المقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين، وسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وآله الطاهرين (عليهم السلام)، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[1].
يؤكّد الله -تعالى- على خصوصيّة التفقّه في الدين؛ والمراد منه إعمال الفهم والفكر في الدين؛ بجميع مجالاته المعرفيّة والعمليّة، لا بقسمٍ خاصٍّ منه؛ كالأحكام -مثلاً-. ولا يتحقّق الإنذار الوارد في الآية، إلا عبر طرح التعاليم الدينيّة ومعطياتها في المجالات كافّة، وليس من خلال الاكتفاء باستعراض الأحكام فقط؛ إذ لا يتّسق مفهوم «الإنذار» مع ذلك فقط، بل لا يتحقّق إلا من خلال عرض الحقائق التي يلزم إدراكها والإيمان والعمل بها وعلى رأسها الأمور الاعتقاديّة مع توضيحها وبيانها.
وإن من البيّن بمكان ما لفهم الصفات الإلهيّة الجلاليّة من وقعٍ شديدٍ في عمليّة الإنذار، وكذلك ما للتعريف بالمعاد من تأثيرٍ كبير في نفس الإنسان ودعوته إلى الاستقامة يفوق بكثير معرفته بأحكام الحلال والحرام، مع عدم اغفال دور الأخلاق التي لا تقلّ أهمّيّةً في خلق حالة الإنذار؛ وعليه فلا ينحصر الإنذار بتلقين الواجبات الدينيّة،
[1] سورة التوبة، الآية 122.
9
1
المقدمة
فللتوجيهات التربويّة والسلوكيّة - في أحد أبعادها - وظيفة شبيهة بنظيرتها في الأحكام، لكنّهما لا يبلغان معاً مستوى العقائد في أداء وظيفة الإنذار[1].
من هذا المنطلق، سعى مركز المعارف للمناهج والمتون التعليميّة – في إطار وظيفته في تقديم المعارف الدينية عامّة - إلى العمل على الجانب العقديّ من الدين بشكل مركّز؛ نظراً لأهمّيّة العقيدة وموقعها في حياة الإنسان من خلال توجيه حركته وترشيد سلوكه، وإيجاد الدافع لديه للعمل، وضبط أفعاله...، فعمل المركز في هذا المجال على إصدار سلسلة من الكتب التدريسيّة التي تُعنى ببيان العقيدة الإسلاميّة وفق الرؤية الإسلاميّة؛ بمحوريّة القرآن الكريم والسنّة الشريفة والعقل، والمساهمة في معالجة جملة من الشبهات العقديّة المطروحة ومناقشتها وردّها وتفنيدها وإبطالها؛ وتمكين الطالب من ذلك استناداً إلى البرهان العقلي والنقلي، وبأسلوب تعليميّ هادف؛ فكان هذا الكتاب «أجوبة الشبهات العقديّة(1)» الإصدار الأول من سلسلة عقديّة بعنوان: «أجوبة الشبهات العقديّة(1-3)»؛ في سبيل تحقيق هذا الغرض.
الأهداف العامّة للكتاب
يتوخّى هذا الكتاب تحقيق الأهداف الرئيسة التالية:
1. تمكّن الطالب من تمتين عقيدته الإسلاميّة وتحصينها أمام الشبهات المطروحة.
2. التمكّن من تحليل أبرز الشبهات ومناقشتها ودحضها وإبطالها.
3. توثيق الإيمان بقوة المباني العقائدية الإسلاميّة ومِنعتها.
[1] انظر: السيد الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، لا.ط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، لا ت، ج9، ص404.
10
2
المقدمة
الكتاب
يُراعي هذا الكتاب جملة من العناصر والمعايير وهي:
1. تقسيم الكتاب إلى عشرة دروس، ومراعاة التقارب قدر الإمكان في حجمها.
2. رصد أبرز الشبهات المطروحة قديمًا وحديثًا من كتب العقيدة والكلام...، وتصنيفها بحسب الأصول والفروع العقديّة.
3. وضع أهداف لكلّ درس مستقاة من الأهداف العامّة للكتاب.
4. وضع تمهيد في بداية كلّ درس يشكّل مدخلاً ، يؤسِّس من خلال الطرح من قبل الأستاذ والنقاش حوله لتناول الشبهات المطروحة ودحضها.
5. تحليل أبرز الشبهات وتفكيكها والاعتماد على القرآن الكريم والسنّة الشريفة والعقل في تحليلها ومناقشتها وإبطالها.
6. وضع خلاصة في نهاية كلّ درس تتضمّن أبرز الأفكار الرئيسة المطروحة فيه.
7. المحتوى يتضمن فقرة العناوين المحورية والتي تستند إلى الأهداف الخاصة بكل درس.
8. وضع فقرة التقويم التي تتضمن أسئلة لكلّ درس؛ تتوخّى فحص نسبة استيعاب الطالب له.
9. وضع فقرة مطالعة من وحي مضمون الدرس.
وفي الختام، نضع بين أيدي الطلاب الأعزّاء هذا الجهد المتواضع، عسى أن يتقبّله الله -تعالى- بفضله ومنّه إنّه سميع مجيب.
والحمد للَّه ربّ العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
11
3
الدرس الأوّل: أهمّيّة الدين في المجتمع
الدرس الأوّل: أهمّيّة الدين في المجتمع
1. يشرح أهمّيّة البحث عن الدين.
2. يبيّن بطلان شهبة أنّ الدين مانعٌ من ارتقاء المجتمعات الإنسانيّة.
3. يردّ على شبهة القضايا الدينيّة ليست علميّة.
13
4
الدرس الأوّل: أهمّيّة الدين في المجتمع
تمهيد
عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام)، قال: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا، فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ»[1].
كما رُوِيَ عنه (عليه السلام)، عن آبائه، قال: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ إِلَّا لِرَجُلَيْنِ: عَالِمٍ مُطَاعٍ، أَوْ مُسْتَمِعٍ وَاعٍ»[2].
ما هو العلم الذي دعا إليه الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، وكان هو الميزان في كون اللَّه -تعالى- يريد خيرًا بالعباد؟
أهمّيّة البحث عن الدين
إذا أردنا الحديث عن أهمّيّة أيّ شيء، لا بدّ من أن يكون لدينا معيارٌ نقيس به الأهمّيّة. فلو أخذنا مثلًا، معيار المنفعة التي تصل إلينا، فإنّه قد يُقال: إنّ البحث عن الدين لا ثمرة فيه؛ لأنّه لا تصل إلينا منفعة من ورائه، بل إنّ بعض الملحدين، أو الذين لا يهتمّون لأمر الدين، متقدّمون على الشعوب المؤمنة أكثر بكثير.
[1] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363ش، ط5، الكافي، ج1، ص32.
[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص33.
15
5
الدرس الأوّل: أهمّيّة الدين في المجتمع
هنا، لا بدّ من الالتفات إلى قضيّة، وهي أنّ المنفعة لا تكون دائمًا منفعة مادّيّة، بل إنّ بعض المنافع التي لا يمكن إهمالها أبدًا، هي منافع وحاجات روحيّة؛ فالطمأنينة والسكون النفسيّ من أهمّ حاجات الإنسان، التي لا تقلّ أهمّيّة عن حاجاته إلى المأكل والمشرب؛ وبالتالي، فإنّ البحث عن الدين، بما يتضمّنه من الإجابة عن الشبهات والأسئلة التي تشغل بال كلّ إنسان، يحتوي على المنافع المعنويّة العظيمة. ومن هنا، فإنّنا لو أخذنا «المنفعة» معيارًا لأهمّيّة أيّ شيء، فإنّ البحث الدينيّ يقع على رأس القائمة.
وأيضًا، يمكن القول: إنّ البحث عن القضايا الدينيّة أمرٌ لا يحتاج إلى مبرّر؛ لأنّ الدين يمثّل الإجابة عن أسئلة تخطر على بال كلّ إنسان عاقل، فسؤال: ما هو سبب وجودنا؟ وإلى أين نتوجَّه بعد الموت؟ وأمثال هذَين السؤالَين، لا يمكن التغاضي عنها، وهي تسترعي انتباه كلّ إنسان في نفسها، وكم من شخص قد أفنى عمره في السفر والتجوال والقراءة والتحقيق، بحثًا عن إجابات لأسئلة وجوديّة! وهل هذا إلّا لأنّ الأسئلة هذه قيمتها في نفسها؟ وهذا ما يُشار إليه أحيانًا بالقول: إنّ فطرة حبّ الاستطلاع والعلم من الأمور الثابتة في وجدان كلّ إنسان.
الشبهة الأولى: الدين مانعٌ من ارتقاء المجتمعات الإنسانيّة
أ.بيان الشبهة:
من الشبهات التي تتردّد على ألسنة كثيرين، أنّنا نجد المجتمعات الدينيّة متخلّفة عن ركب الحضارة، وفي المقابل، نجد المجتمعات التي تخلّت عن حاكميّة الدين قد تحرّرَت من كلّ قيد، وانطلقَت إلى آفاق التكنولوجيا والصناعة والرفاهية، فلا بدّ من أن يكون الدين –والحال هذه- مانعًا من الارتقاء.
16
6
الدرس الأوّل: أهمّيّة الدين في المجتمع
ب.جواب الشبهة:
يمكن الإجابة عن هذه الشبهة ضمن نقاط:
1. إنّ قضيّة التقدُّم الحضاريّ من القضايا المتعلّقة بجوانب الحياة الإنسانيّة المتعدّدة، فلا ينبغي حصر التقدُّم الإنسانيّ بالتطوُّر في التقنيّة والمادّة، بل إنّ جوانب عديدة، كالتخلُّف القيميّ والروحيّ، إذا وُجِدَت، فإنّه لا يمكن بحال الحكم على جماعة ما أنّها متحضّرة.
2. إنّ الخلط بين الدين كمنظومة تحتوي على رؤية كونيّة، ومنظومة أخلاق وشريعة للسلوك من جهة، وبين الأفراد المنتسبين إلى هذه المنظومة من جهة أخرى، من الأسباب التي تؤدّي ببعض الناس إلى الحكم على المنظومة الفكريّة للدين بحكم سلبيّ؛ نتيجة رؤية المنتسبين إليها متخلِّفين. وبعبارة أخرى، إنّ الحكم على الدين ينبغي أن يكون وَفق آليّات ومنهجيّات علميّة وفكريّة، لا وَفق سياقات تاريخيّة وسياسيّة قد لا تمثّل جوهره كما ينبغي.
3. إنّ مراجعة تاريخ المسلمين تكشف، بما لا يدع مجالًا للشكّ، عن التقدُّم الحضاريّ في العلوم التجريبيّة والآداب والفنون ومختلف الصناعات في القرون الأولى، بعد بزوغ فجر الإسلام، والذي هو مدينٌ بالتأكيد لحثّ الإسلام -كدين إلهيّ– الإنسان، ولا سيّما أتباعه، على السعي في الأرض، واكتشاف أسرار الكون، والنهوض بمسيرة الإنسان إلى الأمام.
وبناءً على ما سبق كلّه، لا بدّ قبل الحكم على الدين ومضامين أفكاره ومنظومته، من امتلاك المنهج الصحيح في الحكم، وهو المنطق والعلم، لا القراءة التاريخيّة التي قد تفيد في الحكم على المنتسبين إلى الدين في تاريخيّة من الزمان، دون المنظومة الفكريّة للدين. ثمّ إنّه لا بدّ من المقارنة بين النسخة المطبّقة للدين من جهة، وبين ما يُنطَق به في نصوصه وعلى لسان حمَلَتَه.
17
7
الدرس الأوّل: أهمّيّة الدين في المجتمع
الشبهة الثانية: القضايا الدينيّة ليست علميّة
أ.بيان الشبهة:
العلم اليوم، هو كلّ قضيّة قابلة للإثبات والتحقُّق من صدقها، عبر المناهج التجريبيّة؛ هذا ما يقوله بعض المفكِّرين المادّيّين. وقد حدث في العصور المتأخِّرة نسبيًّا، أنْ تمَّ حصر القضايا التي تنتج «علمًا»، بتلك التي تقبل التجربة والتحقُّق، كقضايا الطبّ والهندسة والفيزياء والكيمياء؛ وأمّا القضايا التي تتحدَّث عن أمور غيبيّة لا نراها، فلا يمكن اعتبارها قضايا علميّة، بل هي أقرب إلى الأشعار والكلام المجازيّ.
ب.جواب الشبهة:
يتقوّم الجواب عن هذه الشبهة بمقدِّمات:
1. ينطلق هذا الادّعاء من قضيّة، وهي أنّ الوجود منحصر بالمادّة، ولا وجود لأمر غير مادّيّ. وبتعبير آخر، حين يقول صاحب هذه الشبهة: إنّ كلّ قضيّة لا يمكن التحقُّق منها بطريق تجريبيّ، ليست قضيّة علميّة، فهو يحكم من حيث لا يشعر، أنّ كلّ ما لا يمكن أن يخضع للتجربة، غير موجود.
2. إنّ الحكم على شيء بأنّه موجود أم لا، لا بدّ من أنْ ينطلق من برهان ودليل، بحيث يمكن القول بضرس قاطع: إنّ هذا موجود، أو غير موجود. وبعبارة أخرى، ثمّة فرق بين قول: «لا أعلم إنْ كان يوجد شيء غير مادّيّ»، وقول: «الشيء غير المادّيّ قطعًا غير موجود»؛ فالقول الأوّل هو اعتراف بعدم المعرفة، بينما القول الثاني هو إقرار حاسم بالمعرفة.
3. إنّ الحكم على ما وراء المادّة بأنّه موجود أو غير موجود، لا يمكن أن يعتمد على الطريقة المادّيّة في التحقُّق؛ أي التجربة؛ لأنّ التجربة منهج لا يمكنه التحقُّق من وجود غير المادّة أو عدم وجوده؛ لذا، لا يمكن أن تعطينا التجربة حكمًا على ما وراء المادّة.
18
8
الدرس الأوّل: أهمّيّة الدين في المجتمع
انطلاقًا من هذه المقدّمات، يمكن القول: إنّ الشبهة المذكورة أعلاه، ليست إلّا خلطًا بين الجهل من جهة، والحكم بعدم الوجود من جهة أخرى؛ أي إنّ الأدوات التجريبيّة قاصرة عن أن تحكم على القضايا الدينيّة الغيبيّة، كوجود اللَّه -تعالى- ووجود العالم الآخر؛ ومن ثمّ لا يمكنها أن تدّعي أنّ القضايا غير التجريبيّة ليست إلّا وهمًا، بل إنّ الأمر الذي ينبغي أن يُقال هنا، هو أنّه لا بدّ من الالتجاء إلى أداة منهجيّة، وإلى نوع من الأدلّة التي تسمح لنا بالحكم على القضايا الدينيّة الماورائيّة. وما يطرحه العلماء في هذا المجال هو البرهان؛ أي الدليل العقليّ المعتمِد على البديهيّات العقليّة، التي قد لا تكون حسّيّة بالضرورة.
19
9
الدرس الأوّل: أهمّيّة الدين في المجتمع
المفاهيم الرئيسة
1. إنّ البحث عن الدين هو من الأمور التي لا يمكن التشكيك في أهمّيّتها. فإذا كانت المنفعة هي معيار أهمّيّة الشيء، كان الدين نافعًا من جهات عدّة.
2. إنّ البحث عن أجوبة الأسئلة الدينيّة هو من الأمور الفطريّة المغروسة في عمق كلّ إنسان، وهي فطرة حبّ الاستطلاع والعلم.
3. إنّ محاكمة المنظومة الدينيّة ينبغي أن لا تكون منطلقة من الحكم على المنتسِبين إليه فقط، بل لا بدّ من طرح منهج عقليّ وبرهانيّ يحدّد الصواب من الخطأ.
4. لا يمكن للمنطق التجريبيّ أن يحكم بأن لا واقع للدين وقضاياه الغيبيّة؛ لأنّه في الحقيقة، لا يمتلك الأداة التي يمكنه من خلالها الحكم على ما هو خارج إطار المادّة.
5. البرهان العقليّ المعتمِد على مقدِّمات بديهيّة، هو الأداة المنطقيّة التي يمكن الركون إليها للبحث عن قضايا الوجود والدين.
تقييم
1. كيف يمكن تصوير المبرِّر للبحث عن قضايا الدين وأسئلته؟
2. هل التطوُّر التقنيّ الذي وصل إليه الغرب اليوم، مع تنكُّرِه للدين، يلغي الحاجة إلى البحث عن الدين؟
3. لماذا لا يمكن للمنطق التجريبيّ الحكم على قضايا الدين الماورائيّة، سلبًا أو إيجابًا؟
20
10
الدرس الأوّل: أهمّيّة الدين في المجتمع
اقرأ
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) لِلزنْدِيقِ: «أَتَعْلَمُ أَنَّ لِلْأَرْضِ تَحْتًا وَفَوْقًا؟»، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَدَخَلْتَ تَحْتَهَا؟»، قَالَ: لَا. قَالَ: «فَمَا يُدْرِيكَ مَا تَحْتَهَا؟»، قَالَ: لَا أَدْرِي، إِلَّا أَنِّي أَظُنُّ أَنْ لَيْسَ تَحْتَهَا شَيْءٌ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «فَالظَّنُّ عَجْزٌ مَا لَمْ تَسْتَيْقِن». ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): «أَفَصَعِدْتَ السَّمَاءَ؟»، قَالَ: لَا. قَالَ: «أَفَتَدْرِي مَا فِيهَا؟»، قَالَ: لَا. قَالَ: «عَجَبًا لَكَ! لَمْ تَبْلُغِ الْمَشْرِقَ، وَلَمْ تَبْلُغِ الْمَغْرِبَ، وَلَمْ تَنْزِلِ الْأَرْضَ، وَلَمْ تَصْعَدِ السَّمَاءَ، وَلَمْ تَجُزْ هُنَاكَ؛ فَتَعْرِفَ مَا خَلْفَهُنَّ، وَأَنْتَ جَاحِدٌ بِمَا فِيهِنَّ؟! وَهَلْ يَجْحَدُ الْعَاقِلُ مَا لَا يَعْرِفُ؟!»، قَالَ الزِنْدِيقُ: مَا كَلَّمَنِي بِهذَا أَحَدٌ غَيْرُك»[1].
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص73.
21
11
الدرس الثاني: الإيمان بالغيب
الدرس الثاني: الإيمان بالغيب
1. يشرح الضوابط المنهجيّة للإجابة عن الشبهات.
2. يحلّل الشبهات الآتية:
أ. لا يمكن إثبات وجود ما لا نراه.
ب. الإيمان بالغيب كان نتيجة جهل الناس.
3. يبطل الشبهات المتقدّمة من خلال الأدّلة العقليّة والنقليّة.
23
12
الدرس الثاني: الإيمان بالغيب
تمهيد
جاء في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنّه قال في معرض الحديث عن اللَّه -تعالى-: «شَيْءٌ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ، ارْجِعْ بِقَوْلِي إِلَى إِثْبَاتِ مَعْنًى، وَأَنَّهُ شَيْءٌ بِحَقِيقَةِ الشَّيْئِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا جِسْمٌ وَلَا صُورَةٌ، وَلَا يُحَسُّ وَلَا يُجَسُّ، وَلَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، لَا تُدْرِكُهُ الْأَوْهَامُ، وَلَا تَنْقُصُهُ الدُّهُورُ، وَلَا تُغَيِّرُهُ الْأَزْمَان»[1].
كيف يمكن أن نفهم وجود شيء ليس بجسم، وليس محسوسًا؟ هل العقل قادر على إثبات مثل هذا الموجود؟
الضوابط المنهجيّة للإجابة عن الشبهات
من الأمور التي لا بدّ من الالتفات إليها عند البحث العلميّ، قضيّة أنّ العقل لديه نوعان من الأحكام: النوع الأوّل هو الحكم بالإثبات، والنوع الثاني هو الحكم بالنفي. وكِلا الحكمَين يحتاج إلى دليل، ولا يمكن حصر الحاجة إلى الدليل بالحكم بالإثبات، دون النفي.
وبتعبير آخر، إذا افترضنا أنّ لدينا قضيَّتَين:
1. قضيّة (المرّيخ موجود).
2. قضيّة (لا وجود لكوكب عاشر في المنظومة الشمسيّة).
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص81.
25
13
الدرس الثاني: الإيمان بالغيب
إذا دقَّقْنا في هاتَين القضيّتَين، نجد أنّ القضيّة الأولى تدّعي وجود أمر، وهو المرّيخ، أمّا القضيّة الثانية، فتدّعي عدم وجود كوكب عاشر. والعقل هنا، إذا أراد أن يتحقَّق من صدق القضيّتَين أو كذبهما، لا بدّ من أن يأتي بدليل على صدق «وجود المرّيخ»، وصدق «عدم وجود كوكب عاشر» مثلًا.
فإنّ الحكم على شيء بأنّه غير موجود، يحتاج إلى دليل، بالحاجة نفسها إلى الحكم على شيء آخر بأنّه موجود.
وإذا اتّضح هذا الأمر، فإنّنا نعلم عندئذٍ، أنّ عدم وجود دليل على ثبوت شيء، لا يعني أنّ هذا الشيء غير موجود، بل قد يكون موجودًا، ولكنّ الأدوات المعرفيّة التي أمتلكها لم تستطيع إثبات وجوده. ومن هنا، ينبغي التفريق بين قضيّة «اللَّه غير موجود»، وقضيّة «لا دليل لديّ على وجود اللَّه». وهاتان القضيّتان ليستا متكاذبتَين؛ أي لا يمكن لأحد أن يدّعي أنّ اللَّه غير موجود؛ لأنّه لا دليل لديّه على وجود، بل إنّه لا بدّ من إقامة دليل على عدم وجوده، حتّى يمكن الحكم عليه بأنّه غير موجود.
بناءً على هذه الضابطة المهمّة في التفكير، فإنّ بعض العلوم التجريبيّة، كالفيزياء مثلًا، لا يمكنها أن تدّعي أنّها وصلَت إلى اليقين بعدم وجود اللَّه -تعالى-؛ لأنّنا إذا سألنا علماء الفيزياء: ما دليلكم على عدم وجوده؟ سيجيبون: إنّ دليلنا هو عدم وجود دليل على وجوده، فيكونون قد وقعوا في الخطأ المنهجيّ الذي ذكرناه. والسبب في أنّ الفيزيائيّ لا يمكنه نفي وجود اللَّه -تعالى-، هو أنّ الفيزياء بطبيعتها تتعامل مع الموضوعات الحسّيّة، واللَّه -تعالى- الذي تدّعي الأديان وجوده، غير مادّيّ؛ فإثبات وجوده لا يكون من خلال الأدوات المادّيّة. وإذا أردنا تقريب الفكرة، فإنّ مثل الفيزيائيّ الذي يريد إنكار وجود اللَّه -تعالى-، كمثل الذي يريد قياس وزن التفّاح بميزان الحرارة! فإنّ طبيعة وزن التفّاح لا تسمح بقياسه بما تُقاس به الحرارة.
26
14
الدرس الثاني: الإيمان بالغيب
الشبهة الأولى: لا يمكن إثبات وجود ما لا نراه
أ.بيان الشبهة:
قد يأتي شخص ويقول: لا يمكننا أن نثبت وجود أحد لا نراه أو نشعر به بحواسّنا؛ لأنّ كلّ علومنا تأتي من الحواسّ، وكلّ المعارف التي نبنيها مصدرها الحسّ، والمعرفة غير الحسّيّة هي معرفة خياليّة وهميّة وكاذبة.
ب.جواب الشبهة:
1. إنّ الشبهة أعلاه تستبطن ادّعاءً، وهو أنّ الإنسان لا يمتلك معلومات إلّا وهي آتية من الحسّ، وأنّ ما لا يكون مصدره الحسّ، فليس إلّا خيالًا واهيًا؛ وهذا أوّل الكلام. فإنّنا نثبت وجود بعض القضايا التي يؤمن بها الإنسان، ولا يكون مصدرها الحسّ، كالإيمان بأنّ الموجود الآن وفي هذا المكان غير معدوم، فهذه قضيّة فطريّة؛ أي لا يكتسبها الإنسان بالحسّ، وهو ما يُسَمّى بالبديهيّات، بل يمكن القول: إنّ الإدراك الحسّيّ لا يستقيم من دون هذه البديهيّات، فلو كنت تجوّز كون الشيء موجودًا ومعدومًا في لحظة واحدة ومكان واحد، كيف أمكن لبصرك أن يحكم بوجود الكتاب على الطاولة، وينفي عدم وجوده؟
2. إنّ حصر المعرفة بالحسّيّات يعني أنّ ما هو خارج الحسّ غير موجود، أو غير معلوم. وهذا الأمر يحتاج إلى دليل، ولا يمكن أن يكون دليله الحسّ؛ وذلك لِما تقدَّم من أنّه لا يمكن الحكم على غير الحسّيّات بأنّها موجودة أو معدومة باستخدام الحسّ نفسه؛ لأنّه غير قادر على الحكم على ما هو خارج إطار المادّة.
بناءً على هذَين الأمرَين، فإنّ الحسّيّ والتجريبيّ لا يمكنه الحكم، بواسطة أدواته هذه، بعدم وجود الغيب. مضافاً إلى أنّ الركن الأساسيّ لادّعائه -وهو حصر المعرفة بالأمور الحسّيّة- خاطئ، كما تبيّن.
27
15
الدرس الثاني: الإيمان بالغيب
الشبهة الثانية: الإيمان بالغيب كان نتيجة جهل الناس
أ.بيان الشبهة:
في القِدَم، آمَن الناس بأنّ الآلهة موجودة؛ لأنّهم لم يكونوا قادرين على تفسير الكثير من الظواهر التي كانت تحدث أمامهم، كالزلازل والبراكين والفياضانات، فنسبوها إلى قوى خارقة سمّوها الآلهة؛ أمّا اليوم، فقد ارتفع الجهل بأسباب هذه الظواهر؛ فلا بدّ من ارتفاع الإيمان بالآلهة أيضاً.
ب.جواب الشبهة:
1. هذه الشبهة تدّعي أنّ الإيمان باللَّه -تعالى- كان ناشئًا من الجهل بأسباب الحوادث الطبيعيّة، وكأنّها تدّعي أنّه لا يوجد دليل على وجود اللَّه سوى الجهل، وهذا الأمر غير صحيح؛ إذ إنّ الأدلّة على وجود اللَّه -تعالى- كثيرة، وهي لا ترجع إلى الجهل بالأسباب الطبيعيّة.
2. هذه الشبهة تدّعي التعارض بين كون حادثة ما في الطبيعة لها سبب مادّيّ، وكون سببها هو اللَّه -تعالى-؛ أي إنّها تقول: إذا كان السبب المادّيّ معروفًا، فلا حاجة، عندئذٍ، إلى نسبة هذه الظاهرة إلى اللَّه -تعالى-. وهذا خطأ كبير أيضاً؛ إذ إنّ الدين لا يَرى تعارضاً أو تناقصاً بين كون ظاهرة ما سببها اللَّه -تعالى-، وكون لها سبب مادّيّ أيضًا، بل إنّ اللَّه -تعالى- هو مسبِّب الأسباب، وأبى أن تجري الأمور إلّا بأسبابها.
28
16
الدرس الثاني: الإيمان بالغيب
المفاهيم الرئيسة
1. إنّ العقل يحتاج إلى دليل على نفي كون الشيء موجودًا، كما يحتاج إلى دليل على إثبات وجوده، ولا يكفي عدم وجود دليل حتّى ننكر وجود الشيء.
2. إنكار وجود اللَّه يحتاج إلى دليل، بناءً على ما سبق، وإلّا فعدم وجود الدليل الحسّيّ على وجوده، مثلًا، لا يجعل العقل يحكم بعدم وجوده.
3. العلوم المادّيّة لا يمكنها الحكم على اللَّه -تعالى- بأنّه غير موجود؛ لأنّ أدواتها الإثباتيّة لا يمكنها أن تطّلع على غير عالم المادّة، حتّى تنفي أو تثبت الغيب.
4. العلوم ليست منحصرة بالحسّيّات، بل إنّ ثمّة معارف غير حسّيّة موجودة بالبداهة لدى الإنسان، ولا يمكن أن يبني معرفته من دونها.
5. إنّ الادّعاء بأنّ الجهل بأسباب الظواهر المادّيّة سبب للحكم بوجود اللَّه -تعالى- في القِدَم، غير صحيح؛ لأنّ ثمّة أدلّة ما زالت حيّة إلى اليوم، تعتمد على مقدّمات لا يمكن إنكارها.
6. لا تَعَارض بين كون الظواهر المادّيّة تعتمد في حدوثها على سبب مادّيّ، وكون اللَّه -تعالى- سببًا لها.
تقييم
1. ما الفرق بين الحكم بالنفي على شيء، وعدم وجود دليل عليه؟
2. كيف تجيب عن شبهة أنّ معارف الناس كلّها حسّيّة، فلا يمكن -والحال هذه- الحكم على غير الحسّيّ أنّه موجود؟
3. هل ثمّة تعارض بين وجود سبب للظاهرة المادّيّة، وكون اللَّه -تعالى- سببًا لها؟
29
17
الدرس الثاني: الإيمان بالغيب
اقرأ
الرؤية الكونيّة التجريبيّة
ثمّة نقائص في عمل العلوم التجريبيّة، وأهمّها محدوديّة نطاقها. فالعلوم الحسّيّة محدودة بالتجربة، وهي قادرة على متابعة عملها على الظواهر ما دامت تلك الظواهر تخضع للتجربة. لكن، هل من الممكن أن نحصر الوجود وأبعاده كلّها في دائرة التجارب المختبريّة؟ العلم يشبه المصباح، قادر على شقّ جُنح الظلام إلى مدى معيّن. وهو لا يستطيع أن يجرّب مسألة بداية العالم ونهايته، ولا المسائل التي ترتبط بعبثيّة العالم أو هدفيّته، أو بقوانين السير التاريخيّ للمجتمعات، أو بوجود سببٍ أعلى من المادّة في حركة الكون، وبعلاقة الإنسان بحركة الكون، وبحياة الإنسان بعد الموت. لذلك، يلجأ الإنسان إلى التفكير الفلسفيّ (العقليّ المجرَّد) حين يصل إلى مثل هذه المسائل.
العالم بنظر العلم التجريبيّ، ككتابٍ قديم سقطت أوراقه الأولى والأخيرة، فلا مبدؤه معلومٌ، ولا منتهاه. فالعلوم تُعَرِّفنا وَضْعَ بعض أجزاء العالَم، لا على الشكل العامّ والشخصيّة الكلّيّة للعالَم. التصوّر العلميّ للعالَم يشبه ما يفهمه الناس حول فيل لمسوه في الظلام، وهم لم يروه أو يسمعوا عنه من قبل؛ فذاك الذي لمس أذن الفيل، قال: إنّ الفيل هو مروحة يدويّة؛ وذاك الذي لمس رجل الفيل، قال: إنّه أسطوانة؛ أمّا ذلك الذي لمس ظهره، فيقول: إنّ الفيل هو سرير.
من هنا، فالعلوم الحسّيّة عاجزةٌ عن الإجابة عن أهمّ المسائل المرتبطة بالرؤية الكونيّة، وهي إعطاء صورة عامّة كلّيّة عن مجموع العالَم.
مطهّري، الرؤية الكونيّة التوحيديّة (بتصرُّف)
30
18
الدرس الثالث: صفات الله -تعالى- (1)
الدرس الثالث: صفات الله -تعالى- (1)
1. يشرح شبهة عدم قدرة اللَّه على فعل الممتنعات.
2. يلخّص شبهة العلم الإلهيّ بكلّ شيء، وشبهة شبهة عدم القدرة على وصف اللَّه -تعالى-.
3. يرد على الشبهات المتقدمّة مستخدماً أهم الأدلّة على عدم صحتها.
31
19
الدرس الثالث: صفات الله -تعالى- (1)
تمهيد
قِيلَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): هَلْ يَقْدِرُ رَبُّكَ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا فِي بَيْضَةٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَغِّرَ الدُّنْيَا، أَوْ يُكَبِّرَ الْبَيْضَةَ؟ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُنْسَبُ إِلَى الْعَجْزِ، وَالَّذِي سَأَلْتَنِي لَا يَكُون»[1].
ما المقصود منّ أن الشيء «لاَ يَكُون»، وأنّه إذا كان كذلك، فلا يُقال: إنّ اللَّه عاجز عن فعله؟ هل يمكن للَّه -تعالى- أن يعجز عن فعل أمر، حتّى لو كان في نفسه «لاَ يَكُون»؟
الشبهة الأولى: عدم قدرة الله على فعل الممتنعات
أ.بيان الشبهة:
من الشبهات التي تتداولها الألسن، منذ القِدم وإلى اليوم، أنّ من صفات اللَّه -تعالى-، القدرة المطلقة وغير المحدودة؛ أي إنّه على كلّ شيء قدير، كما أشارت إليه العديد من الآيات القرآنيّة والروايات الشريفة، وادُّعِيَ إقامة الدليل العقليّ عليه.
فإذا كان اللَّه -تعالى- قادرًا على كلّ شيء، فهل هو قادر على أن يعدم نفسه مثلًا؟ أو هل هو قادر على أن يخلق إلهًا غيره؟ أو هل هو قادر على أن يوجِد مَن هو أعظم منه وأقدر؟ وغيرها من الأسئلة التي تحمل روحًا واحدة.
[1] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، التوحيد، تصحيح وتعليق: السيد هاشم الحسيني الطهراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص130.
33
20
الدرس الثالث: صفات الله -تعالى- (1)
ب.جواب الشبهة:
الإجابة عن هذه الشبهة تتّضح بعد تمهيد مقدّمات:
1. إنّ الأمور في نفسها على ثلاثة أقسام: قسم منها يمكن وجوده كما يمكن عدمه، كوجود مخلوقات حيّة على كوكب غير الأرض، وقسم آخر يجب وجوده ويستحيل عدمه، كوجود الله -تعالى- كما يثبته البرهان، وقسم ثالث، وهو ما يستحيل وجوده، ككون الواحد كثيرًا، أو كون جزء الشيء أكبر من الشيء المركّب من هذا الجزء نفسه وغيره.
2. ثمّة فرق بين الممكن الذي لم يوجد، والمستحيل والممتنع الذي لا يوجد. فالشيء الذي يمكن أن يوجد، ولكنّه لم يوجد بعد، إنّما لم يوجد لعدم وجود السبب لوجوده. مثلًا، احتراق الورق أمر ممكن، ولكنّه قد لا يوجد؛ لعدم تحقُّق سببه، وهو التهام النار له مثلًا؛ وأمّا الممتنعات والمستحيلات، فإنّها في نفسها لا توجد، لا أنّها لا توجد لعدم تحقُّق سببها، بل لا سبب لها أصلًا؛ ومثال ذلك كون «الرقم 3 ينقسم إلى عددَين صحيحَين»، فإنّ هذه القضيّة في نفسها لا تتحقّق، لا أنّ العدد 3 قابلٌ لأنْ ينقسم إلى عددَين صحيحَين، ولكن لم يوجد إلى الآن السبب الذي يجعله ينقسم، كما كان الأمر في الورقة والنار.
3. القدرة على إيجاد شيء، إنّما تتعلّق بالممكن؛ لأنّه في نفسه قابلٌ للوجود؛ أمّا الممتنعات، فلا يُقال: إنّ القدرة تتعلّق بها، بل إنّها في نفسها لا توجد؛ أي إنّها في نفسها غير قابلة للوجود.
إذا اتّضح ما تقدّم، فإنّ اللَّه -تعالى- قادر على كلّ شيء ممكن، ولا يُقال: إنّه قادر على الممتنع، أو غير قادر عليه؛ لأنّ الممتنعات أصلًا غير قابلة للوجود. وهذا لا ينافي كون اللَّه -تعالى- على كلّ شيء قدير. ومن تلك المستحيلات: وجود شريك للَّه -تعالى-، أو غيرها ممّا طُرِح في الشبهة.
34
21
الدرس الثالث: صفات الله -تعالى- (1)
الشبهة الثانية: العلم الإلهيّ بكلّ شيء
أ.بيان الشبهة:
من أسماء اللَّه -تعالى-، «العليم». وعلمه الذي يثبته العلماء، ليس علمًا محدودًا، وإنّما علم مطلق؛ أي علمٌ بما كان وما سيكون من الأزل إلى الأبد. والشبهة التي تُطرَح في هذا المجال، أنّه كيف ينسجم علمه -تعالى- بكلّ شيء، مع أنّ ثمّة أمورًا لم تحدث بعد حتّى يقع عليها العلم، وإنّما هي ستحدث في المستقبل؟
ب-جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة بما يأتي:
1. يمكننا فهم العلم بالمستقبل على نحوَين:
النحو الأوّل: إنّ ثمّة زمانًا غير متحقّق الآن، وسوف يتحقّق بعد سنوات مثلًا؛ وبالتالي، يكون المستقبل أمرًا غير واقع بالفعل، إلّا أنّ العلم به حاصل بالفعل، من قبيل علم الفلكيّ بالكسوف والخسوف الواقعَين في مستقبل السنين والأيّام. والنحو الثاني: إنّ العالِم بالمستقبل لا يكون الزمان عنده مستقبلًا، بل الأزمنة كلّها بالنسبة إليه حاضرة.
وإذا أردنا أن نشبّه هذين النحوَين من العلم نحو تشبيه، فإنّنا نشبّههما بحال نملة تمشي على أرضٍ ذات ألوان، وهي الآن تدرك أنّها على أرض ذات لون أحمر، وبعد نصف ساعة مثلًا، ستدرك أنّها على أرض ذات لون أصفر، بينما الإنسان الذي يقف جانب النملة، يرى في اللحظة نفسها أنّ الأرض ذات ألوان، وأنّ اللون الأصفر يأتي بعد اللون الأحمر.
2. إنّ علم اللَّه -تعالى- من قبيل النحو الثاني؛ وذلك لأنّه خالق الزمان، وخالق الأمور التي تقع في الزمان. فرؤيته -تعالى- للأزمنة كلّها، إنّما يكون في آن واحد. وكما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «كيف يجري عليه ما هو أجراه؟»[1]. فاللَّه -تعالى-
[1] البحراني، السيد هاشم الحسيني، البرهان في تفسير القرآن، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ج5، ص169.
35
22
الدرس الثالث: صفات الله -تعالى- (1)
هو الذي أجرى الزمان على الموجودات، ولا يمكن أن يكون محكومًا له.
إذًا، اتّضح ممّا تقدّم، أنّ أصل الشبهة هي تشبيه اللَّه -تعالى- بالأمور المحدودة التي تعيش المستقبل والحاضر، ولكن بالنسبة إلى اللَّه -تعالى-، فلا مستقبل، بل الزمان كلّه حاضر، وعندئذٍ، فلا ترد أصل الشبهة.
الشبهة الثالثة: عدم القدرة على وصف اللَّه -تعالى-
أ.بيان الشبهة:
تنطلق هذه الشبهة من فكرة أنّ الإنسان موجود محدود في معرفته؛ أي لا قدرة له على معرفة غير المحدود. وحيث إنّ العقائد الإسلاميّة تصف اللَّه -تعالى- بأنّه مطلق وغير محدود، فلا يمكن ادّعاء إمكان معرفة اللَّه -تعالى- بأيّ نوع من المعرفة؛ وبالتالي، حين نصف اللَّه -تعالى- بأنّه «عالم» أو «قادر» أو «حيّ»، فنحن إنّما نصفه بما نعرفه من معانٍ لهذه الأوصاف، لكنّ المعاني التي نعرفها هي معان محدودة، ومن ثمّ لا يمكننا أن نصف اللَّه -تعالى- بالعلم أو بأيّ صفة أخرى؛ لعدم إمكان إدراكنا لمعنى المطلق.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة بما يأتي:
1. إنّ اللَّه -سبحانه وتعالى- مطلق في وجوده وكماله؛ أي إنّ علمه غير محدود، وقدرته وحياته كذلك، بخلاف الإنسان والكائنات الأخرى التي لها حظّ محدود من الوجود والكمالات.
2. حين نصف اللَّه -تعالى- بالعلم المطلق مثلًا، فنحن في الحقيقة، لا ندّعي أنّنا أحطنا به، بل إنّ العقل عندما يصفه بوصف غير محدود، فإنّ حقيقة هذا الحكم ترجع إلى أمرَين: الأمر الأوّل هو وصفه بأصل العلم مقابل الجهل، والأمر الثاني هو تنزيهه عن كون علمه محدودًا. وبواسطة هذَين الأمرَين، يطلق الإنسانُ على
36
23
الدرس الثالث: صفات الله -تعالى- (1)
اللَّه -تعالى- أنّ علمه غير محدود. وهذا لا يعني أن الإنسان أحاط باللَّه -تعالى-، بل غاية الأمر أنّ العقل يفهم معنى المحدوديّة، ويحكم بأنّها نقص، فينفيها عن اللَّه -تعالى-؛ لإدراكه أنّه -تعالى- مطلقٌ، له الكمال كلّه.
37
24
الدرس الثالث: صفات الله -تعالى- (1)
المفاهيم الرئيسة
1. قدرة اللَّه -تعالى- المطلقة لا ينقضها شيء، مع أنّ ثمّة بعض الأمور المستحيلة الوجود؛ وذلك لأنّ القدرة المطلقة إنّما تشمل ما كان وجوده ممكنًا؛ أمّا الممتنعات، فهي في نفسها غير قابلة للوجود، فلا تشملها القدرة. ولا علاقة لهذا الأمر بفاعليّة اللَّه -تعالى- وقدرته.
2. إنّ علم اللَّه -تعالى- بالأشياء التي كانت وستكون إلى الأبد، لا ينافي كون بعض الأمور مستقبليّة بحسب الزمان، ولم تحدث بعد؛ وذلك لأنّ علمه -تعالى- بالمستقبل ليس من قبيل الغيب، بل إنّ المستقبل حاضر بالنسبة إليه.
3. إنّ توصيفنا اللَّه -تعالى- بالعلم والقدرة والحياة و... لا يستلزم محدوديّة اللَّه -تعالى- أو إدراكنا لِكُنْهِ ذاته، وإنّما هذا التوصيف يثبت له -تعالى- أصل الصفة، مع نفي محدوديّتها عنه -تعالى-.
تقييم
1. هل اللَّه -تعالى- عاجز عن فعل المستحيلات؟ ولِمَ؟
2. ما معنى أنّ علم اللَّه -تعالى- كلّه حاضر، ولا مستقبل بالنسبة إلى علمه؟
3. كيف يمكن الحكم على اللَّه -تعالى- بأنّه غير محدود، مِن قِبَل إنسان محدود؟
38
25
الدرس الثالث: صفات الله -تعالى- (1)
اقرأ
«فَكِّرْ فِي إِنَارَتِهِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَالْإِرْبِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَى الظُّلْمَةِ، لِهُدُوءِ الْحَيَوَانِ وَبَرْدِ الْهَوَاءِ عَلَى النَّبَاتِ، لَمْ يَكُنْ صَلَاحٌ فِي أَنْ يَكُونَ اللَّيْلُ ظُلْمَةً دَاجِيَةً، لَا ضِيَاءَ فِيهَا، فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى الْعَمَلِ بِاللَّيْلِ، لِضِيقِ الْوَقْتِ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ فِي النَّهَارِ، وَلِشِدَّةِ الْحَرِّ وَإِفْرَاطِهِ، فَيَعْمَلُ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ أَعْمَالًا شَتَّى، كَحَرْثِ الْأَرْضِ، وَضَرْبِ اللَّبِنِ، وَقَطْعِ الْخَشَبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَجُعِلَ ضَوْءُ الْقَمَرِ مَعُونَةً لِلنَّاسِ عَلَى مَعَايِشِهِمْ، إِذَا احْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ، وَأُنْسًا لِلسَّائِرِينَ، وَجُعِلَ طُلُوعُهُ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ دُونَ بَعْضٍ، وَنُقِصَ مَعَ ذَلِكَ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ وَضِيَائِهَا؛ لِكَيْلَا يَنْبَسِطَ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ انْبِسَاطَهُمْ بِالنَّهَارِ، وَيَمْتَنِعُوا مِنَ الْهُدُوءِ وَالْقَرَارِ، فَيُهْلِكَهُمْ ذَلِكَ. وَفِي تَصَرُّفِ الْقَمَرِ، خَاصَّةً فِي مُهَلِّهِ[1] وَمُحَاقِهِ[2]، وَزِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ، وَكُسُوفِهِ، مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- خالفه [خَالِقِهِ]، الْمُصَرِّفِ لَهُ هَذَا التَّصْرِيفَ لِصَلَاحِ الْعَالَمِ، مَا يَعْتَبِرُ بِهِ الْمُعْتَبِرُون»[3].
[1] مهلِّه: أي ظهوره.
[2] المحاق: -بكسر الأوّل أو ضمّه أو فتحه- هو آخر الشهر القمريّ، وقيل: ثلاث ليال من آخره .
[3] المتحدّث هو الإمام الصادق (عليه السلام)، والمخاطَب هو المفضَّل بن عمر الجعفيّ، راجع: المفضل بن عمر الجعفي، التوحيد، تعليق: كاظم المظفر، مؤسسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1404هـ - 1984م، ط2، ج1، ص132.
39
26
الدرس الرابع: صفات الله -تعالى- (2)
الدرس الرابع: صفات الله -تعالى- (2)
1. يبطل شبهة المنافاة بين العدل والقدرة الإلهيّة.
2. يرد على شبهة المنافاة بين العلم والعدل الإلهيّ.
3. يستنتج بطلان شبهة المنافاة بين التوحيد الأفعاليّ واختيار الإنسان.
41
27
الدرس الرابع: صفات الله -تعالى- (2)
الشبهة الأولى: المنافاة بين العدل والقدرة الإلهيّة
أ.بيان الشبهة:
يثبت العلماء في مباحث الصفات الإلهيّة، أن اللَّه -تعالى- قادر على كلّ شيء، وهذه القدرة المطلقة تشمل الأفعال التي يدرك الناسُ كونَها ظلمًا، كإدخال الكفّار الجنّة والمؤمنين النار. لكن من ناحية ثانية، يلزم من القول بالعدل الإلهيّ، تحديد قدرة اللَّه -تعالى-؛ لأنّه يعني أنّ اللَّه -تعالى- يستحيل أن يضع المؤمنين في النار، وما هذا الحكم بالاستحالة إلّا تقييدًا لقدرة اللَّه -تعالى-. وأمام هذا الإشكال، نكون أمام أمر من اثنَين: إمّا أن يكون اللَّه -تعالى- عادلًا، يستحيل أن يُدخِل المؤمنين النار مثلًا، فتكون قدرته محدودة غير مطلقة؛ أو أنّ قدرته مطلقة، ما يعني أنّه يمكن أن يضع المؤمنين النار مثلًا، وهذا يستلزم نفي العدل عنه. إذًا، إنّه -تعالى- إمّا أن يكون عادلًا ذا قدرة غير مطلقة، أو ذا قدرة مطلقة وغير عادل.
ب.جواب الشبهة:
يقع الجواب عن هذه الشبهة ضمن نقاط:
1. ثمّة فرق بين إمكان فعل شيء من قِبل اللَّه -تعالى- من جهة، ووقوعِه من جهة أخرى. فإنّ بعض الأمور، وإن كانت ممكنة في نفسها، لكنّها قد لا تقع في الخارج لأسباب عدّة أخرى، كوجود أفعى بألف رأس مثلًا، فإنّه وإنْ كان ممكنًا في ذاته، إلّا أنّه لم يقع لأسباب أخرى، طبّيّة وجينيّة مثلًا.
43
28
الدرس الرابع: صفات الله -تعالى- (2)
2. إنّ اللَّه –سبحانه- قادر على كلّ شيء ممكن، ولكنّ قدرته هذه لا تعني أنّ كلّ ما هو ممكن يقع؛ إذ قد لا تقع بعض الأمور؛ لا لعدم إمكانها، بل لأسباب أخرى.
3. إنّ القدرة الإلهيّة من حيث فاعليّتها في الخارج، مرتبطة بالحكمة الإلهيّة. فاللَّه -سبحانه- لا يفعل إلّا ما ينسجم مع الحكمة، فليس الشرط الوحيد لوجود الأشياء في الخارج هو أنْ يكون اللَّه -تعالى- قادرًا عليها، بل لا بدّ من أن تكون أيضًا حكيمة، وغير عبثيّة، ولا لغويّة، ولا تشتمل على ما يناقض الحكمة.
4. إنّ الظلم كما ينافي العدل، فإنّه ينافي الحكمة أيضًا؛ لأنّ العدل والحكمة متلازمان؛ وعليه، فإنّ تعذيب المطيعين، وإنْ كان مقدورًا للَّه -تعالى- في نفسه، لكنّه لا يقع مِن قِبَلِه -تعالى- لأنّه خلاف الحكمة، وقد تقدّم أنّ أفعال اللَّه -تعالى- كما تكون شاملة لقدرته، لا بدّ من أنْ تكون -أيضًا- حكيمة.
الشبهة الثانية: شبهة المنافاة بين العلم والعدل الإلهيّ
أ.بيان الشبهة:
إنّ اللَّه -تعالى- عالِم بكلّ شيء، وعلمه هذا يعني أنّه منذ الأزل، عالِم بمن سيدخل الجنّة ومن سيدخل النار. ومن ثمّ، فإنّ خلق الإنسان الذي سيدخل النار، والذي علم اللَّه -تعالى- بدخوله النار قبل خلقه، نوعٌ من الظلم؛ وعليه، فإنّ هناك نوع منافاة بين العلم المطلق للَّه -تعالى-، وعدله.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة بملاحظة المقدّمات الآتية:
1. إنّ علم اللَّه -سبحانه- أزليّ وأبديّ؛ أي إنّه عالم بكلّ شيء، قبل الخلق وبعده، وهذا معنى إحاطته بكلّ شيء علمًا، وهو ما دلَّت عليه الآيات الكريمة والروايات الشريفة، وأثبتَهُ الدليل العقليّ كذلك.
44
29
الدرس الرابع: صفات الله -تعالى- (2)
2. إنّ علم اللَّه -تعالى- لا بدّ من أن يكون صادقًا ومصيبًا، وإلّا لزم النقص في ذاته -تعالى-، وهو مستحيل؛ لأنّه -تعالى- هو الكمال المطلق. وعليه، فإن علم بشيء قبل خلقه، لا بدّ أنْ يكون علمه مطابقًا للواقع، وللحقيقة الخارجيّة.
3. لقد خلق اللَّه -تعالى- الإنسان وأعطاه العقل والإدراك، ليختار أفعاله ومصيره. فما يقع من الإنسان العاقل، إنّما يقع باختياره، فهو المسؤول عن مصيره.
إذا ضممنا هذه المقدّمات بعضها إلى بعض، سنجد أنّ الإشكال محلول من جهة أنّ واقع الأمر هو أنّ الإنسان مختار، وأنّ مصيره الذي يؤول إليه، إنّما هو باختياره وإرادته، واللَّه -تعالى- يعلم هذا الواقع على حقيقته؛ أي على ما هو عليه. فإنّ عِلمَه بأنّ زيدًا سيذهب إلى النار، هو عِلمٌ بأنّ زيدًا قد اختار وفعل ما يجعل مصيره النار، لا أنّ اللَّه -تعالى- عَلِم وأَجْبَر. وبتعبير آخر: إنّ اللَّه -تعالى- عَلِم أنّ زيدًا سيدخل النار باختياره، لا أنّه عَلِم أنّه سيدخل النار بمعزل عن الاختيار. وبهذا، فلا منافاة بين العلم الإلهيّ والعدل.
الشبهة الثالثة: المنافاة بين التوحيد الأفعاليّ واختيار الإنسان
أ.بيان الشبهة:
إحدى مراتب التوحيد التي يثبتها العلماء، هي التوحيد الأفعاليّ، الذي يعني أنّ اللَّه –سبحانه- هو المؤثّر الوحيد المستقلّ في العالم، فلا مؤثّر في الوجود إلّا اللَّه -تعالى-. وإذا كان الأمر كذلك، فلا معنى لأنْ يكون الإنسان مختارًا في أفعاله، بل هو مجبر؛ لأنّ الله -تعالى- هو المؤثِّر والفاعل الوحيد.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة، من ملاحظة المقدّمات الآتية:
1. لا يمكن إنكار التوحيد الأفعاليّ؛ لأنّ وجود مؤثِّر مستقلّ عن اللَّه -تعالى-، ووجود أفعال وآثار لم يأذن اللَّه -تعالى- بها تكوينًا، يعني أنّه مغلوب ومحدود، وقد قام
45
30
الدرس الرابع: صفات الله -تعالى- (2)
البرهان على أنّ اللَّه -سبحانه- غير مغلوب ولا محدود في قدرته وإرادته. إذًا، لا بدّ من التسليم بأنّ كلّ ما يحدث في العالم، إنّما هو وَفق إرادته التكوينيّة ومشيئته.
2. خلق اللَّه -سبحانه- الإنسان مختارًا في أفعاله، واختيارُه مخلوقٌ مِن قِبَل اللَّه -تعالى-، بمعنى أنّ له عقلًا يميّز به بين الحقّ والباطل، وله قدرة مِن اللَّه -تعالى- تمكّنه من فعل ما يريده، وهذه القدرة والإرادة ليستا مستقلّتين عن اللَّه -تعالى-، بل هما مخلوقتان له، كما أنّ الإنسان مخلوق له.
3. إنّ اللَّه -سبحانه- خَلَق العالَم وَفق قانون العلّيّة والسببيّة، فلا يقع أمرٌ في هذا العالَم، إلّا وله سبب خاصّ، ولكنّ اللَّه -سبحانه- هو مسبّب الأسباب وخالقها.
إذا اتّضحت هذه المقدّمات، ظهر الجواب عن الشبهة، بأنّ إرادة الإنسان واختياره الخاصّ سببٌ لأفعاله، ولكنّهما سببٌ مخلوقٌ مِن قِبَل اللَّه -تعالى-، الذي هو مسبِّب الأسباب. وإذا أردنا أن نمثّل لهذا الأمر، فبإمكاننا تمثيله باليد التي تحمل القلم لتكتب، فهي سبب وعلّة للكتابة، ولكنّها أيضًا مسبَّبة عن العقل الإنسانيّ، فههنا سببان: أحدهما اليد، والآخر العقل، وأحد السببَين في طول السبب الآخر، وهكذا الأمر للإنسان، فإنّ أفعالَه مسبَّبة عن اختياره، ولكنّ هذا الاختيار مسبَّب عن اللَّه -تعالى-، فيكون اللَّه -تعالى- مسبِّبًا لكلّ شيء، ولو من خلال أسبابه المباشرة، فلا نُلغِي سببيّة إرادة الإنسان للأفعال الصادرة عنه.
46
31
الدرس الرابع: صفات الله -تعالى- (2)
المفاهيم الرئيسة
1. إنّ قدرة اللَّه -تعالى- لا تتنافى مع عدله؛ لأنّ قدرته على كلِّ شيءٍ ممكنٍ، لا تعني أنّه يفعل كلَّ ما هو ممكنٌ، بل إنّ حكمته -تعالى-، إلى جانب قدرته، هي التي تحكم منظومة أفعاله؛ وبذلك، لا يمكن أن يفعل الظلم؛ لأنّه حكيم، وإن كان قادرًا عليه.
2. إنّ عِلم اللَّه -تعالى- المطلق بكلّ شيء قبل خلقه، لا يعني أنّه أجبر الإنسان على فعل الأشياء التي قد تدخله النار، بل إنّ عِلم اللَّه -تعالى- عِلمٌ بفعل الإنسان الذي وقع منه اختيارًا.
3. إنّ العدل الإلهيّ لا يتنافى مع كون اللَّه -تعالى- هو المؤثّر المستقلّ والوحيد في الوجود؛ وذلك لأنّ مؤثّريّة الإنسان مسبَّبة عن مؤثّريّة اللَّه -تعالى-.
تقييم
1. هل القدرة الإلهيّة المطلقة تتنافى مع قولنا: إنّه لا يَفعل بعض الأمور التي تُعَدُّ ظلمًا؟
2. إذا كان اللَّه -تعالى- عالمًا بمصير الناس كلّهم، فإنّ خَلْقَه للذين يدخلون النار يُعَدُّ ظلمًا، كيف تردّ على هذه الشبهة؟
3. هل العدل الإلهيّ يتنافى مع كون الإنسان مختارًا لأفعاله؟
47
32
الدرس الرابع: صفات الله -تعالى- (2)
اقرأ
توحيد الأفعال يعني إرجاع كلّ ما في العالَم من نَظم وسُنن وعِلَل ومعلولات وأسباب ومسبّبات، إلى فعل اللَّه -تعالى- وعمله وإرادته. اللَّه -سبحانه وتعالى- «قيُّوم» هذا العالم؛ أي إنَّ موجودات العالَم ليس لها استقلال ذاتيّ، بل هي قائمة ومرتبطة بالخالق. وهذا الارتباط يشمل ساحة التأثير والعلّيّة. من هنا، فإنَّ الخالق ليس له شريك في الفاعليّة أيضًا، كما في الذات. كلّ فاعل، وكلّ سبب يستمدّ حقيقته ووجوده وتأثيرَه وفاعليّتَه منه -تعالى-، وهو قائمٌ به -سبحانه-: «ما شاء اللَّه، ولا حول ولا قوَّة إلّا بالله».
الإنسان، مثل سائر مخلوقات الله، له الأثر الفاعل في الأمور، بل في مصيره أيضًا، لكنَّه غير «مفوَّض» ولا «متروك» إلى نفسه: «بحول اللَّه وقوّته أقوم وأقعد». الاعتقاد بتفويض أيِّ موجود، إنسانًا كان أم غير إنسان، يستلزم الاعتقاد بأنَّ ذلك الموجود شريك في الاستقلال وفي الفاعليّة. والاستقلال في الفاعليّة يستلزم الاستقلال في الذات، وهو منافٍ لتوحيد الذات، قبل أن يكون منافيًا لتوحيد الأفعال: ﴿وَقُلِ ٱلحَمدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَم يَتَّخِذ وَلَدٗا وَلَم يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٞ فِي ٱلمُلكِ وَلَم يَكُن لَّهُۥ وَلِيّٞ مِّنَ ٱلذُّلِّ وَكَبِّرهُ تَكبِيرَا﴾[1].
مطهّري، المفهوم التوحيديّ للعالَم
[1] سورة الإسراء، الآية 111.
48
33
الدرس الخامس: الأصول الاعتقاديّة لمبحث النبوّة (1)
الدرس الخامس: الأصول الاعتقاديّة لمبحث النبوّة (1)
1. يتعرّف إلى معاني النبوّة وأقسامها.
2. يستدل بالصفات الإلهيّة على النبوّة.
3. ينقد الشبهتَين الآتيتَين:
أ. شبهة عدم الحاجة إلى الأنبياء (عليهم السلام) مع وجود العقل.
ب. شبهة مخالفة العصمة للاختيار.
49
34
الدرس الخامس: الأصول الاعتقاديّة لمبحث النبوّة (1)
تمهيد
﴿وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدرِهِۦٓ إِذ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيءٖ﴾[1].
في هذه الآية القرآنيّة، ربط اللَّه -تعالى- بين عدم معرفة اللَّه -تعالى-، وكونِه لم يرسل أنبياء، فعدّ الذي يُنكِر بعثةَ الأنبياء (عليهم السلام)، لم يعرفه حقَّ معرفته.
ما العلاقة بين معرفة اللَّه -تعالى-، وضرورة أن يبعث أنبياء؟
أقسام النبوّة
تنقسم النبوّة في البحث العقائديّ، إلى قسمَين:
1. النبوّة العامّة: وهي البحث عن النبوّة بوصفها العامّ، لا بما هي نبوّة خاصّة بشخص معيّن، كنبوّة عيسى (عليه السلام)، أو نبوّة نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله).
2. النبوّة الخاصّة: وهي البحث عن نبوّة نبيّ معيّن، كالبحث عن الدليل على نبوّة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)، وعن إعجاز القرآن مثلًا.
والبحث في النبوّة العامّة، يبدأ من الاستدلال على ضرورة النبوّة، وعصمة الأنبياء (عليهم السلام)، ودلالة المعجزة على نبوّة الأنبياء (عليهم السلام)، وفيه تُعالَج الشبهات المثارة حول هذه الموضوعات.
[1] سورة الأنعام، الآية 91.
51
35
الدرس الخامس: الأصول الاعتقاديّة لمبحث النبوّة (1)
الاستدلال بالصفات الإلهيّة على النبوّة العامّة
من الأمور التي ينبغي الالتفات إليها، قضيّة ارتباط بعثة الأنبياء (عليهم السلام) بمعرفة الله -تعالى-؛ أي إنّ مَن عرف الله -سبحانه-، حَكَمَ بضرورة إرسال الأنبياء (عليهم السلام)؛ وذلك لأنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي أن يؤمِّن اللهُ -تعالى- للإنسان مستلزماتِ السير للوصول إلى الغاية التي خُلِقَ لها؛ أي الكمال اللائق به.
وقد زَوَّد اللهُ -تعالى- الإنسانَ بالعقل والحواسّ، ولكن بالتأمُّل، يظهر أنّ أهمّ مفردات الكمال لا يمكن للإنسان معرفتها، من دون إخبار إلهيّ بها. ومن جملة هذه الأمور، وعلى رأسها، البرنامج العمليّ المرتبط بعلاقة الإنسان بربِّه، والذي يحكم العقل بأنّه لا بدّ منه. وحيث إنّ الوسيلة المؤدِّية إلى معرفة هذا البرنامج هي النبوّة، كان لا بدّ من إرسال الأنبياء (عليهم السلام).
وهكذا نرى أنّ معرفةَ الله تستلزم إثباتَ النبوّات.
«جَاءَ فِي رِوَايةٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام)، أَنَّهُ قَالَ لِلزِّنْدِيقِ الَّذِي سَأَلَهُ: مِنْ أَيْنَ أَثْبَتَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ؟ قَالَ: إِنَّه لَمَّا أَثْبَتْنَا أَنَّ لَنَا خَالِقًا صَانِعًا، مُتَعَالِيًا عَنَّا وَعَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَ، وَكَانَ ذَلِكَ الصَّانِعُ حَكِيمًا مُتَعَالِيًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَاهِدَهُ خَلْقُهُ، وَلَا يُلَامِسُوهُ فَيُبَاشِرَهُمْ وَيُبَاشِرُوهُ، وَيُحَاجَّهُمْ وَيُحَاجُّوهُ، ثَبَتَ أَنَّ لَهُ سُفَرَاءَ فِي خَلْقِهِ، يُعَبِّرُونَ عَنْهُ إِلَى خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ، وَيَدُلُّونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَمَا بِهِ بَقَاؤُهُمْ وَفِي تَرْكِهِ فَنَاؤُهُمْ، فَثَبَتَ الْآمِرُونَ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ فِي خَلْقِهِ، وَالْمُعَبِّرُونَ عَنْهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ (عليهم السلام)، وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، حُكَمَاءَ مُؤَدَّبِين بِالْحِكْمَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كُلِّ دَهْرٍ وَزَمَانٍ مَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ، لِكَيْلَا تَخْلُوَ أَرْضُ اللَّهِ مِنْ حُجَّةٍ يَكُونُ مَعَهُ عِلْمٌ يَدِلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ، وَجَوَازِ عَدَالَتِهِ»[1].
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص168.
52
36
الدرس الخامس: الأصول الاعتقاديّة لمبحث النبوّة (1)
الشبهة الأولى: عدم الحاجة للأنبياء مع وجود العقل
أ.بيان الشبهة:
من الشبهات المثارة حول النبوّة، أنّه ما الحاجة لأنْ يُرسِل اللَّهُ -تعالى- نبيًّا، إنْ كان قد زوّد الناس العقول؟ فالعقل يستطيع أن يحكم بنفسه على كلّ ما يحتاجه الإنسان؛ وعليه، فلا حاجة لإرسال الأنبياء (عليهم السلام). وبعبارة أخرى: ما قد يأتي به الأنبياء (عليهم السلام)، إمّا أن يكون موافقًا للعقل، أو مخالفًا له. فإنْ كان موافقًا لِمَا يحكم العقل به، فلا حاجة للأنبياء (عليهم السلام)، ما دام العقل قد حكم به، وإنْ كان مخالِفًا لحكم العقل، فبعث الأنبياء (عليهم السلام) سيكون لغوًا؛ لأنّ الإنسان لا يَقْبَل ما يخالف عقله.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة بملاحظة المقدّمات الآتية:
1. إنّ للعقل ميدانه الخاصّ في الحكم، وهناك بعض الميادين الأخرى التي لا مجال للعقل أن يحكم عليها. ومن هذه الأمور، بعض الأحكام الشرعيّة التي لها جهة تعبّديّة، كعدد ركعات الصلاة وكيفيّة الوضوء مثلًا، وإنْ كان العقل قادرًا على الحكم بنفسه على أمور أخرى، كقبح الإضرار وإيصال الأذى للنفس أو الآخرين.
2. ثمّة قضايا يثبتها الأنبياء (عليهم السلام)، يحكم العقل بصحّتها بَعد عجزه عن إدراكها بنحوٍ مستقلّ، فهي مصداق لقولهم: إنّ الأحكام الشرعيّة ألطافٌ في الأحكام العقليّة[1].
3. إنّ وظيفة الأنبياء (عليهم السلام)، مضافًا لكونها الإتيان والإرشاد إلى كثير ممّا تعجز العقول عن دركه، فإنّ من وظائفهم أيضًا، الوعظَ وتحكيمَ أسسِ المجتمعات، والدعوة إلى اللَّه -تعالى-. وكونهم مبعوثين من قبل اللَّه -تعالى- يعزِّز اتّباع الناس لهم، وهذا
[1] أي إنّ العقل لو عَلِمَ بملاكات الأحكام الشرعيّة، لحكم بها، فهي موضوعات لطف في الكمال، يحكم بها العقل لو اطّلع عليها.
53
37
الدرس الخامس: الأصول الاعتقاديّة لمبحث النبوّة (1)
ما يحدّثنا عنه التاريخ، من أنّ الأنبياء (عليهم السلام) دعوا إلى التخلُّص من بعض الآفات التي يجزم العقل بقبحها.
إذا اتَّضحَت هذه المقدّمات، اتّضح أنّ بعثة الأنبياء (عليهم السلام) مشتملة على فوائد لا يستطيع العقل الإنسانيّ لوحده الوصول إليها. وهذه الفوائد مرجعها إلى كون النبيّ مرتبطًا باللَّه -تعالى- عن طريق الوحي، وهو ما يعطيه ميّزات أرفع من ميّزة عقول البشر جميعًا، وهو ما يساهم بشكل أساس في تحقيق أهداف الخلقة، من قَبيل قيادة الناس والمجتمعات، وهدايتهم إلى الصواب.
الشبهة الثانية: شبهة مخالفة العصمة للاختيار
أ.بيان الشبهة:
حاصل هذه الشبهة أنّ العصمة ليست كمالًا للأنبياء (عليهم السلام)؛ لأنّها تعني عدم إمكان صدور الذنب من قِبَلِهم، وهذا ينافي اختياريّة الأفعال الإنسانيّة. وبعبارة أخرى، قد يُقال: إنّ امتناع صدور المعصية عن النبيّ، يلزم أن يكون خارجًا عن قدرته، ومن ثمّ يكون فعلًا غير اختياريّ؛ بمعنى أنّ النبيّ مجبورٌ على فعل الطاعة والامتناع عن المعصية.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا فضل للأنبياء (عليهم السلام) على سائر الناس؛ لأنّ كونهم مجبورين على عدم المعصية، يعني أنّ قدرةً غيرَ قدرتِهم منعتهم من ارتكابها.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة بعد ملاحظة المقدّمتَين الآتيتَين:
1. ثمّة فَرق بين عدم وقوع الفعل الخارجيّ، وإمكان صدوره عن الإنسان. فكثيرة هي الأفعال التي قد تصدر عن أيّ إنسان، ولكنّه لا يفعلها في حياته كلّها؛ وعدم فعله إيّاها لا يعني أنّه غير قادر على فعلها. ومثال ذلك: أكل القاذورات، فالإنسان وإن
54
38
الدرس الخامس: الأصول الاعتقاديّة لمبحث النبوّة (1)
كان قادرًا على شرب الدم مثلًا، إلّا أنّه لا يصدر عنه، ما دام مدركًا لشدّة قذارته، فليس كلّ مقدور عليه يفعله ويصدر عنه.
2. إنّ المعصوم قادر على فعل المعصية، بمعنى أنّه غير مجبر على تركها، ومع ذلك، فإنّها لا تقع منه؛ والسرّ في ذلك أنّ العصمة منشؤها شدّة العلم بحقيقة المعاصي، ومَثل هذا الأمر كالذي يعلم بقبح شرب الدم مثلًا. فلو سألنا إنسانًا عارفًا بمضارّ الدم وقبح تناوله: هل تشربه؟ فإنّه سيقول: إنّ هذا مستحيل الوقوع منّي؛ لأنّ علمي القطعيّ بقبحه يشكّل لديّ رادعًا يمنعني منه كلّ عمري، ما دمت واعيًا ولديّ اختيار.
وعندئذٍ، من الخطأ القول: إنّ العصمة تنافي الاختيار؛ لأنّ المعصوم، في الحقيقة، قادر على فعل المعاصي، لكنّ عِلمَه يمنعه من ذلك، بل إنّ الإنسان العاديّ كلّما اشتدّ عِلمه بقبح فعلٍ ما، ازداد ارتداعًا وامتناعًا من فعله.
55
39
الدرس الخامس: الأصول الاعتقاديّة لمبحث النبوّة (1)
المفاهيم الرئيسة
1. تنقسم النبوّة في البحث العقائديّ، إلى قسمَين: النبوّة العامة، والنبوّة الخاصّة.
2. إنّ مَن عرف اللَّه -سبحانه-، حَكَمَ بضرورة إرسال الأنبياء (عليهم السلام)؛ وذلك لأنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي أن يؤمِّن اللَّهُ -تعالى- للإنسان مستلزماتِ السير للوصول إلى الغاية التي خُلِقَ لها؛ أي الكمال اللائق به.
3. إنّ وظيفة الأنبياء، مضافاً لكونها الإتيان والإرشاد إلى كثير ممّا تعجز العقول عن دركه، فإنّ من وظائفهم أيضاً، الوعظَ وتحكيمَ أسسِ المجتمعات، والدعوة إلى اللَّه -تعالى-. وكونهم مبعوثين من قبل اللَّه -تعالى- يعزِّز اتّباع الناس لهم، وهذا ما يحدّثنا عنه التاريخ، من أنّ الأنبياء دعوا إلى التخلُّص من بعض الآفات التي يجزم العقل بقبحها.
4. هناك فَرَق بين عدم وقوع الفعل الخارجيّ، وإمكان صدوره من الإنسان.
5. إنّ المعصوم قادر على فعل المعصية، بمعنى أنّه غير مجبر على تركها، ومع ذلك، فإنّها لا تقع منه، والسرّ في ذلك أنّ العصمة منشؤها شدّة العلم بحقيقة المعاصي.
56
40
الدرس الخامس: الأصول الاعتقاديّة لمبحث النبوّة (1)
تقييم
1. ما الفرق بين النبوّة العامّة والخاصّة؟
2. هل العقل الإنسانيّ يُغني عن وجود الأنبياء (عليهم السلام)؟
3. كيف تكون العصمة كمالًا، إذا كان معناها عدم القدرة على الإتيان بالمعصية؟
اقرأ
نَظَرًا إلى مَنشأ العصمة، نُذَكّر بأنّ العصمة لا تنافي اختيار المعصوم وكونه حرًّا في إرادته، بل إنّ الشخصَ المعصومَ، مع مَعرفته الكاملة بالله، وبآثار الطاعة والمعصية ونتائجهما، يمكنه أنّ يرتكب المعصية، وإنْ لم يستخدم هذه القدرة، مثل الوالد الحنون الذي يقدر على قتل ابنه، ولكنّه لا يفعل ذلك أبَدًا.
وأوضحُ من ذلك، هو عدمُ صدور القبيح عن الله -تعالى-، فإنَّ الله القادرَ المطلَق يمكنه أن يُدخلَ الصالحين المطيعين جهنَّم، أو يُدخِل العاصِين الجنّة، لكنّ عدلَه وحكمتَه يمنعان من القيام بمثل هذا العمل.
ومِن هذا البيان، يتّضح أَنَّ تركَ المعصية والتزام الطاعة والعبادة، يعدّان مفخرة كبرى للأنبياء (عليهم السلام)؛ لأنّهم مع كونهم قادرين على ترك الطاعة، وفعل المعصية، لا يفعلون ذلك، اختيارًا، وبإرادةٍ منهم.[1]
[1] راجع: السبحاني، الشيخ جعفر، العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ترجمة: جعفر الهادي، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، 1419 هـ- 1998م، ط1، ص131 – 140.
57
41
الدرس السادس: ردّ شبهات النبوّة العامّة (2)
الدرس السادس: ردّ شبهات النبوّة العامّة (2)
1. يشرح سبب اختلاف معجزات الأنبياء (عليهم السلام)
2. يتعرّف إلى أهم الشبهات حول معجزات الأنبياء (عليهم السلام).
3. يبطل الشبهات الآتية:
أ. شبهة مخالفة المعجزة لقانون العلّيّة.
ب. شبهة أنّ الاعتقاد بالمعجزة وليد الجهل بالسبب.
ج. شبهة عدم إعجاز القرآن بسبب اختلاف القراءات.
59
42
الدرس السادس: ردّ شبهات النبوّة العامّة (2)
تمهيد
عن الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام)، في معرض جوابه عن سؤال «ابن السِّكِّيت» (العالِم المعروف بأدبيّات العرب)، حينما سأل «ابنُ السِّكِّيت»: لِمَاذَا بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (عليه السلام) بِالْعَصَا وَيَدِهِ الْبَيْضَاءِ وَآلَةِ السِّحْرِ، وَبَعَثَ عِيسى (عليه السلام) بِآلَةِ الطِّبِّ، وَبَعَثَ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وآله) بِالْكَلَامِ وَالْخُطَبِ؟
قال الإمام(عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا بَعَثَ مُوسَى (عليه السلام)، كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ السِّحْرَ، فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِ الْقَوْمِ مِثْلُهُ، وَبِمَا أَبْطَلَ بِهِ سِحْرَهُمْ، وَأَثْبَتَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ عِيسَى فِي وَقْتٍ قَدْ ظَهَرَتْ فِيهِ الْعَاهَاتُ، وَاحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى الطِّبِّ، فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِثْلُهُ، إِذْ أَحْيَا لَهُمُ الْمَوْتَى، وَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَثْبَتَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وآله) فِي وَقْتٍ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ الْخُطَبَ وَالْكَلَامَ، فَأَتَاهُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمَوَاعِظِهِ وَأَحْكَامِهِ، مَا أَبْطَلَ بِهِ قَوْلَهُمْ، وَأَثْبَتَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ»[1].
اختلاف معجزات الأنبياء (عليهم السلام)
من الأدلّة التي تدلّ على نبوّة نبيٍّ، إتيانُه بمعجزة. وعرّفوا المعجزةَ بأنّها: «عملٌ خارقٌ للعادة، بداعي التحدّي، لإثبات دعوى النبيّ».
[1] المجلسي، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار(عليهم السلام)، مؤسسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج11، ص70.
61
43
الدرس السادس: ردّ شبهات النبوّة العامّة (2)
والمعجزات التي أتى بها الأنبياء (عليهم السلام) متعدّدةٌ. واختلاف معاجز الأنبياء (عليهم السلام) تابعٌ لاختلاف ظروفهم؛ فمعجزة عيسى (عليه السلام) أتت في زمنٍ كثر فيه الأطبّاء، فكانت تحدّيًا لهم بأن أحيا الميّت وشفى المرضى بطريقة خارقة للعادة، كذلك بُعث النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) في وسط انتشار البلاغة والشعراء، فكانت معجزته قوليّة، وهي القرآن، التي تحدّت سطوة الشعراء على الناس، فكان القرآن كلامًا خارقًا لعادة البشر في الإتيان بكلام أنيق ذي معانٍ راقية.
الشبهة الأولى: مخالفة المعجزة لقانون العلّيّة
أ.بيان الشبهة:
من القوانين التي يؤمن بها الإسلام والأديان الإلهيّة: قانون العلّيّة، والذي يعني أنّ لكلّ حادثة وظاهرة سببها الخاصّ، حيث «أبى اللَّه أن تجري الأمور إلّا بأسبابها». ولكنّ المعجزة حدثٌ مخالِفٌ لقانون العلّيّة، فإذا كانت الأفعال لها أسبابها الخاصّة لتولد وتنشأ، فإنّ تحوُّل عصا موسى (عليه السلام) لأفعى كان خروجًا عن قانون العلّيّة، وهذا يخالف كون قانون العلّيّة قانونًا عامًّا في العالَم.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة بملاحظة المقدّمات الآتية:
1. إنّ قانون العلّيّة قانونٌ عامّ في العالَم، ولا يمكن أن يجري أمرٌ من غير سببه. وقد دلَّت بعض الآيات القرآنيّة على ذلك، كقوله -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمرِهِۦ قَد جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيءٖ قَدرٗا﴾[1]. هذا، مضافًا إلى أنّ العقل يحكم بأنّ كلَّ مسبَّبٍ لا ينتج إلّا عند اجتماع أجزاء وشروط معيّنة تُخرجه من العدم إلى الوجود.
2. إنّ الأسباب التي تُنتِج نتيجةً ومعلولًا معيّنًا، قد تكون أسبابًا مادّيّة، كما لو قلنا: إنّ شفاء مريضٍ معلولٌ لأخذ الدواء الخاصّ، ولكن لا دليل على أنّ الأسباب لا تكون
[1] سورة الطلاق، الآية 3.
62
44
الدرس السادس: ردّ شبهات النبوّة العامّة (2)
2. الاتّصال باللَّه -سبحانه- من العناصر التي لا غالب لها، كما يعبّر علماء العقيدة. وبناءً على هذا الأمر، لا ينال غير المتّصلين باللَّه -تعالى-، بواسطة الوحي الإلهيّ، القدرةَ على الإتيان بالمعجزة. ومن هنا، لا يقتصر الإعجاز على عنصرٍ مجهول. ثمّ إنّ الأمر الحادث، من جهة استجابة الدعاء، كرامةٌ من حيث استناده إلى سبب غير مغلوب، كشفاء المريض، مع أنّه يمكن أن يحدث من غير جهته، كجهة العلاج بالدواء، غير أنّه حينئذٍ، أمرٌ عاديٌّ يمكن أن يصير سببُه مغلوبًا مقهورًا بسببٍ آخر أقوى منه.
الشبهة الثالثة: تحريف القرآن
أ.بيان الشبهة:
القرآنُ معجزةُ النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله). ولم يَسلَم القرآن منذ القرون الإسلاميّة الأولى، من توجيه سهام النقد والاتّهام إليه. ومن أهمّ الشبهات المطروحة في المقام، شبهة تحريف القرآن، لكون جَمْعه بين الدفَّتَين وتوحيده بين الأمصار الإسلاميّة، لم يتمّ إلّا في عهد الخليفة الثالث، على يد لجنة تضمّ بعض القرّاء الذين كانوا في عصره. وبالتّالي، فلا نسلّم سلامة الجمع وعدم وقوع التغيير والتحريف فيه، خاصّةً مع اختلاف القراءات الموجودة في حينه، وأنّه كان متفرّقًا متشتِّتًا بين الناس قَبل جَمعه، ووجود بعض الروايات الدالّة على وقوع التحريف.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة بملاحظة الآتي:
1. إنّ الروايات التي تمسّك بها القائلون بالتحريف ضعيفة السند، وغير مُعتَمَد عليها، فلا تكون مأمونةً من أن تكون مدسوسة وموضوعة. وشيوع الدسّ والوضع في الروايات لا يرتاب فيه مَن راجع الروايات المنقولة حول قصص الأنبياء (عليهم السلام) والأمم، والأخبار الواردة في تفاسير الآيات والحوادث الواقعة في صدر الإسلام.
64
45
الدرس السادس: ردّ شبهات النبوّة العامّة (2)
والقرآن الكريم من أعظم ما يهمّ أعداء الدين، ولا يألون جهدًا في إطفاء نوره، وإعفاء أثره.
2. إنّ اختلاف القراءات بين المصاحف ليس من باب اختلاف الوحي النازل من قبل اللَّه -تعالى-، بل هو أقرب إلى اختلاف اللهجات التي كانت منتشرة بين العرب حينها. وإنّ اهتمام المسلمين بحفظه وحمايته، هو من المتواترات في التاريخ، بحيث يمنع عن احتمال التفريط فيه، فالقرآن نزل بلهجة قريش، التي كانت أفضل لهجات العرب وأفصحها، إلّا أنَّ قرّاء القرآن الذين كانت لهم لهجات متنوّعة، كثيرًا ما كانوا يقرؤون الكلمات بلهجاتهم.
3. إنّ الروايات الدالّة على وقوع التحريف معارَضَةٌ بأخبار كثيرة دلَّت على أنّ القرآن قد جُمِعَ في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، بمعنى أنّه أَمَرَ بجَمعه، ولو في ضمن قراطيس متعدّدة وكثيرة، وأوصى إلى وصيِّه (عليه السلام) أن يَجمعَه في مصحفٍ واحد، لئلّا يضيع منه شيء. وقد كان كثيرٌ من الصحابة يحفظ جميع القرآن، وعلى رأسهم أمير المؤمنين (عليه السلام). وأمّا الحافظون منهم لبعض سوره وأجزائه، فلا يَعلَم عددَهم إلّا اللهُ -تعالى-[1].
4. إنّ إسناد جمع القرآن إلى الخلفاء –كما ادّعاه بعضهم- أمرٌ موهوم، مخالِف للكتاب والسنّة والإجماع والعقل. ولو قيل: إنّ جامع القرآن هو أبو بكر، في أيّام خلافته، فلا ينبغي الشكّ في أنّ جَمْعَ القرآن كان مستندًا إلى التواتر بين المسلمين، غاية الأمر أنّ الجامع قد دوّن في المصحف ما كان محفوظًا في الصدور على نحو التواتر. نعم، لا شكّ في أنّ عثمان قد جمع القرآن في زمانه، لا بمعنى أنّه جمع الآيات والسور في مصحف، بل بمعنى أنّه جمع المسلمين على
[1] لاحظ: الخوئي، السيد أبو القاسم الموسوي، البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1395هـ - 1975م، ط4، ص92.
65
46
الدرس السادس: ردّ شبهات النبوّة العامّة (2)
قراءةِ إمامٍ واحد، وأحرق المصاحف الأخرى التي تخالف ذلك المصحف، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة، وقد صرّح بهذا كثيرٌ من أعلام أهل السنّة[1].
[1] قال الحارث المحاسبيّ: «المشهور عند الناس أنّ جامع القرآن عثمان، وليس كذلك. إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجهٍ واحد، على اختيارٍ وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار، لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات. فأمّا قبل ذلك، فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أُنزِلَ بها القرآن». راجع: السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: سعيد المندوب، دار الفكر، 1416هـ - 1996م، ط1، ج1 ص103. وقال السيّد الخوئيّ معقِّباً على ذلك: «أقول: أمّا أنّ عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة، وهي القراءة التي كانت متعارَفة بين المسلمين، والتي تلقّوها بالتواتر عن النبيّ P، وأنّه منع عن القراءات الأخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف... فلم ينتقده عليه أحدٌ من المسلمين؛ وذلك لأنّ الاختلاف في القراءة كان يؤدّي إلى الاختلاف بين المسلمين، وتمزيق صفوفهم، وتفريق وحدتهم، بل كان يؤدّي إلى تكفير بعضهم بعضًا... ولكنّ الأمر الذي انتُقِدَ عليه، هو إحراقه لبقيّة المصاحف، وأمره أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف، وقد اعتَرَضَ على عثمان في ذلك جماعةٌ من المسلمين، حتّى سمّوه بحرّاق المصاحف». راجع: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ص258.
66
47
الدرس السادس: ردّ شبهات النبوّة العامّة (2)
المفاهيم الرئيسة
1. إنّ اختلاف معاجز الأنبياء (عليهم السلام) عبر العصور يرجع إلى طبيعة التحدّي التي كانت موجودة بين علماء عصر كلّ نبيّ.
2. إنّ المعجزة هي دليل على إثبات النبوّة الخاصّة، ولا تَنافي بينها وبين قانون العلّيّة العامّ؛ إذ غاية ما تدلّ عليه هو هيمنةُ علّةٍ غيبيّةٍ على العلل المادّيّة والطبيعيّة المتعارَفة بين الناس.
3. إنّ الجهل بالسبب الغيبيّ لا يجعل المعجزةَ حجّةً فقط على عصرٍ دون عصرٍ، أو على الجاهلين بالسبب فقط؛ لأنّها في الحقيقة، تكشف عن هيمنة السبب الغيبيّ على الأسباب الطبيعيّة، بشكلٍ لا يمكن قهرها.
4. إنّ معجزة نبيّنا (صلى الله عليه وآله) هي القرآن، وإنّ مراجعة تاريخ تدوين القرآن يجعلنا متيقّنين من وصول القرآن إلينا عن طريق التواتر. ولم يكن الاختلاف في القراءات إلّا اختلافًا عرضيًّا، لا يمسّ بحقيقة الوحي، وما ورد من رواياتٍ تدلّ على التحريف، فهي أقرب لأنْ تكون موضوعةً ومدسوسةً.
تقييم
1. ما سبب اختلاف المعاجز بين الأنبياء (عليهم السلام)؟
2. كيف تكون معجزة موسى (عليه السلام) مثبِتة لنبوّته لمن هم في غير عصره؟
3. هل قانون العلّيّة يخالف الإتيان بالمعاجز؟
4. كيف تردّ على شبهة تحريف القرآن بسبب اختلاف القراءات؟
67
48
الدرس السادس: ردّ شبهات النبوّة العامّة (2)
اقرأ
«إنّ الواقف على عناية المسلمين على جمع الكتاب وحفظه وضبطه، قراءةً وكتابةً، يقف على بطلان تلك المزعمة، وأنّه لا ينبغي أن يركن إليه ذو مِسكة. وما وردَت فيه من الأخبار، بين ضعيفٍ لا يُستَدَلّ به، إلى مجعولٍ يلوح منها إمارات الجعل، إلى غريبٍ يُقضى منه العجب، إلى صحيحٍ يدلّ على أنّ مضمونه تأويل الكتاب وتفسيره، إلى غير ذلك من الأقسام التي يحتاج بيان المراد منها إلى تأليف كتاب حافل... والاختلاف الناشئ بين القرّاء ليس إلّا أمرًا حديثًا لا ربط له بما نـزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين»[1].
[1] السبحاني، الشيخ جعفر، تهذيب الأصول(تقرير بحث الإمام الخميني)، انتشارات دار الفكر، إيران - قم، 1367 ش، ط3، ج2، ص165.
68
49
الدرس السابع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (1)
الدرس السابع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (1)
1. يبيّن أنّ بحث الإمامة من أصول الدين.
2. يحلّل الشّبهات حول الإمامة.
3. يرد على الشّبهات الآتية:
أ.شبهة عدم وجود الحاجة إلى الإمام (عليه السلام).
ب. شبهة عدم الحاجة إلى عصمة الإمام (عليه السلام).
ج. شبهة أنّ الإمامة عند الشيعة الاثني عشريّة استبداد.
69
50
الدرس السابع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (1)
تمهيد
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو إِلَّا وَفِيهَا إِمَامٌ، كَيْمَا إِنْ زَادَ الْمُؤْمِنُونَ شَيْئًا، رَدَّهُمْ، وَإِنْ نَقَصُوا شَيْئًا، أَتَمَّهُ لَهُمْ»[1].
ما هو وجه الحاجة إلى الإمام (عليه السلام) بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله)؟
وهل نزول القرآن يكفي لبقاء الحجّة على الناس بعد انقطاع الأنبياء (عليهم السلام)؟
الإمامة بحث أصوليّ لا فرعيّ
نجد من الضروريّ التنبيه إلى نقطة تمثّل وجهًا أساسيًّا للبحث في قضيّة الإمامة، وكانت سببًا لوقوع الكثير من الشبهات والاختلافات بين الإماميّة وغيرهم. وهذه القضيّة حاصلُها يتّضح ضمن نقاط:
1. إنّ مسائل الدين تنقسم إلى قسمَين: مسائل أصليّة، ومسائل فرعيّة؛ أمّا الأصول، فنقصد بها الأفكار التي تمثّل الخطوط العامّة للعقيدة الإسلاميّة، وهي المسائل التي نُطلِق عليها اسم المسألة العقديّة؛ وأمّا المسائل الفرعيّة، فهي ترتبط بالأحكام الشرعيّة والفقهيّة وما يتعلّق بسلوك الإنسان، كوجوب الصلاة والصوم والزكاة.
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص178.
71
51
الدرس السابع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (1)
2. الفرق الأساسيّ بين المسائل الأصوليّة العقديّة والمسائل الفرعيّة، أنّ الأولى متعلّقة باللَّه -تعالى- وأفعاله، بينما الثانية تتعلّق بالإنسان وأفعاله. وبعبارة أخرى، إنّ المسألة الأصليّة تبحث عن أسماء اللَّه وصفاته وما يفعله وما يجب عنه، وأمّا المسألة الفرعيّة، فتتعلّق بتنظيم أفعال الناس.
3. الإمامة عند الشيعة من المسائل الأصليّة والعقديّة؛ أي إنّها من القضايا المرتبطة بأفعال اللَّه -تعالى-، فيجب نَصْبُ الإمامِ بعد النبيّ؛ لأنّ حكمة اللَّه -تعالى- تقتضي ذلك، على خلاف بعض المذاهب الأخرى، التي ترى الإمامة كأيّ مسألة فقهيّة؛ فكما أنّ الصلاة واجبة، فكذلك على الناس نَصْبُ إمامٍ لهم لينظم شؤونهم، ولا دخل للعقيدة بها.
الشبهة الأولى: عدم وجود الحاجة للإمام (عليه السلام)
أ.بيان الشبهة:
قد يقول قائل: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) إمّا أن يكون قد بلّغ الدين بتمامه، وعندها لا يكون هناك حاجة إلى وجود إمام أصلًا بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وإمّا أن لا يكون كذلك، فيكون عندها مقصِّرًا، وقد نقض الغرض من بعثته.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة ببيان المقدّمات الآتية:
1. إنّ للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وظائف عديدة كان يقوم بها، منها تلقّي الوحي، ومنها الهداية إلى المعارف الإلهيّة وتبيان الأحكام الشرعيّة، ومنها الحكم والقضاء وفصل الخصومات.
2. هذه الوظائف التي كان يقوم بها النبيّ (صلى الله عليه وآله) إنّما هي لحاجة المجتمع والأفراد إليها، في سبيل تحقيق الهداية، التي تمثّل الغاية من بعثة الأنبياء (عليهم السلام).
72
52
الدرس السابع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (1)
3. انقطع تَلَقّي الوحي بموت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ولكن بقيَت الحاجة إلى الهداية والبيان، والحكم والقضاء، بعد رحيله؛ وذلك لأنّ المجتمع متجدّد، ودائم الحاجة إلى قَيِّم يقوم بشؤون هدايته.
4. إنّ القرآن، كما ذكرت النصوص الروائيّة، يحتاج إلى ترجمان وقَيِّم يبيّن مُحكَمَه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه؛ وذلك يعني أنّ الوحي، وإن انقطع من حيث التنزيل بموت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، إلّا أنّ الحاجة إلى العالِم بالقرآن ما زالت موجودة.
وبملاحظة هذه المقدّمات، يصبح مَكمن المغالطة التي تحتويها الشبهة جليًّا؛ إذ إنّ الغاية من البعثة كانت الهداية، وهي لا تتمّ إلّا بنصب إمامٍ بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله). فالنبيّ قد بلّغ الدين بتمامه، ولكنّ الهداية، وهي الغاية من بعثته، تستلزم نصب إمامٍ بعده.
الشبهة الثانية: عدم الحاجة إلى عصمة الإمام (عليه السلام)
أ.بيان الشبهة:
من الشبهات التي تُثار حول قضيّة الإمامة، أنّه لا ضرورة إلى كون الإمام بعد النبيّ معصومًا؛ وذلك لأنّ القرآن المنزّل من الله -تعالى- معصوم؛ لأنّه وحيٌ من عنده؛ وأمّا الإمام، فهو رئيسٌ للمسلمين بالمعنى العقلائيّ، ويكفي في هذه الرئاسة أن يكون عادلًا وعالِمًا، دون الحاجة إلى أن يكون معصومًا.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة من خلال المقدمات الآتية:
1. إنّ الدليل العقليّ الدالّ على ضرورة وجود الإمام بعد النبيّ، يدلّ على أنّ ثمّة وظائف للنبيّ لا تنقطع الحاجة إليها بعد ارتحاله (صلى الله عليه وآله).
2. تقتضي الحكمة عصمة النبيّ في تلّقي الوحي، وفي مقام إبلاغ الوحي لهداية
72
53
الدرس السابع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (1)
الناس والمجتمع، وإلّا لَما حصل الوثوق بكلامه، ولَما أطاعه الناس، فلا تتحقَّق الغاية من البعثة، وهي هداية الناس.
3. إنّ هداية المجتمع حاجةٌ مستمرّة بعد النبيّ. وكما تطلَّبَت الهداية العصمةَ في شخصه (صلى الله عليه وآله)، فإنّها تتطلَّبها كذلك في من يقوم مقامه.
والخلاصة: إنّ تحقُّق غاية البعثة لا يتوقّف على مرحلة حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقط، بل تمسّ الحاجة المرحلة اللاحقة عليه. وحيث إنّ دليل عصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان شاملًا لوظائفه الأخرى، غير وظيفة تَلَقّي الوحي، فلا بدّ من بقاء الحاجة إلى المعصوم الذي به قوام تحقُّق غاية الهداية.
الشبهة الثالثة: الإمامة عند الشيعة الاثني عشريّة استبداد
أ.بيان الشبهة:
يقول المستشكِل في هذه الشبهة: إنّ الإمامة التي يطرحها المذهب الشيعيّ ليست متوافقة مع أصل العدالة، التي نصطلح عليها في عصرنا الراهن بالديمقراطيّة، بل إنّ تعيين الإمام من دون دخلٍ للناس به، إنّما هو استبدادٌ وحُكمٌ مخالِف لاختيار الناس، خاصّةً أنّ مسألة إدارة الدولة والحكومة هي مسألة لا بدّ فيها من مشاركة الناس وفاعليّتهم.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة ببيان المقدّمات الآتية:
1. ثمّة فرق بين التنصيب الإلهيّ من جهة، وفاعليّة المنصب من جهة أخرى. وقد عُبِّر عن هذا التفريق بأنّ للإمام جهتَين: الجهة الأولى: مشروعيّة حكمه وإمامته، والجهة الثانية: فاعليّة حكمه في المجتمع والدولة.
74
54
الدرس السابع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (1)
2. إنّ مشروعيّة الحاكم في الإسلام، لا بدّ من أن يكون لها مبرّرٌ ومسوّغٌ شرعيٌّ مرتبطٌ باللَّه -تعالى-، وإذا راجعنا الآيات القرآنيّة والأدلّة النقليّة الأخرى والأدلّة العقليّة، وجدنا أنّه لا مشروعيّة لأيّ حُكمٍ غير مستند إلى اللَّه، بمعنى أنّ الحاكم لا بدّ من أن يكون متّصلًا بإرادة اللَّه، وعارفًا بأحكامه.
3. إنّ تنصيب الإمام، في الحقيقة، هو تعيينٌ للمصداق الذي تجتمع فيه صفات المشروعيّة. وبهذا، يكون التنصيب كاشفاً عن الأكفأ بعد النبيّ لتسلُّم المنصب.
4. إنّ تفعيل حاكميّة الإمام يتوقّف على أن يكون الناس حاضرين لإطاعته، والسير بما يحملهم عليه. لذا، نجد مثلًا، أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان إمامًا قبل تسلُّمه الحكم، بعد موت الخليفة الثالث، ولكن بعد أن أخذ موثقًا من الناس بأن يطيعوه، بعد مقتل الخليفة الثالث، أضحَت حاكميّته فعليّة، وهذا الذي يظهر في قوله (عليه السلام): «لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر»[1].
5. إنّ الديمقراطيّة نظريّةٌ غيرُ إلهيّة؛ إذ إنّها تعطي المشروعيّة للحاكم، بغضّ النظر عن استناده إلى الاتّصال بالشريعة.
وبناءً عليه، يتّضح أنّ الإمامة، كما يعتقد بها الشيعة الاثنا عشريّة، لا تعبّر عن استبدادٍ في الحكم، وإنّما هي اصطفاءٌ إلهيٌّ، وتحديدٌ للشخص الذي توفَّرَت فيه صفات الإمامة بعد النبيّ. ويبقى للناس دورهم في الالتزام بهذا الاصطفاء الإلهيّ، وتحويله إلى واقعٍ تترتَّب عليه آثاره.
[1] الرضي، السيد محمد الرضي بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، ص50.
75
55
الدرس السابع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (1)
المفاهيم الرئيسة
تبيّن ممّا تقدَّم، النقاط الآتية:
1. مسألة الإمامة من المسائل العقديّة التي ترجع إلى معرفة اللَّه -تعالى-، وليست مسألة فرعيّة.
2. تنبع الحاجة إلى الإمام، بشكل أساسيّ، من أنّ قضيّة بعثة النبيّ تشتمل على أهداف لا تنقضي برحيله (صلى الله عليه وآله)، بل هي مستمرّة. وعلى هذا الأساس، فلو لم يُنَصَّب إمامٌ بعد النبيّ، لأدّى ذلك إلى اختلال هدف البعثة وهداية الناس.
3. إنّ الدليل على عصمة الإمام هو الدليل عينه على عصمة النبيّ؛ وذلك لأنّ الوظائف التي كانت موكلةً إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله)، واحتِيج إلى عصمته فيها، ما زالت مستمرّةً بعد رحيله.
تقييم
1. ما الفرق بين القضيّة العقديّة والقضيّة الفقهيّة؟ ومن أيّ طبيعة منهما تُعَدّ مسألة الإمامة؟
2. ما الدليل على وجوب الإمامة؟ وكيف تردّ شبهة أنّ أمرها عقلائيّ، لا إلهيّ؟
3. هل العصمة من ضروراتِ شخصيّةِ الإمام (عليه السلام)؟ اشرح.
76
56
الدرس السابع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (1)
اقرأ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ غَالِبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام)، فِي خُطْبَةٍ لَهُ يَذْكُرُ فِيهَا حَالَ الْأَئِمَّةِ (عليهم السلام)وَصِفَاتِهِمْ، [حَيْثُ قَالَ]: «إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَوْضَحَ بِأَئِمَّةِ الْهُدَى مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا عَنْ دِينِهِ، وَأَبْلَجَ بِهِمْ عَنْ سَبِيلِ مِنْهَاجِهِ، وَفَتَحَ بِهِمْ عَنْ بَاطِنِ يَنَابِيعِ عِلْمِهِ؛ فَمَنْ عَرَفَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وَاجِبَ حَقِّ إِمَامِهِ، وَجَدَ طَعْمَ حَلَاوَةِ إِيمَانِهِ، وَعَلِمَ فَضْلَ طُلَاوَةِ إِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَصَبَ الْإِمَامَ عَلَمًا لِخَلْقِهِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ مَوَادِّهِ وَعَالَمِهِ، وَأَلْبَسَهُ اللَّهُ تَاجَ الْوَقَارِ، وَغَشَّاهُ مِنْ نُورِ الْجَبَّارِ، يُمَدُّ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ مَوَادُّه، وَلَا يُنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِجِهَةِ أَسْبَابِهِ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِ؛ فَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ مُلْتَبِسَاتِ الدُّجَى، وَمُعَمَّيَاتِ السُّنَنِ، وَمُشَبِّهَاتِ الْفِتَنِ. فَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَخْتَارُهُمْ لِخَلْقِهِ مِنْ وُلْدِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) مِنْ عَقِبِ كُلِّ إِمَامٍ، يَصْطَفِيهِمْ لِذَلِكَ، وَيَجْتَبِيهِمْ، وَيَرْضَى بِهِمْ لِخَلْقِهِ، وَيَرْتَضِيهِمْ؛ كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ إِمَامٌ، نَصَبَ لِخَلْقِهِ مِنْ عَقِبِهِ إِمَامًا عَلَمًا بَيِّنًا، وَهَادِيًا نَيِّرًا، وَإِمَامًا قَيِّمًا، وَحُجَّةً عَالِمًا، أَئِمَّةً مِنَ اللَّهِ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ، وَبِهِ يَعْدِلُونَ، حُجَجُ اللَّهِ، وَدُعَاتُهُ، وَرُعَاتُهُ عَلَى خَلْقِهِ، يَدِينُ بِهَدْيِهِم الْعِبَادُ، وَتَسْتَهِلُّ بِنُورِهِمُ الْبِلَادُ، وَيَنْمُو بِبَرَكَتِهِمُ التِّلَادُ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ حَيَاةً لِلْأَنَامِ، وَمَصَابِيحَ لِلظَّلَامِ، وَمَفَاتِيحَ لِلْكَلَامِ، وَدَعَائِمَ لِلْإِسْلَامِ، جَرَتْ بِذَلِكَ فِيهِمْ مَقَادِيرُ اللَّهِ عَلَى مَحْتُومِهَا»[1].
[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص204.
77
57
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
1. يبطل شبهة أنّ الولاية في آية الولاية بمعنى النصرة.
2. يرد على شبهة أنّ المأمور بتبليغه في آية التبليغ هو الرسالة لا الولاية.
3. ينقد شبهة أنّ اليوم في آية الإكمال هو يوم البعثة أو يوم فتح مكّة.
79
58
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
تمهيد
تقدّم الكلام عن الإمامة بوجهها العامّ. ونعقد هذا الدرس للكلام عن الإمامة الخاصّة؛ أي الإمامة المنصوص عليها في الكتاب والسنّة، والمتعلِّقة بأشخاص معيّنين.
وقد اعتَرَض جملةٌ من المفسِّرين على الاستدلالات التي عُقِدَت حول بعض الآيات التي تمسَّك بها مُثبِتُو ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ونخصّص الكلام -لردّ الشبهات- في ثلاث آيات:
1. آية الولاية
2. آية التبليغ
3. آية إكمال الدين
الشبهة الأولى: إنّ الولاية في آية الولاية بمعنى النصرة
أ.بيان الشبهة:
من الأدلّة التي تمسك بها متكلِّمو الإماميّة، للاستدلال على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، قوله -تعالى-: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم رَٰكِعُونَ﴾[1]. ووَجْهُ الاستدلال أنّ الآية ذَكَرَت مواصفات الإمام ووليّ الأمر بعد الرسول، ولا تنطبق هذه الصفات إلّا على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهو الشخص
[1] سورة المائدة، الآية 55.
81
59
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
الوحيد الذي تصدّق في ركوعه، على ما تذكره الروايات السنيّة والشيعيّة؛ أمّا الروايات السنّيّة، فمن قبيل ما أخرجه أبو جعفر الطبريّ بسنده عن أيّوب بن سويد، قال: «حدثنا عتبة بن أبي الحكم في هذه الآية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾، قال: عليّ بن أبي طالب»[1]؛ وأمّا الروايات الشيعيّة، فمنها ما رواه الكلينيّ في الكافي[2].
وقد أورد بعض المفسِّرين والمتكلِّمين اعتراضاتٍ على هذا الأمر، منها أنّ الولاية المقصودة في هذه الآية لا تدلّ بالضرورة على ولاية الأمر والإمامة، بل قد تدلّ على الولاية بمعنى النصرة والمحبّة، كما ذكر اللغويّون. واستدل صاحب هذه الشبهة بالسياق، حيث إنّ سياق الآيات هو نهي المؤمنين عن اتّخاذ اليهود والنصارى أولياء، فكأنّ الآية تدلّ على وجوب نصرة اللَّه والرسول والمؤمنين، مقابل اليهود والنصارى، فلا دلالة لها أصلًا على التنصيص على الإمامة، أو الدلالة عليها.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة بالآتي:
1. إنّ الاستدلال بالسياق متوقِّفٌ على إحراز كون هذه الآية التي نحن بصددها والآيات التي تسبقها قد نزلت مع بعضها متسلسلة. وما نحن فيه من الآيات ليس من هذا القبيل؛ فإنّ سورة المائدة، وإن كان من المسَلَّم نزولها آخر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداع، لكن مِن المسَلَّم أيضًا أنّ آياتها لم تنزل جميعها دفعة واحدة، فبعض آياتها لا شبهة في نزولها قبل ذلك، ومضامينها تشهد بذلك، وما ورد فيها من أسباب النزول يؤيّده، فليس مجرَّد وقوع الآية بعد الآية، أو قبل الآية، يدلّ على وحدة السياق، ولا أنّ وجود بعض المناسبة بين آية وآية يدلّ على نزولهما معًا دفعة واحدة، أو اتّحادهما في السياق[3].
[1] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تقديم: الشيخ خليل الميس، ضبط وتوثيق وتخريج: صدقي جميل العطار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1415هـ - 1995م، لا.ط، ج6، ص389.
[2] راجع: الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص289.
[3] راجع الطباطبائي، العلامة السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1417هـ، ط5، ج6، ص3.
82
60
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
2. إنّ لفظ الولاية جاء مرّة واحدة في الآية، وجاء مطلقًا، لا مقيّدًا. وبالتالي، فولاية اللَّه المذكورة في الآية هي نفسها ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) والذين آمنوا، فلا تكون مقيّدة في جانب معيَّن من الجوانب، غاية الأمر أنّ ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمّة(عليهم السلام) ولايةٌ تبعيّةٌ، لا بالأصالة كما عند اللَّه -تعالى-. وعليه، فالحاكم المطلق بالأصالة، والمحبوب وواجب النصرة بالأصالة هو اللَّه -تعالى-، ويتبعه الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام عليّ (عليه السلام)؛ لأنّ ما ذُكِرَ من الصفات لا ينطبق إلّا عليه، بحكم ما ورد من النصوص.
الشبهة الثانية: إنّ المأمور بتبليغه في آية التبليغ هو الرسالة، لا الولاية
أ.بيان الشبهة:
من الآيات التي استدلّ بها الإماميّة على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، آية التبليغ، وهي قوله -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغ مَآ أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُۥ وَٱللَّهُ يَعصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهدِي ٱلقَومَ ٱلكَٰفِرِينَ﴾[1]. وثمّة روايات تدلّ على أنّ الأمر الذي أراد اللَّه تبليغه للناس هو إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد رُوِي عن ابن عبّاس وجابر بن عبد اللَّه، قالا: «أمَرَ اللَّهُ -تعالى- نبيَّه محمّدًا أن ينصِّبَ عليًّا عَلَمًا في الناس، ليخبرهم بولايته؛ فتخوّف رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقولوا: حابى ابنَ عمِّهِ، وأن يطعنوا في ذلك عليه. قال: فأوحى اللَّهُ إليه هذه الآية: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغ مَآ أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ الآية، فقام رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) بولايته يوم غدير خمّ»[2]، وغيرها من الروايات الكثيرة المذكورة في محلِّها.
[1] سورة المائدة، الآية 64.
[2] راجع: العلاّمة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج6، ص50.
83
61
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
وقد اعترض الفخر الرازيّ على تفسير الآية بمورد تنصيب الإمام عليّ (عليه السلام) خليفةً للمسلمين، بل فسّرها في مورد تبليغ الرسالة التي بُعِثَ بها إلى المسلمين، وأن لا يخشى كثرتهم وسطوتهم، حيث قال: «أُمرَ الرسول بأن لا ينظر إلى قلّة المقتصدين وكثرة الفاسقين، ولا يخشى مكروههم، فقال: (بَلِّغْ)؛ أي: واصبِر على تبليغ ما أنزلتُه إليك من كشف أسرارهم، وفضائح أفعالهم، فإنّ اللهَ يعصمك من كيدهم، ويصونك من مكرهم. واستدلّ على مطلوبه بما رُوِيَ عن الحسن (البصريّ)، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، قال: «إنّ الله بعثني برسالته، فضقت بها ذرعًا، وعرفتُ أنّ الناسَ يكذِّبوني، واليهود والنصارى وقريش يخوِّفوني، فلمّا أَنزَلَ اللَّهُ هذه الآية، زال الخوف بالكلّيّة»[1].
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة بالأمور الآتية:
1. إنّ الرواية التي استدَلَّ بها الفخر الرازيّ، والتي تشير إلى أنّ مورد نزول الآية ليس في قضيّة تنصيب عليّ (عليه السلام) لأمر الإمامة، بل لأمرٍ آخر، هي رواية ضعيفة بالقطع والإرسال[2]، حيث إنّ راويها هو الحسن البصريّ عن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) مباشرةً؛ أي من دون واسطة، ومن المعروف أنّ البصريّ قد أدرك زمن الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكان يبلغ من العمر وقتها عشر سنوات فقط، ومن البعيد -وليس من المستبعد- أن يروي طفلٌ في هذا العمر عن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) روايةً تتعلَّق بأسباب النزول. لذا، لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية لإثبات مطلوب الفخر الرازيّ.
2. إنّ الآية هي جزءٌ من سورة المائدة، ومن المعروف عند المفسِّرين أنّها من السور المدنيّة، ونزلت في أواخر حياة رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)؛ ومن ثمّ، فتفسيرها بحادثةٍ
[1] الشوكاني، محمد بن علي، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، عالم الكتب، لا.ت، لا.ط، ج2، ص60.
[2] وذلك لأنه أوّلاً: لم يُذكر راويها عن الحسن البصري، وثانياً: لإرسالها عن الحسن البصري عن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله). ولهذا، الرواية لا قيمة علميّة لها بحسب موازين علميَ الدراية والرجال.
84
62
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
حدثَت في أوائل البعثة، وفي المرحلة المكّيّة، يكشف عن نيّة المفسِّر.
3. الرواية نفسها منقولة عن الحسن البصريّ نفسه، ولكن في سبب نزول آية أخرى، حيث رُوِي عن الحسن البصريّ قوله: «كان عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) رجلٌ، فجعل يعرض عليه الإسلام، قال: فقال: واللّهِ، إنّي لكارهٌ لِمَا تدعوني إليه، قال (صلى الله عليه وآله): «وأنا، واللّهِ، لقد كنتُ كارهًا له، ولكنّي أُكرِهْتُ عليه؛ إنّ اللّهَ بعثني بالرسالةِ، فضِقْتُ ذرعًا، ووَعَدَني فيها: لأبلّغَنّ أو ليعذّبنّي». فقال الحسن: فبلّغ، واللّهِ، رسول اللّه، حتى عَذَرَه اللّهُ، فقال: ﴿فَتَوَلَّ عَنهُم فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٖ﴾[1]»[2].
4. إنّ الفخر الرازيّ زاد من عنده عبارة (اليهود والنصارى)؛ وذلك لإبعاد فهم السامع والقارئ والإيحاء بأنّ التهديد الذي يتعرّض له رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) هو من اليهود والنصارى؛ وبالتالي، فهو تهديد خارجيّ، وهذا معناه أنّ الأمر يتعلّق بالرسالة، وليس بالخلافة والولاية.
ولكن هذه الإضافة التي أتى بها الفخر الرازيّ، غير موجودة في النص الأصليّ[3].
5. أكثر علماء أهل السنّة قالوا: إنّ نزول هذه الآية جاء في حادثة غدير خمّ، يوم تنصيب الإمام عليّ (عليه السلام) أميرًا للمؤمنين وخليفةً للمسلمين. ومن هؤلاء الأعلام:
- قال السيوطيّ: «وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدريّ، قال: نزلت هذه الآية ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغ مَآ أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ على رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خمّ، في عليّ بن أبي طالب»[4].
[1] سورة الذاريات، الآية 54.
[2] عبد القاهر الجرجاني، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن، درج الدرر في تفسير الآي والسور، تحقيق: طلعت صلاح الفرحان- محمد أديب شكور أمرير، دار الفكر، عمّان –الأردن، 1430هـ/2009م، ط1، ج2، ص22.
[3] الرواية على الشكل الآتي: أخرج أبو الشيخ عن الحسن أنّ رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) قال: «إنّ اللَّه بعثني برسالته، فضقتُ بها ذرعًا، وعرفتُ أنّ النّاس مُكذِّبِيَّ، فوعدني لأبلِّغَنَّ أو ليعذِّبَنِّي»، فأنزلت ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ﴾». الشوكاني، الفتح القدير، مصدر سابق، ج2، ص60.
[4] السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص298
85
63
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
- وقال العلّامة الآلوسيّ: وعن ابن عبّاس، قال: نزلت هذه الآية في عليّ (عليه السلام)، حيث أَمَرَ -سبحانه- أن يخبر الناس بولايته، فتخوَّف رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) أن يقولوا: حابى ابنَ عمِّه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى اللَّه -تعالى- إليه هذه الآية، فقام بولايته يوم غدير خمّ، وأخذ بيده، فقال (عليه السلام): «مَنْ كُنتُ مَولاهُ فَعَلِيٌّ مَولاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَن وَالاهُ، وَعَادِ مَن عَاداهُ»[1].
الشبهة الثالثة: إنّ اليوم في آية الإكمال هو يوم البعثة، أو يوم فتح مكّة
أ.بيان الشبهة:
آية الإكمال هي قوله -تعالى-: ﴿ٱليَومَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُم فَلَا تَخشَوهُم وَٱخشَونِ ٱليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسلَٰمَ دِينٗا﴾[2]، حيث دلَّت جملة من الروايات الواردة من طرق الفريقَين، أنّ الآية نزلت يوم الغدير في أمر تنصيب أمير المؤمنين (عليه السلام).
وقد اعتُرِض على الاستدلال بها بأنّ المقصود من (اليوم) ليس ما ذكر من كونه يوم الغدير، بل هو يوم البعثة، أو يوم فتح مكّة.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة بما يأتي:
1. إنّ هذه الآية الشريفة أتت تتميمًا للآية الشريفة المتقدِّمة، وهي قوله -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغ مَآ أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُۥ وَٱللَّهُ يَعصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهدِي ٱلقَومَ ٱلكَٰفِرِينَ﴾[3]، وقد ثبت بما تقدّم من كون آية التبليغ تتحدّث عن واقعة يوم الغدير، أنّ هذه الآية كذلك، ناظرة إلى
[1] الألوسيّ، محمود بن عبدالله، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، تحقيق: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلميّة، بيروت-لبنان، 1415هـ ج6، ص193.
[2] سورة المائدة، الآية 3.
[3] سورة المائدة، الآية 64.
86
64
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
أنّ إكمال الدين وإتمام النعمة إنّما يتمّان من خلال تنصيب الإمام عليّ خليفة للمسلمين، والقول: بأنّ المراد من اليوم في الآية هو:
أ. إمّا يوم البعثة، فهو مردود لكونه مخالفًا لسياق الآية؛ فإنّ ظاهرها أنّ هذا اليوم إنّما كان بعد استحكام الإسلام، وطمع الكافرين بإزالته بعد استحكامه، ولا يمكن أن يقع طمع المشركين أو غيرهم بإزالة الإسلام في يوم البعثة، قبل ثبات شجرة الإسلام واستحكامها.
ب. وإمّا يوم فتح مكّة، فهو مردود أيضًا، لكونه مخالفًا لظاهر الآية أيضًا؛ لأنّ الآية المباركة حين نزولها، تدلّ على كمال الدين وإتمام النعمة، في حين أنّنا نجد أن الدين في يوم الفتح بمكّة لم يكتمل؛ لأنّ يوم الفتح وقع في السنة الثامنة للهجرة، وكان هناك الكثير من الأحكام لم تنزل بعد.
1. يذهب الكثير من علماء أهل السنّة إلى القول: إنّ هذه الآية ناظرة إلى حادثة يوم الغدير. منهم ما رواه الحاكم الحسكانيّ، إذ قال: «خبَّرَنا الحاكم الوالد، عن أبي حفص بن شاهين قال: حدَّثَنا أحمد بن عبد الله النيريّ البزّاز، قال: حدَّثَنا عليّ بن سعيد الرقّيّ، قال: حدَّثَنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق، عن شهر بن حوش، عن أبي هريرة، قال: مَن صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة، كتب اللَّهُ له صيام ستّين شهرًا، وهو يوم غدير خمّ، لَمَّا أخذَ رسولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله) بيد عليّ بن أبي طالب، فقال: مَنْ كُنْتُ مَولاهُ، فَعَلِيٌّ مَولاهُ . فقال له عمر بن الخطاب: بخٍ بخٍ لكَ يا بن أبي طالب!»[1].
[1] الحاكم الحسكاني، عبيد اللَّه بن أحمد، شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي- مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، 1411هـ- 1990م، ط1، ج1، ص200.
87
65
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
وعن أبي سعيد الخدريّ، أنّ رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) دعا الناس إلى عليّ في غدير خمّ، وأمر بما تحت الشجرة من الشوك، فقمَّ[1] -وذلك يوم الخميس- فدعا عَلِيًّا، فأخذ بضبعَيه، فَرَفَعَهُما، حتّى نظر الناس إلى بياض إبطَي رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، ثمّ لم يفترقوا حتّى نزلت هذه الآية: ﴿ٱليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسلَٰمَ دِينٗا﴾، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اللَّه أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي، والولاية لِعَلِيٍّ...»[2].
[1] قمّ الشيء قمّاً: كنسه؛ انظر: الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين، لبنان - بيروت، 1407هـ - 1987م، ط4، ج5، ص2015؛ ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، نشر أدب الحوزة، إيران - قم، 1405هـ، لا.ط، ج11، ص308 مادّة «قمم».
[2] الشيرازي، محمد طاهر القمي، كتاب الأربعين، المحقق ونشر: السيد مهدي الرجائي، مطبعة: أمير، 1418هـ، ط1، ص119.
88
66
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
المفاهيم الرئيسة
تبيّن ممّا تقدّم، أنّ الاستدلال على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) من الكتاب والسنّة تامّ، وما ورد من الاعتراضات عليها مدفوع؛ وذلك على النحو الآتي:
1. نزلت آية الولاية في أمير المؤمنين (عليه السلام) في حادثة التصدُّق بالخاتم، وهي صريحة في أنّه وليُّ الأمر بعد رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله).
2. ادّعاء أنّ الولاية في الآية هي بمعنى ولاية النصرة، مدفوعٌ بأنّ الولاية التي للَّه -تعالى- وللرسول والذين آمنوا، بمعنى واحد ومطلق، فتشمل معاني الولاية كلّها، حتّى الحاكميّة.
3. دلّت النصوص على أنّ آية التبليغ نزلَت لتدلّ على أنّ الأمر الذي أراد اللَّه -تعالى- من النبيّ (صلى الله عليه وآله) تبليغَه، هو ولاية عليّ (عليه السلام).
4. دلَّت الروايات عند الفريقَين أنّ المراد من (اليوم) في آية إكمال الدين هو يوم غدير خمّ، الذي نُصِّبَ فيه عليٌّ إمامًا وخليفةً للمسلمين. وأمّا ما جاء من ادّعاء كون هذا اليوم هو يوم البعثة، أو يوم فتح مكّة، فلا يتناسب مع سياق الآية المباركة وظاهرها.
89
67
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
تقييم
1. كيف تردّ ما ذكره الرازيّ في تفسيره من أنَّ الأمر بالتبليغ كان لخشية النبيّ (صلى الله عليه وآله) في بداية البعثة؟
2. ما هو المعنى المقصود من الولاية في آية الولاية؟
3. كيف تردّ الشبهة القائلة إنّ المراد من (اليوم) في آية الإكمال هو فتح مكّة أو يوم البعثة؟
90
68
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
اقرأ
عن جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، قال: «خرج رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) إلى مكّة في حجّة الوداع، فلمّا انصرف وهو يريد المدينة، ومعه مئة وعشرون ألف رجل من مكّة وأهل المدينة واليمن، نزل جبرائيل بهذه الآية وقرأها على رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، فقال له رسول الله: يا جبرائيل، إنّ الناس حديثو عهدٍ بالإسلام، فأخشى أن يضطربوا ولا يطيعوا! فعرج جبرئيل إلى مكانه، ونزل عليه في اليوم الثاني وهو بغدير خمّ، وقال: يا محمَّد، إنّ اللَّه يقول لك: يا أيُّها الرسول بَلِّغ ما أُنزِل إليك مِن ربِّك، إنَّ عليًّا مولى المؤمنين، فإنْ لم تفعل، فما بلَّغتَ رسالته، واللَّه يعصمك من الناس. فقال ابن مسعود: هكذا كنّا نقرأ الآية في حياة رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله)، فلمّا سمع رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) هذه المقالة، قال للناس: أنيخوا ناقتي، فوالله، ما أبرح من هذا المكان، حتّى أبلغ رسالة ربّي! وكان ذلك يوم شديد الحرّ، وأمر أن يُنصَبَ له منبرٌ على أقتاب الإبل، وصعدها وأخرج معه عليًّا، وقام قائمًا، وخطب خطبةً بليغةً، ووعظ فيها وزجر، ثمّ قال في آخر كلامه: أيُّها الناس، ألستُ أولى بكم منكم؟ فقالوا: بلى، يا رسول الله، ثمّ قال: قُم يا عليّ. فأخذ بيده ورفعه حتّى ظهر بياض إبطَيه، وقال: ألا فمَن كنتُ مولاه، فهذا عليٌّ مولاه، اللهُمَّ والِ من والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذل مَن خذله. فناداه القوم بأجمعهم: يا رسول اللَّه، سمعنا وأطعنا، على أمر اللَّه ورسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا. ثمّ نزل عن المنبر، وجاء أصحابه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهنّؤوه بالولاية، وسلّموا عليه، وقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين، وجاء عمر بن الخطاب وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، بخٍ بخٍ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ! ونزل جبرائيل بهذه الآية ﴿ٱليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسلَٰمَ دِينٗا﴾، فقال رسول اللَّه: الحمد للَّه على كمال الدين وتمام النعمة، ورضى الربُّ برسالتي والولاية لعليّ بن أبي طالب مِن بعدي...»[1].
[1] الحائري، الشيخ محمد مهدي، شجرة طوبى، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها - النجف الأشرف، محرم الحرام 1385هـ، ط5، ج2، ص222.
91
69
الدرس الثامن: الأصول الاعتقاديّة لمبحث الإمامة (2)
الدرس التاسع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (1)
1. يبيّن أنّ تجرُّد النفس ضروريّ لإثبات المعاد.
2. يتعرّف إلى أهم الشّبهات حول الإيمان بالمعاد.
3. يبطل الشّبهات الآتية:
أ. شبهة أنّ الموت إبطال للشخصيّة.
ب. شبهة ضيق سطح الأرض لبعث النفوس كافّة.
ج. شبهة عدم إمكان التعرُّف إلى الأجزاء المندثرة.
93
70
لدرس التاسع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (1)
تمهيد
قال -تعالى-: ﴿أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَٰكُم عَبَثٗا وَأَنَّكُم إِلَينَا لَا تُرجَعُونَ﴾[1].
هذه الآية وغيرها من الآيات القرآنيّة، تدلّ على أنّ يوم القيامة والمعاد من المحطّات الأساسيّة في عالم الخلقة؛ وذلك لأنّه مع عدم وجود المعاد، ينتهي الأمر بانحصار الحياة بالحياة الدنيا، ولا تصل المخلوقات إلى غاياتها وما تستحقّه من الثواب والعقاب، وليس هذا الأمر إلّا العبث واللغو، واللَّه منزَّهٌ عنهما.
تجرُّد النفس دليل المعاد
إنّ المعاد من أصول الدين، والتصديق به من ضروريّات الإيمان. وقد سلّم بالمعاد جميع المسلمين دون خلاف، وأقاموا الأدلّة عليه، ومنها أنّ اللَّه -تعالى- وعد بالثواب وتوعَّد بالعقاب، مع مشاهدة الموت للمكلَّفين، فوجب القول: بعَوْدِهم؛ ليحصل الوفاء بوعده ووعيده. لكن وقع النقاش بينهم في كيفيّة المعاد، والمسلمون كلّهم يسلِّمون بأنّ النصوص الدينيّة دلّت على أنّ المعاد ليس روحانيًّا محضًا، بل هو جسمانيٌّ كذلك، ومن ثمّ وقع النقاش في كيفيّة كونه جسمانيًّا.
وقد عُدَّت قضيّة تجرُّد النفس وعدم كونها مادّيّة من الأدلّة التي ساقها العلماءُ لإثبات بقاء النفس بعد الموت. فاندثار البدن المادّيّ، لا يعني أنّ النفس والشخصيّة الإنسانيّة
[1] سورة المؤمنون، الآية 115.
95
71
لدرس التاسع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (1)
قد انعدمت وتلفت، بل إنّها مجرَّدة لا تتلف بتلف البدن. ومع بقاء النفس وشخصيّة الإنسان، لا يبقى الإشكال في كيفيّة المعاد ومجازاة الإنسان على ما اكتسبَت يداه.
وقد ذُكِر العديد من الشبهات حول المعاد، نعرض لبعضها مع الإجابة عنها:
الشبهة الأولى: الموت إبطالٌ للشخصيّة
أ.بيان الشبهة:
إنّ كلَّ مَن يتصوّر أنّ الإنسان مجموعةٌ من خلايا وعروق وأعصاب وعظام وجلد، لا بُدّ له من أن يقول: إنّ الموت إبطالٌ للشخصيّة؛ فإذا مات الإنسان وصار ترابًا، بطُلَت شخصيّته. فكيف يمكن أن يكون المعاد هو رجوع الإنسان الأوّل نفسه؟ ولو أُعِيد الإنسان بعد صيرورته ترابًا، وصار ذا مجموعة من الخلايا والعروق والأعصاب والعظام والجلد، فليس هو الشخص الأوّل نفسه؛ لأنّ الأوّل قد انعدم بموته، فإعادتُه ثانيةً إنّما هي بنفخ حياة جديدة يكون بها غير الإنسان الأوّل، بل مماثلًا له.
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة بالآتي:
1. هذه الشبهة ليست جديدة، بل كان يطرحها العرب في الجاهليّة، فقد قالوا -كما يحكي عنهم القرآن الكريم-: ﴿وَقَالُوٓاْ أَءِذَا ضَلَلنَا فِي ٱلأَرضِ أَءِنَّا لَفِي خَلقٖ جَدِيدِ﴾[1]. فإنّ مرادهم من الضلال في الأرض، بطلانُ الهُويّة بطلانًا كاملًا، لا يمكن أن يتّسم بالإعادة، بل يكونون خلقًا جديدًا مماثلًا للخلق الأوّل، لا نفسه. ثمّ إنّه -سبحانه- يردّ على هذه الشبهة بوجهَين:
أ. قوله -تعالى-: ﴿بَل هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِم كَٰفِرُونَ﴾[2].
[1] سورة السجدة، الآية 10.
[2] سورة السجدة، الآية 10.
96
72
لدرس التاسع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (1)
ب. قوله -تعالى-: ﴿قُل يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلمَوتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُم ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم تُرجَعُونَ﴾[1].
فالآية الأُولى تشير إلى أنّ الباعث على إثارة هذه الشبهة هو تبنِّيهم موقفًا سلبيًّا في مجال لقاء اللَّه -تعالى-. فبما أنّهم يكفرون بذلك اللقاء، يثيرون هذه الشبهة، وهي قولهم: ﴿وَقَالُوٓاْ أَءِذَا ضَلَلنَا فِي ٱلأَرضِ أَءِنَّا لَفِي خَلقٖ جَدِيدِ﴾. فلو كانوا مؤمنين باللقاء، لما تمسّكوا بهذه الشبهة.
وأمّا الآية الثانية، فهي بصدد قلع الشبهة من أساسها، وذلك عبر تفسير التوفّي، وأنّه ليس بمعنى الإماتة في الآية، بل بمعنى الأخذ؛ إذ ثمّة فرقٌ بين التوفّي والموت؛ فالأوّل أعمّ من الثاني، بشهادة قوله -سبحانه-: ﴿ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوتِهَا وَٱلَّتِي لَم تَمُت فِي مَنَامِهَا ﴾[2].
وتقدير الآية: اللَّه يتوفّى الأنفسَ التي لم تَمُتْ في منامها، فقد جمع بين التوفّي وعدم الموت، وهذا أفضل شاهد على أنّ التوفّي إنّما هو بمعنى الأخذ، لا الإماتة.
2. بناءً على ما تقدّم، فإنّ مفاد قوله -تعالى-: ﴿قُل يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلمَوتِ﴾؛ أي يأخذكم ملك الموت الذي وُكِّلَ بكم، ثم إنّكم إلى اللَّه ترجعون، ومعناه أنّ شخصيّتكم الحقيقيّة يأخذها ملك الموت، ولا تبقى في الأرض حتّى تضلّ، وما يأخذه ملك الموت هو عند اللَّه محفوظ لا يضلّ، وإنّما الضالّ -عندكم- هو البدن، الذي يكون بمنزلة اللباس لهذه الشخصيّة. وعلى هذا، فالبدن الضالّ -على فرض ضلاله- ليس هو المقوِّم لحقيقة الإنسان وشخصيّته، وأمّا ما هو المقوِّم لحقيقته وشخصيّته، فهو غير ضالّ، وهو نفسه.
[1] سورة السجدة، الآية 11.
[2] سورة الزمر، الآية 42.
97
73
لدرس التاسع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (1)
3. إنّ الشبهة مبنيّة -كما أسلفنا- على أنّ الإنسان هو البدن نفسه، بما فيه من أعضاء وأعصاب وغير ذلك؛ فإذا صار ترابًا، بطلَت شخصيّته، وأمّا لو قلنا: إنّ للإنسان -وراء البدن- حقيقة متعالية لا تندثر بمرور الزمان، وهي التي تحمل الخصائص النفسيّة للإنسان، من خير وشرّ، فلا تأتي الشبهة؛ ذلك أنّ ما هو محفوظٌ عند الله، يجعل البدنَ المبعوث إعادةً للشخص الأوّل، وإن لم يكن عين البدن الذي ضلّ، بل مثله تماماً.
الشبهة الثانية: ضيق سطح الأرض لبعث النفوس كافّة
أ.بيان الشبهة:
هل يكفي سطح الأرض لاستقرار جميع الخلائق التي لا يحصي عددَها إلّا خالقها، في يوم واحد، كما هو صريح قوله -سبحانه-: ﴿هَٰذَا يَومُ ٱلفَصلِ جَمَعنَٰكُم وَٱلأَوَّلِينَ﴾[1]، مع أنّ مساحة الأرض لا تتجاوز الـ (715/950/509) كيلومترًا مربَّعًا؟
ب.جواب الشبهة:
إنّ الشبهة مبنيّة على حفظ النظام السائد حاليًّا، مع أنّ صريح الآيات يدلّ على تبدُّل النظام، وحدوث نظام أوسع وأكثر حيطة. وقد ثبت في قانون الديناميكا الحراريّة، اتّجاه الموادّ الكونيّة إلى الفناء بمرور الزمن، ومنه يتّضح أنّ القيامة لن تقوم على صعيد هذه الأرض. والآيات القرآنيّة الدالّة على ذلك كثيرة، منها:
قوله -سبحانه-: ﴿يَومَ تُبَدَّلُ ٱلأَرضُ غَيرَ ٱلأَرضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلوَٰحِدِ ٱلقَهَّارِ﴾[2].
والذكر الحكيم يصرّح بأنّ الشمس والقمر يجريان إلى أجل مسمّى؛ يقول -سبحانه-: ﴿وَسَخَّرَ ٱلشَّمسَ وَٱلقَمَرَ كُلّٞ يَجرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗى﴾[3]، بل جميع العوالم المحسوسة، من
[1] سورة المرسلات، الآية 38.
[2] سورة إبراهيم، الآية 48.
[3] سورة الرعد، الآية 2.
98
74
لدرس التاسع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (1)
الأرض والسماوات، كلّها تجري إلى أجلٍ مسمّى؛ يقول -سبحانه-: ﴿أَوَ لَم يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضَ وَمَا بَينَهُمَآ إِلَّا بِٱلحَقِّ وَأَجَلٖ مُّسَمّٗى وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآيِٕ رَبِّهِم لَكَٰفِرُونَ﴾[1].
والآيات التي تتحدّث عن كيفيّة حدوث القيامة، تكشف عن تدمير النظام بأسره، وانقلابه إلى نظام آخر؛ يقول -سبحانه-: ﴿إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرضُ رَجّٗا ٤ وَبُسَّتِ ٱلجِبَالُ بَسّٗا﴾[2]، ويقول -سبحانه-: ﴿يَومَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَورٗا﴾[3].
فالناس يُحشَرون على صعيدٍ واحد، في يوم واحد، لكن في نظام آخر، عظيم هائل يسع لجمع جميع العباد، ومحاسبتهم فيه.
الشبهة الثالثة: عدم إمكان تعرُّف الأجزاء المندثرة
أ.بيان الشبهة:
إنّ الأجزاء المتلاشية المبعثرة في أكناف الأرض، لا يمكن التعرُّف إليها، حتّى تعود أجزاء بدن كلّ إنسان إليه.
وإن شئت قلت: لا يمكن التعرُّف إلى الأجزاء البالية من بدن كلّ إنسان، المتفرّقة في أنحاء الأرض.
وهذه الشبهة قديمة، كان يثيرها المشركون، قال -سبحانه- حاكيًا عنهم: ﴿أَءِذَا مِتنَا وَكُنَّا تُرَابٗا ذَٰلِكَ رَجعُ بَعِيدٞ﴾[4].
[1] سورة الروم، الآية 8، ولاحظ: سورة الأحقاف، الآية 3.
[2] سورة الواقعة، الآيتان 4 – 5.
[3] سورة الطور، الآيتان 9 – 10.
[4] سورة ق، الآية 3.
99
75
لدرس التاسع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (1)
ب.جواب الشبهة:
إنّ أساس الشبهة قائم على قياس علم اللَّه -سبحانه- بعلم الإنسان، وهذا قياسٌ غير صحيح؛ ولذلك، يقول -سبحانه-: ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾[1]. ويقول -تعالى-: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾[2].
فالتركيز على كونه سميعًا وبصيرًا يُعرِب عن كونه جوابًا عن شبهتهم، وهي عدم إمكان تعرُّف أجزاء بدن كلّ إنسان.
[1] سورة ق، الآية 4.
[2] سورة لقمان، الآية 28.
100
76
لدرس التاسع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (1)
المفاهيم الرئيسة
1. إنّ الإيمان بأصل المعاد من ضروريّات الدين، وإنّما وقع الاختلاف بين المفكِّرين في تصوُّر كيفيّته.
2. يزعم بعضهم أنّ الموت هو إبطالٌ للشخصيّة، فإذا مات الإنسان وصار ترابًا، بطُلَت شخصيّته.
3. إنّ اندثار البدن المادّيّ لا يعني أنّ النفس والشخصيّة الإنسانيّة قد انعدمت وتلفت، بل إنّها مجرَّدَة لا تتلف بتلف البدن.
4. التوفّي ليس معناه الموت، بل معناه الأخذ؛ وممّا يدلّ على ذلك قوله -تعالى-: ﴿ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوتِهَا وَٱلَّتِي لَم تَمُت فِي مَنَامِهَا ﴾.
5. من الشبهات على المعاد الجسمانيّ، دعوى أنّ سطح الأرض لا يمكن أن يَسَعَ جميع الخلائق التي لا يحصي عددَها إلّا خالقها في يوم واحد.
6. إنّ الشبهة قائمةٌ على أساس حفظ النظام السائد حاليًّا، مع أنّ صريح الآيات يدلّ على تبدُّل النظام، وحدوث نظام أوسع وأكثر حيطة.
7. من الشبهات التي أُثِيرَت على المعاد الجسمانيّ، أنّ الأجزاء المتلاشية المبعثرة في أكناف الأرض لا يمكن تعرُّفُها، حتّى تعود أجزاء بدن كلّ إنسان إليه.
8. إنّ أساس الشبهة قائمٌ على قياس علم اللَّه -سبحانه- بعلم الإنسان، وهذا قياسٌ غير صحيح؛ ولذلك يقول -سبحانه-: ﴿قَد عَلِمنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرضُ مِنهُم وَعِندَنَا كِتَٰبٌ حَفِيظُ﴾.
101
77
لدرس التاسع: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (1)
اقرأ
عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام): «أَشَدُّ سَاعَاتِ ابْنِ آدَمَ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ: السَّاعَةُ الَّتِي يُعَايِنُ فِيهَا مَلَكَ الْمَوْتِ، وَالسَّاعَةُ الَّتِي يَقُومُ فِيهَا مِنْ قَبْرِهِ، وَالسَّاعَةُ الَّتِي يَقِفُ فِيهَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ نَجَوْتَ يَا ابْنَ آدَمَ، عِنْدَ الْمَوْتِ، فَأَنْتَ أَنْتَ، وَإِلَّا هَلَكْتَ، وَإِنْ نَجَوْتَ يَا ابْنَ آدَمَ، حِينَ تُوضَعُ فِي قَبْرِكَ، فَأَنْتَ أَنْتَ، وَإِلَّا هَلَكْتَ، وَإِنْ نَجَوْتَ حِينَ يُحْمَلُ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَأَنْتَ أَنْتَ، وَإِلَّا هَلَكْتَ، وَإِنْ نَجَوْتَ حِينَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، فَأَنْتَ أَنْتَ، وَإِلَّا هَلَكْتَ. ثُمَّ تَلَا:
﴿وَمِن وَرَآئِهِم بَرزَخٌ إِلَىٰ يَومِ يُبعَثُونَ﴾؛ قَالَ: هُوَ الْقَبْرُ، وَإِنَّ لَهُمْ فِيهِ لَمَعِيشَةً ضَنْكًا. وَاللَّهِ، إِنَّ الْقَبْرَ لَرَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ»[1].
تقييم
1. كيف يمكن الاستدلال على المعاد من خلال تجرّد النفس؟
2. أجب عن شبهة: إنّ الموت إبطالٌ للشخصيّة؛ فإذا مات الإنسان وصار تراباً، بطُلَت شخصيّته. فكيف يمكن أن يكون المعاد هو رجوع نفس الإنسان الأوّل؟
3. عالج أحد الشّبهتين الآتيتين:
أ. هل يكفي سطح الأدض لاستقرار جميع الخلائق التي لا يحصي عددَها إلّا خالقها، في يوم واحد، كما هو صريح قوله -سبحانه-: ﴿هَٰذَا يَومُ ٱلفَصلِ جَمَعنَٰكُم وَٱلأَوَّلِينَ﴾، مع أنّ مساحة الأرض لا تتجاوز الـ(715/950/509) كيلومترًا مربَّعًا؟
ب. إنّ الأجزاء المتلاشية المبعثرة في أكناف الأرض، لا يمكن التعرُّف عليها، حتّى تعود أجزاء بدن كلّ إنسان إليه.
[1] العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج7، ص105.
102
78
الدرس العاشر: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (2)
الدرس العاشر: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (2)
1. يرد على شبهة سؤال القبر.
2. يبطل شبهة عدم كفاية الموادّ الأرضيّة لإحياء الناس.
3. ينقد شبهة تكلُّم أعضاء البدن.
103
79
الدرس العاشر: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (2)
تمهيد
ذكرَت النصوص الدينيّة أحوالًا متعدّدة تمرّ بها النفس الإنسانيّة بعد الموت، كالبرزخ، وسؤال القبر، والصراط، والميزان، والنفخ في الصور، وغيرها.
ولكن، هل قوانين عالَم المادّة والدنيا هي نفسها قوانين الآخرة، بحيث يستدعي الأمر تفسير أحوال ما بعد الموت وَفق النظر المادّيّ، أم إنّ للآخرة قوانين أخرى؟
الشبهة الأولى: سؤال القبر
أ.بيان الشبهة:
تذكر النصوص الدينيّة أنّ الإنسان إذا أُنزِل إلى قبره، فإنّه يتعرّض للمساءلة، ومنها ما كتبه أميرُ المؤمنين (عليه السلام) لمحمّد بن أبي بكر: «يَا عِبَادَ اللَّهِ، مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، لِمَنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ، أَشَدُّ مِنَ الْمَوْتِ! الْقَبْرَ فَاحْذَرُوا ضِيقَهُ وَضَنْكَهُ وَظُلْمَتَهُ وَغُرْبَتَهُ! إِنَّ الْقَبْرَ يَقُولُ كُلَّ يَوْمٍ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ، أَنَا بَيْتُ التُّرَابِ، أَنَا بَيْتُ الْوَحْشَةِ، أَنَا بَيْتُ الدُّودِ وَالْهَوَامِّ. وَالْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ. إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا دُفِنَ، قَالَتْ لَهُ الْأَرْضُ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، قَدْ كُنْتَ مِمَّنْ أُحِبُّ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِي؛ فَإِذَا وُلِّيتُكَ، فَسَتَعْلَمُ كَيْفَ صُنْعِي بِكَ، فَتَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ الْبَصَرِ. وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا دُفِنَ، قَالَتْ لَهُ الْأَرْضُ: لَا مَرْحَبًا بِكَ وَلَا أَهْلًا، لَقَدْ كُنْتَ مِنْ أَبْغَضِ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي، فَإِذَا وُلِّيتُكَ، فَسَتَعْلَمُ كَيْفَ صُنْعِي بِكَ، فَتَضُمُّهُ حَتَّى تَلْتَقِيَ أَضْلَاعُهُ».
105
80
الدرس العاشر: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (2)
الشبهة التي تُطرَح هنا، هي أنّ العلوم الحديثة والملاحظة الحسّيّة للقبر تنفي هذه الأمور كلّها، فلو نُبِشَ قبر ميّت بعد موته، لَما وُجِدَ شيء من هذا.
ب.جواب الشبهة:
يقع الجواب عن هذه الشبهة ضمن نقاط عدّة:
1. إنّ حقيقة النفس الإنسانيّة التي تتعذّب أو تتنعّم، والتي تسأل وتجيب، ليست جسده، بل هي نفسه المجرّدة. وبعبارة أخرى، إنّ الشخصيّة الإنسانيّة تتمثّل في البُعد المجرّد في الإنسان، وهي نفسه.
2. إنّ الجسد من حيث هو مادّيّ، ومن حيث هو منقطع عن النفس، ليس شيئًا غير المادّة الصامتة التي لا حياة فيها، فلا يُقال لجسد «زيد»: إنّه «زيد»، من دون تعلُّق نفسه بالجسد.
3. إنّ الموت هو انقطاع النفس عن البدن، والبدن المادّيّ ينزل في الحفرة المادّيّة.
4. إنّ حقيقة سؤال القبر يتوجّه إلى الشخصيّة الإنسانيّة الحقيقيّة، وهي نفسه. وعليه، فإن محلّ سؤال القبر وعذابه ونعيمه ليس هو الحفرة المادّيّة. وبعبارة أخرى، إنّ القبر المادّيّ غير «عالم القبر»، ومحلّ السؤال هو «عالم القبر»، وهو موطن النفس -المتلبِّسة بالجسد المثاليّ- لا الجسد المادّيّ بعد الموت.
ويوجد في الروايات ما يؤيّد هذا الأمر، فقد سُئِل الإمام الصادق (عليه السلام) عن البرزخ، فقال «القبرُ منذُ حينِ موتِهِ، إلى يومِ القيامةِ»(58).
الشبهة الثانية: عدم كفاية الموادّ الأرضيّة لإحياء الناس
أ.بيان الشبهة:
قد كشفت التنقيبات الجيولوجيّة وعلوم الآثار، أنّ الإنسان يعيش على سطح الأرض
106
81
الدرس العاشر: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (2)
منذ نحو مليونَي عامّ. لذا، فلو كان المعاد عامًّا لجميع الناس الذين عاشوا على هذا الكوكب، فكيف يكون ترابه كافيًا لإحيائهم؟ فإنّ المُعاد إذا كان عنصريًّا[1]، فالمُعادون كثيرون، مع أنّ ما يُعادون به -وهو الموادّ العنصريّة الأرضيّة- قليلٌ، لا يكفي لإعادة أبدانهم؟
ب.جواب الشبهة:
يمكن الإجابة عن هذه الشبهة بوجوه عدّة، منها:
1. إنّ ما تنقله لنا هذه التنقيبات والحفريّات التاريخيّة والطبيعيّة، ليس على درجة تفيد القطع واليقين، حتّى نرفع بأقوالهم اليد عن الوحي الإلهيّ، أو نتردّد في صحّة المعاد.
2. لم يدلّ دليلٌ على أنّ بدن الإنسان الأخرويّ كالبدن الدنيويّ نفسه، في الحجم والوزن وسائر الجهات المادّيّة، بل يكفي أن يَصْدُقَ على المُعادِ أنّه المبتدأ نفسه؛ وأمّا المطابقة في سائر الجهات، فلم يدلّ عليها دليل.
3. لو فرض عدم كفاية المواد الترابيّة لإحياء جميع مَن قطنوا هذا الكوكب، فلا مانع من تكميلها بتراب كواكب الأُخرى، وليس ذلك على خلاف العدل، فالنفس الإنسانيّة إذا أُدخِلَت في أيّ بدنٍ كان، وحُشِرَت مع أيّ جسمٍ إنسانيّ، فهي هي، وليست غيرها، وإنّما يكون البدن أداة ووسيلة لتعذيبها، وتنعيمها. وعلى ضوء ذلك، فلو كانت الموادّ الأرضيّة غير كافية لإحياء كلِّ مَن سكن هذا الكوكب، فلا مانع من تكميل بدن كلّ إنسان بموادّ من كواكب أُخرى.
4. إنّ النيازك المشاهَدَة في الليالي هي نتيجة وصول أحجار وأتربة وأجسام ثقيلة من الفضاء الخارجيّ إلى الغلاف الجوّيّ، فيوجِبُ احتكاكُها الشديدُ به احتراقَها وتناثرَها، وهبوطَها على الأرض ذراتٍ خفيفةً لا تزعج الحياة عليها. وهذه الأحجار
[1] عنصر الشيء الذي منه يكون الشيء، كالذهب الذي هو عنصر الدينار الذي منه يكون الدينار.
107
82
الدرس العاشر: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (2)
توجب ازديادَ الموادّ الأرضيّة زيادةً مطّردة بشكل يوميّ. وقد ذكر بعض العلماء أنّ عشرين مليون حجرٍ فضائيٍّ يصطدم يوميّاً بالغلاف الجوّيّ، وهي تسير بسرعة خمسين كيلومترًا في الثانية، فتتلاشى وتتناثر وتهبط، بلا إزعاج، على القشرة الأرضيّة[1].
وعلى هذا، فالموادّ الأرضيّة لم تزل في حال التوفُّر والازدياد، واللَّه يعلم إلى أيّ حدّ يصل حجمها إلى يوم البعث.
الشبهة الثالثة: تكلُّم أعضاء البدن
أ.بيان الشبهة:
ذكرَت بعضُ الآيات القرآنيّة أنّ بعض أعضاء البدن تشهد على الإنسان يوم القيامة، وذلك في مثل قوله -تعالى-: ﴿يَومَ تَشهَدُ عَلَيهِم أَلسِنَتُهُم وَأَيدِيهِم وَأَرجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ﴾[2]، فكيف يمكن لجزءٍ بدنيٍّ غير ذي شعور، أن يشهد بهكذا شهادة؟
ب.جواب الشبهة:
يتّضح الجواب عن هذه الشبهة بالآتي:
1. ثمّة فرق بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى؛ فإنّ الحياة الأخرى لا موت فيها، بل هي عين الحياة، كما في قوله -تعالى-: ﴿وَمَا هَٰذِهِ ٱلحَيَوٰةُ ٱلدُّنيَآ إِلَّا لَهوٞ وَلَعِبٞ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلأٓخِرَةَ لَهِيَ
ٱلحَيَوَانُ لَو كَانُواْ يَعلَمُونَ﴾[3]، ففي هذه الآية، إشارة إلى أنّ كلّ ما في الآخرة هو حيّ.
[1] نخبة من العلماء الأمريكيين، اللَّه يتجلّى في عصر العلم، أشرف على تحريره: جون كلوفرمونسيما، ترجمة: الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان، راجعه وعلق عليه: الدكتور محمد جمال الدين الفندي، دار القلم، بيروت-لبنان، لا.ت، ص16-11.
[2] سورة النور، الآية 24.
[3] سورة العنكبوت، الآية 64.
108
83
الدرس العاشر: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (2)
2. إنّ أحكام البدن في الآخرة، تختلف عن أحكامه في الدنيا، وحيث كانت النشأة يوم القيامة عين الحياة والوعي والشعور، فكلّ ما فيها هو كذلك، ومنها البدن.
3. بناءً على ما تقدّم، فإنّ شهادة الأعضاء يوم القيامة تكون نوعًا من الكشف العلميّ والحقيقيّ عمّا قام به الإنسان في الحياة الدنيا؛ ذلك أنّ عالَم الآخرة هو عالَم الوعي والشعور، بحيث يَسْرِيَان إلى كلّ شيء، ومنه أعضاء الإنسان، وتظهر آثارهما بشهادة هذه الأعضاء.
109
84
الدرس العاشر: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (2)
المفاهيم الرئيسة
1. إنّ هناك فرقًا بين القبر المادّيّ وعالَم القبر، الذي هو البرزخ. وإنّ البرزخ هو نشأة غير مادّيّة للنفس الإنسانيّة التي انقطعت عن البدن بالموت.
2. إنّ سؤال القبر وعذابه ونعيمه، إنّما هي أحوالٌ للنفس الإنسانيّة، التي تتعرّض لها في نشأة البرزخ وعالم القبر، وليست أحوالًا للبدن المدفون.
3. إنّ أحكام البدن في الآخرة تختلف عن أحكامه في الدنيا، وحيث كانت النشأة يوم القيامة عين الحياة والوعي والشعور، فكلّ ما فيها هو كذلك، ومنه البدن.
4. إنّ عالَم الآخرة هو عالَم الوعي والشعور، بحيث يَسْرِيَان إلى أعضاء الإنسان، وتظهر آثارهما بشهادة هذه الأعضاء.
تقييم
1. كيف تجيب عن شبهة سؤال القبر، مقابل مَن يقول: إنّ بعض الأموات يعلَّق على أعواد المشانق، ولا يُدفَنون في القبر؟
2. كيف تجيب عن شبهة عدم سَعة الأرض يوم الحشر لكلّ البشر، منذ آدم إلى يوم القيامة؟
3. نطقُ الأعضاءِ أمرٌ أثبت العلم بطلانه، مع أنّ النصوص الدينيّة ادّعَتهُ للجسد يوم القيامة، فكيف يكون ذلك؟
110
85
الدرس العاشر: الأصول الاعتقاديّة لمبحث المعاد (2)
اقرأ
عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَأْتِي كُلَّ جُمُعَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِحِذَاءِ دُورِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، يُنَادِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِصَوْتٍ حَزِينٍ: بَاكِينَ يَا أَهْلِي، وَيَا وُلْدِي، وَيَا أَبِي، وَيَا أُمِّي وَأَقْرِبَائِي! اعْطِفُوا عَلَيْنَا، يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ، بِالَّذِي كَانَ فِي أَيْدِينَا. وَالْوَيْلُ وَالْحِسَابُ عَلَيْنَا والْمَنْفَعَةُ لِغَيْرِنَا! وَيُنَادِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى أَقْرِبَائِهِ: اعْطِفُوا عَلَيْنَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ بِرَغِيفٍ، أَوْ بِكِسْوَةٍ، يَكْسُوكُمُ اللَّهُ مِنْ لِبَاسِ الْجَنَّةِ. ثُمَّ بَكَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله)، وَبَكَيْنَا مَعَهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) أَنْ يَتَكَلَّمَ مِنْ كَثْرَةِ بُكَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: أُولَئِكَ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، فَصَارُوا تُرَابًا رَمِيمًا بَعْدَ السُّرُورِ وَالنَّعِيمِ، فَيُنَادُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، يَقُولُونَ: يَا وَيْلَنَا! لَوْ أَنْفَقْنَا مَا كَانَ فِي أَيْدِينَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرِضَائِهِ، مَا كُنَّا نَحْتَاجُ إِلَيْكُمْ. فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةٍ وَنَدَامَةٍ، وَيُنَادُونَ: أَسْرِعُوا صَدَقَةَ الْأَمْوَات»[1].
[1] الطبرسي، الميرزا الشيخ حسين النوري، مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1408هـ - 1987م، ط1، ج2، ص484.
111
86