذا، فانتصار الإنسان على نفسه في الصبر، هو أهمّ ما يمكن أن يحقّقه. لذا، كان -سبحانه- دائمًا مع الصابرين، كما في قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[2].
النتائج البعيدة: وهي التي تظهر في الآخرة، فتتمثّل في هذه الرواية، فعن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): «إِذَا دَخَلَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ، كَانَتِ الصَّلَاةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَالْبِرُّ مُطِلٌّ عَلَيْهِ، وَيَتَنَحَّى الصَّبْرُ نَاحِيَةً، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ يَلِيَانِ مُسَاءَلَتَهُ، قَالَ: الصَّبْرُ لِلصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْبِرِّ، دُونَكُمْ صَاحِبَكُمْ، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْهُ، فَأَنَا دُونَهُ»[3].
[1] سورة الأنفال، الآية 65.
[2] سورة البقرة، الآية 153. وسورة الأنفال، الآية 46.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص90.
24
21
الموعظة الرابعة: التَّكَافُلُ الاِجْتِمَاعِيِّ
الموعظة الرابعة
التَّكَافُلُ الاِجْتِمَاعِيِّ
هدف الموعظة
تشجيع الناس على التكافل ومساندة بعضهم بعضًا اجتماعيًّا.
محاور الموعظة
1. التكافل مسؤوليّة عامّة
2. فلسفة التكافل الاجتماعيّ في الإسلام
3. التكافل في الشريعة
4. موارد التكافل
تصدير الموعظة
﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[1].
[1] سورة المعارج، الآيتين 24 و 25.
25
22
الموعظة الرابعة: التَّكَافُلُ الاِجْتِمَاعِيِّ
تمهيد
تعتمد الرعاية الاجتماعيّة في الإسلام على مبدأ التكافل، الذي يبيّن من تقع عليه مسؤوليّة رعاية المحتاج. ومن هنا، صارت كفالةُ المحتاج على أفراد أسرته مسؤوليّةً مقرَّرةً، سواء أكان طفلًا أو أرملة أو مطلقة أو عاجزًا عن الكسب، فإذا عجزت الأسرة عن هذه الكفالة، انتقلَت المسؤوليّة إلى المجتمع، كما يُشير إلى ذلك قوله -تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ﴾، فهذا الخطاب يوضح، بأجلى المعاني، مسؤوليّةَ القادرين، وهم الأغنياء، تجاه السائل والمحروم.
والتكافل الاجتماعيّ في الإسلام يرتكز على شقَّين أساسيَّين:
الأوّل: التراحم.
الثاني: التكافل المادّيّ.
التكافل مسؤوليّة عامّة
وقد جعل الإسلامُ كلَّ مسلمٍ مسؤولًا في بيئته الاجتماعيّة، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»[1]. ودعا (صلّى الله عليه وآله) إلى الاهتمام بأمور المسلمين، ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، فقال: «مَنْ أَصْبَحَ لَا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ المُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ»[2]. وذلك كلّه وفق القاعدة القرآنيّة التي تحكم علاقات المجتمع
[1] الأحسائيّ، ابن أبي جمهور، عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينيّة، تقديم السيّد شهاب الدين النجفيّ المرعشيّ، تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقيّ، لا.ن، لا.م، 1403ه - 1983م، ط1، ج1، ص129.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص163.
26
23
الموعظة الرابعة: التَّكَافُلُ الاِجْتِمَاعِيِّ
الإسلاميّ بشكلٍ عامّ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[1].
فلسفة التكافل الاجتماعيّ في الإسلام
إنّ الإيمان ليس قضيّة فلسفيّة مجرّدة، أو مجرّد علاقة بين الفرد وربّه، بعيدًا عن توجيه أنشطته وممارسته وعلاقاته اليوميّة؛ ففي الإيمان، يتمّ ربط الفكر بالفعل، والنيّة بالحركة والسلوك القويم. وقد نفى الرسول (صلّى الله عليه وآله) كمالَ الإيمان عن الذي يبيت شبعان وجاره جائع، وهو يعلم: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِع»[2].
وقد عدّ القرآنُ الإمساكَ وعدمَ الإنفاقِ سبيلًا للتهلكة، بقوله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾[3].
كما عدّ الكنـزَ وحَجْبَ المال عن وظيفته الاجتماعيّة، مدعاةً للعذاب الأليم، فقال -تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[4]. وليس هذا فحسب، بل رتَّب مسؤوليّة التقصير أيضًا على الإنسان الذي يعطِّل سُبُلَ الكسب وفرص العمل، مهما ادّعى الصلاح. وجعل دخولَ النار في حبسِ هرّةٍ عن طعامها، بل ودخول الجنة في إعانة الحيوان لسدِّ حاجته.
[1] سورة الحجرات، الآية 10.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص668.
[3] سورة البقرة، الآية 195.
[4] سورة التوبة، ص34.
27
24
الموعظة الرابعة: التَّكَافُلُ الاِجْتِمَاعِيِّ
التكافل في الشريعة
لا يمكن لدولة أن تقوم بواجبها نحو تحقيق التكافل الاجتماعيّ، إلّا إذا ساهم معها أبناءُ المجتمع في بناء العدل الاجتماعيّ والبذل والإنفاق في سبيل الله. وقد قَسّمَت الشريعةُ مسؤوليّةَ المجتمع في تحقيق التكافل إلى قسمَين:
القسم الأول: يُطالَب به الأفراد على سبيل الوجوب والإلزام، وهي:
1. الخُمس: قال -تعالى-: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[1].
2. الزكاة: قال -تعالى-: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[2].
3. النذور: قال -تعالى-: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾[3].
4. الكفارات: ومنها كفارة إفطار شهر رمضان وقضائه عمدًا، وحنث النذر واليمين والعهد...
5. زكاة الفطرة: عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّ مِنْ تَمَامِ الصَّوْمِ إِعْطَاءَ الزَّكَاةِ؛ يَعْنِي الْفِطْرَةَ... لِأَنَّهُ مَنْ صَامَ وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ، فَلَا صَوْمَ لَهُ...»[4].
القسم الثاني: يُطالَب به الأفراد على سبيل التطوُّع والاستحباب، مثل:
[1] سورة الانفال، الآية 41.
[2] سورة التوبة، الآية 60.
[3] سورة البقرة، الآية 270.
[4] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج9، ص318.
28
25
الموعظة الرابعة: التَّكَافُلُ الاِجْتِمَاعِيِّ
1. الوقف الخيريّ: وهو يشمل جميع جهات الخير، من مساجد ومدارس ودور للأيتام والعجزة ومستشفيات ومعاهد وغيرها، والأصل في ذلك قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ، انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَه».[1]
2. الوصيّة: وهو أن يوصي المسلم قبل موته بجزءٍ من ماله لجهات البرّ والخير. قال -تعالى-: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾[2].
3. العارية: وهو الانتفاع بحوائج الغير مجّانًا، وهي من أعمال الخير والإنسانيّة؛ لأنّ الناس لا غنى لهم عن الاستعانة ببعضهم، والتعاون فيما بينهم. قال -تعالى-: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾[3].
4. الهديّة أو الهبة: عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «نِعْمَ الشَّيْءُ الْهَدِيَّةُ أَمَامَ الْحَاجَةِ»، وَقَالَ: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا؛ فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَذْهَبُ بِالضَّغَائِنِ».[4]
5. الصدَقَة: قال الإمام الصادق (عليه السلام): «لَيْسَ شَيْءٌ أَثْقَلَ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَهِيَ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّبِّ، قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ الْعَبْدِ»[5].
[1] ابن أبي جمهور الأحسائيّ، عوالي اللئالي، مصدر سابق، ج2، ص53.
[2] سورة البقرة، الآية 180.
[3] سورة المائدة، الآية 2.
[4] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج17، ص289.
[5] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، هداية الأمّة إلى أحكام الأئمّة (عليهم السلام)، تحقيق ونشر مجمع البحوث الإسلاميّة، إيران - مشهد، 1412ه، ط1، ج4، ص111.
29
26
الموعظة الرابعة: التَّكَافُلُ الاِجْتِمَاعِيِّ
موارد التكافل
1. الأهل
عن الإمام الحسين (عليه السلام) أنّه سمع رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: «اِبْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاك»[1].
وعن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «الكَادُّ عَلَى عِيَالِهِ كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ»[2].
2. الأرحام
عن الإمام الصادق (عليه السلام)، في قوله -تعالى-: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الذي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾[3]، قال: «هِيَ أَرْحَامُ النَّاسِ، إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَمَرَ بِصِلَتِهَا وَعَظَّمَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَهَا مِنْهُ؟»[4].
3. الجار
قال -تعالى-: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا
[1] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الاختصاص، تحقيق عليّ أكبر الغفّاريّ والسيّد محمود الزرندي، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414ه - 1993م، ط2، ص219.
[2] الحلّيّ، ابن فهد، عدّة الداعي ونجاح الساعي، تصحيح أحمد الموحّديّ القمّيّ، مكتبة وجداني، إيران - قمّ، لا.ت، لا.ط، ص72.
[3] سورة النساء، الآية 1.
[4] ابن فهد الحلّيّ، عدّة الداعي ونجاح الساعي، مصدر سابق، ص81.
30
27
الموعظة الرابعة: التَّكَافُلُ الاِجْتِمَاعِيِّ
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾[1].
عن الإمام الباقر (عليه السلام): «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله): مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ. قَالَ: وَمَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ يَبِيتُ، وَفِيهِمْ جَائِعٌ، يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة»[2].
4. الأيتام
قال -تعالى-: ﴿كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾[3].
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «مَنْ عَالَ يَتِيمًا حَتَّى يَسْتَغْنِيَ، أَوْجَبَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ، كَمَا أَوْجَبَ لآِكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ النَّار»[4].
5. الفقراء والمساكين
قال -تعالى-: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾[5].
[1] سورى النساء، الآية 36.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص668.
[3] سورة الفجر، الآية 17.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص51.
[5] سورة البقرة، الآيتان 272 و 273.
31
28
الموعظة الخامسة: عُلُوُّ الهِمَّةِ
الموعظة الخامسة
عُلُوُّ الهِمَّةِ
هدف الموعظة
بيان أهمّيّة الهمّة وفضائلها وضرورة الاستفادة منها في المصارف السليمة.
محاور الموعظة
1. ضرورة الهمّة
2. فضائل الهمّة
3. كيف تُصنَع الهمّة؟
4. الشهوات والهمّة العالية
5. مصرف الهمّة
تصدير الموعظة
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[1].
[1] سورة الملك، الآية 2.
32
29
الموعظة الخامسة: عُلُوُّ الهِمَّةِ
تمهيد
لم يُخلَقِ الإنسانُ للكسل أو الضجر أو النَّوم أو الفراغ، بل خُلِقَ للعمل والكدِّ والاجتهاد؛ ليُثبِت استحقاقه إمّا للثواب ومقام القرب الإلهيّ، وإمّا للعقاب والغضب الإلهيّ، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة.
ضرورة الهمّة
إنّ الإنسان الذي يعي حقيقةَ أنّه مخلوقٌ من أجل امتحان أعماله واختبارها، لا بدّ له من أن ينزع لباس الكسل، ويتزيّن برداء الهمّة العالية والاندفاع النشيط، أو ما عبّر عنه القرآنُ الكريم بالكدح، الذي يجب أن لا يتوقّف حتّى يلاقي الإنسان ربّه، كما يقول -تعالى- في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾[1].
ثم تكمل الآيات الكريمة لتوضّح النتيجة التي يؤول إليها كدح الإنسان هذا، فتقول: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾[2]. إذًا، مصير الإنسان متوقّفٌ على نتائج همّته وسعيه.
فضائل الهمّة
ربطَت الأحاديثُ الشريفة الكثيرَ من محاسن الأفعال والصفات والقيم النبيلة بالهمَّة العالية. ويتبيّن ذلك من خلال الأمور الآتية:
[1] سورة الانشقاق، الآية 6.
[2] سورة الانشقاق، الآيات 7 – 12.
33
30
الموعظة الخامسة: عُلُوُّ الهِمَّةِ
1. استحقاق الثناء
إنَّ من يرى فعلًا يتّسم بالجمال، سواء كان من خلال صنعة أو إدارة أو بناء أو كتاب أو لوحة أو أيّ شيء آخر، يعرف أنّ وراء ذلك العمل همَّةً عاليةً استوجبَت مَدْحَ أمير المؤمنين (عليه السلام)، بقوله: «الفِعْلُ الجَمِيلُ يُنْبِئُ عَنْ عُلُوِّ الهِمَّةِ»[1].
2. الشجاعة
وهكذا حال الشجاعة، التي هي من أنبل صفات الإنسان، ويربط الإمام عليّ (عليه السلام) بينها وبين الهمّة، بقوله: «شَجَاعَةُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ»[2].
ولا يخفى كيف تساهم الهمّة العالية في تعزيز الإقدام والاندفاع لدى الإنسان، بخلاف الكسل والضجر، فإنّه كثيرًا ما يدعو الإنسان للتراجع والتقهقر في المواطن التي يجدر به أن يُبرز شجاعته فيها.
3. الكرم
والكرم في حديث الإمام (عليه السلام)، هو ناتجٌ عن همَّة الإنسان العالية، إذ يقول (عليه السلام): «الكَرَمُ نَتِيجَةُ عُلُوِّ الهِمَّةِ»[3]. وذلك لأنّ الكرم ليس محدودًا بجانب البذل المادّيّ فقط، بل يشمل بذل السواعد والهمم في مساعدة الناس وخدمتهم في الشؤون العامّة، وهذا الأمر يتطلّب همّةً عالية. بينما تجد الكسول والنَوَّامَ لا يهتمّ إلّا براحته الشخصيّة، ولا يفكّر في أمرِ المجتمع من حوله، وليس مستعدًّا لأنْ يبذل شيئًا من طاقته الماليّة أو البدنيّة أو الفكريّة
[1] التميميّ الآمدي، عبد الواحد بن محمّد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح السيّد مهديّ رجائي، دار الكتاب الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1410ه، لا.ط، ص74.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص298.
[3] المصدر نفسه، ص28.
34
31
الموعظة الخامسة: عُلُوُّ الهِمَّةِ
من أجل خدمة الناس.
4. القناعة
إنّ من نتائج الهمّة العالية، التي تدفع الإنسان إلى العمل وإتقانه، هو قناعته بما وصل إليه، بعدما سعى إليه بوُسْعِهِ كلِّه. لذا، ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام): «مِنْ شَرَفِ الهِمَّةِ لُزُومُ القَنَاعَةِ»[1]، وعنه (عليه السلام): «الكَفُّ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ عِفَّةٌ وَكِبْرُ هِمَّةٍ»[2].
كيف تُصنَع الهمّة؟
إنْ كانت الهمّة هي الدافع لتحقيق هدف الإنسان في الحياة، وإن كانت الهمّة منشًا أساسيًّا في تلك الكمالات، فحريٌّ للإنسان أن يبحث عمّا يولّد تلك الهمّة، ويرفعه من حالة الخمود والخمول إلى الجدّ في العمل.
وفي مقام الجواب عن ذلك المولِّدِ للهمّة، الرافعِ الإنسانَ إلى حالة الجدّ، تبرز معرفة القيمة والأهمّيّة للعمل في أولى مراتب ما يصنع الهمّة.
ففرقٌ شاسعٌ بين شخصٍ طُلِبَ منه أن يسعى نحو جوهرة نفيسة، على أن يمتلكها حينما يحوزها، وقد عرف القيمة الغالية جدًّا لهذه الجوهرة، وبين شخصٍ طُلِبَ منه أن يسعى نحو تلك الجوهرة، كحال صاحبه، إلّا أنّه لا يعرف أنّها جوهرة، بل يظنّها زجاجة، فكم هو الفارق بين همَّة الأوّل نحو العمل، وهمّة الآخر.
من هنا، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ صَحَتْ مَعْرِفَتُهُ، اِنْصَرَفَتْ عَنِ الْعَالَمِ الْفَانِي
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص471.
[2] التميميّ الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص74.
35
32
الموعظة الخامسة: عُلُوُّ الهِمَّةِ
نَفْسُهُ وَهِمَّتُهُ»[1].
الشهوات والهمّة العالية
فإذا كانت همّة المرء جناحيه اللذَيْن يطير بهما، فإنّ شهوته وخلوده إلى الشهوات والغرائز هي التي تضع المرء وتحطّ من قدره، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «مَا رَفَعَ امْرَءًا كَهِمَّتِهِ، وَلَا وَضَعَهُ كَشَهْوَتِهِ»[2].
وعليه، فعُلوُّ الهمَّة سيفٌ ذو حدَّين، فكما يمكن استغلالها في الطاعة والعبادة وإتقان الأعمال، فإنّه يمكن استغلالها في المعصية والبُعد عن الله.
مصرف الهمّة
بيَّنَت الرواياتُ الشريفة الأمورَ التي ينبغي أن تُصرَف همّة المؤمن فيها، وهي:
1. التقرُّب إلى الله: فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «وَاِصْرِفُوا هِمَّتَكُمْ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى طَاعَتِهِ (الله)»[3].
2. بناء الآخرة: فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «وَلْتَكُنْ هِمَّتُكَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ»[4].
3. تزكية النفس وإصلاح الناس: فعن عليّ (عليه السلام): «إِنْ سَمَتْ هِمَّتُكَ لِإِصْلَاحِ
[1] التميميّ الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص664.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص484.
[3] ابن فهد الحلّيّ، عدّة الداعي، مصدر سابق، ص288.
[4] الوحيد البهبهاني، الشيخ محمد باقر، حاشية مجمع الفائدة والبرهان، مؤسسة العلامة المجدد الوحيد البهبهاني، منشورات مؤسسة العلامة المجدد الوحيد البهبهاني، 1417، ط1، ص24.
36
33
الموعظة الخامسة: عُلُوُّ الهِمَّةِ
النَّاسِ، فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ؛ فَإِنْ تَعَاطَيْتَ إِصْلَاحَ غَيْرِكَ وَنَفْسُكَ فَاسِدَةٌ، فَهُوَ أَكْبَرُ عَيْبٍ».[1]
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص164.
37
34
الموعظة السادسة: عِمَارَةُ الأَرْضِ
الموعظة السادسة
عِمَارَةُ الأَرْضِ
هدف الموعظة
تعرّف الرؤية الإلهيّة للعمارة، وبيان مسؤوليّة الإنسان أمام خالق الكون.
محاور الموعظة
1. معنى العمارة ووجوبها
2. عمارة الأرض في الرؤية الإلهيّة
3. مظاهر عمارة الأرض
4. فلسفة عمارة الأرض
تصدير الموعظة
﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾[1].
[1] سورة هود، الآية 61.
38
35
الموعظة السادسة: عِمَارَةُ الأَرْضِ
تمهيد
العمارة، في الأدبيّات الإسلاميّة، هي واجبٌ إنسانيٌّ، ينطلق من عقيدة الاستخلاف الإلهيّ للإنسان في الأرض، ومسؤوليّة الإنسان أمام خالق الكون والإنسان، عن كيفيّة استثمار الثروات والموارد الطبيعيّة الموجودة في هذا الكون.
وفي مقابل ذلك، نهى - سبحانه وتعالى - عن الإفساد في الأرض، حيث قال: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾[1]. وقال عزّ وجلّ: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾[2]؛ ولهذا الإفسادِ مفرداتٌ عديدة، كالاعتداء على الآخرين وعلى ممتلكاتهم، وسفك الدماء بغير حقّ، وما شاكل.
معنى العمارة ووجوبها
العمارة، في المفهوم الإسلاميّ، توازي مفهوم التنمية والاستثمار المتداوَل في الأدبيّات العالميّة اليوم، والذي يُعتَبَر، في عصرنا الحاضر، أهمّ مؤشّرٍ للتقدُّم في دولةٍ ما؛ فبقدر ما يكون مؤشّر التنمية مرتفعًا، تكون الدولة متقدّمة وقويّة وغنيّة. والعمارة أو التنمية تعني مجموع نشاطات الإنسان المتصرّفة في الموارد الطبيعيّة وغيرها، بهدف إشباع متطلّباته، وتعزيز قوّته وأَمْنِه. إلّا أنّها في المفهوم الإسلاميّ، تتحدّد غايتُها وهدفُها النهائيّ في رضا الله -عزّ وجلّ- وطاعته. فشقّ الطرقات لتسهيل انتقال الأشخاص والبضائع عمارةٌ، وزراعة الأراضي بالمحاصيل الضروريّة لسدّ حاجات البشر عمارةٌ، وصناعة الآلات التي يحتاجها الإنسان في معاشه عمارةٌ، وتقديم الخدمات الضروريّة في المجالات الطبّيّة والفنّيّة والتقنيّة... عمارةٌ.
[1] سورة البقرة، الآية 60.
[2] سورة الأعراف، الآية 56.
39
36
الموعظة السادسة: عِمَارَةُ الأَرْضِ
ومعنى أنّ الله -عزّ وجلّ- استعمر الإنسان في الأرض، أي طلب منه عمارتَها، وهذا بذاته يدلّ على وجوب عمارة الأرض، واستثمار الموارد فيها. ونلاحظ أنّ فقهاء الإسلام اعتبروا تعلُّمَ أصول الحراثة والزراعة والصناعة، التي بها قوام دينهم ودنياهم، من فروض الكفاية على المسلمين.
عمارة الأرض في الرؤية الإلهيّة
سخّر الله -عزّ وجلّ- كلّ ما في الأرض من أجل خدمة الإنسان، وهذا واضحٌ من الآيات القرآنيّة الكريمة: ﴿هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾[1]، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾[2]، ﴿هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾[3].
إلّا أنّ هذا التمكين الإلهيّ للإنسان في الأرض، ليس مُطلَقًا من وجهة نظر الإسلام، بل هو مشروطٌ ومحدودٌ بحدود الوصاية الإلهيّة والتوجيهات الربّانيّة، بعدم استثمار هذه الموارد في معصيته -تعالى-؛ لأنّ الله -عزّ وجلّ- سخّر له ما في السماوات والأرض، ووضع له الخطوط العريضة، والحدود الشرعيّة التي إن استثمر وأعمر الأرض على أساسها، فإنّه سيصل إلى كماله المنشود وسعادته في الدارَين. فينبغي للمسلم أن يراعي حدود الله في استثمار هذه الموارد، فلا يمكن أن يكون إنتاجُ الخمر وبيعُه، مثلًا، استثمارًا مُربِحًا للإنسان؛ لأنّه إنْ أسهَمَ في تأمين دنياه على أحسن الأحوال، فإنّه سيدمّر آخرته، وسيدمّر دنيا أناس آخرين وآخرتهم.
[1] سورة البقرة، الآية 29.
[2] سورة الجاثية، الآية 13.
[3] سورة المائدة، الآية 15.
40
37
الموعظة السادسة: عِمَارَةُ الأَرْضِ
مظاهر عمارة الأرض
1. الاهتمام بالبيئة
قال -تعالى-: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾[1]؛ أي طلب إليكم أن تعمروها.
في تفسير الميزان: «وفطرَهُ على أن يتصرّف في الأرض بتحويلها إلى حالٍ ينتفع بها في حياته»[2]؛ أي فطرَهُ على أن يسعى في طلب إعمارها، فعمارة الأرض هي من فطرة اللَّه في خلقه. وعمارة الأرض تقتضي حمايتها، وحظر الإفساد فيها بتخريب عامرها، وتلويث طاهرها، وإهلاك أحيائها، وإتلاف طيّباتها.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اتَّقُوا اللَّهَ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، فَإِنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ»[3].
2. الحفاظ على الثروة النباتيّة
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ، وَفِي يَدِ أَحَدِكُمُ الْفَسِيلَةُ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَغْرِسْهَا»[4].
[1] سورة هود، الآية 61.
[2] الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1417ه، ط5، ج10، ص310.
[3] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه - 1967م، ط1، ص242.
[4] السيّد البروجرديّ، جامع أحاديث الشيعة، مصدر سابق، ج18، ص431.
41
38
الموعظة السادسة: عِمَارَةُ الأَرْضِ
3. الحفاظ على الثروة المائيّة
قال -تعالى-: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾[1].
وفي المحافظة على نظافته ونقائه، ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «اِتَّقُوا المَلَاعِنَ الثَّلَاثَ: البِرَازَ فِي المَوَارِدِ[2]، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ...»[3].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيّ بْنِ الحُسَيْنِ (عليه السلام): أَيْنَ يَتَوَضَّأُ الغُرَبَاءُ؟ قَالَ: يَتَّقِي شُطُوطَ الْأَنْهَار...»[4].
وقد ورد النهي عن البول في الماء الجاري[5]، وكذلك في الماء الراكد[6].
4. الحفاظ على الثروة الحيوانيّة
ورد في الشريعة ما فيه الكفاية من النصوص والأحكام، لإلقاء ضوءٍ على مدى العناية بهذه الثروة، كحكم صيد اللهو، الذي يشكِّل هدرًا وإتلافًا لثروة حيوانيّة، من دون مسوِّغ. ومنها ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث سُئل عن الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم
[1] سورة الأنبياء، الآية 30.
[2] في لسان العرب: «أي المجارِي والطُرُق إِلى الماء، واحدها مَوْرِدٌ، وهو مَفْعِلٌ من الوُرُودِ».
يقال: ورَدْتُ الماءَ أَرِدُه وُرُودًا، إذا حضرته لتشرب.
والوِرد: الماء الذي ترد عليه. (ابن منظور، العلّامة محمّد بن مكرم الإفريقيّ المصريّ، لسان العرب، نشر أدب الحوزة، إيران - قمّ، 1405ه، لا.ط، ج3، ص457).
[3] الحاكم النيسابوريّ، أبو عبد الله، المستدرك على الصحيحَين، إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشليّ، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج1، ص167.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص15.
[5] راجع: الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج1، ص353.
[6] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص423.
42
39
الموعظة السادسة: عِمَارَةُ الأَرْضِ
أو يومَين، أيقصِّر في صلاته أم يتمّ؟ فقال: «إِنْ خَرَجَ لِقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، فَلْيُفْطِرْ وَلْيُقَصِّرْ؛ وَإِنْ خَرَجَ لِطَلَبِ الْفُضُولِ، فَلَا، وَلَا كَرَامَة»[1].
5. الاهتمام بالزراعة
عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «مَنْ سَقَى طَلْحَةً أَوْ سِدْرَةً، فَكَأَنَّمَا سَقَى مُؤْمِنًا مِنْ ظَمَأ»[2].
فلسفة عمارة الأرض
يظهر في عالَم اليوم نموذجان متصارعان في الرؤية الاقتصاديّة التي ينبغي أن تقوم عليها موازنات الدول ونشاطاتها. فبعضها يتبنّى نموذج الاعتماد على استجلاب المال من أيِّ وسيلةٍ كانت، سواءً من استخراج الموارد الطبيعيّة، كما يحصل في الدول النفطيّة اليوم، أو من خلال الحروب والغنائم، أو من خلال الاستدانة... لأنّ التقدُّم، في نظرهم، يساوي الثروة؛ فكلّما كانت لديك ثروة أكبر، استطعتَ أن تحوز قصب السبق في مسيرة التقدُّم والتحضُّر.
إلّا أنّ بعضًا آخر ينظر إلى ما تقدَّم على أنّها رؤيةٌ ساذجةٌ، ويرى أنّ التقدُّم لا يمكن ضمانه من خلال نموذج الاكتناز الجامد، بل من خلال نموذج العمارة والاستثمار، الذي يؤدّي إلى
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص438.
[2] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج17، ص42. العيّاشيّ، محمّد بن مسعود بن عيّاش السلميّ السمرقنديّ، تفسير العيّاشيّ، تحقيق الحاجّ السيّد هاشم الرسوليّ المحلّاتيّ، المكتبة العلميّة الإسلاميّة، إيران - طهران، 1422ه، ط1، ج2، ص86. المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج9، ص121، وج66، ص113.
43
40
الموعظة السادسة: عِمَارَةُ الأَرْضِ
تنميةٍ مستدامةٍ. وهذا ما يمكن التقاطه من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر (رض)، حين ولّاه مصر، فبَعد أنْ أَمَرَهُ باستجلاب الخراج وإصلاحه، قال: «وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ؛ لأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ، ومَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ، وأَهْلَكَ الْعِبَادَ، ولَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُه إِلَّا قَلِيلًا، فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلًا، أَوْ عِلَّةً، أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ[1]، أَوْ إِحَالَةَ[2] أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِه أَمْرُهُمْ، ولَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِه الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّه ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِه عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلَادِكَ، وتَزْيِينِ وِلَايَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلَابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ، وتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، مُعْتَمِدًا فَضْلَ قُوَّتِهِمْ، بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ[3] لَهُمْ، والثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ ورِفْقِكَ بِهِمْ، فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الأُمُورِ، مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيه عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ، احْتَمَلُوه طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِه، فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَه»[4].
[1] القليل من الماء يبلّ به الأرض.
[2] أحالت الأرض: تغيّرَت عمّا كانت عليه من الاستواء، فلم ينحبّ زرعها، ولا أثمر نخلها.
[3] الإجمام: الإراحة.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، الرسالة 53، ص436.
44
41
الموعظة السابعة: العِفَّةُ والقَنَاعَةُ
الموعظة السابعة
العِفَّةُ والقَنَاعَةُ
هدف الموعظة
إظهار فضيلة العفّة والقناعة في الإسلام، والحثّ عليهما.
محاور الموعظة
1. معنى العفّة
2. فضيلة العفّة
3. حقيقة العفّة
4. القناعة
5. فضيلة القناعة
6. أهمّيّة القناعة
تصدير الموعظة
﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[1].
[1] سورة طه، الآية 131.
45
42
الموعظة السابعة: العِفَّةُ والقَنَاعَةُ
تمهيد
بين العفّة والقناعة علاقةٌ وطيدةٌ، إذ إنّ كلَّ واحدة من هاتَين الفضيلتَين تساهم في تنمية الأخرى. من هنا، نفهم أقوال إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام): «ثَمَرَةُ العِفَّةِ القَنَاعَةُ»[1]، و«أَلَا وَإِنَّ القَنَاعَةَ وَغَلَبَةَ الشَّهْوَةِ مِنْ أَكْبَرِ العَفَافِ»[2]، و«أَصْلُ العَفَافِ القَنَاعَةُ»[3].
معنى العفّة
العفّة تعني الامتناع والترفُّع عمّا لا يحلّ من شهوة البطن والنظر والفرج، والتحرُّر من استرقاقها المذلّ، وجعلها منقادةً للعقل على ما يأمرها به من الطعام والشراب والنكاح، والاجتناب عمّا ينهاها العقل عنه؛ بعكس الشهوة، التي تقع في مقابل العفّة، والتي يُوجِب اتّباعُها سقوطَ الفرد أخلاقيًّا، وانحطاطَ المجتمع.
فضيلة العفّة
1. في الآيات
يقول الله -تعالى- في كتابه العزيز: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[4].
2. في الروايات
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص208.
[2] المصدر نفسه، ص108.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص7.
[4] سورة النور، الآية 30.
46
43
الموعظة السابعة: العِفَّةُ والقَنَاعَةُ
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أفضل العبادة العفاف».[1]
وعنه (عليه السلام): «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا، عَفَّ بَطْنَهُ وَفَرْجَهُ»[2].
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وَفَرْجٍ»[3].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّمَا شِيعَةُ جَعْفَرٍ مَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، وَاشْتَدَّ جِهَادُهُ، وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ، وَرَجَا ثَوَابَهُ، وَخَافَ عِقَابَهُ؛ فَإِذَا رَأَيْتَ أُولَئِكَ، فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَرٍ»[4].
حقيقة العفّة
ليس المرادُ من العفّة حرمانَ النفس من رغباتها المشروعة، بل المقصود منها الاعتدال في تناولها وممارستها؛ إذ كلُّ إفراطٍ أو تفريطٍ مضرٌّ بجسد الإنسان وروحه وداعٍ إلى شقائه وبؤسه. فالإفراط في شهوات البطن والفرج سببٌ في الكثير من الأمراض والعلل الجسميّة، كما أنّ الروح التائقة إلى عالَم الملكوت ولقاء الربّ الودود سوف تتأذّى، هي الأخرى، بسبب كثرة الانشغال والتلهّي بالشهوات الحيوانيّة والأمور الدنيويّة الزائلة، التي لا تزيد الإنسان إلا بُعْدًا عن الحقّ.
فالمطلوب الاعتدال في الحاجات الجسديّة، وهو الممدوح شرعًا وعقلًا، وهو الحدّ الوسط بين
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص79.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص131.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص79.
[4] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، صفات الشيعة، انتشارات عابدي، إيران - تهران، لا.ت، لا.ط، ص11.
47
44
الموعظة السابعة: العِفَّةُ والقَنَاعَةُ
الإفراط والتفريط؛ إذ إنّ خير الأمور أوسطها. وحدّ الاعتدال في طعام الإنسان يكون بحيث لا يحسّ بثقل المعدة ولا بألم الجوع، فالهدف من الأكل بقاء الحياة واستمرارها، والحصول على القوى اللازمة للعمل والعبادة. أمّا ثقل الطعام، فإنّه يمنع من العبادة، كما أنّ ألم الجوع يشغل القلب أيضًا. وإليه الإشارة بقوله -تعالى-: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾[1].
وخير مقياسٍ لذلك، ما حدّدَه أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث قال: «لَا تَجْلِسْ عَلَى الطَّعَامِ إِلَّا وَأَنْتَ جَائِعٌ، وَلَا تَقُمْ عَنِ الطَّعَامِ إِلَّا وَأَنْتَ تَشْتَهِيهِ»[2].
القناعة
هي الاكتفاء من المال والمأكل والملبس بقدر الحاجة والكفاف، وعدم الاهتمام فيما زاد عن ذلك. وهي صفةٌ كريمةٌ تُعرِبُ عن عزّة النفس، وشرف الوجدان، وكرم الأخلاق. فالقانع هو الذي لا يطمع في الناس، ولا يلتفت إلى ما في أيديهم، فلا يشغل قلبه بذلك؛ لأنّ الشوق لتحصيل المزيد وطول الأمل يحرم الإنسان من نعمة الراحة وسكون القلب، ويشغل قلبه عن ذكر الله -تعالى-.
فضيلة القناعة
1. في القرآن
قال -تعالى-: ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا
[1] سورة الأعراف، الآية 31.
[2] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص229.
48
45
الموعظة السابعة: العِفَّةُ والقَنَاعَةُ
وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾[1].
وقال عزّ وجلّ: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[2].
2. في الروايات
عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «القَانِعُ غَنِيٌّ، وَإِنْ جَاعَ وَعَرِيَ»[3].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «مَنْ قَنِعَ بِمَا رَزَقَهُ اللهُ، فَهُوَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ»[4].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أَنه قال لرجل يعظُه: «اِقْنَعْ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِكَ، وَلَا تَتَمَنَّ مَا لَسْتَ نَائِلَهُ، فَإِنَّهُ مَنْ قَنِعَ شَبِعَ، وَمَنْ لَمْ يَقْنَعْ لَمْ يَشْبَعْ، وَخُذْ حَظَّكَ مِنْ آخِرَتِك»[5].
أهمّيّة القناعة
للقناعة أهمّيّةٌ كبرى، وأثرٌ بالغٌ في حياة الإنسان، فهي تحقِّق الرخاء النفسيّ والراحة الجسديّة، وتحرّر الإنسان من عبوديّة المادّة واسترقاق الحرص والطمع، وعنائهما المرهق، وهوانهما المذلّ، وتفتح باب العزّة والكرامة والإباء والعفّة والترفُّع عن صغائر الأمور. لذا، صار القانع أغنى
[1] سورة التوبة، الآية 85.
[2] سورة طه، الآية 131.
[3] الطبرسيّ، الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1408ه - 1987م، ط1، ج15، ص228.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص139.
[5] المصدر نفسه، ج8، ص243.
49
46
الموعظة السابعة: العِفَّةُ والقَنَاعَةُ
الناس؛ لأنّ حقيقةَ الغنى هي غنى النفس، والقانع راضٍ ومكتفٍ بما رزقه الله -تعالى-، وهو لا يحتاج أحدًا، ولا يَسألُ سوى الله -تعالى-. قال الإمام عليّ (عليه السلام): «لَا كَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقَنَاعَةِ»[1]، بل وهي كنزٌ لا يفنى، كما في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حيث قال: «القَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى»[2].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص540.
[2] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج15، ص226.
50
47
الموعظة الثامنة: حَقِيقَةُ الرِّزْقِ
الموعظة الثامنة
حَقِيقَةُ الرِّزْقِ
هدف الموعظة
بيان حقيقة الرزق في الرؤية الإسلاميّة، وعلاقته بالسعي.
محاور الموعظة
1. الرزق مادّيٌّ ومعنويٌّ
2. بين الرزق والسعي
3. تقسيم الرزق
تصدير الموعظة
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾[1].
[1] سورة الأعراف، الآية 96.
51
48
الموعظة الثامنة: حَقِيقَةُ الرِّزْقِ
تمهيد
من أهمّ الشؤون التي تشغل بال الإنسان، هي الرزق: كيف يستجلبه، وكيف يكون من نصيبه... وكثيرٌ من الناس يقع في دوّامة الشكّ والسخط أحيانًا؛ لأنّ رزقَه قليلٌ بزعمه، وهذه الشبهة في أغلب الأحيان، ناتجةٌ عن الجهل بحقيقة الرزق. فما هو الرزق؟ وما هي حقيقته؟
الرزق مادّيٌّ ومعنويٌّ
الرزق في اللغة: «الرزقُ يُقَالُ للعطاء الجاري تارةً، دنيويًّا كان أم أخرويًّا، وللنّصيب تارةً، ولِما يصل إلى الجوف ويتغذّى به تارةً»[1]. وفي القرآن، استُعمِلَ الرزقُ في الأبعاد المعنويّة، كقوله -تعالى-: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[2]، باعتبار أنّه من الواضح أنّ رزق الشهداء في عالَم البرزخ هو من المواهب المعنويّة التي يصعب علينا إدراكها، وليس من الأمور المادّيّة التي نعتاش عليها[3]. ويرى العدليّةُ أنّ الرزق هو ما كان حلالًا طيّبًا، باعتبار أنّ الرزق منسوبٌ إلى الله، والله لا يفعل القبيح، مقابل المدرسة الأشعريّة، التي ترى أن الرزق أعمّ من الحلال والحرام[4].
وبناءً على هذه المعرفة بحقيقة الرزق، تنتفي التساؤلات عن سبب رزق الله للأغنياء؛ لأنّ هذا
[1] الراغب الأصفهانيّ، أبو القاسم الحسين بن محمّد، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان داوودي، طليعة النور، لا.م، 1427ه، ط2، ص351.
[2] سورة آل عمران، الآية 169.
[3] راجع: الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب، إيران - قمّ، 1426ه، ط1، ج6، ص18.
[4] السيّد حسين البروجرديّ، تفسير الصراط المستقيم، صحّحه وعلّق عليه الشيخ غلامرضا بن عليّ أكبر مولانا البروجرديّ، مؤسّسة أنصاريان للطباعة والنشر، 1416 - 1995م، لا.ط، ج4، ص159.
52
49
الموعظة الثامنة: حَقِيقَةُ الرِّزْقِ
قد لا يكون حقيقةً من الرزق، بل قد يكون إملاءً وإتمامًا للحجّة عليهم، كما تنتفي التساؤلات حول انعدام الرزق للمؤمن، باعتبار أنّ رزقه قد يكون معنويًّا، فقد يكون ملتزمًا بأحكام الشرع، وصاحب أخلاق وطمأنينة، وعالِمًا فاضلًا، أو مجاهدًا عاملًا، ولديه أولاد صالحون، إلى غيرها من الخصائص المعنويّة التي يحلم بها أصحاب الثروات ولا يجدونها.
بين الرزق والسعي
يُطرَح تساؤلٌ عادةً في موضوع الرزق، مفاده: هل إنّ الرزق يقبل الزيادة بالسعي والاكتساب، أم لا؟ أم إنّه مقسومٌ لا تنفع معه محاولات الإنسان للزيادة والتكثير.
ظاهِرُ كثيرٍ من الأدلّة عدمُ قبوله للازدياد والتكثير، ولو كان يُطلَب بتمام الجِدّ، ويُسعَى له في جميع الآفاق.
وصريح بعض الأدلة، وظاهر كثيرٍ منها، أنّ بعضَ أقسامه يقبل التكثير بالاكتساب، وبالحذاقة في التدبير، واقتناء المال[1].
«وللإجابة، نذكر الملاحظتَين الآتيتَين:
1. دقّة النظر والتحقُّق في المصادر الإسلاميّة، يُوضِح أنّ الآيات والروايات التي يبدو التضادّ في ظاهر ألفاظها، سواء في هذا الموضوع وغيره، إِنّما ينتج من النظرة البسيطة السطحيّة؛ لأنّ حقيقة تناولها لموضوعٍ ما إِنّما يشمل جوانب متعدِّدة من الموضوع، فكلُّ آية ورواية إِنّما تنظر إِلى بُعدٍ معيّنٍ من أبعاد الموضوع، فتُوهِم غيرَ المتابع بوجود التضادّ.
فحيث يسعى الناس، بولعٍ وحرصٍ، نحو الدنيا وزخرف الحياة المادّيّة، ويقومون بارتكاب كلِّ منكرٍ للوصول إِلى ما يريدونه، تأتي الآيات والروايات لتوضح لهم تفاهة الدنيا، وعدم أهمّيّة
[1] الشيخ المحموديّ، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج7، ص328.
53
50
الموعظة الثامنة: حَقِيقَةُ الرِّزْقِ
المال.
وإِذا ما ترك الناس السعي في طلب الرزق، بحجّة الزهد، تأتيهم الآيات والروايات لتبيّن لهم أهمّيّة السعي وضرورته.
فالقائد الناجح، والمرشد الرشيد، هو الذي يتمكّن من منع انتشار حالتَي الإِفراط والتفريط في مجتمعه. فغاية الآيات والروايات، التي تؤكّد على أنّ الرزق بيد اللّه، هي غلق أبواب الحرص والشَرَهِ وحبّ الدنيا والسعي بلا ضوابط شرعيّة، وليس هدفها إِطفاء شعلة الحيويّة والنشاط في الإعمال والاكتساب، وصولًا إلى حياةٍ كريمةٍ ومستقلّة. وبهذا، يتّضح تفسير الروايات التي تقول: إِنّ كثيرًا من الأرزاق إِنْ لم تطلبوها، تطلبكم.
2. إِنّ كلَّ شيء من الناحية العقائديّة، تنتهي نسبته إِلى اللّه عزَّ وجلّ، وكلُّ موحِّدٍ يعتقد أنّ منبعَ كلِّ شيء وأصلَه منه -سبحانه وتعالى-، ويردِّد ما تقوله الآية 26 من سورة آل عمران: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.[1]
وينبغي عدم الغفلة عن هذه الحقيقة، وهي أنّ كلّ شيءٍ، من سعيٍ ونشاطٍ وفكرٍ وخلّاقيّة الإِنسان، إِنّما هي في حقيقتها من اللّه -عزَّ وجلّ-...
وإِلى جانب كلّ ما ذُكِر، فالسعي والعمل الصحيح البعيد عن أيّ إِفراط وتفريط، هو أساس كسب الرزق، وما يُوصَل إِلى الإِنسان من رزقٍ بغير سعيٍ وعملٍ، إِنّما هو ثانويٌّ فرعيٌّ، وليس بأساسيٍّ. ولعلّ هذا الأمر هو الذي دفع أمير المؤمنين (عليه السلام)، في كلماته القصار، في تقديم ذكر الرزق الذي يطلبه الإِنسان على الرزق الذي يطلب الإِنسان، حيث قال: «يَابْنَ آدَمَ، الرِّزْقُ رِزْقَانِ: رِزْقٌ تَطْلُبُهُ، وَرِزْقٌ يَطْلُبُك»[2].
[1] سورة آل عمران، الآية 26.
[2] الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج8، ص259.
54
51
الموعظة الثامنة: حَقِيقَةُ الرِّزْقِ
تقسيم الرزق
«الرِّزْقُ رِزْقَانِ: رِزْقٌ تَطْلُبُهُ، وَرِزْقٌ يَطْلُبُك؛ فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ، أَتَاكَ»[1].
كلُّنا عاش هذه التجربة، فقد تتوقّع أن يأتيك رزقٌ من مكانٍ ما، فتسعى إليه وتبذل جهدك في الوصول إليه، ولكنّك لا تصل إليه، ولكنّ رزقًا لا تحسب له حسابًا ولا تتوقّعه، يبحث عنك ليصل هو بنفسه إليك.
وتتحدّث الآية الكريمة عن الحكمة في قبض الرزق عن بعض الناس: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾[2].
وتكون الحكمة من تقدير الأرزاق وتوزيعها هي امتحانُ الناس بها، وابتلاؤهم لمعرفة درجة إيمانهم، وذلك من ناحية صبرهم على الفقر، وابتلاءً لهم، واختبارًا لكيفيّة تصرُّفهم في الرزق؛ فهل ينفقونه في الطاعات، أو في المعاصي، فقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام): «وَقَدَّرَ الْأَرْزَاقَ، فَكَثَّرَهَا وَقَلَّلَهَا، وَقَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَالسَّعَةِ، [فَعَدَّلَ] فَعَدَلَ فِيهَا؛ لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَمَعْسُورِهَا، وَلِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَالصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَفَقِيرِهَا»[3].
[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج4، ص386.
[2] سورة الشورى، الآية 27.
[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، الخطبة 91، ص134.
55
52
الموعظة التاسعة: القَرْضُ الحَسَنُ وَمَخَاطِرُ الرِّبَا
الموعظة التاسعة
القَرْضُ الحَسَنُ وَمَخَاطِرُ الرِّبَا
هدف الموعظة
تعرّف مفهوم القرض الحسن، والتنبيه من مخاطر الربا.
محاور الموعظة
1. ما هو القرض الحَسَن؟
2. سبب نزول آية الإقراض
3. مخاطر الربا
تصدير الموعظة
﴿يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾[1].
[1] سورة البقرة، الآية 276.
56
53
الموعظة التاسعة: القَرْضُ الحَسَنُ وَمَخَاطِرُ الرِّبَا
تمهيد
في ظلّ الأوضاع المعيشيّة الصّعبة التي نعاني منها، والتي يعود جزءٌ كبيرٌ منها إلى النظام الربَوِيّ الحاكم في المعاملات الماليّة في كلّ أقطار العالَم اليوم، يقف الإسلام ليُبرِزَ ثقافةً أخرى معارِضةً للسائد، ومبنيّةً على أساس التكافل الاجتماعيّ، وهي ثقافةُ القرض الحَسَن. فما هي معالم القرض الحسن؟ وما هي مخاطر استبداله بنظام الربا؟
ما هو القرض الحَسَن؟
كلُّ قرضٍ لم يقُم على أساس الربا، وكان مُخلَصًا لله -تعالى- أي: خالٍ عن الشوائب من الشرك، والرياء، والسمعة، ومن المنِّ والأذى، وفيه الخير والمنفعة العامّة العائدة على الصالح العامّ، فهو من القرض الحَسَن.
وقد ورد الحثُّ البليغ والشديد في القرآن الكريم على القرض الحسن، وذكر الله له جزاءً مضاعفًا جدًّا بنحوٍ غير مألوف في غيره من المسائل، قال -تعالى-: ﴿مَنْ ذَا الذي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾[1]، وقال عزّ وجلّ: ﴿مَنْ ذَا الذي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾[2].
وقد شدّد في المقابل على وخامة أمر الربا، بلحنٍ لم يُعهَد في غيره من الذنوب، حتّى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم، وما هو أعظم من ذلك، كقتل النفس التي حرم الله[3]، فقال -تعالى-: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ
[1] سورة البقرة، الآية 245.
[2] سورة الحديد، الآية 11.
[3] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج2، ص409.
57
54
الموعظة التاسعة: القَرْضُ الحَسَنُ وَمَخَاطِرُ الرِّبَا
الْمَسِّ﴾[1]، وتوعّد المرابين بحربٍ من الله ورسوله، فقال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾[2].
سبب نزول آية الإقراض
رُوِيَ عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَلَهُ مِثْلَاهَا فِي الْجَنَّةِ». فَقَالَ أَبُو الدَحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ (وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ الدَّحْدَاحِ): يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي حَدِيقَتَيْنِ، إِنْ تَصَدَّقْتُ بِإِحْدَيهُمَا، فَإِنَّ لِي مِثْلَيْهَا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ مَعِي؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: الصَّبِيَّةُ مَعِي؟ قَالَ: «نَعَمْ». فَتَصَدَّقَ بِأَفْضَلِ حَدِيقَتَيهِ، فَدَفَعَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله)، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَضَاعَفَ اللَّهُ صَدَقَتَهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: ﴿أَضْعافًا كَثِيرَةً﴾. قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو الدَّحْدَاحِ، فَوَجَدَ أُمَّ الدَّحْدَاحِ وَالصَّبِيَّةَ فِي الْحَدِيقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا صَدَقَتَهُ، فَقَامَ عَلَى بَابِ الْحَدِيقَةِ، وَتَحَرَّجَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَنَادَى: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ! فَقَالَتْ: لَبَّيْكَ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ. قَالَ: إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ حَدِيقَتِي هَذِهِ صَدَقَةً، وَاشْتَرَيْتُ مِثْلَيْهَا فِي الْجَنَّةِ، وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ مَعِي، وَالصَّبِيَّةُ مَعِي. قَالَتْ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا شَرَيْتَ، وَفِيمَا اشْتَرَيْتَ. فَخَرَجُوا مِنْهَا، وَأَسْلَمُوا الْحَدِيقَةَ إِلَى النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله)، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله): «كَمْ مِنْ نَخْلٍ مُتَدَلٍّ عُذُوقُهَا لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ!»[3].
[1] سورة البقرة، الآية 275.
[2] سورة البقرة، الآيتان 278 – 279.
[3] السيّد البروجرديّ، جامع أحاديث الشيعة، مصدر سابق، ج8، ص347.
58
55
الموعظة التاسعة: القَرْضُ الحَسَنُ وَمَخَاطِرُ الرِّبَا
العبرة من القصّة
العِبر التي تُستَفاد من هذه الحادثة الحقيقيّة، التي جَرَتْ بين يدَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كثيرةٌ، نشير إِلى أهمّها:
- الغِنى المطلق لله -تعالى-، ومع ذلك، يَستقرض اللهُ من الناس قروضًا حسنةً لمنفعتهم.
- جزاء القرض ليس مكسبًا دنيويًّا، بل هو جزاءٌ أخرويّ، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) يدعو المؤمنين للتعلّق بالآخرة، من خلال أفعالنا في هذه الحياة الدنيا.
- تأكيد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على أبي الدحداح بأن لا يتصدّق بكلّ ما لديه، فيُبقِي بستانًا له ولعياله، ويتصدّق بالآخر؛ لكي لا يكون أبو الدحداح عالةً على غيره، وليُعلِم أنّ الإنفاق على العيال صدقةٌ وجهادٌ أيضًا.
- الزوجة المخلصة لله -تعالى- تحثّ زوجها على فعل الخير وعلى الإقراض الحسن، ولا تصدّه عن أداء المعروف مع الناس. وانظروا إِلى المقام الذي وصلته هذا المرأة، حيث إِنَّها بمجرّد أن سمعَت من زوجها أَنَّه تصدّق بكلّ ما يملك، بادلَتْه الرضا والحَثّ، خلافًا لبعض نساء هذا العصر، حيث قد تبادر زوجها بالاعتراض والقطيعة.
مخاطر الربا
يمكن إيراد بعض المخاطر الدنيويّة والأخرويّة للربا:
المخاطر الأخرويّة
1. أنّه من أكبر الذنوب
عن الرسول (صلّى الله عليه وآله): «الرِّبَا سَبْعُونَ جُزْءًا، فَأَيْسَرُهُ مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ
59
56
الموعظة التاسعة: القَرْضُ الحَسَنُ وَمَخَاطِرُ الرِّبَا
فِي بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَام»[1].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «دِرْهَمٌ رِبًا أَشَدُّ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سَبْعِينَ زَنْيَةً، كُلِّهَا بِذَاتِ مَحْرَم»[2].
2. موجبٌ للَّعن
عن الإمام عليّ (عليه السلام): «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) الرِّبَا، وَآكِلَهُ، وَبَائِعَهُ، وَمُشْتَرِيَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ»[3].
3. محبطٌ للعمل
وعن النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «مَنْ أَكَلَ الرِّبَا، مَلَأَ اللَّهُ بَطْنَهُ نَارًا بِقَدْرِ مَا أَكَلَ مِنْهُ؛ فَإِنْ كَسَبَ مِنْهُ مَالًا، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ، وَلَمْ يَزَلْ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ مَا دَامَ عِنْدَهُ مِنْهُ قِيرَاطٌ»[4].
4. عقابه الأخرويّ
عن النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، فِي الْخَبَرِ الطَّوِيلِ فِي الْمِعْرَاجِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «ثُمَّ مَضَيْتُ، فَإِذَا أَنَا بِأَقْوَامٍ يُرِيدُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقُومَ، فَلَا يَقْدِرُ مِنْ عِظَمِ بَطْنِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَئِيلُ؟ قَالَ: فَهُمُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ، وَإِنَّهُمْ لَبِسَبِيلِ آلِ فِرْعَوْنَ، يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص58.
[2] السيّد البروجرديّ، جامع أحاديث الشيعة، مصدر سابق، ج18، ص125.
[3] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج3، ص274.
[4] السيّد البروجرديّ، جامع أحاديث الشيعة، مصدر سابق، ج18، ص126.
60
57
الموعظة العاشرة: التَّطَوُّعُ وَخِدْمَةُ النَّاسِ
وَعَشِيًّا، يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَتَى تَقُومُ السَّاعَة؟»[1].
المخاطر الدنيويّة
يقول الشيخ المظاهريّ: «كان هناك رجلٌ في أصفهان مُعتَدٍ، كان يتعاطى الربا والاحتكار، رغم الغلاء الشديد، فكان يمتصّ دماء الناس... وعندما أصاب القحط البلاد، وقد شحّ القمح وغلا ثمنه، توجَّهَ خبّازو أصفهان إليه، وطلبوا منه أن يبيع القمح الذي يختزنه، فقال: كم تشترون؟ قالوا بكذا. قال: بل بكذا، وحدّد سعرًا أرفع. وهكذا، كلّما اقترحوا قيمةً للقمح، كان يرفع السعر؛ لذلك لم يتّفقوا، وقال: اصبروا إلى يوم غد كي أفكّر، إلّا أنّه بالنتيجة لم يُعطِ القمح للناس، ومرَّت فترةُ الشدّة، ومات مَن مات، وجاع من جاع.. ولم تمرّ فترة طويلة من الزمن، حتّى ابتُلِيَ بألمٍ في ساقه، وعُرِضَ على أطبّاء، فلم تتحسّن صحّته، وأخيرًا قرّر الأطباء، بعد التشاور، أنّ قدمَه لا بُدّ أن تُقطَع، إلّا أنّه مِن أين تُقطع؟
وضع يده إلى طرف الساق الأسفل، قائلًا: إذا كان لا بُدّ، فمن هنا، فقال الطبيب: لا، من هنا لا يُفيد، ارتفع إلى الأعلى. يا سبحان الله! كما كان يطلب لسعر القمح دائمًا الأعلى والأرفع، ابتلاه الله بنفسه، بالمبدأ نفسه الذي تسبّب فيه بآلام الكثير، بل بموت بعضهم، وأخيرًا دفع كلَّ ماله، وقطعوا ساقَه، وظلّ أولاده من بعده يعانون من المصائب والمتاعب»[2].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص240.
[2] المظاهري، الأستاذ حسين، جهاد النفس، ترجمة لجنة الهدى، دار المحجّة البيضاء، لبنان - بيروت، 2009م، ط2، ص108.
61
58
الموعظة العاشرة: التَّطَوُّعُ وَخِدْمَةُ النَّاسِ
الموعظة العاشرة
التَّطَوُّعُ وَخِدْمَةُ النَّاسِ
هدف الموعظة
الحثّ على العمل التطوّعيّ وخدمة الناس.
محاور الموعظة
1. معنى التطوّع
2. أهمّيّة العمل التطوُّعيّ وخدمة الناس
3. نماذج من العمل التطوُّعيّ
4. الإمام الخمينيّ (قُدِّسَ سِرُّهُ) وخدمة الناس
تصدير الموعظة
﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[1].
[1] سورة فاطر، الآية 10.
62
59
الموعظة العاشرة: التَّطَوُّعُ وَخِدْمَةُ النَّاسِ
تمهيد
في الزمن الذي أخذَت تطغى فيه الأُسُس المادّيّة في العلاقات والخدمات المتبادلة بين الناس، وأصبحَت الخدمة وتلبية حاجات الناس سلعًا تُباع وتُشتَرى، ووصلَت هذه الثقافة المادّيّة إلى أن يتعاطى الناس بخلفيّة المقابل المادّيّ المتوقَّع لقاء أيّ خدمة، مهما كانت بسيطة، تمسُّ الحاجة إلى تسليط الضوء أكثر على ثقافة التطوّع، والعمل الخيريّ، وتقديم الخدمة للآخرين، ولا سيّما وفق الأساس الإسلاميّ الذي يعتبر هذا الأمر من أعظم القربات إلى الله عزّ وجلّ.
معنى التطوّع
التطوُّع لغةً: هو تكلُّف الطاعة؛ أي أن يكون الإنسان غير ملزمٍ بأمرٍ، إلّا أنّه يقوم به اختيارًا، لمصلحةٍ أنبل وأعلى، وهي عند المؤمن رضا الله -عزّ وجلّ- ونيل الثواب الأخرويّ. وقد ورد في القرآن الكريم: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾. وفي ثقافتنا الإسلاميّة المستقاة من نصوص أهل البيت (عليهم السلام) يُعَبَّر عن ذلك بخدمة الإخوان، أو خدمة الناس.
أهمّيّة العمل التطوُّعيّ وخدمة الناس
قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾[1]. من المعلوم أنّ الكعبة هي أقدم معبد بُنِيَ على الأرض، ليُعبَد الله فيه ويُوَحَّد، فلم يسبقه أيُّ معبدٍ قبله، وقد أُسّس، أوّل ما أُسِّس، لذلك، فلم يكن يومًا بيتًا للناس، بل وُضِعَ ليكون فقط لله عزّ وجلّ. ومع ذلك، عَبَّر الله -تعالى- عنه: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾، وفي هذا إشارة إلى حقيقةٍ، هي أنّ كلَّ ما يكون باسم الله ولله، يجب أن يكون في خدمة الناس من عباده.
[1] سورة آل عمران، الآية 96.
63
60
الموعظة العاشرة: التَّطَوُّعُ وَخِدْمَةُ النَّاسِ
من هنا، نُقِلَ عن الشهيد السعيد السيّد محمّد باقر الصدر أنّه قال: لو فُرِضَ أنْ بَدَّلْنا كلمةَ «الله» بكلمة «الناس» في قوله -تعالى- ﴿في سبيل الله﴾، لَمَا اختَلَف المعنى؛ لأنّ سبيلَ الله هو سبيلُ الناس.
وتظهر أهمّيّة العمل التطوُّعيّ وخدمة الناس من خلال الروايات الشريفة، التي ذكرت لذلك أعظم الثواب وأجزله، فقد ورد عن إمامنا الصادق (عليه السلام) جملةً من الكلمات في هذا المجال، منها: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا فِي الْأَرْضِ، يَسْعَوْنَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ، هُمُ الْآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ»[1]، وعنه (عليه السلام): «مَنْ سَعَى لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ فِي حَاجَةٍ مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا، قَضَى اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ بِهَا سَبْعِينَ حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ الْآخِرَةِ، أَيْسَرُهَا أَنْ يُزَحْزِحَهُ عَنِ النَّارِ»[2]، وعنه (عليه السلام): «قَضَاءُ حَاجَةِ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عِتْقِ أَلْفِ رَقَبَةٍ، وَخَيْرٌ مِنْ حُمْلَانِ أَلْفِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[3] وعنه (عليه السلام): «مَشْيُ الْمُسْلِمِ فِي حَاجَةِ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ طَوَافًا بِالْبَيْتِ الْحَرَام»[4].
نماذج من العمل التطوُّعيّ
نجد في القرآن الكريم نماذج عديدة من العمل التطوُّعيّ: كتطوُّع ذي القرنين لعمارة السدّ الفاصل بين يأجوج ومأجوج والقوم الذين تأذّوا منهم، وتطوُّع الخضر (عليه السلام) لبناء جدارٍ لغلامَين يتيمَين في المدينة، في القصّة المعروفة، وكذلك تطوُّع النبيّ موسى (عليه السلام)
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص197.
[2] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص409.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص193.
[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص311.
64
61
الموعظة العاشرة: التَّطَوُّعُ وَخِدْمَةُ النَّاسِ
لسَقْيِ أغنام بنتَي النبيّ شعيب (عليه السلام) لَمّا وَرَدَ ماءَ مَديَن، حيث كان فعلُ التطوّعُ هذا من نبيّ الله موسى (عليه السلام) فاتحةَ الخير له، ومنجاةً له من تعب السفر ومطاردة فرعون، وإيواءً له في بيت شعيب، وجَلَبَ له الحظَّ السعيد في الزواج من ابنته.
ونجد في سيرة أهل البيت (عليهم السلام) نماذج كثيرة من ذلك، كتطوُّع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في وضع الحجر الأسود، بعد أن انهدم في السيل قبل البعثة، وتطوُّع الإمام عليّ والزهراء والحسنَين (عليهم سلام الله) في إطعام المسكين واليتيم والأسير، والذي نزلَت فيه سورة الإنسان.
وفي روايةٍ عن ميمون بن مهران، قال: «كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيّ (عليه السلام)، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ: يَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانًا لَهُ عَلَيَّ مَالٌ، وَيُرِيدُ أَنْ يَحْبِسَنِي. فَقَالَ: وَاللَّهِ، مَا عِنْدِي مَالٌ فَأَقْضِيَ عَنْكَ. قَالَ: فَكَلِّمْهُ. قَالَ: فَلَبِسَ (عليه السلام) نَعْلَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَنَسِيتَ اعْتِكَافَكَ؟ فَقَالَ لَهُ: لَمْ أَنْسَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ أَبِي (عليه السلام) يُحَدِّثُ عَنْ جَدِّي رَسُولِ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، فَكَأَنَّمَا عَبَدَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- تِسْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ، صَائِمًا نَهَارَهُ، قَائِمًا لَيْلَه»[1].
الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه) وخدمة الناس
قال الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه) في رسالةٍ إلى ولده السيّد أحمد: «لا تَرَ لنفسك أبدًا فضلًا على خلق الله حين تخدمهم، فهم الذين يمنّون علينا حقًّا بفضل كونهم وسيلةَ الله جلّ وعلا. لا تسعَ لكسب الشهرة والمحبوبيّة عن طريق الخدمة، فهذا بذاته حيلةٌ من حبائل الشيطان الذي يوقعنا في شباكه. واختر في خدمة عباد الله ما هو أكثر نفعًا لهم، لا لك، ولا
[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص190.
65
62
الموعظة العاشرة: التَّطَوُّعُ وَخِدْمَةُ النَّاسِ
لأصدقائك، فهذا الاختيار علامة الصدق في الحضرة المقدّسة لله جلّ وعلا».
وتطبيقًا لِمَا مرّ، ورد في حياة الإمام الخمينيّ (قُدِّسَ سِرُّهُ) أنّه كان في زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) مع مجموعة من المؤمنين، سبقهم الإمام (قُدِّسَ سِرُّهُ) إلى المنزل الذي كانوا يسكنونه في مشهد، وحينما رجع أولئك المؤمنون، تفاجؤوا أنّ الإمام الخمينيّ قد جهّز لهم الشَّاي، واستقبلهم بتقديمه لهم، فقال له أحدُهم: تركتَ زيارةَ الإمام الرضا (عليه السلام)، وجئتَ إلى هنا لتجهّز الشَّاي؟! فإذا بالإمام يجيب: مَنْ يقول: إنّ البقاء في الزيارة أفضل من خدمة المؤمنين؟
66
63
الموعظة الحادية عشرة: الطَّمَأْنِينَةُ الاِجْتِمَاعِيَّةُ
الموعظة الحادية عشرة
الطَّمَأْنِينَةُ الاِجْتِمَاعِيَّةُ
هدف الموعظة
إيضاح مفهوم الطمأنينة الاجتماعيّة إسلاميًّا بمختلف أصعدتها.
محاور الموعظة
1. مفهوم الطمأنينة الاجتماعيّة
2. الطمأنينة الاجتماعيّة في الإسلام
تصدير الموعظة
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾[1].
[1] سورة البقرة، الآية 126.
67
64
الموعظة الحادية عشرة: الطَّمَأْنِينَةُ الاِجْتِمَاعِيَّةُ
تمهيد
في ظلّ ما نشهده من بعض الاضطرابات الاجتماعيّة الحادّة، والتي تصل في كثيرٍ من الأحيان إلى مراحل متقدّمة من الاعتداء، كمباشرة القتل، وهتك الأعراض، واستخدام العنف، وشهر السلاح... تمسُّ الحاجة إلى تسليط الضوء على المناشئ الأصليّة لمثل هذه الحالات المخيفة، والتي تعمّ قائمة طويلة من العناوين، يقع على رأسها غياب الطمأنينة الاجتماعيّة.
فما هو مفهوم الطمأنينة الاجتماعيّة؟ وما هي الأمور التي تساهم في غيابه وحضوره؟ وما الذي يقدّمه الإسلام في هذا المجال؟
مفهوم الطمأنينة الاجتماعيّة
يمكن تعريف الطمأنينة الاجتماعيّة بأنّها حالةُ الأمن والاستقرار التي يشعر بها أفراد المجتمع؛ نتيجة مساهمة مؤسّسات التنمية الاجتماعيّة في تفعيل جميع الاستراتيجيّات والإمكانيّات والأساليب والممارسات التي تحقّق للفرد الشعور بالأمن وعدم الخوف على حاضره ومستقبله، وعلى نفسه ودينه وهويّته وماله وعرضه، وكلّ ما يحقّق له الاعتراف بوجوده وحقوقه، ويحفظ مكانتَه الاجتماعيّة وكرامته الإنسانيّة، ويتيح له المشاركة الاجتماعيّة الإيجابيّة، فيشعر كلُّ فردٍ، على أثر ذلك، بالرضا تجاه الحالة الاجتماعيّة، وتسود حالة من الانسجام والوئام والهدوء والتكافل الاجتماعيّ، وتنطلق عجلة التنمية والازدهار والإنتاج والإبداع.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى وَعِنْدَهُ ثَلَاثٌ، فَقَدْ تَمَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ فِي الدُّنْيَا: مَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، آمِنًا فِي سَرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ،
68
65
الموعظة الحادية عشرة: الطَّمَأْنِينَةُ الاِجْتِمَاعِيَّةُ
فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ الرَّابِعَةُ، فَقَدْ تَمَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ»[1].
الطمأنينة الاجتماعيّة في الإسلام
إنّ الإسلام بشموليّته لكلّ جوانب الحياة الإنسانيّة، غطّى بأحكامه وتعاليمه تلك المساحة التي يحتاجها المجتمع من أجل أن يسود فيه الاطمئنان، على مختلف الأصعدة:
1. على صعيد الخلق والتكوين
سخّر الله الكونَ لخدمة الإنسان، ووفّر له كلّ أسباب الراحة والأمن ووسائل الدفاع والحماية فيه، وترك للإنسان أن يُعمِل إرادتَه وفكرَه في اكتشاف القوانين والوسائل التي تحميه، وتوظيفها في صالحه. قال -تعالى-: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[2].
2. على الصعيد النفسيّ
وجَّهَ الإسلامُ الناسَ لنبذ التعلُّق بالأمور الدنيويّة الفانية المحدودة، والتي هي مصدر القلق والاضطراب، وعصَمَهم عن ذلك بالتعلُّق بالخالِق المطلق اللامتناهي، وبعالَم المعنويّات السامية التي تحرِّر الإنسان من أسر المادّة، فلا يأسف على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه، كما تقرّر الآية الكريمة: ﴿لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ﴾[3]، حيث عبّر الإمام
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص148.
[2] سورة الجاثية، الآية 13.
[3] سورة الحديد، الآية 23.
69
66
الموعظة الحادية عشرة: الطَّمَأْنِينَةُ الاِجْتِمَاعِيَّةُ
السجّاد (عليه السلام) أنّ الزهد كلَّه مختَصَرٌ في هذه الآية[1]. وكشف الإسلام عن سرّ اطمئنان القلب، وهو في قوله -تعالى-: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[2]، ولفت إلى أهمّيّة المؤسّسة الأسريّة في خلق السكينة والاطمئنان لدى الزوجَين، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾[3].
ونهى الإسلام عن كلّ ما من شأنه أن يُسهِم في توتير النفس الإنسانيّة وتأجيج نيران الاضطراب فيها كالشرك، والغضب، والحسد، والغيبة، والرياء، والكبر، وغيرها من المفاسد الأخلاقيّة والنفسيّة، التي تنشأ غالبًا من الشرك الخفيّ. من هنا، نلاحظ ما ورد على لسان النبيّ إبراهيم (عليه السلام) في نقاشه مع المشركين: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[4]. فالشرك، الجليّ منه والخفيّ، هو منشأ الاضطرابات والتوتّرات النفسيّة، التي تؤدّي إلى اضطرابات اجتماعيّة.
3. على الصعيد المعيشيّ
ويتمثّل في جملةٍ من أحكام الإسلام، مثل: الخمس والزكاة والصدقات والأوقاف... إلى غيرها من الأحكام التي تنظّم الشؤون الماليّة والاقتصاديّة للمسلمين، وفق مبدأ التكافل الاجتماعيّ، الذي أَسَّس له رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مقولته المعروفة: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي
[1] راجع: الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص128.
[2] سورة الرعد، الآية 28.
[3] سورة الروم، الآية 21.
[4] سورة الأنعام، الآيتان 81 – 82.
70
67
الموعظة الحادية عشرة: الطَّمَأْنِينَةُ الاِجْتِمَاعِيَّةُ
تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اِشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى»[1].
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وَاللهُ فِي عَوْنِ المُؤْمِنِ مَا كَانَ المُؤْمِنُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»[2].
4. على الصعيد الأمنيّ بالمعنى الخاصّ (الحماية)
من المعروف أنّ أحكام الإسلام رُوعِيَ فيه الاحتياط والتشدُّد في موضوعات الدماء والأموال والأعراض، ولم تُشَنِّع النصوصُ الواردة في المصادر الإسلاميّة على شيء، كما شَنَّعَت على مَن يهتك إحدى هذه الدوائر الأمنيّة التي تتعلّق بالمسلمين، وأخذ الإسلام منتهِكَها بأشدّ العقوبات والحدود، كحدّ السرقة والزنا والحرابة... بل عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «مَنْ نَظَرَ إِلَى مُؤْمِنٍ نَظْرَةً لِيُخِيفَه بِهَا، أَخَافَه اللَّه -عزّ وجلّ- يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّه»[3].
5. على الصعيد السياسيّ الاجتماعيّ
يؤكّد الإسلام، في جميع تعاليمه وتوجيهاته، على ضرورة فعل كلّ ما من شأنه أن يضمن تحقيق العدالة الاجتماعيّة؛ لأنّ المجتمع الذي يفقد العدالة الاجتماعيّة، يفقد أفرادُه تدريجيًّا شعورهم بالانتماء له والافتخار والاعتزاز به؛ لأنّه في نظرهم ظالمٌ ومُعتَدٍ عليهم، ولا يوفّر لهم سبل العيش الكريم، ولا يكفل لهم مبدأ تكافؤ الفرص. وإذا ما افتقد أفراد المجتمع شعورهم بالانتماء له، فإنّهم لن يتوانوا عن خيانته وتدميره في يوم من الأيّام؛ لأنّه لا يعني لهم شيئًا.
[1] مسلم النيسابوريّ، أبو الحسين مسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيريّ، الجامع الصحيح (صحيح مسلم)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج8، ص20.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص200.
[3] المصدر نفسه، ج2، ص368.
71
68
الموعظة الحادية عشرة: الطَّمَأْنِينَةُ الاِجْتِمَاعِيَّةُ
ولذلك، يطرح الإسلام مبدًا مختلفًا للتفاضل، لا يختصّ بالعرق، ولا بالطائفة، ولا بالمذهب، ولا بالجنسيّة، ولا بالمال... فيقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في خطبة الوداع: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبِّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ. أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ﴾[1]»[2]. والتقوى هي استشعار رقابة الله والخوف منه. فإذا التزم المجتمعُ بالتقوى، فإنّه لن يقع في دائرة الظلم. بل جُعِلَ القسطُ والعدلُ غايةً لإرسال الأنبياء وإنزال الشرائع السماويّة، فقال -تعالى-: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[3].
[1] سورة الحجرات، الآية 13.
[2] الشيخ محمّد الريشهريّ، ميزان الحكمة، تحقيق ونشر دار الحديث، لا.م، لا.ت، ط1، ج4، ص3629.
[3] سورة الحديد، الآية 25.
72
69
الموعظة الثانية عشرة: الإِيثَار
الموعظة الثانية عشرة
الإِيثَار
هدف الموعظة
تشجيع الناس على الإيثار والعطاء من خلال بيان مصاديقه وآدابه.
محاور الموعظة
1. تعريف الإيثار
2. من مصاديق الإيثار
3. آداب الإيثار
تصدير الموعظة
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[1].
[1] سورة الحشر، الآية 9.
73
70
الموعظة الثانية عشرة: الإِيثَار
تمهيد
الإيثار من محاسن الأخلاق الإسلاميّة، وهو مرتبة راقية من مراتب البذل، ومنزلة عظيمة من منازل العطاء. ويُعَدّ الإيثار أحدَ أبرز الفضائل والقيم الإنسانيّة، حيث وصفته الروايات بأوصاف كريمة من قبيل: «الإِيثَارُ أَعْلَى المَكَارِمِ»[1]، و«الإِيثَارُ أَشْرَفُ الإِحْسَانِ»[2]، و«الإِيثَارُ أَعْلَى الإِيمَانُ»[3]، و«الإِيثَارُ أَفْضَلُ عِبَادَةٍ وَأَجَلُّ سِيَادَةٍ»[4]، و«أَعْلَى مَرَاتِبِ الكَرَمِ الإِيثَارُ»[5].
تعريف الإيثار
الإيثار لغةً: الإيثار مِن آثرَ يُؤثِر إيثارًا، بمعنى التقديم والاختيار والاختصاص. فالإيثار مصدر من الجذر «أثر» بمعنى تقديم الشيء[6].
الإيثار اصطلاحًا: الإيثار أن يقدّم غيرَه على نفسه، في النفع له والدفع عنه، وهو النهاية في الأخوّة[7].
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص19.
[2] المصدر نفسه، ص33.
[3] المصدر نفسه، ص51.
[4] المصدر نفسه، ص29.
[5] المصدر نفسه، ص118.
[6] ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريّا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، مكتبة الإعلام الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1404ه، ط 1، ج1، ص53.
[7] الشريف الجرجانيّ، عليّ بن محمّد بن عليّ، التعريفات، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1983م - 1403ه، ط1،ص40.
74
71
الموعظة الثانية عشرة: الإِيثَار
جاء استعمال لفظ الإيثار ومشتقّاته في النصوص الإسلاميّة، بمعنيَين متضادَّين، إذ يُستَعمَل تارةً بمعنى التقديم الإيجابيّ، الذي يُعَدّ بدوره من أعظم القيم الأخلاقيّة وأسماها، كما في قوله -تعالى-: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾[1]. كما يستعمل بمعنى التقديم السلبيّ، كما يقول -تعالى-: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[2].
ومن هنا، يُفهَم أنّه ليس مطلق التقديم هو ما يحقّق الإيثار المطلوب في الآيات والروايات؛ لأنّ التقديم في غير محلّه لا يُعَدّ ذا قيمة أخلاقيّة، بل لا بدّ من أن يكون تقديم الشيء بحقّه. كما ورد في مصباح الشريعة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «أَصْلُ الإِيثَارِ تَقْدِيمُ الشَّيْءِ بِحَقِّهِ»[3]. فأصل الإيثار هو تقديم الآخَر أو الغير على النفس، ولكن بشرط أن يكون هذا التقديم في طريق الحقّ، لا الباطل، وإلّا يصبح من الإيثار السلبيّ.
من مصاديق الإيثار
1. الإيثار في المال
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا عِنْدَ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ كَيْفَ مُحَافَظَتُهُمْ عَلَيْهَا، وَإِلَى أَسْرَارِنَا كَيْفَ حِفْظُهُمْ لَهَا عَنْ عَدُوِّنَا، وَإِلَى أَمْوَالِهِمْ كَيْفَ مُوَاسَاتُهُمْ لِإِخْوَانِهِمْ فِيهَا»[4].
[1] سورة الحشر، الآية 9.
[2] سورة الأعلى، الآيتان 16 – 17.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج68، ص147.
[4] الحميريّ القمّيّ، قرب الإسناد، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، إيران - قمّ، 1413ه، ط1، ص78.
75
72
الموعظة الثانية عشرة: الإِيثَار
إنّ هذه المادّة الثالثة في الامتحان تعني كيفيّة تعامل الشيعة مع إخوانهم المحتاجين؛ هل يشاركونهم ويقاسمونهم أموالهم؟ هل يفتحون قلوبهم وأيديهم للمحتاجين؟ إنّ هذا ما أراده الإمام بالمواساة في المال.
2. الإيثار في النفس
قال -تعالى-: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾[1]. تعرض هذه الآية صورة رجلٍ باع نفسه لله سبحانه، لا يريد إلّا ما أراده الله -تعالى-، لا هوى له في نفسه، ولا اعتزاز له إلّا بربّه، ولا ابتغاء له إلّا مرضاة الله -تعالى-. وفي الروايات أنّها نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام)، في شأن مبيته في فراش النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ليلة الهجرة[2]. وذلك مقابل صورة أخرى عرضتها آية سابقة عليها لرجلٍ معتزٍّ بإثمه، معجَبٍ بنفسه، متظاهِرٍ بالإصلاح، مُضمِرٍ للنفاق: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾[3]. ويَظهَر من المقابلة كيف أنّ الإيثار يُسهِم في إصلاح المجتمع، وينبع من تقديم رضا الله على رضا النفس، وكيف أنّ الاستئثار والطمع يُسهِم في إفساد المجتمع، ويَنبع من عزّة الهوى وحبّ النفس.
3. الإيثار في الدعاء
وممّا ورد من أدب أهل البيت (عليهم السلام) في المقام، ما رُوِيَ عن الإمام الحسن (عليه
[1] سورة البقرة، الآية 207.
[2] راجع: العيّاشيّ، تفسير العيّاشيّ، مصدر سابق، ج1، ص101.
[3] سورة البقرة، الآيات 204 – 206.
76
73
الموعظة الثانية عشرة: الإِيثَار
السلام) من قوله: «رَأَيْتُ أُمِّي فَاطِمَةَ (عليها السلام) قَامَتْ فِي مِحْرَابِهَا لَيْلَةَ جُمُعَتِهَا، فَلَمْ تَزَلْ رَاكِعَةً سَاجِدَةً، حَتَّى اتَّضَحَ عَمُودُ الصُّبْحِ، وَسَمِعْتُهَا تَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَتُسَمِّيهِمْ وَتُكْثِرُ الدُّعَاءَ لَهُمْ، وَلَا تَدْعُو لِنَفْسِهَا بِشَيْءٍ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّاهْ، لِمَ لَا تَدْعِينَ لِنَفْسِكِ كَمَا تَدْعِينَ لِغَيْرِكِ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، الْجَارَ ثُمَّ الدَّارَ»[1].
آداب الإيثار
للإيثار آدابٌ لا بدّ من مراعاتها لتحقيق نصاب الإيثار الذي يؤجر عليه الإنسان، منها:
1. الإخلاص
فلو وهب الإنسانُ إنسانًا آخر شيئًا هو بحاجة إليه، لكن بدافعٍ غير إلهيّ، يكون في الواقع كمن قَدَّم ذلك الشيء إلى نفسه، إذ هو في حقيقة الأمر قد استجاب إلى دافعه النفسيّ، وأنانيّتُه هي التي دفعَت به إلى هذه الممارسة، وهي الحافز الكامن وراءه، وليس رضا الله عزّ وجلّ.
2. تقديم الأقرباء
من الآداب الاُخرى للإيثار، تقديمُ أُولِي الأرحام والأقرباء بشكلٍ عامّ، كما قال -تعالى-: ﴿وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾[2].
3. تقديم أهل الإيمان
وهو ما يمكن فهمه من قول الإمام عليّ (عليه السلام): «عامِلْ سائِرَ النَّاسِ بِالإِنْصَافِ،
[1] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص182.
[2] سورة الأحزاب، الآية 6.
77
74
الموعظة الثانية عشرة: الإِيثَار
وَعَامِلِ الْمُؤمِنِينَ بِالْإِيثَارِ».[1]
4. تقديم الأحوَج
إنّ تأمين الاحتياجات الثانويّة للآخرين على حساب التضحية بالاحتياجات الأساسيّة للمُؤثِر نفسه، لا يُعَدّ حقًّا، ولا يندرج في عِداد القِيَم. من هنا، جاء عن الإمام عليّ (عليه السلام): «لا تَسْتَأثِر عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَحْوَجُ إلَيْهِ مِنْكَ».[2]
[1] التميميّ الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص467.
[2] الحسين بن سعيد الكوفيّ، المؤمن، تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهديّ (عليه السلام) بالحوزة العلميّة، إيران - قمّ، 1404ه، ط1، ص45.
78
75