بصر الهدى (المواعظ والاخلاق)


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-08

النسخة: 2013


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدمة

 المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الحمدلله رب العالمين وصلى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين. وبعد

هذه الرسالة: بَصَرُ الْهُدَى، مجموعة من المواعظ والوصايا الأخلاقية والعرفانية التي تمّ استخراجها وانتخابها من تفسير القرآن الكريم للعلّامة المحقّق آية الله المجاهد الشّهيد السّعيد السيّد مصطفى الخمينيّ قدس سره, الّتي ذكرها تحت عنوان الأخلاق والآداب والنّصيحة, أو الأخلاق والموعظة والنصيحة, أو نحوها من التّعابير.

وقد حاولنا المحافظة على هذه المواعظ الأخلاقيّة كما وردت في التّفسير مع تعديلٍ طفيفٍ جدًّا أحيانًا, ولم نقم بتغيير العبارات الواردة 
 
 
 
 
 
 
 
5

1

مقدمة

 في النصّ، والتي قد تكون غريبة أو صعبة أحياناً لكيلا نتصرّف في كلمات المصنّف، ولتيسير وتسهيل الاستفادة من الكتاب:


قمنا بشرح بعض الكلمات والمصطلحات الواردة في النّصّ، والّتي يصعب فهمها على القارئ، دون أن نستقصي كلّ شيء.

هذا إضافة إلى الأمور الآتية:
- أضفنا عناوين لكلّ مقطعٍ، حسبما رأيناه، ينسجم مع النّصّ.
- أخرجنا المصادر والمراجع كما وردت في هامش التفسير والمحقَّق من قِبل مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ قدس سره.
- أسمينا هذه الرّسالة بـ"بصر الهدى", وذلك انسجاماً مع بعض العناوين الّتي وردت في كلمات المصنّف قدس سره.
 
 
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
6

2

بصر الهدى

 نبذة


نبذة عن حياة المصنف آية الله الشهيد السيّد مصطفى الخميني قدس سره:
ولد الشّهيد السّعيد السّيّد مصطفى الخمينيّ في مدينة قم المقدسة، عام 1309 (هجري شمسي)، والده إمام الأمة الراحل السّيّد روح الله الموسويّ الخمينيّ قدس سره، ووالدته الفاضلة التّقيّة كريمة آية الله الميرزا محمّد الثّقفي رحمه الله.

سمّاه والده محمّداً، ولقّبه بـ: "مصطفى"، وكنّاه بأبي الحسن، ولكنّه غلب عليه لقبه، فاشتهر بالسّيّد مصطفى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

3

بصر الهدى

 نشأ الشّهيد في ربوع مدينة قم المقدّسة، واشتغل فيها بطلب العلوم المختلفة، وبرع في الكثير منها تدريساً وتأليفاً، فقهاً وأصولًا وفلسفة وتفسيراً وعرفاناً وغيرها، ثمّ انتقل إلى مدينة النّجف الأشرف، ليكمل مسيرته العلمية الّتي تميّزت بالذّكاء المفرط، والدّقة النافذة، والحافظة المميّزة وإبداع فكري مبكّر حتّى قال عنه والده الإمام الراحل قدس سره حين بلغ الخامسة والثلاثين: "إنّ مصطفى أفضل منّي حينما كنت في سنّه". وقد كانت جلّ استفادته من والده السّيّد الإمام قدس سره في شتّى الميادين العلميّة، وإلى جانب ذلك فقد حضر عند كبار العلماء في حوزتي قم والنّجف، واستفاد من العديد منهم: 


كالسّيّد البروجردي قدس سره، والسّيّد محمّد المحقّق الداماد قدس سره، والسّيّد أبي الحسن الرفيعيّ القزوينيّ قدس سره، والسّيّد محسن الحكيم قدس سره، والسّيّد محمود الشّاهرودي قدس سره، والسّيّد أبي القاسم الخوئيّ قدس سره، وغيرهم.
 
 
 
 
 
 
10

4

بصر الهدى

 ألّف الكثير من الكتب، التي فُقد - للأسف - الكثير منها، حيث صودرت مصنّفاته في قم المقدّسة من قبل حكومة الشّاه المقبور، ولم يسلم منها سوى ما صنّفه في النّجف وبورسا، حيث جاءت بها تلك المرأة الصّالحة الّتي كانت تحظى بخدمتهم، وآثرتها على حوائجها الخاصّة.


ومن تلك المؤلّفات:
1- تحريرات في الأصول. 
2- مستند تحرير الوسيلة. 
3- تعليقات على الحكمة المتعالية. 
4- دروس الأعلام ونقدها. 
5- تفسير القرآن الكريم. 
إلى غيرها من المصنّفات والتّعليقات والحواشي.

لقد قضى الشّهيد السّعيد نحبه في ظروفٍ غامضةٍ عام 1356 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

5

بصر الهدى

 (هجري شمسي)، عن عمرٍ ناهز السّابعة والأربعين، بعد جهادٍ طويلٍ مع أعداء الدّين، والثّورة الإسلاميّة، وقف خلالها إلى جانب والده الكبير، مرافقاً له في رحلة الجهاد، وقد تعرّض فيها للسّجن والنّفي، وأخيرًا للشّهادة، ووُري الثّرى إلى جنب جدّه أمير المؤمنين وإمام المتّقين عليه السلام في النجف الأشرف.

 
فسلامٌ عليه يوم ولد، ويوم جاهد فاستشهد، ويوم يبعث حيًّا1.
 
 
الرحمة الإلهيّة
 
اِعلم: أن الرّحمة والرّأفة والعطف من جلوات* الأسماء الجماليّة الإلهيّة، وقد بسطها وأعطاها اللهُ تعالى الحيوان للمحافظة على الأنواع الحيوانيّة، والإنسان للمحافظة على النّظام الخاصّ البشري، وهذه الرّحمة من جلوات الرّحمة الرّحمانية،
 
 
 

1- استفدنا في ترجمته هذه من مقدّمة "كتاب تحريرات في الأصول" للمصنّف الشّهيد، تحقيق ونشر مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ قدس سره، قم المقدّسة.
 
 
 
 
 
 
 
 
12

 


6

بصر الهدى

 وتسمّى بالرّحمة الرّحيمية في وجه1، ويشترك فيها سائر الخلائق المجرّدة البرزخية والغيبية2 حفظاً لما هو تحت سلطانه. وأنت خبير: بأنّ هذه الرّحمة لو لم تكن في الحيوان والإنسان، لا يبقى الحيوان والإنسان، ولكانت الحياة الفرديّة والاجتماعيّة فشلة، ولاضمحلّت النّظامات الاجتماعيّة. وبالجملة: لا يبقى منها عين ولا أثر. فإنّ الحيوان لأجل تلك الرّحمة الموجودة في وجوده يتمكّن من تربية أولاده، ويتحمّل الزّحمات والمضادّات الوجوديّة والمشقّات الكثيرة، فبتلك الرّأفة والعطف تنجذب القلوب نحو الأولاد في الحيوان والإنسان، ولأجل هذه المحبّة والعشق الّذي هو من تجلّيات تلك الرّحمة، يتهيّأ لدفع المزاحمات الوجوديّة

  
 
 

1- للحقّ سبحانه وتعالى بحسب:  ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ شؤنات وتجلّيات، بذاته وأسمائه وصفاته، وهي بمعنى الظّهور والانكشاف.
الرّحمة الرّحمانية عبارةٌ عن إفاضة الوجود على الأشياء وإبقائها، وإكمالها بالكمالات اللّائقة بفطرتها. وهذا عامٌّ لجميع الأشياء.. وأمّا الرّحمة الرّحييّة فهي عبارةٌ عن إفاضة الكمالات الاختياريّة المرضيّة على المختارين من الإنس والجنّ.
2- التّجرّد البرزخيّ: هو التّجرّد النّاقص المرتبط بعالم المثال، والذي فيه آثار المادة ولواحقها دون المادة نفسها. وأمّا التّجرّد الغيبيّ: فهو التّجرّد التّام عن المادّة ولواحقها وآثارها ذاتًا وفعلًا.
 
 
 
 
 
 
 
 
13

7

بصر الهدى

 والأعداء وغير ذلك. وهذه الرّحمة والرّأفة هي الّتي تبعث الأنبياء والرّوحانيّين والعلماء والزّعماء إلى تحمّل المشاقّ وتقبّل المصائب في هداية البشر والإنسان إلى الحقائق، وفي إخراجهم من الظّلمات إلى النّور.


فبالجملة: هذه البارقة الإلهيّة- الّتي وجدت في الحيوان عموماً وفي الإنسان خصوصاً - مدار المجتمعات الصغيرة والكبيرة، وأساس النّظامات البلديّة والقطريّة والمملكتيّة وغير ذلك. 

فإذا كان الإنسان يجد في نفسه تلك الرّحمة بالنّسبة إلى أفراد نوعه وعائلته، فكيف بربّ العالمين الذي هو نفس حقيقة الرّحمة؟! ومن تلك الرّحمة خَلَقَ الخلائق وهَيَّأَ لهم الأسباب للرّاحة والاستراحة، وأوجد من تلك البارقة الملكوتيّة وأودع منها في النّفوس الحيوانيّة والبشريّة، متمنّياً أن يصرفها النّاس في محالّها، وتكون في ظلّها هذه الخلائق في الفرح والعيش. 

فهل يجوز لك أن لا تكون رحماناً ورحيماً بالخلق، الّذي هو إمّا 
 
 
 
 
 
 
 
14

8

بصر الهدى

 نظير لك في الدين أو شبيه لك في المخلوقية1، وهل يجوز لك أن تبيت ببطنةٍ2 وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ3، كلا وحاشا ما هكذا الظنّ بكم! فكونوا مماثلين للرّسول الأعظم الإلهيّ، فقد قال الله: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾4، وقد وصفه في الكتاب العزيز بأنّه ﴿إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾5. 

 
تجلّي الرّحمة بصورة الغضب: 
 
وغير خفيٍّ: أنّ من تجليّات تلك الرّحمة الإلهيّة ما هو في صورة الغضب والانتقام، وهو في الدنيا كجعل القوانين النّظاميّة
 
 
 
 

1- انظر: نهج البلاغة، صبحي الصالح، الرسائل، رقم 53.
2- البطنة: كثرة الأكل والسرف في الشبع.
3- القِدّ: بالكسر والتشديد، القطعة من الجلد غير المدبوغ.
4- سورة التوبة، الآية 128.
5- سورة الأنبياء، الآية 107.
 
 
 
 
 
 
15

9

بصر الهدى

 السّياسيّة, ولذلك قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ﴾1، وفي الآخرة كجعل النّار والميزان لتخليص الأفراد الأراذل من الخبائث والأنجاس النّفسانيّة, فإنّها من قبيل رفقاء السّوء وجلساء الذّموم في تنفّر الطباع عنها والاشمئزاز منها... وقد عُدَّ ذلك من الآلاء - على احتمال - في سورة الرحمن: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾2، ولعلّ هذا هو معنى قولهم: "سبقت رحمتُه غضبَه"، فإنّ غضبه من تجلّيات الرّحمة الإطلاقيّة الذّاتيّة.

 
الاتّصاف بالرّحمة
 
فعلى هذا يا عزيزي ويا أيّها القارئ الكريم، عليك بالجدّ والاجتهاد في الاتّصاف بهذه الصّفة الرّبوبيّة بالنّسبة إلى جميع الخلائق، وبخاصّة المؤمنين، وتدبّر في الحضرة الرّبوبيّة وما يصنع
  
 
 

1- سورة البقرة، الآية 179.
2- سورة الرحمن، الآيتان 35 - 36.
 
 
 
 
 
 
16

10

بصر الهدى

 بالعباد من العطف والرّأفة ومن اللّطف والمحبّة، مع تلك القدرة وذلك الغضب الّذي لا تقوم له السّماوات والأرض، فضلاً عنك أيّها الضّعيف المسجون في الدنيا والمحبوس في الطبيعة، عليك أن تجتهد في اكتساب الأخلاق الفاضلة، والتخلّق بالفضائل النّفسانية والتّشبّه بالإنسان الكامل، فتكون رحمةً لعالمك، إن لم تتمكّن من أن تكون رحمةً للعالمين، فتدبّر فيما حكى القرآن عن حدود رأفة الرّسول الإلهيّ الأعظم في سورة الشعراء: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾1 وفي سورة الكهف: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾2.

 
سبحان الله، ما أعظم شأنه صلى الله عليه وآله وسلم! فإنّه يتأسّف على حال الكفّار والجاحدين، ولقد بلغت مودّته ومحبّته في إيصال العباد إلى الدّار الآخرة وإلى السّعادة العظمى إلى حدّ أخذ ربّ العالمين في تسليته
  
 
 

1- سورة الشعراء، الآية 3.
2- سورة الكهف، الآية 6.
 
 
 
 
 
 
 
 
17

11

بصر الهدى

 وتسكينه عمّا يقع في قلبه الشريف، حذرًا من هلاكه وخوفًا من تقطّع قلبه وروحه.

 
فيا أيّها الأخ الكريم والعبد الأثيم، إن اتّصفت بالرّحمة الإلهيّة وتصوّرت بصورة تلك البارقة الملكوتيّة، فمرحبًا بك ونعيمًا لك. وإن تمثّلت بمثال الرّحمة المحمّديّة، وتنوّرت بنور وجوده الّذي هو رحمةٌ للعالمين، فبشرى لك، وإذا كنت عاجزًا عن ذاك وذا، فلا أقلّ من الاجتهاد في سبيل الشركة مع المؤمنين السابقين، المحشورين مع النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والأمير عليه السلام، الّذين وصفهم الله تعالى في الكتاب في سورة الفتح: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾1.
 
الرحمة في الرّوايات
وقد ورد في الآثار المرتضويّة والأخبار الجعفريّة الأحاديث الكثيرة، المتضمّنة لهذه الصّفة، ولا بأس بالإشارة إلى بعضٍ منها:
 
 
 

1- سورة الفتح، الآية 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
18

12

بصر الهدى

 1- قد أخرج الكلينيّ بإسناده عن الصادق عليه السلام أنّه كان يقول لأصحابه: "اتقوا الله وكونوا إخوة بررة، متحابّين في الله، متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه"1.

 
2- وبإسناده عنه عليه السلام، قال: "يحقّ على المسلمين الاجتهاد في التّواصل، والتّعاون على التّعاطف، والمواساة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض، حتّى تكونوا كما أمر الله عزّ وجلّ: ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾2 متراحمين، مغتمّين لما غاب عنكم من أمرهم، على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"3.
 
3- وعن "مجالس" الطوسي- قدس سره القدّوسيّ- عن عليٍّ عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله عزّ وجلّ رحيمٌ، يحبّ كلّ رحيمٍ"4.
  
 
 

1- الكليني، الكافي ج 2 ، ص 140.
2- سورة الفتح، الآية 29.
3- الكليني، الكافي ج 2 ، ص 140.
4- الطوسي، الأمالي ص 516.
 
 
 
 
 
 
19

13

بصر الهدى

 4- وعن العلّامة الحلّيّ في "المستدرك" في "الرّسالة السّعديّة" عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "والّذي نفس محمّدٍ بيده، لا يضع الله الرّحمة إلا على رحيم"، قالوا: يا رسول الله، كلّنا رحيمٌ؟ قال: "ليس الّذي يرحم نفسه وأهله خاصّة، ولكن الّذي يرحم المسلمين" وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "قال تعالى: إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا"1.

 
5- وعن "الجعفريّات" عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من لا يرحم النّاس، لا يرحمه الله"2
 
6- وعن "عوالي اللّآلي" عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "الرّاحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض، يرحمكم مَنْ في السّماء"3.
  
 
 

1- الرّسالة السّعديّة، ص 165. الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 2، ص 95. كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 107، الحديث 3.
2- الجعفريّات، ص 167. الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 2، ص 95. كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 107، الحديث 4.
3- عوالي اللآلي، ج 1، ص 361، الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 2، ص 95، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 107، الحديث 8.
 
 
 
 
 
 
20

14

بصر الهدى

 فالملاطفة من جنود الرّحمن، ولا تختصّ بكون طرفها الإنسان أو الحيوان، بل تشمل كلّ شيءٍ حتّى النّباتات.


فيا قرّة عيني المحترم، ويا رفيقي وصديقي، أفلا تتدبّر في الكتاب العزيز، حيث كرَّر البسملة فيها، واستدركها في سورة النمل، لِمَا فات في سورة التوبة، فهل تحتمل أن لا يكون في هذا التّكرير غرضٌ أعلى ومقصدٌ أجلى، وهو سوق البشر إلى اتّباع هذه الجلوات، وبعث النّاس إلى جعل هذا البرنامج دستور عمله ووجهة فكره، فكن في دنياك باذلاً عمرك في نجاة عائلتك من تبعات أعمالهم، وجنّبهم عما يتوجّه إليهم من العقوبات الشّديدة، والعذاب الأليم في البرزخ والقيامة، ولا تكن كالمعطّلين الوجود والبهيمة أو أضلّ، فاهتمّ بأمر أخيك المسلم، ولا تكن من الغافلين عن أمرٍ بديعٍ، وهو: أنّ أرباب الرّحمة وأصحاب الرّأفة والعطوفة، ربّما يصدر منهم الخشونة والغضب، ولكنّه - أيضاً - رحمةٌ بالنّسبة إلى النّوع، وغضبٌ بالنّسبة إلى الفرد، خيرٌ بالقياس إلى النّظام 
 
 
 
 
 
 
 
21

15

بصر الهدى

 الكلّيّ، وشرٌّ بالقياس إلى الآحاد الفانية في الاجتماع، وربّما يكون رحمةً بالنّسبة إليهم. وأيضاً لما أشير إليه: أنّ في ذلك نجاةً من البلاء العظيم، وهو الابتلاء بالنّار، وتبعات الأفعال والصفات في النّشآت الآتية. 

 
فيا عزيزي ويا محبوبي، كفاك هذا نصحاً، وكفى هذا الفقير المشتاق إلى رحمة ربّه ذكراً، فنرجو الله تعالى أن يوفّقنا لمرضاته، ويهدينا إلى السّعادة الأبديّة، فإنّه خير موفقٍ ومعينٍ1.
 
 
الانقطاع إلى الله تعالى
 
اعلم يا أخي ويا صديقي العزيز الكريم: أنّه عليك أن تجتهد فيما هو المقصود الأعلى، والغاية القصوى، والمسلك الأحلى، والمشرب الأشهى، وهو: "صيرورة الإنسان عالماً عقليّاً مضاهياً للعالم العينيّ"2,
  
 
 

1- الخمينيّ الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 1، ص 239- 246.
2- وهذا هو المسمّى بالحكمة النّظريّة والعلميّة, بأن يكون عالماً بمبدأ الوجود ومنتهاه/ وسرّ الخلقة وسائر ما ذكره الحكماء، من أقسام العلوم النّظريّة والعلميّة. كأنه اجتمع ما في الوجود في نفسه بوجود عقليّ.
 
 
 
 
 
 
 
22

16

بصر الهدى

 برفض الرذائل وكدورات المادّة والمدّة، وجلب الفضائل, بالسّعي فيما هو دستور الشرع الإسلاميّ والمذهب الإيمانيّ، والجدّ في العمل بتعاليم الله وقوانينه العمليّة الجوارحيّة والجوانحيّة1، فإذا شهدت أنّ الله تبارك وتعالى قد أنعم عليك النّعم الظّاهرة والباطنة، وأعطاك الآلاء الكثيرة الخفيّة والجليّة، وهيّأ لك أسباب الرّقاء والوصول إلى دار البقاء, بإبلاغ الكتب السماويّة وإرسال الرّسل الملكوتيّة، وأعدّ لك ما تحتاج إليه في المعيشة الدنيويّة, بالنّظام التّامّ وفوق التمام، فعليك أن توجّه إليه حمدك، وأن تقطعه عن الغير، وتنقطع إليه انقطاعاً كلّيّاً تامّاً، فتكون في جميع اللّحظات والحركات والساعات والآنات متوجّهاً إلى حضرته، حامداً شاكراً، مثنياً مادحاً بجميع الأعضاء والأفعال، وتطبيق جميع الحركات على النّظام الشّرعيّ الّذي جاء به النّبيّ الأكرم، والرّسول الختميّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

 
فهل وجدانك يقتضي أن تعصيه وتخالفه بما أنعم عليك من 
  
 
 

1- الجوارحيّة: أي المرتبطة بالظاهر، والجوانحيّة أي المرتبطة بالباطن.
 
 
 
 
 
 
 
23

17

بصر الهدى

 القوى؟ ففي محضره الرّبوبيّ، هل ترضى أن تصرف قدرته وإرادته وحكمته فيما لا يرضى به، وينهى عنه؟! نعوذ بالله السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم.

 
فلا تكن أيّها العزيز قانعاً بهذه الاصطلاحات الباردة، وتلك التخيّلات، التي ربما تكون باطلة وعاطلة، بل عليك صرف عمرك الشّريف في حمده القلبيّ واللّسانيّ والحاليّ والفعليّ، فتكون بحسب القلب حامداً إيّاه، وراضياً بما يصنعه، ومسلّماً لأمره، محبّاً لمعروفه، مبغضاً لمنكره، فتجاهد الجهاد الأكبر، فتكون شهيداً، أو في حكم الشهيد، ثواباً، فتشملك الرّوايات الواردة في ثواب الشّهداء1، فإذا كنت هكذا، وصرت من أهل الحال، لتستحقّ المواهب الإلهيّة، والواردات القلبيّة، وترث الجنّة الّتي يرثها عباده الصالحون، بسبب العمل الصّالح، وتزكية القلوب القاسية، وعلامة ذلك الشّوق إلى الإنابة والتّوبة، فإنّها أوّل قدم 
  
 
 

1- راجع: وسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي، ج 109، ص11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 1، الحديث 19 -23.
 
 
 
 
 
 
24

18

بصر الهدى

 العبد في الدّخول إلى دار الرّبّ، والوصول إلى حلاوة القرب، فيا الله، انزع ما في قلوبنا من غلّ، حتّى نكون صالحين للجلوس على مأدبتك، وأذقنا الّلهم طعمَ عفوك، وحلاوةَ مغفرتك ورحمتك، حتّى نخرج من غياهب1 الذّل، جلباب الكفر والنّفاق، وإليك يا ربّ المشتكى.

 
حقيقة الحمد
وقد حكي عن بعض أهل السِّيَر: أنّ الحمد على ثلاثة أوجهٍ: أوّلها: إذا أعطاك الله شيئاً تعرف من أعطاك، والثّاني: أن ترضى بما أعطاك، والثّالث: ألّا تعصيه ما دامت قوّته في جسدك.
 
وعن السِّقطي2 في ذكر أنّ للحمد موضعاً خاصّاً، وإلا لم يحصل المقصود، أنّه قيل له: كيف يجب الإتيان بالطّاعة؟ قال:
  
 
 

1- الغياهب: جمع غيهب وهي الظلمة وشدّة السواد.
2- هو السري أبو الحسن بن مغلّس السقطي خال الجنيد وأستاذه توفي سنة 257.
 
 
 
 
 
 
 
25

19

بصر الهدى

 أنا منذ ثلاثين سنةً أستغفر الله على قولي مرّةً واحدةً: الحمد لله، فقيل كيف ذلك؟ قال: وقع حريقٌ في بغداد، واحترقت الدّكاكين والدّور، فأخبروني أنّ دكّاني لم يحترق، فقلت: الحمد لله، وكان معناه أنّي فرحت ببقاء دكّاني حال احتراق دكاكين النّاس، وكان حقّ الدين والمروّة أن لا أفرح بذلك1. انتهى.

 
ولست أبحث عن صحّة هذه المقالة وعدمها، ولكن أجد في نفسي أنّ الإنسان ذو نفسٍ خدّاعةٍ مكّارةٍ دقيقةٍ رفيقةٍ مع الشّيطان الرّجيم، وتكون غاية همّها سوق الإنسان إلى ذلك الرّفيق الخبيث، فكثيراً ما يشهد الإنسان مأدبةً جامعةً لشتات الأغذية، فيأكل ولا يذكر الله تعالى حتّى مرّةً واحدةً، وإذا اتّفق له في يومٍ، ما لا يرضي به شهوته وطمعه لقلّته ورداءته، يذكر الله تعالى على هذه المائدة، ويحمده كثيراً، غافلاً عن أنّ هذا التّحميد والشّكر مشتملٌ على نوعٍ من الكفر والإلحاد، وعدم الرضا بما أعطاه الله تبارك وتعالى،
  
 


1- الفخر الرازي: التفسير الكبير، ج 1، ص 224.
 
 
 
 
 
 
26

20

بصر الهدى

 ويريد أن يطفئ نار غضبه الباطنيّ بالحمد اللّساني، فنعوذ به تعالى من شرّ الأعداء..1.

 
التّفكّر في النّعم الإلهيّة
يا أخا الحقيقة ويا عزيزي، لا تغترّ بما في هذه الصحائف من الدّقائق والحقائق، ولا تقنع بدرك الكليّات والرّقائق، فتصير حمّال معانٍ ومركب لطائف، ولا تكتف بالحجب والأستار من بين الأخبار والآثار، بل عليك أن تتدبّر في الرّبّ الّذي يربيك، ما أنعم عليك، وما يصرفه في توجيه اللّطف إليك. والعلوم والفنون والفضائل والمسائل الفكرية ظلمات، فيما إذا لم تكن أثّرت في قلبك، ولا حَصَلْتَ بها على الأنوار والفضائل الأخلاقيّة، وتصير وبالاً عليك في جميع النّشآت الآتية، فكن متعوّذاً بالله تعالى فيها من شرّ هذه التّبعات، ومن آثار هذه المعلومات والصّور، فإنّ العلم حجابٌ أكبر، ونورٌ يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء. فعلى هذا النّموذج 
  
 
 

1- الخمينيّ الشّهيد السّيّد مصطفى: تفسير القرآن الكريم ،ج 1 ، ص 325- 328.
 
 
 
 
 
 
 
27

21

بصر الهدى

 والبرنامج القصير تأمّل في أسباب تربيتك، وأنّك كنت قطرةً من النّطفة الرّذيلة النّجسة من صلب الأب، فانتقلت إلى رحم الأمّ، فانظر كيف صارت علقةً أوّلاً، ثمّ مضغةً ثانياً، ثمّ تولَّدَتْ بعد ذلك منها الأعضاء المختلفة، والعظام المنتظمة، والغضاريف والرّباطات والأوتار والأوردة والشّرايين، على نظامٍ خاصٍ متينٍ لا ينحلّ، ثمّ حصلت في كلّ واحدٍ من تلك المكامن والأعضاء، أنواع القوى البصريّة والسّمعية والشّمّية والذّوقيّة واللّمسيّة، ثمّ حصل لك في ثدي الأمّ أحسن الأشياء رقّة وخاصّة يناسب حالك، وهو اللّبن اللّطيف اللّذيذ للشّاربين، ثمّ أعطف - تعالى وتقدّس - عواطف الأمّهات والآباء عليك، وجعلك في خبايا قلوبهم، وزوايا نفوسهم، مورد الحبّ والشّوق والعشق، حفظاً لك ممَّا يتوجّه إليك، ودافع عنك المضارّ والمضادّات الوجوديّة البالغة إلى ملايين عدداً بل نوعاً، وانظر إلى ما خلقه وهيّأه لتربيتك البدنيّة، من الأغذية والأشربة المختلفة الأنواع المتشابهة وغير المتشابهة، وأنّه تعالى كيف لاحظ في ذلك تسهيل الأمور

 

 

 

 

28


22

بصر الهدى

 عليك، وكيف لطف بك وفي حقّك، من بذل هذه الأنعم والآلاء غير القابلة للإحصاء، فإذا تفكّرت ساعة، وتأمّلت دقيقة من هذه الناحية، - وهي النّشأة المادية - فاعطف وجهك ونظرك إلى المسائل الرّوحيّة، والآداب الأخلاقية، والاعتقادات الرّوحانيّة, فإنّه تعالى وتقدّس، عالمٌ بالأسرار والعوالم، يرى حاجتك في سائر الآفاق والظّروف، فيهيّئ الأسباب المورثة لخلاصك من الآفات والبلايا، الّتي في جنبها تلك البلايا الدّنيويّة ضئيلةٌ جدّاً ويسيرةٌ واقعاً. فأرسل الرّسل وأنزل الكتب، وقد تحمّل في ذلك الرّسل المعظّمون والأنبياء الشامخون، مصائب كثيرةً لا تعدَّ ولا تحصى، وقد امتلأت كتب التّاريخ من تلك الرّزايا المتوجّهة إليهم- عليهم الصلاة والسلام -، حتّى حكي عن رسولنا الأعظم أنّه قال: "ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت"1.

 
 
 

1- الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير 2، 144. بحار الأنوار، ج 39 ، ص 56، تاريخ أمير المؤمنين عليه السلام، الباب 73.
 
 
 
 
 
 
 
29

23

بصر الهدى

 النعم طرق الوصول إلى الله تعالى

وما كان ذلك كلّه إلا صيانةً لك عن تبعات الأعمال الرّذيلة في البرزخ والقيامة، فهُم أطباء النّفوس، مبعوثون لهداية البشر وتربيته، وإخراجه من النّقص إلى الكمال، فإذا كنت من أهل البصيرة والفكر، وتوجّهت إلى هذه الجهات والنّواحي والفواحي، أفلا يحصل في نفسك لهذا الوجود العظيم ولهذا الكريم الكريم، الرحمن الرحيم، حبٌّ وشوقٌ وعشقٌ؟! فإن لم تكن كذلك، فالموت لك خيرٌ، ولنعم ما قال عزَّ من قائلٍ: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ 1. وإن وجدت في قلبك له عشقاً وشوقاً فعليك بازدياده، حتّى لا يبقى في قلبك لغيره شيءٌ، أفيحسن بالإنسان الملتفت المتوجه إلى أطراف القضايا أن تعلق نفسه بغير الرّبّ العزيز، الّذي قيل في حقّه: إنّه تعالى يملك عباداً غيرك، وأنت ليس لك ربٌّ سواه، ثمّ إنّك تتساهل في خدمته والقيام في وظائف طاعته، كأنّ لك ربّاً بل أرباباً غيره، وهو سبحانه يعتني بتربيتك حتّى 
  
 
 

1- سورة الفرقان، الآية 44.
 
 
 
 
 
 
 
30

24

بصر الهدى

 كأنّه لا عبد له سواك، فسبحانه ما أعظم رحمته وأتمّ تربيته! فعلى ما تقرّر وتحرّر، وإلى نصاب البرهان والشّهود بلغ ووصل، فلا تماطل في القيام بما أراد منك، ولا تكن من العاصين المتمرّدين على أوامره ونواهيه، واجتهد في أن يصير وجودك مرهون مقاصده، ومن أهمّ طلباته تعالى، القيام والاهتمام بأمور المسلمين، وهداية البشر إلى الطّريق المستقيم، فكن مظهر الاسم "الرّبّ" في توجيه النّاس إلى الآخرة، وفي تصغير الدّنيا في نفوسهم، وفي تعظيم الدّيانة في قلوبهم. والله هو المعين والمستعان1.

 
مالك يوم الدين
إذا بلغت القراءة إلى ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، فإن كان القلب مذعناً لتلك المواقف والعقبات، ومعتقداً بتلك الأيّام والسّاعات، ومتوجّهاً إلى تبعات الأقوال والأعمال، فترتعد منها عظامه،
  
 
 
 

1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى: تفسير القرآن الكريم، ج 1 ، ص 389 -392.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

25

بصر الهدى

وترتعش منها أفئدة القارئين، وإذا كان عالماً بأنّه تعالى لا يقول لغواً ولا شططاً ولا غلطاً، ولا يكون مستهزئاً ولا ممازحاً، بل كلماته كلّها صادقةٌ تطابق الواقعيّات، وهو بريءٌ من الأباطيل والأكاذيب، فيتحرّك نحو الفرار عن المعاصي والعمل بالطّاعات، ويتحلّى بحلية الأخلاق الحسنة، ويتجلّى بجلباب السّعادة، ويخلع ألبسة الشّقاق والشّقاوة، ويرتقي بأسباب العزّة والإسلام إلى الملكوت الأعلى ومقام (أو أدنى).
 
فإيّاك يا أخي الأعزّ، ويا حبيبي وعزيزي، أن تكتفي بالقراءات وآدابها الأدبيّة والتّجويديّة، وعليك بالجدّ والاجتهاد، والسّعي إلى التّخلّق بأخلاق الله، حتى تسمع الآية من قائلها، وتصدر من حقيقتك ورقيقتك، فتكون-بإذن الله تعالى- مماثلاً للملكوتييّن في النّاسوت السّفلي1، ومشابهاً للعلوييّن في هذه الطّبيعة الظّلماء، وليكن تمام السّعي والجدّ في أن تكون أنت مظهر هذا
  
 
 

1- وهو عالم الملك، وآخر سلسلة النّزول.
 
 
 
 
 
 
 
32

26

بصر الهدى

 الاسم في ناحية من نواحي تلك النّشأة الكبرى، وفي ذلك اليوم الذي تخشى فيه القلوب وتبلغ لديه الحناجر. ولا يتمكّن من هذا المقام المنيع والمحل الرفيع، إلا بعد رفض الشيطان الرّجيم حقيقةً وواقعاً، لا تخيّلاً وتقوّلاً، فإن هذا من الأطباق الشّديدة الفخمة، لا يقتدر على هدمها إلا الأوحديّ.


من مواقف يوم القيامة
فقد روي في "الكافي"، بإسناده عن سيّد العابدين عليه السلام، فقال: "حدّثني أبي أنّه سمع أباه علي بن أبي طالب عليه السلام، يحدّث النّاس، قال: "إذا كان يوم القيامة، بعث الله تبارك وتعالى النّاس من حفرهم جرداً مرداً في صعيدٍ واحدٍ، يسوقهم النّور وتجمعهم الظلمة، حتّى يقفوا على عقبة المحشر، فيركب بعضهم بعضاً، ويزدحمون عليها دونها، فيمنعون من المضيّ، فيشتدّ أنفاسهم، ويكثر عرقهم، وتضيق بهم أمورهم، ويشتدّ ضجيجهم، وترتفع أصواتهم"، فقال: هو أوّل هولٍ من أهوال القيامة، قال: فيشرف الجبّار تبارك 
 
 
 
 
 
 
 
33

27

بصر الهدى

 وتعالى عليهم، من فوق عرشه في ظلال من الملائكة، فيأمر ملكاً من الملائكة، فينادي فيهم: يا معشر الخلائق، أنصتوا واستمعوا منادي الجبّار، قال: فيسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم، قال: فتنكسر أصواتهم عند ذلك، وتخشع أبصارهم، وتضطّرب فرائصهم، وتفزع قلوبهم، ويرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصّوت، ﴿مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ﴾، قال: فعند ذلك يقول الكافر: ﴿هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾1 قال: فيشرف الجبّار- تعالى ذكره - الحكم العدل عليهم، فيقول: أنا الله الذي لا إله إلا أنا الحكم العدل الذي لا يجور، اليوم أحكم بينكم بعدلي وقسطي، لا يُظلم اليوم عندي أحدٌ، آخذ للضّعيف من القويّ بحقّه، ولصاحب المظلمة بالمظلمة، بالقصاص من الحسنات والسّيّئات وأثيب على الهبات، ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالمٌ، ولا أحدٌ عنده مظلمةٌ، إلا مظلمةً وهبها صاحبها، وأثيبه عليها، وآخذ له بها عند الحساب..." إلى آخر الحديث الشّريف الطّويل2.

 
 
 

1- سورة القمر، الآية 8.
2- الكليني، الكافي، ج 1، ص 150.
 
 
 
 
 
 
 
34

28

بصر الهدى

 قراءة العارفين

أقول: في أهوال القيامة وأحوالها وشدائدها وكيفية العذاب والعقاب، أخبارٌ كثيرة1، لا يناسبها المقام، وإنما المقصود بالأصالة الإيماء والإشارة إلى بعض الجهات الواردة على بعض أهل الإيمان، وإلى أنّ مجرّد قراءة ?مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ? غير جائزٍ عند أرباب اليقين، بل لا بدّ وأن تكون القراءة مشفوعةً بالحالات والآثار، فيكون ناظراً من أوّل الشّروع فيها، ومتفكّراً في التّذكّر بها، إلى أن يكون من أصحاب اليمين من المتّقين، في استجلاب الصّفات الحسنة التي بها تصير الذّات محسنةً وكاملةً ومستكفيةً عن غير الله تعالى، فتكون خائفةً من الله، ومن عقوبته يوم الدّين، وشدائده، وأهواله، وحياء العرض على مالكه، فإنّ ذلك أمرٌ عظيمٌ جداً، والافتضاح على رؤوس الأشهاد.
  
 
 

1- راجع بحار الأنوار ، ج 7، كتاب العدل والمعاد، أبواب المعاد، الباب 3 9.
 
 
 
 
 
 
35

29

بصر الهدى

 ومن ذلك ما روي من غشية الصّادق عليه السلام، عند تكرار ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾1، وما روي عن السّجاد عليه السلام: أنّه إذا قرأه يكرّره حتّى كاد أن يموت2.

 
وبالجملة: للعارفين عند ذكر أسماء الله تعالى، حالاتٌ سنيّةٌ، ولذّاتٌ فاخرةٌ، وتفرّجاتٌ عاليةٌ في متنزّهات دار الجلال، وتأنّساتٌ ناعمةٌ من تجلّيّات أنوار صفات الجمال في دار الوصال.
 
وبالجملة، بعد التّوجه إلى الله تعالى، وربوبيّته، ورحمته الرّحمانية والرّحيميّة ومالكيّته، يسير في هذه الأسماء في جميع العوالم، من مبدئها إلى منتهاها، ويتفرّج بالتّدبّر في مالكيّته ليوم العقوبة والدّين في تفاصيل عوالم القيامة، ويتوجّه إلى أنّ جميع صفاته الجلاليّة فانيّة في الجماليّة، وفي الخبر: "قد سبقت رحمتُه
  
 
 
 

1- انظر: ابن طاووس، فلاح السائل، ص 107، و الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء، ج 1، ص 352.
2- الكليني، الكافي، ج 2 ، ص 440.
 
 
 
 
 
 
 
36

30

بصر الهدى

 غضبَه"1، فلا يكون للعارف الكامل خوفٌ من ناره وجحيمه، بل خوفه من نار فراقه وطول عكوفه عليه، فإذا وصل نوبة قراءته إلى ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، تفزع وتضطّربُ جميع أعضائه ومراتبه، حتّى يغشى عليه، ولكنّه طليعة تضمحل بظهور جلوات رحمته ورأفته ولطفه ومحبته2.

 
العبادة الخالصة
اعلم يا أخا الحقيقة ويا قرّة عيني العزيز، أنّك إذا تأمّلت بعين الإنصاف، وحسن البصيرة، أنّ الّذي تصدّى لتربيتك، والّذي خلقك، وأحسن خلقك، وأرسل إليك الأسباب الباطنيّة والظاهريّة، لإخراجك من الظّلمات إلى النّور، ومن الأدناس للتخلّق بأخلاقه، إنّه هو الرّحمن الرّحيم بجميع الخلائق والعوالم، وإنّه ربّ العالَمين، الغيب والشهود، وإنّه مالك يوم الدّين في الدّنيا 
  
 
 

1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 1، ص 454- 457.
 
 
 
 
 
 
 
37

31

بصر الهدى

 والآخرة، وإنّ بيده كلّ شيءٍ، وإليه يرجع كلّ شيءٍ، وإنّه الكمال كلّه وكلّه الكمال، والجمال كلّه وكلّه الجمال، ولا كمال ولا جمال إلا كماله وجماله. فعندما تيقّنت بذلك، وبلغت إلى شهوده في تلك المراحل والمنازل، فهل تقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ كذباً وافتراءً؟!، ولتكن في حذرٍ من ذلك، فعليك بالاجتهاد والجدّ في الوصول إلى غاية المأمول لأصحاب العقول والإيقان، ولأرباب الشّهود والعرفان، وهو أن تقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ خالصاً، ولا شيء وراءه في هذه العبادة والطّاعة في جميع الحلقات المحيطة بها، ولا تخطر في قلبك من أحدٍ شيئاً، ولا تخاف من غير العزيز الجبّار، المنطوي في جبروته مالكيّة غيره، وقاهريّة سواه، فبعد الإقرار والاعتراف بتلك الحقائق والرّقائق، وبعد الإذعان بأنّ ربّ السّماوات العلى والأرضين السّفلى، هو الحميد الغنيّ، وهو المالك، وهو الرّحمن الرّحيم، فلا يجوز في شرع الحقيقة والعرفان اشراك غيره في عبادته بأيّ وجهٍ كانت الشّركة، وهكذا الاستعانة بغيره، بل يرى

 
 
 
 
 
 
 
 
38

32

بصر الهدى

 في هذا الموقف أنّه لا يتمكّن الفقير من إعانة الفقير، والممكن من إعانة الممكن. فإذا وصل القارئ السّالك إلى هذا المقام، وهو مقام الجمع بين الغيب والشّهود، ومقام الأنس مع الرّبّ الودود، فيترنّم بقوله:

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ حاصراً ذلك فيه، وإن لم يكن التّقديم للحصر، ولكنّه يجب عليه إرادة الحصر وقصد الانحصار، بل العبد السّالك الفاني عن تعيّنات المادّة، وحدود الشّهوات والمدّة، لا بدّ وأن يسعى في المقامات الأخر الخاصّة بالعارفين بالله، والكاملين في ذات الله، والمخلصين في توحيد الله، وكلّ ذلك رشحٌ من رشحات معرفته بالله في التّوحيدات الثّلاثة، التّوحيد الذاتيّ والصّفاتيّ والأفعاليّ، فإنّ التوحيد في العبادة ظلّ هذه التّوحيدات وصورة تلك الوحدات، وعليك بالتّجريد والتّفريد1 أوّلاً وبالشّهود
  
 
 
 

1- وذلك بتطهير القلب من شواغل الدنيا وعلائقها، والتّبتّل والانقطاع إلى الله تعالى؛ بالذكر والتفكّر، ثمّ إخراج حبّ غير الله تعالى من القلب، قال تعالى: ﴿قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ (الأنعام: 91).
 
 
 
 
 
 
39

33

بصر الهدى

 والعرفان ثانياً، حتّى يتمكّن العبد من توحيده في العبادة على الوجه اللّائق به، وإن حكي عن سيّد البشر صلى الله عليه وآله وسلم: "أنت كما أثنيت على نفسك، ما عبدناك حقّ عبوديتك، وما عرفناك حقّ معرفتك"1.

 
ظهور العبوديّة في نشآت العبد
فإذا وصلت إلى هذا المقام، يظهر لك أنّ للعبوديّة ظهوراً في جميع العوالم، وفي مختلف نشآت العبد، من نشأة العقل والروح إلى القلب والطّبع، ومن رأسه إلى قدمه، وفي جميع حركاته وسكناته. ولعلّ إلى بعض هذه الدّرجات أشير في حديث عنوان البصريّ، قال "وهو أن لا يرى العبد لنفسه فيما خولّه الله ملكاً، لأنَّ العبيد لا يكون لهم ملكٌ، بل يرون المال مال الله، يضعونه حيث أمر الله، وأن لا يدبّر لنفسه تدبيراً، وأن يكون جملة اشتغاله بما أمره الله تعالى به، ونهاه عنه، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خولّه الله تعالى ملكاً، هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق 
  
 
 

1- انظر: المجلسي، بحار الأنوار، ج 68 ، ص 23.
 
 
 
 
 
 
 
40

34

بصر الهدى

 فيه، وإذا فوَّض العبد تدبير نفسه إلى مدبّره، هانت عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد فيما أمره الله تعالى ونهاه، لا يتفرّغ منهما إلى المراء والمباهاة مع النّاس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثّلاث هانت عليه الدنيا والرئاسة والخلق، ولا يطلب الدّنيا تفاخراً وتكاثراً، ولا يطلب ما عند الناس عزاً وعلواً، ولا يدع أيامه باطلاً، فهذا أوّل درجة المتّقين"1 الحديث.

 
فبالجملة: أن يرى العبد نفسه وجميع العالمين من جميع الجهات، فقراء إلى الله الغني عن الكلّ، من كلّ الجهات، فإذاً يوجّه خطابه إلى الذّات، ويرى أنّ هذا الخطاب من الإمدادات الغيبيّة، ومن التوّفيقات الإلهيّة، ومن الإعانات الرّبّانيّة، فعند ذلك كيف يرتضي بالتّشريك في العبادة، وبالرّياء والسّمعة، وغير ذلك من الأمراض النّوعيّة القلبيّة؟! أعاذنا الله تعالى من شرورها بمحمّدٍ وآله الطّاهرين2.
  
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، ج 1 ، ص 224- 225.
2- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم ،ج 2 ، ص 58- 60.
 
 
 
 
 
 
 
41

35

بصر الهدى

 الجدّ والاجتهاد في السّير والسّلوك

 

يا أيّها القارئ الكريم، ويا أيّها السّالك المفتاق إلى الرّبّ الرّحيم.. لا بدّ من الجهد والاجتهاد في التطرّق وسلوك هذا الصّراط المستقيم، والوصول إلى دار الخلد ونعيم الأزل، بالسّير في الدّرجات المختلفة من الهداية، والفوز بالدّرجة العليا منها، ورفض الهدايات الحيوانيّة والبهيميّة والبدويّة، وكسب الهداية التّامة العادلة، بالقيام بالوظائف الشّرعيّة في مقام الظّاهر، والاجتهاد في الرّياضات النّفسانيّة في مقام الباطن، فيحافظ على الأحكام القلبيّة والقالبيّة في مقام العمل، ولا يكتفي بهذه العناوين والوهميّات والذوقيّات، فإنّ وراء ذلك كلّه الخير، وإلا فتلك هي الشّرور التي تلزمك وتحشر معك، وتعانقك في البرازخ إلى القيامة الكبرى والعظمى، فنعوذ بالله الجميل من هذه الصّور المؤذية، وتلك المقارنات غير الملائمة. 
 
فيا أيّها الأخ العزيز، لا تتوهّم أنّ كاتب هذه الحروف تجاوز عن 
 
 
 
 
 
 
 
42

36

بصر الهدى

 حدّ الحيوانيّة إلى الإنسانيّة، فضلاً عن السّير في مراتبها العالية، ولا تغترّ بما في هذه الصّحف، والغرور من مكايد إبليس، بل عليك الاغترار- إذا جاز- إذا تجاوزت عن المكائد النّفسانيّة، بل والقيود القلبيّة، ورأيت الشّاهد الحقيقيّ على صراط الإنسانيّة المستقيم، وما ذلك إلا بأن تكون في جميع الحالات مقيّداً بقيود الدّيانة والشّرع، وأن تواظب في جميع الأحوال والأزمان على الأحكام الجائيّة من قبل خير الأنام- عليه وآله الصّلاة والسّلام - وتكون قواك الظّاهريّة والباطنيّة في القيام والخدمة لربّ العالمين، فلئن صبرت على هذه المصائب، وتلك المعضلات والموانع الموجودة في الطّريق، وقلعت باب الحقّ للوصول إلى آخر السّفرة، فهو المطلوب والمقصود، وهو المأمول والمسؤول، وإلا فستبقى في جحيم الطّبيعة والطّبقة الدّنيّة، وتحشر يوم القيامة في زمرة الحيوانات والبهيمة، وتنشر بحكم ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾1 أعاذنا الله تعالى من شرّ ذلك اليوم، ووقانا حسابه. 

  
 

1- سورة التكوير، الآية 5.
 
 
 
 
 
 
43

37

بصر الهدى

 فيا إلهي ويا سيّدي، اهدنا الصّراط المستقيم إلى حقيقتك ونفسك، فاهدنا سواء السبيل إلى رحمتك ورأفتك، ثبّتنا على الطّريقة الموصلة إليك وإلى أنسك ولقائك، فإنّي وإن أكن صفر اليد، وفي الأغلال والسّجون الظّلمانيّة الغضبيّة والشهويّة والشّيطانيّة، ولكنّني أحبّ التّخلّص منها، وأعشق الوصول إلى حضرتك بربوبيّتك من غير جدٍّ واجتهادٍ، تخيّلاً أنّ رحمتك ورأفتك تأخذني، وظنّاً بك وبحسن عشرتك بنا وللخلق أجمعين، فإنّ من وظائف العبوديّة حسن الظّنّ بالله العظيم، فإن اهتدينا بهدايتك فهو، وإلا فنحن إلى الهاوية، وهي أهون من لقاء أمثال (بعضهم) في تلك الباقية الخالدة، فمن جانب محرومٌ من الأنس بك وبأوليائك، ومن ناحيةٍ معذّبون بأنواع تعذيبك، ومن الثالثة- وهي أشدّ من الأوليين- الحشر مع أعدائك والخبثاء من خلقك، فيا الله خذ بناصيتنا واهدنا الصّراط السّويّ لقولك: ﴿مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾1. 2.

  

1- سورة هود، الآية 56.
2- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم ، ج 2 ، ص 135- 136.
 
 
 
 
 
 
44

38

بصر الهدى

 ضرورة تهذيب النّفس

اعلم أيّها الأخ الكريم والقارئ العزيز: أنّ النّعم الإلهيّة المتناهية نوعاً وصنفاً، وغير المتناهية شخصاً، التي استولت عليك من الجوانب الشّتّى، ومن النّواحي والضّواحي المختلفة، والعنايات الرّبّانيّة التي شملتك من الابتداء إلى منتهى السير- في جهات كثيرة: معنويّة ومادّيّة، روحيّة وجسمانيّة- تقتضي أن تقوم لله وفي الله، وأن تجيب إلى طاعته وعبادته بعدم إبطال تلك النّعم، وبعدم الانحراف عنها، فعليك يا أيّها المحبوب المكرم أن لا تغترّ بما في هذه الصحف من الإنعامات الغيبيّة، فإنّها مفاهيم قالبيّة، وما دام العبد لا يخرج من تلك المعاني التخيّلية إلى الحقائق الغيبيّة، لا يصير كاملاً ولا يعدّ عبداً. فعليك بتهذيب النّفس عن جميع الرّذائل والشّرور، والتّحلّي بحلية الفضائل والخيرات، وبمحاسن الأخلاق الكريمة، والمحسّنات العقليّة،
 
 
 
 
 
 
 
 
45

39

بصر الهدى

 وعليك بالمجاهدة والرّياضات, بترك لذّات الدّنيا مهما أمكن، وملازمة أهل الخير والتّقوى في كل مكانٍ ميسّرٍ لك، فإنّ من أشرف الأمور وألذّ الأشياء عند أهل السّداد والعرفان، المسافرة في مختلف البلاد لإدرك أرباب الكشف والإيمان، وأصحاب القلوب والقرآن، وقد كان دأب السّلف وديدن الخلف على هذه الطّريقة المثلى، وتلك الرّويّة العليا. فيا إلهي وسيّدي، قد أفنيت عمري في شرّة السّهو عنك، وأبليت شبابي في سكرة التّباعد منك، فيا إلهي ومولاي، أسألك أن توفّقني لأن أنال من الخير ما يليق بجنابك، وأن أختطف من البرّ ما في سعة رحمتك. وأسألك الّلهم أن توفّقني لدرك ما في كتابك العزيز، القرآن الشريف، من مخازن علومك، وخزائن معارفك. وأسألك الّلهم أن لا تحجب بيني وبينها الذنوب والسّيّئات، ولا تحرمني منها بالمعاصي والآفات. فيا ربّ ويا عزيزي وأملي وسيّدي ومولاي، إليك نبتهل ومنك نسأل، يا ذا الجود والكرامة، أن نقوم بالأعمال الصّالحة، وأن تملأ قلوبنا 

من 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

40

بصر الهدى

 أنوار هذه السّورة المباركة1، وأن تعيننا على طاعتك بالمواظبة على أحكامها، ومراعاة آدابها، وأن لا نكون من الّذين يقرؤون القرآن وينقرونه كنقر الغراب، ولا من الذين يلعنه الكتاب، ولا من المحجوبين عن حقائقها ودقائقها، ولا من المسجونين عن شؤونها وأطوارها، فإنّه قد ورد: "ربّ تالٍ القرآن والقرآن يلعنه"2، فربّ مفسّر للكتاب ومن أفنى عمره في توضيح مقاصده، والقرآن ينزجر منه، ونعوذ بالله تعالى أنّ نكون منهم. يا خير المسؤولين ويا خير المعطين، اشف به صدورنا، وأذهب به غيظ قلوبنا، واهدنا به لما اختلف فيه بإذنك، يا رحيم ويا كريم3.

 
الكتاب الكريم لا ريب فيه
إعلم يا أخي في الله ويا عزيزي السّالك: أنّ ذلك الكتاب لا ريب
 
 
 
 

1- يعني سورة الفاتحة.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج 89 ، ص 184.
3- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم ، ج 2، ص 218 -220.
 
 
 
 
 
 
47

41

بصر الهدى

 فيه، فإذا اجتهدت في تعلّمه وفي التعيّن بحقيقته وفي التّشخّص بشخصيّة مثله، كنت في النّشأة العلميّة عين تلك البارقة الإلهيّة والحقيقة الملكوتيّة، فلا يكون لديك ريبٌ أيضاً، فلماذا لا تحبّ أن تكتسي لباسه؟! ولماذا لا تشتاق إلى أن تسلك سبيله، حتى ينتفي الرّيب كلّه عن ذاتك؟! أفما كان أمير المؤمنين عليه السلام وأولاده المعصومين عليهم السلام من هذه النّشأة؟! أفما كانوا وما كان النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الكائنات الواقعة في الزّمان والملازمات لهذه المادّة والمدّة؟! فإذا كانوا كذلك فكيف ارتقوا إلى تلك المقامات، وتعيّنوا بتلك الصّفات، حتّى نفي عنهم الرّيب؟! فكن بعين الله على بصيرةٍ من أمرك، فتلحق بالصّالحين، وتحشر في زمرة المتّقين، وإذا تعيّنت بعين الكتاب في النّشأة العلميّة، وتصوّرت بتلك الصّورة البهيّة النّاضرة، فلا يكون الصّادر منك إلا ما يسانخك في الوجود، فإنّه لا يصدر من الحسن كلّه إلا الحسن كلّه. فيا أيّها المسلم المؤمن، لا تيأس من روح الله، فإنّ السّالك في الله يعشق الله، فإمّا يصل إلى عشقه ومناه، أو يموت في طريق عشقه وأمنيته، وعلى كل حالٍ 

 

 

 

 

48


42

بصر الهدى

 هو الفائز بالدّرجة العليا، والنائل لأعلى علّيين في الدّار الآخرة والعقبى. والله المعين على ما يصفون.

 
هدى الكتاب
ثمّ اعلم يا صديقي ويا نور عيني: أنّ ذلك الكتاب فيه هدى، فعليك الجدّ والاجتهاد في أن تكون هدًى، ولا تكتفي بكونك هادياً، ولا تقنع بأن يهتدي بهديك الآخرون، فضلاً عن القناعة بأن يكون الإنسان خارجاً عن زمرة الضّالين والمضلّين، فاسعَ سعيك، وجد جدّك في طريقك المثلى، ونهجك المقرّر، حتى تصل إلى هذه المرتبة العليا، ولا يكون ذلك، ولا يناله أحدٌ، وما ناله الأصفياء إلا بالارتياضات النّفسانيّة والتّدبّر والتّفكّر، والاقتداء بالصّالحين، وباتّباع الأولياء المقرّبين المنتشرين في البلاد والقرى، فسيروا في الأرض فانظروا إلى آثار رحمة الله، فإنّ لله في أيام دهركم نفحاتٍ، ألا فتعرّضوا لها1، فهذا الكتاب الإلهيّ جاء ليعلّم النّاس ما 
  
 
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار ج 68، ص 221، و ج 80 ، ص 352، و ج 84 ، ص 267، و ج 87، ص 95.
 
 
 
 
 
 
 
49

43

بصر الهدى

 يصيرون به مثالاً له، فلا يكون فيه ريبٌ، ويكون هدًى من الضّلالات في جميع النّشآت، فتخلّقوا بأخلاق الله، حتّى يتمشّى لكم ما تمشّى له من المشيّة المطلقة1، فإنّ الإنسان هو الصّورة الجامعة الإلهيّة.. وحتّى يصحّ فيكم أنّه ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾من الضّلالات بأقسام الهدايات وأنواعها الممكنة. 

 
ثمّ يا أيّها العزيز، مسّنا وأهلنا الضّرّ، فأوف لنا الكيل، ويا أيّها الحجّة الباقية القائمة، أعنّا على ذلك كلّه، حتّى ندرج في زمرة المتّقين، ونستضيء بأنوار الحقّ واليقين، فإنّ الكتاب الإلهيّ قد حثّ على ذلك بأنحاء كثيرةٍ، ومن أحسنها هذه الآية الكريمة، فإنّها تومئ إلى اعتبار السّنخيّة بين المهتدين بالقرآن العظيم، وبين الكتاب الذي لا ريب فيه، فإنّه لا يعقل هداية الضّال، لأنّه مع فرض كونه ضالًّا لا يعقل هدايته، فإنّ صورة الضّلالة هي الصّورة 
  
 
 
 
 

1- وهو مقام فاعليّة الحقّ تعالى التي لها تنزّلات وتعيّنات في جميع العوالم. وبها ظهرت الموجودات وتحقّقت الحقائق.
2- سورة البقرة، الآية 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
50

44

بصر الهدى

 الآبية عن قبول الهداية، فلا بدّ وأن لا يكون متصوّراً بتلك الصّورة حتّى يكون قابلاً للاهتداء بمثل ذلك الكتاب، فعليك أمرٌ، وعلى الله تعالى أمورٌ: أمّا الذي عليك فهو الاجتهاد في سبيل الخروج عن التعيّن بتلك الصّورة المتعصّيّة والرّادعة المانعة، فإذا كنت خارجاً عنها برفض الشّهوات والبليّات، وأهواء النّفس وأحكام المادة والشّيطنة، تنالك - بحمد الله وإن شاء الله - المشيّة الإلهيّة الظّاهرة في نشأة الغيب والشّهود، ويخرجك من الظّلمات إلى النّور، فإن مجرّد الخروج عن بيت ظلمة الطبيعة ليس من الهداية وصورتها النّوعية، فإنّها حركةٌ نحو الوجود المطلق الإلهيّ، الّتي لا تحصل إلا بعد اكتساب الزّاد والرّاحلة، فكما لا يكون الزّاد والرّاحلة من السّفر والحركة المعنويّة، بل هي استعداد، كذلك الخروج عن ظلمات النّفس وغشاوات الطّبيعة، لا يعدّ من السّفر المعنويّ حقيقةً1

  
 
 

1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 2، ص 385- 387.
 
 
 
 
 
 
 
51

45

بصر الهدى

 التدبّر في الآيات

اعلم يا أخي ويا قرّة عيني: أنّ اللازم على السّالك في سبل الخيرات، والمسافر إلى الله بعين الحقيقة للتّعيّن بالأسماء والصّفات، أن يلاحظ الآيات بعين التّدبّر والتّفكّر، ويقرؤها على قلبه في نهاية الدّقّة والتّأمّل، حتّى يتوجّه إلى مقاصد الكتاب، ويهتدي بهداه. وأنّ الأخذ في تبويب المسائل العلميّة والشّروع في ترتيب البحوث الفنّيّة، ربّما يكون من الأعمال الشّيطانيّة ومن القوى النّفسانيّة، الرّاجعة إلى الدّنيا وكدورتها، وإلى الطّبيعة وباطنها، فيصير السّالك فيها والمغامر في أبحارها هالكاً وباقياً في العمى، ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى﴾1، فلا تغترّ بما في هذه الوريقات من الدّقائق العلميّة والحقائق العرفانيّة، فإنّ راقمها من القاطنين في سجون الطّبيعة المظلمة، وكاتبها من المنغمسين في الشّهوات الرّذيلة.. بل تدبّر في الكتاب
  
 
 
 

1- سورة الإسراء، الآية 72.
 
 
 
 
 
 
 
 
52

46

بصر الهدى

 الإلهيّ حتّى تصير مظهراً له ومصاحبه، وتتجلّى فيك صفاته وخصوصيّاته، حتّى تنجو من المهالك الآتية، والعقبات الّتي تنتظرك من قريبٍ وإن تظنّها - نعوذنّ بالله - بعيدةً. وتفكّر في آياته، وانظر كيف يهديك في نهاية اللّطف، وكيف يقوم بهدايتك في غاية الإعزاز والتّكريم، فيقول في صورة الأدب ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾1، أي هم إذا استشعروا يتوجّهون إلى لزوم ذلك، من غير احتياجهم إلى الأمر، فيؤمنون بالغيب، ويهذّبون ذواتهم وفطرتهم المخمورة بالإيمان بالغيب، وبعقد القلب على تركيز الغيب في قلوبهم، ثم يقومون لترسيخ ذلك بإقامة الصّلاة والأعمال البدنيّة، وتهذيب البدن ومزاجه الطّبيعي بالصّلاة، الّتي هي الحركات المعتدلة المناسبة للمحافظة على مزاجه وعلى صحّته، فإنّ الصّلاة مرقاة أهل القلوب، وميدان أرباب الصّراع، فهي أسّ كلّ شيءٍ، إن قبلت قبل ما سواها، وإن ردّت ردّ ما سواها. ثمّ بعد الفراغ من التّهذيبين- التّهذيب الرّوحانيّ 

  
 
 

1- سورة البقرة، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
53

47

بصر الهدى

 القلبيّ والتّهذيب المادّيّ البدنيّ - يشرع في تهذيب غيره, بإنفاق ما عنده، فإنّ رحى الاجتماع تدور عليهم، ومسؤولية عائلة البشر متوجّهة إلى هؤلاء السّالكين المهذّبين، فعليهم تنظيم الأمور بمقدار الميسور، فينفقون ما عندهم حتّى يتمكّنوا من أن يعيشوا في ظلّ ذلك الإنفاق والإعطاء. فالأمر بالإنفاق من غير نظرٍ إلى خصوصيّةٍ في كيفيّةٍ من كيفيّاته، ليس إلّا لأجل أنّ الإنفاق - من كلّ شيءٍ على كلّ شخصٍ في كلّ حالٍ وزمانٍ - من الأمور الحياتيّة ومن المصالح الاجتماعيّة، التي بمراعاتها تبقى الحياة الفرديّة، ويحصل التّهذيب الفردانيّ، ويتمكّن الإنسان من القيام بالعيش الوحدانيّ، فما ترى من العمومات والإطلاقات المختصّة بهذه الكريمة- أي بقوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾1- ليس إلّا لأجل أهمّيّة الإنفاق في أساس الاجتماع.

 
 
 

1- سورة البقرة، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
54

48

بصر الهدى

 لكلّ شيءٍ زكاة

 

وإنّا إذا راجعنا وجداننا نجد أنّ الزّكاة لا تختصّ بالأموال، كما تومئ إليه الأخبار والآثار، بل لكلٍ شيءٍ زكاة، فلا بدّ من صرفه وإيصاله إلى محالّه، حتى يبقى أصل الحياة وأساس التّنميات، فهذه الآية الكريمة الشّريفة تدعوك إلى رفض رذيلة البخل، وتناديك إلى الاتّصاف بصفة السّخاوة، والإعطاء في كلّ جانب من الجوانب الممكنة، فربّ عالمٍ يبخل في تعليم النّاس، وربّ سالكٍ يبخل في هداية المتّقين، وربّ تاجرٍ يبخل في إخراج حقّ الفقراء... وهكذا، غافلين عن أنّ ذلك المنع والامتناع يرجع إلى منع أنفسهم من الاستمتاعات المعنويّة، وحرمان نفوسهم من اللّذائذ المادّيّة والمعنويّة، وذاهلين عن أنّ حقيقة السّلوك والعلم هو القيام بالتّجلّي الفعليّ الإلهيّ، فإنّ في تلك الجلوة جلوة الذّات والصّفات،
 
 
 
 
 
 
 
 
55

49

بصر الهدى

 كما تحرّر1. فعليك أيّها الإنسان الكبير أن تبذل جهدك في عدم الاقتناع بالمفاهيم والفنون، وتجتهد في أن تعبر قنطرة المجاز إلى دار الحقيقة والشّهود، وما يتيسّر ذلك إلا بأن تصير مجلىً لهذه الآية الكريمة، الجامعة لأنحاء السّعادات الدنيويّة والأخرويّة2.

 
اليقين ومراتبه
يا أيّها القارئ الكريم، ويا أيّها الأخ الرّؤوف الرّحيم، قد حان وقت طلوع الحقيقة على قلبك لتكون نذيراً وبشيراً، وقد بلغ زمان ظهور الإيمان والإيقان حتى يتجلّى فيك القرآن والفرقان،
  
 
 

1- قال قدس سره في ج2، ص 461: ثمّ إنّ الحقيقة تكون حاصلةً من القلب إلى البدن، ثمّ تنتهي إلى الأعمال الرّبوبيّة، وهو الإنفاق، فإنّ الإيمان من الأسماء الذّاتيّة، والإقامة والإدامة من الأسماء الصّفاتيّة، والإنفاق من الأسماء الأفعاليّة، فالعبد السّالك بالحقّ في الحقّ يصل إلى مقام يماثل الحق، فيكون في الابتداء مؤمناً، ثمّ في الرّتبة الثّانية مقيماً، وفي الثّانية فاعلاً بإنفاق التّجليّات الذّاتيّة الأسمائيّة، فإنّه أحسن التّجلّيات فائدةً وأثراً، ومعلول تلك التّحلّيات التي هي تتقوى بتلك التّجلّيات، فإنّ الذّوات الإمكانيّة ترتقي بإمداد الأفعال والأعمال، والله تعالى الموفّق والمؤيّد.
2- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 2، ص 462- 464.
 
 
 
 
 
 
56

50

بصر الهدى

 وعليك بعدما قرأت وخبرت بما في هذه الآيات والبيّنات، من الأسرار الإيمانيّة والرّقائق الإيقانيّة، أن تسعى سعيك، وتجهد جهدك، حتّى تكون من الموقنين، فإنّ في الأرض آياتٍ للموقنين. فيا أخي وقرّة عيني، ليس الإيقان مجرّد التّلفّظ والإخطار بالبال، وليس هو العلم البرهانيّ والبناء العمليّ، بل اليقين - كما قال به الشّيخ عبد الله الأنصاريّ - مركب الأخذ في الطريق، وهو غاية درجات العامّة، وقيل: أوّل خطوة الخاصّة، وهو على ثلاث درجاتٍ: الدّرجة الأولى: علم اليقين، وهو قبول ما ظهر من الحقّ، وقبول ما غاب للحقّ، والوقوف على ما قام بالحقّ. والثّانية: عين اليقين، وهو الغنى بالاستدراك عن الاستدلال، وعن الخبر بالعيان، وخرق شهود حجاب العلم. والدّرجة الثّالثة: حقّ اليقين، وهو إسفار صبح الكشف، ثم الخلاص من كلفة اليقين، ثم الفناء في حقّ اليقين1. انتهى. 

  
 
 

1- راجع شرح منازل السائرين، ص 282- 285.
 
 
 
 
 
 
 
57

51

بصر الهدى

 آثار اليقين

 

فإذا كان الإنسان المؤمن من الموقنين، فلا يخاف إلا من ربّ العالمين، ولا يفعل ولا يصنع إلا لله ربّ العرش المتين، ولا يتأمّل ولا يتفكّر ولا يأمل إلا غاية آمال العارفين. وبالجملة: كما سبق منّا تكراراً: لا تغترّ بما في هذه الصّحف والقراطيس، ولا تفتخر بالغور في الحقائق المفهوميّة والدّقائق الإدراكيّة، فإنّ الفخر كلّ الفخر هو أن تهتدي بأنحاء الهدايات القرآنيّة، وبأنواع الأنوار الفرقانيّة، حتّى تستيقن بأنّك لا شيء محضاً، ويكون ذلك راسخاً في روحك وملكةً في قلبك.. وتقرأ في كلّ صباحٍ ومساءٍ هذه الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾1، رزقني الله تعالى من هذا الكأس إن شاء الله تعالى. وقد ورد في أحاديثنا الشّريفة:
 
 
 

1- سورة فاطر، الآية 15.
 
 
 
 
 
 
58

52

بصر الهدى

  "أنّ أقلّ شيءٍ أوتيتم اليقين"1، وهذا اليقين هو الذي قال الله في حقّه: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾2، فإنّه لا يحصل إلا بالمعاينة والمشاهدة من قريبٍ بعين القلب، وحتّى يسمع بأذن الحقيقة صوت النّزع، وهذا هو اليقين الذي إذا حصل في هذه النّشأة يختلّ به النّظام أحياناً، وقال الله تعالى في هذا اليقين: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾3، فهو قبل أن يموت قد عاين الحقيقة والآخرة وباطن الدّنيا، وكان بذلك من الموقنين. 

 
فيا أيّها العزيز، مسّنا وأهلنا الضرّ، وحلّ بنا الظّلم في السّراء والضّراء، وفي الشّدة والرّخاء، وقد بلغنا من هذه السّفرة نصبٌ شديدٌ وتعبٌ كثيرٌ، فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا، حتّى نتمكّن من أن نكون من الموقنين، وحتّى نصل إلى فنائك وبابك، فارغين عن
  
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص 136 و171.
2- سورة الحجر، الآية 99.
3- سورة الأنعام، الآية 75.
 
 
 
 
 
 
59

53

بصر الهدى

 الظّنون والأوهام، ومتحلّين بحلية اليقين والإيمان، ولا نستدرج في الذين قال الله تعالى في حقهم: ﴿مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾1، بل ولا من الجبلّة2 الذين قال في حقهم: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾3 ولا من المنادين بقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّ﴾4. فيا سيّدنا ويا مولانا إنّا توجّهنا بك أن يجعلنا من الذين أنعم عليهم بنعمة اليقين حتّى ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾5. فتحصّل من هذه الآيات الشريفة: أنّ لليقين - مضافاً إلى المراتب - الخاصّة العجيبة، وهي رؤية الآخرة في الدّنيا، ومشاهدة الغيب في الظّاهرة، ومعاينة الحقائق حال الاقتران بالمجازات. والله العالم بأسراره6.

  
 

1- سورة النساء، الآية 157.
2- الجِبِلّة: الجماعة من الناس.
3- سورة النمل، الآية 14.
4- سورة السجدة، الآية 12.
5- سورة التكاثر الآيتان 6 و7.
6- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 54- 57.
 
 
 
 
 
 
 
 
60

54

بصر الهدى

 الفطرة على التوحيد

وصيّةٌ من راقم هذه الحروف إلى القارئ الأخ الكريم وإلى قرّة عيني العزيز: اعلم: أنّ الإنسان فيه قوّة الخيرات والشّرور، وفيه مادّة الحسنات والسّيّئات، ولا تغلّب لهذه القوة وتلك المادة إلى جانبٍ من الجوانب وناحيةٍ من النواحي باقتضاءٍ من ذاتها، بل هي تابعةٌ للصّور الواردة عليها، فإنْ خيراً فهي إلى الخير متحرّكةٌ، وإنْ شراً فهي إليه مائلةٌ ومجبولةٌ. وتلك الصّور الواردة ليست خارجةً عن اختيار الإنسان إلا أنّ منها ما تحت إرادة الآباء والأمهات، فإذا كانت الأصلاب شامخةً والأمهات مطهّرةً، يولد الإنسان الجامع للهيئات الحسنة، القابلة للحركة نحو الخيرات المطلقة، ويأتيان بالمولود المجبول على الحسنات والمشغوف بالخيرات، وإذا كانت الأصلاب والأرحام منحرفةً ومظلمةً، فتكون النّطف
 
 
 
 
 
 
 
 
61

55

بصر الهدى

 محجوبةً بالحجب الظلمانية1، وبالقوى والطّبائع المنحرفة الشّيطانيّة، فيأتيان بالمتهوّدين والمتنصّرين، كما ورد: أن أبويه يهوّدانه وينصّرانه، وإلا فكلّ مولودٍ يولد على الفطرة2، ويكون مجبولاً على التّوحيد والحركة نحو الكمال المطلق. 

 
صيانة الفطرة بهداية القرآن
وإذا بلغ الإنسان حدّ الاختيار والإرادة، فلا بدّ من المحافظة على تلك الصّور الواردة حتى تُحفظ القوى والطّبائع الإلهيّة المودعة فيه، وتسير إلى جانب الحقّ والحقيقة، وتسافر إلى دار الله، وهي دار الوجود والبقاء، ومن الأسباب الّتي تُمكِّن الإنسان من صيانة تلك الخمائر والسّجلّات في ذاته، هي تطبيق روحيّاته على الكتاب العزيز والقرآن الكريم والصّراط المستقيم، وأنّه إذا قرأ هذه الآيات 
  
 
 

1- وهي الحجب الرّاجعة إلى نقص المخلوق وقواه ومداركه؛ بسبب الإمكان والفقر والاحتياج والحدوث وما يتبع ذلك.
2- راجع عوالي اللآلي، ج 1، ص 35، والدّر المنثور، ج 5، ص 155.
 
 
 
 
 
 
62

 


56

بصر الهدى

 في ابتداء سورة البقرة، لا يقتنع بمجرد اللّقلقة، وتحسين الصّوت، وتجويد الحروف والكلمات، بل يكون على بصيرة من أمره، مهتدياً بالآيات، ومترنّما ومترقّياً بالحروف والكلمات، مواظباً على إيلاجها في قلبه، وإرساخها في روحه ونفسه، ويستمدّ منها، ويتغذّى بغذائها، كما يتغذّى بسائر الأغذية، ويجاهد في سبيل ربّه بهدى الرّبوبيّة، حتّى يكون من المفلحين الفائزين الذين مدحهم إله العالمين، من غير اغترار بما في تخيّلاته وتسويلاته من المفاهيم القالبيّة، الخالية عن المعاني والأنوار القلبيّة. والله ولي التّوفيق1.

 
الإيمان والكفر
اعلم: أنّ الإيمان من جنود العقل.. والكفر من جنود الجهل.. وبعبارة أخرى: إنّ الإيمان من أحكام الفطرة المخمورة، والكفر من آثار الفطرة المحجوبة، وقد تقرّر لأهله في محلّه: أنّ الإنسان مفطورٌ على عشق الكمال، و(النّفور) عن النّقص، فيكون متحرّكاً 
  
 
 
 

1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 94 -95.
 
 
 
 
 
 
63

57

بصر الهدى

 ومتوجّهاً إلى الإيمان، لأنّه كمال الطّبيعة والطّينة، ومنزجراً وفرّاراً عن الكفر، لأنّه النّقص، وهذه الكبريات ممّا أقيمت عليها الشّواهد والوجدانيات، مشفوعة بالبراهين والأدلّة والآثار. والّذي هو الأهم في نظر السّالك، ويهتمّ به في السّير: هو أن يتحقّق العبد بصفة الإيمان، حتّى لا يكون كافراً في جميع الاعتبارات وفي كافة الآفاق، وهذا الكفر هو الذي يحتجب به الإنسان بأنواع الحجب، ولا يتمكّن بعد الاحتجاب من خرقها وهدمها إلا بالعناية الإلهيّة، وبالممارسة والمجاهدة النّفسانيّة، ولا يشرع -في حكومة العقل - أن يكتفي بالبحوث والاشتقاقات الأخلاقيّة، والغور في سبل الرّذائل والملكات، غافلاً عمّا هو عليه، وعمّا في قلبه من البلايا والآفات. 


فيا أيّها العزيز ويا قرّة عيني، إيّاك وأن تصبح وقد اكتسبت المادّة القابلة للصّور الكافرة، واحتجبت الفطرة بالحجب الغليظة، فإنّه عند ذلك لا يمكن أن تتخلّص من العذاب الإلهيّ
 
 
 
 
 
 
 
64

58

بصر الهدى

 العظيم، ولا تتمكّن أن تنجو من جحيم الذّات السّرمديّ الأبديّ، فما دمت مقارناً للمادة في الدنيا والنّشأة القابلة للتغير، وما دمت شابّاً غير راسخةٍ عروق وجودك في سجون الطّبيعة المظلمة، تقدر على القلب والانقلاب، وتقدر على إضاءة النّفس وإنارة قلبك، وتقدر على خرق الحجب، فلا تشتغل بغير ذلك، واستعن بالله العزيز وبالربّ اللّطيف، حتّى يمدّك بملائكته لنجاتك وهدايتك، فلا تكون بعد ذلك ممّن طبع الله على قلبه وسمعه، وختم على بصره غشاوة. فلا تأخذ بالتّسويف والآمال، فإنّ ذلك من مكايد الشّيطان، وحباله وخدعه ووسوسته ونباله. ولا تيأس من روح الله وعنايته، فإنّه لطيف ورؤوف بعباده، وعطوف ورحيم في مملكته وسلطانه، ولا تأخذ ولا تترنّم: بأنّ الأمر قد مضى وقد قضي علينا بالشّقاوة والنّيران، فإنّ كلّ ذلك من الشّيطان الرّجيم ومن إبليس اللّئيم. عصمنا الله تعالى من النّفس الأمّارة بالسّوء، وندعو الله تعالى أن يعيننا على طاعته

 

 

 

 

 

 

65


59

بصر الهدى

 وعبادته، ويخلّصنا من الزّلات والشّرك، ومن الخواطر والمشاغل. آمين يا ربّ العالمين1.

 
ادّعاء الإيمان
اعلم: أنّ هذه الآية الشريفة ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾2 - حسب مراتب الإيمان - قابلةٌ للتّطبيق على جميع المؤمنين والمسلمين، وأنّ كلّ إنسان إذا راجع قلبه ومخزن علمه وإيمانه بالله وباليوم الآخر، يجد، وجداناً، أنّه ما آمن به تعالى، فإنّ الإيمان بالاسم الجامع، والإيقان بالله، له الآثار والخواصّ، فمن كان يؤمن بالله تعالى، وبأنّه تعالى هو الجامع الكلّيّ، وهو الكامل على الإطلاق، وأنّه المتحقّق بالحقيقة والذّات، وأنّ الوجود لا يليق 
  
 


1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 214 -215.
2- سورة البقرة، الآية 8.
 
 
 
 
 
 
66

60

بصر الهدى

 إلا بالحضرة الإلهيّة، ومن تجلّى قلبه بالوحدة الذّاتيّة الإطلاقيّة1، وبالواحدات الأسمائيّة والصّفاتيّة والأفعاليّة، كيف يمكن أن يجد نفسه بحذائه تعالى، ويلمس وجوده وراء وجوده، فإذا كان الأمر كذلك حسب البراهين العلميّة والأدلة الإيمانيّة والشّواهد العرفانيّة، فلا يكون مؤمناً بالله، فيستحقّ أن يقال في حقّهم: إنّهم لا يؤمنون، وما كانوا مؤمنين. ومن كان مؤمناً بالله تعالى، وبأنّه لا إله إلا الله، ولا مؤثّر في الوجود إلا هو، وأنّه إليه ترجع جميع الكمالات، وبيده أزمّة الأمور وجميع الإرادات الكلّيّة والجزئيّة،

  
 

1- الوحدة الذّاتيّة هي وحدة لا تقابل الكثرة، أي لا تكون وحدتها وحدة عددية منشأ الأعداد والتكثر، بل جميع الوحدات العدديّة مع أنه ليس له وحدةٌ عدديّةٌ، فله وحدةٌ ذاتيّة، وهي أصل الوحدة الأسمائيّة. والظّاهر أنّ المراد بتجلّي الوحدات المذكورة على قلب السّالك إنما هو بالأسفار الأربعة باصطلاح العرفاء، وهي كما بيّنها كمال الدين عبد الرزاق الكاشاني: الأوّل: هو السّير إلى الله من منازل النّفس إلى الوصول إلى الأفق المبين وهو نهاية مقام القلب ومبدأ التجلّيات الأسمائيّة والثّاني: هو السّير في الله بالاتّصاف بصفاته والتّحقّق بأسمائه إلى الأفق الأعلى، ونهاية الحضرة الواحديّة، والثّالث: هو التّرقّي إلى عين الجمع والحضرة الأحديّة وهو مقام قاب قوسين الاثنينيّة، فإذا ارتفعت فهو مقام أو أدنى وهو نهاية الولاية، والرّابع: هو السّير بالله عن الله للتّكميل، وهو مقام البقاء بعد الفناء والفرق بعد الجمع. انتهى.
 
 
 
 
 
 
 
 
67

61

بصر الهدى

 فكيف يمكن أن يذهب إلى الأبواب الباطلة، ويرفع أياديه إلى غيره تعالى، ويطلب من غيره تعالى، فإذا كان الأمر كما تبرهن وتبيّن، يجد أنّه لا يكون من المؤمنين، وينبغي نفي الإيمان عنه. ومن كان مؤمناً بالله تعالى وباليوم الآخر، وبأنّ الدّار الآخرة دارٌ باقيةٌ، والدّار الدّنيا فانيةٌ لا كمال فيها إلا كمالاً وهمياً، فلا يهتمّ إلا بالسّلوك إلى تلك الدّار، بجميع ما يساعده فيها من الخيرات والبركات، وبكسب الحسنات وطرد السّيّئات، حتّى يتحلّى بحلية التّخلية، ويتجلّى بجلاء التّجلية والصّفات الحميدة1. وإذا كان الأمر كذلك، فيجد في وجدانه وفي قلبه أنّه لا يكون من المؤمنين، ولا يستحقّ أن يعبّر عنه بأنّه مؤمنٌ، فيلزم استحقاقه لقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾2. ومن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر يصنع لله ولليوم الآخر، ويهتمّ بذلك حتّى

  
 

1- التخلية هي أن يتخلّى عن رذائل الأخلاق والصفات.. وأمّا التجلية فهي أن يجلّي الظاهر باستعمال ما ورد في النواميس الإلهية.. بخلع الأسماء والصّفات ويتخلّق بأخلاق الله. كما قالوا..
2- سورة البقرة، الآية 8.
 
 
 
 
 
 
68

62

بصر الهدى

 يخلو عن الشّرك والرّياء، وينجو من الظّلمات في البرزخ، وفي النّار، ويتخلّص عن السّمعة والعجب والعصبيّة وغيرها، فإذا كان في نفسه من أهل هذه الصّفات والأفعال يصدّق هذه (الآية) الكريمة الجامعة العامّة، ويعتقد أنّها لا تختصّ بالمنافقين ولا بالمسلمين والمؤمنين، بل قلّما يتّفق أن يخرج عنها أحد. والله الموفّق المؤيّد.

 
ضرورة الجد والاجتهاد وعدم اليأس
وإذ قد تبيّن لك هذه الآية، بسعتها، واتّضح شمولها، فليتنبّه كلّ مؤمن ومسلم إلى أن يتخلّص عن مضمونها، ولا يكون في سلك الكفّار واليهود والمشركين. وإنّي إذا أمرّ على حالاتي الشّخصيّة وعلى أحوال الخواصّ ألمس يأساً شديداً، وأظنّ أنّ التخلّص من هذه المشكلات وتلك المعضلات - في هذه الأعصار وتلك الأمصار- ممّا لا يمكن عادةً، ولا سيّما مع كثرة المهلكات والموبقات، وقلّة المنجيات وأسباب الهداية. ولكن لمّا كان القنوط واليأس من جنود الجهل، وضدّ الفطرة السليمة والطّينة المخمورة، ومن
 
 
 
 
 
 
 
 
69

63

بصر الهدى

 توابع الفطرة المحجوبة، وربما يعدّ من المعاصي الكبيرة، ومن الموانع عن الاهتداء، وسدّاً عن السّعادة والسّيادة، ولَمّا كان الإنسان ذا طبيعةٍ مصحوبةٍ بالمادّة والإمكانات الاستعداديّة، وذا سجيّةٍ كامنةٍ فيها قوة الوصول إلى الخيرات والسعادات الدنيويّة والأخرويّة في جميع الأحيان والأزمان، ولا تحتجب المادّة الحاملة للصّورة الإنسانيّة عن جلوات الحقّ وتجليّات الربّ، فلا بدّ، ويجب عليه السّعي البليغ، والاجتهاد الواسع، والقيام القاطع، لنيل تلك السّعادة، ودرك المعارف الحقّة، والوصول إلى حمام الصّلح وعنقاء الوجود1، بتوسيط الأسباب الخاصّة وتسبيب المعدّات الممكنة، وبالرّجوع إلى أرباب الأنفس القدسيّة، ومزاولة النّفوس الرّاقية المرشدة، والأولياء الكملين والأذكياء والأبرياء، مع تطبيق القواعد الشرعيّة الإلهيّة، والوظائف التّكليفيّة الإسلاميّة على أقواله وأفعاله وأعماله، راجين- في عين الجدّ والانتهاض - من

  
 

1- وهو ملك روحانيٌّ يسمّى بذلك عند العرفاء على سبيل الرمز والإشارة. انظر الأسفار الأربعة لصدر المتألهين، ج5، ص 144.
 
 
 
 
 
 
 
70

64

بصر الهدى

 الله العزيز الإمداد الغيبيّ، والإعانة السّرمديّة، والعون الأحمديّ والمحمديّ، والإعداد العلويّ، ومتوجّهين إلى الوسائل الزّاكية بالإخلاص والتّقوى، ومتعوّذين بالله تعالى من شرّ الشّيطان الرّجيم اللّئيم، ومن كلّ دابّةٍ هو آخذ بناصيتها، مترنّمين بالآيات الرّحمانيّة، والأشعار العرفانيّة، والمدائح الإيمانيّة. وبالجملة: إذا غلبته الشّقوة من كلّ جانب، فعليه أن يطوف حول السّعادة حتى تحيط به، ويحول حول الخيرات حتّى يصير خيراً، فإنّ جنود العقل والخير، وإن تكن أحياناً مغلوبةً، إلا أنّها لأجل ورود الموائد الملكوتيّة والأغذية الرّوحانيّة الجبروتيّة، تقتدر على هضمها وجبرانها، وتتمكّن من قطعها وحرمانها فيصبح- إن شاء الله تعالى- مرآةً تامةً ومجلًى عامّاً، ويكون مؤمناً صريحاً بعونه وتوفيقه1.

  
 

1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 273- 276.
 
 
 
 
 
 
71

65

بصر الهدى

 أمراض القلوب

 

يا أخي ويا عزيزي وقرّة عيني: لقد أُرسل إليكم كتابٌ فيه المواعظ والحكم، وأُنزل إليكم نورٌ تستضيء به القلوب والنّفوس، وفي جميع آياته ومواعظه الإلهام والإيماء إلى الحسنات ولزوم نيلها، والزّجر والتّحذير عن السّيّئات ووجوب التّنفّر عنها، فإذا استمعت إلى قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾1، فلا تظنّ أنّ هذه الآية مخصوصةٌ بجماعةٍ من المنافقين وأنت لست منهم، وبريءٌ عنهم، كلّا، بل عليك أن تحسب نفسك فيهم، حتّى تقوم من مقامك وتجتهد وتجد في الخروج عن هذا الأمر الفزيع الفجيع، وذلك لما تحرّر وتبيّن في محلّه، وبلغ إلى نصاب التّحقيق وميقات البرهان والتّدقيق: أنّ الأمراض المتحصّلة في النّفوس إذا صارت ملكةً،
  
 
 

1- سورة البقرة، الآية 10.
 
 
 
 
 
 
72

66

بصر الهدى

 فقد بلغت إلى حدّ يقرأ عليها ﴿فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً﴾1. فإنّ الله تعالى وتبارك خلق الخلق على نظام الأسباب والمسبّبات، ولا يخصّ أحداً بنظرةٍ رحيميّةٍ خارجةٍ عن اقتضاء المرجّحات والأسباب، لأنّ الحقّ الرّؤوف عادلٌ مستوي النّسبة إلى العالم، فإذا حصل في قلبك مرض الحسد والبخل والكبر والأنانيّة والجبن وحبّ الدّنيا والرّئاسة وغير ذلك، وما أخذت في إزالتها وإفنائها، وما أخذت في محوها ونفيها، بل قوّيتها بالواردات والمؤيّدات، وسلكت مسالك الأباطيل والشّياطين، فقد زادها الله تعالى مرضاً، وزادهم مرضاً، ونعوذ بالله العزيز من هذه الفجائع والعظائم والبلايا والرّذائل، فإنّها إذا استقرّت في النّفس وصارت الأنفس محكومةً بها حتّى تحرّكت فيها حركةً طبيعيّةً، يكون لهم عذابٌ عظيمٌ بما كانوا يصنعون. فعليك يا أخي ويا نظيري في خلقي: أن تأخذ بنجاتك من هذه الورطة الظّلماء، وتشدّ عضدك وظهرك للاستنارة بأنوار

  
 

1- سورة البقرة، الآية 10.
 
 
 
 
 
 
 
73

67

بصر الهدى

 القرآن، بأن تعمل به عمل إخلاصٍ، وتتدبّر في آياته تدبّراً حسناً وتفكّراً مفيداً لدنياك وآخرتك، ولا تكن ممّن أقفلت قلوبهم بالمحاسن المعنويّة واللفظيّة والدّقائق الحِكَميّة والعرفانيّة، فإنّها كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً1.

 
زوال الفساد عن طريق الحكومة الإلهيّة
يا أيّها العزيز، ويا أخا الحقيقة، ويا رفيقي الأعلى وشقيقي في الله: إذا قيل لكم: لا تفسدوا في الأرض وفي هذه النّشأة، فانتهوا وامتثلوا أوامر مولاكم ونواهيه، ولا تفسدوا فيها بارتكاب المحرّمات والمعاصي وترك الواجبات، ولا توجبوا الاختلال في النّظام الكلّيّ والجزئيّ، ولا تخلّوا في أركان سياسة المنزل والبلاد إلى سياسة الملك والمملكة الإسلاميّة والإنسانيّة.
 
وحافظوا على النّظامات المحرّرة الإلهيّة في جميع الشؤون الشّخصيّة والنّوعيّة، 
  
 

1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 378 -379.
 
 
 
 
 
 
74

68

بصر الهدى

 ولا تكونوا من المفسدين في الأراضي والصّياصيّ1 الربانيّة، فلا تتجاوزوا في أرض بدنكم وأرض الله تعالى إلى محارمه وحدوده، فتكونوا من الهالكين. فإنّ هذه الصّياصيّة والأراضي المتّصلة والمنفصلة والجزئيّة والكلّيّة، مقرّ الأمانات الإلهيّة والتّكاليف الغيبيّة والوظائف الشّرعيّة، ومحطّ تنفيذ هذه الودائع الرّبّانيّة، فعليك الإصلاح وتطبيقها حتّى تعدّ من المصلحين، وتسمّى بالمصلح الكبير على وجه الحقيقة والأحقّيّة، دون الدّعوى والمجاز ومجرّد التّسويل والخيال، كما ترونها اليوم بالنّسبة إلى رجالات السّياسة، فإنّهم اقتنعوا بذلك، فسرقوا ألقابهم، وهم مفسدون في الأرض، ولكن لا يشعرون بأنّ الشّعب والمِلل يعلمون فسادهم في جميع الزّوايا والأقطار، وفي كافّة الأمصار والأعصار. فالمصلح الكبير الذي تشهد بمصلحيّته الأمّة الإسلاميّة، هو القائم بالوظائف الفرديّة والاجتماعيّة والسّياسات المدنيّة وغيرها، وهو الذي ينهض لتنجيز الآمال والطّموحات، وتحقيق

  
 
 

1- الصياصي: الحصون والقلاع وكل ما امتنع بها، وصياصي الجبال: أطرافها العالية.
 
 
 
 
 
 
75

 


69

بصر الهدى

 الحكومة الإسلاميّة والمدنيّة الإلهيّة الفاضلة، حتّى تكون هذه النّشأة بجميع شؤونها مرآةً كاملةً للنّظام الرّبّانيّ، الذي هو من رشحات النّظام الإلهيّ والذّاتيّ. فأحسن الأنظمة والنّظامات القابلة للاعتماد عليها، والكافلة لسعادات البشر وغيره بأنواعها الدّنيويّة والأخرويّة، هي المنظّمة والحكومة الّتي تكون انعكاساً عن الحكومة الإلهيّة التّكوينيّة، في نشآت الغيب والشّهود ومراتب الملكوت والنّاسوت، فاللّهم ارزقناه بظهور الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف1.

 
هداية القرآن
اعلم يا أخي: إنّ الكتاب الإلهيّ كتاب الوعظ والإرشاد والتّنبيه والتّوجيه، وفيه هذه الجهة وتلك القسمة أقوى وأعظم شأناً من سائر الأمور الأُخر، وفي جميع الهدايات أيضاً يلاحظ جانب الإرشادات الخاصّة بأنحاء التّعابير المختلفة، ليخرجكم من الظّلمات إلى النّور، ويهديكم إلى الصّراط المستقيم، والخلاص 
  
 
 

1- الخمينيّ الشّهيد السّيّد مصطفى: تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 431- 433.
 
 
 
 
 
 
76

70

بصر الهدى

 من الجحيم. فإذا يقول: ﴿آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾1 فعليك الإجابة بالأجوبة القلبيّة والقالبيّة، وعليك الإصغاء والاستماع إلى ندائه ورأيه عملاً وعلماً، ولا تكن كالمنافقين ومن يحذو حذوهم في الخروج إلى حدّ الإفراط أو التّفريط، حتّى لا تكون من المؤمنين قلباً وعلماً ولا من المؤمنين عملاً وقالباً، بل اللّازم مراعاة الحدّ الأوسط، واتّخاذ الحدّ العدل والخطّ المستقيم من الابتداء إلى الانتهاء، وعدم الانحراف عنه ولو لحظة، وذلك لا يحصل بمجرّد تلاوة الكتاب، أو كتابة تفسيره، أو مراجعة كتب المفسّرين وغير ذلك، بل هو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بالجدّ والاجتهاد،.. فإيّاك أن تكون من السّفهاء في لسان القرآن، وإيّاك أن تشملك هذه الكريمة الشّريفة2، واحذر عن التّشبّه بالمنافقين، وقد عرفت أنّ من النّفاق الرّياء، والمراؤون يتبعون أهواءهم، وهم في النّفاق آكد من المنافقين، لما أنّ إيمانهم وَدَعيٌّ غير راسخٍ ولا حقيقيٍّ، فهو

  
 

1- سورة البقرة، الآية 13.
2- يعني قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء﴾ سورة البقرة، الآية 13.
 
 
 
 
 
 
 
77

71

بصر الهدى

 والمنافق عند ظهور النّشأة البرزخيّة سيّان، ولا يجوز أن تتخيّل اختصاص ذلك بالمرائيّ، بل كلّ إنسانٍ كان نظره وقلبه متوجّهاً إلى غيره تعالى- في فعاله وصنيعه- فيه نوع نفاقٍ، ويقول بلسان الحال: ﴿آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾، ويجاب بقول الله تعالى: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾1.

 
التخلّص من النفاق
اعلم يا عزيزي في الله وقرّة عيني، أنّ اختلاف حالات النّاس في الجلوة والخلوة2 من الأمراض العامّة والأسقام السّارية، وقلّما يتّفق لأوحديٍّ من الكمّلين والخواصّ من المؤمنين، أن يتخلّص من جميع مراتب النّفاق، ويتخلّى عن التّغطية والتّغشية. وهذا مرضٌ يسري وينمو ويزداد من مرتبته الدّنيا إلى مراتبه العليا، حتّى يهلك صاحبه، ويصير من المنافقين الشّياطين أو أسوأ حالاً، 
  
 
 

1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 473 -474.
2- الجلوة: ما يظهر من نعوت الحقّ تعالى على السالك، والخلوة: محادثة السرّ مع الحقّ تعالى..
 
 
 
 
 
 
78

72

بصر الهدى

 فإيّاك وهذه الرّذيلة المهلكة الموبقة، وعليك أن تحذر عنها وتجدّ في دفعها وقلعها، وقلع مادّتها، وهي - كما تحرّر في محلّه - حبّ الدّنيا، وامتلاء القلب من شؤونها وأحكامها، وفي مقابله الشّرّة والنّسيان والغفلة عن الله والآخرة وأحكامها. وكما أنّ الكفّار فيهم المنافق، وفيهم الصّريح المعاند، كذلك المؤمنون فيهم المنافق، وفيهم الخالص الخاصّ، والصّريح البارز، وقد يتّفق أحياناً أنّ نفاق المؤمن أشدّ ضرّاً من نفاق الكافر، فإنّ البذر السَّيئ في الأرض المحتلّة باحتلال الشّيطان، لا يثمر ثمره، بخلاف عكسه، لأنّه بذلك ربّما تصير الأرض ومحطّ القلوب والنّفوس ظلمانيّةً شيطانيّةً تدريجاً. وقد عرفت فيما مضى أنّ الإيمان المستودع من النّفاق ومن الحجب الغليظة، فإنّه يظهر إيمانه ويشتهر بما لا يستمرّ ويستقرّ فيه، فإنّ المنافق الذي يقول عند لقاء المؤمنين آمنّا وصدّقنا وإنّا معكم، ليس منافقاً إلا لأن الإيمان ليس في قلبه، وفي حكمه المؤمن بالإيمان المستودع، فإنّه أيضاً لَمّا يدخل الإيمان في قلبه. 

 

 

 

 

79


73

بصر الهدى

 اللّهم يا إلهي إليك أبتهل، وإليك أتضرّع، وأرجو منك أن تعينني على طاعتك وعبادتك بحسن حالك وكرامة وجهك. يا إلهي وسيدي، احفظني بحفظك عن النّفاق، كثيره وقليله عظيمه وصغيره، واكلأني بكلاءتك عن هذه الصّفة المشؤومة، والرّذيلة المذمومة، التي توجب استحقاقي لسخطك وغضبك، بل واستهزائك. يا إلهي وهذا ممّا لا تقوم له السّماوات والأرض. اللهم إليك الأمر وعليك التّوكّل، فلا تكلني إلى غيرك يا الله1.

 
كن مع الله
... يا أخي في الله، ويا نفسي الّتي بين جنبيّ! خفِ الله قبل كلّ شيءٍ، واحذروا فإنّ الطّريق صعبٌ والسّدود كثيرةٌ، وإذا ترى ضعفاً في جهدك، وفتوراً في قواك، فهل إلى النّجاة ترى من سبيلٍ، وإلى الجنّة تجد الصّراط المستقيم؟ وهل بالفرار من المصائب تكون 
  
 
 

1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 511 -512.
 
 
 
 
 
 
 
80

 


74

بصر الهدى

 الرّجعة، وإلى العدم والوراء يمكن الاهتدام1؟ كلّا ثمّ كلّا، فكن مع الله في جميع الحالات ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾2، ولا تيأس من روح الله، فإنّه لا ييأس من روح الله إلا القوم الفاسقون، وكن على بصيرةٍ من أمرك، فإنّ الإنعامات الإلهيّة والعنايات الرّبانيّة- في جميع الآنات الزّمانيّة والدّهريّة - تعشق المربوبات، وتفي بالشّرائط والمقتضيات، إلا أن منها ما هو بأمرك وتحت اختيارك، وهي إرادتك في الأمور وعزمك على الحوادث في الدّهور، حتّى لا تضمحلّ قدمك ولا يتدكدك رأيك. فإنّ الرّحمة الواسعة الكليّة والقدرة الجامعة البسيطة، ربما تشمل العبد في حالٍ من الحالات حتى يفيء إلى أمر الله، ويفنى في فنائه، ويحشر يوم القيامة مع المتّقين، ويكون في الجنّة مع المقرّبين والتّوّابين، "ألا وإنّ لله في أيّام دهركم نفحاتٍ ألا فتعرّضوا لها"3.

  
 

1- أي الأخذ.
2- سورة هود، الآية 114.
3- المجلسي، بحار الأنوار ج 68، ص 221.
 
 
 
 
 
 
81

75

بصر الهدى

 انتبه من نفسك وممّن تعاشر

واعلم: أنّ النّفس من أسوأ الأعداء، وأشدّ الخصماء، وألدّ الخصام، وأنّها أمّارة بالسّوء إلا ما رحم ربيّ، وأنّها المنافق الحقيقيّ، وهي الشّيطان القرين، وساء قريناً، ولا تريد ولا تقصد إلا أن تصل إلى آمالها وأمانيها بهتك حرمات الله، وهدم السّنن والشّرائع الكلّيّة العامّة والشّخصيّة الخاصّة في قلبك، فاستعن بالله العزيز، واصبر ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾1 حتّى تخرجوا من هذه الورطة المحيطة، ولا تعتن بهذه الأمور العلميّة، ولا تقنع بالمفاهيم الكليّة الظّلمانيّة والحجب النّورانيّة المانعة، بل اجتهد إلى أن يتمثّل فيك حقيقة الإيمان. وقد جاءكم كتاب ونور ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾2،
  
 
 

1- سورة البقرة، الآية 45.
2- سورة المائدة، الآية 16.
 
 
 
 
 
 
 
 
82

76

بصر الهدى

 و﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾1، فإيّاك ثمّ إيّاك من معاشر السّوء، ومن مداراة المنحرفين، والمجاملة مع الفاسقين والكافرين، فإنّ من قرين السّوء وجار السّوء كان صلى الله عليه وآله وسلم- على ما في بعض الأخبار- يستغفر في كلّ صباحٍ سبعين مرةً2، فإذا كانت تلك القدسيّة الحقيقيّة الإلهيّة، وتلك المرآة الكلّيّة الجوهريّة، تتكدّر بأمثال ذلك، وتشتكي من هؤلاء الجيران والمرافقين، فكيف بالآخرين؟! فنعوذنّ بالله السّميع العليم من الشّيطان اللّعين الرّجيم إلى يوم الدّين3.

 
الهدى والضّلال ودرجاتهما
 
﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ 
  
 

1- سورة سبأ، الآية 46.
2- انظر: المجلسي، بحار الأنوار، ج 16، ص 258، أما التّفسير المذكور فهو احتمال من المصنّف قدس سره.
3- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 545 -548.
 
 
 
 
 
 
 
83

77

بصر الهدى

 وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾1، فيا أيّها العزيز، قد اهتدينا بهداياتكم البليغة، وإرشاداتكم الرّشيدة، فشكراً لكم وجزاكم الله جزاء المحسنين. ونرجو من الله ومن وليّه الصّالح وبقيّته في الأرض أن يمنّ علينا، ويمدّنا ويعيننا حتى لا نضلّ ولا نشقى، فإنّ الشّياطين من كلّ جانبٍ تحيط بنا، وتمرّ علينا في كلّ صباحٍ ومساءٍ، وتدعونا إلى الشّرور والسّيّئات، ولا تقنع إلا بالكفر والنّفاق، وبعد أن نشتري الضّلالة بالهدى، فإنّ الضّلالة والهدى ذوا مراتب كثيرةٍ، ومن كان في الدّرجة الثّانية من الهداية، الّتي هي ذات درجاتٍ عشرٍ، فقد اشترى ثماني درجاتٍ من الضّلالة بالهدى... وهكذا إلى أن يكون في الدّرجة العاشرة، فإنّه - عندئذٍ - باع الضّلالة بالهدى، فأصبح من المؤمنين الموقنين، ومن أصحاب اليمين ومن المقرّبين. فتكون تجارتهم رابحةً، ومن المهتدين حسب الحقيقة والواقع النّفس الأمري. فيا أخي ويا شقيقي: ألا 

  
 

1- سورة يوسف، الآية 88.
 
 
 
 
 
 
84

78

بصر الهدى

 ولا تظنّ أنّ مجرّد الإيمان بالله وباليوم الآخر والإقرار بالإسلام وعقد القلب على أحكامه يكفيك، فإنّ الضّلالات ودرجاتها هي الدّنيا، وحبّها هي الدّنيا، ومراتبها من زخارفها ومشاغلها ولذاتها وكيفيّاتها، وما دام القلب - الذي هو عرش الرّحمن - فيه حبّها وحبّ مظاهرها وجمالاتها وكمالاتها، فهو في الضّلالة، وهو من الذين اشتروا الضّلالة بالهدى، فلا بدّ وأن تقوم قياماً لا فتور فيه، وتنهض نهوضاً لا ضعف ولا مرض ولا عرض يعتريه، حتى تتمكّن من إخراج الشّبهات الإبليسيّة والتّسويلات الشّيطانيّة والوهميّة.. إلى أن تتمكّن من إخراج حبّ المقام والجاه والبقاء، حتّى تتجافى جنوبكم عن المضاجع، ولا تكون من الخالدين. 


التّخلية والتّجلية والتّحلية
وذلك لا يمكن إلا بالجدّ والاجتهاد والقوّة والنّشاط، وبتقليل الأغذية اللّذيذة الملهية، فإنّ رأس كلّ داءٍ كثرة الأكل، فإنّها
 
 
 
 
 
 
 
85

 


79

بصر الهدى

 تورث كثرة الشّهوة والباه والنّوم والغفلة، فإنّ القلب الصّافي يحصل بعد تصفية البطن وتخلية الباطن، فإذا تمكّن الإنسان من هذا القدم - وهو القدم الأول - يتمكّن من التّجلية وجلاء الرّوح بأنحاء الأوصاف والهدايات، ويتيسّر له أن يتحلّى قلبه بالمحاسن والمبرّات، ثمّ يتمكّن الإنسان السّالك من مقام التّحلية والفناء والمحو والصحو بعد المحو. 


وبالجملة: ينبغي للسّالك أن يحافظ على رأس ماله، ثمّ يطلب الرّبح، حتى إذا فاته الرّبح في صفقة يتداركه في أخرى، ليبقى رأس المال. فقد حُكي: أنّه كان للشّيخ أبي الدّقاق مريدٌ تاجرٌ متموّلٌ، فمرض يوماً، فعاده الشّيخ، وسأله عن سبب مرضه؟ فقال التّاجر: اشتغلت نهاري في التّجارة حتى تعبت، فقمت هذه اللّيلة لمصلحة التّهجد، فلمّا أردت الوضوء بدأ لي من ظهري حرارةٌ، فاشتدّ أمري حتى صرت محموماً. فقال الشيخ: لا تفعل فعلاً فضوليًّا، ولا ينفعك التّهجد ما دمت لم تهجر الدنيا وتخرج محبّتها من قلبك، وتحرص
  
 
 
 
 
 
 
86

80

بصر الهدى

 عليها، فاللّائق بك أوّلاً هو ذاك، ثمّ الاشتغال بوظائف النّوافل، فمن كان به أذًى من صداع لا يسكن ألمه بالطّلاء على الرّجل، ومن تنجّست يده لا يجد الطّهارة بغسل ذيله وكمّه. ومن علائم اتّباع الهوى: المسارعة إلى نوافل الخيرات، والتّكاسل عن القيام بالواجبات، ترى من يقوم بالأوراد الكثيرة والنّوافل الثّقيلة، ولا يقوم بفرض واحدٍ على وجهه1. انتهى. 

 
العلم ما ينتهي إلى الله
فتاجروا مع الله بالأعمال الصّالحة والصّدقات المفروضة، واطلبوا التّجافي عن دار الغرور، واقرعوا باب الاستغفار والاعتذار، ودعوا المباهاة والافتخار، ولا يغرّكم عزّكم في الدّنيا وإقبالها عليكم، فإنّ الإقبال مقلوبٌ "لا بقاء"، فبموتكم يذهب الذّهب، وإنّ الغناء عناءٌ، والدّرهم همٌّ، والدّينار نارٌ، ولا تضيّع عمرك في تحصيل العلوم الفضول، فإنّه من اشتراء الضّلالة بالهدى، فاقنع من العلم 
  
 
 

1- روح البيان ج 1، ص 65.
 
 
 
 
 
 
 
 
87

81

بصر الهدى

 بقدر حاجتك للعمل، فإنّ النّحو محوٌ، والنّجوم رجومٌ، والرّياضيّ رياضةٌ، والفلسفة فلّ1 وسفه، وتعلّموا العلوم النّافعة التي هي الأنوار بذاتها، ومنها علم القرآن والحديث. كلّ العلوم سوى القرآن مشغلةٌ غير الحديث، وكلّ ذلك لأنّ العلوم التي لا تنتهي إلى الوحي والتّنزيل لا يعلم أنّها علمٌ ونورٌ، ولا يصدق أنّها الهداية والخير، وقد كثر على الباحثين اشتباهاتهم في العقليّات، فضلاً عن الحدسيّات، وقد اتّفق في علمٍ: أنّ القاعدة الفلانيّة من القواعد المحكمة، النّاهضة عليها البراهين القطعيّة والشّواهد العرفانيّة، ثمّ تبدّلت في العصور المتأخّرة، فإذا أمعنت النّظر في حال أرباب الفكر والنّظر من ابتداء التّأريخ إلى عصرنا 21392 من الهجرة النّبويّة، على مهاجرها آلاف الصّلاة والتّحية، ترى تبادلهم في الرّأي والأنظار، وتشتّتهم في الآراء والعقائد، ولو كنت تذهب إلى مذهبٍ حسب ما وصل إليك من البرهان، ولكن بعد التّوجه إلى هذه التّقلّبات في الأقوال والمذاهب،

  
 

1- هو الثلم والكسر.
2- التاريخ حين تأليف الكتاب.
 
 
 
 
 
 
 
88

82

بصر الهدى

 وإلى أنّك أيضاً منهم، فكيف تطمئنّ إلى علومك وقولك؟! فالعلم ما ينتهي إلى الله تعالى بتوسّط ملك الوحي وسلطان الأمر. والله هو الهادي إلى الصّواب، ونرجو منه ونسأله أن يمنّ علينا بتجلّياتٍ باهرة، وبقبسات آياته القاهرة، وهو المعين1.

 
عموم الآيات القرآنية
اعلم يا صديقي ويا أخي في الله: أنّ الآيات الإلهيّة والأجزاء القرآنيّة، وإن كانت واردةً في بعض المسائل، ولبعض جهاتٍ تختص بطائفةٍ من المنحرفين والضّالين، ومخصوصةً بثلّةٍ من الفاسقين والسّاقطين، ولكنّها في النّظرة الرّقيقة والفكرة الدّقيقة، تشمل كافّة النّاس، عاليهم وسافلهم، وعموم الطّوائف، فاضلهم ومفضولهم، وذلك الإنسان في جميع الأحيان والمواقف متوجّهٌ إلى الكمال من النّقص، ومتحرّك نحو السّعادة من الشّقاوة، ويخرج من الظّلمات إلى النّور. ويؤيّد هذه المقالة السّارية في كافة أبناء البشر
  
 
 

1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 4، ص 31 - 34.
 
 
 
 
 
 
 
89

83

بصر الهدى

 قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾1، فإنّ من اتّبع رضوانه وبلغ إلى حدّ الرّضا، وهو من أعلى مراتب الكمال، وأشمخ منازل العرفان، يكون بعد في ظلماتٍ ويتعقّبه النّور وينتظره الهداية والصّراط المستقيم، فمن هذه الآية الّتي هي من أعاجيب آيات الذّكر الحكيم يتبيّن صدق مقالتنا، ويستظهر ابتلاء السّالك في جميع آنات السّلوك بالآفات والموانع.

 
قد يكون العلم حجاباً
فيا أخي وشقيقي: لا تظنّ اختصاص هذه الآيات وتلك الأمثال بفئة المنافقين وجماعة الكافرين، فإنّك من زمرتهم وعدّتهم، فربّ إنسانٍ بلغ في سيره العلميّ إلى قصواه، وأدرك في طريقه
  
 
 

1- سورة المائدة الآيتان: 15 - 16.
 
 
 
 
 
 
90

84

بصر الهدى

 التّعليميّ مناه وحظّه الأوفر ونصيبه الأكثر، ولكن قلوبهم خاليةٌ عن نصيبها وحظّها، وما ذاق منها ما ينتفع بها ويتوجّه إليها، بل هو بعد خامدٌ ونارٌ طافئةٌ، فإنّ تلك المفاهيم بمنزلة النّار المستوقدة التي يستضيء بها الّذي استوقدها في مرحلة الابتداء وفي المنزل الأوّل، وأضاءت ما حوله من السّطوح النّفسانيّة والأقشار البدويّة، ﴿ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ﴾1 ولم تؤثّر تلك النّار فيما كان ينبغي أن تؤثّر فيه، ولم ينتفع المستضيء، إلا بحسب الميول الوهميّة، واللّذات الخياليّة، والكمالات الأوّليّة. 

 
وبالجملة: جميع المتعلّمين من أهل الظّاهر والباطن، وكافّة المشتغلين بعلومٍ حقيقيّة وغير حقيقيّةٍ ليسوا مأمونين عن الانسلاك في هذه الآيات، وعن الاندراج تحت هذه التّحذيرات والإيقاظات، ولا يخصّ بذلك بعضهم دون بعض، كما توهّمه صاحب "الحكمة
  
 
 

1- سورة البقرة، الآية 17.
 
 
 
 
 
 
91

85

بصر الهدى

 المتعالية" قدس سره1، فإنّ مجرّد الاشتغال بالعلوم العقليّة غير كافٍ للهداية إلى تلك السّبل والمنازل، بل ربّما تكون العلوم العقليّة أغلظ حجاباً من غيرها، لمكان كونها أسرع مركباً وأحسن سبيلاً وأعلى درجةً، فعلى كلّ الطّالبين، وعلى زمرة المحصّلين المتوجّهين نحو الدّار الآخرة والجنّة العالية، التوجّه إلى هذه العواصف والأرياح الّتي تذهب بالنيران وضوئها، وتمنع عن اتّصال القلب بربّه، وعن اشتعال نار الحقيقة للوصول إلى أصله. الّلهم يا إلهي نوّر قلوبنا بنور الإيمان والمعرفة، ولا تذهب نيراننا فتهلكنا بما فعل المبطلون، ولا تتركنا في ظلمات لا يبصرون. آمين يا ربّ العالمين2.

 
الخوف والرّجاء
اعلم: أنّ من المحرّر في الرّوايات القطعيّة والأخبار المتواترة، ومن المقرّر في العلوم العقليّة والأخلاقيّة: أنّ الإنسان معجونٌ 
  
 
 

1- راجع: صدر المتألهين، تفسير القرآن الكريم، ج 1، ص 420 - 421.
2- الخمينيّ، الشّهيّد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 4، ص 93- 94.
 
 
 
 
 
 
 
92

86

بصر الهدى

 مركّبٌ من جهاتٍ شتّى، ومن تلك التراكيب المرعيّة في هذه الطّبيعة العجيبة، ومن النّعوت المخمورة في فطرته الأوّلية، هو الخوف والرّجاء. ولأجل هذه الوديعة يجب عليه أن يخاف ويرجو، فلو خاف بالمرّة، أو رجا بالكلّيّة، لما وصل إلى الحدود اللّازمة، وإلى المراتب الرّاقية، ولم يتمكّن من الجمع بين الخيرات الحسّيّة والمعيشة الدّنيويّة والسّعادة الظّاهرة، وبين الخيرات العقليّة والحياة الأخرويّة والسّعادة الأبديّة. وعلى هذه الرّحى تدور إطارات المجتمعات البشريّة، وسياسة المنزل والبلد والقطر والمملكة الواسعة الكبيرة، ولأجل هذه الخصيصة يجب على المرشدين وأرباب الوعظ والهداية، أن يفتحوا في سيرهم أبواب الجانبين وسبل الطريقتين، فلا يقولون بما يحصل منه الرّجاء المطلق، ولا بما يخاف منه النّاس كلًّا، بل لا بدّ من المحافظة على الفطرة بذكر الخوف والرجاء.

 
وتفصيل هذه المسألة يطلب من مقامٍ آخر. فعلى هذا الأصل الأصيل تتوجَّه هنا مشكلة: وهي الحكم بأنّهم لا يرجعون من القساوة والبطلان إلى السّعادة والحقّ، ومن الضّلالة
 
 
 
 
 
 
 
93

87

بصر الهدى

 إلى الهداية، فإنّ من يجد نفسه في هذه المرحلة من الانحطاط، ويدرك نصيبه من الشّقاوة بهذه المنزلة من الدّناءة والانحراف، فيخرجه عن حدّ الرّجاء والآمال، فيسقط للأبد في النّار خالداً فيها ما دامت السّماوات والأرض، وهذه الطّريقة غير مرضيّة من الكتاب الإلهي على ما يظهر منه، فإنّ كتابكم هذا جامعٌ شتات المنحرفين وشاملٌ شمل المنحطّين، وفيه من آيات الرّجاء ما لا يُعدّ ولا يُحصى، وقد سلك أحسن المسالك في الجمع بين الخطّين، وفي مراعاة الوجهين والنّاحيتين. 

 
وبالجملة: هو كتاب الهداية والوعظ الأبديّ، وكتاب اللّطف والعشق السّرمديّ بكافّة النّاس والأنام، على أرقى الوجوه وأحسن الكلام في كلّ حالٍ ومقامٍ، كيلا تزلّ لديه الأقدام، حتّى الرّسل والأنبياء، فضلاً عن الأعلام..
 
ثمّ إنّ مراعاة الحالين الخوف والرّجاء في الوعظ والإرشاد، لازمٌ بالقياس إلى من في وجوده من النّور شيء، وأمّا إذا ﴿ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ 
 
 
 
 
 
 
 
94

88

بصر الهدى

 وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ﴾1 وهم الصمّ البكم العمي، فكيف يمكن أن يرجعوا إلى دار السّعادة وحسن العافية والعاقبة ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ﴾2 دون هؤلاء الغافلين المبعدين. ففي هذه الآيات إنذارٌ بالنّسبة إلى الآخرين، حتّى يصونوا من الانسلاك في نسوجهم الباطلة، والانخراط في خيوطهم الكاسدة الفاسدة. 

 
عليك بصحبة الأخيار
 
فيا أيّها الأخ العزيز ويا قرّة عيني: إيّاك ومصاحبة الأشرار، فإنّ فيها المضارّ، وعليك بصحبة الأخيار ومرافقة الأبرار، فإنّ فيها لذّات الدّيار، وخيرات كلّ دار...، فلو غلبت الشّهوات والسّهو والنّسيان بمرور الأيّام وبمصاحبة الأشرار في الشوارع والأسواق، فهي تذوب برؤية أرباب العقل وأصحاب العشق والقلب، فإذا كان المبتدىء السّالك يحبّ العافية التّامّة والعاقبة الحسنة، فيكون
  
 
 

1- سورة البقرة، الآية 17.
2- سورة المدثّر ، الآيتان 54 -55.
 
 
 
 
 
 
95

89

بصر الهدى

 بقلبه ذاكراً لمعشوقه على الإطلاق في جميع الآنات والأيّام، وفي كافّة الحالات والأزمان، فعليه بتلك الحلقات وإحداثها واستمرارها، قاصدين في تأسيسها تذاكرهم وتعانقهم، وأن يكون الواحد منهم يشرق على الآخرين ويضيئهم بالأضواء القلبيّة والأنوار الرّوحيّة، فإن النّجاة لا تحصل إلا بالاجتهاد في هذه المبادئ، وبالجهاد مع أعدائه. والله خير رفيقٍ ومعينٍ1.

 
التّخلّق بأخلاق الله
اعلم يا أخي في الله، أنّ الله تبارك وتعالى مع كمال غنائه في ذاته عن جميع ما سواه، ونهاية استغنائه عن كافّة الأشياء بقضّها وقضيضها، يلاحظ في مقام الأمر والنّهي جانب الرّأفة والرّحمة وطرف الأدب والتّعظيم، حتّى يجد العبد السّالك من كلامه نوراً يمشي به في ظلمات الأنفس والآفاق، فإذا نظرت وتأمّلت بعين 
  
 
 

1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 4، ص 133 -136.
 
 
 
 
 
 
 
96

90

بصر الهدى

البصيرة ونور العرفان والشّهود في هاتين الآيتين1، تجد أنّ الآية الأولى مشتملةٌ على الأمر، والثّانية على النّهي، ولا شبهة أنّ الأمر والنّهي متضمّنان نوعاً من المرارة وجانباً من التّحقير والاستعباد، لأنّ الأمر- ولا سيّما من العالي- وهكذا النّهي، على خلاف استكبار الإنسان وطمطراقه2، ولأجل ذلك شفع الأمر والنّهي بالجهات الكاشفة عن الرّجاء والأمل، وأنّ الله تعالى مع كمال عظمته الّتي لا يمكن إدراكها، والعبد مع نهاية صغره الذي لا ينال حدّه إلا الله، يخاطب الإنسان ويتوجّه إليه ويأمره بلينٍ ورأفةٍ ورفقٍ، ويترك جانب الغلظة، فيقول: ﴿اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ حتّى يتوجّه العبد إلى حكم الفطرة السّليمة، وأنّ عبادة الربّ الحقيقيّ لازمةٌ عقلاً، أَمَرَ المولى أم لم يأمر، ثمّ يقول: ﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ حتّى لا يتأثّر الإنسان من توهّم أنّه مخلوقٌ دون غيره، فيجد أنّ الكلّ مخلوقٌ، ثمّ يردف ذلك بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ حتّى يذوق أنّ الله يأمل ذلك، ويرجو تقواه وإيمانه وعبادته، ولا يكون
  
 
 

1- يعني الآيتين 21 -22 من سورة البقرة.
2- بمعنى التعالي والرفعة، والكلمة ليست عربية على ما يظهر.
 
 
 
 
 
 
 
 
97

91

بصر الهدى

 الأمر أمر تشديدٍ، ولا نهي غلظةٍ وسلطةٍ. نعم يقول بعد ذلك: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً﴾، فيكون هو الرّؤوف الرّحمن والرّحيم العطوف، والذي جعل لكم السّماء بناءً، وهكذا صنع كذا وكذا ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً﴾ فإذا كان الله تعالى في وعظه وإرشاده يراعي نهاية الرّفق والأدب، ويلاحظ غاية البلاغة والشّرف، حتّى يقول ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، مع أنّ الانسان لا يعلم- حسب كثيرٍ من الآيات - شيئاً، وأقلّ شيءٍ قُسّم بين العباد هو اليقين والعلم. فيا عزيزي ويا أخي وشقيقي، إذا كان هو تعالى في هذه المنزلة من التّواضع، فأنت لا تكن جبّاراً متكبّراً ولا آثماً وعاصياً لمثله العزيز. إلهي وسيّدي أرجو أن تهدينا إلى سواء السّبيل، ونأمل أن تعيننا على طاعتك وعبادتك، ولا تؤاخذنا يا رفيق، ويا عطوفاً بعباده وخلائقه، واجعلنا من عبادك الصّالحين المتّعظين بوعظك حتّى لا نعبد إلا إيّاك، ونخلص لك عبادتنا وأعمالنا، واهدِ الغافلين منّا وأهل الشّدة والغلظة إلى أن يتحقّقوا بهذه الآيات حتّى يكونوا مثالاً لنبيّك الأعظم ووليّك الأفخم. آمين يا ربّ العالمين1.

  
 

1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 4، ص 391 -392.
 
 
 
 
 
 
98

92

بصر الهدى

 التّخلّق بأخلاق القرآن العظيم وآداب الكتاب الحكيم:

 

يا أيّها العزيز ويا أيّها القارئ: إنّما الهدف من جميع هذه البحوث، والمقصود من كافّة تلك المسائل، هو النيل بمقام الرّبّ، والتّخلّق بأخلاق الله، والتوجّه إلى أنّ الله تبارك وتعالى مستوي النّسبة إلى عامّة الأشياء، ولا فصل بين شيءٍ وشيءٍ في هذه المرتبة وتلك المنزلة، وإنّما الخلق يتفاوت نسبهم إليه تعالى بوجهٍ خاصٍّ، لا يحصل ذلك إلا في قوس الصّعود، فمن الخلق من يصل بالحركة الذّاتيّة الطّبيعيّة إلى ما دون الطّبيعة وإلى الجحيم والنّار الأليم، وتكون حركته تضعّفيّةً متنازلةً منعكسةً، وتصير طبيعته محجوبةً بالحجب الاكتسابيّة الظّلمانيّة، إلى حدٍّ تنقلب من الطّينة الخميرة الإلهيّة، ومن فطرة الله إلى الفطرة الشّيطانيّة الانقلابيّة النّاريّة الذّاتيّة الخالدة، فإذا مات وقع في قعر الجحيم، ويكون في جميع سكناته وحركاته متوجّهاً إليه حتّى يصل إليه.
 
 
 
 
 
 
 
 
99

93

بصر الهدى

 رواية عجيبة

 

وإلى هذه المائدة الإلهيّة والحقيقة الفلسفيّة، يشير الكشف الأحديّ الأحمديّ المحمّديّصلى الله عليه وآله وسلم، حسب رواية محكيّة في كتب العامّة والخاصّة، وهي من أعجب ما رُوِيْنَا عنّه صلى الله عليه وآله وسلم: "أنّه كان قاعداً مع أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، فسمعوا هدّةً عظيمةً فارتاعوا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أتعرفون ما هذه الهدّة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: حجرٌ أُلقِيَ من أعلى جهنّم منذ سبعين سنةً، الآن وصل إلى قعرها، فكان وصوله إلى قعرها وسقوطه فيها هذه الهدّة. فما فرغ من كلامه صلى الله عليه وآله وسلم إلّا والصّراخ في دار منافقٍ من المنافقين قد مات، وكان عمره سبعين سنةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الله أكبر، فعلم علماء الصّحابة أنّ هذا الحجر هو ذلك المنافق، وأنّه منذ خلقه الله يهوي في جهنّم، وبلغ عمره سبعين سنةً، فلمّا مات حصل في قعرها "1. قال الله
 
 
 

1- راجع: الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج 2، ص 1002.
 
 
 
 
 
 
 
100

94

بصر الهدى

 تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾1، فكان سمعتهم تلك الهدّة التي أسمعهم الله برفع الحجب بتوسيط الرّسول أحياناً ليعتبروا، فانظروا ما أعجب كلام النّبوّة، وما ألطف تعريفه، وما أغرب كلامه صلى الله عليه وآله وسلم.

 
مقام العبوديّة وأثره
 
وبالجملة: من الخلق من ينال الرّتبة العليا، مرتبة ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾2 في الحركة الجوهريّة الذّاتيّة، ومن النّاس متوسّطون بين تلك وتلك، فعليك يا أخي وعزيزي أن تكون من المعتبرين والمتوجّهين إلى أنّه لا جزاف، فإذا تمكّنت من أن تحصّل العبوديّة المطلقة للذّات الأحديّة الإلهيّة والواحديّة الجمعيّة، يتنزّل عليك القرآن وأعظم منه، وإذا تمكّنت من نيل مقام العبوديّة المقاربة لتلك العبوديّة الذّاتيّة، يحصل لك من الحقائق ما ينطق به لسانك، 
 
 
 

1- سورة النساء، الآية 145.
2- سورة النجم، الآية 9.
 
 
 
 
 
 
101

95

بصر الهدى

 ويتنزّل إلى سمعك أمثال "نهج البلاغة" و"الصّحيفة السّجّاديّة"... وهكذا، فكلّ الأمور المتأخّرة معلولة الأمور المتقدّمة، وجميع الشّرائط المتقدّمة معلولة المجاهدات النّفسانيّة والرّياضات البدنيّة، ومسبّبةُ عن تحمّل المشقّات الدّنيويّة والتّضحية والفداء في طريق الحقّ ولنيل العشق المطلق. وأمّا الاشتغال بالتّفريح والتفرّج، والانغماس في حياض اللّذّات الحيوانيّة، والانغمار في الشّهوات النّفسانيّة، والتّوغّل في المشتهيات الشّيطانيّة، فلا يستتبع إلا طبقات الآلام الأخرويّة والعقبات الجحيميّة، وقد مرّ في هذا الكتاب مراراً الإشارة إلى تلك المواعظ، وإلى هذه الأمور اللّازمة جدّاً، إلّا أنّ راقم هذه الأسطر وقارئها في نومة الغافلين، وفي غفلة المشتغلين بالدّنيا عن الآخرة والدّين، وفي الذّهول عن الحقائق والمسيرة الاستقباليّة في البرازخ والقيامة، فأعاذنا الله تعالى منها، وأذن الله أن يشفع لنا الشّافعون. اللّهمّ آمين يا ربّ العالمين. 

 

 

 

 

102


96

بصر الهدى

 فإذا كنت تقرأ هاتين الآيتين1، أفلا تخاف من أن تكون تلك الحجارة الواقعة في قعر الجحيم عند الموت، ولا تخشى من أن تكون وقود النّار المشتعل على غيرك من الأناسيّ والعباد، فيحترق غيرك بك، فتكون عليك لعائن الله والنّاس المتأذّين بنارك وإيقادك. إلهي أنت أعلم بي منّي، وأنت تعلم أنّي قد أفنيت عمري في شرّة السّهو عنك، وأبليت شبابي في سكرة التّباعد منك، وقد دعوتك ليلاً ونهاراً خفاتاً وجهاراً، ولا أظنّك تردّني في حاجةٍ أفنيتُ عمري في طلبها منك، ما هكذا الظنّ بك، ولا المعروف من فضلك، ولا مشبهٌ لما عاملت به الموحّدين من برّك، فيا إلهي ويا سيّدي، إنّي وإن كنت ذاهلاً وغافلاً عنك، ولكن سترك عليّ يوثبني على محارمك، ويجرّئني على اقتراف معاصيك وذنوبك، فلا تخيّبني يا رحمن الدّنيا والآخرة، وخذ بيدي ونجّني وأهلي وشيعة الأمير عليه السلام من القوم الظّالمين، ومن أحزاب الشّياطين، وقنا من النّار الّتي وقودها النّاس والحجارة أعدّت للكافرين2.

 
 

1- يعني الآيتين 23- 24 من سورة البقرة.
2- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 4، ص 545 -548.
 
 
 
 
 
 
 
 
103

97

بصر الهدى

 اللّهمّ اجعلنا من عبادك المخلصين

 
﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾1. اللّهمّ إنّا ندعوك ونسألك الإيمان والعمل الصّالح، وأن تعيننا على ذلك، وتقوّينا عليه بما هو عندك، ولا تجعل الدّنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا. اللّهمّ يا إلهي أنت تعلم أنّا نؤمن بك، راجين لما عندك من الثّواب الجزيل والأجر الجميل، ومتمنّين لجنّتك، وخائفين من نارك، وهذا هو إيمان العبيد وعبادة الأجراء، فاجعلنا من عبادك المخلصين والصّالحين، الّذين يؤمنون بك وبما عندك، حبّاً فيك وعشقاً لك ومتدليّاً إلى حضرة ربوبيّتك، ونرجو أن تعيننا على طاعتك وعبادتك، نظراً إلى جميل ذاتك وبهاء نفسك، حتى نكون من عبادك المخلصين ومن العابدين الأحرار، فلا يكون طمعنا فيك الجنّة، ولا خوفنا من نارك، بل نهرب منك إليك، حيث لا ملاذ ولا 
 
 
 

1- سورة يوسف، الآية 88.
 
 
 
 
 
 
104

98

بصر الهدى

 منجى ولا ملجأ لنا إلا أنت يا كريم. فيا أخي ويا شقيقي وعزيزي: إنّ راقم هذه السّطور وكاتب هذا الدّستور بعيدٌ عن المحاسن الآدميّة، ومنغمرٌ في الرّذائل الحيوانيّة، بل هو أضلّ وأذلّ، ولكنّك أيّها القارئ المخلص، وصديقي الخالص، لا تظنّ أنّ هذه الأمور وهذه الورطة وتلك الخطرات المهدّدة في الطريق استهزاءٌ وسخريةٌ ومجازٌ واستعارةٌ، لا والله، كلّا بالله، بل كلّ ما جاء به النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والوليّ في كلماته، والأئمة عليهم السلام في الأخبار الصّحيحة، حقٌّ لا مفرّ منها، فخذ بيدك، وكن جاهداً في ليلك، وارجُ وتمنّ من ربّك، وأخلص له وكن مريداً وجهه جداً، وعازماً قطعاً على هذا السفر، الذي أنت فيه وفي طريقه وفي وسطه، وعلى ذلك الجسر والصّراط الّذي تكون الدّنيا أوّله، والبرزخ وسطه، والآخرة منتهاه، والجنّة وراءه، فالجحيم مسيطرةٌ عليك من الجهات السّتّ، ولا تنجو منها إلا بعدما تتجاوز الصّراط وتلك القنطرة الطّويلة، فكن من شيعة الّذين يقولون وينادون بأعلى أصواتهم: جزنا وهي خامدةٌ1، جزنا 

 
 
 

1- راجع: الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج 2، ص 971.
 
 
 
 
 
 
105

99

بصر الهدى

 وهي بعيدةٌ عنّا، ولا تلمسهم ولا يلمسونها، لأنّ الجحيم لأهلها، ولا تتجاوز إلى غيرهم، إنّ الدّار الآخرة شاعرةٌ، حيّةٌ، مدركةٌ، تدري وتميّز بين الأشقياء والسّعداء، فلا تكون ظالمةً ومتعدّيةً بالضّرورة، فعليك أن تكون مثالاً لهم وممثلاً لأمثالهم.

 
لا تستحيي من الحقّ
ويا أيّها العزيز والصّديق: إنّ الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً، فيكون هو تعالى في هذا المقصود والغرض الأعلى، وفي هداية النّاس في نهاية اللّطف والرّحمة، وفي نهاية الجود والرّحمة، فلا يتحاشى عن ذلك بضرب الأمثال، ولا يمتنع من توجيه الأنظار ولفت الأفكار، فأنت في دينك وفي مذهبك وفي طريقتك تكون مثله، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تستحيوا في إظهار الحقّ وإبطال الباطل، ولا تستحيوا في توجيه الأمّة وهدايتهم، ﴿وَلاَ 
 
 
 
 
 
 
 
106

 


100

بصر الهدى

 تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾1، فكثيرٌ من الإخوان الصّالحين وأهل العلم وروّاد الحقّ والطالبين لأحكام الإسلام، يمتنعون عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، حياءً واستحياءً، مخجلةً وستراً، غفلةً عن حقيقة الحال، ذاهلةً عن الأمر والمقصود العال، وقد حُكي: أنّ عليّاً عليه السلام كان صريحاً واضحاً في إظهار الحقائق، وإبراز الواقعيّات، وبيان المنكرات، وإعلان المعروفات، ومن غير مراعاة حال الموقف والجهات العرفيّة، إلا إذا كان يرجع إلى أمرٍ منكرٍ أعظم، كما تحرّر في الفقه. فالله تعالى لا يستحيي من الحقّ، وهذا نموذجٌ وبرنامجٌ ودستورٌ وإيقاظ إلى أن تكون الأمّة الإسلاميّة وعائلة البشر مثلاً في التجنّب عن الأباطيل، وفي هداية النّاس إلى الحقّ المبين، فوا ويلا ثم يا ويلا على الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، في أيّة مرحلةٍ كانت من مراحل العالم ومن مقامات الإنسان، فإنّ نقض العهد قبيحٌ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل قبيحٌ، والإفساد في الأرض قبيح، ولا يمكن سدّ هذه القبائح إلا بعد 

 
 
 
 

1- سورة آل عمران، الآية 139.
 
 
 
 
 
 
 
107

101

بصر الهدى

 معرفة أبوابها، وبعد تحصيل مفاتيحها وزواياها، فعليك بالتّدّبر فيها والتّأمّل والتّعمّق حولها، والاجتهاد والقيام لأجلها برفضها وطردها، فإنّ القليل من الحرام حرامٌ ، فالقليل من نقض العهد والقطع والإفساد حرامٌ، ولو كان في محيط الإنسان الصغير، فضلاً عن القطر الكبير والمحيط الأعلى والأكبر. اللّهمّ إنّا نشكو إليك فقد نبينا وغيبة وليّنا، فامنن علينا بالحجّة بظهور الحجّة يا الله1.

 
الموت والحياة
اعلم أنّ الكفر من جنود الشّيطان، وأعظم جندٍ في العالم الإنسانيّ والمحيط البشريّ، وضدّه الإيمان، وأمّا الحياة والممات فهما من جنود العقل، ولذلك لم يذكر في حديث سماعة بن مهران المشتمل على جنود العقل والجهل البالغ جندهما إلى أكثر من سبعين، لم يذكر فيه الموت من جنود الجهل، فالموت ليس شيئاً مذموماً ولا صفةً شيطانيّةً، ولأجل ذلك عدّ خلق الموت 
 
 
 

1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 5، ص 88 -91.
 
 
 
 
 
108

102

بصر الهدى

 والحياة من صفاته تعالى، فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾1، وقد قدّم الموت عليها، كما قال هنا: ﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ﴾2. فيا عزيزي وشقيقي ويا قرّة عيني وثمرة فؤادي: كيف تكفرون بالله؟! وكيف تكفرون بهذا الموجود العزيز الرّؤوف بالعباد، الذي يهتمّ بهداية البشر نهاية الاهتمام، بإرسال الرّسل وإنزال الكتب وتحمّل رسوله المصائب والبلايا، والمتصبّر في ذات الله سنين كثيرةٍ؟! فكيف تكفرون ولا تذعنون إذعاناً لا باللّسان والألفاظ، ولا بالعلم والعقل، بل بالقلب والرّوح؟! وكيف لا تؤمنون بهذا الإله الخلّاق القادر العالم الذي يقلّبكم مراراً من الموت إلى الحياة، ليصير وجودكم كاملاً حيّاً باقياً بالحياة الطّيّبة الأبديّة، وباقياً بالبقاء الشّامخ السّرمديّ، والّذي يراعي حياتكم بخلق هذه الأنظمة العالميّة والأكوان السّفليّة والعلويّة، والذي يخلق لكم ما تحتاجون إليه من بدوّ ظهوركم في الأصلاب إلى أن تنتقلوا إلى 

 
 
 

1- سورة الملك، الآية 2.
2- سورة البقرة، الآية 28.
 
 
 
 
 
 
 
 
109

103

بصر الهدى

 الأرحام، ثمّ إلى الدّنيا والبرزخ والعقبى، فهيّأ لكم تمام الأسباب، وسوّى لكم جميع الحوائج والشّرائط بأحسن النّظام وأسهل الأمر؟! فكيف ترضون بالكفر به وإنكاره وجحوده عبادةً وقولاً ونفساً وروحاً وقلباً؟! ولأيّة جهةٍ تختارون الباطل عليه، وتسيرون سيراً ضد الفطرة، وعلى خلاف الهداية والسّعادة. فعليكم بالتّدبّر والتّفكّر في ألطافه ومراحمه ورأفته ومحبّته، مع غاية استغنائه عنكم، وعن خلقكم وخلق ما في الأرض وما في السّماء، ونهاية بعده عمّا بين أيديكم من الأشياء الخطيرة والمحقّرة، فهل من العدل والإنصاف، أو من شرط التعقّل والإدراك، التغافل عنه والغفلة عن نعمه، بصرف النّظر إلى غيره، ولفت التوجّه إلى ندّه وضدّه؟! كلّا والقمر، حاشا والبشر. فيا أيّها العزيز والأخ في الله: قوموا عن نومتكم، واستيقظوا من غفلتكم، وتوجّهوا وأنيبوا إلى ربّكم، وأسلموا له ولا تكفروا كفراً ولا كفراناً، ولا تلدوا فاجراً ولا كفّاراً1.

 
 


1- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 5، ص 179 -180.
 
 
 
 
 
 
110

104

بصر الهدى

 اعرف نفسك

 

اعلم يا أخي في الله ويا محبوبي ويا عزيزي في الدّين والدّنيا: أنّ يَراعي قاصرٌ والقلم فاترٌ، وفكري مبتذلٌ، وفهمي بسيطٌ، واطّلاعي يسيرٌ، وباعي قصيرٌ، ومِمّا يؤسف عليه ابتلائي بالبلايا الكثيرة، واتّصافي بالصّفات السّيّئة، وبُعدي عن وظائف الدّيانة، وذنبي بالنّسبة إلى المسائل الإلهيّة، وعصياني بالنّسبة إلى شروط الإنسانيّة، ونحمَد الله على كلّ حال، ونشكر(ه) على هذه الخصال، ولست آيساً عن شفاعة الشّافعين ومعونة أهل اليقين ومعاضدة المتّقين بمرافقة المؤمنين، فإنّها من أحسن النّعم الإلهيّة وأرقى النّحلات الرّحمانيّة، رزقنا الله وإيّاك كي ترقى إلى ما هو المأمول في آدم، وإلى ما هو المرجوّ من هذه الصّيصية1، الصّغيرة جرماً، والكبيرة بطناً، والعالية غايةً، والدّانية مبدأً. فعليك بالاهتمام بشأنك، ولا تكن قنوعاً في هذا الميدان الفسيح، ولا صبوراً في 
 
 
 

1- الصيصية في اللغة: كلّ ما يمتنع ويتحصن به المرء والمراد هنا البدن الإنساني.
 
 
 
 
 
 
111

105

بصر الهدى

 هذا الطريق الوسيع، وكن باذلاً جهدك في الإنسان الكبير وفي الكون الجامع الذي إليه المصير بعون الملك القدير، ولا تغفل عن الزّوايا الموجودة في وجودك، والخلاء المتقدّر في سرّك، والعدّة والاستعداد الذي تحت تصرّفك، فإنّ الله فيّاضٌ جوادٌ عالمٌ قادرٌ، يجذبك بجميع الوسائل الإمكانيّة، ويعشقك نهاية العشق الإلهيّة بالحركة الذّاتيّة الموجودة فيك، وبالإمكانات الطّبيعيّة المودوعة لديك، فإنّما المنكوس من اتّبع سبيل الشّيطان، والغير الواصل مَن خضع لغير الإنسان، والمحجوب عن الفطرة المخمورة مَن ذلّ لغير الرّحمن، فإنّه قد سلك سبل المعاندين بالاختيار، وسار في طريق الملحدين الكافرين بالإرادة والإفكار. 

 
الإنسان مسجود الملائكة
اعلم يا أيّها الآدميّ، بل ويا آدم: أنت بحسب الخلقة الأوّليّة، وبحسب الفطرة الإلهيّة مسجود الملائكة أجمعين أكتعين1، 
 
 
 

1- أكتع مرادف لأجمع ولا يستعمل إلا معها، يقال: رأيتهم أجمعين أكتعين.
 
 
 
 
 
 
112

106

بصر الهدى

 فكلهم خاضعون ساجدون، ومسخّرون عندك، حسب مراتب وجودك ومراحل حقيقتك ومنازل مسيرك وسفرك، وقد أمر الله بذلك، وكان الله تعالى ربّك رؤوفاً بك عطوفاً عليك رحيماً رحماناً، اصطفاك خليفةً، وعلّمك ما لم تكن تعلم، واستعرضك كي تجد الملائكة مقامك ومنزلتك، وبعد ذلك كله خضعت الملائكة وسجدت تكويناً لك، وتلك الملائكة الأعلون والأسفلون امتثلوا أمر الله تعالى امتثالاً دائميّاً سرمديّاً، وأطاعوا أمر الله تعالى إطاعةً مسجّلةً في ذواتهم، وانقياداً لا يتصوّر وراءه تكويناً وتشريعاً. فإذا كانت هذه الحقيقة في انتظارك، وتلك البارقة اللّاهوتيّة1 في خميرتك، وهذه المائدة الكلّيّة الجامعة في جوارك، فهل إلى التّخلية عن الرّذائل الذّاتيّة، والتّخلية عن الخبائث الصّفاتيّة، وعن المفاسد الأفعاليّة والأباطيل الأقواليّة، قصور وفتورٌ؟! كلّا إنّه خلاف العدالة، وضدّ الإنصاف والاقتصاد، فإنّ إبليس أبى واستكبر، وتفوّق بإبائه واستكباره على هذه الملائكة وهؤلاء

 
 
 

1- اللّاهوت: عالم الأسماء والصّفات.
 
 
 
 
 
 
113

107

بصر الهدى

 الأماجد والسّابقين، بإضلالك (و) سوقك إلى النّار والشّيطنة والانحطاط والهجرة والمحجوريّة. 


لا تكن ساجداً للشّياطين
فيا أخي ويا نفسي وشقيقي: كيف الأمر وأنت ساجدٌ للشياطين، والملائكة سجّدٌ لك، أنت مطيع الأبالسة وملائكة الله تطيعك، أنت منقادةٌ إليك الخلائق الطّاهرة القدّيسة المنزّهة، وتنقاد أنت للجان والشّيطان، عدوّك وعدوّ الله تعالى. فوالله أنت مظهرٌ لا يستحيي من كل شيءٍ، وأنت أرذل من الحيوان وأضلّ سبيلاً، فعليك بالانتباه عن نومة الغافلين، والالتفات إلى منازل السّائرين، والابتعاد عن أن تكون من الكافرين الآبين المستكبرين، ولتخف يا صديقي من حشرك مع الشّيطان والشّياطين، فإنّ الملائكة تجرّك إلى الجنّة، وإبليس يجرّك إلى النّار، وأنت تساعده بترك اتّباع الشّرع، وبامتثال أوامر الهوى والنّفس، فإنّ الخيرات والعوامل الباعثة نحو العواقب الكريمة غير متناهيةٍ، وأمّا الشرور فتنتهي
 
 
 
 
 
 
114

108

بصر الهدى

 إلى إبليس الذي لا يتمكّن إلا بمعاونتك، أَفَمَا سمعت عن بعضٍ أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "شيطاني آمن بي"1.

 
إلهي إنّ عبدك المكتفي بهذه الصّحائف والسّطور، بعيدٌ عن كافّة البوارق والنّور، فإليك الابتهال والإنابة والتوبة، فأعنّا يا خير معينٍ2.
 
 
كلمتي الأخيرة معك 
 
فعليك يا شقيقي وأخي في الله وفي ديني، النّظرة العميقة في كيفية طينتك الطّيّبة المعجونة بأسماء الله، والمركّبة من صفاته، وكيفيّة المحافظة على تلك الطّينة والفطرة الإلهيّة، وهي فطرة الله التي فطر النّاس عليها، وكيفيّة التّجنّب عن ظلماتٍ بعضها فوق بعضٍ، والموجبة لصيرورة تلك الطّينة المخمورة طينةً وفطرةً محجوبةً بحجبٍ روحانيّةٍ وظلمانيّةٍ، وما ذلك إلا بالتدبّر والتفكّر 
 
 
 
 

1- راجع: المتقي الهندي، كنز العمال، ج 11، ص 413، الحديث رقم 319 - 36.
2- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 5، ص 403- 404.
 
 
 
 
 
 
115

109

بصر الهدى

 في المعاشرين وفي حضور المجالس الباطلة والمحافل العاطلة معهم، والتفكّر والتأمّل في مخالفة النّفس، فإنّ في مخالفة النّفس معرفة الرب، كما ورد عن الرّسول الأعظم الإسلاميّ صلى الله عليه وآله وسلم. 

 
ويا روحي وقلبي ويا صديقي وحبيبي: إنّ من اتّبع هدى الله وكرامته وتوجيهاته وإرشاداته القرآنيّة والإلهاميّة، لا خوفٌ عليهم على الإطلاق، لا خوفٌ بالنّسبة إلى المسائل الدّنيويّة، ولا يحزن على الأمور الرّاجعة إلى معيشته وحياته الفرديّة والاجتماعيّة، ولا بالنّسبة إلى البرزخيّة والأخرويّة، فهل ترى في نفسك ذلك إذا خلوت مع الله، وعشت في الانزواء، أم تجد الخوف والحزن، فيعلم منه أنّك لم تتّبع هدى الله، ونعوذ بالله أن تنسلك في قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾1 فنرجو الله تعالى لك ولراقم هذه السّطور عافيةً طيّبةً وحسن الختام2
 
 
 

1- سورة البقرة، الآية 39.
2- الخمينيّ، الشّهيد السّيّد مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج 5، ص 480-483.
 
 
 
 
 
116

110

الفهرس

 الفهرس

 

5

المقدّمة

9

نبذة عن حياة المصنف آية الله الشهيد السيّد مصطفى الخميني قدس سره

9

نبذة

12

الرحمة الإلهية

15

تجلّي الرّحمة بصورة الغضب

16

الاتّصاف بالرّحمة

18

 الرحمة في الرّوايات

22

الانقطاع إلى الله تعالى

25

حقيقة الحمد

27

التّفكّر في النّعم الإلهيّة

 

 

 

 

 

117

 


111

الفهرس

 

30

النعم طرق الوصول إلى الله تعالى

31

مالك يوم الدين

33

من مواقف يوم القيامة

35

قراءة العارفين

37

العبادة الخالصة

40

ظهور العبوديّة في نشآت العبد

42

الجدّ والاجتهاد في السّير والسّلوك

45

ضرورة تهذيب النّفس

47

الكتاب الكريم لا ريب فيه

49

هدى الكتاب

52

التدبّر في الآيات

55

لكلّ شيءٍ زكاة

56

اليقين ومراتبه

58

آثار اليقين

61

الفطرة على التوحيد


 

 

 

118


112

الفهرس

 

62

صيانة الفطرة بهداية القرآن

63

الإيمان والكفر

66

ادّعاء الإيمان

69

ضرورة الجد والاجتهاد وعدم اليأس

72

أمراض القلوب

74

زوال الفساد عن طريق الحكومة الإلهيّة

76

هداية القرآن

78

التخلّص من النفاق

80

كن مع الله

82

انتبه من نفسك وممّن تعاشر

83

الهدى والضّلال ودرجاتهما

85

التّخلية والتّجلية والتّحلية

87

العلم ما ينتهي إلى الله

89

عموم الآيات القرآنية

90

قد يكون العلم حجاباً

 

 

 

 

119


113

الفهرس

 

92

الخوف والرّجاء

95

عليك بصحبة الأخيار

96

التّخلّق بأخلاق الله

99

التّخلّق بأخلاق القرآن العظيم وآداب الكتاب الحكيم

100

رواية عجيبة

101

مقام العبوديّة وأثره

104

اللّهمّ اجعلنا من عبادك المخلصين

106

لا تستحيي من الحقّ

108

الموت والحياة

111

اعرف نفسك

112

الإنسان مسجود الملائكة

115

لا تكن ساجداً للشّياطين

117

كلمتي الأخيرة معك

 

 

 

 

 

120


114
بصر الهدى (المواعظ والاخلاق)