المقدِّمة
المقدِّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يخفى على كل قارئ للتاريخ المعاصر ومتابع لمسار التولي لآل بيت النبي (عليهم السلام) ما تركه ولا زال يتركه الاعتقاد العملي بالولاية العامّة للفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة الكبرى من بركات وآثار عظيمة على واقع المسلمين عامّة وواقع الموالين لآل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) بصورة خاصّة.
لقد انعكس هذا الاعتقاد العملي إقامةً لأول جمهورية إسلامية بحقيقة معنى الكلمة، تحتكم إلى الإسلام دستورا وتشريعا، وتقدّم أنموذجا حضاريا يثبت أن الإسلام المحمّدي الأصيل قادر على صناعة حضارة متجدّدة تأخذ بأيدي الأفراد والمجتمعات الإسلامية بل والأمة الإسلامية لتكون في مسار الريادة على كافة الصعد، في طريق التمهيد لدول الحق والعدل العالمية بقيادة صاحب لواء الحق والعدل الإمام المهدي المنتظر(عجل الله تعالى فرجه).
وانعكس كذلك مقاومةً إسلامية، سجّلت أعظم نصر إلى يومنا هذا، في مواجهة أقوى دولة إقليمية في منطقتنا وهي الكيان الغاصب الإسرائيلي، فقد استطاعت هذه المقاومة بتولّيها الأصيل لقائم آل محمد (عجل الله تعالى فرجه) وباتّباعها للولي الفقيه الجامع للشرائط مجسّدا بالإمام الخميني (قدس سره) وبخليفته الإمام الخامنئي (دام ظله) من تغيير الكثير من المعادلات ومن صنع الكثير من الانتصارات مضافا لسعيها الدؤوب لإرساء معالم الإسلام على نهج آل بيت النبي (عليهم السلام) في مجتمعها وبيئتها.
هذا الكتاب (العلاقة مع الوليّ، عز في الدنيا والآخرة) يسلّط الضوء على العلاقة الوثيقة التي تربط أمة حزب الله بولاية الفقيه، وقد تمّ التركيز فيه على الجانب العملي من هذه العلاقة -وهو الأساس في البركات والأثار العظيمة التي تحققت والتي نسعى لتحقيقها- بدءً بالاتباع الحقيقي وأداء التكليف، وانتهاء بالطاعة
7
1
المقدِّمة
والمحبّة والتأسّي، مع تسليط الضوء كذلك على بعض من مزايا القائد المفدّى الإمام الخامنئي(دام ظله).
نسأل الله تعالى دوام التوفيق في تثبيت وترسيخ وتزكية هذه العلاقة لنكون بصدق من الممهدين للإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) فننال برحمته تعالى العزّ في الدنيا والفوز في الآخرة، إنه سميع مجيب الدعاء.
والحمد لله رب العالمين
مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية
8
2
الدرس الأوّل: حزب الله والولاية
الدرس الأوّل: حزب الله والولاية
تماسك المجتمع الإيمانيّ
قال -تعالى-: ﴿مُّحَمَّد رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعا سُجَّدا يَبۡتَغُونَ فَضۡلا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰناۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطَۡٔهُۥ فََٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَة وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا﴾[1].
يصف القرآن الكريم المؤمنين في المجتمع الإسلاميّ بأنّهم رحماء بينهم، وهذه الرحمة تجعلهم كجسد واحد في مواجهة صعوبات الحياة، فعن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى»[2]، كما شبّه القرآن الكريم تماسكهم عند مواجهة الأعداء بالبنيان المرصوص قال -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰن مَّرۡصُوص﴾[3].
[1] سورة الفتح، الآية 29.
[2] المتّقي الهنديّ، علاء الدين عليّ المتّقي بن حسام الدين، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ضبط وتفسير الشيخ بكري حياني، تصحيح وفهرسة: الشيخ صفوة السقا، مؤسَّسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1409هـ - 1989م، لا.ط، ج1، ص149، ح737.
[3] سورة الصف، الآية 4.
9
3
الدرس الأوّل: حزب الله والولاية
وتكمل الآية الكريمة: ﴿وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطَۡٔهُۥ فََٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ﴾[1]،[2].
يقول العلّامة الطباطبائيّ: «وفيه إشارة إلى أخذ المؤمنين في الزيادة والعدّة والقوّة يوماً فيوماً»[3].
ولاية المؤمنين
ويُطلق القرآن الكريم على التماسك والتكافل والوحدة والتعاون بين أبناء المجتمع الإيمانيّ صفة الولاية قال -تعالى-: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضۚ﴾[4] والولاية في اللغة تُفيد القرب، وعدم الفصل، فالشيء الذي يلي الشيء، هو الشيء الذي يكون قريباً منه، ويأتي بعده مباشرة دون أن يكون هناك حاجز يفصل بينهما أو يحجبه عنه، وقد ورد في آداب الطعام: الأكل ممّا يليه؛ أي ما يكون قريباً منه، وبمحاذاته مباشرة. كما ورد أنّ من شروط الوضوء الموالاة أي التتابع بين أفعال الوضوء دون فصل. والخلاصة أنّ السمة الأساسيّة في المجتمع المؤمن هي القرب والتقارب، بمعنى أنّ المؤمنين متّحدون فيما بينهم، ومتماسكون ومتكافلون ومتوادّون ومتحابّون ومتراحمون. وقد وصفهم القرآن الكريم بأنّهم إخوة: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَة﴾[5] فالمؤمن بمنزلة الأخ لأخيه المؤمن بغضّ النظر عن نسبه ولونه ولغته ومرتبته الاجتماعيّة، ومن الروايات التي تحدّثت عن هذه الأخوّة: «إن المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشّه ولا يعِدُه عدة فيخلفه»[6] وفي رواية أخرى: هم «خدم بعضهم بعضاً... يفيد بعضهم بعضاً»[7].
[1] سورة الفتح، الآية 29.
[2] شَطْأ النبات: أفراخه التي تتولّد منه وتنبت حوله، والإيزار: الإعانة، والاستغلاظ: الأخذ في الغلظة، والسوق: جمع ساق؛ والمعنى: أنهم كزرع أخرج أفراخه فأعانها فقويت وغلظت وقام على سوقه. (راجع: الطباطبائي، العلَّامة السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسَّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1417هـ، ط5، ج18، ص300).
[3] العلَّامة الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، ج18، ص300.
[4] سورة التوبة، الآية 71.
[5] سورة الحجرات، الآية 10.
[6] الكلينيّ، الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج2، ص133.
[7] المصدر نفسه، ج2، ص167.
10
4
الدرس الأوّل: حزب الله والولاية
البراءة من الكافرين
وكما وصفت الآية الكريمة المؤمنين بأنّهم رحماء بينهم كذلك وصفتهم بالشدّة على الكافرين قال -تعالى-: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ﴾[1] ومن مظاهر هذه الشدّة البراءة من الكافرين قال -تعالى-: ﴿قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَة فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ...﴾[2] وهذه الشدّة حصانة للمجتمع المؤمن مقابل مؤامرات الكافرين، ومعاملة بالمثل، أي كما أنّ الكافرين أعداء للمؤمنين، فلا يصحّ أن يتعامل معهم المؤمنون بلين. قال -تعالى-: ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآء وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ﴾[3].
فالمجتمع الإيمانيّ مجتمع يستخدم قوّة الجذب مع المؤمنين، وقوّة الدفع مع الكافرين، ويُعبّر عن الحالة الأولى بالولاية، والحالة الثانية بالبراءة[4]. والتولّي والتبرّي فرعان من فروع الدين الإسلاميّ.
الولاية والمودّة
وكما أنّ الولاية تُقرّب البعيد المؤمن وتجعل منه أخاً، كذلك البراءة تُبعّد القريب الكافر، ولو كان أباً، قال -تعالى-: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ ١١٣ وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ[5] عَن مَّوۡعِدَة وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا أَنَّهُۥ عَدُوّ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيم﴾[6].
وهذه الولاية وهذه البراءة ليست ولاية وبراءة شكليتين، بل هي ولاية وبراءة قلبيتين أيضاً، فولاية المؤمنين تعني، إضافة إلى التكافل والتماسك، أن يبذل لهم المودّة، والبراءة من الكافرين تعني أن يتبرّأ منهم قلبيّاً، ولا يبذل لهم المودّة مطلقاً، قال -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ
[1] سورة الفتح، الآية 29.
[2] سورة الممتحنة، الآية 4.
[3] السورة نفسها، الآية 2.
[4] وهي ضمانة النجاة من كيد العدوّ، ولا سيّما كيده الثقافيّ والإعلاميّ -وهو الأخطر-.
[5] فسّرت الروايات عن أهل البيت (ع) الأب في الآية الكريمة بمعنى العمّ.
[6] سورة التوبة، الآيتان 113 – 114.
11
5
الدرس الأوّل: حزب الله والولاية
إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ...﴾[1] فالمؤمنون لا يوادّون عدوّهم وعدوّ الله، وهذه إحدى صفات حزب الله قال -تعالى-: ﴿لَّا تَجِدُ قَوۡما يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰت تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾[2].
فهم لا يوادّون من حادّ الله ورسوله، سواء الأب أو الابن أو الأخ أو أي شخص من عشيرتهم. وقد يصل الأمر الى حدّ القتال؛ كما حدث في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله)، نَقْتُلُ آبَاءَنَا وأَبْنَاءَنَا وإِخْوَانَنَا وأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وتَسْلِيماً، ومُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ وصَبْراً عَلَى مَضَضِ الأَلَمِ، وجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ»[3] وهذا دليل صدق الولاء والبراءة، وسبب نزول النصر: «فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت، وأنزل علينا النصر»[4] وهذا لا يعني أنّ الولد يقتل أباه، وإنّما يعني أنّ المؤمنين لا يمنعهم من جهاد عدوّهم، وجود آبائهم وإخوانهم بين صفوف الكفّار.
حزب الله والولاية
فالولاية تُعيد تشكيل المجتمع من جديد على أساس الإيمان وتجعل المؤمنين فريقاً واحداً، وقد أطلق القرآن الكريم على هذا الفريق اسم حزب الله، ولا شكّ في أنّ تماسكهم وولاية بعضهم لبعضٍ يؤدّي إلى الفلاح والنجاح في مشروعهم: ﴿أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾[5].
وتُطلق كلمة حزب على الأشخاص الذين يجتمعون بقوّة على رأي واحد وأمر واحد، وتكون أهواؤهم واحدة. فالتحزّب هو انتماء إلى خطٍّ معيّن، وولاء لنهج محدّد من خلال الانخراط في جبهة محدّدة مقابل الجبهات والتحزّبات الأخرى.
[1] سورة الممتحنة، الآية 1.
[2] سورة المجادلة، الآية 22.
[3] الشريف الرضي، السيد أبو الحسن محمَّد الرضي بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي ع)، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، من كلام له ع 56، ص92.
[4] المصدر نفسه.
[5] سورة المجادلة، الآية 22.
13
6
الدرس الأوّل: حزب الله والولاية
الوحدة بين أبناء حزب الله ومراتبها
وما يُميّز أبناء حزب الله هو الاتّحاد والوحدة على المستويات كافّة، فهم متّحدون على المستوى:
1. العقائديّ: والمقصود بالوحدة العقائدية أنّهم يحملون العقيدة نفسها ولديهم هدف محدّد وهو إعلاء كلمة الله -تعالى- قال-تعالى-: ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ﴾[1] وهذا يتحقّق بإظهار دين الله على الدين كلّه قال -تعالى-: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾[2] وقال -تعالى-: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ تَكُونَ فِتۡنَة وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ﴾[3].
2. السياسيّ: والمقصود به أنّ لديهم مشروعاً سياسيّاً، وهو الحكم بما أنزل الله قال -تعالى-: ﴿وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾[4] وهذا من مستلزمات إعلاء كلمة الله، أي إنّ من يقود المجتمعات هو الله -تعالى- من خلال أحكامه التي أنزلها إليهم والتي تؤدّي إلى سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة.
3. الروحيّ: وتهدف إلى القضاء على كلّ أنواع الطبقيّة والتمييز في المجتمع، فلا فضل لعربيّ على أعجميّ إلّا بالتقوى، والمؤمنون إخوة: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»[5]، قال-تعالى-: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾[6]، وقد ورد عن الإمام عليّ(عليه السلام): «من أتى غنيّاً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه»[7].
[1] سورة التوبة، الآية 40.
[2] سورة الصف، الآية 9.
[3] سورة الأنفال، الآية 39.
[4] سورة المائدة، الآية 44.
[5] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر: مؤسَّسة آل البيت ع، إيران - قم، 1414هـ، ط2، ج29، ص75.
[6] سورة الحجرات، الآية 13.
[7] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، حكمة 228، ص508.
14
7
الدرس الأوّل: حزب الله والولاية
وفي الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «جاء رجل موسر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، نقي الثوب، فجلس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فجاء رجل معسر درن الثوب، فجلس إلى جنب الموسر، فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أخفت أن يمسّك من فقره شيء؟ قال: لا، قال: فخفت أن يُصيبه من غناك شيء؟ قال: لا، قال: فخفت أن يوسّخ ثيابك؟ قال: لا، قال: فما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله إنّ لي قريناً يُزيّن لي كلّ قبيح، ويُقبّح لي كلّ حسن. وقد جعلتُ له نصف مالي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للمعسر: أتقبل؟ قال: لا، فقال له الرجل: ولم؟ قال: أخاف أن يدخلني ما دخلك»[1].
فالمجتمع الإيمانيّ يتميّز عن المجتمعات الأخرى بالوحدة الروحيّة بين أبنائه، فلا لون، ولا لغة، ولا نسب، ولا مال يُعطي أفضليّة لأحد على الآخر، والأفضل عند الله -تعالى- هو الأكثر قرباً منه -سبحانه وتعالى-.
[1] المازندراني، المولى محمّد صالح بن أحمد، شرح أصول الكافي، تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعراني، ضبط وتصحيح: السيّد عليّ عاشور، دار إحياء التراث العربيّ للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1421هـ - 2000م، ط1،، ج8، ص225.
15
8
الدرس الثاني: أهمِّيَّة الولاية
الدرس الثاني: أهمِّيَّة الولاية
قال -تعالى-: ﴿لَّا تَجِدُ قَوۡما يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰت تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾[1].
تتحدّث هذه الآية الكريمة عن أبناء حزب الله، وعن صفاتهم، وتوجّهاتهم، وعن علاقتهم بالله -تعالى-، وتأييده لهم، وتُبيّن مقامهم ومرتبتهم عنده سبحانه، وقد ذكرت أهمّ صفة لهم وهي:
الإيمان
﴿لَّا تَجِدُ قَوۡما يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾ فأبناء حزب الله مؤمنون، بمعنى أنّ المنتمين إليه يؤمنون بالله -تعالى- وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ويُطلق على الإيمان بهذه الأمور، الإيمان بالغيب. ويمكن أن يقال: إنّ الإيمان بالله واليوم الآخر، يستلزم الإيمان بالملائكة والكتب والرسل. وهذه العناصر الثلاثة هي الأسس التي يقوم عليها الإيمان بالوحي الإلهيّ.
وهذا الإيمان إيمان صادق وليس ادّعاء، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي، ولكنّ الإيمان ما خلص في القلب وصدّقه الأعمال»[2]. وعنه (صلى الله عليه وآله): «الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان»[3].
[1] سورة المجادلة، الآية 22.
[2] المجلسي، العلَّامة محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، مؤسسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج66، ص72.
[3] المصدر نفسه، ص64.
16
9
الدرس الثاني: أهمِّيَّة الولاية
أداء الفرائض
العمل هو الدليل على صدق الإيمان، ويأتي أداء الفرائض على رأس تلك الأعمال، فأبناء حزب الله يعملون الصالحات، من برّ الوالدين وصلة الأرحام وصلة الإخوان، ومن صدقة وإصلاح بين الناس وغيرها من الأعمال الصالحة، ولكنّهم هم أولاً وقبل كلّ شيء يلتزمون بالفرائض التي افترضها الله تعالى عليهم، وأهمّ هذه الفرائض هي التي بُني عليها الإسلام. ففي الرواية عن أبي جعفر (عليه السلام): «بُني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم يُنادَ بشيءٍ كما نودي بالولاية»[1].
1- الصلاة: فَهُم أهل صلاة، يُقيمونها بخشوع؛ بلا ضجر ولا ملل ولا كسل، قال -تعالى-: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ﴾[2] على نهج أنبياء الله -تعالى- وأبي الأنبياء ابراهيم (عليه السلام): ﴿رَبِّ ٱجۡعَلۡنِي مُقِيمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّيَّتِيۚ﴾[3] وقال -تعالى-: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ﴾[4].
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مثل الصلاة مثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود نفعت الأطناب والأوتاد والغشاء، وإذا انكسر العمود لم ينفع طنب ولا وتد ولا غشاء»[5].
وفي الرواية: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم وأحبّ ذلك إلى الله -عزَّ وجلَّ- ما هو؟ فقال: «ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم (عليه السلام) قال: ﴿وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّا﴾»[6] وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «أحبّ الأعمال إلى الله -عزَّ وجلَّ- الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء...»[7] ، وعنه (عليه السلام): «إذا قام
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص21.
[2] سورة البقرة، الآية 43.
[3] سورة إبراهيم، الآية 40.
[4] سورة طه، الآية 132.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص264.
[6] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج79، ص226.
[7] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسَّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قم، 1414هـ، ط2، ج1، ص210.
17
10
الدرس الثاني: أهمِّيَّة الولاية
المصلّي إلى الصلاة نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى أعنان الأرض، وحفّت به الملائكة... وناداه ملك: لو يعلم هذا المصلّي ما في الصلاة ما انفتل»[1].
وأبناء حزب الله لا يتهاونون بالصلاة، ولا يستخفّون بها، ولا يؤخّرونها عن وقتها. وقد ورد التشديد على الصلاة في وصايا الأئمة صلوات الله عليهم، وهم في آخر لحظات أعمارهم، كما أنّهم أمروا بها وأدّوها في أصعب الظروف والأوقات، كما فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) في معركة صفِّين، والإمام الحسين (عليه السلام) في أرض كربلاء.
2- الزكاة: كما أنّ أبناء حزب الله يؤدّون زكاة مالهم، لأنّه لا صلاة من دون زكاة، فهم مقيمون للصلاة مؤتون للزكاة. والزكاة هي: بذل المال لرفع الفقر من المجتمع الإسلاميّ، لأنّه من غير المسموح أن يكون هناك تفاوت طبقيّ فاحش في الغنى والفقر في المجتمع الإسلاميّ، والطريق لرفع الفقر هو أن يؤتي أبناء المجتمع زكاة مالهم. قال -تعالى-: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ﴾[2]، وفي الرواية سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من منع الزكاة سأل الرجعة عند الموت، وهو قول الله -تبارك وتعالى- ﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحا فِيمَا تَرَكۡتُۚ﴾[3]،[4]» وفي الرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام): «من منع قيراطاً من الزكاة، فليمت إن شاء يهوديّاً أو نصرانيّاً»[5]، كما ورد عنه (عليه السلام): «ما ضاع مال في برٍّ ولا بحر إلّا بتضييع الزكاة»[6].
3- الصوم: الفريضة الثالثة هي الصوم، قال -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾[7]، وورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «الصوم جنَّة من النَّار»[8]، وفي الحديث القدسيّ: «الصوم لي وأنا أجزي به»[9]، كما ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لكلّ شيء زكاة، وزكاة الأبدان الصيام»[10].
[1] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج80، ص329.
[2] سورة الحجّ، الآية 41.
[3] سورة المؤمنون، الآيتان 99 - 100.
[4] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج9، ص27.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص505.
[6] المصدر نفسه.
[7] سورة البقرة، الآية 183.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص19.
[9] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج93، ص254.
[10] المصدر نفسه، ج90، ص277.
19
11
الدرس الثاني: أهمِّيَّة الولاية
4- الحجّ: والفريضة الرابعة هي الحج، قال -تعالى-: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلاۚ﴾[1] فهم يؤدّون الحجّ الواجب حين يستطيعون القيام بذلك، وفي الرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام): «من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام، ولم يمنعه من ذلك حاجة تُجحف به، أو مرض لا يطيق الحجّ من أجله، أو سلطان يمنعه، فليمت إن شاء يهوديّاً وإن شاء نصرانيّاً»[2]، وعنه (عليه السلام): «من أمّ هذا البيت حاجّاً أو معتمراً مبرّءاً من الكبر، رجع من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمّه»[3] وورد أيضاً عنه (عليه السلام): «الحاجّ مغفور له، وموجوب له الجنّة، ومستأنف له العمل، ومحفوظ في أهله وماله»[4].
5- الولاية: والفريضة الخامسة التي بني عليها الإسلام هي: الولاية، وهي أهمّ فريضة. والولاية سبب قبول الأعمال وهي ذروة الأمر، وسنام الإسلام كما عبّرت الروايات الشريفة، وأبناء حزب الله أهل ولاية، فهم قوم موالون لوليّ الله. وتقع هذه الفريضة العظيمة على راس سائر الفرائض، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والولاية، ولم ينادَ بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه»[5]، مع ملاحظة أنّ نداء الصلاة يرتفع عدّة مرَّات في اليوم، وبرغم ذلك فنداء الولاية أعظم، والسبب أنّ الولاية سبب لحفظ الأعمال أولاً، وحفظ الإيمان ثانياً.
الولاية سبب لحفظ الأعمال
عن أبي جعفر(عليه السلام): «أمّا لو أنّ رجلاً قام ليله، وصام نهاره، وتصدّق بجميع ماله، وحجّ جميع دهره، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالة منه إليه، ما كان له على الله حقّ في ثوابه...»[6]، فلا صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا حجّ من دون ولاية.
[1] سورة آل عمران، الآية 97.
[2] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج96، ص20.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص252.
[4] المصدر نفسه.
[5] المصدر نفسه، ج2، ص18.
[6] المصدر نفسه، ج2، ص19.
19
12
الدرس الثاني: أهمِّيَّة الولاية
الولاية سبب لحفظ الإيمان
ثمَّ تكمل الرواية: «ولا كان من أهل الإيمان»[1] فلا يتوقّف الأمر على عدم قبول الأعمال بل إنّ ترك الولاية ترك للإيمان المطلوب من الله -جلّ وعلا-، وتختم الرواية قائلة: «أولئك المحسن منهم يدخله الله الجنّة بفضله ورحمته»[2].
التأييد بالروح
ثمَّ تكمل الآية الكريمة: ﴿لَّا تَجِدُ قَوۡما يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنۡهُۖ وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰت تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾[3].
تكمل الآية وتصف أبناء حزب الله بأنّ الإيمان يسكن قلوبهم، في حين تنفي هذه الصفة عن غيرهم، قال -تعالى-: ﴿قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ...﴾[4] فهم مؤمنون حقيقيّون، ومؤيّدون بروح منه -سبحانه-:
وفي تفسير الميزان: ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنۡهُۖ﴾[5] «والمعنى والله العالم أنّ للمؤمنين وراء الروح البشريّة، التي يشترك فيها المؤمن والكافر، روحاً أخرى تفيض عليهم حياة أخرى وتُصاحبها قدرة وشعور جديدان، وإلى ذلك يشير قوله -تعالى-: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيۡتا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِج مِّنۡهَاۚ﴾[6]، وقوله: ﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ وَهُوَ مُؤۡمِن فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰة طَيِّبَةۖ﴾[7].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص19.
[2] المصدر نفسه.
[3] سورة المجادلة، الآية 22.
[4] سورة الحجرات، الآية 14.
[5] سورة المجادلة، الآية 22.
[6] سورة الأنعام، الآية 122.
[7] سورة النحل، الآية 97.
20
13
الدرس الثاني: أهمِّيَّة الولاية
وما في الآية من طيب الحياة يُلازم طيب أثرها، وهو القدرة والشعور المتفرّع منهما الأعمال الصالحة، وهما المعبّر عنهما بالنور، قال -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورا تَمۡشُونَ بِهِۦ﴾[1]،[2].
فروح الإيمان لها آثار في نفس الإنسان، ومن هذه الآثار السكينة والاطمئنان والصبر والبصيرة وغيرها.
وتكمل الآية الكريمة: ﴿وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰت تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾[3] فهم يسكنون جنان الله -تعالى- في ظلّ رضاه.
[1] سورة الحديد، الآية 28.
[2] العلَّامة الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، ج1، ص197.
[3] سورة المجادلة، الآية 22.
21
14
الدرس الثالث: محوريّة ولاية الفقيه للمجاهد في حزب الله
الدرس الثالث: محوريّة ولاية الفقيه للمجاهد في حزب الله
ولاية الله والرسول وأولي الأمر
قال -تعالى-: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ ٥٥ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ﴾[1].
ذكرنا في الدرس السابق أنّ أبناء حزب الله هم مؤمنون يؤدّون الفرائض وعلى رأس تلك الفرائض فريضة الولاية، وتتحدّث هذه الآية الكريمة عن الولاية، وتُحدّد أنّ المقصود بها الولاية لله ولرسوله وللذين آمنوا.
فإضافةً إلى الولاية بين أبناء المجتمع هناك ولاية لله ولرسوله ولأولي الأمر، ويمكن تشبيه ولاية المؤمنين بحبّات الخرز التي يجمعها خيط واحد، وهذه الحبّات تحتاج إلى من يجمع وجودها، ويمنع عقدها من الانفراط والتشتّت، وهذا هو دور الوليّ، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ومَكَانُ الْقَيِّمِ بِالأَمْرِ مَكَانُ النِّظَام ِمِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُه ويَضُمُّه فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ الْخَرَزُ وذَهَبَ ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِه أبداً»[2].
فما هو المقصود بولاية الله -تعالى- وولاية النبيّ ومن بعده ولاية أولي الأمر المعبَّر عنها في الآية بالذين آمنوا؟
[1] سورة المائدة، الآيتان 55 - 56.
[2] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، من كلام له ع 146، ص203.
22
15
الدرس الثالث: محوريّة ولاية الفقيه للمجاهد في حزب الله
ولاية الله
يؤمن غالبيّة البشر بالله -تعالى- وبخالقيّته -سبحانه-، ولكنّ المشكلة الأساسيّة أنّ بعضهم لا يؤمن بربوبيّته -سبحانه وتعالى- ويتخذ أرباباً من دون الله -تعالى-، كما هو حال مشركي مكّة الذين آمنوا بالله -تعالى- وبخالقيّته: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ﴾[1] ولكنّهم أنكروا ربوبيّته -سبحانه- فاتّخذوا أرباباً، وجعلوا لها أصناماً يعبدونها، وكما هو حال أتباع الديانة الهندوسيّة التي تؤمن بالله -تعالى- كخالق للكون ولكنّها لا تؤمن بربوبيّته.
إنّ عدم الإيمان بربوبيّة الله -تعالى- يتفرّع منه إنكار الرسالة الإلهيّة وبالتّالي إنكار الرسل ويوم القيامة، فلا معنى للإيمان بالرسل لمن ينكر الرسالة، وكذلك لا معنى للإيمان بيوم الحساب في حال إنكار الشريعة والتكليف الإلهيّ.
وقد اعتبر القرآن الكريم من ينكر ربوبيّة الله -تعالى- كافراً وإن آمن بوجوده وبخالقيّته -سبحانه- وذلك لأنّهم ينكرون ولاية الله -تعالى- ولا يعترفون بشريعته ولا يحكمون بحكمه قال -تعالى-: ﴿وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾[2] وقد اعتبر القرآن الكريم كلّ حكم غير حكم الله -تعالى- حكم جاهليّة قال -تعالى-: ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡما﴾[3]، أمّا المؤمنون بالله -تعالى- فيؤمنون بالله -تعالى- وبخالقيّته وبربوبيّته وبرسالته وشريعته، ويحكمون بحكمه -تعالى- وبعبارة مختصرة فهم يوالون الله -تعالى-: ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ﴾[4] والخروج من الظلمات إنّما يكون برسالة الله وشريعته، وحكمه وكتابه قال -تعالى-: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ﴾[5] وأما الآخرون الذين لا يؤمنون بولاية الله -تعالى- فهم يوالون الطاغوت: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ﴾[6] وذلك أنّ تعاليمهم وقوانينهم وأحكامهم مبنيّة على الجاهليّة سواء الجاهليّة القديمة أو المعاصرة.
[1] سورة الزمر، الآية 38.
[2] سورة المائدة، الآية 44.
[3] السورة نفسها، الآية 50.
[4] سورة البقرة، الآية 257.
[5] سورة إبراهيم، الآية 1.
[6] سورة البقرة، الآية 257.
23
16
الدرس الثالث: محوريّة ولاية الفقيه للمجاهد في حزب الله
ولاية النبيّ
إنّ الإيمان بولاية الله وشريعته وحكمه ورسالته وكتبه، يستلزم الإيمان برسله. باعتبار أنّه لا رسالة من دون رسول. فمن أراد أن يوصل رسالة، فلا بدّ له من رسول. وحيث إنّهم قد أنكروا الرسالة، فهم حتماً سينكرون الرسول، ويرفضون حكمه وتعاليمه. في حين، يؤمن المؤمنون بالنبيّ، ودوره في تبليغ الأحكام وتطبيقها، وبعبارة مختصرة يؤمنون بولاية النبيّ.
ومعنى إيمانهم بولاية النبيّ: أنّهم يُحكّمونه فيما بينهم، ويرضون بحكمه، ويُقدّمون رأيه على رأيهم، ولا يرفعون أصواتهم فوق صوته. قال -تعالى-: ﴿ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ ﴾[1] وقال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَرَبِّكَ يُؤۡمِنُونَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيما﴾[2] وذلك لأنّه لا ينطق عن الهوى وأنّ طاعته طاعة الله وولايته ولاية الله -تعالى-.
ولاية أولي الأمر
وبما أنّ التشريع مرتبط بالنبوّة وأنّ الرسول بلّغ ما أُنزل إليه من ربّه وأكمل الدين وأتمّ النعمة وأنّه خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، وأنّ رسالته خالدة إلى يوم القيامة، فلا بدّ من وجود أولي الأمر الذين يتولّون تطبيق الأحكام الإلهيّة إلى يوم القيامة، فالإيمان بولاية أولي الأمر يعني أن يتولّوا أمورنا وقيادتنا وسياستنا ورعاية شؤوننا فهم كربّان السفينة الذي يقودها في قلب العاصفة، وهم حبل الله الذي نعتصم به في الفتن والشدائد، وهم الذين نهتدي بهم في الظلمات، وإيماننا بولايتهم يعني أنّنا نُسلّم لهم أمرنا «اللهمّ فصلّ على محمّد وآل محمّد، أولي الأمر الذين فرضت علينا طاعتهم، فعرّفتنا بذلك منزلتهم»[3].
وولاية أولي الأمر ممتدّة من بعد وفاة النبيّ الأكرم إلى يوم القيامة، ودولة المهديّ(عجل الله تعالى فرجه) هي آخر الدول، ولن يكون بعدها أي دولة، أي إنّها متّصلة بنهاية العالم والأحداث التي تسبق يوم القيامة.
[1] سورة الأحزاب، الآية 6.
[2] سورة النساء، الآية 65.
[3] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج53، ص275.
24
17
الدرس الثالث: محوريّة ولاية الفقيه للمجاهد في حزب الله
وغيبة الإمام وإن طالت لكنّها حدث استثنائيّ بمعنى أنّ الأصل هو حضور الإمام ولا الغيبة، ولكنّ هناك أسباباً أدّت إلى الغيبة وأسباباً أدّت إلى استمرارها، وبغضّ النظر عن هذه الأسباب التي لسنا بوارد ذكرها في هذا البحث إلّا أنّ المطلوب الإجابة عن سؤال أساسيّ، وهو من هو الوليّ في عصر الغيبة؟
ولاية الفقيه
إنّ الإيمان بغيبة إمام زماننا (عجل الله تعالى فرجه) لا يعني إنكار حاكميّة الله -تعالى- على المجتمعات في زمن الغيبة، ولا يعني إنكار ولاية إمام الزمان في غيبته، بل يعني استمرار ولايته (عجل الله تعالى فرجه) من خلال نائبه الذي ينوب عنه في غيبته، وهو الفقيه الجامع للشرائط أي الفقيه العالم بالشريعة والملتزم بها والقادر على تطبيقها، وبعبارة أخرى قادر على قيادة المجتمعات بأحكام الله -تعالى- فهو نائب وليّ الأمر، وبالتّالي هو وليّ أمرنا في غيبة إمامنا، فنحن نؤمن بولايته أي إنّنا نؤمن بحكمه، ونعتبر حكمه حكم إمامنا، وحكم رسولنا، وحكم الله -تعالى-.
إنّ معنى الانتساب إلى حزب الله أن نكون من الموالين لله -تعالى- ولرسوله ولأئمّتنا (عليهم السلام)، ولإمام زماننا ولنائبه في زمن الغيبة، ولا يتحقّق الانتساب لحزب الله بولاية الله فقط دون الرسول أو بولاية الرسول دون موالاة إمام زماننا في زمن حضوره وغيابه، ذلك أنّ هذه الولاية مترابطة، فولاية الله تعالى تعني أنّ الذي يحكم فينا هو حكمه، وولاية النبيّ تعني أنّنا لا نأخذ حكم الله -سبحانه- من غيره، وأنّ حكمه حكم الله -جلّ وعلا-، وولاية أولي الأمر تعني أنّنا نؤمن بأنّهم هم اللسان الذي يُبيّن لنا حلال محمّد وحرامه وأنّ دولتهم هي دولته (صلى الله عليه وآله).
والخلاصة: إنّ الانضواء تحت راية حزب الله في كلّ عصر، أن تعرف وليّك، وتشير إليه بالبنان، وتنتمي إلى الجبهة التي ينتمي إليها، وتُعلن له الولاء، وتؤدّي له البيعة، وتسير في خطّه ونهجه، وتُجاهد أعداء الله تحت رايته.
فأبناء حزب الله هم الذين يُشكّلون مجتمعاً متماسكاً موالياً بعضه لبعض، ومعادياً لأعدائه، ويتمسّكون بولاية الله ورسوله وأولي الأمر في كلّ زمان، وقد وعدهم الله -تعالى- بالفلاح: ﴿أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾[1] وبالغلبة: ﴿فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ﴾[2].
[1] سورة المجادلة، الآية 22.
[2] سورة المائدة، الآية 56.
25
18
الدرس الرابع: الاتّباع
الدرس الرابع: الاتّباع
تمهيد
يمكن القول إنّ أحد معاني الولاية هو الاتّباع، أي إنّ المجتمع المؤمن هو التابع لإمام زمان، هو يسير على هدي خطواته، وهذا الاتّباع يعني أن لا نتقدّم على الولي، ولا نتأخّر عنه، بل نكون ملازمين له:
«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ. الْفُلْكِ الْجَارِيَةِ، فِي اللُّجَجِ الْغَامِرَةِ، يَأْمَنُ مَنْ رَكِبَهَا، وَيَغْرَقُ مَنْ تركها، الْمُتَقَدِّمُ لَهُمْ مَارِقٌ، وَالْمتَأَخِّرُ عَنْهُمْ زَاهِقٌ، وَاللازِمُ لَهُمْ لاحِقٌ»[1].
وقد شدّدت الروايات الشريفة على أن نلزم أهل البيت (عليهم السلام)، في السلم والحرب، ولا نسبقهم بخطواتنا، ولا نتأخّر عنهم حتّى لا نقع في الضلال أو الهلاك.
«انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ، فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ، واتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ، فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى، ولَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى، فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا، وإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا، ولَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، ولَا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا»[2].
[1] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج84، ص67.
[2] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة97، ص143.
28
19
الدرس الرابع: الاتّباع
الولاية هداية
قال -تعالى-: ﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ﴾[1] فالاتّباع يُميّز المؤمن الموالي الصادق عن المدّعي قال -تعالى-: ﴿وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعۡنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيق مِّنۡهُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۚ وَمَآ أُوْلَٰٓئِكَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[2] فالمؤمنون الصادقون يتولّون الحقّ قولاً وعملاً من خلال اتّباعه، أمّا مدّعو الإيمان فيتولّون الحقّ قولاً ويتولّون عنه عملاً من خلال ترك اتباعه.
إذاً الولاية تهدف إلى إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور قال -تعالى-: ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ...﴾[3] وهذا الخروج من الظلمات إلى النور مرهون باتّباع المؤمنين للوليّ وإلّا تاهوا في الظلمات فهو يُشبه المسير في الليل خلف الدليل الذي يعرف الطريق إلى المقصد، وأيّ تراخٍ أو تلكؤ أو تأخّر عن المسير، يؤدّي إلى الضياع أو الوقوع في الوادي.
صدق الإيمان وادّعاؤه
وقد ذكر القرآن الكريم حال المؤمنين الصادقين يوم القيامة، وحال مدّعي الإيمان، وهم المنافقون قال -تعالى-: ﴿يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّٰت تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٢ يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُوراۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُور لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ﴾[4] وحينها يسأل المنافقون المؤمنين: ﴿يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ﴾ ويُجيب المؤمنون: ﴿قَالُواْ بَلَىٰ﴾ ثم يُبيّنون لهم الأسباب التي فرّقتهم في الآخرة بعد أن كانوا معاً في الدنيا: ﴿وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ﴾[5] ويُخبرونهم عن مصيرهم النهائيّ: ﴿فَٱلۡيَوۡمَ لَا يُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡيَة وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ مَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُۖ
[1] سورة طه، الآية 123.
[2] سورة النور، الآية 47.
[3] سورة البقرة، الآية 257.
[4] سورة الحديد، الآيتان 12 – 13.
[5] السورة نفسها، الآية 14.
29
20
الدرس الرابع: الاتّباع
هِيَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ﴾[1] فالسير خلف الوليّ سير في النور وعلى الهدى، وتركه ظلام وضلال وسير على غير هدى.
سبيل الله -جلّ وعلا-
والخروج من الظلمات إلى النور يكونُ بالسير على السبيل، والمؤمنون الصادقون يتّبعون ذلك السبيل، ولا يتّبعون غيره من السبل الأخرى، قال -تعالى-: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيما فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ﴾[2].
الثبات برغم الأذى
وقد ذكر القرآن الكريم أنّ السائرين في سبيل الله -تعالى- يتعرّضون للكثير من التحدّيات والضغوط والأذى: ﴿وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي﴾[3] من قبيل الحصار الاقتصاديّ: ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبا فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾[4] أو التهجير: ﴿وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ﴾[5] وقد يصل الأذى إلى حدّ القتل: ﴿تَقُولُواْ لِمَن يُقۡتَلُ سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتُۢ﴾[6] لكنّ المؤمنين يُصرّون على السير في سبيل الله -سبحانه-، ولا يتركون اتّباع الوليّ، وهذا الثبات يبقى عليه المؤمنون الصادقون إلى آخر عمرهم، قال -تعالى-: ﴿مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَال صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلا﴾[7] وقد ينتهي عمرهم بالموت أو القتل قال -تعالى-: ﴿وَلَئِن قُتِلۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوۡ مُتُّمۡ لَمَغۡفِرَة مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحۡمَةٌ خَيۡر مِّمَّا يَجۡمَعُونَ﴾[8] فالثبات في سبيل الله -سبحانه- إلى النهاية برغم كلّ الأذى والخسائر خير ممّا يجمع أهل الدنيا.
[1] سورة الحديد، الآية 15.
[2] سورة الأنعام، الآية 153.
[3] سورة آل عمران، الآية 195.
[4] سورة البقرة، الآية 273.
[5] سورة آل عمران، الآية 195.
[6] سورة البقرة، الآية 154.
[7] سورة الأحزاب، الآية 23.
[8] سورة آل عمران، الآية 157.
30
21
الدرس الرابع: الاتّباع
الصدّ عن سبيل الله -جلّ وعلا-
وهذه الضغوط وهذا الأذى تهدف إلى أمر واحد وهو الصدّ عن سبيل الله -تعالى- قال -سبحانه-: ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۢ بَعِيد﴾[1]، وهذا الصدّ قد يكون بالقوّة أولاً أو بالتضليل، فهم يريدون منعهم وصدّهم عن السير في سبيل الله -تعالى-، لكنّ المؤمنين الصادقين لا يُصيبهم الوهن، ولا يضعفون ولا يستكينون: ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ﴾[2] ويواجهون هذه الضغوط والتحدّيات بالجهاد: ﴿وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾[3] وهذا الجهاد يكون بالمال والنفس: ﴿وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ﴾[4] والجهاد بالمال يكون ببذله في هذا السبيل لا في غيره ﴿يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾[5] وعدم ادّخار هذه الأموال: ﴿وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾[6] والجهاد بالنفس يكون ببذل الجهد والطاقة في المجالات كافّة، وفي القتال في سبيل الله سبحانه وصولاً إلى بذل النفس في هذا السبيل.
سبيل الله -جلّ وعلا- وسبيل الشيطان
على هذا الأساس فإنّ هناك صراعًا بين سبيلين: سبيل الله -سبحانه- وسبيل الشيطان، ويُسمّى السبيل الأول سبيل النبيّ، وسبيل المؤمنين، وسبيل الرشد، ويُسّمى السبيل الثاني سبيل الطاغوت، وسبيل المجرمين، وسبيل الغيّ، وعاقبة اتّباع السبيل الأول هي الخروج من الظلمات إلى النور، وعاقبة اتباع السبيل الثاني هي الخروج من النور إلى الظلمات: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ﴾[7].
وهذا الصراع وهذه المعركة يهدفان بالنسبة إلى المؤمنين للسيطرة والحكم -كوسيلة وليس كغاية- لإعلاء كلمة الله -سبحانه- والسير بالمجتمعات البشريّة
[1] سورة إبراهيم، الآية 3.
[2] سورة آل عمران، الآية 146.
[3] سورة التوبة، الآية 20.
[4] السورة والآية نفسها.
[5] سورة البقرة، الآية 261.
[6] سورة التوبة، الآية 34.
[7] سورة البقرة، الآية 257.
31
22
الدرس الرابع: الاتّباع
إلى سعادة الدنيا والآخرة ونور العدل، فالمؤمنون يهدفون إلى أن تكون كلمة الله -تعالى- هي العليا من خلال تطبيق حكمه وشريعته وقوانينه في المجتمع، والكافرون يهدفون إلى إعلاء كلمة الشيطان، وتطبيق أحكامهم وشريعتهم وقوانينهم الشيطانيّة.
وهذا يعني أنّ على الإنسان أن يختار بين ولاية الله -سبحانه- من خلال طاعة وليّه، الذي يحكم بما أنزل الله -جلّ وعلا- وبين ولاية الطاغوت المتمثّلة باتّباع الرؤساء والملوك والقادة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله -تعالى-.
ففي حين يتّبع أولياء الطاغوت عبر التاريخ سادتهم وكبراءهم: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠﴾[1].
فإنّ المؤمنين يتّبعون وليّ الله في مسيرهم في سبيل الله نحو المقصد، باعتباره هو الهادي لهم في هذا المسير كي لا يضلّوا السبيل، قال -تعالى-: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ﴾[2] فطاعة ولي الله في الظروف المختلفة، وعدم اتّباع الآراء الشخصيَّة التي يُعبّر عنها القرآن الكريم بالأهواء هي الضمانة للهداية، وقد جعل الله -تعالى- الوليّ عبر التاريخ معصوماً، مروراً بشخص النبيّ(صلى الله عليه وآله) وجعل من بعده اثني عشر إماماً معصوماً إلى قيام الساعة.
وفي عصر غيبة الإمام المهديّ(عجل الله تعالى فرجه) الذي هو إمام زماننا، فإنّ اتّباعه يكون من خلال اتّباع نائبه الذي أمرنا باتّباعه، أي الفقيه الجامع للشرائط، وهو الفقيه العالم العادل الحكيم الزاهد الكُفْء، وهو الذي يُحدِّد للمكلَّفين الخطوات المطلوبة في سبيل الله -سبحانه-، ويسير بهم لإعلاء كلمة الله -تعالى- فيتّخذ المواقف المناسبة في الظروف المختلفة، ويُحدّد طرق المواجهة.
والخلاصة: إنّ ولاية الفقيه ليست مجرّد انتماء إلى مذهب الفقيه، بل تعني اتّباع الفقيه، والسير تحت رايته وترك السير خلف الرايات الأخرى.
فلو أحبّ أحدهم أصحاب الكساء (عليهم السلام) وترك اتّباع الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام) في زمانه فلن يكون موالياً، كذلك فيما لو أحبّ جميع الأئمّة (عليهم السلام) وترك اتّباع إمام الزمان فلن يكون موالياً، فالولاية علاقة حيّة ومستمرّة وسير مستمرّ في
[1] سورة الأحزاب، الآية 67.
[2] سورة آل عمران، الآية 31.
32
23
الدرس الرابع: الاتّباع
سبيل الله -تعالى- ولا معنى للسير في سبيل الله سبحانه ما لم يكن هناك وليٌّ نتّبعه في كلّ زمان.
ومن الواضح أنّ مقام ولاية الفقيه ليس ذاتيّاً بل مقامها مستمدّ من ولاية إمام الزمان أي إنّ قيمة ولاية الفقيه نتيجة اعتبارها تعبيراً عن ولاية إمام الزمان وامتداداً لها.
33
24
الدرس الرابع: الاتّباع
الدرس الخامس: أداء التكليف
أقسام الفرائض الإلهيّة
تنقسم الفرائض الإلهيّة إلى قسمين:
الأول: هو الفرائض واضحة المعالم أو الثابتة، التي لها وقت محدّد وكيفيّة محدّدة، كالصلاة التي تجب خمس مرّات في اليوم وعدد ركعاتها واضح، وكذلك الزكاة وموارد وجوبها، والصوم في شهر رمضان، والحجّ في أيام ذي الحجّة، والوقوف بعرفة في يوم محدّد وهكذا.
والثاني: الفرائض التي يمكن القيام بها بأساليب متعدّدة كالجهاد في سبيل الله -تعالى-، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهي غير محدّدة بوقت معيّن ويمكن تطوير كيفيّتها والأساليب التي يمكن من خلالها إقامتها، وبما أنّ هذه الفرائض ليس لها كيفيّة محدّدة، وللظروف والأحداث الواقعة دخالة كبيرة في تحديد توقيتها وكيفيّتها فهي تحتاج إلى الوليّ القادر على اتّخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ويُعتبر هذا الموقف تكليفاً شرعيّاً يجب على الأمّة أن تلتزم به.
لا شكّ في أنّ الوليّ باعتبار كونه فقيّهاً وليّاً يُبيّن للناس كيفيّة صلاتهم وصيامهم وحجّهم وزكاتهم، ويدير هذه الفرائض من خلال تعيين أئمة المساجد والجمعة والجماعة والأعياد، ويُحدّد بداية شهر الصوم ونهايته، ويوجّه الحجيج ويُرشدهم إلى المواقف المطلوبة، ويوزّع الزكاة بين أبناء المجتمع ليُحقّق التوازن بين الطبقات، وبرغم أهمِّيَّة ذلك فإنّ الحاجّة إلى الوليّ في الجهاد بالمال
34
25
الدرس الرابع: الاتّباع
والنفس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبراءة والولاية آكد وأوضح، فالوليّ قد يُبيّن الصلاة مرّة واحدة أو مرّتين مثلاً، ولكنّه في القضايا المذكورة يُبيّن وظيفة الأمّة في كلّ يوم، وعليه فالميدان الأوّل للولاية هو القضايا السياسيّة والاجتماعيّة والعسكريّة والثقافيّة، وما يُعبّر عنه بقيادة الأمّة وسط أمواج الفتن ورياح التهديد.
الامتحان الأكبر
وهنا يكون الامتحان الأكبر للأمّة، فقد تكون الأمّة ملتزمة بالصلاة والصوم والزكاة والحجّ، ولكنّها تتمرّد في ميدان القتال مثلاً، قال -تعالى-: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيق مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَل قَرِيبۗ﴾[1] فلم يكن لهم مشكلة في الالتزام بالصلاة والزكاة ولكن عندما كتب عليهم القتال اعترضوا بسبب خشيتهم من الناس.
نماذج من عصيان بني إسرائيل
1- الأرض المقدّسة
وهذا ما حصل مع نبيّ الله موسى (عليه السلام) حين قال لبنيّ إسرائيل: ﴿يَٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ ٢١ قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ فِيهَا قَوۡما جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ ٢٢ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمَا ٱدۡخُلُواْ عَلَيۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٢٣ قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ﴾[2].
2- جيش طالوت
وكذلك حالهم مع طالوت (عليه السلام) الذي أتى من بعد موسى (عليه السلام) فحين كُتب عليهم القتال تولّوا إلّا قليلاً منهم: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ
[1] سورة النساء، الآية 77.
[2] سورة المائدة، الآيات 21 – 24.
35
26
الدرس الرابع: الاتّباع
مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰٓ إِذۡ قَالُواْ لِنَبِيّ لَّهُمُ ٱبۡعَثۡ لَنَا مَلِكا نُّقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ قَالَ هَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ أَلَّا تُقَٰتِلُواْۖ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلَّا نُقَٰتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدۡ أُخۡرِجۡنَا مِن دِيَٰرِنَا وَأَبۡنَآئِنَاۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ تَوَلَّوۡاْ إِلَّا قَلِيلا مِّنۡهُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ﴾[1] ثم اعترضوا على شخصيّة طالوت: ﴿وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكاۚ قَالُوٓاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ عَلَيۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِٱلۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ يُؤۡتَ سَعَة مِّنَ ٱلۡمَالِۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَيۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَة فِي ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ وَٱللَّهُ يُؤۡتِي مُلۡكَهُۥ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيم﴾[2] وحين أمرهم بعدم الشرب من النهر شربوا منه إلّا قليلاً منهم: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَر فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلا مِّنۡهُمۡۚ...﴾[3] فهم لم يلتزموا بالتكليف الشرعيّ الصادر عن وليّهم، والسبب أنّهم رأوا أنّ الشرب من النهر للجيش العطشان أمر منطقيّ جدّاً، ولكنّ منطق الوليّ كان أنّ الجنديّ العطشان الذي يمتلك إرادة قادرة على مقاومة مشهد لمعان الماء وبريقه هو الذي يحتاج إليه في المعركة مع جالوت، وحين ساروا إلى أرض المعركة قال بعضهم: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَة قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَة كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾[4].
3- لن نصبر على طعام واحد
ولا يقتصر الأمر في تمرّد بني إسرائيل على القضايا القتاليّة، بل كانوا يتمرّدون في القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة: ﴿وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَام وَٰحِد فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ ٱهۡبِطُواْ مِصۡرا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ﴾[5] برغم أنّ الله -تعالى- أنزل عليهم المنّ والسلوى وظلّل عليهم الغمام إلّا أنّهم لم يصبروا على هذا الأمر، ويصف القرآن حالهم بقوله: ﴿وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ﴾[6]
[1] سورة البقرة، الآية 246.
[2] السورة نفسها، الآية 247.
[3] السورة نفسها، الآية 249.
[4] السورة والآية نفسها.
[5] السورة نفسها، الآية 61.
[6] السورة والآية نفسها.
36
27
الدرس الرابع: الاتّباع
وفيها بيان لحال المجتمع الذي لا يُطيع وليّه؛ كيف يصبح مجتمعاً ذليلاً ومستكيناً في حين أنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين.
4- اذبحوا بقرة
وكذلك حالهم في قضيّة القتيل الذي قُتل في بني إسرائيل، وجُعل على طريق من طرق قبيلة محدّدة، وكادت أن تحصل فتنة، فقام موسى (عليه السلام) ببيان طريقة إظهار القاتل وكشفه، وأمرهم أن يذبحوا بقرة: ﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُواْ بَقَرَةۖ...﴾[1] وحيث إنّ ذبح البقرة قد لا يبدو أمراً منطقيّاً في قضية كشف القاتل: ﴿قَالُوٓاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواۖ قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾[2] فقد اتّهموا وليّهم بالجهل، وبدل أن يُبادروا إلى الالتزام بالتكليف بدأوا يجادلون نبيّهم ويمتحنونه: ﴿قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة لَّا فَارِض وَلَا بِكۡرٌ عَوَانُۢ بَيۡنَ ذَٰلِكَۖ﴾[3] وطلب منهم أن يذبحوا البقرة دون نقاش: ﴿فَٱفۡعَلُواْ مَا تُؤۡمَرُونَ﴾[4] ولكنّهم أصرّوا على الجدال: ﴿قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوۡنُهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة صَفۡرَآءُ فَاقِع لَّوۡنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّٰظِرِينَ ٦٩ قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلۡبَقَرَ تَشَٰبَهَ عَلَيۡنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهۡتَدُونَ ٧٠ قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة لَّا ذَلُول تُثِيرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِي ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَة لَّا شِيَةَ فِيهَاۚ﴾[5] وبعد أن بيّن لهم وأوضح لهم صفاتها ظلّوا متردّدين بذبحها: ﴿قَالُواْ ٱلۡـَٰٔنَ جِئۡتَ بِٱلۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ﴾[6] وفي النهاية كُشِف القاتل: ﴿وَإِذۡ قَتَلۡتُمۡ نَفۡسا فَٱدَّٰرَٰٔتُمۡ فِيهَاۖ وَٱللَّهُ مُخۡرِج مَّا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ ٧٢ فَقُلۡنَا ٱضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ كَذَٰلِكَ يُحۡيِ ٱللَّهُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾[7].
وفي الرواية عن الإمام الرضا (عليه السلام): «ولو أنّهم عمدوا إلى أيّ بقرة أجزأتهم، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم...»[8] فعدم الالتزام بالتكليف نتيجته أنّ الله -تعالى- يُشدّد على المكلّف.
[1] سورة البقرة، الآية 67.
[2] السورة والآية نفسها.
[3] السورة نفسها، الآية 68.
[4] السورة والآية نفسها.
[5] سورة البقرة، الآيات 69 – 71.
[6] السورة نفسها، الآية 71.
[7] السورة نفسها، الآيتان 72 – 73.
[8] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص68.
38
28
الدرس الخامس: أداء التكليف
التكليف الشرعيّ
إذن الحاجة الأبرز للوليّ هي في تحديد التكليف الشرعيّ للأمَّة في مواجهة الأحداث والمتغيّرات، وليس في التكاليف الثابتة التي يمكن أن يتعلّمها المكلّف مرّة واحدة، ويؤدّيها طول العمر. ولكن في مواجهة المتغيرات لا قدرة للمكلّف على تحديد الموقف المناسب والقرار الحكيم والتكليف الشرعيّ، ولذلك تكثر الاجتهادات في القضايا السياسيّة والاجتماعيّة كما هي الحال مثلاً في قضيّة الانتخابات، حيث تبرز الآراء والاعتراضات، وكما هي الحال في مواجهة بعض الاستحقاقات التي يرى الناس أنّ لها الأولويّة على غيرها، فيما يرى الوليّ الأولويّة في مكان آخر، كما حدث مثلاً في غزوة تبوك:
ففي غزوة تبوك كانت أولويّة الناس قطف ثمارهم ليُصلحوا أوضاعهم المعيشيّة، وكان الحرّ شديداً والمسير إلى العدوّ في هذه الحال صعباً، ولذلك تخلّف الكثيرون عن دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتثاقل بعضهم وتباطأ بعضهم الآخر فيما كانت أولويّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مواجهة الروم، وقد كان منطق بعضهم أنّ الأوضاع الاقتصاديّة صعبة جدّاً، وموسم التمر قد آن أوانه، فلنقطف ثمارنا ونبيعها وننتظر ريثما يخفّ الحرّ قليلاً ثم نواجههم، ولكن منطق الوليّ كان مختلفاً لأنّه يرى ما لا يرون فأصرّ على المسير وسار بالجيش.
الولاية ضمانة
من جهة أخرى فإنّ الأخطاء تكثر في هذه التكاليف، ففي أرض المعركة مثلاً تحدُث الكثير من الأخطاء، وفي ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكثر التعدّيات والأساليب الخاطئة، وفي صرف أموال الزكاة والخمس قد توضع الأموال في غير محلّها، وهكذا في العلاقات السياسية فقد يوالي بعضهم من لا ينبغي موالاته، ويتبرّأ ممّن لا ينبغي عليه التبرّؤ منه، كما حصل مع الناس في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولذلك لا بدّ من وجود الوليّ الذي يُدير القتال والجهاد بالمال والنفس، ويُشرف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُحدّد العلاقات السياسيّة، ويُميّز بين العدوّ والصديق، ويمنع الانحرافات في هذه الميادين.
وقد شاهدنا بأمّ العين كيف كانت بعض الحركات التي تنتسب إلى الإسلام زوراً، كيف كانت تُقاتل ولا تُميّز بين عدوٍّ وصديق، وكيف كانت تقتل المدنيّين والأطفال،
40
29
الدرس السادس: الطاعة
وتبيع النساء في سوق النخاسة، وكيف كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بغاية القسوة والغلظة، ودون مراعاة المراتب والأحكام الإلهيّة، وكيف توالي الغرب وتُعادي المسلمين الذين هم من غير اتّجاههم حتّى شوّهت صورة الدين، وشوّهت صورة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها.
لا جهاد من دون إمام عادل
ولذلك فقد ربط الله -تعالى- هذه الفرائض بالوليّ، فلا جهاد من دون إمام عادل، ولا أمر بالمعروف ونهي عن المنكر من دون توجيهه وإرشاده، ولا تحالفات سياسيّة من دونه، وحيث إنّ إمام زماننا غائب فإنّ المرجع في هذه الأمور يكون الفقيه الذي له الولاية على أموالنا وأنفسنا وأعراضنا، وما يصدر عنه من مواقف وأوامر يُعتبر تكليفاً شرعيّاً، فليست ولاية الفقيه منصباً فخريّاً أو شكليّاً بل هي الوسيلة لتحديد التكليف الشرعيّ الذي يجب على الأمّة الالتزام به.
وهذا الالتزام بالتكليف الشرعيّ هو التجسيد العمليّ لولاية الفقيه؛ وليس التصرّف بما نراه مناسباً، وقد لام الله -تعالى- الذين يتصرّفون من عند أنفسهم دون الرجوع الى الوليّ قال -تعالى-: ﴿وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡر مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلا ﴾[1] فالآية تتحدّث عن سماع المؤمنين بأمر فيه أمن أو خوف، وعن إذاعتهم لهذا الأمر في حين قد يكون هذا الأمر كاذباً ومن يُحدّد صدق أو كذب هذه الشائعة هو الوليّ.
وهذا التكليف الشرعيّ الذي يُحدّده الفقيه هو بمثابة تكليف من إمام زماننا؛ لأنّ ولايته ولاية الإمام، وبالتّالي ولاية رسول الله التي هي فرع من ولاية الله -تعالى-، والرادّ عليه رادّ عليهم، وعلى رسول الله وعلى الله وهو على حدّ الشرك بالله -تعالى- ففي الرواية: «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما بحكم الله قد استخفّ، وعلينا ردّ والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله»[2].
[1] سورة النساء، الآية 83.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص412.
41
30
الدرس السادس: الطاعة
الدرس السادس: الطاعة
تمهيد
«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الطَّيِّبِينَ الْأَبْرَارِ الْأَخْيَارِ، الَّذِينَ أَوْجَبْتَ حُقُوقَهُمْ، وَفَرَضْتَ طَاعَتَهُمْ وَوِلايَتَهُمْ»[1].
الولاية طاعة
من الأمور التي كثر تأكيدها في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الولاية لا تُنال بالحبّ بمنأى عن العمل، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «يا جابر لا تذهب بك المذاهب، حسبُ الرجل أن يقول أُحبّ عليّاً وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعَّالاً؟»[2].
وعنه (عليه السلام): «... من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع»[3].
والولاية لا تتحقّق إلّا بالطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر، قال -تعالى-: ﴿أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ﴾[4] وقد كان المطلب الأوّل للرسل هو طلب الطاعة: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾[5] وهذه الطاعة هي طاعة الله قال -تعالى-:
[1] القمّيّ، الشيخ عبّاس، مفاتيح الجنان، تعريب السيّد محمّد رضا النوري النجفي، مكتبة العزيزي، إيران - قم، 1385ش - 2006م، ط3، ص261.
[2] الطوسي، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسَّسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قمّ، 1414ه، ط1، ص726.
[3] المصدر نفسه، ص726.
[4] سورة النساء، الآية 59.
[5] سورة الشعراء، الآية 144.
42
31
الدرس السادس: الطاعة
﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ﴾[1] وفي المقابل هناك فئة في المجتمع الإسلاميّ يعصون الرسول قال -تعالى-: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ٨ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَنَٰجَيۡتُمۡ فَلَا تَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾[2] فالمجتمع الإسلاميّ ينقسم إلى قسمين الأول: هم المطيعون لله ولرسوله، وقد سمّاهم الله -تعالى- المؤمنين. والثاني: هم العاصون لله ولرسوله ويندرج معهم المنافقون.
فما معنى الطاعة؟ وكيف نُطيع الوليّ؟
الطاعة تعني الموافقة واللين والانقياد وعدم الكره للفعل، أي أن تفعل ما تؤمر به عن طيب نفس من دون كره منك، ودون معارضة، ودون تباطؤ، ودون تخلّف، قال -تعالى-: ﴿وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾[3] ومنهم من يتثاقل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ﴾[4].
وشعار المؤمنين: ﴿سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ﴾[5] وشعار المنافقين: ﴿سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا﴾[6].
وتتحقّق طاعة الوليّ بالالتزام بالأوامر الصادرة عنه أولاً باعتبارها تكليفاً شرعيّاً -كما ذكرنا سابقاً- وبالالتزام بالأوامر الصادرة عن الأشخاص الذين عيّنهم الوليّ ثانياً.
الولاية إدارة شؤون المجتمع
إنّ ولاية أمر المجتمع الإسلاميّ ورعاية شؤون الأمّة الإسلاميّة، تقتضي ولاية كلّ أمورها، ورعاية شؤونها الاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة كلّها، فلا يبقى أمر من أمور الأمّة إلّا وتشمله الولاية وتتعلّق به، وهذا يعني ضرورة وجود مَنْ يتولّى هذه الأمور، وهم الولاة على أمر محدّد كوليّ أمر الجيش، ووليّ أمر المال،
[1] سورة النساء، الآية 80.
[2] سورة المجادلة، الآيتان 8 – 9.
[3] سورة النساء، الآية 72.
[4] سورة التوبة، الآية 38.
[5] سورة النور، الآية 51.
[6] سورة البقرة، الآية 93.
43
32
الدرس الخامس: أداء التكليف
ووليّ أمر الشرطة والقضاء، وهكذا في الدوائر الأصغر، لا بد من وجود من يتولّى أمورها، ففي الجند مثلًا لا بدّ من وجود من يتولّى أمر السرايا والفصائل؛ وهذا ما يُطلق عليه في هذا العصر التراتبيّة التنظيميّة، والولاية هنا تعني الالتزام بقرارات الولاة الذين يُعيّنهم الوليّ، ولا يكفي الالتزام بقرارات الفقيه دون الالتزام بما يصدر عن هؤلاء الولاة؛ لأنّ طاعتهم من طاعة الوليّ والتخلّف عن طاعتهم تخلّف عن طاعة الوليّ، فتتجلّى بالتّالي –في هذا المورد– الطاعة العمليّة للوليّ الفقيه من خلال المرور بهذه التراتبيّة التنظيميّة.
الولاية أمانة
وكلّ من يتولّى أمراً من أمور الأمّة يُعتبر مؤتمناً عليه، ويتصرّف بما فيه مصلحة المسلمين في هذا الأمر، وإلّا اعتُبر خائناً للأمانة، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فغشّهم فهو في النار»[1].
ومن البديهي أنّ المؤتمن يجب أن يكون لديه المعرفة الضروريّة بما يختصّ بدائرته القيّم عليها، وكذلك لديه الكفاءة للقيام بحسن إدارة هذا الأمر، ومن الضروريّ أن يكون ملتزماً بالضوابط الشرعيّة خصوصاً المتعلّقة بتولّي أمور الناس، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «من تولّى أمراً من أمور الناس، فعدل، وفتح بابه، ورفع ستره، ونظر في أمور الناس، كان حقّاً على الله أن يؤمن روعته يوم القيامة ويُدخله الجنة»[2].
وقد حدّثنا القرآن الكريم عن بعض النماذج التي رفضت ولاية الوليّ الصالح وذلك بسبب الحسد والكبر، كما فعل إبليس لعنه الله -تعالى- حين أمره الله بالسجود لآدم سجود طاعة وولاية، فأبى واستكبر، وكما حدث مع الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، ورفض طاعة موسى وولايته ظنّاً منه أنّه أفضل منه، وقد شبّهه الله -تعالى- بالكلب الذي يلهث في كلّ الحالات ولا يتغيّر، سواء حملت عليه أو تركته، كذلك هو لم تُغيّر فيه آيات الله والعلم شيئاً، كما حدثتنا كتب السيرة عن رفض ولاية من عيّنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنها:
[1] المنذري، زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي، الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، ضبط أحاديثه وعلّق عليه مصطفى محمّد عماره، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1408هـ - 1988م، لا.ط، ج1، ص176.
[2] الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص318.
44
33
الدرس السادس: الطاعة
لمّا بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) جيش أسامة بن زيد تكلّم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين، فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) غضباً شديداً، فخرج وقد عصّب على رأسه عصابة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أمّا بعد أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وأيم الله إن كان للإمارة لخليقاً، وإنّ ابنه من بعده لخليق للإمارة، ثم نزل فدخل بيته»[1].
ونستفيد من هذه الرواية، أنّ تعيين من يتولّى أمراً من الأمور في دائرة محدّدة يعني أنّ على كلّ من يقع ضمن هذه الدائرة أن يسمع له ويُطيعه، ولا يحقّ لأحد منهم التخلّف عن أوامره في هذه الدائرة، سواء أكان موافقاً له في الرأي وتشخيص المصلحة أم كان مخالفاً له في ذلك، وذلك لسببين، هما:
الأول: إنّ من الواضح جدّاً أنّه لو شخّص كلّ مكلّف ما يراه مناسباً فلا معنى للولاية، ولا تتحقّق مصلحة الأمّة وتتفرّق الناس إلى جماعات مختلفة ومتناحرة.
الثاني: إنّ تشخيص المصلحة والتكليف في هذه الدائرة موكل إليه، ولتوضيح هذه النقطة لا بدّ من البيان التّالي:
إنّ تشخيص الموضوع قد يوكل مرّةً إلى:
- المكلّف: فمثلاً فإنّ المعيار في تحديد تأثير الصوم في إيجاد المرض، أو مضاعفته أو عدم القدرة على الصوم، هو تشخيص الصائم نفسه.
- العرف: كتشخيص الموسيقى المطربة اللهويّة التي تُخرج الإنسان نوعاً عن حالته الطبيعيّة بسبب ما تحتويه من خصائص تتناسب مع مجالس اللهو والمعصية، فإنّ المرجع في تشخيص الموضوع هو العرف.
- الفقيه: وقد يكون التشخيص للموضوعات مختصّاً بالفقيه كما هي الحال في الموضوعات المستنبطة، مثل تحديد القاعدة المتعلّقة بتحديد الغناء المحرّم، فإنّ الفقيه هو الذي يستنبط الموضوع الذي ينصبّ عليه حكم الحرمة.
- وليّ الأمر: وهناك أمور يكون تشخيصها بيد وليّ الأمر مثل تحديد اقتضاء المصلحة للقيام بالجهاد الابتدائيّ، فإنّ تشخيصه بيد وليّ أمر المسلمين وهو الفقيه المتصدّي.
[1] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج28، ص124.
45
34
الدرس السادس: الطاعة
وكذلك بالنسبة إلى ولي أمر محدّد، فإنّ بيده تشخيص المصلحة في دائرة عمله التي يتولّى أمرها، باعتباره المسؤول المختصّ، ومن البديهيّ أنّ إيكال تشخيص المصلحة إلى الوليّ يستلزم طاعته، وإلّا أدّى إلى نقض الغرض.
ونلفت هنا إلى أنّ إيكال تشخيص الأمر إلى من يتولّى هذا الأمر لا يُنافي قيامه بالمشورة قبل اتّخاذ القرار، كما أنّه لا يعني منع من يقع في دائرة العمل من تقديم النصيحة لمن يتولّى الأمر، ولا يعني أيضاً عدم قبول نصيحة من ينصحه.
والسؤال: ما هو تكليفنا في حال كان من يتولّى الأمر غير ملتزم بالضوابط الشرعيّة؟
فقد يُصادف أحياناً أنّ بعض المسؤولين ينحرفون عن جادّة الصواب، ولا يلتزمون بالضوابط والتعاليم الشرعيّة المتعلّقة بتولّيهم أمراً من أمور الناس، وقد يكون المسؤول وصوليّاً، أو يكون صاحب شخصيّة سلبيّة، وفي هذه الحال يقع المكلّف في حيرة من أمره، هل يلتزم بالأوامر الصادرة عن هذا الشخص أم لا يلتزم بها ويتمرّد على أوامره؟
التكاليف الفوتيّة وغير الفوتيّة
الجواب: إنّ الأوامر الصادرة من المسؤول نوعان، الأول: الأوامر الفوتيّة ويقصد بها التكليف الذي لا يمكن تأخيره بسبب طبيعة الظرف، كما هي الحال في المعارك القتاليّة وما شاكل. والثاني: الأوامر غير الفوتيّة ويقصد بها التكليف في الظروف الطبيعيّة والحالات العاديّة، كما هي الحال في المسائل الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة وما شابه، وعلى هذا الأساس فإنّ لكلّ واحدة من الحالتين تكليفًا خاصّاً، ففي الحالة الأولى يجب الالتزام بالأوامر الصادرة عن المسؤول حتّى لو أدّت إلى مفسدة، وتُطبّق هنا قاعدة دفع الأفسد بالفاسد أو تقديم الأهمّ على المهمّ، وفي الحالة الثانية تجري مراجعة الجهات العليا، وتقديم صورة واضحة عن المشكلة، ويعود إليها إصدار القرار النهائيّ وحسم النزاع.
نماذج من مراجعة الجهات العليا
ونُقدّم هنا نموذجين من الشكوى على المسؤول، ليتبيّن أنّه ليست كلّ شكوى محقّة، فقد تكون الشكوى ظالمة أحياناً ومحقّة أحياناً أخرى:
1- بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) جَيْشًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَمَضَى فِي
السَّرِيَّةِ، فَأَصَابَ جَارِيَةً، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَتَعَاقَدَ أَرْبَعَةٌ
46
35
الدرس السابع: المحبّة
السَّرِيَّةِ، فَأَصَابَ جَارِيَةً، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَتَعَاقَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالُوا: إِذَا لَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَخْبَرْنَاهُ بِمَا صَنَعَ عَلِيٌّ.
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا رَجَعُوا مِنْ السَّفَرِ بَدَأوا بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَتِ السَّرِيَّةُ سَلَّمُوا عَلَى النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فَقَامَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ صَنَعَ كَذَا وَكَذَا؟!
فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)، ثُمَّ قَامَ الثَّانِي فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ الثَّالِثُ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ الرَّابِعُ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالُوا.
فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَالْغَضَبُ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ:
«مَا تُرِيدُونَ مِنْ عَلِيٍّ، مَا تُرِيدُونَ مِنْ عَلِيٍّ، مَا تُرِيدُونَ مِنْ عَلِيٍّ، إِنَّ عَلِيًّا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي»[1].
وهذا دليل واضح على أنَّه ليس كلّ معترض على الحقّ، بل يكون مخطئاً في تشخيصه وتقييمه للأمور.
2- وهنا نموذج آخر، حين قام وليّ الأمر، وهو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بمحاسبة وليّه على البصرة حين بلغه شيء عنه:
ففي رسالة الإمام عليّ (عليه السلام) إلى واليه عثمان بن حنيف: «أمّا بعد يا بن حنيف، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها، تُستطاب لك الألوان وتُنقل إليك الجفان، وما ظننتُ أنّك تُجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو...»[2] حيث يتبيّن كيف يحاسبُ وليّ الأمر الولاة على ما فعلوا.
والنتيجة التي نصل إليها إنّ طاعة ولاة الوليّ واجبة على أتباع الوليّ، ولا يقتصر الأمر على طاعتهم للوليّ؛ لأنّه لا يمكن إدارة الأمور من دون من يتولّى أمر كلّ واحد منه، وقد تشدّد الإسلام في اختيار الولاة من ناحية العدالة والكفاءة والخبرة والرحمة وغيرها من الصفات الضروريّة لولاية أمر الناس، كما شدّد على أن لا يستبدّوا برأيهم، ولا يحتجبوا عن الناس، ولا يستفيدوا من مواقعهم في المصالح الشخصيّة، وكذلك أمر وليّ الأمر أن يكون مراقباً للولاة، ومحاسباً لهم، ومتشدّداً معهم وقاسياً في تأديبهم حين ينحرفون عن جادّة الصواب.
[1] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج31، ص655.
[2] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، من كتاب له (ع) 45، ص416.
47
36
الدرس السابع: المحبّة
الدرس السابع: المحبّة
تمهيد
المحبّة والمودّة من القيم التي أكّدها القرآن الكريم في العلاقة مع الوليّ، وفي العلاقة بين أبناء المجتمع الإيمانيّ. فالعلاقة مع الوليّ لا تقتصر على الطاعة، والعلاقة بين أبناء المجتمع المؤمن لا تقتصر على الحقوق والواجبات، بل تتعدّى ذلك إلى علاقة أكثر عمقاً من العلاقة الظاهريّة لتصبح أيضاً علاقة روحيّة، وأكثر ما يُجسّد هذه العلاقة المحبّة والمودّة.
وهذا ديدن الإسلام في العلاقات التي يريد ترسيخها وتعميقها، كما هي الحال في العلاقة بين الزوجين، فهو يُشدّد على عدم تعدّي حدود الله -تعالى- في العلاقة بين الزوجين، ولكنّه يؤكّد أيضاً أنّ أساس العلاقة بينهما ينبغي أن يُبنى على المودّة والرحمة، قال -تعالى-: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّة وَرَحۡمَةًۚ﴾[1]، وكذلك في العلاقة بين الإخوة في المجتمع الإيمانيّ، ففي الرواية: «إذا أحبّ أحدكم صاحبه أو آخاه فليُعلمه»[2] ولكنّه في الوقت نفسه يشدّد على الحقوق والواجبات أيضاً، ويحرص على عدم تضييع حقّ أحد اتكالاً على المودّة: «لا تُضيّعنّ حقّ أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه»[3].
[1] سورة الروم، الآية 21.
[2] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص182.
[3] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، وصايا شتى، ص402.
49
37
الدرس السابع: المحبّة
العلاقة بين المحبَّة والطاعة
إنّ جوهر الولاية هو الطاعة، ولا معنى لولاية الوليّ من دون طاعته. ولكنّ الدافع إلى طاعة الناس للوليّ يختلف بين شخص وآخر، وهذا ما ينعكس على مستوى الطاعة ودرجتها، فالمطيعون ليسوا في درجة واحدة، فمرّة تكون الطاعة كطاعة أهل الكوفة للإمام عليّ(عليه السلام)، ومرة تكون كطاعة أصحاب المهديّ(عليه السلام) له حيث ذكرت الروايات أنّهم أطوع له من الأمّة لسيّدها، وأنّهم يكفونه ما يريد.
ولا شكّ في أنّ المحبّة الصادقة تُعتبر من الأسباب الأساسية في شدّة مستوى الطاعة، ولذلك أمرنا الله تعالى بمودّة ذوي القربى، قال -تعالى-: ﴿قُل لَّآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ﴾[1] ثم بيّن أنّ المودّة هي المُعين الأكبر في سلوك السبيل: ﴿قُلۡ مَآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍ إِلَّا مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلا﴾[2].
وعلى هذا الأساس يمكن أن نُفسّر بعض أسباب التباطؤ والتثاقل والتخلّف والتمرّد على أوامر الوليّ، وقد تحدّث القرآن عن أحد أهم أسباب التخلّف عن الجهاد قائلاً: ﴿قُلۡ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ وَإِخۡوَٰنُكُمۡ وَأَزۡوَٰجُكُمۡ... أَحَبَّ إِلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ﴾[3] فالآية لم تستنكر حبّ الأهل والأولاد وغيرها من المتعلّقات، بل رفضت أن تكون هذه الأمور هي الأحبّ إلى قلوبنا من الله تعالى ورسوله والجهاد في سبيله، قال -تعالى- ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّا لِّلَّهِۗ﴾[4].
وقد حدّثتنا كتب السيرة والتاريخ عن مشاركة المنافقين في بعض الحروب مع الإمام عليّ(عليه السلام) ضدّ معاوية في صفِّين، فهم في الظاهر مطيعون للإمام، ولكنّهم لا يُحبّونه، ففي الرواية: «لو صببتُ الدنيا بجماتها على المنافق على أن يُحبّني ما أحبّني»[5].
[1] سورة الشورى، الآية 23.
[2] سورة الفرقان، 57.
[3] سورة التوبة، الآية 24.
[4] سورة البقرة، الآية 165.
[5] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج39، ص296.
50
38
الدرس السابع: المحبّة
لماذا أُحبّ الوليّ؟
الحبّ في الأصل لله -تعالى- وبالتبع لكلّ ما يتعلّق بالله -تعالى-، فمن أحبّ الله -سبحانه- أحبّ متعلّقاته وآثاره، ففي الدعاء: «أسألك حبّك، وحبّ من يُحبّك، وحبّ كلّ عمل يوصلني إلى قربك»[1] وفي الرواية: «أوثق عرى الإيمان أن تُحبّ في الله، وتُبغض في الله»[2] على هذا الأساس فحبّ الوليّ ينبع من كونه وليّاً لله -تعالى-. ومن غير المقبول أن نُحبّ الله ولا نُحبّ أولياءه، كما أراد إبليس اللعين حين رفض ولاية آدم الظاهريّة فضلاً عن الباطنيّة.
كما أنّ الكمالات التي يتّصف بها الوليّ هي سبب آخر لحبّه، فالإنسان مفطور على حبّ الكمال والانجذاب إليه، وقد اشترط الإسلام في الوليّ الأول أن يكون معصوماً، وفي أوصيائه أن يكونوا كذلك، كما اشترط في الولاة أن يكونوا من أهل الحكمة والتقى والزهد والصلاح، وفي عصر الغيبة أن يكون فقيهاً عالماً عادلاً كفؤاً ورعاً كريماً شجاعاً رحيماً لطيفاً بالرعيّة، وهذه صفات تجذب القلوب الصافية إليها فتعمر بحبّها.
نماذج من العلاقة العاطفيّة بالوليّ
ويمكن أن نرى علاقة الحبّ مع الوليّ بأبهى صورها في كربلاء، هذا الحبّ الصادق بأعلى درجاته، فهم قد اعتصموا بالإمام في أصعب الظروف وأحلك الأوقات؛ لأنّهم علموا أنّ الوليّ هو الكهف والحصن والملجأ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، الْكَهْفِ الْحَصِينِ، وَغِيَاثِ الْمُضْطَرِّ الْمُسْتَكِينِ، وَمَلْجَإِ الْهَارِبِينَ وَعِصْمَةِ الْمُعْتَصِمِينَ»[3] فالمؤمنون الصادقون والموالون الحقيقيّون يعتصمون بوليّهم ويلجأون إليه ويلوذون به: «كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول الله(صلى الله عليه وآله)»[4] في حين يلجأ المنافقون إلى مغارات ويلوذون بالفرار: ﴿لَوۡ يَجِدُونَ مَلۡجًَٔا أَوۡ مَغَٰرَٰتٍ أَوۡ مُدَّخَلا لَّوَلَّوۡاْ إِلَيۡهِ وَهُمۡ يَجۡمَحُونَ﴾[5] ووصف ضعاف الإيمان: ﴿إِذۡ تُصۡعِدُونَ تَلۡوُۥنَ أَحَد وَٱلرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ فِيٓ أُخۡرَىٰكُمۡ﴾[6].
[1] الإمام زين العابدين(ع)، الصحيفة السجاديّة الكاملة، مؤسسة النشر الإسلامي، إيران - قم، 1404هـ - 1363ش، لا.ط، ص414.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص125.
[3] الشيخ عبّاس القمّيّ، مفاتيح الجنان، مصدر سابق، ص261.
[4] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج19، ص191.
[5] سورة التوبة، الآية 57.
[6] سورة آل عمران، الآية 153.
51
39
الدرس السابع: المحبّة
ولا يقتصر الحبّ على الاعتصام بالوليّ بل يشمل أيضاً الفداء، ففي الزيارات الشريفة نقرأ: «بأبي أنت وأمي ونفسي وأهلي ومالي وولدي»[1]، وذلك أنّ الوليّ أحبّ إلينا من كلّ شيء فنُضحّي بكلّ شيء من أجله حتى بأحبّ الأمور عندنا؛ وهي الأم والأب والولد والزوجة والمال والنفس، وقد جسّدت كربلاء أجمل مشاهد الفداء حين طلب الإمام الحسين (عليه السلام) من جيش يزيد أن يُمهلوهم للصلاة ووافقوا على ذلك، وحين بدأت الصلاة أخلفوا وعدهم، وصاروا يرشقون المصلّين بالنبال، فوقف أحد أصحاب الإمام وغطّى بجسده جسد الإمام وهو يُصلّي كي يحجب عنه السهام فأصابته عدّة سهام وارتفع شهيداً، وقبل أن يلفظ آخر أنفاسه سأل الإمام أوفيتُ يا بن رسول الله؟ فقال له الإمام: «نعم أنت أمامي في الجنّة»[2].
المحبّة والمودّة بين المؤمنين
ولا تقتصر علاقة الحبّ على الوليّ بل لا بدّ من أن تكون هذه العلاقة سارية بين أبناء المجتمع الإسلاميّ، وهذا الحبّ ليس ادّعاءً بل حقيقة تظهر وتتجسّد في أصعب الظروف، قال -تعالى-: ﴿وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَة مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾[3].
وهذه العلاقة تجسّدت بأبهى صورها حين هاجر رسول الله(صلى الله عليه وآله) من مكّة إلى المدينة وآخى بين المهاجرين والأنصار وقاسموهم أموالهم وأسكنوهم في بيوتهم في مشهد يُبيّن عمق العلاقة بين المؤمنين، وأنّ علاقة الدين أقوى من علاقة القربى مع غير المؤمنين، فالقرآن الكريم يعتبر المؤمنين إخوة سواء أكانوا عرباً أم عجماً أم أحراراً أم موالي في الوقت الذي قطع الإسلام فيه العلاقة بين الزوجين، وفرّق بينهما في حال بقي أحدهما على الشرك.
فالمجتمع المؤمن مجتمع تملأه المودّة ويسوده الحب، بخلاف مجتمع الكفر الذي تكون قلوب أبنائه متفرّقة، قال -تعالى-: ﴿تَحۡسَبُهُمۡ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّىٰۚ﴾[4].
[1] انظر: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج98، ص213.
[2] انظر: المصدر نفسه، ج45، ص22.
[3] سورة الحشر، الآية 9.
[4] السورة نفسها، الآية 14.
52
40
الدرس السابع: المحبّة
والسبب في اجتماع قلوب المؤمنين أنّهم يتسابقون ويتنافسون على عالم غير محدود، فيما يتسابق الكافرون ويتنافسون على الدنيا المحدودة، ممّا يؤدّي إلى وقوع التنازع بينهم فتنشأ بينهم الصراعات؛ لأنّ عالم الدنيا بالنسبة إليهم غاية فيما يكون بالنسبة إلى المؤمنين وسيلة وممرّاً، والآخرة هي دار القرار.
محبّة الفقيه
وفي زمن الغيبة يُعتبر الموالون أيتاماً في غيبة إمامهم، والفقيه هو الذي يتولّى ولايتهم ورعايتهم وحمايتهم وتوجيههم وإرشادهم، وهم يتبعونه ويُقلّدونه ويُطيعونه ويُحبّونه ويحمونه ويفدونه بأموالهم ودمائهم، ولا يتركونه وحيداً، وهذا ما ظهر في هذا العصر حيث قدّم الناس أروع مشاهد الالتزام بأوامر الفقيه وطاعة التكليف، وهذا ما جعل الإمام الخمينيّ(قدس سره) يقول: «إنّني أدّعي وبجرأة أنّ الشعب الإيرانيّ بجماهيره المليونيّة في عصرنا الحاضر أفضل من شعب الحجاز الذي عاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن شعب الكوفة والعراق المعاصرين لأمير المؤمنين والحسين بن عليّ (عليهما السلام)»[1]، وهذا ما جعل الأمين العامّ لحزب الله بعد حرب تموز عام 2006م يقف مخاطباً الناس ومعبّراً عن كلّ مشاعر الامتنان والمحبّة حين قال لهم: «السلام عليكم يا أشرف الناس وأطهر الناس...»[2].
[1] من وصية الامام الخمينيّ قدس سره، انظر: مركز نون للتأليف والترجمة، الكلمات القصار للإمام الخميني قدس سره، ط1، 1211م - 1433هـ، ص206،
[2] خطاب الانتصار 2006م.
53
41
الدرس السابع: المحبّة
الدرس الثامن: التصديق
تمهيد
«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، شَجَرَةِ النُّبُوَّةِ، وَمَوْضِعِ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفِ الْمَلائِكَةِ، وَمَعْدِنِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ بَيْتِ الْوَحْيِ»[1].
تأثير الفكر في السلوك
تُعتبر الأفكار والآراء أساس السلوك والعمل، فكلّ عمل يقوم به الإنسان مسبوق بفكرة، سواء كان عملاً صالحاً أو فاسداً، وكمثال على ذلك، نجد أنّ معصية إبليس لعنه الله -تعالى- بدأت بفكرة وهي: ﴿أَنَا۠ خَيۡر مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّار وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِين﴾[2] ويُحدّثنا القرآن الكريم عن المؤمنين: ﴿إِنَّ قَالُواْ رَبُّنَا ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ﴾[3] فأساس سلوكهم هو اعتقادهم أنّ الله -سبحانه وتعالى- ربّهم، ولا ربّ لهم سواه، فهم يرفضون كلّ أنواع الربوبيّة التكوينيّة والتشريعيّة لغير الله، وثمرة هذه الفكرة هي الاستقامة.
وعلى هذا الأساس تنقسم الأفكار إلى أفكار حقّة وأفكار باطلة، فإن شاعت الأفكار الحقّة في مجتمع صلح ذلك المجتمع، وإن شاعت الأفكار الباطلة فسد ذلك المجتمع، وتُشكِّل مجموعة الأفكار التي يتبنّاها المجتمع ثقافة ذلك المجتمع.
[1] الشيخ عبّاس القمّيّ، مفاتيح الجنان، مصدر سابق، ص261.
[2] سورة الأعراف، الآية 12.
[3] سورة فصلت، الآية 30.
55
42
الدرس الثامن: التصديق
استهداف ثقافة المجتمع
إنّ تغيير سلوك مجتمع لا يكون من خلال تغيير ثقافته، ولذلك فإنّ إحدى الحروب التي تجري بين الأمم بعد الحروب العسكريّة والاقتصاديّة هي الحرب الثقافيّة، والتي تُسمّى الحرب الناعمة، والتي تهدف إلى تغيير أفكار شعبٍ ما وإحلال أفكار أخرى مكانها؛ وذلك لتغيير مواقف هذا المجتمع.
فعلى سبيل المثال، فإنّ ثقافة حبّ الشهادة هي إحدى نقاط القوّة في مجتمعاتنا، وهي التي تؤدّي إلى منع الهيمنة على مجتمعنا، وتغيير هذه الثقافة يكون من خلال تصوير حبّ الشهادة أنّه ثقافة الموت لا ثقافة الحياة، وهكذا في سائر الأفكار.
ومن الطبيعيّ أنّ العدوّ يستهدف الأفكار التي تتعارض مع مصالحه ولا يهتمّ بالأفكار الأخرى، فمثلاً يستهدف العدوّ ثقافة احترام العلماء في مجتمعنا من خلال تشويه صورتهم والاستفادة من بعض الأخطاء التي تحصل في مجتمعنا وتعميمها، ويُضعف علاقة الناس بالعلماء، وقد يستهدف ثقافة عاشوراء أو الثقافة المهدويّة باعتبارهما من أهمّ نقاط القوة في مجتمع المقاومة، وهكذا في سائر الأفكار.
ضرورة المرجعيَّة الفكريَّة
كانت الحرب الفكريَّة بين مجتمع المؤمنين في المدينة وبين كفّار قريش واليهود وغيرهم، فكانوا يشوّشون أفكار المجتمع المؤمن، وقد وصف الله -تعالى- البعض بأنّهم: ﴿وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡۗ﴾[1] وذكر القرآن الكريم بأنّ غايتهم تضليل المؤمنين: ﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ﴾[2] وفي المقابل كان موقف رسول الله(صلى الله عليه وآله) واضحاً وقويّاً: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ ١ لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾[3].
وفي هذه الحرب التضليليّة والفتنة يحتاج المؤمن إلى مرجعيّة فكريّة تُميّز له الأفكار الحقّة من الباطلة، خصوصاً أنّ العدوّ يُقدّم أفكاره بتزيين عالٍ ممّا يجعل الأمر ملتبساً عند الناس قال -تعالى-: ﴿وَلِيَلۡبِسُواْ عَلَيۡهِمۡ دِينَهُمۡۖ﴾[4] والعصمة من الضلال تكون من خلال تبنّي فهم الوليّ للدين واتّباع خطّه ونهجه وإرشاداته.
[1] سورة التوبة، الآية 47.
[2] سورة النساء، الآية 44.
[3] سورة الكافرون، الآيتان 1 – 2.
[4] سورة الأنعام، الآية 137.
56
43
الدرس الثامن: التصديق
قال -تعالى-: ﴿وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡر مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلا﴾[1].
المرجعيَّة الفكريَّة للوليّ لا تعني تعطيل العقل
قد يقول بعض الناس: إنّ المطلوب منّا أن نُطيع الوليّ، فإذا تحقّقت الطاعة فلا تبقى هناك حاجة إلى أن يكون الوليّ مرجعيّة فكريّة لنا طالما أنّنا نُنفّذ أوامره ولا نتخلّف عنها!
وهذا الكلام ناتج من عدم إدراك عمق العلاقة بين اتّخاذ الوليّ مرجعيّة فكريّة وبين طاعته، وذلك أنّ فهم الوليّ للدِّين، ونظرته يؤثِّران في مواقفه العمليّة، فنظرة الوليّ لثورة كربلاء والنهضة المهدويّة مثلاً لهما بالغ الأثر في اتّخاذ مواقفه العمليّة في الظروف المختلفة. وكمثال على ذلك حين اجتاح العدوّ الصهيونيّ لبنان، برزت مقولة العين لا تقاوم المخرز، وفي المقابل برزت مقولة قتال العدوّ ولو بالأسنان والأظافر، ونتج من ذلك موقفان عمليّان مختلفان بسبب الاختلاف في الفكر. وقد استطاع أتباع نهج الوليّ وخطّه وفكره أن يُحقّقوا انتصاراً عظيماً في معركة لا تتكافأ فيها القوى المادّية مع قوّة العدوّ.
وقد يظنّ أُناسٌ أنّ اتّخاذ الوليّ مرجعاً فكريّاً يُعطّل التفكير والتحليل العقليّ عند الناس، وأنّ المطلوب هو التعبّد التامّ بما يقوله الوليّ!
وفي الحقيقة، إنّ هذا الكلام لا ينسجم مع التوجّه القرآنيّ الذي يأمر الناس بالتعقّل والتدبّر والتفكّر، ولا مع التشديد النبويّ على أن نعقل العلم عقل دراية لا عقل رواية، ولا مع التشديد على امتلاك الوعي عند الناس، فالمقصود باتّخاذ الوليّ مرجعاً فكريّاً هو أنّ على الأمّة أن تعي أفكار الوليّ فتقتنع بخياراته قناعة دراية لا رواية فحسب، وبهذا تكون الأمّة أقدر على الطاعة من الأمّة التي تعيش عدم الوضوح في الرؤية.
[1] سورة النساء، الآية 83.
58
44
الدرس الثامن: التصديق
إنّ سيرة أئمّتنا (عليهم السلام) تؤكّد أنّ الخذلان والتخلّف كان بسبب عدم الوعي عند الناس لخيارات الأئمّة (عليهم السلام). وهذا ما حدث مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفِّين حين رفع معاوية المصاحف واستغلّ سذاجة بعض الناس، وهذا ما حصل أيضاً في صلح الإمام الحسن (عليه السلام) حين خاطبه البعض واعتبره مذلًّا للمؤمنين، وهذا ما حصل أيضًا مع الإمام الحسين (عليه السلام) حين خروجه من المدينة وأخذه النساء معه واعتبار بعضهم أنّ هذا الأمر ليس صائباً.
قصّة طالوت
ويُعطينا القرآن الكريم نموذجاً واضحاً عن دور الأفكار الحقّة الولائيّة في تغيير المعادلات وفي الثبات على الطاعة في أصعب الظروف، فعند ملاقاة جيش طالوت لجالوت وجيشه الكبير والمجهّز بأفضل تجهيز، والذي يتمتّع بقوّة بدنيّة عالية جاء دور الفكر فقال المؤمنون الثابتون: ﴿كَم مِّن فِئَة قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَة كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ﴾[1] مقابل فكر الضعفاء المتردّدين: ﴿طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ وَجُنُودِهِۦۚ﴾[2] فهنا نجد نوعين من الأفكار؛ فكرة تُصدِّق ما يقوله الوليّ، وفكرة تُخالفه، وكان لتبنّي هذه الفكرة الدور الكبير في حسم المعركة، بخلاف فيما لو قاتلوا وهم يعتقدون أنّهم لا طاقة لهم به وبجنوده.
قصّة قارون
كذلك يعرض لنا القرآن الكريم نموذجاً من ثقافة المجتمع حين خرج قارون في زينته على قومه كان هناك ثقافتان؛ الأولى ثقافة: ﴿يَٰلَيۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيم﴾[3] والثانية ثقافة: ﴿وَيۡلَكُمۡ ثَوَابُ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحاۚ﴾[4] ونُلاحظ هنا الوضوح في الرؤية من جهة الحسم باستخدام «ويلكم» فهم أهل يقين بما يقولون، وليسوا متردّدين في فكرتهم، ولا يرتابون بها، ووصف الله -تعالى- من قال ذلك بأنّهم الذين أوتوا العلم، إذن فهم أهل علم وليسوا من الذين يتّبعون دون
[1] سورة البقرة، الآية 249.
[2] السورة والآية نفسها.
[3] سورة القصص، الآية 79.
[4] السورة نفسها، الآية 80.
59
45
الدرس الثامن: التصديق
إنّ سيرة أئمّتنا (عليهم السلام) تؤكّد أنّ الخذلان والتخلّف كان بسبب عدم الوعي عند الناس لخيارات الأئمّة (عليهم السلام). وهذا ما حدث مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفِّين حين رفع معاوية المصاحف واستغلّ سذاجة بعض الناس، وهذا ما حصل أيضاً في صلح الإمام الحسن (عليه السلام) حين خاطبه البعض واعتبره مذلًّا للمؤمنين، وهذا ما حصل أيضًا مع الإمام الحسين (عليه السلام) حين خروجه من المدينة وأخذه النساء معه واعتبار بعضهم أنّ هذا الأمر ليس صائباً.
قصّة طالوت
ويُعطينا القرآن الكريم نموذجاً واضحاً عن دور الأفكار الحقّة الولائيّة في تغيير المعادلات وفي الثبات على الطاعة في أصعب الظروف، فعند ملاقاة جيش طالوت لجالوت وجيشه الكبير والمجهّز بأفضل تجهيز، والذي يتمتّع بقوّة بدنيّة عالية جاء دور الفكر فقال المؤمنون الثابتون: ﴿كَم مِّن فِئَة قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَة كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ﴾[1] مقابل فكر الضعفاء المتردّدين: ﴿طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ وَجُنُودِهِۦۚ﴾[2] فهنا نجد نوعين من الأفكار؛ فكرة تُصدِّق ما يقوله الوليّ، وفكرة تُخالفه، وكان لتبنّي هذه الفكرة الدور الكبير في حسم المعركة، بخلاف فيما لو قاتلوا وهم يعتقدون أنّهم لا طاقة لهم به وبجنوده.
قصّة قارون
كذلك يعرض لنا القرآن الكريم نموذجاً من ثقافة المجتمع حين خرج قارون في زينته على قومه كان هناك ثقافتان؛ الأولى ثقافة: ﴿يَٰلَيۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيم﴾[3] والثانية ثقافة: ﴿وَيۡلَكُمۡ ثَوَابُ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحاۚ﴾[4] ونُلاحظ هنا الوضوح في الرؤية من جهة الحسم باستخدام «ويلكم» فهم أهل يقين بما يقولون، وليسوا متردّدين في فكرتهم، ولا يرتابون بها، ووصف الله -تعالى- من قال ذلك بأنّهم الذين أوتوا العلم، إذن فهم أهل علم وليسوا من الذين يتّبعون دون
[1] سورة البقرة، الآية 249.
[2] السورة والآية نفسها.
[3] سورة القصص، الآية 79.
[4] السورة نفسها، الآية 80.
59
46
الدرس الثامن: التصديق
علم وبصيرة ودراية وتدبّر، وقد ذكر القرآن الكريم مراراً أنّ دور النبيّ هو التعليم: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾[1].
وقد شدّد الإسلام كثيراً على طلب العلم، واعتبر فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم.
وخلاصة القول: إنّ الموالين الحقيقيّين هم أهل معرفة وعلم ووعي وبصيرة وتصديق لوليّهم، فهم حين يقرأون كتاب الله يقولون صدق الله العليّ العظيم، وحين يسمعون كلام النبيّ يقولون صدق رسول الله، وكذلك يُصدّقون وليّ الأمر وهذا التصديق ليس من باب ادّعاء العصمة له بل لكونه عالماً حكيماً مخلصاً... وإيمانهم بذلك.
التصديق في معركة الأحزاب
يُحدّثنا القرآن الكريم عن مسألة التصديق في اختبار قوي حين جاء الأحزاب من العرب المشركين وحاصروا المدينة المنورة فقال: ﴿... يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَض مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورا﴾[2] في حين يقول المؤمنون: ﴿وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنا وَتَسۡلِيما﴾[3].
على هذا الأساس فإنّ المطلوب هو فهم أهداف الوليّ ومتابعة أقواله وكلماته وفهم توجّهاته وتوجيهاته، وقد يفهم الموالون ما يريد وليّهم قبل أن يُصرّح به، كما يجري في الحياة العاديّة بين الناس حين يُعاشر شخص شخصاً آخر، فإنّه يفهمه بشكل واضح وصحيح، ويعرف ما يُحبّ وما يكره، وما يُرضيه وما يُغضبه.
ويأتي التعبّد في الدرجة الثانية حين يُقرّر الوليّ أمراً لا نُحيط به علماً فنلتزم التزاماً تامّاً بما يقول، وذلك بعد أن خبرنا حكمته وعلمه وحسن تدبيره وقيادته، وهذا ما لا يمكن منع حصوله في بعض المواقف الحسّاسة والدقيقة.
[1] سورة البقرة، الآية 129.
[2] سورة الأحزاب، الآية 12.
[3] السورة نفسها، الآية 22.
60
47
الدرس التاسع: التأسّي
الدرس التاسع: التأسّي
تمهيد
قال -تعالى-: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَة﴾[1].
معنى التأسّي
التأسّي هو الاقتداء قولاً وعملاً، فيقول المقتدي ما يقوله المقتدَى به ويعمل عمله. ويمكن القول: إنّ الاقتداء يوجد نسخة مكرّرة عن القدوة؛ لأنّ المقتدي يُتابع إمامه في قوله وفعله، كما هي الحال في صلاة الجماعة، حيث يقتدي المأموم بإمامه، ويُتابعه في أفعاله. وكما أنّ صلاة الجماعة تُعطي صورة عن قوّة المؤمنين فهي تختلف عن صلاة الإمام بمفرده، كذلك الاقتداء يزيد من قوّة الدِّين، ويؤدّي إلى تفشّي الخير والصلاح في المجتمع.
ويمكن القول: إنّ الاقتداء هو الطريق لصناعة القادة في المجتمع الإيمانيّ. كلّ بحسب درجة اقتدائه بوليّه، وهذا ما نرى نتيجته بوضوح من خلال اقتداء أمير المؤمنين(عليه السلام) برسول الله (صلى الله عليه وآله)، والذي أدّى إلى وجود وليٍّ من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) قادر على القيام بالمهمّة وسدّ الفراغ الحاصل. وقد اعتبر الله -سبحانه- نفس علي (عليه السلام) نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) لشدّة اقتدائه به، قال -تعالى-: ﴿فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ﴾[2].
[1] سورة الأحزاب، الآية 21.
[2] سورة آل عمران، الآية 61.
62
48
الدرس التاسع: التأسّي
وقد بيّن أمير المؤمنين (عليه السلام) شدّة اقتدائه برسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قال: «ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه»[1].
ضرورة التأسّي
كما أكّد أمير المؤمنين (عليه السلام) ضرورة التأسّي بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبيّن أنّ درجة حبّ الله -تعالى- لعباده على قدر اقتدائهم بنبيّه والتأسّي به: «فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ (صلى الله عليه وآله)، فَإِنَّ فِيه أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى، وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّه الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّه، والْمُقْتَصُّ لأَثَرِه، قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً ولَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْه الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وعَلِم َأَنَّ اللَّه سُبْحَانَه أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَه، وحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَه وصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَه»[2].
ولأنّ الاقتداء بالوليّ ضروريّ على مرّ الزمن فقد أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) بالاقتداء به حين قال في رسالته لعثمان ابن حنيف: «أَلَا وإِنّ َلِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِه، ويَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِه، أَلَا وإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاه بِطِمْرَيْه، ومِنْ طُعْمِه بِقُرْصَيْه، أَلَا وإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، ولَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وعِفَّةٍ وسَدَادٍ»[3].
وعلى هذا الأساس يجب أن تكون العلاقة بإمامنا علاقة اقتداء كما هي علاقة اتّباع وطاعة ومحبّة. وهذا يستلزم معرفة الوليّ بشكل دقيق. وهذه المعرفة تحتاج إلى القرب، أو إلى الاستماع إلى المقرّبين منه المطّلعين على تفاصيل حياته وطبائعه وصفاته وأعماله وأخلاقه.
فوائد الاقتداء
وللاقتداء بالوليّ فوائد عظيمة على رأسها:
تحقّق الأهداف: إنّ الاقتداء بالوليّ في القول والعمل يُساعد على تحقّق الأهداف
[1] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة192، ص200.
[2] المصدر نفسه، الخطبة 160، ص228.
[3] المصدر نفسه، من كتاب له (ع)45 ، ص417.
63
49
الدرس العاشر: النصرة
الإسلاميّة الكبرى؛ لأنّ الاقتداء يُعبّر عن انسجام تامّ بين الوليّ وأتباعه في طريقة العمل ممّا يُساعد على تحقيق الأهداف من خلال:
1. زيادة الجاذبيّة لخطّ الوليّ ونهجه من جهة أنّ الوليّ يحمل همّ خدمة الناس مثلاً وأبناء حزب الله الذين يقتدون به يحملون الهمّ نفسه، وهذا ما يجعلهم يقومون بهذه المهمّة بكلّ إتقان بعيداً عن الإهمال والاستنسابيّة والتمييز وغيرها من الآفات التي تُصيب العاملين في هذا المجال عادة.
2. التقليل أو القضاء على العوامل التي تؤدّي إلى نفور الناس وابتعادهم عن خطّ الوليّ ونهجه، وذلك أنّ الوليّ وصفاته الكماليّة تُمثّل عنصر جذب أساسيّ للناس، فإنْ لم يكن العاملون والمنتسبون لحزب الله متّصفين بصفاته نفسها ولو بنسب متفاوتة يُصاب الناس بخيبة كبرى، كما لو كان الوليّ معرضاً عن الدنيا زاهداً فيها يعيش حياة الفقراء فيما أبناء حزب الله مقبلون على الدنيا وزينتها وزخرفها وزبرجها.
3. إيجاد نسخ متكرّرة عن الوليّ وإن تفاوتت في الشدّة والضعف ممّا يخلق حالة من الأمل عند الأصدقاء وحالة من اليأس عند الأعداء؛ لأنّهم يرون الوليّ في كلّ فرد من أفراد حزب الله ممّا يجعله يبدو كالبنيان المرصوص الذي لا يُقهر ولا يُهزم.
4. بناء القادة القادرين على قيادة المسيرة مستقبلاً، وذلك أنّ صناعة خليفة الوليّ وسائر الكوادر تجري من خلال الاقتداء الصادق بالوليّ من قِبَل أفراد حزب الله والتشبّه به في القول والعمل.
كيف أقتدي
هناك نقاط مشتركة بين الأولياء جميعاً مثل الزهد في الدنيا، وخدمة الناس والتواضع لهم واللطف بهم، ومثل الشجاعة والقوّة وعدم الانهزام أمام هجمات الأعداء. فلو طالعنا سيرة النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) ومن بعده المعصومين (عليهم السلام) ومن بعدهم الفقهاء لوجدنا هذه القيم من الأمور الواضحة والثابتة في سيرتهم، ولكنّ هذا لا ينفي وجود مساحة متحرّكة مرتبطة بحركة الزمان والمكان، تفتح مجالاً للاقتداء العمليّ المباشر بالوليّ على المستوى التفصيليّ أيضاً إضافة إلى المستوى
64
50
الدرس العاشر: النصرة
العامّ، وهذا ما يظهر في حركة الوليّ اليوميّة؛ في حياته الخاصّة الفرديّة والزوجيّة أو العامّة على المستوى الاجتماعيّ في السياسة والإدارة والعلم وغيرها.
1- الاقتداء بأعمال الوليّ
هو اقتداء الموالي بالأعمال الظاهريّة للوليّ، وكما يقول الإمام الخمينيّ(قدس سره) في الحديث الأول من كتابه «الأربعون حديثاً»: «يسعى على أن يجعل من ظاهره إنساناً عاقلاً وشرعيّاً، بحيث يحكم الشرع والعقل حسب الظاهر بأنّ هذا الشخص إنسان. والإنسان الشرعيّ هو الذي يُنظّم سلوكه وفق ما يتطلّبه الشرع، يكون ظاهره كظاهر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، يقتدي بالنبيّ العظيم (صلى الله عليه وآله) ويتأسّى به في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع ما يفعل وما يترك. وهذا أمر ممكن، لأنّ جعل الظاهر مثل هذا القائد أمر ممكن لأيّ فرد من عباد الله»[1].
وكمثال على ذلك ما ورد من الأعمال الظاهريّة في تواضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) على لسان أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله): «ولَقَدْ كَانَ (صلى الله عليه وآله) يَأْكُلُ عَلَى الأَرْضِ، ويَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، ويَخْصِفُ بِيَدِه نَعْلَه، ويَرْقَعُ بِيَدِه ثَوْبَه، ويَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ، ويُرْدِفُ خَلْفَه»[2] فقد كان (صلى الله عليه وآله) متواضعاً في مأكله ومجلسه وملبسه ومركبه ومعشره....
2- الاقتداء بصفات الوليّ
وهو عبارة عن سعي الموالي للتشبّه بباطن الوليّ، فيسعى إلى أن يكتسب الصفات الكماليّة كالشجاعة والكرم والحلم والإخلاص والإعراض عن الدنيا والشعور مع الفقراء، ويجهد في التشبّه به، ولا يلتفت إلى وسوسة الشيطان لأنّه لا يمكن لأحد الوصول إلى مقام الوليّ. وذلك أنّ عدم التمكّن من الوصول إلى درجة الوليّ لا يمنع من التشبّه به على قدر نفسه، وقد بعث الله رسلاً وأئمة من البشر كي يقتدي بهم الناس، ولو شاء لأنزل رسلاً من الملائكة.
عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ، فَإِنَّه قَلَّ مَنْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ، إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ»[3].
[1] انظر: الإمام الخمينيّ، الأربعون حديثاً، دار التعارف، لبنان - بيروت، 2003م، الحديث الأوّل.
[2] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 160، ص228.
[3] المصدر نفسه، الحكمة 207، ص506.
65
51
الدرس العاشر: النصرة
الدرس العاشر: النصرة
تمهيد
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ﴾[1].
النصرة من تجلّيات الولاية
إنّ إحدى تجلّيات الولاية، إضافة إلى الاتّباع والطاعة والتصديق والمحبّة هي النصرة. ونصرة الله -تعالى- تكون من خلال نصرة أوليائه، يقول -سبحانه-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ لِلۡحَوَارِيِّۧنَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِۖ﴾[2].
ونصرة الوليّ، تكون بعدم تركه وحيداً، في مواجهة الأعداء، مهما اشتدّت الظروف. وقد حدّثنا القرآن الكريم عن استنصار الوليّ للناس، أي طلب نصرتهم، فمنهم من لبّى النداء، ومنهم من خذله. ويُحدّثنا القرآن الكريم عن موسى (عليه السلام) وطلبه من بني إسرائيل النصرة في القتال فلم يستجيبوا له، فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِي وَأَخِيۖ﴾[3]، ويُحدّثنا أيضاً عن الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح، حيث نادى منادي رسول الله (صلى الله عليه وآله) للجهاد بعد ما جرى في معركة أحد، فاستجاب له المؤمنون برغم جراحهم.
لكنّ النموذج الأرقى والأكمل للنصرة كان في كربلاء. حيث قام أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) بنصرته برغم كثرة الأعداء، وبرغم قلّة الأنصار، وبرغم الحرّ والعطش الشديدين. وفي الزيارة نُخاطبهم:
[1] سورة الصف، الآية 14.
[2] السورة والآية نفسها.
[3] سورة المائدة، الآية 25.
66
52
الدرس العاشر: النصرة
«السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أوْلِياء الله وَأَحِبّاءَهُ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أصْفِياءَ الله وَأَوِدَّاءَهِ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أنْصارَ دِينِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أنْصارَ رَسُولِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أنْصارَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أنْصارَ فاطِمَةَ سَيِّدَةِ نِساءِ العالَمِينَ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أنْصارَ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الوَلِيِّ [الزكي] النَّاصِحِ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أنْصارَ أَبِي عَبْدِ اللهِ، بِأَبِي أَنْتُمْ وَاُمِّي طِبْتُمْ وَطابَتِ الأَرضُ الَّتِي فِيها دُفِنْتُمْ وَفُزْتُمْ فَوْزاً عَظِيماً فَيا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَكُمْ فَأَفُوزَ مَعَكُمْ»[1].
شرط النصرة
امتلاك القدرة: إنّ تكليف الله -تعالى- لنا بنصرة إمام زماننا ونائبه في غيبته يستدعي منّا إعداد القوّة، لنكون قادرين على نصرته، قال -تعالى-: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّة﴾[2] وهذا الاستعداد يكون على مستويين:
المستوى الأول: القدرات والمهارات الذاتية وهو ما يُعبّر عنه بالوسع، قال -تعالى-: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ﴾[3] والمطلوب تنمية هذه القدرات والمهارات على مختلف المستويات المتناسبة مع ساحات مواجهة العدوّ التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث ساحات:
1. ساحة الجهاد الأصغر: ويعني زيادة القدرات والمهارات الجهاديّة بما يشمل القتال وغيره -من الأمور التي تدخل تحت عنوان مجاهدة العدوّ- لمواجهة الحرب العسكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في مختلف الساحات والميادين، وعدم الاكتفاء ببعض القدرات والمهارات.
2. ساحة الجهاد الكبير: قال -تعالى- ﴿وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادا كَبِيرا﴾[4] وهنا تكون حرب الثقافات، وعمدة هذا الجهاد جهاد التبيين، الذي يعني بيان الحقّ، بشكل يتميّز عن الباطل، وكشف الأباطيل، والخدع التي يقوم بها العدوّ لجذب الناس إلى الباطل، وكشف جاذبيّة الإسلام والقرآن والمضمون الدينيّ.
[1] الشيخ عبّاس، القمّيّ، مفاتيح الجنان، مصدر سابق، (زيارة شهداء كربلاء)، ص632.
[2] سورة الأنفال، الآية 60.
[3] سورة البقرة، الآية 286.
[4] سورة الفرقان، الآية 52.
67
53
الدرس الحادي عشر: آثار الولاية
3. ساحة الجهاد الأكبر: ويعني امتلاك القدرة على المستوى النفسيّ في التغلّب على النفس وأهوائها من خلال تقوية العزم والإرادة، ويمكن القول: إنّ القدرة على مجاهدة النفس تجعل المرء أقدر على الانتصار في سائر أقسام الجهاد.
فالمطلوب الحصول على الإمكانات والوسائل التي تعين على نصرة الحقّ، كلّ بحسب قدراته قال -تعالى-: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ﴾[1] وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام): «ليعدنّ أحدكم لخروج القائم ولو سهماً»[2].
المستوى الثاني: الاستعداد للتضحية، فإنّ امتلاك القوّة هو أحد الشروط، ولكنّه ليس الشرط الوحيد، فقد يمتلك الإنسان القدرة، ولكنّه لا يكون مستعدّاً للبذل والعطاء؛ وذلك بسبب وجود أحد الموانع.
موانع النصرة
1. البخل: إنّ أحد أبواب الجهاد هو الجهاد بالمال، والمانع الأساس لبذل المال هو البخل قال -تعالى-: ﴿ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ﴾[3] وقال -تعالى-: ﴿وَمِنۡهُم مَّنۡ عَٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنۡ ءَاتَىٰنَا مِن فَضۡلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٧٥ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ﴾[4] وقال -تعالى-: ﴿وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّ لَّهُمۡۖ﴾[5].
2. الجبن: والباب الثاني للجهاد هو الجهاد بالنفس، والمانع الأساس من القيام به هو الجبن الذي يؤدّي إلى التثاقل والتباطؤ أو التخلّف عن الذهاب إلى أرض المعركة أو الفرار قال -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ﴾[6].
[1] سورة الطلاق، الآية 7.
[2] ابن أبي زينب النعماني، الشيخ محمّد بن إبراهيم، الغيبة، تحقيق: فارس حسون كريم، أنوار الهدى، إيران - قمّ، 1422هـ، ط1، ص335.
[3] سورة النساء، الآية 37.
[4] سورة التوبة، الآيات 75 – 77.
[5] سورة آل عمران،، الآية 180.
[6] السورة نفسها، الآية 155.
68
54
الدرس التاسع: التأسّي
3. الحرص: ومن موانع الجهاد الحرص، وذلك أنّه يجعل المقاتل حريصاً على البقاء، فلا يقتحم الأخطار، وهذا غير قضيّة التحرّف في القتال، وكذلك يجعله حريصًا على أخذ الغنائم والأسرى ليحصل على الفدية، وهذا ما يؤدّي إلى التهاون في القتال. ويُحدّثنا التاريخ أنّ عليّاً(عليه السلام) في معركة بدر قتل نصف المشركين وشارك في قتل النصف الآخر فيما كان بعضهم مشغولاً بأخذ الأسرى حرصاً على الفدية، حتّى وصل عدد الأسرى إلى سبعين أسيراً، والحرص يختلف عن البخل والجبن في التفصيل لكنّه يجتمع معها في العلّة وهي سوء الظنّ بالله، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام): «فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّه»[1].
وذلك أنّ من أحسن الظنّ بالله يبذل ويوقن بالخلف، ويؤمن أيضاً بالحماية الإلهيّة، ويؤمن بالرازقيّة الإلهيّة، ولذلك لا يكون من يحسن ظنّه بالله -تعالى- بخيلاً ولا جباناً ولا حريصاً.
والخلاصة: إنّ استنصار الوليّ للمؤمنين يعني أنّه يريد أن يُحقّق الانتصار من خلالهم، وهذا يقتضي أن يُحقّقوا أسباب النصر في قدراتهم وإمكاناتهم، ويزيلوا الموانع التي تؤدّي إلى عدم تحقّق النصرة.
نصرة المؤمنين
إضافة إلى نصرة وليّ الله هناك حثّ على نصرة المؤمنين والمظلومين، ففي الصحيفة السجاديّة: «اللهمّ إنّي أعتذر إليك من مظلوم ظُلم بحضرتي فلم أنصره»[2]، والمجتمع الإيمانيّ ينصر بعضه بعضاً، كما فعل موسى (عليه السلام) حين وجد رجلين يقتتلان، واستغاثه الذي من شيعته، فنصره موسى على عدوّه، ولم يكن ليتركه لمصيره في مواجهة عدوّه من جنود فرعون الذين يستكبرون على الناس ويظلموهم.
فالمطلوب أن ينتصر المؤمنون بعضهم لبعض، ولا يتخاذلوا عن نصرة بعضهم بعضاً حتَّى لا يستضعفهم العدوّ، ولذلك فنصرة المؤمنين واجبة كنصرة الوليّ.
[1] الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، من كتاب له (ع) 53، ص430.
[2] الصحيفة السجّادية الكاملة، مصدر سابق، ص187.
69
55
الدرس العاشر: النصرة
نماذج من التاريخ
يُحدّثنا التاريخ كيف تخلّف بعض الناس عن نصرة الحسين (عليه السلام) وذلك بسبب عدم امتلاكهم للبصيرة وانخداعهم بالإشاعات التي بثّها ابن زياد والجهاز الأمويّ الحاكم، وهذا الخذلان كان بسبب تخلّف الناس عن مسلم بن عقيل، وكان المتخلّفون صنفين:
الصنف الأول: هم الذين تركوا نصرة مسلم خوفاً أو طمعاً، فبعضهم ترك مسلماً خوفاً من سيف ابن زياد، برغم أنّ ابن زياد كان معه ثلاثون شخصاً فقط، وهم عشرات الألوف، وبعضهم ترك نصرته طمعاً في المال والذهب الذي اشترى به ابن زياد رؤساء العشائر.
الصنف الثاني: لم يكن من الذين يهمّهم المال والذهب، وكانوا يمتلكون الشجاعة الكافية، ولكنّهم لم يُحسنوا تقدير الموقف بسبب ضعف بصيرتهم، فقالوا علينا أن ننتظر الحسين (عليه السلام) وبالتّالي تخلّفوا عن مسلم وتركوه وحيداً، ولو كانوا يمتلكون البصيرة الكافية لما تخلّوا عن مسلم في اللحظة الحاسمة، ولكنّهم استيقظوا متأخّرين من غفلتهم، وعلموا أنّهم أخطأوا، ولكن بعد فوات الأوان واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، فقاموا بثورة سُمّيت ثورة التوّابين؛ ضمّت أشخاصاً من الصنفين السابقين، واستشهد غالبيتهم في معركة عين وردة.
وعلى هذا الأساس فنصرة الوليّ تحتاج إلى أمرين، الأوّل: الشجاعة في مواجهة التهديدات، والعفّة في مواجهة المغريات، والأمر الثاني: هو الوعي وقوّة البصيرة للتمكّن من قراءة خلفيّات الأحداث بشكل واضح.
«اللّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَنْصارِهِ وَأَعْوانِهِ، وَالذَّابِّينَ عَنْهُ، وَالمُسارِعِينَ إِلَيْهِ فِي قَضاء حَوائِجِهِ، وَالمُمْتَثِلِينَ لأوامره، وَالمُحامِينَ عَنْهُ، وَالسَّابِقِينَ إِلى إِرادَتِهِ، وَالمُسْتَشْهَدِينَ بَيْنَ يَدَيْه»[1].
[1] الشيخ عبّاس، القمّيّ، مفاتيح الجنان (دعاء العهد)، مصدر سابق، ص776.
70
56
الدرس الحادي عشر: آثار الولاية
الدرس الحادي عشر: آثار الولاية
تمهيد
الولاية هي المعيار في سعادة البشر أو شقائهم، فمن تولّى الله -سبحانه- وأولياءه حظي بسعادة الدارين، ومن تولّى الشيطان وأولياءه خسر الدنيا والآخرة. وقد وصف القرآن الكريم حزب الله بأنّهم هم الغالبون والمفلحون.
الولاية هداية
إنّ سبب الغلبة والفلاح لأبناء حزب الله، والخسران لأولياء الشيطان، هو حسن الولاية وسوؤها. والله -تعالى- لم يرتضِ وليّاً على عباده، إلّا الصفوة من خلقه، وخيرة عباده الذين يُحسنون الولاية على الناس، وبرغم ذلك يتولّى بعض الناس الطواغيت أصحاب الأهواء والمصالح الخاصّة الذين يتسبّبون بتفشّي الجوع وانتشار المرض وشيوع الفساد الأخلاقيّ والاجتماعيّ.
فأبناء حزب الله يتولّون الصالحين الذين يهدونهم سبيل الرشاد، وأبناء حزب الشيطان يتولّون المستكبرين المفسدين الذين يسلكون بهم سبيل الغي. ومن البديهيّ أنّ أولياء الله -جلّ وعلا- يهدون الناس إلى طريق السعادة في الدنيا الآخرة، كما يقول القرآن الكريم على لسان مؤمن آل فرعون: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِيٓ ءَامَنَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُونِ أَهۡدِكُمۡ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ﴾[1] في حين يُضلّ أولياء الشيطان أتباعهم، قال
[1] سورة غافر، الآية 38.
72
57
الدرس الحادي عشر: آثار الولاية
-تعالى-: ﴿وَأَضَلَّ فِرۡعَوۡنُ قَوۡمَهُۥ وَمَا هَدَىٰ﴾[1] وكذلك حين ترك بنو إسرائيل طاعة هارون في غيبة موسى وأطاعوا السامريّ ويصف القرآن ذلك بقوله -تعالى-: ﴿فَإِنَّا قَدۡ فَتَنَّا قَوۡمَكَ مِنۢ بَعۡدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ﴾[2].
وهذه الهداية لا تنعكس على مصير الإنسان في الآخرة وحسب، بل تتجلّى بأبهى صورها في الدنيا، في حال تولّى الناس أولياء الله -سبحانه-، وأقاموا أحكام الله فيهم، قال -تعالى-: ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ﴾ ويقول -تعالى-: ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰت مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾[3] كما أنّ الحكم الإلهيّ حين يقام يؤدّي إلى زيادة في المال والبنين: ﴿وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰل وَبَنِينَ﴾[4] ويُعطي المجتمع قوة: ﴿وَيَزِدۡكُمۡ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمۡ﴾[5].
نماذج قرآنيَّة
فأولياء الله إذا مكّنهم الله تعالى في الأرض، منعوا الفساد وحاربوا الجهل ومنعوا البغي والتعدّي، وقد عرض لنا القرآن الكريم نماذج من الحكم الإلهيّ في قصّة ذي القرنين حين وصل إلى يأجوج ومأجوج المفسدين في الأرض، فأقام سدّاً وعزلهم عن الناس ومنعهم من الاعتداء عليهم، وحين وصل إلى غرب الأرض وجد قوماً، فأقام فيهم العدل، وقال: ﴿أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ﴾[6] وكذلك يُحدّثنا القرآن الكريم كيف استنقذ موسى بني إسرائيل من ظلم فرعون، قال -تعالى-: ﴿وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ﴾ وكذلك العدل الذي أُقيم في دولة داوود وسليمان، فالدين إن حكم يستنقذ الناس ويُحرّرهم من ولاية الشيطان إلى ولاية الله، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن حكم الجور إلى سعة العدل.
[1] سورة طه، الآية 79.
[2] السورة نفسها، الآية 85.
[3] سورة الأعراف، الآية 96.
[4] سورة نوح، الآية 12.
[5] سورة هود، الآية 52.
[6] سورة الكهف، الآية 87.
73
58
الدرس الحادي عشر: آثار الولاية
وهذا ما سوف يحصل في آخر الدول، دولة الإمام المهديّ(عليه السلام) حيث يرتفع مستوى العقل البشريّ وتتّسع العلوم، ويعمّ العدل والأمن والصلاح، ويبيد الجبابرة والطواغيت والفاسدين، ففي الرواية عن أبي جعفر(عليه السلام): «اذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم»[1] أي تزداد قوّة العقل البشريّ نتيجة التربية المهدويّة للناس في ظلّ حكمه التي عبّر عنها بوضع يده على رؤوسهم.
إذن الولاية هي الطريق إلى سعادة الدنيا، وكذلك هي الطريق إلى سعادة الآخرة؛ وذلك أنّ وليّ الإنسان في الدنيا هو وليّه في الآخرة، ومن الطبيعيّ أن يُميّز الله -تعالى- من تولّاه ممّن تولّى عنه، ويُحسن عاقبة من طبّق تعاليمه في الدنيا والآخرة.
آثار الولاية
ذكرت الروايات الشريفة آثاراً عظيمة في الآخرة لمن تولّى وليّ الله، منها:
1- قبول الأعمال: فقد أكّدت الروايات أنّ الولاية لوليّ الله هي سبب قبول الأعمال، وأنّ التولّي عن وليّ الله سبب لإحباطها، والسبب في ذلك أنّ الأولويّة هي لوقوف الإنسان مع الحقّ؛ لأنّه لا معنى لصلاة شخص يُصلّي لله -سبحانه-، ويقف محارباً ومعادياً لأوليائه، فالولاء السياسيّ للحقّ ولدولة الحقّ ولحكم الحقّ هو الأساس، فإن كان هذا الأساس موجوداً ارتفع بناء الإنسان المؤلّف من أعماله، ومن لم يتولَّ الحقّ كان بنيانه بلا أساس، كما قال -تعالى-: ﴿أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَار﴾[2] ففي الإسلام لا قيمة لشيء إن لم يكن الإنسان موالياً للحقّ، فبرغم قداسة المسجد العالية، إلّا أنّ رسول الله أحرق المسجد الذي بناه المنافقون، برغم أنّهم كانوا يُصلّون فيه، ويقيمون الجماعة فيه إلّا أنّهم اتّخذوه مرصادًا لمن حارب الله ورسوله، فلذلك لم يكن له ولا لصلاتهم ولا لجماعتهم أيّ قيمة. وهذا ما حصل أيضاً في النهروان مع أهل الليل وأصحاب الجباه السود وحملة القرآن، لكن لم يكن هناك أي قيمة لهذه الأمور؛ حيث لم يوالوا وليّ الله بل حاربوه، وهم
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص25.
[2] سورة التوبة، الآية 109.
74
59
الدرس الحادي عشر: آثار الولاية
الذين قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم»[1]. وفي هذا العصر قد يختبئ بعضهم وراء الشعائر الحسينيّة ومجالس العزاء واللطم والبكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) إلّا أنّه لا يتولّى أهل الحقّ ووليّهم الفقيه الجامع للشرائط نائب الإمام المهديّ(عجل الله تعالى فرجه) بل يُحاربه، ويتآمر عليه، ويسعى إلى إضعاف الجمهوريّة الإسلاميّة دولة صاحب العصر والزمان.
والسؤال الأساس الذي يُسأل أيّ إنسان قبل أن يُسأل عن أيّ شيء آخر هو من تتولّى؟
فإن كان موالياً لوليّ الله كانت أولى عطايا الله -تعالى- له أنّه يتقبّل منه عمله، وهذه بشارة ما بعدها بشارة، أن يعمل الإنسان شيئاً ويعلم أنّ الله -تعالى- يتقبّله إلّا أن يُفسده الإنسان نفسه.
فأعمال غير الموالين حتماً غير مقبولة، في حين يكون الأصل في أعمال الموالين أنّها مقبولة إلّا أن يُفسدوها برياء أو غيره.
2- البشارة عند الموت: كذلك من الأمور التي يُميّز الله -تعالى- بها الموالين أنّهم يغتبطون في ساعة الموت، ويُبشّرهم الله -تعالى- بالجنّة والنعيم، ففي الرواية عن صادق أهل البيت (عليهم السلام): «إنّما بين أحدكم وبين أن يغتبط أن تبلغ نفسه ههنا -وأهوى بيده إلى حنجرته-»[2].
فالموالي المطيع لوليّ الله يُبشّر بنعيم الأبد، ويؤذن له بالسعادة قبل خروج روحه من بدنه، في حين يُبشّر الموالون لأهل الباطل بعذاب الأبد.
ودرجة سعادة الموالي تابعة لدرجة طاعته، فالموالي المطيع لأمر الله -سبحانه- لا تشوب سعادته شائبة لا في لحظات الموت ولا في البرزخ أو القبر، ولا في القيامة ولا بعد الحساب؛ لأنّه يجد وليّه معه دائماً كما كان مع وليّه دائماً، وكلّما قلَّت درجة الطاعة قلَّت درجة السعادة، وهو ما يُعبّر عنه بالموالي المسرف على نفسه أي إنّه يُطيع حيناً، ويعصي حينا،ً لكنّه ما زال في دائرة الولاية، كحال الابن الذي يُخالف أمر أبيه لكنّه يبقى في البيت مقرّاً ومعترفاً بسلطة أبيه، وإن خالفه حيناً فهو موالٍ لكنّه مسرف، بخلاف الابن الذي يخرج من البيت، ويُعلن
[1] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج18، ص124.
[2] العلَّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج27، ص163.
75
60
الدرس الحادي عشر: آثار الولاية
تمرّده على سلطة أبيه، فيكون مسرفاً وخارجاً من الولاية أيضاً. كما أنّ عاقبة ولاية الشيطان والجبابرة والمستكبرين هي الخسران المبين، ويُحدّثنا القرآن الكريم عن مصير الذين تولّوا فرعون حيث يقول: ﴿يَقۡدُمُ قَوۡمَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَأَوۡرَدَهُمُ ٱلنَّارَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡوِرۡدُ ٱلۡمَوۡرُودُ﴾[1] وقال -تعالى-: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا﴾[2] كما تُحدّثنا الآيات الكريمة عن براءة المتبوعين من التابعين قال -تعالى-: ﴿إِذۡ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ﴾[3] ويُحدّثنا عن تخاصمهم فيما بينهم وعن مصيرهم المشترك في النار.
وقد يكون هذا العطاء باعتبار أنّ الالتزام بالولاية يؤدّي إلى أن يتعرّض الموالون للشدائد والضغوط والحصار والفقر وغيرها من البلاءات، وحيث إنّ الأجر على قدر المشقة، فإنّ الله -تعالى- يُعطي الموالي أجراً متناسباً مع حجم التضحيات التي يُقدّمها، ومن غير المنطقيّ أن نُساوي بين الموالي وغير الموالي.
تنبيه للموالين
ينبغي للموالي أن يلتفت إلى أن لا تكون الولاية وآثارها سبباً لتكبّره على خلق الله، فالموالون متواضعون ويمشون على الأرض هوناً، كما ينبغي للمؤمن الموالي أن يبقى خائفاً، ولا يأمن نفسه الأمارة بالسوء، ويحذر سوء الخاتمة، ويسأل الله حسن العاقبة، فالموالي مثلاً كطالب المدرسة الذي يعلم أنّ مصير الطالب المجد يختلف عن مصير الطالب المهمل، لكنّه برغم جدّه ونشاطه يبقى خائفاً من النتيجة، وقد ورد أنّ المؤمن لا يُصلحه إلّا الخوف، فهو إن سُئل عن مصيره يكون خائفاً، وإن سُئل عن مصير الموالين يكون مطمئناً إلى أنّ مصيرهم يختلف عن مصير غير الموالين.
هل تشمل هذه الآثار ولاية الفقيه؟
إنّ ولاية الفقيه ليست ولاية مستقلّة بل هي ولاية مستندة إلى ولاية المعصوم، فهي تعبير عن موالاة إمام الزمان في غيبته، ويمكن القول: إنّ ولاية الفقيه هي الباب الطبيعيّ لولاية أهل البيت (عليهم السلام).
[1] سورة هود، الآية 98.
[2] سورة النساء، الآية 115.
[3] سورة البقرة، الآية 166.
76
61
الدرس الحادي عشر: آثار الولاية
فبهذا الاعتبار يمكن القول: إنّ آثار الولاية للمعصوم تتحقّق في زمن الغيبة كما تتحقّق في زمن الظهور، وهذا لا يعني أنّ الذين لا يؤمنون بولاية الفقيه خارجون عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وولايتهم، كما أنّ عدم موالاة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لا يعني الخروج عن الإسلام، فقد يكون غير الموالي مغرّراً به أو مشتبهاً، وقد يكون معادياً، ولذلك فإنّ حكم المخالف لولاية أهل البيت (عليهم السلام) يختلف عن حكم الناصب للعداء، كذلك لا يمكن المساواة بين من يُخالف الفقيه وبين من يُعاديه ويُحاربه، كما أنّه لا يمكن المساواة بين من يُواليه وبين من يُخالفه.
والخلاصة: إنّ لولاية أولياء الله المتمثّلة بولاية كلّ أهل زمان إمام زمانهم آثار ثابتة منذ آدم (عليه السلام) إلى قيام الساعة.
77
62
الدرس الثاني عشر: من هو وليّنا (1)
الدرس الثاني عشر: من هو وليّنا (1)
تمهيد
الأصل في الولاية أنّها للمعصومين (عليهم السلام)، منذ آدم (عليه السلام) إلى المهديّ خاتم الأوصياء صلوات الله عليهم أجمعين، فالمعصوم يرافق البشريّة منذ بدئها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وفي غيبة المهديّ(عجل الله تعالى فرجه) تتمثّل ولايته بنائبه وهو أحد الفقهاء، وقد نُسبت طاعة الفقيه إلى طاعة إمام الزمان والرسول وطاعة الله -تعالى-، ولأنّ الفقهاء يستنبطون أحكام الله تعالى ورسوله وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ولا يبدون رأياً شخصيّاً أطلقت عليهم الروايات اسم «رواة حديثنا»؛ لأنّهم في الحقيقة يروون عن لسان أهل البيت (عليهم السلام). وقد سمّتهم روايات أخرى باسم الفقهاء، كما في الرواية الشريفة: «الفقهاء أمناء الرسل»[1].
صفات الولي الفقيه
يُعبّر عن الفقيه الذي يتّصف بالصفات المطلوبة باسم الفقيه الجامع للشرائط، وقد ذكرت بعض الروايات بعض صفات الفقهاء نذكر منها صفتين:
1- مخالفة الهوى: عن الإمام العسكريّ(عليه السلام): «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يُقلّدوه...»[2].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص46.
[2] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج27، ص131.
80
63
الدرس الثاني عشر: من هو وليّنا (1)
2- عدم اتّباع السلطان: «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم»[1].
تفيد الروايتان أنّ الفقيه يجب أن يكون متحرّراً من سلطتين، الأولى: سلطة السلطان الداخليّ وهو هوى النفس، والثانية: سلطة السلطان الخارجيّ وهو الطاغوت، وقد عبّر القرآن الكريم عن متبّع الهوى قائلاً: ﴿أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ﴾[2] وعن أتباع السلطان الخارجيّ بقوله -تعالى-: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠﴾[3] فالفقيه الجامع للشرائط هو الموحّد الحقيقيّ الذي لا يخضع لغير الله -تعالى-، سواء كان هوى أو سلطاناً، وحين يحكم فلا يحكم بحكمه هو، بل يسعى لمعرفة حكم الله -تعالى- ويحكم به.
التحرّر من السلطان الداخليّ
والتحرّر من سلطة الهوى يكون باتّباع الضوابط الإلهيّة، وبذلك يكون الخضوع لسلطة الله -جلّ وعلا- بدل سلطة الهوى، ويُقدّم الفقيه هوى الله سبحانه على هوى نفسه، ويصبح هواه في هوى الله -تعالى-، فمن كان في هوى الله كان الله في هواه، فهو يجعل هواه تابعاً للحقّ، وليس الحقّ تابعاً لهواه.
والتشديد على هذه الصفة؛ لأنّ مقام الفقيه مقام خطير جدّاً، وذلك أنّ مقدرات الأمّة الماليّة والبشريّة بيده، واتّباعه للهوى دون شكّ يؤدّي إلى الفساد، ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ﴾[4].
التحرّر من السلطان الخارجيّ
وهو أن لا يخضع الفقيه للسلطان طلباً لما عنده، ولذلك لا يتّبع الفقيه السلطان؛ لأنّه زاهد بما عنده، في حين يحتاج السلطان إلى ما عند الفقيه ليُدير دولته، أي يحتاج إلى علمه، ولذلك نجد أنّ الخلفاء استعانوا على مرّ الزمن بالأئمة (عليهم السلام) وليس العكس، وهكذا حال الفقهاء العظام الذين يستعين السلطان بعلمهم،
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص46.
[2] سورة الجاثية، الآية 23.
[3] سورة الأحزاب، الآية 67.
[4] سورة المؤمنون، الآية 71.
81
64
الدرس الثاني عشر: من هو وليّنا (1)
فيدفعون الباطل ويقيمون الحقّ، ففي المأثور: «إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك، وإذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فنعم الملوك ونعم العلماء»[1].
إنّ دور الفقيه هو أن يقف بوجه الطواغيت والمستكبرين المتمثّلين بالشيطان الأكبر أمريكا في هذا العصر، ويُحرّر الأمة من الهيمنة والاستعباد والاستعمار، ويقود الأمّة ويُنجيها من المؤامرات والمكائد والمكر، ويجعلها أمّة عزيزة قويّة مقتدرة محترمة بين الشعوب، وذلك من خلال حسن ولايته عليها.
حسن الولاية
إنّ حسن الولاية يعني أن يُراعي الوليّ مصالح المولّى عليهم، وذلك من خلال تأمين احتياجاتهم المختلفة، على كافّة المستويات، فالولاية تعني حسن إدارة المقدَّرات والثروات والكفاءات الموجودة في الأمّة، في حين تؤدّي ولاية الآخرين إلى الفساد قال -تعالى-: ﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ﴾[2] فعاقبة ولاية غير الصالحين هي هلاك الحرث والنسل، فالمشروع الإلهيّ هو الإصلاح ومحاربة الفساد، والمطلوب أن يعيش الناس حياة طيّبة، قال -تعالى-: ﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِن فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰة طَيِّبَةۖ﴾[3] وتقع مسؤوليّة تأمين الحياة الطيّبة على الوليّ، الذي عليه أن يُحسن الولاية من خلال إدارة مقدَّرات الأمّة، وذلك من خلال تطبيق القوانين والضوابط الإلهيّة.
القانون الإلهيّ
إنّ تطبيق القانون الإلهيّ، وإدارة شؤون الأمّة بالضوابط الإلهيّة لا البشريّة، يحتاج إلى توافر صفات عدّة في الفقيه، وهي:
1- العلم بالقانون: فمن البديهيّ أنّ الفقيه لن يتمكّن من تطبيق القانون الإلهيّ إن لم يكن عالماً به، ولذلك فهو يبذل الجهد ليكتشف ويستنبط الشريعة الإلهيّة،
[1] القمّيّ، الشيخ عبّاس، الكنى والألقاب، طهران، مكتبة الصدر، لا.ت، لا.ط، ج1، ص272.
[2] سورة البقرة، الآية 205.
[3] سورة النحل، الآية 97.
82
65
الدرس الحادي عشر: آثار الولاية
وهذا ما يُسمّى بالاجتهاد، وكذلك يحتاج إلى معرفة بأمور الزمان والمكان ليتمكّن من التعامل مع الموضوعات العصريّة بشكل مناسب.
2- العدالة: وتعني أن يُطبّق الفقيه القانون على نفسه، من خلال التزامه التامّ بالضوابط الإلهيّة، ومن البديهيّ أنّ من أراد أن يُطبّق القانون على الناس فعليه أن يُطبّقه على نفسه أولاً، يقول الإمام الخمينيّ(قدس سره): «إنّ كلمة كذب واحدة أو نظرة حرام واحدة كفيلة بأن تُسقطه عن العدالة. فمثل هذا الإنسان لا يُخالف القانون أبداً»[1].
ويحتاج الفقيه إلى مجموعة من الصفات تجعله قادراً على أن يكون عالماً بالقانون ومطبّقاً له، من قبيل القدرة على الضبط، وعدم النسيان غير المتعارف عليه، وورع يحجزه عن معاصي الله -تعالى-، كما يحتاج إلى القدرة على التبيين والتوضيح، والشجاعة ليتمكّن من قول كلمة الحقّ في مختلف الظروف، وإلى حسن الإدارة ليتمكّن من تطبيق الأحكام الإلهيّة في المجتمع وسط التحدّيات، وكذلك إلى اللطف بالرعيّة، ويمكن أن نُطلق على مجموع هذه الصفات القدرة على القيام بالأمر أو الكفاءة.
إنّ امتلاك الفقيه لهذه الصفات تُمكّنه من أن يُحسن ولايته على الأمّة، ويمكن القول إنّ العقل السليم، والقلب السليم، والجسم السليم، أمور تتحقّق بتربية الوليّ للأمّة فهو الذي يُنمّي عقولهم، وهو الذي يسعى لبناء مجتمع خالٍ من الأمراض النفسيّة والجسميّة، وهو الذي يوزّع الثروات بشكل متوازن في المجتمع، وهو الذي يوجّه طاقات الأمّة ويستثمرها فيما هو في صالحها، وهو الذي يُنظّم الجهود ويوزّع الاهتمامات لسدّ الفراغات، ويوجّه أصحاب الطاقات أن لا يتوجّهوا إلى اختصاص واحد ويُهملوا سائر الاختصاصات، وكلّ هذا لا يتحقّق إلّا بوجود أمّة مطيعة محبّة مصدّقة...
إنّ حسن الولاية ينفع مع قلّة العدد، كما أنّ سوء الولاية لا ينفع معه كثرة العدد، وقد بيّن القرآن الكريم هذه المسألة بقوله -تعالى-: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَة يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفا﴾[2] وفي حال وجود بعض الثغرات التي عبر عنها القرآن الكريم بالضعف تكون المعادلة: ﴿ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ
[1] الإمام الخميني، روح الله، صحيفة الإمام، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني قدس سره، ط1، 2009م، ج11، ص133.
[2] سورة الأنفال، الآية 65.
83
66
الدرس الثاني عشر: من هو وليّنا (1)
ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَة صَابِرَة يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمۡ أَلۡف يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفَيۡنِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾[1] وكمثال على ذلك ما جرى في معركة بدر حين انتصر المسلمون انتصاراً ساحقاً على المشركين، وكانت النتيجة قتل سبعين من مشركي مكّة وأسر سبعين، ويصف الله تعالى تلك الواقعة بقوله: ﴿وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡر وَأَنتُمۡ أَذِلَّةۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾[2] وهذا ما حصل مع طالوت حين واجه جيش جالوت بقلّة في العدّة والعدد: ﴿كَم مِّن فِئَة قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَة كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾[3] وهذا ما حصل في لبنان في بدايات المقاومة حيث تصدّى بضعة شبّان للاحتلال وكبرت المقاومة ونمت شيئاً فشيئاً إلى أن أصبحت قوّة إقليميّة.
الفقهاء على امتداد عصر الغيبة الكبرى
بناءً على ما تقدّم فإنّ الأمّة لم تُترك في الفترة الممتدّة من بداية الغيبة الكبرى إلى وقت ظهور الإمام، بل أوكلت الأمور إلى الشخص القادر على إدارة شؤون الأمّة وهو الفقيه الجامع للشرائط، وهذا يعني ضرورة وجود الفقيه بقرينة إرجاع الناس إليه وكونه حجّة الله على الناس الذين يعيشون خلال هذه الفترة، ومن البديهيّ أنّه لا معنى للحجّيّة إذا لم يكن الفقيه موجوداً.
ولكلّ مدّة من مدد عصر الغيبة فقيهها الجامع للشرائط، ويجب على الناس أن يُبايعوه ويُطيعوا أوامره وينصروه ويتابعوه، وعلى كلّ أهل فترة من فترات عصر الغيبة أن يعرفوا وليّهم الفقيه.
وكما اختلف حال الأئمة (عليهم السلام) من جهة قلّة الناصر، كذلك يختلف حال الفقهاء، فقد لا يجد الفقيه أنصاراً، ولا يسعه إقامة دولة العدل، وقد يتمكّن من إقامة دولة حين يجد العدد المناسب من الأنصار، كما فعل الإمام الخمينيّ(قدس سره)، والذي أُطلق عليه محقّق حلم الأنبياء (عليهم السلام)، لكونه استطاع أن يُفجّر بثورة جماهيريّة كبرى لإقامة حكم الله -تعالى-، وأن يُقيم للحقّ دولة، وقد اعتبرها دولة ممهّدة للدولة الكبرى لإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه). ومن بعده جرى اختيار الفقيه الجامع للشرائط السيّد عليّ الخامنئيّ (دام ظله) -تعالى- وليّاً للأمر ونائباً للإمام المهديّ(عجل الله تعالى فرجه).
[1] السورة نفسها، الآية 66.
[2] سورة ال عمران، الآية 123.
[3] سورة البقرة، الآية 249.
85
67
الدرس الثالث عشر: من هو وليّنا (2)
الدرس الثالث عشر: من هو وليّنا (2)
تمهيد
استطاع الإمام الخمينيّ ومن بعده الإمام الخامنئيّ بحسن ولايتهما أن يقودا الأمّة إلى النصر والعزّة والكرامة والحرّيّة، وأن يُحرّرا الأمّة من التبعيّة للشرق والغرب، ويُقيما دولة قائمة على الشريعة والقانون الإلهيّ، وبذلك تميّزت عن الكثير من الدول ونافست الدول الكبرى على المراتب الأولى علميّاً وتقنيّاً، وفي بعض المجالات الاجتماعيّة لم يكن لها منافس على مستوى التماسك الاجتماعيّ واستنقاذ الشعوب من التبعيّة والاحتلال والضعف، وهذا ما حصل في لبنان من خلال تأسيس مقاومة قادرة مقتدرة، تُعطي العزّة للبنان وشعبه وتقطع أيدي المحتلّين، وهذا ما حصل أيضاً في العديد من الدول التي حظيت بدعم الجمهوريّة الإسلاميّة.
سعة الولاية وتجلّياتها
ويتّضح ممّا تقدّم أنّ ولاية الوليّ ليست ولاية عسكريّة في حال الحرب فقط بل هي ولاية اقتصاديّة وثقافيّة و...؛ لأنّ الهزيمة في ميدان الاقتصاد هزيمة في ميدان السياسة، وكذلك الهزيمة في ميدان الثقافة يتحوّل إلى هزيمة سياسيّة. فولاية الوليّ ولاية على كلّ ما يتعلّق بشؤون المجتمع وتحقيق عزّته وكرامته ورفاهيته وأمنه وسلمه وقوّته واقتداره واحترامه من قِبَل سائر المجتمعات والقوى العالميّة.
وقد كان أنبياء الله(عليهم السلام) يتولّون أمور الناس في الحرب والسلم وفي الاقتصاد والثقافة، وهو ما نراه واضحاً في حركة النبيّ موسى (عليه السلام) الذي سعى في خلاص بني إسرائيل من فرعون، ثمّ عبر بهم البحر وطلبوا منه أن يجعل لهم إلهاً كما
86
68
الدرس الثالث عشر: من هو وليّنا (2)
لهم آلهة! فقال لهم موسى: إنّكم قومٌ تجهلون، وكذلك وجّههم في معركتهم الاقتصاديّة ومعركتهم العسكريّة، فعصوا أمره فكانت عاقبتهم أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة وضُربت عليهم الذلّة والمسكنة.
وقد قاد سماحة الإمام الخمينيّ(قدس سره) هذه الأمّة في أشرس حرب فُرضت عليها، وقام بمواجهة الحرب الاقتصاديّة التي لا تقلّ شراسة عن الحرب العسكريّة، وكذلك تصدّى للحرب الثقافيّة التي تسعى إلى إزالة شخصيّة الأمّة وجعلها أمّة تابعة، وما زالت الجمهوريّة الإسلاميّة منذ انتصار ثورتها صامدة قويّة متلألئة، وتتقدّم لتنافس الدول الكبرى في الميادين العلميّة، والاكتشافات والاختراعات.
وكذلك تمكّن لبنان –بفضل توجيهات الإمام الخمينيّ(قدس سره) ومن بعده خليفته الإمام الخامنئيّ ودعمهم القضيّة المقاومة- أن يُحقّق انتصاراً ساحقاً على إسرائيل ويُخرجها من أرضه ذليلة خائبة، في معركة استمرّت ثمانية عشر عاماً، وبعدها استطاع حزب الله والمقاومة الإسلاميّة في لبنان أن يقف وقفة العزّ في وجه هذا الكيان المؤقّت إلى اليوم بقيادة الإمام السيّد عليّ الخامنئيّ (دام ظله).
وهذا ما لم يكن لولا حكمة الوليّ، وحسن ولايته في إدارة المقدَّرات والثروات الماليّة والمهارات والكفاءات البشريّة، وفي توجيه الأمّة نحو القيم السامية، وهو ما يُعبّر عن انتصار في الحرب الثقافيّة في مواجهة القيم الغربيّة.
وإلى اليوم لا يزال الإمام الخامنئيّ(دام ظله) يقود الأمّة في أصعب الظروف والتحدّيات إلى النصر والعزّة والكرامة.
ولبيان دور سماحة الإمام الخامنئيّ في المنعطفات الكبرى نستعرض بعض الشواهد التي تحدّث فيها سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) عن مواقفه[1] التي حفظت المقاومة في لبنان:
إنّ ما تواجهه أمّتنا هذه الأيام هو أكثر ممّا واجهته في السنوات الماضية، وانّ من مميّزات شخصيّة الإمام الخامنئيّ صوابيّة المواقف الحكيمة والشجاعة التي اتّخذها، والدقّة في اتّخاذ الموقف المناسب.
[1] انظر: الموقع الالكتروني لدار الولاية للثقافة للثقافة والإعلام، كلمة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) خلال افتتاح المؤتمر الفكري حول الإمام الخامنئي دام ظله، https://alwelayah.net/post/17107.
87
69
الدرس الثالث عشر: من هو وليّنا (2)
الشاهد الأول: مؤتمر مدريد 1991م
«يومها دعت أميركا جميع الوفود العربيّة بما فيها لبنان وسوريا إلى حضور المؤتمر، وبدا وكأنّ تغيّرات قد حصلت في العالم في ظلّ إعلان أميركا عن إنجاز سلام، وساد إجماع أو شبه إجماع على أنّه لا مفرّ من التسوية وأنّ الأميركيّ سيفرض الحلّ على المعنيّين بالتسوية، يومها كان للإمام الخامنئيّ رأي خارج هذا الإجماع، إذ قال: إنّ مؤتمر مدريد لن ينجح، وإنّ أميركا لن تستطيع أن تفرض حلّها على شعوب المنطقة. اليوم نستمع إلى أطراف شاركت في مؤتمر مدريد كيف تتحدّث عن عقدين من الخيبة والضياع والتيه في مسار المفاوضات. وتحدّث عمّا أسموه الاختراق الكبير الذي حصل في المفاوضات السوريّة الإسرائيليّة في العام 1996م وما حكي عن وديعة رابين، وسادت حالة في لبنان وسوريا وكلّ المنطقة توحي بأنّ هناك تسوية ستُنجز خصوصاً، وأنّ اتّفاقاً قد حصل في أوسلو مع السلطة الفلسطينيّة. وقال: «وأذكر أنّه في ذاك الجوّ السائد جاء من يقول: لا تُتعبوا أنفسكم إنّ الأمور انتهت، ولا داعي لتقديم الدماء والتضحيات، بل هناك من دعانا إلى ترتيب أمورنا على قاعدة أنّ التسوية قد أُنجزت وعلينا إعادة النظر بأسمائنا وخطابنا وبرنامجنا السياسيّ وكيفيّة ما علينا فعله بسلاحنا».
أضاف: «طبعاً إنّ أيّ خطأ في التقدير يومها سيكون له تداعيات خطيرة. ولكن خارج هذا الإجماع الذي كان مسيطراً في لبنان -وكان موجوداً عند عدد كبير من المسؤولين الإيرانيّين- فإنّني عندما ذهبت، أنا وعدد من الإخوة، إلى إيران والتقينا الإمام الخامنئيّ، قال لنا: أنا أعتقد أنّ هذه التسوية مع سوريا ولبنان لن تُنجز، وأنا أقترح عليكم أن تواصل المقاومة عملها وجهادها، وأن لا تُعيروا آذانكم لكلّ هذه الفرضيّات والدعوات». وتابع: «هذا الكلام كنّا ننظر إليه على أنّه خارج التحليل والسياق، وأنّه بعد عودتنا بأسبوعين اغتيل رابين على يد صهيونيّ متطرّف وكلّهم متطرّفون، وفي ظرف كانت حركتا حماس والجهاد الإسلاميّ تعرّضتا لضربة قاسية جداً لكنّهما استأنفتا العمليّات الاستشهاديّة في القدس وغيرها، وأتى بعدها التوتّر في جنوب لبنان وعُقد اجتماع في شرم الشيخ لإدانة الإرهاب الذي ألصقوه بحماس والجهاد، ثمّ كانت معركة عناقيد الغضب في نيسان 1996م وسقط بعدها بيريز وجاء نتانياهو فعادوا إلى الصفر أي إلى المربع الأول.
88
70
الدرس الثالث عشر: من هو وليّنا (2)
الشاهد الثاني: انتصار عام 2000م
«إنّ الإمام الخامنئيّ كان يؤكّد لنا إيمانه بنصر المقاومة، وكان يقول لنا ممازحاً «ليش الله بيمزح» مؤكّداً إيمان الإمام الخامنئيّ بما ورد في الآية القرآنيَّة. واستذكر قول الإمام الخامنئي بعد عام 1996م عندما وصف الإسرائيليّ بأنّه كالغارق في الوحل، وأن علينا أن ننتظر ما سيفعل هذا الإسرائيلي، ولكن مع استمرار المقاومة.
كما تحدّث عن وعود باراك ونتانياهو في تنافسهما في عام 2000 أثناء الانتخابات الإسرائيليّة، إذ كان الجوّ الحاكم في لبنان وسوريا يشير إلى أنّنا سنصل إلى الموعد والإسرائيليّ لن ينسحب من لبنان. وقال: «كنّا في حزب الله نتبنّى وجهة النظر هذه. ثمّ زرنا إيران والتقينا الإمام الخامنئيّ وكان له رأي مختلف ومفاجئ، إذ قال إنّ انتصاركم في لبنان قريب جدّاً وأقرب ممّا تتوقّعون، وسوف ترونه بعينكم، وكان هذا مخالفًا لما هو سائد، وكنّا نعمل على تحليله. مضيفاً: ذهبنا برؤية وعدنا برؤية أخرى.
الشاهد الثالث: تموز 2006م
وعن حرب تموز 2006، قال السيد نصر الله: في الأيام الأولى لهذه الحرب، كانت حرباً عالميّة على مستوى القرار، وعربيّة على مستوى الدعم في بعضها، وعسكريّة على مستوى إسرائيل. وكان عنوان الحرب هو سحق المقاومة، والحديث عن أيّ انتصار غير وارد وإنّما بالنجاة بسبب هذه الحرب الضارية على المقاومة. أضاف: سأُعلن لأوّل مرّة عن رسالة شفويّة وصلتني من الإمام الخامنئيّ وفيها، إنّ هذه الحرب تُشبه حرب الخندق عندما جمعت قريش ويهود المدينة والأحزاب وكلّ قواها وحاصرت النبيّ وأصحابه في المدينة وأخذت قرارها باستئصاله وجماعته. ولكنّ الإمام الخامنئيّ قال: أنتم منتصرون حتماً، بل أكّد أنّه عندما ستنتهي الحرب بانتصاركم لن تقف في وجهكم قوة.
الشاهد الرابع: 11 أيلول 2001م
وعن أحداث 11 أيلول وقرار الإدارة الاميركيّة بشنّ الحرب على أفغانستان والتهديد باحتلال العراق والتي احتلّوها لاحقاً، قال سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله (حفظه الله): «تذكرون كيف اعتقد كثر أنّ منطقتنا دخلت في العصر الأميركيّ وتحت سيطرته المباشرة، وأنهّا ستبقى فيه أكثر من مئتي عام مقارنين ذلك بالاحتلال الصليبيّ».
89
71
الدرس الثالث عشر: من هو وليّنا (2)
أضاف سماحته: يومها كنت في زيارة للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، والتقيت الإمام الخامنئيّ، فقال لي بخلاف ما كان شائعاً من تحليلات سياسيّة يومها، مشيراً إلى أنّ بعض المسؤولين من الإخوة في إيران كانوا يأتون إلى الإمام الخامنئيّ طالبين منه إيجاد حلّ مع الأميركيّين، لكنّه كان يرفض انطلاقاً من رؤيته الاستراتيجيّة للأوضاع، وقال لي في لقائنا يومها: لا تقلقوا فإنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة في بداية الانحدار، وهذه بداية نهاية المشروع الأميركيّ في منطقتنا، ويجب أن تتصرّفوا على هذا الأساس. سألتُه أن يشرح لنا أكثر، فقال لي: عندما تعجز أميركا عن عدم حفظ مصالحها في المنطقة من خلال حلفائها وتضطّر إلى المجيء بأساطيلها إلى منطقتنا فهذا دليل العجز وليس دليل قوة، وهذا يؤكّد أيضاً جهلهم بشعوب هذه المنطقة، هذه الشعوب التي تنتمي إلى ثقافة الجهاد. ونقل عن الإمام الخامنئي قوله: «إنّما يحصل ليس مدعاة خوف».
وتابع السيد نصر الله: «أميركا جاءت للسيطرة على منطقتنا، ولكي يسقطوا بقيّة أنظمة الممانعة، ولكي يُقيموا مشروع الشرق الأوسط الجديد، لكنّ الإمام الخامنئيّ كان قائد الممانعة في أخطر حرب تتطلّب الكثير من الحكمة والشجاعة والدراية، ولا يمكنني الكشف عن الكثير من الوقائع».
الشاهد الخامس: زوال إسرائيل
وعن فلسطين وإسرائيل، قال سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله): «إنّ الإمام الخامنئيّ يعتقد جازماً أنّ إسرائيل إلى زوال، وأنّ ذلك لقريب، وأنّ التسوية لن تصل إلى مكان. وكلّ ما يجري حولنا في فلسطين من هبّات لهذا الشعب وخارج فلسطين إنّما يُثبت أنّه شعب صاحب إرادة. هناك قادة محبطون، وليس هذا الجيل الفلسطينيّ هو المحبط. وربط بين تراجع أميركا في المنطقة وزوال إسرائيل، والتضحيات عند الشعب العربيّ والفلسطينيّ وغياب الزعامات في إسرائيل ليقول: إنّ كلّ ذلك يؤكد لنا رؤية الإمام الخامنئيّ لزوال إسرائيل. وأكّد أنّ هذه الصوابيّة في الرأي مبنيّة على صحّة القراءة الصحيحة للوقائع عنده، وعلى شجاعته الفكريَّة في اتّخاذ القرار إضافة إلى التسديد الإلهيّ»، مستخلصاً بالقول: «نحن أمام شخصيّة استثنائيّة تقرأ ما لم تقرأه التحليلات والدراسات».
90
72
الدرس الرابع عشر: من هو وليّنا (3)
الدرس الرابع عشر: من هو وليّنا (3)
القيادة الرشيدة والمرجعيَّة الفكريَّة للإمام الخامنئيّ(دام ظله)
يقول سماحة الأمين العام لحزب الله متحدثاً عن القيادة الرشيدة والمرجعية الفكرية للإمام الخامنئي(دام ظله)[1]:
شغل سماحة الإمام الخامنئيّ منذ بداية الثورة مواقع كبرى ومهمّة ومتقدّمة في ما يعني الإسلام والأمّة منها.
1- وليّ الأمر: فهو قائد الجمهوريّة الإسلاميّة ووليّ أمر المسلمين. ويستلزم هذا الموقع، إضافة إلى شروط الفقاهة والعدالة والتقوى وغيرها، يستلزم شرط الكفاءة والشجاعة. الكفاءة القياديّة: الكفاءة في قيادة الدولة هو قائد دولة. والكفاءة في قيادة أمّة، لأنّه وليّ أمر أمّة. وهذه الكفاءة تحتاج لتصبح حاضرة ومنجزة، إلى وعي تاريخيّ كبير، إلى وعي سياسيّ كبير، إلى معرفة سياسيّة واسعة، إلى تجربة اجتماعيّة وسياسيّة وحياتيّة أيضاً متنوّعة. إلى قدرة على تشخيص المصالح والمفاسد ومعرفة العدوّ والصديق، وكشف المؤامرات، وتحديد ومعرفة التهديدات والفرص؛ للاستفادة من الفرص ومواجهة التهديدات. وإلى قدرة إداريّة عالية أيضاً، لأنّ هذا الموقع يتطلّب منه تحديد المسؤوليّات وتوزيعها، وجمع الطاقات والاستفادة منها بشكل صحيح. إضافة إلى تحمّل الأعباء والضغوط الهائلة التي تنوء تحتها الجبال.
[1] انظر: موقع شبكة المعارف الإسلامية الثقافية، كلمة سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) في المؤتمر الثاني للتجديد والاجتهاد الفكري في 10-06-2015م، almaaref.org.lb.
92
73
الدرس الرابع عشر: من هو وليّنا (3)
سماحة الإمام الخامنئيّ يتحمّل هذه المسؤوليّة الخطيرة منذ رحيل الإمام الخمينيّ(قدس سره) وعلى أحسن وجه. وقاد الجمهوريّة الإسلاميّة وشرائح كبيرة في هذه الأمّة وفي أصعب الظروف والمراحل التاريخيّة. يعني أنّنا نرى خلال خمس وعشرين سنة، تحوّلات موجودة في المنطقة والعالم: التهديدات التي يوجّهونها للإسلام والأمّة الإسلاميّة عموماً، والجمهوريّة الإسلاميّة في إيران خصوصاً. حجم المؤامرات، الصعوبات، العقوبات؛ كل هذا، وسماحة الإمام الخامنئيّ كان يواجه هذه التهديدات ويتمكّن من تحويل أغلب هذه التهديدات إلى فرص. إلى أن أصبحت إيران اليوم قوّة إقليميّة عظمى في المنطقة يعترف بها العالم ويحسب لها الصديق والعدوّ كلّ حساب. وأصبحت شعباً ودولة ومجتمعاً، تمشي مجدّةً في طريق التطوّر والتقدّم على كلّ صعيد: التجربة السياسيّة، على المستوى العلميّ، على المستوى المعرفيّ، على المستوى التكنولوجيّ، على المستوى الصناعيّ، على المستوى الاقتصاديّ؛ على كلّ المستويات الأخرى.
هذا الجانب من شخصيّته كقائد... نعرفه من خلال سيرته القياديّة، وأدائه وعمله. وكذلك من خلال خطبه ومواقفه وإرشاداته وبياناته، التي واكبت وتواكب جميع الأحداث والتطوّرات في إيران والمنطقة والعالم.
2- المرجعيَّة الفكريَّة: إنّ أحد الأدوار المناطة بالوليّ هي المرجعيَّة الفكريَّة للموالين، إضافة إلى المرجعيَّة الدينيّة والسياسيّة وقيادة الأمّة، وقد كان سماحة الإمام الخامنئيّ مرجعاً فكريّاً للأمّة بكلّ ما للكلمة من معنى، وهذا ما سوف نبينه بالاستفادة ممّا ورد على لسان سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله):
الإمام الخامنئيّ (دام ظله) المفكّر الإسلاميّ الكبير
سماحة الإمام الخامنئيّ(دام ظله)، منذ بداية تحصيله العلميّ -يعني منذ شبابه- كان لديه اهتمام فكريّ وثقافيّ واسع. وكان لديه جهد كبير على المستوى العلميّ والثقافيّ والفكريّ من خلال المتابعة والمطالعة خارج دائرة العلوم الحوزويّة. عادة، نحن نذهب إلى الحوزة وأولويّتنا هي العلوم الحوزويّة التي ندرسها. لكنّ سماحته منذ البداية كان له اهتمام واسع ومتنوّع في قراءة التاريخ والسيرة والأدب والشعر والمفاهيم والروايات لشتّى كتّاب روايات من العالم. وسواء في إطار الثقافة الإسلاميّة الشيعيّة الخاصّة، أو في إطار الثقافة الإسلاميّة العامة. ولذلك معرفة
93
74
الدرس الرابع عشر: من هو وليّنا (3)
سماحة الإمام الخامنئيّ بعلماء أهل السنّة، وبكتبهم ومؤلّفاتهم وتحقيقاتهم هي معرفة واسعة وعميقة جدّاً. وعلى مستوى الثقافة الإنسانيّة والثقافة الأخرى أيضاً؛ الموضوع لم يقتصر على الثقافة الإسلاميّة، سواء كانت شرقيّة أو غربيّة. بعض الإخوة نقلوا لي من الإخوة الباكستانيّين والهنود، كانوا يقولون لي: عندما نجلس مع سماحة السيّد القائد ونتحدّث عن منطقتنا نشعر أنّه يعرف أكثر منّا في ثقافات شبه القارة الهنديّة وأدبيّاتها وعاداتها وتقاليدها وتاريخها وشخصيّاتها؛ ليس الشخصيّات السياسيّة: الملوك والأمراء وقادة الجيوش؛ بل الفلاسفة، العرفاء، الأدباء، الشعراء. وهذا طبعاً أمر بدأ معه مبكّراً. وسماحته لم ينقطع عن هذا الاهتمام والمتابعة حتّى اليوم برغم الانشغالات الهائلة.
هذا المستوى من الاهتمام الثقافيّ الواسع والعريض والمتنوّع، قلّ ما نجده عند علماء الدين عموماً. مثلاً؛ هذه العناية الخاصّة من قبل سماحته بالحضور في كلّ سنة في معرض الكتاب في طهران، ويمضي ساعات في المعرض. هذه السنة مثلاً، ساعات عديدة ويدخل من غرفة إلى غرفة، من دار نشر إلى دار نشر: يسأل عن الكتب، يسأل عن الجديد من الكتب، عن الموضوعات الجديدة التي تجري معالجتها، على مستوى المبيعات، وعلى مستوى المؤلّفين الذين بعضهم أحياء وبعضهم أموات. يتابع هذه التفاصيل التي تفاجئ وتُذهل جميع الحاضرين.
لا يوجد زعيم في العالم الآن -لا أتصوّر، على حدّ معلوماتي، لا يوجد زعيم في العالم- يُعطي ساعات من وقته في مسألة من هذا النوع أنّه: كلّ سنة يريد أن يذهب إلى معرض الكتاب ويتفحّص الأمور بهذا التفصيل. هذا طبعاً ليس أمراً استعراضيّاً، وإنّما هو دليل ومحفّز من قبل سماحة السيد القائد للأمّة وللأجيال وللشباب في هذا الاتّجاه: الاهتمام بالمعرفة وبالثقافة وبالكتب وبالمطالعة.
يلتقي سماحته على مدار السنة -لساعات عديدة أيضاً- مع شرائح مختلفة في الجانب الفكريّ والثقافيّ: علماء ومفكّرين وفقهاء وأدباء وشعراء وفنّانين؛ يعني سينما وتلفزيون وموسيقى وخطباء ومدّاحين وأساتذة جامعات وطلّاب جامعات، ويستمع إليهم وإلى ملاحظاتهم. طبعاً التلفزيون الإيرانيّ يبثّ أحياناً ساعات من هذه المناقشات التي تحصل. هم يقولون ما لديهم: الاهتمامات، المشاكل، المخاوف، الهواجس، التحدّيات، اقتراحات المعالجة، كلّه في الجانب الفكريّ والعلميّ والمعرفيّ والثقافيّ، وسماحته يصغي إليهم، ويُسجّل ملاحظات،
94
75
الدرس الرابع عشر: من هو وليّنا (3)
ويُعلّق ويُعقّب على ملاحظاتهم وآرائهم ويُدلي بما عنده. وهذا يشمل مساحات واسعة جدّاً من القضايا الفكريَّة والثقافيّة والمعرفيّة. وأستطيع هنا أيضاً أن أقول بحسب معلوماتي: لا أعتقد أنّه يوجد اليوم في هذا العالم، زعيم أو قائد مهما كان المستوى لديه -قائد دولة كبيرة أو قائد جماعة صغيرة- يعطي من وقته وفي موقع قياديّ مهمّ، يعطي من وقته ومن اهتمامه ومن عنايته هذا الجهد ولديه هذا التواصل المباشر وهذا الاستماع المباشر للمخاوف والهواجس والمشاكل التي تعانيها هذه الشرائح، وهذه الأمّة.
على كلّ حال، هناك عوامل عديدة لا شكّ في أنّها ساهمت وساعدت إلى جانب الجهد الشخصيّ لسماحة القائد، في أن يحتلّ أو أن يشغل موقع المفكّر الإسلاميّ الكبير وبشكل استثنائيّ. منها على سبيل المثال، أولاً: موقعه القياديّ، لكونه قائداً، موقعه القياديّ يتيح له -لسماحته- الاطّلاع الواسع بل الإحاطة العميقة بجميع القضايا الفكريَّة والمسائل الثقافيّة التي تعني البلد والأمّة والشعوب وخصوصاً جيل الشباب من خلال مؤسّسات الدولة ومراكز الأبحاث والدراسات ومؤسّسات المعلومات ومن خلال التواصل المباشر مع كلّ من يرغب أن يتّصل به أو يُصغي إليه. هذا -موقع القيادة- يُتيح له هذا الأمر.
فقيه في أعلى درجات الفقاهة
من جملة العوامل التي تجعل منه فقيهـاً ومفكّراً أيضاً من نوعٍ آخر، هو كونه فقيهاً في أعلى درجات الفقاهة. هذا يجعله أيضاً مفكّراً مميّزاً. لأنَّ المفكّر عندما يكون فقيهاً تتوفّر لديه القدرة العليا على فهم النصوص الدينيّة. لديه كلّ المنهجيّة، وكلّ الوسائل، وكلّ الأدوات التي تمكنه من فهم النصوص الدينيّة بشكل صحيح وأصيل ونقي ومترابط وموضوعيّ ومتكامل.
عندما يكون المفكّر في موضع الفقيه هذا، سوف يجعل أيضاً إمكاناته العلميّة والفكريَّة واستنتاجاته في كلّ المجالات ذات الطابع الفكريّ والثقافيّ استنتاجات أصيلة ونقيّة ومتماسكة. ببساطة، لمن يتابع، لمن يطالع كتب سماحته المطبوعة ويتابع خطبه؛ خصوصاً في لقاءاته ذات الطابع الثقافيّ يمكنه أن يكتشف بسرعة وببساطة، أنّه أمام مفكّرٍ إسلاميٍّ كبيرٍ أصيلٍ ومبدعٍ ومجدّد: يطرح أفكاراً جديدة، ويُقدّم معالجات ومقاربات غير مسبوقة في شتّى قضايا الفكر المعاصرة. من
95
76
الدرس الرابع عشر: من هو وليّنا (3)
أهمّ مميّزاته كمفكّرٍ وفقيه، هذه الأصالة والاستقلاليّة الشخصيّة. يعني أنّه ليس مقلّداً في الاجتهاد الفقهيّ. عادةً الطلّاب حتّى لو صاروا مجتهدين يبقون متأثّرين بأساتذتهم، ويمشون خلف أساتذتهم. وأحياناً يتهيّبون أن يُخالفوا أساتذتهم في الفتوى أو في الاستنتاجات.
أصالة الانتماء وقوّته
هذه الأصالة، وهذه الاستقلاليّة وعدم الخضوع للضغوط الفكريَّة والنفسيّة والأجواء العامّة التي تسوق المثقّفين أحياناً إلى أوضاعٍ يضطّرون فيها إلى صياغة المفاهيم الإسلاميّة بطريقةٍ ممالئة أو خاضعة لهذه الضغوط المستجدّة. مثلاً بمرحلة من المراحل في العقود الماضية أمام المدّ الماركسيّ الهائل -الفكر الماركسيّ كان يتقدّم في كلّ العالم الإسلاميّ- بعض المفكّرين المسلمين وبعض المثقّفين المسلمين حتَّى بعض علماء الدين نتيجة أنّهم خضعوا لهذه الضغوط راح يبحث كيف يتعايش ويتلاءم، ويُقدّم صياغة للإسلام منسجمة مع هذا المدّ الماركسيّ. وظهرت نظريّات تتحدّث عن الاشتراكيّة في الإسلام، وتصف مثلاً الصحابيّ الجليل أبا ذرّ الغفاريّ بأنّه كان اشتراكيّاً أو الاشتراكيّ الأوّل في الإسلام.
هذا نتيجة الخضوع؛ نتيجة سيطرة الأجواء الفكريَّة والهجمة الثقافيّة والفكريَّة والتضعضع في الساحة والتراجع. مثلاً، في مرحلة من المراحل حاول بعضهم تقديم الإسلام على أنّه في أصله فكراً رأسماليّاً. هذا حصل في قضايا من نوع قضايا الدولة، قضايا الحرّيّات العامّة، قضايا المرأة، قضايا الأسرة، قضايا العلاقات الزوجيّة، العلاقات الدوليّة، قضايا الاقتصاد، قضايا الحرب والسلم. الإسلام له رؤية وله موقف وله أحكام وله أيديولوجيّة ومذهب واضح؛ مذهب إسلاميّ واضح بحسب المصطلح. لكن أحياناً أيضاً، نتيجة الضغوط الموجودة اليوم، وخصوصاً في ظلّ هذه الثورة الهائلة في وسائل الاتّصال، ووصول الكلمة والصوت إلى أوسع مديات الشعوب والعالم، نجد أنّ كثيرين أخذوا يصيغون الإسلام؛ ويعيدون معالجة بعض الأفكار وبعض المبادئ وبعض الأسس بما ينسجم مع الطروحات الحديثة، وبما يمسّ أساسيّات. بل وصل بعضهم إلى حدّ إنكار أساسيات في الإسلام.
الآن لا أريد أن أضرب أمثلة كي لا أكشف هويّة هؤلاء، إلى حدّ إنكار أساسيّات في الإسلام وبعضها ممّا أجمع عليه المسلمون طوال التاريخ بسبب هذا الضغط
96
77
الدرس الرابع عشر: من هو وليّنا (3)
الإعلاميّ والفكريّ والثقافيّ، وهذا الضخ ّالهائل. فأحياناً نتيجة الوهن فينا -الوهن ليس في الإسلام.
الإسلام متماسك وقويّ ومتين ودين الله الذي لا يأتيه الباطل من أيّ جانب من جوانبه، ولكنّنا نحن البشر الذين نحمل أو نفهم أو ندافع عن هذا الإسلام أو نُقدّم هذا الإسلام- أحياناً نواجه مشكلة خلل عندنا في شجاعتنا أو في قدرتنا الفكريَّة والثقافيّة. سماحة القائد (دام ظله) من خلال مراجعة نصوصه ودروسه وأبحاثه، من الواضح أنّه في هذا المجال هو أصيل ومتين واستقلاليّ وشجاع ولا يخضع لأيّ هيمنة، ولا لأي قداسة حتّى قداسة العلماء الكبار والفقهاء العظام، أو الفلاسفة الكبار فضلاً عن الهجمات الإعلاميّة والفكريَّة والثقافيّة التي تشنّ من هنا وهناك في العالم.
كما يحتاج الناس في هذا الزمن وفي كلّ زمن، إلى مرجعٍ للتقليد لمعرفة الحلال والحرام، ومعرفة صلاتهم وصومهم وعبادتهم وزواجهم وطلاقهم وإرثهم وبيعهم وشرائهم إلخ. كما تحتاج الأمّة إلى قائد يقودها في مواجهة كلّ هذه المحاور الدوليّة وكلّ هذه التهديدات والمؤامرات، كذلك الناس والأمّة يحتاجون إلى مفكّرين إسلاميّين كبار يواكبون العصر. ولذلك من مضى لا يستطيع أن يحلّ مشاكلنا المعاصرة. من مضى من علمائنا الكبار ومن مفكّرينا العظام ومن فلاسفتنا وعرفائنا ومحقّقينا، حتَّى ما لدينا من كتبهم ومن تراثهم وهو كبيرٌ ومقدّر، ولكنّه هو عالج ويُعالج مسائل مستمرّة أو مسائل كانت تختصّ بذاك الزمن لا بكلّ زمان.
كما نحتاج نحن إلى مرجع التقليد الحيّ كما نحتاج إلى القائد الحيّ نحتاج إلى المفكّر الإسلاميّ الحيّ لمواجهة التحدّيات القائمة والموجودة، خصوصاً في هذه المرحلة الصعبة التي تواجه فيها أمّتنا تحدّيات تاريخيّة ومصيريّة ووجوديّة. ولا يخفى أنَّ العوامل الفكريَّة والثقافيّة هي أساسيّة وحاسمة في المعركة القائمة حاليّاً والصراع الدائر حاليّاً.
97
78
الدرس الخامس عشر: من هو وليّنا (4)
الدرس الخامس عشر: من هو وليّنا (4)
بعض صفات الإمام الخامنئيّ
الوليّ الزاهد:
من آثار الزهد في الدنيا أن يواسي الوليّ نفسه بضعفة الناس، فلا يُميّز الوليّ نفسه، ولا يستغلّ منصبه، فهو كواحد من الناس يعيش في نفس مستواهم من الناحية الدنيويّة، وهذه سيرة إمامنا الخامنئيّ حيث كان يشتري الأرزّ في أيام الحرب على الجمهوريّة الإسلاميّة عبر البطاقة كسائر الناس الفقراء، ولم يكن يستغلّ موقعه في رئاسة الجمهوريّة ليأخذ كمّية إضافيّة، وكانت عائلته وأولاده تتعالج عند الطبيب العامّ في المستشفى العامّ الذي يصل إليه الفقراء، وقد سأل الطبيب زوجة القائد أليس لكم طبيب خاصّ، فأجابت بالنفي، وأنّ طبيبهم هو طبيب الناس، وأثاث بيت الإمام في غاية البساطة حيث لم يسمح القائد باستبدال غيره به مواساة لضعفة الناس والمحرومين.
وقد حارب سماحته مظاهر الفخامة في الإدارات وبين المسؤولين، وطلب منهم أن يتواضعوا في هذه المظاهر، ويكونوا كسائر الناس، إلّا من كان لديه بعض الضرورات الأمنيّة التي تفرض عليه أن يتّخذ بعض الإجراءات من ناحية السكن والتنقّل وغيرها. ونرى هذه الوصايا في عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر، وفي رسالته إلى عثمان بن حنيف، وغيرهم. وفيها حثّ على التواضع، والابتعاد عن المظاهر الدنيويّة، والاقتراب من الناس.
والوليّ لا يجد لنفسه مقاماً ومنزلة تفوق الناس، فهو يعتبر نفسه خادماً لهم،
98
79
الدرس الخامس عشر: من هو وليّنا (4)
ويكون قريباً منهم، ويُخالطهم ويُعاشرهم ويشعر بآلامهم، ويتقبّل انتقاداتهم ونصائحهم، وهذا ما يفعله سماحة القائد حيث يتنقّل بين المحافظات المختلفة، ويعقد اللقاءات مع الناس، وطلّاب الجامعات، ويستمع إلى شكاويهم، وإلى نصائحهم، وإن كانت حادّة بعض الشيء، حيث ينظر سماحته إليها بإيجابيّة، ويوجّهها نحو الوجهة الصحيحة في خدمة الحقّ.
ومن الوقائع التي تدلّ على أنّه (دام ظله) لا يعتبر لنفسه مقاماً وميزة عن سائر الناس ما حدث في إحدى السنوات، حيث قام بعض الطلّاب الجامعيّين بسبّ سماحته وتمزيق صوره، فقام بعض الطلّاب المتحمّسين بردّ فعل عنيف على أولئك الطلّاب، فوقف وقال: فليسبّوني وليمزّقوا صوري، وأنا لا أُجيز لأحد أن يتعرّض لمن يسبّني ويمزّق صوري.
القائد على لسان آية الله محمد تقي المصباح اليزدي[1]
· 1 - الشموليّة والعمق:
أمّا أبعاد شخصيّة الإمام الخامنئيّ فهي -حقيقةً- بسعة تلك الروح العظيمة التي يمتلكها إنسان مُخلص ورع. وإنّ الجميع مطّلعون على هذا الأمر وليس هو بحاجة إلى تبيين وتوضيح. فهو ما جالس جماعة وما تكلّم في موضوع إلّا وكان لديه كلام ذو قيمة في هذا المجال وذاك التخصّص. ليس هذا فحسب، بل قد يفوق أحياناً المتخصّصين فيه؛ اللهمّ إلّا في بعض المجالات الفنّيّة والتخصّصية البحتة كالطبّ والفيزياء ونظائرهما ممّا لا يُنتظر من عالم دين أن يلمّ بها. لكنّه في المسائل الاجتماعيّة، والمعلومات العامّة المطروحة على الصعيد الاجتماعيّ، والأدب، والشعر، وعلم الموسيقى -وأقصد بالموسيقى القدرة على التمييز بين صحيحها وخطأها، وحقّها وباطلها-، والرياضة، والخطّ، والفنّ، وأمور من هذا القبيل فهو في الصدارة.
· 2 - الإدارة:
أمّا في شؤون إدارة البلاد فإنّ نبوغه بارز جدّاً، هذا على الرغم من أنّ الأبعاد الأساسيّة لشخصيّته والمرتبطة بقيادته وولايته لا تحظى -مع بالغ الأسف- باهتمام كبير.
[1] انظر: موقع شبكة المعارف الإسلامية الثقافية، اللقاء الخاص مع الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي حول سمات شخصية الإمام الخامنئي (دام ظلّه)، في 14-10-2010م، almaaref.org.lb.
99
80
الدرس الخامس عشر: من هو وليّنا (4)
· 3 - فقاهته:
أوّل خصيصة من هذا القبيل هي فقاهته. فالذين يُشهَد لهم في عالم الفقاهة بالإنصاف والتقوى يشهدون بأنّ قائد الثورة ليس دون أقرانه من الناحية الفقهيّة فحسب، بل لقد ثبت لدينا أنّ سماحته يتفوّق عليهم في بعض الموارد.
· 4 - علم الرجال:
فمن العلوم المهمّة في مجال الفقاهة التي لا تتوافر لكثير من المحقّقين البارزين هو علم الرجال. فإذا لم يكن في عالم التشيّع غير ثلاثة من الضالعين في علم الرجال فهو أحدهم لا محالة. وللأسف فإنّ سماحته غير مشهور بالحدّ المطلوب على مستوى العديد من الفروع العلميّة الأُخرى.
· 5 - قوّة الذاكرة:
أمّا فيما يتّصل بالقضايا المرتبطة بالذاكرة؛ مثل سيرة الأشخاص، وقضايا التاريخ، والتحليلات التاريخيّة، وما إلى ذلك فهو في حدّ الإعجاز.
· 6 - رأفته، وعطفه، وشفقته:
ومن خصائصه الأخرى أيضاً رأفته، وعطفه، وشفقته تجاه أفراد الشعب. إذ يُلاحظ أحياناً في سلوكه مع بعض عوائل الشهداء أو الأفراد ما ينمّ عن عاطفة موغلة في العمق واللطف.
· 7 - تقواه وزهده:
ومن جانب آخر فإنّ تقواه وزهده اللذين يُعدّان من جملة النماذج التاريخيّة الخالدة، بل بمثابة الأُسطورة لمَن لم يشاهدوا مثل هذه الصور، فمن العجيب أنّ شخصاً مثله في هذا المنصب الحسّاس وبكلّ هذه الإمكانيّات المتوفّرة لديه يعيش في هذا المستوى من الزهد وبساطة العيش.
كلّ تلك الخصوصيّات، إضافةً إلى عشرات غيرها يشقّ على المرء -حقيقةً- بيانها وإحصاؤها جميعاً، هي ممّا لو توفّرت واحدة منها في امرئ فستجعل منه شخصيّة اجتماعيّة مميّزة ومرموقة إلى أبعد الحدود. فإذا كان الله -تعالى- قد جمع كلّ تلك
100
81
الدرس الخامس عشر: من هو وليّنا (4)
الامتيازات في شخص واحد وجعله قائداً لهذه الأمّة، فكم يتعيّن علينا أن نُقدّر هذه النعمة؟ فإذا مُسَّت منه يوماً -لا قدّر الله- ولو شعرة واحدة، فسنعلم حينها أيّ جوهرة ثمينة نادرةٍ بين أيدينا يستحيل العثور على نظير لها.
· 8 - بين القائد وأقرانه:
أولئك الذين يرون القائد عن كثب ويستطيعون مقارنته بأقرانه، يدركون أنّ الاختلاف هو كالاختلاف بين السماء والأرض؛ فمَن هم من أمثالي لا يعلمون سوى هذا المقدار، وهو أنّه أفضل من الآخرين بكثير، لكن إلى أيّ مدى هو أفضل؟ لا نستطيع تقييم ذلك. قد تبرز أحياناً عيّنات من هذا الاختلاف وهذه الأفضليّة، وعندما يُمعن الإنسان النظر في هذه الأُمور يُلاحظ مدى الاختلاف الكبير.
· 9 - عبقريّته:
فمن أبرز معالم عبقريّته ونموذجيّته ما ظهر في أحداث الفتنة الأخيرة، ومع أنّنا إلى الآن لم نُدرك أبعاد وعمق هذه الفتنة كما ينبغي، وأنّ المقدار الذي أدركناه منها لا نستطيع بيانه، وإذا بيّناه فما زال الكثير من الناس لا يُصدّقونه، لكنّ سماحته تعامل مع جميع تلك المشاكل والمعضلات وأوجد لها الحلول بتدبير هو في منتهى الحكمة بل إنّه يقترب -حقيقةً- من تدبير المعصوم (عليه السلام)، وبسعة صدر تبلغ حدّ الإعجاز يصعب العثور على نظير لها عند غير المعصوم (عليه السلام). فإنّ أناته وصبره وسعة صدره في بعض المواقف وتجاه بعض الأشخاص، هي ممّا يستعصي على الوصف.
101