خطاب الولي (2009)

توثيق تفصيلي لخطب الإمام الخامنئي (دام ظله) وكلماته وبياناته.


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2009-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


خطاب الولي 2009

المقدّمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

 

إنّ شيئاً من التتبّع والمطالعة لخطابات الإمام الخامنئيّ دام ظله، يؤكّد لنا تلك السعة الكبيرة التي يمتلكها في الفهم العميق للإسلام، حتّى يكاد القارئ يتنبّه لأمور لم تكن تخطر في ذهنه البتّة، لتفتح أمامه سبلاً نحو فهم هذا الدين القويم، وما يرتبط بالحياة الاجتماعيّة البشريّة ومتعلّقاتها.

 

فمن العقائد الإسلاميّة الرّاسخة والمُحكمة، إلى التاريخ الماضي منه والحاضر، إلى السياسة وإدارة شؤون الأمّة، إلى النهوض بالمجتمع بكلّ حيثيّاته التربويّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، بل والعسكريّة، يجعل الإمام الخامنئيّ دام ظله ذلك كلّه منطلقاً لحركته القياديّة، حتّى أصبحت مواقفه وخطاباته محطّاتٍ مشبعة بالوعي والفكر النيّر.

 

لهذا وذاك، آلينا على أنفسنا في مركز المعارف للتأليف والتحقيق، أن نجمع عدداً من تلك الخطابـات، لتكون مرجعاً لمن رام الاستفادة والتنوّر بفكر هذا القائد الفذّ والفقيه المفكّر دام ظله، وهي تتضمّن موضوعات بارزة ومتنوّعة، تحكي في بعض مضامينها وقائع تلك السنة التي أُلقيت فيها، وكذلك تسلّط الضوء على السياسات العامّة التي لا بدّ من السير على أساسها في مواجهة أعداء الأمّة وكيفيّة النهوض بها على جميع الأصعدة.

 

والحمد للَّه ربّ العالمين

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 

8


1

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء جمع من أهالي مدينة قمّ المقدّسة

 

 

 

المناسبة:   الذكرى السنويّة لانتفاضة التاسع عشر من شهر "دي"

الحضور:  جمع من أهالي مدينة قمّ المقدّسة

المكان:   قمّ

 

 

الزمان:

19/10/1387هـ.ش.

11/01/1430هـ.ق.

08/01/2009م.

 

10


2

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أوّلًا، أُعزّي (الجميع) بمناسبة استشهاد أعظم شهيد في تاريخ البشريّة، الإمام أبي عبد الله الحسين، صانع تلك الملحمة الخالدة، ومُوقظ الأمّة الإسلاميّة على امتداد التاريخ.

 

وثانيًا، أرحّب بالإخوة والأخوات الأعزّاء، الذين جاؤوا من مدينة قمّ، بمناسبة الذكرى السنويّة لصحوة أهالي تلك المدينة اليقظين الواعين، وأقاموا هذا الاجتماع المفعم بالصفاء والمحبّة.

 

وعي أهل قمّ واستشفافهم للأحداث

إنّ قضيّة التاسع عشر من "دي"[1] ليست مجرّد حدث تاريخيّ. تعود أهمّيّة هذا الحدث إلى أنّ شريحة من الشعب الإيرانيّ - وهم أهالي قمّ الأعزّاء - شعروا بوقوع شيء معيّن قَبْلَ وقوعه. وقد ساعدهم حسُّ اليقظة والوعي لديهم، كي يُطلقوا تيّارًا هائلًا في البلاد، فأنْ يتمّ توجيه إهانة للإمام الجليل في إحدى الصحف، وبقلم أحد مرتزقة البلاط الطاغوتيّ، لم تكن مسألة ذات أهمّيّة من وجهة نظر الكثيرين من ذوي النظر السطحيّ الظاهريّ آنذاك، إذ لم يكن هؤلاء ليشعروا، ويدركوا عمق القضيّة، والجوانب


 


[1] انتفاضة 19 دي (9/12/1978م)، حادثة مفصليّة في تاريخ الثورة الإسلاميّة، يوم انتفض أهالي قمّ في وجه النظام وجلاوزته،. حينها، خرجت تظاهرات عارمة استنكارًا لمحاولة الشاه توهين حركة الإمام وصورة الحجّاب في إيران، وكان ذلك في مقالٍ طلب وزيرُ مخابرات الشاه نَشْرَه في جريدة اطّلاعات، وكان ذلك بعد فترة وجيزة من شهادة السيّد مصطفى، ابن الإمام، في 11/1977م وقيام مجالس الفاتحة والعزاء في مختلف المناطق. وقد صمَّم الشاه حينها (بعد شهادة السيد مصطفى) على إلحاق الأذى والإهانة بالإمام، فكان المقال. كانت ردّة فعل الناس وطلّاب الحوزة في قمّ، قويّة وعامّة، حيث أعلنوا الإضراب والتعطيل في 18 دي. وكانت الحركة الواسعة في 19 دي، التي واجهها النظامُ بعنفٍ شديد، وسقط على أثرها عددٌ كبير من الشهداء والجرحى، واعتُقِل المئات. وأُقِيمَت ذكرى أربعين شهداء انتفاضة 19 دي في مختلف المدن، وحصلَت مواجهات في كلّ مدينة، وهكذا توالت سلسلة الأربعينيّات. وكان لهذه الحركة نتائجها في دعم حركة الإمام، وانزواء تيّار فَصْل الدين عن السياسة، وتسريع عجلة الثورة، التي أطاحَت بالنظام بعد سنة تقريبًا، أي في 11/02/1979م.

 

12


3

خطاب الولي 2009

الخفيّة لهذه المؤامرة. حينما لا يشعر الإنسان بالمؤامرة، فمن الطبيعيّ أن لا يُبدي ردود فعل حيالها. لكنّ أهالي قمّ وشبابها شعروا بأهمّيّة الحدث، وأدركوا مغزاه وفهموه. هذا أهمّ جانب لهذا الحدث الذي وقع في تاريخ ثورتنا. لو لم تتحلّوا، أنتم أهالي قمّ، بالوعي والفهم الذي تحلّيتم به يوم ذاك، ولم تخرجوا إلى الشوارع، ولم تدافعوا، ولم تقدّموا الشهداء، ولم تفضحوا نظامَ الطاغوت تلك الفضيحة المنقطعة النظير، لم يكن من المعلوم أن تبقى حركة المواجهة، وتستمرّ بالشكل الذي سارت فيه واستمرَّت. نقطة البداية مهمّة جدًّا، وهي ليست بالشيء الذي تأتي به الصدفة، إنّما ينبع من فَهمِ حدَثٍ تختفي الكثير من أبعاده عن الأعين، وإدراكِه. وقد توفّرَت هذه الميزة في حَدَث التاسع عشر من "دي" في قمّ، والذي أثبَتَ وأَظهرَ أنّ هناك وعيًا صحيحًا لقضيّة وحالة سوف تحدث، فكان هناك فهمٌ للمؤامرة، وقد علم أهل قمّ ما الذي سيقع بعد هذه المقالة التي نُشِرَت في الصحيفة ضدّ الإمام (رضوان الله -تعالى- عليه). ولأنّهم فهموا المؤامرة، أبدوا ردود الفعل حيالها.

 

وهذا هو الدرس اليوم أيضًا، ينبغي أن تَستشعر الحاسّةُ الإنسانيّة العميقة لشعبٍ من الشعوب، الأحداثَ قبل وقوعها، وتفهم أيّ شيء سوف يقع، فيُتَّخَذ الموقفُ المناسب. وإذا نظرنا إلى كلّ تاريخ الإسلام، نجد أنّ انعدام هذا الإدراك وهذا الحسّ السياسيّ السليم قد أبقى الشعوب نائمةً على الدوام، ومَكَّنَ أعداءها من أن يُلحِقوا بها كلّ ما يحلو لهم، وهم آمنون من ردود أفعال هذه الشعوب.

 

جلوس الخواصّ والنخب: كربلاء مثالًا

انظروا إلى حادثة كربلاء من هذه الزاوية: لم يكن لدى الكثير من المسلمين في نهايات الستّين عامًا بَعد الهجرة - أي الخمسين عامًا بعد رحيل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - تحليلٌ صحيحٌ لِما يجري. ولأنّهم افتقروا إلى التحليل الصحيح، لم يُبدوا أيّ ردّ فعل مناسب. فكانت الساحة مفتوحة أمام الذين يريدون اجتراح أيّ انحراف في مسيرة الأمّة الإسلاميّة، من دون أن يصدَّهم أحد. ووصل الأمر إلى درجة أنّ شخصًا فاسقًا فاجرًا سيّئ الصيت ومفضوحًا -شابًّا لا تتوفّر فيه أيٌّ من شروط الحاكم الإسلاميّ

 

13

 


4

خطاب الولي 2009

وخليفة الرسول، بل كان في الاتّجاه المعاكس لسيرة الرسول في أعماله وظاهره- يصبحُ قائد الأمّة الإسلاميّة وخليفة الرسول! لاحِظوا كم يبدو هذا الشيء عجيبًا في أنظاركم اليوم، لكنّه لم يَبدُ عجيبًا في أنظار الناس في ذلك العهد! لم يشعر الخواصّ بالخطر، وبعضهم ممّن شعروا بالخطر ربّما، لم تسمح لهم مصالحهم الشخصيّة وطلبهم للعافية والراحة أن يُبدوا ردّ فعل معيّن.

 

يزيد متربّعًا على كرسيّ الخلافة

جاء الرسول بالإسلام ليهدي الناس إلى التوحيد، والطهر، والعدالة، وسلامة الأخلاق، والصلاح العامّ للمجتمع الإنسانيّ، (ثمّ) يجلس (حينها) مكان الرسول شخص غارق في الفساد والفسق، ولا يعتقد بأصل وجود الله وتوحيده. بعد خمسين عامًا على رحيل الرسول، يتولّى زمام الرئاسة مثلُ هذا الشخص! هذا الأمر يلوح لكم اليوم عجيبًا جدًّا، لكنّه لم يكن كذلك في أعين الكثير من الناس يوم ذاك. عجيب! أصبح يزيد خليفةً، ونشروا الجنود الغلاظ الشداد في أنحاء العالم الإسلاميّ، ليأخذوا له البيعة من الناس، وسار الناس جماعات جماعات وبايعوا، العلماء، والزهّاد، والنخب، ورجال السياسة (الولاة)، جميعهم قد بايعوا.

 

حركة الإمام الحسين: الوصفة الحقيقيّة

ما الذي ينبغي فِعلُه في مثل هذه الظروف، حيث تسُود الغفلةُ العالمَ الإسلاميّ، إلى حدّ أنّ الناس لا يشعرون بالخطر؟ ما الذي يجب أن يفعله شخصٌ كالحسين بن عليّ -وهو مظهر الإسلام ونسخة مطابقة (لشخص) رسول الإسلام الكريم: "حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ"[1]- في مثل هذه الظروف؟ عليه أن يقوم بعمل يُوقِظ العالم الإسلاميّ، سواء في ذلك العصر، أم على امتداد القرون التالية. عليه أن يبثّ فيه الوعي ويهزّه ويحرّكه، وقد ابتدأت هذه الهزّة بثورة الإمام الحسين عليه السلام. أمّا أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد دُعِيَ للحكومة في الكوفة فسار إليها، فهذه كانت ظواهر الحركة


 


[1] ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات‏، تحقيق وتصحيح عبد الحسين‏ الأمينيّ، دار المرتضويّة، العراق - النجف،‏ ‏1397ه‏، ط1، ص52.

 

14


5

خطاب الولي 2009

والعمل وذرائعه. حتّى لو لم يُدْعَ الإمام الحسين عليه السلام، لوقعت تلك الثورة. كان يجب على الإمام الحسين، في مثل هذه الظروف، أن يقوم بهذا التحرّك، ليُرشِد إلى الوظيفة، وإلى الواجب على المسلمين فِعله. وقد عرض الوصفة (العلاج) على كلّ المسلمين في القرون التالية. كتب وصفة، لكنّ وصفة الحسين بن عليّ لم تكن وصفةَ كلام وألفاظ وأوامر يصدرها لغيره، ويبقى هو جالسًا في مكانه، كانت وصفةً عمليّة، تحرّك بنفسه، ودلّ على الطريق، قال نقلًا عن الرسول: إذا رأيتم الإسلامَ قد نُبِذ جانبًا، والظالمين تسلّطوا على الناس، وراحوا يغيّرون دين الله، ويتعاملون مع الناس بالفسق والفجور، ولم يقف المرء بوجه هذا الواقع، ولم يَثُر ضدَّه، "كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مدْخَلَهُ"[1]. هذه وصفة، هذه هي ثورة الإمام الحسين. فإذا ما ضحّى الإمام الحسين بروحه الطاهرة المباركة الغالية، وهي أسمى الأرواح في العالَم، في سبيل هذه الثورة، فليس ذلك في نظره ثمنًا باهظًا. فإذا ما جرَت التضحية بأرواح خِيرة الناس، وهم أصحاب الإمام الحسين، فليس ذلك ثمنًا باهظًا في نظر الإمام الحسين. وإنّ أسر (سبي) آل الله وحرم الرسول، وشخصيّة مثل زينب تُؤسَر بيد الأجانب -حيث كان الحسين بن عليّ يعلم أنّه حينما يُقتَل في تلك الصحراء، فسوف يأسرون هذه المرأة والأطفال- لم يكن هذا الأسر وهذا الثمن الكبير شيئًا جسيمًا ثقيلًا في نظر الإمام الحسين عليه السلام، من أجل هذا الهدف. وإنّ الثمن الذي ندفعه، يجب أن يُؤخَذ بعين الاعتبار، في ضوء ما يتحقّق مقابله للإسلام والمسلمين والأمّة الإسلاميّة وللمجتمع. أحيانًا، يُنفِق الإنسانُ مئةَ تومان[2]، ويكون مسرفًا، وأحيانًا، يُنفِق مئةَ مليار، ولا يكون مسرفًا. ينبغي النظر ما الذي نأخذ مقابل ذلك.

 

الثورة والإمام امتدادٌ لعاشوراء

كانت الثورة الإسلاميّة عملًا بهذه الوصفة، وقد عمل إمامنا الجليل بهذه الوصفة. كان هناك مجموعة من الأشخاص أصحاب النظرة الظاهريّة السطحيّة -وهم طبعًا


 


[1] أبو مخنف الكوفيّ، لوط بن يحيى‏، وقعة الطفّ‏، تحقيق وتصحيح محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ، نشر جماعة المدرِّسين‏، إيران - قمّ، 1417ه‏، ط3، ص172.

[2] "تومان" العملة الإيرانيّة.

 

15


6

خطاب الولي 2009

أشخاصٌ طيّبون، لم يكونوا أناسًا سيّئين، فقد كنّا نعرفهم- قالوا حينها: إنّه جاء (الإمام) بهؤلاء الشباب إلى الساحة، ليُقتَلوا وتُسفَك دماؤهم، وهم خيرة شبابنا. تصوّروا أنّ الإمام لم يكن يدري أنّ أرواح هؤلاء الشباب معرّضة للخطر! كانوا يتألّمون لذلك، وهذا ناجمٌ عن حسابات خاطئة. نعم، قدّمنا كلّ هؤلاء الشهداء والمعوّقين في الحرب المفروضة، وفُجِعَت تلك العوائل كلّها. هذا ثمن كبير، ولكن مقابل ماذا؟ (النتيجة) أنّنا حافظنا على استقلال البلاد، وعلى راية الإسلام، وعلى هويّة إيران الإسلاميّة، مقابل ذلك الإعصار الهائل. لم يكن الإعصار الذي أوجدوه إعصارَ صدّام. كان صدّام الجنديّ (المقاتِل) الأماميّ في جبهة العدُوّ، وقد آزرَته كلُّ أجهزة عالم الكفر والاستكبار. حتّى لو افترضنا أنّهم لم يشاركوا في هذه المؤامرة منذ البداية، فإنّ مشاركتهم فيها، لاحقًا، كانت واضحة وجليّة. جاء الجميع واصطّفوا خلف صدّام. فقد جاءت أمريكا، والسوفيات يوم ذاك جاؤوا، والناتو، وجاءت البلدان الرجعيّة التابعة للاستكبار، ومنحَت الأموال والمعلومات والخرائط (الخطط) والإعلام. تحرّكت هذه الجبهة الهائلة لتقضي على إيران الكبيرة، الرشيدة، الشجاعة، المؤمنة، قضاءً تامًّا. أرادوا بالدرجة الأولى (بدايةً)، إخضاعَ منطقة تابعة لسياسة الاستكبار، من قِبَل شخصٍ صغيرٍ ومنحطٍّ مثل صدّام، لتبقى في المرحلة الثانية، في قبضة أمريكا. فالمصيبة التي أنزلوها طوال مئتَي عام ببلادنا، وكلّ هذه المشاكل التي تسبّبوا بها للشعب، أرادوا مواصلتها لمئة عام أو مئتَي عام أخرى، لكنّ شعبنا وقف، وإمامنا الجليل وقف. طبعًا، قدّمنا أرواحًا عزيزة، وشهداءً كبارًا، وشبابًا محبوبين، لكنّ هذا لم يكن ثمنًا باهظًا مقابل ذلك المكسب.

 

قضيّة فلسطين

وكذا الحال فيما يرتبط بقضيّة فلسطين اليوم. أوضاع غزّة التي تلاحظونها، ما هي إلّا جزء ظاهريّ من القضيّة. أمّا باطن القضيّة، فهو أنّ أجهزة الاستكبار، التي لا تؤمن بأيٍّ من المبادئ الإنسانيّة، ترغب في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، هذه المنطقة الحسّاسة الزاخرة بالثروات، وذات الأهمّيّة الجغرافيّة والاقتصاديّة البالغة. وإنّ وسيلتها إلى ذلك هي إسرائيل الغاصبة، الصهاينة المسلَّطون على فلسطين المحتلّة. هذه

 

 

16


7

خطاب الولي 2009

هي القضيّة. كلّ التحرّكات التي أُنجِزَت في المنطقة طوال الأعوام الأخيرة -من قضايا لبنان، إلى قضايا العراق وفلسطين- ممكنة الفهم والتفسير بهذه النظرة. القضيّة هي أنّ هذه المنطقة يجب أن تكون في قبضة أمريكا والاستكبار، والاستكبار طبعًا أعمّ من أمريكا، لكنّ مظهره الأبرز والشيطان الأكبر هو الحكومة الأمريكيّة. يريد الاستكبار أن يستولي على هذه المنطقة، ويمسك بها في قبضته. الاستكبار بحاجة إلى هذه المنطقة، وأداته في ذلك هي إسرائيل. كلّ هذه الأمور والقضايا التي جرت خلال هذه السنوات الأخيرة، ممكنة التحليل في إطار هذه النظرة. لاحظتم أنّ وزيرة خارجيّة أمريكا قالت في حرب الـ33 يومًا: إنّ هذا هو مخاضُ منطقة الشرق الأوسط! أي إنّ موجودًا جديدًا سيُولَد من هذا الحدث، ألا وهو الشرق الأوسط الذي تريده أمريكا. طبعًا، هذا الحلم الأسود تَحقَّق بما نزل على رؤوسهم، فالشجاعة، واليقظة، والتضحية، والإيثار، والجهاد لدى الشباب المؤمن في لبنان، وجّه صفعةً ليس إلى إسرائيل وحسب، بل إلى أمريكا أيضًا، وكلّ حُماتهم وأتباعهم. والحال في غزّة من هذا القبيل أيضًا.

 

إيران شوكة في عيون الاستكبار

يريدون أن لا يبقى أيّ عنصر مقاومة في المنطقة. هم يرون أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة هي أساس عنصر المقاومة هذا، وقد فهموا هذه النقطة بصورة صحيحة، فهنا مركز المقاومة. هذا المحلُّ الذي يشكّل فيه وجود الجمهوريّة الإسلاميّة مصدرَ إلهامٍ لشعوب المنطقة، حتّى لو لم نقم بأيّ إجراء عمليّ، ولم ننطق بأيّ حرف. إنّها لَوجودٌ وهويّةٌ تنتصب هكذا في المنطقة، على الرغم من أنوف كلّ القوى الاستكباريّة، وتتجذّر يومًا بعد يوم، وتزداد قوةً. فمجرّد وجود هذا الهيكل العظيم الشامخ، إنّما هو شوكة في عيون الاستكبار، ومبعث أمل للشعوب. نعم، هنا قطب المقاومة، ولا شكّ في هذا أبدًا. وقد استَلهم الآخرون أيضًا من هنا، لكنّهم، لأجل سحق المقاومة، استهدفوا الحلقة الضعيفة أوّلًا، الحكومة الجماهيريّة المنتخبة في غزَّة. هذا هو المظلوم الذي تمكّنوا منه، وراحوا يضربونه. كلّ من يَعتبر -في العالم الإسلاميّ اليوم- قضيّةَ غزّة قضيّةً محليّة وشخصيّة، فهو نائم تلك النومة التي لوّعَت الشعوب إلى الآن. كلّا، فقضيّة غزّة ليست

 

17

 


8

خطاب الولي 2009

قضيّة غزّة فقط، إنّها قضيّة المنطقة، وإنّما هي النقطة الأضعف في الوقت الحاضر. بدؤوا الهجوم من هناك، وإذا نجحوا، فلن يتركوا المنطقة لحالها. وإنّ حكومات البلدان المسلمة المحيطة بتلك المنطقة، والتي لا تقدِّم المساعدات التي يجب أن تقدِّمها وتستطيع أن تقدِّمها، إنّما ترتكب خطأ، ترتكب خطًا. كلّما ترسّخَت جذور إسرائيل في هذه المنطقة أكثر، تضاعفَت هيمنة الاستكبار أكثر، وتفاقم بؤس هذه الحكومات[1]، وضعفها، وذلّتها أكثر. لماذا لا يتفطَّنون إلى هذا؟ والحكومات تجرُّ الشعوب وراءها نحو الذلّ. الحكومة الذليلة المطيعة التابِعة تجعل من شعبها مطيعًا ذليلًا تابِعًا. لذلك، يجب على الشعوب أن تصحو.

 

يقظة الشعب وشجاعة جيل الشباب

لقد أثبَتَ شعبُنا، في هذه القضيّة، يقظتَه واستعداده. أرى لزامًا عليَّ أن أشكر كلّ الشعب الذي أبدى موقفه وعزيمته في المظاهرات والمسيرات والشعارات، وخصوصًا الشباب المؤمن المتحمّس، الذي سار نحو المطارات في طهران والمدن الأخرى، كي يتوجّه إلى هناك، لكنّ أيدينا قصيرة. لو كان بوسعنا أن نحضر هناك، لكان لزامًا علينا أن نحضر، وكنّا سنحضر فعلًا، ولن نبالي بملاحظة أحد، لكنّ هذا غير ممكن، ليعلم الجميع هذا. وإنّ حكومة الجمهوريّة الإسلاميّة ومسؤوليها يقدّمون لذلك الشعب المظلوم كلَّ مساعدة ممكنة، وقد فعلوا ذلك إلى الآن، وسيفعلونه في المستقبل أيضًا، لكنّ شبابنا شباب متحمِّس. لقد أثبَتَ جيلُ شبابنا بموقفه اليوم، أنّه على شاكلة جيل "كربلاء الخامسة"[2] -وهذه الأيّام هي ذكرى كربلاء الخامسة- وجيل "والفجر الرابعة" وعمليّات "خيبر" و"بدر". شباب اليوم مستعدّون للحضور في الساحة، كشباب ما قبل خمس وعشرين سنة وثلاثين سنة.


 


[1] حكومات المنطقة العربيّة.

[2] عمليّات "كربلاء5"، "والفجر4"، "خيبر"، "بدر": عمليّات هجوميّة عسكريّة مشهورة، حصلَت أثناء الحرب المفروضة على الجمهوريّة الإسلاميّة في ثمانينات القرن الماضي، وكان أكثر المشاركين في تلك العمليّات من جيل الشباب، حقَّقَت انتصارات واسعة، واستعادَت مناطق ومواقع من أيدي قوّات النظام البعثيّين.

 

18


9

خطاب الولي 2009

دُعاة حقوق الإنسان مُراؤون منافقون

لقد ذهب المال الذي منحَته الأجهزة التجسّسيّة والاستعماريّة المعادية لبعض العناصر الداخليّة التي باعت أنفسها، كي تصرِف شبابنا عن هذا الطريق، وتكتب التحليلات، وتصوّر هذا الاستعداد بأنّه منافٍ للحكمة والمصلحة، ذلك المال ذهب هدرًا. يسير شبابنا بالاتّجاه الذي رسمَته لهم الثورة، ورَسَمه الإسلام والإمام الحسين عليه السلام. هذا هو واقع بلادنا. لكن على الشعوب في العالم الإسلاميّ، أن تسجّل تواجدها وعزيمتها بنحو ملحوظ. يجب أن تُطالِب الحكومات. وقد بذلَت بعضُ الحكومات المسلمة مَساعٍ جيِّدة، لكنّها غير كافية. ينبغي فرض التراجع على العدُوّ، عبر الضغوط السياسيّة والضغوط الشعبيّة. لاحِظوا مدى قساوة الفاجعة التي تقع اليوم في هذه المنطقة على يد الصهاينة، فاجعة قَلَّ نظيرها. قد يقع شخصٌ واحد على الأرض بحادثةٍ ما في مكانٍ ما من العالم، وإذا بضجيج أجهزة حقوق الإنسان يرتفع، فيزعمون مناصرة حقوق الإنسان كذبًا ونفاقًا ورياءً وخداعًا. أمّا حينما يتساقط الأطفال الصغار والنساء المظلومات على الأرض في غزّة، كأوراق الخريف، فلا يُسمَع لهم أيُّ نَفَس. لقد فضح الله -تعالى- أدعياء حقوق الإنسان هؤلاء، سواء في منظّمة الأمم المتّحدة، أو في ما يُسَمَّى بمنظّمات الدفاع عن حقوق الإنسان، أو في الحكومات التي تَدَّعي ذلك. أصبحَت حقوق الإنسان لقلقة لسان لدى الحكومات الأوروبّيّة. أيُّ حقوق إنسان؟ أنتم لا تؤمنون بحقوق الإنسان، أنتم تكذبون! تذكُرون اسم حقوق الإنسان رياءً ونفاقًا. وإلّا كيف يمكن أن يرى رئيس الحكومة الأوروبّيّة الفلانيّة هذه الأحداث، ولا يهاجم (ينتقد ويدفع) إسرائيل، لو كان مؤمنًا بحقوق الإنسان؟! والأسوأ من ذلك، بعضُ مثقّفي العالم الإسلاميّ. للأسف، فإنّ فساد الصحافة والأجهزة الخبريّة والثقافيّة في العالم الإسلاميّ، فسادٌ مخزٍ جدًّا، يكتبون التحليلات في الصحافة والجرائد، ضدّ الحكومة الشرعيّة الحاليّة في فلسطين، لكي يبرّروا جرائم الصهاينة! فالله -تعالى- لن يتجاوز عن هؤلاء. وفي داخل إيران أيضًا، توجد مثل هذه الحالات بدرجات معيّنة، للأسف. طبعًا، الرأي العامّ الحاسم للشعب في داخل إيران، والانسجام بين الشعب والحكومة في هذا الاتّجاه، لا يسمح لبعضهم بمتابعة ذلك الخطّ المغلوط المخادع

 

 

19


10

خطاب الولي 2009

الخيانيّ، وإلّا ربّما كان بعضهم قد تمادى أكثر من ذلك في إبداء مواهبه. إنّ الحضور الحاسم للشعب، والانسجام بين الجماهير والحكومة في الشعارات، لا يسمح لهم بذلك. لكنّ هذا يحدث، للأسف، في البلدان الأخرى. ما هي حصيلة هذه الأحداث ونتائجها؟ إنّها بكلمة واحدة لا شكّ فيها: انتصار الحقّ على الباطل.

 

حتّى لو استطاع العدُوّ -لا سمح الله- أن يقتل المجاهدين الفلسطينيّين، الذين يدافعون اليوم في صفوف حماس دفاعًا مستميتًا، ويقاتلون بعزيمة وإرادة راسخة، واحدًا واحدًا، فلن تُدفن القضيّة الفلسطينيّة بهذه الفجائع التي تُرتكب، إنّما ستنتصب -دون شكّ- بقامتها السامقة، وتجاربها الماضية، أقوى بكثير من الماضي، وستطرق على رؤوسهم، وتنتصر عليهم. ينبغي لشعبنا المسلم المحافظة على هذا العزم الراسخ في ذهنه وقلبه، وأن يغتنم هذه البصيرة والوعي الذي حظي به، ويحافظ على حضوره، ويعرب بوضوح عن مواقفه ويعلنها للعالم: إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة صامدة على مواقفها المناهضة للظلم، وستقاوم وتضحّي من أجلها، ولا ريب أنّ ما ستحصل عليه أغلى وأثمن بكثير ممّا ستفقده. ولا شكّ أنّ الأرواح الطاهرة لشهدائنا الأبرار، والروح المطهّرة لإمامنا العظيم، ستسند الشعب الإيرانيّ، وستسند هذا الجهاد والدفاع المستميت، وستحتفل جميع الشعوب المسلمة بالنصر، إن شاء الله، في المستقبل غير البعيد.

 

شملَنا الله جميعًا بأدعية سيّدنا بقيّة الله (أرواحنا فداه)، وجعلنا من الأتباع الحقيقيّين للحسين بن عليّ عليه السلام.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

20


11

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء منتسبي القوّة الجوّيّة في الجيش

 

 

المناسبة:   الذكرى السنويّة للبيعة التاريخيّة التي قدّمها عدد من منتسبي القوّة الجوّيّة في الجيش الإيرانيّ للإمام الخمينيّ قدس سره في الثامن من شباط 1979م.

الحضور:  عدد كبير من قادة القوّة الجوّيّة ومنتسبيها في جيش الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة

المكان:   طهران

 

الزمان:    19/11/1387هـ.ش.

11/02/1430هـ.ق.

07/02/2009م.

 

 

22


12

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أرحّب بكم، أيّها الأعزّاء، أجمل ترحيب، وأنا مسرور لرؤية وجوهكم الشابّة المتوثّبة، المجموعة الغالية في القوّة الجوّيّة في جيش الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.

 

١٩ بهمن: الإخلاص والعزيمة الراسخة

لا شكّ أنّه يجب أن نكون جميعًا -أنا وأنتم- شاكرين للذين صنعوا يوم التاسع عشر من بهمن[1]، بموقفهم العمليّ، وليس بألسنتهم، صنعوه وخلّدوه بمواقفهم ومبادرتهم وعزمهم. حينما تُتَّخَذ الخطوة بإخلاص وصواب، وانطلاقًا من فكرة صحيحة مفعمة بالإخلاص، فسوف تتّسم بالبقاء والخلود. قد نفعل الكثير من الأعمال الاستعراضيّة، وقد نمارس بعض الأعمال المملاة علينا، والتي قد لا تتّسم بالإخلاص الكافي، فيمحوها مرور الزمن، ويقضي عليها، إلّا أنّ حدث التاسع عشر من بهمن لم يكن من هذا القبيل، إنّما كان عملًا نبع من صميم الإيمان والإخلاص والعزيمة الراسخة. في تلك الظروف، صحيح أنّه (في ذلك الوقت) لم يكن قد بقي لانتصار الثورة الحاسم سوى بضعة أيام، ولكن لم يكن باستطاعة أحد، تَوَقُّع أنّ التاسع عشر من بهمن، سيعقبه الثاني والعشرون من بهمن[2]. لم يكن بالمقدور التخمين على نحو القطع، كانت خطوة خطرة. فقد تجلَّت العزيمة الراسخة لأولئك الشباب -وقد كانوا شبابًا يشبهونكم -في أنّهم أبدوا إيمانهم، وعزمهم، والتحامهم بشعبهم، وإدراكهم وتشخيصهم الصائب لعمق الحدث، الذي كان يقع آنذاك بصورة عمليّة. طبعًا، كان هناك مخاطرة وخطرًا محدقًا، لكنّهم بادروا إليها، وخلَّدوا يومَ التاسع عشر من بهمن. لم يكن هذا الحدث حدثًا دفعيًّا فجائيًّا.


 


[1] 08/02/1979م يوم إعلان القوّة الجوّيّة الولاء للإمام الخمينيّ {، قبل ثلاثة أيّام من انتصار الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة في 11/02/1979م.

(8) 11/02/1979م ذكرى انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران.

[2] بالفارسية: "أَمَل"، وهو أوّل قمر صناعيّ إيرانيّ من صنعٍ محلّيّ، أُعلِن بتاريخ 02/02/2009م عن إتمام عمليّة إطلاقه على متن الصاروخ سفير (2).

 

24


13

خطاب الولي 2009

لقد عرضت القوّة الجوّيّة بفعلها هذا جوهرًا من جواهرها، وقد تجلّى هذا الجوهر في الحرب أيضًا، سواء في الجانب الهجوميّ، أو في الجانب الدفاعيّ. في الدفاع الذي استمرّ ثمانية أعوام، حينما شعر الشعب الإيرانيّ بعدم وجود أسوار أمنيّة تحيط به، وكان الأعداء يأتون دون أيّ خوف أو قلق، ويقصفون ويهاجمون، أبرزَت القوّة الجوّيّة جوهَرَها ذاك، فكانت الأعمال الأولى، والأفضل، والأكثر تألُّقًا، وحُسنَ صيتٍ في جيش الجمهوريّة الإسلاميّة، في بداية الحرب المفروضة، هي ما قامت به القوّة الجوّيّة. لقد كان هذا استمرارًا لذلك الجوهر، والآن هي كذلك أيضًا.

 

الثورة فاتحة التحوّلات

المهمّ أن يكون للإنسان أو للجماعة من الناس تقييمًا وفهمًا صحيحًا للتحوّلات والأحداث التي تتفاعل حوله. فبعض الأحداث التي لا تلفت نظر كثيرين، يفهمها ذوو البصائر، ويدركون أنّها في طور الحدوث، هذه نقطة مهمّة جدًا. وكان التحوّل الذي وقع في إطار الثورة الإسلاميّة من هذا القبيل. بعضهم لم يفهمه ولم يشخّصه، وفريق آخر خلطوا بينه وبين حركة عمياء، كثيرًا ما تحدث في مناطق مختلفة من العالم، هكذا تصرّفوا معه. وبعضهم أعدّوا أوعية أطماعهم، كي يستغلّوا هذا الحدث لمنافعهم الشخصيّة. هذا كلّه ناشئ من قصر النظر. كانت الثورة، بالدرجة الأولى، تحوّلًا في المجتمع الإيرانيّ، وبالدرجة الثانية، في مجمل الأمّة الإسلاميّة، ومن ثمّ في المعادلات الكبيرة لعالم السياسة، إذ غيّرَت جغرافيا القوّة في العالم، خصوصًا في بعض مناطق العالم. كانت الثورة هكذا حدث عظيم! واليوم، راحت هذه العظمة تبرز مؤشّراتها ودلائلها. فالتحوّل الذي حصل في إيران هو قلع نظام استبداديّ مغلق ظالم تعسّفيّ، على رأسه حكّام ورؤساء متعطّشون للدنيا وللشهوات، ولا يفكّرون إلّا بأنفسهم، ساسة غافلون عن الإنسان والإنسانيّة، ومن حيث التبعيّة، أسرى سياسات الآخرين، ومطيعون - لا محالة - لقوى التسلّط والهيمنة. كان هذا هو التحوّل الأساسيّ. ومن ثمّ تبديل (ذلك الوضع) إلى مجتمع رشيد، واعٍ، ذي عزيمة راسخة، مع شعب له القدرة على الانتخاب، وله حقّ الانتخاب، بعزّة وشموخ بين المجتمعات البشريّة، وله تأثيره

 

 

25

 


14

خطاب الولي 2009

على سائر المجتمعات. كان هذا هو التحوّل الرئيس الذي وقع.

 

أنتم اليوم ترون وتسمعون وتقرؤون أنّ القوى العالميّة كافّة تعتقد أنّ حضور إيران، ووجودها ورأيها وموقفها، (كلّ ذلك) مؤثّر في شتّى قضايا هذه المنطقة. هذا ما يقوله حتّى ألدّ أعدائنا، ويعرفون أنّه لا يمكن اتّخاذ أيّ قرار أو العمل به، لحلّ قضايا الشرق الأوسط، أو قضايا مجموعة بلدان هذه المنطقة، من دون المشاركة الإيرانيّة. أين هذا من ذلك الوضع السابق، حيث كان بلدٌ كبيرٌ، كإيران، بما له من تاريخ وتراث وشعب عظيم، مجرّد بيدق بيد المهيمنين والمستعمِرين، يحرّكونه كيف ما شاؤوا، ويستغلّونه وينتفعون منه، دون أيّ اكتراث لشعبه؟

 

ومن الناحية الاقتصاديّة، كانت موارد البلد بأيديهم: نفطها، وثرواتها المعدنيّة المتنوّعة، وثرواتها البشريّة المتنوّعة، وواقعها (موقعها) العسكريّ والاستراتيجيّ، كلّها كانت بيد الآخرين، يوظّفونها كيفما أرادوا.

 

هذا هو التحوّل الهائل الذي حصل.

 

التحوّل الهائل: الاستقلال والحرّيّة

طبعًا، لهذا التحوّل معانٍ أخرى، فالشعب الذي يتحلّى بمثل هذه الإرادة، وبمثل هذه القدرة على تبديل هكذا نظام سياسيّ إلى نظام شعبيّ ومنشود، سيظفر حتمًا بنجاحات مؤكّدة، كما هي لديه في شؤونه الاقتصاديّة، وفي تعميق ثقافته ونشرها، وفي طريق أخلاقه الإنسانيّة، وفي طريق تطبيق معتقداته القلبيّة (الإيمانيّة). هذا هو التحوّل العظيم الذي لم يفهمه بعضهم، ولا يزال بعضهم لا يفهمه إلى الآن. فالقوى الكبرى - التي لا هدف لها سوى قهر الشعوب والهيمنة عليها - غير مستعدّة لفهم (حقيقة) أنّه إذا ما استيقظ شعبٌ، وأدرك قيمة عزيمته وإرادته، وإذا ما أدرك شعبٌ أنّه إذا أراد وقرّر وعمل، فلن تستطيع أيّة قوّة الوقوف بوجهه، ولن يعود بالإمكان لَيُّ عضدّ مثل هذا الشعب. فبإمكانهم أن يحمّلوا هذا الشعبَ تكاليف وأثمان، بَيْدَ أنّ السيطرة عليه لن تعود ممكنة، ولن يعود بالإمكان استعباد هذا الشعب، وفرض معتقداتهم وإراداتهم عليه. هذا ما لم تستطع القوى الكبرى فهمَه إلى الآن.

 

26

 


15

خطاب الولي 2009

مضت ثلاثون سنة على هذا التحوّل الهائل، واستخدم أعداء الشعب الإيرانيّ وأعداء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، شتّى الأساليب والحيل، علّهم يتمكّنون من إخضاع هذا الشعب ثانية، وإعادة تلك الهيمنة الجهنميّة، التي فرضوها على إيران العزيزة عشرات الأعوام، ولم يكونوا على استعداد للتخلّي عنها. وإنّ التحدّي الراهن بين نظام الجمهوريّة الإسلاميّة وأعدائها المقتدرين العالميّين، يتمحور حول هذه النقطة. وإنّ قضيّة الطاقة النوويّة وصناعة الصواريخ وما إلى ذلك، هي مجرّد ذرائع، والقضيّة قضيّة أخرى. القضيّة هي أنّ شعبًا استطاع بقوّته وغلبته وعزمه وإرادته، أن يحرّر نفسه من الهيمنة القسريّة للآخرين. لكنّهم يحاولون إعادة هذه الهيمنة، لم يستطيعوا ذلك طبعًا، ولن يستطيعوا في المستقبل أيضًا.

 

"أُمِيد" إلى الفضاء

فمن قلب صنوف الحظر وأشكاله، التي فرضوها لسنوات طويلة على بلادنا، خرج فجأة القمر الصناعيّ "أُمِيد"[1]، وأُطلِق إلى الفضاء. ومن أعماق كلّ الضغوط التي مارسوها، ظهرَت، فجأة، القدرةُ على تخصيب اليورانيوم -وهي عمليّة محصورة ومقتصِرة على القوى الكبرى، وتُعَدّ ملكًا مطلقًا لهم يجب أن لا تخرج إلى أيّ مكان دون إذنهم- وتطوّرَت وتفاعلَت وأظهرَت عن نفسها. هذا دليل أنّ العدوّ لم يستطع فعل شيء، وأنّ حظره وتهديداته لم يكن لها أثر. لماذا؟ لأنّ هذا الشعب حافظ على عزيمته الراسخة، المستندة إلى إيمانه العميق، وهو يسير ويتقدّم إلى الأمام، وهم (الأعداء) عاجزون عنه.

 

صمود لبنان وغزّة

في الوقت الذي تعمل أجهزة هذه القوى الإعلاميّة المتطوّرة وفوق الحديثة، ليل نهار، ضدّ النظام الإسلاميّ والحركة الإسلاميّة، والجمهوريّة الإسلاميّة، أوجدَ رواج هذا الفكر واقعة غزّة، فوقفت جماعة صغيرة في أرض محدودة المساحة، أمام حكومة


 


[1] حرب تمّوز 2006م.

 

 

27


16

خطاب الولي 2009

تعتبر نفسها إحدى القوى العسكريّة الأولى في العالم. استخدم ذلك العدوُّ كلَّ إمكاناته، ليتمكّن من قهر هذا الشعب، فلم يستطع. هل هذا حدث صغير؟ هل هذا بالشيء القليل؟ وقبل هذا، كانت هناك أحداث لبنان قبل سنتَين[1]، حيث استخدموا أيضًا كلَّ إمكاناتهم وقدراتهم، بل وأَمَدَّ الأمريكيّون الكيانَ الصهيونيّ بالسلاح. ومع أنّ الكيانَ الصهيونيّ يصنع القنابل الذرّيّة، ويصدِّر المعدّات العسكريّة، إلّا أنّ الأمريكيّين أمدّوه بالمعدّات، لينتصرَ على مجموعة من الشباب المؤمن المتحفّز المُدافع، فلم يستطيعوا ذلك في حرب الثلاثة والثلاثين يومًا. هل هذه أمور صغيرة؟

 

الثورة تغيير جغرافيا القوّة

هذه هي النقاط التي غيّرت جغرافيا القوّة في العالم. فقد غيّرت شكل النظام العالميّ غير العادل، الذي يقسّم العالم إلى مهيمِنين، وخاضِعين للهيمنة. اعتاد العالم بعد القرن السابع عشر والثامن عشر للميلاد -حيث برزَت ظاهرة الاستعمار- على أنّ تمسك بضع دول بيدها، مصيرَ البلدان في العالم -حكومات وشعوبًا- اعتمادًا على قدراتها العسكريّة، وليس على قدراتها الأخلاقيّة. أحيانًا، يتهيّأ لدولة من الدول نفوذٌ بين بعض الشعوب أو مجموعة بلدان، بشكل طبيعيّ، بسبب قوّة فكرها وإشعاعها الأخلاقيّ، إلّا أنّ نفوذ الاستعمار لم يكن من هذا القبيل، كان نفوذه قسريًّا، وبفضل قدراته العسكريّة وأسلحته وعسفه. اعتاد العالم على أن تمتلك بعض (الدول) هذه الأسلحة القاهرة، وأن تستسلم لها أكثريّة الحكومات والشعوب في العالم. ثمّ يكون لبعض هؤلاء المستسلمين -بحسب شطارتهم- وضعٌ مادّيّ أفضل من سواهم، وبعضهم الآخر لا، لم يكن لديهم مثل هذا الوضع، وهم أشبه بغلمان وعبيد سيّد، قد يكون لبعضهم زاد وحياة أفضل، دون بعضهم الآخر، الذي تجتمع له العبوديّة والجوع.

 

فضل الثورة الإسلاميّة على العالم

وقد غابت هذه العادة عن العالم، بفضل الثورة الإسلاميّة، واتّضح أنّ مواقف القوى المهيمنة في العالم وكلامها ليس الكلام الأخير، إنّما الشعوب هي التي تتّخذ


 


[1] 29 بهمن (ه.ش.) موافق لـ 19/02/1978م: مناسبة مفصليّة في تاريخ الثورة الإسلاميّة، وهي يوم انتفاضة أهالي آذربيجان وتبريز ضدّ نظام الشاه، عند قيامهم بإحياء أربعينيّة شهداء انتفاضة أهالي قمّ في 9/12/1978م. وقد ولّدَت هذه الانتفاضة ملاحم تاريخيّة، أوصلَت الثورة إلى النقطة الحاسمة، وقد امتدّت هذه الانتفاضة إلى العديد من المدن والقرى.

 

 

28


17

خطاب الولي 2009

المواقف الأخيرة. عزمُ الشعوب وإيمانُها هو الذي يقول الكلمة الأخيرة. هذا ما علّمه الشعب الإيرانيّ للآخرين. طبعًا، كانت هناك ثورات في العالم قبل الثورة الإسلاميّة، إلّا أنّ أيّة ثورة -لاحِظوا كلّ تاريخ الثورات، منذ الثورة الفرنسيّة الكبرى وما قبلها، وإلى ما بعدها- لم تستطع الحفاظ على مبادئها خلال عقود متتالية، كما فعلت الثورة الإسلاميّة في إيران، حيث سارت في خطّها المستقيم، ولم تستسلم لهذا وذاك، بل واصلت طريقها المستقيم إلى الأمام.

 

هذه هي وصفةُ المستقبل. الشعب الإيرانيّ كلّه يعلم هذا، ويجب أن يعلمه، وعليكم أن تعلموه، وأنتم تعلمونه: إنّ السبيل لانتصار الشعب الإيرانيّ، انتصارًا نهائيًا كاملًا، هو أن لا يتخلّى عن هذا الخطّ المستقيم، خطّ الإيمان، الإيمان بالله، والإيمان بذاته، والإيمان بالقدرات الوطنيّة، والثقة بالذات الوطنيّة، وعدم تخلّيه عن طريق الإيمان والحركة والجهاد بكلّ أشكاله: الجهاد العلميّ، والجهاد العمليّ، وإذا ما اقتضت الضرورة، الجهاد العسكريّ.

 

ذكرى ٢٢ بهمن الخالدة أبدًا

حينما ينزل شعبنا إلى الساحات في يوم 22 بهمن من كلّ عام، باندفاع وشوق وعزم راسخ، ويشارك في هذه التظاهرات الحاشدة، ويعبّر عن نفسه، فإنّما يقوم بحركة رمزيّة تعبّر عن صموده واستقامته على هذه المبادئ ذاتها. يُظهِر الشعب (للعالم) أنّنا موجودون، لذلك تلاحظون أنّ مراسم الثاني والعشرين من بهمن أُقيمَت طوال هذه الأعوام الثلاثين (المنصرمة)، تحت الثلوج، وفي البرد القارس، وعلى الأراضي المتجمّدة، وتحت الشمس المحرقة في المناطق الحارّة، وجاء الناس إلى ساحة المظاهرات، وحافظوا على حضورهم، ولم يسمحوا بأن يفقد الثاني والعشرون من بهمن ألَقَه وبريقه.

 

وهذا ما سيحدث هذه السنة أيضًا، بتوفيق من الله. سيحضر الشعب الإيرانيّ مرّة أخرى، ويعبّر عن نفسه في الساحة، وهذا ما يبثُّ في العدوّ الشعور بالخسران، بالمعنى الحقيقي للكلمة. هكذا هو الحضور في المظاهرات، وكذلك الحضور في الميادين المختلفة للانتخابات المختلفة، ومشاركة الناس وحضورهم. وهذه الاستعراضات

 

29


18

خطاب الولي 2009

العلميّة والتقنيّة العظيمة التي يقدّمها شعبنا، الواحد تلو الآخر، لحسن الحظّ، وتظهر جهودُ شبابنا باستمرار، ويجب أن تزداد يومًا بعد يوم.

 

القوّة الجوّيّة: سدّ الثغرات

لديكم أنتم أيضًا في القوّة الجوّيّة في جيش الجمهوريّة الإسلاميّة، واجبات ووظائف محدّدة ومعروفة، ولديكم وظائف مهمّة، سواء كانت في القسم الأساسيّ من القوّة الجوّيّة، أم في قسم الدفاعات الجوّيّة. الواجب الأهمّ هو أن يشعر الإنسان أنّ عليه سدَّ الفراغات والثغرات. سُدّوا الفراغات في المعدّات والتنظيم والإدارة، أينما كنتم. حينما تتحلّى المنظومة بالعزيمة على التقدّم، فلن تنتظر أن تنتقل من مكان إلى آخر، أو أن يقول لها أحدٌ شيئًا، إنّما تُشخِّص الاحتياجات ضمن المساحة التي تعمل فيها، وتحاول رفع هذه الاحتياجات والنهوض بواجباتها بنحو كامل، وهذا ما حصل إلى الآن، في القوّة الجوّيّة في الجيش، بفضل وتوفيق من الله، وسيحصل بعد الآن أيضًا. هذا ما أشعر به حينما أنظر إلى الوجوه الشابّة المؤمنة، ذات العزيمة والإرادة، في القوّة الجوّيّة. ويمكن أن يفهم الإنسان هذا أيضًا، من التقارير والمعلومات التي تصله.

 

نحيّي ذكرى جميع الشهداء الأعزّاء في القوّة الجوّيّة وجيش الجمهوريّة الإسلاميّة، وكذلك الشهداء الأبرار في المنظومات المختلفة، الذين جاهدوا في هذا السبيل، واستشهدوا، وضحّوا بأنفسهم، وسقوا هذه الشجرة الشامخة. ونحيّي كذلك ذكرى إمامنا العزيز الجليل، الذي قاد هذه الحركة العظيمة، ونشكر المسؤولين المحترمين في القوّة الجوّيّة، والناشطين في القطاعات المختلفة، والمبدِعين، والذين أسّسوا لهذه الإبداعات في القوّة الجوّيّة، ونسأل الله -تعالى- أن يمنَّ عليكم بمزيد من التوفيق والعزيمة الراسخة كلّ يوم، كي تستطيعوا، إن شاء الله، أن تبلغوا بالجيش وبمنظومة القوّات المسلّحة، إلى حيث يشعر الشعب الإيرانيّ، بفضل وجودكم، أن لا خطر يهدّده من قِبَل الأعداء.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

30


19

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء أهالي محافظة آذربيجان الشرقيّة

 

 

المناسبة:   الذكرى السنويّة للتاسع والعشرين من بهمن

الحضور:  الآلاف من أهالي محافظة آذربيجان الشرقيّة

المكان:   طهران

 

الزمان:    28/11/1387هـ.ش.

20/02/1430هـ.ق.

16/02/2009م.

 

 

31

         


20

خطاب الولي 2009

أهلًا ومرحبًا بكم، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، وأشكر الله كثيرًا أنْ وفَّقنا اليوم، لأنْ ننعم في هذه الحسينيّة، بصفاء عوائل الشهداء، والشباب الأعزّاء، وأهالي تبريز وآذربيجان الأودّاء، ومعنويّتهم التي تذكّرنا بالإمام الحسين بن عليّ عليه السلام، وتنوّر أجواء حياتنا وعملنا بهذا التوجُّه والصفاء، الذي ألِفناه فيكم يا أهالي تبريز الأعزّاء.

 

ذكرى الأربعين استمرارٌ للثورة

هذا الاقتران له مغزًى كبير. فاليوم هو يوم الأربعين، ويوم حادثة 29 بهمن[1] في تبريز، التي هي حادثة أربعينيّة. كان "الأربعون" في واقعة كربلاء منطَلقًا وبدايةً. فبَعد أن حدثَت واقعة كربلاء -تلك الفاجعة الكبرى- وسطّر أبو عبد الله عليه السلام وأصحابه وأعوانه وعياله، تضحياتٍ لا نظير لها في ذلك المكان المحدود، كان على واقعة الأَسر والسبي أن تنشر الرسالة، وكان على خُطب السيّدة زينب الكبرى عليها السلام والإمام السجّاد عليه السلام، وكشفها للحقائق، أن تعمل كوسيلة إعلاميّة قويّة لنشر الأفكار، والأحداث، والأهداف، والاتّجاهات على نطاق واسع، وهذا ما حصل. إنّ ميزة بيئة القمع أنّ الناس فيها، لا يجدون الفرصة والجرأة على التعبير عن الحقائق التي أدركوها، وأن يُظهِروها في أعمالهم.


 


[1] 29 بهمن (ه.ش.) موافق لـ 19/02/1978م: مناسبة مفصليّة في تاريخ الثورة الإسلاميّة، وهي يوم انتفاضة أهالي آذربيجان وتبريز ضدّ نظام الشاه، عند قيامهم بإحياء أربعينيّة شهداء انتفاضة أهالي قمّ في 9/12/1978م. وقد ولّدَت هذه الانتفاضة ملاحم تاريخيّة، أوصلَت الثورة إلى النقطة الحاسمة، وقد امتدّت هذه الانتفاضة إلى العديد من المدن والقرى.

 

 

32


21

خطاب الولي 2009

فأوّلًا، لا يسمح الجهاز الظالم المستبدّ، للناس، بأن يفهموا ويدركوا، وإذا ما خرج وعي الناس من يده، وفهموا الحقائق والأمور، فلن يسمح لهم بالعمل بما فهموه. أدرك الكثيرون في الكوفة، وفي الشام، وعلى طول الطريق، الكثير من الأمور، عن لسان زينب الكبرى عليها السلام، أو الإمام السجّاد عليه السلام، أو عبر مشاهدتهم حال الأسرى، ولكن، مَن كان يتجرّأ ويقدر على إبداء ما فهمه، مقابل أجهزة الظلم والاستكبار والاستبداد والقمع؟ بقيَت القضيّة أشبه بغصّة في حناجر المؤمنين، وتفجّرت هذه الغصّة، أوّلَ مرّة، في يوم الأربعين، الفوران الأوّل حصل في كربلاء في يوم الأربعين.

 

حوادث ما بعد عاشوراء: تَحقُّق الهدف

كتب المرحوم السيّد ابن طاووس[1]، وغيره من الشخصيّات اللامعة: إنّ قافلة الأسرى -أي السيّدة زينب عليها السلام وباقي الأسرى- حينما جاءت كربلاء في الأربعين، لم يكن هناك جابر بن عبد الله الأنصاريّ وعطيّة العوفيّ فقط، بل رجال من بني هاشم. عدد من رجال بني هاشم وأصحاب الإمام الحسين كانوا مجتمعين حول تربة سيّد الشهداء، وجاؤوا لاستقبال زينب الكبرى. وربّما كانت هذه السياسة الولائيّة لزينب الكبرى، بالتوجّه إلى كربلاء، عند العودة من الشام، من أجل قيام هذا الاجتماع الصغير -لكن الغزير بالمعنى- في ذلك الموضع. بعض (العلماء) استبعد وصولهم إلى كربلاء في يوم الأربعين، وللمرحوم الشهيد آية الله قاضي مدوّنة مفصّلة، يثبت فيها أنّ هذا الشيء ممكن الوقوع. على كلّ حال، ما ورد في كلمات الكبار القدماء، هو أنّ زينب الكبرى وجماعة أهل البيت حينما نزلوا كربلاء، كان عطيّة العوفيّ وجابر بن عبد الله ورجال من بني هاشم حاضرين هناك. هذا مؤشّر ونموذج لتحقُّق ذلك الهدف، الذي كان ينبغي أن يتحقّق بالاستشهاد، أي نشر هذا الفكر، وبثّ الجرأة في نفوس الناس. ومن هناك، انبثقَت أحداث التوّابين. ومع أنّ نهضة التوّابين قُمِعَت، ولكن وقعَت بعد مدّة


 


[1] السيّد ابن الطاووس (5 محرّم 589ه - 5 ذو القعدة 664ه): السيّد رضيّ الدين أبو القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن محمّد الطاووس العلويّ الحسنيّ. وُلِد بالفيحاء، ولُقِّبَ جدُّهم محمّد بـ"الطاووس" لحُسن وجهه وجماله، وظهر منهم نوابغ عظام كانوا مفخرةً للأجيال من بعدهم، ولهم مراكز عالية في أيّامهم، نفعوا بها الناس، ومؤلّفات قيّمة، بقي منها بأيدينا الكثير المفيد.

 

33


22

خطاب الولي 2009

قصيرة ثورةُ المختار، وسائر أبطال الكوفة، وكانت نتيجة ذلك انهيار عائلة بني أُميّة الظالمة الخبيثة. طبعًا، حلَّت من بعدهم السلالةُ المروانيّة، لكنّ المواجهة استمرَّت، والطريق انفتح. هذه هي خصوصيّة الأربعين، أي ثمّة كشف للحقائق في الأربعين، وثمّة عمل، ويوجد في الأربعين، كذلك، تحقيقٌ لأهداف هذا الكشف عن الحقائق.

 

نموذج أربعينيّة تبريز

ونظير هذه الحالة، حصل في أربعينيّة تبريز[1]. سبق أن ذكرتُ هذا لأهالي تبريز الأعزّاء: لولا وقوع حادثة التاسع والعشرين من بهمن في تبريز، أي لو لم يتمّ إحياء ذكرى شهداء قمّ مِن قِبَل الجماهير في تبريز، بتلك التضحيات كلّها، لربّما اتّخذ مسار الكفاح طريقًا آخر، وكان من المحتمل جدًّا أن لا يقع هذا الحدث الكبير، بهذا الشكل الذي وقع فيه. أي إنّ قضيّة تبريز وانتفاضة أهالي تبريز في 29 من بهمن، كان حدثًا مصيريًّا. فقد أحيَت أحداث تبريز وقائعَ الدماء المسفوكة في قمّ، وأساسَ دوافع انتفاضة قمّ. طبعًا، دفعَ الناسُ في هذا السبيل أثمانًا، قدّموا أرواحهم، وراحتهم، وأمنهم، قدّموا هذا كلّه، لكنّ النتيجة التي حصلوا عليها هي أنّهم أيقظوا البلد كلّه. وهكذا أُقِيمَت أربعينيّة أحداث قمّ، كما أُقِيمَت عدّة أربعينيّات لشهداء تبريز، الذين تضرّجوا بدمائهم في التاسع والعشرين من بهمن. هذا دليل على انتشار الحركة، وهذه هي طبيعة الحركة الصحيحة.

 

دروس واقعة ٢٩ بهمن

حسنًا، هذا فيما يتعلّق بالتاريخ والماضي. مرَّت إلى الآن إحدى وثلاثون سنة على وقائع تبريز في (19 (شباط) عام 1978م). إحدى وثلاثون عامًا هو زمنٌ طويل، الكثير من الحاضرين هنا، إمّا لم يكونوا قد وُلِدوا في ذلك الحين، أي هم الآن شباب، أو إذا كانوا قد وُلِدوا، فقد كانوا صغار السنّ ولم يفطنوا. ما هو الدرس؟ فكلّ حدث ينبع من نيّة سليمة وفكرة صحيحة، له دروسه، فالأحداث الكبرى تنطوي على دروس، ينبغي تعلُّم تلك الدروس. إنّ دروس واقعة 29 بهمن هي: أوّلًا، تأثيراتها في


 


[1] إحياء ذكرى أربعين شهداء انتفاضة قمّ في مدينة تبريز.

 

 

34


23

خطاب الولي 2009

توعية الجماهير وصحوتهم وإيقاظهم، وثانيًا، بثّ الجرأة في نفوسهم وعدم الاكتراث للصعاب والأخطار، وثالثًا، الأمل بالمستقبل. هذه هي الدروس الثلاثة المهمّة. أوّلًا، الوعي والإدراك. فالكثيرون لم يفهموا أهمّيّة الظرف، لكنّ أهالي تبريز أدركوا الظرف وحساسيّته، وبادروا، وهذه اليقظة نفسها، وإدراك الظرف وحساسيّته، تُعَدّ أمرًا مهمًّا. وبعد إدراك الظرف الحسّاس، يجب أن تكون هناك الهمّة والجرأة للمبادرة، وهذه هي النقطة الثانية. ثمّ ينبغي أن تتمّ المبادرة (النهوض) انطلاقًا من الأمل، والتوكُّل والاعتماد على الله، وحسن الظنّ بالله. هذا جانب من دروس التاسع والعشرين من بهمن.

 

البصيرة: إدراك حساسيّة الظرف

لو لم يكن هؤلاء الناس مؤمنين، ولو لم يكن الإيمان يموج في قلوبهم، فحتّى لو كانوا قد تحلّوا بذلك الوعي، لَما نَفَعَهم وعيُهم شيئًا، ولَما أفضى إلى مبادرة أو نهضة تُذكَر، فإيمان الناس، ويقظتهم، ومبادرتهم (إلى العمل) في الوقت المناسب، كلّ هذا كان له دوره، وهو ما غدا دروسًا لنا. وكذا الحال اليوم أيضًا، وكذا هو المستقبل. ينبغي متابعة الأحداث بوعي.

 

لم تدرك الكثير من الشعوب حساسيّة الظرف، حينما مرّت بظروف حسّاسة. ولأنّها لم تدرك ذلك، تراكمَت عليها الأحداث، فتخطَّتها، وبقيَت في غفلة، وسُحِقَت تحت أقدام الأحداث. لو أنّ الجميع في ذلك اليوم، حينما وقف بعض العلماء بوجه استبداد رضا خان[1]، واكبوا هؤلاء العلماء، ولو أدرك كلّ أبناء الشعب بعمق، ما الذي كان يحدث في البلاد، ووقفوا بقوّة، ربّما كان شعبنا الآن متقدّمًا خمسين عامًا (عمّا هو عليه)، ولَما تكبّد خسائر خمسين عامًا من عهد النظام البهلويّ الطاغوتيّ التابع المنحطّ. تؤدّي الغفلة إلى أن يتحمّل الإنسان هذه الأضرار. ينبغي عدم الغفلة. لو كان ثمّة إدراك


 


[1]  رضا بهلويّ: شاه إيران، مؤسِّس الدولة البهلويّة، حكم بين عامَي 1925م و1941م، خلفه ابنه محمّد رضا، الذي أطاحت الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة بحكمه عام 1979م، بقيادة الإمام الخمينيّ {. ومن المعروف أنّ الشاه وابنه المقبورَين، كانا ذليلَين أمام قوى الطاغوت الغربيّ، ومتجبّرَين ومستبدَّين بحقّ الشعب، وهناك وثائق ومقالات خرجَت إلى العلن في الغرب نفسه، تُظهِر مدى ذلّ الشاه وعمالته للأميركيّين والإنكليز.

 

35


24

خطاب الولي 2009

لحساسيّة الظرف يومَ قام الأمريكيّون بانقلابهم في هذا البلد -الأمريكيّون والإنجليز معًا في عام 1953م[1]- ولو اتُّخِذَت المبادرة المناسبة، فمن المؤكّد والمقطوع به أنّ البلد لم يكن ليتحمّل سنوات من الخسائر التي تحمّلها. ينبغي رصد الأحداث بكلّ يقظة.

 

أعداء الثورة جبهةٌ واسعة

يرى شعبنا اليوم جبهة واسعة أمامه، تحاول بكلّ قدراتها سلخَ الثورة الإسلاميّة عن سِمتها، وتأثيرها المناهض للاستكبار. سَعَت هذه الجبهة، منذ بداية انتصار الثورة، للحؤول دون قيام الجمهوريّة الإسلاميّة المنبثقة عن الثورة. بذلوا كلّ جهدهم، كي يحولوا دون انبثاق الجمهوريّة الإسلاميّة، وبالطبع، لم يفلحوا في ذلك. كانت لهم أعمالهم ومواقفهم السياسيّة، وحظرهم الاقتصاديّ، وحربهم المفروضة على هذا الشعب لمدّة ثمانية أعوام، أمدّوا عدوّ هذا الشعب بالمعدّات، وبثّوا الوساوس الداخليّة في روح الثورة الإسلاميّة ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة، فلم يستطيعوا. وهكذا، توصّلوا إلى نتيجةٍ، فحواها أنّه من المستحيل إسقاط نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، لأنّ المدافعين عنه وحماته، هم الناس المؤمنون، الذين جعلوا من صدورهم دروعًا في الدفاع عنه، وهناك الملايين من المؤمنين يسندون هذا النظام. ليست القضيّة قضيّة المسؤولين والحكومة. تارةً، يكون هناك نظامٌ يقوم على عدّة أفراد وعدد من المرتزقة، فمثل هذا النظام لا يشكّل خطرًا على الاستكبار. وتارةً، يقوم النظام على إيمان الجماهير وقلوبهم ودعمهم العميق، مثل هذا النظام لا يمكن زلزلته، هذا ما أدركه الاستكبار.

 

٢٢ بهمن: الاستعراض العظيم

إنّ هذه التظاهرات، وذكرى 22 بهمن التي أحييتموها هذه السنة، كانت استعراضًا عظيمًا هائلًا. وإنّ حضور الشباب في الميادين المختلفة، وشعارات الثورة التي أصبحَت حيّة أكثر من السابق -لحسن الحظّ، ليس هناك بين المسؤولين من يتعامل مع شعارات الثورة بخجل، بل يفخرون بالاستقلال، والحريّة، والإسلام، والدستور القيِّم المتين،

 


[1]  انقلاب الثامن والعشرين من مرداد (1953م) الذي نفّذه الأمريكيّون في إيران، وأسقطوا من خلاله حكومة الدكتور مصدّق.

 

36


25

خطاب الولي 2009

والغنيّ بالمعنى والمحتوى- تدلّ جميعها على عدم إمكانيّة زعزعة النظام، (وعليه)، وصلوا إلى نتيجة أنّهم يجب أن يُضعِفوا من مضمون النظام (يقلّلوا من شأن النظام)، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. وما كان الهجوم الثقافيّ الذي ذكرته قبل سنين -وهذا الغزو الثقافيّ، يلاحِظ المرءُ أماراتِه في المرافق المختلفة في الماضي والحاضر- إلّا بهذه النيّة، وبهذا القصد، بقصد إفراغ الثورة من محتواها ومضمونها الإسلاميّ والدينيّ، ومن روحها الثوريّة. هذه من النقاط الحسّاسة التي تستدعي يقظة الجماهير. إنّها أَشبَه بقضيّة التاسع والعشرين من بهمن. لم يفهم الكثيرون أهمّيّة التاسع والعشرين من بهمن، لكنّكم، أيّها التبريزيّون، فهمتموها، وأظهرتم وعيكم هذا على المستوى العمليّ، وكذلك الحال في المراحل كافّة. على شعبنا إدراك أهمّيّة الأحداث، وهو اليوم يدرك هذا الشيء، لحسن الحظّ. الشعب يقظ تمامًا. وهذا بذاته من بركات الثورة ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة. لقد استيقظ الناس، ولديهم القدرة على التحليل.

 

تجذُّر بنيان الثورة

ليعلم الجميع أنّ أعداء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة عاجزون، اليوم، عن استئصال هذا البناء المتين. يحاولون بشتّى الوسائل، الانتقاص، ذرّةً ذرّةً، من هذا المحتوى (الشأن)، على أيدي الذين كان لهم يد في هذه الثورة، وما زالوا. فلتحمل الجمهوريّة الإسلاميّة اسم الجمهوريّة الإسلاميّة، واسم النظام الثوريّ، ولكن دون أن يكون فيه أثر لمحتوى الإسلام والثورة[1]. ما هي قيمة الاسم؟ المحتوى هو الضروريّ والمهمّ. إنّ من واجباتنا -أنا وأنتم- الدفاع عن محتوى الثورة، والمبادئ القيّمة للثورة، ولا نسمح بتجاهل هذه الركائز القيّمة، وهذه القيم السامية. هذا هو واجبنا.

 

ولنعلم أنّ الله -تعالى- يعيّن الجماعة التي تتحرّك انطلاقًا من الإيمان به، وتُقدِم وتُعمِلْ قدراتها الإنسانيّة وطاقاتها من أجل هدف معيّن. وإنّ الله -تعالى- عونُ الذين يعملون من أجل الأهداف الإلهيّة. حيثما هُزِمنا، وحيثما لم يمدّنا الله بعونه،


 


[1] إشارة إلى الذين انساقوا مع الحملة الإعلاميّة والدعائيّة المغرِضة لأعداء الثورة، وعملوا على محاربة مبادئ الثورة، تحت شعار الثورة، بأسلوب فكريّ سياسيّ مرن. وعلى ما يظهر، فقد كانت هذه الفكرة إحدى المقدِّمات أو العناصر الظرفيّة لظهور فتنة انتخابات 1388 (2009م).

 

37


26

خطاب الولي 2009

كان ذلك بسبب عدم قيامنا بالعمل الصحيح، ولم نقدِّم حصّتنا من العمل. لو كنّا قمنا بواجبنا من العمل، لكان الله -تعالى- قد أعاننا. يقول سبحانه: ﴿وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ﴾[1]. القضيّة قضيّة طرفَين. فالله -تعالى- وهو مالك أرواحنا، ومَن وهبنا جميع المواهب- عقد معنا عهدًا له جانبان. اعملوا أنتم، وسنعمل نحن أيضًا. الله -سبحانه- وعدَنا بهذا. إذا لم نعمل بواجبنا، فلن يكون بوسعنا توقُّع العَون الإلهيّ.

 

شعارات الثورة وحضور الشباب

لقد أثبت الشعب الإيرانيّ -والحمد لله- أنّه صاحب مبادرة وعمل. طوال هذه الأعوام الثلاثين، التي تَمنّى فيها أعداؤنا أن تنسى شعارات الثورة، حينما تنظرون اليوم -بعد مضيّ ثلاثين عامًا على الثورة- إلى التجمّعات الجماهيريّة، وأقوال الجماهير وشعاراتهم، ترون المشاعر نفسها، والشعارات ذاتها، تلك التي كانت في بداية الثورة. لقد حُفِظ هذا الصراط المستقيم، وهذا شيء على جانب كبير من الأهمّيّة، لا نلاحظه في ثورات التاريخ. وقد حصل هذا بفضل الإيمان بالله، وببركة الإسلام. ينبغي المحافظة على شعارات الثورة. وعلى الشباب خاصّةً، أن يغتنموا هذه الفرصة، ويعرفوا قدرها. ولحُسن الحظّ، فإنّ جيل الشباب عندنا اليوم، أكثر تجربةً ووعيًا من جيل الشباب يوم ذاك. إذا كانت الغلبة يوم ذاك، هي للمشاعر والعواطف، فإنّ حضور الشباب في الساحة اليوم، إنّما هو بدافع الفكر والوعي، وليس مقتصرًا على المشاعر. وعلى الرغم من حضور المشاعر والجانب العاطفيّ -وهو أمر مهمّ- لكنّ الفكر حاضر، وكذلك الوعي الصحيح، والحضور في الساحة.

 

حَشَر الله شهداءنا الأبرار مع الرسول، وحشر إمامنا الجليل، رائد هذه الحركة العظيمة، مع أوليائه. وجعلَنا من جنود هذا الدرب، والمضحّين من أجل هذا الهدف المقدّس. وزاد، يومًا بعد يوم، من توفيقاته لكم، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 40.

 

38


27

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في مؤتمر الدفاع عن فلسطين

 

 

         

المناسبة:   انعقاد المؤتمر الدوليّ للدفاع عن فلسطين

الحضور:  المشاركون في المؤتمر

المكان:   طهران

 

الزمان:    14/12/1387هـ.ش.

06/03/1430هـ.ق.

04/03/2009م.

 

40


28

خطاب الولي 2009

أرحّب بالضيوف الكرام، وحضرات العلماء والمفكّرين والسياسيّين والمجاهدين، المشاركين في المؤتمر الرابع للدفاع عن فلسطين، في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.

 

إنّ الفترة الزمنيّة الواقعة بين هذا المؤتمر والمؤتمر السابق -الذي انعقد في طهران من 15 حتّى 17 شهر ربيع الأوّل لعام 1427ه- قد شهدَت أحداثًا مهمّة ومصيريّة، تجعل آفاق مستقبل القضيّة الفلسطينيّة أكثر وضوحًا، وتلقي مزيدًا من الأضواء على مسؤوليّاتنا تجاه هذه القضيّة، التي ما تزال تمثّل القضيّة الرئيسة للعالم الإسلاميّ.

 

الكيان الصهيونيّ: منحدر السقوط

وتأتي، ضمن هذه الأحداث المهمّة، الهزيمة النكراء التي مُنِيَت بها إسرائيل، عسكريًّا وسياسيًّا، أمام المقاومة الإسلاميّة، خلال حربها ضدّ لبنان عام 2006م، والتي استمرَّت 33 يومًا، ثمّ الفشل المخزي الذي باء به الكيان الصهيونيّ، خلال حربه الإجراميّة التي شنّها مدّة 22 يومًا، ضدّ الشعب الفلسطينيّ، والحكومة الفلسطينيّة الشرعيّة في غزّة. فإنّ هذا الكيان الغاصب، الذي كان قد ظهر طيلة عقود عدّة، كوجهٍ مرعب، وكقوّة لا تُقهَر -وذلك بالاعتماد على ما لديه من جيش وسلاح، وبفعل الدعم الأمريكيّ السياسيّ والعسكريّ- نجده قد انهزم مرّتَين أمام قوى المقاومة، التي كانت تقاتل بالاعتماد على الله، والاستناد إلى جماهير الشعب، قبل اعتمادها على السلاح والعتاد. ورغم التدريبات والتحضيرات العسكريّة، والاستعانة بالأجهزة الاستخباراتيّة الضخمة، والدعم السخيّ المتواصل من قبل أمريكا وبعض الدول الغربيّة، ومعاونة بعض المنافقين في العالم الإسلاميّ. على الرغم من ذلك كلّه، كشف الكيان الصهيونيّ عن واقع انهياره، وعن منحدر السقوط الحادّ الذي بات يتدحرج منه إلى الهاوية، وأثبَتَ عجزَه أمام تيّار الصحوة الإسلاميّة الجارف.

 

 

42

 


29

خطاب الولي 2009

اتّساع نطاق الإجرام الصهيونيّ

من جهة أخرى، فإنّ الجرائم التي ارتكبها الصهاينة المجرمون، خلال حادثة غزّة التاريخيّة، متمثّلةً في قتل المدنيّين على نطاق واسع، وهدم البيوت العزلاء، وشقّ صدور الأطفال الرضّع، وقصف المدارس والمساجد، واستخدام القنابل الفوسفوريّة وبعض الأسلحة المحرّمة الأخرى، وسدّ طرق وصول الغذاء والدواء والوقود وسائر ما يحتاج إليه الناس، مدّة سنتَين تقريبًا، وكثير من الجرائم الأخرى، كلّ تلك الجرائم قد أثبتَت أنّ غريزة الهمجيّة والإجرام، لدى قادة الدولة الصهيونيّة المزيّفة، لم تتغيّر عمّا كانت عليه خلال العقود الأولى لمأساة فلسطين، وأنّ السياسة نفسها، والطبيعة الهمجيّة نفسها، والقسوة التي أوجَدَت مآسي دير ياسين وصبرا وشاتيلا، ما تزال بعينها، تحكم الأذهان والنفوس المظلمة لهؤلاء الطواغيت.

 

ولا شكّ أنّ الاستعانة بالتطوّر التقنيّ المعاصر، قد وسّع من نطاق الإجرام، وجعله أكثر مأساويّة بدرجات.

 

لا تعايُش مع الصهاينة

سواء أولئك الذين كانوا قد توهّموا أنّ الكيان الصهيونيّ قوّة لا تُقهَر، فرفعوا شعار "الواقعيّة" ومدّوا يد المساومة والاستسلام للغاصبين، وأولئك الذين اعتبروا -حسب أوهامهم الباطلة- أنّ الجيل الثاني والثالث من الساسة الصهاينة، براء من جرائم الجيل الأوّل، فعلّقوا الآمال على إمكانيّة التعايش معهم بسلام، ينبغي لهؤلاء جميعًا أن يكونوا قد انتبهوا اليوم، إلى خطئهم في التقدير.

 

الصهاينة: مؤشّرات العجز

فإنّه أولًا، على ضوء موجة صحوة الأمّة الإسلاميّة، وتنامي شجرة المقاومة الإسلاميّة، سقطَت تلك الهيبة الزائفة، وظهرَت مؤشّرات العجز والشلل في الكيان الغاصب. وثانيًا، يُلاحَظ أنّ طبيعة العدوان وعدم الخجل من الإجرام، لدى قادة هذا الكيان، هي هي، كما كانت لديهم خلال العقود الأولى، فإنّهم لا يتورّعون عن ارتكاب أيّ جريمة، كلّما وجدوا -أو ظنّوا- أنفسَهم قادِرين عليها.

 

43

 


30

خطاب الولي 2009

لقد مرّ، اليوم، ستّون عامًا على احتلال فلسطين. وطوال هذه المدّة، وُضِعَت جميع وسائل القوّة المادّيّة في خدمة المحتلّين، ابتداءً من المال والسلاح والتقنيّة، إلى المساعي السياسيّة والدبلوماسيّة، إلى الشبكة الضخمة للإمبراطوريّة الخبريّة والإعلاميّة. وعلى الرغم من هذه الجهود الشيطانيّة الهائلة والمحيّرة، لم يتمكّن الغاصبون، ولا حُماتهم، من حلّ مشكلة مشروعيّة الكيان الصهيونيّ. ليس هذا فحسب، وإنّما ازدادت هذه المشكلة تعقيدًا وصعوبة (عليهم) مع مرور الوقت.

 

وممّا يدلّ على هذا التزعزع والغموض في موقفهم، هو أنّ الأجهزة الإعلاميّة الغربيّة والصهيونيّة، والحكومات الداعمة للصهيونيّة، لا تتحمّل مجرّد طرح سؤال، أو إجراء بحث ودراسة حول الهولوكوست، التي اتُّخِذَت ذريعة لاغتصاب فلسطين. فقد أصبح الكيان الصهيونيّ اليوم، أمام الرأي العامّ العالميّ، في حالة هي أسوأ من أيّ وقت مضى من تاريخه الأسود. كما أصبح التساؤل عن مبرّر وجوده، أكثر جدّية من أيّ وقت.

 

المقاومة: إيقاظ الضمير

إنّ موجة الاحتجاج العالميّة العفويّة، التي انطلقَت ضدّ هذا الكيان، بشكل لم يسبق له مثيل، والتي اجتاحت العالم، من شرق آسيا إلى أمريكا اللاتينيّة، والمظاهرات الجماهيريّة التي قامت في 120 بلدًا من بلدان العالم، بما في ذلك البلدان الأوروبّيّة التي هي المنبت الرئيسيّ لهذه الشجرة الخبيثة، دفاعًا عن المقاومة الإسلاميّة في غزّة، وعن المقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة خلال حرب الـ 33 يومًا، كلّ ذلك، إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على ظهور مقاومة عالميّة ضدّ الصهيونيّة، بما لم يسبق له مثيل، من حيث الجدّيّة والحجم (والانتشار)، طوال الأعوام الستّين الماضية. فإذًا، يمكن القول: إنّ المقاومة الإسلاميّة في لبنان وفلسطين، قد نجحَت في إيقاظ الضمير العالميّ.

 

وعد الله لا يُخلَف

وإنّ هذا لدرسٌ كبير لأعداء الأمّة الإسلاميّة، الذين حاولوا أن يصطنعوا دولةً وأمّةً مزيّفتَين، بفعل القمع والكبت، وأن يحوّلوا ذلك إلى واقع لا يمكن إنكاره، ثمّ يعملوا

 

 

44

 


31

خطاب الولي 2009

على تطبيع مثل هذا الظلم المفروض على العالم الإسلاميّ، كما أنّه درس كبير للأمّة الإسلاميّة، وبخاصّة الشباب الغيارى، والضمائر الحيّة فيها، ليعلموا أنّ الجهاد في سبيل استعادة الحقّ المسلوب، لن يذهب هباءً، وأنّ وعد الله حقّ، إذ يقول: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[1]. ويقول -تعالى-: ﴿إِنَّ   لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ﴾[2]، وقال -عزّ وجلّ-: ﴿وَلَن يُخۡلِفَ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥۚ﴾[3]، ويقول: ﴿وَعۡدَ   لَا يُخۡلِفُ   وَعۡدَهُۥ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾[4]، ويقول -عزّ مِن قائل-: ﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾[5]. وأيّ وعد يكون أكثر صراحة من هذا الوعد الإلهيّ، حيث يقول:

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[6].

 

التعايش مع الصهاينة وهمٌ ومغالطةٌ

هناك مغالطة كبيرة قد انتابَت أذهان بعض المعنيّين (المسؤولين)، فيما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة، وهي أنّ دولة باسم إسرائيل تمثّل واقعًا مضى على عمره ستّون عامًا، فيجب التصالح والتعايش معه. وأنا لا أدري لماذا لا يتلقّى هؤلاء الدرس من سائر الوقائع الماثلة أمام أعينهم، ألم تستعد دول البلقان والقوقاز وجنوب غرب آسيا، هويّتها الأصليّة مرّة أخرى، على الرغم من أنّها عاشت ثمانين عامًا، تحت وطأة غياب

 


 


[1] سورة الحجّ، الآيتان 39-40.

[2] سورة آل عمران، الآية 9.

[3] سورة الحجّ، الآية 47.

[4] سورة الروم، الآية 6.

[5] سورة إبراهيم، الآية 47.

[6] سورة النور، الآية 55.

 

45


32

خطاب الولي 2009

الهويّة، بعد أن تحوّلَت إلى أجزاء من الاتّحاد السوفياتيّ السابق؟ فلماذا لا تستطيع فلسطين، وهي بضعة من جسد العالم الإسلاميّ، أن تستعيد هويّتها الإسلاميّة والعربيّة، مرّة أخرى؟ ولماذا لا يستطيع شباب فلسـطين -وهم من أكثر شباب الأمّة العــربيّة ذكاءً وصمودًا- أن يغلّبوا إرادتهم على هذا الواقع الظالم؟

 

المفاوضات مغالطة أخرى

وهناك مغالطة أخرى أكبــر من المغالطة الأولى، وهي أن يُقال: إنّ الطريق الوحيد لإنقاذ الشعب الفلسطينيّ، هو إجراء المباحثات! مع مَن يا ترى تكون المباحثات؟ أتكون المباحثات مع الكيان الغاصب المتعسّف الضالّ، الذي لا يؤمن بأيّ مبدأ سوى مبدأ القوّة؟ ماذا جنى أولئك الذين علّقوا الأمل على هذه الألعوبة والخديعة؟

 

أوّلًا، ما أخذه هؤلاء من الصهاينة، باعتباره حكمًا ذاتيًّا -بغضّ النظر عن طبــيعته المخزية والمهينة- قد كلّفهم ثمنًا باهظًا، وهو الاعتراف بملكيّة الكيان الغاصب لكلّ أرجاء فلسطين تقريبًا. ثانيًا، إنّ تلك السلطة الناقصة الزائفة نفسها ظلَّت تُنتَهَك وتُداس تحت أقدام الصهاينة، مرّاتٍ ومرّات، فإنّ محاصرة ياسر عرفات في مبنى إدارته في رام الله، مع ممارسة أنواع الإهانة والإذلال، ليست من الأحداث التي تُمحى من الذاكرة.

 

ثالثًا، كان تعامل الصهاينة مع مسؤولي السلطة الفلسطينيّة -سواء كانت في عهد عرفات، أم بعده خاصّة- على غرار التعامل مع رؤساء مراكز شرطتهم، ممّن يمتثل أوامرهم في مطاردة، واعتقال المجاهدين الفلسطينيّين، وتطويقهم استخباراتيًّا وأمنيًّا. فكان أن زرعوا بذور العداء بين الفصائل الفلسطينيّة، وحرّضوهم بعضهم ضدّ بعض.

 

رابعًا، ولم يتحقّق، حتّى ذلك القدر الضئيل من الإنجاز، إلّا بفضل جهاد المجاهدين، ومقاومة الغيارى من الرجال والنساء الرافضين للاستسلام. فلولا موجات (حركات) الانتفاضة، لَما أعطى الصهاينة للقادة الفلسطينيّين التقليديّين، حتّى ذلك الشيء الضئيل، على الرغم من التنازلات المتواصلة التي قدّمها هؤلاء إلى الجانب الصهيونيّ.

 

 

46

 


33

خطاب الولي 2009

أمريكا وإنكلترا: الذنْب الكبير

هل تكون المباحثات مع أمريكا وبريطانيا، اللتَين ارتكبتا الذنب الأكبر، عبر إيجادهما هذه الغدّة السرطانيّة، ودعمهما لها، واللتَين تمثّلان طرفًا في المعركة قبل أن تكونا الوسيط فيها؟! فلم تتوقّف الإدارة الأمريكيّة، يومًا، عن دعمها اللامحدود للكيان الصهيونيّ، أو حتّى لجرائمه السافرة، مِن قَبيل ما ارتكبه في غزّة مؤخّرًا. بل إنّ الرئيس الأمريكيّ الجديد، الذي جاء إلى سدّة الرئاسة، رافعًا شعار التغيير في سياسات إدارة بوش، نراه يتكلّم عن التزامه، بلا قيد أو شرط، بحماية أمن إسرائيل، أي دفاعه عن إرهاب الدولة، وعن الظلم والتعسّف، وعن مجازر راح ضحيّتها مئات من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيّين، خلال 22 يومًا. هذا يعني الطريق الخاطئ ذاته المسلوك في عهد بوش بالضبط.

 

الأمم المتّحدة شريكةٌ بالذنب

وإجراء المباحثات مع الجمعيّات التابعة للأمم المتّحدة، هو أيضًا توجُّهٌ عقيم آخر. فقلّما نجد حالة قد تعرّضَت الأمم المتّحدة فيها لاختبار فاضح، مثل تعرُّضها للاختبار في قضيّة فلسطين. لقد سارع مجلس الأمن يومًا ما، إلى الاعتراف رسميًّا باحتلال فلسطين، مِن قِبَل الجماعات الإرهابيّة الفاتكة، وقام بدور أساس في تكريس هذا الظلم التاريخيّ واستمراره. ثمّ طفق[1] يلتزم صمتًا ينمّ عن الرضا، أمام ما ارتكبه الكيان الصهيونيّ، طوال عدّة عقود، من عمليّات إبادة جماعيّة، وتشريد، وجرائم حربيّة، وغيرها من أنواع الجرائم، بل إنّه لَمّا أعلنَت الجمعـــيّة العامّة عنصريّة الصهيونيّــة، لم يواكبها مجلس الأمن. وليس هذا فحسب، إنّما ابتعد عن موقف الجمعيّة العامّة، عمليًّا، بمقدار 180 درجة. إنّ الدول الجبّارة في العالم، والمتمتّعة بالعضويّة الدائمة في مجلس الأمن، تستخدم هذا المحفل العالميّ كأداة لها. ونتيجةً لذلك، فإنّ هذا المجلس لا يساعد على تعزيز الأمن في العالم، بل يسارع إلى مساعدة تلك الدول الجبّارة، كلّما يرُاد أن تكون مواضيع، كحقوق الإنسان أو الديمقراطيّة وما إلى ذلك، وسيلة لفرض


 


[1] طفق: بدأ بالفعل واستمرّ فيه.

 

 

47


34

خطاب الولي 2009

مزيد من هيمنة تلك الدول، فيُسدِل على أعمالها اللاشرعيّة، ستارًا من الخداع والدجل.

 

إنّ إنقاذ فلسطين لن يتحقّق من خلال الاستجداء من الأمم المتّحدة، أو القوى المسيطرة، ولا من الكيان الغاصب البتّة[1]. إنّما السبيل إلى الإنقاذ، هو الصمود والمقاومة، وذلك من خلال توحيد كلمة الفلسطينيّين، وبالاستعانة بكلمة التوحيد، التي تشكّل رصيدًا لا ينضب للحركة الجهاديّة.

 

ركيزتا المقاومة الفلسطينيّة

إنّ ركيزتَي هذه المقاومة عبارة عن المجموعات الفلسطينيّة المجاهدة، وأبناء الشعب الفلسطينيّ المؤمن المقاوم، في داخل فلسطين وخارجها من جهة، والحكومات والشعوب الإسلاميّة في أرجاء المعمورة، ولا سيّما علماء الدين والمثقّفون والنخب السياسيّة والجامعيّون، من جهة أخرى. فإذا استقرَّت هاتان الركيزتان في مكانهما، فلا شكّ أنّ الضمائر الحيّة والقلوب والعقول، التي لم تنطلِ عليها الأحابيل الدعائيّة للإمبراطوريّة الإعلاميّة الاستكباريّة الصهيونيّة، ستسارع إلى مناصرة أصحاب الحقّ والمظلومين، في أيّ مكان من العالم كانوا، وستجعل الأجهزة الاستكباريّة أمام عاصفة من الفكر والإحساس والعمل.

 

لقد شاهدنا وجهًا من هذه الحقيقة، أثناء الأيّام الأخيرة من المقاومة الباسلة في غزّة. فدموع مدير منظّمة خدماتيّة دوليّة، ينتمي إلى العالم الغربيّ، أمام كاميرات الإعلاميّين، أو التصريحات المتعاطفة التي جرَت على ألسُن الناشطين في المنظّمات الإنسانيّة، أو المظاهرات الجماهيريّة الضخمة المخلصة في وسط العواصم الأوروبيّة والمدن الأمريكيّة، أو الخطوة الشجاعة التي اتّخذَها بعض رؤساء دول أمريكا اللاتينيّة، ذلك كلّه، إنْ دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّ قوى الشرّ والفساد، التي سُمِّيَت في القرآن بالشياطين، لم تهيمن بعد على كلّ عالَم غير المسلمين، وأنّ الساحة ما زالت مفتوحة لجولان (جولات) الحقيقة.


 


[1] البتّة: قطعًا، لا رجعة فيه.

 

 

48


35

خطاب الولي 2009

نعم، إنّ عامل المقاومة والصبر، لدى المجاهدين الفلسطينيّين ومواطنيهم، ودعم جميع الأقطار الإسلاميّة لهم بوجه شامل، سيتمكّن من كسر هذا الطلسم الشيطانيّ، المتمثِّل في اغتصاب فلسطين. وإنّ الطاقة الهائلة التي تمتلكها الأمّة الإسلاميّة، من شأنها أن تحلّ مشاكل العالم الإسلاميّ، بما في ذلك مشكلة فلسطين المتفاقمة، والتي تتطلّب معالجة سريعة.

 

فلتُكسر حصانة الصهاينة

وها هو كلامي الموجَّه إليكم، أيّها الإخوة والأخوات المسلمون في كلّ أرجاء المعمورة، كما إلى جميع الضمائر الحــيّة، من كلّ بلد كانوا أو شعب: اشحذوا الهِمم، واكسروا طلسم حصانة المجرمين الصهاينة. اعملوا على محاكمة كلّ من لعب دورًا في مأساة غزّة، من القادة السياسيّين والعسكريّين، في الكيان الصهيونيّ الغاصب، ومعاقبتهم وفق ما يحكم به العقل والعدالة. إنّها الخطوة الأولى التي يجب اتّخاذها. لا بدّ من محاكمة القادة السياسيّين والعسكريّين في الكيان الغاصب. فعندما يعاقَب المجرم، فإنّ طريق الإجرام سيصبح وعِرًا وشائكًا، لمن لديه دافع ارتكاب الجريمة، ويعاني من جنون الإجرام. إنّ ترك مرتكبي الجرائم الكبرى وإطلاق أيديهم، يشكّل بدوره عاملًا مشجّعًا على ارتكاب جرائم أخرى. فلو أنّ الأمّة الإسلاميّة، بعد حرب الـ33 يومًا في لبنان، وما انطوَت عليه من مآسٍ مروّعة، طالبَت مطالبةً جادّةً بمعاقبة الصهاينة المتسبِّبين في تلك المآسي، لو تمّت متابعة هذه المطالبة العادلة كذلك، بعد ارتكاب المجازر الدامية في قوافل العرس بأفغانستان، أو بعد ممارسات الجنود الأمريكيّين المفضوحة في أبو غريب، لَما كنّا اليوم أمام مشهد كربلاء في غزّة. إنّنا، بصفتنا الحكومات والشعوب المسلمة، لم نقم، في تلك الأحداث والقضايا، بالواجب الذي يحكم به القانون والعقل والعدالة. وما نشهده اليوم عيانًا، هو نتيجة ذلك الموقف[1].

 

وممّا يدعو للأسف العميق، أنّ بعض الحكومات والساسة في العالم، يقفون بعيدين كلّ البعد عن المقولات الأخلاقيّة، وعمّا يحكم به الضمير الإنسانيّ. حيث إنّ مجزرةً


 


[1] أي التقصير بالقيام بالواجب.

 

 

49


36

خطاب الولي 2009

في غزّة، تكون حصيلتها في 22 يومًا، أكثر من 1350 قتيلًا، وحوالي 5500 جريح من المواطنين العُزَّل، وبينهم عدد كبير من الأطفال، لا تثير أيّ حساسيّة لدى هؤلاء. والقتلة والمجرمون لا يُعاقَبون على جرائمهم، بل يُمنَحون مكافآت. وإنّ أمن هذا الكيان الدمويّ يُعتَبر أمرًا مقدّسًا يجب الدفاع عنه بأيّ حال، والطرف المظلوم هو الذي يُتَّهَم ويُدان، سواء كان هذا الطرفُ المظلومُ حكومةً جاءت إلى الحكم بواسطة أصوات الشعب الحاسمة، أم كان أولئك المواطنين الذين جاؤوا بها بأصواتهم. هذا هو موقف محكمة السياسة التي لا تمتّ بصلة إلى الأخلاق والضمير والفضيلة، ولا يمكن لها أن تنسجم مع هذه القيم. وعندما تواجه هذه الحكومات الكراهيّة العميقة التي يحملها الرأي العامّ تجاهها، تلجأ مرّة أخرى إلى اللعبة السياسيّة، دون أن تكترث بالسبب الواضح لذلك. ثمّ يستمرّ هذا الدور الباطل دون أن يتوقّف.

 

لنتعلّم الدروس من التجارب

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء في أرجاء العالم الإسلاميّ، لنستلهم الدرس من التجارب.

 

إنّ أمّتنا العظيمة تمتلك اليوم قوّة هائلة، ببركة الصحوة الإسلاميّة. وإنّ مفتاح حلّ المشاكل العديدة التي تعاني منها الدول الإسلاميّة، بِيَدِ هِمَم هذه المنظومة المدهشة وعزيمتها، وإنّ القضيّة الفلسطينيّة أهمّ قضيّة ملحّة في العالم الإسلاميّ.

يُسمَع في بعض الأحيان، أنّ هناك من يقول: إنّ قضيّة فلسطين هي قضيّة عربيّة. ماذا يعني هذا الكلام يا ترى؟ فإذا كان المقصود منه أنّ لدى العرب شعورًا أقوى بصلة القرابة، وإنّهم يريدون أن يقدّموا خدمة أوفَى، ويبذلوا مزيدًا من الجهود، فهذا شيء محمود، ونحن نباركهم عليه. لكن، إذا كان المقصود من هذا الكلام، أنْ لا يكترث قادة بعض الدول العربيّة، بصرخة "يا للمسلمين!" المنطلقة من حناجر الفلسطينيّين، وأن يتعاونوا مع العدوّ الغاصب الغاشم في حادث خطير، مثل مأساة غزّة، ويُطلِقوا صرخة الاحتجاج على الآخرين الذين يناصرون أهل غزّة، بسبب أنّ الشعور بالواجب لا يسمح لهم أن يبقوا متفرّجين، ففي هذه الحالة، لا يَقبل بذلك الكلام أيُّ غيور يملك ضميرًا حيًّا، مسلمًا كان أو عربيًّا، ولا يعفي قائله من اللوم والشجب. إنّه منطق

 

 

50

 


37

خطاب الولي 2009

"أخزم" بعينه، إذ كان يضرب أباه، وكلّما أراد أحد أن يتوسّط، صرخ بوجهه محتجًّا، ثمّ تبعه ابنه فأشبع جدَّه ضربًا، فأصبح ذلك مثلًا لدى العرب، كما ورد في البيت الشعريّ: إنّ بَنيّ رمّلوني بالدمّ... شِنشِنةً أعرفها من أَخْزَمِ[1].

 

الحلّ العادل لقضيّة فلسطين

أيّها الحضور الكرام، إنّكم قد شاركتم في هذا المؤتمر، بصفتكم أصحاب رأي وخبرة في القضيّة الفلســــطينيّة. وليس من واجبنا التاريخيّ اليوم، أن نقوم بتكرار المقولات والنظريّات العقيمة الماضية، وإنّما علينا أن نبحث عن طريقة تؤدّي إلى تحرير فلسطين، من نير ظلم الكيان الصهيونيّ. إنّ ما نقترحه هو طريقة متطابقة تمامًا مع مبدأ حكم الشعب، وهو مبدأ يمكن أن يكون منطقًا مشتركًا، بين كلّ أنواع التفكير في العالم. وهذا الاقتراح هو أن يشارك جميع أصحاب الحقّ في أرض فلسطين -من المسلمين والمسيحيّين واليهود- في اختيار نوع نظامهم المنشود، وذلك من خلال استفتاء شعبيّ عامّ، على أن يشارك في ذلك الاستفتاء جميع الفلسطينيّين، الذين تحمّلوا عناء التشرُّد طوال سنين.

 

على العالم الغربيّ، أن يعلم بأنّ رفضه لهذا الحلّ، يبرهن على عدم التزامه بالديمقراطيّة التي يتبجّح بها دومًا، وأنّ ذلك سيكون اختبارًا آخر، لفضح أمره، وكشف وجهه الحقيقيّ، كما أنّه سبق أن تعرّض لاختبار آخر في الساحة الفلسطينيّة، عندما رفض الاعتراف بنتيجة الانتخابات في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، والتي جاءت بحكومة حماس إلى السلطة. إنّ الذين لا يقبلون بالديمقراطيّة، إلّا إذا كانت نتائجها متطابقة مع ميولهم وإراداتهم، هم طلّاب الحرب والمغامرة. وإذا تحدّثوا عن السلام، فليس ذلك إلّا كذبًا وخداعًا.


 


[1] بيت شعر لـعقيل بن علّفة (قبيلة غطفان العربيّة تروي هذا البيت عنه). أَخزم هو جدّ حاتم الطائيّ المعروف بكرمه في العرب. "شِنشِنة أعرفها من أخزم": هذا مثل عربيّ. الشِنشِنة بالكسر: الطبيعة والخلق: وأخزم رجل من طيء، وهو ابن أبي أخزم جدّ حاتم الطائيّ، أو جدّ جدّه. وكان أخزم عاقًّا، فمات وترك بنين، فوثبوا يومًا على جدِّهم فأدموه، فقال: "إنَّ بَنيّ رمّلوني بالدمّ... شِنشِنةً أعرفها من أخزم"، لأنّه كان عاقًّا كذلك. فصار المَثَل (شِنْشِنَةٌ أعْرفها من أخْزَمَ) يُضْرَبُ في قُرب الشَّبه في الخُلُق.

 

51


38

خطاب الولي 2009

بناء غزّة

إنّ موضوع إعادة بناء غزّة هو من أهمّ القضايا الملحّة بالنسبة إلى فلسطين، في الوقت الحاضر. وإنّ حكومة حماس المنتَخَبة من قبل الأغلبيّة الساحقة من الفلسطينيّين -والتي تشكّل ملحمةُ مقاومتِها لإفشال مخطّط الكيان الصهيونيّ، أكبرَ نقطة مشرقة خلال فترة المئة عامٍ الأخيرة من تاريخ فلسطين- يجب أن تكون هي القاعدة والمركز لجميع الأنشطة الخاصّة بعمليّة إعادة البناء. وإنّه من الجدير أن يقوم الإخوة المصريّون بفتح الطرق، لوصول المساعدات والتبرّعات، وأن يسمحوا بأن تقوم الدول والشعوب المسلمة بواجبها في هذا الشأن.

 

وفي الختام، أودّ أن أَذكُر، بالتكريم والإجلال، شهداء حرب الـ 22 يومًا، الذين حوّلوا غزّة، ببركة دمائهم، إلى معزّة للإسلام والعرب، سائلًا لهم من المولى الرحمة والغفران. تحيّة لجميع شهداء فلسطين، ولبنان، والعراق، وأفغانستان، وجميع شهداء الإسلام، وتحيّة لروح الإمام الراحل العظيم الطاهرة.

 

أسأل الله -تعالى- العزّ والرفعة للإسلام والمسلمين، والمزيد من التقارب والتلاحم بين الشعوب المسلمة، واليقظة المتنامية للعالم الإسلاميّ.

 

 

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

52

 


39

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء مسؤولي الدولة

بمناسبة ولادة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم

 

 

         

المناسبة:   الذكرى المباركة لولادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وحفيده الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الحضور:  رؤساء السلطات الثلاث، ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، وسائر مدراء الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، والضيوف المشاركون في مؤتمر الوحدة الإسلاميّة الدوليّ، وسفراء البلدان الإسلاميّة، وحشد من شرائح الشعب المختلفة

المكان:   طهران

 

الزمان:    25/12/1387هـ.ش.

17/03/1430هـ.ق.

15/03/2009م.

         

54

 

 


40

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أبارك هذا العيد السعيد لكم، جميعًا أيّها الحضور المحترمون، مسؤولو البلاد، المدراء الكبار في الجمهوريّة الإسلاميّة، ضيوف أسبوع الوحدة الأعزّاء، سفراء البلدان الإسلاميّة، ولجميع الشعب الإيرانيّ ومسلمي العالم، بل لجميع أحرار العالم والمجتمع البشريّ.

 

الولادة الميمونة لخاتم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم

اليوم، وهو ذكرى ولادة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، حسب الرواية المشهورة لمحدِّثي الشيعة، وذكرى ولادة الإمام جعفر الصادق عليه السلام في عام 83 من الهجرة، هو يومٌ عظيمٌ جدًّا للعالم الإسلاميّ.

 

لم تكن ولادة الرسول الأعظم مجرّد حدث تاريخيّ، بل كانت حدثًا مصيريًّا في مسيرة الإنسانيّة. فالظواهر التي وقعَت تزامنًا مع هذه الولادة الكبرى، كما يروي التاريخ، ما هي إلّا إشارات بليغة لمعنى هذه الولادة وحقيقتها، حيث يُنقَل أنّ علامات الكفر والشرك في نقاط شتّى من العالم تزلزلَت، واختلَّت أثناء ولادة نبيّ الإسلام الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

 

المولد النبويّ: تَزَلزُل صروح الطغيان والشرك

فقد انطفأت عند ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نار معبد فارس، بعد أن كانت متّقدة منذ ألف عام، وتهدّمَت الأصنام التي كانت في المعابد، ودُهِش الرهبان وخدمة المعابد الوثنيّة من هذه الحادثة. كانت هذه ضربة رمزيّة، نزلت بالشرك والكفر والنـزعة المادّيّة، بفعل هذه الولادة. ومن جهة أخرى، تعرّض قصر جبابرة الإمبراطوريّة الإيرانيّة

 

 

56


41

خطاب الولي 2009

المشركين، آنذاك، لحادث معيّن، حيث انهارت شرفات إيوان المدائن الأربع عشرة[1]. وكانت هذه، بدورها، إشارة رمزيّة أخرى، تفيدُ أنّ هذه الولادة مقدِّمة ومنطلَق للكفاح ضدّ الطغيان والطواغيت في العالم. فذاك جانب المعنويّة وهداية البشر القلبيّة والفكريّة، وهذا جانب الهداية الاجتماعيّة والعمليّة للبشريّة: الكفاح ضدّ الظلم والطغيان، وضدّ سيادة الظالمين الباطلة على الناس. هذه هي الإشارات الرمزيّة لولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. للإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في نهج البلاغة، العديد من العبارات في وصف الزمن الذي ظهر فيه الرسول الأكرم، وطلع كالشمس المشرقة. ومن ذلك قوله:

الولادة نورٌ في الظلام الكالح

"وَالدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الْغُرُور"[2]. ما كان هناك نور في محيط حياة الناس، كانوا يعيشون في ظلمات: ظلمات الجهل، وظلمات الطغيان، وظلمات الضلال. طبعًا، كان نموذج هذا الظلام كلّه ومظهره، هو تلك المنطقة نفسها، التي وُلِد فيها الرسول الأكرم، ومن ثمّ بُعث فيها، أي جزيرة العرب. كان لجميع الظلمات والضلالات والضياع نماذجها -في مكّة، وفي بيئة الحياة العربيّة في جزيرة العرب- من أنواع الضلال الفكريّ والاعتقاديّ، وذلك الشرك المذِلّ للإنسان، وتلك الأخلاق الاجتماعيّة العنيفة، وانعدام الرحمة وقسوة القلب: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ  * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾[3]. كان ذلك نموذجًا من أخلاق الإنسانيّة على عهد ولادة الرسول، ثمّ في


 


[1] وردَت في كتب التاريخ أبيات شعر مجهولة الصاحب، تصف الإيوان آنذاك:

ولقد عجبتُ وفي الزمان عجائب ما عاينَت عيناي في الإيوان

إيوان كسرى شاهق شرفاته عالي الذرى مستوثق الحيطان

(البلدان لابن الفقيه)

[2] الرضيّ، السيّد محمّد بن حسين، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، دار الهجرة، إيران - قمّ، 1414ه‏، ط1، ص122، الخطبة 89.

[3] سورة النحل، الآية 58 و59.

 

57


42

خطاب الولي 2009

زمن بعثته. "وَكانَ‏ بَعْدَهُ‏ هُدىً‏ مِنَ‏ الضَّلالِ‏، وَنُورًا مِنَ‏ الْعَمى"[1]. كانت البشريّة عمياء، فتفتَّحت عيونها، وكان العالم مظلمًا، فتنوَّر بنور وجود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هذا هو معنى هذه الولادة الكبرى، ومن ثمّ بعثة هذا الإنسان العظيم. لسنا، نحن المسلمون، فقط، مدينين للمنّة والنعمة الإلهيّة، بسبب هذا الوجود المقدّس، بل الإنسانيّة كلّها مدينة لهذه النعمة.

 

صحيحٌ أنّ هداية الرسول العظيم، طوال قرون متمادية، لم تستغرق بعد البشريّة برمتّها، بيد أنّ هذا المصباح الوضّاء، وهذا المشعل المتوهّج، موجود بين البشريّة، وهو يهدي البشر على مرّ السنين والقرون، تدريجيًّا، نحو ينبوع النور. فإذا نظرنا في التاريخ بعد ولادة الرسول وبعثته صلى الله عليه وآله وسلم، فسنلاحظ هذا التدبير. سارت الإنسانيّة نحو القيم، وعُرِفَت القيم، وهذا ما سينمو وينتشر تدريجيًّا، وتتضاعف شدّته يومًا بعد يوم، إلى أن ﴿لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾[2]، إن شاء الله، ليستغرق العالم كلّه، وتبدأ البشريّة سيرها الحقيقي في طريق الهداية، والصراط الإلهيّ المستقيم. والواقع أنّ حياة الإنسانيّة تبدأ منذ ذلك اليوم، وهو اليوم الذي تكتمل فيه حجّة الله على الناس، وتضع الإنسانيّة أقدامها على هذه الجادة العظيمة.

 

واجباتنا كأمّة إسلاميّة

نحن اليوم -كأمّة إسلاميّة- نقف أمام هذه النعمة الكبيرة، وعلينا الانتفاع منها. علينا تنوير قلوبنا، وديننا، وأفكارنا، وكذلك دنيانا، وحياتنا، وبيئتنا، ببركة تعاليم هذا الدين المقدّس. ولأنّه نور وبصيرة، فيمكننا الاقتراب منه، والنّهل من مَعِينِه. هذا هو واجبنا العامّ، نحن المسلمين.

 

ما أشدّد عليه اليوم -وهو من واجباتنا الكبرى والأولى، نحن المسلمين- هو قضيّة الاتّحاد والوحدة. لقد أطلقنا على هذا الأسبوع، الذي ينتهي بالسابع عشر من ربيع الأوّل، اسم "أسبوع الوحدة"، منذ بداية الثورة. والسبب هو أنّ يوم ولادة الرسول


 


[1] ابن طاووس، السيّد عليّ بن موسى، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يُعمَل مرّة في السنة، تحقيق وتصحيح جواد قيّوميّ الأصفهانيّ، نشر مكتب الإعلام الإسلاميّ‏، إيران - قمّ، 1418ه‏، ط1‏، ج1، ص507.

[2] سورة التوبة، الآية 33.

 

58


43

خطاب الولي 2009

هو يوم الثاني عشر من ربيع الأول، حسب الرواية المشهورة لدى إخواننا السنّة، ويوم السابع عشر من ربيع الأوّل، حسب رواية الشيعة المشهورة. وقد أطلق الشعب الإيرانيّ ومسؤولو البلاد، منذ بداية الثورة، على الأيّام الواقعة بين هذَين اليومَين، "أسبوع الوحدة"، وجعلوه رمزًا للاتّحاد بين المسلمين. بَيْدَ أنّ الكلام لا يكفي، والتسمية لا تكفي، ينبغي أن نعمل ونتّجه صوب الوحدة. يحتاج العالم الإسلاميّ اليوم إلى الوحدة، وهناك عوامل تفرقة ينبغي التغلّب عليها.

 

الأهداف الكبرى: اتّحاد المسلمين والوحدة الإسلاميّة

كلّ الأهداف الكبرى بحاجة إلى الجهاد والكفاح. ما من هدف كبير يحصل بدون جهاد. والاتّحاد بين المسلمين لا يحصل بدون جهاد وعنت. من واجبنا الجهاد والعمل، لأجل اتّحاد العالم الإسلاميّ. بمقدور هذا الاتّحاد حلّ الكثير من العقد والمشكلات، وبوسعه إعزاز المجتمعات والشعوب المسلمة.

 

انظروا إلى حال البلدان الإسلاميّة. انظروا إلى واقع المسلمين الذين يشكّلون اليوم ربع السكّان في العالم، كيف أنّ تأثيرهم في سياسات العالم -حتّى في قضاياهم الداخليّة- أقلّ وأضعف بكثير من تأثير القوى الأجنبيّة، والأطراف ذات النوايا السيّئة. لا نُحذّر أنفسَنا ومخاطبينا من القوى الأجنبيّة، لأنّها أجنبيّة وحسب، بل لأنّها سيّئة النيّة أيضًا، ولها دوافع للهيمنة. يريدون إذلال الشعوب المسلمة، وتحطيمها، وإجبارها على الطاعة وحسب.

 

حسنًا، ما هو الطريق أمام ما يزيد على الخمسين بلدًا إسلاميًّا، وشعوبها المسلمة، إذا أرادت الوقوف بوجه مثل هذه النوايا السيّئة الواضحة والكبيرة والتعسّفيّة؟ (هل هو) سوى الوحدة؟ علينا أن نقترب، بعضنا من بعض.

 

موانع الوحدة

1. العامِل الداخليّ: التعصُّب والعصبيّة

هناك عاملان أساسيّان يُعيقان طريق الوحدة، وينبغي علاجهما. العامل الأوّل عاملٌ داخليّ فينا: التعصُّب والعصبيّة لأفكارنا وعقائدنا، كلّ فريق لنفسه، هذا

 

59

 


44

خطاب الولي 2009

ما يجب التغلُّب عليه. أن يؤمن الإنسان بمبادئه وأصوله وعقائده، شيءٌ جيّد ومحمود جدًّا، والإصرار عليه جيّد أيضًا. غير أنّ هذه الحالة يجب أن لا تتجاوز حدود الإثبات، إلى حدود الإقصاء، المصحوبة بالتطاول والعداء. على الإخوة في منظومة الأمّة الإسلاميّة، أن يحترم بعضهم بعضًا. وإذا أرادوا الحفاظ على عقائدهم، فليفعلوا. لكن عليهم احترام بعضهم بعضًا، وحدود بعضهم بعضًا وحقوقهم، وأفكار بعضهم بعضًا وعقائدهم، وترك النقاشات والجدال لمجالس العلم. ليجتمع العلماء وأهل الخبرة، ويتناقشوا مذهبيًّا، إذا شاءوا، إلّا أنّ النقاش المذهبيّ العلميّ في الأروقة العلميّة، يختلف عن تبادل الإساءات في العلن، وعلى مستوى الرأي العامّ، وأمام ذهنيّات عاجزة عن التحليل العلميّ. على العلماء احتواء هذا الشيء، وعلى المسؤولين احتواؤه أيضًا. كلّ المجموعات والجماعات المسلمة تتحمّل واجبًا في هذا المجال، الشيعة عليهم واجباتهم، والسنّة أيضًا، عليهم واجبات. عليهم السير نحو الاتّحاد. هذا أحد العاملَين، وهو عامل داخليّ.

 

2. العامل الخارجيّ: عامل التفرقة

وهناك العامل الخارجيّ، وهو يد الأعداء المغرِضة العاملة على التفرقة. ينبغي عدم الغفلة عن هذا. (وعملهم هذا) ليس من اليوم فقط، بل منذ أن شعرَت القوى السياسيّة المهيمنة على العالم، أنّ بوسعها التأثير على الشعوب، ظهرَت يد التفرقة هذه. وهي اليوم أشدّ من أيّ وقت آخر، وتساعد وسائلُ الإعلام العامّة والاتّصال الحديثة، بدورها، على ذلك. إنّهم يؤجّجون النيران، وينحتون الشعارات للتفرقة. ينبغي التيقّظ والحذر. وللأسف، تغدو بعض المجموعات داخل الشعوب والبلدان المسلمة، وسائلَ لتنفيذ أغراض أولئك الأعداء الرئيسيّين.

 

إنّ في هذا لعبرة كبيرة. قبل سنتَين، حينما انتصر شباب المقاومة وحزب الله في لبنان على إسرائيل، وأذلّوا الكيان الصهيونيّ بتلك الصورة، واعتُبر ذلك انتصارًا وازدهارًا للمسلمين في العالم الإسلاميّ، بادرَت أيدي التفرقة، من فورها، لطرح قضيّة الشيعة والسنّة، وتشديد العصبيّات المذهبيّة، سواء في لبنان، وفي منطقة الشرق الأوسط، وفي كلّ العالم الإسلاميّ. وكأنّ قضيّة الشيعة والسنّة قد ظهرت توًّا! وذلك، لأجل التفريق

 

 

60

 


45

خطاب الولي 2009

بين أبناء الأمّة الإسلاميّة، الذين ازدادوا تعاطفًا، في ظلّ ذلك الانتصار الكبير، عبر إثارة قضيّة التشيّع والتسنُّن.

 

وقبل شهرين، وقع انتصار آخر كبير ومتألّق للأمّة الإسلاميّة، ألا وهو انتصار المقاومة الفلسطينيّة على العدوّ الصهيونيّ في غزّة. أيّ انتصار أكبر من هذا: إنّ جيشًا مدجّجًا بالسلاح استطاع، في يومٍ ما، دَحْرَ جيوشٍ كبرى لثلاثة بلدان، بين عامَي 67 و73 للميلاد، لم يتمكّن طوال 22 يومًا، أن يفرض التراجع والهزيمة على الشباب المقاوم والمجاهدين المؤمنين في غزّة! وأُجبِر على التراجع، خاليَ الوفاض، مضافًا لانهيار سمعة الكيان الصهيونيّ، وحماته -وعلى رأسهم أمريكا- في العالم، وإراقة ماء وجههم على الأرض. كان هذا انتصارًا كبيرًا للمسلمين، وقد زاد من تعاطف المسلمين بعضهم مع بعض. ولم يكن بوسعهم إثارة قضيّة التشيّع والتسنّن هنا، فأثاروا قضيّة القوميّة، قضيّة العروبة واللاعروبة. فدعوى (ادّعاء) أنّ قضيّة فلسطين تختصّ بالعرب، والإصرار على أنّها خاصّة بالعرب، لكي لا يحقّ لغير العرب التدخّل في هذه القضيّة، لماذا؟

 

فلسطين قضيّة إسلاميّة بامتياز

قضيّة فلسطين قضيّة إسلاميّة، وليس فيها عرب أو عجم.

إذا دخلَت النـزعة القوميّة في قضايا العالم الإسلاميّ، فستكون أكبر عامل للتفرقة. حينما يُقحمون العامل القوميّ في قضايا العالم الإسلاميّ، فيفصلون العرب عن الفرس، عن الترك، والكرد، والإندونيسيّين، والماليزيّين، والباكستانيّين، والهنود، فما الذي سوف يبقى؟ أليس هذا عَرضًا للأمّة الإسلاميّة ولقواها وقدراتها، في المزاد العلنيّ؟

 

هذه حيل الاستكبار، التي يقع فيها بعضهم في العالم الإسلاميّ، للأسف. لا يرومون بقاء حلاوة الانتصار في لبنان، وفي غزّة، في أفواه المسلمين، لذلك، يثيرون، على الفور، عوامل الاختلاف والتفرقة.

 

دور النُخَب وأصحاب الرأي: الواجب الأعلى

على الأمّة الإسلاميّة أن تبقى متيقّظة وصامدة بوجههم. والواجب الأوّل يقع على عاتق رجال السياسة. يجب على مسؤولي البلدان الإسلاميّة وساستهم، أن يتيقّظوا. قد

 

 

61

 


46

خطاب الولي 2009

يصدر هذا الهتاف[1] من حناجر بعض الساسة المسلمين، لكنّنا نحن لن نخطئ، إنّنا لن نخطئ في تشخيص العامل الرئيس. يخرج الهتاف من أفواههم، لكنّه ليس هتافهم، بل هتاف غيرهم، إنّه هتاف القوى الاستكباريّة في العالم وشعارها. هم الذين يعارضون وحدة الأمّة الإسلاميّة. وإذا ما صدر من حناجر أشخاص ينتمون إلى الأمّة الإسلاميّة، فهؤلاء (عناصر) مخدوعة ومضلَّلة، ليس هذا الصوت صوتهم، بل صوت أولئك. نحن نعرف هذا الصوت. إنّ الساسة والمسؤولين، بالدرجة الأولى، وأيضًا المفكرّين ومَن يتعاملون مع عقول الناس وقلوبهم، وعلماء الدين، والمثقّفين، والكتّاب، والصحفيّين، والشعراء، والأدباء في العالم الإسلاميّ، يتحملّون هذا الواجب الكبير بدرجة عالية، (وهو) أن يعرِّفوا للناس الأصابع، التي تروم الإخلال بهذه الوحدة، وتريد إخراج هذا الزمام الإلهيّ المتين من أيدي المسلمين.

 

الجماعة والسويّة: الاعتصام بحبل الله

يقول لنا القرآن بصراحة: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾[2]. يقول لنا: اعتصموا معًا بحبل الله. يمكن الاعتصام بحبل الله، كلٌّ على انفراد، لكنّ القرآن يقول: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا﴾، أي كونوا سويّةً، ﴿وَلَا تَفَرَّقُواْۚ﴾، حتّى في الاعتصام بحبل الله، فضلًا عن أن يعتصم بعضٌ بحبل الله، وبعضٌ بحبل الشيطان. حتّى حينما يريد الجميع الاعتصام بحبل الله، يقول: ﴿جَمِيعًا﴾، أي افعلوا ذلك بتعاطف وتراضٍ والتحام. هذه هي قضيّة العالم الإسلاميّ الكبرى.

 

نأمل أن يوفّق الله -تعالى- جميع أبناء الأمّة الإسلاميّة، الشعوب والحكومات الإسلاميّة وكافّة، للنظر إلى هذه المسألة المهمّة بوزنها وأهميّتها، وتطبيقها عمليًّا. ورضوان الله ورحمته على روح إمامنا الجليل، الذي رفع هتاف الوحدة في عصرنا، ودعا المسلمين إلى هذا الاتّحاد.

 

نسأل الله أن يعرِّف قلوبنا النداء الإلهيّ، والدعوة الإلهيّة، أكثر فأكثر، ويجعل مستقبل الأمّة الإسلاميّة خيرًا من ماضيها.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 


 


[1] أي دعوة التفرقة والعصبيّة والمذهبيّة.

[2] سورة آل عمران، الآية 103.

 

62


47

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في الروضة الرضويّة الطاهرة في يوم النوروز

 

 

المناسبة:   يوم النوروز، وحلول العام الإيرانيّ الجديد 1388هـ. ش.

الحضور:  حشود من أبناء الشعب والزوّار

المكان:   مشهد المقدّسة- حرم الإمام الرضا عليه السلام

 

الزمان:    01/01/1388هـ.ش.

23/03/1430هـ.ق.

21/03/2009م.

 

 

63

 


48

خطاب الولي 2009

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، ولا سيّما بقيّة الله في العالمين.

 

أشكر الله -تعالى- من أعماق قلبي، أن وفّقني وأمهلني، لأنالَ مرّة أخرى، سعادة شرف الحضور في هذه العتبة المقدّسة، وألتقي أهالي مشهد الأعزّاء، وزوّار هذا المرقد الرفيع. أسأل الله -تعالى- أن يبارك هذا العيد السعيد، وهذا العام الجديد، للشعب الإيرانيّ العزيز كلّه.

 

عقد العدالة والتقدُّم

عامنا هذا هو العام الأوّل من العقد الرابع للثورة، الذي سُمِّي باسم "عقد التقدُّم والعدالة"[1]. هنا، وبهذه المناسبة، أذكر بعض النقاط والمسائل التي تتعلّق ببعض أهمّ قضايا بلادنا، وأشير كذلك، إلى بعض القضايا الدوليّة والخارجيّة المهمّة.

 

سمّينا هذا العقد "عقد التقدُّم والعدالة في البلاد، وفي نظام الجمهوريّة الإسلاميّة"، والحال أنّ الشعب الإيرانيّ، ومنذ مطلع الثورة، قد سار بحركته العظيمة، وبتأسيسه وتكريسه لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة، نحو التقدُّم والعدالة. فما هي خصوصيّة الأعوام العشرة القادمة، حتّى أطلقنا عليها عنوان عقد التقدُّم والعدالة؟

 

من وجهة نظرنا، إنّ الفرق بين السنوات العشر القادمة والعقود الثلاثة الماضية،


 


[1] عقد التقدُّم والعدالة: منظومة مشاريع، وقوانين، وبرامج اقتصاديّة، علميّة واجتماعيّة، سيتمّ العمل عليها لمدّة عشر سنوات، تقوم الحكومة، من خلالها، بالتعاون والمواكبة التشريعيّة والقانونيّة من المجلس (الشورى)، بإعداد هذه الخطط، والعمل على تطبيقها في مختلف مساحات عمل النظام والدولة. وهي تراعي، بالدرجة الأولى، البناء العلميّ، وحُسن توزيع الفرص والإمكانات. والعقد الرابع هو العشر سنوات الرابعة من عمر الثورة والنظام الإسلاميّ في إيران، وقد جُعِلَت مقولة "التطوّر والعدالة" عنوانًا عريضًا لمختلف نشاطات الدولة ومؤسَّساتها، وخاصّة المستوى العلميّ والتربويّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ.

 

 

64


49

خطاب الولي 2009

يكمن في الاستعدادات الواسعة والهائلة جدًّا للتقدُّم والعدالة، التي ظهرَت في بلادنا العزيزة، وهي استعدادات تسمح لشعبنا الكبير ذي العزيمة العالية، بأن يقطع خطوةً وقفزةً متقدّمةً في هذا المجال. الشعب مستعدٌّ لتحرّكٍ سريع وكبير، صوب التقدّم والعدالة، وهذا ما لم يكن متوفّرًا له، بهذا الحجّم، في العقود المنصرمة.

 

لو أردنا تحديد العوامل الأساسيّة والعناصر الرئيسة لهذا الاستعداد، فينبغي أن نقول: إنّ هناك عدّة عناصر كان لها تأثير كبير في هذا الجانب:

أحد هذه العوامل هو حضور جيلنا الشابّ من الخرّيجين. واليوم، يحضر في ساحة العلم والبحث العلميّ، والنشاطات الاجتماعيّة والسياسيّة، الملايينُ من الشباب المتوثّبين المحصِّلين[1]. وإنّ وجود هذا العدد من الشباب العلماء، والخرّيجين، والموهوبين في بلادنا، ظاهرةٌ جدّ لافتة وكبيرة.

 

العامل الثاني هو عامل التجربة. لقد اكتسبَت نُخبُ البلاد ومسؤولوها، في مواجهتهم للمشكلات المختلفة، طيلة الأعوام الماضية، تجارب قيّمة جدًّا. هذه التجارب موجودة اليوم أمام الشعب.

 

المادّة ٤٤ وتوجيه الدعم

ولو أردنا الحديث عن نموذج من هذه التجارب، لقلنا: إنّ من آثارها تنفيذ سياسات المادّة (44) من الدستور[2]. الاهتمام بهذه السياسات ناجم عن تجربة طويلة، استمرَّت طوال العقود الماضية، وأوصلَت نخبة بلادنا إلى هذه المحطّة.

 

والنموذج الآخر هو "توجيه الدعم"[3]، والناتج أيضًا عن تجارب طويلة، تراكمَت لدى نخبة البلاد، وأوصلتهم طوال هذه الأعوام إلى أنّ الدعم الذي يخرج من بيت المال


 


[1] الجادّين في طلب العلم.

[2] المادة 44: فقرة في دستور الجمهوريّة الإسلاميّة، تحدّد السياسات الاقتصاديّة. وقد طلب الإمام الخامنئيّ قبل سنتَين، العمل على هذه المادّة، وتحديد هذه السياسات، وشرحها، والعمل على وضع المشاريع والخطط وفقًا لها، وهذا ما تمّ، حيث وُضِعَت البرامج والمشاريع، وهي في طور التنفيذ.

[3] توجيه الدعم: وهو برنامج بدأَتْ حكومة الرئيس أحمدي نجاد تطبيقه، قوامه رفع الدعم الحكوميّ عن السلع والخدمات الأساسيّة، واستثماره في برامج ومشاريع تعود بالفائدة على عموم الناس، وخاصّة على الطبقات المحتاجة والفقيرة.

 

 

65


50

خطاب الولي 2009

- أي من جيوب عموم الشعب - ويُخصَّص لعموم الشعب، يجب أن يُوَجَّه إلى الشرائح المحتاجة أكثر، أي يجب أن تنال الشرائح الفقيرة والطبقات المتوسِّطة فما دون، في المجتمع، نصيبًا أوفر من بيت المال، ومن خزانة الشعب العامة، قياسًا إلى الطبقات المتمتّعة بدرجة عالية من الرفاه، والذين لا يحتاجون، في الحقيقة، إلى هذا الدعم. بلوغ هذه الحقيقة والقرار والعزيمة الراسخة لتنفيذها، من تجارب طويلة الأمد، تراكمَت على مدى هذه الأعوام، وبلغَت أخيرًا طور التنفيذ.

 

البنى التحتيّة للبلاد

العامل الآخر هو البنى التحتيّة للبلاد. ليست بلادنا اليوم كما كانت عليه في العقد الأوّل أو العقد الثاني للثورة، حينما كانت تفتقر للبنى التحتيّة العلميّة التي تحتاجها. يستطيع شبابنا ومتخصّصونا وعلماؤنا اليوم، القيام بأعمال كبيرة في أيّ حقل يخوضون فيه. لذا، فإنّ الأشياء اللازمة للتقدُّم الواسع في مضمار الاتّصالات والمواصلات والبحث العلميّ والبناء، متوفّرة في بلادنا، والحمد لله. إنّنا من حيث وجود الطرق المهمّة والدوليّة، ووجود المطارات، والاتّصالات السلكيّة واللاسلكيّة، وشبكات الاتّصال، وبناء السدود، لا نحتاج إلى الآخرين. ذات يوم، لم يكن يخطر ببال أحد، أن يتمكّن خبراؤنا ومتخصّصونا المحلّيّون من بناء سدّ، أو مخزن غلال (صومعة)، أو طريق سريع، أو مطار، أو معمل فولاذ، كانت عيون شعبنا (اعتماده) في هذه الأمور كلّها، على الأجانب. وبعد ذلك، حينما قصرَت أيدي الأجانب، كنّا نعاني فقرًا في هذه المجالات، لكنّنا نتمتّع اليوم بقدرات كبيرة في هذه الميادين، فشبابنا يصنعون المصانع المعقّدة، ويقومون بأعمال علميّة وتقنيّة معقّدة، ويسدّون احتياجات البلاد، ويساعدون البلدان الأخرى، كمستشارين، وكجهات تزاول تجارة العلم والتقنيّة.

 

التقدُّم والتجربة المتراكمة

لقد اكتسبَت البلادُ واقعًا مميّزًا من هذه الناحية، وهذا التقدُّم ليس بقليل. ذات يوم، لم يكن باستطاعة شبابنا حتّى رمي قذائف الـ (آر.بي.جي)، ولم يكونوا يعرفوا ما هي. واليوم، يطلق هؤلاء الشباب أنفسُهم صاروخًا حاملًا للأقمار الصناعيّة، يشدّ إليه

 

 

66

 


51

خطاب الولي 2009

أنظارَ العلماء وكلَّ العالم. ذات يوم، كنّا بحاجة إلى المتخصّصين، من أجل استخدام محطّات الطاقة الموجودة لدينا في البلاد، واليوم، تقدَّم شباب بلادنا في الصناعة، إلى حدّ أنّهم يصنعون بأنفسهم، وينتجون المصافي، ومحطّات الطاقة، وإمكانات أخرى بأيديهم.

 

في يوم من الأيّام، كان البلد يعاني الفقر المطلق على صعيد علم الأحياء، واليوم، يحقّق تطوّرًا في علوم الأحياء، بما في ذلك مجال الخلايا الأساسيّة، التي تُعَدّ مجالًا على مستوى عالٍ من الأهمّيّة في العالم. هذه إمكانيّات متوفّرة في البلاد اليوم. هذه كلّها بنى تحتيّة يتيسّر، على أساسها، (أفق) التقدُّم المستقبليّ. أضِف إلى ذلك - وكما ذكرنا - أنّ تجربة المدراء (المسؤولين) باتَت، اليوم، تجربةً عميقةً جدًّا وواسعةً.

 

البلاد اليوم، أمام أنظار المسؤولين والنخبة، هي أشبه بمشهد، يمكنهم البرمجة من أجل تطوّره. وإنّ زيارات المسؤولين لأنحاء البلاد المختلفة، والمناطق المحرومة، والمحافظات البعيدة، وزيارة المدن المختلفة في المحافظات، والاتّصال بالجماهير، ومشاهدة الأوضاع عن كثب، والاطّلاع على المشاكل بأمّ العين، قد أكسبَتْهم تجربة قيّمة وعظيمة. وتشكّل هذه أرضيّةً لطفرة (قفزة) تؤهِّل البلاد لأنْ تستطيع، إن شاء الله، السير في طريق التقدُّم والعدالة. وهذا ما يستدعي أن يكون العقد المقبِل -أي العقد الذي يبتدئ من هذه السنة- عقد التقدُّم والعدالة لبلادنا، ولنظام الجمهوريّة الإسلاميّة. وعلى الجميع العمل والجدّ من أجل ذلك.

 

أذكر نقطة مقتضبة عن مفهوم التقدُّم، ونقطة مقتضبة أخرى عن مفهوم العدالة. وتفصيل هذا المجمل ممّا ينبغي للمسؤولين والمتحدّثين، ومَن هم على اتّصال بالجماهير والرأي العامّ، التحدّث فيه. عليهم البحث والتحقيق في هذا المجال، وإطلاع الشعب على نتائج ذلك.

 

مفهوم التقدُّم واسع شامل

ما هو مرادنا من التقدُّم؟ ليس المقصود التقدُّم في اتّجاه معيّن بذاته، بل نبتغي التقدُّم الشامل في كلّ المجالات.

 

 

67

 


52

خطاب الولي 2009

شعبنا جدير بالتقدُّم على الأصعدة كافّة: التقدُّم في إنتاج الثروة الوطنيّة، والتقدُّم في العلم والتقنيّة، والتقدُّم في الاقتدار الوطنيّ والعزّة الدوليّة، والتقدُّم في الأخلاق والمعنويّة، والتقدُّم في أمن البلاد -سواء الأمن الاجتماعيّ، أو الأمن الأخلاقيّ للشعب- والتقدُّم في تحسين الانتاجيّة وارتقائها. وإنّ معنى تحسين مستوى الإنتاجيّة، أن نستخدم ما عندنا على أحسن وجه، استخدام النفط، والغاز، والمعامل، والطرق، وكلّ ما يوجد لدينا، على أحسن وجه، وبأكبر قدر. وكذلك التقدُّم في الالتزام بالقانون والانضباط الاجتماعيّ، فلو ابتُلِيَ شعبٌ بانعدام القانون، وطغَت حالة خرق القانون على أفكار الناس وممارساتهم، فلن يُكتَب له (للشعب) أيُّ تقدُّم معقول وصحيح. والتقدُّم على صعيد الوحدة والانسجام الوطنيّ، وهو الشيء الذي حاول الأعداء إفساده منذ بداية الثورة، لكنّ شعبنا حافظ -ولحسن الحظّ- على اتّحادّه وانسجامه، على الرغم من كلّ الظروف (والحوادث) التي كان بالإمكان انتهازها لبثّ الفرقة.

 

علينا التقدُّم إلى الأمام، ورفع مستوانا في كلّ هذه المجالات. وهناك التقدُّم في مجال الرفاه العامّ، حتّى تستطيع الطبقات كافّة التمتّع بالرفاه. والتقدُّم في التنمية والنضج السياسيّ، إذ إنّ الوعي السياسيّ، والرشد السياسيّ، والقدرة على التحليل السياسيّ، بالنسبة إلى منظومة عملاقة مثل شعبنا، أَشبَهُ بسورٍ فولاذيٍّ يصدّ نوايا الأعداء الشريرة، لذلك، علينا رفع مستوى نضجنا السياسيّ. فشعبنا اليوم يتقدّم على كثير من الشعوب من حيث الرشد السياسيّ، لكنّنا يجب أن نتقدّم أكثر من هذا. كذلك فيما يتعلّق بتحمُّل المسؤوليّة والعزيمة والإرادة الوطنيّة، ينبغي تحقيق التقدُّم في هذه المجالات كلّها. طبعًا، هذا الشيء لا يتحقّق بالكلام والألفاظ والكتابة على الورق، لا بدّ من الحركة والبرمجة، وسأشير إلى هذا الجانب فيما بعد.

 

العدالة والتقدُّم متلازمان

أمّا بخصوص العدالة، فيجب أن يُقال: إنّ التقدُّم إذا لم يكن مصحوبًا بالعدالة، فهو ليس التقدُّم الذي يبتغيه الإسلام. فأن نرفع الناتج الإجماليّ الوطنيّ والدخل العامّ للبلاد إلى مستوى (رقم قياسيّ)، مع وجود تمييز وعدم مساواة في داخل البلاد، ومع

 

 

68


53

خطاب الولي 2009

وجود الأثرياء (حيتان المال)[1]، بينما يعيش بعضُهم الآخر الفقرَ والحرمان، هذا ليس ما يريده الإسلام، وليس هذا هو التقدُّم الذي يبتغيه الإسلام. ينبغي تأمين العدالة. والعدالة مفردة عميقة جدًّا وواسعة، يجب البحث عن خطوطها الرئيسة، والعثور عليها.

 

نعتقد أنّ العدالة هي خفض الفواصل الطبقيّة والجغرافيّة. فإذا كانت المحافظة أو المدينة أو القرية، بعيدة عن العاصمة، وتقع في منطقة نائية جغرافيًّا، فيجب أن لا تعاني الحرمان بسبب بعدها هذا، بينما تتمتّع المناطق القريبة بالخيرات، هذه ليست عدالة. ينبغي رفع الفواصل الطبقيّة، ويجب أيضًا ردم الفواصل الجغرافيّة، وتوفير المساواة في الاستفادة من الإمكانيّات والفرص. يجب أن يكون بمقدور جميع أبناء البلاد، ممّن لهم القابليّة والاستعداد والقدرة، الانتفاع من الإمكانيّات العامّة للبلاد. يجب أن لا يجري تقديم المحظيّين، وأن لا يُوضَع المخادعون والغشّاشون في المقدّمة. لنعمل ما من شأنه أن يُمكّن أبناء البلد (بمختلف مناطقهم وطبقاتهم) من التمتّع بفرص متساوية، أمام إمكانيّات البلاد وخيراتها. هذه طبعًا، طموحات كبيرة، لكنّها ممكنة، وليست مستحيلة، وبوسعنا الوصول إليها، إذا سعينا وعملنا. العمليّة هنا صعبة، لكنّها ممكنة.

 

مصاديق العدالة

1. مكافحة الفساد الماليّ

من مصاديق العدالة، مكافحة الفساد الماليّ والاقتصاديّ، وهو ما يجب أخذُه مأخذَ الجدّ. لقد ذكرتُ هذه النقطة قبل سنوات، وأكّدتُ عليها عدّة مرّات، وبُذِلَت من أجلها مساعٍ جيّدة، ولا تزال تُبذَل. بَيدَ أنّ مكافحة الفساد عمليّة صعبة، تخلق للإنسان معارضين يبثّون الإشاعات ويكذبون، ويكون الشخص الذي يتقدّم الآخرين في هذا الميدان، عرضةً للهجوم أكثر من غيره. وهذا الكفاح بدوره، ضروريّ، ولا بدّ أن يتمّ. أمّا الذين يريدون النهوض بهذه المشاريع الكبرى - إنْ على صعيد التقدُّم، وإنْ على


 


[1] بتعبير سماحته: وحيازة بعضهم على آلاف الألوف.

 

69


54

خطاب الولي 2009

مستوى العدالة - فيجب أن يكونوا مدراء (مسؤولين) مؤمنين بهذه الأمور. يجب أن يؤمنوا حقًّا بقيامة العدالة ومكافحة الفساد. بإمكان المدراء المؤمنين بهذه الركائز، ومَن لديهم الشجاعة والإخلاص والتدبير والعزم الراسخ، تحقيقُ هذه المقاصد وهذه الأهداف الإلهيّة العالية، قطعًا. هذه هي النقطة الأولى التي كان يجب عليَّ ذكرها.

 

2. إصلاح نمط الاستهلاك، محاربة الإسراف

من الأعمال والإجراءات الأساسيّة في مجال التقدُّم والعدالة، ما ذكرتُه في نداء النوروز وخاطبتُ به الشعب الإيرانيّ العزيز، ألا وهي مكافحة الإسراف، والسير نحو إصلاح نمط الاستهلاك، والحؤول دون البذخ وتضييع أموال المجتمع. هذه قضيّة على جانب كبير من الأهمّيّة. طبعًا، هذه ليست المرّة الأولى التي نطرح فيها هذه الفكرة. إنّني في لقائي بالجماهير بداية السنة، وفي مرّات عدّة، خاطبتُ شعبنا العزيز، وذكرتُ بعض النقاط حول الإسراف، والتبذير، وإتلاف الأموال، وضرورة الاقتصاد، بَيْدَ أنّ هذه المسألة لم تنتهِ، ولم يتحقّق هذا الهدف كما يجب. من الضروريّ أن نطبّق مسألة "الاقتصاد"[1]، كسياسة، في الخطوط العريضة لخططنا، على شتّى المستويات. ليتنبَّه شعبُنا العزيز إلى أنّ الاقتصاد لا يعني عدم الاستهلاك، بل يعني الاستهلاك بنحوٍ صحيح ومناسب، وعدم تبذير الأموال، وجعل الاستهلاك مثمرًا ومفيدًا. فالإسراف في الأموال وفي الاقتصاد، هو أن يستهلك الإنسان المال، من دون أن يكون لهذا الاستهلاك تأثيرٌ وفاعليّة. الاستهلاك العبثيّ والتبذير هو، في الحقيقة، إهدارٌ للمال.

 

على مجتمعنا أن يجعل هذا الأمر شعاره الدائم نصب عينيه، ذلك أنّ واقع مجتمعنا، من حيث الاستهلاك، ليس واقعًا جيّدًا. هذا ما أقوله، ويجب أن نعترف به. فإنّ عاداتنا وتقاليدنا وأساليبنا الخاطئة التي تعلّمناها من ذا وذاك، تقودنا إلى التمادي في الاستهلاك، إلى درجة الإسراف.


 


[1] المقصود بالاقتصاد هنا: تدبيرٌ استهلاكيٌّ، أي ما يتعلّق بكيفيّة الاستهلاك وشؤونه، لجهة الحدّ من التبذير والإسراف والأعمال غير المنتِجة (حسب سياق الحديث).

 

70


55

خطاب الولي 2009

3. الملاءمة بين الإنتاج والاستهلاك

لا بدّ أن يكون هناك، في المجتمع، تلاؤم ما بين الإنتاج والاستهلاك. لا بدّ أن تكون العلاقة لصالح الإنتاج، بمعنى أن يكون إنتاج المجتمع، دائمًا، أكثر من استهلاكه، وينبغي أن يكون استهلاك المجتمع من الإنتاج المحلّيّ، ويُخصَّص الفائض منه لرقيّ البلاد. واليوم، ليس الوضع بهذا الشكل في بلادنا، فاستهلاكنا أكثر من إنتاجنا نسبيًّا، وهذا ما يتسبّب في تأخُّر البلاد، ويكبّدنا خسائر اقتصاديّة مهمّة، ويخلق للمجتمع مشكلات اقتصاديّة. أكّدَت الآيات القرآنيّة مرارًا، على اجتناب الإسراف في الشؤون الاقتصاديّة، والسبب هو أنّ الإسراف يوجّه ضربةً اقتصاديّةً، وضربةً ثقافيّةً أيضًا. حينما يُصاب مجتمعٌ بداء الإسراف، فسيترك هذا تأثيراته السلبيّة عليه، من الناحية الثقافيّة أيضًا. إذًا، قضيّة الاقتصاد واجتناب الإسراف ليست قضيّة اقتصاديّة صرفة، بل هي قضيّة اقتصاديّة، واجتماعيّة، وثقافيّة في الوقت نفسه، والإسراف يهدّد مستقبل البلاد.

 

إحصاءات مهولة

1. الإسراف في الخبز

أذكر ها هنا، بعض الإحصاءات المهولة، المتعلّقة بالإسراف في الموادّ الاستهلاكيّة المهمّة في البلاد. ومن ذلك، الإسراف في الخبز. بحسب دراسات ميدانيّة أُجرِيَت في طهران وبعض مراكز المحافظات، يُقال: إنّ 33 بالمئة من الخبز يذهب هدرًا، ثلث مجموع الخبز الذي يُنتَج في هذه المدن، يُرمَى بعيدًا، ولا يُؤكَل! تصوّروا الأمر: ثلث الخبز! بينما الفلّاح عندنا ينتج القمحَ بكلّ مشقّة، وإذا كانت الأمطار شحيحة في عامٍ من الأعوام -كالعام الماضي، حيث انخفض إنتاج القمح في البلاد- تنفق الحكومة المال العامّ، ومن ميزانيّة الشعب، لتستورد القمح من الخارج، وتحوّله إلى دقيق، ثمّ عجين، ثمّ يكون خبزًا، وبعد ذلك، تُرمى ثلث هذه الثروة بعيدًا! كم هو مؤسف هذا الوضع! هذا، للأسف، واقع موجود.

 

2. الإسراف في المياه

وحول المياه، تقول الدراسات التي أُجرِيَت: إنّ إهدار المياه في الاستهلاك المنـزليّ

 

71


56

خطاب الولي 2009

يصل إلى نحو 22%. بلدنا ليس بلدًا غنيًّا بالمياه، وعلى شعبنا الاقتصاد في استهلاك المياه إلى أقصى درجة. ثمّ إنّ هذا الماء الذي يتمّ إنتاجه بكلّ هذه الجهود والمشاقّ، ويُجَرّ عبر طرق ومسافات بعيدة، وتُبنى السدود بتكاليف عالية، وتُستَخدَم كلّ هذه العلوم والتجارب والجهود، لكي يصل الماء إلى بيوتنا، وإذا بـ 22% من هذا الماء يُهدَر! هذا فيما يخصّ الاستهلاك المنـزليّ فقط، وأمّا الاستهلاك الخاصّ بالزراعة والصناعة، فيشهد، أيضًا، تبذيرًا من نوع آخر. فالإحصاءات التي أفادتنا بها الدراسات، تقول: إنّنا نستهلك من الطاقة أكثر من ضعفَيْ متوسّط استهلاك الطاقة في العالم، سواء بالنسبة إلى الكهرباء، أو حوامل الطاقة، أي النفط، والغاز، والغازؤيل، والبنـزين.

 

استهلاك هذه الموادّ في بلادنا، أكثر من ضعفَي متوسّط الاستهلاك العالميّ! هذا إسراف. أليس إسرافًا؟

 

ثمّة مؤشّر يُسَمَّى مؤشّر "شدّة الطاقة"، أي نسبة الطاقة المستَهلَكة إلى البضائع المنتجة. وكلّما كان استهلاك الطاقة أقلّ، كان ذلك أنفع للبلد. في هذا المجال، تصل شدّة الطاقة عندنا، أحيانًا، إلى أكثر من ثمانية أضعاف شدّة الطاقة، لدى بعض البلدان المتقدّمة! هذه نماذج للإسراف الموجود في المجتمع.

 

3. الإسراف في الاستهلاك الشخصيّ

ويحصل الإسراف الفرديّ أيضًا، في الاستهلاك الشخصيّ والعائليّ المتنوّع. نزعة البذخ، والتنافس مع الآخرين، وأهواء أفراد العائلة -ربّ العائلة، أو ربّة العائلة، وشباب العائلة- وشراؤهم أشياء غير ضروريّة، هذه كلّها من نماذج الإسراف، فأدوات الزينة والترف (الكماليّات)، وأدوات المنـزل وأثاثه، والزينة والزخارف داخل البيت، هذه أشياء ننفق الأموال لأجلها، هذه الأموال التي يمكن إنفاقها على الإنتاج والاستثمار، فتساعد على تطوير البلاد، ومساعدة الفقراء، وزيادة الثروة العامّة للوطن، نستهلكها على هذه الأمور المنبعثة من الأهواء، والتنافس، والحفاظ الوهميّ على السمعة. (فهناك بعضهم) يسافرون ويرجعون، فيقيمون الولائم والضيافات، وأحيانًا، تكون تكاليف تلك الضيافة أضخم من تكاليف السفر إلى مكّة! يقيمون عرسًا أو عزاءً، فينفقون على الضيوف أموالًا طائلة، ويقدّمون شتّى صنوف الطعام! لماذا؟! ما الداعي

 

72


57

خطاب الولي 2009

لذلك؟ لا يزال في بلادنا مَن هم محرومون من ضروريّات العيش. يجب أن نساعد على تقدُّم البلاد. لا نقول: أنفِقوا الأموال بالضرورة على الفقراء -وطبعًا، أفضل الأعمال أن ينفق الإنسان في سبيل الله- ولكن، حتّى لو لم ينفقوا، فليستثمروا هذه الأموال التي يبذلونها على الترف (والكماليات)، في الإنتاج من أجل أنفسهم، وليساهموا في المصانع والمعامل والإنتاج، وسيكون ذلك نافعًا للبلاد. لكنّنا، بدل هذه الأعمال، نقيم الولائم، والمجالس، والمآتم، واصطناع العادات، والمراسم، لماذا؟! ما الضرورة لذلك؟ عقلاء العالم لا يفعلون هذا. هذا ليس رأي الدين فقط. يقول القرآن الكريم: ﴿وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ﴾[1]، ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ﴾[2]. ويقول في آية شريفة أخرى: ﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ﴾[3]. نحن عباد الله، وهذا كلام الدين، وثمّة الكثير من الأحاديث في هذا المضمار. جاء في إحدى الروايات، أنّ شخصًا أكل فاكهة، وبقي نصفُها، فرماه، فنهره الإمام عليه السلام، وقال له: لقد أسرفت! لِمَ رميته؟ ولدينا في الروايات، أوامر بالاستفادة حتّى من نواة التمر. القضيّة جدّيّة إلى هذا الحدّ! استهلِكوا كِسَر الخبز المتفرّقة. يقدّمون الطعام في الفنادق لعدد من الناس، ثمّ يرمون كلّ ما يتبقّى من الطعام في صناديق النفايات، بحجّة أنّه غير صحّيّ! هل هذا ممّا يناسب مجتمعًا إسلاميًّا؟! هل يمكن بلوغ العدالة بهذه الطريقة؟

 

وجوب إصلاح نمط الاستهلاك

علينا إصلاح أنفسنا. يجب إصلاح نموذج (نمط) الاستهلاك في المجتمع والبلاد. نموذجنا للاستهلاك نموذج خاطئ. كيف نأكل؟ وماذا نأكل؟ وماذا نلبس؟ نضع في جيوبنا هاتفًا جوّالًا، وبمجرّد أن ينـزل للأسواق طراز أحدث، نرمي جهازنا جانبًا، ونشتري النسخة الأحدث، لماذا؟ أيّة نزوة هذه التي أُصِبنا بها!

 


 


[1] سورة الأعراف، الآية 31.

[2] سورة الأعراف، الآية 31.

[3] سورة الأنعام، الآية 141.

 

73


58

خطاب الولي 2009

الإسراف في إمكانات البلد

ليس الإسراف في المجالات الفرديّة فقط، فهناك إسراف على المستوى الوطنيّ. فيما يخصّ الكهرباء والطاقة التي قلنا: إنّهما يُبذَّران، هناك شطر كبير من هذا التبذير لا يتعلّق بالناس، وإنّما بمسؤولي البلاد. حينما تهترئ شبكات الاتّصالات، وشبكات نقل الكهرباء، وأسلاك الكهرباء، فسوف تُهدَر الكهرباء. ننتج الكهرباء، ثمّ نهدر قسمًا كبيرًا منه في هذه الشبكة القديمة التالفة. وشبكات نقل المياه كذلك، إذا تهرّأَت، فسوف تُهدَر المياه. هذه نماذج للإسراف الوطنيّ وعلى المستوى الوطنيّ، والمسؤولون عنه هم مدراء البلاد. وقد يحصل الإسراف على مستوى المؤسّسات. مدراء المؤسّسات المختلفة لا يستهلكون استهلاكًا شخصيًّا، ولكن يحصل استهلاك منفلت وغير منضبط في مؤسّساتهم: الترف والفخفخة في الإدارة وغرف العمل، والزينة، والأسفار والزيارات غير الضروريّة، وأنواع الأثاث. ينبغي الحيلولة دون هذه الظواهر عبر المراقبة والإشراف. ينبغي النظر إلى الإسراف على أنّه عيب[1]، سواء كان على مستوى الدولة، أو على مستوى أبناء الشعب، أو على مستوى المؤسّسات. وكما ذكرنا، فإنّ هذه الأمور لا تتحقّق بمجرّد الكلام، بل ينبغي البرمجة لها. والسلطتان التشريعيّة والتنفيذيّة مكلّفتان بمتابعة الأمر. يجب عليهما البرمجة والتقنين لذلك، ويجب تنفيذ القانون بكلّ حسم، وإنّ التقدُّم الذي سنحرزه خلال الأعوام العشرة القادمة، يرتبط جزءٌ كبيرٌ منه بهذه القضيّة.

 

الاقتصاد المطلوب

هذا هو الاقتصاد المطلوب واللازم، ابتداءً من الإنتاج، إلى الاستهلاك، وإلى إعادة الاستهلاك. لنقتصد في الماء، أي نصون سدودنا، ونصلح شبكات نقل المياه، ونؤهِّل الفلّاحين لإتقان الأساليب الاقتصاديّة في الرّيّ وكيفيّة سقاية الأراضي. طبعًا، تمّ إنجاز هذه الأعمال بنسبة كبيرة خلال الأعوام الماضية -لحسن الحظّ- لكن هذا لا يكفي، ويجب توسعته. لنمهّد الأرضيّة لخفض معدّلات استهلاك المياه في المنازل. أن يُقال:


 


[1] أي بنحو سلبيّ ومستقبَح.

 

74


59

خطاب الولي 2009

يجب استيفاء ضرائب أكبر، وتقديم دعم أقلّ لأصحاب الاستهلاك العالي، فهذا كلامٌ معقولٌ وجيّدٌ، وأن يتمتّع أصحاب الاستهلاك القليل بمساعدات الحكومة والمساعدات العامّة. بعضهم يستهلك الماء بنسبة قليلة جدًّا، بحيث لو لم تقبض الحكومة منهم رسوم الماء، لَما كان في ذلك أيّ ضير، وبعضهم يستهلك عشرة أضعاف أو عشرين ضعفًا ممّا يستهلك هؤلاء، ولا بدّ أن يسدّد هؤلاء فواتير أكبر.

 

أمّا بخصوص الخبز، فمن الضروريّ إنتاج القمح الجيّد، والدقيق الجيّد، وحفظه بطريقة جيّدة، وطحنه بطريقة جيّدة، ومن ثمّ استهلاكه بطريقة صحيحة.

 

كان هذا ما يتعلّق بقضيّة الإسراف والاقتصاد، التي كان ينبغي الحديث عنها.

 

الانتخابات ركن أساسيّ في النظام

الموضوع الآخر من مواضيع البلاد الداخليّة، هو الانتخابات التي ستجري في بلادنا بعد فترة، وأودّ هنا الإشارة إليها. طبعًا، ثمّة وقت إلى حين موعد الانتخابات. وإذا أعطانا الله عمرًا، فسأطرح على شعبنا العزيز الأمور التي أرى من الضروريّ طرحها. لم يفت الأوان، لكنّني سأشير هنا إلى بعض النقاط:

أوّلًا، ليست الانتخابات في بلادنا حركة استعراضيّة، فهي أساس نظامنا. الانتخابات إحدى أُسُس النظام، لا يمكن تحقيق حاكميّة الشعب الدينيّة[1] بالكلام. الحاكميّة الدينيّة ممكنة الحصول بمشاركة الجماهير، وحضورهم، وإرادتهم، وارتباطهم الفكريّ والعقلانيّ والعاطفيّ بتطوّرات البلاد. وهذا غير متاح إلّا عن طريق انتخابات صحيحة عامّة، ومشاركة شعبيّة واسعة فيها. هذه الحاكميّة الشعبيّة سبب صمود الشعب الإيرانيّ. إذا كان صراخ القوى العظمى، طيلة الـ30 عامًا، عاجزًا عن إلقاء الرعب في قلوبكم، وإذا لم تستطع هذه القوى توجيه ضربة قاصمة لكم، باستثناء الصراخ، وحين يُظهِر شباب البلاد هذه الشجاعة وهذا الإخلاص في خوض شتّى السوح والميادين، فهذا كلّه ببركة الحاكميّة الشعبيّة الدينيّة، وهذا ما يجب معرفة قدره بحقّ. الانتخابات هي بمثابة رصيد استثمار كبير للشعب الإيرانيّ، هي بمثابة رأسمال ضخم وكبير تضعونه في البنك،


 


[1] أو سيادة الشعب الدينيّة.

 

75


60

خطاب الولي 2009

فيعمل به البنك، وتنتفعون أنتم من أرباحه. الانتخابات أشبه بهذا الشيء. يقوم الشعب الإيرانيّ باستثمار كبير جدًّا، وإيداع هائل للغاية، وينتفع من فوائده. وإنّ صوت كلّ واحد منكم، أيّها الجماهير، هو بمثابة حصّة من هذا الاستثمار والإيداع. كلّ صوت تضعونه في صناديق الاقتراع، هو كجزء من المال الذي توفّرونه للإيداع والاستثمار. حتّى الصوت الواحد، له أهميّته. كلّما كانت الانتخابات أعظم وأنشط، برزَت عظمة الشعب الإيرانيّ في أعين معارضيه وأعدائه، أكثر، وسيكون له حُرمة أكبر، وأصدقاؤكم في العالم سوف يفرحون بدورهم. عظمة الشعب الإيرانيّ تعبّر عنها مشاركةُ الشعب في الانتخابات. فالمسألة الأولى التي أسعى دائمًا إلى التركيز عليها في الانتخابات، هي التأكيد على أهمّيّة مشاركة الجماهير. وإنّ مشاركتهم هي تصديق، وتأييد، وتعزيز لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة. ليست المسألة مجرّد مسألة سياسيّة وفرديّة وأخلاقيّة محضة، بل هي مسألة شاملة متعدّدة الأبعاد. الانتخابات متّصلة بمصير الشعب، وخصوصًا انتخابات رئاسة الجمهوريّة، التي تمثّل وضع السلطة التنفيذيّة في البلاد، بعهدة شخص ومجموعة تدير البلاد لعدّة سنوات. الانتخابات مهمّة إلى هذا الحدّ.

 

وأقول كلمة للمرشَّحين المحترَمين، الذين أعلنوا عن ترشيحهم، أو الذين سيعلنون ذلك في المستقبل: ليعلم الذين يرشِّحون أنفسهم للانتخابات، أنّ الانتخابات وسيلة لرفع قدرات البلاد، وتكريس سمعة الشعب، وليست مجرّد وسيلة لتولّي السلطة. إذا كانت هذه الانتخابات لأجل اقتدار الشعب الإيرانيّ، فعلى المرشّحين الاهتمام بها، ومراعاة ذلك في إعلامهم وتصريحاتهم ونشاطهم. لا يتصرّفَنَّ المرشَّحون أثناء نشاطهم الانتخابيّ، أو يُصرّحَنّ بطريقة تُطمِع العدوّ. ليجعلوا التنافس منصفًا، وليجعلوا الكلام والتصريحات منصفة، ولا ينحرفوا عن جادّة الإنصاف. من الطبيعيّ أن يكون لكلّ مرشّح كلامه، وأن يرفض كلام الطرف المقابل. لا إشكال في هذا الرفض والنقد نفسه، شريطة أن لا يعتريه عدم الإنصاف أو كتمان الحقيقة. الساحة مفتوحة للجميع، فليأتوا وليقدِّموا أنفسهم أمام الشعب في ساحة الانتخابات، والخيار للشعب الذي سيتصرّف، إن شاء الله، كيفما يدرك ويشخّص ويساعده وعيُه على ذلك.

 

76

 

 


61

خطاب الولي 2009

سلامة الانتخابات ونزاهتها

الانتخابات سليمة ونزيهة بفضل الله، وحوله، وقوّته. أرى أنّ بعضهم بدؤوا، من الآن، يشكّكون في الانتخابات التي ستُقام بعد شهرَين أو ثلاثة. أيّ منطق هذا؟! وأيّ تفكير هذا؟! وأيّ إنصاف هذا؟! أُقِيمَت هذه الانتخابات كلّها طوال الأعوام الثلاثين الماضية -حوالي ثلاثين انتخابات- وتعهّد المسؤولون رسميًّا آنذاك -في كلّ دورة- بضمان نزاهة الانتخابات، وكانت الانتخابات نزيهة، فلماذا يشكّكون اعتباطًا، ويضعضعون إرادة الجماهير، ويبثّون فيهم الشكوك؟ طبعًا، لن تتزلزل أذهان شعبنا العزيز بهذا الكلام.

 

وأنا أؤكّد على مسؤولي الانتخابات، وأوصيهم أن يُقِيموا الانتخابات بشكل حماسيّ ملحميّ، بحيث تتوفّر الحرّيّة لكلّ المرشَّحين، ويستطيع الشعب أيضًا التصويت بحرّيّة، وتُقام الانتخابات -وستقام، إن شاء الله- بنحو نزيه، وبأمانة تامّة.

 

صوتي لا أحد يعرفه

وأقول لكم أيضًا، أيّها الأعزّاء، ولكلّ شعبنا العزيز، فيما يتعلّق بالانتخابات: إنّه كانت، وستكون هناك دومًا، تخمينات وإشاعات حول موقف القيادة من الانتخابات. إنّني أمتلك صوتًا واحدًا، سأضعه في صندوق الاقتراع. وسأصوّت لشخص واحد، ولن أقول لأيّ شخص: انتخِب هذا، ولا تنتخب ذاك. إنّه اختيار الناس أنفسهم، وتشخيصهم. إنّني أدعم الحكومة أحيانًا، وأدافع عنها، فيحاول بعضهم اختلاق معنى غير صحيح لهذه الممارسة. كلّا، إنّني أدافع عن الحكومات دومًا، ولكن إذا تعرّضَت حكومة لهجمات أكثر، وشعرَت أنّها تتعرّض لهجمات غير منصفة، فسأدافع أكثر. إنّني أتحيّز للإنصاف، وأقول: يجب أن نكون منصفين، وننظر إلى الأعمال، ولا صلة لهذا بالانتخابات، إنّما هي قضيّة الإنصاف وعدم الإنصاف. وإنّ دعم العاملين (الخادمين) في البلاد، وحمايتهم، واجب أتحمّله على عاتقي، ويتحمّله الجميع أيضًا. هذا لا علاقة له بالإعلان عن موقفٍ انتخابيٍّ. إنّني أرحّب بكلّ نشاط إيجابيّ، وبكلّ خطوة جيّدة، وبكلّ تَقدُّم إلى الأمام، وبكلّ خدمة تُقَدَّم إلى الشعب، وبكلّ تعاطف مع المحرومين،

 

 

77

 


62

خطاب الولي 2009

وبكلّ مواجهة للظلم والاستكبار، وأقدّم الشكر والثناء للشخص الذي يفعل ذلك، أيًّا كانت الحكومة، وأيًّا كان الشخص. هذا هو واجبي.

 

العلاقة مع أمريكا: سلوك عدوانيّ

حول قضايا بلادنا الدوليّة، أشير إلى نقطة واحدة فقط، هي قضيّتنا نحن مع أمريكا. وقد كانت هذه القضيّة من الاختبارات المهمّة، التي واجهت الثورة منذ يومها الأوّل. فمنذ اليوم الأوّل لانتصار الثورة، كان الشعب الإيرانيّ أمام اختبار كبير، في مواجهته ونمط تعامله، مع حكومة الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وقد استمرّ هذا الاختبار الكبير والمهمّ، على امتداد هذه الأعوام الثلاثين. وقد واجهَت الحكومة الأمريكيّة هذه الثورة، منذ البداية، بوجهٍ مكفهرّ عبوس، ولهجة معارضة. وطبعًا، هذا حقّهم، طبقًا لحساباتهم الخاصّة.

 

كانت إيران، قبل الثورة، في قبضة أمريكا، وكانت مصادرها الحيويّة تحت تصرّف أمريكا، وكانت مراكز اتّخاذ القرار السياسيّ أيضًا، في يد أمريكا، والعزل والنصب في المواقع الحسّاسة بيد أمريكا. كانت إيران مرتعًا لرعايا أمريكا، والعسكريّون الأمريكيّون، وسواهم. وخرج هذا كلّه من أيديهم. كان بوسعهم أن لا يُبدوا معارضتهم بهذا الشكل العدائيّ، إلّا أنّ الحكومة الأمريكيّة -سواء رؤساؤهم الجمهوريّون أو الديمقراطيّون- أساؤوا معاملة نظام الجمهوريّة الإسلاميّة منذ مطلع الثورة. وهذا ليس بالشيء الخافي على أحد.

 

نماذج من العداء الأمريكيّ

1. التحريض الداخليّ

أوّل ما قام به الأمريكيّون، هو تحريض معارضي الجمهوريّة الإسلاميّة، هنا وهناك، ومساعدة حركات الانفصال والإرهاب في الداخل. شرعوا بهذه الممارسات منذ البداية، وأيّة منطقة من مناطق البلاد، كانت تتوفّر فيها الأرضيّة لحركات التقسيم والانفصال، كنّا نشاهد الأصابع الأمريكيّة فيها. رأينا أموالهم أحيانًا، بل ورأينا هناك أحيانًا أخرى، حتّى العناصر الأمريكيّة نفسها. وقد ألحق هذا الأمر بشعبنا خسائر كبيرة. وللأسف، فإنّ

 

78

 


63

خطاب الولي 2009

هذا العمل لا يزال مستمرًّا إلى الآن، فالأشرار الذين ينشطون في المناطق الحدوديّة بين إيران وباكستان، لدينا بعض اتّصالاتهم، وهم مرتبطون بالعناصر الأمريكيّة، ويتحدّثون معهم عبر اللاسلكيّات، ويتلقّون الأوامر. هناك أشرار إرهابيّون قتلة، مرتبطون بضابط أمريكيّ في بلد جار! هذا الواقع مستمرّ إلى الآن، للأسف.

 

2. الاستيلاء على ممتلكات إيران

هذه كانت نقطة انطلاق عملهم. ثمّ كان الاستيلاء على أموال إيران، وممتلكاتها، وبضائعها، وتجميدها. أعطى النظام السابق الأميركيّين أموالًا طائلة، لشراء طائرات ومروحيّات وأسلحة منهم. وقد تمّ تجهيز بعض هذه المعدّات هناك، لكنّهم لم يسلّموها حينما قامت الثورة، ولم يُعيدوا تلك الأموال، التي كانت مليارات الدولارات! والأغرب أنّهم احتفظوا بتلك المعدّات في مخازن، وقرّروا لأنفسهم أجورًا على هذا التخزين، وظهروا بمظهر الدائن، واقتطعوا أجور تخزين لأنفسهم، من حساب معاهدة الجزائر! يغتصبون ممتلكات شعب، ويحتجزونها عندهم، ثمّ يتقاضون أجور تخزينها! هذا سلوكٌ ابتدأ منذ اليوم الأوّل، ولا يزال مستمرًّا إلى اليوم. لا تزال الأموال الإيرانيّة هناك في أمريكا، وفي بعض البلدان الأوروبّيّة. وقد تابعناهم لسنوات، وطالبناهم بممتلكاتنا التي دُفِعَت أثمانها، فقالوا: لأنّها تحتاج إلى ترخيص الأمريكيّ، فالأمريكيّون لا يسمحون بتسليمها، ولن نسلّمها لكم، وأبقوها عندهم. ولا تزال ممتلكات الشعب الإيرانيّ موجودة هناك، إلى يومنا هذا.

 

3. دعم صدّام في الحرب

أعطوا لصدّام الضوءَ الأخضرَ للهجوم على إيران، وكانت هذه خطوةً أخرى من قبل الحكومة الأمريكيّة. لو لم يتلقّ صدام الضوء الأخضر من أمريكا، لكان من المستبعَد أن يهاجم حدودنا. فرضوا على بلادنا ثمانية أعوام من الحرب، واستشهد في هذه الحرب، قرابةُ ثلاثمئة ألفٍ من شبابنا وأبناء شعبنا. وقد ساند الأمريكيّون، طوال هذه الأعوام الثمانية -وفي السنوات الأخيرة منها خصوصًا- صدّامًا دومًا، وقدّموا له العون والمساعدة -مساعدات ماليّة، وتسليحيّة، وخبرات سياسيّة- وزوّدوه بما لديهم من معلومات وتقارير، عبر الأقمار الصناعيّة، وسائر إمكاناتهم الاستخباريّة. كانت أقمارهم

 

 

79

 


64

خطاب الولي 2009

الصناعيّة تسجّل تحرّكات قوّاتنا في الجبهة، ويعطونها في الليلة نفسها، لمقرّات صدام، كي يستخدموها ضدّ شبابنا وقوّاتنا.

 

4. مجزرة حلبجة وإسقاط الطائرة المدنيّة

غضّوا الطرف عن جرائم صدّام. وقعَت فاجعة حلبجة، وقصف مدننا بالصواريخ، وخرّب بيوتنا، واستخدَم الطرف المقابل السلاح الكيميائيّ في الجبهات، فغضّوا طرفهم، ولم يحرّكوا ساكنًا على الإطلاق، بل واصلوا مساعدة صدّام. هذه أيضًا، كانت واحدة من ممارسات الحكومات الأمريكيّة، طوال هذه الأعوام، ضدّ شعبنا وبلادنا. وفي نهايات الحرب، أطلق ضابطٌ أمريكيٌّ صاروخًا، من فرقاطة حربيّة أمريكيّة، على طائرتنا المدنيّة، في سماء الخليج الفارسي، فأسقطها، وكان فيها نحو 300 مسافر، قُتِلوا جميعُهم. ثمّ بدل أن يوبّخوا ذلك الضابط، منحَه رئيسُ جمهوريّة أمريكا، آنذاك، مكافأةً ووسامًا. فهل ينسى شعبنا هذه الممارسات؟ وهل بوسعه أن ينساها؟ دعموا الإرهابيّين المجرمين، الذين قتَلوا في بلادنا، الرجال والنساء والأفراد والجماعات والعلماء الكبار والأطفال الصغار، وسمحوا لهم بالعمل داخل بلادهم.

 

5. عمل إعلاميّ عدائيّ متواصل

أطلَقوا الإعلام العدائيّ ضدّ بلادنا، دون انقطاع -متى ما تحدَّث رؤساء جمهوريّة أمريكا، خصوصًا أثناء فترة الرئيس الأمريكيّ الزائل السابق، طوال هذه الأعوام، عن شعب إيران- وضدّ بلادنا، وضدّ مسؤولينا، وضدّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. أهانوا الشعب الإيرانيّ، وأطلقوا كلامًا فارغًا سخيفًا ضدّه. هكذا كان الوضع دائمًا، على مدى هذه الأعوام. ضعضَعوا أمن منطقتنا، وأمن الخليج الفارسيّ، وأفغانستان، والعراق، وأطلَقوا سيول التسليح لبلدان المنطقة، من أجل مواجهة الجمهوريّة الإسلاميّة، وفي الواقع، من أجل مِلء جيوب شركات السلاح. دعَموا الكيان الصهيونيّ، دون قيد أو شرط، ذلك الكيان الظالم، الذي شاهدتم نموذجًا لظلمه في أحداث غزّة، قبل شهرَين أو ثلاثة، ولاحظتم أيّة فاجعة اجترحوا هناك، كم قتلوا من الأطفال والرجال والنساء! قَتلوا، على مدى 22 يومًا، خمسةَ آلاف إنسان في غزّة، بقصفهم وصواريخهم ورصاصهم المباشر. ومع ذلك، دافعَت الحكومة الأمريكيّة عن ذلك الكيان، إلى آخر لحظة. كلّما

 

 

80


65

خطاب الولي 2009

أراد مجلس الأمن إصدار قرار ضدّ الكيان الصهيونيّ، تقدّمَت أمريكا إلى الأمام، وجعلَت من نفسها درعًا يحمي ذلك الكيان، ودافعَت عنه، وحالَت دون إصدار القرار. هدَّدوا بلادنا، بمناسبة ودون مناسبة. قالوا دومًا: إنّنا سنهجم، وإنّ الخيار العسكريّ على الطاولة، وسنفعل كذا وكذا. هدَّدوا شعبنا في كلّ مرة تحدّثوا فيها عن بلادنا. طبعًا، لم تؤثِّر هذه التهديدات في شعبنا، لكنّهم أظهَروا عداءهم بهذه الوسائل. وجَّهوا الإهانات إلى شعب إيران، وحكومة إيران، ورئيس جمهوريّة إيران، مرارًا.

 

الشعب الإيرانيّ معتدل وشريف

قال أحد الأمريكيّين قبل سنوات: إنّه يجب استئصال جذور الشعب الإيرانيّ! وفي السنوات الأخيرة، قال أحد المسؤولين الأمريكيّين: إنّ الإيرانيّ الجيّد والمعتدل هو الإيرانيّ الميّت! هكذا وجَّهوا الإهانات إلى هذا الشعب الكبير الشريف، الذي لم يكن ذنبه سوى دفاعه عن هويّته واستقلاله. فرضوا الحظر على بلادنا مدّة ثلاثين سنة. وطبعًا، انتهى هذا الحظر لصالحنا، وعلينا تقديم الشكر للأمريكيّين بسبب ذلك.

 

الحظر أوصلَنا إلى التقدُّم

فلولا الحظر الذي فرضوه علينا، لَما كنّا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من العلم والتقدُّم. اضطرَّنا الحظرُ، دومًا، إلى أن نصحو على أنفسنا، ونفكّر وننبعث من الداخل. لكنّ نيّتهم لم تكن مثل هذه الخدمة، بل أرادوا ممارسة العدوان. هكذا تعاملوا مع شعب إيران مدّة ثلاثين سنة. والآن، تقول الحكومة الجديدة في أمريكا: إنّنا نرغب في التفاوض مع إيران، وتعالوا ننسى الماضي! يقولون: إنّنا مددنا يدنا نحو إيران. طيّب، أيّة يد هذه؟ إذا كانت اليد الممدودة مغلَّفة بقفّاز من مخمل، لكن تحتها يد حديديّة، فليس لهذا معنى إيجابيّ على الإطلاق. يباركون العيد للشعب الإيرانيّ، لكنّهم في هذا التبريك نفسه، يتّهمون شعب إيران بمناصرة الإرهاب، وطلب السلاح النوويّ، وأمور من هذا القبيل!

 

المفاوضات والابتزاز الأمريكيّ

أنا لا أدري من هو صاحب القرار في أمريكا، هل هو رئيس الجمهوريّة، أم الكونغرس، أم العناصر الكامنة خلف الكواليس؟ لكنّني أريد أن أقول: إنّ لنا منطقنا. لقد سار

 

81

 


66

خطاب الولي 2009

الشعب الإيرانيّ، منذ اليوم الأوّل، وإلى الآن، وفق (هذا) المنطق. لسنا عاطفيّين فيما يخصّ قضايانا المهمّة، ولا نتّخذ قراراتنا انطلاقًا من العواطف والأحاسيس، إنّما نقرّر وفقًا لحسابات.

 

يقولون: تعالوا نتفاوض ونُقِم علاقات، ويرفعون شعار التغيير. طيّب، أين هو هذا التغيير؟ وأيّ تغيير هو؟ أوضحوا لنا هذا. ما الذي تغيّر؟ هل تغيّر عداؤكم للشعب الإيرانيّ؟ أين هي علامة ذلك؟ هل أفرجتم عن ممتلكات الشعب الإيرانيّ؟ هل ألغيتم الحظر الظالم؟ هل أقلعتم عن التشويه، وتوجيه التهم، والإعلام السيّئ ضدّ هذا الشعب الكبير، ومسؤوليه الشعبيّين؟ هل أقلعتم عن الدفاع غير المشروط عن الكيان الصهيونيّ؟ ما الذي تغيّر؟ يرفعون شعار التغيير، ولكن لا يُشاهَد تغيير على المستوى العمليّ. لم نشاهد أيّ تغيير، حتّى إنّ اللهجة والأدبيّات لم تتغيّر. لقد أهان رئيس جمهوريّة أمريكا الجديد، وفي اللحظة الأولى التي تولّى فيها رئاسة الجمهوريّة رسميًّا وألقى كلمته، أهان إيران وحكومة الجمهوريّة الإسلاميّة، لماذا؟ إن كنتم صادقين في حصول تغيير، فأين هو هذا التغيير؟ لماذا لا يُشاهَد شيء؟

 

الشعب الإيرانيّ لن يُخدَع

إنّني أقول هذا للجميع: ليعلم المسؤولون الأمريكيّون، وليعلم الآخرون أيضًا، أنّ الشعب الإيرانيّ لا يمكن خداعه، ولا يمكن إخافته.

 

أوّلًا، التغيير في الألفاظ ليس كافيًا - ولم نرَ تغييرًا يُذكَر حتّى في الألفاظ - بل يجب أن يكون التغيير تغييرًا حقيقيًّا. ونقول للمسؤولين الأمريكيّين: إنّ التغيير الذي تتحدثون عنه، هو ضرورةٌ بالنسبة لكم، وليس أمامكم مفرّ من التغيير، إذا لم تُغيِّروا، فسوف تغيّركم السنن الإلهيّة، وسوف يغيّركم العالم. يجب أن تُغيِّروا، إلّا أنّ هذا التغيير يجب أن لا يكون مجرّد كلام يخفي نوايا غير سليمة، تقف وراءه نوايا غير نظيفة. تارةً يقولون: إنّنا نروم تغيير سياساتنا، لكنّنا لا نغيّر أهدافنا، إنّما نغيّر تكتيكاتنا فقط. هذا ليس بتغيير، هذه خدعة. وتارةً يكون التغيير تغييرًا واقعيًّا، عندها، يجب أن يُشاهَد على مستوى الفعل.

 

82


67

خطاب الولي 2009

ازدياد كراهيّة أمريكا

إنّني أنصح المسؤولين الأمريكيّين، وكلّ من بيده القرار في أمريكا - سواء كان رئيس الجمهوريّة، أو الكونغرس، أو غيرهم - وأقول: إنّ الواقع الذي اتّسمَت به الحكومة الأمريكيّة في السابق، يضرّ بالشعب الأمريكيّ، ويضرّ بالحكومة الأمريكيّة نفسها. إنّكم مكروهون في العالم اليوم. اعلموا ذلك، إنْ لم تكونوا تعلمون. الشعوب تحرق علَمَكم. الشعوب المسلمة في كلّ أنحاء العالم تقول: "الموت لأمريكا!". ما هو سبب هذه الكراهيّة؟ هل درستم ذلك وحلّلتموه؟ هل استلهمتم العبر منه؟ السبب هو أنّكم تتعاملون مع العالم تعاملَ القيِّم عليه، وتتحدّثون بطريقة متكبِّرة، وتريدون فرض إرادتكم في العالم، وتتدّخلون في شؤون البلدان، وتستخدمون معايير مزدوجة في العالم. تارةً تصبّون سيول الدعاية ضدّ شابٍّ فلسطينيّ يضطرّ، بسبب شدّة الضغوط، إلى تنفيذ عمليّة استشهاديّة، ولكن من جهة ثانية، تتجاهلون جرائم الكيان الصهيونيّ، الذي اقترف تلك الفاجعة في غزّة، على مدى 22 يومًا. تسمّون ذلك الشابّ إرهابيًّا، وتقولون عن هذا الكيان الإرهابيّ: إنّنا ملتزمون حيال أمنه. هذا ما يجعلكم ممقوتين في العالم.

 

نصيحةٌ إلى الأمريكيّين

هذه نصيحة لكم، وهي لخيركم وصلاحكم، ولأجل مستقبل بلادكم: أقلِعوا عن لهجة الاستكبار، وأقلِعوا عن أساليب الاستكبار، وعن تصرّفات القوامة[1]، ولا تتدّخلوا في شؤون الأمم، واقنَعوا بحقّكم، ولا تقرّروا لأنفسكم مصالح في كلّ مكان من العالم، وسترون أنّ الوجه الأمريكيّ في العالم سيخرج، تدريجيًّا، من حالة كونه مكروهًا ممقوتًا، إلى حالة أخرى. اسمعوا هذا الكلام! هذه هي نصيحتي للمسؤولين الأمريكيّين، سواء رئيس جمهوريّتهم وغيره. فكِّروا بهذا الكلام بدقّة. خذوه، ليترجموه لكم، طبعًا، لا تعطوه للصهاينة ليترجموه، بل استشيروا أشخاصًا نظيفين، واطلبوا آراءهم. ما دامت الحكومة الأمريكيّة تواصل أسلوبها، وأعمالها، وتوجّهاتها، وسياساتها ضدّنا، كما فعلت

 

 


[1] أن يتصرّف وكأنّه قيّم ووصيّ على العالم.

 

83


68

خطاب الولي 2009

في الثلاثين سنة الأخيرة، فسنكون على ما كنّا عليه في هذه الثلاثين سنة، وسنبقى الشعب نفسه الذي كان طوال هذه الأعوام الثلاثين. شعبنا يسوؤه أن تواصلوا رفع شعار "التفاوض والضغوط"، وتقولوا: نتفاوض مع إيران، ونمارس الضغط ضدّها في الوقت نفسه، التهديد والتطميع في آن واحد. لا يمكن التحدّث مع شعبنا بهذه الطريقة. ليست لدينا سوابق عن الحكومة الجديدة ورئيس الجمهوريّة الجديد في أمريكا، وسننظر إلى أدائهم ونحكم. غيِّروا، وسوف يتغيّر أسلوبنا أيضًا. وإذا لم تغيّروا، فإنّ شعبنا أصبح خلال هذه الأعوام الثلاثين، أكثر تهيُّؤًا، وخبرةً، وتجربةً، وصبرًا، وقوّة.

 

رحيل زوجة الإمام (رضوان الله تعالى عليه)

أدعو الله -تعالى- ثلاث دعوات:

اللهمّ، بمحمّد وآل محمّد، لا تقطع لطفك ورحمتك عن هذه الأمّة. وأقول لشعبنا العزيز: إنّنا علمنا أنّ زوجة إمامنا الراحل، ورفيقة دربه الدائمة، رحلَت عن الدنيا هذا اليوم، للأسف. لقد كانت هذه السيّدة الجليلة شخصيّة قيّمة لشعب إيران. لقد صبرَت وصمدَت عشرات السنين، إلى جانب إمامنا العزيز، الذي كان قبلة قلوب الشعب، في كلّ الامتحانات الصعبة، ورافقَت الإمام، وكانت سيّدةً وشخصيّةً بارزةً بذاتها. أعزّي شعب إيران بمناسبة رحيلها، وأعزّي ذويها، وأسأل الله أن يشملها برحمته وغفرانه. اللهمّ، احشر هذه السيّدة الجليلة مع أوليائك. اللهمّ، احشر إمامنا الكبير وأبناءه الأعزّاء وزوجته، مع أوليائك. اللهمّ، اجعلنا دومًا عارفين قدر إمامنا العزيز. ربّنا، اشمل جميع أبناء شعبنا، ولا سيّما شبابنا الأعزّاء، بهديك ولطفك وعونك. اللهمّ، أنزِل أمطار رحمتك على كلّ بلادنا، وعلى أراضينا العطشى، ومزارعنا، وشعبنا.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

84


69

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في مراسم تخرُّج جامعة الإمام الحسين عليه السلام

 

 

 

         

المناسبة:   تخريج دفعة جديدة من منتسبي جامعة الإمام الحسين عليه السلام

الحضور:  كبار القادة والضبّاط ووزير الدفاع وعدد من الأساتذة والمدراء والمدرِّبين

المكان:   طهران - جامعة الإمام الحسين للضبّاط

 

الزمان:    26/01/1388هـ.ش.

19/04/1430هـ.ق.

15/04/2009م.

         

 

86


70

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أبارك لكم، أيّها الشباب الأعزّاء، وأبناء هذا الشعب وقرّة عينه الأعزّاء، التحاقَكم بميدان حراسة قيم الثورة الإسلاميّة. جامعة الضبّاط هي مركزٌ علميّ وقطبٌ لفوران الجهاد، في آنٍ واحد، وهي كذلك موقعٌ لتربية رجالٍ أصحابِ عزم وإرادة فولاذيّة. حينما يجتمع العلم والجهاد والإيمان والإرادة المتينة، معًا، فإنّها تخرِّج أناسًا يمكن للعالم، ببركة وجودهم، أن يتفاءل بمستقبله.

 

العلم اليوم في خدمة الطغيان

المشكلة الرئيسيّة لدُنيا العلم الحديث والمعاصر، هو أنّ العلم فيه، جُعِل لخدمة الفساد والطغيان والاعتداء. العلم موهبة إلهيّة. وإنّ أكبر جحود لهذه الموهبة الكبيرة، هو أن يقوم جيلٌ أو شعبٌ أو جماعةٌ معيّنةٌ، بتوظيف هذا العِلم، في زمن من الأزمان، لخدمة الظلم، والطغيان، والاعتداء، وتدمير القيم الإنسانيّة. وهذا ما حدث في العالم، خلال القرنَين أو القرون الثلاثة الأخيرة، وخصوصًا في العقود القريبة.

 

نتائج تسخير العلم

1. قمع الشعوب واستعبادها

حصلَت بعض الشعوب علی العلم، وهذا طبيعيّ، والعلم يُتداوَل بين الشعوب علی مدی التاريخ. ذات يوم، كانت مناطق الشرق قطبَ العلم في العالم، وفي زمن آخر، كانت مناطق الغرب مركز العلم. حينما تمكّنَت هذه الشعوب من العلم، استخدمَته لمصالح (لخدمة) الاستعمار وقمع الشعوب. وقد قُمِعَت الكثير من البلدان، وكثير من الشعوب، في شرق العالم وغربه (في أفريقيا وآسيا)، وسُحِقَت واستُعمِرَت بواسطة "عِلْم" البلدان الغربيّة، وجری (من خلال العلم) أَسرُ الأجيال البشريّة واستعبادها.

 

 

88


71

خطاب الولي 2009

السود في أمريكا اليوم، هم أبناء أولئك المساكين الذين سِيقوا من بلدانهم الأفريقيّة عبيدًا، علی يد المستعمرين الغربيّين، اصطادوهم من بيوتهم وحياتهم ومزارعهم وبيئتهم، كما تُصطاد الحيوانات، وشرّدوهم، وأجبروهم علی الأعمال الشاقّة. وقد وقع هذا (الأمر) في جميع أنحاء العالم، في شبه القارّة الهنديّة، وفي آسيا القصوی أثناء العهود السوداء. أذَلّوا عباد الله وخلقه، وظلموهم، وأفسدوا حياتهم فتراتٍ طويلة، بواسطة العلم الذي اكتسبوه، و(هذا العلم) كان موهبة إلهيّة.

 

2. القنبلة النوويّة والأسلحة الفتّاكة

وبعد ذلك، صُنِعَت القنبلة الذرّيّة، عبر الصعود في سلّم العلم، وبفضل المعارف التي أحرزوها. وكلّ علم هو بمثابة درجة في سُلّم، حينما يصعد الإنسان علی درجة من الدرجات، ستتوفّر له الفرصة والإمكانيّة لصعود الدرجة والدرجات اللاحقة، وهذا طبيعيّ أيضًا. وأُنتِجَت الأسلحة الكيميائيّة، ودُمِّرَت الأجيال، وفُجِع الناس بأحبابهم، وصارت الدنيا ما تشاهدونه في الجغرافيا السياسيّة في العالم: تقسيم العالم إلی طيفَين: طيف جائر وآخر خاضع للجور، ظالم وخاضع للظلم، مع فوارق كبيرة جدًّا. هذا ما وصلَت إليه الجغرافيا السياسيّة في العالم، وكذلك الجغرافيا الثقافيّة، أثناء العصور المظلمة الأخيرة.

 

الثورةُ الإسلاميّة نهضة إنسانيّة كبرى

أعزّائي، كانت الثورة الإسلاميّة العظيمة لشعب إيران، ثورةً إنسانيّةً كبيرة، ضدّ هذا الواقع. كانت ثورتنا صرخة الإسلام، صرخة (نداء) التوحيد، صرخة العدالة، نداء كرامة الإنسان في هذا العالم الطافح بالظلم، الذي تتحوّل فيه النعم الإلهيّة والهدايا الإلهيّة للإنسان، إلی وسائل لقمع البشر. لقد قامت الثورة لمواجهة مثل هذا الواقع. وإنّ الذين يوصون الشعب الإيرانيّ ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، اليوم، بالعودة إلى النظام العالميّ، هم أنفسهم الذين أزعجهم وأقلقهم وجود مثل هذه الحركة العظيمة لدی هذا الشعب، وخصوصًا في مثل هذا الموقع الحسّاس. (فأن يُقال لنا): عودوا إلى النظام العالميّ وكونوا جزءًا منه، معناها: الاستسلام لهذا النظام اللاعادل. هذا ما يريدونه من شعب إيران.

 

 

89

 


72

خطاب الولي 2009

نداء الثورة: لا للنظام العالميّ!

منذ ثلاثين عامًا، والشعب الإيرانيّ يردّ علی هذا الطلب الجاهل المجنون وغير المنطقي، بكلمة "لا"، وبكلّ اقتدارٍ، وثقةٍ بالنفس، واعتقادٍ صادق عميق بجذوره الإيمانيّة. إنّ الضغوط التي فرضوها علی الشعب الإيرانيّ ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة، طوال الثلاثين سنة الماضية، هي من أجل الهبوط بهذه الثورة عن مكانتها الرفيعة، وأصولها المعنويّة والملكوتيّة والإنسانيّة. طبعًا، من البديهيّ أنّهم لم يستطيعوا ذلك، ولن يستطيعوا. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾[1]. حينما يشرق نور الله، نور التوحيد والعدالة والإحساس بشرف العبوديّة لله، في قلب شعبٍ وأمَّةٍ، فلن تستطيع أيّة يد إطفاءه.

 

الشباب حرّاس الثورة والقضيّة

أيّها الشباب الأعزّاء، أنتم حرّاس مثل هذه الحقيقة المقدّسة والهويّة السامقة، فافخروا بها! وقد انبثق حرس الثورة الإسلاميّة من صميم أطهر شباب هذا البلد، في الأيّام الأولی للثورة. أنتم، يا أعزّائي، لم تدركوا تلك الأيّام. أولئك الشباب كانوا في مثل أعماركم، شبابٌ في العشرين والثامنة عشرة والثانية والعشرين (من العمر)، قد أوجدوا حرس الثورة الإسلاميّة بعزيمة راسخة، وإرادة فولاذيّة، وإيمان شامخ فذّ، وحضروا في ميادين الجهاد منذ الأيّام الأولى.

 

شنّ الأعداءُ الحربَ المفروضة لإطفاء شعلة الثورة، لكنّ هذه الحرب نفسها، أدّت إلی تصاعد أواصر قوّة الثورة والروح الثوريّة. لقد استعاد هؤلاء الشباب الأعزّاء عظمتهم في سوح الحرب، وقد انبجسَت ينابيع مواهبهم الداخليّة في قلوبهم الطاهرة النيّرة، وخلقَت منهم، في فترة الشباب، قادةً كبارًا، ومجاهدين لا يعرفون التعب، ورجالًا أصحاب تدبير وتفكير، وإنَّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة مدينٌ لهم ولسلوكهم إلی الأبد.


 


[1] سورة الصفّ، الآية 8.

 

90


73

خطاب الولي 2009

وأنتم أتباع طريق أولئك الأعزّاء، وأبدال أولئك السائرين الأوائل. حين يُقال: "كلُّ يومٍ عاشوراءُ، وكلُّ أرضٍ كربلاءُ"[1]، فمعنی ذلك أنّ الزمن يمضي، لكنّ الأحداث الجارية في حياة البشر وحقائق الخلقة، تبقی كما هي. للبشر، في كلّ عصر، دَور، إذا مارسوه بشكلٍ صحيح، وفي اللحظة والزمن المناسبَين، فسوف يصلح كلّ شيء، وسوف تتقدَّم الأمم، وتنتشر (القيم) الإنسانيّة.

 

الإمام الخمينيّ فاتح القمم

هكذا فعل أولئك الشباب، ومارسوا دورهم، وكانت النتيجة أنّكم ترون الشعب الإيرانيّ اليوم، وبعد مضي عقود علی تلك الأيّام، وبما جنَتْهُ يداه، وبفضل الجهود التي كانت تتراكم وتتوالى، وبفضل توجيهات الإمام الخمينيّ، التي ماثلَت إرشادات الأنبياء وتوصياتهم بحقّ، ترونه يفتح القمم، الواحدة تلو الأخری، ويتقدّم إلی الأمام. تصوّروا أيّام الحرب، ولا سيّما السنين الأولی لها، وقلّة التجهيز العسكريّ، والسلاح، والشحّ الماليّ، والتجارب المتواضعة بين شباب الحرس والتعبئة، وقارِنوها بالتقدُّم الذي تحقّق اليوم، التقدُّم العلميّ والبحثي وتراكم التجارب.

 

إنّكم تتعلّمون في الجامعة، وتبنون أنفسكم، فكريًّا وعمليًّا، وكذلك باللحاظ المعنويّ والروحيّ والإراديّ، وتسيرون في طريق جدّ عظيم ومجيد. والجامعة هي هكذا مكان، فافخروا بانتمائكم لهذه الجامعة، وتخرُّجِكم منها. واحتسِبوا هذا الأمر نعمة كبری من الله -وهي كذلك فعلًا- وحافِظوا عليها، وتقدَّموا إلی الأمام.

 

بلادكم بحاجة إلى الشباب المؤمنين. وشبابنا اليوم -بلطف الله وفضله، وعلى الرّغم من مساعي الأعداء الدائمة التي تتركّز على الشباب غالبًا- قد يمّمُوا وجوههم إلى الله والهداية الإلهيّة. شبابنا هم -رغمًا عن أنف العدوّ- شبابٌ مؤمنون متديّنون. والشباب المؤمن اليوم، إن لم يكن متقدّمًا علی الشباب المؤمن في صدر الثورة -قبل ثلاثين عامًا- فإنّه ليس بمتخلّف عنه. ذلك النور المتقدِّم (الملتهب) وتجربة الحرب المفروضة، التي


 


[1] شعارٌ انبثق من حركة الإمام الحسين عليه السلام وواقعة كربلاء، يعكس ديمومة حالة الصراع بين الحقّ والباطل على مدى الزمان، وفي كلّ مكان. ويبدو أنّ كربلاء وعاشوراء هي أبرز حلقات هذه السلسلة الطويلة. وإنّ الحق والباطل في مواجهة مستمرة. وتقع على عاتق جميع الأحرار، مَهمَّةُ حراسة الحقّ ومجابهة الباطل.

 

 

91


74

خطاب الولي 2009

كانت فرصة لتفجُّر المواهب، لو وُضِعَت (انتصبَت) أمام أيّ جيل مميّز وموهوب، فسيصنع المعجزات.

 

التقدُّم العلميّ والمعنويّ ميدان مواجهة

إنّكم اليوم في ساحة مختلفة. إنّكم في ميدان التقدُّم العلميّ، والروحيّ، والمعنويّ، وبناء الذات والبلاد، والاستعداد للدفاع. غالبًا ما يعيش الأعداء -أي القوی الاستكباريّة الكبری في العالم، وهم أعداء الشعوب والإنسانيّة والفضيلة، وليسوا أعداء الشعب الإيرانيّ فقط- بالتهديدات، ويمرّرون مشاريعهم باستعراض القوّة، ويفرضون هيبتهم علی الشعوب، ويُقصونهم عن الساحة بهيبتهم. لا تخافوا هيبة القوی الكبری. وإنّ هيبتكم المعنويّة في قلوبهم، لَهِيَ أكبر من هيبتهم المادّيّة في قلوب الشعوب. حينما تعتمدون علی إيمانكم واستعدادكم، وعلمكم، وحُسن تدبيركم، وحساباتكم الدقيقة، وإدارتكم، وحين تقدِّرون القيم العظيمة المنبعثة من صميم الثورة، وتهتمّون بها، وتحافظون على إيمانكم بها، فسوف تتكوَّن لكم في قلوب جميع الشعوب (عظمة)، أبّهةٌ أكبر من أبّهتهم في قلوب الشعوب الغافلة. يعلم الأعداء اليوم، أنّ الشعب الإيرانيّ، بهذا الشباب المؤمن، وهؤلاء الرجال الأشدّاء، والمسؤولين والساسة الذين يفخرون بالتزامهم بالقيم وهذا الرأسمال القيِّم، لا يهاب أيّ تهديد، ولا أيّة هيبة. هم يعلمون هذا.

 

مؤسّسة الحرس الشريفة

كرِّسوا، بانتمائكم لمؤسّسة الحرس المهيبة الشريفة، هذه القناعة في قلوب الأعداء، أكثر فأكثر. ابنوا أنفسكم معنويًّا. وإنّ العبوديّة لله، والخشوع أمام الله، يوجِبان أن لا يخضع الإنسان لأيّ متعسِّف ومتغطرس. القلب الذي أدرك (وعی) المهابة والعزّة الإلهيّة، يشعر في قرارة نفسه، بعزّةٍ لا تستطيع مقاومتها حتّی أعتی القوی. ضاعِفوا من عبوديّتكم لله، يومًا بعد يوم.

 

اللهمّ، إنّي أستودعك هؤلاء الشباب الأعزّاء، ومنظومة جنود الإسلام، والقوّات المسلّحة في الجيش، والحرس، والشرطة، والتعبئة، وهذه المجاميع المؤمنة. اللهمّ، أنزِل ألطافك وبركاتك عليهم.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

92

 


75

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء حشد من المعلّمين والعمّال والممرّضين

 

 

المناسبة:   ذكرى ولادة السيّدة زينب عليها السلام ويوم الممرّض

الحضور:  الآلاف من الممرِّضين والمعلّمين والعمّال

المكان:   طهران

 

الزمان:    09/02/1388هـ.ش.

04/05/1430هـ.ق.

29/04/2009م.

 

94

         


76

خطاب الولي 2009

أوّلًا، أرحّب بكم، فردًا فردًا، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، فقد عقدتم يوم هذا الاجتماع الحميم والودّي وذي المعاني العميقة في هذه الحسينيّة، وأحيّي الروح الطاهرة للسيّدة زينب الكبرى عليها السلام، وهي محور إحدى المناسبات الثلاث اليوم، أي يوم الممرّض. وأدعو بعُلُوّ الدرجات، للشهيد الغالي المرحوم آية الله مطهّريّ، وهو أيضًا محور وعنوان واحدة أخرى من مناسبات اليوم.

 

التربية والتعليم: الجانب الأهمّ

أرى أنّ الشرائح الثلاث[1] المجتمِعة هنا -كلّما نظرتُ في الأمر- تشكِّل أهمَّ شرائح مجتمعنا. أحد الجوانب هو جانب التربية والتعليم. المعلّمون هم الأمناء على أبناء هذا الشعب طوال السنين المتمادية، وهم الذين بوسعهم أن يخطّوا السطور الحسنة أو السيّئة الأولى، على اللوح الأبيض المستعِدّ لأذهاننا وأذهان أطفالنا. ربّما لا يسعنا أن نجد دورًا أرقى من دور المعلّم -بالمصطلح الدارج في زماننا، أي معلّم المرحلة الابتدائيّة والمتوسّطة والثانويّة- بين كلّ المهن الموجودة في مجتمعنا.

 

إنّ منزلة المعلّمين الذين يزاولون التدريس في المراكز العلميّة العليا -في الحوزة والجامعة- منزلة سامقة جدًّا بالطبع، وصولًا إلى المعلّمين الأرقى، إلّا أنّ لمعلّمي التربية والتعليم أنفسهم دورًا استثنائيًّا فريدًا.

 

المعلّمون الشريحة الأساس

وإنّ الذي يوجد الشاكلة الأولى الأساسيّة لشخصيّاتنا، أنا وأنتم، ويوجده في الواقع، إلى جانب التربية العائليّة، هم هؤلاء المعلّمون، الذين يتعاملون مع أطفالنا وأبنائنا


 


[1] أي المعلّمين والمعلّمات، والممرّضين والممرّضات، والعاملين والعاملات.

 

 

96


77

خطاب الولي 2009

طوال اثنتَي عشرة سنة. كلّما فكّرنا في الأمر، نجد أنّ هذا الشيء له قيمة عالية جدًّا، وهو يستوجب أن يعرف مجتمعنا وشعبنا وحكومتنا ومسؤولونا، قدر المعلّم، ويعلموا أنّ المعلِّم، بهذا المعنى، قيمة عالية جدًّا. وعلى المعلميّن أنفسهم أيضًا، أن يعرفوا قدر هذا الدور بدقّة، ويعتبروه موهبة إلهيّة، وأن يعرفوا أهمّيّة هذا العمل العظيم، الذي يتمّ إنجازه على أيديهم، بإرادة الله وإذنه.

 

الممرّضات أفراد ملائكيّة

وشريحة الممرّضين أيضًا، شريحة مؤثّرة ومهمّة جدًّا من زاوية أخرى. دور الممرِّضين، وكذلك القوابل، مهمّ وعظيم جدًّا في نظام سلامة البلاد. إذا لم يكن هناك ممرّض مخلص وعطوف إلى جانب المريض، فمن المحتمل جدًّا (كثيرًا) أن لا يؤثّر علاج الطبيب في ذلك المريض. فالعنصر والشخص الملائكيّ، الذي يَعبُر بالمريض، في الواقع، من طريق المرض والشدّة الطويل العصيب، هو الممرّض. هذا ما شعر به، عيانًا، كلُّ واحدٍ منّا، ونشعر به نحن الذين تمرّضنا، وتعرَّضنا لأمراض شديدة، وعمليّات جراحيّة صعبة، وأنا واحد من هؤلاء. دور الممرِّضِ دورُ الشخص الذي يبعث الحياة في الإنسان. وكذلك القوابل، دورهنّ حيويّ ومصيريّ في سلامة الوليد والأمّ. وأوصي، هاهنا، الممرّضين -سواء الإخوة منهم، أو الأخوات- وكذلك القوابل المحترمات، أن يعرفوا قدر هذه الخدمة والنعمة الكبيرة، فكما يجب على الناس النظر إليهم بعين التكريم، يجب عليهم، هم أيضًا، النظر إلى مهنتهم بعين التكريم، وتكريم الذات هنا ومعرفة قدرها، له دور هائل في جودة العمل لدى الشرائح كافّة.

 

العمّالُ العنصرُ المحوريّ في النظام

دور العامل أيضًا، من الأدوار المعروفة في العالم اليوم، تقريبًا. مع أنّ حقوق العمّال تُغمَط في كثير من أنحاء العالم، غير أنّ العمّال هم، في الواقع، ذلك العنصر المحوريّ في نظام التشكيلات للأنشطة داخل المجتمع. العامل هو الذي ينهض بالأعمال، وينتج المصنوعات، ويسدّ احتياجات المجتمع الضروريّة بيديه، وعيونه، وعقله، ومهارته، وخبرته. كلّما دقّق الإنسان أكثر، تجلَّت له أهمّية هذه الشرائح الثلاث أكثر. إنّ لقضيّة

 

 

97

 


78

خطاب الولي 2009

العمل طرفان: الطرف الأوّل العامل، وفي الطرف الثاني مدراء العمل والمستثمرون، وكلّهم أصحاب دور وتأثير في العمل.

 

أعتقد أنّها مسألةٌ مهمّةٌ أن تعرف هذه الشرائح الثلاث قدر نفسها وكرامتها. إذا تبيّن للإنسان أهمّية العمل الذي يقوم به، فلن يتهاون فيه، ولن ينتابه الخمول والقنوط. حينما نفهم مدى أهمّيّة العمل الذي نقوم به، لحياة المجتمع والبلاد، فسيخلق هذا في داخلنا طاقةً تتغلّب على كلّ العقبات الخارجيّة.

 

الوصيّة: معرفة قدر المهنة

لذا، فإنّ توصيتنا الأولى للجميع، هي أن يعرفوا قدر المهنة الملقاة على عاتقهم، بكلّ محبّة ورغبة (واندفاع) -مهما كان السبب الاجتماعيّ أو الفرديّ لتوجّههم نحو تلك المهنة- وأن يقدِّروها، ويهتمّوا بها، وينجزوا أعمالهم بصورة صحيحة. كثيرًا ما ذكرنا قول الرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم: "رَحِمَ اللهُ امْرًَا عَمِلَ عَمَلًا، فَأَتْقَنَهُ"[1]، وهذا ما يصدق عَلَيَّ، وعليكم، وعلى كلّ واحد من العمّال، والمعلّمين، والممرّضين، وسائر المشاغل، والمهن، والمسؤوليّات. علينا إنجاز العمل الذي نتولّاه بإتقان، وبشكلٍ كامل.

 

ثقافة تشجيع الإنتاج الداخليّ

بخصوص مسألة العمل، فإنّ ما أكّدتُ، وأؤكّد عليه اليوم أيضًا، هو أن ننسِّق وننظّم ونتقدّم بثقافة بلدنا، نحو تشجيع الإنتاج الداخليّ. هذا شيء على جانب كبير من الأهمّيّة. في الماضي، حُقِن شعبُنا، لأعوام طويلة، بثقافة الركض وراء المنتجات والصناعات الأجنبيّة. حينما يُقال: إنّ هذه البضاعة أجنبيّة، فسيكون هذا دليلًا تامًّا وكاملًا على تفوّقها في الجودة، ومرغوبيّتها. ينبغي تغيير هذه الثقافة. طبعًا، إنّ جودة البضاعة الداخليّة مؤثّرةٌ في هذا التغيير، وعدم الدعاية الاعتباطيّة المنفلتة للمنتجات الأجنبيّة مؤثّر أيضًا، وتشجيع المنتج الداخليّ مؤثّر أيضًا، والإخلاص[2] لدى المُنْتِج في العمل -سواء كان عاملًا بسيطًا، أو عاملًا صاحب خبرة، أو مهندس العمل- مؤثّر أيضًا. وكذلك،


 


[1] الحسكانيّ، عبيد الله بن عبد الله‏، شواهد التنزيل لقواعد التفضيل‏، تحقيق وتصحيح محمّد باقر محمودي، مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ‏‏، إيران - طهران، 1411ه‏، ط1، ج1، ص5.

[2] أي مصداقيّة المنتج.

 

 

98


79

خطاب الولي 2009

فإنّ للحكومة دورها في هذا، وللمسؤولين دورهم، وللعامل نفسه دوره، وللمنتِج وربّ العمل دوره، وللتاجر الذي يستورد البضائع الأجنبيّة دوره. على الجميع أن يتكاتفوا، لترجَحَ كفّة الإنتاج الداخليّ، وتزدادَ قيمته، وتسُودَ في مجتمعنا وأذهاننا، ثقافةُ أهمّيّة استهلاك الإنتاج الداخليّ وقيمته. إنّنا عبر استهلاكنا لإنتاج العامل الأجنبيّ، نحضّه على العمل، ونجعل العامل في الداخل عاطلًا (ندفعه إلى البطالة). على جميع المسؤولين في البلاد، والذين يرسمون السياسات، والمسؤولين الإعلاميّين، والمنتِجين أنفسهم، وأرباب العمل، والعمّال أنفسهم، والحكومة، والقطاعات ذات الصلة، الاهتمام بهذه النقطة. فالكثير من المنتجات والصناعات الداخليّة اليوم، هي -لحُسن الحظّ- أفضل، وأحيانًا أفضل بكثير من مماثلاتها الخارجيّة. لِمَ يجب أن لا نكترث لصناعاتنا الداخليّة؟

 

مضى ذلك اليوم الذي كان فيه عملاء أجهزة السلطة يبثّون الدعايات المسمومة، ويلقّنون أنفسهم أنّ الإيرانيّ غير قادر على الإنتاج والبناء، فهؤلاء هم الذين جعلوا إيران تتخلّف. لقد وجّهوا ضربة إلى روح الإبداع، والرغبة في العمل داخل البلاد، وجاءت الثورة، فغيّرَت الوضع. شبابنا اليوم، ينجزون أكثر الأعمال تعقيدًا، وإنّ كلّ هذه البنى التحتيّة التي أُنشِئَت في البلاد من أجل المشاريع الكبرى، وكلّ هذه الأعمال التقنيّة المعقّدة، يتمّ إنجازها بذهنيّة الشباب الإيرانيّ، وإبداعه. يتابع المسؤولون هذا الأمر. على الجميع اليوم، أن يتوجّهوا صوب الصناعات والمنتجات الداخليّة. وينبغي أن تصبح هذه ثقافة. طبعًا، إنّ جزءًا ملحوظًا من هذا، يتعلّق بالأمن المهنيّ للعمّال، وهذا أيضًا، ما يجب أن يلتفت إليه الجميع. يجب أن يكون العمّال في راحة بال، ومطمئّنين، وشاعرين بالأمن المهنيّ. ولا بدّ أن يتعاضدّ ربّ العمل والعامل، والمستثمر والعامل، ومدير الورشة والعامل، بأخوّة، ويتقدّموا بعجلة العمل إلى الأمام. هذا ما يتعلّق بمسألة العمل.

 

مشروع التحوّل في التربية والتعليم

وفي مجال التربية والتعليم، فإنّ ما أؤكد وأصرّ عليه، بالدرجة الأولى، هو مشروع التحوّل في نظام التربية والتعليم[1]، وهي القضيّة التي أشار إليها الوزير المحترم،


 


[1] وثيقة التحوُّل في التربية والتعليم.

 

 

99


80

خطاب الولي 2009

وشدّدنا عليها في الماضي مرارًا. نظامنا التربويّ والتعليميّ نظام تقليديّ قديم، فيه صفتان سيّئتان:

أوّلًا، منذ اليوم الأوّل، الذي أطلقوا فيه نظام التربية والتعليم في بلادنا، أثناء العهد البهلويّ الأسود، وقبل ذلك بفترة قصيرة، لم يأخذوا في الحسبان، احتياجاتِ البلاد وتراثَه. لا بدّ لركيزة التراث الوطنيّ أن تبقى، وكذلك ينبغي الاستفادة من تجارب الآخرين إلى أقصى حدّ، لا أن نأتي ونقتبس لبلادنا، النموذج المعتمَد في البلد الغربيّ الفلانيّ بذاته، مع ما يقتضيه، مع كلّ الأخطاء التي قد تكون فيه. لقد فعلوا هذا -مع الأسف- وكان تقليدًا محضًا. هذا أوّلًا.

 

وثانيًا، إنّ ذلك النظام نفسه، أصبح اليوم باليًا، وإنّ الذين كانوا، ذات يوم، مراجعَ تقليد[1] مسؤولي بلادنا، التابعين للأجنبيّ، قد تجاوزوا اليوم تلك الأساليب، وأطلقوا أساليب أحدث، وبقينا نحن ملتصقين بتلك الأساليب القديمة. لا بدّ من تحوُّل.

 

اليوم -لحُسن الحظّ- الفرصة متاحة لهذا الإنجاز. يعيش البلد ظروف الاستقرار والأمن والهدوء، وقد تمّ إنجاز العديد من المهامّ. استطاع الشعب الإيرانيّ في هذا العالم الصاخب والمضطرب، أن يحافظ على اتّزانه ووقاره وسكينته وهدوئه. تتوفّر الفرصة، اليوم، للخوض في هذه الأمور المهمّة. وإنّه لَأَمرٌ حسنٌ جدًّا، ما أخبَر به الوزير المحترم، بأنّهم فكّروا وعملوا في هذا الموضوع، وهو شيء جدير بالتقدير، ولكن ينبغي نقله إلى حيّز التنفيذ والإجراء، والتقدُّم به إلى الأمام، والبدء به عمليًّا. إنّها مَهمّةٌ تقتضي الشجاعة، والمبادرة، والإبداع، والأفكار الصالحة. كانت هذه إحدى المسائل، وهي التحوُّل النوعيّ في نظام التربية والتعليم.

 

التوسّع النوعيّ في التربية والتعليم

النقطة الأخرى -وهي مهمّة بدورها- عبارة عن العناية بنظام التربية في منظومة التربية والتعليم في البلاد. فبعضهم، وبسبب عدم الاهتمام بالنظام التربويّ، استُبعِدوا عن منظومة التربية والتعليم، ذلك البناء الذي شُيّد أساسُه مع بداية الثورة، وبدّدوه


 


[1] المقصود: المهندسون والخبراء والسياسيّون الأجانب.

 

 

100


81

خطاب الولي 2009

تدريجيًّا، ويمكن أن يُقال: إنّهم ألغوه. أمّا أنتم اليوم، فتؤمنون بهذا الشيء، فانقلوه إلى حيّز التنفيذ والعمل. إذا لم تكن التربية أهمّ من التعليم، فهي ليست أقلّ أهمّيّة منه. وإنّ اللوح الأبيض المستعدّ - الذي هو ذهنيّات أطفالنا وطلابنا - لا يصلح (يستقيم) بمجرّد "الخطخطة" عليه وكتابة الأعداد والأرقام، إنّما يحتاج إلى بناء، وهذا البناء يتمثّل بالتربية. يجب الاهتمام بقضايا التربية ومسارها، بكلّ الأشكال التي يمكن بواسطتها أن تنهض بذلك وتساعد عليه. ولسنا الآن بصدد الحديث عن هذه الأشكال، في الكتب المدرسيّة، وفي اختيار المعلميّن، وفي تربية المعلّمين، وفي عمليّة التخطيط والتنظيم نفسها. كلّما استطاعت التربية والتعليم اجتناب التوسُّع الكمّيّ -سواء كان في المؤسّسات أم الموارد البشريّة- كان هذا أفضل، فالاتّساع الكمّيّ في التربية والتعليم، ليس اليوم على رأس الأولويّات، إنّما التوسُّع النوعيّ هو المهمّ. يجب تلبية الاحتياجات، ويجب ذلك المقدار من تأمين الحاجة للمعلّمين والمدارس. لتكن الأولويّة الأولى التوسُّع النوعيّ، ورفع مستوى المعلّمين، من حيث الاستعداد والتجربة والعلوم والثقافة، هذه هي الأمور المهمّة في التربية والتعليم.

 

أتمنّى أن يوفّقكم الله -تعالى-، وأنتم -والحمد لله- تعملون وتجهدون. وينبغي معرفة قدر هذه الجهود. وإنّ التقدُّم الذي أشار إليه الوزراء المحترمون في قطاع الصحّة، وقطاع العمل، وقطاع التربية والتعليم، هو من مفاخر النظام. النظام هو الذي يُظهر لنفسه هذه القدرات. لا أدري لمَ ينكر بعضهم هذه الحقائق، ليسوا على استعداد لتصديق هذا التقدُّم. كلّما ازدادَت هذه الحقائق، تضاعفَت مفاخر الشعب الإيرانيّ، ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة.

 

الانتخابات قبل الثورة وبعدها

أذكر هنا، نقطةً خارج نطاق المسائل المهنيّة، تتعلّق بالشعب الإيرانيّ كلّه، وبهذا المقطع الزمنيّ، ألا وهي مسألة الانتخابات. أعزّائي، كان شعبنا، طوال تاريخه الممتدّ عدّة قرون من الزمن، عنصرًا عديم التأثير في نظام إدارة البلاد. لماذا؟ لأنّ هذه هي طبيعة الحكم الاستبداديّ والحكم الملكيّ. لم يكن الشعب ذا دور يُذكر. أمّا كيف

 

101

 


82

خطاب الولي 2009

سيكون واقع الشعب، والحال هذه؟ فهذا يرجع إلى إنصاف الشخص الذي يتولّى زمام الأمور. إذا كان الشعب محظوظًا، ليأتي إلى الحكم دكتاتور في قلبه شيء من الرحمة -يذكرون في تاريخنا، مثلًا، كريم خان زند[1]- فعندها، سيكون حال الناس أفضل بعض الشيء. أمّا إذا تولى الحكم أمثال رضا خان[2] أو ناصر الدين شاه[3] أو غيرهما من السلاطين المستبدّين، فإنّهم سيعتبرون البلاد ملكهم، والشعب الذي لم يكن له أيّ دور، سيعتبرونه رعيّتهم. لاحظوا التاريخ -لا أقصد تاريخ القرون الطويلة، بل تاريخ عصر الثورة الدستوريّة، فصاعدًا- وستجدون أنّ الدستور ظهر في بلادنا بالاسم فقط، ولكن منذ أن تولّی النظام البهلويّ زمام السلطة، أصبحت الانتخابات عمليّة استعراضيّة محضة، باستثناء فترة قصيرة جدًّا أثناء النهضة الوطنيّة، على مدى عامَين، حيث تحسّنَت الحال قليلًا. لكنّ ذلك العهد أيضًا، صاحبته مشكلات عديدة، فأغلقوا المجلس ومنحوا صلاحيّاته للحكومة، وهذا ما حدث في عهد "مصدّق". وفي بقيّة تلك المرحلة، كانت الانتخابات محض مسرحيّة. في تلك الفترة -التي أتذكّرها ومَن هم في سنّي- كان الجميع يعلم أنّ الانتخابات لم تكن تعني، على الإطلاق، انتخاباتٍ شعبيّة، بل كان هناك مجموعة من الأفراد، يشخّصهم جهاز السلطة والبلاط الملكيّ، يومذاك، وتدور المنافسات والصراعات بينهم. لكنّ الذي يريدونه عضوًا في المجلس، يجب أن يكون مطيعًا خاضعًا، ويضمن مصالحهم وحقوقهم الماليّة المغصوبة. مثل هذا الشخص يأتون به ليشغل مقعدًا في المجلس، أمّا الناس، فليذهبوا لحالهم! طوال هذه المدّة كلّها، نادرًا ما شعر الناس أنّ عليهم التوجُّه إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، من أجل التأثير في إدارة البلاد. لم يكن مثل هذا الشيء على الإطلاق. كنّا


 


[1]  مؤسِّس الدولة الزنديّة في فارس. كان كريم خان أحد قادة نادر شاه، وبعد وفاة نادر شاه عام 1747م، سقطَت بلاد فارس في حرب أهليّة، فاتّخذ كريم خان من شيراز عاصمةً لدولته أثناء فترة حكمه، من 1750 إلى 1779م، واستطاع أن يمدّ نفوذ حكمه إلى كثير من مناطقِ ما يُعرَف اليوم بإيران، واحتلال بصرة صلحا بعد حصار طويل. ويرجع كريم زند إلى قبيلة زند الكرديّة في لورستان.

[2] رضا بهلويّ: شاه ايران، مؤسِّس الدولة البهلويّة، حَكَم بين عامَي 1925 و1941م، خَلَفَه ابنه محمّد رضا، الذي أطاحَت الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة بحكمه.

[3] ناصر الدين القاجاريّ (16 يوليو 1831 - 1 مايو 1896): كان ملك إيران من الأسرة القاجاريّة، امتدَّت فترة حكمه لِما يقارب الخمسين عامًا، من 17 سبتمبر 1848 حتّى اغتياله في 1 مايو 1896.

 

102


83

خطاب الولي 2009

نسمع اسم الانتخابات في الصحف، حيث يقولون: الآن موسم الانتخابات. ولا ندري متى يوم الانتخابات، ولا يدري الناس بذلك. وفي موعد الانتخابات، يضعون عدّة صناديق في مكان ما، ويثيرون ضجيجًا وحوارات قليلة، ويفعلون ما يريدونه في نهاية المطاف، وينتهي الأمر. لم يكن للجماهير دور حقيقيّ.

 

الثورة قلبَت الصفحة: انتخابات ودستور جديد

قلبَت الثورة الإسلاميّة الصفحة تمامًا، وصار للجماهير دورهم، ليس في انتخابات نوّاب المجلس وحسب، بل في انتخاب رئيس الجمهوريّة، وانتخاب الخبراء الذين من المفترض أن يختاروا القائد، وفي انتخاب المجالس البلديّة، التي تضطلع في اختيار رؤساء البلديات. في هذه الأطوار الحسّاسة كلّها، أضحَت أصوات الجماهير حاسمة. على هذا الأساس، دُوِّن الدستور، وقد مضَت عليه ثلاثون سنة. وأقول لكم: إنّ هذا السياق مستمرٌّ إلى اليوم، بكلّ قوّة واقتدار.

 

الانتخابات والأعداء وبعض الأصدقاء

في فترة ما قبل الثورة، كانت إيران مرتعًا للأجانب. وكان النفط الإيرانيّ، والأسواق الإيرانيّة، والمنتوجات الإيرانيّة، والطاقات البشريّة الإيرانيّة، وكلّ ما كان وما لم يكن، تحت تصرُّف المهيمنين والأقوياء، الإنجليز ذات يوم، والأمريكيّين والصهاينة في يوم آخر. وبعد ذلك، عندما انتصرت الثورة، تولّى الشعب زمام الأمور، فانقطعَت مصالح الأجانب، وكان من الطبيعيّ أن يناصبوا هذا النظام العداء، وهم يناصبونه العداء منذ ثلاثين عامًا. ومن ممارساتهم العدائيّة، أن يُنكِروا هذه الظاهرة القيّمة، أو يتجاهلوها في إعلامهم، ظاهرة مشاركة الشعب ودوره وتأثيره في إدارة البلد. لطالما شكّكوا في انتخابات بلادنا في مواقفهم وكلماتهم، تصريحًا أو تلميحًا. كلّا، إنّ انتخابات بلادنا أكثر حرّيّة وحماسًا من غالبيّة هذه البلدان التي تدّعي الديمقراطيّة، كما أنّ اندفاع الجماهير للمشاركة فيها أكبر. إنّها انتخابات ملحميّة وجيّدة ونزيهة. يبثّ الأعداء الشبهات، ونحن لا نتوقّع من الأعداء سوى العداء. ما الذي نتوقّعه منهم؟ إنّما لا نتوقّع مثل هذا الشيء من الأصدقاء، ومَن هم جزء من هذا الشعب، ويشاهدون الحقائق،

 

 

103


84

خطاب الولي 2009

ويرون كيف تُقام هذه الانتخابات بنزاهة ودقّة، لكنّهم مع ذلك، يتحدّثون بما يتحدّث به العدوّ نفسِه! توقُّعي هو أنّ الذين هم مع الشعب الإيرانيّ، وجزء من الشعب الإيرانيّ، ويتوقّعون أن يلتفت إليهم الشعب، أنتظر منهم أن لا يصرّحوا ضدّ شعب إيران، ولا يشكّكوا في انتخابات الشعب الإيرانيّ، لا يكرّروا دومًا: إنّ هذه الانتخابات ليست نزيهة، وإنّها ليست انتخابات. لماذا يكذبون؟ لماذا لا ينصفون؟ لماذا يتحدّثون خلاف الواقع؟ لِمَ يتجاهلون كلّ هذه الجهود التي تحمّلها الشعب والمسؤولون طوال هذه الأعوام؟ لماذا؟ لماذا ينكرون الفضل؟

 

كانت الانتخابات نزيهة في الدورات السابقة. وفي الحالات التي تُطرَح بعض الشبهات، بعثنا مَن حقَّق وتابع الموضوع. في إحدى دورات المجلس، انتشرَت إشاعات، وقَدَّم بعضُهم أدلّةً، وطرَحَ كلامًا معيّنًا يفيد أنّ الانتخابات لم تكن سليمة، وكان توقُّعه إلغاء الانتخابات في بعض المدن المهمّة، مثل طهران. وبعثنا أشخاصًا ذوي خبرة واطّلاع، وحقَّقوا، ودرسوا القضيّة، ووجدوا أنّ الأمر ليس كذلك، وأنّ الانتخابات كانت سليمة. من بين آلاف الصناديق، قد ترد إشكالات على صندوقَين أو خمسة صناديق. هذا لا يهدم الانتخابات. ثمّ إنّ هذا خاصٌّ ببعض الأحيان. أحيانًا، يكون هناك تيّار أو مجموعة من التيّارات العاديّة في البلاد، والتي تعرفونها، تتولّى السلطة، وتنتهي الانتخابات لغير صالحهم، بل لصالح التيّار المنافس، وقد حدث هذا مرارًا. كيف يمكن لأحد التشكيك في هذه الانتخابات؟ حسنًا، إذا كنتم مستعدِّين، شارِكوا كلّكم، إذًا، في الانتخابات، إن شاء الله، وسيحضر الشعب الإيرانيّ كلّه عند صناديق الاقتراع، على الرغم من أنف العدوّ، ليشارك في الانتخابات بكلّ حماس ورغبة واندفاع، وسيخلق انتخابات تُغضب الأعداء.

 

اللهمّ، أنزِل رحمتك وفضلك على هذا الشعب العزيز. ربّنا، أَفِض توفيقَك على هذا الشعب، أكثر فأكثر. اللهمّ، ثَبِّت أقدام هذا الشعب وخطواته، يومًا بعد يوم، في طريق الكمال. اِرفَع دومًا من درجات الروح المطهّرة لإمامنا الجليل، وأرواح شهدائنا الأبرار.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

104


85

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء حشد من أهالي محافظة كردستان

 

 

 

 

         

المناسبة:   زيارة محافظة كردستان

الحضور:  حشود أهالي محافظة كردستان

المكان:   مدينة سنندج مركز محافظة كردستان- ساحة آزادي

 

الزمان:    22/02/1388هـ.ش.

17/05/1430هـ.ق.

12/05/2009م.

         

106


86

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، ولا سيّما بقيّة الله في الأرضين.

 

كردستان أرض التضحية والوفاء

أنا مسرور جدًّا، وأشكر الله -تعالى- على عنايته وتوفيقه، لحضوري مرّة أخرى -وإن كانت الفاصلة الزمنيّة بعيدة- في هذه المحافظة الشامخة، وبينكم، أيّها الأهالي الأعزّاء الأوفياء. كردستان أرض التضحيات الكبرى، أرض الفنّ والثقافة، أرض الإخلاص والوفاء، أرض الناس الأوفياء، الذين أحبَطوا، برجولتهم وشجاعتهم، مؤامرات كبرى، في أكثر سنوات هذا النظام وهذا البلد حساسيّةً. إنّها أرضُ الناس الشجعان ذوي الوعي والنضج العقليّ، الذين شخّصوا مؤامرة العدُوّ في اللحظات الحسّاسة، وأخمدوا، بتضحياتهم، فتنةً كبرى، قبل أن تستطيع بلوغ أهدافها المشؤومة. هذا شيء لن ينساه الشعب الإيرانيّ. تحمل كردستان في تاريخ الثورة الإسلاميّة، وسامَ فخرٍ، قلّما يُشاهَد نظيرٌ له في المحافظات الأخرى.

 

أعزّائي، إخوتي وأخواتي، (مع بزوغ) فجر انتصار الثورة الإسلاميّة، أراد بعضهم إشعال حرب داخليّة، وإثارة الاقتتال بين الإخوة في البلاد. لقد خاف الظالمون العالميّون، واضطربوا من ظهور قوّة مستقلّة تعتمد على الدين والإيمان الدينيّ في هذه المنطقة، لذلك، جلبوا كلّ قواهم وقدراتهم "الخشنة" و"الناعمة"، لعلّهم يتمكّنون من القضاء على هذا الوليد الخارج إلى الوجود توًّا، وهو في المراحل الأولى من حياته. وقد خرج الأهالي الكرد في هذه المحافظة، من الامتحان، ومن هذه المواجهة الكبرى، مرفوعي الرأس. لقد شهدتُ كردستان عن قرب، وشاهدت بأمّ عيني، عظمةَ صمود هؤلاء الأهالي في أيّام المحنة والشدّة. وإنّ الكثير ممّا أقوله عن كردستان، مصدرُه معلوماتي

 

108

 


87

خطاب الولي 2009

ومعرفتي الشخصيّة التي أحرزتها بمشاهداتي القريبة. طبعًا، ذاعَت سمعة مقاومة الأهالي في محافظتكم في العهود المختلفة، بين أبناء الشعب الإيرانيّ كلّه، سواء (كانت) في مطلع الثورة، أم في مرحلة الحرب المفروضة.

 

السياسة الخبيثة في التفريق بين القوميّات

أعزّائي، ثمّة سياسة خبيثة حاولَت، منذ بداية الثورة، بذرائع مختلفة، أن تفصل القوميّات الإيرانيّة بعضها عن بعضٍ، و(أن) تمزّق الجسد العظيم للشعب الإيرانيّ. كانوا يلقّنون كلّ جماعة من القوميّات الإيرانيّة المتنوّعة -الفرس، والترك، والكرد، والعرب، والبلوش، والتركمان[1]، واللُّور- على حِدَة، تلقينات شيطانيّة، كي ينفّروا القلوب، ويفسدوها غلًّا (بعضها ضدّ بعض). يقولون للطهرانيّ والإصفهانيّ شيئًا، ويقولون للبلوشيّ -وقد قضيتُ مع البلوش مدّة من الزمن قبل الثورة- شيئًا، ويتحدّثون في كردستان بأشياء أخرى. كان لا بدّ من درجة عالية من الوعي، كي يستطيع الشعب الإيرانيّ النهوض لأداء رسالته الكبرى، التي أُلقِيَت على عاتقه، ببركة رفعه راية الإسلام. خاض الشعب الإيرانيّ جهادًا طويلًا في مختلف أرجاء هذا البلد الكبير، وقد أدّيتم، أنتم أهالي كردستان، نصيبَكم من هذا الجهاد العامّ الكبير، على أحسن وجه. هذه من الأمور التي ستبقى في ذاكرة التاريخ الإيرانيّ.

 

كردستان محافظة ثقافيّة

محافظة كردستان محافظة ثقافيّة. انظروا إلى الطبيعة الخلّابة الخضراء في هذه المحافظة، وإلى الروح العطوفة المخلصة لأهالي هذه المحافظة، وإلى تاريخها الحافل بالعلماء والشعراء والمثقّفين والفنّانين، وهم كثرٌ في تاريخها القريب. هذه الحقائق كلّها تنمُّ عن أنّ هذه المحافظة محافظة ثقافيّة.

 

حاول معارِضو إيران وأعداء الإسلام، في بداية الثورة، أن يجعلوا هذه المحافظة محافظة أمنيّة. لم تكن معالجة هذه المشكلة الكبرى بالأمر اليسير، بَيْدَ أنّ النظام


 


[1] التركمان: قبيلة تركيّة أخضعها التتر، عُرِفَت منذ القرن 12 باسم تركمان. يقطن التركمان في تركستان الغربيّة وإيران وما وراء القفقاس. (المنجد في الأعلام)

 

109


88

خطاب الولي 2009

الإسلاميّ المقتدر -وبتعاونكم أيّها الأهالي- تغلّب على هذه المشكلة. لقد سعوا لفصل أجزاء الشعب الإيرانيّ، بعضها عن بعض، والتفريق بين الأهالي الكرد والفرس والترك، لكنّهم لم ينجحوا. ﴿وَمَا يَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ﴾[1]، عاد مكرهم وكيدهم إلى نحورهم. اعلموا، أيّها الإخوة والأخوات الكرد، أنّ كلّ من جاء في تلك السنوات الأولى إلى هنا -مِن أولئك الشباب الذين جاؤوا من أقصى أنحاء البلد، للجهاد في هذه المنطقة- وبقي لفترة من الزمن، بقي قلبُه متعلِّقًا بأهالي محافظة كردستان، فالشبّان المتحمِّسون المتوثّبون الذين حضروا من خراسان، وإصفهان، وفارس، وطهران، وباقي محافظات البلاد، ومكثوا مدّة قصيرة في سنندج، وسقز، ومَرِيوان، وسائر مدن هذه المحافظة، حَمَلوا، عندما عادوا، رسالةَ المحبّة، فقد طفحت قلوبهم بمحبّة الأهالي الكرد. حين نقول: إنّ هذه محافظة ثقافيّة، فذلك لانعكاس السلوك العطوف للأهالي الكرد. وعكس القضيّة صادق أيضًا، إذ لا تزال ذكرى الشباب المتحمّس، الذي جاء من الأنحاء الأخرى وضحّى هنا، حاضرةً متفاعلةً في القلوب والأذهان. أنا أعرف أنّ ذكريات الشهيد كاوه، والشهيد صيّاد، ومتوسِّليان، وناصر كاظميّ، وأحمد كاظميّ، والشهيد بروجرديّ، والشبَّان الذين قضوا عمرهم هنا، وقدّموا أرواحهم، حيّةً حاضرةً في قلوب أهالي المحافظة. نشكر الله على أنّ العدُوّ لم يستطع بلوغ مقاصده.

 

إهمال كردستان في العهد البائد

وأقول لكم: إنّ العدُوّ، طبعًا، لا يقرُّ له قرار أبدًا. فقد سادت البلاد سياسة خبيثة منذ عهد الطاغوت[2]، وهي اعتبار أبناء القوميّات المتنوّعة أجانبَ، الكرد كانوا (بنظرهم) أجانب، والبلوش أجانب، والترك أجانب، والعرب والتركمان أجانب. كانوا يعتبرون هؤلاء أجانب، وكان هذا المعنى مشهودًا في أدائهم. لاحِظوا أنّه لم يَجرِ في هذه المحافظة، أثناء عهد الطاغوت، عملٌ عمرانيّ يُذكَر، ولا عمل ثقافيّ مهمّ. لم يكونوا يهتمّون بهذه المحافظة ويعملون لها. كانت الأعمال العمرانيّة فيها، أثناء عهد الطاغوت، بحدود


 


[1] سورة الأنعام، الآية 123.

[2] يطلق الشعب الإيرانيّ على العهد البائد (حكم الشاه) تسمية "عهد الطاغوت".

 

 

110


89

خطاب الولي 2009

الصفر، وكذلك المشاريع الثقافيّة. إن كنتم تلاحظون، فإنّ في محافظة كردستان اليوم، قرابة خمسين ألف طالب جامعيّ، يدرسون في أكثر من عشرين مركزًا للتعليم العالي. وقد كان هذا الرقم، في عصر الطاغوت، 360 طالبًا فقط! وكانت نسبة الأمّيّة في هذه المحافظة، أثناء عهد الطاغوت، مخيفة هي الأخرى. كان 29 في المئة فقط من أهالي المحافظة متعلّمين! لم يكن الطاغوت يريد للأهالي الكرد أن يتعلّموا، وهم على ما هم عليه من الموهبة والذكاء والقدرة. كان 29 في المئة منهم فقط، يقرؤون ويكتبون! هذا فيما يتّصل بأدائهم العمرانيّ وأدائهم الثقافيّ.

 

نظرتهم إلى هذه المحافظة، كانت نظرة خداع وشيطنة خاطئة. جاء النظام الإسلاميّ، وصحَّح هذه النظرة، لا على مستوى المسؤولين وحسب، بل على مستوى أبناء الشعب كلّه.

 

الاتّحاد الإسلاميّ بين القوميّات

أعزّائي، ليعلم الجميع أنّ النظام الإسلاميّ يرى التنوّع القوميّ في بلادنا الكبيرة الشامخة، فرصةً سانحة، فالتقاليد المختلفة والأعراف والعادات والمواهب المتنوّعة، هي فرصة تتيح لمكوّنات الشعب تكميل بعضها بعضًا، عبر المعاملة الحسنة والصحيحة، والتعايش والاتّحاد التامّ. إنّه لفخر لشعبنا أن ينظر إلى تنوّعه القوميّ من هذه الزاوية. والسبب هو أنّ الإسلام مصدر إلهام هذا النظام، ولا فرق في النظرة الإسلاميّة، بين الأعراق واللغات المختلفة، حتّى لو كانوا من أممٍ وشعوبٍ شتّى، ناهيك عن القوميّات المتنوّعة داخل الشعب الواحد. هذه هي نظرة الإسلام، وهي أيضًا نظرة النظام الإسلاميّ. لذا، نحن ننظر إلى المنطقة الكرديّة -محافظة كردستان- ومناطق القوميّات الأخرى، نظرةً إسلاميّةً، مضمونها الأخوّة والاتّحاد والتعاطف والرحمة. وكلّ من يعارض هذه النظرة، ويختار أسلوبًا آخر، يكون قد سلك مسلكًا معارِضًا لسياسة النظام الإسلاميّ.

 

أهالي كردستان في الخطوط الأماميّة

أدرك الجميع -حقيقةً- أنّ النظام الإسلاميّ يعتبر أهالي هذه المحافظة أهله، وهم الأوفياء للثورة وجنودها. لذلك، حينما تحدّثَ بعض عملاء الأجنبيّ، هنا وفي أماكن أخرى، باسم الأهالي الكرد، وأطلق بعض الكلام، الذي لم يكن الأهالي الكرد على أيّة

 

111


90

خطاب الولي 2009

صلة به، ويوم هَمَّت أصابع الأعداء الشيطانيّة بافتعال الفتنة، وخطّطَت لاقتتال الإخوة في هذه المحافظة والمحافظات المجاورة، تقدَّم أهالي المحافظة أنفسُهم إلى الخطوط الأماميّة، فكانت هناك جماعة مجيدة ورشيدة من البيشمركة الأكراد الإسلاميّين. لن تُمحى (هذه الصورة) من ذاكرة الذين شهدوا ذلك الجهاد أبدًا. نحيّي أرواحهم، حيث استشهد من أبناء هذه المحافظة 5400 شهيد، ونحيّي مَن بقي منهم، ونحيّي عوائلهم. نسأل الله -تعالى- لهم جميعًا الرحمة والمغفرة.

 

الخسائر التي ألحقها الأعداء بكردستان

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أيّها الشباب، أقول لكم: أنتم، أيّها الشباب، يجب أن تطّلعوا على تاريخ هذه المنطقة والمناطق الأخرى، الزاخر بالعِبر. هذه أمور لم يشهدها جيل الشباب، ويجب أن يطّلع عليها. أراد بعض الناس تنفيذ مخطّطات الأعداء في هذه المحافظة، والإيقاع بين الأهالي المؤمنين العطوفين الرحماء وبين الثورة. لقد ألحق أولئك الذين أرادوا التحدُّث باسم الأهالي الكرد أنفسهم، الضررَ بهؤلاء الأهالي. ونحن اليوم، أمام عوائل استشهد أبناؤها في سبيل هذا الجهاد المقدّس، وكذلك أمام عوائل أخرى انطلَت حيل الأعداء على أبنائها، هي أيضًا عوائل مفجوعة، وهي موضع تعاطفنا. وإنّ العوائل التي استطاع العدُوّ خداع أبنائها، واستخدام دمائهم في سبيل الأغراض الأمريكيّة والصهيونيّة الفاسدة، هي أيضًا عوائل بريئة، وقد فُجِعَت بأبنائها، والكثيرون لا يذكرونهم، لكنّنا نحرص ونعطف عليهم. وهذه بدورها، من الخسائر التي أَلحقَها أعداء الثورة بهذه المحافظة. وقد سلبوا فرصة العمل العمرانيّ من هذه المحافظة لفترة من الزمن. محافظتكم محافظة موهوبة جدًّا من جهات مختلفة. كان بالإمكان الاستثمار هنا بشكل جيّد. وكان المقرّر القيام بأعمال تأسيسيّة وبنى تحتيّة كبيرة، في الأعوام الأولى. وصل أوّل وفد عمرانيّ إلى كردستان مِن قِبَل شورى الثورة، وقبل تشكيل جهاد البناء. يومها، كان المرحوم الشهيد بهشتي (رضوان الله عليه)[1] رئيسًا لشورى


 


[1] الشهيد محمّد حسين بهشتي (ت.1401ه/ 1981م): هو عالم مجاهد ثوريّ فذّ، من قادة الثورة الكبار، ومن مؤسِّسي حزب الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. استشهد في تفجير مقرّ الحزب الجمهوريّ، مِن قِبَل جماعة المنافقين عام 1401ه.

 

112


91

خطاب الولي 2009

الثورة، وقد بعث وفدًا لعمران منطقة كردستان، ولم يكن جهاد البناء قد تشكّل بعد. يعرف النظام ما الذي فعله نظام الطاغوت البائد بالمحافظات النائية، والمختلفة في لغاتها ولهجاتها وقوميّاتها، لذلك، أراد (النظام الجديد) تعويض ذلك، لكنّ أعداء الثورة -مع الأسف- سلبوا نظام الجمهوريّة الإسلاميّة هذه الفرصة بضع سنوات.

 

المشاريع العمرانيّة في كردستان

إنّني على اطّلاع، وأعلم أنّه تمّ خلال هذه الأعوام، والحمد لله، تقديم خدمات كثيرة جدًّا وكبيرة في هذه المحافظة، وهي خدمات لم تكن تخطر ببال أحد في تلك الأيّام. أُنجِزَت في هذه المحافظة، وعلى امتداد هذه الأعوام، مشاريع عمرانيّة، تشكّل لائحة طويلة: الطرق، والسدود، وعمليّات توزيع الطاقة، وعمليّات توزيع المياه، والاتّصالات وسائر مؤشِّرات التنمية على اختلافها وتنوّعها. يجري حاليًّا بناء نحو 19 سدًّا في هذه المحافظة. حتّى إنّه لم يكن ليخطر ببال أحد في تلك الأيّام، أنّ مثل هذه المشاريع ستُنجَز، لكنّها أُنجِزَت. ولكن مع ذلك، ما كان يمكن أن يتمّ، وما يجب أن يتمّ، أكثرُ من هذا بكثير.

 

مشكلات كردستان

لم تُنجَز الكثير من الأعمال في هذه المحافظة، وينبغي أن تنصبّ همم المسؤولين على هذه الجوانب.

 

للمحافظة مشكلاتها. وحسب ما أشعر به، وقد درستُه وبحثتُه، فإنّ المشكلة الأولى في المحافظة، هي مشكلة العمالة (البطالة) وعدم توفّر فرص عمل، والمشكلة الثانية هي قضيّة الاستثمار. العمالة قضيّة مهمّة. نسبة البطالة في هذه المحافظة عالية حاليًّا، وفيها شباب مستعدّون للعمل. أُنجِزَت أعمالٌ كثيرة وجيّدة جدًّا، ولكن يجب إنجاز أعمال أخرى وأكثر. نشكر الله على أنّ أعضاء الحكومات اليوم، وخلافًا لعهد الطاغوت، يزورون الجماهير ويقصدونهم. ذات يوم، كان على الناس تحمُّل المشاقّ، وبذل المساعي، للوصول إلى الحكومات، واليوم، وببركة الإسلام، تتوجّه الحكومات بنفسها، وتزور المحافظات المختلفة والمدن المختلفة وأبعد مناطق البلاد، يقصدها

 

113


92

خطاب الولي 2009

رئيس الجمهوريّة، والوزراء ومختلف المسؤولين. يقول الناس في بعض المناطق التي زارها رئيس الجمهوريّة: إنّنا لم نشاهد في العهد السابق[1] هنا، حتّى مديرًا عامًّا! وهم على حقّ. هذه من بركات الإسلام. يفرض الإسلام على الحكومات الخوضَ في أصعبِ الأعمال، قَبل الخوض في الأعمال السهلة، وخدمةَ أكثرِ الناس حرمانًا وفقرًا. ونشكر الله، هذا ما يحصل اليوم، لحسن الحظّ.

 

مواصلة اليقظة والحذر

وأقول في خاتمة هذا الجانب من كلامي: ليعلم الشباب الأعزّاء، أنّ مؤامرات الاستكبار قد أُحبِطَت، لكنّها لم تَنْتهِ، وأنَّ يقظة الجماهير المؤمنة واستعداد مسؤولي البلاد، قد أحبَطَت إلى اليوم، مؤامراتِ الأعداء في هذه المحافظة، وما يخصّ الأحداث المشابهة لها. ولكن ينبغي أن لا نتصوّر أنّ العدُوّ قد كفّ وسكت وأقلع عن متابعة أهدافه المشؤومة. كلّا، ينبغي مواصلة اليقظة والحذر! اعلموا أنّ أعداء إيران الإسلاميّة يريدون لإيران أن لا تبقى موحَّدة، وأن لا يحكمها الإسلام. لم يستطع الجبابرة المستكبرون، الذين استطاعوا إخضاع غالبيّة البلدان والحكومات في العالم لنفوذ سياساتهم، إلى اليوم، إخضاع نظام الجمهوريّة الإسلاميّة المعتمِد على الجماهير الشجاعة المؤمنة، وتركيعه، لذلك، هم غاضبون. يغيّرون الأساليب، إلّا أنّ الأهدافَ هي الأهداف الدنيئة نفسها التي كانت لهم. ليكن الشباب واعين، ولتكن العوائل واعية، وليكن المسؤولون واعين. إنّنا ندافع عن كيان بلادنا ووحدتها. إنّنا ندافع بكلّ قدراتنا عن الإسلام العزيز. لم نَرْهَب، إلى الآن، الرعود والبروق الاستكباريّة الجوفاء، ولم نتراجع، ولن نخافهم بعد اليوم أيضًا، ولن نتراجع.

 

العزّة الوطنيّة

وأذكر بهذه المناسبة، نقطةً أساسيّة عامّة.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لقد رسمَ الإسلام، من أجل بناء مجتمع شامخ متوثّب، خصوصيّاتٍ معيَّنة، وقدَّم للمسلمين والأمّة الإسلاميّة، على مرّ التاريخ، سبيل

 


 


[1] أي عهد الطاغوت الملكيّ البائد.

 

114


93

خطاب الولي 2009

الوصول إليها. من هذه الخصوصيّات والمؤشّرات: العزّة الوطنيّة. كما إنّ الفرد لا يريد أن يكون ذليلًا، بل عزيزًا، فإنّ من الآمال الكبرى لأيّ شعب، أن يكون عزيزًا، ولا يكون ذليلًا. ما هي العزّة الوطنيّة؟ العزّة الوطنيّة هي أن لا يشعر الشعب بالمهانة في نفسه، ومِن نفسه. النقطة المقابِلة للشعور بالعزّة، هي الشعور بالمَهَانة والدونيّة. حينما ينظر الشعب إلى ذاته، إلى رأسماله، وتاريخه، وتراثه التاريخيّ، وكنوزه البشريّة والفكريّة، ثمّ يشعر بالعزّة والكبرياء، ولا تنتابه المهانة والذلّة، فهذه من الأمور الضروريّة للشعب. وقد أشار القرآن في مواطن عديدة، إلى هذا المعنى: ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعۡنَآ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ لَيُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ﴾[1]. كان المنافقون يتحدّثون فيما بينهم، ويقولون: إنّنا أعزّاء، وسوف نُخرِج المسلمين -وهم الأذلّة- من المدينة. أوحى الله إلى الرسول، أنّهم يقولون ذلك، لكنّهم لا يفقهون ولا يعلمون. فالأعزّة هم المؤمنون، والعزّة لله، ولرسول الله، وللمؤمنين بالله. هذه لوحة مشرقة يجب أن تنتصب دومًا أمام أنظار الأمّة الإسلاميّة: "العزّة الوطنيّة". إذا لم يشعر الشعب بالعزّة، أي إذا نظر بعين الصغر والاحتقار إلى ما لديه -من تقاليد وأعراف ولغة وأبجديّة وتاريخ ومفاخر وشخصيّات كبرى- واستصغر شأنها، وأنّه لا يمتلك شيئًا، فسيقع هذا الشعب، بسهولة، في قبضة هيمنة الأجانب.

 

منذ أن دخل المستعمرون بلدان الشرق -ومنها البلدان الإسلاميّة- في القرنَين السادس عشر والسابع عشر، ولأجل أن يستطيعوا تكبيل أيدي هذه الشعوب وأرجلها بقوّة، وجعلها أسيرة لهم، راحوا يبثّون فيهم سوء الظنّ تجاه ماضيهم وما لديهم، وتجاه دينهم وأعرافهم وأزيائهم. هذه أمور فيها عِبَر. وقد وصل الأمر في بداية ثورة الدستور في إيران، إلى أن يقول أحد المستنيرين: يجب على الإيرانيّ أن يصبح أجنبيًّا، من قمّة رأسه إلى أخمص قدميه! أي أن ينبذ دينه، وأخلاقه، وأزياءه، وخطّه، وماضيه، ومفاخره، وينساها، ويتبنّى مكانها الثقافة الغربيّة، والأعراف الغربيّة، والتقاليد الغربيّة، والتفكير الغربيّ، والمناهج والأساليب الغربيّة. هكذا أعلنوا. هذا الهتاف المذلّ، رفعه في بلادنا،


 


[1] سورة المنافقون، الآية 8.

 

 

115


94

خطاب الولي 2009

الذين أداروا ظهورهم للدين، وواضحٌ أنّ البلاد، إذا فقدت كلّ ما تملك، وتمّ تفريغها من الداخل، فسيتمكّن الاستعمار الإنجليزيّ، حينها، من السيطرة على كلّ ما لديها من نفط، وجيش، وممتلكات، وأجهزة سياسيّة. بلغَت الأمور في العهد البهلويّ، إلى درجة أنّ الشاه الخائن، ولأجل أن يعيّن فلانًا رئيسًا للوزراء، كان مضطرًّا إلى مناقشة الموضوع مع السفير البريطانيّ، ثمّ السفير الأمريكيّ بعد ذلك، ويحصل منه، في الواقع، على إذنٍ لذلك التعيين! هذا هو تاريخ بلاطنا في الماضي، وهذا مناقض للعزّة الوطنيّة. فقد أنزلَت الحكومات الدكتاتوريّة التابعة الفاسدة، شعبَ إيران، عن أريكة العزّة، فلا هي وسَّعَت علومه ونمّتها، ولا دنياه بنَتْ، بل سلبته آخرته، وألبسَتهُ ثياب الأسر والاستعباد. قامت الثورة الإسلاميّة لمواجهة مثل هذا الوضع، ووقفَت الثورة الإسلاميّة والإمام الجليل مقابل مثل هذه المصيبة الكبرى، وأهدى الشعب الإيرانيّ دمَه في هذا السبيل، وانتصر.

 

حينما تَسُود مثل هذه الروحيّة لدى شعب، فسيظهر الجهاز السياسيّ في ذلك البلد، بنحوٍ طبيعيّ، بطباع الخَدَم، فيكون مقابل شعبه كالكلب المفترس والذئب السفَّاح، وأمام الأعداء كالحَمَل الوديع المروَّض، "أسدٌ عَليَّ وفي الحروبِ نعامةٌ". فهذا رضا خان[1] الذي تعامل بكلّ قسوة وشدَّة مع شعبه، خصوصًا في النصف الثاني من فترة حكمه -حيث لم يكن لدى الناس الجرأة حتّى على التنفُّس[2]، فكان الأب لا يثق بابنه، والابن لا يثق بأبيه حتّى في داخل المنـزل- قد زال عن السلطة الملكيّة، كالفأرة الميتة، برسالة بسيطة من الإنجليز، قالوا له فيها: "يجب أن تعتزل السلطة"! وكذا الحال بالنسبة إلى محمّد رضا بهلويّ، الذي مارس أثناء عقدَي (الستينيّات والسبعينيّات من الميلاد)، أشدّ الضغوط على هذا الشعب، وعلى المناضلين والتحرّريّين، بعنف ودون اعتبار أيّ شيء للشعب، لكنّه كان نفسه خاضعًا خاشعًا أمام سفير أمريكا وسفير بريطانيا، يسمع كلامهما ويطبّقه. وكان مستاءً من هذا الوضع، لكنّه مضطرّ إليه. كانت هذه حكومة شعبٍ محرومٍ من العزّة الوطنيّة.


 


[1] رضا خان: رضا بهلويّ، شاه ايران، أقام حكومة ملكيّة ديكتاتوريّة، حكم بين عامَي 1925م و1941م، خلفه ابنه محمّد رضا، الذي أطاحت الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة بحكمه.

[2] كما يُقال: أحصى على الناس أنفاسهم.

 

116


95

خطاب الولي 2009

من أهمّ الأمور التي منحتها الثورة الإسلاميّة لنا، نحن الشعب الإيرانيّ، هو الشعور بالعزّة. كان إمامنا الجليل مظهرَ العزّة. عندما قال الإمام علنًا: "لا تستطيع أمريكا ارتكاب أيّة حماقة!"، كانت أمريكا حينها، في ذروة اقتدارها السياسيّ والعسكريّ في العالَم. أعاد الإمام الشعور بالعزّة إلى هذا الشعب، وأعادت الثورة الشعور بالعزّة إلى شعب إيران. والإيرانيّ اليوم، يفخر بإيرانيّته وبإسلامه. يعترف أقوياء العالم اليوم، أنّ تهديداتهم وقدراتهم العسكريّة وإعلامهم السياسيّ، لا تأثير له إطلاقًا، مقابل الشعب الإيرانيّ. وإنّ الشعب الإيرانيّ سيواصل طريقه الذي اختاره، نحو الهدف الذي اختاره، بكلّ قوّة، وسيبلغ ذلك الهدف.

 

الإيمان والوحدة والعمل

المهمّ هو الحفاظ على هذه العزّة الوطنيّة. إخوتي وأخواتي، أيّتها الجماهير العزيزة في كردستان، ويا شعب إيران العظيم، علينا جميعًا التنبُّه والحفاظ على هذه العزّة الوطنيّة. لا يمكن صيانة العزّة الوطنيّة فقط باللسان والادّعاء وإطلاق الشعارات. إذا كان الشعب الإيرانيّ اليوم، عزيزًا، وله نفوذه في السياسات العالميّة الكبرى، فالسبب يكمن في إيمانه وأدائه وإبداعاته ومبادراته الشجاعة، وفي وحدته وتلاحمه. ولو فقدنا واحدة من هذه العناصر، تعرّضَتْ عزّتُنا للخطر. إذا فقدنا وحدتنا، أو إذا فقدنا إيماننا، وإذا خسرنا روح الجدّ والسعي والعمل -والتي نشاهدها اليوم، والحمد لله، لدى الشعب الإيرانيّ الكبير، ولا سيّما الجيل الشابّ- فسوف نخسر عزّتنا. هذه نقطة أساسيّة لتحليل الأحداث السياسيّة، خصوصًا للشباب.

 

عملاء العدُوّ يسعَون إلى إفساد الوحدة

انظروا، ولاحِظوا مَن هم الذين يريدون إفساد وحدة الشعب الإيرانيّ. اعلموا أنّهم عملاء الأعداء، إمّا أنّهم من الأعداء ويتحدّثون حديثهم، أو أنّهم من أصابع العدُوّ، لا شكّ في ذلك. الذي يرفع نداء التفرقة بين الشيعة والسنّة، ويريد إرباك الوحدة الوطنيّة بذريعة الطائفيّة، إنّما هو مرتزق للعدوّ، سواء كان شيعيًّا أم سنيًّا، وسواء علم بذلك أم لم يعلم. فبعضهم، أحيانًا، (يُعَدُّون) مرتزقة للعدُوّ، وهم لا يعلمون. إنّ

 

 

117


96

خطاب الولي 2009

الكثير من هؤلاء الناس المساكين الجهلة السلفيّين والوهابيّين، الذين تغذّيهم دولارات النفط، كي يذهبوا ويمارسوا العمليّات الإرهابيّة هنا وهناك -في العراق بشكل، وفي أفغانستان بشكل، وفي باكستان بشكل، وفي الأنحاء الأخرى بأشكال أخرى- لا يعلمون أنّهم مرتزقة. والشخص الشيعيّ الذي يهين مقدّسات أهل السنّة ويسبّها، هو أيضًا من مرتزقة الأعداء، وإن لم يشعر. وأنا أقول: هؤلاء هم العملاء الرئيسيّون للأعداء. بعض هؤلاء الأصابع -سواء بين أهل السنّة، أو بين الشيعة- غافلون، ولا يعلمون ولا يفهمون ما الذي يفعلونه، لا يدرون أنّهم يعملون للأعداء.

 

قبل سنوات، تحدَّثَ عالِمٌ متنوّرٌ من المنطقة الكرديّة، في صلاة الجمعة، وأظنّ أنّه أقسم -هكذا أظنّ، لأنّ الأمر مضت عليه سنوات- وقال: والله، إنّ الذين يأتون إلى الشيعة ويزرعون في قلوبهم الضغينة والحقد على أهل السنّة، ويقصدون السنّة ويزرعون الأحقاد والإحن في أفئدتهم ضدّ الشيعة، هؤلاء ليسوا شيعة ولا سنّة، لا يحبّون الشيعة ولا السنّة، إنّما يعادون الإسلام، طبعًا لا يعلمون. الكثيرون منهم لا يفهمون، وهذا ما يدعو للأسف أنهّم لا يفهمون. الجماعة الوهّابيّة والسلفيّة اليوم، تعتبر الشيعة كفرة، وتعتبر السنّيّ المحبّ لأهل البيت كافرًا أيضًا، وتعتبر السنّيّ من أتباع الطرق العرفانيّة والقادريّة[1] كافرًا أيضًا. من أين ينبع هذا الفكر الخاطئ؟ كلّ الشيعة في مختلف أنحاء العالم، وأهل السنّة الشافعيّة في شمال أفريقيا، أو المالكيّة في بلدان أفريقيا المركزيّة -وهم محبّون لأهل البيت، فالطرق العرفانيّة لهؤلاء تنتهي إلى أهل البيت (متّصلة بأهل البيت)- هم كفّار! لماذا؟ لأنّهم يحترمون مرقد الحسين بن عليّ في القاهرة، ويقدّسون مسجد رأس الحسين، لذلك فهم كفّار! الشيعة كفّار، والسنّة في سقز وسنندج ومَرِيوان[2]، إذا كانوا على اتّصال بالطريقة القادريّة أو النقشبنديّة[3]، كفّار أيضًا! أيّ فكر هذا؟ لماذا يبثّون الخلاف بين الإخوة المسلمين، عبر هذا الفكر


 


[1] القادريّة: طريقة صوفيّة مشهورة لدى المسلمين في شمال أفريقيا.

[2] مدن إيرانيّة في محافظة كردستان.

[3] الطريقة النقشبنديّة هي واحدة من أكبر الطوائف الصوفيّة، والتي تنتسب إلى محمّد بهاء الدين شاه نقشبند، واشتُقَّ اسمها منه، ومن ثمّ عُرِفَت به.

 

118


97

خطاب الولي 2009

الخاطئ المشؤوم؟ وأقول للشيعيّ الذي يهين مقدّسات السنّة، عن جهل وغفلة، أو عن غرض في نفسه أحيانًا -ونحن نعرف مثل هؤلاء، فهناك بين الشيعة من لا يدفعهم الجهل وحسب، إنّما هم مكلّفون ببثّ الخلافات- أقول له: إنّ سلوك كِلا الفريقَين حرامٌ شرعًا، ومخالفٌ للقانون.

 

أعزّائي، يا كلّ الشعب الإيرانيّ، اعرفوا قدر وحدتكم. هذا الاتّحاد عظيم ومبارك جدًّا لهذا البلد. اعرفوا قدر الاتّحاد، واعرفوا قدر التعاطف، واعرفوا قدر التعاون، واعرفوا قدر التناغم بين الحكومة والشعب، واعرفوا قدر حبِّ الحكومة للجماهير. وعلى الحكومة بدورها، أن تعرف قدر إيمان الشعب وحماسه، وتشوّق الشباب وتوثّبهم، وروح الابتكار والنشاط والعمل لدى الأجيال الصاعدة في البلاد، وعليها الانتفاع من هذه الطاقات، وهذا ما سيحصل، إن شاء الله.

 

إعلام العدُوّ ضدّ الانتخابات

وأذكر بعض الأمور حول قضيّة الانتخابات. أعزّائي، الانتخابات على الأبواب، بقي شهر على موعد الانتخابات. الانتخابات من الاختبارات الكبرى للشعب الإيرانيّ، أمام أنظار العدوّ، لذلك قلوبهم حسّاسة تجاهها. بدأَت الأجهزة الإعلاميّة لأعداء الشعب الإيرانيّ، منذ نحو سنة، كلامها وعملها واصطناعها الموادّ الإعلاميّة ضدّ هذه الانتخابات، بوتيرة هادئة. وبدأَت الأجهزة الأمنيّة أيضًا، عملها في تصيُّد الأخبار، والتحرّي، وطرح الاقتراحات. إنّهم حسّاسون تجاه هذه الانتخابات. وحين تنظرون اليوم لأخبار وسائل الإعلام الأجنبيّة، على اختلافها -والكثير منها مملوء حقدًا وعداءً للشعب الإيرانيّ- سترون أنّها ليست عديمة الاكتراث تجاه انتخاباتنا، وتحاول العمل لأغراضها وأهدافها. ما هي هذه الأغراض؟ هدفهم، بالدرجة الأولى، تعطيل الانتخابات، وإلغاؤها. في إحدى الدورات، حاولوا إلغاء انتخابات مجلس الشورى الإسلاميّ بمختلف الحيل، لكنّ الله -تعالى- لم يشأ ذلك، وإرادة المؤمنين لم تسمح به، فلم ينجح الأعداء. إنّهم يائسون من تعطيل الانتخابات جذريًّا. وهدفهم بالدرجة الثانية، أن تكون الانتخابات باهتة وباردة، وأن لا يكون للشعب الإيرانيّ مشاركة فاعلة فيها.

 

119

 


98

خطاب الولي 2009

الحضور في الانتخابات يقوّي النظام

أيّها الشعب الإيرانيّ العزيز، أقول لكم: علينا جميعًا، وعلى العكس تمامًا من إرادة الأعداء، أن تكون لنا مشاركة فاعلة في الانتخابات. الانتخابات سمعتنا الوطنيّة. الانتخابات من مؤشرات نموّنا الوطنيّ. الانتخابات وسيلة للعزّة الوطنيّة. حينما يرون الشعب الإيرانيّ يحضر بحماسة، وشعور وإدراك تامّ، ووعي عند صناديق الاقتراع، فما معنى ذلك؟ معناه أنّ الشعب يرى لنفسه حقَّ اتّخاذ القرار، والقدرة عليه، ويريد أن يؤثِّر في مستقبل البلد، ويختار مسؤولي البلاد ومديريها الكبار. انتخاب رئيس الجمهوريّة يعني انتخاب رئيس السلطة التنفيذيّة، والشخص الذي تقع غالبيّة إمكانيّات البلد تحت تصرّفه. وترون أنّه لو كان رئيس الجمهوريّة متحلّيًا بالحماسة والتوثّب والحيويّة والرغبة والميل والإرادة، فأيّ خدمات كبيرة سيقدّمها للبلد! هم لا يريدون هذا الشيء. وأقول: إنّكم جميعًا يجب أن تصرّوا على المشاركة في الانتخابات. أعتقد أنّ القضيّة الأولى في الانتخابات، ليست انتخاب هذا الشخص أو ذاك، إنّما القضيّة الأولى هي مشاركتكم. وجودكم (حضوركم) هو الذي يعزّز النظام، ويقوّي أركانه، ويزيد من ماء وجه الشعب الإيرانيّ وسمعته، ويضاعف استقامة البلد حيال الأعداء، ويصرف الأعداء عن الطمع في البلاد، وعن التفكير في توجيه ضربة لها، وإفشاء الفساد والفتن فيها. هذه قضيّة على جانب كبير من الأهمّيّة. إذًا، القضيّة الأولى هي المشاركة في الانتخابات.

 

انتخاب الرئيس البعيد عن الأرستقراطيّة

القضيّة الثانية المتعلّقة بالانتخابات، هي أن يحاول الناس انتخاب مَن هو الأكثر صلاحًا (الأصلح). الذين يترشّحون لرئاسة الجمهوريّة، وتخضع صلاحيّتهم للنظر تحت مجهر مجلس صيانة الدستور، الذي يعلن صلاحيّتهم بعد ذلك، هؤلاء كلّهم صالحون. لكنّ المهمّ هو أن تبحثوا بين هؤلاء الأفراد الصالحين، وتشخِّصوا الأصلح. هذا ليس مقامًا نستطيع فيه، أنا وأنتم، الاكتفاء بالحدّ الأدنى. اطلبوا الحدّ الأعلى، وانتخِبوا مَن هو أفضل.

 

120

 


99

خطاب الولي 2009

مَن هو الأفضل؟ إنّني لا أبدي أيّ رأي حول الأشخاص، ولكن ثمّة مؤشّرات وسمات. الأفضل هو الذي يفهم آلام البلد، ويعلم أوجاع الناس، ويكون متّحدًا وقريبًا من الناس، ومحبًّا لهم، ويكون بعيدًا عن الفساد، ولا يطلب الأرستقراطيّة لنفسه. آفتنا الكبيرة هي الأرستقراطيّة والبذخ. فإذا كان المسؤول الفلانيّ من أهل البذخ والأرستقراطيّة، سيدفع الناس باتّجاه الأرستقراطيّة والإسراف.

 

مكافحة الإسراف

حين قلنا: إنّ هذا العام هو عام المضِيّ نحو إصلاح نموذج الاستهلاك، فمعنى ذلك أنّ هذا العام هو العام الذي يقرّر فيه الشعب الإيرانيّ مكافحة الإسراف. لا نقول: بنحو قاطع ودفعيّ، وخلال سنة واحدة، سوف ينتهي الإسراف. لا، نحن أكثر واقعيّة من هذا، ونعلم أنّ هذه العمليّة تتطلّب سنوات متعاقبة، وينبغي العمل حتّى نصل إلى هذه الثقافة. يجب البدء بهذه العمليّة.

 

من الأعمال المهمّة جدًّا للحؤول دون الإسراف، هو أن لا يكون مسؤولو البلاد أنفسهم، والمحيطون بهم، وأقرباؤهم، والمرتبطون بهم، أن لا يكونوا من أهل الإسراف والبذخ. إذا كنّا من أهل الإسراف، كيف يُمكن أن نقول للناس: لا تسرفوا؟ ﴿أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ﴾[1]، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ٢ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾[2].

 

المَهَمّة الأولى هي أن نختار مسؤولي البلاد، من بين الأفراد ذوي بساطة العيش، والذين يعرفون آلام الناس، ويتألّمون لألم الناس. هذه، برأيي، علامة مهمّة أيضًا. ابحثوا بوعي، وتوصّلوا إلى النتيجة، وبادِروا إلى ما توصلتم له وشخّصتموه، بقصد القربة، اقصدوا صناديق الاقتراع بقصد القربة، وسوف يوفيكم الله أجوركم. هذه نقطة أيضًا.

 

على المرشَّحين أن يكونوا منصفين

النقطة الأخيرة حول الانتخابات، هي أن يحاول المرشّحون المحتَرَمون، الذين سجّلوا


 


[1] سورة البقرة، الآية 44.

[2] سورة الصفّ، الايتان 2-3.

 

 

121


100

خطاب الولي 2009

أسماءهم إلى الآن، ويعملون إعلاميًّا، ويصرّحون -مع أنّ الوقت القانونيّ للدعاية لم يحن بعد، لكنّهم يعملون إعلاميًّا، ولا إشكال في ذلك- أن يحاولوا أن يكونوا منصفين. لتكن تأييداتهم ومعارضاتهم من منطق الحقّ والصدق. يسمع الإنسان أشياء لا يصدّق أنّها صدرَت عن المرشّحين، ممّن يطلبون هذه المسؤوليّات عن صدق وإخلاص. أحيانًا، يسمع المرء كلامًا عجيبًا وأمورًا غريبة تُنسَب إلى هذا وذاك! هذا الكلام يقلق الناس، وهو كلام لا يجذبُ قلبَ أحدٍ لقائله. ليتنبّه المرشَّحون المحترمون، ولا يكدّروا الرأي العامّ والأذهان. كلّ الأمور غير الصحيحة التي تُنسَب إلى هذا وذاك، تُكدِّر ذهنيّات الجماهير، بالتأكيد، وهي أمور غير واقعيّة، وبخلاف الواقع. إنّني على علم بشؤون البلاد أكثر من كلّ هؤلاء السادة، وعلى اطّلاع أوفى، وأعرف أنّ كثيرًا من هذه الأمور التي تُطرَح، كنقد لأوضاع البلاد ووضع الاقتصاد وما إلى ذلك، هي خلاف الواقع. إنّهم مخطئون. هم مخطئون، وعن غير قصدٍ، إن شاء الله. نأمل أن يُقدّر الله -تعالى- لهذا الشعب الخير والصلاح والعمران الكامل.

 

سيادة الإسلام فيها عمارة الدنيا والآخرة

المسألة الأخيرة التي أطرحها هي: يا أعزّائي، اعلموا أنّنا واقفون وصامدون من أجل سيادة الإسلام في هذا البلد -وسيادة الإسلام فيها عمارة دنيا الناس وآخرتهم، وصلاح حياتهم المادّيّة والمعنويّة- حتّى النهاية، وما من ضغوط ولا قوى بوسعها التأثير على إرادتنا المعتمِدة على إرادة الشعب.

 

اللهمّ، أَنزِل رحمتك ولطفك على هذا الشعب. اللهمّ، مُنَّ بفضلك على أذهان هذا الشعب العزيز، وفكره، وقلبه، وعمله. أيّها الأهالي الأعزّاء، إنّني أتقدّم بالشكر من الصميم، لوفائكم ومودّتكم، لاجتماعكم المهيب الذي عقدتموه هنا، واستقبالكم الذي قمتم به. أتمنّى أن يوفّقنا الله -تعالى-، أنا وأنتم، لنخطو خطوات واسعة في سبيل أداء واجباتنا.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

122

 


101

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء عوائل الشهداء والمضحّين في كردستان

 

 

         

المناسبة:   زيارة محافظة كردستان

الحضور:  حشد من عوائل الشهداء والمضحّين

المكان:   محافظة كردستان

 

الزمان:    22/02/1388هـ.ش.

17/05/1430هـ.ق.

12/05/2009م.

 

 

124

 


102

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يشتمُّ الإنسان، في هذا الاجتماع الحميم والزاخر بالمحبّة والروح المعنويّة، عطر الشهادة، الذي هو في الحقيقة، عطر جنائنيّ في حياتنا المادّيّة. أوّلًا، أتقدّم بالشكر إلى جميع الإخوة والأخوات الأعزّاء، وعوائل الشهداء، الذين منحوني اليوم، بتفضّلهم بالمجيء إلى هنا، فرصة الحضور بين عوائل الشهداء العزيزة، والنهل المعنويّ والروحيّ من الأنفاس القدسيّة لشهدائنا الأبرار، وأنتم ذووهم وعوائلهم الكريمة. وأشكر خصوصًا، الأعزّاء الذين قدّموا برامج وفقرات، سواء أبناء الشهداء الذين أنشدوا قصائدهم، أو قرؤوا نصوصًا نثريّة، وكانت جميلة جدًّا، أم هؤلاء اليافعين الأعزّاء الذين قدّموا نشيدهم، واستمتعنا به.

 

غربة شهداء كردستان

إنّني أفخر في كلّ أسفاري، بزيارة عوائل الشهداء، وبلقائي بهم، وألمس الروح المعنويّة في جميع المحافظات والمدن، حينما تنعقد اجتماعات مماثلة لهذا الاجتماع، وأشعر بها. ولكن، أريد أن أقول: إنّ شهداء كردستان وعوائل هؤلاء الشهداء، لهم خصوصيّات قلّما نجد لها نظيرًا، وقد لا تُرى في المحافظات الأخرى. من هذه الخصوصيّات، أنّ شهداء هذه المنطقة استشهدوا مظلومين وغرباء أكثر، وتحمّلَت عوائلهم (أسرهم) صبرًا أكبر. لماذا؟ لأنّ عملاء أعداء الثورة وأعداء البلاد، أوجدوا لأُسر الشهداء في هذه المحافظة، وخصوصًا في السنوات الأولى، وضعًا وظروفًا ربّما كانت أحيانًا، أصعب إلى آباء الشهداء وأمّهاتهم وإخوتهم وأخواتهم، من شهادة أبنائهم نفسها. فأعداء الثورة، والأصابع القذرة التي أرادت تحويل كردستان إلى ساحة حرب داخليّة واقتتال بين الإخوة في البلاد، لم يكتفوا بقتل خيرة شباب هذه المحافظة وهؤلاء الأهالي، وتخضيبهم بالدماء، وإنّما مارسوا الضغوط على أُسَرِهم لفترة طويلة نسبيًّا.

 

 

126

 


103

خطاب الولي 2009

كانت مصيبة أُسَر الشهداء في سائر محافظات البلاد، أنّها فقدَت أحبّتها فقط، وقد حملَت هذه العوائل في أجواء من العنفوان والحيويّة والنشاط، أسماءَ شهدائها الأعزّاء، وافتخرَت بها. أمّا في كردستان، فكثيرًا ما حدث -وقد أُخْبِرنا واطّلَعنا على ذلك- أن يمارس أعداء هذه المحافظة وأعداء هذا البلد، الضغوط على عوائل الشهداء، ضغوطًا نفسيّة، وضغوطًا جسديّة، وضغوطًا أمنيّة. طبعًا، لم تتمخّض هذه الضغوط عن نتائج، ولم تحسِّن سُمعة فاعليها في أنظار هؤلاء الأهالي، بل زادتها سوءًا.

 

فضائل أهل كردستان

يُعرَف أهالي كردستان بالعطف، والمحبّة، وحُسن الضيافة، والروح الزاخرة بالمودّة، واللّين، وهذه هي الحقيقة فعلًا. كذلك هم معروفون بالشجاعة، والشهامة، والبساطة أيضًا، ولم يستطع أعداء هذا الشعب النيل من عوائل الشهداء.

 

تضحيات أهل كردستان

في زيارتي السابقة لسنندج، زرتُ ربَّ عائلة استشهد ستّة من أولاده. وقلّما شاهدت نظيرًا لهذا في البلاد. ستّة أولاد! ثلاثة منهم استشهدوا في سوح القتال، وثلاثة أثناء التظاهرات التي قصفها العدوّ البعثيّ. يستشهد ستّةٌ من فلذات كبده، ويبقى هذا الوالد صامدًا قويًّا، إلى درجة أنّني شعرت بالصغر أمام عظمة تلك الروح. شهدتُ هذا في كردستان. التقيتُ اليوم باثنَين آخرَين من أبناء ذلك الرجل العظيم -وهذه عظمة حقًّا!- وسألتهم عن والدهم، فقالوا: إنّه انتقل إلى رحمة الله.

 

عوائل قدّمَت ثلاثة شهداء وشهيدَين، سيّداتٌ فقدنَ أزواجهنّ وأبناءهنّ، ولم يستسلمن لضغوط الأعداء النفسيّة والسياسيّة بعد فَقْدِهِنَّ فلذات أكبادهنَّ، ولم يُبدين ضعفًا وخورًا أمام تلك الضغوط. هذه عظمة كبيرة شهدتُها هنا في كردستان!

 

شبابكم الأعزّاء قاتلوا في جبهة مقارعة أعداء الثورة، وفي جبهة مقارعة نظام صدام البعثيّ. صمد أولئك الشباب على الجبهتَين، أمام مجموعتَين من الأعداء، لهما جذور متقاربة. قاتل الشباب الكُرد من أهالي "مَرِيوان وسقز وبانه وقروه وبيجار"[1] في


 


[1] مَرِيوان وسقز وبانه وقروه وبيجار: قرى ومدن في محافظة كردستان.

 

127


104

خطاب الولي 2009

عمليّات الفاو[1]، إلى جانب باقي أبناء وطنهم وإخوانهم، واستشهد منهم من استشهد. وهنا أيضًا، جاهدوا ضدّ أعداء الثورة، كما العدُوّ البعثيّ. لا أنسى الجهاد الذي شاهدته في "مَرِيوان" و"دزلي"، وكيف وقف الشباب بوجه الأعداء، كالنيران المنصهرة. أعزّائي، إنّ الشيء الذي يقوّي الشعب من الداخل، هو هذا الجهاد. لن نصل إلى أيّ نتيجة بالوهن والتراخي، ولن نكسب أيّ مرتبة في مضمار السباق بين الشعوب، مع الرضوخ أمام التعسُّف والهيمنة.

 

الجهاد يرفع الرأس

حين يقول الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة: "إِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَتَحَه الله لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِه"[2]، فما معنى ذلك؟ معناه أنّ شبابكم وشهداءكم وأعزّاءكم من خاصّة أولياء الله، حيث استطاعوا اجتياز هذا الباب. لماذا يعتبر الله -تعالى- هؤلاء خاصّة أوليائه؟ لأنّه لو لم يكن هذا الجهاد، لبقي الشعب ذليلًا متأخِّرًا ضعيفًا خاضعًا للعسف على الدوام. وإنّ شعبنا الإيرانيّ العظيم قد أظهر عظمته بهذه المجموعات العظيمة، والمكوّنات المختلفة، وخرجتم هنا من الامتحان، مرفوعي الرأس. لقد أحرزتم في هذا الامتحان الكبير درجة عالية.

 

نقطتان مهمّتان

ثمّة نقطتان لا بدّ من الالتفات إليهما، وعدم نسيانهما، يجب عليكم أنتم أن لا تنسوهما، وخصوصًا الشباب واليافعين الأعزّاء، يجب أن لا ينسوهما أبدًا.

 

 


[1] عمليّات الفاو: عمليّات الفاو عمليّات الإنزال على شبه جزيرة الفاو، المعروفة أيضًا باسم عمليّة الفجر 8، كانت عمليّة برّمائية إيرانيّة على شبه جزيرة الفاو. ووقعت في الفترة بين 9 و25 فبراير، حيث حقّق الهجوم على شطّ العرب مفاجأة تكتيكيّة وعملياتيّة كبرى، وهو ما سمح للقوّات الإيرانيّة بتحقيق انتصار سريع في البداية، على قوّات الجيش العراقيّ في المنطقة. وكانت هذه العملية تُعتَبر نقطة تحوُّل في الحرب، فعلى عكس تكتيك هجمات الموجات البشريّة المستخدمة في مكان آخر في المقدّمة، كانت معقَّدة وبرّمائيّة ومخطَّطًا لها بعناية.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص69.

 

128


105

خطاب الولي 2009

الفخر بالشهداء

النقطة الأولى: هي أن نحافظ على الشعور بالفخر الذي يبعثه فينا اسم الشهيد وذكراه. كما نفخر ببطولات الرجال الكبار في صدر الإسلام، لنفخر ببطولات هؤلاء الرجال الكبار في زماننا. وهذا ما لا يريده العدُوّ. يريد العدُوّ لذكريات الشهداء أن تُنسَى. يريد العدُوّ لذكريات هذا الجهاد وهذه البسالة أن تمُحى من ذاكرة الشعب. وعلى الجميع السير بالاتّجاه المعاكس تمامًا لهذه الإرادة. شدِّدوا على ذكرى الشهداء، وأحيوها، وصونوا ذكرياتهم. هذه هي النقطة الأولى.

 

حماية الحدود الروحيّة والمعنويّة

النقطة الثانية: يجب أن لا يشعر (يعتبر) شعبنا وشبابنا ونساؤنا ورجالنا، أنّ زمن الجهاد قد انتهى، وأنّه لا خطر يهدِّدنا. قد لا تهدِّدنا أخطار عسكريّة، وهذا هو الحال. لقد بلغ شعب إيران اليوم درجةً من الاقتدار، رفعَت من قدرته على مواجهة الأعداء عاليًا، بحيث لا يتجرَّؤون على مهاجمة هذا الشعب عسكريًّا، فهم يعلمون أنّهم سيُقمَعون، ويعلمون أنّ هذا الشعب شعب مقاوم. إذًا، احتمال خطر الهجوم العسكريّ ضئيلٌ جدًّا. بَيْدَ أنّ الهجوم ليس عسكريًّا وحسب. يركّز العدوّ على المواقع والنقاط التي تمثّل رأسمال (خزّان) صمودنا الوطنيّ. يستهدف الأعداء وحدتنا الوطنيّة، وإيماننا الدينيّ العميق، يستهدفون روح الصبر والاستقامة لدى رجالنا ونسائنا. وهذا الهجوم أخطر من الهجوم العسكريّ.

 

في الهجوم العسكريّ، تستطيعون معرفة الجانب الذي تواجهونه، وتستطيعون مشاهدة عدوّكم، أمّا في الهجوم المعنويّ والغزو الثقافيّ والهجوم "الناعم"، فلا تشاهدون العدوّ شاخصًا أمامكم، لذلك، لا بدّ من التيقّظ والوعي. أرجو من عموم الشعب الإيرانيّ، ولا سيّما أُسَر الشهداء، وأطلب منكم جميعًا، أيّها الأعزّاء، خصوصًا الشباب، أن تحرسوا الحدود الفكريّة والروحيّة بمنتهى اليقظة. لا تسمحوا للعدوّ أن ينال من الأُسُس الفكريّة والعقيديّة والإيمانيّة للناس، ويتغلغل إليها كَتَغلْغُل الأَرَضَة[1].


 


[1] الأرَضَة: دويبة بيضاء تشبه النملة، تظهر في أيّام الربيع.

 

129


106

خطاب الولي 2009

هذه مسألة على جانب كبير من الأهمّيّة. كلّنا مكلّفون بحماية حدودنا الإيمانيّة، والروحيّة، والمعنويّة.

 

مع الأسف، استطاع أعداء الشعب الإيرانيّ اليوم، الحضور، حتّى، خلف حدود بلادنا. في الماضي، وفي بداية الثورة، كانت المخطّطات (المكائد) تأتي أيضًا من الأعداء الأقوياء، والاستكبار والصهاينة، أمّا اليوم، وفي ظلّ التحوُّلات التي شهدتها المنطقة، فقد أوجدوا قواعد ومراكز بالقرب من حدودكم الجغرافيّة، وراحوا يستخدمونها للفعاليّات (الحروب) الناعمة الموغلة في العدوان.

 

التحلّي بالوعي واليقظة

على الجميع التحلّي باليقظة. وأقول للشباب خصوصًا:

أيّها الشباب الأعزّاء، وطنكم اليوم بحاجة إلى الوعي واليقظة. ترصّدوا تحرّكات الذين يرومون إبعاد القلوب عن الوحدة والودّ والألفة. قلتُ اليوم للجميع في ساحة المدينة، وأقول لكم أيضًا: هناك من يريد بثّ الخلافات والفرقة بين أبناء الشعب، بأيّ وسيلة، وأيّ ذريعة. كلّ من وجدتموه يعمل بهذا الاتّجاه، احكموا عليه بأنّه يد من أيادي العدوّ، سواء علِم هو بذلك، أم لم يعلم. ربّما لا يعلم، لكنّه يدٌ للعدوّ، لأنّه يعمل لصالح العدوّ. والنتيجة واحدة، لا فرق بين الشخص الذي يوجّه لكم الضربة متعمّدًا، والذي يوجّه لكم الضربة غير متعمّد، من حيث نتيجة عملهما. ينبغي التحلّي باليقظة والوعي.

 

تقوية الأنفس (الشعب والبلد) من الداخل

الشعب يقظ، لحُسن الحظّ. لقد اكتسب شعبنا خبرةً وتمرُّسًا أثناء هذه التجربة الطويلة في الأعوام الماضية. استطاع شعبنا معرفة شتّى صنوف المؤامرات، ومواجهتها. وسيحصل هذا الشيء اليوم أيضًا. علينا تقوية أنفسنا من الداخل، تقوية أنفسنا علميًّا، واقتصاديّا، وإبداعيًّا، وتقنيًّا وفوق هذا كلّه، تقوية إيماننا. أقول لكم: لن يكون بعيدًا اليوم الذي يستطيع فيه شباب اليوم، بتوفيق من الله، تولّي أمور البلاد، وسيصل بلدنا وشعبنا في المستقبل غير البعيد، بلا شكّ، إلى المرحلة التي لن يفكّر فيها أيّ عدوّ

 

 

130


107

خطاب الولي 2009

بالهجوم عليه، لا الهجوم العسكريّ ولا الهجوم السياسيّ، ولا الهجوم الاقتصاديّ. ما لدينا اليوم، إنّما هو بفضل جهاد السنوات الطويلة -حيث أبدى شبابنا الأعزّاء هذا الجهاد- وببركة دماء الشهداء الأبرار.

 

نرجو أن يوفقنا الله -تعالى- لحماية هذه الأمانة الكبرى، وأن نضاعف ما استطعنا من كنـز الشعب الإيرانيّ العظيم.

اللهمّ، احشر أرواح الشهداء الأبرار الطيّبة مع الروح الطاهرة للرسول الأعظم. اللهمّ، اجعلنا من السائرين الحقيقيّين على درب الشهداء.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

131

 

 

 

 

 


108

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء علماء الدين وطلّاب الحوزات الشيعة والسنّة بكردستان

 

 

 

المناسبة:   زيارة محافظة كردستان

الحضور:  لفيفٌ من العلماء ورجال الدين وطلبة العلوم الدينيّة في منطقة كردستان

المكان:   المسجد الجامع في سنندج

 

الزمان:    23/02/1388هـ.ش.

18/05/1430هـ.ق.

13/05/2009م.

 

 

133

 

 


109

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين.

 

لهذا الاجتماع خصوصيّات استثنائيّة وفريدة، حيث اجتمع هنا العلماء المحترمون، وأئمّة الجمعة والخطباء، وطلبة العلوم الدينيّة من الشيعة والسنّة. وقد حضر الاجتماع أيضًا، الأخوات طالبات العلوم الدينيّة من السنّة والشيعة. وكما قيل لنا، فإنّ عائلات الشهداء من رجال الدين في كردستان، حاضرة في الاجتماع أيضًا. فالمعنويّة، والعلم، والروحانيّة، والشهادة، والوحدة تتجلّى كلّها في هذا الاجتماع النيّر، وهذا شيء بارز ومميّز. عَلَيَّ أنا، وعليكم أنتم أيضًا، معرفة قدرَ هذا الاجتماع، وقدرَ هذا التعاطف والألفة والمواكبة (التعاون) والودّ، إذ تقع على عواتقنا جميعًا مسؤوليّات جسيمة. المسؤوليّة مسؤوليّة كبيرة على كلّ واحد من أبناء الشعب الإيرانيّ في هذه الفترة، خصوصًا حمَلَة العلم والوعي والدين والشريعة.

 

وظيفة علماء الدين مسؤوليّة خطيرة

أوّل ما يخطر على بالي الحديث به في هذا الاجتماع النيّر والمعنويّ، هو ما أشرتُ إليه الآن، من جسامة المسؤوليّة. علماء الدين في الإسلام هم روّاد الإصلاح والرقيّ والتقدُّم. وقد أُلقِيَت هذه المسؤوليّة على عاتق علماء الدين. ما قاله الإمام عليّ عليه السلام، وورد في نهج البلاغة: "ومَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ، أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ"[1]، معناه أنّه لا يمكن لعالم الدين اتّخاذ جانب الصمت والحياد حيال الظلم والإجحاف واعتداء الناس بعضهم على بعض. لا معنى للحياد


 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص50.

 

 

134


110

خطاب الولي 2009

هنا. القضيّة لا تتلخّص بأن نعرض على الناس حكم الشريعة والمسائل الدينيّة، مهمّة العلماء مهمّة الأنبياء: "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاء"[1]. لم تكن مَهَمّة الأنبياء مجرّد عرض المسائل، فلو اكتفى الأنبياء بهذا الجانب، واكتفوا ببيان الحلال والحرام للناس، لَما كانت ثمّة مشكلة، ولَما عارضهم أحد. في هذه الآيات الشريفة التي تلاها المقرئ المحترم، بصوته الحسن وتجويده الرائق: ﴿ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ﴾[2]، لنا أن نتساءل: أيّ تبليغ هذا الذي تندرج فيه خشية الناس، وعلى الإنسان أن لا يخشاهم حينما يبلّغ؟ لو كانت القضيّة تقتصر على بيان جملة أحكام شرعيّة، لَما كان هناك سبب للخوف، بحيث يثني الله -تعالى- على الذين لا يخشون الناس ولا يخشون أحدًا إلّا الله. ما هو سبب التجارب الصعبة التي عاناها الأنبياء الإلهيّون طوال أعمارهم المباركة؟ وما الهدف منها؟ ﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ﴾[3]. ما هي الرسالة التي ينبغي القتال من أجلها، ويجب تعبئة جنود الله من أجلها، والتقدُّم (التحرّك) بهم؟ هل كانت مجرّد ذكر بضع عبارات في الحلال والحرام وبعض المسائل؟ لقد ثار الأنبياء لإقامة الحقّ والعدل، ومقارعة الظلم والفساد، وتحطيم الطواغيت. ليس الطاغوت ذلك الوثن الذي يعلّقونه على الجدران، أو يضعونه في الكعبة أيّام الجاهلية، ذلك الوثن ليس بشيء حتّى يطغى. إنّما الطاغوت هو ذلك الإنسان الطاغي الذي يفرض صنم وجوده على الناس، استنادًا إلى ذلك الصنم المعلَّق على الجدران. الطاغوت هو فرعون، ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ﴾[4]، هذا هو الطاغوت. نهض الأنبياء لمحاربة هؤلاء، ومقارعتهم، ووضعوا أرواحهم على الأكفّ، ولم يقعدوا ساكتين عن الظلم والعسف وتضليل الناس. هؤلاء هم الأنبياء، و"الْعُلَمَاء وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاء". إذا كنّا نرتدي ثياب علماء الدين - سواء كنّا


 


[1] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1407ه‏، ط4، ج1، ص32.

[2] سورة الأحزاب، الآية 39.

[3] سورة آل عمران، الآية 146.

[4] سورة القصص، الآية 4.

 

 

135


111

خطاب الولي 2009

رجالًا أم نساء، سنّةً أم الشيعة - فنحن في الواقع، نطلق ادّعاءً كبيرًا، ونقول: إنّنا ورثة الأنبياء! ما هي وراثة الأنبياء هذه؟ إنّها مقارعة كلّ تلك الأمور التي يُعَدّ الطاغوت مظهرها: مقارعة الشرك، والكفر، والإلحاد، والفسق، والفتنة. هذا هو واجبنا. ليس بوسعنا القعود والسكون، والاقتناع بأنّنا عرضنا على الناس بضع مسائل. التكليف لا يرتفع بهذه الأمور. هذه هي الخطوة الأولى.

 

خصوصيّات هذا العصر

لكلّ مرحلة (عصر) مقتضياتها. فذات يوم، كنّا نؤلّف الكتب، ونسوق الأدلّة، ونتحدّث من أجل الدفاع عن الهويّة القرآنيّة للإسلام، وكان (يصغي لنا) هناك عدد من المستمعين والمريدين والراغبين، وكانت أمورنا تسير على هذا النحو، وكان الطاغوت حاكمًا، ولا يسمح بالتحرّك أكثر من هذا المقدار. بعضنا ممّن كان أكثر حذاقة، أبدى تحرّكات أوسع، وبعضنا اكتفى بهذا المقدار القليل، ولكن ماذا عن وضع اليوم؟ توجد اليوم خصوصيّتان تجعلان الأعباء على كواهلنا -أنا وأنتم- ثقيلة.

 

1. تطوُّر أساليب الفكر

الخصوصيّة الأولى هي تطوُّر أساليب نقل الأفكار. لاحِظوا لأيّ أهداف يُستَخدَم التلفاز والإذاعات والأجهزة الإلكترونيّة والإنترنت وسائر وسائل الاتّصالات في العالم اليوم. لا يكتفي الاستكبار اليوم بأن يشهر سيفه. هو يشهر سيفَه طبعًا، لكنّه يستخدم إلى جانب ذلك، عشرات الأساليب الأخرى، من أجل أن يفرض ذلك الفكر الخاطئ، والطريق الخاطئ، والمناهج الظالمة الطاغية، على الشعوب. لقد ثَبُتَ اليوم، وفقًا للمعلومات الأكيدة، أنّ مؤسّسة هوليوود الكبرى[1] والشركات السينمائيّة الكبيرة،


 


[1] هوليوود هي منطقة في مقاطعة لوس أنجلوس، في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، تقع بين الغرب والشمال الغربّي لمركز مدينة لوس أنجلوس. سبب شهرتها وجود استوديوهات السينما والنجوم العالميّين فيها. تُعَدّ المركز التاريخيّ للسينما الأمريكيّة والممثّلين الأمريكيّين. تُستَخدَم كلمة "هوليوود" غالبًا، كناية للسينما في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. تشترك سياسات العمل في هذه المؤسّسة، كثيرًا، مع سياسات الحكومة الأمريكيّة، خاصّة لجهة دعم الهيمنة وإبراز القوّة والفرادة والتفوّق الأمريكيّ في مختلف الميادين، والمساهمة في نشر الثقافة الأمريكيّة، وتثبيت دعاية التفوُّق العالميّ لهذه الدولة. وقد ثبت عبر الإحصاءات والأبحاث، بل والواقع المعاش، أنّ لهذه المؤسّسة الأثر الأقوى في الرأي العامّ الثقافي والاجتماعيّ والسياسيّ.

 

 

136


112

خطاب الولي 2009

مواكبة ومتعاونة على الدوام مع السياسات الاستكباريّة الأمريكيّة. هذه المؤسّسة السينمائيّة الكبرى، التي تحتوي في داخلها على عشرات الشركات السينمائيّة الكبيرة، بما فيها من فنّانين ومخرجين وممثّلين وكتّاب مسرحيّات وسيناريوات سينمائيّة ومستثمرين، إنّما تعمل لخدمة أهداف معيّنة، وهي الأهداف السياسة الاستكباريّة ذاتها التي تحرّك الحكومة الأمريكيّة. هذه ليست بالمسألة الصغيرة.

 

تواجهون مشكلات (عوائق) كبيرة، من أجل أن تدلّوا الناس على الإسلام والدين والحقيقة والصراط المستقيم، وتجعلوهم يسيرون على هذا الصراط.

 

علينا أن نكيّف أنفسنا مع الزمن. فالشبهات ليست من قبيل شبهات ما قبل مئة سنة ومئتَي سنة. الشبهات التي يُلقونها في أذهان شبابكم وطلبتكم الجامعيّين، وحتّى طلبة مدارسكم، هي شبهات عصريّة[1]. مَن الذي يجب أن يقف بوجه ذلك، غير علماء الدين وحماة حدود العقيدة؟ مَن الذي ينبغي أن يقف أمام هذه السهام المسمومة؟ هذه هي النقطة الثانية.

 

2. وجود حكومة قرآنيّة

الخصوصيّة الأخرى في عصرنا هذا، هي وجود حكومة قرآنيّة. توجد اليوم مثل هذه الحكومة. ولم تكن موجودةً بالأمس، لكنّها اليوم قائمةٌ. لا توجد لدينا طوال تاريخ الإسلام -ومنذ صدر الإسلام، وإلى اليوم، ومنذ أن تحوّلَت الخلافة في العالم الإسلاميّ إلى مُلك (وراثة)، وإلى اليوم- أيّ حكومة حكمَت على أساس الشريعة. حتّى الخلافة العثمانيّة التي كانت تُسَمّى خلافة -وكان الكثير من المسلمين قد عقدوا الآمال والقلوب على الجهاز العثمانيّ، لأنّه حمل عنوان الخلافة- لم تكن أكثر من جهازٍ ملكيّ، أي إنّ الحكم هناك، لم يكن على أساس الدين، ولا على أساس الشريعة. لم تكن لدينا حكومة دينيّة. أمّا اليوم، فلدينا مثل هذه الحكومة.

 

إنّني لا أدّعي أنّ هذه الحكومة الدينيّة حكومة قرآنيّة كاملة[2]، أبدًا. أنا أوّل ناقد (منتقد) للحكومة. إنّنا نسير في تطبيق الشريعة الإسلاميّة، وفقًا للحدّ الأدنى. بَيْدَ أنّ


 


[1] عبّر حرفيًّا: هي شبهات من جنس هذا العصر.

[2] المقصود هنا حكومة قرآنيّة بالتمام والكمال.

 

137


113

خطاب الولي 2009

الاتّجاهَ اتّجاهٌ صحيح، ونروم التحرُّك والتقدُّم صوب الحدّ الأعلى. هذه الحكومة حكومة دينيّة رسميًّا وقانونيًّا، وبحسب الدستور، وإنّ أيّ خطوة أو قانون بخلاف الشريعة الإسلاميّة، فهو مردود. هذه الحكومة حكومة تقوم على أساس الدين، وهي ظاهرة مهمّة للغاية. معناها أنّ الجهاز السياسيّ في البلاد، يسمح لأهل الدين، بل ويريد منهم التحرُّك على سبيل إشاعة الشريعة. إذا لم يكن مسؤولو النظام متطابقين مع المعايير الدينيّة، فسوف يفقدون شرعيّتهم، بمقتضى القانون. هذا شيء بديع وجديد، لم يكن لنا في الماضي، ويجب استثمار هذه الفرصة. إذًا، هذه هي الخصوصيّة الثانية للوضع الحاليّ. يمكن توظيف هذه الخصوصيّة إلى أقصى درجة، من أجل إشاعة حقائق الإسلام ومعارفه وشريعته في هذا العالم المبتلى بالمادّيّات.

 

مقولة سيّد قطب: وجود حكومة إسلاميّة

للمرحوم سيّد قطب[1] كلامٌ وَرَدَ في بعض كتاباته، وقد قرأتُه قبل أربعين سنة أو أكثر، وهو في ذهني دائمًا. يقول: بدل أن يكتبَ أنصار الإسلام ودُعاته -وهذا مضمون كلامه، ولا أتذكّر التفاصيل لتباعد الزمن- كلّ هذه الكتب، وبدل أن يجترحوا كلّ هذا الإعلام والخطابات، وبدل إدارتهم لكلّ هذه المساجد، لو يقومون بشيءٍ واحدٍ لإشاعة الإسلام، لكان تأثير ذلك الشيء أكبر من كلّ هذا الذي يفعلونه، وهو أن يشكّلوا في زاوية نائية من العالم، حكومةً إسلاميّة -أظنّ أنّه قال في جزيرة بعيدة-. وإنّ مجرّد تشكيل حكومة إسلاميّة في ناحية من هذا العالم الكبير، له من التأثير ما يفوق آلاف الكتب، وآلاف المحاضرات، وآلاف الأفكار الدقيقة الرامية إلى نشر الدين.

 

لقد اختبرنا هذا الشيء وجرّبناه. حينما تأسَّس النظام الإسلاميّ، وحينما صدر هتاف الإسلام من حنجرة ذلك الرجل الكبير الشجاع الفذّ -أي إمامنا الجليل الذي لا


 


[1] سيّد قطب إبراهيم حسين الشاذليّ (9/10/1906م - 29/08/1966م): كاتب وأديب ومنظِّر إسلاميّ مصريّ، وعضو سابق في مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، ورئيس سابق لقسم نشر الدعوة في الجماعة، ورئيس تحرير جريدة الإخوان المسلمين. مرّ سيّد قطب بمراحل عديدة في حياته، من حيث الطفولة، ثمّ أدب بحت في مدرسة العقّاد، ثمّ ضياع فكريّ، ثمّ توجّه للأدب الإسلاميّ، إلى أن صار رائد الفكر الحركيّ الإسلاميّ. يُعتَبر سيّد قطب من أكثر الشخصيّات تأثيرًا في الحركات الإسلاميّة، التي وُجِدَت في بداية الخمسينيّات من القرن الماضي، له العديد من المؤلّفات والكتابات حول الحضارة الإسلاميّة.

 

138


114

خطاب الولي 2009

يسعنا مقارنته بأيٍّ من هذه الشخصيّات الإسلاميّة المُصلحة في تاريخنا، حيث إنّني على معرفة بحياة المصلحين الكبار وسيرهم، نظير السيّد جمال الدين[1] وسواه، ولا يمكن مقارنة ذلك الرجل الكبير، أي إمامنا العزيز، الذي وفَّقَنا الله لإدراك عصره، بأيٍّ من هذه الشخصيّات، حيث تحدّث عن الإسلام بتلك الشجاعة والصراحة والشعور بالعزّة - توجّهَت قلوب كلّ المسلمين، فجأةً، نحو الإسلام. عندما تقصدون أيّ جامعة من جامعات البلدان الإسلاميّة اليوم، تلاحظون حبَّ الإسلام والميل إليه، بين الطلبة الجامعيّين، والشريحة الشابّة المتعلّمة، أولئك نفسهم الذين كان الشيوعيّون يستقطبونهم بسهولة، وتجتذبهم التيّارات الملحدة على اختلاف أنواعها. لقد بلغَت تلك الميول والاستقطابات اليوم، أدنى مستوياتها، وأصبح التوجُّه (التطلّع) إلى الإسلام. حينما ترون كلّ هذه الأعمال التي تقوم بها الحكومات الرجعيّة التابعة الأسيرة الذليلة، في المنطقة، ضدّ الثورة، فهذا هو السبب. إنّهم يخافون. يرون التوجّهات (والميول) والحبّ والغبطة التي يكنّها شبابهم خصوصًا، وشعوبهم، نحو هذه الثورة، وهذا النظام، وهذه الراية الإسلاميّة المرفوعة الخفّاقة هنا، يرون هذا، وينتابهم الخوف، فينشطون ضدّنا. في نهاية الأمر، أعمالهم متنوّعة. ولو أردنا إحصاء ما يقوم به السلاطين والرؤساء الظلمة المتسلّطون على البلدان الإسلاميّة، من أنواع النشاط المعادي للثورة الإسلاميّة، والعداء الذي يقومون به، وعدم الإنصاف، لكانت لدينا قائمة طويلة. وقد تعلمون الكثير من هذه الأنشطة. هذا هو السبب، السبب هو تأثير الثورة الإسلاميّة. لو لم يكن للثورة الإسلاميّة هذا التأثير العجيب العميق المستمرّ والجذريّ، لَما حاربوا الثورة الإسلاميّة إلى هذه الدرجة، خصوصًا أنّ اسمهم مسلمون.

 

السنّة محبّون لأهل البيت عليهم السلام

أعزّائي، إنّ قضيّة النـزاع بين الشيعة والسنّة، التي تلاحظون أنّها اشتدَّت خلال فترة معيّنة بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، ناجمة عن هذا الواقع. فأثناء فترة الحكم الإسلاميّ، لاحظنا فجأة، تسارُع وتيرة النـزاع بين الشيعة والسنّة في إيران، وفي العراق،

 

 


[1] جمال الدين الأفغانيّ: أحد الأعلام البارزين في النهضة المصريّة، ومن أعلام الفكر الإسلاميّ في التجديد.

 

139


115

خطاب الولي 2009

وفي بلدان أخرى. يُلقون القبض الآن، على بعض الأفراد في بعض البلدان، بتهمة أنّهم يدعون إلى التشيُّع! هذا كلام فارغ وخاطئ وكاذب. خصوصًا في بلدانٍ شعوبها محبّة لأهل البيت عليهم السلام. فهؤلاء هم من السنّة، لكنّهم سُنّة محبّون لأهل البيت، يعشقون أهل البيت، هذا ما رأيناه ونراه.

 

بلغ الأمر درجة أنّ الكثير من العرب الذين كانوا يستمعون إذاعات إيران في بدايات الثورة، بدافع الرغبة والمحبّة، قد تعلّموا اللغة الفارسيّة. التقى بي كثير من الأشخاص في السنوات الأولى للثورة، وقالوا لي: إنّنا تعلّمنا الفارسيّة، بسبب حبّنا للثورة. بقينا نستمع للإذاعة الفارسيّة التي لا نعلم ماذا تقول، إلى أن تعلّمنا الفارسيّة تدريجيًّا. كانوا يتكلّمون بالفارسيّة بعد أن تعلّموها، هذا هو نفوذ الثورة. صحيح ما قاله سيّد قطب: إنّ تأثير هذا الشيء - أي النظام الذي تأسَّسَ على ركائز الإسلام - أفضل (وأكبر) من آلاف الكتب.

 

النظام الإسلاميّ غرسةٌ متجذّرة

لو كان باستطاعتهم دفن هذا النظام في السنوات الأولى، لكانت خسارة للإسلام، ولقالوا: انظروا كيف لم يستطع الإسلام الاستمرار. فجَّرَ الإسلام ثورةً، وأسَّس نظامًا، ولم يستطع الاستمرار لأكثر من سنتَين، أو لأكثر من خمسة أعوام. ولو بقي النظام الإسلاميّ، لكنّه لم يتقدّم ويتطوّر، لَعادَ ذلك بالضرر على الإسلام أيضًا، ولقالوا: نعم، تأسَّس نظام إسلاميّ، وعاد بالناس إلى عهد ما قبل التاريخ، حيث تركهم بلا علم، ولا تقدُّم، ولا تقنيّة. لكنّ الثورة الإسلاميّة بقيَت، وتجذّرَت، وتقدّمَت علميًّا بنحوٍ حيَّرَ العقول، وقدّمَت جيلًا شابًّا نخبويًّا واعيًا. حين تسمعون أنّ إيران هي البلد الثامن في العالم في الخلايا الجذعيّة[1]، فهذا كلام كبير جدًّا! إيران التي حرموها من كلّ إمكانات التقدُّم.


 


[1] الخلايا الجذعيّة عبارة عن تجمًّعات خلويّة تُشتَقّ من النسيج الأصيليّ الخارجيّ epiblast tissue، من كتلة الخلايا الداخليّة inner cell mass للكيسة الأروميّة. الكيسة الأرومية تكون عادة مرحلة مبكرة من التطوُّر الجنينيّ، بعمر حوالي 4-5 أيّام في الإنسان، وتتألّف من 50-150 خليّة.

تُعتَبر الخلايا الجذعيّة الجنينيّة، بسبب قدرتها الانقساميّة اللامحدودة وتعدُّد خياراتها، مصدرًا كامنًا للعديد من الأفكار في مجال الطبّ واستبدال الأعضاء بعد أذيّتها أو مرضها.

 

140


116

خطاب الولي 2009

حينما استلم النظام الإسلاميّ هذا البلد، لم تكن البنى التحتيَّة تلائم كلّ هذا التقدُّم العلميّ على الإطلاق. حينما يقولون: إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة، بإطلاقها قمرًا صناعيًّا إلى الفضاء[1] - أذهل منافسي الجمهوريّة الإسلاميّة وأعداءها - كانت البلد العاشر أو التاسع الذي يفعل ذلك، فهذا كلامٌ كبيرٌ جدًّا! إيران؟! مَن الذي فعل هذا؟ (إنّه) النظام الإسلاميّ. مَن الذي تقدّم بالعلم هكذا؟ من الذي أطلق النهضة العلميّة في البلاد؟ مَن الذي وظّف الذكاء الإيرانيّ الذاتيّ لخدمة الإبداع والابتكارات؟ إنَّه النظام الإسلاميّ. إذًا، فقد أَثبتَ النظام الإسلاميّ قدرتَه على البقاء، وأَثبَتَ أيضًا، قدراته على التقدُّم بالشعب إلى الأمام.

 

تقدُّم إيران واشتداد العداوات

وعندما يصبح هذا الأمر، مبعثَ افتخار واعتزاز لكلّ مسلم في أيّ نقطة من العالم، تبدأ العداوات حينها، وتشتدّ. إذا لمستم شخصًا في الشارع، لمسةً خفيفة، فأقصى ما سيفعل هو أن ينظر إليكم بغضب، ويكمل طريقه. لكن إذا ما لكمتموه، فسيعود ويُسمعكم كلامًا شديدًا. وأمّا إذا وجّهتم له ضربة شديدة، فسيمسك بتلابيبكم، ولن يترككم وشأنكم. وحين ترون أنّهم يأخذون بتلابيب الجمهوريّة الإسلاميّة والنظام الإسلاميّ، ولا يتركونه وشأنه، فهذا دليل على أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة قد وجَّهَت ضربة قويّة إلى جسد الاستكبار، وكانت ضربة محكمة وموجعة. ليس عدوّنا زمرة صغيرة أو أربعة أشخاص صغار أو كبار. ليس عدوّنا الحكومة الإقليميّة الفلانيّة العاجزة، والتي ليس لها قواعد شعبيّة حتّى بين أبناء شعبها. إنّ عدوّنا هو أجهزة الاستكبار الضخمة، التي يُعَدّ الرأسماليّون الصهاينة، وأصحاب الشركات والكارتلات العملاقة في العالم، أهمّ وأبرز من يتّخذون القرارات فيها. هؤلاء هم الواقفون في وجه النظام الإسلاميّ، وهُم طبعًا، يستخدمون كلّ الأساليب والأدوات. لقد تلقّوا ضربةً، لذلك ترونهم يستخدمون كلّ الإمكانات والوسائل، (ابتداءً) من بثّ روح الانهزام والتشكيك في العقائد الإسلاميّة، ودفع الشباب نحو المخدّرات والأفيون والفساد، واستغلال غفلة بعض المؤسّسات لتوجيه ضربة إلى الشباب (وتحطيم حصانتهم)، إلى تأجيج الخلافات


 


[1] القمر ناهيد.

 

141


117

خطاب الولي 2009

الطائفيّة والنزاع بين الشيعة والسنّة، إلى تحريض الزمرة الفلانيّة، وإلى النفوذ -لو أمكنهم ذلك- في المسؤولين ذوي المستوى الرفيع، (الصفّ الأوّل) أو مَن هم دونهم في الجمهوريّة الإسلاميّة. إنّهم يبذلون جهودًا متعدّدة الأشكال والأنواع. وعلى الرغم من هذه المساعي كلّها، فإنّ المؤمنين صامدون: "كَالْجَبَلِ الرَّاسِخِ، لَا تُحَرِّكُهُ الْعَوَاصِف"[1]. ليس بوسع هذه الأعاصير هزّ الجمهوريّة الإسلاميّة.

 

يدُ القدرة الإلهيّة مع النظام

حينما ننظر إلى قلوبنا، وإلى قلوب (أفراد) شعبنا، نشاهد الرحمة الإلهيّة. عندما نلاحظ أنّ عزمنا راسخ، وأنّ تحريض العدوّ لا ينفع معنا، ولا يخيفنا عبوسه، ولا تخدعنا وعوده، ندرك أنّ هذه رحمة إلهيّة، وأنّ الله -تعالى- وراء كلّ هذه العوامل الظاهريّة والمادّيّة. يد القدرة الإلهيّة وراء هذا النظام، وهي التي تتقدّم به إلى الأمام، وتهديه. "اللَّهُمَّ، إِنَّمَا يَكْتَفِي الْمُكْتَفُونَ بِفَضْلِ قُوَّتِك‏"[2]. في الصحيفة السجّاديّة -وأوصيكم جميعًا بالإكثار من قراءة الصحيفة السجّاديّة، والاستئناس بأدعية الإمام السجّاد (سلام الله عليه)- ورد أنّ كلّ من لهم قوّة وقدرة في الدنيا، وكلّ المكتفين بذاتهم، إنّما هم ضيوف مائدة قدرتك، وهم في قبضة قدرتك: "فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْفِنَا. وَإِنَّمَا يُعْطِي الْمُعْطُونَ مِنْ فَضْلِ جِدَتِكَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَعْطِنَا. وَإِنَّمَا يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ بِنُورِ وَجْهِكَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاهْدِنَا"[3]. فالاعتماد على الله، والاكتفاء بالكفاية الإلهيّة، والوثوق والاستظهار بالرحمة والهداية الإلهيّة، لا يترك الإنسان فريسةً لليأس. وحينما أنظر إلى جماهير شعبنا، أرى مثل هذا -سواءً كانوا في كردستان، وإنْ كانوا سنّةً، أو بلوشًا، أو شيعةً، أو كانوا في أصفهان، أو شيراز- يرى الإنسان آيات الرحمة الإلهيّة واضحةً في أعماق قلوبهم. لقد ربط الله -تعالى- على القلوب، وأتمَّ الحجّة علينا، بتوفيره هذه الإمكانيّات، وهذه الأرضيّة، فتحرّكوا، وسيروا إلى الأمام.


 


[1] راجع: الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص455.

[2] الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام، الصحيفة السجّاديّة، نشر الهادي، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص46.

[3] المصدر نفسه.

 

142


118

خطاب الولي 2009

وظيفة عالم الدين العلم بالزمان

على عالم الدين في هذا الزمن، توظيف هذه الإمكانيّة، والانتفاع منها إلى أقصى درجة، ولا بدّ له من تعرُّف الأفكار الجديدة، والاطّلاع على طرق الأعداء وأساليبه، وأن يكون عالِمًا بزمانه، "الْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِس‏"[1]، كجبهة الحرب تمامًا. قد يكون الكثيرون من الحاضرين في هذا الاجتماع، ممّن شهدوا جبهات القتال - لم يشهد الشباب تلك الأيّام طبعًا -. ففي جبهات القتال، تتساقط القذائف وزخّات الرصاص، وتأتي صنوف النيران من كلّ حدب وصوب، وتمرُّ فوق رأس الإنسان، بحيث يضِلّ اتّجاهه أحيانًا، ولا يدري هل هذا الرصاص وهذه القذائف تُطلق من قِبَل العدوّ، أم أنّ الصديق هو الذي يدكّ مواقع العدوّ؟ هذا خطرٌ كبيرٌ جدًّا. الخطر الأكبر للمقاتل، هو أن يضلّ اتّجاهه، ولا يعلم أين العدوّ وأين الصديق. إذا لم يعلم أين العدوّ وأين الصديق، فقد يفتح النار على الصديق، ظنًّا منه أنّه يطلق النيران على العدوّ. هذه حال خطرة جدًّا. بعضٌ منّا يطلق النار على الأصدقاء، ويتوهّم أنّه يطلق النيران على العدوّ. بعضٌ منّا يغفل عن أنّ بثّ الخلافات الطائفيّة مخطَّطٌ يريده العدوّ، ليُشغل بعضنا ببعض. نغفل، فتصبح ذروة همّة الشيعيّ ضرب السنّيّ، وكلّ همّة السنّيّ ضرب الشيعيّ. هذا شيء مؤسف جدًّا، وهو ما يريده العدوّ.

 

إيران ودعم فلسطين الدائم المستمرّ

أضربُ مثالًا من قضيّة "دعم فلسطين"، حيث لم يبلغ أيّ بلد، ولا أيّ حكومة، ما بلغته الجمهوريّة الإسلاميّة في دعم فلسطين. وهذا ما يعترف به العالم كلّه. ووصلَت الأمور إلى درجة أنّ بعض البلدان العربيّة امتعضت جدًّا، وقالت: إنّ إيران تبذل كلّ هذه الجهود هنا، من أجل مصالحها وأهدافها. طبعًا، لم يبالِ الفلسطينيّون بهذا الكلام. ومن ذلك، ما حدث في قضيّة غزّة - في حرب الـ 22 يومًا التي وقعَت قبل أشهر - حيث عملت الجمهوريّة الإسلاميّة بمستوياتها كافّة: من القيادة، ورئاسة الجمهوريّة، والمسؤولين، والمديرين، والجماهير، والتظاهرات، والأموال، والمساعدات، والحرس

 


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص27.

 

143


119

خطاب الولي 2009

الثوريّ، وغير ذلك، عمل الجميع لخدمة الإخوة الفلسطينيّين المظلومين المسلمين، وفي ذروة هذا الوضع، شاهدنا فجأةً، أنّ فايروسًا ينتشر ويتكاثر، حيث يتردّد (مجموعة أو بعض الأفراد) باستمرار إلى بعض العلماء والمحترمين والمبرّزين، ويقولون لهم: مَن هؤلاء الذين تساعدونهم؟ أهالي غزّة من النواصب، والنواصب هم أعداء أهل البيت! وصدّق بعضهم ذلك. ورأينا بعض الرسائل والردود تقول: إنّ هؤلاء نواصب. قلنا: العياذ بالله، لعنة الله على الشيطان الرجيم الخبيث. في غزّة، هناك مسجد الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ومسجد الإمام الحسين، كيف يمكن أن يكونوا نواصب؟ نعم، هم سُنّة، لكنّهم ليسوا نواصب. فهؤلاء (المغرضين) هكذا تحدّثوا وعملوا وبادروا.

 

تأجيج الخلاف المذهبيّ دأبُ المغرضين والجهلة

وهناك في الاتّجاه المقابل أيضًا، تذهب جماعة إلى قمّ، يفتّشون بين طيّات الكتب الشيعيّة، ليجدوا أين أُهِينَت مقدّسات أهل السنّة، يصوّرونها ويوزّعونها في المحافل السنّيّة، ويقولون: هذه كتب الشيعة. أو يجدوا خطيبًا جاهلًا غافلًا، أو مغرضًا يُسيء إلى مقدّسات أهل السنّة على المنبر، فيسجّلون كلامه على شريط، أو على قرص مضغوط، ويوزّعونه هنا وهناك، ويقولون: انظروا، هؤلاء هم الشيعة! يشوّهون هذا عند ذاك، وذاك عند هذا[1]. فما معنى هذه المساعي؟ ما معنى ﴿وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ﴾[2]؟ هذا هو معناها في النهاية. حينما يشيع الخلاف والتفرقة وسوء الظنّ فيما بيننا، وحينما يعتبر بعضُنا بعضًا خونة، فمن الطبيعيّ أنّنا لن نتعاون. وحتّى لو تعاوَنَّا، فلن نكون أودّاء بعضنا مع بعض. وهذا ما يريده الأعداء.

 

أهل البيت عليهم السلام لجميع المسلمين

على علماء الشيعة، وعلى علماء السنّة، أن يفهموا هذا ويدركوه. من البديهيّ أن يكون لدى المذهبَين اختلافات في بعض الأصول وبعض الفروع، وهما متوافقان في الكثير من الأصول والفروع الأخرى. والاختلاف لا يعني العداء. تختلف فتاوى الفقهاء


 


[1] يشوّهون السنّة في نظر أهل الشيعة، ويشوّهون الشيعة في نظر أهل السنّة.

[2] سورة الأنفال، الآية 46.

 

144


120

خطاب الولي 2009

الشيعة بعضها عن بعض، أحيانًا، مئة وثمانين درجة. وتختلف فتاوى أئمّة أهل السنّة بعضها عن بعض، أحيانًا، اختلافًا كبيرًا. ولكن لا ضرورة حينما تختلف الفتاوى، لأنْ يلجأ الإنسان إلى السباب والإساءة إلى من يختلف معه. هذا مذهبه كذا، وذاك مذهبه كذا[1]. نعم، هكذا هم أهل السنّة، أي ينبغي أن لا يتصوّر أحدٌ أنّ أهل بيت النبيّ هم للشيعة فقط، كلّا، إنّهم لكلّ العالم الإسلاميّ. من ذا الذي يرفض فاطمة الزهراء عليها السلام؟ ومن هو الذي يرفض الحسنَين عليهما السلام سيّدَي شباب أهل الجنّة؟ من ذا الذي يرفض أئمّة الشيعة الأجلّاء؟ يعتبرهم بعضٌ أئمّةً واجِبي الطاعة، وبعضٌ لا يعتبرونهم كذلك، لكنّهم لا يرفضونهم. هذه حقائق يجب فهمها وتكريسها. بعضهم، طبعًا، لا يفهم هذا، وتستفزّه تحريضات الأعداء، وهو يحسب أنّه يحسن صنعًا. ﴿قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا﴾[2]. يتوهمّون أنّهم يفعلون خيرًا، وهم في غفلة عن أنّهم إنّما يعملون للأعداء. هذه خصوصيّة زماننا.

 

لقد طال بي الكلام، ولديّ الكثير ممّا أقوله لكم طبعًا. لديّ الكثير من الكلام مع العلماء، وخصوصًا مع الطلبة الشباب، إلّا أنّ المجال ضيّق. لو كان ثمّة مجال وفرصة أوسع، فهناك كلام أكثر يمكن أن يُقال. إجمالًا، اعلموا أنّ معاداة الإسلام، اليوم، هي أخطر من السابق، والسبب هو قيام حكومة الإسلام هنا. يشعرون بالخطر من سيادة الإسلام ورفع رايته في إيران. يجب أن تمسكوا هذه الراية بقوّة، وعلى الجميع معرفة قدر هذه السيادة (الحكومة). كلّ من يحبّ الإسلام، ويحبّ القرآن، عليه أن يعرف قدر هذه السيادة، هذا هو الهدف والاتّجاه العامّ.

 

جيل الشباب مستهدَف

ومن الناحية العمليّة، ينبغي التنبُّه إلى النقطة الأولى التي ذكرتُها، فقد مرَّ الزمن، وحصلت الكثير من التغييرات، وازدادت طرق النفوذ إلى أذهان الشباب. عليكم


 


[1] هنا، قرأ أحد الحضور هذَين البيتَين: آل النبـيّ ذريعتـي وهـم إليه وسيلتي

أرجو بهم أُعطى غدًا بيد اليمين صحيفتي

[2] سورة الكهف، الآيتان 103-104.

 

145


121

خطاب الولي 2009

بمعرفة هذه الطرق، والاهتمام، على نحوٍ خاصٍّ، بمواجهة الأعداء على صعيد أفكار الشباب ومشاعرهم. واعلموا أنّ النقطة الأولى التي يستهدفها العدوّ، هي النقطة الناشطة، التي يشكّل جيل الشباب أحد جوانبها، إذ الأمل منعقد على جيل الشباب، وهو الذي يصنع المستقبل. لذلك، يستهدفه الأعداء.

 

وطبعًا، إنّ من النقاط الحسّاسة الأخرى، علماء الدين، فالأعداء يستهدفون علماء الدين أيضًا، بأساليب وأشكال مختلفة. والشاهد على ذلك، الضغوط المشهودة، وقد أشار سماحة السيّد موسويّ[1] إلى الضغوط الشديدة التي فُرِضَت على علماء كردستان في السنين الأولى من الثورة، والشهداء الكثيرين الذين قدّموهم - سبعون شهيدًا - وقد وفّقنا الله بالأمس لزيارة أضرحة بعض هؤلاء الشهداء الأبرار في روضة الشهداء، وقرأنا لهم الفاتحة. نرجو أن يرفع الله درجات الشهداء أكثر فأكثر.

 

اللهمّ، اجعل ما قلناه وسمعناه لكَ، وفي سبيلك، وتقبّله منّا بكرمك. اللهمّ، بمحمّد وآل محمّد، أنزِل توفيقك ورحمتك وفضلك على شعب إيران، وعلى كلّ واحد من الحاضرين.

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 


 


[1] ممثّل الوليّ الفقيه في محافظة كردستان.

 

146


122

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في مراسم القوّات المسلّحة بمحافظة كردستان

 

 

         

المناسبة:   المراسم العسكريّة المشتركة للقوّات المسلّحة الإيرانيّة المتواجدة في محافظة كردستان

الحضور:  جمع من القوّات المسلّحة الإيرانيّة المتواجدة في محافظة كردستان

المكان:   معسكر الإمام عليّ عليه السلام في سنندج

 

الزمان:    23/02/1388هـ.ش.

18/05/1430هـ.ق.

13/05/2009م.

 

148


123

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أشكر الربَّ المتعالي على لقائي بهذه الجماعة الرشيدة، والمستعدّة للعمل، من القوّات المسلّحة في هذه الساحة - كمجموعة نموذجيّة - وفي هذا الإقليم المنجب للأبطال، والأرض المحفوفة بالجهاد.

 

كردستان والامتحان الكبير

تُعَدّ كردستان موطنًا (إقليمًا) استثنائيًّا في تاريخنا المعاصر، من حيث الإيثار والشهادة. فقد ركّز الأعداء على هذه المنطقة، بوجه خاصّ، بسياساتهم المؤذية ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، وحشدوا قوّاتهم، بأشكالها كافّة، إلى هذه الساحة. وقد خرج نظام الجمهوريّة الإسلاميّة المعتمِد على إيمان المؤمنين وغيرتهم، متألِّقًا ومرفوعَ الرأس، من امتحان كبير جدًّا على هذا الصعيد. لقد أَنجزَت القوّات المسلّحة -في الجيش، والحرس الثوريّ، والتعبئة، وقوّات الشرطة، والقوّات العسكريّة في أشكالها المختلفة- أعمالًا كبيرة وباهرة في هذه المحافظة. وقد أظهر أهالي كردستان الغيارى، الذين انضووا في شرطة الكرد المسلمين (البيشمركة) والتعبئة الشعبيّة، إيمانًا وحماسةً واندفاعًا في ساحات القتال، يُعَدُّ -دون شكّ- إحدى ذكريات ملاحم الشعب الإيرانيّ الكبرى. لقد أظهر أهالي هذه المنطقة قمّة إخلاصهم وتعاونهم مع القوّات المسلّحة، كما أثبتَت القوّات المسلّحة -الشباب المجتمعون من مختلف أنحاء البلاد- أنّها، في النظام الإسلاميّ، قوّةٌ هدفها الدفاع عن الجماهير، وعن أمنهم. هذه نقطة أساسيّة.

 

150


124

خطاب الولي 2009

الأمان فلسفة وجود القوّات المسلّحة

إذا كانت القوّات المسلّحة، في المجتمعات المختلفة، وعلى امتداد التاريخ، تتشكّل للدفاع عن السلطات وأرباب السلطة، فإنّها في النظام الإسلاميّ، في خدمة أمن الجماهير، ومكلَّفة بالحفاظ على الاستقرار، وبسط الأمن في الحياة العامّة للشعب. وإنّ فلسفة وجود القوّات المسلّحة، هي أن يشعر الشعب، في ظلّها، بالأمان. لقد برزَت هذه الوظيفة، بكلّ وضوح، لدى القوّات المسلّحة في الجمهوريّة الإسلاميّة -والحمد لله- منذ بداية انتصار الثورة الإسلاميّة. وإنّ ما قامت به القوّات المسلّحة في هذه المحافظة، وفي هذه المنطقة، وفي غرب البلاد، وفي مناطق أخرى من هذا القبيل، كان بلورةً حقيقيّةً وواقعيّةً لفلسفة وجود القوّات المسلّحة.

 

جاهزيّة القوّات المسلّحة

وكذا الحال اليوم أيضًا. أقول لكم بكلّ حزم: أيّها الإخوة الأعزّاء، والشباب الواعون الحاضرون في هذه الساحة -سواء تعبئة هذه المنطقة الباسلة، أو قوّات الجيش، أو قوّات الحرس، أو قوّات الشرطة- إنّ النظام الإسلاميّ يريد القوّات المسلّحة لخدمة أمن الشعب. وإنّ جهودكم كافّة، الرامية للتكامل العلميّ، والتدريبات العسكريّة من أجل رفع قدراتكم القتاليّة، وتأمين حضوركم السريع والفوريّ، إنّما هي حسنة، وخطوة ترضي الله، ويمكنكم أن تقصدوا بها القربة إلى الله. وهذه ميزة كبيرة جدًّا لشبابنا المضحّي، وقوّاتنا المسلّحة، وقادتها.

 

أعزّائي، لقد أَحبَط حضورُ القوّات المسلّحة، في أعوام الثورة الأولى، مؤامرات الأعداء الذين أرادوا إشعال نيران الفتنة، والاقتتال، وانعدام الأمن في هذه النواحي من البلاد. وهذه المنطقة اليوم، محروسة من كيد الأعداء، والحمد لله. وإنّ حضور القوّات المسلّحة حضور ذكيّ، واعٍ، مقتدر. لكنّني أؤكّد عليكم: يجب عدم الغفلة عن كيد الأعداء، لا في هذه المنطقة، ولا في أيّ منطقة أخرى من البلاد. وإنّ النظام الإسلاميّ، الذي يخوض معركته مع الاستكبار والظلم العالميّ، يتوقّع المؤامرات والضربات والاعتداءات، مِن قِبَل الأعداء، دائمًا، لذلك، لا بدّ له من أن يحافظ على جاهزيّته

 

151


125

خطاب الولي 2009

(استعداده). هذا أمرٌ قرآنيّ: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ﴾[1]. هذه الجاهزيّة واجب وطنيّ عامّ، لكنّه يقع بنحوٍ خاصٍّ، على عاتق القوّات المسلّحة. نحن نعلم ونرى -ولدينا معلومات دقيقة- أنّ أعداء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، وأعداء الشعب الإيرانيّ، يرغبون بالتآمر وتمهيد الأرضيّة لزعزعة الأمن، حتّى بالقرب من حدود نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، لذلك، يجب التحلّي بالوعي واليقظة.

 

مع الأسف، فإنّ خيوط الاغتيالات وعمليّات العنف اللاإنسانيّة، في الكثير من أنحاء هذه المنطقة، تنتهي إلى أيدي الأجهزة الاستخباريّة للمستكبرين. وإنّ محتلّي العراق هم المتَّهَمون الأوائل في العديد من العمليّات الإرهابيّة التي تستهدف أرواح الأبرياء، وإنّ الذين يتشدّقون بمواجهة الإرهاب، يديرون ويوجّهون أسوأ وأعمى الأساليب الإرهابيّة. وعلى نظام الجمهوريّة الإسلاميّة -فهو أحد الأهداف الرئيسة لهذه المؤامرات الخائنة- الحفاظ على يقظته وحذره، وهو يقظٌ بالفعل، وشعبنا يقظ. إنّ قوّاتنا المسلّحة ومسؤولي الجمهوريّة الإسلاميّة يشعرون بثقل هذه المسؤوليّة الكبرى، وهم على أتمّ الاستعداد، ويجب أن يكونوا كذلك.

 

لا بدّ أنّ أعداء الجمهوريّة الإسلاميّة قد أدركوا، بالتجربة، أنّ نظام هذه الجمهوريّة ليس ممّن يعتدي ويبدأ (المعركة) الصراع. طوال هذه الأعوام الثلاثين، لم يتعرّض جارٌ، ولا شعبٌ، ولا حكومةٌ، للتهديد مِن قِبَل الجمهوريّة الإسلاميّة. لكنّ هذا الشعب الكبير نفسه، وهذا النظام المقتدر نفسه، لا يتردّد، لحظةً واحدةً، في الردّ على تهديدات الآخرين. هذه الجاهزيّة مشهودة، ليس لدى القوّات المسلّحة وحسب، بل لدى كلّ أبناء الشعب -والحمد لله- بما لهم من روح حيويّة متوثّبة. عليكم، أيّها الأعزّاء، مضاعفة هذه الجاهزيّة باطّراد.

 

اعلموا أنّ الشعب يستطيع الدفاع عن كرامته وعزّته وكيانه، بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، حينما يكون مستقلًّا ومعتمدًا على نفسه، ومتكّئًا على قوّاته وإرادته، ومحافظًا دومًا على جاهزيّته بالتوكّل على الله -تعالى-.


 


[1] سورة الأنفال، الآية 60.

 

152


126

خطاب الولي 2009

سوف يزيد الشعب الإيرانيّ -وبتوفيق من الله- هذه الجاهزيّة، يومًا بعد يوم، ولا شكّ أنّ أعداء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة لن يجنوا أيّ شيء من تهديداتهم ومؤامراتهم وسوء نواياهم.

 

ربَّنا، اشمل هؤلاء الشباب المؤمنين والإخوة الأبطال المضحّين المخلصين، في كنف حمايتك ولطفك وفضلك ورحمتك.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

153

 


127

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء النخبة بمحافظة كردستان

 

 

         

المناسبة:   زيارة محافظة كردستان

الحضور:  المئات من النخب العلميّة، والأدبيّة، والفنّيّة، والثقافيّة، والرياضيّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، في محافظة كردستان

المكان:   مركز المحافظة - سنندج

 

الزمان:    24/02/1388هـ.ش.

19/05/1430هـ.ق.

14/05/2009م.

 

 

155

 


128

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إنّه لاجتماع محبَّبٌ وطيّب جدًّا لي. ومع أنّ الأصدقاء والإخوة ألقوا كلمات جيّدة وشافية ووافية، واستمعنا إليكم طوال أكثر من ساعتين، لكنّني لم أشعر بالتعب، وأنا على استعداد -وقد كنت مستعدًّا دومًا- لسماع آراء سائر الحاضرين في الاجتماع، وطروحاتهم. طبعًا، اقترب وقتُ الظهيرة، وسيحين موعد الأذان والصلاة، والمانع الوحيد هو هذا وحسب، وإلّا فأنا لم أتعب إطلاقًا. أقول هذا، لأنّ مقدِّم الاجتماع المحترم أشار في كلامه إلى أنّ فلانًا متعب. لا، أنا لا أشعر بالتعب أبدًا، وعلى استعداد للاستماع أكثر، لكنّ الوقت محدود، ولا يمكننا الاستمرار إلى ما بعد وقت الظهر.

 

ما قاله الأصدقاء والإخوة والأخوات، كان مفيدًا لي من زاويتَين:

الزاوية الأولى: هي هذه الكلمات نفسها التي تضمّنَت نقاطًا ولمحات، سواء كانت في حيّز الشؤون الثقافيّة، أو في مجال القضايا الاقتصاديّة، أو في الميادين المتنوّعة الأخرى. وسوف يُنتَفَع من هذه الآراء، إن شاء الله، ونتمنّى أن يُستَفاد بشكلٍ جيّد منها، في عمليّات صناعة القرار واتّخاذه في المستقبل.

 

الزاوية الثانية: هي أنّني استطعت الاطّلاع، عن كثب، على إمكانيّات الكوادر البشريّة اللامعة في هذه المحافظة، وقدراتهم، عبر عرض مصغَّر. هذا، مع أنّني على اطّلاع منذ وقت بعيد، على أعمال بعض النخبة الكرد.

 

ترجمة "القانون"[1] لابن سينا

وبمناسبة حضور السيّد أحمد قاضي، الذي عَلِمنا أنّه أخو المرحوم محمّد قاضي،


 


[1] القانون: هو كتاب في الطبّ، ألّفه ابن سينا، وبقي فترةً طويلة المرجع الأساسيّ لتدريس الطبّ في مختلف جامعات العالم. قال ابن سينا عن سبب تأليفه هذا الكتاب: "فقد التمس منّي بعضُ خُلَّص إخواني، ومَن يلزمني إسعافه، بما يسمح به وسعي، أن أصنّف في الطبّ كتابًا مشتملًا على قوانينه الكلّيّة والجزئيّة، اشتمالًا يجمع إلى الشرح والاختصار، وإلى إيفاء الأكثر حقّه من البيان الإيجاز، فأسعفته بذلك". والقانون في الطبّ أحد اشهر الكتب التي يستند إليها الطبّ الحديث.

 

 

157

 


129

خطاب الولي 2009

المترجم المعروف، أقول: إنّني قرأتُ أوّل ترجمة للمرحوم محمّد قاضي، قبل نحو أربعين عامًا أو يزيد، وأخال أنّها كانت ترجمة كتاب "المهاتما غاندي"[1]، بقلم رومان رولان[2]. فالكتاب كان كتابًا ممتازًا، وترجمة محمّد قاضي كانت، بحقّ، ترجمة رائعة وممتازة أيضًا. طبعًا، قرأتُ بعد سنوات، ترجمةً أخرى له، لعمل آخر مهمّ جدًّا من أعمال رومان رولان أيضًا، هو "الروح العاشقة"[3]، ظهرَت في ثلاثة أو أربعة مجلّدات -على ما أظنّ- وبنثرٍ جدّ فاخر ومرصّع ومزيّن بكلّ إتقان. طبعًا، أنا لا أستطيع إبداء رأي في درجة تطابق الترجمة مع الأصل، وعلى الذين يجيدون اللغة الأصليّة إبداء آرائهم في هذا الصدد، لكنّها كانت، من حيث اللغة والنثر، عملًا بارزًا بحقّ. إنّني على علم بأعمال المترجمين والكتّاب الإيرانيّين، وأحمل في ذهني، عمومًا، تقييمات لأعمالهم. وعلى هذا الأساس، أرى أنّ ترجمة المرحوم قاضي ترجمة مميّزة. وقد التقيتُه ذات مرّة، في أواخر فترة رئاستي للجمهوريّة، في شيراز، أثناء مهرجان حافظ الشيرازيّ، وكانت حنجرته مصابة، ويتكلّم بميكرفون، فتحدّثتُ معه قليلًا.

 

وكذلك نثر المرحوم عبد الرحمن شرف كندي (هجار)[4] ،الذي أشار إليه الأعزّاء. لقد أنجز عملًا كبيرًا جدًّا، والحقّ يُقال: إنّ ترجمة كتاب القانون لابن سينا، عملٌ معقّد ومركّب وقيّم جدًّا. منذ ألف عام، وُضِع هذا الكتاب باللغة العربيّة مِن قِبَل شخصيّة إيرانيّة، وكانت كبريات الجامعات العالميّة المتخصّصة في الطبّ، قد استفادَت منه، في القرون الماضية، لكنّه لم يُتَرجَم إلى الفارسيّة. أنا على علمٍ بأنّه إلى فترة قصيرة، أي إلى ما قبل مئة عام مثلًا، كان كتاب القانون مطروحًا في مدارس الطبّ في البلدان الأوروبّيّة،


 


[1]  المهاتما غاندي: كان السياسيّ البارز والزعيم الروحيّ للهند أثناء حركة استقلال الهند. كان رائدًا للساتياغراها، وهي مقاومة الاستبداد عبر العصيان المدنيّ الشامل، التي تأسَّسَت بقوّة عقب أهمسا أو اللاعنف الكامل، والتي أدَّت إلى استقلال الهند، وألهمَت الكثير من حركات الحقوق المدنيّة والحرّيّة في جميع أنحاء العالم.

[2] هو أديب فرنسيّ (1866 - 1944)، من قادة الفكر الحديث المدافعين عن السلام. حصل على جائزة نوبل في الأدب لسنة 1915م، "بمثابة تحيّة إلى المثاليّة النبيلة من إنتاجه الأدبيّ، وتعاطف ومحبة الحقيقة مع الذي وصفه أنواع مختلفة من البشر".

[3] ورد حديث لسماحته حوله في كتاب "أنا والكتاب"، الصادر عن دار المعارف الثقافيّة. وقد تحدّث سماحته عن قراءته لكتاب الروح الوالهة، أو العاشقة، وغيره من العناوين، وهو -أي أنا والكتاب- جدير بالقراءة.

[4] مترجِم كتاب القانون بالفارسيّة.

 

 

158


130

خطاب الولي 2009

وتُرجِم إلى اللغات الأوروبّيّة، أمّا المتكلّمون بالفارسيّة، فبقوا محرومين من قراءته! في أواسط فترة رئاستي للجمهوريّة، التفتُّ إلى هذه النقطة، وتساءلتُ: لماذا لم نترجم كتاب القانون إلى الفارسيّة؟ وقلت لمجموعة من الإخوان: شدّوا عزمكم، وترجموا كتاب القانون. وصدر حكم بذلك، وتابَعوا المسألة. تتطلّب هذه الأعمال الاندفاع والرغبة، ولا يمكن أن تتمّ وتُنجَز بإصدار الأحكام والقوانين. في تلك الآونة، أخبروني أنّ هذا الكتاب قد تُرجِم -وأظنّ أنّه كان في ثمانية مجلّدات- وجاؤوني بكتاب المرحوم هجار. حينما قرأت الكتاب -وحقيقةً، أنا لست متخصّصًا في الطبّ، ولم أقارنه بنصّ الكتاب العربيّ (القانون)- وجدتُ -للحقّ والإنصاف- أنّ أيّ شخص يطالع الكتاب، لا يملك إلّا أن ينحني إجلالًا، لمتانة نثره الجميل، ورصانته. لقد تُرجِم الكتاب ترجمةً جيّدة جدًّا. طبعًا، لم أكن أعرفه (المترجم)، وسألتُ عنه، فقالوا: إنّه كرديّ. وعلمتُ، قبل سنوات، أنّه فارق الحياة.

 

وإنّني على معرفة ببعض الشعراء الكرد، ومنهم السيّد الجليل المرحوم ستوده، وهو شاعر مُجيد حقًّا. كنتُ أعرفه وعلى صداقة معه، منذ بداية الثورة، إلى هذه الفترة الأخيرة، حينما مرض وجاء إلى سنندج ومكث فيها، ويبدو أنّه توفي فيها. ومنهم المرحوم كلشن كردستاني، الذي اطّلعتُ على شعره قبل أن أراه، ثمّ التقيتُه عن قرب. كانت لي هذه العلاقات والمعرفة عمومًا، وكانت الشخصيّة الثقافيّة للأهالي الكرد حاضرةً في بالي، كحقيقةٍ ثابتة ساطعة. وما قد رأيتُه اليوم عن قرب، (هو بمثابة) معرض[1]، وكان هذا الأمر قيّمًا ومغتنمًا جدًّا لي. ليت الفرصة كانت متاحة أكثر، في هذه المحافظة، لمجيء عدد أكبر من النخبة إلى هنا، للتعبير عمّا في أذهانهم وقلوبهم وألسنتهم وأفكارهم، لكان هذا، حقًّا، أكثر فائدة لي! أتمنّى أن ننتفع -إن شاء الله- ممّا رأيناه وأدركناه، (بما يكون) لصالح تقدُّم بلدنا العزيز، وهذه المحافظة الغنيّة والموهوبة.


 


[1] المقصود الكلمات والأشعار التي أُلقِيَت في بداية اللقاء، لمجموعة من النخبة الكرد. والترجمة الحرفيّة لكلام سماحته: وقد اطّلعتُ اليوم عن قرب على معرض.

 

 

159


131

خطاب الولي 2009

غلب على كلامي في هذَين اليومَين اللذَين قضيتهما في كردستان، وصفُ بطولات الأهالي الكرد، سواء في اللقاء العامّ بالجماهير، أو في لقائي بالقوّات المسلّحة، أو في الفعاليّات الأخرى. لكن، للحقّ والإنصاف، سجّلتُ عندي بأنّ الجماليّات الأخرى لهذه المنظومة الإنسانيّة، وهذا الإقليم الجغرافيّ من البلاد، تتفوّق على بُعد الشجاعة والشهامة والبسالة، التي تُعَدّ من مميّزات الأهالي هنا. ثمّة الكثير من الجماليّات في هذه المحافظة: الأخلاق الحسنة، والأصوات العذبة، والطبيعة الخلّابة، والشِعر الجميل، والأدب الراقي، والأفكار الجليّة (النيِّرة)، والقلوب المؤمنة، ظواهر يشاهدها الإنسان هنا، وهي جديرة بالثناء حقًّا.

 

لا تمييز في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة

لحُسن الحظّ، يحظى هذا الجانب القيّم بالاحترام والتكريم، في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. إنّنا في النظام الإسلاميّ، نعرف قدر (قيمة) الأشياء، ونثمّنها (نقدِّرها)، ونغتنم هذه القيم المعنويّة والثقافيّة أينما كانت، سواءً في كردستان، أو في فارس، أو في إصفهان، أو في خراسان. والمتوقَّع أن يروي النخبة في كردستان هذه الحقيقة وهذا المعنى الواقعيّ، ويعكسوه، مع أنّه كان ماثلًا في كلمات الأعزّاء، وأنا أعلم أنّ بعض النخبة الكرد يرون ويفكّرون بهذا الشكل، دون أيّ شك. إنّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة لا ينظر البتّة نظرةً تمييزيّة إلى كردستان، ولا إلى أيّ منطقة أخرى من البلاد. ما كرّرناه دائمًا، من أنّنا نعتبر تنوّع القوميّات فرصة لبلادنا، هو حقيقة. الحقيقة هي أنّ التنوّع القوميّ فرصة. ليست نظرة نظام الجمهوريّة الإسلاميّة إلى التنوُّع القوميّ والتنوّع الطائفيّ نظرةً عصبيّةً قوميّةً أحاديّةَ الاتّجاه على الإطلاق، إنّني أعلن عن هذا بكلّ حسم. لم يكن هناك نظرة تمييز، لا في هذا الزمن حيث أتحدّث الآن عن نيّتي ومكنون قلبي، ولا طوال الأزمنة الماضية، أي في عقد الثمانينات، زمن حياة الإمام الخمينيّ المباركة (رضوان الله -تعالى- عليه). وإنّ محور التقييم في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، هو الإسلام والإيرانيّة. جميع المسلمين وجميع الإيرانيّين داخل الحدود الجغرافيّة للبلاد، لهم قيمتهم (اعتبارهم) وفق هذه النظرة. يريد نظام الجمهوريّة الإسلاميّة تكريس هذه الفكرة (هذه النظرة).

 

 

160


132

خطاب الولي 2009

كردستان: المحافظة الثقافيّة

أعتقد أنّ هذه المحافظة محافظة ثقافيّة، وقد قلت هذا مرارًا. لقد حاولوا جعل هذه المحافظة محافظة أمنيّة عسكريّة، وقلبوا الحقيقة رأسًا على عقب. والجمهوريّة الإسلاميّة لم تفعل هذا، ولم يكن بوسعها فعله، بطبيعة الحال، فمن فعله؟ فعله أعداء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. هم الذين روّجوا وأشاعوا أنّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة لا تعجبه القوميّة الكرديّة، ولا يقبل بمذهب أهل السنّة. كانت هذه كذبة، وخلافًا للواقع. وقد اتّضحَت الحقيقة بعد ذلك، وثبتَت، وشاهدها الجميع. كانت هذه النظرة نظرة النظام الطاغوتيّ. كانت طبيعة ذلك النظام تفرض عليه نظرة تمييزيّة، ليس إلى القوميّة الكرديّة وحسب، بل إلى مختلف قوميّات البلاد، وبدوافع وأسباب شتّى. لقد نُسِخَتْ هذه النظرة في عهد الجمهوريّة الإسلاميّة. ولم يكن الأعداء يريدون هذا، فمصالحهم كانت تقتضي أن لا يتحقّق هذا الشيء، الذي هو طبيعة نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، في هذه المنطقة من البلاد.

 

إنّ جزءًا من هذه المشكلات الاقتصاديّة وحالات التأخُّر -وهذا كلّه واقع، وقد اطّلعتُ على هذه الأمور في التقارير، وأنا على علم واطّلاع بما قاله السادة، وهو واقعٌ لا بدّ من علاجه- تعود أسبابه إلى ذلك الخبث والعداء الشديد، والخصومات العمياء التي خلقوها في هذه المحافظة، وكانت بتوجيه من الأعداء. وأنا أعتقد أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة قد انتصرَت، لكن ليس بمعنى أنّ تلك الخصومات قد استُؤصِلَت. لا تزال مسؤوليّاتنا، نحن وأنتم، قائمة. على الجميع أن يسعوا لإيصال كردستان والمنطقة الكرديّة، بكلّ هذه المواهب الطبيعيّة والبشريّة، إلى مكانتها اللائقة في منظومة وطننا الإسلاميّ العزيز الكبير. هناك مَن لا يريد حصول هذا الشيء، وهم يبذلون جهودهم حتّى الآن أيضًا. لا أرغب أن أذكر في هذا الحشد الثقافيّ، أمورًا مزعجة ومؤلمة، لكنّها حقيقيّة. اعرفوها على إجمالها، وتنبّهوا لها! الأعداء يعملون ويسعون. تعمل الأجهزة التجسّسيّة للاستكبار حاليًّا، بشكلٍ علنيّ، في الجهة الثانية من حدودنا، وقد أشرتُ بالأمس إلى هذه النقطة، أي إنّ مبنى الـ"سي. آي. أي"، في منطقة كردستان العراق، يعمل وينشط ويسعى، بنحوٍ رسميّ وعلنيّ، ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة، ويركّز على

 

 

161

 


133

خطاب الولي 2009

توجيه أيّ تيّار يمكنه استخدامه ضدّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. هذه ليست تحليلات، بل هي معلومات ومعطيات تتوافر لدينا، وتتطلّب اليقظة والانتباه.

 

على الأجهزة التحلّي باليقظة، وثمّة توقّعات[1] من الجماهير، لكنّ المتوقَّع من نخبة البلاد ونخبة المنطقة أكثر. أنتم الأعزّاء الذين تدركون الآلام جيّدًا، وتفهمونها، وتعرفون العلاج جيّدًا أيضًا، وتملكون -بذهنيّاتكم المتنوّرة- اطّلاعًا على الكثير من الأمور التي لم يطّلع عليها عموم الناس، هي مطلوبة ومنتَظَرة منكم[2]. جاء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة بأفكار جديدة. خلافًا لِما يشيعونه ويقولونه -وهذا أيضًا من دعايات أعداء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة ومعارضيه- فالجمهوريّة الإسلاميّة لا تختلق الأعداء، ولا توجد القلاقل، ولا تصطنع المعارك، ولا تبحث عن مشاكل ومتاعب. وإذا ما وُجِدَت هذه المتاعب[3]، فهذا لأنّ طبيعة الجمهوريّة الإسلاميّة تقتضي أن تنظر باستقلاليّة إلى قضايا العالم، وأن لا تخضع لتأثير القوى المختلفة في المسائل الصغيرة والكبيرة. هذه من تعاليم الإسلام، وهو أمرٌ أمرَنا به الإسلام.

 

لم يُرِد الإسلام لشعبٍ مسلمٍ، أن يكون في توجّهاته ومسيرته وسياسته وقراراته، تابعًا لهذا القطب أو ذاك، من الأقطاب التي لها مصالحها الاستكباريّة ورؤيتها النفعيّة. يجب النظر إلى ما تقتضيه مصالح الشعب والأمّة الإسلاميّة، فيكون من واجب مسؤولي الحكومة مراعاته. على هذا الأساس لا نخضع لسياسات القوى المستكبرة والمتسلّطة. كان رأيهم في القضايا المختلفة شيئًا، ورأي نظام الجمهوريّة الإسلاميّة شيئًا آخر، ولم يكن هذا مقبولًا عندهم، لذلك شرعوا في عدائهم، وكان نظام الجمهوريّة الإسلاميّة مضطرًّا إلى الدفاع عن نفسه. فطبيعة الصمود والاستقلال أن يخلق احتكاكًا. كان يمكن للشعب الإيرانيّ أن تكون له حكومة تخضع لهيمنة هذا الطرف أو ذاك، وعندها، لن تحصل هذه الاحتكاكات. بَيْدَ أنّ ما لن يكون موجودًا في تلك الحالة، ليس الاحتكاكات


 


[1] أي على الناس مسؤوليّة وتوقُّع ما، لكنّ التوقُّع من النخبة أكبر، وعليهم أعمال كثيرة.

[2] أي الناس تنتظر منكم أعمالًا وأشياءً.

[3] بمعنى لو نشأت بعض المشاكل بفعل النظرة الاستقلاليّة للجمهوريّة الإسلاميّة، ونتيجة ردّة فعل الأعداء على ذلك، كالحظر والحصار واختلاق الحروب.

 

 

162


134

خطاب الولي 2009

وحسب، بل ستغيب أشياء أخرى أيضًا، ستغيب العزّة الوطنيّة، والتقدُّم الوطنيّ، وهذا ما لاحظناه في عهد الطاغوت[1].

 

فالإحصاءات التي ذكرتُها في ساحة المدينة الكبرى قبل يومَين، هي إحصاءات تحمل الكثير من العبر. كان عدد الطلبة الجامعيّين في محافظتكم، مع كلّ هذه الإمكانات، 365 طالبًا قبل ثلاثين سنة، طبقًا للإحصاءات الرسميّة المحفوظة. وكانت نسبة المتعلّمين في المحافظة 92%. نعم، لم تكن للمحافظة، يومذاك، مشاكلها التي تُتَصوَّر اليوم، إلّا أنّ الوضع كان بتلك الهويّة والحال، وبذلك الضعف والمهانة. هل يمكن الصبر على هذا؟ ولكم أن تعمّموا هذا على شعب إيران، كان الوضع هكذا في كلّ مكان. الكتب والمذكّرات التي حَكَتْ عن حقبة الطاغوت (نظام الشاه)، وقد وضعها أشخاص كانوا هم أنفسهم جزءًا من تلك المنظومات (النظام)، حينما يقرؤها المرء، يتصبّب عرقًا من الخجل! كانت الشخصيّات الكبرى، وأصحاب القرار في البلاد، مضطرّين -لأجل اختيار رئيس الوزراء، ولأجل اتّخاذ القرارات بخصوص قضايا صرف داخليّة، ولأجل رسم الخطوط العامّة للبلاد- أن يراجعوا السفير الأمريكيّ والسفير البريطانيّ، ويتحقّقوا من مزاجهم، لئلّا يكونوا معارضين. هذا ليس كلامًا يطلقه معارضو ذلك النظام، كلّا، بل هو كلام كتبوه هم أنفسهم. طبعًا، كانت هذه الأشياء موجودة في الوثائق التي أصبحت في أيدينا، وهم الآن يكتبونها بصراحة أيضًا.

 

الثورة قلبَت صفحة الطاغوت

أقرأ هذه الأيّام، كتابًا يجعل الإنسان في حيرة واقعًا. أين ذلك الكبرياء الوطنيّ؟! أين تلك العزّة الوطنيّة؟! أين ذاك الشعور بالفخر للانتماء إلى إيران؟! أين الاعتماد على هذا الشعب ذي الماضي والتراث التاريخيّ المشرِّف الهائل؟! لم يكن أيُّ شيءٍ من هذا القبيل، مشهودًا في عهد نظام الطاغوت. البهلويّون بشكل، والقاجاريّون[2] من قبلهم بشكل، بعضهم أسوأ من بعض. لكنّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة قلب هذه الصفحة،


 


[1] نظام الطاغوت: النظام الملكيّ البائد، ويطلَق عليه: الحكم البهلويّ، نسبةً إلى الشاه المقبور محمّد رضا بهلويّ.

[2] العهد القاجاريّ: سلالة تركمانيّة من الملوك، حكموا إيران ما بين (1796 و1925م).

 

 

163


135

خطاب الولي 2009

وعلينا النظر إلى هذا الأمر كحقيقة جديدة وساطعة وذات قيمة، وأن نجعل حساباتنا وأعمالنا بناءً على هذا الأساس. أشعر أنّ النخبة المحترمين الأعزّاء في هذه المحافظة، قادرون على القيام بأدوار مهمّة في هذا القطاع، وهو في الواقع قطاعٌ ثقافيّ-سياسيّ.

 

تربية النخبة واجب ووظيفة

طبعًا، إنّ تربية النخبة من الواجبات المهمّة الملقاة على عاتق النخبة (أيضًا). كما تلاحظون، ثمّة شباب مميّزون -والحمد لله- نظير هذه الفتاة التي جاءت هنا، وألقَت خطابًا. يشعر الإنسان أنّ شبابنا الجامعيّ -سواء الفتيان منهم أو الفتيات- مواهب ممتازة. وهذا مشهود طبعًا، في كلّ أنحاء البلاد، ويراه المرء بوضوح هنا أيضًا، ولله الحمد. وإنّ جانبًا من تخريج النخب، يتعلّق، طبعًا، بأجهزة اتّخاذ القرار ومؤسّسات الدولة، التي يجب عليها متابعة الأمر بكلّ جدّ، وسوف يجري التأكيد عليهم، إن شاء الله، لمتابعة النقاط التي ذكرتموها، مضافًا إلى الواجبات الأخرى كافّة. لكنّ جانبًا من المسألة، يتعلّق بالنخبة أنفسهم، ويقع على عاتق الأساتذة، والمعلّمين، وأساتذة الدين، ومعلّمي الآداب والثقافة، ومدرّسي العلوم، ضمن مجالات عملهم، وفي نطاق طلبة الجامعة والتربية والتعليم، حيث ينبغي أن تؤثّروا على أفكار الشباب، وتَتَنَبّهوا إلى أنّ الأعداء اليوم قلقون ومنـزعجون لوجود إيران متّحدة منسجمة متقدّمة، تعتزّ بمفاخرها الكبرى، ولا يريدون أن تحصل هذه النجاحات. فقد تحقّقَت هذه المسيرة الكبرى القائمة اليوم، في ظلّ الإسلام، الذي هو ديننا، وهو الأساس الأقوى للعلقة والرابطة المعنويّة لشعبنا، وهم يريدون تخريبها. ولم يستطيعوا ذلك إلى الآن، ولن يستطيعوا في المستقبل، بتوفيق من الله. ولكن ينبغي في الوقت ذاته، عدم الغفلة عن مؤامراتهم. أعتقد أنّ على نخبنا الأعزّاء المحترمين، مسؤوليّة كبيرة.

 

وأقول أيضًا: إنّ بعض النقاط التي ذكرها الأعزّاء، تمّ التفكير فيها، والعمل واتّخاذ القرار بشأنها. وبعضها بالطبع، نقاط جديدة ينبغي الاهتمام بها.

 

وحول القضايا التي ذُكِرَت -فيما يتعلّق بالطلبة والباحثين الجامعيّين، وأنّه لا يوجد اهتمام بهم، ولا تُخَصَّص ميزانيّة لهم- أذكّركم بالمؤسّسة الجديدة، أي المعاونيّة العلميّة

 

164

 


136

خطاب الولي 2009

لرئاسة الجمهوريّة، وهي مؤسّسة جيّدة، ومرجع لمثل هذه الشؤون، وقد أَنجَزَت أعمالًا جيّدة وكبيرة، وأعتقد أنّه ينبغي الاتّصال بها ومراجعتها. وأتمنّى أن يوفّقكم الله -تعالى- جميعًا.

 

كانت هذه الجلسة مفيدة جدًّا لي. تعرّفتُ إليكم عن قرب -خصوصًا بعض الشخصيّات المحترمة- واستمعتُ لكلمات جيّدة ومفيدة وبنّاءة، وأتمنّى أن تكون هذه الجلسة، إن شاء الله، ذات منافع كبيرة لمستقبل كردستان، ومستقبل البلاد، بتوفيق من الله -تعالى-.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

165


137

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء رجال العشائر ووجهائها في كردستان

 

         

المناسبة:   زيارة محافظة كردستان

الحضور:  جمع من العشائر ووجهائها في كردستان

المكان:   محافظة كردستان

 

الزمان:    24/02/1388هـ.ش.

19/05/1430هـ.ق.

14/05/2009م.

 

 

167


138

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هذه الجلسة جلسة مفعمة بالصفاء، وفائضة بالمحبّة واللطف، ببركة القلوب النقيّة والأرواح النضرة للأعزّاء أبناء العشائر. إنّ ما ذكره الإخوة الأعزّاء هنا، حول ثورتنا المجيدة، وعن الوفاء لمبادئ هذه الثورة، هو من معتقداتي القلبيّة، أنا العبد الحقير. إنّنا منذ بداية الثورة، وإلى اليوم، لم نشكّ حتّى لحظةً واحدة، في وفاء العشائر الغيورة المؤمنة البطلة، في هذه المنطقة الشامخة المجيدة. وما قلتموه، أيّها الإخوة الأعزّاء، وخصوصًا مقدِّم الحفل المحترم، الحسن الصوت، حول شخصي المتواضع، يعود كلّه في حقيقة الأمر، إلى الثورة. شخصي المتواضعُ ذرّةٌ من البحر الهائل لهذه الثورة العظيمة، وهذا الشعب العملاق.

 

كلّ ما يملكه الشعب الإيرانيّ، وكلّ ما أحرزه أبناء هذا الشعب ومسؤولو البلاد ومضحّو هذا الطريق، من مفاخر، إنّما هو بفضل الإسلام، ولهذه الثورة العملاقة، وبفضل اللطف والرحمة اللامتناهية التي ظلّل الله -تعالى- بها هذا الشعب، فاستطاع، ببركتها، النهوض بهذه الحركة العظيمة.

 

أنا مسرور جدًّا لحضوري في جمعكم. كان لي في بعض زياراتي، أثناء فترة الحرب، بل وقبل بدء الدفاع المقدَّس، لقاءات مع بعض هذه العشائر العزيزة الغيورة في هذه المناطق، لكنّ اجتماعكم اليوم، والمتشكّل من عشائر ثلاث محافظات[1]، هو جمع له معانيه العميقة ورسالته، يتحدّث بلغة فصيحة.

 

يكتسب الشعب موقعَه المتقدِّم بين شعوب العالم، حينما يتحدّث مع العالم، بأعمال،ه وبلغة حضوره ومشاركته. وقد أثبت شعبُنا وجودَه بأعماله، خلال ثلاثين سنة من عمر الثورة، خصوصًا في الفترات الحسّاسة. ليست المفاخر الوطنيّة شيئًا يمكن


 


[1] محافظة آذربيجان الغربيّة، ومحافظة كردستان، ومحافظة كرمانشاه.

 

 

169


139

خطاب الولي 2009

 إثباته بالادّعاءات والكلام. (إنّها بالعمل)، ولقد عمل هذا الشعب. وقد كان لكم، أيّتها العشائر الكرديّة الغيورة في هذه المنطقة، دور حسّاس وخلّاق ومميّز في أعمال الثورة وحركتها.

 

العشائر هي ذخائر الثورة، كما قال الإمام الخمينيّ. جميع أبناء العشائر هم، في الواقع، حرّاس الحدود، وحماة الهويّة والسمعة المحلّية لهذا البلد، ما من شكّ في هذا. لكنّ بعض العشائر، وبسبب موقعها الجغرافيّ والسياسيّ، والحساسيّات التي برزَت طوال هذا التاريخ الحافل بالمنعطفات، وجدَت الفرصة لإثبات هويّتها وحقيقتها، وكونها ذخرًا بالفعل للثورة، وأنتم، أيّها الأعزّة، من هذه الفئة. لقد تحدّثتم اليوم، لكنّكم في الفترات الماضية، وفي الأعوام السابقة، كنتم قد عملتم. وإنّ أعمالكم دالّة على الحقائق التي ذكرتموها اليوم.

 

كانت كردستان والمنطقة الكرديّة، بسبب موقعها الخاصّ، هدفًا للمؤامرات، منذ بداية الثورة، وكان ذلك قبل بدء الحرب المفروضة. لقد عقد أعداء الثورة الإسلاميّة الآمال على هذه المنطقة. استقرَّت شخصيّات تابعة للنظام الطاغوتيّ في هذه المنطقة، على أمل أن تحظى بدعم عشائرنا الغيورة المؤمنة، وتوجِّه الضربات إلى الثورة. لقد رأينا هؤلاء، وعرفنا تحرّكاتهم. ثمّة فرق بين عشيرة تعيش في بيئتها وإقليمها، ولا تواجه تآمرًا، ولا تحريضًا، ولا نوايا سيّئة، وتعمل طبعًا لخدمة الثورة والبلاد، وبين عشيرة تكون هدفًا لمؤامرات الأعداء، وتبقى، مع ذلك، صامدة ثابتة. إنّنا لن ننسى هذا. لقد سجّلَت ذاكرة الشعب الإيرانيّ، وذاكرة الثورة الإسلاميّة، وذاكرة نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، هذه الحقائق الواقعة، وهذا هو الواقع. لقد حامَت العشائر عن الحدود، ولقد حرستم الحدود في هذه المنطقة على أحسن وجه.

 

كانت، هاهنا، قبائل وعشائر متعدّدة. وقد ظهرَت في ساحة بعضها اختلافات تاريخيّة، ونزاعات حول الأراضي، وكانت بعض القبائل شيعيّة، وبعضها سنيًّا، وكان بينها اختلافات طائفيّة أيضًا. نظر الأعداء إلى هذا الواقع، كفرصة لهم، وأرادوا استغلاله ضدّ الثورة، لكنّ عشائر المنطقة خيّبَت ظنون الأعداء، وأفشلَت خططهم، وإنّ لهذا الشيء قيمة كبيرة. أعزّائي، قام الشعب الإيرانيّ في الثورة الإسلاميّة، بتحرُّكٍ، كان بداية

 

 

170

 


140

خطاب الولي 2009

تحوُّلٍ، ليس للمنطقة وحسب، بل لعالم الإنسانيّة. وأصبح بداية نظرة جديدة ومسار جديد في الحركة الفكريّة للبشريّة، وسوف يزداد ظهورًا في المستقبل.

 

إنّ ما رسمه الإسلام للإنسانيّة ولسعادة الإنسان، لا تعود فوائده على معتنقي الإسلام خاصّةً. يقول الإسلام: عليكم الوقوف بوجه العسف والجور، والدفاع عن المظلوم، وأن لا تهابوا ضغوط العتاة الظالمين، وأن تتحلّوا باليقظة والوعي، مقابل مؤامرات المخادعين المحتالين، قُطّاع طرق الحياة الإنسانيّة. يوصي الإسلام الإنسان بالعودة إلى فطرته. يناصر الإسلام الحقّ والعدل. وهذه الأمور علاج لأوجاع البشريّة وأمراضها. لقد عانت البشريّة، طوال التاريخ، من الظلم والإجحاف والتمييز. وتلقَّت الأجيال الإنسانيّة ضرباتٍ من قِبَل عتاة التاريخ. ذات يوم، ظهر هؤلاء الطواغيت في شخصيّاتٍ من قَبيل فرعون وقارون، وفي يوم آخر، ظهروا في صور أبي جهل وأبي لهب، وظهروا في يوم آخر، على شكل العتاة المتعسِّفين في زماننا. وإنّ خطر هؤلاء أكبر من خطر الفراعنة، وضررهم على البشريّة أكبر من أضرار كلّ ظلمة التاريخ. هؤلاء مجهَّزون، ولهم عدّتهم. إنّهم مجهَّزون بكلّ أسباب القوّة والتزييف والخداع. تحاول دعايات الأعداء اليوم -ليسوا أعداءنا وحسب، بل أعداء الإنسانيّة كلّها- أن تصنع لهم وجوهًا إنسانيّة، وتُظهرَهم كمناصرين للبشر والإنسان. هؤلاء خطرون جدًّا. وقفَت الثورة الإسلاميّة بوجه مثل هذه الجبهة الخطيرة، وصمدَت ونجحَت.

 

هذه فرصة كبيرة لشعب إيران. نحن أبناء هذا الماء والتراب، يجب أن نفخر بأنْ غرسَ اللهُ -تعالى- بِيَدِ قدرته، هذه الشجرةَ الطيّبةَ في أرضنا، وعند شعبنا، وفي قلوبنا. إنّه لفخرٌ لنا، نحن الإيرانيّين، أن استطعنا رفع راية الإسلام، وهي راية العدالة، راية الإنصاف، راية العقلانيّة، راية التقدُّم الوطنيّ، راية الإحسان والعدل والإنصاف. رفع الإيرانيّون هذه الراية، وبذل أعداء الإنسانيّة ومستكبرو العالم كلّ جهودهم وقدراتهم، لإنزال هذه الراية، وقطع هذه اليد، لكنّهم لم يستطيعوا. وكان دور عشائرنا العزيزة في هذه المنطقة، كبيرًا جدًّا في هذا المسعى المقدّس.

 

ما أوصيكم به اليوم - مع أنّي أرى - والحمد لله - أنّ يقظتكم هي على درجة قد لا تحتاج إلى هذه التوصيات، لكنّني أؤكد مع ذلك- هو أنّ قضيّة هذه المنطقة اليوم،

 

171


141

خطاب الولي 2009

هي قضيّة الأمن. لقد استطعتم الحفاظ على الأمن. وعليكم تعزيز هذه القدرة في أنفسكم، وأن تشعروا دومًا بهذه المسؤوليّة الجسيمة الملقاة على كواهلكم. وأقول لكم: انقلوا هذا الشعور بالمسؤوليّة إلى أبنائكم وشبابكم. ينبغي لهذا البلد، ولهذا الشعب، أن يواصل هذه الحركة. وإنّ حالات العداء سوف تستمرّ. علينا مضاعفة يقظتنا باستمرار. لقد نزل العدوّ إلى الساحة، طبعًا، بكلّ قدراته وعدّته، ولم يجنِ نفعًا، ولن يستطيع بعد الآن أيضًا، بفضلٍ من الله، وبإذنٍ منه، أن يفعل شيئًا. لكنّ هذا سيكون في حال تحلَّيْنا باليقظة والوعي. إذا أصابتنا الغفلة وانشغلنا بالأمور الصغيرة، وإذا تجاهلنا في زحمة قضايانا اليوميّة قضيّتَنا الرئيسيّة، وهي حفظ كيان هذا الشعب وهذا النظام المقدّس، فقد يستطيع العدوّ توجيه ضربته. قال الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة: "ومَنْ نَامَ، لَمْ يُنَمْ عَنْه"[1]، إذا غلبكَ النعاسُ، وأنت في الخندق، فلا يعني ذلك أنّ عدوّك نائم، هو الآخر، في خندقه، قد يكون يقظًا ويستغلّ نومكَ وغفلتك.

 

نحن اليوم، على علم بأنّ أعداء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة يتآمرون خلف حدودنا. نحن نعلم أنّ الأكراد، حتّى في الجهة الأخرى للحدود، يعتبرون أنفسهم إيرانيّين. نعلم أنّ أصدقاء النظام الإسلاميّ والثورة الإسلاميّة، ليسوا قليلين بين إخوتنا الكرد في الجهة الأخرى للحدود، وربّما أمكن القول: إنّهم الأكثريّة. لقد استفاد شبابُنا المؤمن، كثيرًا، من قدرات إخوتنا الكرد في الجهة الثانية للحدود، ويقظتهم، أثناء فترة الحرب المفروضة. واليوم أيضًا، عندما يزورون إيران -يسافرون دومًا ويتحاورون- يتذكّرون عظمة النهضة الإيرانيّة، وثقتهم الدائمة بها. نحن نعلم هذا، بَيْدَ أنّه لا يعني أنّ الأعداء أقلعوا عن محاولات التغلغل والتآمر والاندساس، إنّهم هناك يعملون ويسعون. يحاولون بمؤامراتهم، وبثِّهم للخلافات، واستخدام الأساليب الدنيئة، أن يوجّهوا ضربتهم، متى ما استطاعوا ذلك. وهذا يتطلّب اليقظة. هذه اليقظة والجاهزيّة التي أتحدّث معكم عنها، ليست جاهزيّة عسكريّة فقط، بل هي الجاهزيّة الروحيّة أيضًا. قد لا يستطيع العدوّ فعل شيء من الناحية العسكريّة، ولا يخامره الأمل في ذلك، لكنّه من الناحية


 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص452.

 

172


142

خطاب الولي 2009

الثقافيّة، ومن الناحية السياسيّة والأمنيّة، ومن حيث إعداد الجواسيس والتغلغل إلى المعتقدات والإيمان الراسخ لدى الرجال والنساء المؤمنين في هذا البلد، قد يروم على هذه الصعد، اصطناعَ وسائل معيّنة لبلوغ أهدافه السوداء. هذه الأمور تهدّد أمننا. يمثّل الأمن في البلاد، وفي أيّ منطقة، أساس التقدُّم. خسرنا بعض فرص العمل والتقدُّم في هذه المحافظة والمحافظات المجاورة -في مناطق غرب البلاد وشمال غربها- بسبب انعدام الأمن الذي فرضه عملاء العدوّ ومرتزقته، طوال الأعوام الأولى على هذه المنطقة. صحيح أنّ الأهالي الكرد دافعوا دفاعًا مستميتًا، لكنّ الإمكانات التي أُنفِقَت للدفاع العسكريّ في هذه المنطقة، كان يمكن صرفها على الإعمار، ولو حدث ذلك، لكانت المنطقة أكثر تقدُّمًا ممّا هي عليه اليوم. طبعًا، تمّ إنجاز الكثير من الأعمال. نحن نعلم هذا، وأهالي المنطقة يشاهدونه ويعلمونه عن كثب، غير أنّ ما يجب إنجازه، وما كان يمكن إنجازه، أكبر بكثير من حجم الأعمال التي أُنجِزَت إلى اليوم. وكذا سيكون الحال بعد اليوم أيضًا. كلّما تكرّس الأمن، ازدادَت إمكانيّات العمل، والإنتاج، والعمران، والتقدُّم، وتقديم الخدمات. هذه المنطقة جديرة بما هو أكثر من هذا. الإمكانيّات الطبيعيّة في المنطقة، والمصادر الغنيّة الهائلة فيها -المصادر الطبيعيّة والطاقات البشريّة- قيّمة جدًّا. وكذا الحال للعشائر العزيزة هنا، وفي المناطق الأخرى التي شهدناها عيانًا. العشائر مركز مواهب متألّقة وبارزة. شبابكم هؤلاء مواهب، يمكن للمرء أن يعقد عليهم الأمل في ازدهار البلد ومجده، مستقبَلًا. ينبغي أن تتفتّح هذه المواهب. إنّ تنمية الخدمات، وتنمية المشاريع التعليميّة، ورفع مستوى التعليم والمعارف بين الأهالي، وبين العشائر في المدن المختلفة، تؤمّن لنا ولكم، هذه الإمكانيّة، في مستقبل المنطقة.

 

أملنا كبير أيّها الأعزّاء. تُعلّمُنا التجارب أن نكون آملين متفائلين، ويكون لنا يقيننا بالمستقبل. تجاربنا تجعل هذا الأمر مبرمًا ومسلّمًا به، بالنسبة إلينا. ذات يوم، ظنّ الأعداء أنّ بوسعهم استئصال هذا النظام، وأصدقاؤنا في شتّى بقاع الأرض كانوا أيضًا خائفين من هذا. كانت قلوب المؤمنين في البلدان الإسلاميّة والشباب المؤمن، الذين عقدوا آمالهم على هذه الثورة، خائفةً على مستقبل هذا النظام الفتيّ. ودخل عدوّنا

 

173

 


143

خطاب الولي 2009

الجار الأبله صدّام العفلقيّ البعثيّ الحرب، بهذه الظنون الباطلة، وتصوَّر أنّه سيُنهي كلّ شيء، لكنّ الثورة صفعته على وجهه، بحيث شاهدتم عاقبته. وإنّ الأعداء ممّن هم أكبر من صدّام، عقدوا الآمال طوال هذه الأعوام المتمادية، وفكّروا وتآمروا وحاكوا الأساطير التي أمّلوا بها أنفسهم، إلّا أنّ كلّ هذه الظنون عادت خائبة. كانوا يتصوّرون أنّ الثورة الإسلاميّة، إمّا أنّها لا تبقى، أو أنّها إذا بقيَت، فلن تستطيع التقدُّم بالبلاد إلى الأمام. وبقيَت الثورة الإسلاميّة على الرغم من أنوف الأعداء، وتجذّرت وبهرَت الأنظار أيضًا، في العلوم والتقنيّة ومختلف مظاهر التطوّر الاجتماعيّ والسياسيّ.

 

إنّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في هذه المنطقة اليوم، وبين مجموعة من الأنظمة المختلفة التي وصل بعضها إلى السلطة بالدكتاتوريّة العسكريّة، وتولّاها بعضٌ آخر بالدكتاتوريّة الوراثيّة، وراح يحكم الناس، طفق نظام الجمهوريّة الإسلاميّة يبثّ أملًا جديدًا في هذه المنطقة، على أساسٍ من الديمقراطيّة الدينيّة، من خلال المشاركة الحقيقيّة للجماهير في انتخاب المسؤولين التنفيذيّين والتشريعيّين، على اختلاف مستوياتهم، وبمساهمة الشعب في الميادين المختلفة، وبفضل الأنس والودّ بين المسؤولين والجماهير. واعلموا أنّ جلسة مثل جلستنا اليوم، تطفح بالمحبّة المتبادلة بين الطرفَين، وتمتلئ فيها القلوب بالمودّة، لا نظير لها، على الأقلّ، في أيٍّ من البلدان القريبة التي نعرفها. ونحن لسنا على علم بالبلدان البعيدة، ولا نخال أنّ فيها مثل هذا الشيء، حيث تشعر شرائح الشعب المختلفة بالقرب والألفة مع مديري البلاد من الطراز الأول، ويودُّ مسؤولو البلاد، بدورهم، شرائح الشعب. هذه محبّة صادقة، لا يوجد لها نظير في البلدان الأخرى. حين ترون أنّ الحكومة الفلانيّة التابعة لأمريكا، أو الحكومة الفلانيّة المسلمة في ظاهرها، والمتحالفة في باطنها مع الصهاينة، أو الحكومة الفلانيّة المستبدّة المستكبرة، لا تكفّ لحظة واحدةً عن الإساءة والحقد على الجمهوريّة الإسلاميّة، فما هذا إلّا بسبب هذه الخصوصيّة في النظام الإسلاميّ، الذي استطاع النفوذ إلى قلوب شعوبهم.

 

حينما تزورون، اليوم، البلدان المسلمة العربيّة، وتخالطون الناس فيها، وتعاشرونهم في الأسواق، إذا علموا أنّكم إيرانيّون، فسيُبدون تجاهكم المحبّة والمودّة. ومسؤولوكم

 

174

 


144

خطاب الولي 2009

حينما يزورون هذه البلدان - في البلدان التي يُترَك للناس الحرّيّة - تُبدي الجماهير هناك مودّتَها ومشاعرَها الطيّبة لهم، وهذا ما لا يوجد له نظير في أيّ مكان آخر من العالم. يزور رؤساؤنا البلدان المسلمة، فيخرج الشباب، والطلبة الجامعيّون، والأساتذة، والناس في الأزقّة والأسواق، ومن مختلف شرائح الشعب، يحيّونهم، ويهتفون لهم، ويُبدون لهم المودّة، ويجتمعون حولهم، كما يفعل الناس في أيّ مدينة من إيران. هذا مؤشِّر نفوذ هذه الثورة في قلوب الشعوب المسلمة، وهو ما يُغضِب ويُقلِق الحكومات المعارِضة للإسلام، ولنظام الجمهوريّة الإسلاميّة.

 

ما لدينا هو من لطف الله. يجب أن نتعلَّم من الإسلام، ولا نغترّ بأنفسنا. الاغترار بالذات بداية الانزلاق، ومقدّمة الهزيمة. كلّ ما لدينا يجب أن نعدّه من لطف الله وفضله: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾[1]. كلّ التقدُّم والتوفيق والفرص الإيجابيّة، من لطف الله. وكلّ النواقص، هنا وهناك، ناجمة عن أدائنا. يجب أن نراقب أعمالنا، نحن المسؤولون بدرجة أكبر، وشرائح الشعب وأبناؤه، كلٌّ بدوره. وأنتم رجال العشائر الكرديّة والمتنفّذين في المدن الكرديّة، تقع عليكم مسؤوليّات جسيمة، حسب مواقعكم أيضًا. وقد عملتم إلى اليوم، بصورة إيجابيّة، والحمد لله. اطلبوا العون من الله، وسيروا في المستقبل، أيضًا، على هذا الطريق، وحافِظوا على وحدتكم، وزيدوا من العلاقة الحميميّة بينكم. الثورة ثورتكم، والبلد بلدكم، والمسؤولون أبناؤكم وخدمكم. اعتبروهم منكم، واعتبروا أنفسكم منهم. حافِظوا على يقظتكم ووعيكم، ما استطعتم، واعلموا أنّ المستقبل لكم ولشعب إيران، بفضلٍ من الله -تعالى-.

 

أسأل الله -تعالى- توفيقاته ولطفه ورحمته، لكم جميعًا، أيّها الأعزّاء.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


 


[1] سورة النساء، الآية 79.

 

 

175


145

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء أهالي مَرِيوان

 

         

المناسبة:   اليوم الخامس من زيارة محافظة كردستان

الحضور:  حشود من أهالي مَرِيوان

المكان:   ملعب زاگروس الرياضيّ في مدينة مَرِيوان

 

الزمان:    26/02/1388هـ.ش.

21/05/1430هـ.ق.

16/05/2009م.

 

176


146

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، ولا سيّما بقيّة الله في العالمين.

 

إنّ منطقة مَرِيوان[1]، بهذه المدينة وهؤلاء الأهالي، وهذه المناظر، وهذه المناطق الحسّاسة، من أكثر مناطق كردستان وغرب البلاد التي تثير ذكرياتي وتحييها. أشكر الله -تعالى- أن وفّقني مرّةً أخرى، لزيارة هذه الأرض الزاخرة بعظمة البطولة، وجمال الطبيعة، والمفعمة بمشاعر المحبّة والوفاء، التي سبق أن خبرتها (اختبرتها) في هذه المنطقة.

 

أهالي مَرِيوان وذكرياتٌ لا تُنسى

اعلموا، يا أهالي مَرِيوان الأعزّاء، الذين احتشدتم في هذه الساحة بشكلٍ كثيف، وبمحبّة عارمة، أنّني أعتبر هذه المدينة، وهذه المنطقة، وهذه المجاميع الشعبيّة الهائلة، من نِعَم الله وبركاته على بلدنا وثورتنا.

 

قدّر اللهُ لنا أن نتردّد إلى هذه المنطقة، منذ الأيّام الصعبة، في السنوات الأولى للثورة، عندما بدَّلَت أيادي الأعداء الحاقدة، هذه المنطقةَ الخضراء الجميلة، إلى ساحة حرب، وابْتَلَتْ هذه الجماهير العطوفة المحبّة المؤمنة بالمشكلات اليوميّة، جرَّاء الاشتباكات، والمعارك، والفقر، وسائر مشكلات فترة الحرب، وأن نتعرّف إليها عن قرب. إضافةً إلى ما ذكره الإخوة المؤمنون الذين جاؤوا من مناطق البلاد الأخرى إلى هنا، أيّها الأهالي الأعزّاء الأوفياء المحبُّون، فقد شاهدتُ بنفسي بعض النماذج عن قرب. لا أنسى حينما التقيتُ في العام 1980م، في مدينة مَرِيوان هذه، جموع الأهالي الودودين،


 


[1] مَرِيوان: تُلفَظ مَرِيفان. وهي إحدى مدن محافظة كردستان الإيرانيّة الرئيسيّة، والتي تقع في غرب المحافظة، وهي قريبة من الحدود العراقيّة.

 

 

178


147

خطاب الولي 2009

وسِرْنا إلى إحدى مراكز التربية والتعليم -كانت مدرسة ابتدائيّة على ما أظنّ- وتحدّثنا مع الشباب اليافعين هناك. لا شكّ أنّ أولئك اليافعين صاروا اليوم رجالًا كهولًا. وسرنا من هنا، مع بعض الأفراد من مَرِيوان نفسها، إلى مناطق دزلي ودركي[1] -إذا لم تخنّي الذاكرة- وكانت مناطق جدّ حسّاسة ومهمّة، ومن حيث الطبيعة، مناطق جميلة جدًّا، وأهاليها طيّبون جدًّا، ولكن، مع الأسف، بسبب أحقاد أعداء الشعب الإيرانيّ وأعداء الثورة الإسلاميّة، أُدخِل هؤلاء الأهالي الطيّبون، وهذه المنطقة الجميلة، وهذه الجبال الشاهقة الخضراء، وهذه السهوب النضرة، في جحيم الاشتباكات، واستطاع العدوّ استغلال بعض المرتزقة، وجعلهم وسيلة لقمع الجماهير، وضرب النظام الإسلاميّ، وإذلال الشعب الإيرانيّ، بنحوٍ غير مباشر.

 

أهالي دزلي: الوفاء للثورة

لا أنسى أنّ الناس استقبلونا في "دزلي"، بوجوه تغمرها البشاشة. خرجنا من دزلي مع الإخوة، لنتوجَّه إلى المرتفعات المطلّة على الأراضي العراقيّة -مرتفعات "تته"- وحينها، كان قد تغلغلَ بعضُ المرتزقة الأذلّاء بين أولئك الأهالي، وأخبروا العدوّ بمجيء وفدنا، فبعث العدوّ طائراته. في وسط الطريق، حينما كنّا متوجّهين نحو المرتفعات، شاهدْنا طائرات العدوّ تعبر، وعلمنا أنّ حدثًا سيقع لدزلي، فعُدنا وشاهدْنا، مع الأسف، أنّهم قصفوا الأهالي العزّل في الأزقّة والأسواق، فجرحوا بعضًا، وقتلوا آخرين، عندها، حملنا جثامين بعض الشهداء، وبعض الجرحى، وعدنا إلى مَرِيوان.

إنّها لذكريات حافلة بالعِبر. يومها، كانت هذه الأنظمة العالميّة، التي تتشدّق بحقوق الإنسان، تدافع عن صدّام حسين، وعن ممارساته الوحشيّة هذه. ليعلم جيلنا الشابّ، في بلادنا اليوم، وهو يعلم أنّ بلدنا العزيز هذا، وحدودنا الغربيّة هذه، بما في ذلك منطقة كردستان، كانت مختبر الكذب والخداع، ومختبر الأخطاء الكبيرة التي لا يمكن جبرانها، والتي ارتكبَتها الأجهزةُ التي تدّعي حقوق الإنسان.

 

 


[1] قرى تقع قرب الحدود الإيرانيّة العراقيّة شمال غرب إيران.

 

 

179


148

خطاب الولي 2009

في عمليّات (والفجر4)[1]، حينما توجّه الشباب المقاتلون الكرد والفرس وسائر الشباب المقاتلين، لإطفاء نيران العدو، وإخراج مَرِيوان من تحت نيران مدفعيّة العدوّ، وفعلوا ذلك، كان العدوّ البعثيّ يقصف مدينة مَرِيوان باستمرار، بمدفعيّته البعيدة المدى. هؤلاء الشباب المجاهدون، ومقاتلو الحرس الثوريّ، والتعبئة من مختلف المناطق، بما في ذلك الأبطال والشباب الكرد، نظّموا عمليّات (والفجر4)، وأطفؤوا نيران العدوّ، وفرضوا عليه التراجع، واستطاعوا إخراج مدينة حلبجة[2] العراقيّة من سيطرة العدوّ. تعلمون ماذا فعل العدوّ، انتقامًا لهذا العمل؟ ما كان بوسعه التوغّل إلى هنا، لأنّ أبطالنا كانوا قد لقّنوه درسًا، قصف العدوّ البعثيّ المنـزوع الرحمة والإنسانيّة، مدينةَ حلبجة بالأسلحة الكيميائيّة، فقتل المئات -وربّما الآلاف- من الأهالي الكرد في حلبجة وتلك المناطق، لأنّ صدّام حسين أراد الانتقام من الأهالي الكرد، الذين لم يقاوموا قوّات الجمهوريّة الإسلاميّة المؤمنة، واستقبلوها بأذرع مفتوحة.

 

الثورة وهبَت الشعب العزّة الوطنيّة

لقد خضعَت هذه المنطقة لذلك الامتحان. لا أريد التحدّث عن التاريخ (الوقائع التاريخيّة)، وهو ما يجب، طبعًا، أن تعلموه، خصوصًا الجيل الشابّ. عليكم، أيّها الشباب، أن تطّلعوا على الامتحانات الكبرى التي مرّت بها الجمهوريّة الإسلاميّة، وعلى هذه الحركة العظيمة التي قام بها شعب إيران، حيث حقّق هذا النصر الكبير، بالاعتماد على كلّ واحد من أبناء إيران، فهي بمثابة عِبر تاريخيّة عظيمة، ودروس تاريخيّة ذات قيمة، لكي تدركوا حجم الدعايات التي تبثّها اليوم أيادي الاستكبار في العالم، ووزنها. لا أريد سرد الوقائع التاريخيّة، بل أروم أن أقول: تحدّثتُ في سنندج، يوم الثلاثاء، عن العزّة الوطنيّة. على الشعب أن يعتبر نفسه عزيزًا، وأن يجعل نفسه عزيزًا.


 


[1] عمليّات (والفجر4): إحدى العمليّات الهجوميّة العسكريّة المشهورة، حصلَت أثناء الحرب المفروضة على الجمهوريّة الإسلاميّة، في ثمانينيّات القرن الماضي، وكان أكثر المشاركين في تلك العمليّات من جيل الشباب. حقَّقَت انتصارات واسعة، واستعادَت مناطق ومواقع من أيدي البعثيّين.

[2] مدينة كرديّة عراقيّة خرجَت عن سيطرة نظام صدّام البعثيّ البائد، وكان جزاؤها أنْ قصفها بالأسلحة الكيميائيّة، وكانت المذابح المشهورة، والتي تعامَت عنها كلّ مؤسّسات حقوق الإنسان العالميّة.

 

 

180


149

خطاب الولي 2009

على الشعب أن يكافح الصَغار والذلّ بأيّة وسيلة، ومن أيّ طرف جاءه، ويصل إلى مواقع العزّة. هذه العزّة التي هي ضروريّة لشعب إيران، وقد توافرَت، بفضلٍ من الله، وبواسطة الثورة الإسلاميّة، الأرضيّة الكاملة للشعور بالعزّة لدى شعبنا، ومن عناصرها، عدم الميل إلى الأجنبيّ، والتبعيّة له، وللأعداء، وللذين لا يرون أيّ نفع لهم في المستقبل المزدهر لشعبٍ مثل شعبنا، فهم يلهثون وراء مصالحهم، ويرون هذه المصالح في إذلال الشعوب وسحقها واستضعافها. ينبغي عدم الركون إلى هؤلاء.

 

أنتم الشباب، مستقبل هذا البلد في عهدتكم. البلد بلدكم، والمستقبل لكم. على شبابنا أن يحفظوا هذا الشيء في أذهانهم، كمبدأ عامّ، فلا يختاروا لإدارة البلاد ومستقبل البلاد، الوصفات التي يصفها الأجانب. ليختاروا الوصفات الإسلاميّة والوطنيّة والمحلّيّة. في الوقت الحاضر، ومنذ سنين، تركِّز الدول الغربيّة والناشطون في المدنية الغربيّة، كلَّ جهودهم على فرض ثقافتهم ومعارفهم ومعطياتهم وأقاويلهم، على الشعوب، وعلى الأذهان. وإنّ الشعب الذي ينشد العزّة، ويريد أن يكون مستقلًّا، يجب عليه الصمود في وجه هذا التحرُّك (الحركة).

 

والعالم بأجمعه، يشهد اليوم حجم الضعف والخواء الذي يعاني منه النظام الرأسماليّ الغربيّ، في مواجهة الأحداث والأزمات. فهذا النظام نفسُه خلّاق (ولّاد) أزمات، وحينما تظهر الأزمة، لا يستطيع الدفاع عن نفسه. هذا هو النظام الاقتصاديّ الغربيّ، الذي كانوا يفتخرون به، الاقتصاد الرأسماليّ. وقد حاولوا فرضه على الشعوب، بألف أسلوب، وبألف لغة، كوصفة اقتصاديّة فريدة.

 

عجز الحضارة الغربيّة

إنّ عجز أساليب الإدارة في البلدان الغربيّة، يجب أن يكون محلّ نظر شعبنا وشبابنا وعلمائنا وطلبتنا الجامعيّين وصنّاع مستقبلنا، كما يجب أن يكون عجزهم في إدارة الجزء الأهمّ منها -أي الاقتصاد- محلَّ نظرهم أيضًا، كما أنّ للثقافة مكانها، وللآداب الإنسانيّة مكانها، ولإهمال حرمة الإنسان مكانها، والتمييز الذي يمارسونه في بلدانهم له مكانه هو الآخر. لقد خرجَت الحضارة الغربيّة، في كلّ واحدة من هذه الشؤون،

 

 

181

 


150

خطاب الولي 2009

منكّسة الرأس! فليجعل شعبُنا ومسؤولونا، وشبابُنا خصوصًا، هذا الشيءَ محور بحثهم وفكرهم، وليتأمّلوا ويتدبّروا، على هذا الأساس، في الوصفات الذاتيّة[1] والمحلّيّة لإدارة البلد، والأساليب المتنوّعة لإدارة هذا الشعب الكبير. وهذا يستدعي أن تنظروا إلى الإسلام بدقّة أكبر. للإسلام نظرة جليّة وتنويريّة إلى الإنسان والإنسانيّة والأساليب الإنسانيّة. نحن لا ندافع عن الإسلام المتحجّر، ولا ندعو إلى الإسلام الذي ينظر إلى الأمور كافّة بمنتهى الضيق[2]، كما يفعل بعض أدعياء الإسلام. إنّ الإسلام الأصيل هو الإسلام الذي ينبِّه الإنسان، ويحثُّه على التعقُّل والتفكير والتدبُّر، هو إسلام القرآن والسنّة وأهل البيت، الإسلام الذي استطاع نموذجه في بلدنا الكبير، ومع وجود كلّ هذه المعضلات التي تعود إلى عشرات السنين، أثناء فترات هيمنة الأعداء، أن ينظِّم مثل هذه الحركة، ويُظهِر مثل هذه الحرّيّة، ومثل هذا الاستقلال. نحن ندعو إلى هذا الإسلام.

 

ليتأمّل شبابُنا وأصحابُ الفكر والثقافة عندنا، وليتحرّك مسؤولو البلاد باتّجاه السياسات الإسلاميّة. فأنْ يتحدّث مسؤولونا أو مرشّحو الانتخابات في مواسم الانتخابات، كما هو الحال الآن، بكلام الغربيّين، من أجل لفت انتباه الآخرين إليهم، فهذا لا يُعَدّ ميزة على الإطلاق. ليس الامتياز أن نقول ما يرضي الغرب. إنّهم يعارضون الفكر الإيرانيّ، والفكر الإسلاميّ، والهويّة الإسلاميّة - الإيرانيّة. نشكر الله على أنّ الشعب الإيرانيّ أحرز الرشد والوعي اللازم، الذي أهّلَه للتغلُّب على هذه العقبات.

 

كردستان موهوبةٌ موحّدة

إنّ منطقتكم، منطقة كردستان، هذه المحافظة الخضراء النضرة الموهوبة -سواء المواهب البشريّة أو المواهب الطبيعيّة- هي من نقاط البلاد الحسّاسة. لقد حاول الأعداء أن يعزلوا، أو يفصلوا هذه المنطقة، وبعض المناطق المماثلة، بهوّة سحيقة، من عدم الثقة وسوء التفاهم، عن باقي أجزاء هذا الوطن الإسلاميّ الكبير، لكنّهم لم


 


[1] المقصود من "الوصفة" هنا: الطريقة أو المنهجيّة المعتمدة في إدارة البلاد، وتنظيم شؤونه المختلفة، الرؤية التي تستند إلى معايير وشروط وقواعد منبثقة من رؤية الإسلام، وابتكار أبناء الشعب.

[2] أو بقصر نظر شديد.

 

182


151

خطاب الولي 2009

يستطيعوا ولم ينجحوا. لم يستطيعوا بوسائل، من قبيل زعزعة الأمن والإعلام المغرض، أن يشرذموا هذا الشعب المؤمن المسلم، ويشتّتوه فرقًا وجماعات، وقد أثبَتَ الإخوة والأخوات الأعزّاء الكرد، في كلّ مناطق كردستان، وفاءهم وصمودهم ورشدهم وشجاعتهم، في الميادين المختلفة، أثناء هذه الأعوام المتمادية، وخصوصًا مدينة مَرِيوان، فقد كانوا معروفين، منذ البداية، بالتزامهم بالأصول والمباني الإسلاميّة، وأنّهم جماهير مؤمنة وملتزمة. كنّا نسمع هذا كثيرًا. كان إخوتنا الكرد أنفسهم يقولون: إنّ مَرِيوان هي قمّ كردستان، أي قطب العلم والدين. يسكن هنا أناسٌ ذوو ميول دينيّة، ومحبّون للعلم. ولحُسن الحظّ، فإنّ تجارب السنين الطويلة أثبتَت ذلك.

 

النظام الإسلاميّ اليوم -والحمد لله- متمكّنٌ تمامًا، من أموره وأعماله. لقد وطّد النظام الإسلاميّ ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة نفسه، ليس في داخل البلاد وحسب، بل في المنطقة، وعلى المستوى الدولي أيضًا، وفي أنظار السياسات والسياسيّين وصنّاع السياسة. وقد أُرغِم الأعداء على الاعتراف باستقرار الجمهوريّة الإسلاميّة، والاقتدار المطّرد لها، وسلّموا بذلك.

 

لقد توافرَت للجمهوريّة الإسلاميّة اليوم -والحمد لله- فرصة التخطيط للمشاريع الطويلة الأمد، الرامية إلى سدّ النواقص والحاجات والتعويض عن الأضرار التي لحقَت بالبلاد، خلال الفترات السابقة. وإنّ وثيقةَ (خطّة) الأفقِ العشرينيِّ وثيقةٌ جدّ مهمّة ومعتبرة، يتحتَّم على مسؤولي البلاد -سواء كانوا في السلطة التنفيذيّة، أو في السلطة التشريعيّة، أو في القطاعات الأخرى- متابعتها، خطوةً بعد أخرى، وبلوغ تلك الأهداف. يتحمّل الشعب الواعي والشباب الموهوب، في أيّ منطقة من البلاد، مسؤوليّةً كبيرةً في هذا المجال. أقول لكم، أيّها الأهالي الأعزّاء، وخصوصًا الشباب: إنّ بناء هذه البلاد، والتقدُّم بها إلى الأمام، واجبٌ مشترك بين المسؤولين والجماهير. فالجماهير أيضًا تتحمّل مسؤوليّة. ينبغي أن نحذر جدًّا من أن يتمكّن أعداءُ تقدُّم البلاد، من صرف أذهاننا واهتمامنا نحو المسائل الفرعيّة، ومسائل الدرجة الثانية، (وذلك) حتّى يتسنّى لنا جميعنا، وبوحدة تامّة حقيقيّة، السير نحو تلك الأهداف.

 

أستطيع أن أقول اليوم، بكلّ ثقة: إنّ مسؤولي البلاد يركّزون كلَّ هممهم، ليستطيعوا

 

 

183

 


152

خطاب الولي 2009

تلافي النواقص في كلّ المناطق. وفي هذه الزيارة إلى كردستان، اجتمع المسؤولون وأعضاء مجلس الوزراء في سنندج، وناقشوا القضايا التي يجب أن يتابعوها، حسب الأولويّة، وأعدّوا تقريرًا زوّدونا به. إنّني أشكر مسؤولي الحكومة على همّتهم هذه، ومجيئهم إلى هنا. وإنّ القضايا التي يهتمّون بها دقيقة وأساسيّة وحقيقيّة، لكلّ مناطق كردستان، وضمنها منطقة مَرِيوان، أي منطقتكم هذه. وقد اتّخذوا قرارات جيّدة، نتمنّى أن تأخذ طريقها إلى حيّز العمل.

 

وإنّ سَنَدَ هذه الحركة وظهيرها، هو ثبات الشعب الإيرانيّ، والالتزام بشعارات الثورة. وإنّ شعارات الثورة الإسلاميّة هي التي بوسعها أن تكون قاعدةً ومخزونًا لاقتدار الشعب الإيرانيّ، وأكبر سند ودعامة لتقدُّم الحكومة، في الميادين المختلفة.

 

الاستثمار الصناعيّ والزراعيّ

من القضايا المهمّة جدًّا لهذه المنطقة، هي قضيّة الاستثمار: الاستثمار الصناعيّ، والاستثمار الزراعيّ، الذي يوفِّر فرصَ العمل. حينما لا تكون هناك فرص عمل بالمقدار الكافي، ولا تكون الطرق السليمة مفتوحة، فإنّ شبابنا سيلجؤون، مع الأسف، إلى الطرق غير السليمة، من قبيل التهريب وما شاكل. التهريب بلاءٌ على البلاد، ومرضٌ يصيب اقتصادها، وهو بمثابة فايروس مشلّ ومدمِّر. يجب أن لا يكون شباب البلاد في وضع يشعرون معه بأنّهم مضطرّون إلى اللجوء إلى سبل غير منطقيّة، وغير قانونيّة، وغير مشروعة. هذه من المهامّ الرئيسة للحكومة[1]، وهي ما تنصبّ عليه همّة الحكومة. وعليكم أنتم أيضًا، أن تساعدوا وتتعاونوا في هذه القضيّة، فالتهريب الذي يحصل، صحيح أنّ فيه منفعة لصاحبه، لكنّ النفع الأكبر سيكون من نصيب الذين يختبئون خلف أستار هذه الحركة الظاهريّة، أي الأشخاص الانتهازيّين والاستغلاليّين الذين يجنون أكبر الأرباح، من دون تحمُّل مشاقّ أو أخطار، بينما شبابنا المؤمنون -وبسبب اليأس، أو لأيّ سبب آخر- يعرّضون أنفسهم للخطر. ينبغي إغلاق هذا الباب، وهذا الأمر متاح من خلال الاستثمارات الصحيحة، وتوفير فرص العمل في مناطق كردستان


 


[1] أي من وظائف الحكومة أن تجد السبل لمعالجة هذه الآفة.

 

 

184


153

خطاب الولي 2009

كافّة، وفي جميع نواحي مدنها، خصوصًا المدن القريبة من الحدود، مثل مَرِيوان. وقد لاحظتُ أنّ مسؤولي البلاد -لحُسن الحظّ- يهتمّون بهذه النقطة، ويفكّرون في (حلّ) هذه المسألة. يجب توفير الأرضيّة لاستثمارات جيّدة، لكي يتمّ توفير فرص العمل، حتّى يستطيع الشابّ تأمين معيشته بالطريق السليم والقانونيّ والحلال.

 

واعلموا أنّ العدوّ -الذي يعرف أنّ الأمن هو شرط الاستثمار وإنتاج الثروة، ولأنّه لا يريد حصول الاستثمار وإنتاج الثروة في هذه المنطقة- سيحاول ضرب (حيثيّة) الأمن وزعزعته. وطبعًا، أقول لكم بكلّ ثقة: إنّ القوى المؤمنة والوفيّة للجمهوريّة الإسلاميّة، وبمساعدة هؤلاء الأهالي وهؤلاء الشباب، ستواجه العناصر المخلّة بالأمن بكلّ شدّة، وستفوِّت عليهم، بلطفٍ من الله، أيَّ فرصة لذلك.

 

أشكر الله على توفيقه لي لزيارة مدينتكم العزيزة، مَرِيوان، مرةً أخرى، واللقاء بكم عن كثب، أيّها الأهالي الأعزّاء الطيّبون الأوفياء المؤمنون. إنّنا لن ننساكم، وقلوب المسؤولين تخفق بمحبّتكم، وتطفح بعشق الناس، اعلموا هذا. والمساعي التي يبذلها مسؤولو البلاد، إنّما هي لأجل التقدُّم في قضايا البلاد الأساسيّة، ومنها القضايا الاقتصاديّة. وقد كانت النجاحات كثيرةً، وقد تمّ إنجاز الكثير من الأعمال، ويجب إنجاز الكثير من الأعمال الأخرى. وإنّ من أهداف زيارتنا هذه، لفتَ انتباه الجماهير، في مناطق البلاد الأخرى، إلى هذه المنطقة، كي تتعزّز الأواصر العاطفيّة بين القلوب أكثر فأكثر، فيشعر الأهالي الكرد في هذه المنطقة -وكذلك الأهالي الفرس، والترك، والبلوش، وسائر القوميّات الإيرانيّة في المناطق الأخرى- شعورًا قويًّا واضحًا، بأنّهم أعضاء جسد واحد عظيم هائل، هو جسد الشعب الإيرانيّ. وهذا حاصلٌ، والحمد لله.

 

أتقدّم بالشكر، من أعماق القلب، لمودّتكم، أيّها الأهالي، واستقبالكم، وكلامكم الحارّ الودود، أيّها الأعزّاء، وأسأل الله أن ينـزل عليكم ألطافه وفضله، وأسأله، كذلك، أن يوفّق مسؤولينا ويعينهم للنهوض بواجباتهم على أتمّ نحوٍ وأكمله، قبال هؤلاء الأهالي الأعزّاء. أستودعكم الله العظيم جميعًا.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

185

 


154

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء الجامعيّين بمحافظة كردستان

 

 

         

المناسبة:   زيارة محافظة كردستان

الحضور:  حشد من الجامعيّين بمحافظة كردستان

المكان:   محافظة كردستان

 

الزمان:    27/02/1388هـ.ش.

22/05/1430هـ.ق.

17/05/2009م.

 

187


155

خطاب الولي 2009

هذه الجلسة التي أقيمت بحضوركم، أيّها الشباب والطلبة الجامعيّون والمثقّفون، في هذه الأجواء الجامعيّة، لَهِيَ جلسةٌ جِدُّ مثمرة، وباعثة على الأمل.

 

اجتماعٌ باعثٌ على الأمل

إنّ اجتماع الشباب يبعث الأمل في نفس المتحدّث والمستمِع، وفي نفوس عامّة الشعب، خصوصًا حينما يكون في بيئة جامعيّة، وعندما يتكوّن من حضور الطلبة والأساتذة الجامعيّين، والشخصيّات الواعية المثقّفة. مع أنّني على معرفةٍ بالمجاميع الطلّابيّة، وكان، ولا يزال لي، على مدى سنواتٍ طويلة، ارتباطي بالجامعيّين، والحمد لله، وسيبقى هذا الارتباط قائمًا في المستقبل أيضًا، إن شاء الله، وأعرف جيّدًا ما يتمتّع به الطالب الجامعيّ من روحٍ تنشد التقدُّم والإبداع والحركة والنشاط والنضارة، مع ذلك، فإنّ مشاهدة هذه الجموع الحاشدة، والاستماع إلى ما قاله هنا أعزّاؤنا الطلبة والشباب والأساتذة الجامعيّون، يبعث في الإنسان مزيدًا من الأمل. بهذه الروح، وبهذه الفاعليّة والتوثّب، نحن على ثقة، وليكن الجميع على ثقةٍ أيضًا، بأنّ مستقبل نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، حينما تكون البلاد بأيديكم، أيّها الشباب، سيكون أكثر تقدُّمًا، وأفضل بكثير ممّا هو عليه اليوم. فكما أنّنا لم نتوقّف عن التقدُّم، والحمد لله، منذ اليوم الأوّل للثورة، وإلى الآن، كذلك أتوقّع أن تتصاعد وتيرة هذه الحركة التقدُّميّة في الأعوام المقبلة، بفضل هذه الصحوة الشبابيّة التي نلاحظها فيكم، واهتمامكم بالعلم والمبادئ، وشعوركم بالمسؤوليّة.

 

إنّني لم أصدّق أبدًا الكلام السلبيّ الذي يطلقه بعضهم بدافع العصبيّة، ويطلقه بعضهم الآخر هنا وهناك، من منطلق الغفلة، حيث يصوِّرون جيل الشباب مُعرِضًا عن المبادئ والقيم، ولن أصدّقه في المستقبل أيضًا. شبابنا يتقدّمون إلى الأمام، ولهم

 

189

 


156

خطاب الولي 2009

أهدافهم، ويغمرهم التفاؤل والأمل، ويتّكئون على أُسسٍ متينة، وسوف يحملون بنجاحٍ، إن شاء الله، هذه الأعباء الثقيلة، بفضل طاقاتهم الشبابيّة.

 

اقتراحات الشباب

قبل أن أخوض في الحديث عمّا يجول في ذهني، لنلقِ نظرةً على الأفكار التي طرحها الأعزّاء هنا. فقد ذكروا أفكارًا حسنةً على العموم، وإنّ السبل والحلول التي اقترحوها هي أيضًا صحيحة ومفيدة، ومعظمها يتّصل بقضايا العلم والتقنيّة والبيئة الجامعيّة والمختبرات ورفع مستوى الجودة، واقتراحات شتّى تدعم الصناعة ذات الأُسُس العلميّة، وتشدّد عليها، وأمور من هذا القبيل، ونحن نؤيّدها كلّها. وكانت في هذه الكلمات نقاط جديدة، أتمنّى أن يلتفت إليها السادة الحاضرون هنا، وزير العلوم المحترم، ووزير الصحّة المحترم، ومعاون رئيس الجمهوريّة للشؤون العلميّة المحترم، سواء النقاط المتعلّقة باستقطاب النخب، أو ما يتعلّق بالاتّصالات اللازمة وسائر الاقتراحات التي ذُكِرَت. أعتقد أنّها اقتراحات جيّدة جدًّا، ويجب الاهتمام بها كلّها. وسأطلب من الإخوة المسؤولين -بعد العودة من السفر، إن شاء الله- تزويدي بتقريرٍ حول تنفيذ هذه الاقتراحات، في حدود المعقول والممكن.

 

التقليل من المشاريع الاستعراضيّة

ابنتنا العزيزة قدّمت اقتراحًا بشأن "مجلس الطلبة الجامعيّين"[1]. الاسم جميل، لكنّ الأنشطة الاستعراضيّة لا تحلّ مشكلة من مشاكل الطلبة الجامعيّين، ولا من مشاكل البلاد. يجب أن نقلّل ما استطعنا من الأعمال والمشاريع الظاهريّة والسطحيّة والاستعراضيّة والشعاراتيّة، ونركّز اهتمامنا أكثر فأكثر على المشاريع التأسيسيّة والأساسيّة والحقيقيّة، والتي تحقّق لنا التقدُّم. لنفترض أنّ مجلسَ الطلبة الجامعيّين قد تَشَكَّل، لاحِظوا كم ستأخذ انتخابات هذا المجلس من وقت الطلبة الجامعيّين في البلاد! من أيّ جامعةٍ (كانوا)، ومن أيّ مدينة، ومن أيّ ميول، ومن أيّ اتجاهاتٍ فكريّة أو سياسيّة،

 

 


[1] عادةً ما يتحدّث عددٌ من ممثّلي الطلاب والنُّخَب في بداية اللقاء، وقبل كلمة الإمام الخامنئيّ. وقد تحدّثَت إحدى الطالبات، وقدّمَت اقتراحًا أثناء كلمتها.

 

190


157

خطاب الولي 2009

والمعارضات وإلى آخره.

 

كلُّ همَمِنَا الآن، منصَبّةٌ على تأجيج مشعل العلم والبحث العلميّ في البيئة الجامعيّة والطلابيّة. ثمّ إنّ ابنتنا العزيزة اقترحَت أن يكون لهذا المجلس سلطةً وصلاحيّات تنفيذيّة. إذا كان مجلسًا، فلماذا تكون له صلاحيّات تنفيذيّة؟ هو يتّخذ القرارات، وهو ينفّذها؟! لاحِظوا ما الذي سيحلّ بالجامعات، إذا ألقينا عليها مثل هذه الأعباء والمهامّ! إنّني أوافق مئة في المئة على الاهتمام بالطالب الجامعيّ، والعناية به، والاستماع لكلامه، ومداراته، ومساعدته، لكن ليس هذا هو السبيل لذلك.

 

ابنتنا العزيزة تحدّثَت بشكل جميل وحماسيّ جدًّا. نحن الشيوخ، بدورنا، حينما يتحدّث شابٌّ بهذا الاندفاع والحماسة، نشعر بحالٍ شبابيّة. وأضافت: إنّ على هذا المجلس إيصال صوت الطلبة الجامعيّين إلى المسؤولين.

 

ليتحدّث الطلبة، وليستمع المسؤولون

أرى أنّ اجتماعكم هذا الذي أنتم فيه الآن، هو أفضل من مجلس الطلبة الجامعيّين، أكثروا من هذه المجالس. إنّ من أسباب ذهابي إلى الجامعات -حيث أضع لنفسي في كلّ سفر من أسفاري، برنامجًا للاجتماع بالطلبة الجامعيّين، وفي طهران، أقصد أحيانًا الجامعات المختلفة- هو رغبتي في أن ينفتح المسؤولون على الجامعات، ويقصدوها، ويتحاوروا مع الطلبة الجامعيّين مباشرةً، فالكلام الذي تحدّثتم به اليوم، سيُبَثّ من الإذاعة والتلفزيون، وستكون له أصداؤه في كلّ البلاد. وقد استمعتُ أنا له، بصفتي أحد المسؤولين، واستمعَ له المسؤولون الجامعيّون، وسيصلُ إلى أسماع سائر المسؤولين، فأيّ وسيلةٍ أفضل من هذه؟ زيدوا ما استطعتم من هذه الجلسات والاجتماعات الطلّابيّة الجامعيّة، على هذا النحو الودّيّ والرحب، الخالي من المجاملات.

 

لا أوافق كثيرًا أن يأتي الأعزّة هنا، ويستخدموا عبارات المبالغة بشأني، أنا الإنسان الصغير الضعيف. دَعُوا التواصل يأخذ شكلًا صادقًا ودّيًّا، وطبيعيّا أكثر. فليُبدِ الطلبة الجامعيّون آراءهم، وليطرحوا أفكارهم، وليستمع المسؤولون. وأحيانًا، يكون لدى

 

191


158

خطاب الولي 2009

المسؤولين ما يقولونه للطلبة أيضًا، فليطرحوه. على كلّ حال، الجلسة جلسة جيّدة جدًّا، وأتقدّم بالشكر للذين تحدّثوا هاهنا، فردًا فردًا.

 

المستقبل بأيدي الشباب

الموضوع الذي سأتحدّث عنه، على صلة تامّة بطبيعة الشباب، وماهيّة الطلبة الجامعيّين، وفيه نظرة استشرافيّة إلى المستقبل، فالمستقبل لكم. كلّ ما نقوله اليوم عن المستقبل، هو في الحقيقة نظرة وكلام وإشارات إلى فترة زمنيّة، هي لكم أنتم، ووجودكم الحقيقيّ في تلك الفترة هو الذي سيحسم الأمور، ويعالج القضايا. هذا الموضوع الذي يستشرف المستقبل، هو مسألة شعار "العقد الرابع"، الذي دخلنا فيه، أي عقد التقدُّم والعدالة[1].

 

عقد التقدُّم والعدالة

لقد أعلنّا أنّ هذا العقد هو عقد التقدم والعدالة. طبعًا، بمجرّد الإعلان والكلام، لن يحصل تقدُّم، ولن تحصل عدالة، لكنّ التبيين والتكرار وترسيخ الهمم والعزائم، يساعد في حصول التقدُّم والعدالة. أردنا تحويل التقدُّم والعدالة إلى خطابٍ وطنيٍّ[2] في العقد الرابع، علينا جميعًا أن نطلب هذا الشيء، ونسعى إليه. فإذا لم نُرِدْهُ، لن يحصل التخطيط والبرمجة والعمل والتنفيذ، ولن نصل إلى النتيجة، يجب تبيين المسألة. أريد أن أتحدّث عن قضيّة التقدُّم بعض الشيء. ولقضيّة العدالة، بدورها، بابها الواسع، وتفاصيلها المطوّلة.


 

[1] يراجع خطاب النوروز (بداية العام الإيرانيّ الشمسيّ الهجريّ).

عقد التقدُّم والعدالة: منظومة مشاريع، وقوانين، وبرامج اقتصاديّة، علميّة واجتماعيّة، سيتمّ العمل عليها لمدّة عشر سنوات، تقوم الحكومة، من خلالها، بالتعاون والمواكبة التشريعيّة والقانونيّة من المجلس (الشورى)، بإعداد هذه الخطط، والعمل على تطبيقها في مختلف مساحات عمل النظام والدولة. وهي تراعي، بالدرجة الأولى، البناء العلميّ، وحُسن توزيع الفرص والإمكانات. والعقد الرابع هو العشر سنوات الرابعة من عمر الثورة والنظام الإسلاميّ في إيران، وقد جُعِلَت مقولة "التطوّر والعدالة" عنوانًا عريضًا لمختلف نشاطات الدولة ومؤسَّساتها، وخاصّة المستوى العلميّ والتربويّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ.

[2] مقولة وطنيّة، ما يستلزم دخولها في صلب المشاريع والخطط، وأن تُلحَظ في رسم الأهداف المتوسّطة والبعيدة الأمد.

 

 

192


159

خطاب الولي 2009

خصائص التقدُّم وسماته

بدايةً، أستعرض الشكل العامّ للبحث، وأحاول الإيجاز والاختصار ما استطعتُ إلى ذلك سبيلًا. أذكر بعض خصائص التقدُّم وسماته، ليتّضح الشكل العامّ والصورة الكلّيّة التي نحملها في أذهاننا عن التقدُّم -وهذا هو الشطر الأكبر من البحث- ثمّ نستعرض بعض الشروط والمقدّمات التمهيديّة للتقدُّم. ثمّ إذا كان ثمّة وقت ومجال، أشرنا إلى بعض العقبات التي تعترض هذا الطريق، والأضرار والآفات التي قد تصيبنا في هذا السبيل.

 

بخصوص الجانب الأوّل، أي تبيين الشكل العامّ للتقدُّم، أذكر عدّة نقاط تكوِّن بمجموعها الشكل العامّ الذي نبتغيه:

التقدُّم ليس التنمية بالمفهوم الغربيّ

النقطة الأولى هي أنّه، حينما نقول "تقدُّم"، يجب أن لا تتبادر إلى أذهاننا التنمية، بمفهومها الغربيّ الدارج. التنميةُ، اليوم، مصطلح شائع في الأدبيّات السياسيّة والعالميّة والدوليّة. قد تكون للتقدُّم الذي نتحدّث عنه، أوجه اشتراكٍ مع ما يُفهم من التنمية عالميًّا -وهذه الأوجه موجودة بالتأكيد- لكن لكلمة التقدُّم في منظومة مفرداتنا، معناها الخاصّ الذي يجب عدم الخلط بينه وبين التنمية الغربيّة. ما نحن بصدده، ليس بالضرورة التنمية الغربيّة، بما لها من خصوصيّاتٍ ومواصفات نفسها.

 

تصنيف الدول تكتيكٌ غربيّ إعلاميّ

لقد مارس الغربيّون، على مدى السنين، تكتيكًا إعلاميًّا ذكيًّا، وهو أنّهم صنّفوا بلدان العالم إلى متقدّمة، ونامية، ومتخلّفة. يتصوّر المرء، للوهلة الأولى، أنّ البلدان المتقدّمة هي تلك التي تحوز على التقنيّة والعلوم المتطوّرة، أمّا البلدان النامية والمتخلّفة، فهي التي لا تستفيد من هذه العناصر، في حين أنّ القضيّة ليست كذلك. إنّ لعنوان البلدان المتقدّمة -والعنوانَين اللذَين يتبعانه، أي النامية والمتخلفة- مضمونًا قيميًّا، وجانبًا تقييميًّا. فحينما يقولون: بلدٌ "متقدِّمٌ"، يَعنون في الحقيقة، البلد الغربيّ، بكلّ خصوصيّاته الثقافيّة، وآدابه، وسلوكه، وتوجّهاته السياسيّة.

 

193

 


160

خطاب الولي 2009

هذا هو معنى البلد المتقدّم (بنظرهم). والبلد "النامي" هو البلد السائر في طور التغريب[1]. و"المتخلّف" هو البلد غير الغربيّ، والذي ليس في طور التغرُّب. هكذا يريدون تفسير الموضوع. وإنّ تشجيع البلدان على التنمية، في الثقافة الغربيّة المعاصرة، هو في الواقع، تشجيعها على التغريب. يجب أن تتنبّهوا إلى هذه النقطة. نعم، ثمّة نقاط إيجابيّة -قد أُشير إلى بعضها- في سلوك البلدان الغربيّة المتقدّمة، وأعمالها، وشكلها، وظاهرها، وإذا تقرّر[2] أن نتعلّم هذه النقاط، فسوف نتعلّمها، وإذا تقرّر أن نتتلمذ، فسوف نتتلمذ. ولكن نعتقد أنّه توجد، إلى جانب ذلك، (منظومة)من الأمور اللاقيميّة في تلك البلدان، لذلك، لا نَقبل على الإطلاق بمنظومة التغريب، أو التنمية، حسب المصطلح والمفهوم الغربيّ. والتقدُّم الذي ننشده هو شيءٌ آخر.

 

تعدُّد نماذج التقدُّم

النقطة الثانية هي أنّ التقدُّم ليس له نموذجٌ واحد، لكلّ البلدان والمجتمعات في العالم. ليس للتقدُّم معنى مطلَقٌ. وإنّ الظروف المختلفة -التاريخيّة، والجغرافيّة، والجغرافيّة السياسيّة، والظروف الطبيعيّة، والبشريّة، وظروف الزمان والمكان- تؤثّر في خلق نماذج التقدُّم. قد يكون هذا النموذج للتقدُّم مناسبًا للبلد الفلانيّ، وهو نفسه غيرُ مناسبٍ لبلد آخر. وبالتالي، لا يوجد نموذج واحد للتقدُّم، ينبغي أن نجده ونتّجه إليه، ونحقّق أجزائه وعناصره كافّة في أنفسنا. ليس ثمّة شيء كهذا.

 

نموذجنا المنشود للتقدُّم

وإنّ للتقدُّم في بلدنا - بظروفنا التاريخيّة والجغرافيّة، وفي ضوء أوضاعنا وطبيعة شعبنا وآدابنا وثقافتنا وتراثنا- نموذجه الخاصّ، الذي يجب أن نبحث عنه ونجده. وذلك النموذج هو الذي سيأخذ بأيدينا إلى التقدُّم، ولن تنفعنا وصفة أخرى، سواء وصفة التقدُّم الأمريكيّ، أو الغربيّ، أو وصفة التقدُّم الأوروبّيّ الشماليّ - فالبلدان الإسكندنافيّة


 


[1] الذي هو في طور التغرُّب، أي أن يصبح غربيًّا في نمط حياته وثقافته وعيشه.

[2] إذا تطلّب الأمر.

 

 

194


161

خطاب الولي 2009

هي من نوعٍ آخر مختلف- وإنّ أيًّا من هذه النماذج لا يمكن أن يُعَدَّ نموذجًا منشودًا للتقدُّم في بلدنا.

 

علينا تحرّي النموذج المحلّيّ الخاصّ بنا. وميزتنا (إبداعنا) هي أن نتمكّن من إيجاد النموذج المحلّيّ للتقدُّم الذي يتناسب وظروفنا. حينما أثير هذه القضيّة، هنا في البيئة الجامعيّة، فمعنى ذلك أنّكم -الطلبة الجامعيّين والأساتذة والجامعيّين عمومًا- مَن يجب أن ينهض بهذا البحث، والمتابعة والتحرّي بكلّ جِدٍّ واجتهاد، وسوف تستطيعون ذلك، إن شاء الله.

 

دور المباني المعرفيّة في التقدُّم

النقطة التالية نقطة مهمّة أيضًا: إنّ المباني المعرفيّة مؤثّرة في نمط التقدُّم المنشود، أو غير المنشود. لكلّ مجتمعٍ، ولكلّ شعبٍ، مبانٍ (أصول) معرفيّة وفلسفيّة وأخلاقيّة، تتّسم بأنّها مصيريّة ومهمّة وحاسمة، وتقول لنا: ما هو التقدُّم المطلوب، وما هو التقدُّم غير المطلوب، والذي يجب استبعاده. فالشخص الذي نادى ذات يومٍ، عن جهل وصبيانيّة، بأنّه يجب أن نكون غربيّين وأوروبّيّين، من قمّة رأسنا، إلى أخمص قدمينا، لم يلتفت إلى أنّ لأوروبّا تجربة وثقافة، ولها مبانيها المعرفيّة التي قام التقدُّم على أساسها، ومن الممكن أن لا يكون قِسمٌ من تلك المباني مقبولًا عندنا، أي إنّنا نعتبرها خاطئة ومغلوطة.

 

مبانينا المعرفيّة تحدّد هويّة تقدُّمنا

لدينا مبانينا المعرفيّة والأخلاقيّة الخاصّة بنا. تحمل أوروبّا في سِجلّها، تجربة محاربة الكنيسة للعلوم، أثناء القرون الوسطى، ويجب أن لا نغفل عن الدوافع وردود الأفعال التي ميّزَت النهضة العلميّة في أوروبّا، في قبال ذلك الماضي. وهناك تأثير كبير جدًّا للمباني المعرفيّة والفلسفيّة والأخلاقيّة، على نمط التقدُّم الذي يريدون اختياره. إنّ مبانينا المعرفيّة هي التي تقول لنا: هذا التقدُّم مشروعٌ[1] أو غير مشروعٍ، وهل هو محبَّذٌ أو غير محبَّذٍ، وهل هو عادل أم غير عادل.


 


[1] (شرعيّ وقانونيّ).

 

195


162

خطاب الولي 2009

محوريّة النفع المادّيّ وأصالة اللذّة

لنفترض أنّ التفكير النفعيّ (المادّيّ) هو السائد في مجتمعٍ ما، بمعنى أن تُقاس فيه جميع ظواهر الكون، وتُجرَّب بمقتضى المال، فيكون كلّ شيءٍ بقيمته الماليّة وربحه المادّيّ، هذه هي الحال الشائعة اليوم في جزء كبير من العالم: يُقاس كلّ شيء بالمال. قد تكون هناك بعض الأعمال ذات قيمة (قيَميّة) في ذلك المجتمع، لأنّها توصلهم إلى المال. ولكن في المجتمع الذي لا يكون فيه المال والربح محور الأحكام، قد تُعتَبَر هذه الأعمال ذاتها مضادّة للقِيَم[1].

 

أو أن تكون أصالة اللذّة حاكمة في مجتمعٍ من المجتمعات. لماذا تعتبرون هذا العمل مباحًا؟ لماذا تُبيحون الشذوذ الجنسيّ والمثليّة الجنسيّة؟ يقولون: لأنّ في ذلك لذّة، والإنسان يلتذّ منه. هذه هي أصالة اللذّة. إذا ما سادت أصالة اللذّة على المجتمع، وعلى ذهنيّة عموم الناس، تُباح أمورٌ وأشياء. ولكن إذا كنتم تتنفّسون ضمن إطار فلسفة معيّنة، وأيديولوجيا معيّنة، ونظام أخلاقيّ معيّن، لا تسوده أصالة اللذّة، وتوجد فيه بعض الأعمال التي تكتنفها اللذّة، إلّا أنّها ممنوعة وغير مشروعة، فليست اللذّة هي التي تبيح فعل هذا الشيء وذاك الشيء، وليست ضوءًا أخضرَ لاتّخاذ القرارات، أو إضفاء الشرعيّة على شيء. هنا، لا يمكنكم اتّخاذ القرارات، كما في مجتمعٍ تسوده أصالة اللذّة، فالمباني المعرفيّة مختلفة.

 

القيم الأمريكيّة: محوريّة المال والمنفعة الشخصيّة

أو إذا كان المال يحظى، في مجتمعٍ ما، أو في منظومة أخلاقيّة ما، باحترامٍ مطلق. وليس من المهمّ من أين يأتي هذا المال، قد يكون مصدره استغلال الآخرين، وقد يكون جاء وحصل بفعل ممارساتٍ استعماريّة، أو عن طريق نهبٍ وسلب، فلا يختلف الأمر عندهم، لأنّه مالٌ (على كلّ حال). طبعًا، إذا جرى التصريح بهذه الأمور في العصر الحاضر -في المجتمعات المبتلاة بهذه الأمور- فقد تُنكِر وتستنكر، لكن إذا نظرنا إلى

 


 


[1] أو بتعبيرٍ آخر: قد تكون بعض الممارسات قِيَميّة، أو ذات قيمة، لأنّها تجلب الربح، لكنّ المجتمعات التي لا تقيم وزنًا للمال، ولا يكون هو المعيار في الحكم والتقييم، فقد تُعتبَر هذه الممارسات ذاتها فاقدة للقيمة.

 

196


163

خطاب الولي 2009

تاريخهم، اتّضحَت حقيقة القضيّة.

 

ففي أمريكا، إنّ أصل جذور "الحرّيّة الفرديّة" و"الليبراليّة"، التي افتخروا بها، ولا يزالون، وتُعَدّ من القيم الأمريكيّة، هي عبارة عن "الحفاظ على الثروة الشخصيّة"، أي إنّه في البيئة التي ظهرت فيها أمريكا والناس الذين تجمّعوا في أمريكا يوم ذاك، كان الحفاظ على ثمار الأعمال والمساعي المادّيّة، بحاجة إلى أن تُعطَى الثروة الشخصيّة للأفراد، احترامًا مطلَقًا. وطبعًا، لهذه القضيّة حكايتها الطويلة، من زاوية علم الاجتماع، وبنظرة واقعيّة إلى المجتمع الأمريكيّ. يوم أصبحَت بلاد أمريكا -وليس النظام السياسيّ الحاكم في أمريكا- مكانًا لكسب المال والثروة، بما لها من موارد طبيعيّة غنيّة، كان غالبيّة الذين تجمّعوا في أمريكا، يوم ذاك، مغامرين، قد هاجروا من أوروبّا، وسبروا عباب المحيط الأطلسيّ المتلاطم، ليصلوا إلى ماساتشوتس. لم يقصد تلك الأرض أيُّ شخصٍ كان. مَن كانت له في أوروبّا حياته وعمله وعائلته وأصالته، لم يكن ليتركها ويقصد أمريكا. كان يقصدها أشخاص، إمّا مفلسون ماليًّا، أو مطلوبون للقضاء والعدالة، أو مغامرون. تعلمون أنّ المحيط الأطلسيّ أكثر بحار العالم تلاطمًا واضطرابًا، اجتياز هذا المحيط والانتقال من أوروبّا إلى أرض أمريكا، يستدعي، بالطبع، نصيبًا من المغامرة. فقد شكّلَت مجموعة من هؤلاء المغامرين، غالبيّة المهاجرين الأوائل إلى أمريكا، ولا أقول كلّهم. وإذا أُريدَ لهم أن يعيشوا بعضهم إلى جوار بعض، وأن يُنتِجوا الثروة، يجب إضفاء قيمة مطلقة على الثروة الشخصيّة، وهذا ما حصل. تلاحظون في أفلام الكاوبوي -طبعًا هذه الأفلام لا تمثّل الواقع مئة في المئة، فهي أفلامٌ وقصص على كلّ حال، بَيْدَ أنّ علامات الواقع واضحة فيها تمامًا- أنّ القاضي يجلس وينظر ويحكم في قضيّة بقرة سرقها شخصٌ من قطيع شخص آخر، ويحكم على السارق بالإعدام، ثمّ يشنقونه! كلّ هذا لكي تكون للثروة الشخصيّة، وللملكيّة الخاصّة، قيمة مطلقة. في مثل هذا المجتمع، ليس من المهمّ من أين يُؤتى بالمال.

 

المال الغربيّ منهوبٌ بالاستعمار

في المجتمعات الغربيّة، جاء المال، على العموم، عن طريق الاستعمار. فالثروة التي

 

197

 


164

خطاب الولي 2009

أصابتها بريطانيا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، واستطاعت بفضل تلك الثروة والأموال والذهب، أن تفرض سياستها على عموم أوروبّا والمناطق الأخرى، هذه الثروة حصلت للبريطانيّين عن طريق استعمار البلدان الشرقيّة، وخصوصًا شبه القارّة الهنديّة، حيث نهبوا شبه القارّة الهنديّة وبلدان تلك المنطقة. راجِعوا التاريخ واقرؤوه. الحقّ أنّه لا يمكن تلخيص ما فعله هؤلاء بالهند، في كلمة أو كلمتَين. لقد عصر البريطانيّون ثرواتِ الهند وتلك المناطق، كما تُعتَصَر الرمّانة -وهي مناطق ثريّة جدًّا- وذهبَت هذه الموارد كلّها إلى خزينة الحكومة البريطانيّة، فتحوّلَت بريطانيا إلى بلدٍ ثريّ. لا يُسأَل هنا، من أين جاءت هذه الثروة، فهي ثروة لها احترامها، ويجب أن تُحتَرَم! والتقدُّم في هذا البلد، له معنى، أمّا في البلد الذي يحرِّم الاستعمار، ويحرّم الاستغلال، ويمنع الغارة والنهب، ويحرِّم الغصب، ويمنع الاعتداء على حقوق الآخرين وأخذ أموالهم، فيكتسب (التقدُّم) معنى آخر. إذًا، المباني المعرفيّة والأخلاقيّة، والمبادئ الفلسفيّة، لها دورها المهمّ في تعريف التقدُّم في البلد.

 

نقاط إيجابيّة: روح المخاطرة والإبداع

النقطة الأخرى هي أنّنا حينما نستعرض نقاط اختلاف التقدُّم، حسب المنطق الإسلاميّ، عن التنمية الغربيّة، يجب أن لا ننسى نقاط الاشتراك. فثمّة نقاط اشتراك في تنمية البلدان المتقدّمة: روح المخاطرة -وهي للحقّ والإنصاف، من الخصال الحسنة عند الأوروبّيّين- وروح الإبداع، والمبادرة، والانضباط. هذه أمور وأحوال ضروريّة جدًّا، وأيّ مجتمعٍ يفقد هذه الصفات، لن يُكتَب له التقدُّم، هذه أمور ضروريّة. إذا لزم أن نتعلّم هذه الأمور، فسنتعلّمها، وإذا كانت موجودة في مصادرنا، فعلينا أخذها من هناك، والعمل بها.

 

محوريّة العدالة في عقد التقدُّم

النقطة التالية تتعلّق بمسألة العدالة. قلنا: "عقد التقدُّم والعدالة"، له معنًى كبير جدًّا. لنفترض أنّ من المؤشّرات المهمّة، زيادة الدخل الإجماليّ الوطنيّ للبلدان. فالبلد الفلانيّ دخله الإجماليّ الوطنيّ عدّة آلاف من المليارات، والبلد الفلانيّ لا يساوي دخله

 

 

198


165

خطاب الولي 2009

سوى معشار دخل البلد الأوّل، إذًا، البلد الأوّل أكثر تقدُّمًا. هذا المنطق ليس بالمنطق الصحيح. إنّ زيادة الدخل الإجماليّ الوطنيّ - أي الدخل العامّ للبلاد - لا يدلّ وحده على التقدُّم، إنّما ينبغي النظر إلى الكيفيّة التي يجري بها تقسيم هذا الدخل، وتوزيعه. فإذا كان الدخل الوطنيّ عاليًا جدًّا، لكن يوجد في هذا البلد نفسه أفراد ينامون ليلهم في الشوارع، ويموت كثيرون منهم في جوٍّ درجة الحرارة فيه تبلغ اثنين وأربعين، فهذا لن يكون تقدُّمًا. لاحِظوا ما يأتي في الأخبار: في المدينة الغربيّة الفلانيّة المعروفة -في أمريكا مثلًا، أو مكان آخر- بلغَت درجة حرارة الهواء اثنَين وأربعين درجة مئويّة، ومات كذا عدد من الناس بسبب الحرّ! لماذا يموتون في درجة حرارة اثنَين وأربعين؟ معنى ذلك أنّهم بلا مأوى، ولا سكن. إذا كان هناك أناس يعيشون في المجتمع بلا مأوى، أو عليهم العمل 14 ساعة في اليوم الواحد، ليستطيعوا توفير لقمة العيش لأنفسهم، لكي لا يموتوا جوعًا، فلن يكون هذا تقدُّمًا، حتّى لو كان الدخل الإجماليّ الوطنيّ عشرة أضعاف ما هو عليه. هذا ليس تقدُّمًا في المنطق الإسلاميّ. لذلك، كانت العدالة على جانب كبير من الأهمّيّة.

 

النظرة الإسلاميّة للتقدُّم: عمران حياة الناس، دنيا وآخرة

طبعًا، ثمّة كلام ونقاش أكثر حول العدالة. تقوم النظرة الإسلاميّة للتقدُّم، على أساس الرؤية التي تقول: إنّ الإنسان كائن، له حيّزان (ساحتان)، فهو يعيش في الدنيا، وفي الآخرة. هذه الرؤية هي أساس كلّ الأفكار التي ينبغي أخذها بالاعتبار، فيما يتّصل بالتقدُّم. هذا هو المؤشّر (الشاخص) العامّ، والفارق الرئيس. إذا اعتَبرَت الحضارةُ أو الثقافةُ أو المذهبُ الإنسانَ ذا حيّزٍ حياتيّ واحد، ولم تنظر إلى سعادته إلّا في حدود حياته المادّيّة الدنيويّة، فمن الطبيعيّ أن يكون التقدُّم في منطقها، مختلفًا تمامًا عنه في منطق الإسلام، الذي يرى للإنسان حيّزَين وبُعدَين. يتقدّم بلدنا ومجتمعنا الإسلاميّ، ليس عندما يعمِّر دنيا الناس فحسب، بل حينما يعمِّر آخرتهم أيضًا. هذا ما يريده الأنبياء: الدنيا والآخرة.

 

يجب أن لا يُغفَل عن دنيا الإنسان، بحجّة وَهْمِ الاهتمام بالآخرة، كما يجب أن لا يُغفل عن الآخرة، بسبب الانهماك في الحياة الدنيا. هذه نقطة

 

 

199

 


166

خطاب الولي 2009

على جانب كبير من الأهمّيّة، وهذا هو الأساس. التقدُّم المنشود في المجتمع الإسلاميّ، هو تقدُّمٌ من هذا القبيل.

 

أشكال الانحرافات

وقد تحصل، هاهنا، عدّة أنواع من الانحرافات:

1. عمران الدنيا وحسب

أحد الانحرافات هو أن يعتبر بعضُهم الدنيا هي الأصل، وينسون الآخرة، بمعنى أن تنصَبَّ كافّة جهود المجتمع والمبرمجين والمخطّطين والدولة، على عمران حياة الناس في هذه الدنيا، أن يكون للناس أموالٌ وثروة، ويكونوا في عيشٍ مريحٍ رغيد، ولا تكون لديهم مشكلة سكن، ولا مشكلة زواج، ولا مشكلة بطالة. هذا وفقط! أمّا ما هو وضعهم من الناحية المعنويّة، فهذا ما لا يجري الاهتمام به على الإطلاق، هذا انحراف!

 

2. الغفلة عن مواهب الحياة

يوجد انحراف آخر، وهو أن يغفل الناس عن الدنيا. الغفلة عن الدنيا تعني الغفلة عن مواهب الحياة، وعدم الاكتراث لها. هذا أيضًا انحراف، كالكثير من المشكلات التي عانى منها المتديّنون في الماضي، (مثل) الإقبال على القضايا الأخرويّة والدينيّة، مع عدم الاهتمام بعطايا الحياة، والإمكانيّات والفرص التي أودعها الله في هذا العالم. هذا أيضًا أحد الانحرافات. ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا﴾[1]، الله كلّفكم بإعمار الأرض. ما معنى الإعمار؟ معناه اكتشاف المواهب والطاقات اللامتناهية المودَعة في عالم المادّة، واحدة واحدة، وتمكين الإنسان من استخدامها، وجعلها وسيلة لتقدُّم الإنسان. وإنّ قضايا العلم وإنتاج العلم، التي نذكرها ونؤكِّد عليها، تتعلّق بهذا المعنى.

 

3. الاستهانة بمواهب الحياة على المستوى الثقافيّ

وثمّة انحراف آخر، هو أن يستهين الإنسان في حياته الشخصيّة، بمواهب الحياة والاحتياجات المادّيّة، ولا يأبه بها. هذا أيضًا لم يَقُلْ به الإسلام، ولم يُرِدْهُ، بل طالَبَ بما


 


[1] سورة هود، الآية 61.

 

200


167

خطاب الولي 2009

هو خلاف ذلك: "ليس منّا من ترك آخرته لدنياه، ولا من ترك دنياه لآخرته"[1]. إذا تركتم الآخرة من أجل الدنيا، رسبتم في الامتحان، وإذا تركتم الدنيا في سبيل الآخرة، رسبتم في الامتحان أيضًا، هذا شيءٌ مهمّ جدًّا.

 

صادف أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام شخصًا ترك زوجته وحياته وبيته وكلّ ما عنده، وعَكَفَ يعبُد الله، فقال له: "يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ!"[2]، إنّك تعادي نفسك، لم يطلب الله منك هذا: ﴿قُلۡ مَنۡ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزۡقِۚ﴾[3]. إذًا، الموازنة بين الدنيا والآخرة، والنظر إلى كليهما، أمرٌ ضروريٌّ ولازم -سواء في البرمجة، أو التخطيط، أو في الممارسات والأعمال الشخصيّة، أو في إدارة البلاد -هذا بدوره من المؤشّرات (المعايير) الرئيسة للتقدُّم.

كانت هذه بعض مميّزات التقدُّم الذي نبتغيه وننشده. وكما قلنا، فإنّ الأمر لا ينتهي بهذا الكلام، ينبغي التدقيق والمتابعة والبحث.

 

تحويل القضايا إلى خطط ومشاريع

ليبحث أصحاب الفكر والنظر في الجامعات، في هذه القضايا، وليشرحوها علميًّا، وليقدّموا نماذجَ علميّة، لنستطيع تحويلها إلى خطط وبرامج تُطرَح في الساحة، حتّى يشعر الشعب في نهاية الأعوام العشرة هذه، أنّه حقَّق تقدُّمًا حقيقيًّا.

 

مؤشّرات نموذج التقدُّم: حفظ الاستقلال

من الأمور التي لا بدّ من الالتزام بها، هو أنّ أيَّ نموذج للتقدُّم، يجب أن يضمن استقلال البلاد. ينبغي النظر لهذه المسألة كمعيار (كشاخص). أيُّ نموذج من النماذج المقتَرَحة للتقدُّم، إذا كان يفرض على البلاد التبعيّة والذلّ واتّباع البلدان المقتدرة وذات القوّة السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، فهو نموذجٌ مرفوض. أي إنّ الاستقلال من


 


[1] راجع: الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1414هـ، ط2، ج3، ص156، وفيه: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ دُنْيَاهُ لآِخِرَتِهِ، وَلَا آخِرَتَهُ لِدُنْيَاهُ".

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص 187.

[3] سورة الأعراف، الآية 32.

 

201


168

خطاب الولي 2009

اللوازم والضروريّات الحتميّة لنموذج التقدُّم، في "عقد التقدُّم والتنمية".

 

لا يُعَدّ التقدُّم الظاهريّ تقدُّمًا، إذا اقترن بالتبعيّة في السياسة والاقتصاد، وفي الأصعدة الأخرى. توجد حاليًّا بلدان -خصوصًا في آسيا- حقَّقَت تقدُّمًا ظاهريًّا في مجالات التقنيّة والعلوم والصناعات، وقد نفذَت إلى أسواق الكثير من أنحاء العالم، لكنّها بلدان تعاني من التبعيّة، إذ لا دور لشعوبها ولحكوماتها على الإطلاق، لا في السياسات العالميّة، ولا في سياسات العالم الاقتصاديّة، ولا في التخطيطات المهمّة على المستوى الدوليّ. إنّها بلدان تابعة، وهي تابعة لأمريكا في الغالب. هذا ليس تقدُّمًا، وليس له قيمة.

 

العولمة اسمٌ جميل، ولكن...

 

ثمّة نقطة لا بأس أن أذكرها هنا، هي مسألة العولمة. العولمة اسمٌ جميل جدًّا، وكلّ بلدٍ يخال أنّ العولمة ستفتح أسواق العالم في وجهه. لكن، ينبغي أن لا تكون العولمة لأيّ شعبٍ من الشعوب المستقلّة، بمعنى التحوُّل إلى صامولة أو بُرغيّ في ماكنة الغرب الرأسماليّة. إذا أُريدَ للعولمة أن تتحقّق بالمعنى الصحيح للكلمة، فعلى البلدان أن تحافظ على استقلالها الاقتصاديّ والسياسيّ، وقدرتها على اتّخاذ القرارات، وإلّا فلا قيمة للعولمة التي وُجِدَت منذ عشرات الأعوام، عن طريق البنك العالميّ، وصندوق النقد الدوليّ، ومنظّمة التجارة العالميّة، وغيرها من المنظّمات التي كانت جميعها أدوات أمريكيّة واستكباريّة.

 

إذًا، الاستقلال مبدأ مهمّ، إذا لم يتحقّق، فلا تقدُّم، بل مجرّد سراب.

 

قضيّة إنتاج العلم

من القضايا الأخرى ذات الصلة الوثيقة بكم، هي قضيّة إنتاج العلم. لحُسن الحظّ، أرى أنّ إنتاج العلم وضرورة اجتياز[1] حدود العلم، قد تحوّل في الجامعات، إلى خطابٍ عامٍّ غالب. هذا شيء بالنسبة إليَّ، باعث على الرضى والأمل الكبير، ويجب تنفيذه.


 


[1] بمعنى استثمار العلم، وجعله منتجًا في الحقول الأخرى، سواء في حقول الأبحاث، أو التطوير، أو في التطبيق في الصناعة وغيرها.

 

202


169

خطاب الولي 2009

وكلّ الاقتراحات التي تقدَّم بها أعزّائي، في مضامير العلم والبحث العلميّ وتأسيس مراكز لإعداد النخبة والتواصل وغير ذلك، تصبّ في اتّجاه إنتاج العلم. وهذا شيءٌ له قيمة كبيرة. يجب متابعة هذا الطريق، والسير فيه بخطى حثيثة، لأنّنا متأخّرون. وإنّ سرعة تقدُّمنا في الوقت الحاضر جيّدة، ولكن بالنظر إلى التخلّف الذي عانی منه بلدنا في الماضي، مهما كانت سرعتنا متزايدة، فلن تكون كبيرة. يجب أن نحقّق تقدّمًا كبيرًا، ونسير في الطرق المختزلة، وأن نستفيد من السرعة العالية. ينبغي أن يكون لنا إنتاجنا العلميّ في الحقول والمجالات كافّة.

 

 العلم واستيراده

يجب أن تكون العلاقة بين البلدان، فيما يتّصل بقضيّة العلوم، علاقة تصدير واستيراد، بمعنى أن يسُودها التعادل والتوازن. كما أنّه في القضايا الاقتصاديّة والتجاريّة، إذا كان استيراد بلدٍ ما، أكثر من تصديره، كان ميزانه سلبيًّا، ويشعر بالغبن والخسارة، كذلك الحال في مجال العلوم.

 

لا عيب في استيراد العلم، ولكن ينبغي، إلى جانب ذلك، تصدير العلم بمقدار الاستيراد نفسه، على الأقلّ، إنْ لم يكن أكثر. يتعيّن أن تكون الحركة ذات اتّجاهَين، وإلّا إذا بقيتم تقتاتون على فتات موائد علم الآخرين، فلن يكون ذلك تقدُّمًا.

 

اطلبوا العلم، وخذوه، وتعلّموه من الآخرين، ولكن أنتِجوه أنتم أيضًا، وقدِّموه للآخرين. احذروا من أن يكون ميزان تجارتكم هنا سلبيًّا أيضًا. للأسف، كان ميزاننا (إنتاجنا) سلبيًّا، على مدى قرنَي ازدهار العلم في العالم. أُطلِقَت أعمالٌ ومشاريع جيّدة منذ انتصار الثورة، ولكن يجب مواصلتها بحزمٍ وسرعة أكبر.

 

العلوم الإنسانيّة فيها نقاش

طبعًا، أنا لا أقصد العلوم الطبيعيّة فقط، فالعلوم الإنسانيّة لا تقلّ أهمّيّةً عنها: علم الاجتماع، وعلم النفس، والفلسفة. وإنّ نظريّات الغرب في علم الاجتماع، هي معتبَرة (موثوقة) عند بعضهم، كالقرآن، بل اعتبارها عندهم أكثر من القرآن! قال عالم الاجتماع الفلانيّ كذا. وكأنّه لا نقاش في هذا! لماذا؟ فأنتم تستطيعون أن تفكّروا

 

203


170

خطاب الولي 2009

وتنظّروا، ولنستفِد من العلوم المتاحة والمنتَجة في العالم، ونضِف إليها شيئًا، ونعلن عن مكامن الخطأ فيها. هذه من الأعمال التي تُعَدّ من ضروريّات التقدُّم الحتميّة.

 

المعارك السياسيّة والأخلاقيّة اليوم أهمّ

من الضروريّات الأخرى أيضًا، قضيّة الكفاح (المواجهة). إذا أردتم التقدُّم، فعليكم أن تكافحوا، فالركون إلى الدعة وحبّ السلامة والعزلة، ووضع يد على يد، والتفرُّج على أحداث العالم، وعدم النـزول إلى الميادين الكبرى، لن يحقّق التقدُّم لأيّ شعب، عليكم النـزول إلى وسط الساحة. وهذه الساحة ليست ساحة حرب عسكريّة بالضرورة، فالمعارك السياسيّة والأخلاقيّة هي، اليوم، أهمّ من الحروب العسكريّة. وإنّ الكثير من البلدان والحكومات والمجتمعات، التي تُعَدّ اليوم متطوّرةً في العالم، إذا حُوسِبَت أخلاقيّا وسياسيًّا، فهي في الحضيض.

 

انظروا اليوم إلى المشهد في العالم، في غزّة مثلًا. هناك جماعة محاصَرة في بقعةٍ من الأرض -لا يسمحون بدخول أيّ شيءٍ من مستلزمات الحياة إليهم- يقصفونهم بالطائرات والصواريخ والمدفعيّة، وتزحف جيوشهم المدرَّعة نحوهم، ويَقتلون منهم أكثر من خمسة آلاف إنسان خلال 22 يومًا، والعالم يتفرّج، وبعد مدّةٍ، يُسمَع من هنا وهناك، بعض الأنين والاعتراض غير المؤثّر. وأخيرًا، تعلن منظّمة الأمم المتّحدة -وقد أعلن ذلك الأمين العامّ للأمم المتّحدة قبل أيّام - أنّ ملفّ قضيّة غزّة قد أُغلِق! عجيب!

 

الملفّ النوويّ: كَيلٌ بمكيالَين

ثمّة ظلم وتمييز في العالم اليوم، وكَيلٌ بمكيالَين. ومن مصاديق ذلك، قضيّتنا النوويّة. ومن مصاديق ذلك، الاعتداء العسكريّ على البلدان المسلمة الجارة، وقد أصبح قتل المدنيّين وقصفهم أمرًا يوميًّا مألوفًا. قبل أسبوعٍ، أعلنوا عن مقتل 150 إنسانًا في أفغانستان، بسبب القصف الجوّيّ الأمريكيّ، ولا يكترث أحدٌ لذلك! ثمّ يقولون: نعم، عفوًا، لقد أخطأنا. هذا كلام!

 

لو حاسبوا "صدّام" يوم قصف حلبجة بالأسلحة الكيميائيّة، ولو أخذوه وحاكموه، لو حاسبوا الجنرال الأمريكيّ الذي قصف الطائرة المدنيّة الإيرانيّة، وأسقطها في الخليج

 

204


171

خطاب الولي 2009

الفارسيّ، وقتل المئات من الإيرانيّين وغير الإيرانيّين، وحاكَموه -حيث إنّ رئيس جمهوريّة أمريكا قد منحه آنذاك وسامًا، لاحِظوا الانحطاط!- ولو حاكَموا الضابط المجرم المسؤول عن قصف أوّل قافلة عرسٍ في أفغانستان، مِن قِبَل العسكريّين الأمريكيّين، لَما وقعَت هذه الأحداث في العالم مجدّدًا، أو لقَلَّ وقوعُها. هذا واقعٌ قبيح، وسيّئ، وغير إنسانيّ. على الشعب الحيّ أن يناضلَ ضدّ هذا الواقع.

 

روحيّة الدفاع عن القضايا الحقّة

نحن نفخر بأنّ شعبَنا وحكومتنا ومسؤولينا وشبابنا ونخبتنا، لم يكونوا غير آبهين حيال هذه الأمور، طوال السنوات الماضية، بل أعلنوا مواقفهم، وأظهروا معارضتهم وإدانتهم. يتوجّب على الشعب الإيرانيّ أن لا يفقد هذه الروح التي يتحلّى بها، لا تتركوا هذه الروح، خصوصًا أنتم الشباب. يريد بعضهم قلبَ المفاهيم والأمور، رأسًا على عقب، فيعترضون قائلين: لِمَ ترفعون شعارات الموت لفلان، والموت لفلان؟ ويعترضون: لماذا تطرحون جرائم أمريكا والصهاينة وحلفائهم من على المنابر العالميّة علانيةً؟! (والجواب أنّه) يجب أن تُطرَح هذه الجرائم، ويجب أن نتحدّث بها، لتأخذ الشعوب الدروس.

 

الثورة نموذجًا وقدوة

أقول لكم: إنّ بعض البلدان المستقلّة والمتحرّرة -مع أنّنا لا نستطيع إثبات ذلك، لكنّنا نعلمه، وقد شاهدتُهُ عيانًا- ومنها أحد البلدان الأفريقيّة المعروفة -استلهمَت النموذج من إيران. استخدَموا الأسلوب ذاته الذي انتُهِج في إيران أيّام الثورة، قيل لهم هذا الشيء هنا، جاء زعماؤهم الثوريّون إلى هنا، وقيل لهم: إنّ الإمام استخدم هذا الأسلوب، فعادوا إلى بلادهم، واستخدموا الأسلوب نفسه، واستطاعوا تحقيق استقلالهم، وقضوا على التمييز العنصريّ في بلادهم.

 

حينما ترى الشعوب والحكومات شعبًا صامدًا بهذا الشكل، تستلهم وتتعلّم، ويتشجّع القادة الوطنيّون. فلماذا نخجل؟ في عهد الطاغوت قبل انتصار الثورة، كان إذا أراد بعض الأشخاص أن يصلّي أمام الأنظار -إذا (حلّ وقت الصلاة) وهم يمشون في الشارع مثلًا، أو كانوا بانتظار الرحلة الجوّيّة في المطار، أو كانوا في زاوية من زوايا

 

 

205


172

خطاب الولي 2009

الجامعة- كانت إقامة الصلاة غير مألوفة، وغير عاديّة، إلى درجةٍ كان يُقال لهم بتعجُّبٍ: أنتم تصلّون؟! أخزيتمونا! (نعم)، كانت الصلاة مدعاة خزي! هكذا كان الحال، وأنتم الشباب لم تدركوا ذلك العهد، لكنّنا شهدناه. إذا قام شابٌّ متديّن وصلّى في مكانٍ أمام أعين الآخرين، كان أصدقاؤه يخجلون، ويقولون له: لقد أذهبتَ ماء وجهنا. وكذلك في الاجتماعات العامّة -التي يلقي فيها أشخاص كلماتهم- إذا بدأ المحاضِر كلمته بعبارة (بسم الله الرحمن الرحيم)، يخجل أصدقاؤه، وينكّسون رؤوسهم!

 

الخجل ممنوع عند إظهار القضايا الحقَّة

اليوم، وفي عهد عظمة الإسلام، وشموخ النظام الإسلاميّ، وعزّة شعب إيران، بفضل مواقفه المناهضة للاستكبار، إذا وقف شخصٌ على المنابر العالميّة، وتحدّى أمريكا وإسرائيل والصهيونيّة وحلفاءهم، وتحدّث بصراحة، فإنّ بعضهم يخجل ها هنا! ويتأفأفون ويقولون: لقد أخزيتنا! خجلٌ يشبه ذلك الخجل من أداء الصلاة في أيّام حكم الطاغوت. لماذا نخجل؟! يجب أن لا تتوقّف المواقف الصريحة للشعب الإيرانيّ، من الظلم والجور الدوليّ، وخصوصًا (مواقف) الشباب.

 

الكُرد ومشاعر الارتباط بالثورة

أعزّائي، هذه سُوح التقدُّم، وعلى الجميع أن يبذلوا مساعيهم. هنا جامعة كردستان. أغلبيّتكم، أيّها الشباب، من الكُرد. إنّني فخورٌ، لأنّ الشعارات الإسلاميّة ومشاعر الارتباط بالمبادئ الوطنيّة في البيئة الكرديّة، وبين الطلبة الجامعيّين الكرد، حيّةٌ ومتصاعدةٌ إلى درجةٍ تُغضِب الأعداء. هذا مبعث فخرٍ وطنيّ لنا.

 

لقد فعل (الأعداء) كلَّ ما أمكنهم ضدّ كردستان، وأشاعوا، ما استطاعوا، الفصلَ بين القوميّات الإيرانيّة، في أبواقهم الإعلاميّة ومنابرهم ومنشوراتهم وصحفهم، في السرّ والعلن. وترون اليوم، نتائج ذلك في هذه الحشود، ورأيتموها في حشود ساحة "آزادي" بمدينة سنندج، وفي مدينة مَرِيوان[1]. الشعب متّحدٌ ومتلاحم، وله أهدافه


 


[1] سنندج مركز محافظة كردستان، ومَرِيوان (Marivan): مدن إيرانيّة في محافظة كُردستان، تقطنها غالبية كُرديّة. وفي ذلك اليوم، عند حضور سماحته في هذه المدن، خرجَت حشود مهيبة ملأَت الساحات، وكان الحشد الأضخم في ساحة آزادي (الحرّيّة) في سنندج.

 

206


173

خطاب الولي 2009

ومبادئه، القوميّات متّحدة. الآراء التي طرحها الأعزّاء الكرد اليوم هنا، حول التضامن والتعاطف، هي أمورٌ واضحة جدًّا لي، واضحة وضوح الشمس. قد لا يدركها بعضهم بصورة جيّدة، فعليهم إصلاح أنفسهم.

 

تعدُّد القوميّات الإيرانيّة فرصة

أقول لكم: إنّ وجود القوميّات الإيرانيّة هو فرصة. إذا ما تسابقت القوميّات الإيرانيّة، وتنافسَت في ساحة العمل نحو فعل الخيرات، لكان ذلك عملًا عظيمًا جدًّا وصحيحًا. لتحاول كلّ قوميّة من القوميّات الإيرانيّة -الكُرد، والفرس، والترك، والبلوش، والعرب، والتركمان، واللور- أن تقطع خطوات أوسع وأوسع، بروحها القوميّة، نحو أهداف التقدُّم الوطنيّ، وليس مجرّد التقدُّم القوميّ. هذا شيءٌ ممتازٌ جدًّا.

 

ذكر أحد أعزّائنا الكُرد، قبل أيّام، وفي اجتماع النخبة في سنندج وكردستان -الذي انعقد في إحدى صالات هذا المكان- نقطةً جيّدة، فقال: كما كتب الشهيد مطهّري كتاب "الخدمات المتبادلة بين إيران والإسلام"، فما أحسن أن يكتب شخصٌ حول الخدمات المتبادلة بين الكُرد وإيران، خدمات الكرد لإيران، وخدمات إيران للكرد. هذا شيءٌ حَسنٌ جدًّا. بيِّنوا أهمّيّة الخطوات التي يمكن أن يقطعها هؤلاء القوم، من أجل المبادئ الوطنيّة والإسلاميّة، ثمّ تنافسوا: سباقٌ بين الفرس، والكرد، والترك، والعرب، واللور، والتركمان، والبلوش، وسيكون هذا أفضل سباقٍ (تنافس) وطنيّ. وعندئذٍ، سيتّضح حجم الاستعدادات الكامنة والجيّاشة، وهكذا، تتوافر لدينا فرصة.

 

طبعًا، يستطيع العدوّ تحويل هذه الفرصة إلى تهديد، ولكن كلّكم واعون، لحُسن الحظّ. تتقلّص الشجارات (المشاحنات) الضيّقة، والنظرة القوميّة المحدودة، تمامًا، مع رؤية الإسلام، والأفق الواسع والمتسامي الذي نحتاج إليه جميعًا. أتمنّى أن يُنـزل الله -تعالى- رحمته وبركته وفضله ولطفه عليكم جميعًا، أيّها الأعزّاء.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

207

 


174

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء أهالي مدينة بيجار

 

         

         

المناسبة:   زيارة محافظة كردستان

الحضور:  حشد من أهالي مدينة بيجار وگروس

المكان:   مدينة بيجار

 

الزمان:    28/02/1388هـ.ش.

23/05/1430هـ.ق.

18/05/2009م.

 

209


175

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين، وصحبه المنتجبين، ولا سيّما بقيّة الله في الأرضين.

 

أنا سعيد جدًّا، لأنّني حضرت اليوم بين حشود أهالي مدينتَي بيجار[1] وگروس، الودودين المتحمّسين، بما لهم من سوابق تاريخيّة ومفاخر كبرى. أبدى أهالي بيجار - فضلًا عن مفاخركم التاريخيّة القديمة - جوهرَهم المتألّق، في الفترة المعاصرة أيضًا، وفي أحداث الثورة المختلفة، وأثناء الحرب المفروضة وملحمة الدفاع المقدّس عن حدود البلاد. لقد عرض رجالهم ونساؤهم وشيوخهم وشبابهم، وحتّى أحداثهم وناشئتهم، شجاعةً في الميدان، لن تُنسى، يقينًا. قبل قليل، زرنا روضة الشهداء، ووقفنا عند المزار المقدّس لمجموعة من الشهداء التلامذة لإحدى المدارس، الذين ذهبوا معًا إلى سوح الجهاد، ونالوا هناك وسام الشهادة، وزرنا هناك أضرحة هؤلاء الأعزّاء. وإنّ هذه بمثابة أوسمة عظيمة، وإشارات مهمّة، وعلامات كبيرة لأهالي مدينةٍ ما. وإنّ التاريخ سيُصدر أحكامه في هذه الأمور. لقد ولّى الزمن الذي كانت فيه جهود الأقوياء وسكّان المراكز[2]، منصبّةً على تجاهل المدن البعيدة وقوميّات البلاد. في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة اليوم، يُعَدُّ كلُّ فردٍ إيرانيّ، في أيّ نقطة من بلادنا العظيمة الواسعة، شخصيّةً لها قيمتها المستقلّة. وإنّ مجموعة هذه القيم، ومجموعة هذه الشخصيّات المستقلّة، ومجموعة السماحة والودّ والمحبّة، تشكّل الشعب الإيرانيّ الكبير، الشعب الذي استطاع في الفترة المعاصرة، رغمًا عن إرادة القوى العالميّة المستكبرة، فرضَ حضوره وإرادته وتأثيره على

 


[1] بيجار: إحدى المدن الكبيرة في محافظة كردستان، ذات الغالبيّة الشيعيّة.

[2] المقصود المدن الرئيسيّة، وما كان سائدًا في نظام الشاه البائد قبل الثورة، حيث كانت بضع مدن تتلقّى الاهتمام، وفيها الخدمات والتجارة و... وغيرها كان على هامش الدولة.

 

 

211


176

خطاب الولي 2009

المعارضين والمعاندين. وإنّ صمود الشعب الإيرانيّ - وهو اليوم صمودٌ يُضرَب به المثل، ونموذج يُحتَذى لدى كثير من الشعوب - ناشئٌ عن صمود كلّ واحد من أبناء الشعب، وصبرهم، وعن الجوهر المتألّق لشخصيّة قوميّات البلاد كافّة، في جميع المدن والنواحي والمناطق، من هذه البلاد المترامية الأطراف.

 

ما يلفت الانتباه فيما يخصّ مدينة "بيجار"، هو أنّ أهاليها استطاعوا، بمحبّتهم لأهل البيت -سواءً الشيعة منهم أو السنّة، وخصوصًا الشيعة من أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام- أن يخرجوا من امتحانات كبيرة، مرفوعي الرأس. لقد خرج هؤلاء الأهالي من امتحان حماية حدود البلد الإسلاميّ، ناجحين.

 

يعيش أهالي كردستان في أنحاء هذه المحافظة كافّة، ومنها مدينة بيجار، مركز التشيُّع في المحافظة، بعضهم إلى جوار بعض، وبعضهم مع بعض، سنّة وشيعة، مقدِّمين نموذجًا من التضامن الإسلاميّ والوحدة الإسلاميّة. هذه ظاهرة جديرة بالتقدير.

 

إنّنا عبر الدراسات والأبحاث التي أجريناها، لاحظنا أنّ النظرة إلى هذه المنطقة في عهد الطاغوت، كانت نظرة سلبيّة. اعتبَروا أهالي هذه المنطقة أجانب، ولم يأبهوا لهم. ولذلك، كان أوّل فريق عمرانيّ تحرّك في بداية الثورة -بأمر من الإمام الجليل (رضوان الله -تعالى- عليه)، تحت عنوان مكتب عمران كردستان- قد توجَّه إلى هذه المنطقة، لتقديم خدماته، من أجل معالجة المشاكل المتراكمة فيها منذ العهد السابق. بالطبع، كانت حال انعدام الأمن التي صنعها أعداء الثورة، خلال برهة من الزمن، قد فوّتَت الفرص، وأوجدَت تأخّرًا في تقديم الخدمات، بَيْدَ أنّ شباب الوطن الإسلاميّ الغيارى -سواء شباب جهاد البناء، أو أبطال حرس الثورة الإسلاميّة، أو الرجال الأقوياء في الجيش وقوّات الشرطة- وبدعم منكم أيّها الأهالي، استطاعوا القيام بأعمال في هذه المنطقة وهذه المحافظة. ومع ذلك، ليست حالات التأخُّر بقليلة. أشار إمام الجمعة المحترَم إلى بعض المطالب، ولحُسن الحظّ، تعالج الحكومة الخدومة في جلساتها -ومنها الجلسة التي عُقِدَت قبل يومَين في سنندج- القضايا والمشكلات، واتّخَذَت قرارات جيّدة بخصوص منطقة بيجار، ورفعوا لنا تقريرًا، وأكّدنا على متابعة هذه القرارات، وسوف تُتابَع، إن شاء الله. بهمّتكم أيّها الأهالي ومساعدتكم، تستطيع الحكومة، إن

 

 

212

 


177

خطاب الولي 2009

شاء الله، إنجاز أعمال كبيرة لهؤلاء الناس، ولهذه المنطقة، ولكم، أيّها الأعزّاء.

 

أذكر نقطة حول الشؤون العامّة للبلاد والثورة، لكنّها تتعلّق، بشكل خاصّ، بقضايا بيجار، وهي أنّ التحرّك العظيم الذي قام به الشعب الإيرانيّ، وأذهل العالم، إنّما قام به بمساعدة ثلاثة عناصر أساسيّة، هي: الاتّحاد، والحضور، والوعي. وقد قطع الشعب الإيرانيّ هذه الخطوة المتقدّمة، باتّحاده، وحضوره في الساحة، ووعيه، وأَوجد حضارة جديدة، وحركة جديدة، وتيّارًا جديدًا في الفكر السياسيّ في العالم. الشعوب المسلمة عثرَت على هويّتها وشخصيّتها. شعروا بأنّهم قادرون على تعويض التخلُّف الذي فُرِضَ على الأمّة الإسلاميّة. لذلك، تلاحظون أنّ تحرُّك الشعب الإيرانيّ ترك أثره في الشعوب المسلمة -من شمال أفريقيا، إلى شرق آسيا- وأيقظ الشعوب. ففي قضيّة فلسطين، وفي قضيّة لبنان، وفي قضايا العراق وأفغانستان، تبدو تأثيرات أنفاسكم، أيّها الشعب الإيرانيّ، محسوسةً في كلّ المحطّات والمواقع. هذا الإنجاز الكبير، إنّما تأتّى بفضل هذه العناصر الثلاثة:

الوحدة الوطنيّة

الوحدة الوطنيّة، حيث تقاربَت القلوب، وصاحت الحناجر بهتافٍ واحد بلغ جميع الأسماع، وتعاضَدَ الشعب، ووحَّدَ رسالته وكلمته في أرجاء الوطن كلّه، وبمختلف قوميّاته ومذاهبه، تحت راية الإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة. استطاع هذا التلاحم، في بداية الثورة، أن يُثقِل كاهل العدوّ، إلى أن كسر ظهر النظام الطاغوتيّ. كانت هذه الوحدة التي تحلّى بها الشعب الإيرانيّ -بعد ذلك، وإلى اليوم- في الاختبارات والامتحانات المتعدّدة، هي التي أوصلَت الكلمة الأخيرة إلى أسماع العدوّ، وجعلته ييأس من التغلغل في صفوف الشعب الإيرانيّ. ينبغي الحفاظ على هذه الوحدة.

 

ولذلك، قلت في سنندج، وأكرّرها هنا: على الإخوة المسلمين، أن يرجّحوا الوحدة الإسلاميّة على الفوارق المذهبيّة الشيعيّة-السنيّة، وأن لا يسمحوا للاختلافات المذهبيّة أن تؤدّي إلى الاختلاف في الوجهة والاتّجاه والمنهج. إنّ الوحدة بين القوميّات الإيرانيّة، والوحدة بين المذاهب الإسلاميّة، والوحدة بين التيّارات السياسيّة المختلفة، هي ضمانة

 

 

213


178

خطاب الولي 2009

هيبة البلاد. هنا أيضًا، أنا أوصي الجميع بالوحدة. كانت هذه وصيّتنا في المواطن التي يشكّل الإخوة السنّة فيها الأكثريّة، وكذلك هنا، حيث يشكّل الشيعة الأكثريّة، وصيّتي هي: كونوا إخوانًا (تآخوا)، وتعاضدوا، وتعاونوا. هذه هي النقطة الأولى.

 

الحضور في الساحة

النقطة الثانية هي الحضور في الساحة. استطاع حضور الشعب في الساحة، فَرْضَ اليأس على الأعداء. لو لم يشارك الشعب، طوال هذه الأعوام الثلاثين، في الانتخابات، أو في مظاهرات الثاني والعشرين من بهمن، أو في مظاهرات يوم القدس، وكذلك في المناسبات والفعاليّات المختلفة، لو لم يُظهِروا حضورهم ومشاركتهم الواسعة العظيمة أمام الأعداء، لَما كانت هيبة الشعب الإيرانيّ على ما هي عليه اليوم، دون ريب. حافِظوا على هذه المشاركة والحضور في الساحة.

 

حينما نشدّد في جميع الانتخابات، على حضور الجماهير في الساحة، وفي الميادين المختلفة، فهذا هو السبب. ليس هذا الحضور مختصًّا بالميادين السياسيّة فقط، وليس في الانتخابات فقط، إذ يجب أن تسجّل الجماهير حضورها ومشاركتها، في ميادين البناء والاقتصاد أيضًا. وكما ذكرت، فهذا الكلام لكلّ الشعب الإيرانيّ، لكنّه يصدق على مدينة "بيجار" أيضًا. ليعرف أهالي "بيجار" قدر مدينتهم، وقدر أراضيهم الخصبة الخضراء المترعة، ومنطقتهم العامرة بالخيرات والبركات. ما يُسمَع من أنّ بعض أهالي هذه المنطقة يهاجرون إلى مناطق بعيدة عنها، هو خلاف (صفة) الحضور في الميادين الاقتصاديّة. ابقوا هنا، وابنوا منطقتكم، واعمروها. لقد مضى الزمن الذي كانت فيه الحكوماتُ غيرَ مباليةٍ بالمناطق البعيدة. لحُسن الحظّ، تنظر الحكومة الخدومة إلى أقصى أنحاء البلاد، وتهتمّ بقضاياها وشؤونها. إنّني أرى وأشاهد وأشرف على الأمور من قرب، أرى كيف يهتمّون بقضايا المحافظات والمدن بدقّة. فيما يتعلّق بمدينة "بيجار" هذه، لقد شاهدتُ يومها، أنّ مسؤولي الحكومة يتفهّمون مشكلات هذه المنطقة وهذه المدينة بدقّة: مشكلة شُحّ المياه، ومشكلة تسرُّب مياه السدود نحو المحافظات الأخرى، وحرمان هذه المنطقة من المياه، وما إلى ذلك من المشكلات، هذه كلّها أمور

 

 

214

 


179

خطاب الولي 2009

يهتمّ بها مسؤولو المحافظة، ويفكّرون في معالجتها، ويعملون على حلّها. إنّه لأمرٌ يستحقّ التقدير، أن يفكّر المسؤولون بمناطق البلاد المختلفة، حتّى الأماكن البعيدة عن المركز، وحتّى المناطق غير المعروفة لدى كثير من الناس. هذه فرصةٌ تستحقّ الثناء، وجيّدة جدًّا.

 

على أهالي المنطقة أنفسهم، أن يتعاونوا. فتعاونوا، ولتكن لكم مشاركتكم. هذه المشاركة والحضور من أهمّ القضايا ذات الصلة بمواصلة المسيرة العظيمة للشعب الإيرانيّ، في مختلف المناطق، وفي هذه المحافظة وهذه المدينة على وجه الخصوص. اعرفوا قدر مدينتكم، ودياركم، ومناخكم، وبيئتكم المباركة الجميلة النضرة الخضراء، واستفيدوا منها. وليتعاون المسؤولون أيضًا، وليتعاضدوا. هذا فيما يرتبط بمسألة الحضور في الساحة.

 

الوعي

وهناك مسألة الوعي، أي العنصر الثالث الذي يلعب دورًا مهمًّا جدًّا، كما هو الحال لدور الاتّحاد والوحدة والحضور في الساحة. لقد أثبت الشعب الإيرانيّ أنّه شعب واعٍ. فلولا وعي الشعب الإيرانيّ، لسجَّلَت تلك الحكومات المتزلزلة المهزوزة -التي قامت في السنوات الأولى للثورة، ولم تؤمن بالثورة[1]- مصيرًا سيّئًا لهذا البلد، دون أدنى شكّ. لو قُدِّر أن يبقى على رأس السلطة، أولئك الذين كانوا يقولون، صراحةً: إنّهم لا يؤمنون بالثورة، وكانوا يقولون: إنّهم يخافون من أمريكا، والذين كانوا ينزعون إلى اللين، ويُظهِرون التذلّل والخضوع أمام القوى الكبرى، لكان شعبنا اليوم، في مسارٍ ووضعٍ مختلفَين، ولَما كانت هذه العزّة، وهذا التقدُّم، وهذه السمعة والشأن العالميّ.

 

وقف إمامنا الجليل بقوّة، ووقف شعبنا، بفضل وعيه، خلف الإمام، وسار معه. هذا الوعي ساعد الجماهير.

 

أريد أن أقول: يا أعزّائي، هذا الوعي ضروريّ دومًا، وهو ضروريّ اليوم، وغدًا أيضًا. الجيل الشابّ، لحُسن الحظّ، هو الغالب في أنحاء البلاد كافّة حاليًّا. ليكن الشباب واعين


 


[1] المقصود حكومة بزركان ورئاسة بني صدر.

 

215


180

خطاب الولي 2009

متيقّظين، المعايير واضحة. ولا بدّ أن يترك هذا الوعي تأثيره في الانتخابات. كما يجب أن يكون له تأثيره في إعلان المطالب والحاجات، وفي حضور الشعب في الميادين المختلفة، وفي القضايا والأمور المختلفة. ليكن الشعب الإيرانيّ واعيًا متفطِّنًا في انتخابه -وقد ذكرتُ يومها معايير الانتخاب، وهذه تكملة لتلك المعايير- فلا يُمسِكَنَّ زمام الأمور - عبر أصوات الشعب - أناسٌ يريدون الاستسلام أمام الأعداء، وهتك سمعة الشعب الإيرانيّ. لا يأتيَنّ إلى السلطة والمسؤوليّة، أناسٌ يريدون التملّق للغرب والحكومات الغربيّة والدول المتغطرسة المستكبرة، ليحقّقوا لأنفسهم -حسب ظنّهم- مكانةً على المستوى الدوليّ. هذه أشياء لا قيمة لها للشعب الإيرانيّ. لا يأتينّ إلى السلطة أفرادٌ يطمع فيهم أعداء الشعب الإيرانيّ، ليجعلهم وسيلةً لتمزيق صفوف الشعب، وإبعاده عن دينه ومبادئه وقيمه الثوريّة. على الشعب التحلّي بالوعي. إذا ما تسلّم المراكز والمناصب والمؤسّسات السياسيّة والاقتصاديّة المختلفة، أشخاصٌ يريدون أن يفكّروا بخطب ودّ القوّة الغربيّة الفلانيّة، أو المستكبر الدوليّ الفلانيّ، بدل التفكير بمواصلة طريق الإمام، والقيم والمبادئ المرسومة من قِبل الإمام، فسيكون ذلك بمثابة الكارثة والمصيبة على شعب إيران. هذا الوعي ضروريّ للشعب.

 

إذًا، يحتاج الشعب الإيرانيّ، في يومنا هذا، وكما في الأعوام الثلاثين المنصرمة، إلى هذه العناصر الثلاثة: عنصر الاتّحاد، وعنصر الحضور في الساحة والميادين المختلفة، وعنصر الوعي. أقول لكم: إذا توافرَت هذه العناصر الثلاثة لدى الشعب -وهي كلّها من بركات الإيمان بالله، ومن بركات التعاليم القرآنيّة- فستكون لهذا الشعب الدنيا والآخرة. إنّ الشعب، بفضل إيمانه، وبفضل عقيدته، وببركة تمسّكه برعاية النبيّ الكريم وأهل بيت العصمة وتعاليم القرآن، سيتمكّن من أن يحسِّن حال دنياه، أضعافًا ممّا هي عليه، وأن يكسب، إلى جانب ذلك، رضى الله -تعالى-. هذا هو خطّنا ومنهجنا العامّ.

 

أشكر الله، لأنّني خلال زيارتي هذه إلى كردستان -مع علمي المسبَق ومعلوماتي الكثيرة عن هذه المنطقة، والتي حصّلتُها سماعًا وقراءةً- قد اكتسبتُ أفكارًا ومعلومات وحقائق أكثر، عبركم مباشرة، أيّها الأهالي الأعزّاء الودودون الأوفياء الشجعان النجباء. أتمنّى أن يعرف المسؤولون قدركم، أيّتها الجماهير الطيّبة النجيبة المتديّنة الوفيّة، وأن

 

 

216


181

خطاب الولي 2009

تعلموا أنتم أيضًا، قدر هؤلاء المسؤولين الخدومين. بهذا الاتّحاد والتعاضد بين الشعب والمسؤولين، تستطيع إيران العزيزة الوصول إلى الأهداف التي يرسمها الإسلام الثوريّ، والإسلام الأصيل.

 

اللهمّ، نُقسم عليك بمحمّد وآل محمّد، أَمطِر رحمتك وبركاتك وفضلك وتوفيقك على هذا الشعب. ربّنا احشر الروح الطاهرة لهذا المرجع الجليل[1]، والفقيه العارف -الذي أفجَعَنا رحيلُه حقًّا- مع أوليائه. اللهمّ، بمحمّد وآل محمّد، وفِّقنا لبناء أنفسنا، وتهذيبها، وللمعرفة الكاملة.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 


[1] آية الله الشيخ بهجت.

 

 

217


182

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء أهالي مدينة سقز

 

 

 

المناسبة:   زيارة محافظة كردستان

الحضور:  حشد من أهالي مدينة سقز

المكان:   مدينة سقز

 

الزمان:    29/02/1388هـ.ش.

24/05/1430هـ.ق.

19/05/2009م.

 

 

219


183

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين، وصحبه المنتجبين، ولا سيّما بقيّة الله في الأرضين.

 

أنا مرتاحٌ وراضٍ جدًّا، لأنّني وُفِّقتُ للحضور اليوم في هذا الحشد العظيم المتحمّس. مع أنّي لم أزر مدينتكم الجميلة من قبل، لكنّني قرأتُ وسمعتُ وعلمتُ الكثير عن سقز[1] وأهاليها الشجعان الأبطال، وروحهم العالية المتحمّسة. في تجربة الثلاثين عامًا الطويلة من عمر الثورة الإسلاميّة، اجتاز أهالي سقز، بنجاح وتوفيق، امتحانات عصيبة، في ظروف حسّاسة.

 

ربّما لم يكن الكثير من أبناء بلادنا، والعديد من شبابنا اليوم، يعلمون أنّ شباب سقز رابطوا في الصفوف الأولى للدفاع والقتال، في فترة الحرب المفروضة، وفي أكثر المناطق حساسيّةً، وفي أصعب المراحل والأوقات. في جزيرة مجنون، كان الشباب الأبطال، من سقز ومَرِيوان وباقي أنحاء كردستان، يقاتلون ويقاومون مقاومةً مستميتةً، إلى جانب سائر المقاتلين في الصفوف الأولى. وكلّ من يعرف عمليّات "خيبر" و"عمليّات بدر" في الأعوام الأولى للحرب المفروضة، يعلم مدى أهمّيّة هذا الجهاد.

 

أرى من الضروريّ اليوم، وأنا وسط حشودكم، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء من مدينة "سقز"، أن أشكر، من أعماق القلب، أهالي هذه المدينة، على مواقفهم الواضحة المجيدة. وأنتهز الفرصة هنا، لأهدي التحيّة والسلام إلى أهالي مدينة "بانه" الأعزّاء، وسائر مدن هذه المحافظة، الذين لم أُوَفَّق شخصيًّا لزيارتهم واللقاء بأهاليهم عن قرب، وأسأل لهم، جميعًا، التوفيق من الله -تعالى-.


 


[1] سقز: إحدى مدن محافظة كردستان الإيرانيّة.

 

221


184

خطاب الولي 2009

نظام الجمهوريّة الإسلاميّة فخر العالم الإسلاميّ

إنّ المسألة المهمّة والحسّاسة التي وقف أعداء الإسلام وأعداء النظام الإسلاميّ عاجزين أمامها، ولم يعثروا لها على جواب أو إيجاد علاج، هي أنّ كلّ المفكّرين والعلماء، وكلّ الشخصيّات الدينيّة والجامعيّة البارزة، في العالم الإسلاميّ، وبين الجموع الهائلة للبلدان الإسلاميّة، يعتبرون نظام الجمهوريّة الإسلاميّة تلبيةً لدعوة الإسلام، ويرون راية الإسلام المرفوعة المرفرفة فخرًا للعالم الإسلاميّ.

 

مع بزوغ فجر انتصار الثورة، كان مخطِّطو الاستكبار وسياساته، يأملون، في ظلّ الاختلافات المذهبيّة والطائفيّة في العالم الإسلاميّ، أن يخلقوا فجوةً بين نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، والشعوب والبلدان المسلمة الأخرى. هذه المؤامرة، وإن نجحَت إلى حدٍّ ما، بالنسبة إلى بعض الحكومات التابعة للاستكبار، لكنّها لم تنجح على الإطلاق مع الشعوب. يشعر مفكّرو العالم الإسلاميّ بالفخر، لأنّ نظامًا سياسيًّا تأسّس على أساس أحكام القرآن والشريعة الإسلاميّة، بكامل الاستقلال والعزّة، في هذه البقعة من منطقة الشرق الأوسط الحسّاسة. وهذا ما قاله لنا، بصراحة، المفكّرون والعلماء الكبار والجامعيّون المتديّنون البارزون من البلدان العربيّة، من شمال أفريقيا وشبه القارة الهنديّة، ومن بلدان آسيا النائية -البلدان الإسلاميّة- طوال الأعوام الماضية، حيث أكّدوا أنّهم يفخرون بوجود الجمهوريّة الإسلاميّة. هذا، مع وجود تباينات طائفيّة ومذهبيّة. عقد العدوّ أمله على أن يخلق هذا التفاوت الطائفيّ شروخًا، بَيْدَ أنّ المفكّرين المتديّنين، والكتل المتديّنة، فرضَت اليأس على العدوّ، بفكرها الراسخ، وعزيمتها الراسخة. وهذا الشيء نفسه، حصل في داخل بلادنا، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، وفي منطقة كردستان هذه.

 

اليوم هو اليوم الثامن الذي أقضيه بين الأهالي الأعزّاء في مدن كردستان، وألتقي فيه بمختلف أطيافهم، حيث التقيتُ مجاميع جماهيريّة كبيرة، والتقيتُ النخب والمثقّفين في المحافظة، واجتمعتُ مع رؤساء العشائر ووجهاء العشائر الكرديّة المختلفة، من شتّى أرجاء كردستان والمنطقة الكرديّة، والتقيت بالشباب الجامعيّين وحشودهم الهائلة في الجامعة. كان لديّ، في جميع هذه اللقاءات، إصرارٌ على الاستماع إلى ما

 

 

222

 


185

خطاب الولي 2009

يعتمل في قلوب هذه الجموع الجماهيريّة المحبّة، بدون واسطة أو حجاب، وكذلك الاستماع إلى النخبة والمبرّزين منهم. وإنّ ما سمعته طوال هذه الساعات، بشكلٍ متتابع، وفي شتّى مناطق المحافظة، هو نداء العزّة الإسلاميّة، والوفاء للإسلام والنظام الإسلاميّ، والذي يحكي عن روح قيّمة جدًّا، يتمتّع بها الأهالي في هذه المحافظة. إنّها الحال التي أراد العدوّ عكسها (خلافها) تمامًا. وإنّ ما تحقّق وثبتَ في المواجهة مع أهالي هذه المحافظة، هو عكس إرادة الأعداء. هذا ليس بالشيء الجديد عليَّ. أنا على معرفة قريبة، منذ سنوات، بالشباب الكرد، والمقاتلين الكرد، والأهالي الكرد. كنتُ قد تعرّفتُ، عن كثب، إلى محبّة الأهالي الكرد، وعشقهم، ومودّتهم، ووفائهم، وشجاعتهم، وبسالتهم، وهي ليست بالشيء الجديد عليّ. لكنّ المهمّ لي، أن تُعرَض هذه المشاعر الطاهرة المتوثّبة، وهذا الوفاء العميق، وهذه البصيرة والوعي، وهذه الوحدة والتلاحم - رغمًا عن إرادة أعداء الشعب الإيرانيّ وإعلامهم - على شاشات التلفزة، وأن يُعرَض على كلّ الشعب الإيرانيّ، وعلى أصدقائنا وأعدائنا في الخارج أيضًا، وهذا ما حصل.

 

حذار الخطأ!

نشكر الله، لأنّ الأهالي الكرد ومحافظة كردستان قد أثبتوا لأعداء الشعب الإيرانيّ، بعملهم وتحرّكهم ومشاركتهم المشرّفة، أنّ حيلهم ومكرهم لتمزيق شعب إيران والقوميّات الإيرانيّة، قد أُحبِطَت على أيدي الأهالي الكرد أنفسهم. هذه نقطة أساسيّة جدًّا. أرى لزامًا عليَّ في هذه الساعات الأخيرة، حيث أَحضُر في هذه المحافظة، أن أتقدّم بالشكر، من أعماق القلب، لكلّ الفئات الشعبيّة والجماهيريّة، وأقول لهم: لقد مارستم دوركم بشكلٍ جيّد، هذا استعراضٌ لعظمة الشعب الإيرانيّ. وأقول للشعب الإيرانيّ عامّةً، من القوميّات كافّة: حذار الخطأ! وحذار (التساهل مع) سلوك جماعات قليلة العدد، تنشب أظافرها في وجه الثورة والجمهوريّة الإسلاميّة، وأن يعتبروها في عداد هذه الجماهير العزيزة، وهذه الجموع الحاشدة، وهذه القلوب الوفيّة! فهناك عدد قليل من الأشخاص الأشرار أو المخدوعين في أيّ منطقة -سواءٌ في كردستان أو غيرها - وهؤلاء حسابهم منفصل تمامًا عن حساب عموم الشعب العزيز في هذه المحافظة. كما

 

 

223

 


186

خطاب الولي 2009

أنّ أعداء الثورة، في أيّ محافظة أخرى من محافظات البلاد - في خراسان، أو أصفهان، أو فارس، أو أيّ منطقة أخرى يوجدون فيها- ليسوا من أهالي تلك المحافظة وغيرها. أراد العدوّ تلقين هذا المعنى، والإيحاء به، وإثباته للشعب الإيرانيّ. أرادوا إظهار عدم توافر الأمن في هذه المحافظة. والشعب الإيرانيّ يرى أمام عينيه، ببركة هممكم، أيّها الأهالي، ووعيكم، وتضحية الشباب الشجعان، أنّ هذه المحافظة تتمتّع اليوم بالأمن التامّ.

 

تحيّة إلى الشباب الكرد

عليَّ هنا، أن أحيّي ذكرى الشباب الشجعان من البيشمركة المسلمين الكرد. هؤلاء الرجال البسلاء -من شيبٍ وشبّان- قد انتفضوا هنا، منذ الأيّام والسنوات الأولى لانتصار الثورة الإسلاميّة، ووقفوا بوجه العدوّ، وقلّما شهدنا نظيرًا لتضحياتهم في منطقة أخرى. ولأذكر الدليل على ذلك، لأنّنا لا نريد أن نطلق كلامًا اعتباطيًّا.

 

حقيقة القضيّة هي أنّ الناس ينظرون، بعظمة خاصّة، إلى الأخ التعبويّ أو الحرس، في أيّ منطقةٍ كان، أو أيّ محافظة، ويشعرون، في ظلّه وظلّ جهوده، بالأمن. وكان الشابّ البيشمركة المسلم الكرديّ في هذه المنطقة -وخصوصًا في المناطق القريبة من الحدود- يحافظ على أمن المدن والشوارع والأزقّة والمناطق الخارجيّة، وكان الأعداء ينتقمون منه، وكذلك كانت المجموعات المسلّحة المرتزقة للعدوّ، في بعض الأحيان، تذبح أقارب هؤلاء الشباب، دون رحمة، انتقامًا من بطولاتهم. لكنّ أولئك الرجال الأبطال صمدوا أمام هذه المشكلات، وصبروا. لذلك، أعتقد، من صميم الفؤاد، أنّ هؤلاء الشباب الشجعان من البيشمركة المسلمين الكرد، هم في الصفّ المتقدِّم لأبطال هذا البلد.

 

إيّاكم والغفلة!

تحدّثتُ حول الأمن، وتحدّثتُ حول وعيكم، أيّتها الجماهير. هذه حقائق. أي إنّ أهالي محافظة كردستان وشبابها الأبطال، قد وفّروا، هم أنفسهم، أرضيّةَ الأمن في هذه المحافظة، وهبَّ الشباب المضحّون من المناطق الأخرى لمساعدتهم، واستطاعوا إحباط مخطّطات العدوّ. هذه حقيقة. لكنّني أريد أن أقول، في الوقت نفسه: إنّ على الأهالي

 

 

224

 


187

خطاب الولي 2009

الكرد الأعزّاء، الحفاظ على هذا الوعي، ينبغي عدم الغفلة إطلاقًا. يقول الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة: "ومَنْ نَامَ، لَمْ يُنَمْ عَنْه!"[1]، أي إنّكم إذا غفلتم، فإنّ عدوّكم ليس غافلًا بالضرورة، يجب الحذر من العدوّ، ومراقبته. وهذا الأمر لا يختصّ بهذه المنطقة، بل هذه وصيّتي لكلّ الشعب، في أنحاء البلاد كلّها، ولكافّة الشرائح الناشطة والواعية والمتيقّظة في البلاد: يجب أن تحافظوا على الوعي. مع أنّ العدوّ لم يعُد - كما في الأيّام الأولى للثورة - يأمل في استئصال جذور هذه الثورة. كلّا، كانوا يومها يأملون في القضاء على الثورة والجمهوريّة الإسلاميّة، وهم اليوم يائسون، ليس لديهم مثل هذا الأمل، فهم يرون أنّ هذه الشجرة الهائلة قد رسخَت جذورُها، ولكن ينبغي عدم الغفلة عن كيدهم.

 

أقولها بشكل قاطع: مع الأسف، يعمل الأمريكيّون، خلف حدودنا الغربيّة، على إعداد المؤامرات والإرهابيّين. هناك أموالٌ وأسلحةٌ وتنظيمٌ وأعمالٌ، يمارسها الأمريكيّون، بشكلٍ مباشر، خلف الحدود الغربيّة للبلاد، بهدف إيذاء النظام الجمهوري الإسلاميّ، والتطاول عليه، ومواجهته. يجب أن نكون متيقّظين!

 

لدينا معلومات -وهذه ليست تحليلات، بل معلومات - بأنّ لدى الأمريكيّين مخطّطات خطيرة لكردستان، وليس هدفهم الدفاع عن القوميّة الكرديّة، إنّما هدفهم السيطرة والتسلّط على القوميّة الكرديّة. إنّنا نعلم ذلك وفق معطيات ومعلومات، وليست القضيّة قضيّة تحليل، بل قضيّة اطّلاع ومعلومات. أخبرَنا أصدقاؤنا الكرد -في الجهة الأخرى لحدودنا الغربيّة - أنّ الضبّاط الأمريكيّين كانوا يحملون الأموال إلى أعالي مرتفعات "قنديل"، ويأخذون المعلومات منهم[2]، مقابل دماء الشباب الكرد، يعطون الأموال لصناعة المرتزقة. هذا ليس من شأن الشابّ الكرديّ. يمدّون أيديهم إلى أيّ مكان يتمكّنون منه، لينشبوا أظفارهم المخزية الدامية في جسد الكرد. شعبنا والكرد الإيرانيّون واعون، والحمد لله. وأقولها لكم: غالبًا ما يَعتبر الكرد والقوميّة الكرديّة -حتّى في غير إيران- أنفسَهم إيرانيّين، ويفخرون بإيرانيّتهم. إذا كان بعض الكرد في


 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص452.

[2] أي يُغرون أهالي المرتفعات تلك، بالمال، لأخذ المعلومات حول جيرانهم وسكّان المناطق المحاذية.

 

 

225


188

خطاب الولي 2009

خارج إيران، قد انخرطوا في خدمة الأهداف الأمريكيّة، فليعلموا أنّه من الممكن أن يحصلوا على شيء في العاجل، إلّا أنّ لعنة الكرد ستبقى تلاحقهم على المدى البعيد (في الآجل)، ولن تتركهم. يجب الحفاظ على حالات التيقُّظ هذه. ليس التيقُّظ في هذا المجال وحسب، فيما يتعلّق باختلافاتنا الداخليّة أيضًا، على الجميع التحلّي باليقظة والحذر. لقد قلتُ في سنندج، أيضًا، في اليوم الأوّل، وأكرّر الآن هنا: على المذاهب الإسلاميّة، أن تضع يدًا بيد، وتتحرّك نحو الأهداف والمبادئ الإسلاميّة العليا، بتعاونٍ وأخوّة. عقد العدوُّ أملَه على وضع أتباع المذاهب، بعضهم في وجه بعض. يجب أن لا يستسلم أحد لهذا المخطّط الخائن الخبيث للأعداء. إنّهم يريدون أن يقف الشيعيّ في وجه السنّيّ، والسنّيّ في وجه الشيعيّ، ويوغروا في القلوب، ويؤلبّوها بعضها على بعض. هذا ما يريدونه. لذلك أعلنتُ، وأؤكّد ثانية: إنّ الخطّ الأحمر، من وجهة نظر النظام الإسلاميّ، ومن وجهة نظرنا، عبارة عن إهانة بعضنا مقدّسات بعض. الذين يهينون مقدّسات الآخر، عن جهل أو غفلة، وأحيانًا بسبب العصبيّات العمياء الخاوية، سواء كانوا من السنّة أو من الشيعة، لا يفهمون ماذا يفعلون. هذه أفضل وسيلة للأعداء، وأفضل أداة في يد الأعداء. هذا هو الخطّ الأحمر.

 

يؤدّي كلٌّ من السنّة والشيعة، شعائرَهم المذهبيّة وآدابهم وتقاليدهم وعاداتهم وواجباتهم الدينيّة، وينبغي أن يقوموا بها، إلّا أنّ الخطّ الأحمر هو أن لا يُظهِروا شيئًا يُعَدّ إهانةً لمقدّسات الآخر، سواءً ما قد يصدر عن بعض الشيعة عن غفلة، أم ما يصدر -عن غفلة أيضًا- عن بعض السنّة، كالسلفيّين وأمثالهم ممّن يلغون غيرهم. هذا ما يريده العدوّ. هنا أيضًا، يجب التيقُّظ والوعي.

 

سمعتُ في لقاءاتي ومشاهداتي أثناء هذه الأيّام، الكثير من الأمور -بالطبع، لديّ الكثير من التقارير والمعلومات حول قضايا هذه المحافظة- عن ألسن أناس مخلصين ومحبّين، حول قضايا كردستان، سواءً في التقارير المكتوبة، أو ما شاهدناه بأعيننا. الاحتياجات هنا كثيرة. قلتها في اليوم الأوّل، وأصِل اليوم إلى النتيجة ذاتها: إنّ أهمّ حاجة في هذه المحافظة، هي العمالة، وتوفير فرص العمل، التي يجب تأمينها بالاستثمارات الصناعيّة والزراعيّة في هذه المحافظة. ما نقوله للجماهير في المحافظات الأخرى: تشكِّل هذه المنطقة وهذه الأرض الغنيّة الثرة، بهؤلاء الناس المتديّنين والجادّين، وبكلّ هؤلاء الشباب الطيّبين، أرضيّةً جيّدةً جدًّا للاستثمار. إذا كانوا يتصوّرون، في يوم من الأيّام، أنّ

 

 

226

 


189

خطاب الولي 2009

هذه المنطقة يعوزها الأمن، فقد انقضى ذلك الزمن. اليوم، أمن هذه المنطقة، والحمد لله، متوافر ومستتبّ. ثمّة أمنٌ جيّد ها هنا، وبإمكاننا المجيء والاستثمار هنا، والحكومة تقدّم التسهيلات، وتشجّع.

 

أمّا فيما يتعلّق بالقضايا والمشاكل والحاجات هنا، فقد أصدرَت هيئة الحكومة، خلال زيارتها إلى المحافظة، قراراتٍ، إضافةً إلى الدراسات التي قام بها المسؤولون -سواء كانوا حكوميّين أو غير حكوميّين- أثناء هذه الزيارة، وإذا تمّ تنفيذ هذه القرارات، إن شاء الله، وتحقّقَت جميعُها، سوف تُحَلّ غالبيّة مشاكل هذه المحافظة. وصيّتُنا للمسؤولين أن يتابعوا بجدّ، تحقيق هذه المطالب والقرارات. الحمد لله، تتمتّع المحافظة بإدارة حكوميّة جيّدة. إدارة المحافظة إدارة كفوءة وجيّدة. يتعيّن متابعة هذه القرارات من هنا، إضافةً إلى أنّي أعلن، من هنا، للمسؤولين في العاصمة، أن يسعوا بجدّ، لتحقيق القرارات المتَّخَذة، وتفعيلها.

 

معظم الأمور التي تُطرَح كمطالب، هي معقولةٌ ومقبولةٌ ومنطقيّة. ما سمعناه، كمطالب تتعلّق بهذه المحافظة، على لسان النخبة والطلبة الجامعيّين، وفي الرسائل الكثيرة التي قدّمها الناس لنا في هذه الزيارة، هي في الغالب، منطقيّة وصحيحة. وكما ذكرنا، إضافةً إلى قرارات الحكومة أثناء هذه الزيارة، فسوف يُصار إلى تلبية أكثريّة هذه المطالبات. ولكن أحيانًا، يلاحِظ المرءُ لائحةً من المطالب غير المعقولة، وغير العمليّة، التي لا أثر لها سوى أنّ الأجهزة المسؤولة غير قادرة على تحقيقها، وتؤدّي إلى حرف ذهنيّة الجماهير. التوقّعات المعقولة والمنطقيّة، هي ما يسمعه الإنسان من ألسنة الناس، وفي رسائلهم، ويكرّرها النخبة منهم. أحمد الله على أنّ ما قيل في هذه الزيارة -خطابًا للمسؤولين، وخطابًا لكلّ واحد من أبناء الشعب- كان نابعًا، برأينا، من صميم الواقع.

 

أنا أقول: إنّ اللغة الكرديّة ثروة وطنيّة، ومواهب الشباب العلميّة والفنيّة هنا، ثروة وطنيّة، والمواهب الرياضيّة للشباب في كردستان، ثروة وطنيّة. يجب الاستفادة

 

 

 

227


190

خطاب الولي 2009

من هذه الثروات الوطنيّة، والانتفاع منها، وتفعيلها.

وأحمد الله على أنّ المسؤولين يتابعون قضايا الناس، في مختلف المحافظات، بإخلاص، إنّي أشاهد هذا الشيء، وأراه. وأرى، عن كثب، أنّ المسؤولين الحكوميّين، سواءً في زياراتهم التي يقومون بها -زيارات المحافظات- أم في قراراتهم الأخرى، يتابعون مشكلات الناس بإخلاص وتحرُّق. نتمنّى أن تتابَع قضايا كردستان، إن شاء الله، بهذه الروح وهذا الإخلاص نفسهما. ونحن، طبعًا، سنطالبهم بالإجابة وتحمُّل المسؤوليّة، وبما يجب أن يُطبَّق. وأتمنّى، بفضلٍ من الله، أن يكون مستقبل كردستان، كمستقبل هذا البلد العظيم، أفضل وأشمخ وأعزّ بكثير من حاضره. كان هذا اليوم، والحمد لله، يومًا جدّ طيّبًا ومحبّبًا، بلقائكم في آخر يوم من زيارتي لكردستان.

 

ربّنا، احفظ هؤلاء الشباب الأبرار الأعزّاء لكردستان، وللوطن العزيز إيران، واشملهم بتوفيقك. اللهمّ، ذلِّل مشكلات الناس في جميع أنحاء البلاد، وفي هذه المنطقة. اللهمّ، زد، يومًا بعد يوم، من عزّة شعب إيران أمام الشعوب الأخرى، وأمام العتاة والمتغطرسين. ربّنا، اجعلنا من عبادك الصالحين المخلصين. تقبّل منّا ما قلناه وسمعناه، بكرمك، ووفِّقنا للعمل والتطبيق.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

228

 


191

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء عوائل الشهداء

 

 

المناسبة:   لقاء جمع من عوائل الشهداء

الحضور:  جمع من عوائل الشهداء

المكان:   طهران

 

الزمان:    03/03/1388هـ.ش.

29/05/1430هـ.ق.

24/05/2009م.

 

229


192

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

ينضح هذا الاجتماع بفيض المعنويّات العظيمة. وإنّه حقًّا، لمبعث فخرٍ لشعبٍ، أن يقدّمَ آباؤه وأمّهاته فلذاتِ أكبادهم، ويبعثوهم بهذه الكيفيّة، في سبيل الله، فيستشهدوا، ويتذوّقون طعم هذه اللوعة الكبيرة والألم الثقيل، بعذوبة وحلاوة، من أجل رضى الله، خصوصًا الآباء والأمّهات الذين قدّموا شهيدَين، أو ثلاثة شهداء، أو أربعة شهداء. إنّ هذا ليس بالشيء القليل، ولا يختصّ بناحيةٍ من بلادنا، وفئة من شعبنا. أنتم الجمع الحاضر هنا، ممّن تمتازون بهذه الخصوصيّة العظيمة جدًّا. فأنتم، آباء مثل هؤلاء الشباب وأمّهاتهم، تنتمون إلى مناطق مختلفة من البلاد، من مدن البلاد المختلفة، ومن قوميّات البلاد المتنوّعة - فرس، وعرب، وترك، وكرد، وتركمان، وبلوش - فأيّ شعبٍ يحوز على مثل هذه التركيبة المذهلة؟

 

لقد التقيتُ في زيارتي كردستان، بعائلةٍ قدّمَت ستّة من أبنائها، شهداء في سبيل الله. وكنتُ قد التقيتُ هذه العائلة في السابق أيضًا. وفي زيارتي هذه، وجدتُ أنّ الوالدَين قد قضيا نحبَيهما. ستبقى ذكرى هؤلاء العظماء، هؤلاء الرجال والنساء الأبطال -وأعني بهم آباء الشهداء وأمّهاتهم- حيّةً دومًا، كذكرى الشهداء أنفسهم. لن يُمحى هذا الشيء، إطلاقًا، من ذاكرة الشعب والتاريخ. كنّا نقرأ عن أشياء في التاريخ، تعود إلى حقبة صدر الإسلام، ولم نكن ندرك أعماقها، وتبدو لنا كالأقاصيص، لكنّنا نرى اليوم في شعبنا، وإلى جوارنا، أفرادًا أسمى، من حيث التضحية، من أولئك النساء والرجال الذين بقيَت ذكراهم في تاريخ الإسلام منذ ألف وأربعمئة سنة، فهؤلاء صبرهم أكبر من أولئك. كان أولئك يتزوّدون من الأنفاس الدافئة لرسول الله، ويرونه بأعينهم، ويقاتلون معه، وفي ركابه، أمّا هؤلاء، فتفصلهم عن أولئك ألف وأربعمئة سنة: "وَآمَنَّا بِهِ وَلَمْ نَرَهُ، صِدْقًا

 

 

231

 


193

خطاب الولي 2009

وَعَدْلًا"[1]- العبارة الواردة في دعاء السمات -. هكذا وقفوا صامدين، بإيمانهم المتين. هل هذا بالشيء القليل؟ هكذا انتصر الشعب الإيرانيّ، أيّها الأعزّاء!

 

هذا الإيمان المتين، وهذه الإرادات الفولاذيّة، وهذا الإيثار والتضحيات الكبرى التي أظهرها الآباء والأمّهات وعوائل الشهداء، قد جذّرَت أركان هذا الصرح القويّ، إلى درجة أنّه لم يستطع أيّ طوفان -ولن يستطيع بعد اليوم أيضًا، بإذن الله- زعزعة هذا البناء السامق، وهدمه.

 

وإنّ أساس هذا الصرح المتين للجمهوريّة الإسلاميّة، هو صبركم وإيمانكم واستقامتكم. وهذا ما جعل شبابنا اليوم، على الرغم من مرور ثلاثين سنة على الثورة، ثوريّين مخلصين، حيث ترون نماذج لهؤلاء الشباب المؤمنين الثوريّين. وهذا كلّه ببركة الإسلام والقرآن.

 

لقد أرسلتم أبناءكم إلى الجبهات، في سبيل الله، وصبرتم على مصيبة فقدهم، من أجل الله. فإذا ما انحرف النظام الإسلاميّ، ولو قليلًا، عن الإسلام وعن طريق الإسلام والأهداف الإسلاميّة، فلا مراء أنّه سيفقد هذه الذخيرة الهائلة. حينما كان إمامنا الجليل يؤكّد، في كلّ كلماته وخطاباته، على الإسلام، فذلك بسبب هذه الحقيقة: الإسلام هو الذي حفظنا، والإسلام هو الذي منحنا القوّة، وهو الذي بثّ فينا أمل الانتصار، ودفعنا لخوض هذه الميادين الصعبة. الإسلام هو الذي حضَّ أولئك الشباب الغرباء، والقوّات المسلّحة المفتقرة للإمكانات، على الصبر، في عمليّات "بيت المقدس"، أمام العدوّ البعثيّ، وفضحه، وهزيمته، واستعادة مدينة خرّمشهر، وطرده من الأرض الإسلاميّة. لقد تأسَّس هذا النظام بالإسلام، وسيبقى حيًّا بالإسلام.

 

على مسؤولي النظام كافّة، الالتفات إلى هذه النقطة، والفخر والاعتزاز بالإسلام وأحكامه وقيمه. صحيح أنّ أعداء الإسلام - أي أعداء الشعب الإيرانيّ - لا يرتاحون لذلك، ولكن، من البديهيّ أنّكم حينما تقفون بوجه عدوّ، وتكون لكم إرادة قويّة، وتحملون سلاحًا ماضيًا فاعلًا، فمن البديهيّ أن لا يرتاح العدوّ إلى قوّتكم هذه، وأن يعمل


 


[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م، ط1، ص419.

 

 

232


194

خطاب الولي 2009

على سلبكم إرادتكم، وأن يُضعِفكم وينتزع أسلحتكم من أيديكم. يعلم أعداء إيران والإيرانيّين، أنّ مبعث صمود هذا الشعب واقتداره وإرادته الصلبة، هو هذا الإيمان الإسلاميّ، ويريدون سلبه هذا الذخر. إنّهم ينظّمون الإعلام العالميّ بهذا الاتّجاه. علينا التحلّي باليقظة والحذر، وعلى مسؤولينا التنبُّه والتفطّن، وعلى المرشّحين للانتخابات، كذلك، التحلّي بالوعي والدقّة. حذار أن يتكلّم مرشَّحو انتخابات رئاسة الجمهوريّة، في إعلامهم ودعاياتهم، بشيء، من أجل إسعاد الأعداء[1]! ينبغي أخذ رضى الله بعين الاعتبار، وأخذ رضى الأولياء بعين الاعتبار. يجب أن نجعل معيار الأحكام، ما يكرِّس صمود الشعب وقوّته وصلابته، ويزيده صبرًا واستقامة، وهو الالتزام القويّ بالإسلام.

 

شكرًا لله، لأنّه لم يسمح -وببركة الإسلام- أن تضيعَ دماء شهدائنا. لم تذهب دماء شهدائنا هدرًا. إنّ العزّة التي يتمتّع بها نظام الجمهوريّة الإسلاميّة وشعب إيران، في الوقت الحاضر، إنّما تحقّقَت بفضل تلك الدماء. حينما تجدون الشعوبَ الإسلاميّة وعمومَ أطياف الناس، في الأقطار الإسلاميّة كافّة، معجبةٌ بشعب إيران، وتنظر إلى نظام الجمهوريّة الإسلاميّة بعين العظمة، فما هذا إلّا ببركة هذه الدماء. وإنّ الأمن المستتبّ حاليًّا في بلادنا، والحركة العظيمة نحو البناء، والأعمال الكبيرة المنجزة، والتقدُّم العلميّ والتقنيّ، وزيادة أعداد العلماء والطلبة الجامعيّين والباحثين، هذا كلّه إنّما هو ببركة دماء الشهداء. هذه الصحوة العامّة التي يتمتّع بها بلدنا وشعبنا في الوقت الراهن، إنّما هي بفضل دماء الشهداء. استطاعَت دماء شهدائكم تغيير هذا البلد وتنميته، كما يفعل الإكسير، والفخر في ذلك يعود إلى شهدائكم وإليكم.

 

سيبقى الشعب الإيرانيّ مدينًا للشهداء وعوائل الشهداء، إلى الأبد. على كلّ شعبنا أن يعلم هذا. كلّ ما نكسبه من عزّة ومن تقدُّم، هو رهنٌ بدماء شهدائكم الأبرار، وفلذات أكبادكم. هؤلاء هم الذين منحونا، ومنحوا بلادهم وشعبهم وإسلامهم، العزّة. ليعرف الجميع قدر ذلك، وعلى المسؤولين أيضًا، معرفة قدر ذلك. وعليكم أنتم أيضًا -عوائل الشهداء- معرفة قدر ذلك، وأنتم تعرفونه طبعًا.


 


[1] جعل الأعداء سعداء.

 

233


195

خطاب الولي 2009

قلّما رأيت عائلة شهيد لا تفخر باستشهاد ابنها، ولا تشعر بالشموخ والرفعة لذلك. أبدًا. وربّما لم أرَ أبدًا عائلة شهيد (كهذه).

 

تفخر عوائل الشهداء بشهدائها، وهذا هو الحقّ والموضع المناسب للفخر والاعتزاز. وليس أنتم وحسب، بل نحن جميعًا، والشعب الإيرانيّ كلّه، والمسؤولين كافّة، يجب أن يفخروا بهؤلاء الرجال الشجعان والشباب الباسل.

 

كما يتحتّم أن تبقى ملحمة الدفاع المقدّس وذكراها، حيّة خالدة في بلادنا. حاوَل بعضهم التقليل، تدريجيًّا، من عظمة ذكرى الدفاع المقدّس، وما تضمّنته من بطولات كبرى، إذا كان هؤلاء يفعلون ذلك عن جهل، فهم في غفلة كبيرة، وإذا ما كانوا يفعلون ذلك عن وعي -لا سمح الله- فهي خيانة.

 

يجب أن تبقى ذكرى الدفاع المقدّس وذكرى الشهداء، حيةً دومًا بين شعبنا ومجتمعنا. لا يزال الكثير من الكلام غير مطروح، والكثير من ذكريات وخواطر أبنائكم لم تُدوَّن بعد. وإنّ المقدار المنشور يدلّ على عظمةٍ لا حدود لها، وليس بمقدور الذهن البشريّ العاديّ، ولا الفكر والعقل المادّيَّين، أن يحيط بها. وكم احتوَت الأشياء التي كُتِبَت عن عمليّات "بيت المقدس" و"الفتح المبين"، وباقي الفتوحات والعمليّات، من عظيم الشأن! هذا ما قام به شبابكم أنفسهم.

 

إنّنا نسأل الله -تعالى- علوّ الدرجات لشهدائنا الأعزّة، ونسأله أن يحشرنا معهم، وأن يشملنا -خصوصًا أنتم الآباء والأمّهات- بشفاعتهم، ونتمنّى أن يبقى هذا الفخر العظيم للشعب الإيرانيّ، دومًا، مبعث شموخ، ومصدر تقدُّم. وجعل الله قلوبكم مفعمةً بفضله ورحمته وصبره وسكينته.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

 

234

 

 

 


196

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في ذكرى رحيل الإمام الخمينيّ قدس سره

 

 

         

         

المناسبة:   ذكرى رحيل الإمام الخمينيّ قدس سره

الحضور:  حشد غفير من أبناء الشعب

المكان:   طهران

 

الزمان:    14/03/1388هـ.ش.

10/06/1430هـ.ق.

04/06/2009م.

         

 

235

 


197

خطاب الولي 2009

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، ولا سيّما بقيّة الله في العالمين.

 

أقدّم التعازي لجميع الحضور العزيز، وللشعب الإيرانيّ الكبير، وللأحرار كافّة في العالم، بمناسبة الرابع عشر من خرداد، ذكرى المصاب الجلل برحيل أب هذا الشعب الجليل. وأتمنّى أن يوفّقنا الله - تعالى - جميعًا، لنستطيع - عبر إحياء ذكرى هذا الرجل الكبير في تاريخ الإسلام - التزوُّد لمسيرتنا، ولمسيرة الشعب الإيرانيّ، ولمسيرة الأمّة الإسلاميّة.

 

رايتان خفّاقتان

أذكر نقطةً حول مسار الإمام وطريقه (رضوان الله عليه) وأهدافه. وهي أنّنا حينما نريد تلخيص توصياته، وشعاراته، وما يطلبه من الجماهير، ومن المسؤولين، ومن جميع المسلمين في العالم، نلاحظ وجود رايتَين مرفرفتَين في يد الإمام. والواقع أنّ إمامنا الجليل -في نهضته العظيمة التي أطلقها في بلادنا، وفي العالم الإسلاميّ- رفع رايتَين خفّاقتَين. إحداهما "راية إحياء الإسلام"، وإنزال قدرته العظيمة اللامتناهية إلى الساحة. والراية الثانية "راية عزّة إيران" والإيرانيّين وشموخهم. هاتان هما الرايتان العاليتان اللّتان رفعهما إمامنا العظيم، بيدَيه المقتدرتَين. الراية الأولى، التي تمثّل في الحقيقة بُعدًا من أبعاد دعوة الإمام ونهضته، تتعلّق بالأمّة الإسلاميّة الكبرى. والراية الثانية، مع أنّها تتعلّق بالشعب الإيرانيّ وبإيران والإيرانيّين، ولكن حيث إنّها تجربة عمليّة للتحرّك الإسلاميّ الحيويّ، فهي باعثة على الأمل والعمل لدى الأمّة الإسلاميّة برمّتها، لأنّ هذه النهضة الكبيرة في إيران، كانت تجربة عمليّة لصحوة الإسلام، وتحقُّقِه على أرض الواقع، لذلك، مع أنّها تتّصل مباشرة بإيران والإيرانيّين، إلّا أنّ نتيجتها تعود بالقيمة والأهمّيّة، مرةً أخرى، على الأمّة الإسلاميّة. سأذكر نقاطًا قصيرة حول هذَين البُعدَين.

 

 

237

 


198

خطاب الولي 2009

راية الإسلام

1. إحياء الهويّة الإسلاميّة

في البعد الأوّل، وهو رفع راية الإسلام، فإنّ هذا (المشروع) جعل جميع المسلمين، في أنحاء العالم كلّه، يشعرون بالهويّة والشخصيّة. بعد أن جرَت محاولات، طوال سنوات مديدة، لسحق الهويّة الإسلاميّة ونسفها، جاءت هذه الثورة، وانتصبَت القامة الشامخة لإمامنا الكبير، أمام أنظار المسلمين في العالم، فشعر الجميع أنّهم اكتسبوا هويّة وشخصيّة وأصالة.

 

2. استعادة المعنويّات

وهذا ما أدّى إلى بروز علامات صحوة المسلمين في شرق العالم الإسلاميّ وغربه. استعاد الشعب الفلسطينيّ أنفاسه، بعد عشرات الأعوام من الإخفاق. واستعاد الشباب في البلدان العربيّة معنويّاتهم، بعد هزيمة حكوماتهم في ثلاث حروب مع الكيان الصهيونيّ، وقد اعتراهم اليأس والخيبة. هذه أمور تتعلّق بالعالم الإسلاميّ، ولا تختصّ ببلادنا. فالكيان الصهيونيّ - تلك الغدّة السرطانيّة في قلب البلدان الإسلاميّة، وقد ظهر حتّى ذلك اليوم، بمظهر القوّة التي لا تُقهَر، وقد صدّق الكثيرون في العالم الإسلاميّ أنّ الكيان الصهيونيّ لا يُقهَر - تلقّى صفعةً من يد الشباب المسلمين، وانطلقَت الانتفاضات الفلسطينيّة، وانهالَت الضربات المتتالية عليه، سواء في الانتفاضة الأولى، أو في انتفاضة الأقصى، أو في هزيمة ما قبل تسعة أعوام في لبنان وتراجعه، أو في حرب الثلاثة وثلاثين يومًا، أو في العام الماضي في حرب الاثنين وعشرين يومًا مع أهالي غزّة المظلومين، كلّ هذه كانت ضربات نزلت بالكيان الصهيونيّ. هذا، في حين كان الكيان الصهيونيّ - يوم انتصرَت الثورة الإسلاميّة - من وجهة نظر الحكومات المسلمة والشعوب المسلمة، وخصوصًا الشعوب العربيّة، كيانًا لا يُهزَم. وقد أفضى هذا إلى أن يسارع الكيان الصهيونيّ لترك شعار "من النيل إلى الفرات"، ونسيانه.

 

3. إلهام الشعوب

بدأَت الشعوب المسلمة -من أفريقيا إلى شرق آسيا- تفكّر بتأسيس نظام إسلاميّ، وحكومة إسلاميّة، وفق صيغ ومعادلات شتّى، وليس بالضرورة وفق معادلة نظام

 

 

238


199

خطاب الولي 2009

الجمهوريّة الإسلاميّة عندنا. لكنّهم بدؤوا يفكّرون بسيادة الإسلام في بلادهم. وقد نجحَت بعضُ البلدان، وبعضهم ينتظرهم مستقبل واعد من الحركات الإسلاميّة.

 

4. لون الأمل

نزل المثقَّفون في العالم الإسلاميّ إلى الساحة، بأمل جديد. تغيّرَت معنويّات الشعراء والفنّانين والكتّاب، الذين كانوا يتحدّثون بيأس ويشعرون بالهزيمة، تبدّلت لهجة كلامهم، وأشعارهم، وكتاباتهم، واصطبغَت بلون الأمل، بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، وعقب حركة الإمام الجليل العظيمة، وصمود هذا الشعب. وهذه حكاية طويلة، على كلّ حال.

 

5. ثمرة الصحوة والصمود

أقول هنا للشعوب المسلمة: إنّكم ترون اليوم، أنّ لهجة العالم الغربيّ تجاهكم، قد لانَت، وهذا ثمرة الصحوة العامّة، والصمود، والمقاومة في العالم الإسلاميّ. وعد الله، الذي لا يُخلَف، بنصر المؤمنين، لا يتحقّق إلّا إذا صمدوا، وأصرّوا، وضحّوا. وكلّما تحقّق هذا الصمود، انقلبَت الصفحة، وخرج العالم الإسلاميّ عن حالة الذلّ والهوان أمام الغرب.

 

في الماضي، كان العالم المهيمِن والعتاة المهيمنون يتّخذون قراراتهم بشأن البلدان الإسلاميّة، كيفما شاؤوا. لم يكونوا حتّى ليسألوا رأي الشعوب المسلمة، أو الحكومات الإسلاميّة. كانوا يخطّطون للاستيلاء على نفطهم، إذا كان لديهم نفط، وعلى أسواقهم، إذا كان لديهم أسواق، ويتّخذون القرارات، وكان يجب تنفيذ تلك القرارات. ولكن مع صحوة العالم الإسلاميّ، تغيّر هذا الواقع إلى حدّ كبير. على المسلمين في شتّى أرجاء العالم الإسلاميّ، معرفة قدر هذه التجربة، كتجربة موفَّقة وثمينة، وتنظيم مسارهم على أساسها. تصبح الشعوب عزيزةً شامخةً بصمودها.

 

6. الوجه القبيح

لاحِظوا اليوم، أنّه حتّى هذه الحكومة الجديدة في أمريكا، تحاول رسم صورة جديدة لحكومة الولايات المتّحدة في أعين شعوب هذه المنطقة. طبعًا، من حقّهم أن يطلبوا هذا الشيء، لأنّ الحكومة الأمريكيّة السابقة خلقَت وجهًا قبيحًا، منفِّرًا، وخشنًا

 

 

239

 


200

خطاب الولي 2009

لحكومة الولايات المتّحدة، لدى شعوب هذه المنطقة. إنّ شعوب منطقة الشرق الأوسط، والمنطقة الإسلاميّة، وشمال أفريقيا، يكرهون أمريكا من أعماق قلوبهم، لأنّها واجهَتهم، طوال سنين، بالعنف والقسوة والتدخُّل العسكريّ في منطقتهم، إلى هضم الحقوق والتمييز والتدخّلات السافرة، وقد شاهدوا ضياع حقوقهم على يد الحكومات الأمريكيّة المتعسّفة، على مدى السنين الماضية، لذلك يكرهون أمريكا. والآن، تحاول الحكومة الأمريكيّة الجديدة تغيير هذا الوجه، أي تحاول رسم صورة جديدة لأمريكا في هذه المنطقة. كيف يمكن هذا؟ أقول بنحو حاسم: هذا لن يحصل بالكلام، والخطابات، والشعارات. لقد فعلوا أشياء أساءت، بشدّة، إلى شعوب هذه المنطقة، وأزعجتها، ووجّهَت إليها ضربات. لا يمكن تبديد هذا الانزعاج والاستياء والنفور العميق، بالكلام والخطابات والشعارات. لا بدّ من عمل.

 

7. الإعانة على العدوان

لقد تحدّثَت أمريكا عن الديمقراطيّة، وعن اعتبار أصوات الشعوب. لكنّها تجاهلَت أصوات الشعب في فلسطين، حين انتخب حكومة معيّنة، ولم تُعِرها أيّة أهمّيّة، ولم تُبالِ بها. ما النتيجة التي ستحصل في أذهان الشعوب من هذا؟ واضح جدًّا. بخصوص حقوق الشعب الفلسطينيّ، الشعب الذي طُرِد من دياره ومن وطنه بطريقة عنيفة وظالمة - وهذا شيء يعرفه الجميع، وليس تاريخًا غير معروف، إنّما هو أمر يعود إلى ستّين سنة، حيث حُرِمَ الشعب الفلسطينيّ من حقوقه، وتشرّد في بلدان مختلفة- لم تكترث أمريكا إطلاقًا لحقوق هذا الشعب، ولم تدعمه أبدًا، وليس هذا وحسب، بل دعمت الكيان الغاصب، بنحوٍ مطلق، وإذا أراد الفلسطينيّون المظلومون رفع أصوات الاعتراض، اعتَبَروا هذا الاعتراض إخلالًا وممارسات شرّيرة! كيف يمكن إصلاح هذه الأمور؟!

 

8. الكذب الأمريكيّ والبرنامج النوويّ

ليست ممارسات هضم أمريكا للحقوق في هذه المنطقة معدودة. بخصوص بلدنا، وحول قضيّة الطاقة النوويّة -القضيّة المطروحة منذ سنوات- لاحِظوا كم كتموا الحقيقة، كم تحدّثوا بخلاف الواقع، كم كذبوا، كم واجهوا إرادة الشعب، وهو حقّه

 

 

240

 


201

خطاب الولي 2009

الطبيعيّ والمشروع، الذي حصل عليه بنفسه! يقول شعبنا: إنّنا نروم الحصول على الصناعة والتقنيّة النوويّة، نريد استخدام الطاقة النوويّة في المجالات السلميّة المختلفة للحياة، وهم يقولون: إنّ الشعب الإيرانيّ يريد الحصول على القنبلة النوويّة! لماذا يكذبون؟ لماذا يجعلون الشعب الإيرانيّ -بكلامهم هذا- يكرههم من الأعماق؟ هذا ما فعلوه في الأعوام الماضية. أعلن الشعب الإيرانيّ ومسؤولوه، مرارًا، أنّنا لا نريد السلاح النوويّ، فهذا الشيء غير موجود أساسًا في سلسلة احتياجاتنا العسكريّة ونظامنا التسليحيّ. ولقد أعلنّا أنّ استخدام السلاح النوويّ حرام وممنوع في الإسلام، وامتلاكه يخلق خطرًا كبيرًا، ومشكلة كبيرة، وإنّنا لا نريده، ولا نعمل للحصول عليه. حتّى لو أعطونا المال، وقالوا لنا: افعلوا هذا الشيء، لَرَفَض الشعب الإيرانيّ ومسؤولوه القيام بمثل هذا العمل. ومع ذلك، تلاحظون أنّ إعلام المعارِضين والغربيّين، طوال السنوات الماضية، ومن أجل تبرير كلامهم الباطل وطروحاتهم المزيّفة، كرّر دائمًا، أنّ إيران تبتغي الحصول على القنبلة الذرّيّة، بدل القول: إنّها تريد الحصول على الطاقة النوويّة السلميّة! أليس هذا غمطًا للحقوق؟!

 

9. جرائم أمريكا في أفغانستان والعراق

عملَت الحكومات الأمريكيّة، طوال الأعوام الماضية، وخصوصًا رئيس الجمهوريّة الأمريكيّ الأبله السابق، وبذريعة محاربة الإرهاب، على احتلال بلدَين مسلمَين، هما العراق وأفغانستان. وحين تنظرون إلى أفغانستان، ترون الطائرات الحربيّة الأمريكيّة تقصف الناس وتقتلهم، مئة (بعد) مئة، أو مئة وخمسين (بعد) مئة وخمسين، وليس لمرّة واحدة أو مرّتَين أو عشر مرات، بل قَصفوا الناس وقتلوهم دائمًا، طوال السنوات الماضية. طيّب، وماذا يفعل الإرهابيّون؟! هذا هو الشيء نفسه الذي يفعله الإرهابيّون، مع فارق أنّ الإرهابيّين يقتلون الناس، شخصًا أو شخصين أو عشرة أشخاص، وأنتم تقتلونهم مئةً أو مئةً وخمسين، كلّ مرة. أيّة مكافحة للإرهاب هذه؟ في العراق، ساندوا العناصر البعثيّة الإرهابيّة -وفقًا لمعلومات أكيدة- وتماشوا معهم، في حين أنّهم رفعوا شعار مكافحة الإرهاب! هذا هو ما يجعل شعوب المنطقة تُبغِض أمريكا، وتُسَوِّد وجهها، وتسقطها.

 

 

241

 


202

خطاب الولي 2009

10. الأفعال، لا الأقوال

إذا أراد رئيس جمهوريّة أمريكا الجديد تغييرَ هذا الوجه، عليه تغيير هذه الممارسات. وهذا لا يحصل بالخطابات والشعارات وما إلى ذلك. والشعوب المسلمة تعلم أنّ صدق الساسة الأمريكيّين، يتبيّن حينما يبادرون إلى التغيير على المستوى العمليّ. وإلّا إذا لم يغيّروا على المستوى العمليّ، حتّى لو ألقوا مئة خطاب، وحتّى لو أسمَعوا الأمّة الإسلاميّة كلامًا معسولًا جميلًا، فإنّ ذلك لن يؤثّر. الصحوة الإسلاميّة هي الوجه الأوّل للحركة العظيمة التي أطلقها إمامُنا الجليل.

 

راية العزّة

1. انتزاع الشعور بالذلّ والانهزام

الوجه الثاني يتعلّق بعزّة إيران والإيرانيّين. العمل الأوّل والأهمّ، الذي قام به إمامنا الجليل في هذا الوجه الثاني، هو أنّه انتزع من الشعب الإيرانيّ، الشعورَ بالهوان والذلّ، وأخرج هذه المشاعر من ساحة روحه. هذه مسألة على جانب كبير من الأهمّيّة. كان شعبُنا يشعر، منذ مئة وخمسين سنة أو مئة سنة، بالذلّ والهوان في داخله، بسبب عوامل عديدة. كان يشعر بالدونيّة والنقص، ابتداءً من حروب العهد القاجاريّ وتلك الهزائم الصعبة وفقدان مدن عديدة، إلى العهد البهلويّ وزمن رضا خان وتلك الدكتاتوريّة والقمع الشديد للشعب، الذي أحصى على الناس أنفاسهم، ثمّ الفترة التي تلت عهد البهلويّ الأوّل، أي في زمن (ابنه) محمّد رضا. فمع حضور الأمريكيّين وتشكيل منظّمة الأمن، المعروفة باسم السافاك، وسلوكها العنيف مع الناس، شعر الناس أنّهم لم يعد لديهم أيّة حيلة. شعر الشعب الإيرانيّ بالهزيمة في عدّة قضايا مهمّة، ابتداءً من قضيّة الحركة الدستوريّة، حيث هُزِم الشعب الإيرانيّ بعدما انتصر، وإلى قضيّة النهضة الوطنيّة، حيث قام الشعب بتحرًّك جبّار، إلّا أنّ المتصدّين والمسؤولين لم يستطيعوا الحفاظ على التحرُّك، فهُزِم الشعب. وبعد ذلك، ابتدأَت فترة استبداد عصيب، منذ العام 1954 إلى العام 1979، استولى على قلوب الجماهير، طوال أربع وعشرين سنة، إلى درجة أنّه سَلب الشعبَ الروحيّة والأمل.

 

 

 

242


203

خطاب الولي 2009

2. التقدُّم والثقة بالذات الوطنيّة

من جهة أخرى، كان المثقّفون المتغرّبون، الذين شارك الكثير منهم في العمل في أجهزة الحكومة الظالمة، قد أفهموا الناسَ، عبر كلامهم، وعبر أعمالهم، بأنّهم غير قادرين، وغير كفوئين، ولا يستطيعون فعل أيّ شيء، ولا بدّ لهم من التقليد. كانوا يقولون لهم: لا بدّ لكم من التقليد في العلم، وفي الصناعة، وفي الثقافة، وفي الملابس والأزياء، وفي الطعام، وفي الكلام، حتّى بلغ بهم الأمر أن قالوا ذات مرّة: يجب تغيير الخطّ الفارسيّ! لاحِظوا كم يجب أن يبتعد الشعبُ عن استقلاله وعزّته، حتّى يتجرّأ بعضهم على القول له: إنّه يجب أن يغيّر خطّه!

 

الخطّ الفارسيّ الذي كُتِبَ به تراثنا العلميّ، مدّة ألف سنة، قالوا: يجب تغييره، واستعارة خطّ الأوروبّيّين وتقليده، لقد بلغ بهم الأمر إلى هذا الحدّ!

 

جاء الإمام، وانتزع روح الهوان والدونيّة هذه، وبثّ في الشعب، روحَ الثقة بالذات، طوال خمسة عشر عامًا، من نهضته، حتّى انتصار الثورة. ومنذ انتصار الثورة، إلى عشرة أعوام من عمره المبارك، بنحوٍ آخر (يبثّ في الشعب): أنتم قادرون، ونحن قادرون، أنتم عظماء ومقتدرون.

 

هذه الثقة بالذات الوطنيّة، أحد ركنَين أساسيَّين لتقدُّم أيّ بلد. والركن الآخر هو الإمكانات المادّيّة. بَيْدَ أنّ الإمكانات المادّيّة لا تكفي. قد يكون للبلد إمكانات مادّيّة كبيرة، لكنّه لا يبلغ النموّ والرقيّ والرفعة، فلا يستطيع الشعب بلوغ مدارج العزّة والاقتدار. لقد كان لنا قبل الثورة، هذا النفط الذي لدينا الآن نفسه، والغاز نفسه، وهذه المناجم الهائلة من الفلزات القيّمة نفسها، وهذه المواهب والكوادر البشريّة المتألّقة نفسها، ومع ذلك، كنّا شعبًا من الدرجة الثالثة، وشعبًا مجهولًا في العالم، ومهانًا مِن قِبَل القوى الكبرى، وخاضعًا لجور حكومة فاسدة عميلة مرتبطة بأعداء الشعب. إذًا، الإمكانات المادّيّة لا تكفي، بل لا بدّ من عناصر أخرى، عناصر معنويّة. من أهمّ تلك العناصر: الثقة بالذات، والاعتماد على النفس، وأن يؤمن الشعبُ أنّه قادر. لقد أوصلَنا إمامُ الأمّة إلى هذا الإيمان: أنّه يمكن (لهذا الشعب) الصمود والمقاومة، وأنّه قادر على تحرير بلده، وعلى حماية نظام الحكم الذي

 

 

243


204

خطاب الولي 2009

يريده، والمحافظة عليه بكلّ اقتدار، وكذلك على التأثير في العالم، وفي السياسات الدوليّة. وهذا ما حصل فعلًا.

 

أبعاد العزّة الوطنيّة

هذه هي العزّة الوطنيّة التي تحدّثتُ عنها قبل مدّة، في سنندج، مع إخواننا الكُرد. العزّة الوطنيّة مهمّة جدًّا للبلد. وهذه العزّة الوطنيّة ليست مجرّد كلام، إنّما لها ترجمتها العمليّة في كلّ مجالات حياتنا.

 

1. البُعد الإداريّ

العزّة الوطنيّة في إدارة البلاد، معناها أن يَعتمد النظامُ والحكومةُ على الشعب والجماهير.

 

2. البُعد الاقتصاديّ

العزّة الوطنيّة في القضايا الاقتصاديّة، تحصل حينما يصل البلد إلى الاكتفاء الذاتيّ، ويكون قادرًا إلى حدّ أنّه إذا احتاج شيئًا من العالم، يستطيع الحصول عليه، وإذا ما احتاج إليه العالم، في الوقت عينه (في شيء)، فيمكنه الحصول عليه، أي أن لا يكون البلد مغلوبًا ومقهورًا.

 

3. البُعد العلميّ

العزّة الوطنيّة في مجال العلم، هي أن يسعى الشابّ الجامعيّ والباحث والعالِم، إلى سبر غمار العلم، وتحطيم حدوده، وأن يُنتج العلم، وهذا الشيء الذي أسميناه النهضة الرقائقيّة (البرمجيّة) وإنتاج العلم. وإنّ الذين بلغوا بالعلم هذه المراتب، كانوا بشرًا، إن لم نقل: إنّهم كانوا أقلّ منّا، من حيث معدّل المواهب والذكاء، فهم ليسوا أكثر منّا (تقدُّمًا). لدينا قرون من الماضي العلميّ المتألّق في التاريخ، ويجب أن نستطيع، اليوم أيضًا، إنتاج العلم وإيجاده واكتشافه، فيكون لنا حصّة أساسيّة في الصرح العلميّ في العالم. هذه هي العزّة.

 

4. بُعد السياسة الخارجيّة

أمّا عزة الشعب في السياسات، وفي تعاطيه مع البلدان الأخرى والحكومات والقوى

 

 

244

 


205

خطاب الولي 2009

المختلفة، فتكمن في تمتُّعه باستقلال الرأي. على الحكومة، وعلى النظام، أن يَظهرا أمام القوى الأخرى، بحيث لا تتمكَّن هذه القوى من فرض إرادتها عليهما، في أيّة قضيّة.

 

5. البُعد الثقافيّ

العزّة الوطنيّة في المجال الثقافيّ، هي أن يلتزم الشعب بتقاليده، وأن يرى لها قيمة، ولا يقلّد الثقافات الأجنبيّة المهاجِمة. ومع الأسف، فقد غرق بلدنا، قبل الثورة، وطوال مئة عام أو يزيد، أمام هذا الطوفان، وهذه الأمواج المدمِّرة من الثقافة الغربيّة، ولا نزال نتحمّل آثار ذلك، ولا نزال نعاني من التبعات، إلى يومنا هذا. العزّة الوطنيّة هي أن يَحترم الشعبُ تقاليدَه وأعرافَه، ويفخر بها، ولا يكترث لقول الآخرين، حين يقولون له: إنّك رجعيّ. تفعل بعض البلدان الأوروبّيّة اليوم، أفعالًا، لو عُرِضَت على إنسان عاقل سويّ طبيعيّ، لَما بدر منه سوى الضحك والاستهزاء. نقول: لماذا تفعلون هذا؟ يقولون: هي تقاليدنا! هم ملتزمون بتقاليدهم البالية القديمة، وإذا ما احترمت الشعوب الأخرى تقاليدها، والتزمَت بها، يستهزئون بهم، ويعيّرونهم. كلّا، الانهزاميّة هي في قبال العزّة الوطنيّة[1]. تتحقّق العزّة الوطنيّة حينما لا ينهزم الشعب إزاء ثقافة الآخرين. هذه هي العزّة الوطنيّة. العزّة الوطنيّة لها ترجمتها ومعانيها ومصاديقها في مجالات الحياة.

 

6. البُعد الاجتماعيّ

أمّا في أسلوب إدارة البلاد والتعامل مع الناس، فتتجلّى العزّة الوطنيّة في أن يحظى جميع أفراد المجتمع بالاحترام: "إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ"[2]. إذا كان الشخص على دينكم، فهو جدير بالاحترام، وحتّى لو لم يكن على دينكم، كان جديرًا بالاحترام أيضًا. كلّ إنسان في المجتمع جديرٌ بالاحترام والتكريم، هذه حالة تُنتج العزّة الوطنيّة. هذه هي الأبعاد المختلفة للعزّة الوطنيّة، التي أوصى بها الإمام، وأشار إليها، وشدّد عليها.


 


[1] مخالفة للعزّة الوطنية.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص427.

 

 

245


206

خطاب الولي 2009

7. الالتزام بمبادئ حفظ العزّة

تقدَّم النظام الإسلاميّ، في هذه الأعوام الثلاثين، بهذه الثقة بالذات. طبعًا، كانت هناك منعطفات وكبوات ونهوض، لكنّ المسيرة لم تتوقّف، والشعب لم يتوقّف. وقد ظهرَت عزّة شعبنا اليوم، في العالم. إنّني لا أوافق على كلام أولئك الذين يتصوّرون أنّ شعبنا أُصِيب بالهوان في العالم، وسقط من الأعيُن، نتيجة التزامه بمبادئه وأصوله. أبدًا، لدينا أعداء، وأعداؤنا جبهة متّحدة، تتكوّن من قوى تدخّليّة ومتسلّطة في العالم. حينما ترى هذه القوى بلدًا -من بين البلدان التي تعتقد أنّها أقمارها التي يجب أن تبقى تدور في فلكها، كبلد إيران، الذي خرج عن مدارها بالثورة الإسلاميّة- يخرج من مدارها وفلكها، فإنّهم يحاولون مجابهته وضربه وقمعه وإذلاله، ووسائل إعلامهم كثيرة. ليس معنى هذا أنّنا فقدنا عزّتنا. كلّا، في قرارة قلوب هؤلاء الذين يعادون الإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة، ثمّة احترام راسخ للإمام والشعب الإيرانيّ.

 

إنّ سبيل شعبنا الكبير، الذي نشأ على كلمات الإمام وهديه (سبيله)، لبلوغ ذروة العلياء والتقدُّم، هو أن يحافظ على عزّته الوطنيّة في جميع المجالات. يمكن لهذا الشعب بلوغ ذروة العلياء. فالشعب، إذا تمتّع بالقوّة، وأحرز الرقيّ المادّيّ والمعنويّ، سوف يتحقّق له الأمن الكامل أيضًا، أي إنّ هشاشته وضعفه سوف يزولان، ولن يعود الأعداء يطمعون فيه.

 

إذا أراد شعبنا بلوغ الأمن التامّ، وإذا أراد أن لا يتجرّأ الأعداء على تهديده، فعليه السير في هذا الطريق. إذا كان يريد التقدُّم والعدالة، فعليه السير في هذا الدرب.

 

تجنُّب الخطر الكبير

الخطر الكبير على بلادنا، هو الانفصال عن الشعب، والانفصال عن القيم الإسلاميّة، والانفصال عن الخطّ المبارك للإمام الخمينيّ، هذه أخطار تواجه بلادنا. إذا تمّ الحفاظ على هذه الهيكليّة المتينة التي أوجدتها الثورة، فسوف يمكن ترميم الكثير من المشاكل، هنا وهناك، على مرّ الزمان. لا تسمحوا بتحطُّم هذه الهيكليّة المتينة، فإذا تحطّمَت، لن يعود بالإمكان معالجة أيّ جرح من الجراح، ولن يمكن ترميم أيّة زاوية خربة.

 

246


207

خطاب الولي 2009

يجب أن تُصان الهيكليّة المتينة للنظام الإسلاميّ، والتي علَّمَنا الإمامُ إيّاها. إنني أشكر الله أن استطاع الشعب الإيرانيّ ومسؤولوه، طوال هذه السنوات الثلاثين، مواصلة هذا الطريق، بمقدار استطاعتهم. طبعًا، كان هناك اختلاف في الدرجات، وبعض حالات الضعف والشدّة، في فترة ما، كان الوضع أفضل، وفي فترة أخرى، بدرجات أقلّ، بَيْدَ أنّ الحركة هذه، استمرَّت دائمًا، وإلى اليوم، وسوف تستمرّ حتّى النصر النهائيّ، بتوفيقٍ من الله، وبهمّتكم أيّها الشعب، وخصوصًا هممكم، يا شباب هذا الشعب.

 

نقاط مهمّة مرتبطة بالانتخابات

أذكر هنا عدّة نقاط حول الانتخابات. إنّ القضيّة الحسّاسة المهمّة والمصيريّة في بلادنا، هي الانتخابات في جميع الدورات، سواء انتخابات مجلس الشورى، أو انتخابات مجلس الخبراء، وخصوصًا انتخابات رئاسة الجمهوريّة، التي ستجري بعد أيّام. أذكر عدّة نقاط حول الانتخابات:

1. تضليل الإذاعات الأجنبيّة

النقطة الأولى هي أنّ الإذاعات الأجنبيّة بدأَت، قبل شهرَين أو ثلاثة من الآن، تعمل على تشويه الانتخابات في بلادنا، والنيل منها، من أجل بثّ التشاؤم وسوء الظنّ بها، لدى الشعب. يقولون حينًا: هذه ليست انتخابات، بل تعيينات. ويقولون حينًا آخر: إنّها لعبة مُسَيطَرٌ عليها داخل الدولة. وقالوا أيضًا: هؤلاء المرشّحون يلعبون هم أنفسهم، وما هذه الاختلافات في وجهات النظر، إلّا لعبة وتمثيل ورياء. وقالوا حينًا آخر: إنّه بالتأكيد، سيحصل تزوير في الانتخابات. قالوا: شيئًا، في كلّ حين.

 

2. استهداف المشاركة الشعبيّة

وإنّ الهدف من هذا التخريب كلّه، شيء واحد، هو أن لا يشارك الشعب في الانتخابات، مشاركةً قويّةً واضحة، هذا ما يريدونه. وأقول لكم: يا أعزّائي، أيّها الشعب الإيرانيّ العزيز، يا شعب إيران اليقظ الواعي، أيّها الشعب الذي خاض التجارب والامتحانات بنجاح، واجتاز كلّ هذه المنعطفات، طوال الأعوام الثلاثين الماضية: اعلموا أنّهم يعارضون سيادة الشعب! العدوّ يعارض مشاركتكم وإدلاءكم بأصواتكم. يريدون

 

 

247

 


208

خطاب الولي 2009

سلب النظام سنده ودعمه، وهو الجماهير وأصوات الجماهير. إنّهم يفهمون ماذا يفعلون. الويل لمن يكرّر كلامهم، عن جهل وغفلة، ويساهم في تحقُّق أهدافهم في الداخل!

 

3. وجوب المشاركة

إنّهم يعملون على سلب الناس أملهم. يفخر الشعب الإيرانيّ بأنّه استطاع، طوال هذه الأعوام الثلاثين، تعيين مسؤوليه بنفسه. المسؤولون رفيعو المستوى في النظام، من أوّلهم إلى آخرهم، منتخَبون مِن قِبَل الشعب. القيادة أيضًا، منتَخَبة مِن قِبَل الشعب، بواسطة انتخابات الخبراء، ورئيس الجمهوريّة، ومجلس الشورى الإسلاميّ، والمجالس المختلفة. هذه من مفاخر (أمجاد) النظام، التي يريدون سلبها من الشعب، لأنّهم يعلمون أنّ النظام يقوى ويتجذّر بهذه الأمور. أقول لكم: كلّ مَن يحبّ تقوية هذا النظام، وكلّ مَن يحبّ الإسلام، وكلّ مَن يحبّ الشعب الإيرانيّ، فمن الواجب عليه، عقلًا وشرعًا، المشاركة في هذه الانتخابات.

 

التنوّعُ، لا التصادم

النقطة الثانية حول الانتخابات، هي: يا أعزّائي، لكلّ واحد من المرشّحين، أنصارُه ومحبّوه. محبّو هذا المرشّح لا يستطيعون الاعتراض على محبّي ذلك المرشّح، والقول لهم: لماذا تحبّون المرشّح الفلانيّ، ولا تحبّون المرشّح الذي نحبّه نحن؟ لا، هذه من مفاخر بلدنا. يأتي أشخاص متنوّعون، بمناهج متنوّعة، وسلائق مختلفة، وبأساليب عمل عديدة، ويقفون أمام الشعب. بعضهم يفضّل هذا، وبعضهم يفضّل ذاك، وبعضهم يفضّل شخصًا ثالثًا. هذه مفخرة وشيء جيّد. لكلٍّ من المرشّحين المحترمين أنصاره. بعضُهم متعصّبون ومحبّون متشدّدون لذلك المرشّح. لا بأس، فليكونوا كذلك، لا إشكال في ذلك. ولكن احذروا أن لا ينجرّ هذا التعصُّب إلى مماحكات وصدامات واضطرابات. إنّكم تتعبون في سبيل عقيدتكم وإيمانكم، فلا تسمحوا لعدوّ هذا الإيمان وهذا الهدف، أن يستغلّكم. لقد سمعتُ أنّ بعض الشباب من أنصار المرشّحين، يخرجون إلى الشوارع، ولا أتحدّث الآن، حول هذا الخروج إلى الشوارع، لكنّني أؤكّد: حذار من أن

 

 

248

 


209

خطاب الولي 2009

تتحوّل هذه الجولات في الشوارع إلى مواجهات وسجالات واشتباكات! كونوا حذرين. إذا وجدتم شخصًا يصرّ على التوتّر والاشتباك، اعلموا أنّه إمّا خائن، أو غافل جدًّا.

 

شروط المناظرات

النقطة الثالثة حول الانتخابات، هي أنّ على المرشّحين المحترمين أيضًا، الحذر والتدقيق. هناك أمر لا يريح الإنسان، حين يرى مرشّحًا، يسعى في خطاباته الإعلاميّة، وفي كلماته، في التلفزيون أو في غير التلفزيون، إلى إقصاء الآخر، من أجل إثبات نفسه، وبأدلّة شتّى. هذا، برأيي، غير صحيح. وسبق أن قدّمتُ توصيةً حول هذا الشأن، وأكرّر الآن، في هذه الأيّام الأخيرة. يعمل المرشّحون جميعهم لهدف واحد. كلّ واحد يشعر بالمسؤوليّة والواجب، حسب تصوّره، فينـزل إلى الساحة. إنّني لا أعارض المناظرات والمعارضات والحوار والنقد، ولكن حاوِلوا أن يتمّ هذا داخل الأطر الشرعيّة والدينيّة الصحيحة. الشعبُ شعبٌ يقظ، ويفهم ويعلم. هؤلاء الأشخاص الأربعة الذين قُبِلُوا من جانب مجلس صيانة الدستور، ويُلقون خطاباتهم في التجمّعات المختلفة، ليتنبّهوا هم أنفسهم، ويلتفتوا أن لا يتحدّثوا في هذه الخطابات والتصريحات، بشكلٍ يُفضي إلى إيجاد العداء والشحن والبغض. ليتحرّكوا وليعملوا، بأخوّة وودّ. طبعًا، اختلاف الرأي ووجهات النظر، واختلاف الأذواق في القضايا المختلفة، وفي المسائل الشخصيّة، وفي المسائل العامّة، أمرٌ طبيعيّ، ولا إشكال فيه. لا تدَعوا هذه الحالة تؤدّي إلى الاضطرابات والتوتُّر. على المرشّحين المحترمين، أنفسهم، التنبُّه إلى هذه القضيّة.

 

حريّة الانتخابات

النقطة الرابعة هي أنّني لا أمتلك في هذه الانتخابات، سوى صوت واحد. ويبدو لي أنّ أحدًا لا يعرف لمن أمنح صوتي. وقد يخمِّن بعضهم لمن أصوّت. أنا لا أقول هذا لأحد. لم أقُل، ولن أقول: صوِّتوا لهذا، ولا تصوِّتوا لذاك. صوتي شأنٌ يرتبط بي، وهو للشعب. ما أريده من الشعب، هو أن يحضر الجميع، بكلّ قواهم، وبكلّ قدراتهم وحيويّتهم، عند صناديق الاقتراع، في يوم الثاني والعشرين من خرداد، ويصوّتوا. الله -تعالى- مع الشعب الذي يفكّر، ويتّخذ قراره، وينتخب، ويعمل بانتخابه في سبيل الله.

 

 

249

 


210

خطاب الولي 2009

اللهمّ، أنزل بركاتك ورحمتك على هذا الشعب. اللهمّ، احشر الروح الطاهرة لإمامنا الجليل مع أوليائك. اللهمّ، احشر روحَي نجلَي الإمام الجليل، اللذَين رحلا عن الدنيا شابَّين، والتحقا به، مع الإمام العزيز، ومع أوليائهم. اللهمّ، احشر شهداءنا الأبرار، الذين يرقد الكثير منهم بجوار هذا المرقد الشريف، وجميع شهداء الإسلام، مع أوليائك.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

250


211

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء ممثّلي المرشّحين في الانتخابات

 

         

 

المناسبة:   قرب موعد الانتخابات الرئاسيّة في إيران

الحضور:  ممثّلو المرشّحين في الانتخابات

المكان:   طهران

 

الزمان:    26/03/1388هـ.ش.

22/06/1430هـ.ق.

16/06/2009م.

 

 

251

         


212

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

أوّلًا، يجب أن أعتذر عن تحدّثي مع الأصدقاء بصوتٍ مبحوح. منذ يومَين أو ثلاثة، وصوتي مبحوحٌ، نتيجة الزكام أو شيءٍ آخر. أرجو أن تتحمّلوا ذلك.

 

الانتخابات استعراض العزّة

الموضوع الأساسيّ والأصليّ الذي أودّ ذكره للأصدقاء الحاضرين هنا كافّة -سواء ممثّلي لجان المرشّحين المحترمين، أو ممثّلي الأجهزة المسؤولة- هو أنّ الانتخابات في بلادنا، وخلافًا لبعض البلدان الأخرى، كانت دومًا مظهرًا لوحدة الشعب، واستعراضًا لعزّته الوطنيّة. لأنّ كلّ شخصٍ يحضر عند صندوق الاقتراع، ويُدلي بصوته، إنّما يكرّر، في واقع الأمر، تصويته لصالح الجمهوريّة الإسلاميّة، والنظام الإسلاميّ. لذلك، كنتم تلاحظون دومًا، أنّ مسؤولي البلاد، وأنا شخصيًّا، كان لدينا إصرار على زيادة عدد (الأفراد) المشاركين في التصويت، وكنّا نُرَغِّب الجماهير ونشجّعهم على ذلك، وكانت جماهير الشعب تشارك في الأمور بوعيٍ، وفي الظروف الحسّاسة. في الظروف التي كان البلد يحتاج فيها إلى صرخة قويّة مدوّية، قبال معارضيه وأعدائه في العالم، جاء أبناء الشعب إلى صناديق الاقتراع، وصوّتوا. وأنا كرّرتُ، في عددٍ من بيانات التهنئة بالانتخابات، هذه العبارة: "الناس واعون، وعارفون بزمانهم". وقد أوردتُ هذه العبارة الآن أيضًا، كما ذكرتها عدّة مرّات سابقًا. السبب هو أنّ حضور أبناء الشعب عند صناديق الاقتراع، يدلّ دومًا على حضورهم في الساحة، ووعيهم، وتصويتهم لصالح نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. من هنا، كانت الانتخابات عندنا، على الدوام، مظهرًا للوحدة الوطنيّة، والعزّة الوطنيّة.

 

 

253

 


213

خطاب الولي 2009

تحويل الانتخابات إلى سبب للتفرقة، خطأٌ كبير

يجب أن نسعى وندقّق، لئلّا تتحوّل الانتخابات إلى سبب تفرقة. هذه هي فكرتي الرئيسيّة. أن نتصوَّر أنّ هناك فئة من أربعة وعشرين مليونًا في جانب، وفئة أخرى من أربعة عشر مليونًا في جانب، فهذا، في رأيي، خطأ كبير جدًّا. ليست القضيّة على هذه الشاكلة. الكلّ يصطفّون في جانبٍ واحد. الذين منحوا أصواتهم لرئيس الجمهوريّة المنتخَب في هذه الدورة من الانتخابات، ينتمون للثورة والبلاد والنظام، بالمستوى نفسه للذين لم يمنحوه أصواتهم. المجموعات الشعبيّة هي أبناء هذا البلد، وهذا الشعب. من الخطأ أن نعتبر هاتَين الفئتَين اللتَين قامتا بالتصويت، فئةً لمرشّح معيَّن، وفئةً لم تمنح ذلك المرشّح أصواتها، أن نعتبرهما فئتَين متخاصمتَين متجابهتَين، كلّا، لقد كانت أذواقهم مختلفة في مسألة، أو انتخاب معيَّن، لكنّهم متّحدون جميعًا في أصل القضيّة، وفي الإيمان بالنظام، ودعم الجمهوريّة الإسلاميّة. لننظر إلى أصوات الشعب، التي بلغَت نحو أربعين مليون صوت. هذا هو المهمّ.

 

الحفاظ على الوحدة

أعتقد أنّه من واجبنا جميعًا، الحفاظ على هذا، وحراسته، بمعنى أن لا نستهين بهذا الاتّحاد الوطنيّ، في الإعلان الصريح عن دعم النظام الإسلاميّ. هذا شيءٌ على جانبٍ كبيرٍ من الأهمّيّة. يُثبِت النظامُ الإسلاميّ اليوم، أنّ ما يحكمه هو السيادة الشعبيّة الحقيقيّة. يستمع الناس لكلامِ شتّى المرشّحين، ثمّ يكون لهم حضورهم الفاعل في الشوارع، على مدى عشرة أيّام، أو خمسة عشر يومًا. هذه، برأيي، مسألة مهمّة جدًّا. علينا أن نفخر بهذه الليالي المتعدّدة، التي يجتمع فيها الناس في شوارع طهران، وبعض المدن الأخرى، ويعلنون دعمهم لهذا المرشّح، أو ذاك، ويهتفون لصالح مرشّحيهم، من دون نشوب أيّ نزاع بينهم. هذا شيء مهمّ جدًّا. هؤلاء هم أبناء شعبنا، الذين يوجد بينهم اختلاف في الأذواق والآراء حول المرشّحين، لكنّهم يعملون بعضهم مع بعض. نقل لي المهندس موسويّ، أنّه حينما كان يسير في أحد الشوارع، واكبَت سيارةٌ سيارتَه، وبدأ راكبوها يطلقون كلامًا وشعارات ضدّ السيّد

 

 

254

 


214

خطاب الولي 2009

موسويّ، وهم يضحكون. قال السيّد موسويّ: إنّني ضحكتُ أيضًا، وحيَّيتُهم بيدي، وعَبَرْتُ. هذه الأجواء أجواء جدّ إيجابيّة. طبعًا، ينبغي أن لا تتحوّل هذه الأجواء، بعد الانتخابات، إلى أجواء خصام ومواجهة. يريد بعضهم إيجاد مثل هذا الشيء في المجتمع، وهو خلاف الواقع.

 

الذين يجتمعون لدعم مرشّحٍ معيّن، والذين يجتمعون لدعم مرشّحٍ آخر، كلاهما من شعب إيران، هم جماعات من الشعب. علينا النظر من هذه الزاوية. لهم أصواتهم، بعضهم يصوّت لصالح هذا الشخص، وبعضهم لصالح ذاك. طبعًا، معنى قاعدة السيادة الشعبيّة، هي أن تتقدّم الأكثريّة على الأقليّة، في مقام العمل، بمعنى أن يتولّى المسؤوليّةَ الشخصُ الذي تمنحه الأكثريّةُ أصواتها. هذه هي قاعدة السيادة الشعبيّة. بَيْدَ أنّ هذا لا يعني إيجاد التزاحم والتعارض والعداء. حارِبوان كلُّكم، حالةَ خلق العداوات. هذا كلامٌ لا يخصّ مرشّحًا معيّنًا، أو لجنة معيّنة، أو جماعة بذاتها، من واجب الجميع، مواجهة خلق الشجار والعداء والضغينة.

 

المتابعة القانونيّة للاعتراضات

نعم، يمكن أن يكون بعضٌ، كما ذكرتم أيّها السّادة الآن، قد سجّلوا إشكالات واعتراضات على مجريات الأمور في الانتخابات، ولديهم مؤاخذاتهم، وطبعًا، لهذا سبله القانونيّة. لا بدّ من متابعة الحالات التي ذكرتموها، أيّها السّادة. أطلب من السادة المسؤولين في وزارة الداخليّة، وكذلك في مجلس صيانة الدستور، أن يتابعوا هذه الحالات بدقّة. وإذا اقتضَت بعض الإشكالات إعادةَ فرز بعض الصنادي، فلا إشكال في ذلك. مثلًا، ذَكَر السادة أنّ فلانًا قال: إنّ عدد أصوات المرشّح الفلانيّ كذا، ثمّ ذُكِر عددٌ آخر في الفرز. لا بأس، هذه قضيّة سهلة، ليعيدوا فرز الصناديق المعنيّة بالإشكال، أو ليعيدوا تعداد بعض الصناديق بشكلٍ عشوائيّ، وليكن ممثّلو اللجان أنفسهم حاضرين، ويشاهدوا، لتتحقّق الثقة التامّة لدى الجميع.

 

الثقة بالمسؤولين

طبعًا، أنا شخصيًّا، وثقتُ بمسؤولي البلاد في هذه الانتخابات، كما في كلّ الانتخابات السابقة -كلّكم من المسؤولين، أو كنتم من المسؤولين، وتعرفون منهجي- ووثقتُ

 

 

255

 


215

خطاب الولي 2009

بوزارة الداخليّة، وبمجلس صيانة الدستور، وأنتم تعرفون أنّ للمسؤولين أذواقًا مختلفة في العديد من الأمور، لكنّني أثق بالمسؤول الذي أعرفه وأعلم ما هي قاعدة عمله. وكذا الحال في هذه المرة أيضًا. إنّني أثق، لكنّ ثقتي هذه لا تعني أن لا تُتَابَع الشبهات، إذا خامرَت أذهان بعضهم، ولا تعني أن لا تُدرَس، ولا تُبَيَّن حقيقة الأمر. كلّا، عالِجوا الشبهات، غير أنّ الشيء الأهمّ من كلّ شيء، هو أن تسعوا، جميعًا، للحفاظ على الوحدة الوطنيّة ووحدة البلاد. كلّ شخص بنحو معين، ولكلّ شخص واجباته.

 

مفخرة الانتخابات

الانتخابات مبعث فخرٍ لنا. أربعون مليون صوت ليست مزاحًا. ومن الواضح جدًّا، أنّ هذا الرقم هو أكثر من أعلى نصاب سجّلناه إلى الآن. إنّها قضيّة على جانبٍ كبيرٍ من الأهمّيّة. التزام شعبنا بنظام الجمهوريّة الإسلاميّة، بعد مُضيّ ثلاثين سنةً، إلى درجة أنّه يخوض غمار الساحة بهذا الشوق والاندفاع كلّه، بحيث تعلن وكالات الأنباء الأجنبيّة، منذ الساعات الأولى، أنّ مشاركة الشعب هذه المرة، مشاركة استثنائيّة. هذا ما قاله الجميع. هذا عدا المشاهدات التي كان يرويها لنا بعض شهود العيان، الذين أدلوا بأصواتهم. وقد تحدّثَت وكالات الأنباء، وانعكس حضور الجماهير ومشاركتهم في التلفزة الأجنبيّة، التي قالت: إنّ مشاركة الشعب كانت جادّة وفعّالة وكثيفة. عرضَت بعض القنوات الأجنبيّة طوابير الناس الذين اصطفّوا. هذا فخرٌ للبلاد، فلا نشوِّه هذا الفخر، ولا ننسفه، لأنّه ملكٌ للشعب.

 

ملحمة الشعب الكبرى

إنّ الذين صوّتوا للجانبَين، سواء الذين صوّتوا للمرشّح المنتخَب، أو الذين لم يصوّتوا للمرشّح المنتخَب، واختاروا شخصًا آخر - وهم حوالي أربعة عشر مليونًا تقريبًا - كلّهم مشاركون في إيجاد هذه الملحمة الكبرى. يجب أن لا ننسى هذه الوحدة، وهذه النظرة الشاملة الموحّدة، ولا نسلبها من الشعب. الكلّ مساهمون: الذي منح صوته الدكتور أحمدي نجاد مساهم أيضًا، والذي صوّت لصالح المهندس موسويّ، أو الشيخ كرّوبيّ، أو الأخ رضائيّ، هؤلاء كلّهم مساهمون في صناعة هذه الملحمة الكبرى، والبلد مدينٌ

 

 

256


216

خطاب الولي 2009

لهم. والنظام مدينٌ، حقًّا، لهذا الحضور الشعبيّ الملحميّ، حيث جاء الناس ودافعوا عن نظامهم الذي هو ملكٌ لهم، وعن الثورة التي هي ثورتهم. يجب أن تكون هذه هي الرؤية الأساسيّة.

 

طبعًا، على كلّ طرفٍ أن يراعي بعض الملاحظات. هذا صحيح، وأوافقه. يجب أن يراعي الطرف الذي أحرز الأكثريّة، يجب أن يراعي بعضَ الملاحظات، ويدقّق في طبيعة سلوكه وتصرّفاته. وكذلك الطرف الذي لم يحرز الأكثريّة، يجب عليه التدقيق أيضًا. على الجميع التحلّي بالحِلم. الحِلم الإسلاميّ معناه القدرة على التحمُّل وسعة التحمُّل. على الجميع امتلاك سعة التحمُّل، وأن يكون قادرًا على التحمُّل. تحمُّل الفوز أيضًا، ليس بالعمل السهل، وتحمُّل عدم الفوز أيضًا، ليس بالعمل اليسير. الحِلم، والتحمُّل، واستيعاب الفوز وعدم الفوز، من جُملة الفضائل الإنسانيّة. علينا إشاعة هذا المعنى بين النخبة، وبين كلّ أفراد الشعب الكبير.

 

أعداء الوحدة

طبعًا، أنتم لا تشكّون، وأنا مثلكم، أنّ هناك من لا يريد هذه الوحدة. تحصل، هنا وهناك، أحداثٌ ليس لها علاقة، لا بهذه الجماعة، ولا بتلك، وإنّما تعود إلى أشخاص لا يريدون هذه الوحدة، وهذا التوافق، وهذا المشهد العظيم. وإذا كان ثمّة مجال، وبقي لنا من العمر شيءٌ، فسوف أتحدّث يوم الجمعة، حول هذا الموضوع أكثر، إن شاء الله. هناك من لا يريد مشاهدة نجاحاتكم هذه. لقد نجحتم جميعًا، وانتصرتم جميعًا، في هذه الأحداث، من حيث إنّكم استطعتم تعزيز النظام الذي تحبّونه. الشعب كلّه انتصر، لأنّه استطاع استعراض عظمته وعزّته. بعضهم لا يريدون ذلك، ويخرّبون طبعًا، ويُفسدون في الأمور، يأخذون الكلام من هذا إلى ذاك، ومن ذاك إلى هذا. وغالبًا ما يكون الكلام غير واقعيّ، لأنّ الكلام يصلني من أطراف وجهات مختلفة، أجد أنّ بعض ما يقوله هذا الطرف عن ذاك، خلافًا للواقع، وكذا الحال بالنسبة إلى بعض ما يقوله ذاك الطرف عن هذا. واضحٌ أنّ هناك أفرادًا في الوسط، لا يريدون استمرار هذا الاتّحاد والاتّفاق في البلاد. طبعًا، هذه أبسط الأمور. (لكن) والأسوأ هو أعمال التخريب، التي

 

 

257

 


217

خطاب الولي 2009

تلاحظون أنّهم يمارسونها، وطبعًا، على الجميع الوقوف بوجه هذا التخريب، وإعلان مواقفهم. على الجميع أن يعلنوا مواقفهم.

 

الوقوف في وجه التخريب

وإنّ أعمال التخريب التي تُرتكَب، وهذه الممارسات القبيحة التي تُقتَرف، وبعض الجرائم التي تُرتكَب، لا تتعلّق بأيٍّ من أطراف القضيّة، ولا تتعلّق بالجماهير، ولا بالمرشّحين، بل هي من فعل المخلِّين وصُنّاع الشغب. حذار من أن يتصوّر أحدٌ ويتوهّم أنّها تعود إلى أنصار المرشّح الفلانيّ! كلّا، هؤلاء كالذين يشعلون نيران الخلافات الطائفيّة بين المسلمين، وقد ذكرنا مرارًا، أنّهم ليسوا من السنّة، ولا من الشيعة، بل يحرّضون الشيعيّ ضدّ السنّة، والسنّيّ ضدّ الشيعيّ، وكذا يفعلون حيال واقع الاتّحاد الذي يسود مجتمعنا العظيم. الذين يحرّضون طرفًا ضدّ طرف، يمارسون أعمالًا يعتبرونها نصرةً لإحدى الجهات، والحال أنّها ليست نصرةً لها حقًّا. هؤلاء ليسوا من هذا الطرف، ولا من ذاك. إنهم أشخاص يعارضون أساس النظام، ويعارضون استقرار البلاد، ويناصرون الاضطراب والشغب، ولا يريدون استتباب الهدوء.

 

أيُّ شخصٍ يمكن أن يتولّى الأمور، حتّى لو كانت نتائج الانتخابات غير هذه، أستطيع القول بثقةٍ: كانت ستقع مثل هذه الأحداث، وستحصل هذه الأحداث، وذلك من أجل أن لا يسود الهدوء البلد أساسًا. إنّهم يستهدفون أمن البلاد واستقراره، ويريدون القضاء على ذلك. على الجميع الامتناع عن تغذية هذه التوتُّرات والاضطرابات، وعلى الجميع اتّخاذ مواقف صريحة منها. ومواقفكم الحقيقيّة ليست سوى هذا. ليتّخذوا مواقفهم بصراحة، وليوضحوا أنّهم لا يريدون ذلك، ولا يفعلوا أيّ شيءٍ يثير التوتّر، أي لا يثير بعضهم غضب بعض. ولا بأس أن أوصي، هنا، الناسَ خارجَ مجموعتكم، أنتم أيّها الإخوة الأعزّاء، حتّى يكون هذا خطابًا للناس كلّهم، إذا جرى بثّه وإذاعته، أقول لشعبنا العزيز: يجب على التيّارَين والجماعتَين أن لا تثير الواحدة غضب الأخرى، فلا يتحدّث الذين فاز مرشّحُهم، ولا يتصرّفوا بطريقةٍ تُغضب الطرف المقابل وتجرحه، ولا يتحدّث الذين لم يفُز مرشّحُهم، ويتصرّفوا بطريقةٍ تُغضب ذلك الطرف. كلّا، لديكم، جميعًا،

 

 

258

 


218

خطاب الولي 2009

اتّجاهٌ مشترك، هو الحضور في ساحة الانتخابات، والدفاع عن النظام الإسلاميّ. هذا هو أساس القضيّة، وهو ما يرضي قلب الإمام المهديّ (أرواحنا فداه). هذا هو ما يوجب، إن شاء الله، الرحمة الإلهيّة، وجريانها في هذا البلد. أعتقد أنّ هذا هو الصحيح.

 

أتمنّى أن يمدّ الله -تعالى- يدَ معونته. أعتبر أنّ من واجبي أن أقول لكم هذا. وكما قلت، فإنّني أعرفكم -جميعًا تقريبًا، أو غالبيّتكم- عن قرب، وأعرف سوابقكم المهنيّة، ولاح لي أنّ من المناسب، إن شاء الله، التحدّث إليكم بهذا الشكل، ومن واجبي أن أقول ما قلت. أشعر بأنّنا اليوم مكلَّفون، جميعًا، بالدفاع عن الهويّة الجمعيّة للبلاد، وللشعب. لا تسمحوا لهذه المنظومة الشعبيّة العظيمة، ومثل هذه الأمانة الثقيلة التي تتحمّلها تلك المنظومة، ومع هذه المسيرة العظيمة الشجاعة، التي أنجزها الشعب طوال الثلاثين عامًا الماضية، أن تتمزّق، ولا تتركوا الأفراد يصطفّون، بعضهم بوجه بعض. سيتمكّن كلّ واحدٍ منكم من القيام بهذا بطريقةٍ معيّنة. ساعدَكم الله، إن شاء الله، وهداكم، وأدعو أن يهدينا جميعًا، كي نستطيع النهوض بهذا الواجب على أفضل وجه.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

259


219

خطاب الولي 2009

خطبتا الإمام الخامنئيّ دام ظله

في صلاة الجمعة

 

 

 

 

المناسبة:   صلاة الجمعة

الحضور:  حشد كبير من المصلّين

المكان:   طهران

 

الزمان:    29/03/1388هـ.ش.

25/06/1430هـ.ق.

19/06/2009م.

         

260


220

خطاب الولي 2009

الخطبة الأولى

والحمد لله ربّ العالمين، نحمده، ونستعين به، ونتوكّل عليه، ونستغفره، ونصلّي ونسلّم على حبيبه ونجيبه وخيرته في خلقه، حافظ سرّه ومبلّغ رسالاته، بشير رحمته ونذير نقمته، سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديّين المعصومين، ولا سيّما بقيّة الله في العالمين، والسلام على أئمّة المسلمين، وحماة المستضعفين، وهداة المؤمنين.

 

قال الله الحكيم في كتابه: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[1].

 

أوصي جميع الإخوة والأخوات الأعزّاء، وأدعوهم لمراعاة تقوى الله، والتوجُّه إليه -تعالى-، وعقد آمال القلوب على الرحمة والفضل الإلهيَّين، في كلّ الأحوال. إذا انتهجنا تقوى الله، وإذا وجّهنا قلوبنا نحو الله في كلّ حال، ولم ننسَ وجودنا ووقوفنا أمام الذات الربوبيّة المقدّسة -وهذا هو المعنى الحقيقيّ للتقوى- فلا مراء أنّ البركات والرحمة والعون الإلهيّ ستشملنا. في صلاة الجمعة من كلّ أسبوع، يجب على قلوب المصلّين المتجّهة نحو الله -تعالى-، مراجعة هذه الحقيقة، وهذا المعنى المدهش، وتلقين أنفسها التقوى.


 


[1] سورة الفتح، الآية 4.

 

 

262


221

خطاب الولي 2009

ليزدادوا إيمانًا

اقترنَت هذه الأيّام، من ناحية، بذكرى الولادة السعيدة للصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام، وارتبطت من ناحية أخرى، بأيّام شهر رجب المباركة الثمينة، أوقات الذكر والدعاء والتوجُّه. تبشّر الآية التي تلوتُها، المؤمنين، وتذكّرهم بنـزول السكينة الإلهيّة. السكينة هي الهدوء حيال العواصف الروحيّة والاجتماعيّة المختلفة. ترتبط هذه الآية بحادثة الحديبيّة. في حادثة الحديبيّة، تحرّك الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى مكّة، بعدّة مئات من أصحابه، بقصد العمرة، في السنة السادسة من الهجرة، ووقعَت أحداثٌ أدَّت من عدّة جهات، إلى تزلزُل واضطراب في قلوب المؤمنين. فمن جهة، حاصرهم الأعداءُ بقوّاتٍ ذاتِ عددٍ وعدّة، وقد كانوا بعيدين عن المدينة، فالحديبيّة قريبة من مكّة، وكانت قوّات الأعداء تستند على إمداداتها في مكّة، فهي قويّة ومدجّجة بالسلاح، وعديدها كبير. وكان هذا الجانب يبعث على الاضطراب والقلق في قلوب كثيرٍ من المؤمنين. من جانبٍ آخر، وطبقًا للسياسة الإلهيّة العظيمة المكتومة، التي تجلَّت بعد ذلك للجميع، تنازل النبيّ في بعض الأمور، أمام الكفّار الذين جاؤوا لمواجهته. قال الكفّار: يجب حذف كلمة الرحمن والرحيم وبسم الله من نصّ المعاهدة، فوافق النبيّ، ووقعَت عدّة مسائل أخرى من هذا القبيل، فشوَّشَت القلوب، وأوقعَت الشكّ والاضطراب فيها.

 

في مثل هذه الحالات، حيث ينتاب الاضطراب المؤمنين بالإسلام -سواء من حيث القضايا الشخصيّة، أو من حيث القضايا الاجتماعيّة- هنا، يجب انتظار السكينة الإلهيّة. يقول -عزَّ وجلَّ-: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾. ربط الله على القلوب، ومنحها السكون، وأنقذها من الطوفان الروحيّ، فركن المسلمون إلى الهدوء من الناحية النفسيّة، بفضل هذه السكينة التي أنزلها الله عليهم. حينئذٍ، ستكون نتيجة هذه السكينة الإلهيّة والاستقرار الروحيّ: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾. سوف تتعمّق بذور الإيمان في قلوبهم، ويزداد نور الإيمان، سطوعًا، في أفئدتهم، و(بالنتيجة)، يقوى إيمانهم، ويتعمّق أكثر. من هنا، كان مهمًّا جدًّا لدى الجماعة المسلمة المؤمنة، أن تُحسن الظنّ بالله، وتعلم أنّ الله يُعِينُها ويُعِين السائرين في طريق الحقّ. إذا قويَت

 

 

263

 


222

خطاب الولي 2009

القلوب، ترسّخَت الخطوات أيضًا، وحين تترسّخ الخطوات، يسهل طيّ الطريق، ويقترب السائرون من الهدف.

 

أراد أعداء الإسلام، دومًا، تشويش قلوب المسلمين، وزلزلتها. وقعَت أحداثٌ عديدة طوال تاريخ الإسلام. وكذلك قبل الإسلام، وفي الحركات الجهاديّة العظيمة للأنبياء الذين سبقوا نبيّ الإسلام الكريم، استطاع بعض المؤمنين الحفاظ على متانة إيمانهم وسكونهم الروحيّ، فثبَّت هذا السكونُ الروحيُّ حركاتهم ومسيرهم، في الاتّجاه الإيمانيّ، فلم يتزلزلوا، ولم يضطربوا، ولم يضيّعوا الطريق. فتشخيص الطريق الصواب، في حال التشويش والاضطراب، عمليّة صعبة، وإنّ الإنسان المتمتّع بالسكينة (الروحيّة) النفسيّة، يفكّر بطريقةٍ صحيحة، ويتّخذ قراره بنحوٍ صائب، ويتحرّك بصورةٍ صحيحة. هذه علامات الرحمة الإلهيّة.

 

ذِكرُ اللهِ المحورُ والأساسُ

يحتاج مجتمعنا الثوريّ اليوم، وشعبنا المؤمن، إلى أن يوجِد في نفسه هذا الهدوء، وهذه السكينة، وهذه الطمأنينة والوقار، أكثر فأكثر. ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾[1]. فذِكرُ الله هو الذي يحفظ القلوب في الحوادث العاصفة في الحياة. اغتنِموا ذكر الله. اقتربت أيّام شهر رجب، كما ذكرنا، وأدعية شهر رجب بحارٌ من المعرفة. حينما يدعو الإنسان، فإنّه لا يقرِّب قلبَه من الله وحسب، فهذا موجود، وهناك أيضًا التعليم. ثمّة تعليم في الدعاء، وفيه أيضًا تزكية. الدعاء ينير الذهن -هذه الأدعية المأثورة عن الأئمّة عليهم السلام- ويعلّمنا حقائق ومعارف نحتاج إليها في حياتنا، ويوجّه القلوب أيضًا، نحو الله. ينبغي اغتنام ذِكر الله إلى أقصى حدّ. صلاة جُمعتِكم هذه، هي ذكر لله، ﴿فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ﴾[2].

 

ما يجب أن يغلب على قلوبكم وألسنتكم وحركاتكم هنا، هو ذِكر الله. القلب يذكر الله، واللسان يذكر اسم الربّ المقدّس، وحركات الأيدي والأرجل والأجسام تتّجه كلّها إلى ذكر الربّ، وطاعة أوامره، هذا ما يحتاجه كلّ فرد منّا.


 


[1] سورة الرعد، الآية 4.

[2] سورة الجمعة، الآية 9.

 

 

264


223

خطاب الولي 2009

أقول لكم: إنّه منذ بداية الثورة، وإلى اليوم -حيث مضت ثلاثون سنة- وقعَت لهذا البلد أحداث كثيرة، بعضها كان يمكن أن يستأصل شعبًا، أو نظامًا، أو يعرّض بلدًا لبِحارٍ مضطربة عاصفة، لا يدري كيف يقابلها -وهذا ما نراه في بعض بلداننا الجارة- لكن هذه السفينة المتينة المستندة إلى إيمانكم، وإرادتكم، وقلوبكم المنيرة، وذكر الله، لم يعترها أدنى اضطراب في هذه العواصف المختلفة. هذا دليل الرحمة الإلهيّة، ومؤشّر فضل الله المتواتر عليكم، أيّها الشعب العزيز.

 

حذار الغفلة!

التمتُّع بالفضل الإلهيّ شيء، والحفاظ على الفضل والرحمة الإلهيّة شيء آخر. حذار من أن نغترّ بأنفسنا! حذار من أن نقول، حين نشاهد يد العون الإلهيّ: "إنّنا محظيّون عند الله، والله ينظر إلينا"، فنغفل بذلك عن واجباتنا، وعن ذكر الله في قلوبنا! وأقول لكم خصوصًا، أيّها الشباب الأعزّاء في كلّ أرجاء البلد، وأينما كنتم: أيّها الشباب، اغتنِموا هذه القلوب الطاهرة المنيرة الليّنة، واجعلوها تنتهل وترتوي من ذكر الله. اجعلوها طافحة بذكر الله، وعندئذٍ، سيُديم الله -تعالى- عنايته وفضله ورحمته على هذا الشعب. واعلموا -أقولها اليوم- حسب ما أرى من هذا الشعب، وحسب اطّلاعي على تاريخ الماضين في بلدنا، وفي سائر البلدان، فإنّني واثق، وعلى يقين، من أنّ هذا الشعب سيبلغ جميع أهدافه العليا، بتوفيقٍ من الله، وحول منه، وقوّة.

 

اعرفوا قدر هذا الفضاء المعنويّ في المجتمع، وحذارِ أن تغفلنا حالات الهياج السياسيّ عن الله! حذارِ أن تغفلنا السجالات المتنوّعة[1] في البلد - وهي ظاهرة طبيعيّة لدى الشعب الحرّ - فلا نعلم إلى أين نريد السير، ولا ندري كيف نريد أن نسير! قامت هذه الثورة، منذ بدايتها، على أساس الإيمان النقيّ الصادق، وستكون مواصلة هذا الطريق على هذا الأساس نفسه.


 


[1] الجدل والمنازعة في الحديث والانتقادات.

 

265


224

خطاب الولي 2009

الروحيّة المعنويّة هي السرّ

على الرغم من وجود كلّ عوامل الانحراف، فإنّ شعبنا، والحمد لله، مؤمن، محبٌّ لله، عارف بدينه، راغبٌ في المعنويّة. الشباب اليوم، في العالم الذي تحكمه النـزعة المادّيّة، غارقون في الحيرة والاضطراب. وقد جعلهم بُعدهم عن المعنويّة، مشتَّتين متزلزلين، لا يعلمون ماذا يجب أن يفعلوا. ووقع مفكّروهم في الحيرة والعجز، وقد أدرك بعضهم أنّ سبيل صلاح أمورهم، هو العودة إلى المعنويّة. ولكن كيف يريدون استعادة المعنويّة المفقودة، التي سُحِقَت في البلدان الغربيّة، طوال قرنَين، بشتّى الوسائل؟ إنّها ليست بالعمليّة السهلة. لكنّ شعبنا هكذا، فقد سار في درب المعنويّة العظيم، واستطاع بهذه المعنويّة، أن ينتصر في ثورة بهذه العظمة. وتمكّن بفضل المعنويّة، تأسيس نظام إسلاميّ يرتكز إلى المعنويّة، في هذا العالم المادّيّ، ويعزّز أركانه، ويصونه إزاء الهجمات والعواصف المختلفة. استطاع شعبنا أن يخوض حربًا مفروضة، مدّة ثمانية أعوام، ويخرج منها شامخًا منتصرًا، اعتمادًا على هذه المعنويّة. ومعظم شبابنا اليوم أيضًا، مؤمنون معنويّون. حتّى الذين لا تلوح آثار المعنويّة على سيماهم ظاهريًّا، يلاحظ المرء أنّ قلوبهم تتّجه نحو الله، في المواقع الحسّاسة. قلتُ مرارًا: إنّ ليالي القدر، وأيّام الاعتكاف، ومراسم صلاة عيد الفطر، يحضرها أفراد وأشخاص لم يكن المرء يتصوّر حضورهم، يتوجّهون بقلوبهم نحو الله.

 

ربّنا، نقسم عليك بالقرآن، نقسم عليك بالقرآن وبأئمّة الهدى عليهم السلام والنبيّ المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم، املأ قلوبنا بالمعنويّة، أكثر فأكثر. ربّنا، لا تقصّر أيدينا عن القرآن وأهل البيت. اللهمّ، أنزِل التقوى والإيمان والسكينة على قلوب هذا الشعب الكبير. اللهمّ، انصر هذا الشعب المقتدر المظلوم، أمام أعدائه. ربّنا، أبقِ قلوبنا متوجّهةً إليكَ. ربّنا، اجعل ما نقوله وما نفعله، لك، وفي سبيلك، واقبله منّا. ربّنا، بلِّغ سلامنا لوليّكَ وحجّتك وعبدك الصالح، سيّدنا بقيّة الله (أرواحنا فداه)، واستجِب دعاءه في حقّنا.

 

﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ وَٱلۡعَصۡرِ ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ﴾[1].


 


[1] سورة العصر، الآيات1-3.

 

266


225

خطاب الولي 2009

الخطبة الثانية

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديّين المعصومين، ولا سيّما عليّ أمير المؤمنين، وحبيبته فاطمة الزهراء، والحسن والحسين سيّدَي شباب أهل الجنّة، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، وعليّ بن محمّد، والحسن بن عليّ، والخلف القائم المهديّ، صلواتك عليهم أجمعين، وصلّ على أئمّة المسلمين، وحماة المستضعفين، وهداة المؤمنين.

 

أوصيكم، عباد الله، بتقوى الله.

 

في هذه الخطبة أيضًا، أدعو جميع الإخوة والأخوات الأعزّاء، المشارِكين في الصلاة، للتقوى والورع.

 

القضيّة التي سأطرحها في هذه الخطبة، هي قضيّة الانتخابات، وهي حاليًّا، قضيّة الساعة في بلادنا. أذكر ثلاث نقاط لثلاث فئات: نقطة منها، أخاطب بها عموم شعبنا العزيز، أينما كانوا من البلاد. ونقطة أخرى أخاطب بها النخب السياسيّة، ومرشّحي رئاسة الجمهوريّة، والناشطين والعاملين في قضايا الانتخابات. والنقطة الثالثة أخاطب بها ساسة الاستكبار، وبعض الحكومات الغربيّة، ومسؤولي وسائل الإعلام التي يديرونها.

 

الاستعراض الضخم

بخصوص النقطة الأولى التي أخاطبكم بها، أيّها الشعب العزيز، فهي عالَمٌ لامتناهٍ من التكريم والتعظيم والشكر. إنّني لا أحبّ، في خطاباتي، أن أبالغ، حين أتحدّث حول من يستمعون إليّ، أو أتملّق لهم، لكن في قضيّة الانتخابات هذه، أقول لكم، أيّها الشعب العزيز: إنّني مهما بالغتُ، فلن يكون ذلك كثيرًا. ولا ضير في ذلك، حتّى لو كان فيه شيء من التملّق، لقد قمتم بعمل كبير. كانت انتخابات الثاني والعشرين من خرداد استعراضًا عظيمًا لشعور شعبنا بالمسؤوليّة تجاه مصير البلاد. كانت استعراضًا هائلًا لروح المشاركة في إدارة البلاد. كان استعراضًا ضخمًا لحبِّ الجماهير لنظامهم.

 

 

267

 


226

خطاب الولي 2009

في الحقيقة، إنّني لا أعرف مثيلًا لهذه الحركة التي شهدَتها البلاد اليوم، في العالم، وفي هذه الديمقراطيّات المختلفة، سواء الديمقراطيّات الظاهريّة والكاذبة، أو الديمقراطيّات التي ترجع، حقيقةً، إلى أصوات الجماهير. وفي الجمهوريّة الإسلاميّة، لم يكن ثمّة نظير لهذه الانتخابات التي قمتم بها في الجمعة الماضية، باستثناء الاستفتاء الذي حصل في فروردين من سنة 1358ه.ش (1980م)، وكانت المشاركة بحدود 85 في المئة، وبما يقرب الأربعين مليون نسمة. يرى الإنسان اليدَ المباركة للإمام المهديّ، خلف أحداثٍ بهذه العظمة، هذه علامة عناية الله. أرى من الضروريّ، أن أبدي احترامي وتواضعي الحقيقيّ، من أعماق قلبي، لكم، أيّها الشعب العزيز، في كلّ أنحاء البلاد.

 

جيلٌ متحمّس واعٍ

لقد أثبَتَ جيلُنا الشابّ أنّه يتحلّى بالحماسة السياسيّة نفسها، والوعي السياسيّ نفسه، والالتزام السياسيّ نفسه، الذي شهدناه لدى الجيل الأوّل للثورة، مع فارق أنّه في عهد الثورة، كان أتون الثورة الملتهب يهيّج القلوب، ثمّ كان ذلك الهياج بشكل آخر، خلال فترة الحرب. لكن هذه الأشياء غير موجودة اليوم، ومع ذلك، لا يزال ذلك الالتزام والشعور بالمسؤوليّة والحماسة والوعي، موجودًا في جيلنا الصاعد. هذا ليس بالشيء القليل. طبعًا، ثمّة اختلاف في الأذواق والآراء بين الناس، بعضٌ يوافقون شخصًا وكلامًا، وبعضٌ آخر يؤيّدون شخصًا آخر وكلامًا آخر. هذه أمور موجودة وطبيعيّة، بَيْدَ أنّ المرء ليشعر بالتزامٍ جماعيٍّ بين الأفراد كافّة، على اختلاف آرائهم، التزام جماعيّ لصيانة بلادهم ونظامهم. الجميع شاركوا في المدن، والقرى، والمدن الكبيرة، والمدن الصغيرة، والقوميّات المختلفة، والمذاهب المختلفة، والرجال، والنساء، والشيوخ، والشباب، والجميع خاضوا هذه الساحة، وشاركوا كلّهم في هذه الحركة العملاقة.

 

تجديد العهد

لقد كانت هذه الانتخابات، يا أعزّائي، زلزالًا سياسيًّا لأعدائكم. وكانت احتفالًا حقيقيًّا لأصدقائكم، في كلّ أرجاء العالم. كانت احتفالًا تاريخيًّا. أن يحضر الناس هكذا، وفي السنة الثلاثين من عمر الثورة، وأن يُظهروا هذا الوفاء كلّه للنظام والثورة والإمام

 

268

 


227

خطاب الولي 2009

الجليل، فهذه نهضة شعبيّة عامّة لتجديد العهد مع الإمام والشهداء، وهي بمثابة الأنفاس الجديدة لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة، وحركة جديدة، وفرصة كبيرة. لقد عرضَت هذه الانتخابات السيادة الشعبيّة الدينيّة، أمام كلّ الملأ في العالم. كلّ الذين يكنّون السوء لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة، شاهدوا ما معنى السيادة الشعبيّة الدينيّة. إنّها طريقٌ ثالثٌ مقابل الدكتاتوريّات والأنظمة المستبدّة من جهة، والديمقراطيّات البعيدة من المعنويّة والدين، من جهةٍ ثانية. هذه هي الديمقراطيّة الدينيّة. وهذا هو ما يجتذب إليه أفئدة الناس، ويدفعهم إلى المشاركة في الميدان. هذا شيءٌ تمّ اختباره بنجاح. هذه نقطة حول الانتخابات.

 

المشاركةُ في الانتخابات ثقةٌ بالنظام

النقطة الثانية هي أنّ انتخابات الثاني والعشرين من خرداد، أثبتَت أنّ الناس يعيشون في هذا البلد، بثقةٍ وأمل وبهجةٍ وطنيّة. هذا ردٌّ على كثيرٍ من الكلام الذي يُطلقه أعداؤكم في إعلامهم المغرِض. لو لم يكن الناس متفائلين بالمستقبل في بلادهم، لَما شاركوا في الانتخابات. لو لم تكن لهم ثقة بنظامهم، لَما شاركوا في الانتخابات. لو لم يكن لديهم شعور بالحرّيّة، لَما رحّبوا بالانتخابات. لقد تجلَّت الثقة بنظام الجمهوريّة الإسلاميّة، في هذه الانتخابات. وسوف أذكر لاحقًا، أنّ الأعداء يستهدفون هذه الثقة الجماهيريّة. يريد أعداء الشعب الإيرانيّ نَسفَ هذه الثقة. هذه الثقة أعظم رأسمال للجمهوريّة الإسلاميّة، وهم يريدون سلبها منها. يرومون بثّ الشكوك والريب حول هذه الانتخابات، وحول الثقة التي أبداها الناس، حتّى يُضعضِعوا هذه الثقة.

 

يعلم أعداء الشعب الإيرانيّ أنّه لو انعدمَت الثقة، فسوف تضعف المشاركة، وحينما تضعف المشاركة في الساحة، تتعرّض شرعيّة النظام للتزلزل. هذا ما يريدونه، هذا هو هدف العدوّ. يبغون سلب الثقة، ليسلبوا المشاركة، وليسلبوا، بالتالي، الصفة الشرعيّة عن الجمهوريّة الإسلاميّة. هذه الخسارة أفدح بكثير من إحراق بنك أو حافلة. إنّها خسارة لا يمكن مقارنتها بأيّة خسارة أخرى. أن يأتي الشعب ويشارك، بكلّ هذا الاندفاع والحماسة، في مثل هذه الحركة العظيمة، ثمّ يُقال للشعب: لقد أخطأتَ

 

 

269


228

خطاب الولي 2009

عندما وثقتَ بالنظام، والنظام لا يمكن الثقة به، فهذا ما يريده العدوّ.

 

لقد بدؤوا هذا الاتّجاه قبل الانتخابات، قبل شهرَين أو ثلاثة. لقد قلتُ في الأوّل من فروردين[1]، في مشهد: إنّهم يكرّرون دومًا، مقولة: إنّه سيحصل تزوير في الانتخابات. أرادوا تمهيد الأرضيّة. وقد نبّهتُ حينها، أصدقاءنا الطيّبين في داخل البلاد، وقلت لهم: لا تكرّروا هذا الكلام الذي يريد العدوّ ترسيخه في أذهان الناس. إنّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة موضعُ ثقة الشعب، ولم تكن هذه الثقة لتحصل بسهولة. منذ ثلاثين سنة، استطاع نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، بمسؤوليه وأدائه ومساعيه الحثيثة، ترسيخ هذه الثقة في قلوب الناس. يريد العدوّ سلب هذه الثقة، وزلزلة الناس.

 

تنافسٌ جادٌّ وشفّاف

النقطة الثالثة: قضيّة التنافس. كانت المنافسة بين المرشّحين حرّة تمامًا، وجادّة وشفّافة، وقد شاهد الجميع ذلك. لقد كانت هذه المباريات والحوارات والمناظرات، شفّافةً وصريحةً، إلى درجة أثارَت اعتراض بعضهم، وقد كان معهم الحقّ إلى حدٍّ ما، حدثَت توتّرات ومماحكات لا نزال نشاهد آثارها إلى الآن. أقول لكم: إنّنا افترضنا، ولا نزال نفترض، أنّ هذا التنافس القائم بين المرشّحين الأربعة للانتخابات، إنّما هو تنافس بين شخصيّات وتيّارات تنتمي إلى النظام الإسلاميّ. ولا صحّة لِما يحاول الأعداءُ في وسائلهم الإعلاميّة المختلفة -وغالبًا ما تكون هذه الوسائل الإعلاميّة ملكًا للصهاينة الخبثاء الأراذل - الإيحاء به، من أنّ المعركة بين أتباع النظام ومعارضيه. إنّهم يرتكبون حماقة، إذ يقولون هذا. لا صحّة لهذا.

 

فالأشخاص الأربعة الذين خاضوا ساحة هذه الانتخابات الجادّة، كلّهم من عناصر النظام، وكانوا، وما زالوا ينتمون إلى النظام. أحدُهم رئيس الجمهوريّة في بلادنا، رئيس الجمهوريّة الخدوم، الدؤوب، الجَهود، الموثوق به. وأحدهم رئيس الوزراء لثمانية أعوام، أثناء فترة رئاستي للجمهوريّة. وأحدهم قائد الحرس، طوال سنوات متمادية، وأحد أبرز القادة في فترة الدفاع المقدّس. وأحدهم كان رئيسًا للسلطة التشريعيّة، في


 


[1] فروردين هو أوّل أشهر السنة الهجريّة الشمسيّة.

 

 

270


229

خطاب الولي 2009

دورتَين، كان رئيسًا لمجلس الشورى الإسلاميّ. هؤلاء عناصر النظام، وينتمون جميعًا للنظام. طبعًا، يوجد بينهم اختلاف في بعض الآراء والبرامج والتوجّهات السياسيّة، لكنّهم جميعًا ينتمون للنظام. أربعة من شخصيّات النظام. إنّه تنافس داخل النظام، وليس تنافسًا بين داخل النظام وخارجه، كما تريد قوله وإثارته إذاعات الصهاينة وأمريكا والخبيثة بريطانيا والآخرون. كلّا، لقد كان تنافسًا داخل النظام، وبين شخصيّات مرتبطة بالنظام، ومنتمية إلى النظام، ولديهم، جميعًا، هذه السوابق. وأنا أعرفهم عن قرب، وأعرف أفكارهم، وأذواقهم، وخصوصيّاتهم السلوكيّة، وقد عملتُ معهم جميعًا عن قرب.

 

طبعًا، لستُ أوافق جميع وجهات نظرهم. بعض آرائهم وأعمالهم جديرة بالنقد، من وجهة نظري، بلا شكّ. وأرى بعضُهم أنسب من بعض آخر، لخدمة البلاد، لكنّ الانتخاب على عاتق الشعب، ولا تزال. الشعب هو الذي انتخب. لم يُذكَر مرادي وتشخيصي للشعب، ولم يكن لازمًا أن يراعيهما. فالشعب نفسه شخّص الأمر، حسب معاييره، وتحرَّك وعمل، فكانت الملايين إلى هذه الجهة، وملايين أُخرى إلى تلك الجهة. إذًا، فالقضيّة قضيّة داخل إطار النظام. أن يحاولوا تغيير شكل القضيّة، فهذا أمرٌ مغرضٌ وخبيث، مئة في المئة. ليست المعركة بين النظام وخارج النظام، ولا هي بين الثورة وأعداء الثورة. الاختلاف هو بين شخصيّاتٍ داخل إطار النظام.

 

وإنّ الجماهير التي مَنحَت أصواتها لهؤلاء الأشخاص الأربعة، قد صوّتت أيضًا، انطلاقًا من إيمانها بالنظام، وكان تشخيصها أنّ هذا (المرشّح) هو أفضل للنظام، وأنّ التزامه بالنظام أكثر، فمنحته أصواتها. مَنحَت الجماهير أصواتها للشخص الذي وجدَتهُ أصلح لخدمة النظام، كما أنّ الجماهير عملت أيضًا، داخل إطار النظام.

 

أمّا هذا التنافس والمناظرات، التي كانت ابتكارًا مهمًّا ولافتًا، فقد كانت صريحةً جدًّا، وشفّافة جدًّا، وجدّيّة للغاية. ولقد صفعَت هذه المناظراتُ الذين كانوا يروّجون من الخارج، ويقولون: إنّ هذا التنافس استعراضيّ ظاهريّ، وليس واقعيًّا، فقد وجدوا أنّه واقعيٌّ. وقف المرشّحون بجدٍّ، بعضهم أمام بعض، وتناقشوا، وقدَّموا أدلّتهم. لذلك، كانت المناظرات والحوارات إيجابيّة جدًّا، من هذه الناحية. طبعًا، كان لها آثار إيجابيّة،

 

 

271

 


230

خطاب الولي 2009

ولها عيوبها أيضًا. وسوف أتطرّقُ إلى الجانبَين.

 

الجانب الإيجابيّ (فيها)، هو أنّ الجميع تحدّثَ بكلّ حريّة ووضوح، وتحدّثوا بما في قلوبهم. وقد أحدث ذلك سيلًا من الانتقادات، واضطّر الجميع إلى تقديم الإجابات، وتحمُّل المسؤوليّة. تمّ توجيه النقد إليهم، وقدَّموا هم الإجابات، ودافعوا عن أنفسهم. تجلَّت مواقف الأفراد والفئات أمام أنظار الناس، دون غموض، ودون تعقيد، وبوضوحٍ تامّ. فقد تجلَّت أمام أنظار الشعب، ماهيّة سياساتهم وبرامجهم والتزاماتهم، وماهيّة حدودها، واستطاع الشعب إصدار حكمه. شعر الشعبُ أنّه ليس غريبًا في النظام الإسلاميّ، وليس في نظام البلاد جناحٌ داخليّ، وآخر خارجيّ. كلّ شيء واضح أمام الجماهير، وكلّ الآراء مطروحة أمام الناس، وقد تبيّن أنّ أصوات الشعب جاءت نتيجة هذه الدقّة. لم تكن أصوات الشعب للزينة. حقّ الانتخاب من حقوق الشعب حقًّا، فالشعب يروم الانتخاب بوعيٍ ويقظة، هذا ما أثبتَتهُ المناظرات. ولا شكّ أنّ من أسباب ارتفاع مستوى التصويت، بعشرة ملايين صوت، مقارنةً بآخر نصابٍ في الدورات السابقة، هو إشراك عقول الناس وأفكارهم، ومجيئها إلى الساحة، حيث استطاعوا التشخيص وخوض الميدان. وقد انسحبَت هذه المناظرات إلى الشوارع، ودخلَت إلى البيوت، وهذا ما يرفع قدرة الجماهير على الانتخاب. مثل هذه النقاشات والحوارات، تنمّي الأذهان، وترفع القدرة على الانتخاب. هذا شيءٌ إيجابيّ، من وجهة نظر الجمهوريّة الإسلاميّة.

 

الحوارات والمناظرات: انفتاح في التعبير

طبعًا، يجب أن أقول هنا: إنّ هذه الحوارات ينبغي أن لا تصل إلى حدودٍ تتحوَّل معها إلى أحقادٍ وضغائن. إذا حصل هذا، فستكون النتائج عكسيّة. إذا بقيَت عند الحدّ الذي كانت عليه يوم ذاك، فهذا شيء جيّد. أمّا إذا أُرِيدَ لها أن تتمدّد، وتستمرّ، وتتحوّل إلى جدل، فسوف تصبح، تدريجيًّا، أحقادًا. طبعًا، من المناسب جدًّا أن تستمرّ مثل هذه المناظرات، على مستوى المسؤولين -مع حذف تلك العيوب التي سأشير لها لاحقًا- فيعرِّض الأفراد والمسؤولون أنفسَهم للنقد، ويتحمّلون المسؤوليّة، ويوضّحون الأمور، ويقدّمون الإجابات. في كثيرٍ من الأحيان، حين يتعرّض شخصٌ معيّن للنقد، فسيكون

 

 

272

 


231

خطاب الولي 2009

ذلك فرصة له، يستطيع عبرها، تنوير الأذهان، وتبيين الحقيقة. إنّه لشيءٌ إيجابيّ جدًّا، طبعًا، مع إقصاء تلك العيوب التي سأذكرها. إذا استمرَّت مثل هذه المناظرات طوال السنة، وطوال السنوات الأربع، فلن تظهر حالة صداميّة في أيّام الانتخابات. سوف تُطرَح الآراء جميعها على امتداد الزمن، وتُسمَع الانتقادات والإجابات. هذه إيجابيّات المناظرات، لكنّها انطوَت أيضًا على عيوبٍ ينبغي تلافيها.

 

يلاحظ المرء أحيانًا، أنّ الجانب المنطقيّ في هذه المناظرات، كان يَؤول إلى الضعف، وتكتسب طابعًا عاطفيًّا وعصبيًّا، ويغلب عليها التشويه والتسقيط وتشويه الواقع القائم حاليًّا، بشكلٍ متطرّف. ولُوحِظ فيها أيضًا، تشويه الدورات السابقة. كلّا، الفعلَين كان سيّئًا. طُرِحَت اتّهامات لم تثبت في مكان ما، وتمّ الاعتماد على شائعات وأحكام غير منصفة أحيانًا. حصل عدم إنصاف تجاه هذه الحكومة، بكلّ هذا الحجّم من الخدمات، وعدم إنصاف تجاه الحكومات السابقة، وفترة الثلاثين سنة. انتابَت السادة أحوالٌ عاطفيّة، وقِيلَت في ثنايا الكلام الجيّد، كلماتٌ لم تكن جيّدة.

 

الطرفان اشتركا في الإهانات، للأسف!

جلستُ أمام التلفاز، كباقي أفراد الشعب، وشاهدتُ هذه المناظرات، واستمتعتُ (وسررتُ) بحريّة التعبير عن الرأي. وقد سُرِرتُ وفرحتُ كثيرًا، لأنّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة استطاع قيادة الشعب، والسير به، ومساعدته ليرفع قدرته على الانتخاب. بَيْدَ أنّ الجانب المعيب من القضيّة، بَعَثَ على ألمي، وعدم ارتياحي. وقد أدَّت تلك العيوب والتهجّمات والتصريحات، إلى إثارة أنصار المرشّحين وقلقهم، وكان الأمر من قِبَل الجانبَين طبعًا. يجب عليَّ هنا، ومن على منبر صلاة الجمعة، وفي الخطبة التي هي بحكم الصلاة، أن أبيّن بعض الحقائق. نعم، كِلا الطرفَين اشترك -مع الأسف- في هذا العيب. فمن جانب، وُجِّهَت أصرح الإهانات إلى رئيس جمهوريّة البلاد القانونيّ، وحتّى ما قبل المناظرات بشهرَين أو ثلاثة أشهر، كانوا يأتونني بهذه الخطابات والكلمات، وكنتُ أرى أو أسمع، أحيانًا، أنّهم يوجّهون التهم والكلام إلى رئيس جمهوريّة البلاد القانونيّ، المستنِد إلى أصوات الشعب. نَسَبوا إليه أمورًا غير صحيحة، واتّهموا رئيس

 

 

273

 


232

خطاب الولي 2009

جمهوريّة البلاد، الذي هو محلّ ثقة الشعب، بالكذب! هل هذا حَسن؟ اصطنعوا قضايا كاذبة، وألصقوها بالحكومة، ونشروها هنا وهناك. ونحن ممّن يعرف بمجريات الأمور، نرى ونعلم أنّ هذا خلاف الواقع. أطلقوا الشتائم، ووصفوا رئيس الجمهوريّة بأنّه خرافيّ ومنجِّم، وما إلى ذلك من الأوصاف المخجِلة، وداسوا على الأخلاق والقانون والإنصاف.

 

هذا فيما يرتبط بذلك الطرف. أمّا من هذا الطرف، فقد حصل الأمر ذاته أيضًا. حصل ما يشبه هذه الأمور، بطريقةٍ أخرى، فقد تمّ الاستهانة بسجلّ الثورة المتألِّق طوال ثلاثين سنة، وذُكِرَت أسماءُ بعضهم، وهم شخصيّات هذا النظام، هؤلاء أشخاص بذلوا أعمارهم في سبيل هذا النظام. إنّني لم أعتَد، في صلاة الجمعة، وليس من المعروف لديَّ أبدًا أن أذكر أسماء الأشخاص، ولكن حيث إنّه قد ذُكِرَت هنا بعضُ الأسماء، فأنا مضطرٌّ لذكر الأسماء. يجب أن أذكر، على الخصوص، أسماء السيّد هاشمي رفسنجانيّ، والسيّد ناطق نوريّ. طبعًا، لم يتّهم أحدٌ هذَين السيّدَين بالفساد الماليّ، أمّا بخصوص الأقارب، فعلى كلِّ مَن لديه ادّعاءٌ، إثباته بالطرق القانونيّة، ولا يمكن ذكره في وسائل الإعلام، قبل إثباته. وإذا لم يتمّ إثبات شيء، فلا فرق بين أفراد المجتمع، ولكن لا يمكن طرح هذه الأمور والقطع بها قبل الإثبات. حينما يُطرَحُ مثلُ هذا الكلام، تُعرَض على الناس والمجتمع تصوّرات وأفكار غير صائبة، ويظنّ الشباب ظنونًا أخرى، ويفهمون أشياء أخرى.

 

السيّد هاشمي أبرز شخصيّات النهضة

الكلّ يعرف السيّد هاشمي. ومعرفتي به لا تعود إلى ما بعد الثورة، ومسؤوليّات ما بعد الثورة. إنّني أعرفه عن قرب، منذ سنة 1336 (1957م)، أي منذ 52 عامًا. كان السيّد هاشمي من أبرز شخصيّات النهضة، أثناء فترة الكفاح والنضال. كان من المناضلين الجادّين والدؤوبين قبل الثورة، وكان بعد انتصار الثورة، من أكثر شخصيّات الجمهوريّة الإسلاميّة تأثيرًا، إلى جانب الإمام. وبعد رحيل الإمام، كان إلى جانب القيادة، إلى هذا اليوم. اقترب هذا الرجل، عدّة مرّات، من حافّة الاستشهاد. قبل الثورة، كان

 

274

 


233

خطاب الولي 2009

ينفق أمواله للثورة، ويعطيها للمجاهدين. من المناسب أن يعرف الشباب هذه الأمور. وبعد الثورة، تولّى مسؤوليّات عديدة: كان رئيسًا للجمهوريّة ثمانية أعوام، وكان رئيس المجلس قبل ذلك، وتولّى مسؤوليّات أخرى بعد ذلك. لم نجد، ولا يُذكَر، طوال هذه المدّة، أنّه اختصّ أو اكتسَب شيئًا من الثورة. هذه حقائق ينبغي معرفتها. كان في خدمة الثورة والنظام في أكثر الفترات حساسيّة.

 

بالطبع، يوجد اختلاف في وجهات النظر مع السيّد هاشمي، حول أمور عديدة، وهذا طبيعيّ، بَيْدَ أنّ الناس يجب أن لا يقعوا في الأوهام، ويتصوّروا أشياء أخرى. طبعًا، كان بينه وبين السيّد رئيس الجمهوريّة، اختلافٌ في الآراء، منذ انتخابات سنة 84 (2005م)، وإلى الآن، وهذا الاختلاف موجودٌ الآن أيضًا، سواء في القضايا الخارجيّة، أو على صعيد تطبيق العدالة الاجتماعيّة، أو بخصوص بعض الشؤون الثقافيّة. وإنّ رأي السيّد رئيس الجمهوريّة أقربُ إلى رأيي.

 

وكذا الحال بالنسبة إلى السيّد ناطق نوري. هو أيضًا من شخصيّات الثورة الخدومة، وقد قدّم خدمات عديدة، ولا شكّ إطلاقًا، في حبّه لهذا النظام والثورة.

 

المناظرات التلفزيونيّة المباشرة جيّدة، ولكن ينبغي تلافي هذه الآفات. وقد ذكّرتُ حينها -بعد المناظرة- السيّدَ رئيسَ الجمهوريّة، لأنّي كنتُ أعلمُ أنّه سيستجيب.

 

مكافحة الفساد واجب، ولكن...

أمّا بالنسبة إلى مكافحة الفساد الماليّ، فإنّ موقف النظام موقف واضح. وحول القضايا ذات الصلة بالعدالة الاجتماعيّة، فإنّ موقف النظام واضح. ينبغي مكافحة الفساد أينما كان. أريد أن أقول: لا ندَّعي عدم وجود فساد ماليّ واقتصاديّ في نظامنا. بلى، لو لم يكن موجودًا، لَما كتبتُ قبل سنوات، تلك الرسالةَ ذات الموادّ الثماني، أخاطب بها رؤساء السلطات الثلاث المحترَمين، ولَما شدّدتُ عليها هذا التشديد كلّه. بلى، يوجد. لكنّني أروم القول: إنّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة اليوم، من أنظف النظم السياسيّة والاجتماعيّة في العالم. أن نتّهم النظام والبلد بالفساد، بناءً على تقريرِ المصدرِ الصهيونيّ الفلانيّ، فهذا ليس بصحيحٍ البتّة. كما ليس من الصحيح، التشكيك اعتباطًا

 

 

275


234

خطاب الولي 2009

بالأشخاص والمسؤولين، بخصوص الفساد. الفساد الماليّ من القضايا المهمّة في النظام الإسلاميّ، وينبغي مكافحته بجدّ، سواء في السلطة التنفيذيّة، أو السلطة القضائيّة، أو السلطة التشريعيّة. من واجب الجميع، مكافحة هذا الشيء. إذا لم يُكافَح، ولم يجرِ احتواؤه، فسوف ينمو ويتطوّر. وإنّ كثيرًا من بلدان العالم -هذه البلدان الغربيّة التي تتشدّق بمكافحة الفساد الماليّ وغسل الأموال وما إلى ذلك- غارقة في الفساد إلى رقبتها. سمعتم هذه الأيّام، قضيّة الحكومة البريطانيّة والبرلمان البريطانيّ، وعلم بها العالم كلّه. هذا جانب من الأمور، والحقيقة أكبر من هذا بكثير.

 

لألخّص هذا الجزء الذي خاطبتُ به الجماهير.

 

أربعون مليون صوت للثورة

يا أعزّائي، أيّها الشعب الإيرانيّ، كان الثاني والعشرون من خرداد ملحمة[1]، وقد غدَت هذه الملحمة تاريخيّة عالميّة، مع أنّ بعض أعدائنا في أنحاء العالم، أرادوا التشكيك في هذا الانتصار المطلق الحتميّ للنظام، بل أراد بعضهم تبديله إلى هزيمة وطنيّة. أرادوا أن يُذيقوكم المرارة، ولا يسمحوا أن يتسجّل النسبة الأعلى للمشاركة العالميّة باسمكم. أرادوا فعل هذا، لكنّها تسجّلَت باسمكم، ولا يمكن التلاعب بها.

 

لقد انتهى التنافس. كلّ الذين صوّتوا لهؤلاء الأشخاص الأربعة، مأجورون، لهم أجرهم عند الله، إن شاء الله. كلّهم ينتمون إلى داخل جبهة الثورة والنظام. وإذا كانوا قد صوّتوا بقصد القربة، فقد قاموا بعملٍ عباديّ. إنّ لخطّ الثورة أربعين مليون صوت، وليس أربعة وعشرون مليونًا ونصف مليون صوت، أعطوا رئيس الجمهوريّة المنتخب، أربعون مليونًا منحوا أصواتهم لخطّ الثورة.

 

ثِقوا بالجمهوريّة الإسلاميّة

الشعب واثقٌ من نفسه، ولكن، ليكن بعضُ أنصار المرشّحين أيضًا، على ثقة، أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة لم تكن لتخون أصوات الشعب. لا تسمح الآليّات القانونيّة


 


[1] 22 خرداد: يوم إجراء الانتخابات الرئاسيّة عام 2009م، والتي أعقَبَتها أمواجُ فتنةٍ غذّاها الإعلام والمخابرات الغربيّة، وقد باءت بالفشل. وكانت كلمة الإمام الخامنئيّ هذه -التي بين أيدينا- إحدى الضربات القويّة التي وُجِّهت لهم.

 

 

276


235

خطاب الولي 2009

للانتخابات في بلادنا، بالتلاعب. هذا ما يؤيّده كلّ من يعمل في شؤون الانتخابات، ويعرف قضاياها، خصوصًا على مستوى فارقٍ مقداره أحد عشر مليون صوت! تارةً يكون الفارق بين مرشّحَين، مئة ألف أو خمس مئة ألف أو مليون، قد يمكن للإنسان أن يقول: إنّه حصل تلاعب أو تغيير بشكلٍ من الأشكال. ولكن كيف يمكن التلاعب بأحد عشر مليون صوت؟! ومع ذلك، أنا قلت، ومجلس صيانة الدستور يؤيّد أيضًا: إنّه إذا كان لدى بعضهم شكوك، وقدّموا وثائق، فينبغي متابعة المسألة، بالتأكيد، طبعًا، بالطرق القانونيّة، وأن تكون المتابعة بالطرق القانونيّة فقط. إنّني لن أخضع للبدَع غير القانونيّة. إذا انهارَت الأطر القانونيّة، فلن تتمتّع أيّ انتخابات بالمصداقيّة في المستقبل. ففي كلّ انتخابات، هناك من يفوز، وهناك من يخسر. لن تكون أيّ انتخابات أخرى موثوقة ومصونة أبدًا. إذًا، ينبغي متابعة كلّ شيء، وإتمام الأمور والأعمال الصحيحة، طبقًا للقانون. إذا كانت هناك شبهة ما حقًّا، فيجب متابعتها بالطرق القانونيّة. القانون في هذا المجال، صحيح (كامل)، ولا إشكال فيه أبدًا. فكما أُعطِيَ المرشَّحون حقّ الإشراف، فقد أُعطوا أيضًا حقّ تقديم الشكاوى، وحقّ دراسة الموضوع. لقد طلبتُ من مجلس صيانة الدستور المحترم، أنّهم إذا أرادوا إعادة فرز بعض الصناديق، فليفعلوا ذلك بحضور ممثّلي المرشّحين أنفسهم، ليكونوا هم أنفسهم هناك، ويفرزوا، ويسجّلوا، ويوقّعوا. إذًا، لا توجد من هذه الناحية، أيّة مشكلة. هذا فيما يتعلق بالانتخابات، وخطابٌ لكم، أيّها الشعب العزيز.

 

واجبات السياسيّين أثقل

أما خطابي الثاني، فهو للسياسيّين، والمرشّحين، وقادة الأحزاب والتيّارات السياسيّة. أريد أن أقول لهؤلاء السادة: إنّ هذه اللحظةَ لحظةٌ تاريخيّة حسّاسة للبلاد. انظروا إلى الوضع في العالم، وانظروا إلى الوضع في الشرق الأوسط. انظروا إلى الوضع الاقتصاديّ في العالم. لاحِظوا واقع البلدان الجارة، كالعراق، وأفغانستان، وباكستان. نحن في ظرفٍ تاريخيّ حسّاس. من واجبنا جميعًا، أن نتحلّى باليقظة، في هذا المقطع التاريخيّ، ونكون حذِرين، ولا نخطئ.

 

 

277


236

خطاب الولي 2009

في قضيّة الانتخابات هذه، لقد أدّى الشعب واجبه، للحقّ والإنصاف. كان واجب الناس أن يحضروا عند صناديق الاقتراع، وقد أُنجِزَ هذا الواجب على أفضل وجه. لكن، علينا وعليكم، واجبات أثقل. يجب على الذين لهم نوع من المرجعيّة لدى الرأي العامّ، من رجال السياسة ورؤساء الأحزاب وقادة التيّارات السياسيّة، وهناك من يستمع لكلامهم، أن يدقّقوا في تصرّفاتهم وأقوالهم، إلى أقصى درجة. فإذا ما نزعوا، شيئًا ما، نحو التطرّف (الإفراطيّة)، فإنّ امتدادات هذا التطرّف ستسري في كيان الشعب، إلى مواطن جِدُّ حسّاسة وخطيرة، بحيث لا يستطيعون، حتّى هم أنفسهم، تداركها وتطويقها، وقد شاهدنا نماذج لذلك. حينما يظهر التطرُّف في مجتمعٍ ما، فإنّ أيّ حركة إفراطيّة، وأيّ خطوة متطرّفة، ستثير تطرُّف الجانب الآخر. إذا أراد النخبة السياسيّون ضرب القانون عرض الجدار، أو فقأ العيون من أجل تزيين الحاجب، فسيكونون -شاؤوا أم أبوا- مسؤولين عن الدماء والعنف والفوضى. إنّني أوصي جميع هؤلاء السادة، والأصدقاء القدامى، والإخوة، وأقول: سيطِروا على أنفسكم، وتحلّوا بسعة الصدر، ولاحِظوا أيدي الأعداء، فالذئاب الجائعة في كمائنها، وهي تخلع اليوم أقنعة الدبلوماسيّة عن وجوهها، شيئًا فشيئًا، وتعرض وجهها الحقيقيّ، فانظروا إليهم، ولا تغفلوا عنهم.

 

أَطلبُ من الجميع، إنهاء هذا الأسلوب!

لقد خلع، اليوم، دبلوماسيّون بارزون من بعض البلدان الغربيّة، الأقنعة عن وجوههم، بعدما كانوا يتحدّثون معنا بالمجاملات الدبلوماسيّة، وراحوا يعرضون وجوههم الحقيقيّة. ﴿قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ﴾[1]. بدؤوا يعلنون عداءهم للنظام الإسلاميّ، وأخبثُهم الحكومة البريطانيّة. أقول لهؤلاء الإخوة[2]: فكِّروا بمسؤوليّتكم أمام الله -تعالى-. إنّكم مسؤولون أمام الله، وسوف تُسأَلون. تذكّروا آخر وصايا الإمام: القانون هو فصل الخطاب، فاعتبروا القانون فصل الخطاب. لماذا الانتخابات أساسًا؟ إنّها من أجل حلّ جميع الاختلافات، وفصلها عند


 


[1] سورة آل عمران، الآية 118.

[2] موجِّهًا الخطاب إلى المعترِضين على الانتخابات.

 

 

278


237

خطاب الولي 2009

صناديق الاقتراع. ينبغي لنا معرفة ما يريده الناس، وما لا يريدونه، عند صناديق الاقتراع، وليس في الشوارع. إذا تقرّر بعد كلّ انتخابات، أن يعسكر الذين خسروا في الشوارع، ويأتوا بأنصارهم إلى الشوارع، ثمّ يعسكر الذين فازوا، ردًّا عليهم، فلماذا أُقِيمَت الانتخابات؟ وما هو ذنب الناس؟ ما هو ذنب الناس الذين تمثّل الشوارع أماكن كسبهم وعملهم ومرورهم وحياتهم؟ لأنّنا نريد استعراض أنصارنا، هذا الجانب بشكل، وذاك الجانب بشكل. أيّ شيءٍ أفضل للإرهابيّ المندسّ الذي يريد توجيه ضربة إرهابيّة، وقضيّته ليست قضيّة سياسيّة، من الاختفاء بين الناس الذين يريدون التظاهر أو التجمع؟ إذا وفّرَت هذه التجمّعات الغطاء له، فمن سيكون المسؤول؟ من الذي سيتحمّل مسؤوليّة هذا العدد الذي قُتِل في هذه الأحداث، من الناس العاديّين، ومن التعبئة؟ ردود الفعل التي ستحصل حيال ذلك -ينتهزون الشغب والفوضى في الشارع، فيغتالون التعبئة وقوّات الشرطة- ومن ثمّ ستحصل ردود فعل عاطفيّة. مَن الذي سيحسب لهذه الردود حسابها؟ يتقرّح قلب الإنسان من بعض هذه الأحداث. يذهب عدّة أفراد إلى الحيّ الجامعيّ، فيهاجمون الشباب والطلبة الجامعيّين -الطلبة الجامعيّين المتديّنين الملتزمين، وليس أولئك المشاغبين- ويهتفون لصالح القيادة! يتقرّح قلب الإنسان لهذه الأحداث. فاستعراض العضلات في الشوارع بعد الانتخابات، ليس ممارسة صائبة، إنّما هو تحدٍّ لأصل الانتخابات، وأساس السيادة الشعبيّة.

 

أطلب من الجميع، إنهاء هذا الأسلوب، إنّه ليس أسلوبًا صحيحًا. وإذا لم يُنهوه، فسوف يتحمّلون مسؤوليّة تبعاته، ومسؤوليّة الفوضى.

 

ومن الخطأ أن يتصوّرَ بعضهم أنّهم يوفّرون، بحركات الشارع، عامل ضغط على النظام، ومن ثمّ يرغمون مسؤولي النظام على الخضوع لِما يفرضونه، تحت عنوان المصلحة. كلّا، هذا أيضًا خطأ. فأوّلًا، إنّ الخضوع للمطالب غير القانونيّة، بفعل الضغط، بداية الدكتاتوريّة. هذا خطأ في الحسابات، إنّها حسابات خاطئة. وإذا كان لها عواقب، فإنّها ستطال، مباشرةً، المسؤولين القابعين خلف الكواليس. وإذا اقتضَت الضرورة، فستعرفهم الجماهير في الوقت المناسب.

 

إنّني أطلب من جميع هؤلاء الأصدقاء والإخوة، أن يعملوا على أساس الأخوّة

 

 

279

 


238

خطاب الولي 2009

والتفاهم، وأن يراعوا القانون، فطريق القانون مفتوح، طريق المحبّة والصفاء مفتوح، فاسلكوه. وأرجو أن يوفّق الله الجميع، للسير في هذا الطريق. الجميع ينشدون تقدُّم البلاد. ليكرِّم هؤلاء الإخوة احتفال انتصار الأربعين مليونًا، ولا يسمحوا للعدوّ بنسف هذا الاحتفال، ويريد الأعداء نسفَه. طبعًا، إذا أراد بعضهم سلوك طريقٍ آخر، فعندها، سآتي مرّةً أخرى، وأتحدّث مع الناس بصراحةٍ أكبر.

 

قوى الاستكبار تابعَت المجريات، واغتنمَت الفرص

أمّا خطابي الثالث، فهو لقادة الاستكبار، وزعماء وسائل الإعلام الاستكباريّة. لقد تابعتُ، أثناء هذَين الأسبوعَين أو الثلاثة، سلوك الساسة الأمريكيّين، وساسة بعض البلدان الأوروبّيّة، وتصريحاتهم، طوال الأسابيع القريبة من الانتخابات، ويوم الانتخابات، وليلة ما بعد الانتخابات، ثمّ اليومَين أو الثلاثة التي أعقبَت الانتخابات. كان الوضع متغيِّرًا ومتفاوتًا، فقبل بدء الانتخابات، كان منحى ساستهم ووسائل إعلامهم، التشكيك في أصل الانتخابات، عسى أن تنخفض مشاركة الجماهير. طبعًا، هم أنفسهم -الأوروبّيّون والأمريكيّون- كانوا يخمّنون هذه النتائج ويحتملونها، لكنّهم لم يكونوا يتوقّعون حركة الجماهير الضخمة هذه، وهذه المشاركة التي بلغَت 85 في المئة، وأربعين مليونًا. وبعد أن بدَت هذه المشاركة الهائلة، صُدِموا، وأدركوا أيَّ حدثٍ كبيرٍ وقع في إيران، وأدركوا أنّ عليهم التكيّف مع هذه الظروف الجديدة، سواء في الشؤون الدوليّة، أو في شؤون الشرق الأوسط والعالم الإسلاميّ، أو فيما يخصّ القضيّة النوويّة. صُدِموا في ما يتعلّق بشؤون إيران، وأدركوا أنّ فصلًا جديدًا قد بدأ، في ما يتعلّق بشؤون الجمهوريّة الإسلاميّة، وهم مضطرّون إلى قبوله. حين شُوهِدَت حركة الجماهير العظيمة، وتمّ تزويدهم بالمعلومات، لحظةً بلحظة، بواسطة عملائهم، وأبدوا جميعَهم دهشتهم، بدأَت تصريحاتُهم، منذ صباح الجمعة، ولُوحِظَت أيضًا، بعضُ انعكاسات هذه التصريحات.

 

حينما شاهدوا اعتراض بعض المرشّحين، شعروا فجأة، أنّ هناك فرصةً أمامهم، فاغتنموا هذه الفرصة، كي يركبوا الموجة. تغيّرت لهجتُهم منذ يوم السبت والأحد.

 

280

 


239

خطاب الولي 2009

وحينما لاحظوا، تدريجيًّا، بعض التجمّعات الشعبيّة في الشوارع، بدعوة من المرشّحين، خامرهم الأمل، وراحوا يخلعون أقنعتهم، وقرّروا إظهار حقيقتهم. تحدّث بعضُ وزراء الخارجيّة، وبعض رؤساء الحكومات، في عدّة بلدان أوروبّيّة، وفي أمريكا، بكلام يفضح بواطنهم. نُقِل عن رئيس جمهوريّة أمريكا، قوله: إنّنا كنّا بانتظار مثل هذا اليوم، حيث ينـزل الناس إلى الشوارع. من جانب، يبعثون الرسائل، ويُبدون رغبتهم في إقامة علاقات، ويُعرِبون عن احترامهم للجمهوريّة الإسلاميّة، ومن جانب آخر، يُطلِقون مثل هذه التصريحات، أيّهما نصدّق؟

 

وقد تحرّك عملاء هؤلاء الأجانب في الداخل، وبدأ خطُّ التسقيط في الشوارع، خطُّ التخريب، والإحراق، وإشعال الأموال العامّة، وزعزعة الأمن، في حرم مشاغل الناس، وتكسير زجاج دكاكينهم، ونهب ممتلكات بعض المحلّات، وسَلب الناس أمنهم في أرواحهم وممتلكاتهم. تعرّض أمنُ الناس لتطاول هؤلاء. لا علاقة لهذا بالناس وأنصار المرشّحين، إنّما هو من فعل المسيئين والمرتزقة وعملاء أجهزة التجسّس الغربيّة والصهيونيّة. هذا الفعل الساذج الذي صدر عن بعضهم في الداخل، أطمعهم، فتصوّروا أنّ إيران أيضًا جورجيا! ثمّة رأسماليّ صهيونيّ أمريكيّ ادّعى قبل سنوات -ونقلَت وسائل الإعلام ادّعاءه وقوله-: إنّني أنفقت عشرة ملايين دولار، وأطلقتُ في جورجيا ثورة مخمليّة، فأسقطتُ حكومة، وجئتُ بحكومة. توهّم هؤلاء الحمقى أنّ حال الجمهوريّة الإسلاميّة، وإيران، وهذا الشعب العظيم، كالحال هناك. بأيّ مكانٍ يقارنون إيران؟ مشكلة أعدائنا أنّهم لم يفهموا الشعب الإيرانيّ إلى الآن.

 

وهل تفهمون شيئًا اسمه حقوق الإنسان؟!

والأسوأ والأقبح من كلّ شيء في هذه الغمرة، هو الكلام الذي صدر عن هؤلاء الساسة الأمريكيّين، بعنوان "الحرص على حقوق الإنسان"، وضدّ "العنف والشدّة مع الناس"، فقالوا: نحن نعارض أن يكون التعامل مع الناس بهذه الطريقة، وقلقون لذلك! أنتم قلقون على الناس؟! وهل تعترفون بشيء اسمه حقوق الإنسان؟! مَن الذي أغرق أفغانستان بالدماء، ولا يزال؟ مَن الذي أهان العراق تحت أحذية جنوده؟ مَن

 

 

281

 


240

خطاب الولي 2009

الذي قدّم كلّ تلك المساعدات السياسيّة والمادّيّة إلى الحكومة الصهيونيّة الظالمة في فلسطين؟ وفي أمريكا نفسها -والإنسان ليعجب حقًّا!- في زمن حكومة هذا الحزب الديمقراطيّ، وفي عهد رئاسة جمهوريّة زوج هذه السيّدة[1] التي تصرّح حاليًّا، قد أحرقوا ثمانين ونيّفًا من أتباع فرقة الداوديّين، وهم أحياء، هذا ممّا لا سبيل لإنكاره. هؤلاء السادة الديمقراطيّون هم الذين فعلوا ذلك. أصبحَت فرقة الداوديّين -وعلى حدّ تعبيرهم: الديفيديّين- مورد غضب الحكومة الأمريكيّة، لسببٍ من الأسباب، ولجؤوا إلى منـزل، واعتصموا هناك. ولم يخرجوا من هناك، على الرغم من كلّ المحاولات، فجاء هؤلاء، وأحرقوا المنـزل، فاحترق ثمانون رجلًا وامرأة وطفلًا، في ذلك البيت، وهم أحياء! وهل تفهمون أنتم شيئًا اسمه حقوق الإنسان؟! أعتقد أنّ من واجب هؤلاء المسؤولين والساسة الأوروبّيّين والأمريكيّين، أن يخجلوا ويستحوا قليلًا. إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة حاملةَ لواء حقوق الإنسان. وإنّ دفاعنا عن الإنسان المظلوم في فلسطين، ولبنان، والعراق، وأفغانستان، وفي أيّ مكانٍ يُظلَم فيه الإنسان، دليلٌ على ذلك، وهذا دليلٌ على أنّ راية حقوق الإنسان مرفوعةٌ في هذا البلد، بفضل الإيمان بالإسلام. لسنا بحاجة إلى أن ينصحنا أحد بخصوص حقوق الإنسان. حسنًا، كان هذا كلامنا حول الانتخابات.

 

وخطابٌ أخير

ولديّ خطاب أخيرٌ، أقوله لمولانا وسيّدنا الإمام بقيّة الله (أرواحنا فداه): يا سيّدنا ومولانا، إنّنا نفعل ما يجب أن نفعله، وقد قلنا ما يجب أن نقوله، وسنقوله. نفسي رخيصة، وجسمي عليل، والقليل من السمعة التي لديّ، هي منك. أضع هذا كلّه على راحتَيّ، وأقدّمه في سبيل هذه الثورة، وفي سبيل الإسلام. وليكن هذا أيضًا، فداءً لك. سيّدنا ومولانا، ادعُ لنا الله. أنت صاحبنا وسيّدنا، أنت مالك هذا البلد، وهذه الثورة، وأنت سندنا وعوننا. سوف نواصل هذا الطريق، وسوف نواصله باقتدار، فكن سندنا في هذا الدرب، بدعائك، وحمايتك، وعنايتك.


 


[1] وزيرة الخارجيّة هلاري كلينتون.

 

 

282


241

خطاب الولي 2009

﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا﴾[1].

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 


[1] سورة النصر.

 

283


242

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء نوّاب مجلس الشورى الإسلاميّ

 

 

المناسبة:   الدورة الجديدة لمجلس الشورى الإسلاميّ

الحضور:  نوّاب مجلس الشورى الإسلاميّ

المكان:   طهران

 

الزمان:    03/04/1388هـ.ش.

01/07/1430هـ.ق.

24/06/2009م.

         

 

284

 


243

خطاب الولي 2009

أرحّب كثيرًا بكم، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء. آمل أن تكون هذه الدورة الجديدة للمجلس، مصدر بركة ومبعث خير للبلاد، ولكلّ واحدٍ منكم، ضمن الطموحات التي يحملها كلّ إنسان مؤمن، في ضوء حضوره ووقوفه أمام الله.

 

شهر رجب وإصلاح النفس

هذه الأيّام أيّام شهر رجب المبارك. أوّل شيءٍ ينبغي أن نلاحظه جميعًا، أينما كنّا -في هذه الأيّام، ثمّ في أيّام شعبان المبارك، ثمّ بدرجةٍ ثالثة أرفع، في شهر رمضان المبارك- هو إصلاح أنفسنا، وإبعاد الغفلة والظلمات عن قلوبنا. هذا هو الأصل. الأحداث والصراعات والنزاعات التي عايشَتها البشريّة، والمواجهات والمجاهدات الاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة، التي خاضها الأنبياء الإلهيّون أثناء بعثاتهم ضدّ أعداء الله، كلّ تلك المحَن والآلام والانتصارات والهزائم بأسرها، إنّما هي مقدّمةٌ، يُراد منها أن يكون الإنسانُ، عند اجتياز هذه الحدود التي هو مضطّرٌ لاجتيازها -أي الحدود بين الحياة المادّيّة والحياة الأُخرويّة الدائمة- مسرورًا، راضيًا، غير متحسّرٍ. الكلام كلّه لأجل هذا الشيء. إذا قيل لكم: لتكن أخلاقكم أخلاقًا حسنة، وإذا قيل لكم: اعملوا بهذه الضوابط، وإذا قيل لكم: جاهِدوا، وإذا قيل لكم: اعبدوا، فكلّ ذلك إنّما هو لكي تستحيل هذه المادّة الخامّ المودَعة لدينا، إلى نوعيّة[1] حسنة، ونتاجٍ أمثَل، نخرجُ بها من هذه البوّابة، من أجل أن نملأ هذه الصفحة البيضاء التي استُودِعَت لدينا، لننقشها بأعمالنا، من أجل أن نملأها بنقوشٍ جميلة ومطلوبة، ونرفعها فوق رؤوسنا، ونمضي.


 


[1] كينونة.

 

 

286


244

خطاب الولي 2009

كلّ شيء هناك، المصير هناك، وهذه مقدّمات. هذا المعسكر[1] الذي نمارس فيه اليوم تماريننا، إنّما هو من أجل أن نستخدم تماريننا هذه في مكانٍ ما. لذا، ينبغي أن تنصَبَّ مساعينا في هذا المعسكر، على الانتفاع من الفرص، إلى أقصى حدٍّ ممكن، ولا ندع فرصة تفوتنا، أو رأسمالًا يحترق ويتلاشى، ولا يعود علينا عائد مقابله.

 

شهر الدعاء والتوسّل والاستغفار

قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ﴾[2]. هذا هو معنى الخُسر، معناه احتراق الرأسمال، وضياعه. نحن جميعًا، وفي كلّ لحظة، نخسر رساميلنا. ما هو الرأسمال؟ هو عمرنا. في كلّ لحظة، نخسر -أنا وأنتم- هذا الرصيد. لقد خسرنا اليوم، قياسًا إلى الأمس، جزءًا آخر من رأس مالنا. كلّ لحظات هذا العمر، الذي يستمرّ بضعة عقود مثلًا، إنّما هو فترة احتراق لهذه الشمعة، فترة اضمحلال الرأسمال هذا. حسنًا، ما الذي نكسبه مقابل ذلك؟ هذا هو المهمّ. ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ﴾[3]. إذا كان ثمّة إيمان وعمل صالح -والجزء الأهمّ من العمل الصالح، هو التواصي بالحقّ، والتواصي بالصبر- فلن يذهب ذلك الرصيد، ليحلَّ مكانه شيءٌ أفضلَ منه، كما لو أنّكم خرجتم بأموالكم إلى السوق، وحينما ترجعون منه، تجدون أنّكم قد فقدتم أموالكم، وأنّ جيوبكم عادت فارغة، بَيْدَ أنّ المهمّ هو ما رجعتم به، بدلًا منها، وعدم عودتكم من السوق صفر اليدَين. شهر رجب فرصة جيّدة، إنّه شهر الدعاء والتوسُّل والتوجُّه والاستغفار. يجب أن نستغفر دائمًا، ولا يظنّنّ أحدٌ أنّه في غنًى عن الاستغفار. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ لَيُغَانُ[4] عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، فِي كُلِّ يَوْمٍ، سَبْعِينَ مَرَّةً"[5]. ممّا لا شكّ فيه، أنّه حتّى الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم، كان


 


[1] المقصود، حسب السياق، هذا المضمار الدنيويّ، والحياة التي أُعطِيَت لنا. وقد يكون قصده: المجلس النيابيّ، حيث إنّ الحاضرين في الجلسة هم من نوّاب المجلس.

[2] سورة العصر، الآية 2.

[3] سورة العصر، الآية 3.

[4] الغين: لغة في الغيم، وغان على قلبي: غطّاه.

[5] الطبرسيّ، الميرزا حسين النوريّ، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1408ه - 1987م، ط1، ج5، ص320.

 

287


245

خطاب الولي 2009

يستغفر الله سبعين مرّةً في اليوم. الاستغفار مطلوب للجميع، خصوصًا نحن الغارقين في هذه الأعمال المادّيّة، والملوَّثين بالدنيا المادّيّة. يغسل الاستغفار جزءًا من هذه الأدران، ويمحوها. إنّه شهر الاستغفار، وسوف نغتنم الفرصة، إن شاء الله. نبارك لكم حلول هذا الشهر، وسيكون شهرًا مباركًا، علينا وعليكم، إن شاء الله. وحينما ننتقل من هذا الشهر، إلى شهر شعبان، نكون قد أنجزنا جزءًا من المهمّة، بتوفيقٍ من الله.

 

ومن الضروريّ أن أقدّم الشكر إلى النوّاب المحترَمين، لإبدائهم مودّتهم، وإعلانهم دعمهم، بعد كلامنا المتواضع في صلاة الجمعة. الاتّحاد في الإعلان عن المواقف الأساسيّة في البلاد، مطلوب، خصوصًا حينما يرى الإنسان الأعداء أمامه، قد أرهفوا أسماعهم وفتحوا أنظارهم، ليروا هل هناك ضعف، أو انتكاس، أو تردُّد في الطرف المقابل، حتّى ينتهزوا الفرصة، بلا تأخير، ويشنّوا هجومهم. في مثل هذه الظروف، على وجه الخصوص، من المهمّ جدًّا، ومن الضروريّ جدًّا، توحيد الأصوات.

 

مجلس الشورى: القوّة المفكّرة في البلاد

أذكر نقاطًا عدّة للسادة المحترَمين، حول مجلس الشورى، وهي نقاط يُفتَرض أنّكم تعرفونها، فهي إذًا، تذكرة. أحيانًا، يكون للاستماع أثرٌ لا يوجد في مجرّد المعرفة. يعرف الإنسان أشياء، لكن من الحَسنِ أن يسمعها مرّةً أخرى. والحمد لله، أنّ هذا المجلس جيّد من حيث الخبرة، والمستوى الفكريّ والعلميّ، هو مجلسٌ عالٍ، ونحن مسرورون لهذا، ونتباهى به.

 

النقطة الأولى هي أنّ مجلس الشورى هو القوّة المفكِّرة في البلاد. يتجلّى الفكر في لباس القانون، ثمّ يسري ويجري في كلّ كيان البلد. والأمر الذي ينبغي أخذه بنظر الاعتبار دومًا، هو:

أوّلًا، أن نرى ما هي طبيعة الصلة بين أفكار هذه القوّة المفكّرة، والقيم الأساسيّة للثورة، فهذا الغصن متفرِّع، على كلّ حال، من جذع الثورة العظيم والفارع والقويّ.

 

ثانيًا، ما هي طبيعة الصلة بينه وبين المجتمع، ومشكلات البلاد، واحتياجات الناس؟ ما يجب أن يكون واضحًا، هو النظرة إلى المبدأ، والنظرة إلى النهاية، النظرة إلى المنشأ

 

 

288


246

خطاب الولي 2009

وإلى الهدف. إذا حصل هذا، كانت القوانين أصيلة، وصحيحة، وذات فعاليّة. إذا لم تكن الأولى[1]، كان القانون كالغصن المقطوع من الشجرة، وفاقدًا لأصالته، ولن تكون القوانين أصيلة. وإذا لم تكن الثانية[2]، كان القانون أصيلًا ومشروعًا، لكنّه غير مقبول. إذا لم يكن القانون منسجمًا مع احتياجات المجتمع ومقتضياته الفوريّة والآنيّة، وكذلك مع احتياجاته طويلة الأمد، فلن يكون مقبولًا، بمقدار ما يتّصف بالنقص في ذلك الجانب. هذه نقطة يجب أخذها بعين الاعتبار.

 

وصيّة الإمام: مبادئ الثورة وأصولها

قلتم مثلًا: يجب الاهتمام بالسياسات المرتبطة بالمادّة 44 من الدستور. لاحِظوا أنّ هذا بذاته مؤشِّر. إذا كُنّا نوافق على سياسات المادّة 44، وافرِضوا أنّ هناك قانونًا لا يتناغم مع هذه السياسات، فكيف يُرَدّ هذا من وجهة نظركم؟ كذلك الحال فيما برتبط بأساس قيم الثورة الإسلاميّة ومبادئ الثورة، ينبغي مراجعة مبادئ الثورة، وعدم نسيانها. ليس من الصحيح أن يُقال: إنّنا نشكّ في آراء الإمام. وقد لا يستخدمون عبارة "نشكّ"، لكنّهم يطلقون كلامًا معناه الشكّ. إنّ وصيّة الإمام، ومجموعة كلمات الإمام (رضوان الله -تعالى- عليه) هي مبادئ ثورتنا وأصولها. كان الإمام رجلًا كبيرًا وواعيًا. خذوا هذه الأمور بعين الاعتبار دومًا، ولتكن القوانين والمواقف والمسيرة على هذا الأساس. قد يفهم الإنسان المسألة بشكل، ويفهمها شخصٌ آخر بشكل مختلف، لا إشكال في ذلك، ولكن ينبغي أن يكون هذا هو الهدف والمحور.

 

الأخلاق والتربية - الأعمال والسلوكيّات: تأثير متبادل

نقطة أخرى هي أنّ للقانون جانبًا ملزِمًا وسياديًّا وولائيًّا. أنتم عبر القانون، تُعمِلون ولايتكم واقتداركم على المجتمع. لذا، فالقانون ملزِم. هذا شيءٌ صحيح ومحفوظ في محلِّه، أي إنّ الجانب الآخر في المجتمع -وهم أبناء المجتمع، وأنتم من جملتهم- سيقف تحت مظلّة اقتدار القانون، وسيُعمِل القانون ولايته عليهم. هذا هو الجانب


 


[1] أي النظرة إلى المبدأ.

[2] أي النظرة إلى الهدف.

 

 

289


247

خطاب الولي 2009

الواضح من القانون. وثمّة جانب آخر، هو التأثير الثقافيّ والتربويّ للقانون في المجتمع، أيّ قانون تسنّونه -حتّى لو لم يكن له، على الظاهر، صلة بالقضايا التربويّة والثقافيّة، كأن يكون قانونًا اقتصاديًّا، على سبيل المثال- سيكون له أثر ثقافيّ وأخلاقيّ وتربويّ مباشر، أو غير مباشر على المجتمع. إنّ للسلوكيّات والأخلاقيّات والتربية، آثارًا متقابلة (متبادلة). وكما أنّ الأخلاق تترك تأثيرًا في السلوك، فالسلوك أيضًا يترك تأثيره في الأخلاق. لاحِظوا أنّه ﴿ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ ٱلسُّوٓأَىٰٓ﴾[1]، إذا فعلنا شيئًا سيّئًا، فسيترك أثره في قلوبنا، وفي أخلاقنا، وأحيانًا في تصوّراتنا وأفكارنا. وحينما تتعلّق قلوبنا بشيءٍ، تترك تأثيرًا في ذهنيّاتنا. تترك الأعمال والسلوكيّات من جهة، والأخلاق والتربية من جهة أخرى، آثارًا متبادَلَة فيما بينها.

 

وللقانون آثاره التربويّة أيضًا

هكذا القانون أيضًا. إنّ أيّ قانون تضعونه -سواء كان متعلقًا بالنقل والمواصلات، أو بالجمارك، أو بالاقتصاد، أو بالسياسة الخارجيّة، أو أيّ شيء آخر- ستكون له آثار تربويّة وأخلاقيّة. يجب أن يُؤخَذ هذا الجانب من القانون، بعين الاعتبار. إذا وضعنا قانونًا يعزّز روح إطاعة القانون لدى الناس، فهذا شيءٌ جيِّد. وعلى العكس من ذلك، إذا شرّعنا قانونًا يخلق لدى الناس روح مشاكسة القانون، وعدم الاكتراث له، ولو بشكلٍ غير مباشر، فهذا شيء مرجوح[2]. إذا سنَنَّا قانونًا يقوّي روح القناعة لدى الناس، فهذا شيء جيّد. وعلى العكس من ذلك، إذا كان القانون الذي نشرّعه يقوّي روح الإسراف لدى الناس، فهو شيء سيّئ. إذا كان القانون يعزّز روح التديّن لدى المجتمع، فهو جيِّد، وإذا كان ممّا يغذّي روح اللامبالاة في المجتمع، فهو سيّئ. تنبّهوا إلى هذا الجانب: التأثير المتبادَل بين الحقوق والأخلاق، والتلازم بين القضايا الحقوقيّة والقضايا الأخلاقيّة. هذه أمور على جانب كبير من الأهمّيّة.


 


[1] سورة الروم، الآية 10.

[2] أي هناك قوانين أفضل منه، راجحة عليه، يمكن وضعها.

 

 

290


248

خطاب الولي 2009

جلسات أخلاقيّة معرفيّة: ارتقاءٌ إلى الله

طبعًا، هذا الجانب النظريّ من القضيّة، أي إعمال الجانب النظريّ من القضيّة. وإلى جوار ذلك، هناك البُعد أو الجانب العمليّ والخارجيّ للقضيّة، والذي يجب على السادة أخذه بعين الاعتبار. أي أنتم الذين تريدون مراعاة الأخلاق الإسلاميّة في قوانينكم، من المناسب أن تكون لكم جلساتكم الأخلاقيّة والمعرفيّة، فهي تخفّف عن الإنسان، وتفرّغه من التعقيدات التي تتكالب عليه، في غمرة العمل. في خِضَمّ هذه الأعمال والمهامّ التنفيذيّة، يجب على الإنسان أن يرتقي إلى الله (أن يصبح سماويًّا)، وإلى السموّ، والتخفُّف من الأثقال، ومن ثُمَّ العودة إلى العمل. ذات مرّة، ضربتُ مثلًا بهذا الماء الذي ينـزل طاهرًا طيّبًا من السماء، ثمّ يتلوّث في هذه المسابح والبحار والبحيرات، وبعد أن يتلوّث، يتبخّر مرّة أخرى، ويصعد إلى الأعلى، ليتطهّر مرّة أخرى، ثمّ يعود. نحن أيضًا، يجب أن نسمو ونتطهّر، ونعود طاهرين. أنا وأنتم بأمسّ الحاجة إلى هذا الشيء.

 

الأغنى هو الأحوَج

حين كنّا في قمّ، كان لدينا صديق، كنتُ منشدًّا إليه في قلبي، انشدادًا قويًّا، من الناحية المعنويّة. كنتُ أنتفع كثيرًا من الجلسات التي تجمعني به -جلسات أخويّة ثنائيّة أو ثلاثيّة أو جلسات طلبة الحوزة-، كنتُ أستفيد من معنويّاته، وأخلاقه، وأحاديثه وسلوكه المعرفيّ. وافترقتُ عنه سنوات، حيث توجَّه إلى النجف، وبقينا هنا مشغولين. بعد أن أصبحتُ رئيسًا للجمهوريّة، عاد هو إلى إيران. والتقيتُه بالصدفة، فقلت له: يا صديقي، إنّ حاجتي إليك اليوم أكبر من تلك الأيّام. الآن، أنا رئيسٌ للجمهوريّة، وكنتُ ذلك الحين طالبَ علم عاديّ. وتقرَّر أن يأتي إلينا مرّة في الأسبوع، أو مرّة كلّ أسبوعين، وكان ذلك إلى أن فارق الدنيا، رحمة الله عليه. نحن بحاجة إلى ذلك. كلّما كانت مسؤوليّاتنا أكبر، كانت حاجتنا أكبر. "الأغنى هو الأحوج" إلى هذه الجلسات الأخلاقيّة والمعنويّة.

 

 

291

 


249

خطاب الولي 2009

أُنسٌ بالقرآن

من الأمور الجيّدة التي تأسّسَت في المجلس، منذ البداية، تلاوة القرآن الكريم في بداية الاجتماعات الرسميّة للمجلس. وفي الفترة الأخيرة، أثناء رئاسة الدكتور السيّد حدّاد عادل، أُضيفَت إلى ذلك، سُنّةٌ حسنةٌ أخرى، هي قراءة ترجمة القرآن -ولا أدري هل تزال سارية وجارية، أم لا- وهي مسألة جيّدة جدًّا. ينبغي أن لا تكون للقرآن حالة شكليّة فقط، ينبغي أن نستمع ونستفيد من كلمات القرآن. يجب أن نسلّم قلوبنا للقرآن. كلّ كلمة من كلمات القرآن، يمكن أن تُحدِث ثورة في قلوبنا، طبعًا، بالنسبة إلى من يأنس بالقرآن، ويتفاعل معه. حسَبَ التجربة، فإنّ مَن لا يأنس بالقرآن، لا ينتفع الكثير منه: ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾[1]، حينما كانت الآية تنـزل، كان المنافقون يقولون: ها، ما الذي حصل؟ هل ازداد إيمانكم؟ لم يكونوا يفهمون من القرآن شيئًا. إذا كان ثمة أنس بالقرآن، وتسليم للفؤاد إلى القرآن، فسيجد الإنسان، عندئذٍ، أنّ كلّ كلمة من القرآن، قطرة طاهرة صافية ينتهلها، وتغمر قلبه بالنور. ينبغي التنبُّه إلى هذا القرآن، وإلى هذه التلاوة، خصوصًا أنّها مرفقَة حاليًّا بالترجمة، لمن يحتاج إلى هذه الترجمة. لتكن هناك جلسات أخلاقيّة ومعرفيّة، وليأتِ أشخاص ينصحوننا، ويَذكرون لنا حتّى الأمور التي نعرفها. وكما قلت، ففي الاستماع، أحيانًا، أثرٌ غير موجود في المعرفة. نعلم كثيرًا من الأشياء، لكنّنا لا نتذكّرها، وحينما نتذكّرها، تصحو قلوبنا.

 

المجلس محلُّ حوار

النقطة الأخرى هي أنّ المجلسَ محلٌّ للحوار، ويُفترَض أن يكون مستوى الحوارات عاليًا، لأنّ المستوى الفكريّ والعلميّ والمعرفيّ للأعزّاء النوّاب، عالٍ، والحمد لله. تُطرَح وجهات نظر، وتُطرَح استشارات. ما أَوَدّ التأكيد عليه وذكره لكم جميعًا، أيّها الإخوة والأخوات، هو أن ترفعوا من مستوى روحيّة تَقبُّل الكلام المعارِض في المجلس. إذا ما كان كلامه معارِضًا لرأيكم، فليتحدّث به، فلن تنطبق السماء على الأرض. استمِعوا، ثمّ رُدُّوا بالأدلّة والبراهين. وإذا لم يكن لديكم الوقت للردّ أو الجواب، فلا تمنحوا أصواتكم


 


[1] سورة التوبة، الآية 124.

 

 

292


250

خطاب الولي 2009

لذلك الرأي، ولا تعملوا به. إذا كان ثمّة صديق أو رفيق تريدون تنوير ذهنه، فلا بأس، تحدّثوا إليه بهدوء، لا تدعوا الأقوال والآراء بتراءَ ناقصة. مع الأسف، كانت هذه الحالة موجودة في مجالسنا منذ البداية، فكان يأتي عددٌ من الأفراد وسط حديث شخصٍ آخر، ويرفعون أصواتهم، ويضجّون، ويتحدّثون. أتذكّر في زمن رئاسة الجمهوريّة[1]، ذهبتُ مرّةً إلى المجلس، لأجل موضوعٍ معيّن. كانت لديّ كلمة ألقيها في المجلس، وقد طالت الكلمة، وكانت مفصَّلة. أحدُ النوّاب -وكان صديقنا، لكنّه كان بعيدًا عنّا قليلًا من حيث الفكر السياسيّ، وتعلمون كانت المماحكات (الصدامات) يوم ذاك شديدة، وحادّة إلى حدٍّ ما- بدأ من آخر المجلس، بالكلام بصوتٍ عالٍ، وأخذ -على حدّ تعبير السادة- بإطلاق أمواج التشويش. وكنتُ أقول له: يا أخي العزيز، دعني أُكمل كلامي، ولستَ مجبَرًا على الأخذ به، لا إشكال في ذلك. وكان يسكت، لكنّه يعود بعد لحظات، ويرفع صوته. رأيته بعد ذلك، وقلت له: لماذا تفعل هكذا؟ استمع إلى الكلام، ثمَّ تعال، وقِف أنت هناك، المجلس مجلسكم، وقُل: ما تريد قوله. إنّما جئتُ وتحدّثت بصفتي رئيسًا للجمهوريّة، وسوف أخرج ليبقى المجلس لكم، حيث يمكنكم أن تقولوا فيه ما تشاؤون. قال: لا، المسألة هي أنّك حينما تتكلّم، يترك كلامك أثرًا في بعض القلوب، وأريد أن أَحولَ دون هذا التأثير! جيّد، فهذا أسلوب، لكنّني أعتقد أنّه ليس أسلوب مجلس الشورى الإسلاميّ، (الذي هو) مجمع نخبة المجتمع الإسلاميّ.

 

لقد تعوّدنا في بحوثنا ونقاشاتنا الطلابيّة، أن يتداخل الكلام بين طلبة العلوم الدينيّة، أي يبدأ شخصٌ بالاستدلال، فيتحدّث آخرون أثناء كلامه: كلّا، ليس الأمر كذلك، ويقول هو: كلّا، ليس الأمر كما تقولون. وغالبًا ما لا تنتهي النقاشات إلى نتيجة. هل سمعتم عن سجالات طلّابيّة يجري فيها التراشق بالكتب؟ هذا هو السبب.

 

شيئًا فشيئًا، شاعت هذه العادة في الحوزة، وهي أن يستمع الإنسان إلى كلامٍ يعتقد أنّه خاطئ وضعيف، لكنّه يصغي إليه كاملًا، ثمّ يقول (لصاحبه): لا بأس، استمع أنت الآن، كلامك هذا، جوابُه كذا وكذا، والإشكال عليه كذا. بعض أصدقائنا وجدتُ أنّهم


 


[1] كان سماحته رئيسًا للجمهوريّة.

 

 

293


251

خطاب الولي 2009

احتفظوا بتلك الحالة إلى الآن. يُلقون كلامهم، ويستمع الإنسان إليهم، إلى أن ينتهي الكلام، ثمّ حينما يبدأ هو بالكلام، يعودون للكلام والردّ مرّة أخرى! هذا غير مناسب لمجلسٍ مثل مجلس الشورى الإسلاميّ.

 

يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ

إذًا، يجب التنبُّه إلى رفع مستوى التحمُّل في المجلس، والالتفات أيضًا، إلى أن لا تكون الآراء والتصريحات بدافع اللجاجة. طبعًا، ذِكر هذه المسألة سهل، لكنّ العمل بها صعب. أنا أعتقد حقًّا، أنّ العمل بها صعب. أحيانًا، يتكلّم الإنسان بدافع اللجاجة والخصام ومعارضة فلان أو فلان، أو التيّار الفلانيّ أو الجماعة الفلانيّة، هذا غير صحيح. أي إنّ الكلام يجب أن لا يكون بدافع اللجاجة والصراع بين الأشخاص والتيّارات. استمعوا لكلام الطرف المقابل، حتّى لو كان المتكلِّم من غير تيّاركم وجماعتكم وجبهتكم. استمعوا، وإذا وجدتّم أنّه كلامٌ صحيح، عندئذٍ، ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ﴾[1]. لاحِظوا الحكمة القرآنيّة: ﴿يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ﴾[2]، ينبغي الاستماع، ثمّ الأخذ بما هو أفضل وأحسن، حتّى لو كان هذا الأحسن صادرًا عن لسان شخصٍ لا تحبّونه، ولا تنحازون إليه. هذه حالة جيّدة جدًّا. إذا حصل هذا، فهو جيّد جدًّا، خلافًا لِما لو رأى الإنسان أنّ الشخص الذي قام للكلام من تيّارٍ معارضٍ، ومن جماعة سلبيّة، حسب اعتقادي، فيقرِّر منذ البداية ،أن يردّ عليه. هذه، في رأيي، مسألة مهمّة جدًّا. يجب العمل بطريقة علميّة واستدلاليّة ومدروسة، والحوار والتشاور بنحوٍ أخلاقيٍّ سليم، لا من منطلق اللجاج، ويجب تحمُّل الرأي المعارِض.

 

التعاوُن في إدارة البلاد

النقطة الأخرى هي أنّه أمامكم ثلاثة أعوام، من المفترَض أن تديروا البلاد فيها بمعيّة الحكومة الجديدة. أنتم من جهة، والحكومة من جهةٍ أُخرى، أنتم مشرِّعون، والحكومة منفِّذة، يجب أن تعملوا معًا. اجعلوا أساس عملكم المماشاة والمداراة وروح


 


[1] سورة الزمر، الآية 18.

[2] سورة الزمر، الآية 18.

 

 

294


252

خطاب الولي 2009

التعاون. طبعًا، لدينا نقاط وتنبيهات للحكومة أيضًا، في هذا المجال، وحول قضيّة التعاون، وسوف نذكُرها لأعضاء الحكومة المحترَمين في جلساتٍ أخرى. لكن، ما نريد أن نقوله لكم، هو أن تجعلوا التعاون أساس التعامل مع الحكومة، الحكومة هي الشخص الموجود في الساحة. أنا أيضًا، كنتُ في المجلس، كنتُ نائبًا مثلكم، وكنتُ في الحكومة. إنّني على معرفة بكِلا الحالتَين.

 

نعم، النائب يبذل جهده ويشرّع القوانين، ويتوقّع أن يجري العمل بهذه القوانين، هذا كلامٌ صحيح وحقّ. والحكومة لديها كلامٌ حقّ أيضًا، فهي تقول: إنّني أسير في هذا الطريق الوعر الصعب، والمرتفعات الخانقة للأنفاس، وتقع على كاهلي كلّ هذه الأعباء، وقد تستعصي عليَّ الأمور في موضعٍ من المواضع. لذا، أتوقّع أن تساعدوني، ولا تعقّدوا الأمور بوجهي. الحكومة هي العنصر الحاضر في وسط الساحة، وفي غمرة الأمور.

 

في مواكب اللطم، تُحمَل أعلام -يظهر أنّهم يسمّونها هنا أعلامًا أو علامات، وكنّا نسمّيها في مشهد جريدة، أي هذه العلامات الكبرى- قد تحتوي أحيانًا عشرة تفريعات، أو اثنَي عشر تفريعًا، وهي ثقيلة جدًّا. كان أصحاب العضلات القويّة في مشهد، مكلَّفِينَ بحمل هذه الجرائد. وكانت عمليّة صعبة جدًّا. أتذكّر أنّهم كانوا يأتون بهذه الجرائد إلى السوق. وفي السوق، يوجد مكان واسع نسبيًّا، وكان ينبغي أن يدوروا هناك بالأعلام أو الجرائد، ويستعرضونها، وما إلى ذلك. أمّا الشخص الذي يحمل الجريدة، فكان يستقبله عشرة أشخاص أو اثنا عشر شخصًا: واحدٌ يمسح عرقه، وآخر يضع الماء في فمه، وثالث يقول له: "ساعدَك الله"، ورابع قد يُدَلِّك كتفَيه أحيانًا.

 

العمل التنفيذيّ صعب

أتذكّر أنّ بعض الأشخاص كانوا يذهبون إلى الإمام، ويقولون له: هناك معضلة في المرفق الفلانيّ، التجارة، مثلًا، تعاني من كذا أو كذا. ومن ثمّ، كلّ مرفق من مرافق البلاد فيه مشاكل كثيرة، وهي معضلات موجودة دومًا، وكانت موجودة يوم ذاك أيضًا، وكانت كثيرة. كانوا يذهبون ويشتكون لدى الإمام. كنتُ أرى أو أسمع أحيانًا، أنّ الإمام

 

 

295


253

خطاب الولي 2009

كان يستمع لكلامهم، ثمّ يقول: "العملُ صعبٌ". وهذا هو الواقع، فالعمل في إطار البرمجة والتخطيط، وعلى الورق والخطوط البيانيّة له معنًى، لكنّه في ساحة العمل، ذو معنى آخر. فالشيء الذي يُكتَب ويُرسَم على الورق بسهولة، يكون في ميدان العمل صعب.

 

كانوا يأتون بخرائط الحرب إلى غرفتي، ويجتمع الإخوة المعنيّون بشؤون الحرب. كان قادة الحرب يُدلون بإيضاحاتهم، ويقولون: هذه هي خطّة العمليّات، ننتقل من هنا إلى هنا. كنتُ أرى أنّ بعضهم ينظرون، ويقولون: "عجيب! إنّها عمليّة سهلة جدًّا، هذا خطٌّ قصير جدًّا بطول نصف "عود ثقاب مثلًا، يجب أن نسيره". لكن نصف عود الثقاب هذا، يعني، مثلًا، عشرة كيلومترات، ومن المقرَّر أن يشتبك فيه عشرات الآلاف، ويُقتَل ويُجرَح فيه عدد كبير. الطريق على الخارطة هو "نصف عود ثقاب"، ويبدو أنّه ليس بالأمر الشاقّ، لكنّه صعبٌ عند التنفيذ العمليّ. المقصود أنّ العمل صعب، ويجب مداراة الحكومة.

 

ينبغي أن لا تسمحوا للأمور بأن تصل إلى درجة المماحكات. والناس عادةً، تمتعض، حقًّا، من المماحكات. كانت بعض دورات المجلس دورات مليئة بالمماحكات. وكانت آثارها عليه سلبيّة جدًّا. الناس لا يرتاحون لذلك إطلاقًا.

 

كلّما فتح الناس الإذاعة الخاصّة بالمجلس، وجدوا فيها معركة، وكلامًا لاذعًا. الناس لا يحبّون ذلك. الناس يريدون منّا، نحن الجالسين هنا في مواقع إدارة البلد، أن نكون متعاطفين فيما بيننا، ونعمل معًا، ونتعامل بأخوّة ومحبّة، لا أن يغضّ بعضُنا الطرف عن أخطاء بعضٍ وذنوبهم، أبدًا، هذا ليس شيئًا محبّذًا على الإطلاق، بل هو مخالف للقيَم، ولكن ينبغي أن يكون نوع التعامل برحمة وعطف وإيمان وأخوّة.

 

ثقافة القانون سيّدة مستقلّة

هناك قضيّة أخرى -وقد أخذ حديثُنا يطول- وهي قضيّة سيادة ثقافة القانون في البلاد. نحن بحاجة، حقًّا، إلى أن يكون القانون مؤشّرًا، ومحورًا، وفصل الخطاب في كلّ شؤون البلد. لو التزمنا بالقانون، فإنّ هذا يسهّل حياة الناس. إنّه بالضبط، كالمصابيح

 

 

296


254

خطاب الولي 2009

الخضراء والحمراء عند تقاطع الشوارع. لاحِظوا كم يؤدّي عدم مراعاة هذه المسألة إلى مشاكل. مثلًا، تصلون بسيّارتكم إلى تقاطع طرق، لنفترض أنّ الضوء الأخضر كان مضاءً مدّة دقيقة أو دقيقتَين، والسيّارات تعبر وتمرّ، وبمجرّد أن وصلتم أنتم، أُضِيءَ الضوء الأحمر. القضيّة صعبة طبعًا، وعليكم التوقُّف هناك مدّة معيَّنة. دخولُكم في تلك المنطقة الممنوعة، بدافع طلبكم السلامة والراحة، سيؤدّي إلى الإخلال بوضع عشرات الأشخاص والسيّارات على طرفَي الطريق. وحتّى شرطيّ المرور الواقف هناك لتنظيم الأمور، سيواجه مشكلة. إذًا، راعوا القوانين، حتّى لا تحدث كلّ هذه المشاكل. لاحِظوا، هذا مثال واضح نواجهه يوميًّا، ولذلك، غالبًا ما يراعيه الناس. والقوانين في كلّ مكان، على هذه الشاكلة. إذا جرَت مراعاة القانون، أصبحَت الأمور سهلة. وإذا حلّ عدم الالتزام بالقوانين بيننا -وكلّ شخص له، على كلّ حال، تبريره لعدم التزامه بالقانون، أحدُهم يقول: "هذا القانون يضيّع حقّي، وهذا القانون كذا، وذاك كذا"، لكن هذه التبريرات غير مقبولة- اختلّت الأعمال.

 

إذا شاع عدم الالتزام بالقانون، تعقَّدَت الأمور، وتفاقمَ زحام السيّارات، واختلّ المرور، وحصلَت عُقَد مروريّة، وتبدّدَت مصالح الناس، وسُحِقَت. يجب على الجميع احترام القانون. وأقول لكم: إنّ هذه الحالة كغيرها من الحالات التي ينبغي أن تنتشر ثقافتها، (ابتداءً) من النخبة، لتصل إلى عموم المجتمع. إذا لم تلتزموا - أنتم النخبة - بالقانون، فلا تتوقّعوا من عموم المجتمع الالتزام به. ندّعي أنّنا نخبة سياسيّة، أو نخبة علميّة، لكنّنا لا نهتمّ بالقانون في أمورنا وشؤوننا!

 

وفي خصوص هذه القضايا الجارية، فقد كنت مصرًّا، ولا أزال، وسأبقى مصرًّا في المستقبل أيضًا، على تطبيق القانون. أي إنّنا لن نتجاوز القانون، حتّى خطوة واحدة، قانون بلادنا، قانون الجمهوريّة الإسلاميّة. لا شكّ أنّ النظام والشعب لن يخضعوا لمنطق القوّة، مهما كان الثمن. الجهة المقابلة للالتزام بالقانون والانقياد له، هي الدكتاتوريّة. يعلم الأصدقاء -وليعلموا، إن لم يكونوا يعلمون- أنّه يوجد في قعر أرواحنا جميعًا، ميلٌ إلى الدكتاتوريّة، وعلينا قمع هذا الميل. وكما قلنا، يجب علينا ترويض هذا الفيل المخمور (المتحجّر)، القابع في داخلنا دومًا، بمطرقة القانون والدين والتعبُّد.

 

 

297

 

 


255

خطاب الولي 2009

إذا لم نعالج نحن أنفسنا، كان العلاج صعبًا. إذا لم يكن هناك انقياد للقانون، فستبرز الدكتاتوريّة، رويدًا رويدًا، والدكتاتوريّة تظهر بهذه الصورة في المجتمعات.

 

القانون للجميع

والنقطة الأخيرة -وقد ذكرتها مرارًا- هي أن تكون نظرة النوّاب المحترمين، أثناء التشريع، إلى البلد بمجموعه. طبعًا، تجب، بالتأكيد، ملاحظة مصالح مناطقهم -لا شكّ في ذلك- لكنّ تلك المصالح، يجب أن تكون ضمن منظومة النظر إلى عموم البلاد، وإلّا إذا تقرّر أن يعمل نائب الشرق لصالح الشرق، حتّى لو كان ذلك على حساب الغرب وضدّ الغرب، ويعمل نائب الغرب للغرب، حتّى لو كان عمله على خلاف مصلحة الشرق، فلن تكون هذه حالة مقبولة. أن يكون الشخص نائبًا عن منطقة الشرق أو الشمال أو الجنوب، معناه أن يُشرك الشخص حاجة منطقته التي يعرفها، عند سَنِّهِ للقوانين، لا أن يشرّع القانون لأجل تلك المنطقة فقط. القانون للجميع. هذه هي النظرة العامّة للبلاد عند عمليّة تشريع القوانين.

 

لا تسمحوا بفقدان حالة الورع والزهد

وهناك أيضًا، قضيّة الإسراف والتبذير. الإسراف في التكاليف، والإسراف في الأسفار، هذه أيضًا أمور يكتبها أو يرويها لي أحيانًا، بعض النوّاب المحترمين. عليكم أنفسكم، أن تتفطّنوا إلى هذه النقطة، ولا تسمحوا لمجلس الشورى الإسلاميّ، أن يفقد حالة الورع والزهد. يجب الالتفات جيّدًا، إلى هذه المسألة.

 

نرجو أن يوفّقنا الله -تعالى- وإيّاكم، إلى ما فيه رضاه، فلا تكون فترة المسؤوليّة هذه سببًا في ازدياد أوزارنا وأعبائنا، بل تكون، إن شاء الله، سببًا لسعادتنا وتقرُّبنا إلى الله -تعالى-، وتكون مقبولة عند الإمام المهديّ المنتظر (أروحنا فداه)، ونكون مشمولين بأدعيته عجل الله تعالى فرجه الشريف، وتكون أرواح إمامنا الجليل والشهداء الطاهرة راضية عنّا، إن شاء الله.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

298

 

 


256

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء رئيس السلطة القضائيّة ومسؤوليها

 

 

 

 

 

         

المناسبة:   ذكرى حادثة السابع من تير

الحضور:  رئيس السلطة القضائيّة ومسؤوليها

المكان:   طهران

 

الزمان:    07/04/1388هـ.ش.

05/07/1430هـ.ق.

28/06/2009م.

         

300

 


257

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أرحّب بجميع الإخوة والأخوات الأعزّاء، مسؤولي السلطة القضائيّة في البلاد المحترمين، وكذلك ذوي شهداء السابع من تير[1] الأبرار حيث اقترنَت هاتان المناسبتان معًا، بمشيئة الله، فاصطبغَت سلطتنا القضائيّة بلون الشهادة، وتضوّعَت بأريج الشهداء. وهذا شيء على جانب كبير من الأهمّيّة، إذا ما استطعنا استثماره بشكل صحيح، إن شاء الله.

 

أذكر جملة حول شهداء السابع من تير الأعزّاء، وهذه الحادثة المهمّة الخالدة. وأذكر جملة أخرى للمسؤولين المحترمين في السلطة القضائيّة.

 

شهداء ٧ تير روّادُ الطريق

الأهمّ من كلّ شيء، فيما يتعلّق بحادثة السابع من تير، هو تضحية أعزّ شخصيّات الثورة وأبرزهم. فقد ضحَّت شخصيّة، كالشهيد بهشتي، وهو عنصر لا مثيل له، أو نادر النظير على الأقلّ، في مسيرة الثورة، في سبيل خدمة الثورة، ولأجلها. وكذلك الشخصيّات الأخرى، والنخب السياسيّة، ومسؤولو الصفّ الأوّل في المؤسّسات المختلفة، والوزراء، ونوّاب المجلس، والناشطون السياسيّون في الجمهوريّة الإسلاميّة، فكلّ واحد منهم كان شخصيّة مهمّة. كنّا على معرفة قريبة بالكثيرين منهم، وعملنا مع بعضهم. إنّها لقضيّة مهمّة جدًّا أن تكون أرواح شخصيّات بهذا المستوى، محمولةً على أكفّهم، ويكونوا معرّضين للاستشهاد والتضحية في هذا السبيل! فلا يمكن للبلاد، والنظام، والحضارة، لا


 


[1] يصادف السابع من تير في التقويم الفارسيّ، ذكرى استشهاد 72 من خيرة رجالات الثورة الإسلاميّة، وعلى رأسهم الشهيد المظلوم آية الله بهشتي، رئيس المجلس الأعلى للقضاء آنذاك، في التفجير الذي طال المكتب المركزيّ للحزب الجمهوريّ الإسلاميّ، عام 1981. وبهذه المناسبة، سُمِّي هذا الأسبوع في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، بأسبوع السلطة القضائيّة.

 

 

302


258

خطاب الولي 2009

يمكن لها الوصول إلى شيء، من دون تضحيات وفداء وتقديم دماء. كان هؤلاء روّاد هذا الطريق.

 

التضحية بالأرواح تجذُّر الشجرة الطيّبة

النقطة الأخرى هي أنّ هذا النظام قدّم من جواهر النخب، للساحة وللثورة، وفقَدهم، لكنّه لم يتزلزل. الذين خطّطوا لهذه الاغتيالات، لم يكونوا يقصدون الأفراد بعينهم. كان قصدهم بالدرجة الأولى، تفريغ الثورة من ركائزها ونخبها. أرادوا تحطيم الثورة بهذه الاغتيالات، وإلحاق الخسائر بها. لكنّ هذا لم يحصل، بل حصل العكس، أي إنّ الركيزة الأساسيّة للنظام، وهي علاقة الشعب بالنظام، تعزّزَت أكثر. هذه كلّها عِبَرٌ من ثورتنا. وأقول لكم: إنّ الحال كذلك اليوم أيضًا. اليوم أيضًا، إذا ما ضحَّت شخصيّات بأرواحها، وقدّمَت أنفسها قرابين من أجل النظام، وفي سبيل الله، فإنّ هذا النظام سوف يتعزّز أكثر، وتتعمّق جذوره، كالشجرة الطيّبة التي ذكرها الله -تعالى- في القرآن: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء﴾[1]، يجب أن نربط قلوبنا بأسُس الثورة، ومبادئها، وقيمها، بهذه الطريقة.

 

والحقّ والإنصاف، أنّ للشهيد بهشتي -تلك الشخصيّة البارزة الممتازة- حقوقًا جمّة على نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، وعلى السلطة القضائيّة خصوصًا. ولقد ترك أثناء تلك الفترة القصيرة التي قضاها في السلطة القضائيّة -أي من نهاية سنة 58 (1979م)، حتّى أوائل سنة 60 (1981م)- إبداعات كثيرة، وأنجز أعمالًا عظيمة، ووضع خططًا ذات آفاق بعيدة، للسلطة القضائيّة. وقد تحرّكَت هذه السلطة، والحمد لله، وأنجزَت أعمالًا جيّدة، طوال هذه الأعوام الثلاثين. واليوم، يحصل هذا أيضًا، والحمد لله، بإرادة شخصيّة بارزة وممتازة، كحضرة السيّد شاهرودي، وهو شخص مميّز -للحقّ والإنصاف- من الناحية العلميّة، ومن حيث الأهليّة والكفاءة، على مختلف المستويات، وهو يرأس هذه السلطة، وقد تحمّل أعباءها الثقيلة طوال عشرة أعوام، أي لدورتَين من خمس سنوات.


 


[1] سورة إبراهيم، الآية 24.

 

303


259

خطاب الولي 2009

عدالة السلطة القضائيّة: العملُ بالقانون

المهمّ فيما يتعلّق بالسلطة القضائيّة، هو أن نرى لماذا نريد هذه السلطة[1]، فنقوم بالعمل على ذلك الشيء. ينبغي لجميع الأعمال أن تصبَّ بهذا الاتّجاه. السلطة القضائيّة إنّما هي من أجل العدل والعدالة. وإنّ معيار العدل ومؤشّره، هو العمل بالقانون. إذا تطابق عمل الفرد أو الجماعة مع القانون، كان ذلك عدلًا، وإذا انحرف العمل عن القانون لم يكن عدلًا. والقانون في النظام الإسلاميّ، هو أيضًا قانون إسلاميّ. طبعًا، قد يكون في منظومتنا القانونيّة بعض القوانين التي لا تتطابق مع أحكام الإسلام مئة في المئة، أو بعض القوانين المتبقيّة من العهد الماضي، أو قوانين أخرى، هذه يجب إصلاحها. المعيار هو أن تجري الأعمال طبقًا للقانون، هنا يتحقّق العدل.

 

طبعًا، ليس من السهل الوصول إلى العدالة في السلطة القضائيّة، والبنى التحتيّة التي أشار لها السيّد شاهرودي، كلّها ضروريّة ولازمة. رسم السياسات، حيث إنّ رسم السياسات بذاته، هو بنية تحتيّة برمجيّة مرنة (سوفتوير)، وإنّ اختيار السياسات الجيّدة، والأنظمة الصلبة (هاردوير) التي استُحدِثَت في السلطة القضائيّة، أو بدأ استحداثُها، كلّها ضروريّة ولازمة. بمعنى أنّ العدالة في منظومة كبيرة، كالسلطة القضائيّة، التي يُراد منها، على مستوى القطاع القضائيّ إدارة بلد يُعَدّ سبعين مليون نسمة، حيث لا يمكن تحقيقها بالمجاملات والكلام، ممّا يحتاج إلى هذه المقدّمات والبنى التحتيّة. إذًا، ما تمّ إنجازه من هذه البنى التحتيّة - سواء البرمجة الناعمة منها، أو الصلبة - قيِّم، ويجب معرفة قدره. وسوف تستمرّ هذه السياسات بهذا الشكل الصحيح، إن شاء الله. والواقع أنّه من الضروريّ، أن أتقدّم بالشكر إلى شخصه، وأيضًا -كما أشار هو نفسه - إلى المسؤولين الكبار في السلطة القضائيّة، وفي أقسامها المختلفة، حيث بذلوا جهودًا كبيرة جديرة بالتقدير.


 


[1] ما هي غاية هذه السلطة ومقاصدها.

 

 

304


260

خطاب الولي 2009

المؤمن الحازم ضمان العدالة

لكنّ النقطة المهمّة هي أنّه على الرغم من أنّ تأمين العدالة العامّة والشاملة منوطٌ بهذه البنى التحتيّة، فإنّ وجود هذه البنى لا يعني، بالضرورة، استقرار العدالة. قد تتوفّر لدينا هذه الأمور، من دون أن تتوفّر العدالة، هذا ما ينبغي الحذر منه. ما يضمن العدالة، هو الإنسان المؤمن، الحازم، العازم، ذو الإرادة، والخائف من الله، الذي يخاف الله ولا يخاف أحدًا سواه. ﴿فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ﴾[1]، هذا ما يقوله الله -تعالى- في القرآن. إذا كان هذا يمكن، عندئذٍ، بواسطة هذه الأجهزة المتنوّعة والعصريّة والجيّدة، بلوغ العدالة بنحو تامٍّ. وإذا لم تكن مثل هذه الإرادة، أو كانت ضعيفةً أصابها الخلل، فإنّ أيًّا من هذه الأجهزة لن تضمن العدالة بشكلٍ تلقائيّ، بل قد تكون أحيانًا، أرضيّةً لانعدام العدالة. هذا هو أساس القضيّة.

 

الكلام سهل، لكنّ الالتزام صعب

النقطة الأساسيّة التي أقولها لكم، أنتم مسؤولي السلطة القضائيّة المحترمين، في هذه اللقاءات السنويّة، وفي لقاءات أخرى خاصّة مع أقسام أخرى من السلطة القضائيّة هي: يجب علينا أن ننظر، لنرى: هل أنّ حصيلة أعمالنا هي العدالة، أم لا؟ إذا كانت (النتيجة) هي العدالة، فسنكون، عندها، مرفوعي الرؤوس أمام الله، وأمام أنفسنا، وأمام الناس. أي إنّنا حينما نطبّق العدالة، صحيحٌ أنّ شخصًا سيفرح لحكمنا، وسيسخط شخصٌ آخر -هذا هو الحال حتمًا، حينما يُصدر الإنسانُ حكمًا، فسيفرح طرف، وسيسخط الطرف الآخر- ولكن حتّى الطرف الساخط، سيكون راضيًا في قرارة قلبه. وإذا لم نعمل بالعدالة، فحتّى الطرف الذي كان حُكمنا لصالحه، سيفقد إيمانه القلبيّ بنا، وسينظر إلينا نظرة استهزاء، وسيضحك علينا في قرارة نفسه. هذه هي المسألة الأساسيّة.

 

ينبغي أن تتركّز المساعي كافّة على هذا الشيء. والعدالة من الأمور التي قيل


 


[1] سورة المائدة، الآية 44.

 

 

305


261

خطاب الولي 2009

 فيها: "فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ"[1]، التحدُّث به سهل، والالتزام به صعب، بل صعب جدًّا. يواجه الإنسان عقبات كأداء، وإذا لم يكن ثمّة عزيمة راسخة، وتوكُّل على الله، فسوف يعجز الإنسان عن مواصلة الطريق. هذا ما ينبغي بثّه دومًا في السلطة القضائيّة، ينبغي بثّ هذه الروح، وإفشائها في كلّ مفاصل السلطة القضائيّة ومواقعها، باستمرار، وهي أنّ واجبنا هو التناصف وتحقيق العدل.

 

والحالة الأصعب من العدل، حينما يكون الطرف المقابِل للعدل، هم الأقوياء. فلا يخضعون، ويفرِضون منطق القوّة، وتكون لهم توقُّعات (وآمال)، هنا ينبغي الصمود والثبات. هذه هي ميزة القاضي واستقلاله: أنْ لا يأخذ بعين الاعتبار، في مثل هذه الأحوال، سوى الله ونصّ القانون. إذا كان القانون مِلاك العمل في جميع القضايا الفرديّة والاجتماعيّة، فسوف يتمّ تأمين العدالة.

 

لا تعملوا على التحريض!

وحول هذه القضايا الأخيرة، قلت: إنّني أعارض أن نقسِّم أبناء بلدنا وجماهيرنا العزيزة إلى قسمين، ونضع جماعة في مواجهة جماعة. ليست القضيّة على هذه الشاكلة. ليست أذواق الناس وتصوّراتهم ونظراتهم واحدة، في كثير من الأمور، لكن هذا لا يعني الاحتكاك والتزاحم والتعارض والعراك. يجب أن لا نحرّض جماهيرنا على الاشتباك فيما بينها. إنّني أنصح الجانبَين: لا تثيروا مشاعر الشباب، ولا تجعلوا الجماهير بعضهم في مواجهة بعض. الشعب متّحد، ولديه إيمان، وله علاقاته الطيّبة الحسنة بالنظام. ومؤشّر هذه العلاقات الحسنة: المشاركة في الانتخابات. لو لم يكونوا متفائلين آمِلين، وحسني الظنّ، ولو لم تكن لديهم الثقة، لَما جاؤوا للمشاركة في الانتخابات. إذًا، ليس للشعب أيّة مشكلة مع نظامه. ينبغي عدم تقسيم هذا الشعب إلى جزأَين، وتحريض جزء على آخر.

 

هنا أيضًا، يوجد معيار قانونيّ لحلّ القضايا وفصلها. إذا لم يحكم القانون، فإنّ ما سينـزل بالجميع، نتيجة غياب القانون، لَأشدّ مرارة بكثير، ممّا قد يسبّبه تطبيق


 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص332-333.

 

 

306


262

خطاب الولي 2009

 القانون، من مرارة، لدى بعضهم، "ومَنْ ضَاقَ عَلَيْه الْعَدْلُ، فَالْجَوْرُ عَلَيْه أَضْيَقُ"[1]، العدل هو مراعاة القانون، إذا شعرنا بالضيق من مراعاة القانون، ولم نشأ الخضوع له، فإنّ ما سينـزل بنا نتيجة اللاقانون، أسوأ وأصعب مرّاتٍ، من مرارة الصبر على القانون. هذا ما يجب أن يلتفت إليه الجميع.

 

شعبنا، بتوفيقٍ من الله وهدايته، وبعونه، شعبٌ مؤمنٌ واعٍ، وحاضرٌ في الساحة، ومستعدٌّ للعمل أينما اقتضت الضرورة. علينا نحن إصلاح أنفسنا. على النخب والخواصّ السياسيّين، التدقيق في سلوكهم ومواقفهم وكلامهم. هذا خطاب لكلّ النخب، وليس لطرف أو تيّار محدّد. على الجميع مراعاة الدقّة والحذر، وعلى الكلّ أن يعلموا أنّ هذا الشعبَ شعبٌ متلاحم، ولا جدوى من تحريض مشاعر هذا الطرف على ذاك، أو إثارة مشاعر ذاك الطرف ضدّ هذا. حينما تكونون متّحدين ومتعاطفين، وعندما تشعرون بالثقة ببلادكم ونظامكم، وتُبرِزون هذه الثقة، حينئذٍ، لن تؤثّر وساوس الخنّاسين الدوليّين، والساسة الظالمين المتدخِّلين (في شؤون غيرهم)، البعيدين عن الإنسانيّة.

 

نواياهم السيّئة واضحة

ترون أنّ بعض الزعماء في العالم -من الأمريكيّين، إلى بعض الأوروبّيّين- كأنّما انتهَت جميع مشكلاتهم، ولم يبقَ لهم إلّا مشكلة إيران! يتشدّقون حول قضيّة داخليّة شعبيّة، تتعلّق بشعب إيران مئة في المئة، ويطلقون كلامًا سخيفًا، غافلين عن أنّهم، في نظر الشعب الإيرانيّ، حيثما وضعوا أقدامهم، في أيٍّ من المواقف السياسيّة، فسوف تتنجّس تلك البقعة.

إنّ تحيّزاتهم تؤتي نتائج عكسيّة تمامًا. يسأل الناسُ أنفسَهم: ما الذي جعل هؤلاء الأعداء الذين عملوا ضدّ الثورة الإسلاميّة مدّة ثلاثين سنة، واستخدموا كلّ الأدوات والإمكانات ضدّ هذا البلد، وضدّ هذا الشعب، ما الذي جعلهم الآن مخلصين عطوفين؟ يدرك الناس المؤامرة والممارسات الخبيثة، وهذه هي مشكلتهم، لو كانوا يواجهون شعبًا غافلًا خاملًا، لَما واجهتهم مشاكل، لكنّهم يواجهون شعبًا يقظًا ذا تجربة.


 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص57.

 

 

307


263

خطاب الولي 2009

إنّ تجاربنا على مدى ثلاثين سنة، جعلَت الشعب واعيًا، وهذا ما يعلمونه. إنّها الدول والحكومات نفسها، التي حينما ارتُكِبَت الجرائم ضدّ هذا الشعب، طوال ثمانية أعوام من الدفاع المقدّس، وقُصِفَت المدن، وهُدِمَت البيوت، وأُلقِيَت القنابل الكيمياويّة، وقُتِل الناس الأبرياء، لم تتألّم قلوبها لشعب إيران، بل ساعدَت عدوّ هذا الشعب. لقد شاهد شعبنا هذا الواقع. هذه أمور لا تُنسى. وقد أصبحوا اليوم مخلصين عطوفين! يشاهد الشعبُ سلوكَهم مع الشعوب المظلومة التي غرسوا أظافرهم فيها، كشعب أفغانستان، وشعب العراق، وشعب باكستان، وشعب فلسطين. فإلى أيّ موضع وصلَت قبضاتهم ونشبوا أظافرهم، حيثما استطاعوا ذلك، ألحقوا الأضرار. هؤلاء لا يرحمون الناس، وحبُّ الناس بعيدٌ عنهم. والآن، يتحيّزون لشعب إيران، أو لشخصٍ أو لأشخاص داخل البلد! فأغراضهم ونواياهم السيّئة من هذه الممارسات، واضحة. هذا شيء يفهمه الشعب. إذا كنتم متّحدين ومتعاضدين، وإذا حافظتم على روح القوّة والثبات التي منحتها الثورة لشعبنا، فصانت الشعب على مدى ثلاثين سنة، ﴿لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡ‍ًٔاۗ﴾[1]، فإنّ عداءهم لن يؤثّر فيكم، ولن يستطيعوا إلحاق الضرر بشعب إيران.

 

أسأل الله -تعالى- التوفيق لكم جميعًا، أيّها الإخوة والأخوات، والمسؤولون المحترمون في مختلف الوظائف، الخاصّة والعامّة، الملقاة على عواتقنا، وأرجو أن تشمل الأدعية الزاكية لسيّدنا بقيّة الله (أرواحنا فداه)، شعبَ إيران، إن شاء الله، وأن تكون الروح الطاهرة لإمامنا الجليل، وأرواح الشهداء الأبرار، وشهداء السابع من تير، راضية عن أفعالنا وأقوالنا، إن شاء الله.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 


 


[1] سورة آل عمران، الآية 120.

 

 

308


264

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

بمناسبة ولادة الإمام عليّ عليه السلام

 

 

 

         

المناسبة:   ولادة الإمام عليّ عليه السلام

الحضور:  جمع من أبناء الشعب

المكان:   طهران

 

الزمان:    15/04/1388هـ.ش.

13/07/1430هـ.ق.

06/07/2009م.

         

 

 

310

 


265

خطاب الولي 2009

أبارك هذه الولادة السعيدة، والحقّ أنّ ذكرى هذا اليوم، عزيزة على جميع الأحرار في العالم. كلُّ مَن يعرف عليَّ بن أبي طالب عليه السلام، ولو من بعيد، سيشعر بالفرحة، يقينًا، في ذكرى ولادة رجل الخلقة العظيم. نحن المسلمون، ولا سيّما شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، علينا واجبات ومسؤوليّات حيال هذه الشخصيّة العظيمة.

 

منزلة أمير المؤمنين عند الله ورسوله

إنّ منـزلة الإمام عليّ بن أبي طالب عند الله -تعالى-، قد تحقّقَت له في ظلّ جهاده، وعبادته، وتضحياته. الله -تعالى- وقبل خلقة هذه الشخصيّات الكبيرة، يعلم بنتائج امتحانه لهم. وإنّ ثواب تلك الاختبارات، هو الطينة الطاهرة والخلقة الممتازة، والخصال التي جمعها الله -تعالى- في هذا الوجود المقدّس وسائر المعصومين عليهم السلام. هذه الخصال هي التي تُكسب أمير المؤمنين تلك المرتبة والمنـزلة السامقة، في نظر النبيّ الأكرم.

 

وردَت في روايات أهل السنّة، مسائل حول محبّة الرسول لأمير المؤمنين (عليهما الصلاة والسلام)، يجدر بجميع المسلمين التدبّر والاهتمام بها. ففي سنن الترمذيّ -وهو من صحاح أهل السنّة الستّة- رواية عن أمّ المؤمنين عائشة، أنّها قالت: "ما خَلقَ اللهُ خلقًا أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مِن عليٍّ"[1]، أي إنّها تشهد بعدم وجود أيّ إنسانٍ بين الخلائق، أحبّ عند الرسول، وأكرم في عينه، من الإمام عليّ.


 


[1] راجع: الترمذيّ، أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة، الجامع الصحيح (سنن الترمذيّ)، تحقيق وتصحيح عبد الوهّاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج5، ص362.

 

312


266

خطاب الولي 2009

وفي رواية أخرى، يروي أحمد بن حنبل -وهو من أئمّة أهل السنّة الأربعة- عن أسماء بنت عميس، قولها: إنّ رسول الله رفع يدَيه بالدعاء، وقال: "اللهمَّ، إنّي أقولُ لكَ، كما قالَ أخي موسى: اِجعَلْ لي وَزيرًا مِنْ أهلي، عليّ أخي، اشدُد به أزري، وأشرِكهُ في أمري، كي نسبّحَك كثيرًا، ونذكرَك كثيرًا"[1].

 

هذه حقائق قائمة أمام أعين العالم الإسلاميّ. تلك المقامات المعنويّة لأمير المؤمنين، وذلك القرب من الله -تعالى-، وتلك القدرة المسيطرة التي منحها الله -تعالى- لهذه الذوات المقدّسة، كلّها أمور خارجة عن إدراك أمثالنا. إلّا أنّ هذه الأمور هي أمام أعيننا، هذا ما يراه الجميع ويفهمه. الإمام عليّ هو المثال الأعلى للتربية الإسلاميّة. أمضى فترة جهاد وقتال، وأمضى فترة غربة، وأمضى أيضًا فترة حكم وإدارة. كلّ واحدة من هذه الأمور فيها دروس جمّة للأمّة الإسلاميّة، إذا ما عملنا بها اليوم، سينفتح أمامنا الصراط المستقيم، صراط عملنا، الهداية والتكامل والتسامي. ينبغي أن نستفيد وننهل هكذا، من هذه المناسبات. ينبغي استلهام هذه الدروس.

 

مناقب عليّ عليه السلام

إنّ سطرًا واحدًا من سطور هذا السفر الضخم، الذي يروي مناقب أمير المؤمنين عليه السلام، هو أنّه كان يهتمّ طوال عمره الحافل، بأمورٍ، منها العدالة والوحدة. هذه دروس لنا. كانت وحدة الأمّة الإسلاميّة مهمّةً بالنسبة إلى الإمام عليّ. وكان مهمًّا بالنسبة إليه تكريس العدالة في الأمّة الإسلاميّة. يتجلّى طلبه للحقّ في كِلا الموقفَين:

حينما يصبر (من جهة)، على أصعب امتحانات حياته، من أجل العدالة، و(يصبر) على ذلك الجهاد المرير، وتلك الحروب التي فُرِضَت عليه، فقد صبر على ثلاثة حروب، أثناء فترة حكمه القصيرة، لأنّه كان ينشد العدالة، وكان ينبغي، بكلّ حزمٍ، بلوغ الحق.

 

(ومن جهة أخرى)، حينما يغضّ الطرف في سبيل الله، ومن أجل مصالح الإسلام ووحدة المسلمين، عن الحقّ الذي كان مسلَّمًا به أنّه له، ولم يقف موقف المعارض، بل حمى المسلمين، والمجتمع الإسلاميّ، والوحدة الإسلاميّة: "فَأَمْسَكْتُ يَدِي، حَتَّى رَأَيْتُ


 


[1]  ابن حنبل، أحمد، فضائل الصحابة، دار ابن المجوزيّ، لا.م، 1999م، ط2، ج2، ص844، الحديث 1158.

 

313


267

خطاب الولي 2009

رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم"[1]، أي إنّني وجدت أنّ القضيّة هي قضيّة الإسلام، والمصالح الإسلاميّة، ومصالح المجتمع الإسلاميّ، وعندئذٍ، لم أرَ الصمت جائزًا، بل خضتُ الساحة، من أجل تحقيق الوحدة. هذا يختصّ بالفترة الأولى بعد رحيل الرسول، ومحنة أمير المؤمنين. حينها أيضًا، تابع الحقّ، وطلبه بكلّ حسم. الحقّ هنا، هو الوحدة. هذه دروس لنا.

 

تلقّى المجتمع الإسلاميّ الضربات في كلّ العصور، نتيجة انعدام العدل. وتلقّى الضربات، نتيجة التشتُّت، والنفاق، والتفرقة، واصطفاف بعض في مقابل بعض. فقد تكبَّد العالم الإسلاميّ خسائر، نتيجة هذه الأمور. كلّما راجعتم تاريخ الإسلام، في القرون الأخيرة منه، وجدتم هذا المعنى بصورة أوضح. العالم الإسلاميّ بحاجة إلى الاتّحاد، وأمير المؤمنين سبب وحدة العالم الإسلاميّ. يريد أعداء الإسلام بثّ الخلافات بين الطوائف الإسلاميّة، بذريعة أمير المؤمنين، الذي هو نفسه عامل وحدة واتّحاد. على العالم الإسلاميّ أن يتنبّه لهذه الأمور.

 

الوحدةُ قوّةٌ واقتدار

لاحِظوا الأشخاص والأيادي التي تبثّ الخلافات اليوم، وتروِّج الاتّهامات والإساءات إلى الشيعة، من أجل إيجاد الخلاف بين الشيعة والسنّة. والأمر نفسه من الجانب الآخر، ثمّة أشخاص من هذا الجانب، يثيرون ويجرّحون ويسيئون إلى مشاعر أخوتهم المسلمين. على العالم الإسلاميّ أن يتّحد، العالم يحتاج اليوم إلى هذا. وإنّ احتياجات المجتمع الإسلاميّ تُوجب اليوم، تكاتُف المجتمعات الإسلاميّة، وتعاضُدها، واتّحادها، وأن لا تسمح للأعداء باستغلال ضعفها، الأعداء الذين يفتقدون القوّة، بشكلٍ طبيعيّ. ما هي إسرائيل؟ ليس العدوّ الصهيونيّ بشيءٍ يُذكَر، مقابل مليار ونصف مليار مسلم. إنّ وجود الاختلاف في العالم الإسلاميّ -هذا الضعف الموجود في داخل العالم الإسلاميّ- يمنح العدوّ الضعيف القدرة على أن يجد سبيله، ويكسب أنصارًا له بين الإخوة المسلمين.


 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص451.

 

 

314


268

خطاب الولي 2009

ينبغي للشعب الإيرانيّ أيضًا، الالتفات إلى هذه النقطة. نحن شعب متّحد، لقد وحّدَنا الإسلام، وأيقظَتنا الثورة، وقرّبَت بين قلوبنا، ونسجَت محفّزاتنا ودوافعنا، وربطَتها بعضها ببعضٍ، فأصبحنا قبضةً قويّةً ومقتدرةً، مقابل أعداء النظام الإسلاميّ، وأعداء الإسلام والمسلمين، وأعداء إيران. يترصّد الأعداء، كي يفسدوا اتّحاد الكلمة هذه، ويزرعوا النفاق والاختلاف بين الناس، ويجعلوا الإخوة، بعضهم مقابل بعض. على شعب إيران التحلّي باليقظة.

 

انتخابات ٢٢ خرداد إنجازٌ قَلّ نظيره

في ما يتعلَّق بالانتخابات الحماسيّة التي أُقِيمَت في الثاني والعشرين من خرداد، وكانت تحرّكًا عملاقًا مِن قِبَل الشعب الإيرانيّ، وعملًا كبيرًا تمّ إنجازه. هذه المشاركة، التي بلغَت على وجه التقريب، أربعين مليون نسمة -أي نسبة 85 في المئة ممّن لهم حقّ الاقتراع، أدلوا بأصواتهم- تُعَدّ من الأرقام المنقطعة النظير في العالم. لقد وفّر هذا الأمر الكثير من السمعة لشعب إيران، وأوجد له الكثير من الاقتدار، فقد غدا سمعةً للثورة، ودلَّ على أنّ الثورة، بعد مضيّ ثلاثين عامًا، لا تزال قادرة على تعبئة الشعب بهذه الصورة. شمَّر الأعداء عن سواعدهم، ليبثّوا الخلافات بين الناس، وقد نجحوا إلى حدّ ما. لكن على الشعب أن يُحبِط تحرّكات الأعداء.

 

انتخابات الجمهوريّة الإسلاميّة شأنٌ إيرانيّ!

يتّبع نظام الجمهوريّة الإسلاميّة سياسةً واضحة. وإنّ التنافس بين مرشّحي رئاسة الجمهوريّة، هو، باعتقادنا وفي نظرنا، تنافسٌ داخل العائلة الواحدة، وقد يؤدّي إلى الغضب أحيانًا. أحيانًا، قد يقف الإخوان أيضًا، أحدهما في وجه الآخر، داخل العائلة، فما علاقة ذلك بالعدوّ؟ وما علاقة الأجنبيّ بهذا الشأن؟ إنّ هدف الأجانب الذين تغلغلوا في هذه القضيّة، على شتّى المستويات السياسيّة والإعلاميّة، هو خلق الشقاق والاختلاف، وإيجاد الصدع. فإنّ تدخُّل بعض ساسة البلدان الغربيّة، على مستوى رئيس جمهوريّة، ورئيس وزراء، ووزير خارجيّة، ومسؤولين آخرين، قد تدخّلوا بصراحة في شأنٍ داخليٍّ للشعب الإيرانيّ. وما شأنكم أنتم (أيها الأجانب)؟ لماذا تتدخّلون في

 

 

315


269

خطاب الولي 2009

قضيّة تتعلّق بالشعب الإيرانيّ؟ فهؤلاء يتدخّلون، ثمّ يقولون: نحن لا نتدخّل. فإذًا، ما معنى التدخُّل؟ أليس التشجيع على الشغب تدخُّلًا؟ أليس وصفُ الشعب الإيرانيّ بالمخرّبين تدخُّلًا؟ أليست هذه إهانة؟ هناك فئتان: فئة منحَت أصواتها لمرشّحٍ، وفئة لمرشّح آخر، وهناك أكثريّة وأقليّة، وهناك قواعد، ومن الطبيعيّ أن يكون الذين لم يفز مرشّحهم بأكثريّة الأصوات، (أن يكونوا) مكتئبين ويشعرون بالمرارة، لكن هذا لا يعني الشغب. هؤلاء ليسوا مثيري شغب وتخريب، فالمخرّبون محدودو العدد، وهم الذين يستهلكون الميزانيّة التي رصدَتها بعض البلدان الغربيّة، من أجل بثّ الخلافات داخل إيران. هؤلاء هم المخرّبون.

 

يحاولون في وسائل الإعلام الأمريكيّة والأوروبّيّة -وغالبيّتها خاضعة لهيمنة الصهاينة، وعداؤها لشعب إيران والإسلام ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة، شديد- أن يقولوا: بأنّ المخرّبين هم طيف وجماعة من الشعب الإيرانيّ.

 

إنّنا نحذّر! الشعب الإيرانيّ يحذّر رؤساء بعض البلدان التي تحاول استغلال قضيّة داخليّة لبلادنا، ضدّ شعب إيران، ويقول لهم: احذروا! فالشعب الإيرانيّ سيُظهر ردّة فعله.

 

أوّلًا، ليعلم الجميع، وليعلم زعماء البلدان المستكبرة، وليعلم الفضوليّون المتدخّلون في شؤون الجمهوريّة الإسلاميّة، أنّ الشعب الإيرانيّ، حتّى لو ظهر بينه اختلاف في داخله، حينما تتدخّلون أنتم، (يا) أعداء الشعب الإيرانيّ، في القضيّة، فإنّه يتّحد بعضه مع بعض، ويتحوّل الجميع يدًا واحدة، وقبضة واحدة ضدّكم.

 

ليست القضيّة حيث تتوهّمون أنّكم إذا دافعتم عن تيّار معيّنٍ، فسوف يميل ذلك التيار نحوكم، أبدًا! لدينا تجربة ثلاثين عامًا. فقد سجّل هذا الشعب في ذاكرته، عداواتكم، طوال ثلاثين عامًا. يفهم الشعب ما الذي تريدون فعله، وما الذي تفعلونه حاليًّا.

 

(هؤلاء الأعداء) يذكرون أسماء بعضهم، ويقولون: إنّنا ندافع عنهم. إنّهم يكذبون، فهم لا يدافعون عنهم، بل يقصدون إفشاء الخلافات، وبثّ الظنون السيّئة بين (أفراد) الشعب الإيرانيّ والنخبة الإيرانيّة. إنّهم يكذبون.

 

 

316


270

خطاب الولي 2009

نظام الجمهوريّة الإسلاميّة متجذّرٌ ثابت

ما هو الموجود في قلوبهم الطافحة بالضغينة، هو آمالهم بزوال هذا النظام المستقلّ، وهذا المجد والعزّة الشامخة، عن هذا البلد الصامد بوجه تعسّفهم، هذا هو أملهم. ليست القضيّة أنّهم إيجابيّون مع زيد في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، وسلبيّون مع عمرو. كلّا، كلّ من يلتزم بهذا النظام، وبدستور البلاد، وبمبادئ الشعب الإيرانيّ، فهو عدوٌّ من وجهة نظرهم. إنّهم يريدون زوالَ الجمهوريّة الإسلاميّة، وسيادة نظام عميلٍ مطيعٍ منقادٍ لهم في هذه البلاد، كما كان الوضع في العهد السابق، هذا ما ينشدونه. هذه هي أضغاث أحلامهم الباطلة.

 

ثلاثون عامًا من تجربة صمود نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، لم توقظهم حتّى الآن، ولم تُعِدهم الصفعات التي وجّهها هذا الشعب إلى زعمائهم العتاة المعتدين، إلى صوابهم، وإلى رشدهم. لا يزالون يطمعون في بلادنا وشعبنا. هم مخطئون. هم مخطئون. وسوف ينالون جزاء خطئهم هذا، بلا شكّ.

 

سوف نجعل لهذه التصريحات والسلوكيّات العدوانيّة، التي صدرَت من هذه الحكومات، حسابًا، ونسجّلها في ملفّهم، ليعلموا هذا! وسوف يترك هذا السلوك والتدخُّل السافر، تأثيره السلبيّ على مستقبل علاقات الجمهوريّة الإسلاميّة، وتعاملها مع هؤلاء المتدخّلين. ليعلموا هذا، وليفهموه. ليس الشعب الإيرانيّ شعبًا يرضخ لمنطق القوّة. الشعب الإيرانيّ شعب مقتدر. إنّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة نظامٌ متجذّر (وأصله) ثابت، وإنّ مسؤولي الجمهوريّة الإسلاميّة هم كلمة واحدة، ويد واحدة، في وجه العدوّ، ومن أجل صيانة استقلال هذا البلد، حتّى لو كان بينهم مئة اختلاف. ليعلم الأعداء هذا، ولا يتوهّموا أنّهم قادرون على إيجاد شرخ بين الشعب.

 

ومع الأسف، فإنّ هذه الأجهزة الإعلاميّة المخرّبة، والمعاندة للجمهوريّة الإسلاميّة ولشعب إيران، لها أذنابها داخل البلاد. وهذه الأذناب ليست وليدة اليوم أو البارحة، فقد كانت مثل هذه الأمور منذ فترة الدفاع المقدّس. وإنّ على أولئك (أيّ الأذناب) أيضًا، أن يصحوا ويعلموا أنّ دعم هذه الذئاب المفترسة، لن ينفعهم شيئًا. إنّهم يفكّرون بأنفسهم وبمصالحهم. يستخدمون البشر لمصالحهم، كما استخدموا محمّد

 

 

317


271

خطاب الولي 2009

رضا وصدّامًا، وحينما تنتفي الحاجة إليه، يعكشونه[1]، كالمنديل القذر، ويرمون به بعيدًا، مثلما حدث لمحمّد رضا في فترة نكبته، وكما حدث لصدّام في فترة فضيحته ونكبته.

 

لا يميلَنّ قلبُ أحدٍ إليهم

الشعب يقظ، والنخبة واعية. مع الأسف، هناك عدد قليل تميل قلوبهم إليهم، وينخدعون بخداعهم. وإنّ انخداع هؤلاء يبعث إشارات خاطئة إلى أولئك، فينخدع أولئك أيضًا، بخداع هؤلاء. أمّا الشعب، فهو يقظٌ، ويجب أن يكون يقظًا. إنّ وصيّتي للشعب الإيرانيّ كلّه، هي:

إنّ ما هو ضروريّ اليوم، أكثر من أيّ شيء آخر، هو اليقظة، ومعرفة الصديق والعدوّ. حذار من الخلط بين الصديق والعدوّ! حذار أن تعامِلوا الصديق معاملة العدوّ! هذا خطابٌ لكلّ التيّارات.

 

من الطبيعيّ أن يواجه النظامُ الإسلاميّ المخلّين بأمن الشعب، فهذا واجب النظام. النظام الإسلاميّ لا يسمح لبعض الأشخاص بالوقوع في خديعة العدوّ ومؤامراته، وتخريب حياة الناس، وسلب هدوئهم واستقرارهم، وتهديد شباب الشعب. أبناء هذا البلد أعزّاء، الكلّ أعزّاء (لهم كرامتهم)، ولن يسمح النظام بهذا. ولكن، على الجميع أيضًا، التنبُّه لهذه النقطة: حذار من أن نخلط العدوّ بالصديق، ونعتبر الصديق عدوًّا بسبب خطأ من الأخطاء، ويعتبرَ بعضُهم -من جانب آخر- العدوَّ اللدودَ المعاندَ صديقًا، فيُصغوا إليه، ويهتمّوا بقوله.

 

كان العدوّ يأمل، من الفتن التي أشعلها، أن يستطيع التصيُّد في الماء العكر. وقد انتهت هذه الفتن، والحمد لله. وإنّ أيّ فتنة مقابل الحقّ، ومقابل الشعب اليقظ، سوف تنتهي، وسوف تسكن الغبرة. هكذا هي الحال دومًا.

 

سوف تزول الهوامش التي أوجدها بعض الأعداء والغافلين، ويبقى أساس القضيّة. أساس القضيّة هو أنّ قُرابة أربعين مليون إنسان من الشعب الإيرانيّ، شاركوا في

 

 


[1] يجمعونه كيفما كان.

 

318


272

خطاب الولي 2009

انتخابات عظيمة. هذا هو أصل القضيّة، وهذه هي حقيقة القضيّة.

 

أربعون مليونًا، بعد مرور ثلاثين عامًا على الثورة، قد أظهروا، بمشاركتهم، ثقتهم بالنظام، وأملهم بالمستقبل. هذا ما سوف يبقى. أصل القضيّة هو أنّ رئيس الجمهوريّة انتُخِب بأكثر من أربعة وعشرين مليونًا من أصوات الشعب. هذه الأمور هي أصل القضيّة. وإنّ الهوامش والأغبرة والرتوش والممارسات والأقوال التي تُفرح الأعداء، سوف تنتهي، لكن هذه الحقيقة سوف تبقى. ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾[1].

 

فليشكرْ كلٌّ على طريقته

طبعًا، على المسؤولين وعلى رئيس الجمهوريّة المنتخَب أيضًا، أن يعرفوا قدر هذا الإقبال الشعبيّ. وإنّ تقديم الشكر لهذا الإقبال الشعبيّ، عبارة عن الخدمة الكاملة والشاملة لحلّ مشكلات الشعب، والسعي للتقدُّم بالبلاد، والحفاظ على اتّحاد الشعب الإيرانيّ الكبير. هذه حقائق موجودة. لقد أنجزتم، أيّها الشعب الإيرانيّ، عملًا كبيرًا في هذا المقطع من الزمن. قمتم بتحرّك كبير، وسوف يمنُّ الله -تعالى-، بحوله وقوّته، ببركاته على هذا التحرُّك، فيتقدّم إلى الأمام.

 

إنّ شكر المسؤولين هو الخدمة، وشكرَ الشعب هو حفظ الوحدة، حفظ الوحدة، وحفظ اليقظة، وحفظ الأخوّة، وأن ينظر بعضنا إلى بعض بعين الشفقة. يريد العدوّ لهذا الأمر أن لا يكون. حاوِلوا أن تفعلوا ما يُغضِب العدوّ، وما يُفرحُ القلبَ المقدس للإمام المهديّ (أرواحنا فداه) هو الوحدة والودّ والتعاون والنشاط والحركة الثوريّة للشعب الإيرانيّ.

 

نتمنّى أن تشملكم، جميعًا، أدعية الإمام المنتظر، وستكون الروح الطاهرة للإمام الجليل، وأرواح الشهداء الطيّبة، راضيةً عنّا، جميعًا، إن شاء الله.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 


[1] سورة الرعد، الآية 17.

 

 

319


273

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

بمناسبة ذكرى المبعث النبويّ الشريف

 

 

المناسبة:   ذكرى المبعث النبويّ الشريف

الحضور:  جمع من أبناء الشعب

المكان:   طهران

 

الزمان:    29/04/1388هـ.ش.

27/07/1430هـ.ق.

20/07/2009م.

         

 

321

 


274

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أبارك هذا العيد الكبير، وهو عيدٌ لكلّ البشريّة، وليس للأمّة الإسلاميّة فقط، وأتمنّى أن يبارك الله هذا العيد عليكم، أيّها الحضور المحترم، وأيّها الضيوف الأعزّاء، وأيّها الشعب الإيرانيّ العزيز، وجميع الشعوب المسلمة والبشريّة بأسرها.

 

أبعاد البعثة

إنّ قضيّة بعثة النبيّ المكرّم، التي قالت ألسنتنا وأذهاننا القاصرة حولها: الكثير -وقال الجميع حولها: ما قالوا- هي في الحقيقة، ميدانٌ عظيمٌ، ليس بالإمكان بيان أبعاده في القريب العاجل. كلّما تقدَّم الزمن ومرَّت الأيّام، وأدركَت البشريّة، بتجاربها المختلفة، نواقصَ حياتها، والآفات التي تهدّدها، (كلّما حصل ذلك)، تجلّت لها الأبعاد المختلفة لبعثة النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم. هذه البعثة، في واقع الأمر، هي دعوة الناس إلى ميدان التربية العقلانيّة، والتربية الأخلاقيّة، والتربية القانونيّة. هذه هي الأمور التي تحتاجها الحياة البشريّة الهادئة، والمتّجهة نحو الكمال.

 

1. التربية العقلائيّة

التربية العقلانيّة، بالدرجة الأولى، بمعنى استخراج قوى العقل الإنسانيّ وجعلها سائدة على أفكار الإنسان وأعماله، ورفع (وحمل) الإنسان لمشعل العقل البشريّ، كي يتمكّن بهذا المشعل، من تشخيص الطريق والسير فيه. هذه هي المسألة الأولى وهي المسألة الأهم. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ قضيّة العقل مطروحة، بالدرجة الأولى، في بعثة الرسول، وكذا قضيّة العلم، فإنّه كلّما نظرتم في كلّ القرآن الكريم والتعاليم النبويّة غير القرآنيّة، وجدتم التشديد على العقل والتأمُّل والتدبُّر والتفكُّر وما شابه. وحتّى في يوم القيامة، يقول القرآن، عن لسان المجرمين: ﴿لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ

 

323

 


275

خطاب الولي 2009

ٱلسَّعِيرِ﴾[1]، السبب في إلقائنا في نار الجحيم، هو أنّنا لم نراجع عقولنا، ولم نسمع، ولم نوجِّه قلوبنا، لذلك، ابتُلينا اليوم -يوم القيامة- بمصيرٍ مريرٍ أبديّ.

 

الدعوة إلى العقل، بالدرجة الأولى، مشهودة في سير جميع الأنبياء، وفي حيوات الرسل كلّهم، فهي غير مختصَّة بالرسول الخاتم. وهي طبعًا، دعوة برزَت بصورة أقوى وأوضح، في الإسلام. من هنا، يقول الإمام عليّ عليه السلام، في تعليله بعثة الأنبياء عليهم السلام: "لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه"، إلى أن يقول: "ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ"[2]، يستخرجون كنوز العقل. كنوز العقل هذه، موجودة في دواخلنا، أنا وأنتم. مشكلتنا هي أنّ مثَلنا مثَل ذلك الشخص النائم على كنـز، وهو لا يدري به، ولا ينتفع منه، فيموت من الجوع. هكذا هو حالنا. حينما لا نرجع إلى العقل، ولا نحكّمه، ولا نربّيه، وننضجه، ولا نسلِّمه زمام النفس، فسيكون هذا هو حالنا.

 

إنّه كنـزٌ موجود لدينا، لكنّنا لا ننتفع منه. وعندما نعاني من كثيرٍ من المشكلات في حياتنا الدنيا، وفي حياتنا الآخرة، فهذا نتيجة لا عقلانيّتنا، ونتيجة جهلنا وتبعاته العديدة. لهذا، يقول نبيّ الإسلام الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في حديثٍ له: "إِنَ‏ الْعَقْلَ‏ عِقَالٌ‏ مِنَ‏ الْجَهْلِ‏"، العقل عقال الجهل. العقال هو الحبل الذي يشدّونه على أرجل الحيوانات، من إبل أو غيرها، لكي لا تتحرّك، ولتكون تحت السيطرة. يقول: العقل عقال الجهل. ثمّ يقول: "وَالنَّفْسَ مِثْلُ أَخْبَثِ الدَّوَابِّ"، نفس الإنسان كأسوأ الحيوانات وأخطرها، هكذا هي النفس. "فَإِنْ لَمْ تُعْقَلْ حَارَت"[3]، حينما لا تعقلون النفسَ، ولا تُمسكون زمامها بأيديكم للسيطرة عليها، فستحتار وتضيع، كالحيوان الوحشيّ الذي لا يدري أين يذهب. وهذا الضياع هو الذي يفرز المشكلات في حياته الشخصيّة، وحياته الاجتماعيّة، وفي المجتمع البشري. هذا هو العقل.


 


[1] سورة الملك، الآية 10.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص43.

[3] الحرّانيّ، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1404ه - 1363ش، ط2، ص 15.

 

324


276

خطاب الولي 2009

إنّ أُولى مهامّ الرسول الكريم، هي إثارة العقل، تحفيز القدرة على التفكّر (التفكير)، وتعزيزها في المجتمع. هذا هو حلّال المشكلات. العقل هو الذي يهدي الإنسان إلى الدين، ويدفعه نحو الدين، وهو الذي يحضّ الإنسان على عبودية الله. العقل هو الذي يصدّ الإنسان عن الأعمال السفيهة والجاهليّة، والتكالب على الدنيا. هذا هو العقل. لذلك، كانت المَهمّة الأولى هي تعزيز قوّة العقل، وتكريسها في المجتمع، وهذا هو واجبنا.

 

نحن أيضًا، في المجتمع الإسلاميّ اليوم، حيث أردنا أن يكون مجتمعنا نموذجًا عن ذلك المجتمع الإسلاميّ الذي أطلقه الرسول الأكرم، بكلّ ما نعانيه من ضعف وهوان وصَغار، (مقارنةً) في قبال تلك العظمة الفذّة للرسول، (حين أردنا ذلك)، سرنا بهذه الصورة، وأردنا أن نصنع نموذجًا لذلك المجتمع. في هذا المجتمع أيضًا، يجب أن يكون العقل هو المعيار والمِلاك.

 

2. التربية الأخلاقيّة

التربية الثانية هي التربية الأخلاقيّة، حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّمَا بُعِثْتُ‏ لِأُتَمِّمَ‏ مَكَارِمَ‏ الْأَخْلَاق"[1]. الأخلاق هي الهواء اللطيف الذي إنْ توفّر في المجتمع البشريّ، استطاع الناس أن يحيوا باستنشاقه، حياةً سليمة. إذا لم تكن هنالك أخلاق، وإذا ساد انعدام الخلق، والحرص، وأهواء النفس، والجهل، وطلب الدنيا، والضغائن الشخصيّة، والحسد، والبخل، وسوء الظنّ، حينما تتفشّى هذه الرذائل الأخلاقيّة، فستعود الحياة صعبة، وستضيق الأجواء، وستسلب من الإنسان القدرة على التنفّس السليم. من هنا، يقول القرآن الكريم في عدّة مواطن: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾[2]، والتزكية هي التربية الأخلاقيّة، وهي مقدَّمة على التعليم. وفي الرواية نفسها التي ذكرناها عن الرسول الأكرم بخصوص العقل، بعد أن يذكر العقل، يقول: إنّ الحلم يأتي من العقل، والعلم يأتي من الحلم. ليتنبّه الإنسان إلى ترتيب هذه الأمور: العقل يُنتج الحلم


 


[1] الطبرسيّ، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1392ه - 1972م، ط6، ص8.

[2] سورة آل عمران، الآية 164، سورة الجمعة، الآية 2.

 

325


277

خطاب الولي 2009

أوّلًا، والحِلم يعني الصبر والتحمُّل. وإذا توفّر الحِلم، توفّرَت الأرضيّة لاكتساب العلم، ومضاعفة المعلومات عند الشخص، وفي المجتمع. أي إنّ العلم يأتي في مرتبةٍ بعد الحِلم. الحِلم هو الأخلاق. وفي الآية القرآنيّة: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾، يقدّم التزكية. هذه هي التربية الأخلاقيّة. نحن اليوم، بأمسّ الحاجة إلى هذه التربية الأخلاقيّة. سواء نحن شعب إيران، المجتمع الإسلاميّ الموجود في هذه المنطقة الجغرافيّة، أو العالم الإسلاميّ كافّة، والأمّة الإسلاميّة الكبرى، وجميع المجتمعات المسلمة. هذه هي حاجياتنا الأولى.

 

3. التربية القانونيّة

ثمّ تأتي بعد ذلك، التربية القانونيّة والانضباط القانونيّ. كان النبيّ الأكرم، بشخصه صلى الله عليه وآله وسلم، أوّل عامل بجميع أحكام الإسلام. يُروَى عن أمّ المؤمنين عائشة، أنّها قالت، حين سُئِلت عن الرسول وأخلاقه وسلوكه (قالت): "كان خُلقه القرآن"[1]، كانت أخلاقه وسلوكه وحياته، تجسيدًا للقرآن. بمعنى أنّه لم يؤمَر بشيءٍ[2] ويغفل هو عنه. هذه كلّها دروس لنا. وهنا، نحن لا نبتغي مقارنة تلك العظمة بصَغَارنا وضِعتنا، فتلك هي قمّة، ونحن نسير على الأطراف والسفوح، لكنّنا نسير نحو القمّة. هذا هو المؤشِّر، وهذا هو المعيار.

 

الحياة ساحة اختبار

لقد اجتاز الشعب الإيرانيّ هذه الامتحانات، بنجاحٍ، ووصل إلى هذه العزّة. حينما اكتفينا باسم "لا إله إلّا الله"، ولفظ "لا إله إلّا الله"، وربّما بذهنيّة (فكرة) "لا إله إلّا الله"، بقينا أسرى في قبضة الطاغوت. وحينما خضنا في ساحة العمل، وعرفنا الساحة العمليّة لكلمة "لا إله إلّا الله"، ودخلنا فيها، (حينها) منحَنا اللهُ -تعالى- ومنح الشعب المسلم هذه العزّة والقدرة والهويّة المميّزة المتألّقة. إذا وضَعنا أقدامَنا في الطريق، وسِرنا، فإنّ الله -تعالى- سيستجيب، إنّه سريع الإجابة.


 


[1] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله‏، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ‏، إيران - قمّ، 1404ه‏، ط1، ج6، ص340.

[2] أو: لم يأمر بشيءٍ، ويغفل هو عنه.

 

326


278

خطاب الولي 2009

خرج شعبُنا مرفوعَ الرأس، طوال ثلاثين عامًا من الامتحانات التي واجهَته في الثورة، وأثناء مرحلة الدفاع المقدّس، وسائر الامتحانات. لقد منَّ الله -تعالى- بتوفيقه، بمقدار ما عملنا، وبمقدار ما تحرّكنا. وقد كان التوفيق كبيرًا جدًّا بالطبع. ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ﴾[1]. منحَنا اللهُ -تعالى- عشرة أضعاف سعينا وجهدنا. أين كنّا بين الأمّة الإسلاميّة وأمم العالم، أثناء عهد الطاغوت؟ كنّا معزولين، ومغمورين، ومنسيّين، منكفئين على أنفسنا، نفتقد المشاعر والحوافز والشجاعة والهمم، التي ترفع الأمم، وتدفعها نحو العلى. هكذا كُنّا. واليوم، يحمل شبابُنا وعلماؤنا وعمَّالنا ومزارعونا، وكلّ واحد من أبناء شعبنا، آمالًا كبيرة في نفوسهم، ويسيرون في طريق تحقيق هذه الآمال، وتلاحظون نتائج ذلك. إنّ أكبر القوى في العالم، جعلَت شعارها مواجهة الجمهوريّة الإسلاميّة! يتوهّمون أنّهم يرعبون الشعب الإيرانيّ، ويهدّدونه بأفعالهم هذه. هؤلاء لا يدرون أنّ شعب إيران يشعر بالهويّة، حينما يرى أنّ أخبث القوى المادّيّة في العالم، وأكثرها مادّيّةً، ترى الشعبَ الإيرانيّ عقبةً تَحُول دون وصولها إلى أهدافها المشؤومة. هذا ليس بالشيء القليل! يقولون: نريد أن نفعل كذا وكذا في الشرق الأوسط، ويُخفون عشرة أضعاف أهدافهم المشؤومة هذه. والشعب الإيرانيّ يَحُول دون ذلك. شعب الجمهوريّة الإسلاميّة يَحُول دون ذلك. هذا دليل عظمة هذا الشعب، وعظمة هذا النظام، وعظمة هذه الحكومة، حيث استطاعَت أن تمنع مستكبري العالم -في منطقة معيّنة من جغرافيا العالم على الأقل- من بلوغ أهدافهم. هذا ما أحرزه شعب إيران، بالتحرُّك في ساحة الأحكام الدينيّة.

 

كان الرسول نفسُه، عامِلًا (بما آمن به): ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ﴾[2]، والمؤمنون كانوا يسيرون خلف الرسول. هو عامِلٌ، والناس ينظرون إلى عمله، ويجدون الطريق، وهذا هو دور قادة المجتمع والنخبة فيه. علينا عدم الاكتفاء بالكلام. يوجد الكثير من مسؤولي البلاد بينكم. بإمكان كلّ واحدٍ منكم، أن يكون أسوةً في العمل، والقدوة والنموذج لكلّ الذين ينظرون إليه ويرونه. شعبُنا شعبٌ صالح وكبير، ووفيٌّ


 


[1] سورة الأنعام، الآية 160.

[2] سورة البقرة، الآية 285.

 

 

327


279

خطاب الولي 2009

ومتسامح. وقد شاهدنا نماذج ذلك في غضون الأعوام الثلاثين المنصرمة. وقد شاهدتم في هذه القضيّة الأخيرة، دور الشعب في الانتخابات، والأحداث التي أوجدوها بعد الانتخابات. ثمّة أذواق مختلفة موجودة بين الناس في ميدان الحياة الاجتماعيّة. أبناء الشعب يقولون: كلمتهم، ويُبدي كلٌّ منهم وجهة نظره، ولكن، حينما يشعرون أنّ القضيّةَ قضيّةَ معاداةٍ للنظام، وحيثما يشعرون أنّ هناك يدًا تتحرّك لتوجيه ضربة للنظام، فسوف ينكفئ الشعب عن هؤلاء[1]، حتّى لو كانوا يرفعون شعارًا يؤمن به جميع أبناء الشعب. (عندما) يرون أنّه سيّئ النيّة، فيسحبون أنفسهم، هذه قضيّة مهمّة.

 

ثلاثون عامًا: تجارب وخبرات

تعلَّمنا الكثير من أحداث الأيّام الأخيرة، ولم يمرّ بنا يومٌ، طوال هذه الأعوام الثلاثين، لم ندّخر فيه تجربة، ولم نتعلّم شيئًا. أدركنا الكثير من الأمور، فكانت تجاربَ لشعبنا. أدرك الجميع أنّه حينما يقوم الشعب بتحرّكٍ كبير، (ولو كان) باستقرارٍ وهدوءٍ وثبات، فعليه أن لا يغفل عن عداء الأعداء، الذين يخطّطون له. قال الجميع: إنّ انتخابات يشارك فيها أربعون مليونًا، تمثّل عظمةً نادرة، منذ بدء الثورة، وإلى اليوم. وإنّ حضور الجماهير في الساحة، بعد ثلاثين سنة، والقدرة على استقطاب الجماهير وتعبئتهم في الساحة، لصالح النظام، كانا عظمةً. يجب أن لا يغفلوا. أدرك الجميع أنّهم يجب أن لا يغفلوا، في مثل هذه الظروف، عن العدوّ الذي اتّخذ كمائنه، وراح يراقب. وما إن يُقال: "العدوّ الخارجيّ" (يفعل كذا وكذا)، حتّى يتّخذ الأجانب موقف المظلومين، ليقولوا: كلّا، كلّا، ليس لنا دخل في الموضوع، ولم نفعل شيئًا. هذا قلّة حياء، والكلّ يشهدون. دعك من الأعمال التي تكتشفها الأجهزة الاستخباراتيّة وغيرها، فالشيء الذي يراه الجميع، هو دور وسائل الإعلام، حيث كان لوسائل الإعلام، الدور الأهمّ في تطوّرات (تحوّلات البلدان) والشعوب، في العقود الأخيرة.


 


[1] حسب السياق المقصود: عن الذين يؤيّدونهم أو يقفون إلى جانبهم في الانتخابات، مثلًا.

 

328


280

خطاب الولي 2009

وسائل إعلام الاستكبار، أدوات بثّ التوتّر والاضطراب

قلتُ ذات مرّة هنا، قبل عدّة سنوات، وحذّرتُ: إنّ وسائل الإعلام والأجهزة الإعلاميّة والاستخباريّة التابعة للاستكبار، هي الأدوات الأهمّ بيد أعداء استقلال الشعوب، من أجل بثّ التوتّر والاضطراب في الشعوب، وبهدف صرفها عن الطريق الذي تسير فيه، وضربتُ أمثلةً عن عدّة بلدان. واليوم، تطوّرَت وسائل الاتّصال، واتّسعَت، وتنوَّعَت، وازدادَت شمولًا، أكثر بكثير ممّا كانت عليه يوم أطلقنا تحذيرنا ذاك. يقوم الأعداء بعمل، ثمّ يقولون: إنّنا لم نفعل شيئًا! يقومون ببثّ أوامرهم وتوجيهاتهم، بنحوٍ علنيّ، إلى الجماعات الغافلة والجاهلة والمخرّبة، عبر وسائل إعلامهم: اصطَدِموا بالشرطة هكذا، وتكلّموا ضدّ "التعبئة" هكذا، ومارِسوا التخريب في الشوارع هكذا، أشعِلوا النيران هكذا! أليس هذا تدخّل؟! هل هناك تدخُّل أوضح وأكثر علانية من هذا؟! هذا ما شاهدَه شعبُنا بعينه. إنّها تجارب لشعبنا. من الخطأ أن يتصوّر أحدٌ أنّ جماعة معدودة في طهران، يُحرقون مستوعبات النفايات التي تطالها أيديهم، أو يخرّبون ممتلكات الناس، من قبيل درّاجاتهم الناريّة وسيّاراتهم وبنوكهم ودكاكينهم، من الخطأ التصوّر أنّ هؤلاء هم الشعب. كلّا، هؤلاء ليسوا (الشعب) من الشعب. أجل، أبواق الاستكبار، حين تريد دعمهم، تقول: إنّهم الشعب. أهؤلاء هم الشعب؟ الشعب هم أولئك الملايين الذين ما إن شاهَدوا هؤلاء المخرّبين المفسدين في الساحة، حتّى أخذوا جانب الاستنكار والشجب، وأبدوا انزعاجهم واشمئزازهم، وراحوا ينظرون بغضب وانزعاج، إلى أولئك المخرّبين للأمن العامّ، والاستقرار الاجتماعيّ.

 

أهمّيّة الاستقرار والأمن

كلّ من يدفع المجتمع اليوم، نحو التوتّر وانعدام الأمن، هو من وجهة نظر عموم الشعب الإيرانيّ، إنسان مبغوض، كائنًا من كان. إنّ أيّ هدف يريد هذا الشعب بلوغه، إنّما يبلغه في ظلّ الهدوء والأمن. إذا ما توفَّر الأمن، كان هناك التحصيل الدراسيّ، والعلم، والتقدُّم والصناعة، والثروة، وكان الاستقرار على شتّى الصعد، وكذلك العبادة، فالدنيا والآخرة إنّما تتحقَّقان في ظلّ الأمن. حينما ينعدم الأمن، تضطر هذه الأمور

 

329

 


281

خطاب الولي 2009

كلّها. إنّ زعزعة أمن شعبٍ هو أكبر خطيئة يمكن أن يرتكبها إنسان. نحن طبعًا، لا نخاطب الشخص المدسوس والمرتزق، فهو لا يصغي لهذا الكلام. إنّما نخاطب النخبة. فأبناء شعبنا واعون، وعلى نخبنا أن يتحلّوا بالوعي أيضًا.

 

لتعلم النخبةُ: إنّ أيّ كلامٍ أو خطوة أو تحليل، يساعد أولئك (المخرّبين)، فهو تحرّك في الاتّجاه المخالف للشعب. علينا جميعًا، التحلّي بالدقّة. يجب أن نكون دقيقين جدًّا: دقيقين في كلامنا، دقيقين في مواقفنا، دقيقين في ما نقوله، وفي ما لا نقوله. ثمّة أشياء يجب أن تُقال، وإن لم نَقُلها، نكون قد تقاعسنا عن أداء واجبنا. وهناك أشياء يجب أن لا تُذكَر ولا تُقال، وإذا قلناها، نكون قد عملنا خِلافًا لواجباتنا. النخبة الآن، هي في معرض الامتحان، امتحان عظيم. الرسوب في هذا الامتحان، لا يعني التأخُّر لسنة واحدة فقط في الدراسة، بل يعني السقوط! وإذا أردنا أن لا نُبتلى بهذا المعنى، فالسبيل هو أن نجعل العقل الذي يدعو الإنسان إلى العبوديّة، معيارًا ومِلاكًا ومؤشّرًا.

 

العَقْلُ مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمَنُ

ليس العقل هذه الألاعيب والحيل السياسيّة الدارجة، فهذه مخالفة للعقل. "الْعَقْلُ مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمَنُ، وَاكْتُسِبَ بِهِ الْجِنَانُ‏"[1]، العقل هو ما يهدي الإنسان إلى سواء السبيل. يخطئ أولئك الذين يتصوّرون أنّهم يتصرّفون بطريقة عقلائيّة، إذا مارسوا الألاعيب السياسيّة. كلّا، العقل هو الشيء الذي يمهّد الطريق لعبادة الله. ومؤشّر ذلك، أن ننظر بيننا وبين الله، هل نحن مخلصون في أقوالنا هذه، أم لا؟ هل نفكّر بالله، أم لا؟ هل أتكلّم أنا لله، ومن أجل رضى الله، أم من أجل لفت انتباهكم وجلب اهتمامكم؟ من أجل الله، أم من أجل المستمعين وغير المستمعين؟ هذا هو المعيار، لنراجِع أنفسَنا. أقضى القضاة للإنسان، هو الإنسان نفسه. لا نخدعَنَّ أنفسَنا. لنفهم ما نفعله، ولنفهم ما نقوله، وما الذي نقوم به.


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص11.

 

 

330


282

خطاب الولي 2009

المبعث عيدٌ ومنعطَف

لقد فتحوا لنا الطريق، ويجب النظر إلى المبعث من هذه الزاوية. ليس المبعث مجرّد حفل نحتفل فيه، ونصفّق، ونأكل الحلويات، ونوزّعها، ونفرح. ليس هذا وحسب، المبعث منعطفٌ وعيدٌ. العيد معناه تلك المناسبة التي تشدّ انتباه الإنسان إلى حقيقةٍ معيّنةٍ. إنّه عيد. ننظر إلى المبعث، وننظر إلى الرسول، وننظر إلى ذلك الجهاد العظيم، ثمّ ننظر إلى ذلك التأثير العميق على مدى عشر سنوات -عشر سنوات في عمر الشعب، كلحظة واحدة- ما الذي فعله ذلك الرجل العظيم، وعظيم العظماء، في تلك الأعوام العشرة؟! أين يمكن أن نجد عشر سنوات نقارنها بهذه السنوات العشر المباركة التي حكم فيها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؟ أيّة حركة أطلقها في تاريخ البشريّة! وأيّ طوفان أوجده! وأيّ ساحل آمنٍ دلَّ عليه البشريّة، وراء ذلك الطوفان! وكيف أشار إلى الطريق؟! وقد عمَّر ثلاثًا وستين سنة. ونريد الآن، بأعمار طويلة، وبهذه التصرّفات الطفوليّة، السير في ذلك الطريق. حينما يحصل مثل ذلك التحرّك، بتلك الدرجة من الإخلاص والجهاد والهداية الربّانيّة، فستكون النتيجة ذلك الشيء نفسه، الذي ترتَّبَ على الأعوام العشرة لحكومة الرسول، وأفرز تلك العظمة كلّها.

 

ربّنا، أيقِظنا من غفوتنا. عرِّف قلوبَنا حقائقَ الإسلام، أكثر فأكثر. اللهمّ، أَعِن الشعب الإيرانيّ في طريق الرشاد والثبات الذي اختاره. اللهمّ، أرضِ القلب المقدّس للإمام المهديّ المنتظر عنّا.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

331

 


283

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء المشاركين بمسابقات القرآن الكريم

 

 

 

المناسبة:   إقامة مسابقات القرآن الكريم

الحضور:  المشاركون بمسابقات القرآن الكريم

المكان:   طهران

 

الزمان:    03/05/1388هـ.ش.

02/08/1430هـ.ق.

25/07/2009م.

 

 

333

 


284

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أرحّب بجميع الحضور المحترمين، الإخوة والأخوات الأعزّاء، خصوصًا المقرئين الأعزّاء المحترمين، مقرئي كلام الله المجيد، والضيوف المحترمين الذين تفضّلوا بالمجيء إلى هنا، من البلدان الإسلاميّة. كانت لنا اليوم جلسة طيّبة جدًّا. ولقد سُررت جدًّا بلقائكم -مقرئي وعشّاق القرآن الكريم- وانتفعتُ من التلاوة الجيّدة جدًّا التي قدّمها المقرئون المحترمون هنا.

 

آثار القرآن بمقدار العمل به

لنحاول أن تكون استفادتنا غير مقصورة على مجرّد حضور المجلس، والاستماع والمشاهدة، بل ممتدّة لتصل إلى القلب أيضًا. القرآن هو للعمل بالقرآن، وهو للفهم والتفكّر والتدبّر. لماذا كلّ هذه المشاكل في العالم الإسلاميّ؟ لماذا الأمّة الإسلاميّة ضعيفة على الرغم من عظمتها؟ لماذا؟ لماذا قلوب الإخوة المسلمين في أنحاء العالم، وأياديهم غير متعاضدة؟ لماذا؟ ألم يقل هذا القرآن: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾[1]؟ ألم يقل هذا القرآن: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[2]؟ لماذا لا تتمتّع الأمّة الإسلاميّة اليوم، بالعزّة التي تجدر بها في العالم؟ لماذا؟ لماذا نحن متأخّرون في العلوم؟ ولماذا الأمّة الإسلاميّة متأخّرة في مضمار السياسة وتدبير الشؤون العالميّة؟ السبب هو أنّها لا تعمل بالقرآن. السبب هو أنّ القرآن -وخلافًا لادّعاءاتنا- ليس معيارًا ومحورًا لمعرفتنا وعملنا.

 

بمقدار ما نعمل بالقرآن الكريم، سنجد آثاره وبركاته.

نحن في الجمهوريّة الإسلاميّة، حاولنا العمل بتعاليم القرآن، وقد نجحنا بمقدار معيّن، وبهذا المقدار نفسه، أرانا الله -تعالى- آثار عملنا، عيانًا. الله -تعالى- لا


 


[1] سورة آل عمران، الآية 103.

[2] سورة المنافقون، الآية 8.

 

335


285

خطاب الولي 2009

يُخلف وعده: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾[1]. إذا وعد الله -تعالى- المؤمنين بالنصر، وباستخلافهم في الأرض، وبالعزّة، فهي وعود صادقة. السبب في أنّنا لا نرى هذه الوعود (قد تحقّقت) في ميدان حياتنا، هو أنّنا لا نعمل بالشروط الإلهيّة. ﴿وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ﴾[2]، اعملوا بعهدي، حسب أوامري، وسوف أعمل بذلك العهد، هكذا قال الله -تعالى-. هذا درس كبير لنا.

 

العودةُ إلى القرآن سبيلُ النجاة

هدفنا من هذه الجلسات القرآنيّة، ومن هذه الاجتماعات القرآنيّة، والمسابقات القرآنيّة، ودعوة حملة القرآن من جميع أنحاء البلاد، هو الاقتراب من هذه المقاصد. نبتغي الاقتراب من القرآن، اقتراب المعرفة، واقتراب العمل. ينبغي أن تنصبّ هممنا على هذا. العالم الإسلاميّ اليوم، متعطّشٌ للعمل بالقرآن، وأعداء الإسلام لا يريدون ذلك. ومن البديهي، أنّ أعداء الإسلام لا يقولون صراحةً: إنّنا أعداء القرآن، أو أعداء الإسلام. ﴿يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾[3]، إنّهم يخادعون حتّى الله، ويخادعون عباد الله أيضًا، يقولون: إنّنا أنصار الإسلام، لكنّهم يستهدفون، في الوقت نفسه، النقطة التي يريدها الإسلام منّا تحديدًا.

 

تلاحظون أنّ طرح قضيّة الجهاد في بعض البلدان الإسلاميّة، تُعَدُّ اليوم جريمة! يجب عدم طرح قضيّة الجهاد في الكتب المدرسيّة، وينبغي عدم ذكر الجهاد والشهادة في حوارات المرتبطين، بنحوٍ من الأنحاء، بالأجهزة الحكوميّة. يهاجِمون هذه الأمور علنًا. يوجِّهون ضرباتهم للوحدة بين المسلمين، ويكدّرون القلوب، بعضها تجاه بعض. وإنّ قضيّة السنّة والشيعة، وقضيّة الفِرَق المختلفة داخل التشيُّع، والفِرَق المتعدّدة داخل التسنُّن، هي المواضيع التي يهتمّ بها أعداء الإسلام. لا يقولون: إنّنا نعارض القرآن، لكنّهم يعارضون محور التربية والتعليم القرآنيّ، ونموذج الوحدة الإسلاميّة. كم يبذل الخيّرون (أصحاب النوايا الحسنة) من الجهود، لتكريس الوحدة بين الإخوة في العالم


 


[1] سورة النساء، الآية 122.

[2] سورة البقرة، الآية 40.

[3] سورة البقرة، الآية 9.

 

 

336


286

خطاب الولي 2009

الإسلاميّ! فإذا بنا، نرى، فجأةً، قنبلةً -قنبلة معادية للوحدة- تنفجر هنا أو هناك، لا يختلف الأمر.

 

واعتصموا بحبل الله جميعًا

لهذا، ينبغي أن نتحلّى باليقظة والوعي. وكذا الحال إلينا، نحن الشعب الإيرانيّ، وإنّ ما نقوله، ليس (موجّهًا) إلى الآخرين وحسب، إنّما هو إلى أنفسنا، بالدرجة الأولى. نحن أيضًا، يجب أن نحافظ على الوحدة. لاحِظوا هذه الآيات التي قُرِئَت الآن:

﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾[1]، أنقذكم الإسلام من نار التفرقة، فهل نسيتم هذا؟ لا يكفُّ هذا (الشخص) عن توجيه النقد والمؤاخذات لذاك، ولا يكفُّ ذاك عن الاعتراض على هذا، ولا نقلع عن تحويل الفروع إلى أصول، وننسى الأصول، ويتصاعد الخلاف بيننا. حين يقول القرآن الكريم: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا﴾[2]، فمعناه: اعتصموا كلّكم، معًا، بحبل الله. حسنًا، هؤلاء "الجميع" ليسوا كلّهم في مستوى واحد، بعضهم إيمانهم أقوى من بعض، وبعضهم إيمانهم أضعف، بعضهم عملهم أفضل، وبعضهم عملهم متوسّط. ومع ذلك، يخاطب الله "الجميع"، ويقول: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا﴾. مارِسوا هذا الاعتصام معًا، فلا يمكن أن تقول: إنّني أعتصم بحبل الله لوحدي، ولا يعتصم الآخر، ويقول الآخر: إنّني أعتصم بحبل الله على حِدَة، ولا يعتصم الآخر. تحمّلوا بعضكم بعضًا، ثمّة أصول ومحاور. الأصل والأساس أن تتعاطف قلوبنا، وتتّحد على هذه الأصول. قد يختلف الأفراد على مئة من الفروع، فهذا لا يناقض الاجتماع والجمع والوحدة والتكاتف. هذا ما يجب أن يكون مِلاكًا.

 

علينا توخّي الحذر في أقوالنا. ليس من المصلحة إقصاء الآخرين، ورفضهم بنحوٍ مطلق، بسبب قضايا من الدرجة الثانية. الشعب الإيرانيّ اليوم، شعبٌ واحدٌ متلاحم، شعبٌ متّحد. يجب معرفة قدر هذا الاتّحاد. ينبغي عدم بثّ الخلافات.


 


[1] سورة آل عمران، الآية 103.

[2] سورة آل عمران، الآية 103.

 

 

337


287

خطاب الولي 2009

الكلّ تحت راية الجمهوريّة الإسلاميّة

فيما يتعلّق بقضايا الأيّام الأخيرة[1]، أرى أنّ بعضهم لا يفتؤون يحاولون تكريس الخلافات، وتعميق الشروخ. كلّا، لا ينبغي إيجاد خلافات. الكلّ إخوة، بعضهم مع بعض. وعلى الجميع التعاون فيما بينهم. على الجميع مساعدة بعضهم بعضًا، لبناء البلد. يجب عدم توجيه التهم إلى أحد، اعتباطًا. ويجب عدم تجريد أحد من كلّ ما يُعتَبَر أهليّةً وكفاءة، لسبب ما. يجب مراعاة الإنصاف، ولا بدّ من الإنصاف في العمل، ومن الإنصاف في الكلام أيضًا. يقول الله -تعالى- حول الأعداء: ﴿وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَ‍َٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ﴾[2]، إذا كنتم أعداء شخص معيّن، فلا يقودكم عداؤكم هذا إلى عدم الإنصاف تجاهه، والعمل معه بخلاف العدالة. هذا ما يوصينا به، حتّى فيما يخصّ العدوّ، فكيف والطرف (المعنيّ) ليس عدوّنا؟ على الجميع نبذ عدم الإنصاف جانبًا. ليجتمع الكلّ تحت راية النظام الإسلاميّ والجمهوريّة الإسلاميّة. هناك أصول، وليعلن الجميع التزامهم بتلك الأصول. وليكونوا بعضهم إلى جانب بعض، على الرغم من اختلاف أذواقهم. ما الضير في ذلك؟ تفاوُت الأذواق موجودٌ على الدوام. رأَيْنا في العصور المختلفة، أنّه متى ما امتزج اختلاف الأذواق والتصوّرات بأهواء النفس الإنسانيّة، فسدَت الأمور. ينبغي مراقبة هوى النفس بشدّة. لنكن سيّئي الظنّ بأنفسنا، وخاصّةً (عند) انخداعنا بهوى النفس. لننظر، وندقّق أين النفس وهوى النفس من المسألة، وأين ما لا يُعَدّ هوى نفس منها، وإنّما هو شعورٌ بالواجب حقًّا. وفي الشعور بالواجب، أيضًا، يجب التدقيق، لكي لا تخرج خطواتنا عن دائرة الواجب، من جهة أخرى. ينبغي عدم المبالغة والتمادي، وعندئذٍ، سيكون لطف الله معنا. كما كان لطف الله مع شعب إيران إلى الآن، وبفضلٍ من الله وحوله وقوّته، ستكون الألطاف الإلهيّة حليفةَ شعب إيران بعد الآن أيضًا.

 

ليعمل الكلّ بواجباتهم، وليحاولوا ذلك ما استطاعوا. حين نقول: ليعمل الجميع


 


[1] المقصود: أحداث الفتنة التي أعقبت انتخابات عام 2009م الرئاسيّة، والحملة الاعتراضيّة التي قادها بعض الأطراف المشاركين في الانتخابات الرئاسيّة.

[2] سورة المائدة، الآية 8.

 

338


288

خطاب الولي 2009

بواجباتهم، فلا نعني أنّنا عملنا، إلى الآن، بكلّ واجباتنا. لا، ﴿وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ﴾[1]، علينا السعي وبذل الجهد في هذا السبيل. هذه هي التقوى. التقوى معناها السعي والمراقبة لأداء الواجب، هذا معنى التقوى. لنبذل هذا الجهد، وإذا حصلَت زلّة، فإنّ الله -تعالى- سيعفو وسيتجاوز عن زلّاتنا، إذا ما كنّا نراقب أنفسنا حقًّا.

 

نرجو أن يبارك الله -تعالى- في هذه الجلسات، والاجتماعات، والتلاوات، والاستماع، والكلام، وأن يوقظنا جميعًا، ويوفّقنا لنستطيع العمل بواجباتنا، إن شاء الله.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 


[1] سورة يوسف، الآية 53.


289

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء أعضاء مكتبه وحمايته

 

 

         

المناسبة:   الولادات الميمونة في شهر رجب

الحضور:  أعضاء مكتبه وحمايته

المكان:   طهران

 

الزمان:    05/05/1388هـ.ش.

04/08/1430هـ.ق.

27/07/2009م.

 

342

 


290

خطاب الولي 2009

أوّلًا، أبارك هذه الأعياد الكبرى المتتابعة، التي يُعَدّ كلّ واحدٍ منها، بحقّ، شمسًا مشرقةً، ونورًا باهرًا على قلوب الشيعة: ولادة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وولادة الإمام السجّاد عليه السلام، وولادة أبي الفضل العبّاس عليه السلام. بوُرِكَت لكم، جميعًا، هذه الأعياد، إن شاء الله. والبركة هي، أوّلًا، في أن تكون قلوبكم مسرورة، إن شاء الله، وأرواحكم متمتّعة بالاستقرار والسكينة الإلهيّة، وكلّ كيانكم زاخرًا بالثقة بالله، والتوكّل عليه -تعالى-. فإذا (وُجِدَت) كانت هذه الأحوال، كان العيد مباركًا عليكم، بركةً تامّةً. لنحاول أن نحقّق لأنفسنا هذه الأحوال، لنجعل قلوبنا مبتهجة، وأرواحنا حافلة بالسكينة الإلهيّة، وكياننا طافحًا بالثقة بالله، أكثر فأكثر.

 

وعد الله صِدْق

إنّنا نثق بالكلام المتعارَف العاديّ الصادر من شخصٍ لم نرَ منه سوءًا. إذا أردنا منه قرضًا، أو كانت لدينا عنده حاجة، ووعدَنا بأن يُنجِز لنا هذه الحاجة، عادةً ما نثق به، ونتحرّك لنهيّئ مقدّمات المسألة، والحال أنّه ليس أكثر من إنسان، وقد يعتذر، أو قد يأتي مَن يغيّر رأيه، أو قد ينسى، أو قد يفقد الإمكانيّة التي أراد بواسطتها تلبية طلبنا وحاجتنا. هناك عشرة احتمالات، أو عشرات الاحتمالات، التي قد تفسد وعده هذا، ومع ذلك، نثق به. حسنًا، كم وَعَد الله -تعالى- المؤمنين بالنصر والهداية والتعليم: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ﴾[1]. وعد بالحفظ والصيانة، ووعد بالمساعدة في أمور الدنيا. كلّ هذه الوعود وعدَنا الله -تعالى- إيّاها. طبعًا، هذه الوعود ليست مطلقة. بل لها شروطها، وشروطها ليست صعبة جدًّا، بل بوسعنا توفيرها. والدليل على ذلك، أنّنا


 


[1] سورة البقرة، الآية 282.

 

343


291

خطاب الولي 2009

متى ما عملنا بهذه الشروط، ساعدَنا الله -تعالى-. ومثال ذلك، الحرب المفروضة. أنتم الشباب الذين لم تدركوا مرحلة الحرب المفروضة، اعلموا أنّه يومَ بدأَت الحرب المفروضة، قال جميع المنظِّرين والمحلِّلين والنخبة، على نحو القطع: إنّ صدّامًا هو المنتصر في هذه الحرب، وإيران سوف تُهزَم، باستثناء عدد قليل من أصحاب الرؤية الإسلاميّة والإيمانيّة -رؤية الإمام إلى الحوادث -، أولئك كان في قلوبهم أملٌ، يزيد أو ينقص. فمنهم من كان في قلوبهم بصيصٌ من أمل، ومنهم من كانت قلوبهم مشعّة بالأمل.

 

التوكُّل على الله

نقلتُ هذه الخاطرة مرارًا: في اليوم الثالث أو الرابع للحرب، كُنّا مجتمعين كلّنا في غرفة هيئة أركان الحرب. كنتُ موجودًا، وكان مسؤولو البلاد ورئيس الجمهوريّة ورئيس الوزراء -رئيس الجمهوريّة في حينها، كان بني صدر، ورئيس الوزراء المرحوم رجائي- وعدد من نوّاب المجلس وسواهم. كُنّا مجتمعين كلّنا هناك، نناقش الأمور ونتشاور. وكان العسكريّون موجودين أيضًا. جاء أحد العسكريّين إليَّ، وقال: الإخوة في الغرفة الأخرى يريدونك في أمرٍ خاصّ، فنهضتُ وذهبتُ إليهم. كان هناك المرحوم فكوري والمرحوم فلاحي[1] -على ما أذكر- وشخصان أو ثلاثة آخرون. جلسنا، وقلتُ لهم: ما شأنكم؟ قالوا: انظُر يا سيّدي! -وأخرَجوا ورقة لا أزال أحتفظ بها إلى الآن، بين أوراق مذكّراتي، وفيها خطّ أولئك الإخوة الأعزّاء- هذه طائراتنا، مثلًا، أف 5، وأف 4، وسي 130، وكذا وكذا من أنواع طائرات النقل والقتال. كتبوا سبعة أو ثمانية أنواع. ثمّ كتبوا: من هذا النوع من الطائرات، لدينا، مثلًا، عشر طائرات جاهزة للعمل، وستكون جاهزة إلى اليوم الفلانيّ. وفيها قطع غيار تحتاج إلى تبديل سريع -في الطائرات، قطع غيار تتبدّل مع كلّ رحلة جوّيّة، أو كلّ رحلتَين- وكانوا يقولون: إنّنا لا نمتلك هذه القطع. لذلك، سينتهي مفعول هذا النوع من الطائرات بعد خمسة أو عشرة أيّام، وتعود كأنّها غير موجودة، وكأنّنا لا نمتلكها. وبعد اثنَي عشر يومًا، سينتهي ذلك النوع


 


[1] الشهيدان فكوري وفلاحي: من القادة المعروفين أثناء مرحلة الحرب والدفاع.

 

344


292

خطاب الولي 2009

من الطائرات. وبعد أربعة عشر يومًا، ينتهي النوع الفلانيّ من الطائرات. ومعظمها كان من نوع سي 130 الموجودة إلى الآن، والتي قالوا عنها: إنّها ستعمل حوالي ثلاثين أو واحد وثلاثين يومًا. أي إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة لن يكون لديها، بعد واحد وثلاثين يومًا، أيّ طائرة عسكريّة، سواء طائرة عسكريّة مقاتلة، أو طائرة إسناد، أو نقل عسكريّ. سينتهي كلّ شيء. قالوا: يا سيّدي، هذا هو وضعنا العسكريّ، فاذهب وانقل هذا إلى الإمام. ولا أخفي عليكم، إنّني شعرت بالخوف قليلًا، وقلت: عجيب! ماذا نفعل إن لم تكن لدينا طائرات؟ إنّهم يأتون إلينا دائمًا بالطائرات الروسيّة. لم تكن لدى طيّاريهم شجاعة طيّارينا ومهارتهم، لكنّ حجم العمل كبير. كانوا يأتون باستمرار، وكانت لديهم أنواع الميغ.

 

قلتُ لهم: حسنًا. أخذتُ الورقة، وذهبت بها إلى الإمام في جماران. قلتُ له: سيّدي، هؤلاء السادة هم قادة جيشنا، وكلّ ما لدى العسكريّين هو في أيديهم، وهذا ما يقولونه، يقولون: إنّ طائراتنا الحربيّة تعمل إلى خمسة عشر أو ستّة عشر يومًا، على الأكثر، وآخر ما سيتبقّى لنا من الطائرات، هي طائرات سي 130، وطائرات النقل التي لن تعمل لأكثر من ثلاثين، أو واحد وثلاثين يومًا. وبعد ذلك، لن تكون لدينا طائرات على الإطلاق! نظر إليَّ الإمام، وقال -أروي هنا قولَه بالمضمون، ولا أتذكّر عبارته حرفيًّا، ربما كتبت عباراته حرفيًّا في مكانٍ ما- قال: ما هذا الكلام؟! قُلْ لهم: ليحاربوا، والله سوف يمدّهم ويصلح الأمور، لن تحدث مشكلة.

 

لم يكن كلام الإمام مقنعًا لي من الناحية المنطقيّة، فالإمام ليس متخصِّصًا في الطائرات، لكنّني كنتُ مؤمنًا بأحقّيّة الإمام، ونور قلبه، وتأييد الله له. كنتُ أعلم أنّ الله -تعالى- بعثَ هذا الرجل لأمرٍ عظيم، ولن يتركه، كنتُ مؤمنًا بهذا. لذلك، اطمأنّ قلبي، وعُدتُ إلى السادة -في اليوم نفسه، أو في اليوم التالي، لا أتذكّر- وقلتُ لهم: إنّ الإمام يقول: أَصلِحوا هذا الموجود، ما استطعتم، وأَعِدّوه، وبادِروا إلى العمل.

 

فتلك الطائرات من طراز أف 5، وأف 4، وأف 14 نفسها، وتلك التي كان المتَوَقَّع أن تتوقّف تمامًا، بعد خمسة أو ستّة أيّام، لا تزال تعمل إلى الآن في قوّاتنا الجوّيّة. مضَت تسع وعشرون سنة على عام 1359 (1980م)، ولا تزال تلك الطائرات تعمل! طبعًا،

 

 

345


293

خطاب الولي 2009

تضرَّر بعضُها في الحرب، أو سقطَت، أو أُصِيبَت، وخرج بعضُها عن حيّز الاستعمال. ولكن كان مقابل هذا التساقط، نماءٌ وتجدُّد، فقد استطاع مهندسونا في الأجهزة المختصّة، صناعة قطع الغيار اللازمة، وملء الفراغات، واستيراد بعض القطع بطرقٍ معيّنة، على الرغم من الحظر المفروض، وعلى الرغم من أنوف الذين فرضوه، ومن ثمّ بقيَت الطائرات تعمل. أضِف إلى ذلك، أنّهم تعلّموا منها، واستطاعوا صناعة نوعَين من الطائرات الحربيّة. وتعلمون الآن، أنّه يوجد في قوّاتنا الجوّيّة، نوعان من الطائرات الحربيّة -هي طبعًا، ليست عين طائراتنا السابقة، لكنّ المهندسين استفادوا من تلك، على كلّ حال. فالمهندس، بطبيعة الحال، ينظر إلى الأعمال، ويكتسب التجارب، ويصمّم بنفسه- طائرات بمقصورتَين للتعليم، وطائرة بمقصورة واحدة للحملات العسكريّة. إضافةً إلى أنّنا لا نزال نمتلك تلك التي كانت لدينا.

 

هذا هو التوكُّل على الله. وهذا هو صدق الوعد الإلهيّ. حينما يقول الله -تعالى-، بتأكيدٍ مكرَّر ومتعدّد الجوانب: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ﴾[1]، فإنّ الله -تعالى- سينصر ويعين الذين ينصرون دينه، وهذا لا شكّ ولا ترديد فيه. حينما يقول الله: هذا، وأنا وأنتم نعلم أنّنا ننصر دين الله، إذًا، لنطمئنّ أنّ الله سوف يمنّ بنصره.

 

وفي الحرب المفروضة، توكُّلٌ، فنصرٌ من الله

وقد شاهدنا النصر الإلهيّ والعون الإلهيّ، بعد نشوب الحرب أيضًا، عشرات المرات. وإذا حسبنا الحالات التفصيليّة الصغيرة، ربّما كان العدد أكثر من هذا بكثير، ولَأَمكن القول: إنّنا شهدنا النصر الإلهيّ آلاف المرّات، إلّا أنّه يمكن ذكر الحالات البارزة فقط. ومن جُملة هذه الحالات، عودة أسرى الحرب. كان لنا في العراق، نحو خمسين ألف أسير، خمسين ألفًا! وكان للعراق أيضًا، أقلّ من هذا العدد بقليل، عندنا. لكنّ الفرق هو أنّ أسرى العراق عندنا، كانوا كلّهم عسكريّين، أمّا أسرانا في العراق، كان أكثرهم غير عسكريّين، أخذوا الناس من البوادي وأسروهم. حينما انتهت الحرب، بدا لي أنّ استعادة هؤلاء الأسرى من صدّام، قد يطول ثلاثين عامًا! وقد شاهدنا تبادُل الأسرى في الحروب المعروفة،


 


[1] سورة الحجّ، الآية 40.

 

346


294

خطاب الولي 2009

ففي الحرب العالميّة، وفي حرب اليابان، بعد مرور ثلاثين سنة، كان أحد الأطراف ما زال يدّعي أنّ الطرف الآخر يحتفظ بعددٍ من الأسرى، ويُنكر الطرف الآخر وجودهم. تستمرّ المفاوضات والمساومات والاجتماعات، إلى أن وصلوا إلى نتيجة. يجب عقد مئات المؤتمرات والاجتماعات، لنثبت أنّه لا يزال هناك هذا العدد من الأسرى، وبشكلٍ بطيء جدًّا! هكذا كان صدّام، شخصًا سيّئ المراس، وسيّئ الأخلاق، وخبيثًا، ومؤذيًا، وكلّما شعر بالقوّة، عملَ على إظهارها. كانت طبيعةُ صدّام طبيعةً جدّ دنيئة ومنحطّة. متى ما شعر الأشخاص المنحطّون الدنيئون بالاقتدار، ينتفخون إلى درجة أنّه تتعذّر إقامة أيّ تعامُل أو تبادُل معهم، أبدًا، وحينما يشعرون بالضعف، ويقفون أمام طرفٍ أقوى منهم، يتذلّلون ويتصاغرون أكثر من النملة. لاحظتُم كيف راح صدّام يتوسّل الأميركيّين، قبل أن يهاجموا العراق -في هذه المرّة الأخيرة- كان يتوسّل أن تعالوا لنتفاهم ونتصالح، ونتّحد كلّنا ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة. إلّا أنّ حظّه كان عاثرًا، ولم يعد الأمريكيّون يرغبون فيه.

 

كنت أقول: إنّ إطلاق سراح الأسرى سيطول ثلاثين سنة، لكنّ الله -تعالى- مهّد الأمور، وحصل هجوم ذلك الأحمق على الكويت. فإذا ما أراد أن يحارب الكويت -طبعًا، كانت حربه مع الكويت بهدف احتلالها بالكامل- فلا بدّ أن يطمئنّ باله من جانب إيران، وهذا غير ممكن مع وجود الأسرى. في البداية، كتب رسالة إلى رئيس الجمهوريّة في حينها، و(بعث) لي بنحوٍ من الأنحاء. ولأنّه لم يتلقّ جوابًا وافيًا من هذا الجانب، بدأ هو بإطلاق الأسرى، والذين يذكرون يتذكّرون. فجأة، سمعنا أنّ الأسرى يتوافدون على الحدود، جماعات جماعات، إلى أن انتهى الأمر. كان هذا من فعل الله، ومن نصره. وهكذا القضايا الأخرى من هذا القبيل، وإلى اليوم.

 

وصيّتي لكم: زيدوا من بصيرتكم

أنتم إخوة وأخوات أعزّاء، سواء الذين يخدمون في الحماية، أو في المنظومة الإداريّة هنا، أو عوائلهم وزوجاتهم وأبناؤهم. أنتم تخدمون، حقًّا، في موقع حسّاس. إذا أردتُ أن أوصيكم بوصيّة، فهي أن تزيدوا من بصيرتكم، البصيرة! فالبلايا التي تنزل بالشعوب،

 

 

347


295

خطاب الولي 2009

إنّما هي، في العديد من الحالات، بسبب انعدام البصيرة. الأخطاء التي يرتكبها بعضهم -الكثير منها، ولا أقول كلّها- هي نتيجة انعدام البصيرة. ترون في مجتمعنا، أنّ بعض عامّة الناس أحيانًا، والنخبة في كثير من الأحيان، يقعون في أخطاء. المتوقَّع من النخبة أن تكون أخطاؤهم قليلة، وأحيانًا، إذا لم تكن أخطاؤهم أكثر كمًّا، فهي أكثر نوعًا، من أخطاء عامّة الناس.

 

ارفعوا مستوى بصيرتكم، ومستوى وعيكم. كثيرًا ما ذكرتُ عبارة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، التي أظنّ أنّه قالها في حرب صفين: "ولَا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ"[1]. تعلمون أنّ راية أمير المؤمنين قد واجهَت صعوبات أكثر من راية الرسول، في عدّة نواحي. ففي راية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كان العدوّ والصديق معروفَين. أمّا تحت راية أمير المؤمنين، فلم يكن العدوّ والصديق كذلك كما ينبغي، كان العدوّ يتكلّم بالكلام نفسه الذي يتكلّم به الصديق. كانت صلاة الجماعة نفسها التي تُقام في معسكر أمير المؤمنين، تُقام في المعسكر المقابل أيضًا، في حروب الجمل وصفّين والنهروان. فماذا كنتم ستفعلون، لو كنتم هناك؟ يقولون لكم: الطرف الآخر على باطل. وتقولون: فما هذه الصلاة والعبادة إذًا؟ (بالنسبة إليهم). بعضٌ منهم، كالخوارج، كانت عبادتهم شديدة جدًّا. انتهز أمير المؤمنين ظلمة الليل، ودخل إلى معسكر الخوارج، فرأى رجلًا يقرأ بصوت جميل: ﴿أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ﴾[2]، كان يتلو هذه الآية القرآنيّة في منتصف الليل، بصوت حزين ومؤثِّر. وكان إلى جانب أمير المؤمنين، أحدُ أصحابه، فقال له: يا أمير المؤمنين، طوبى لهذا الذي يتلو الآية القرآنيّة بهذا الصوت الحَسن! ليتني كنتُ شعرةً في جسده، لأنّه سيدخل الجنّة، ولا شكّ أنّني سأدخل الجنّة معه، وببركته. مضَت هذه، وبدأَت معركة النهروان. وبعد أن هُزِم الأعداء وقُتِلوا، جاء أمير المؤمنين عند أجساد قتلى العدوّ، فكان يجتاز بها، ويأمر بأن يقلبوا بعض الجثث الملقاة على وجوهها، فكانوا يقلبونها، وكان الإمام يتكلّم معهم. كانوا ميّتين، لكنّه أراد لأصحابه أن يسمعوا. أمَرَ بأن يُقلَب أحدُهم، فقُلِب، فقال الإمامُ لصاحبه الذي كان معه تلك


 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص248.

[2] سورة الزمر، الآية 9.

 

348


296

خطاب الولي 2009

الليلة: هل تعرف هذا؟ قال صاحبه: لا. فقال الإمام: هذا هو من تمنَّيتَ أن تكون شعرةً في جسده، وكان في تلك الليلة يتلو القرآن بتلك النبرة الحزينة المؤثرِّة، وهنا، يقف مقابل القرآن الناطق أمير المؤمنين (عليه أفضل صلوات المصلّين)، ويُشهِر السيف في وجهه. لأنّ البصيرة مفقودة، وحينما تُفقَد، لا يستطيع أن يفهم الأوضاع.

 

البصيرة "استطلاعٌ سياسيّ"

كثيرًا ما شَبَّهتُ هذه الجبهات السياسيّة، والميادين السياسيّة، بجبهات الحرب. إذا لم تتوفّر لديكم هندسة الأرض في الحرب النظاميّة، فمن المحتمل وقوع أخطاء كبرى، ولذلك، تذهبون للاستطلاع. من الأعمال المهمّة في العمل العسكريّ، هو الاستطلاع، الاستطلاع عن قرب، حيث يذهبون ويشاهدون طبيعة الأرض، ومكان العدوّ، ومواقعه، وتموضعه، وما هي موانعه وتحصيناته، ليفهموا ما الذي ينبغي لهم فعله. إذا لم يتمّ القيام بهذا الاستطلاع، ولم يُعرَف الميدان وأضاع العدوّ، فقد يجد، فجأة، أنّه يلقي قذائفه ومدفعيّته باتّجاهٍ يتموضع فيه أصدقاؤه، لا أعداؤه، لأنّه لا يعلم الواقع. وكذا الحال في الساحة السياسيّة تمامًا. إذا لم تتوفّر لديكم البصيرة، ولم تعرفوا العدوّ، فقد ترون، فجأة، أنّ نيران مدفعيّة إعلامكم ومناظراتكم وممارساتكم، متجّهة نحو أصدقائكم، لا أعدائكم. على الإنسان معرفة العدوّ، فلا يخطئ في تشخيص العدوّ. إذًا البصيرة ضروريّة، والتبيين ضروريّ.

 

والتبيين أيضًا دور النخب والخواصّ

التبيين من الأعمال المهمّة للنخب والخواصّ. فليتمّ تبيين الحقائق، من دون عصبيّات، ومن دون أن تسيطر الانتماءات الفئويّة على قلب القائل، هذه الأحوال مضرّة. ينبغي ترك الانتماءات والتيّارات جانبًا، وإدراك الحقيقة كما هي. كان من جُملة الأعمال المهمّة التي قام بها عمّار بن ياسر في حرب صفّين، تبيين الحقيقة، لأنّ التيّار المقابِل، وهو تيّار معاوية، كان يمتلك العديد من أبواق الإعلام والدعاية، وهو ما يسمّونه اليوم، الحرب النفسيّة. هذه ليست من الاختراعات الجديدة، إنّما اختلفَت الأساليب، وقد كانت منذ البداية. وقد كانوا ماهرين جدًّا في هذه الحرب النفسيّة.

 

 

349

 


297

خطاب الولي 2009

ينظر الإنسان في أعمالهم، فيرى أنّهم كانوا ماهرين في الحرب النفسيّة.

 

إنّ تخريب الأذهان أسهل من بنائها. حينما يُقال لكم: شيء، ويعتريكم سوء الظنّ بشيء معيّن، فإنّ ولوج سوء الظنّ إلى الذهن، سهل، إلّا أنّ محوه من الذهن، صعب. لذلك، كانوا يبثّون الشبهات، وينشرون سوء الظنّ، وكان عملهم سهلًا. وإنّ الشخص الذي رأى أنّ من واجبه، في هذا الطرف، الوقوفَ بوجه هذه الحرب النفسيّة، ومقاومتها، هو سيّدنا عمّار بن ياسر، الذي ورد في أحداث حرب صفين أنّه كان يتنقل على الفرس، من هنا وهناك، في أطراف المعسكر، وبين صفوف الجنود، ويتحدّث مع الحشود والمجموعات - الكتائب أو الألوية حسب التعبير الدارج اليوم- بمقدارٍ معيَّن. كان يُوضح لهم الحقائق، ويؤثّر فيهم. في موضعٍ ما، كان يرى نشوب خلاف، وأن بعضهم اعتراهم الشكّ، وحصل بينهم نقاش وجدل، فكان يوصل نفسه إليهم بسرعة، ويتحدّث إليهم، ويبيّن ويحلّ هذه العُقَد.

 

عالِجُوا انعدام البصيرة

إذًا، البصيرة مهمّة. وإنّ دور النخب والخواصّ هو أن يعملوا على إيجاد هذه البصيرة، ليس في أنفسهم فحسب، بل لدى الآخرين أيضًا. ويرى الإنسان أحيانًا، مع الأسف، أنّ بعضَ النخب مبتلون، هم أنفسهم، بانعدام البصيرة، فلا يكادون يفهمون أو يلتفتون، يُطلِقون، فجأةً، كلامًا لصالح العدوّ، لصالح الجبهة التي تكرِّس كلَّ همّها للقضاء على الجمهوريّة الإسلاميّة. هناك النخب، وهناك الخواص، وهم ليسوا أفرادًا سيّئين، وليست نواياهم سيّئة، لكنّهم هكذا على كلّ حال، إنّه انعدام البصيرة. أنتم الشباب، على وجه التحديد، عالِجُوا انعدام البصيرة هذا، بقراءة الأعمال الجيّدة بتأمُّل، وبالحوار مع الأشخاص الموثوقين الناضجين، وليس بالحوارات التقليديّة -حيث تقبلون كلّ ما قيل. لا، ليس هذا ما أريده- هناك أشخاص بوسعهم إقناع الآخرين بالأدلّة، وتنوير أذهانهم وإقناعهم.

 

عليكم التعرُّف إلى الإمام الحسين "مُبيّنًا"

حتّى الإمام الحسين عليه السلام، استخدم هذه الوسائل، في بداية نهضته، وعلى

 

 

350


298

خطاب الولي 2009

امتدادها. ولأنّ الأيّام أيام الإمام الحسين عليه السلام، أقول هذه الكلمة:

ينبغي أن لا نعرف الإمام الحسين من معركة يوم عاشوراء فقط، فذلك جانب من جهاد الإمام الحسين. ينبغي معرفته من تَبييناته، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وإيضاحه للقضايا والأمور في منى وعرفات، وخطابه للعلماء وللنخب -للإمام الحسين كلمات عجيبة ومهمّة مسجّلة في الكتب- ثمّ في الطريق إلى كربلاء، وفي ساحة كربلاء نفسها. كان عليه السلام، في ساحة كربلاء نفسها، صاحب تبيينٍ وتنوير، فكان يذهب ويتحدّث. مع أنّها ساحة حرب، والمتوقَّع إراقة الدماء، لكنّه عليه السلام كان ينتهز أيّ فرصة للتحدُّث مع الطرف المقابل، عسى أن يستطيع إيقاظهم. بعض النيام استيقظوا طبعًا، وبعض المتظاهرين بالنوم لم يستيقظوا حتّى النهاية. من الصعب إيقاظ الذين يتظاهرون بالنوم، وأحيانًا، من المستحيل إيقاظهم.

 

بوُرِكَت عليكم، جميعًا، هذه الأعياد السعيدة، إن شاء الله، ووفَّقَكم الله -تعالى- جميعًا، نساءكم ورجالكم، شيبكم وشبّانكم، لقلوبٍ مبتهجة، وأرواح متفائلة، وكيانٍ ملؤه السكينة والاستقرار والثقة والحركة نحو الهدف.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

351

 

 


299

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في مراسم تنفيذ رئاسة الجمهوريّة العاشرة

 

 

         

         

المناسبة:   مراسم تنفيذ رئاسة الجمهوريّة العاشرة

الحضور:  كبار المسؤولين في الجمهوريّة الإسلاميّة

المكان:   طهران

 

الزمان:    12/05/1388هـ.ش.

11/08/1430هـ.ق.

03/08/2009م.

 

 

353

         


300

خطاب الولي 2009

إنّه ليوم مبارك على شعبنا ومستقبلنا، إن شاء الله. وهذا الاجتماع، بدوره، اجتماعٌ له وزنه واحترامه. نسأل الله -تعالى- بتضرُّع، أن يشمل الشعب الإيرانيّ في هذه المرحلة الجديدة، وفي هذه الدورة الجديدة من إدارة البلاد، التي تبدأ من هذا اليوم، أن يشمله ببركاته ورحمته.

 

كانت كلمة رئيس جمهوريّتنا المحترم كلمةً رزينة وصحيحة ومناسبة. والمتوقَّع هو أن يجري الاهتمام، في الأعوام الأربعة القادمة، إن شاء الله، بالنقاط التي ذكرها.

 

سعيٌ وهمّةٌ ونشاط

إنّ قضيّة مشاركة الشعب، ومسألة الانتخابات في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، بهذا الشكل البديع والجديد الذي يُعرَض في العالم، قضيّةٌ على جانبٍ كبيرٍ من الأهمّيّة، ومن المناسب أن يجري التأمّل فيها أكثر، وأن تُناقَش وتُبحَث. القضيّة هي قضيّة السيادة الشعبيّة الدينيّة، أي المشاركة الواسعة للشعب، والتنافس الجادّ، وجهود الشعب الحقيقيّة، وهمّته، ونشاطه، إلى جانب المعايير الإسلاميّة والمِلاكات الإلهيّة. هذه التركيبة المذهلة[1] هي ما تحتاجه الإنسانيّة، وتتعطّش إليه.

 

لم يكن لنا في بلادنا، قبل انتصار الثورة، أيّ نصيب من المشاركة الجماهيريّة في مجالات اتّخاذ القرار. كان هناك حُكّام مسلَّطون على الناس بالقوّة، وبقهر السلاح، وقد فرضوا على الناس حكمًا مصحوبًا بالشدّة والضغط. وكانوا حينما يغادرون، يورّثون هذه الأمانة الإلهيّة العظيمة -أي الحكومة والولاية على الناس- أبناءهم، وكأنّها من أموالهم وممتلكاتهم الشخصيّة. لم يكن للناس أيّ دور. وكان الذين يتشدّقون في


 


[1] أي السعي والنشاط، مع رعاية المعايير الإسلاميّة.

 

 

355


301

خطاب الولي 2009

العالم اليوم، بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان وما إلى ذلك، يدعمون ذلك النظام المتجبّر المستبدّ، مع ما لديه من أساليب ظالمة وخاطئة في الحكم، ويتعاونون معه. وفي البلدان التي يكون فيها لحضور الجماهير تأثير في الحكم -ولو ادّعاءً في الظاهر على الأقلّ- ترى القِيَم المعنويّة غائبة عن الساحة.

 

الجمهوريّة الإسلاميّة هديّة الثورة

ما يميّز الجمهوريّة الإسلاميّة، كظاهرةٍ بديعة، هو مشاركة الشعب، والعلاقة بالقيَم المعنويّة، والحكم الإلهيّ، والخضوع والتسليم أمام الخالق. هذان الأمران يشكّلان حقيقةً واحدة. وإنّ النقاش حول هل إنّ الجمهوريّة هي المتقدّمة في النظام الإسلاميّ، أم الإسلاميّة، هو نقاش مغرِض، لا معنى له. الإسلاميّة والجمهوريّة ليسا عنصرَين منفصلَين تمّ توصيلهما، فأوجدا حقيقةً واحدة، الجمهوريّة موجودة في صميم الإسلاميّة. ثمّ إنّ في قلب (صميم) الاستناد إلى الحكم الإلهيّ، هناك اعتمادٌ على الشعب، واحترامٌ لإرادته وأصواته. الجمهوريّة الإسلاميّة حقيقةٌ واحدة، وهي هديّة الثورة الإسلاميّة لشعب إيران. هذا هو الشيء تمّ اختباره، وأثبتَت الامتحانات كفاءته على أفضل نحو، في الأعوام الثلاثين الأخيرة.

 

يجب على الذين يدّعون الديمقراطيّة، أن يجيبوا كم هو حجم الديمقراطيّة الحقيقيّة في منظومة حكوماتهم. وأين يوجد هناك، ما هو موجودٌ هنا لدى الشعب، من اندفاع وانجذاب إيمانيّ يموج في قلوب أفراد الشعب الإيرانيّ، ويأخذ بأيديهم إلى صناديق الاقتراع لأداء الواجب؟ أين يمكن مشاهدة مثل هذا، في تلك الديمقراطيّات؟ هذ الأسلوب البديع للحكم، هديّة الإسلام لنا. إلى جانب هذه الحقيقة، يجب التنبُّه إلى عظمة إمكانيّات الجمهوريّة الإسلاميّة، والنظام الذي يقوم عليها.

 

مضت ثلاثون سنة على الثورة، وأُقِيمَت، طوال هذه المدّة، ثلاثون عمليّة انتخاب تقريبًا. وقد شملت هذه الانتخاباتُ مسؤولي البلاد التنفيذيّين، والمسؤولين التشريعيّين، ومسؤولي المدن. وقد أُقيم أساسُ النظام الإسلاميّ ودستوره، وعُيِّن مسؤولوه الكبار، بناءً على رأي الشعب. وإنّ طاقات هذا النظام القائم على هذه الحقيقة، وإمكانيّاته، لهي

 

 

356


302

خطاب الولي 2009

أكبر وأرقى بكثير ممّا يراه الآخرون من خارج المشهد، وممّا يحلّلونه، وممّا يتحدّثون به. بغضّ النظر عن الكلام المغرِض، حتّى الكلام الذي لا يُقال لأغراضٍ معيّنة، فهو ينجُمُ، غالبًا، عن عدم فَهمِ حقيقة الجمهوريّة الإسلاميّة. تمتّع النظام الإسلاميّ بمثل هذه الإمكانيّة العظيمة. طوال هذه الأعوام الثلاثين، حيث عملت الأذواق السياسيّة المختلفة داخل هذه الإمكانيّة الهائلة، وحدثَت عمليّة نقل السلطة (من رئيس إلى رئيسٍ آخر) بهدوء، وتمّ تداول السلطة التنفيذيّة بمحبّة واحترام. جاءت أذواق مختلفة، وكان لبعض الإدارات، في فترات معيّنة من هذه الأعوام الثلاثين، زوايا اختلاف معيّنة عن مباني الثورة، لكنّ الثورة استطاعَت، بإمكانيّاتها، أن تستوعبهم في داخلها، وتذيبهم في أتونها، وتهضمهم، كما استطاعت أن تضاعف (الثورة) من قدراتها وتجاربها، وتواصل طريقها باقتدارٍ أكبر. وإنّ الذين أرادوا توجيه الضربة لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة، من داخله، لم ينجحوا.

 

واصلَت الثورة طريقها ومسارها المستقيم، بمزيدٍ من الاقتدار، حتّى اليوم، وكلّ الذين كانوا حاضرين داخل هذا النظام، بدوافع مختلفة، ساعدوا على اقتدار هذا النظام، شاؤوا أم أبوا. ينبغي النظر إلى هذه الحقيقة بدقّة. هذه الإمكانيّة العظيمة هي وليدة هذه الجمهوريّة، وهذه "الإسلاميّة" وناشئة عن السيادة الشعبيّة الدينيّة والإسلاميّة. هذا هو ما أوجد هذه الإمكانيّة الهائلة، وهذا هو سرّ بقاء الجمهوريّة الإسلاميّة، ومناعتها، وصلابتها، وهو ما تمتلكه الجمهوريّة الإسلاميّة في ذاتها، وسنحافظ عليه دومًا، إن شاء الله.

 

كانت انتخاباتنا لهذا العام، انتخابات مهمّة جدًّا، وكان لها رسالتها، وكان هناك تجارب في نطاقها، كما كانت وسيلة لاختبارات معيّنة. لقد عرَّضَتنا هذه الانتخابات لامتحاناتٍ معيّنة. لقد كانت انتخابات مباركة جدًّا، في رأيي.

 

أوّلًا، كانت رسائل هذه الانتخابات مهمّة جدًّا.

الرسالة الأولى لهذه الانتخابات، هي أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة على الرغم من مضيّ ثلاثين سنة، تملك القدرة على تعبئة (أفراد) الشعب، وإنزالهم إلى الساحة بشكلٍ يحطّم الأرقام القياسيّة العالميّة. توقَّع بعضهم، طوال هذه الأعوام، أن يبلى النظام

 

 

357

 


303

خطاب الولي 2009

الإسلاميّ، ويسقط من أعين الناس، ويفقد قدرته على تعبئة الجماهير، ولكن أثبتت هذه الانتخابات أنّه كلّما مرّ يومٌ، ازداد النظام الإسلاميّ قدرةً على تعبئة الجماهير، ونجاحًا في كسبِ ثقتهم، هذه حقيقة مهمّة جدًّا. إنّ بعض الأمور الهامشيّة تُغيِّب هذه الأصول المهمّة عن الأنظار. أصل الحقيقة في هذه الانتخابات، هي أنّ الثورة الإسلاميّة والنظام الإسلاميّ يتمتّعان بحياةٍ وجاذبيّة، وهما سائران في طريق الرشد والتعالي، إلى درجة أنّه على الرغم من مضيّ ثلاثة عقود، لا يزال لديهما هذا المستوى من القدرة على تعبئة الجماهير، وإحضارهم إلى الساحة. وإنّ (نسبة) نصاب الخمسة وثمانين في المئة نسبة منقطعة النظير في العالم كلّه، أو إنّها نادرة النظير على الأقلّ.

 

والرسالة الثانية لهذه الانتخابات وهذا الحضور الجماهيريّ العظيم، هي وجود الثقة المتبادلة بين النظام الإسلاميّ والشعب. فقد فُتِحَت في هذه الانتخابات الساحة للحوار، ولدخول أشخاصٍ بميولٍ مختلفة، واستقطاب أفكار ورؤى مختلفة، وعرضها. هذا (الأمر) دليل ثقة النظام بنفسه، ومؤشّر ثقة النظام الإسلاميّ بشعبه. كما أنّ الشعب، في المقابل، يثق أيضًا بالنظام، وقد جاءت جماهيره وأدلت بأصواتها. لولا الثقة بالنظام، لَما كان هذا الاهتمام والإقبال الشعبيّ. أمّا الذين يتحدّثون عن افتقاد الثقة الشعبيّة، فإذا لم يكن كلامهم هذا مغرِضًا، فهو عن غفلة -فأيّ ثقةٍ أعلى من أن يَحضر الشعب، ويدخل في ساحة الانتخابات، وتثق الجماهير بنظامها وحكومتها، فتمنحها أصواتها، وتنتظر منها سماع نتائج التصويت؟ هذه ثقة الناس العالية. وهي ثقة لا تزال قائمة بتوفيقٍ وفضلٍ من الله -تعالى-، ونتوقّع أن يضاعف مسؤولو البلاد والعاملون في القطاعات المختلفة هذه الثقة عبر سلوكهم. هذا هو الرصيد (الرأسمال) الأصليّ للنظام الإسلاميّ.

 

ورسالةٌ أخرى

وقد كانت في هذه الانتخابات رسالة أخرى هي: وجود النشاط والحيويّة والأمل لدى الشعب. وهذا شيءٌ طبيعيّ في بلدنا ومجتمعنا، لأنّ أكثريّة بلدنا هم من الشباب، والذين هم مظهر الحيويّة والأمل. نزلوا إلى الساحة بأمل. ولولا الأمل بالمستقبل،

 

 

358

 


304

خطاب الولي 2009

فإنّ القلب اليائس المكتئب لا يخوض ساحة الانتخاب. مشاركة الشعب ومشاركة الشباب دليل الأمل.

 

"ومَن نامَ لم يُنَمْ عنه"

وقد انطوت هذه الانتخابات على تجارب. تضمّنَت تجربة لشعبنا ومسؤولينا، وأنا أصرّ على أن ننظر جميعًا إلى هذه التجربة، بعين الجدّ. على المسؤولين كافّة، وكذلك على جميع أبناء الشعب، أخذها مأخذ الجدّ. التجربة هي أن نعتقد دائمًا، أنّه بإمكان العدوّ توجيه الضربة إلى الثورة، حتّى في أفضل الظروف. علينا دومًا، أن نوجّه نظرنا إلى كمائن الأعداء. وإنّ الغفلة عن إمكانيّة توجيه العدوّ ضربةً إلى حركة الشعب الإيرانيّ العامّة، لهو شيءٌ خطير، كونوا حذرين! إنّها توصية أمير المؤمنين (سلام الله عليه)، حيث قال: "ومَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْه"[1]. يجب أن لا يغلبنا النوم في ميدان الحياة السياسيّة، يجب أن لا ننام خلف متاريسنا. إنْ نمتَ أنتَ، فيجب أن تعلم أنّ العدوّ ربما كان يقظًا. هذا ليس محض تحليل، إنّما هو معلومات. لقد حاول أعداء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة وسعوا، لعلَّهم يتمكّنون داخل مناخ الحرّيّة الذي منحه النظام الإسلاميّ للشعب، من أن يخلقوا للناس متاعب ومشاكل. سعوا، وأنفقوا الأموال، ووظّفوا وسائل إعلاميّة كثيرة، وعبّؤوا عملاء كثيرين، لعلّهم يصنعون من هذا الوضع، الذي يُعتَبَر عيدًا لشعب إيران، واحتفالًا وطنيًّا كبيرًا، وضعًا ضدّ الشعب الإيرانيّ. بُذِلَت مثل هذه المساعي. يجب أن تكون هذه التجربة إنذارًا لنا جميعًا، ولكلّ أبناء الشعب. إذا كنّا سيّئي الثقة، بعضنا ببعض، في ساحة الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، وكنّا ننظر، بعضنا إلى بعض، بعين العداء، فسوف تسنح هذه الفرصة لأعدائنا الحقيقيّين. إذا لم نفكّر، ولم تكن لدينا بصيرة، وإذا نسينا أنّه ثمّة أعداء يكمنون للثورة، فسوف نتلقّى ضربة. كانت هذه تجربة لنا.


 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص452.

 

 

359


305

خطاب الولي 2009

تحلّوا باليقظة

لم يكن لنا منذ بداية الثورة، انتخابات بمشاركة تبلغ أربعين مليون، وبنسبة خمسة وثمانين في المئة. وهذه أوّل انتخابات توافرَت فيها مثل هذه الفرصة الكبيرة. ولكن في هذه الفرصة ذاتها، وفي هذا الفرح الكبير نفسه، تغلغلَت أيادٍ لتوجيه ضربات إلى الشعب الإيرانيّ. ينبغي التحلّي باليقظة، وهذه اليقظة ليست باللسان فقط. على كلّ واحد من أبناء الشعب، وكلّ الاتّجاهات السياسيّة المختلفة، وكلّ من يحبّ البلاد، ومن يحبّ النظام الإسلاميّ، على الجميع أن يتحلّوا باليقظة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، ولا ينخدعوا.

 

هناك أيدٍ عملَت منذ فتراتٍ طويلة، ومهّدت الأمور، لتستطيع استغلال فترة الانتخابات ضدّ شعب إيران. لحُسن الحظّ، كان الشعب الإيرانيّ، ولا يزال يقظًا. لوَّثوا الأجواء، وبثّوا المرارة في النفوس إلى حدٍّ ما، لكنّهم لم يستطيعوا القيام بما يريدون. كان هذا بفضل يقظتكم أنتم، أيّها الشعب. وهذه تجربة لنا، لكي نعلم أن العدوّ يكمن لنا.

 

بمسجدٍ ضرار، لن تهزمونا

وأعتقد أنّ أعداءنا أيضًا تعلّموا درسًا من هذه الانتخابات، وإذا لم يكونوا قد تعلّموا، فعليهم الآن أن يتعلّموا، وهو: فليعلموا أيّة حقيقة يواجهون، ولا يخطئوا في فهم النظام الإسلاميّ والثورة الإسلاميّة، ولا يتوهّموا أنّ بإمكانهم تركيع الثورة الإسلاميّة والنظام الإسلاميّ، بمثل هذه الممارسات التافهة. إنّ النظام الإسلاميّ حيّ، فلا يتوهّموا أنّ بوسعهم عبر تقليد مغلوط (خاطئ) لمشاركة الشعب الهائلة في ثورة عام 1357 (1979م)[1]، وعبر رسمٍ كاريكاتوريٍّ لتلك الثورة، بوسعهم توجيه ضربة لعظمة الثورة والنظام الإسلاميّ. ينبغي أن تكون هذه التجربة قد حصلت للأعداء، فلا يخطئوا، لن يُهزم النظام الإسلاميّ بمثل هذه الأمور.


 


[1] المقصود هنا أنّ الفريق المعارض المدّعي للتزوير، وعبر الحركة التي قام بها، حاول تقليد حركة الثورة عام 79، وخروج المظاهرات والاعتراضات المختلفة على النظام السابق.

 

 

360


306

خطاب الولي 2009

لقد تجلّت عظمة هذه الثورة، وعظمة هذا النظام، وتجذُّر نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، واتّضح ذلك لأعداء الجمهوريّة الإسلاميّة أكثر، في أحداث الشهر أو الشهرين الأخيرَين. هذا الشعب شعب مؤمن ويقظ وموهوب. لا يمكن هزيمة هذا الشعب بمسجد ضرار. لدينا في تاريخنا نماذج لهذا الأمر: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ﴾[1]. لا يمكن عبر تقليد أداء قائد الثورة العزيز العظيم، إمامنا الجليل الذي كان غارقًا في القرآن بكلّ فؤاده وروحه وكيانه، لا يمكن خداع هذا الشعب. قلوب هذا الشعب مستضيئة بنور الإيمان. إنّه شابٌّ يقظ، شبابنا يقظون. هذه تجربة للأعداء.

 

امتحان الانتخابات نجاحٌ ورسوبٌ

وقد انطوَت هذه الانتخابات على امتحانات. من الامتحانات، الامتحان الذي خاضه أبناء الشعب، وأعتقد أنّ الشعب نجح في هذا الامتحان، وأحرز درجات القبول. كانت مشاركة الشعب الهائلة امتحانًا عظيمًا، خرج الشعب منه مرفوع الرأس. الكثير من أبناء الشعب، ومن التيّارات السياسيّة، عملوا بما أملاه عليهم الواجب، لكنّ بعض الخواصّ رسبوا طبعًا. فقد جعلَت هذه الانتخابات بعضهم يرسبون. وأخطأ بعض شبابنا الذين خاضوا الساحة بصدق وسلامة، في بعض الحالات، على الرغم من يقظتهم. وسار كثير من شباب البلاد بشكلٍ صحيح، معتمدين على ذلك الإيمان والصدق نفسه. آمنوا بشخصٍ معيّن، ومنحوه أصواتهم، ثمّ فاز ذلك الشخص أو لم يفُز، هذا ليس ملاكًا. إنّما المِلاك هو أن يكون للإنسان عقيدته، ويخوض ساحة العمل السياسيّ انطلاقًا من شعوره بالواجب، ثمّ يُسلِّم للقانون. الأكثريّة الساحقة للشعب -من شباب، ونخب، وكتل شعبية هائلة- كانت ضمن هذه الفئة، ونجحَت في هذا الامتحان، وبعضهم انخدعوا طبعًا.

 

وكان ثمّة امتحان لمسؤولي البلاد. عليهم معرفة قدر هذه النعمة. على رئيس جمهوريتنا المحترم المنتخَب، الذي تولّى هذه المسؤوليّة الكبرى مِن قِبَل الجماهير،


 


[1] سورة التوبة، الآية 107.

 

 

361


307

خطاب الولي 2009

بأصواتٍ عالية وبنسبة منقطعة النظير، معرفة قدر هذه النعمة، وشكرها. وأيضًا، على زملائه في الحكومة المستقبليّة، أن يعرفوا قدر هذه النعمة، عليهم معرفة قدر الإسلام، وقدر الإيمان، وقدر هذا الضياء الذي أنار قلوب الشعب، وأخذ بأيديهم إلى هذه الساحة. وإنّ تقدير عظمة هذه الثورة يقتضي أن يبذل مسؤولو البلاد كلّ قدراتهم وجهودهم، لخدمة الشعب، والتقدُّم نحو أهداف الثورة.

 

الحكومة للجميع

النقاط التي ذكرها رئيس الجمهوريّة العزيز المحترم، كانت جيّدة. ينبغي وضع البرامج، والتقدُّم بها إلى الأمام. إنّني أوصي مسؤولي البلاد والحكومة التي ستتشكّل، أن تهتمّ بالبرمجة في العمل. تساعد البرمجةُ الجماهيرَ على الوثوق بما يرونه أمامهم، وأن يحكموا بشأن تقدُّم البلاد. وإنّ الاعتماد على البرامج والخطط، وعلى القانون، وتعاوُن السلطات الثلاث، بعضها مع بعض، من الواجبات الرئيسيّة، ومن عناصر الشكر والتقدير. إنّها من أجزاء ذلك الشكر العظيم، الذي يجب علينا تقديمه. يجب أن نشكر الله -تعالى-.

 

الله -تعالى- هو المهيّئ لهذه الفرص، والمانح لهذه النعَم الكبيرة. هذا الشكر ليس باللسان فقط. فالشكر في إطار عمل المسؤولين، هو قيامهم بواجباتهم والمسؤوليّات الملقاة على عواتقهم. والمقتضيات الضروريّة لهذه المسؤوليّات هي التنسيق بين السلطات الثلاث. على المجلس مساعدة الحكومة، وعلى الحكومة التعاون مع المجلس، وعلى السلطة القضائيّة مساعدة الحكومة والمجلس، مِن موقعها الخاصّ. فلتعاضد السلطاتُ بعضها بعضًا. وأمّا الحكومة فهي لكلّ هذه الأعداد الهائلة التي شاركت في الانتخابات، ورئيس الجمهوريّة لهم جميعًا. هذا ما ينبغي أخذه بنظر الاعتبار، بكلّ تأكيد، أثناء العمل والبرمجة.

 

طبعًا، ثمّة فئتان ينبغي الاهتمام بهما، إلى جانب محبّي رئيس الجمهوريّة المحترم - وله الكثير من المحبّين داخل البلاد، وحتّى خارجها - بمعنى أنّه يجب أخذ وجودهما بالحسبان. فئةٌ منهما هي فئة المعارضين الغاضبين المجروحين، ولا شكّ أنّهم سيعارضون

 

362

 

 


308

خطاب الولي 2009

الحكومة أثناء دورة الأعوام الأربعة القادمة. لقد عارضوا، وسيواصلون معارضتهم. ولكن ثمّة فئة أخرى هي جزء من النظام، وليس لها أيّة عداوة مع رئيس الجمهوريّة والنظام، لكنّها قد توجّه بعض الانتقادات. ينبغي أخذ هؤلاء الناقدين بنظر الاعتبار، والاستماع إلى آرائهم، وقبول ما يمكن فهمه وقبوله. وأرجو أن يجري العمل بهذا الشكل، وسيجري العمل بهذا الشكل، إن شاء الله.

 

أبناء الشعب كلّهم إخوة. من جملة الأعمال التي يجب القيام بها: مسارعة المسؤولين إلى مساعدة من تضرّروا في هذه الأحداث الأخيرة، سواء أصابتهم أضرار ماليّة وأضرار في الأرواح، أو ربّما أضرار في سمعتهم. يجب حماية المتضرّرين، ويجب تشخيص مَن ألحقوا هذه الأضرار، ومحاسبتهم (ومؤاخذتهم)، أيًّا كانوا.

 

مكافحة التخلّف

يوجد في بلادنا إمكانيّات واسعة، وحاجاتها كثيرة، وأمامها أهداف طويلة الأمد. إمكاناتنا كبيرة جدًّا. لدينا إمكانات وخيّرات طبيعيّة ومناجم، وأيضًا طاقات بشريّة هائلة، وهي أهمّ من كلّ شيء. الموهبة البشريّة في بلادنا، أعلى من الحدّ المتوسّط في العالم. هذه أرصدة كبيرة جدًّا.

 

واحتياجاتنا (حاجاتنا) كبيرة أيضًا. نحن نعاني من تخلُّفٍ مزمن. يجب تلافي هذا التخلُّف على الأصعدة كافّة. على الصعيد العلميّ، وعلى الصعيد الصناعيّ، وعلى الصعد الاجتماعيّة، وفي المجالات الثقافيّة. هذه أمور تتطلّب العمل والجدّ. والحمد لله، الحكومة ورئيس الجمهوريّة المحترم من أهل الجدّ والعمل، وقد أدرك الناس ذلك، وفهموه، وشاهدوه، ولمسوه. ومن المؤكَّد أنّ نسبة التصويت المرتفع سبُبها هذا الجدّ والمثابرة لدى الحكومة التاسعة ورئيس الجمهوريّة المحترم. ينبغي مواصلة هذه الحالة. يجب ملء هذه الفراغات بتلك الإمكانات. ينبغي إنجاز أعمال كبيرة وباقية، وعلى الجميع المساعدة بهذا الاتّجاه. إذا أردنا بلوغ تلك الأهداف، فعلى الجميع أن يتعاونوا، ويتركوا الأذواق المختلفة جانبًا. أمّا وقد انتُخِبَت الحكومة ونزلت إلى الساحة، فعلى الجميع

 

 

363

 

 


309

خطاب الولي 2009

مساعدتها، سواء كانوا يوافقونها من حيث الذوق السياسيّ، أم لا. عليهم مساعدتها، سواء كان لديهم انتقادات تجاهها، أم لم يكن. تتحمّل السلطة التنفيذيّة والجهاز التنفيذيّ للبلاد العبء الأكبر. ينبغي مساعدته، وعلى الجميع مدّ يد العون، كي يستطيع، إن شاء الله، إيصال هذا الحمل إلى منـزله، وسيستطيع.

 

لا شكّ أنّ أدعية بقيّة الله (أرواحنا فداه) -الذي يُقام هذا المجلس وهذه المراسم الكبرى عشيّة ميلاده السعيد، وستكون أدعيته مبارِكة لهذا الاقتران- ستشمل، إن شاء الله، مسؤولي البلاد، وكلّ أبناء الشعب، وستدعو الأرواح الطاهرة للإمام الخمينيّ والشهداء الأبرار أيضًا، في عالم الملكوت، للشعب الإيرانيّ، إن شاء الله، ونرجو أن تكون أرواحهم الطيبة راضية عنّا، مسرورة بنا جميعًا.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

364


310

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء قرّاء القرآن الكريم

 

 

 

المناسبة:   بداية شهر رمضان

الحضور:  جمع من قرّاء القرآن الكريم

المكان:   طهران

 

الزمان:    31/05/1388هـ.ش.

01/09/1430هـ.ق.

22/08/2009م.

 

 

366


311

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد كانت جلسة طيّبة وحلوة، ملؤها الودّ والمحبّة. أوّلًا، جلسة القرآن هي بذاتها جلسة مؤنسة ولطيفة، خصوصًا مع هذه الألحان الجميلة والأصوات الحسنة. ثانيًا، بدء شهر رمضان المبارك بهذه الجلسة المباركة. نرجو الله -تعالى- أن يجعلنا وإيّاكم، من أهل القرآن، وأن تكون حياتنا حياةً قرآنيّة، إن شاء الله، ويكون مماتنا أيضًا، مماتًا طيّبًا أوصى به القرآن.

 

أوّلًا، لقد تنامت حال الأنس بالقرآن وتلاوة القرآن في البلاد، بشكلٍ واسعٍ جدًّا[1]. هذه التلاوات التي استمعنا لها، هي من التلاوات الجيّدة جدًّا -وأنا أشكر هنا جميع الإخوة الأعزّاء الذين تلوا القرآن هنا، وكذلك أشكر المنظِّمين لهذه الجلسة ولهذه التلاوات- فبعضها يرتقي بحقّ إلى حدود الضوابط والقواعد المثاليّة، سواء من حيث الأداء، أو من حيث اللحن، أو من حيث التجويد، أو من حيث ملاحظة المضامين والمفاهيم، وتنظيم الأداء بما يتناسب والمضامين والمفاهيم. لقد تقدَّم شبابنا إلى الأمام، والحمد لله، تقدُّمًا جيّدًا في هذه المناحي. هذه ظاهرة جيّدة. وقد قيل[2] مرارًا: إنّ هذه الجلسات، وهذا التشجيع على التلاوات الجيّدة، مقدِّمةٌ لجعل مجتمعنا يأنس بالقرآن الكريم، ويتخلَّص من الهجر الذي ابتُلِي به بلدُنا وشعبُنا لسنوات طويلة، وليقترب مجتمعنا من القرآن، هذا ما يتحقّق تدريجيًّا. طبعًا، لا تزال هناك مسافة طويلة جدًّا إلى أن يستأنس شعبنا كلّه، وشبابنا جميعهم، ورجالنا ونساؤنا بالقرآن، وإذا حصل الأنس بالقرآن، عندئذٍ، سيفسح المجال أمام الإنسان لأنْ يستفتي القرآن، ويطلب كلام القرآن في الميادين الحياتيّة المختلفة، ويستمع إليه. هذا ما يمكن أن


 


[1]  العبارة الحرفيّة: شهد الأنس بالقرآن وتلاوة القرآن في البلاد، نموًّا جيّدًا جدًّا.

[2] لم يقل سماحته: "قلت" أو "ذكرت" تواضعًا منه، وإنّما ذكر الفعل هنا بصيغة المجهول.

 

 

368


312

خطاب الولي 2009

يحصل في ظلّ الأنس بالقرآن. وإلّا فليس بإمكان أيٍّ كان أن يفتح القرآن من دون أيّ استئناس به، أو سابقة معرفة به، ويجد فيه بالضرورة ما يصبو إليه. لا، ففي كثير من الأوقات، لا يمدّ القرآن يده، ولا يستطيع القلب التقرّب إلى المفاهيم والمعاني القرآنية. لكن مع وجود الأنس بالقرآن، يصبح الأمر عمليًّا (أمكن الانتفاع منه). إذًا، هذه مقدّمات للأنس بالقرآن.

 

إنّني كالعادة، أقدّم بعض الوصايا لقرّائنا الأعزّاء. وأذكر وصيّة أخرى هذه السنة، هي أنّ هذه الألحان والأطوار الجيّدة تُلقي القرآن في القلوب، وتجذب إليه الأسماع، وتؤثّر في نفوذ القرآن. ولكن يمكن أداء هذه الألحان المتنوّعة بهذه الأصوات الحسنة، على شكلَين: أحدهما أن يقرأ الإنسان فقط، هذا شكل. لدينا بين القرّاء المصريّين المعروفين -وهم كبار القراّء- مَن هو على هذه الشاكلة. هذه مجرّد قراءة، وهي قراءة جيّدة، وبصوت حسن، والألحان والإيقاع جيّدان. والشكل الآخر هو أن يقرؤوا القرآن بنحو -بهذه الأصوات وهذه الألحان والأنغام- يبعث على خشوع القلوب وتذكيرها بالله: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾[1]. ليحصل هذا، قراءة تقرِّب الإنسان إلى حال الخشوع والتضرُّع. هذا شكل آخر. هناك من بين القرّاء المعروفين، مَن هم من هذا النمط، قراءتهم قراءة خاشعة. يجب مراعاة ذلك، خصوصًا من قِبَلكم أنتم الشباب أصحاب الأصوات الحسنة، والحمد لله، ويجب التمكُّن الجيّد من القراءة، وأشعر أنّكم على معرفة بمعاني الآيات التي تقرؤونها، ومفاهيمها. لم يكن الأمر هكذا من قبل. لم يكن كذلك في العقد الأوّل من الثورة. كانت الأصوات جيّدة، لكنّهم لم يكونوا يهتمّون، غالبًا، بالمعاني والمفاهيم. والحمد لله، نجد اليوم أنّ هذا التقدُّم قد حصل لدى الشباب. هذه ظاهرة جيّدة. ولكن راعوا هذا الجانب أيضًا، وخذوه بنظر الاعتبار في ضوابط تلاواتكم، حتّى يحصل الخشوع. إذا حصل الخشوع أمام الآيات، عندئذٍ، يتأثّر القلب بالهداية القرآنيّة. ترون بعض القلوب لا تتأثّر مهما قُرئ عليها من آيات القرآن وهداياته، وبعضٌ آخر على العكس: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن

 


[1] سورة الأنفال، الآية 2.

 

 

369


313

خطاب الولي 2009

يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾[1]. يجب أن نطلب من الله -تعالى- أن يجعل قلوبنا من القلوب التي تتأثّر بالهداية القرآنيّة، وتستلهم الدروس من الإشارات القرآنيّة[2].

 

نحن جميعًا نقرأ الآيات باستمرار، ونكرّرها، ونذكرها لبعضنا، أنتم تذكرونها لي، وأنا أذكرها لكم. إذًا، يجب والحال هذه، أن تتأثّر قلوبنا بهذه المفاهيم. لنفترض مثلًا، قوله -تعالى-: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا﴾[3]، هذه الآية تعليم قرآنيّ إذًا، وقد كرّرناها دائمًا، ونقرؤها باستمرار. حينما تنزل هذه الآية الكريمة على قلوبنا، كإلهام إلهيّ -إذا اجتذبها القلب، وهضمها، وأخذها وصار على شكلها، وانصبّ القلب، وانصبّت الروح في قالبها- عندئذٍ، ستكون قضيّة الوحدة قضيّةً أساسيّة لنا، فلا نفسد الوحدات الوطنيّة العظيمة، لأغراض ومقاصد شخصيّة. لاحِظوا أنّ الآية تترك أثرها هنا. إذا نزلت آيات القرآن على قلب الإنسان، واجتذبها القلب، وفهمها، وتشكّل بشكلها، عندها حينما يُقال لنا: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ﴾[4] سيكون قبول هذا المفهوم يسيرًا علينا. المؤمنون أشدّاء على الكفّار، وليس معنى الشدّة أن يسحق الإنسان العدوّ ويقمعه بالكامل، لا، أحيانًا تقتضي الحال القمع، وأحيانًا لا تقتضي القمع. ولكن ينبغي على كلّ حال، أن يكون الإنسان شديدًا صلبًا أمام الأعداء، يجب أن لا تكون سواتركم أمام الأعداء هشّة، حتّى لا يستطيعوا النفوذ والتغلغل والتأثير. هذا هو حال المؤمنين أمام الأعداء. وفي المقابل، ﴿رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ﴾، يجب أن نكون رحماء وعطوفين فيما بيننا، ينبغي أن نتعامل باللين مع بعضنا. هذا هو أمر القرآن على كلّ حال، فلماذا لا نعمل به؟ أين هي المشكلة؟ المشكلة تكمن هنا.

 

إذا جعلنا قلوبنا أوعية تستضيف شآبيب (أمطار) رحمة القرآن، وأمطار هدايته، إذا سلّمنا القلوب للقرآن، كانت تلك الأمور سهلة علينا. عندئذٍ، لن تؤدّي المقاصد


 


[1] سورة الأنعام، الآية 125.

[2] عبّر سماحته: وتستلهم الدروس مقابل الهداية القرآنيّة، وإصبع الإشارة القرآنيّ.

[3] سورة آل عمران، الآية 103.

[4] سورة الفتح، الآية 29.

 

 

370


314

خطاب الولي 2009

الشخصيّة، والأغراض الشخصيّة، والمصالح المادّيّة، وطلب السلطة، وحبّ المال، والصداقات الخاصّة، إلى أن ينسى الإنسان هذه التوصية القرآنيّة والهداية القرآنيّة، ويفقدها، ويتركها وراء ظهره.

 

إنّ فتح المصحف أمامنا، والاستماع لآيات القرآن، وقراءتها، يجب أن تأخذ بأيدينا إلى هذه المستويات، درجةً درجةً. هذه هي الحال الصحيحة التي يجب أن نحقّقها، وهذه هي خصوصيّة القرآن الكريم، هذا الكتاب السماويّ. ليس القرآن كباقي الكتب العاديّة، يقرؤها الإنسان مرةً واحدةً، ثمّ يغلقها ويتركها، لا، إنّه كماء الشرب، كماء الحياة، يحتاجه الإنسان دائمًا. تأثيره تدريجيّ، ويستغرق زمنًا، ولا نهاية له، لا نهاية لهداية القرآن. كلّما تعلّمتم من القرآن أكثر، انفتحَت أمامكم أبواب، وانفتحت عقد، واتّضحَت مجهولات، هكذا هو القرآن. لذلك، ينبغي قراءة القرآن دومًا. والوسيلة لذلك هو أن يكون لنا أُنسنا بالقرآن. ليقرأ شبابنا القرآن بأصوات حسنة وألحان جيّدة، ويراعوا فيه الجوانب المختلفة. وكما ألمحت، ليجعلوا الخشوع من العناصر البنّاءة في التلاوة.

 

ربَّنا، أحيِنا بالقرآن، وأمِتنا بالقرآن، واحشرنا مع القرآن. ربَّنا، اجعل قلوبنا مستقبِلةً للهداية والمعرفة القرآنيّة، واجعلنا من أهل التوحيد. اللهمّ، بحقّ محمّد وآل محمّد، اجعل شهر رمضان هذا مباركًا على شعبنا، وعلى الأمّة الإسلاميّة. اللهمّ، زد يومًا بعد يوم، من انتشار القرآن، وشياعه، وتداوله بين الأمّة الإسلاميّة. اللهمّ، اشمل الماضين منّا برحمتك ومغفرتك.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

371

 


315

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء الطلبة النخبة

 

 

         

المناسبة:   لقاء الطلبة النخبة

الحضور:  جمع من الطلبة النخبة

المكان:   طهران

 

الزمان:    04/06/1388هـ.ش.

05/09/1430هـ.ق.

26/08/2009م.

 

 

373


316

خطاب الولي 2009

هذه الجلسة هي كما يتوقّع المرءُ من جلسة يحضرها الطلبة الجامعيّون والشباب. حينما يتأمّل المرء في ما قيل -وقد كانت كلمات الإخوة والأخوات متقنة ودقيقة وجديدة، وتحليلات صحيحة- يجد أنّ الميزة الرئيسيّة لكلّ هذا الكلام، هو الإخلاص والصدق والبُعد عن المجاملة، ويجد ما هو متوقَّع من شابّ متعلّم محصّل، ومن النخبة. أنتم طبعًا، لستم جميع الطلبة الجامعيّين في البلاد، وربّما لا تكونون ممثّلين لجميع الأفكار المتنوّعة والأذواق الطلابيّة المتعدّدة، ولكن ممّا لا شكّ فيه، أنّ هناك تشكيلًا (جماعة) عظيمًا من الطلبة الجامعيّين يفكّر بما صرّحتم به هنا، مع وجود اختلافات في الآراء، التي ربّما بانَت على كلماتكم.

 

أنتم ضمانة البلد

لديّ الكثير ممّا أقوله لكم -أنتم الشباب الحاضرين هنا، ومجموع الطلبة الجامعيّين في البلاد- وقد تحدّثتُ سابقًا، وسأبقى أتحدّث معكم، أيّها الشباب الأعزّاء، بمقدار استطاعتي. وأنا واثق أنّ ما يؤمِّن ويضمن مستقبل هذا البلد، بل مستقبل الإسلام والأمّة الإسلاميّة، هو هذه الروح المتوثّبة المتفجّرة الباحثة المطالبة، المليئة بالمشاعر والعواطف التي يشاهدها المرء في جيل الشباب، ولدى الطلبة الجامعيّين في بلدنا. بمعنى أنّكم حتّى لو لم تكونوا مؤمنين بفكرة معيّنة على نحو القطع، أو لا تمتلكون عليه دليلًا عميقًا، إلّا أنّ مجمل حركة الطلبة المسلمين المؤمنين، على اختلاف المسمّيات، تبشّر في عموم البلاد، بمستقبل زاهر لهذا البلد والنظام وللأمّة الإسلاميّة. هناك أمور تهتمّون بها، وثمّة نقاط تؤكّدون عليها، وتتابعون وتصرّون على نقاط صحيحة، هذه نقاط إيجابيّة متوفّرة، والحمد لله.

 

 

374

 


317

خطاب الولي 2009

الآن، سوف أستعرض في عدّة دقائق، بعض القضايا التي طُرِحَت عليّ على شكل سؤال، أو أخالُ أنّني يجب أن أوضّحها، ثمّ أذكر نقطة أو نقطتين تجولان في ذهني، إذا كان هناك متّسع من الوقت، قبل أن يحين وقت الأذان.

 

حول معاقبة المجرمين ومحاكمتهم

الجزء المهمّ من كلمات أصدقائنا، يتعلّق بالمجرمين الذين كان لهم دورهم في الأحداث الأخيرة، من خلف الكواليس، وأنّه لماذا لا يُحاكَم هؤلاء؟ ولماذا لا يُعاقَبون؟ ولماذا لا يجري التصدّي لهم؟

 

أقول لكم: إنّه في قضايا بهذه الأهمّيّة، لا يمكن العمل على أساس التخمينات والظنون والإشاعات وما شاكل. إنّنا نعتبر هذه الثورة وهذا النظام العظيم حصيلة جهاد شعب كبير، وتضحيات جبّارة قدّمها شبابه، سواء في مرحلة الثورة، أو في مرحلة الدفاع المقدّس، أو ما بعد ذلك، وإلى اليوم، شباب أمثالكم، أنتم المتواجدين في الميادين المختلفة، وتقومون أحيانًا بأعمال كبيرة.

 

لا يمكن أن يكون استمرار هذا النظام ومسيرته العامّة على المستوى الذي يستلزم قرارًا كبيرًا عامًّا من القيادة، قائمًا على الظنون والحدس وما إلى ذلك.

 

واعلموا أنّه لن يحصل أيّ تغاضٍ أو تساهل عن الجرائم والجنايات، لكنّنا، أنا أو أنتم - المسألة لا تختلف، سواء أنتم الطلبة الجامعيّون المنطلقة ألسنتكم ويمكنكم التحدّث بسهولة، أو أنا الذي أحمل تجارب جمّة لسنوات طويلة من العمل الميدانيّ، لا اختلاف في المسألة هنا - لا نستطيع أن نحكم على الجهاز القضائيّ بأن يقضي بكذا أو كذا. لا، على الجهاز القضائيّ أن ينظر، وإذا وجد أدلّة على تجريم أحد، سواء في المجال السياسيّ، أو على المستوى الاقتصاديّ، أو في ميدان المفاسد المختلفة، فينبغي له الحكم طبقًا للأدلّة. الشائعات التي سمعتم بها، أسمعُ أنا أيضًا بالكثير منها. قد يكون الكثير منها مطابقًا للواقع، ويمكن للمرء التماس شواهد وقرائن لها، إلّا أنّ القرائن والشواهد المشتّتة لا يمكنها إثبات جناية على أحد. انتبِهوا لهذه النقطة. لذلك، فالمسألة ليست أنّ هناك مجرمًا (قطعيًّا) محقّقًا عمل خلف الكواليس، والأجهزة المختصّة تعتزم التغاضي عن

 

 

375


318

خطاب الولي 2009

جريمته لأسباب معيّنة. هذه نقطة.

 

وهناك نقطة أخرى إلى جانبها: يجب أن تتمّ الأعمال التي يقوم بها النظام، على المستوى العامّ والواسع[1] الذي تتّسم به بعض المسائل، بأخذ جميع جوانب القضيّة بعين الاعتبار، لا أن ننظر إلى المسائل من زاوية واحدة. أعتقد أنّكم إذا نظرتم للأمور من زاوية هذه الاعتبارات، فإنّ ما تمّ إنجازه حتّى الآن، وما سوف يُنجَز في المستقبل، يمكن أن يُقنع أيّ ذهن منصف.

 

حول الجرائم والمخالفات

الموضوع الآخر الذي طُرِح في كلمات الأعزّاء، هو المخالفات، أو حتّى الجرائم التي ارتُكِبَت في هذه الأحداث، مِن قِبَل قوى وعناصر مجهولة. أشرتم إلى أحداث الحيّ الجامعيّ، أو أحداث أخرى من هذا القبيل. كرّر العديد من الطلّاب الأعزّاء حادثة الحيّ الجامعيّ، وحصلَت حوادث مشابهة لحادثة الحيّ الجامعيّ في هذه المدّة، مثلًا، قضيّة كهريزك. هذه القضايا هي، حقًّا، من مشاكل عمل الأجهزة التنفيذيّة، ومعضلاتها.

 

أوّلًا، اعلموا علم اليقين، أنّه سيتمّ محاسبة هؤلاء، ولا نريد إثارة الضجيج وإصدار الأوامر، فتصدر هذه الأوامر في وسائل الإعلام، وتلحق بها ملاحق وهوامش. أنا لا أرغب في أن يأخذ العمل طابعًا إعلاميًّا، ولكن صدرت الأوامر منذ الأيّام الأولى، وهناك من يتابع الأمور، ولكن ينبغي تنفيذ الأعمال بصورة صحيحة، مع مراعاة الدقّة والانتباه والحذر.

 

حصل في الحيّ الجامعيّ في تلك الليلة المعروفة، مخالفات كبيرة، وأعمال سيّئة بالتأكيد. وقد طلبنا بأن يُعَدّ ملفٌّ خاصّ لهذه المسألة، وأن تُتابَع بنحو دقيق، ويتمّ تحديد المجرمين، وإذا تمّ تحديدهم، يجب أن لا يُنظر إلى انتماءاتهم المؤسّساتيّة على الإطلاق، وينبغي أن يُعاقَبوا. هذا ما قلته على نحو القطع.

 

الشكر للمؤسّسة الأمنيّة

إنّني أشكر نشاط شرطتنا الأمنيّة، والشرطة، وأجهزة التعبئة. لقد قام هؤلاء بأعمال كبيرة وجيّدة، لكن هذه قضيّة منفصلة. إذا قام شخص ينتمي لأيٍّ من هذه المؤسّسات،

 


 


[1] أو على المستوى الشامل العامّ.

 

376


319

خطاب الولي 2009

بمخالفة أو جريمة، فيجب دراسة الوضعيّة بشكل منفصل. لا نتجاهل خدمات هؤلاء بسبب جريمة أولئك، ولا نتجاهل جريمة أولئك بسبب خدمات هؤلاء. يجب بالتأكيد، متابعة الأمور، وسوف تُتابَع. كذلك الحال في قضيّة كهريزك، التي أُعلِن عنها وأُذِيعَت، وستُتابَع قضيّة الحيّ الجامعيّ أيضًا، وحتّى الذين قُتِل أقرباؤهم في هذه الأحداث -وعددهم قليل- أو تضرّروا، أو تحمّلوا خسائر ماليّة، فقد تقرّر افتتاح ملفّ مستقلّ لكلّ واحدة من هذه القضايا. لقد أصدرنا الأوامر وقلنا، وسنتابع هذه القضايا. ولكن انتبهوا: إنّ أيًّا من هذه القضايا يجب أن لا يختلط بالمسألة الرئيسيّة التي حصلَت بعد الانتخابات، الحدث الرئيس يجب أن لا يغيب في غمرة هذه الأحداث.

 

تجاهُل القضيّة الرئيسة ظلمٌ آخر

يتجاهل بعضهم ما حدث عقب الانتخابات، وما وقع على الناس من ظلم، وما وقع على النظام الإسلاميّ من ظلم، وما قام به بعضهم من إراقة ماء وجه النظام أمام الشعوب، ويعتبرون المسألة الفلانيّة، مثل سجن كهريزك أو قضيّة الحيّ الجامعيّ، هي القضيّة الرئيسيّة بعد الانتخابات، وإلى اليوم. هذا بذاته ظلم آخر. القضيّة الرئيسيّة قضيّة أخرى. القضيّة الرئيسيّة هي أنّ الشعب شارك في حركة عظيمة، وفي انتخابات حماسيّة جيّدة ومنقطعة النظير، وأدلى بأصوات مرتفعة في صناديق الاقتراع، ليست نسبة 85 في المئة بالهزل! وإنّ النظام الذي حقّق، طوال العام أو العامَين الأخيرَين، تطوّرًا وتقدّمًا متلاحقًا في المجالات الاقتصاديّة والعلميّة والسياسيّة والأمنيّة والدوليّة، قد جعلته هذه الانتخابات في مستوى رفيع من التميّز والسمعة، وإذا بنا نشاهد فجأةً، وقوع تحرُّكٍ للقضاءِ على هذا الحدث المجيد الفاخر! هذه هي القضيّة الرئيسة.

 

طبعًا، ما أقوله هو تحليل، وليس خبرًا. أعتقد وفقًا لتحليلي، أنّ هذه القضيّة لم تبدأ بعد الانتخابات، أو في الأيّام القريبة منها، إنّما بدأت منذ مدّة، وتمّ التخطيط لها. إنّني لا أتّهم الأشخاص الذين كانت لهم صلة بالأمور، بأنّهم عملاء للأجانب أو البريطانيّين أو الأمريكيّين -هذا ما لا أدّعيه، لأنّ هذه القضيّة غير ثابتة لي، ولا أستطيع التحدُّث بما لم يثبت لي - لكن ما أستطيع قوله، هو أنّ هذه الأحداث، سواء علم روّادها أم لم

 

377

 


320

خطاب الولي 2009

يعلموا، كانت أحداثًا مخطَّطًا لها، ولم تحصل بالصدفة. وإنّ جميع القرائن تدلّ على أنّ هذه الأحداث مخطَّط لها ومدروسة. طبعًا، الذين خطّطوا لها لم يكونوا متيقّنين من نجاحها.

 

عندما بدأَت بعض التحرّكات مِن قِبَل بعض الأشخاص بعد الانتخابات، وحصلت استجابة نسبيّة مِن قِبَل جماعة من أهالي طهران، راود أولئك الأملُ، وتصوّروا أنّ ما فكّروا فيه قد تحقّق ونجح، وراودتهم الآمالُ. لذلك، شاهدتم زيادة حضور هذه الأجهزة والوسائل الإعلاميّة، والصوتيّة، والإلكترونيّة، والأقمار الصناعيّة، وغيرها في الساحة، حيث نزلت إلى الساحة بشكل علنيّ. لم يكونوا متفائلين من قَبل، بنجاح هذا المشروع، لكنّهم وجدوا بعد ذلك، أنّ الأمر قد تيسّر. لذا، نزلوا إلى الساحة بسرعة. ولكن لحُسن الحظّ، وكما أساؤوا دومًا فهم القضايا في إيران، ولم يعرفوا الشعب الإيرانيّ، لم يعرفوه هذه المرّة أيضًا. لقد تلقّوا صفعة، لكنّهم لم يفقدوا أملهم بعد. أقول لكم، أيّها الشباب الجامعيّ العزيز: إنّهم لم يفقدوا الأمل، وهم يتابعون الأمور، ولن يتركوا القضيّة بهذه السرعة. لديهم مَن يدير لهم المسرح، وسيجدون آخرين يديرونه لهم.

 

على الجامعة أن تحافظ على يقظتها

يجب على الطالب الجامعيّ المؤمن المسلم، المحبّ لبلاده، ولمستقبل بلاده، ولمستقبل جيله، أن يتحلّى بالوعي. اعلموا أنّهم يخطّطون، ولكن سوف يُهزَمون. أقول لكم الآن: إنّهم سوف يُهزَمون في نهاية المطاف، بَيد أنّ مستوى يقظتنا ووعينا، أنا وأنتم، يمكن أن يؤثّر على مستوى الخسائر والأضرار التي يلحقونها. إذا كنّا يقظين، فلن يستطيعوا إلحاق أضرار وخسائر، أمّا إذا غفلنا، وكنّا عاطفيّين، وعملنا من دون تدبير، أو بقينا نيامًا حتّى تأتينا مثل هذه المضاعفات، فسوف ترتفع الأضرار والخسائر والتكاليف، حتّى لو لم ينجحوا في نهاية المطاف.

 

من جملة المواضيع الأخرى التي طُرِحَت، قضيّة دعم القيادة للحكومة، أو لرئيس الجمهوريّة. هذه قضيّة واضحة، بل وقد ذكرها واحد أو اثنان من الأعزّاء. لدى الحكومة الحاليّة، ولدى رئيس الجمهوريّة المحترم، ككلّ الناس في العالم، نقاط قوّة ونقاط ضعف. إنّني حينما أدعم، إنّما أدعم نقاط القوّة، هناك نقاط قوّة

 

 

378

 


321

خطاب الولي 2009

أدعمها وأدافع عنها، وأنا أدافع عنها في أيّ شخص تتوفّر فيه. هل هناك مَن أظهرَت نفسُه هذه الميول، وهذا التوجُّه، وهذا التحرُّك، وهذا الجدُّ، ولم أدعمه ضمن حدود مسؤوليّاتي؟ ألا أدعمكم، أيّها الطلبة الجامعيّون الناشدون للعدالة؟ جيّد، لماذا، إذا دعمَت القيادةُ الطالبَ الجامعيّ الباحث عن العدالة، فهل يعني ذلك أنّ المرء يدافع أيضًا عن نقاط الضعف التي قد يحملها ذلك الطالب الجامعيّ؟ قطعًا لا. هذه هي القضيّة. هناك نقاط ضعف لا أدافع عنها.

 

لماذا لا تتّخذ موقفًا علنيًّا؟

كان هذا من الأسئلة المطروحة، (والجواب): لأنّ اتّخاذَ موقف علنيّ غيرُ ضروريّ. وما الداعي لذلك؟ كم تتصوّرون أنّ اتّخاذ موقف علنيّ من نقطة ضعف لدى مسؤول معيَّن، ستساعد على حلّ تلك المشكلة؟ لا شيء. أحيانًا، إذا حاول الإنسان معالجة شيء من دون إعلان ذلك، فسوف يتمكّن من معالجته بشكلٍ أفضل ممّا لو أثار ضجّة عالية. نعم، أحيانًا لا تكون هناك مندوحة من الإعلان، نعم، هناك يعلن الإنسان. ولكن ليس من الصحيح التصوُّر بأنّه لو كان ثمّة إشكالات ومؤاخذات على المسؤولين التنفيذيّين في البلاد، وكانت القيادة معارِضة لهذه الإشكالات، فيجب حتمًا الإعلان عن ذلك في مكبّرات الصوت. أحيانًا، تكمن المصلحة الأكيدة في أن لا يعلن الإنسان بعض الأشياء.

 

لا تقولوا هنا: الحقيقة والمصلحة. ليس التضادّ بين الحقيقة والمصلحة من الطروحات المتينة. المصلحة ذاتها حقيقة من الحقائق. ليس كلّ ما اتَّخذ اسم المصلحة، كان شيئًا سلبيًّا. يتصوّر بعضهم ويقول: هل تفكّرون في المصلحة؟ نعم، يفكّر الإنسان أحيانًا في المصلحة. التفكير في المصالح، بذاته، من الحقائق التي ينبغي إيلاؤها أهمّيّة. هذه من مسلّمات الإسلام، وواضحاته. طبعًا، لا يتّسع المجال هنا للخوض في هذا البحث والتفصيل فيه، لكنّه من مسلّمات الإسلام. ليس من الصلاح أحيانًا، أن يعلن الإنسان بعض الأمور. افرضوا أنّ هناك إشكالًا صغيرًا، فما الضرورة لأنْ يجري تضخيم هذا الإشكال عشر مرّات، وجعله سببًا في اليأس والإحباط وتعتيم الأجواء؟ يمكن للإنسان

 

 

379


322

خطاب الولي 2009

حلّ هذا الإشكال بطريقة أخرى. إذًا، عدم اتّخاذ موقفٍ علنيٍّ ناجمٌ عن هذه الأسباب المنطقيّة والمعقولة.

 

إنّها الحرب الناعمة

أذكر نقطة أخرى، لأنّ الوقت يمضي. لاحِظوا أيّها الأعزّاء، أنتم تعلمون -أقول هذا، لأنّني لاحظته في كلماتكم- أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة والنظام يواجهان حربًا هائلة، لكنّها حرب ناعمة. وقد لاحظتُ أنّ هذا التعبير "الحرب الناعمة" حاضر في كلماتكم وأحاديثكم، وأنتم متفطّنون لهذه النقاط، والحمد لله، وهذا مبعث سرور كبير لنا. فمَن الذي يجب أن ينـزل إلى الساحة في هذه الحرب الناعمة؟ المقدار المسلَّم به، هم النخب المفكّرة، أي أنتم الضبّاط الشباب في الجبهة المقابلة للحرب الناعمة.

 

أمّا ما الذي يجب أن تفعلوه، وكيف يجب أن تتعرّفوا، وكيف ينبغي أن تبيّنوا الأمور وتشرحوها، هذه ليست أمورًا أذكرها أنا لكم بتفاصيلها على شكل فهرس، فأقول: يجب أن تقوموا بالعمل الفلانيّ، ويجب أن لا تقوموا بالعمل الفلانيّ. هذه أمور ينبغي أن تجدوا، أنتم، لها سبلها وطرائقها، في مجامعكم الفكريّة الأساسيّة، وغرف أفكاركم. لكنّ الهدف واضح، الهدف هو الدفاع عن النظام الإسلاميّ والجمهوريّة الإسلاميّة، في مواجهة حركة شاملة تعتمد على القوّة والتزييف والمال والإمكانات العلميّة والإعلاميّة المتطوّرة الهائلة. يجب مواجهة هذا التيّار الشيطانيّ الخطير.

 

إلى أن يقترب احتمال إضرار العدوّ بكم إلى الصفر

لديهم أدلّتهم لمهاجمة الجمهوريّة الإسلاميّة، وأعتقد أنّ أدلّتهم، من وجهة نظرهم، أدلّة تامّة. تتواجد الأمّة الإسلاميّة في منطقة حسّاسة جدًّا من العالم، من الناحية الجغرافيّة، أي منطقة الشرق الأوسط والخليج الفارسيّ والبحر الأحمر وشمال أفريقيا وجزء من البحر الأبيض المتوسّط، هذه المنطقة الكبيرة. لاحِظوا أنّه يوجد ثلاثة معابر مائيّة حسّاسة وحيويّة في هذه المنطقة، من مجموع خمسة أو ستّة معابر في العالم: مضيق هرمز، وقناة السويس، وباب المندب. هذه منافذ مهمّة، تتوقّف عليها التجارة العالميّة. خذوا خارطة العالم، وضعوها أمامكم، وسترون كم هي مهمّة هذه النقاط،

 

 

380

 


323

خطاب الولي 2009

للتواصل التجاريّ والارتباط الاقتصاديّ في العالم. إذًا، هذه المنطقة منطقة حسّاسة. في هذه المنطقة البالغة الحساسيّة، هناك قوّة صاعِدة تظهر وتصعد، يومًا بعد يوم، وهي قوّة تعارض كلّ طلبات الاستكبار وأجهزة الشركات والشبكات الاقتصاديّة العملاقة المفسدة في الأرض، تعارض نظام الهيمنة والتسلّط والتعسّف والظلم، فهذه أمور مهمّة جدًّا لأجهزة الاستكبار. ليست أجهزة استكبار الولايات المتّحدة الأمريكيّة، أو الرئيس الفلانيّ، أو الحكومة الأمريكيّة الفلانيّة، أو البلد الأوروبّيّ الفلانيّ وحسب، فأجهزة الاستكبار شبكة أكبر، تشمل جميع هؤلاء: هناك الشبكة الصهيونيّة، وشبكة التجّار الدوليّين الكبار، ومراكز المال الكبيرة في العالم، هؤلاء هم الذين يضعون خطط المسائل السياسيّة في العالم، وهم الذين يأتون بالحكومات، ويسقطونها. توجد داخل هذه المنظومة، حكومة الولايات المتّحدة، والحكومات الأوروبّيّة، وكثير من أرباب النفط الأثرياء في المنطقة. وهم يعارضون بشدّة، مثل هذه القوّة الصاعدة، الآخذة بالنموّ والرفعة. إذًا، يفعلون كلّ ما يستطيعونه من أجل مواجهتها، لم يقعدوا مكتوفي الأيدي، طوال هذه الأعوام الثلاثين، ولن يقعدوا كذلك مع مرور الزمن، إلّا إذا عقدتُم العزم والهمّة، أنتم الشباب، ووصلتم بالبلاد من الناحية العلميّة والاقتصاديّة والأمنيّة، إلى درجة يقترب فيها احتمال إضرار العدوّ بكم، إلى الصفر. عندئذٍ، سوف ينسحبون، وتنتهي المؤامرات. وما تأكيدي المستمرّ، طوال الأعوام الماضية، على الجامعات، بأن تهتمّ اهتمامًا خاصًّا بقضايا العلم والبحث العلميّ والإبداع والنهضة البرمجيّة والتواصل بين التصنيع والجامعة، إلّا لأنّ العلم هو أحد أركان الأمن الطويل الأمد لبلدكم وشعبكم.

 

جنِّبوا الجامعات قضايا السياسة التافهة

وأقول لكم هنا: احذروا من أن تخضع الجامعة لتأثير هذه القضايا السياسيّة الصغيرة التافهة، وأن يتضعضع العمل العلميّ في الجامعات، وأن يلحق الضرر بمختبراتنا وصفوفنا ومراكزنا البحثيّة. احذروا جدًّا. من القضايا المهمّة أمامكم، الحفاظ على المسيرة العلميّة في الجامعات. يرغب الأعداء بشدّة، في أن تتعطّل جامعاتنا، لمدّة معيّنة على الأقلّ، وتُصاب بالتوتّر والخلل. هذا شيء مطلوب لديهم، يرغبون فيه. إنّه

 

381


324

خطاب الولي 2009

لأمرٌ يريدونه ويطمحون إليه، سواء من الناحية السياسيّة، أو على المدى البعيد، لأنّ علمكم يضرّهم على المدى البعيد، لذلك، يريدون أن لا تطلبوا العلم.

 

والآن، أنتم الشباب الذين قلنا: إنّكم الضبّاط في مواجهة الحرب الناعمة، لا تسألوني ما هو دورنا، كطلبة جامعيّين، في تهديم مسجد ضرار الحاليّ؟ ابحثوا بأنفسكم، وشخِّصوا دوركم، إمّا مواجهة النفاق الجديد، أو تعريف العدالة. لا يمكن أن أقعد هنا، وأفتح بحثًا فلسفيًّا عن العدالة، وما هي شعبها، وكيف تكون. والطريف هنا، أنّهم يقولون: اذكرها لنا في جملة واحدة. يُروى أنّ شخصًا جاء بابنه إلى النجف، في زمن الشيخ الأنصاريّ، وجد أنّ طلبة العلم يدرسون ويصبحون فضلاء وعلماء، وأنّ الشيخ الأنصاريّ شخصيّة كبيرة، فراودته الرغباتُ في أن يصبح ابنه طالب علم. جاء للشيخ الأنصاريّ، وقال له: شيخنا، جئتُ بهذا الشابّ اليافع، وأرجو أن تجعله فقيهًا إلى الغد، حيث نريد أن نغادر!

 

أعزّائي، إنّ الشرط الأساس في نشاطكم الصحيح في الجبهة المقابلة للحرب الناعمة، هو:

أوّلًا، النظرة المتفائلة الإيجابيّة

لتكن نظرتكم متفائلة. لاحِظوا أنّني بمثابة الجدّ[1] لبعضكم، و(مع ذلك)، نظرتي للمستقبل متفائلة، لا عن توهُّم، بل عن بصيرة. أنتم شباب، والشباب هو ذروة التفاؤل، فاحذروا أن تكون نظرتكم للمستقبل نظرة متشائمة. يجب أن تكون النظرة متفائلة، وليست نظرة يأس وقنوط. إذا سادَت نظرة القنوط والتشاؤم، ونظرة "ما الفائدة من ذلك؟"، حَلَّ بعدها التقاعس والخمول والعزلة، ولن تحصل بعد ذلك، أيّة حركة أو نشاط، وهذا ما يريده العدوّ.

 

الشرط الآخر هو عدم الإفراط في الأمور

إنّ طبيعة الشباب مجبولة على الحركة والشدّة. نحن أيضًا، مررنا بهذا الطور الحياتيّ الذي تمرّون به الآن، وكان ذلك في مراحل الثورة وبدايات النضال. أنا أعرف


 


[1]  أي أنا في مثل هذا العمر، مقارنةً ببعضكم، مثل جدّكم.

 

 

382


325

خطاب الولي 2009

 ما هو التشدُّد. وكانوا ينصحوننا كثيرًا، أن لا نتشدّد، وكنّا نقول: إنّهم لا يفهمون مدى الحاجة للتشدُّد. أعلم ما هي تصوّراتكم، ولكن اسمعوا منّا هذه: احذروا، فالتشدّد لا يتقدّم بالإنسان. اتّخِذوا قراراتكم بعد تفكير. طبعًا، الشباب في هذا الزمن أعمق تفكيرًا من الشباب في عهدنا.

 

أقول لكم هذا: أنتم اليوم، شبابٌ تُعَدُّ تجاربكم ومعلوماتكم ووعيكم أكبر بكثير ممّا كانت عليه فترة شبابنا، قبل خمسين سنة، ولا يمكن المقارنة بين الجيلَين. إذًا، فالمتوقَّع هو أن تفكّروا وتتصرّفوا بتأمُّل وتدبير، ومن دون تشدُّد أو إفراط وتفريط في الأمور. هذا ليس بالتوقُّع الكبير.

 

واعلموا طبعًا، أنّ ما حدث بعد الانتخابات، وفقًا للحسابات التي ذكرتها، لم يكن أساس القضيّة فيه، خلافًا لِما نتوقّعه كثيرًا، على الرغم من أنّ دخول بعض الشخصيّات في المسألة، كان خلافًا لتوقُّعِنا. نتمنّى أن يمنحنا الله -تعالى- فرصةً لنستطيع التحدُّث إليكم مرّات أخرى، في الجامعات أو مكان آخر.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

383


326

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء أساتذة الجامعات

 

 

 

         

المناسبة:   لقاء سنويّ في شهر رمضان المبارك

الحضور:  جمع من أساتذة الجامعات

المكان:   طهران

 

الزمان:    08/06/1388هـ.ش.

09/09/1430هـ.ق.

30/08/2009م.

 

 

385

         


327

خطاب الولي 2009

أوّلًا، أرحّب بكم أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء. لقد أفاض حضوركم على هذه الجلسة الرمزيّة رونقًا، وأضفى علينا حضور مجموعة من علماء جامعات البلاد في هذه الحسينيّة فخرًا.

 

جلسة علمٍ وعمل

هذه الجلسة كما قلنا -وقد قلنا ذلك قبل سنوات أيضًا- هي في الحقيقة جلسة رمزيّة، كما إنّها في الوقت ذاته، جلسة عمل. إنّها رمزيّة من حيث كونها تشير إلى اهتمام نظام الجمهوريّة الإسلاميّة بالعلم، واحترامه لحملة العلم. أردنا أن تكون هذه الجلسة مظهرًا لاحترام نظام الجمهوريّة الإسلاميّة للعلماء والأساتذة، وهذا هو واقع القضيّة. إنّنا نتواضع أمام العلم، وحامل العلم، يجب أن يُحتَرَم حامل هذه الجوهرة الثمينة، طبعًا، ويُتواضَع أمامه.

 

وهي من ناحية أخرى، جلسة عمل، لأنّها تتضمّن، في إطار ما توفّره من فرصة محدودة، فقرات تأتي فيها شخصيّات من المنظومة العلميّة والجامعيّة للبلاد، وتطرح الموضوعات التي ترى أنّها مهمّة أكثر من غيرها. وهذا ما يتحقّق في كلّ سنة، لحُسن الحظّ. ونحن هنا، ننظر إلى الموضوعات التي يطرحها الأعزّاء، كموضوعات حقيقيّة وخبرويّة. ويجب متابعة بعض هذه الموضوعات في مكتبنا، وتجري متابعتها في حدود الإمكان. ويجب أن نبعث بعضها إلى المراكز والمؤسّسات المعنيّة، كالمجلس الأعلى للثورة الثقافيّة، أو الوزارات ذات العلاقة بالجامعات، ونحن نقوم بذلك، ونرفقها بالتوصيات اللازمة.

 

آراء السادة والأعزّاء محترَمة. ذُكِرَت هذا العام، وفي الأعوام الماضية أيضًا، مسائل معيّنة تتعلّق بالوضع الجاري في البلاد، سواء الوضع السياسيّ أو الوضع الاجتماعيّ.

 

 

387

 


328

خطاب الولي 2009

طبعًا، كان الوقت ضيّقًا، مع الأسف. لا شكّ أنّ ما قاله الأعزّاء حول القضايا الراهنة، ليس جميع ما يعتمل في أذهانهم، كما أنّه ليس كلّ ما يجب أن يُقال. على كلّ حال، ذكر الأعزّاء بعض النقاط في حدود ما تسمح به فرصتهم ومجالهم. وسأذكر، في حدود المدّة الزمنيّة المتاحة لي، بعض النقاط.

 

خارطة علميّة شاملة

من هذه النقاط، ما يتعلّق بالعلم والجامعات:

أوّلًا، أرجو من المسؤولين الأعزّاء الحاضرين هنا -الأعزّاء في المجلس الأعلى للثورة الثقافيّة، والأمانة العامّة، والدكتور السيّد مخبر، وباقي الأعزّاء والأصدقاء في المعاونيّة العلميّة، والدكتور السيّد واعظ زاده، وكذلك الأعزّاء في الوزارات، أو الإخوة النوّاب الحضور هنا- أن يدوّنوا التوصيات التي ذكرها الإخوة والأخوات، حول قضايا الجامعات أو البحث العلميّ، وما إلى ذلك من القضايا، ويتابعوها ويدقّقوا فيها. ولا أقول هذا، لأقصد أنّ القضايا التي طُرِحَت إلى الآن، لم تُتابَع سابقًا، أو أنّ هذه القضايا تُطرَح أوّل مرّة. كلّا، فهذا أمر واضح، فالخارطة العلميّة الشاملة التي أشار إليها بعض الحاضرين هنا، قضيّة مطروحة منذ سنوات، وقد خضعَت للدراسة في المعاونيّة العلميّة، ووصلَت إلى المجلس الأعلى للثورة الثقافيّة. طبعًا، لم يُزوَّد المسؤولون إلى الآن، بشيء مُصادَق عليه، إنّما نُوقِشت المسألة فقط، أو نُوقِشَ المشروع الثقافيّ الشامل مثلًا. هذه قضايا ذُكِرَت وطُرِحَت، لكنّنا حين نرى أستاذًا أو عالِمًا أو خبيرًا، يذكر هذه الأمور باعتبارها حاجة الساعة، فهذا يدلّ على أنّ ما قمنا به، لم ينتقل بَعدُ إلى حيّز التطبيق والعمل، أي إنّ عملنا لم يتمّ إلى الآن. على المسؤولين الأعزّاء، أن يلتفتوا إلى هذه النقطة. اتّخذنا القرارات وتكلّمنا، لكن ما يجب أن يُنجَز، لم يُنجَز إلى لآن. افترضوا أنّنا حينما نجد أساتذة يسألون عن "الخارطة العلميّة الشاملة" للبلاد، أو يطرحون أمورًا تدلّ على عدم توافر خارطة علميّة شاملة، فهذا يدلّ، طبعًا، على أنّ كلّ المساعي التي بذلناها حتّى الآن، في مجال "الخارطة العلميّة الشاملة"، لا تزال منقوصة. مضَت على هذه القضيّة عدّة سنوات، فهي مطروحة منذ ثلاث سنوات، ومع ذلك، لم تُزوَّد المؤسّسات

 

388

 


329

خطاب الولي 2009

والأجهزة المعنيّة، حتّى الآن، بأيّ شيء. علماء البلاد لا علم لهم بخارطة البلاد العلميّة الشاملة. ويتّضح من هذا، أنّ علينا الإسراع في العمل، ومتابعته، والخوض في هذه القضيّة بجدّ أكبر.

 

وحتّى لو لم يشر السادة هنا، إلى عدم وجود "خارطة علميّة شاملة" للبلاد، فإنّ نظرة واحدة للبرامج العلميّة العامّة في الجامعات، تدلّ على عدم توفُّر مثل هذه الخارطة العلميّة الشاملة. وما أفهمه من التقارير، وما يخبرنا به المطّلعون وأصحاب الخبرة والجامعيّون والمسؤولون، هو أنّ تقسيم القدرات في البرمجة للفروع العلميّة المختلفة، ليس تقسيمًا عادلًا وصحيحًا ومطابقًا لاحتياجات البلاد. لدينا في بعض المواطن، نموٌّ ملحوظ، وفي مواطن أخرى، لا يُلحَظ أيُّ تحرُّك. هذا خطأ ناجم عن عدم وجود خارطة علميّة شاملة. صحيح أنّه من المفيد أن نتقدّم في أيّ فرع من الفروع العلميّة، وهو فرصة (سانحة) لبلادنا التي تأخَّرت سنوات طويلة، وربّما عشرات الأعوام أثناء فترة حكم الطاغوت، عن قافلة العلم البشريّة. إنّ ما يليق ببلادنا -وهو فرصة لها أيضًا- أن تصل يدها إلى أيّة ثمرة من ثمار العلم والتقدُّم العلميّ، هذا ممّا لا شكّ فيه. ولكن إذا أردنا أن تحرز البلاد مرتبة علميّة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، وأن يتكرّس (يتجذّر) العلم في البلاد، فعلينا إيجاد توازن وتناسُب صحيح وواقعيّ وعادل بين الفروع العلميّة المختلفة، سواء في التعليم أو في البحث العلميّ. هذه من احتياجاتنا.

 

أهمّيّة العلم والبحث العلميّ

حينما أُعلِنَ العقد القادم -وهو العقد الذي نمرُّ حاليًّا بسنته الأولى- عقدًا للتقدُّم والعدالة، فلا شكّ أنّ من الركائز الرئيسيّة لذلك، هو العلم، وتنمية العلم، وتعميقه في البلاد. ثمّ إنّ أساس الإعلان عن هذا العنوان -عنوان عقد التقدُّم- كان بالاستناد إلى حالات التقدُّم، التي لُوحِظَت في البلاد، على الصعيد العلميّ. أي إنّ هناك أملًا بأنّنا نستطيع، في غضون عقد واحد من الزمان، تحقيق تطوُّر مشهود، وحركة سريعة في المجالات العلميّة، تعوِّض جانبًا من تأخُّرنا. إذًا، قضيّة العلم مهمّة، والمهمّ هو العلم والبحث العلميّ.

 

 

389

 


330

خطاب الولي 2009

النقطة التي ذكرها بعض الأعزّاء، والتي أشدّد عليها أيضًا: أن يكون البحث العلميّ محلَّ اهتمامٍ أوّلًا، وثانيًا، أن يجد هذا البحث العلميّ طريقه لسدّ احتياجات البلاد، أي أن نجري بحوثًا علميّة نكون بحاجة إليها فعلًا. قلت مرارًا، للإخوة في المجلس الأعلى للثورة الثقافيّة، وربّما ذكرتُ ذلك هنا أيضًا: يجب أن لا نجعل مِلاك تقدُّمنا العلميّ، نَشْرَ بحوثنا في مجلّات "آي. أس. آي." لا نعرف إذا كان ما يُقترَح (من أبحاث فيها) ويُشَجَّع ويُحتَرم الباحث من أجله، هو ما تحتاجه بلادنا بالضبط. علينا، نحن، أن نشخّص المجال الذي يجب أن نكتب البحوث في حدوده، والآفات التي يجب أن يتوجَّه إليها البحث العلميّ. طبعًا، من المهمّ والضروريّ أن تكون لذلك انعكاسات وأصداء في المجامع العالميّة، وستكون له مثل هذه الانعكاسات والأصداء. القصد هو أن نجعل البحث العلميّ تابعًا لاحتياجاتنا.

 

الالتفات إلى مصادر الأبحاث

وأقول في هذا الصدد: إنّه وفقًا للتقارير التي وصلتنا حول أعداد الطلاب الجامعيّين في بلادنا، الذين يدرسون في الجامعات الرسميّة والخاصّة، وكذلك جامعة "پيام نور" وسائر جامعات البلاد، هناك ما يقارب 3.5 مليون طالب جامعيّ، منهم مليونان يدرسون العلوم الإنسانيّة. هذا شيء يُقلق الإنسان من ناحية معيّنة. كم لدينا من الأعمال المحلّيّة والبحوث الإسلاميّة في مضمار العلوم الإنسانيّة؟ كم لدينا من الكتب المُعَدَّة في مجالات العلوم الإنسانيّة؟ ما هو عدد الأساتذة البارزين، المؤمنين بالرؤية الكونيّة الإسلاميّة، ويعملون في تدريس علم الاجتماع، أو علم النفس، أو الإدارة، وما إلى ذلك، حتّى يدخل كلّ هؤلاء الطلبة الجامعيّين في هذه الفروع؟ هذا شيء مقلق. تُبنَى كثير من قضايا العلوم الإنسانيّة، على فلسفات ماديّة، وعلى فلسفات تنظر إلى الإنسان على أنّه حيوان، وعلى عدم مسؤوليّة الإنسان قبال الله -تعالى-، وعلى عدم الاكتراث للنظرة المعنويّة للإنسان والعالم. فإذا عمدنا إلى هذه العلوم الإنسانيّة، وترجمناها، وأخذنا ما قاله الغربيّون وكتبوه، كما هو، ودرّسناه لشبابنا، نكون في الواقع، قد نقلنا إليهم مفاهيم الشكّ والارتياب، وعدم الاعتقاد بالمباني الإلهيّة والإسلاميّة وقيمنا الذاتيّة،

 

390

 


331

خطاب الولي 2009

(نقلناها إليهم) على شكل مواد دراسيّة. هذا ليس بالشيء المحبَّذ كثيرًا. هذه من جملة الأمور التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار، سواء في المنظومات الحكوميّة، كوزارة العلوم، أو في المجلس الأعلى للثورة الثقافيّة، أو في مركز اتّخاذ القرار الموجود هنا، والمتمثِّل بالجامعات وما هو خارج نطاق الجامعات. على كلّ حال، هذه نقطة على جانب كبير من الأهمّيّة. هذا فيما يتعلّق بقضايا الجامعة.

 

ضرورة التواصل مع النخب

قال بعض الأصدقاء هنا: إن الآليّات (الأدوات) الحاليّة المتوافرة لدى الأجهزة العلميّة والثقافيّة في البلاد، لا تسدّ احتياجات البلاد. أريد أن أقول، انطلاقًا من التجربة: إنّ زيادة التشكيلات والمؤسّسات لا يساعد على حلّ المشكلات. أن نأتي ونؤسّس مؤسّسات جديدة، وتتشكّل، مثلًا، مجموعة من الخبراء الجامعيّين، هذا التراكم في المنظّمات المختلفة والمؤسّسات الحكوميّة والإداريّة المتنوّعة، لا ينفعنا حقيقةً، لبلوغ أهدافنا. ينبغي رفع كفاءة هذه المنظّمات والمؤسّسات الموجودة نفسها. يجب على وزارة العلوم نفسها، على سبيل المثال، أن تدقّق في معاونيّاتها والإدارات العامّة التابعة للمعاونيّات، وتختار لها أشخاصًا واعين، متعلِّمين، أكفّاء، مؤمنين، ثوريّين، شجعانًا، حَسَني التفكير، قادرين على الاستفادة من الطاقات الإنسانيّة الكفوءة. وعلى المجلس الأعلى للثورة الثقافيّة -وهذا ما قلته مرارًا- أن يسهِّل طريقة تواصله مع النخبة، بحيث يغدو هذا التواصل مرنًا حقًا، لكي يتمكّن من الانتفاع من آرائهم ووجهات نظرهم. يجب تقوية هذه المنظومات الموجودة، ليتسنّى لأركان العلم والبحث العلميّ في البلاد، أن تتقدّم وتستمرّ.

 

الجميع مسؤول

خلاصة الكلام، فيما يتّصل بقضايا الجامعات والعلم والتقدُّم العلميّ، هي أنّ من الأركان المهمّة الأولى التي يجب أن نتابعها في "عقد التقدُّم والعدالة" هو ركن العلم، والجميع مسؤولون في هذا المجال. هناك مسؤوليّات تقع على عاتق الجامعات، وهناك مسؤوليّات يتحمّلها الأساتذة. من المهمّ جدًّا، حضور الأساتذة في الجامعات أثناء ساعات التدريس، وفي ساعات تقديم (المشورة) إلى الطلّاب الجامعيّين.

 

 

391


332

خطاب الولي 2009

أشار المقدِّم المحترم[1]، في بداية حديثه، إلى أنّ على النظام اعتبار دعم الجامعيّين سياسته الدائمة. أنا مؤمن بهذا المعنى تمام الإيمان. أي إنّ دعم الجامعيّين يجب أن يكون سياسة مستمرّة (دائمة) حقًّا. ولكن، يجب ملاحظة أنّ الجامعيّين، وفي ظلّ هذا الدعم الذي يتمتّعون به -معنويًّا أو مادّيًّا- ينبغي أن يعتبروا أنفسهم مسؤولين حقًّا، أمام جيل الطلبة الجامعيّين، وإزاء المستقبل العلميّ للبلاد، وقبال إصلاح النظام التعليميّ، وهو نظام بحاجة أكيدة إلى الإصلاح. عليهم تعزيز حضورهم في الجامعات، وإفساح المجال للطلّاب الجامعيّين، كي ينتفعوا منهم، معنويًّا وعلميًّا وفكريًّا.

 

حربٌ ناعمة أنتم ضبّاطها

النقطة الثانية تتعلّق بالقضايا الاجتماعيّة والسياسيّة، ولا أريد الخوض كثيرًا في هذا البحث. لاحظتم جميعًا، أنّ البلاد تعرّضَت في فترة من الزمان، لاختبار سياسيّ جدّ مصيريّ، وكما أشار بعض الأصدقاء، فقد استطاعت "هاضمة النظام" والبلاد هضمَ الأحداثِ في داخلها، والتغلّب عليها. وسبق أن قلتُ: إنّ وقوع مثل هذه الأحداث، لم يكن غير متوقَّع إطلاقًا. وإذا أردتُ التعبير بشكلٍ أدقّ، ربّما قلت: "كثيرًا"، بدل "إطلاقًا"، بمعنى أنّ مثل هذه الأحداث، متوقّعة إلى حدّ كبير. والأسباب متعدّدة: الرسالة التي ننشدها للنظام، والرسالة التي نفهمها للإسلام، والمعنى الذي نحمله في أذهاننا للجمهوريّة الإسلاميّة، والتعريف الذي رسمته الجمهوريّة الإسلاميّة لنفسها طوال هذه الأعوام الثلاثين، ووعي شعبنا وشبابنا، وما اكتسبوه من تجارب، ووجود الحرّيّة في البلاد، وهو ما ينبغي أن يكون موجودًا بحكم الإسلام، ونحن نعتقد به. وإنّ اعتقادنا بالحرّيّة ليس مسألة تكتيكيّة، إنّما هي مسألة واقعيّة. الحرّيّة بالمعنى الذي تطرحه الجمهوريّة الإسلاميّة، لا بالمعنى الذي يطرحه الغربيّون، وهو معنى منحرف في نظرنا. ففي الأماكن والمواضع التي ينبغي أن تكون الحرّيّة فيها متوافرة، هي غير متوافرة، وفي المواضع التي ينبغي وجود القيود والالتزامات، تتحطّم القيود فيها، وتتوافر الحرّيّة. هذا ما لا نقبل به على الإطلاق. وليس لنا أيّة مجاملة أو خجل


 


[1] مقدِّم اللقاء، الذي تحدّث، معرِّفًا الحضور وطبيعة الجلسة والعناوين المطروحة.

 

 

392


333

خطاب الولي 2009

مع الغرب، في هذا الخصوص. إنّنا نتبنّى الحرّيّة بمفهومها الإسلاميّ، وطبعًا، فيه حرّيّة التعبير عن الرأي، وحرّيّة السلوك، وحرّيّة الفكر. في ضوء هذه الأسباب كلّها، نقول: إنّ الأحداث الأخيرة لم تكن بخلاف المتوقَّع كثيرًا. المهمّ هو أن يعلم الإنسان الشريف المؤمن، المعتقد بالأهداف السامية للجمهوريّة الإسلاميّة، ما الذي ينبغي أن يفعله في مثل هذه الأحداث. إنّ الأمر الذي يستدعي أن يكون خطابي لكم، أيّها الجامعيّون، بخصوص هذه القضيّة، ضروريًّا -وأودّ هنا الإيجاز والاختصار- وقد ذكرتُ ذلك لطلّاب الجامعات قبل أيّام، حينما كانوا هنا -حيث احتشدوا في هذه الحسينيّة، مثل اجتماعنا هذا- هو أنّنا نواجه حربًا ناعمة وصراعًا ناعمًا، يشنّه الأعداء ضدّنا. وقد أكّد الشباب أنفسهم، مرارًا، على هذا المعنى، قبل أن أذكره، كرَّروه وشدَّدوا عليه، وكان الجميع على علم به. لكنّ الشيء الذي أضفته، هو أنّني قلت: في هذه الحرب الناعمة، تمثّلون أنتم، أيّها الطلبة الجامعيّون، الضبّاطَ الشباب في هذه الجبهة. ولم أقل: "الجنود"، لأنّ الجنديّ ينتظر الأوامر وحسب، وعندما يُقال له: تقدَّم، يتقدَّم، أو تراجَع، يتراجع. أي إنّ الجنديّ لا قرارات لديه، وليست له إرادة إطلاقًا، بل ينبغي أن يعمل بأوامر القائد. كما لم أقل لهم: إنّكم القادة والمخطّطون في المقرّات والوحدات الكبرى، لأنّهم لا يضعون خططًا كبيرة شاملة. الضابط الشابّ حاضر في الساحة، يعمل بالأوامر، وينظر إلى الساحة بشكلٍ صحيح، ويختبرها بجسمه وروحه. لذا، فهم ضبّاط شباب، هذا هو دور الطالب الجامعيّ. الحقّ أنّ للضبّاط الشباب أفكارهم، ولهم أداءهم العمليّ وحضورهم في الساحة، إنّهم يشاهدون الأوضاع، ويعملون ضمن الإطار الكلّيّ.

 

جيّد، فما هو إذًا، موقع الأستاذ الجامعيّ، بناءً على هذا التعريف؟

إذا كان طلبتنا الجامعيّون هم الضبّاط الشباب، في نطاق القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة وسائر القضايا التي تستدعي عيونًا مفتّحة وبصائر كافية، فإنّكم كأساتذة لهم، تقفون طبعًا، في مرتبة أعلى وأرفع، أنتم القادة الذين يجب أن يبصروا القضايا العامّة، ويشخّصوا العدوّ بصورة صحيحة، ويكتشفوا أهدافه. يجب عليكم في بعض الأحيان، أن تستطلعوا مقرّات العدوّ، دون أن يشعر، وذلك من أجل أن ترسموا خططكم الشاملة، وتتحرّكوا وفقًا لها. يمارس القادة الكبار هذه الأدوار، في مراتبهم المختلفة.

 

393


334

خطاب الولي 2009

الأستاذ الذي بإمكانه ممارسة هذا الدور، هو الأستاذ المناسب لحاضر نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، ومستقبله. هذا هو المتوقَّع والمرجوّ من الأساتذة المحترمين. وجِّهوا شبابكم. لا أقصد أن تعرِّفوا لهم زيدًا وعمرًوا من السياسيّين، كلّا، في الأساس، لا أرضى بهذا الأسلوب. إنّ ذكر أسماء زيد وعمرو وبكر و... لا يساعد على حلّ المشكلة. امنحوهم القدرة على التحليل، امنحوهم القدرة على العمل والنشاط والحيويّة، كيف؟ عن طريق إحياء الأمل في نفوسهم، عن طريق منحهم الأمل. اجعلوا أجواء الصفوف والدراسة والجامعات، أجواءَ أمل، أجواءَ أملٍ بالمستقبل. إنّ اليأس هو أسوأ بلاء يمكن أن ينـزل بجيل من الأجيال، في بلدٍ ما، هو اليأس، أن يقولوا: وما الفائدة؟ لا فائدة من ذلك. إنّ روحيّة "لا فائدة من ذلك"، وروح اليأس من المستقبل، سمٌّ مُهلِكٌ لكلّ الأنشطة الاجتماعيّة والسياسيّة، وحتّى الأنشطة العلميّة والبحثيّة. فلو كان اليأس قد ضرب الذين أنجزوا الاكتشافات الكبرى في ميادين العلوم التجريبيّة، وغيرها من العلوم، وفقدوا الأمل بالنتيجة، لَما وصلوا إلى ما وصلوا إليه، يقينًا. الأمل هو تلك الطاقة العظيمة التي تتقدّم بالإنسان إلى الأمام. يريدون أن يبثّوا روح اليأس في شبابنا: اليأس من بلدهم، ومن ثورتهم، ومن مستقبلهم، ومن حكومتهم، ومن جامعاتهم، ومن مستقبلهم العلميّ، ومن مستقبل عملهم، وهذا مضرٌّ جدًّا. إنّ هذه من المهمّات المدرَجَة في خطط أعدائنا ومعارضي النظام.

 

أعتقد أنّ هذه هي الواجبات الأساسيّة. اجعلوا فضاء الطالب الجامعيّ ومحيطه، فضاءَ حيويّةٍ وأملٍ وتحرّكٍ نحو الأمام.

 

من الأمور الأخرى التي ينبغي النهوض بها، فيما يتعلّق بشتّى القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة والعلميّة، هو إفساح المجال أمام الطالب الجامعيّ، كي يبدي رأيه. ينبغي عدم الخوف من إبداء الآراء إطلاقًا. يجب إنشاء منابر التفكير الحرّ[1]، التي ذكرناها (في السابق)، ينبغي أن تُشكَّل وتُؤسَّس في الجامعات.

 

إذا ما كان طرح النقاشات التخصّصيّة المهمّة، في الحقول السياسيّة والاجتماعيّة،


 


[1] "كرسيّ التفكير الحرّ": التعبير الحرفيّ.

 

 

394


335

خطاب الولي 2009

وحتّى في الميادين الفكريّة والدينيّة، بين أصحاب القدرة على النقاش، وضمن أجواء سليمة، فلا شكّ أنّنا سنتفادى الخسائر التي يفرضها علينا انسحاب هذه النقاشات إلى الأجواء الاجتماعيّة العامّة. حينما يواجه أفراد عامّة الناس، لا يستطيع الجميع ضبط أنفسهم. إنّ المواجهة مع عامّة الناس[1]، تصيب الأفراد بالانحرافات والانحطاطات وكثيرٍ من الزلّات، وهذا ما شهدناه، مع الأسف. تلاحظون أنّ كثيرًا من الأفراد يقولون شيئًا، لكن حينما يواجهون عامّة الناس، قد يقولون ما لا يعتقدون به في قرار أنفسهم بشكل حقيقيّ. تفرض الأجواء نفسها عليهم، كما يعبرّ بعضهم. هذا شيء سيّئ جدًّا. إذا طُرِحَت هذه المسائل في البيئات الخاصّة، وفي أجواء التفكير الحرّ، ومن على منابر الفكر - (من قبيل المسائل) التخصّصيّة والفكريّة وقضايا التحدّيات - فستكون الخسائر أقلّ، بلا شكّ. هذا ما يتعلّق بهذه القضيّة.

 

وحول الجانب المعنويّ الذي تحدّث عنه بعض الأعزّاء، يجب القول: إنّني أوافق، مئة في المئة، أن تكون أجواء الجامعات أجواءً معنويّة. فالأمن والشعور بالأمن، الذي تكلّم عنه بعض الأحبّة بشكل صحيح، إنّما يتحقّق، يقينًا، بفضل المعنويّة. ينبغي أن نضاعف من طاقات الشباب وقدراتهم، بكلّ ما أوتينا، فيما يتعلّق بصلتهم بالله، وبذكر الله، واهتمامهم بعالم الغيب، وتعبّدهم بمباني الدين وأحكامه وشريعته، والتسليم أمام الأحكام الإلهيّة. كلّما كان شبابنا أكثر تعبّدًا، وتديّنًا، وذكرًا لله، وشعورًا بالحاجة إلى الله، وكلّما رفعوا أيدي الحاجة نحو الله أكثر، كان عملهم وسلوكهم وفكرهم أطهر، وأسلم، وأقلّ آفاتٍ، انتفع المجتمع منه أكثر.

 

نرجو أن يوفّقنا الله -تعالى-، نحن وإيّاكم وجميع المؤمنين والمؤمنات، لتشخيص الطريق على أساس التكليف الملقى على عواتقنا، والسير فيه، وبلوغ النتائج المنشودة، إن شاء الله.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 


 


[1]  المقصود هنا حسب السياق: سحب النقاشات الفكريّة، وطرح الآراء المختلفة أمام الناس، وليس في جمع أهل الاختصاص.

 

 

395


336

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء عدد من الشعراء والأدباء

 

 

 

المناسبة:   ذكرى ولادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

الحضور:  جمع من الشعراء والأدباء

المكان:   طهران

 

الزمان: 14/06/1388هـ.ش.

15/09/1430هـ.ق.

05/09/2009م.

 

 

397


337

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

نرحّب بجميع الشعراء المحترمين، من الإخوة والأخوات الأعزّاء. يضمّ جمعكم هذا روّادًا وأساتذةً وشبابًا وبراعم جديدة، والحمد لله. لكلٍّ منكم لطفه، ولكلّ زهرة أريجها. أسفنا الوحيد هو أنّنا لا نستطيع الانتفاع من جميع هذه الزهور. نظّم الأصدقاء البرنامج، وسيطلبون من بعضهم قراءة نتاجاتهم، ونحن بانتظار أن نستمع وننتفع. وُفِّقتم جميعًا، إن شاء الله. تفضل سيّد قزوه[1].

* * * * *

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أرحّب مرّة ثانية، وأشكر الإخوة والأخوات الأعزّاء، خصوصًا الأصدقاء الذين أتحفونا بأشعارهم.

 

شعر الثورة في نموٍّ ورُقيّ

دقّقتُ هذه السنة أيضًا، كما في السنة الماضية، (وأصغيت) لأرى ارتفاع مستوى شعر الثورة، وشعر هذا الجيل. وقد قلتُ في العام الماضي -على ما أظنّ- وأؤكّد السنة أيضًا: إنّني أرى بوضوح، ارتفاع هذا المستوى، ورقيّه. أي إنّ شعر مجموعة شعراء الثورة سجّل نموًّا مثيرًا للإعجاب، مقارنةً بما كان عليه قبل عشرة أعوام أو خمسة عشر عامًا. إنّني معجب حقًّا، بأولئك الذين كانوا بالأمس شباب الثورة وفتيانها، وقد بلغوا اليوم، والحمد لله، سنّ الكهولة وما زالوا يسيرون في هذا الصراط، وأيضًا بأولئك الشباب الذين دخلوا الساحة مؤخّرًا، وأنا أسمع أشعارهم


 


[1] في مستهلّ اللقاء، رحّب الإمام الخامنئيّ بجمع الشعراء، وقدّم المنبر لهم، لتتكلّم مجموعة منهم وتلقي أشعارها، ثمّ تحدّث بعد ذلك، وكانت هذه الكلمة.

 

 

398


338

خطاب الولي 2009

لتوّي، وربّما دخلوا ساحة الشعر منذ سنوات، لكنّهم لم يكونوا سجّلوا حضورهم في الصحافة والكتب التي تصلني. معظم الأشعار التي قُرِئَت هذه الليلة، كانت جيّدة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، أي إنّ اللفظ كان جيّدًا، والمعنى جيّدًا، والموسيقى والإيقاع جيّدَين، والمفردات واختيارها كان جيّدًا، ويلاحظ الإنسان فيها بُعدَ التخيّل، ولا سيّما في أشعار الشباب. هذا شيء على جانب كبير من الأهمّيّة. هذه كلّها عناصر تدلّ على نموّ غرسة الشعر، وترعرُعها في بلادنا.

 

نحو الأمام والذرى

إحدى النقاط هي أنّ الشعر في عهد الثورة -أي في هذه الأعوام الثلاثين- خرج، ويخرج من الامتحان، مرفوع الرأس. لا يُلاحَظ على شعرائنا المجيدين، أيُّ هبوط أو مراوحة. إنّ الإنسان ليشعر بهذا. شاهدنا في الماضي وفي العهود السابقة على الثورة، شعراء -بعضهم معروف- بلغوا الذروة في فترة من حياتهم، ثمّ هبطوا، أو توقّفوا، أو سقطوا. لاحقًا، حينما كنّا ننظر، كنّا نلاحظ أنّ أشعارهم التالية ليس لها أيّة جاذبيّة. وأنظر الآن، فأرى أنّ الحالة لم تكن على هذه الشاكلة لشعرائنا. في هذه الجلسة، على سبيل المثال، نلاحظ أنّ السيّد فريد، والسيّد أميري، والسيّد ميرشكاك -هؤلاء الأصدقاء الذين نظّموا أشعارًا جيّدة في الماضي، وخصوصًا السيّد فريد وأمثاله ممّن أتذكّرهم جيّدًا- قد واصلوا مسيرتهم نحو شعر أفضل، بمعايير الشعر الجيّد وموازينه، أي إنّهم لم يراوحوا، ولم يتراجعوا من باب أَولى. هذا شيء مهمّ.

 

أضف إلى ذلك، أنّ لدينا نماءً جديدًا وولادات جديدة. هؤلاء الشباب الذين أراهم، يدهشونني حقًّا! حينما أقارن شعراء بعض المحافظات والمدن الشباب، ممّن يحضرون هنا ويقرؤون أشعارهم، بشعراء تلك المدن في فترة شبابي، أرى أنّهم أفضل من السابقين، مع أنّ السابقين كانوا معروفين مشهورين. لكنّني حين أنظر، أرى أنّ هؤلاء ينظمون شعرًا أفضل من أولئك. والآن، في جلستنا هذه -ولا أريد ذكر الأسماء - قُرِئَت قصيدة من إحدى المدن، أنا على معرفة بالشعراء السابقين من تلك المدينة، لأنّي كنت أتردّد على الاتّحاد الأدبيّ في تلك المدينة، وأعرف شخصيّاتهم الشعريّة الشهيرة. شعر السيّد

 

 

399

 


339

خطاب الولي 2009

الذي قرأ شعره الليلة هنا، أفضل من أشعار جميع الشعراء الذين عرفتهم هناك. إذًا، هذا اختبار لشعر الثورة. سجَّل شعر الثورة مسيرةً مستمرّةً نحو الأمام والذرى.

 

شعر الثورة في خدمة قيَمها

ومن النقاط الأخرى التي تلوح هنا، أنّ شعر الثورة يجب أن يكون في خدمة مفاهيم الثورة. بينكم شعراء ينظمون شعرًا دينيًّا، قصائد دينيّة وذات صلة بالأئمّة عليهم السلام، وحسب المصطلح الذي شاع، نقول: "شعرًا دينيًّا". وللإنصاف، هناك أشعار جيّدة نُظِمَت في هذا المضمار. وبعض الأشعار تتعلّق بالحرب وفترة الدفاع المقدّس، أو بالشهداء، أو الجرحى، وما إلى ذلك. هذه ظاهرة جيّدة جدًّا. لكنّني أشرتُ العام الماضي أيضًا، إلى أنّ أهداف الثورة ومبادئها ليست منحصرة في هذه. فقد وضعَت الثورةُ فوق رؤوسنا، مجموعةً من النجوم المتلألئة بالقيم والمبادئ، ودعَتنا للحركة والعروج إليها، والقفز نحو هذه النقاط المضيئة[1]. وقد دخلنا الاختبار، ووجدنا أنّ في وسعنا العروج والتحليق، وجدنا أنّ هذا التحليق ممكن. طبعًا، لُوحِظَت النماذج البارزة لذلك، في فترة الدفاع المقدّس، ورأينا أنّه حينما تنشر الأمّة جناحَيها نحو هذه المبادئ، سيكون بإمكانها السير بصورة جيّدة. لكنّ الكثير من هذه المبادئ لا تزال فوق رؤوسنا[2]، وعلينا الحركة والسير نحو العدالة، ونحو الأخلاق، ونحو الاستقلال بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، بما يشمل الاستقلال الثقافيّ، وهو الأعمق والأصعب من كلّ صنوف الاستقلال. ويجب علينا السير نحو الاستعادة الحقيقيّة لهويّتنا الإسلاميّة - الإيرانيّة.

 

وقد رأينا في الاختبارات (الامتحانات) التي وقعَت على هامش الانتخابات -بعد الانتخابات وقبلها- أنّ لدينا نقاط ضعف، ولدينا مشاكل في هذه المجالات. كانت هذه الأحداث نعمة كبيرة لنا، من حيث إنّها عرّفَتنا بنقاط ضعفنا. كالمناورات العسكريّة التي تقوم بها القوّات المسلّحة. المناورات العسكريّة هدفها، أساسًا، أن تكتشف الوحداتُ العسكريّةُ أو المنظومةُ العسكريّةُ نقاطَ ضعفها. يحدّدون هدفًا، ويُصدرون أوامر


 


[1]  بمعنى آخر: فقد وضعت الثورة أمامنا مجموعة من القيم والمبادئ المتألّقة، ودعتنا للسير نحوها.

[2] أي ما زالت بعيدة عنّا.

 

 

400


340

خطاب الولي 2009

للتحرُّك نحوه، ثمّ تكون هناك أعين بصيرة مفتّحة -هكذا هو الحال في كلّ المناورات- تقف وترصد الساحة من فوق، فترى أنّه توجد نقطة ضعف معيّنة في الموضع الفلانيّ، أو أنّه توجد بعض أشكال العجز (المزمنة). غدا هذا الأمر لنا، كالمناورات العسكريّة، وهو لم يحدث باختيارنا طبعًا، إنّما فُرِض علينا، لكنّه كان حَسَنًا، إذ أدركنا عبره نقاط ضعفنا. إذًا، هذه المبادئ موجودة فوقنا، وعلينا السير نحوها، وعندئذٍ، يمكن إزالة نقاط الضعف هذه.

 

وظيفة الفنّان ودوره

حسنًا، ما هو دور الشاعر هنا؟ ما هي وظيفة الشخصيّات الفنّيّة والشخصيّات الثقافيّة من رجال ونساء، أي الإنسان الفنّيّ والإنسان الثقافيّ في هذه الساحة؟ أعتقد أنّ الواجب جسيم جدًّا، وكبير جدًّا. والوظيفة الأهمّ هي التبليغ والتبيين، ﴿ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ﴾[1] هذا أحد المعايير. أن تُدركوا حقيقةً، وتطرحوها على الناس. لا يَتوَقَّع منكم أحدٌ أن تتحدّثوا بخلاف ما تفهمون، لا، قولوا الشيء الذي تفهمونه. وطبعًا، لا بدّ لكم من السعي والجهاد، ليكون ما تفهمونه صحيحًا وصوابًا، لأنّ معرفة الساحة في الحوادث المشوبة بالفتن عمليّة صعبة. من الصعب في تلك الظروف، معرفة عناصر القضيّة، ومعرفة المهاجم والمدافع، والظالم والمظلوم. من الصعب معرفة العدوّ والصديق. لو خُدِع الشاعر، كما يُخدَع الآخرون، وأُصِيب بانعدام البصيرة، فمعنى ذلك أنّه قد انحطّ شأنه، ونزل من مستوى الإنسان الفنّان والإنسان المثقَّف. إذًا، ينبغي فهم الحقيقة، ثمّ يجب تبليغ هذه الحقيقة. لا يمكن التحرُّك في عالم الثقافة، بالأساليب السياسيّة، بأساليب السياسيّين والمسؤولين السياسيّين، هذا خلاف منـزلة (شأن) الثقافة. في عالم الثقافة، ينبغي حلّ العقد، وفتح (كشف) الحقيقة، وحلّ العقد الذهنيّة. وهذا ما يحتاج إلى تبيين، أي إلى عمل الأنبياء. ولا بدّ في البيان، من الفصاحة والبلاغة. والبلاغة (البيان) هي بهذا المعنى، مع أنّهم يذكرون في الكتب التخصّصيّة أنّ البلاغة بمعنى التطابق


 


[1] سورة الأحزاب، الآية 39.

 

401


341

خطاب الولي 2009

مع مقتضى الحال، لكنّ ذلك معنًى خاصّ من البلاغة، وليس المعنى الأوّليّ والصريح للبلاغة، البلاغة معناها الإيصال، والبلاغ هو الإيصال.

 

حين يُقال: إنّ حافظ الشيرازيّ نظم هذا الشعر الفصيح البليغ، فما معنى "البليغ" لديه هنا؟ هل معناه أنّه نظمه بما يتناسب ومقتضى الحال؟ وما يدرينا هل كان شعره مناسبًا لمقتضى الحال في ذلك الحين، أم لم يكن؟ إنّنا ننظر إليه الآن، والقضيّة ليست قضيّة مقتضى الحال، إنّما البلاغة تعني الإيصال، والبليغ هو الموصِل. قولوا: ما تقولون، ببلاغة وإيصال ووضوح وبيان ساطع، ولكن قولوا: الشيء الذي تفهمونه. ليس المتوقَّع أبدًا -وليس من الحق أن يتوقّع أحد ذلك- أن يتحدّث شخص بخلاف فهمه، وحاوِلوا أن يكون ما تفهمونه صحيحًا.

 

واجبكم البلاغ والتبيين

أقول لكم: إنّ حركة الثورة الإسلاميّة هذه ليست حركة (منقضيّة) منتهية. نحن، أنا وأنتم، نحضّر ونشارك ونرابط في جانب معيّن، وزاوية محدّدة من زوايا جيشها، وبمثابة ذرّة منها، بوصفنا أصحاب أدب وثقافة. ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾[1]، جنود الله وجيشه لا يعرفون أرضًا ولا سماءً، ﴿وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾[2]، الله عزيز، ومعنى العزيز هو الغالب الذي لا يُغلَب، أي الغنيّ عن الجميع، وأنا وأنتم نتولّى اليوم جانبًا بسيطًا من الأمر. فالحركة العظيمة التي بدأت بالثورة الإسلاميّة، حركة غير متناهية، إنّها غير منتهية على الإطلاق، بل هي حركة مستمرّة. ذلك الشيء الذي درج ذكره في الخطابات، والتلفزيون والإعلام، وفي المحاكم، وعلى ألسن الجميع، حين يقولون: الحرب الناعمة، هذا شيء صحيح وواقع، أي إنّها الحرب الآن. وأنا بالطبع، لم أتحدّث بهذا الكلام اليوم، بل كنت أقوله وأذكره باستمرار دومًا، بُعَيد انتهاء الحرب (المفروضة)، أي منذ سنة 67 (1988م). والسبب هو أنّي أرى الساحة، وما أفعل لمن لا يراها؟! ماذا يفعل الإنسان؟ إنّني أرى الساحة، وأرى


 


[1] سورة الفتح، الآية 7.

[2] سورة الفتح، الآية 7.

 

402


342

خطاب الولي 2009

الاستعدادات والاصطفافات، وأرى الأفواه الحاقدة والغاضبة، والأضراس المصطكّة من الغيظ، ضدّ الثورة، وضدّ الإمام، وضدّ كلّ هذه المبادئ، وضدّ كلّ المحبّين لهذه الحركة. الإنسان يرى كلّ هذا، فما يفعل؟ هو أمر لم ينتهِ،. ولأنّه لم ينته، إذًا، تقع علينا جميعًا واجبات. وواجبات المنظومة الثقافيّة والأدبيّة والفنيّة معروفة: البلاغ والتبيين، تكلّموا، وتكلّموا بصورة جيّدة. إنّني أشدّد دومًا، على أنّه يجب أن تختاروا القالب بشكلٍ جيّد، وعليكم الإتيان بالفنّ إلى الساحة، بأبهى صورة، وأقوى ما فيه. ينبغي عدم التقصير، لكي يترك الفنّ تأثيره.

 

ترون أنّ الآخرين، بما لديهم من أعمال فنّيّة، يروّجون لأشياء باطلة. والعجيب أنّنا نتقبّل ذلك الكلام نفسه! هذا المسلسل الكوريّ الذي يُبَثّ الآن، والجميع يشاهدونه، هو تلفيقٌ تاريخيّ، وأسطورة باطلة. ولو أراد المرء البحث في الشاهنامة، والعثور على مثل هذه القصّة، لأمكنه العثور على عشر أو خمس عشرة من هذه القصص. غير أنّ أولئك قد أظهروا فنًّا (في العرض والبيان)، وحين يعمل المرء باحتراف فنّيّ، ستكون عاقبته أن تجلسوا حضراتكم، ممّن ليس لكم أيّة رغبة في ذلك التاريخ وتلك الثقافة، وتشاهدون العمل بكلّ رغبة، وتستوعبون تلك الثقافة، شئتم أم أبيتم. هذه هي خصوصيّة الفنّ الجيّد.

 

استئناسٌ بالشعر، فتشخيصٌ للعيوب

الفنّ الجيّد أمر ضروريّ، وعملكم الفنّيّ يرتبط بالشعر. أتمنّى أن تقرؤوا، إن شاء الله، أعمال القدماء وآثار الأساتذة الكبار، بصورة أفضل، وبشكل أكثر، ولا تتوقّفوا عندها. لا تغضّوا الطرف عن حسناتهم إطلاقًا، ولا تقنعوا بما كسبتموه حتّى الآن. أريد أن أقول: إنّ الثناء الذي ذكرناه في البداية، كلّه صحيح، بَيد أنّه لا يعني أبدًا، أنّ أشعار شبابنا الأعزّاء الطيّبين -التي يقرؤونها علينا، وتثير إعجابنا حقًّا- خالية من العيوب والنواقص. لا، هذا الاجتماع ليس اجتماع نقد بالمعنى الصحيح للكلمة، حتّى يتربّع الإنسان وينقد ويشخّص معايير النقد، وإلّا لو كانت القضيّة قضيّة نقد ومعيار، فسوف تُسَجَّل بعض المؤاخذات. عليكم تشخيص هذه الإشكالات والمؤاخذات بأنفسكم. إذا

 

 

403

 


343

خطاب الولي 2009

كانت لديكم اجتماعات خاصّة بهذه المهمّة -على شاكلة تلك الجمعيّات التي كانت لنا قديمًا في مشهد، وكنّا نرتادها ونشاهدها، وسمعنا أنّ نظائرها كانت قائمةً في طهران، قليلًا أو كثيرًا، ولكن ليس بشدّة ما كان في مشهد ومتانته. أنا طبعًا، لم أشارك في جلسات طهران، ولم أرها، لكنّ جلسات مشهد كانت جيّدة جدًّا، وينقدون الشعر فيها بدقّة- فهو الأفضل طبعًا، هذا حسنٌ جدًّا. انقدوا الشعر في تلك الاجتماعات، بنحوٍ تفصيليّ كامل. وإن لم يكن هناك مثل هذه الجلسات، انظروا أنتم أنفسكم، ودقِّقوا، وفكِّروا، وتمعَّنوا في أشعاركم بنظرة ناقدة تُسقط العيوب، لتستكملوا هذه المسألة، إن شاء الله. أعتقد أنّ هذا ممكن، إنّ من شأن الاستئناس بشعر الأساتذة، تمكين الإنسان أكثر، من تشخيص بعض عيوب شعره.

 

نتمنّى أن يوفّقكم الله، ولا أدري متى سنُوَفَّق، وإلى كم سنة قادمة سيُتَاح لنا الاجتماع في هذه الليلة المباركة بهذه الجماعة من الشعراء، قد تكون هذه المرّة الأخيرة، وقد تكون هناك مرّات لاحقة[1]. طبعًا، لم نشاهد إقامة جلسة بهذا الشكل، في ذكرى ولادة النبيّ الأكرم، يقيم الإخوة السنّة جلسات قراءة شعر وضرب دفوف، هذا ما شاهدناه. على كلّ حال، إذا أراد السادة التفضُّل بالمجيء ثلاثمئة وستين يومًا في السنة، بشرط أن لا يأخذوا من وقتنا، فلا مانع من ذلك. وفّقكم الله، وسنرى وننظر في هذا الاقتراح، ونتمنّى أن يحصل الخير والصلاح. وفّقكم الله، وأيّدكم جميعًا، إن شاء الله.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

 


 


[1] اقترح أحدُ الحضور في هذا الخصوص، عقد جلسة للشعراء، غير هذه الجلسة، مرةً كلّ عامٍ، وفي أحد أعياد المبعث، أو ميلاد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بحضور سماحته.

 

 

404


344

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء أعضاء هيئة الحكومة

 

 

 

         

 

 

         

المناسبة:   لقاء سنويّ في شهر رمضان

الحضور:  أعضاء هيئة الحكومة

المكان:   طهران

 

الزمان:    ١٦/06/1388هـ.ش.

١٧/09/1430هـ.ق.

٠٧/09/2009م.

         

405


345

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

نتمنّى ببركة هذه الساعات العطرة النيّرة، أن ينوّر الله -تعالى- قلوبكم جميعًا، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، بنور اليقين والإيمان والإخلاص، وأن يفيض علينا ببركة شهر رمضان وهذه الأيّام والساعات، رشحةً من رحمته وبركاته ونظرات لطفه، إن شاء الله. فإذا كان هذا، تحقَّقَت بسهولة جميع المطالب والآمال والتمنّيات التي نحملها في قلوبنا، والأهداف التي نرسمها لأنفسنا.

 

اجتماعنا هذا هو، في الحقيقة، اجتماع ثنائيّ وذو جانبَين. في شهر رمضان من كلّ عامٍ، لدينا لقاء بالمسؤولين المحترمين في الحكومة، هذا أحد جوانب هذا الاجتماع. والجانب الآخر هو قضاءٌ عن لقائنا في أسبوع الحكومة. إذ إنّ لدينا عادةً، لقاء في أسبوع الوحدة، ولم يتحقّق، أداءً لذلك، نحقّقه الآن قضاءً -كان السادة مسؤولو الحكومة والسيّد رئيس الجمهوريّة منشغلين بقضايا المجلس وما يتعلّق بها - لذلك، نحيّي ذكرى الشهيدَين العزيزَين، الشهيد رجائي والشهيد باهنر، ونسأل لهما علوّ الدرجات. وإنّه لمغنم جميل أن يُطلَق اسم هذَين الشهيدَين الكريمَين الكيّسَين المخلصَين، على حكوماتنا، بمناسبة أسبوع الحكومة، وأن تبدأ الحكومة أعمالها كلّ سنة بذكرهما. الحمد لله، تمّ تشكيل الحكومة، ها هي قد استقرّت. هذه فرصة ومناسبة مهمّة وكبيرة جدًّا. إنّه لطفٌ عظيمٌ مَنَّ الله - تعالى- به على شعبنا وبلادنا.

 

حماسة الانتخابات تحمل رسائل

أوّلًا، لقد ثبُتَ من الانتخابات الحماسيّة التي لن تُنسى، أنّ الشعب الإيرانيّ يشعر بالمسؤوليّة إزاء إدارة البلاد، ويدخل إلى الساحة بإرادته واختياره، ليعيّن مسؤولي البلاد، وهذه فرصة مهمّة جدًّا للنظام والثورة. في الواقع، إنّ شعبنا، بحضوره في الساحة، ومشاركته التي بلغَت نسبتها 58%، قد جدّد عهده، وبايع الثورة مرّةً أخرى. ثمّ إنّه

 

 

407


346

خطاب الولي 2009

انتخب رئيس الجمهوريّة بنحو خمسة وعشرين مليون نسمة، وهذا بدوره نصاب جديد للحكومة، ولرؤساء الجمهوريّة في إيران. وقد كان لهذه المشاركة الواسعة رسالتها. فالمشاركة التي بلغَت نسبتها 85% -بأربعين مليون صوت- تحمل رسائل، وكذلك هذا الانتخاب[1] الذي بلغ نحو خمسة وعشرين مليون صوت، له رسالة. ويجب إدراك هذه الرسائل. وإذا أدركت الحكومة والمسؤولون هذه الرسائل بشكل صحيح، وتأمّل فيها النخبة والمجتمع وروّاد السياسيّة، فسوف تُعالَج العديد من المشاكل لديهم، وتُحَلّ كثير من عقدهم.

 

ثبات الجمهوريّة الإسلاميّة

من أهمّ الأشياء التي قالها الشعب في هذه الانتخابات - وفي الواقع يجب القول: إنّ ثورتنا هي التي قالت ذلك - هو أنّ الجمهوريّة قد أثبتت نفسها بأعلى الأصوات. الحقيقة أنّ هذه المشاركة التي بلغت 85 في المئة، كانت هجوم الجمهوريّة المضادّ على الأعداء، الذين ما انفكّوا يتشدّقون ويهوّلون ضدّ الثورة، وضدّ الإسلام، لينالوا من أركان جمهوريّة النظام، حسب ظنّهم. إنّ تلك المشاركة الهائلة دليلٌ على هذا المعنى. ثمّ إنّكم لاحظتم في تصريحات المرشّحين المحترمين، الذين خاضوا ساحة الانتخابات، أنّهم غالبًا ما نادوا في كلماتهم وخطاباتهم، باتّباعهم لخطّ الإمام، والميل إلى القيم، وحُبّ القيم، مع أنّه كانت هناك في بعض الأحيان، كلمات لا تتطابق مع هذه الحالة العامّة، لكنّهم كانوا يرومون من كلّ ما يقولونه ويطرحونه، إثبات وجود الانشداد لطريق الإمام، ولخطِّه، وللثورة، ولأُسُس الثورة. هذا كلام على جانبٍ كبيرٍ من الأهمّيّة. هذا دليل على أنّ الجميع شعروا بأنّ الشعب الإيرانيّ ينزع نحو هذا الاتّجاه. هذا مؤشّر على الاتّجاه العامّ لمسيرة الشعب الإيرانيّ، ألا وهو اتّجاه الإسلام، اتّجاه الطاعة والخضوع أمام الأمر الإلهيّ، الذي كان إمامنا الجليل مَظهرَه. إذًا، تمّ في هذه الانتخابات، تثبيت كُلٍّ من جمهوريّة النظام وإسلاميّته، وتكريسهما، وتمّ كذلك تأييدهما. هذه رسائل مهمّة. ينبغي وعي هذه الأمور، وفهم هذه الرسائل.


 


[1] أي فوز رئيس الجمهوريّة آنذاك، أحمدي نجاد، بـ 25 مليون صوت.

 

408


347

خطاب الولي 2009

مددٌ إلهيّ، قدِّروه واشكروا

لقد فتح هذا الأمر، والحمد لله، صفحةً جديدة في ثورتنا ونظامنا. لكنّ ردود أفعال بعضهم على خطوة الشعب العظيمة هذه، لم تكن -حقًّا وإنصافًا- ردود أفعالٍ أخلاقيّة ونجيبة وذات مروءة. لكنّ هؤلاء، كما في الآية: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾[1]. خطوة الشعب الأصيلة، وتيّار الثورة الهائل، هي الأشياء التي ستبقى لهذا البلد، ولهذا الشعب، ولهذا التاريخ. يجب أن نكون شاكرين دومًا. كلّ من هو محبّ لهذا البلد، محبّ للإسلام وعظمة الإسلام، وكلّ من يعشق إمامنا الجليل، يجب أن يكون شاكرًا لهذه النعمة الكبيرة، التي مَنَّ الله -تعالى- بها علينا. أنتم طبعًا، يجب أن تكونوا شاكرين أكثر (من غيركم)، لأنّ المسؤوليّات على عواتقكم، خصوصًا السيّد رئيس الجمهوريّة. ينبغي أن تشكروا الله، وتغتنموا الفرصة، ويجب أيضًا أن يزداد تواضعكم، نتيجة هذا الشكر. افخروا بأصوات الناس، واعتمدوا عليها، ولكن لا يصيبَنَّكم الغرور، فلو أصابنا الغرور، لا سمح الله، عندئذٍ، سنجد الكثير من الانحرافات وحالات الانحطاط أمامنا. كونوا حذرين، هذه من الفخاخ الشيطانيّة الكبيرة، عادةً ما تظهر الأخطار الكبرى بعد الانتصارات الكبيرة. لاحِظوا أنّه حينما تحرّرَت خرّمشهر، وكان ذلك انتصارًا كبيرًا -لمن يتذكّر جيّدًا عام 61 (1982م)- وعملًا جبّارًا جدًّا، وكان إنجازًا على جانبٍ كبيرٍ من الأهمّيّة، من الناحية السياسيّة، وكان عملًا جدّ معقّد ومهمّ من الناحية العسكريّة، كما كان إنجازًا مهمًّا ومؤثّرًا جدًّا من الناحية الاجتماعيّة، والنظرة العامّة، والتأثير في قلوب الجماهير، كان عملًا عظيمًا على الأصعدة كافّة. جاء الجميع من شتّى الأماكن -كنتُ حينها رئيسًا للجمهوريّة- حضر رؤساء جمهوريّة عدّة بلدان -خمسة بلدان أو سبعة بلدان- إلى هنا، والتقوا بنا، وقالوا لنا صراحةً: إنّ وضعكم الآن، يختلف عن السابق، بعد هذا الفتح الكبير الذي حصل. كانت الأبعاد الداخليّة والخارجية لهذا الحدث عظيمة وواسعة إلى هذا الحدّ. كان الإمام معلِّمًا حقيقيًّا، كان الإمام معلّمَ أخلاق. بمجرّد أن حصل هذا الحدث العظيم،


 


[1] سورة الرعد، الآية 17.

 

 

409


348

خطاب الولي 2009

بهذه الضخامة والحجم، اتّضحَت تأثيراته على معنويّات الشعب في الشوارع، منذ الساعات الأولى، وشعر الإمام بالألم على الفور، ووصف الدواء دون تأخير: "الله هو الذي حرّر خرّمشهر". هذا معناه أنّ قادة القوّات المسلّحة، الذين تحمّلوا تلك الجهود والآلام والصعاب والمرارات كلّها، وهذا الكمّ من شهدائنا الصالحين الكبار في فتح "بيت المقدس"، هذا، وقد تمّ إنجاز هذا العمل الكبير نتيجة كلّ ذلك الجهاد، هؤلاء القادة يجب أن لا يُصابوا بالغرور، ويجب أن لا يُصاب بالغرور السياسيّون الذين حلّوا على مسند السلطة نتيجة هذه الحادثة: ﴿وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾[1]. لسنا بشيءٍ، أنا وأنتم، إنّها يد القدرة الإلهيّة. أنا وأنتم وسائل، حيث إنّه إذا أعملنا عقولنا وإرادتنا واختيارنا، وخضنا الساحة، فسوف نكون مساهِمين في تحقُّق هذا الهدف، ويبقى لنا فخره وشرفه. ولكن حتّى لو لم نكن نحن موجودين، ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[2]. لن تبقى المهمّات الإلهيّة بلا حَمَلَة، بل سوف تُحمَل وتتقدَّم إلى الأمام. إنّها حركة طبيعيّة، وهي ناموس الطبيعة، وناموس التاريخ. ﴿سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ﴾[3]. ورد هذا المعنى بتعابير مختلفة في أماكن مختلفة من القرآن: ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾[4]. إنّها سنّة إلهيّة. ﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ﴾[5]. هذا مصداق من مصاديقها: ﴿لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾، أي إنّكم إذا نزلتم إلى الساحة، فسوف تنتصرون على عدوّكم، وهذا يعني أنّ هذه سنّة إلهيّة. قد لا يكون هذا النصر في يوم واحد، أو سنة واحدة، لكنّه نصرٌ في نهاية المطاف. سيتحقّق هذا النصر قطعًا وحَزمًا. لا معنى للهزيمة والخسارة في جبهة الحقّ، إلّا إذا تخلّف أهل الحقّ عن الحضور في الساحة، ولم ينهضوا بالأعمال الواجبة. إذًا، الأمر يعود لله، وهو من الله: ﴿وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ﴾. وهكذا الحال هنا أيضًا. أنتم المسؤولون، والسيّد رئيس


 


[1] سورة الأنفال، الآية 17.

[2] سورة المائدة، الآية 54.

[3] سورة الفتح، الآية 23.

[4] سورة الأحزاب، الآية 62.

[5] سورة الفتح، الآيتان 22-23.

 

 

410


349

خطاب الولي 2009

الجمهوريّة المحترم، وكلّ المحبّين لهذه الحركة، يجب أن يزداد، يومًا بعد يوم، شكرُكم وتقديرُكم للطف الإلهيّ، وليد القدرة التي هدَت قلوب الناس إلى هذا الاتّجاه. هكذا هي القضيّة إذًا.

 

الحكومة التاسعة، بحمد الله، كانت حكومة جدّ دؤوبة ومثابرة. كما أوضح السيّد رئيس الجمهوريّة، أجد لزامًا عليَّ -والحقّ يُقال- أن أتقدّم بالشكر لأعضاء الحكومة التاسعة، فردًا فردًا، فقد بذلوا كثيرًا من الجهود والمساعي في شتّى القطاعات والمجالات. وأرحّب بالأعزّاء الذين شكّلوا الحكومة العاشرة. نتمنّى لكم التوفيق، إن شاء الله، وسيكون الله في عونكم ليوفّقكم.

 

جهود حثيثة كمًّا ونوعًا

هذه المرحلة، على كلّ حال، هي مرحلةٌ حسّاسة، تتطلّب جهودًا حثيثة. العمل اليوم دقيق، وبنوعيّة عالية، وبحجمٍ وكميّة كبيرة، إنّه عمل هائل الحجّم والنوعيّة. إذا قلَّ عملُكم، تأخّرتم، وإذا غضضتم الطرف عن دقائق العمل وظرافته، تأخّرتم أيضًا. يجب أن تترافق الكمّيّة والنوعيّة معًا. يجب أن تلاحظوا هذه النقطة بكلّ تأكيد. نتمنّى أن يمدّ الله يد معونته، إن شاء الله.

 

السيّد رئيس الجمهوريّة، والحمد لله، مليء بالطاقة، ولا يعرف التعب، وإنّ اللحاقات في نشاطاته وخطواته غاية في الصعوبة. أعانَكم الله لتتمكّنوا من مجاراته، وتصلوا إلى مقاصدكم. إنّها عمليّة صعبة حقًّا. إنّه يبذل كثيرًا من الجهد والسعي، وهو زاخرٌ بالطاقة، والحمد لله، الشكر لله. وقد لا يبدو هذا على ظاهره. الحمد لله. عسى أن يمدَّه الله بعونه أكثر، ويمنحه طاقةً أكثر، ومقدرةً أكبر. نحن ندعو دائمًا، لا يمرُّ يوم أو ليلة دون أن أدعو فيه للسيّد رئيس الجمهوريّة، ولبعضٍ آخر من المسؤولين.

 

توكّلٌ على الله وأملٌ بالمستقبل

وهنا أذكر توصياتي (وصاياي) باختصار.

إحداها مسألة التوكّل على الله -تعالى- والتوجُّه إليه، وذلك من أجل أن تحفظوا وتعزّزوا باطنكم وقلوبكم، وتثبّتوها. هذا هو الشرط الأول. إذا كان بناؤنا الداخليّ

 

 

411

 


350

خطاب الولي 2009

بناءً متينًا حقًا، فلن تستطيع أيّة مشكلة خارجيّة الانتصار (التغلّب) علينا. ينبغي تعزيز الباطن والقلب، بحيث يتغلّب على أشكال النقص والشحّ والثغرات الظاهريّة والجسميّة والبيئيّة كافّة. واعلموا أنّ هذا ما يحصل بالتوكّل على الله -تعالى-، وبالتوجّه إليه -عزّ وجلّ-. أذكر نقطتَين فيما يتّصل بالتوكُّل على الله والأمل بالمستقبل:

النقطة الأولى: اعلموا أنّه ستواجهكم مشاكل كثيرة جدًّا، وأثناء عملكم، سوف تحاك ضدّكم وضدّ هذه الحكومة مؤامرات كثيرة، (في العلن) وضدّ النظام في الباطن. هناك الكثير من الأفكار والجهود والمؤامرات، فاستعِدّوا لمواجهة شتّى صنوف الإساءات والنوايا السيّئة والنظرات السلبيّة، التي ستظهر آثارها في الخارج. هذه هي النقطة الأولى.

 

النقطة الثانية: هي أن تعلموا أنّ فرصنا وآمالنا أكبر من هذه المشكلات. أي إنّه حقًّا وصدقًا، أنّ القدرات والفرص والأبواب المفتوحة، والفتوحات الإلهيّة القادمة، هي أكبر بكثير من هذه المشكلات التي ذكرتها. حجم هذه الفرص كبير جدًّا. إذًا، سهِّلوا هذه المشكلات على أنفسكم، بالتوكُّل على الله -تعالى-. هذه هي التوصية الأولى.

 

التوصية الثانية هي مواصلة التوجّهات الأساسيّة السابقة في هذه الحكومة، فهذه الحكومة استمرار للحكومة السابقة بالطبع. كان توجّهكم مُنصبًّا على العدالة. لا تتخلّوا عن مسألة العدالة، تابعوا قضيّة العدالة هذه، وكذلك قضيّة مكافحة الفساد، وحماية الطبقات الضعيفة، والبساطة في العيش، والاهتمام بالمناطق البعيدة والنائية، والاهتمام بمشاكل الناس المختلفة. هذه أصول إذا رُوعِيَت وجرى الإصرار عليها، فسوف تُرضي الله وتُرضي الشعب عن أيّ مسؤول وأيّ نظام. واصِلوا هذه الأمور.

 

العدالة وقضيّة توجيه الدعم

طبعًا، بشأن العدالة - والعدالة قضيّة على جانب كبير جدًّا من الأهمّيّة - قلنا الكثير من الكلام، ولا يزال لدينا الكثير. وهنا أتحدّث بهذه الجملة.

 

أوّلًا، يجب عليكم تعريف العدالة - وأخال أنّي كتبتُ هذه النقطة هنا بشكل مستقلّ - وأن تحدّدوا ما هي هذه العدالة التي نبتغي الوصول إليها.

 

 

412

 


351

خطاب الولي 2009

أوّلًا، العدالة ليست في الشؤون الاقتصاديّة وحسب، هناك جزء مهمّ منها في الشأن الاقتصاديّ، في القضاء، في إصدار الأحكام، في طرح الرؤى والأفكار، في وجهات النظر، في التصريحات (الخطابات)، في اتّخاذ المواقف، يجب علينا دومًا أخذ جانب العدالة بنظر الاعتبار. وإنّ القضيّة الأكثر إلحاحًا هي قضيّة العدالة الاقتصاديّة، وعدم التوزيع العادل للثروة العامّة والدخل الوطنيّ العامّ بين أبناء المجتمع، ولهذا الأمر، كثير من النماذج، ومنها الدعم الذي نقدّمه، فنعطي الفقير دعمًا أقلّ، ونعطي الغنيّ دعمًا أكبر. هكذا هو الوضع الآن على كلّ حال. الدعم الذي تقدّمه الحكومة الآن، ويخرج من بيت المال، نعطي منه الفقراء مقدارًا أقلّ، ونعطي الأغنياء مقدارًا أكثر. قضيّة "توجيه الدعم" التي طُرِحَت، قضيّة مهمّة حقًّا. منذ سنوات، وهذه المسألة من الآمال والأعمال المنشودة. في الحكومات السابقة، كتبتُ وقلتُ شفهيًّا، مرّتين أو ثلاثة، لمتابعة هذه المسألة، لكنّهم لم يتابعوها، وهي عمليّة صعبة وكثيرة المتاعب. كانوا يفضّلون أن يبقى الوضع كما هو. والحكومة الآن، تتوخّى العمل في هذا المضمار. عليكم إذًا، متابعة هذه المسألة، وهي عمليّة دقيقة. لدينا توصياتنا في هذا المجال، وسنذكرها لاحقًا، إذا وجدنا متّسعًا من الوقت.

 

في خصوص العدالة، ينبغي أوّلًا، مراعاة هذه المسألة (هذا الهدف)، وثانيًا، يجب في العدالة مراعاة العقلانيّة، وكذلك المعنويّة. وقد سبق أن ذكرنا هذه المسألة. إذا لم ترافق المعنويّةُ العدالةَ، ستغدو العدالةُ شعارًا أجوف. يتحدّث كثيرون عن العدالة، ولكن بسبب غياب المعنويّة والنظرة المعنويّة، يكتسب الأمر في غالبه، طابعًا سياسيًّا وشكليًّا.

 

إذًا، الأمر الثاني هو العقلانيّة. إذا غابت العقلانيّة في العدالة، أحيانًا تنقلب العدالة إلى ضدّها، إذا لم تجرِ الحسابات بصورة دقيقة، فيما يخصّ العدالة. قامت بعض هذه الجماعات المتطرّفة بكثير من الأعمال، باسم العدالة، وانقلب الأمر إلى ما يخالف العدالة. والغريب أنّ أولئك المتطرّفين أنفسهم، تغيّرَت توجّهاتهم الآن، مئة وثمانين درجة، وانتهى الأمر إلى أن يتحدّثوا اليوم، ويفكّروا ويعملوا بطريقة مختلفة. إذًا، العقلانيّة هي الشرط الأوّل في العدالة. هذه هي التوصية الثانية.

 

 

 

413


352

خطاب الولي 2009

التوصية الثالثة أنّه ينبغي قياس اتّجاهات برامج الحكومة وأدائها، وفق مؤشّر ميثاق الأفق (العشرينيّ). ميثاق الأفق هذا شيء مهمّ، ويجب عدم الاستهانة به. بإمكاننا القول: إنّنا لا نمتلك أيّ وثيقة بعد الدستور، تحظى بهذه الأهمّيّة (التي لهذه الوثيقة). إنّه نظرة شاملة طويلة الأمد. ميثاق الأفق شيء مهمّ. لاحِظوا أنّه قد مضى على ميثاق الأفق أربعة أعوام، بمعنى أنّه يوجد أمامنا ستّ عشرة سنة حتّى نهاية هذا الميثاق. فكم تقدّمنا في هذه المدّة؟ ثمّة ادّعاء يقول: إنّنا تقدّمنا أكثر ممّا يجب أن نتقدّم خلال أربعة أعوام. وهناك ادّعاءٌ يقول: لا، تقدّمنا أقلّ ممّا يجب، تقدّمنا بمقدار نصف ما ينبغي أن نتقدّم في غضون أربع سنوات. يجب قياس هذه الأمور بدقّة، وملاحظتها بشكل صحيح. المستقبل الملحوظ لشعب إيران في هذا الأفق، هو مستقبل ضروريّ ولائق وجدير. إذا لم نصل إلى هذا المستقبل، نكون قد تأخّرنا. ثمّ إنّنا يجب أن نعلم أنّنا حين نتقدّم نحو ذلك الهدف، فإنّ الأطراف حولنا ليست ثابتة، فهي تسير أيضًا. يجب علينا تنظيم السرعة، وتنظيم الجدول الزمنيّ للخطط. يتوجّب علينا تنظيم السرعة، بحيث نستطيع، فعلًا، بلوغ أهداف الأفق. أي يجب أن تكون هذه الحكومة قد مارسَت دورها في هذه العمليّة.

 

توصيتنا الرابعة هي التطبيق الكامل لسياسات المادّة 44. هذه أيضًا، مسألة على جانب كبير من الأهمّيّة. يومَ طُرِحَتْ سياسات المادّة 44، اعترف جميع العاملين في المجالات الاقتصاديّة وخبراء الشؤون الإداريّة، أنّه إذا نُفِّذ هذا الأمر، فسوف يحدث تحوُّلٌ اقتصاديّ هائلٌ في البلاد. إذًا، يجب تنفيذ هذه السياسات بشكل كامل. أُنجِزَت بعض الأعمال، سمعتُ بعض التقارير من السيّد رئيس الجمهوريّة، ومن بعض المسؤولين الآخرين، لكنّ ما أُنجِزَ لا يمثّل استيعاب سياسات المادّة 44 كلّه. وحين نقول: "كلّ"، نقصد أنّ الجزء الأكبر من هذا الاستيعاب، لا يزال غير مشغول. كان ينبغي إحالة بعض الأمور وإدارتها، ولم يحصل ذلك. وهناك أمور كان يجب أن تعزف الحكومة عن التصدّي لها، ولم يحصل ذلك. لم تحصل الأمور اللازمة. قد نستطيع القول، كما أشار السيّد رئيس الجمهوريّة: إنّ البنى التحتيّة والآليّات المتوافرة في النظام الاقتصاديّ للبلاد، لا تتّسع لهذه العمليّة، وإذًا، ينبغي أوّلًا، تنفيذ مشروع التحوُّل

 

 

414


353

خطاب الولي 2009

الاقتصاديّ. إنّني لا أرفض ذلك. قد يكون الأمر كذلك فعلًا. ولكن ينبغي أن لا نعتبر الأمر قد وصل إلى طريق مسدود، وأنّ الباب مقفل. ينبغي على كلّ حال، التحرُّك والتقدُّم إلى الأمام. سيخرج مشروع التحوُّل هذا من مجلس الشورى، ذات يوم، على كلّ حال. وقد يخرج ببعض التغييرات. وقد تكون هناك خصوصيّات أُخِذَت فيه بنظر الاعتبار. يجب التقدُّم بالأمر على كلّ حال. ولديكم كثير من القوانين، وعليكم رصد سياسات المادّة 44، وتشخيص مستوى التقدُّم فيها. على الحكومة نفسها، وجهاز رئاسة الجمهوريّة، القيام بهذا.

 

التوصية الخامسة هي تتمّة لهذه المسائل، تختصّ بمعالجة المشكلات الاقتصاديّة للناس والبلاد. قضيّة التضخُّم، التي أشاروا إليها -وأهمّ القضايا هي التضخُّم والبطالة- هي الأهمّ بين القضايا. كانت هناك نقطة جيّدة جدًّا في كلمة السيّد رئيس الجمهوريّة، أريد أنا أيضًا، التأكيد عليها. على الحكومة، البرمجةُ والتخطيطُ، بحيث لا تزداد ضغوط التضخُّم على الناس، من جانب الحكومة. قد تكون هذه الضغوط من الخارج أحيانًا، وقد تكون بسبب بعض القوانين في أحيان أخرى. وقد أثاروا هنا، مسألة الخدمات، فالكثير منها تتمّ وتُنجَز من قِبَل الحكومة. ارتفعت حصّة كثير من هذه الخدمات التي تتحدّثون عنها، من التضخُّم، من ثلاثين في المئة، إلى سبعين في المئة. تنهض الحكومة حاليًّا، بهذه الخدمات. إذًا، قلِّلوا حصّتكم من ضغوط التضخُّم ما استطعتم إلى ذلك سبيلًا. هذه من الأمور الأساسيّة المهمّة.

 

مواكبة المسيرة الاقتصاديّة

دقِّقوا في المشاريع الاقتصاديّة -وهذه تتمّة لمسألة حلّ المشاكل الاقتصاديّة للناس- وذلك بأن لا تُبتَلى الحكومة بالتسرُّع، فالتسرُّع في اتّخاذ القرارات، أو عدم الإفادة أحيانًا من آراء الخبراء الاقتصاديّين، قد يوجّه بعض الضربات لمشاريعكم. طبعًا، ادّعاء الحكومة غير هذا. لكنّ معارضي الحكومة يدّعون ذلك، والحكومة تنكر. أولئك يقولون: إنّ الحكومة لا تستفيد من الخبراء الاقتصاديّين. والحكومة تقول: بلى، نستفيد منهم. ولكن، بعيدًا عن هذا الضجيج الذي فيه ادّعاءات وإنكار، توصيتي للحكومة هي:

 

 

415


354

خطاب الولي 2009

افعلوا ذلك، وانتفِعوا إلى أقصى درجة، من آراء الخبراء. لا أوصي باتّباع كلّ المعادلات والأساليب الاقتصاديّة التي يمليها الاقتصاد الدوليّ على البلاد اليوم، لا، هذا عكس ما نراه تمامًا. ابحثوا عن الطرق الصحيحة، واتّبِعوا الآراء المتخصّصة العلميّة الدقيقة حتمًا، خصوصًا في قضايا المال والمصارف. لا يمكن إهمال جانب الاحتياط والحذر. هذه أمور جدُّ دقيقة وحسّاسة، وإنّ أيّ خطوة غير مدروسة وغير مناسبة منكم، قد تسبِّب فجأة، حدوث هوّة مخيفة، إذا أردنا ردمها ومعالجتها، نكون قد فرّطنا بكثيرٍ من المال والوقت. تنبَّهوا لهذه النقطة بدقّة. ينبغي الحذر بشدّة من عدم التدقيق، وعدم دراسة الأمور في الشأن الاقتصاديّ. وعدم التدقيق حالة سيّئة في جميع الشؤون، لكنّ آثارها في الشأن الاقتصاديّ تظهر بسرعة كبيرة، وتترك في بعض الأحيان، آثارًا جسيمة جدًّا. هذه مسألة يجب الالتفات إليها. في القضايا الاقتصاديّة، صحيح أنّ الدولة هي محور الأنشطة الاقتصاديّة، ومركز اتّخاذ القرارات في هذه الشؤون، بَيدَ أنّ لسائر السلطات دورًا كبيرًا، السلطة القضائية لها دورها أيضًا، والسلطة التشريعيّة لها دورها أيضًا. يجب على هذه المؤسّسات القيام بواجباتها في هذه المجالات، وتقديم المساعدة. ويجب على القطاع الخاصّ، وعلى الأجهزة ذات الصلة بالقطاع الخاصّ، كغرف التجارة وما إلى ذلك، أن تواكب جميعها هذه المسيرة، وتتعاون مع الحكومة، وتمدّ لها يد العون.

 

قضايا الثقافة وآفاق العمل الثقافيّ

توصيتنا السادسة تتعلق بالثقافة، وقد أُشيرَ إلى أنّ المسألة الثقافيّة على جانبٍ كبير من الأهمّيّة. ما الذي نريد أن نفعله في مجال الثقافة والعمل الثقافيّ؟ يجب أن نحدّد هذه النقطة أوّلًا. قد تكون إحدى المؤسّسات غير آبهة للشؤون الثقافيّة، وقد تكون هناك مؤسّسة تهتمّ للشأن الثقافيّ، بَيدَ أنّ أهدافها الثقافيّة تعاني من الخلل أو الثغرات. إنّ رسم الأهداف عمليّةٌ مهمّةٌ جدًّا، ويجب عدم الغفلة عنها. ما الذي نريد أن نصنعه بأخلاق الناس، وثقافتهم؟ هل نستطيع، كحكومة إسلاميّة، أن نتخلّى عن عمليّة التوجيه والهداية الثقافيّة للمجتمع؟ كلّا، بلا شكّ، فهذا من واجباتنا. قد

 

 

416

 


355

خطاب الولي 2009

يتحدّث المعارضون والمنتقِدون، وقد يستهزئون أحيانًا، أو يوجّهون الإهانات، فليفعلوا ذلك. لا نستطيع نسيان التكاليف الإلهيّة بسبب هذه الأمور. من واجبنا أن نهدي شعبنا. الرئاسة في المجتمع الإسلاميّ، ليست رئاسة مادّيّة محضة. هناك إدارة شؤون الناس، وإلى جانبها الهداية. يجب أن نفتح ما استطعنا، طريق هداية الناس، وننهض بمَهَمَّة هدايتهم. كثير من أدوات الهداية متوافرة لدى الأجهزة الحكوميّة، ومن نماذج ذلك، الإذاعة والتلفزيون، وهناك العديد من النماذج الأخرى. من النماذج أيضًا، وزارة الثقافة والإرشاد. ومن النماذج الأخرى، وزارة العلوم، ومنها كذلك وزارة التربية والتعليم. هذه كلّها أجهزة خدمة وهداية. كيف يجب أن نستفيد من هذه الأجهزة؟ ينبغي أن نسير ونعمل بطريقة تجعل الناس متديّنين، يعملون بطريقة المتديّنين، ويؤمنون بالأُسُس الدينيّة، ويلتزمون، عمليًّا، بتعاليم الدين. ينبغي أن يكون هذا توجُّهنا على الصعد كافّة.

 

في وزارة الثقافة قضايا، بينها قضيّة الكتب، وقضيّة الفنون التشكيليّة، والفنون السمعيّة والمرئيّة المختلفة. في هذه الميادين كلّها، يجب أن يكون توجُّهُنا السيرَ بالناس نحو الدين والله. وإلّا إذا تقرَّر أن ننظر على ماذا يلومنا الأجانب[1]، إذا أردنا مراعاة هذا الجانب، فإنّ كثيرًا من الأمور لن تُنجَز. فاللحية التي تطلقونها، لا يقبلها العالم، وربطة العنق التي لا تضعونها، لا يقبلها العالم، وكثيرٌ من الأطعمة والأشربة التي لا تتناولونها، لا يوافقكم العالم على عدم تناولها، الحجّاب الذي ترتديه نساؤكم، لا يرضاه العالم. ما معنى هذا الكلام؟ ذات مرّة، قبل نحو سبعة وعشرين أو ثمانية وعشرين عامًا، سألني أحدُهم في أحد اللقاءات الطلّابيّة في الجامعة، حول قضيّة من القضايا، وقال: ما هو دفاعكم وتبريركم للقضيّة الفلانيّة؟ قلتُ له: ليس لدينا أيّ دفاع، إنّما لدينا هجوم في هذه القضيّة. أيّ دفاع؟! موقفنا ليس موقفًا دفاعيًّا. موقفنا موقف هجوميّ في قضيّة المرأة، وفي قضايا أخرى متنوّعة. الدنيا مدينةٌ لنا. العالم المادّيّ هو الذي يسلك الطريق الخطأ بخصوص هذه الأمور. وها هم الآن -عقلاؤهم طبعًا- يتنبّهون إلى الحقيقة،


 


[1] أو: إذا أردنا أن نجاري الغرب.

 

 

417


356

خطاب الولي 2009

ويصدِّقون (خطأهم)، ويعترفون بالآثار والتبعات القبيحة المترتّبة على سلوكهم. راحوا يفهمون الحقيقة، شخصًا بعد آخر، وراحوا يعترفون بها تدريجيًّا، وبعضهم يرفضون ذلك، بشكلٍ أو بآخر. ونأتي الآن لنخجل منهم، لأنّهم يقولون عنّا كذا! اتركوا هذا الكلام تمامًا، في مضمار الثقافة، وتمسّكوا بالأصل. طبعًا، أنا لا أوافق على التوجُّهات المتطرّفة عديمة الأساس، ولا أوصي بها أبدًا، ولم أوصِ بها من قبل، لكن اثبتوا على الأمور ذات الأصول الشرعيّة والدينيّة بقوّة، واعملوا بها، وتفاخروا (اعتزّوا) بذلك.

 

النقطة السابعة التي أريد التوصية بها، هي أن تهتمّ الحكومة بالقانون. نعم، الشيء الذي قاله السيّد رئيس الجمهوريّة من أنّ الكلّ يجب أن يراعوا القانون ويعملوا به، شيءٌ مفروغٌ منه. مجلس الشورى، والسلطة القضائيّة، والمؤسّسات المختلفة، يجب عليها مراعاة القانون. نوصيهم بهذا الشيء، ونوصيكم به أيضًا. راعوا القانون، وطبِّقوه بدقّة. قال بعض ناقدي الحكومة: إنّها لا تلتزم بالقانون، وقال السيّد رئيس الجمهوريّة في ردِّه: لا، إنّ هذه الحكومة هي الأكثر التزامًا بالقانون، بين الحكومات كلّها. هذان ادّعاءان، وهما طرفا قضيّة. هنا أيضًا، لا يعنيني أيُّ الطرفَين يرجح، وأيّهما لا يرجح. أريد أن أوصيكم توصيةً أكيدة، باعتباركم المسؤولين التنفيذيّين في البلاد: أن تهتمّوا بالقانون. إذا تجاهلنا القانون، ولم نعمل به في مسألة معيّنة، فلن تكون القضيّة مجرَّد أنّ قانونًا قد نُقِض ولم يُعمَل به، بل معناه أنّه قد مُنِح خطًّا وطريقًا لنقض القانون باستمرار، وعلى التوالي. هكذا هي عمليّة خرق القانون. إذا خُرِق القانون، يعني أنّ عمليّة خرق القوانين قد وجدَت لنفسها فرصةً جديدة لكي يُعمَل بها مِن قِبَل الآخرين. لذا، ينبغي أن تهتمّوا اهتمامًا بالغًا بمسألة القانون.

 

النقطة التالية هي: لتتّسِع صدوركم، وليكن لديكم وجوهٌ بشوشةٌ، وآذانٌ صاغيةٌ لسماع النقد. لن يضرَّكم أبدًا، أن يوجِّهوا لكم النقد. طبعًا، هذه الانتقادات التي تُوَجَّه إليكم، ليست كلّها من سنخٍ واحد. بعضها لا يُقصَد منه الإصلاح، بل يُراد منه التخريب، نحن نرى الأمور على كلّ حال، سواء مِن قِبل صحافتنا، أو من قِبل مَن يدعم هذه الصحافة. عشرات الإذاعات والتلفزيونات الأجنبيّة، ووسائل الإعلام العامّة والدوليّة، تُوَظَّف لصالح كلامٍ وأفكارٍ يُراد منها التشويه، أي إنّها لا تقصد الإصلاح

 

 

418


357

خطاب الولي 2009

إطلاقًا. ما يقولونه، وما يذكرونه هو بهدف التخريب. لذلك، تجد فيه الواقع، وغير الواقع، وخلاف الواقع، ونقيض الواقع، وكلّ شيء. أحيانًا، يضخّمون شيئًا صغيرًا، وأحيانًا، يصوّرون شيئًا غيرَ موجودٍ على أنّه حقيقةٌ أكيدة. هذه أمور موجودة على كلّ حال، وهي تخريبٌ طبعًا. ولكن ثمّة إلى جانبها، انتقادات إصلاحيّة وخيّرة، تصدر أحيانًا عن أصدقائكم، بل وتصدر أحيانًا عن أشخاصٍ لا يُعَدُّون من أصدقائكم ومناصريكم، هكذا هو الحال. أحيانًا، يُوجَّه للإنسان نقدٌ، وتُرصَد عيوبه، ويُنقَد مِن قِبل طرف هو ليس بصديق الإنسان، حتّى يقول الإنسان: سأصغي لنقده، ثقةً بصداقته. لا، إنّه ليس حتّى من الأصدقاء، لكنّه ليس من الأعداء أيضًا، أي إنّ عداءه لم يثبت، لكنّه نقد ومؤاخذات. حتّى هذا، يجب الإصغاء له. ربّما كان في ثنايا هذه الانتقادات، كلمات تنفعنا، ويجب، على كلّ حال، التعامل معها بسعة صدر.

 

اغتنِموا الانتقادات والنصائح

وُجِّهَت لكم في غضون هذه الأعوام، كثير من الإهانات والأحقاد، تحمَّلوها. هذا التحمُّل والصبر، أيضًا، له أجره عند الله -تعالى-. لكن يجب أن لا يؤدّي هذا إلى أن تضيق صدورنا، فنقرّر أن لا نستمع للانتقادات، أو إذا وَجَّه لنا أحدٌ أبسط نقدٍ في مكانٍ ما، حملنا نقدَه على العداء. لا، أبدًا، لنستمع إلى الانتقادات، النقد شيءٌ جيّد. وكما قيل، فهذه هديّةٌ تُقدَّم للإنسان، هكذا هي الانتقادات غير المغرضة، خصوصًا من قِبل بعض النخبة.

 

أودّ أن أوضّح هذا الأمر هنا جيّدًا: اعرفوا قدر نصائح علماء الدين، واغتنموها. أحيانًا، يقدّم علماء الدين، وشخصياته المعروفة، وحتّى مراجع الدين، نصائح وتوصيات حول بعض الأمور، اغتنِموا هذه النصائح، واحمِلوها على محمل المحبّة والمودّة. نحن نعلم أنّ السادة وكبار العلماء - طبعًا، قد يكون هنا وهناك، أفراد على خلاف هذا المعنى، لا نقصدهم في حسابنا - المتواجدين في المناطق المختلفة، وفي مراكز الحوزات العلميّة الكبرى في المدن، هؤلاء كلّهم من أنصار نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، ويعرفون قدر هذا النظام، ويحترمونه. يرون كم عمل نظام الجمهوريّة الإسلاميّة باتّجاه

 

419

 


358

خطاب الولي 2009

الأهداف الإسلاميّة، ولا يزال يعمل ويجدّ ويجتهد، ويرون جهودكم ومساعداتكم وخدماتكم. أحيانًا، يقدّمون بعض التوصيات بدافع الحبّ والإخلاص، يجب معرفة قدر هذه النصائح، بكلّ تأكيد. وكذلك الحال فيما يخصّ النخبة في الجامعات. بعض النخب الجامعيّين أناسٌ خيّرون، حَسَنو النوايا، نحن نرى ذلك. يكتبون لي بعض الرسائل أحيانًا، وأنا، والحمد لله، أُوَفَّق لقراءة كثير من هذه الرسائل التي يكتبها لي النخبة والمثقّفون من الحوزة والجامعة. ومع أنّ الرسائل كثيرة، ولا يستطيع الإنسان قراءتها جميعًا، لكنّني وُفِّقتُ، والحمد لله، لقراءة كثير من هذه الرسائل الخاصّة، والنظر فيها. لديهم نقدهم عليَّ، وعليكم، وعلى العمل الفلانيّ، وعلى الخطوة الفلانيّة، وعلى القرار الفلانيّ. قد تكون لديهم إشكالاتهم واعتراضاتهم، وقد لا تكون بعض تلك الإشكالات صحيحة في رأينا. فالإنسان حين يقرأ بعض الرسائل، يرى أنّ الإشكالات المدرجة فيها غير صحيحة، وإنّما جاءت نتيجة عدم الاطّلاع على الموضوع الفلانيّ، ولو كان كاتب الرسالة مطّلعًا على الموضوع، لَما اعترض، ولَما أشكل. ولكن حتّى في مثل هذه المواضع، يجد المرء أنّ الكلام لا يخلو من نقطة جليّة، وإشارة جيّدة يستفيد منها الإنسان. يجب أن يحتفظ الإنسان بهذا الذهن الناشط للنخبة. حينما ترحّبون بنقده وتنبيهاته، تكونون في الواقع، قد استفدتم من ذهنه وأفكاره، كرصيد لكم، وسوف يشعر هو أنّ باستطاعته مساعدتكم فكريًّا. هذا هو الطريق الذي قلنا دومًا: يجب أن تفتحوه بينكم وبين النخبة.

 

التقدُّم الإسلاميّ في رحاب الأجهزة الحكوميّة

النقطة الأخرى -وسبق أن أشرتُ إليها- هي أنّني أعتقد أنّ رسم نموذج "التقدُّم الإسلاميّ-الإيرانيّ" وتدوينه، لا يكون إلّا في (إطار) داخل الحكومة. كلّما فكّر المرء أين يمكن القيام بهذه المَهَمّة، يُلَوَّح له أنّ الموطن الذي بوسعه القيام بهذه الوظيفة، هو الأجهزة الحكوميّة. وينبغي الانتفاع، حقًّا، من المفكّرين، للمساهمة في تصميم نموذج التقدُّم، لأنّ هذا العقد هو عقد التقدُّم والعدالة. ذكرنا التقدُّم مع العدالة سويّةً، أي على العكس تمامًا من الشيء الدارج في العالم المادّيّ اليوم. هم يقولون: إنّنا إذا أردنا

 

 

420

 


359

خطاب الولي 2009

في عمليّة التقدُّم، مراعاة مسائل العدالة، فلن يتحقَّق التقدُّم، إذًا، نترك العدالة إلى ما بعد تحقيق التقدُّم، وعندها، نعوّض الأمر بسبل التعويض المعروفة - مثل الضمان والمساعدات - ضمن حدود الإمكان، وغالبًا، لا (يتمّ) يمكن ذلك. أمّا نحن، فنقول: لا، التقدُّم يترافق مع العدالة. ينبغي في صميم هذا التقدُّم، أخذُ العدالة بنظر الاعتبار. حسنًا، هذا الشيء بحاجة إلى نموذج، عليكم رسم نموذجه. ستكون هذه نظرة شاملة لمستقبل البلاد.

 

ولديكم من الوقت أربعة أعوام. بوسع هذه الأعوام الأربعة، أن تمثّل أساسًا يَعتمد عليه كلُّ من يأتي بعدكم.

 

والنقطة الأخيرة هي، كما قلنا: العدالة ليست محصورة في الاقتصاد. يجب أن يطلب الإنسان من الله، أن يوفّقه للعمل بالعدل، حتّى مع نفسه، ومع القريبين منه، مع الزوجة والأولاد. لاحظتُ بعضَ المسؤولين أحيانًا، ينهمكون في العمل، بحيث ينسون وجود زوجاتهم وأولادهم، وهذا ما يؤدّي إلى خسائر. القضيّة ليست أنّنا نجامل ونقول: ارعوا أنفسَكم أكثر، وتقولون أنتم: لا، ليست هناك مشكلة، ليست القضيّة من هذا القبيل. إنّما هو واجبٌ أن يرعى الإنسانُ زوجتَه وأبناءَه وعائلتَه وبناءَه الأسريّ. ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[1]، ذَكَر -سبحانه وتعالى- الأهلَ إلى جانب الإنسان نفسه. يقول الله -تعالى- لرسوله: ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ﴾[2]، أي لا تمسك أكثر من الحدّ اللازم، ولا تبسط يدك أكثر من الحدّ اللازم. أحيانًا، يقبض الإنسان يدَه كلّ القبض، أو يبسطها أحيانًا كلّ البسط، لا، لا هذا، ولا ذاك. يقصد أنّه في الشؤون المادّيّة والماليّة والاقتصاديّة، لا تكن أيديكم قبضة مشدودة، ولا تسرفوا. هكذا يوصي الله -تعالى- رسوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾[3] -آخر سورة الفرقان- القصد هو الاعتدال في كلّ الأمور. يجب أن يتحاشى الإنسان الإفراطَ والتفريطَ.


 


[1] سورة التحريم، الآية 6.

[2] سورة الإسراء، الآية 29.

[3] سورة الفرقان، الآية 67.

 

 

421


360

خطاب الولي 2009

عسى أن يكون ما قلناه لله، وأن يتقبَّلَه الله -تعالى- بكرمه وفضله، ويجعله خالصًا له، وأن يكون ما قلناه مفيدًا، إن شاء الله، للأعزّاء والإخوة والأخوات، حتّى نستطيع أن نشهد حركة أقوى. وكما تحرّكتم في السابق بشكل جيّد وقويّ، والحمد لله، عسى أن تكون لكم حركة أقوى من السابق، وفي جميع المجالات، وأن يعينكم الله، وتتقدَّموا إلى الأمام، يومًا بعد يوم.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

422

 

 

 

 


361

خطاب الولي 2009

خطبتا الإمام الخامنئيّ دام ظله

في صلاة الجمعة

 

 

 

 

المناسبة:   شهادة أمير المؤمنين عليه السلام

الحضور:  جموع غفيرة من المصلّين

المكان:   طهران

 

الزمان:    20/06/1388هـ.ش.

21/09/1430هـ.ق.

11/09/2009م.

 

 

424

 


362

خطاب الولي 2009

الخطبة الأولى

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين، نحمده ونستعين به، ونؤمن به، ونستغفره ونتوكّل عليه، ونصلّي ونسلّم على حبيبه ونجيبه سيّد خلقه، بشير رحمته، ونذير نقمته، سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، ولا سيّما بقيّة الله في العالمين.

 

اللهمّ، صلِّ على أئمّة المسلمين، وحماة المستضعفين، وهداة المؤمنين.

 

يوم التقوى المتجسّدة

أوصي الإخوة والأخوات المصلّين الأعزّاء، بتقوى الله. هذا الشهر هو شهر التقوى، واليوم وهو الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك، يوم التقوى المتجسّدة. الإمام عليّ بن أبي طالب هو التقوى المتجسّدة. لنستلهم الدروس، ونجعل التقوى زادنا للدنيا والآخرة.

 

أذكر في الخطبة الأولى، نقاطًا حول أمير المؤمنين، الإمام عليّ، إنّه يوم الإمام عليّ[1]. في ليلة الحادي والعشرين، خسرَت البشريّة عليّ بن أبي طالب، (خسرَت) جَسَد أمير المؤمنين، وصوت أمير المؤمنين، والأنفاس الدافئة لأمير المؤمنين، وفارقَت العين الثاقبة لأمير المؤمنين، فارقت عالَم البشريّة يوم ذاك. ولكن يمكن أن نحتفظ بـ"عليّ" عليه السلام، يمكن أن نحتفظ به في مقدّمة المسيرة، شريطة أن نتمسّك بسيرته وسلوكه، كمثالٍ ونبراس. سأذكر لكم اليوم، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، جانبًا من هذه الحياة الزاخرة بالمفاخر، والحكومة القصيرة الأمد، لكن المتألّقة والمضيئة.


 


[1] في مثل ليلة البارحة، وكانت ليلة جمعة، وهي لذلك، شبيهة أكثر بليلتنا هذه السنة.

 

 

426


363

خطاب الولي 2009

سياسةٌ وأخلاق

وإنّ الموضوع الذي سأتحدّث حوله بضع نقاطٍ، يتعلّق بالسلوك السياسيّ لأمير المؤمنين. ينبغي الالتفات والأخذ بعين الاعتبار، أنّ السلوك السياسيّ لأمير المؤمنين، غير منفصل عن سلوكه المعنويّ والأخلاقيّ. إنّ سياسة الإمام عليّ ممتزجة بالمعنويّة والأخلاق، بل هي منبثقة أساسًا عن معنويّته وأخلاقه. إذا نبعَت السياسة من الأخلاق، وارتوَت من المعنويّة، فستكون أداة كمالٍ للناس الذين يتعاملون مع تلك السياسة، وستكون طريقًا إلى الجنّة. أمّا إذا انفصلَت السياسة عن الأخلاق وعن المعنويّة، فعندئذٍ، ستكون لعبةً (سياسيّة) ووسيلةً لكسب السلطة بأيّ ثمنٍ، لجمع الثروة الماليّة، ولتحقيق الأهداف والمصالح الدنيويّة. وستكون هذه السياسة آفة على السائس نفسه، وعلى الجماهير التي تُمارَس هذه السياسة في مجالاتها الحياتيّة.

 

انظروا إلى الحكومة التي قادها الإمام عليّ، والتي وقعَت فيها ثلاثُ حروبٍ مفصليّة (كبيرة) بآلاف القتلى،كما يصفها في نهج البلاغة، حيث يذكرها بتعابير تدلّ على استهانته بها. مرّةً يصفها -في خطابه لابن عبّاس- بأنّها أهون عنده من حذائه القديم المرقّع، ومرّة يقول عن هذه الحكومة: "ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِه أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ"[1]. كم هي القيمة الحياتيّة للرطوبة النازلة من فم عنـزٍ عند عطاسها؟ لا شيء. يقول عليه السلام: هذه الحكومة، وهذه السلطة، وهذا التربُّع على أريكة الحكم، هو عندي أقلّ شأنًا من هذا الشيء. وفي موضعٍ ما من تلك الخطبة نفسها، يستدلّ على قبوله لهذه الحكومة، بقوله: "لَوْلَا حُضُورُ الْحَاضِرِ، وقِيَامُ الحجّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ"[2]، رأيت الناس قد توافدَت، وأصرَّت، وعرضَت نصرَتها، فقبلتُ. ويقول في معرض الاستدلال أيضًا: "ومَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ، أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ"[3]، يقول عليه السلام: إنّ الله -تعالى- أوجبَ على العلماء، أن لا يسكتوا على تخمة الظالم، وجوع المظلوم. هذه هي الأمور التي تدفع الإمام عليّ نحو الحكومة، أو تحضُّه على المقاومة والثبات،


 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص50.

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه.

 

 

427


364

خطاب الولي 2009

وحتّى على الحرب العسكريّة ضدّ من يبغي عليه، وإلّا فالحكومة لا قيمة لها عند أمير المؤمنين عليه السلام.

 

من خصائص الإمام عليّ في هذه السياسة، أنّه بعيد عن المكر والخداع. رُوِيَت عبارةٌ عنه عليه السلام: "لَوْلَا التُّقَى، لَكُنْتُ أَدْهَى الْعَرَبِ"[1]، لولا أنّ التقوى تقيّدني، لكنتُ أشدّ حيلةً ومكرًا من كلّ دهاة العرب وماكريهم. وفي موضع آخر، حين يقارن بينه وبين معاوية -لأنّ معاوية كان مشهورًا بالدهاء والمكر في الحكومة- يقول، حسب ما يُروى: "واللَّه، مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي"[2]، ليس معاوية أكثر حنكةً منّي، ولكن ماذا يفعل عليّ، وهو يريد مراعاة التقوى والأخلاق؟ فيبقى لسانه ويده مغلولَين. هذا هو منهج أمير المؤمنين. حين لا تكون هنالك تقوى، يُطلَق لسانُ المرءِ ويداه، فيستطيع أن يقول: أيّ شيء، يمكنه أن يقول: أشياء على خلاف الواقع، يستطيع القذف، وتوجيه التهم، والكذب على الناس، ونقض العهود، والميل (محاباة) لأعداء الصراط المستقيم. هكذا سيكون الحال، حينما لا يكون هنالك تقوى. يقول أمير المؤمنين: لقد اخترتُ السياسة بمعيّة التقوى. لذلك، لا يوجد في منهج الإمام عليّ مكرٌ وحيلٌ وأعمالٌ قذرة، فهو إنسانٌ طاهر.

 

من أخطار (آفات) فصل الدين عن السياسة، الذي يروِّج له بعضهم دائمًا، في العالم الإسلاميّ -وقد كان هذا الترويج موجودًا في بلادنا سابقًا، واليوم أيضًا، للأسف، يُطلِق بعضهم معزوفات فصل الدين عن السياسة- هو أنّ السياسة إذا انفصلَت عن الدين، ستنفصل أيضًا عن الأخلاق، وعن المعنويّة. نلاحظ في الأنظمة العلمانيّة وغير المرتبطة بالدين، زوالَ الأخلاق في الأغلبيّة الساحقة من الحالات. قد يُشاهَد، مِن باب الاستثناء، عملٌ أخلاقيٌّ هنا وهناك، فهذا شيء ممكن، لكنّه استثناء. حينما ينفصل الدين عن السياسة، تغدو السياسة عاريةً من الأخلاق، وقائمةً كلّها على الحسابات المادّيّة والمصلحيّة. يرتكز السلوك السياسيّ للإمام عليّ عليه السلام على المعنويّة، ولا ينفصل عن سلوكه المعنويّ.


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص24.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص318.

 

428


365

خطاب الولي 2009

السلوكيّات السياسيّة لأمير المؤمنين

أوّلًا، المداراة قدر الإمكان، مع معارضيه، وحتّى مع أعدائه، حيث تلاحظون وجود ثلاثةِ حروبٍ اضطرّ لها الإمام عليّ، وفُرِضَت عليه أثناء زهاء خمسة أعوام من حكمه، وكان ذلك بعد عمله بكلّ ما يمكن من المداراة. لم يكن الإمام عليّ شخصًا يبادر إلى السيف ابتداءً، ضدّ معارضيه، من دون العمل بالمداراة اللازمة. والآن، لنستمع إلى بعض عبارات الإمام أمير المؤمنين:

ذات مرّة، جاء عددٌ من الناس إلى أمير المؤمنين، في بداية خلافته، وأشاروا إلى بعض الأفراد، طالبين منه أن يحسم أمرهم وينهيه، وقد أصرّوا عليه في ذلك. وكان جواب أمير المؤمنين، أن نصحهم بالصبر، وكان من جملة ما قاله: هذا الرأي الذي أنتم عليه، إنّما هو أحد الآراء: "فِرْقَةٌ تَرَى مَا تَرَوْنَ"[1]. بعضهم يوافقونكم على رأيكم هذا، "وفِرْقَةٌ تَرَى مَا لَا تَرَوْنَ"، وبعضٌ آخر يعتقدون بشيء غير الذي تعتقدون به، "وفِرْقَةٌ لَا تَرَى هَذَا ولَا ذَاكَ"، وبعضٌ آخر لا هُم من هذا الفريق، ولا من ذاك، بل لديهم رأي ثالث. "فَاصْبِرُوا"، اصبروا، حتّى يدير أمير المؤمنين الأمور بحكمته، "وتُؤْخَذَ الْحُقُوقُ مُسْمَحَةً"، دعونا نأخذ الحقّ لأصحابه، ونحقّ الحقوق بالسماح واللطف واللين. "وإِذَا لَمْ أَجِدْ بُدًّا، فَآخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ"[2]، يجب أن نعيد الحقّ إلى صاحبه بالتسامح والسماح واللين والسلوك الطيّب، ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. وإذا وجدنا أنّه لم يعد ثمّة سبيل، وأنّهم لا يرضخون للحقّ، عندئذٍ، "آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ"، هذا مثلٌ عربيّ معروف، "آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ"، بمعنى أنّه لا مفرّ من الحسم. نعالج الأمور بالأدوية والمراهم، ما أمكن ذلك، من أجل معالجة هذا الجرح وشفائه، وإذا لم ينفع، نعمل بالكيّ، لأنّه لم يَبقَ سبيلٌ غيره.

 

في حرب صفّين، وقبل أن تبدأ الحرب، كان بعضهم يصرّون إصرارًا شديدًا على الإمام أمير المؤمنين، بأن يبدأ القتال. وقال لهم الإمام: "فَوَالله، مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْمًا، إِلَّا


 


[1] المصدر نفسه ، ص243.

[2] المصدر نفسه.

 

429


366

خطاب الولي 2009

وأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ، فَتَهْتَدِيَ بِي"[1]، أي إنّني لا أبتغي الحرب، بل أنشد الهداية، ولا أؤخّر الحرب يومًا، إلّا لأنّني أتمنّى أن تميل قلوب بعضهم إلى الحقيقة، ويعودوا إلى الصراط المستقيم. وإذا يئسنا ووجدنا أنّه لا أحد يُقدِم علينا، عندئذٍ، نُشهر السيوف، ونبدأ الحرب.

 

وقال عليه السلام في قضيّة حرب الجمل وأهل الجمل -التي كانت من المحن الصعبة التي مرّ بها الإمام أمير المؤمنين-: "إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَمَالَؤوا عَلَى سَخْطَةِ إِمَارَتِي"[2]، لقد اجتمع هؤلاء، واتّحدوا وتعاضدوا، ليُظهروا غضبهم من هذا الحكم الذي يمسك الإمام عليّ بزمامه. "وسَأَصْبِرُ"[3]، قال: إنّني سأصبر، ولكن إلى متى؟ "مَا لَمْ أَخَفْ عَلَى جَمَاعَتِكُمْ"[4]، إذا وجدتُ أنّ تحرّكاتهم تبثّ الشقاق والفرقة بين المسلمين، وتضع الإخوة بعضهم في وجه بعض، عندئذٍ، أبادر للعمل، وأعالج الفتنة. إنّي أصبر وأعمل بالنصيحة في حدود الإمكان.

 

تقديمه البراهين والأدلّة

من خصائص الإمام أمير المؤمنين في منهجه السياسيّ، أنّه كان يتحدّث مع أعدائه ومعارضيه، بالبراهين والأدلّة. حتّى في الرسائل التي كتبها لمعاوية -مع أنّ العداء بين معاوية وأمير المؤمنين كان شديدًا، إلّا أنّ معاوية كان يكتب له الرسائل، ويوجِّه الإهانات، ويكذب- كان يسوق له الأدلّة على خطأ منهجه. وطلحة والزبير اللذان جاءا وبايعا الإمام أمير المؤمنين، وخرجا من المدينة بذريعة أنّهما يريدون العمرة، وسارا نحو مكّة. وكان أمير المؤمنين حذرًا، وقال منذ البداية: إنّهما لا يريدان العمرة. ذهبا إلى هناك، وعملا كثيرًا ممّا تطول تفاصيله. قال لهما الإمام عليّ: "لَقَدْ نَقَمْتُمَا يَسِيرًا، وأَرْجَأْتُمَا كَثِيرًا"[5]، أي لقد جعلتما شيئًا تافهًا سببًا للخلاف والنـزاع، ولم تشاهدا كلّ


 


[1] المصدر نفسه، ص91.

[2] المصدر نفسه، ص244.

[3] المصدر نفسه.

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه، ص321.

 

430


367

خطاب الولي 2009

هذه النقاط الإيجابيّة، ورحتما تناديان بالعداء والمعارضة. كان يتكلّم الإمام معهما بتواضع، ويوضح لهم الأمور، ويقول: إنّني لا أريد أن أختلق لنفسي الأعداء. هكذا كان يداريهم الإمام. ولكن حين لا تؤثّر هذه المداراة شيئًا، عندئذٍ، يحين موعد الحسم العلويّ. هناك، يُثبت الإمام أمير المؤمنين أنّه يتصرّف مع أشخاصٍ كالخوارج، بحيث يقول: "فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ"[1]، أنا الذي فقأتُ عين الفتنة وأمَتُّها، وما كان أحدٌ آخر غير عليّ بمقدوره -كما قال عليه السلام نفسه في نهج البلاغة- أن يقوم بذلك.

 

عدم استعانته بالظلم والكذب

من خصائص سياسة الإمام أمير المؤمنين، أنّه لم يكن يستعين بالظلم، ولم يتوسّل الكذب، ولا الممارسات الظالمة، من أجل أن ينتصر. جاءت جماعةٌ في بداية خلافته، وقالوا له: حبّذا لو راعيتَ هؤلاء الأشخاص المتنفّذين في المجتمع، وأعطيتهم نصيبًا أوفر من بيت المال، حتّى لا يعارضوك، وتستطيع تأليف قلوبهم وكسبها، فقال: "أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ؟"، أتريدون أن أحقّق النصر لنفسي بالظلم؟ "واللَّه، لَا أَطُورُ بِه، مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، ومَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْمًا"[2]، من المستحيل أن يكسب الإمام عليّ الأصدقاء، بالظلم، والسبل الخاطئة المغلوطة، والأساليب غير الإسلاميّة.

 

عدم التملُّق والمصانعة

ومن خصوصيّات الإمام أمير المؤمنين في منهجه السياسيّ، أنّه كان يطلب من الناس بجدّ -وليس من باب المجاملة- أن لا يتحدّثوا معه بتملُّق ومصانعة. قام شخصٌ أثناء إحدى خطبه عليه السلام -وهي من الخطب البليغة العجيبة- وراح يثني على الإمام ويمدحه، راح يُثني على كلام الإمام، وعلى أفكاره، وعليه أيضًا. وحين انتهى كلامه، التفَتَ إليه الإمامُ، وتحدّث معه ناصحًا، بمقدار ما تحدّث هو -حسب ما يلاحظ المرء في نهج البلاغة، وبمقدار ما اختاره السيّد الرضيّ - وقال له: لا تخاطِبوني بهذه الطريقة. ومن ذلك، قوله المعروف: "فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِه الْجَبَابِرَةُ"، لا تتحدّثوا


 


[1] المصدر نفسه، ص137.

[2] المصدر نفسه، ص183.

 

431


368

خطاب الولي 2009

معي بالطريقة والألفاظ نفسها التي يتحدّث الناس بها مع الجبابرة. "ولَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِه عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ"، ولا تتحفّظوا أمامي، ولا تمتنِعوا عن الكلام، كما يفعل الناس أمام الجبابرة، حيث يحذرون أن يسوؤَهم هذا الكلام، أو لا يرتاحوا لهذا القول. "ولَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ، ولَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي"[1]، لا تظنّوا أنّكم إذا قلتم لي: الحقّ، فسوف يسوؤني ذلك، وسيثقل عليَّ قول الحقّ، كلّا، أبدًا. هذه أيضًا إحدى خصوصيّات أمير المؤمنين.

 

التفرقة في المعاملة مع المعارضين

ومن خصائصه الأخرى عليه السلام، أنّ سلوكه وتعامله مع معارضيه، لم يكن على شاكلة واحدة، لم يكن ينظر إليهم (إلى كلاهما) من زاويةٍ واحدة[2]. كان يفرّق بين بعض الأفراد والتيّارات، وأفراد وتيّارات أخرى، فقد وقف أمام الخوارج، أي أمام انحرافهم وانحطاطهم واستعانتهم بالظواهر الدينيّة، ووقف أيضًا بوجه معاوية، وحينما رفعوا المصاحف على الرماح، قال عليه السلام: إنّ هذا والله، لَمَكرٌ وخديعة، وهؤلاء لا يؤمنون بالقرآن. يوم وقف الخوارج بوجه الإمام، بظواهرهم الدينيّة وأصواتهم الحزينة التي يتلون بها القرآن، وقف الإمام بوجههم. أي حينما يريد بعضٌ العملَ بواسطة الظواهر الدينيّة، يقف الإمام عليّ بوجهه، سواء كانوا جماعة معاوية، أو الخوارج. لكنّه في الوقت نفسه، لا يعاملهم بطريقة واحدة. كانت له وقفته بوجههم، لكنّه كان في الوقت ذاته، ينصح بعدم التعامل مع الجميع بطريقةٍ واحدة. لذلك قال: "لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَه، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَه"[3]، فالشخص الذي ينشد الحقّ، لكنّه يخطئ في تشخيصه، إنّه يبحث عن الحقّ، لكنّه لا يصل إليه، بسبب جهله وسطحيّته، هذا الشخص يختلف عن شخص ينشد الباطل، فيصل إليه، فهذان ليسا على شاكلةٍ واحدة.

 

هذا هو السلوك السياسيّ لأمير المؤمنين. حينما ننظر، نجد أنّ هذا السلوك السياسيّ


 


[1] المصدر نفسه، ص335.

[2] العبارة الحرفيّة: لم يكن يسوقهم بعصا واحدة.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص94.

 

432


369

خطاب الولي 2009

متطابق ومتجانس تمامًا مع سلوكه المعنويّ، والإمام عليّ هو الإمام عليّ المميّز الألمعيّ، الذي لم تشهد الدنيا نظيرًا له في أيّ مكان.

 

مصيبة عليّ عليه السلام

اليوم هو يوم عزاء الإمام أمير المؤمنين. أذكُر كلمات حول مصيبة ذلك الإمام الجليل. كليلة البارحة، فارق الإمام أمير المؤمنين الدنيا. في هذَين اليومَين أو الليلتَين -من سَحَر التاسع عشر، حين ضُرِب بِيَدِ ذلك الملعون، إلى ليلة الحادي والعشرين- وقعَت عدّة حوادث ذات عِبَر ودروس.

 

الحادثة الأولى كانت في تلك اللحظة الأولى نفسها. حينما ضرب عدوُّ الله أميرَ المؤمنين، جاء في الرواية أنّ الإمام لم يئنّ، ولم يتأوّه أبدًا، ولم يُبدِ ألَمًا أو وجعًا. الشيء الوحيد الذي قاله هو: "بِسْمِ اللهِ، وَبِاللهِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَة"[1]. ثمّ جاء الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وأخذ رأس الإمام عليّ، ووضعَه في حجره. جاء في الروايات، أنّ الدم كان يتصبّب من رأسه المبارك، ويخضّب لحيته. كان الإمام الحسن ينظر إلى وجه أبيه، وعيناه تفيضان من الدمع. سقطَت قطراتٌ من دموعه على وجه أمير المؤمنين، فتح الإمام عينيه، وقال: ولدي الحسن، أتبكي؟ لا تبكِ، إنّني الآن عند جماعةٍ يُسلِّمون عَلَيَّ. عندي هنا نفرٌ، منهم الرسول وفاطمة الزهراء. هذا ما رُوِي عن الإمام عليّ، أنّه قاله في اللحظات الأولى. بعدها، حملوا الإمام، بعد أن صلّى الإمام الحسن عليه السلام في المسجد، وصلّى الإمام عليّ جالِسًا. يقول الراوي: إنّ الإمام عليّ كان يميل أحيانًا إلى جانبه، فيقع، وأحيانًا يمسك نفسه، فلا يقع. وأخيرًا، حملوه إلى المنـزل. سمع الأصحاب الصوت الذي قال: "تَهَدَّمَتْ وَاللَّهِ، أَرْكَانُ الْهُدَى‏... قُتِلَ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى!"[2]. سمع كلُّ أهل الكوفة هذا الصوت، وهرعوا إلى المسجد، فكانت ضجّةٌ عظمى. يقول الراوي: علا الضجيج والبكاء في الكوفة، كيوم وفاة الرسول، وكانت


 


[1] راجع: ابن شهر آشوب، مشير الدين محمّد بن عليّ، مناقب آل أبي طالب، تصحيح وشرح ومقابلة لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المكتبة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1376ه - 1956م، لا.ط، ج3، ص95.

[2] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج42، ص282.

 

 

433


370

خطاب الولي 2009

الكوفة، تلك المدينة الكبرى، (قد امتلأت) حزنًا ومصابًا وألَمًا، بتمامها. جاؤوا بالإمام عليّ، فاقترب الإمام الحسين عليه السلام. ورد في الرواية، أنّ الإمام الحسين بكى في هذه المدّة القصيرة، إلى درجة أنّ جفونه تقرَّحَت وجُرِحَت. وقعَت عينُ أمير المؤمنين على الإمام الحسين، فقال: ولدي حسين، لا تبكِ، واصبِر فما هذا بالشيء المهمّ، إنّما هي أحداثٌ تمرّ. كان يعزّي الإمام الحسين.

 

جاؤوا بالإمام عليّ إلى داخل الدار، وأخذوه إلى مصلّاه، حيث كان يصلّي داخل الدار. وقد قال لهم: خذوني هناك، فأخذوه، وفرشوا له فراشًا، ومدّدوه عليه. هناك، جاءت بنات أمير المؤمنين، زينب وأمّ كلثوم، وجلسنَ عنده، ورحنَ يَبكينَ. حينما بكى الإمام الحسن، نصحه الإمام عليّ، وعزّاه، وسلّاه، وحينما بكى الإمام الحسين، سلّاه أميرُ المؤمنين، وقال له: اصبر. لكنّه هنا، لم يصبر على دموع بناته. يُقال: إنّ الإمام عليّ راح يبكي هو الآخر. يا أمير المؤمنين، لم تستطع الصبر على بكاء زينب هنا، فما كنتَ ستفعل لو رأيتَ زينب يوم عاشوراء تبكي وتنوح؟

 

يروي أبو حمزة الثماليّ عن حبيب بن عمرو، أنّه قال: في الساعات الأخيرة، أي في ليلة الحادي والعشرين، ذهبتُ لزيارة أمير المؤمنين، فرأيتُ إحدى بناته عنده، وكانت تبكي، فبكيتُ أيضًا. والناس في خارج الغرفة، حينما سمعوا صوت بكاء هذه البنت، راحوا يبكون هم أيضًا. فتح أمير المؤمنين عينَيه، وقال: لو كنتم ترون ما أرى، لَما بكيتم. فقلتُ له: وما ترى يا أمير المؤمنين؟ قال: أرى ملائكة الله في السماء، وكلَّ الأنبياء والمرسلين في صفٍّ، يسلّمون عَلَيَّ، ويرحّبون بي. وأرى رسولَ الله جالسًا إلى جواري، يقول لي: تعالَ يا عليّ، وأَسرِع إلينا. يقول: بكيتُ، ثمّ قمتُ، ولم أكن قد خرجتُ من الدار بَعد، وإذا بي أسمع صراخ العائلة قد ارتفع، فشعرتُ أنّ الإمام عليّ قد فارق الدنيا.

 

صلّى الله عليك يا أمير المؤمنين، صلّى الله عليك يا أمير المؤمنين، صلّى الله عليك يا أمير المؤمنين. نسألك اللهمّ، وندعوك، باسمك العظيم الأعظم، الأعزّ الأجلّ الأكرم، يا الله.

 

اللهمّ، بحقّ أمير المؤمنين، اجعلنا من الشيعة الحقيقيّين لهذا الإمام. ربَّنا، اجعل

 

 

434

 


371

خطاب الولي 2009

سلوكَنا في الدنيا والآخرة، سلوكَ أمير المؤمنين. اللهمّ، اجعلنا من أتباعه والمقتَدين به بالمعنى الحقيقيّ للكلمة. اللهمّ، أصلِح مشكلات العالم الإسلاميّ، وارفع معاناة الشعوب المسلمة في فلسطين، والعراق، ولبنان، وأفغانستان، وباكستان، وباقي الأقاليم الإسلاميّة. اللهمّ، ارفع بفضلك وكرمك، مشكلات الشعب الإيرانيّ. ربَّنا، ضاعِف، يومًا بعد يوم، من عزّة هذا الشعب وقدرته. اللهمّ، احفظ لشعب إيران وحدته، وهي رصيده الكبير. اللهمّ، اقطع أيدي التفرقة. اللهمّ، وفّقنا للالتزام بالحقّ في أيّ مقامٍ أو مرتبةٍ كنّا، واحفظنا اللهمّ، من الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين.

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

﴿وَٱلۡعَصۡرِ ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ﴾[1].

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، ولا سيّما عليّ أمير المؤمنين، وفاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيّدَي شباب أهل الجنّة، وعليّ بن الحسين زين العابدين، ومحمّد بن عليّ الباقر، وجعفر بن محمّد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعليّ بن موسى الرضا، ومحمّد بن عليّ الجواد، وعليّ بن محمّد الهادي، والحسن بن عليّ الزكيّ العسكريّ، والحجّة القائم المهديّ. اللهمّ، صلِّ عليهم، وصلِّ على أئمّة المسلمين، وحماة المستضعفين، وهداة المؤمنين.

 

أوصيكم عباد الله، بتقوى الله.

 

في هذه الخطبة أيضًا، أوصي نفسي مرّةً أخرى، وأوصيكم، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، وأدعوكم إلى تقوى الله، لنكن متّقين وَرِعِين في سلوكنا، وفي أقوالنا، وفي أعمالنا.

 

في الخطبة الثانية، من الضروريّ أوّلًا، أن نحيّي ذكرى المرحوم آية الله طالقاني،


 


[1] سورة العصر، الآيات 1-3

 

 

435


372

خطاب الولي 2009

وكذلك ذكرى الشهيد آية الله مدني (رضوان الله عليهما). هذه الأيّام لها مناسباتها مع كِلا هذَين الشخصَين الجليلَين. وهذان الشخصان من الذين لا تنفصل ذكراهما عن تاريخ إمامة الجمعة في بلادنا. الحقّ والإنصاف أنّ لكلّ واحدٍ من هذَين الرجلَين الكبيرَين، حقوقه التي لا تُنسى، وستبقى ذكراهما في أذهاننا وتاريخنا.

 

استثمار الشهر المبارك

من النقاط التي أريد ذكرها اليوم، في هذه الخطبة، هي أن نستثمر فرصة شهر رمضان المبارك. وإنّ المخاطَب بهذا الكلام الذي أذكره أمامكم، أيّها المصلّون الأعزّاء، وجماهير الشعب العزيزة، هو التيّارات السياسيّة، والشخصيّات السياسيّة، والمسؤولون السياسيّون، السابقون واللاحقون.

 

نذكر هنا بعض الأمور، من باب بيان الحقائق وتقديم النصائح، عسى أن تكون مفيدةً، إن شاء الله، للمعنيّين (المخاطَبين) بهذا الكلام، ولنا آنفًا، وخصوصًا لشبابنا الأعزّاء، وجماهير شعبنا الأعزّاء المؤمنين.

 

المعنيّون بهذا الخطاب هم، طبعًا، أشخاصٌ كانت لهم مواقعهم داخل النظام الإسلاميّ إلى الآن. إنّهم شخصيّات من داخل النظام، وسيبقون داخل النظام في المستقبل، إن شاء الله، ويعملون ويبذلون مساعيهم وجهودهم من أجل هذا النظام. وإنّ عبارات "داخل النظام" و"خارج النظام" هذه، ليست (بالنسبة إلى مَن يُطلقها) مفاهيم دعائيّة وشعارات فارغة، وليست مجرّد لوحة (يافطة)، لها مؤشّراتها (وأُسُسها) العقيديّة والعلميّة. هكذا كان الحال إلى الآن، وسيبقى كذلك بعد الآن أيضًا، إن شاء الله.

 

انقساماتٌ ونزاعات

النقطة الأولى هي حصول انقسامات ونزاعات داخل تيّار الثورة والتيار الشعبيّ الأصيل، منذ بداية الثورة، وإلى الآن. وكانت لبعض هذه الانقسامات والمخاصمات خسائرها، وبعضها الآخر لم يكن كذلك، إنّما ذابَت وتلاشَت بفضل وعي الجماهير، ووعي العناصر الناشطة في هذه التيّارات، ومسؤوليّتهم، ولم تكلّف الثورة والبلاد أعباءً

 

 

436

 


373

خطاب الولي 2009

باهظة. هذه الاختلافات في وجهات النظر، والانقسامات التي تظهر، ليست كلّها من سنخٍ واحد. فبعضها ناجم عن تباين في المباني وفي العقيدة، وبعضها ليس كذلك، بل بدافع المصالح، أي إنّ الصراع فيها بسبب المصالح، وبعض هذه الانقسامات لم يكن بسبب هذه ولا تلك، إنّما القضيّة فيها قضيّة أذواق (سلائق)، بمعنى وجود الاختلاف في الرؤى والأذواق في تنفيذ الأصول، فقد يحدث اختلاف في الأساليب، في إطار الأصول والمباني. لذلك، فهي ليست كلّها من سنخٍ واحد.

 

خلافاتٌ واختلافات

حسنًا، منذ مطلع الثورة، حدثَت خلافات بين هذه الفئات، التي كانت كلّها، بعضها إلى جانب بعض، في فترة ما قبل الثورة، وفي سنوات الجهاد والنضال. لم يتعامل الإمام الخمينيّ (رضوان الله -تعالى- عليه) بطريقةٍ واحدة مع جميع هذه الاختلافات. وكما ذكرنا في منهج أمير المؤمنين، كذلك كان الحال في منهج الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه)، أي إنّه بدأ العمل بالمداراة والنصيحة، لكنّه تعامل بحسمٍ، حينما اقتضت الضرورة ذلك. (ففي ذلك الوقت) إحدى هذه الفئات كانت الحكومة المؤقّتة، وما رافقها من مشكلات. ومن تلك الفئات، الأشخاص الذين فعلوا ما فعلوا حيال لائحة القصاص. وهناك فئات بلغ بها الأمر أن قاموا بالاغتيالات، وافتعلوا الاضطرابات في الشوارع. تعامَل الإمام مع كلّ واحدة من هذه الحالات، بطريقةٍ مختلفة. وكان الأمر ممتدًّا إلى المستويات العليا من الحكم، فهناك رئيس الوزراء، ورئيس الجمهوريّة، بل وارتفع المستوى بعد ذلك، وفي السنوات الأخيرة من عمر الإمام (رضوان الله عليه)، إلى ما فوق رئيس الجمهوريّة. اصطدم الإمامُ مع الذين شَعر أنّه لا يمكن مداراتهم أكثر من هذا، وقد كان لهم جميعًا سوابق ثوريّة، وسوابق دينيّة، وكان كثيرون منهم في مستوياتٍ عالية، لكن حدث ما حدث على كلّ حال، وحصلَت هذه الانقسامات. بعضهم اصطدم بالإمام حقًّا. وبعضهم لم يصطدم، كان له اختلاف في وجهات النظر، لكنّه اختلاف لم يؤدِّ إلى شجار ونـزاع وانشقاق. بعضهم اصطدم بالإمام، ولم يأخذ مداراة الإمام بعين الاعتبار. بَعَثَ الإمام لزمرة المنافقين الذين أرادوا أن يأتوا ويلتقوه،

 

 

437


374

خطاب الولي 2009

رسالةً، قال لهم فيها: "إذا ما عملتم بالحقّ، فسوف آتي أَنا إليكم". لقد عمل وتحدّث معهم الإمامُ بالمداراة، إلى هذه الدرجة. ولكن حينما شعر بالخطر، خصوصًا حينما أصبحت القضيّة قضيّة ترسيخ المباني الخاطئة في جسد النظام والثورة، فقد كان ذلك أشبه بالسمّ المهلِك. عندئذٍ، لم يعمل الإمام بالمداراة، وتصدّى وحسم الأمور. هذا فيما يتعلّق بتلك الاختلافات الجذريّة.

 

أمّا الذين لديهم اختلافات على المصالح، وكانوا يُضفون عليها، أحيانًا، صبغة عقيديّة ومبنائيّة، أيٌّ يكن الفريق -سواء الذين لديهم اختلافات في المباني والعقيدة، أو مَن كانت اختلافاتهم بسبب المصالح - حينما يصل الأمر درجة الصدام بالنظام والثورة والإعراض عن مباني الثورة، فسيَظهر ذلك الفريق كعدوّ.

 

اختلافٌ في العقيدة لا يضرّ

طبعًا، إذا كان لشخصٍ عقيدة مختلفة، ولم يكن يبالِ بالنظام، فلن تكون مشكلة معه. يُشيعُ بعضهم عبارة: "أصحاب الفكر الآخر". كيف يتعامل النظام مع أصحاب الفكر الآخر؟ ليس للنظام مشكلة مع أصحاب الفكر الآخر. فهناك كثير من حَمَلة الفكر الآخر. (صاحب) الفكر السياسيّ الآخر ليس أعلى من (صاحب) الفكر الدينيّ الآخر[1].

 

حسنًا، لدينا الأقليّات الدينيّة، وهم أصحاب فكرٍ آخر، ولديهم نوّابهم في مجلس الشورى الإسلاميّ، ولهم حضورهم ومشاركتهم في المناصب المختلفة. إذًا، القضيّة ليست قضيّة فكرٍ آخر، إنّما هي قضيّة معارضة ومخالفة وتوجيه الضربات، وإشهار السيوف بوجه النظام والثورة. هؤلاء هم الذين يتصدّى لهم النظام. أمّا إذا كان الاختلاف اختلافًا في الأذواق والأساليب، فلا، هذه الاختلافات ليست مضرّة، بل هي نافعة أيضًا.


 


[1] قد يكون المقصود: أنّ أصحاب الفكر السياسيّ الآخر، ليسوا بأكثر من أصحاب الفكر الدينيّ الآخر.

 

 

438


375

خطاب الولي 2009

أصول الثورة ليست ذوقيّة

لا إشكال في أن يكون لمسؤولي البلاد ومديري شؤونها مَن ينتقدهم ويشير لهم إلى نقاط ضعفهم. حينما يكون المرء في ساحة تنافس، ويكون أمامه مَن ينتقده، فسيعمل بصورةٍ أفضل. ليسَت المسألة أنّ وجود النقّاد والذين لا يوافقون هذا الأسلوب أو ذاك، مضرٌّ بالنظام، ولكن يجب أن تتمّ هذه العمليّة ضمن إطار النظام. لا إشكال في هذا، هذه المعارضة ليست مخالَفةً مضرّة على الإطلاق، والنظام لا يجابِه مثل هذه المعارضة أبدًا. طبعًا، يجب أن يتمّ النقد ضمن إطار الأصول، وأصول الثورة معروفة. أصول الثورة ليست شؤونًا ذوقيّة، حتّى يخرج كلّ يوم شخصٌ من هنا أو هناك، ويرفع راية الأصول والمبادئ، ثمّ حين ننظر في هذه الأصول، نراها أجنبيّةً على الثورة. إنّ أصول الثورة هي: الإسلام، والدستور، وتوجيهات الإمام، ووصيّة الإمام، والسياسات العامّة للنظام، المحدّدة في الدستور، والتي يجب تدوينها. ليس اختلافُ وجهات النظر، واختلافُ المسالك والأذواق، بالشيء المعيب ضمن هذا الإطار، بل هو شيءٌ حَسَن، وليس مضرًّا، بل مفيدٌ ونافعٌ. في مثل هذه الساحة من الاختلافات، ليس النظام في مواجهة أحد. حين تكون تصرّفات الأفراد ضمن إطار الأصول والمبادئ، ولا ينحازون إلى العنف، ولا يفكّرون في زعزعة أمن المجتمع، ولا يبتغون إفساد هدوء المجتمع -مِن قَبيل الأعمال الدنيئة أو السيّئة، كالكذب والإشاعات- فليس هناك أيّ مشكلة للنظام. هناك مخالِفون، ولديهم آراؤهم التي يعبّرون عنها، والنظام لا يجابههم. يعمل النظام هنا، على أساس أقصى حدّ من الاستقطاب، وأدنى حدّ من الإقصاء. هذا هو منهج النظام، وعلى الجميع التنبُّه إلى ذلك. والذين لديهم آراء معارِضة، وتصوُّرات تختلف عن التصوّرات الرسميّة، فلهم أن يقارنوا أوضاعَهم وأنفسَهم ضمن هذا الإطار. إذا عارض شخصٌ أُسُسَ النظام، وعارض أمن المجتمع، فالنظام مضطرٌّ للوقوف بوجهه.

 

وللنظام أيضًا حقّ الدفاع

إنّنا نقول عن الأشخاص الذين تُوَجَّه لهم إهاناتٌ وتُهَمٌ: إنّ لهم حقَّ الدفاع عن أنفسهم. حسنًا، النظام أيضًا له مثل هذا الحقّ، للنظام أيضًا حقّ الدفاع عن نفسه. من

 

 

439


376

خطاب الولي 2009

الخطأ أن يتصوّر بعضهم أنّ النظام، ولأنّه يحكم ويمسك بالسلطة السياسيّة، فيجب أن لا يدافع، ويبقى بلا أيّ دفاع، ومهما وقعَت ضدّه من المعارضات والمخالفات وخرق القوانين وتجاوز الحدود، يجب عليه السكوت، وأن لا يقوم بردّة فعل. هذا غير صحيح. هذا شيء غير موجود في أيّ مكانٍ من العالم. في الاختلافات المتعدّدة التي تقع بين الأحزاب في العالم -في هذه البلدان التي تعتبر نفسها رائدة الديمقراطيّة في العالم- لا يعمد أيٌّ من تلك الأحزاب المتعارضة المتنافسة، إلى معارضة أصول ذلك النظام وركائزه، وإلّا سقطَت تلك الأحزاب من أعين الجماهير. لديهم أجهزةٌ اختصاصُها مراعاة دستور البلاد، أو محكمة مختصّة بالدستور -على غرار مجلس صيانة الدستور لدينا- سوف ترفض تلك الأحزاب. لا يوافقون أن يأتي شخصٌ في نظامٍ معيّن، ويعمل ضدّ مباني ذلك النظام، ويعارضها، ويبقى النظام صامتًا قاعدًا أمامه. وحتّى في أقلّ من ذلك، أحيانًا، يُلاحَظ في هذه الأنظمة الأوروبّيّة، أنّها تتعامل بعنفٍ وحِدّةٍ مع أمورٍ لا تُعَدّ من الأصول والركائز. إذًا، مواجهة النظام وركائز النظام، والوقوف بوجهه، وإشهار السيف بوجهه، تستتبعه ردودٌ حادّة. ولكن أن يكون للمرء رأيٌ آخر، رأيٌ مختلف، إذا لم ترافقه هذه الإشكالات وإشكالاتٌ أخرى مِن قَبيل توجيه التهم، وبثّ الإشاعات والأكاذيب، فإنّ النظام لن يردّ بأيّ شيء. لم يكن هذا أسلوب النظام، وهو ليس أسلوبه اليوم أيضًا، ولن يكون هذا أسلوبه في المستقبل، إن شاء الله. هذه نقطة.

 

الانحراف والفساد: علينا المراقبة والحذر

النقطة الأخرى التي يجب على الناشطين السياسيّين، والمسؤولين، ورجال السلطة، وأصحاب المسؤوليّات المختلفة، والمتنفّذين، الحذر منها بشدّة، هي مسألة الانحراف والفساد الشخصيّ. علينا جميعًا، المراقبة والحذر من ذلك. الإنسان معرَّضٌ للفساد والانحراف. أحيانًا، الزلّات الصغيرة تأخذ الإنسان إلى زلّاتٍ أكبر وأكبر، وقد تهوي به أحيانًا، إلى السقوط في أعماق الهاوية. ينبغي الحذر بشدّة. لقد حذّرَنا القرآن، هذا التحذير موجود في القرآن، بخصوص حالاتٍ متعدّدة. يقول في آيةٍ من الآيات: ﴿ثُمَّ كَانَ

 

 

440


377

خطاب الولي 2009

عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ﴾[1]، عاقبة بعض هذه الأعمال هي أن يصل الإنسان إلى الموضع الأسوأ، ألا وهو تكذيب الآيات الإلهيّة. ويقول في آيةٍ أخرى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ﴾[2]، أخلفوا اللهَ ما وعدوه، وهذا ما أدّى إلى تغلغُل النفاق في قلوبهم. أي إنّ الإنسان يرتكب ذنبًا، فيجرّه هذا الذنب إلى ساحة النفاق، والنفاق هو الكفر الباطنيّ. الكافرون والمنافقون في هذه الآية القرآنيّة، بعضهم إلى جانب بعض. ويقول -عزّ وجلّ- في آيةٍ أخرى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ﴾[3]، حين ترون بعض الناس ينهزمون أمام العدوّ، ولا يطيقون القتال والصمود، فما هذا إلّا بسبب شيءٍ ارتكبوه سابقًا. لقد أفسدوا باطنهم بالخطايا. الزلّات تفسد الإنسان. هذا الفساد يؤدّي إلى الانحراف في العمل، وأحيانًا إلى الانحراف في العقيدة، وهو شيءٌ يحصل تدريجيًّا، ولا يحصل دفعةً واحدة، حتّى نظنّ أنّ شخصًا ينام ليلته مؤمنًا، ويستيقظ في الصباح منافقًا. لا، يحصل الأمر تدريجيًّا، وقليلًا قليلًا. وعلاجُ هذه الحالة مراقبةُ الذات، ومراقبة الذات هي هذه التقوى. إذًا، علاجها التقوى. لنراقب أنفسنا. أقرباء الشخص أيضًا، يجب أن يراقِبوا. لتراقب النساء أزواجهنّ، والأزواج زوجاتهم، والأصدقاء أصدقاءهم، ﴿وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ﴾[4]، لنراقب بعضنا بعضًا، حتّى لا نُبتَلى. ليعظ أبناء الشعبِ المسؤولين، وينصحوهم، ويطلبوا لهم الخير، ويكتبوا لهم، ويتحدّثوا معهم، ويبعثوا لهم الرسائل، حتّى لا يزلّوا. أخطار زلَل المسؤولين أكبر على النظام، وعلى البلاد، وعلى الشعب. يشعر الإنسان بهذا أحيانًا، من بعض التصريحات، وبعض المبادرات والتحرّكات، يشاهد الإنسان علامات مثل هذا الانحراف، ينبغي الاستعاذة بالله، وطلب العون منه.

 

النقطة الأخرى هي أنّ الشيء ذاته الذي يمكن أن يقع به الشخص -وأعني به


 


[1] سورة الروم، الآية 10.

[2] سورة التوبة، الآية 77.

[3] سورة آل عمران، الآية 155.

[4] سورة العصر، الآية 3.

 

 

441


378

خطاب الولي 2009

الفساد والانحراف- قد يقع النظام به أيضًا. قد يُصاب النظام الحكوميّ الإسلاميّ السليم، بالداء نفسه الذي قد يصيب الأشخاص. إنّه داءٌ يمكن أن يصيب النظام الإسلاميّ والجمهوريّة الإسلاميّة. يبقى الاسم "الجمهوريّة الإسلاميّة"، ويبقى الظاهر ظاهرًا إسلاميًّا، والشكل شكلًا إسلاميًّا، بينما السيرة والسلوك والأداء والبرامج، غير إسلاميّة. هي قضيّة صورة الثورة وسيرتها، التي طرحتُها على الطلبة الجامعيّين الأعزّاء، في مكان ما في العام الماضي.

 

نوعان من التحرّك

تحرُّك المجتمع والنظام على نحوَين: تحرُّك إيجابيّ، وتحرُّك سلبيّ، تحرُّكٌ نحو العروج والذرى، وتحرُّكٌ نحو الهبوط والسقوط.

 

التحرُّك نحو الذرى هو أن يقترب المجتمع من طلب العدالة، ومن الدين، والسلوك الدينيّ، والأخلاق الدينيّة، وأن ينمو داخل أجواء الحرّيّة، ينمو عمليًّا، وينمو علميًّا، وينمو صناعيًّا، وأن يكون في المجتمع، ثمّة تواصٍ بالحقّ، وتواصٍ بالصبر، وأن يشعر المجتمع، يومًا بعد يوم، بمزيدٍ من الاقتدار أمام أعداء الله، وأعداء الدين، وأعداء استقلال البلاد، ويقف وقفة اقتدار أقوى وأرسَخ، أن يضاعف، يومًا بعد يوم، من وقفته الصامدة أمام جبهة الظلم والفساد الدوليّ. هذا هو النموّ.

 

هذه دلائل التحرُّك الإيجابيّ للمجتمع. وهذا ما يعمِّر دنيا المجتمع وآخرته. علينا أن ننشد مثل هذا التحرُّك الإيجابيّ.

 

أّمّا النقطة المعاكسة لهذا كلّه، فهي التحرُّك نحو الهبوط، والسير نحو الفواصل الاقتصاديّة والاجتماعيّة الهائلة، بذرائع شتّى، بدل السير نحو العدالة، واستخدام الحرّيّة من أجل الفساد، والفحشاء، وإشاعة المعاصي والمخالفات واللاأباليّة، بدل استخدامها من أجل النمو العلميّ والعمليّ والأخلاقيّ، والانفعال، والشعور بالضعف والتراجُع أمام المستكبرين والمعتدين والناهبين الدوليّين، بدل إظهار الاقتدار أمامهم، التبسُّم لهم حينما يجب التقطيب في وجوههم، وغضّ الطرف عن الحقوق الخاصّة، حينما يجب الثبات والإصرار عليها، سواء الحقوق النوويّة أو غير النوويّة. هذه علامات

 

 

442

 


379

خطاب الولي 2009

الانحطاط. يجب أن يكون تحرُّك المجتمع نحو التعالي والقيم والرفعة، ويجب أن يكون تحرُّكًا إيجابيًّا. هذه التحرُّكات نحو الأسفل، هي تلك الأمراض التي قد يُصاب النظام الإسلاميّ بها. وهذا خطر على النظام الإسلاميّ، على الجماهير أن يكونوا يقظين. لا تكون الجمهوريّة الإسلاميّة جمهوريّةً إسلاميّةً حقًّا، إلّا حينما تتقدّم (نحو الأمام) وفق مباني (أصول) الإمام الخمينيّ الرصينة نفسها، وبتلك الأمور نفسها التي كانت مطروحة خلال فترة حياة الإمام المباركة، وبالشعارات نفسها التي كانت تُتابع حين ذاك. أينما تقدّمنا إلى الإمام بتلك الشعارات -إنّني أقول ذلك عن بصيرةٍ، وقد اختبرتُ أوضاع هذه الأعوام الثلاثين عن كثب- حقّقنا التقدُّم، وكان النصر حليفنا، وكانت العِزّة في معسكرنا، وحصلنا على (مكاسب) المصالح أيضًا. وأينما تراجعنا عن تلك الشعارات، وتنازلنا عنها، فسحنا المجال للأعداء، وأصابنا الضعف، وتراجعنا إلى الوراء، لم نُصِب العزّة، وتجرّأ الأعداء علينا أكثر، وتقدّموا نحونا أكثر، وخسرنا أيضًا من الناحية المادّيّة. من الخطأ أن يتصوّر بعضهم أنّ علاج مشكلات البلاد -سواء المشكلات الاقتصاديّة، أو الاجتماعيّة، أو السياسيّة- هو أن يضع الإنسان سلاحه أمام العدوّ المستكبر. هذا ما يريده العدوّ المستكبر.

 

هدفهم ضرب رصيد الثورة الشعبيّ

كلّ هذه الاضطرابات التي شاهدتموها بعد الانتخابات، والتي أوجدوها هم، ودعموها، كانت من أجل ضرب الرصيد الشعبيّ للثورة، وسلبها هذا الرصيد. لقد قلتُ: إنّ مؤشّرَ ثقة الشعب بهذا النظام، هو مشاركته بنحو أربعين مليون نسمة في الانتخابات. ومع ذلك، تُكرّر الإذاعات الأجنبيّة، ويجاريهم بعضٌ في الداخل، للأسف، وتصرّ على أنّ ثقة الشعب بالنظام قد سُلِبَت! هذا جواب ذلك الكلام. قلنا هناك: إنّ تصويت خمسة وثمانين في المئة من الشعب، وما يعادل أربعين مليون، ومجيئهم إلى صناديق الاقتراع، مهما كان الشخص الذي يصوّتون له، مجيئهم في ذاته للاقتراع، دليلُ ثقة الشعب بالنظام. وهذه هي حقيقة القضيّة. وهم من أجل أن يُظهِروا هذا الكلام على أنّه كذب، كرّروا وكرّروا في إعلامهم، أنّ ثقة الشعب قد زالت، فماذا نفعل؟ وقال

 

 

443

 


380

خطاب الولي 2009

بعض المتلبّسين بلباس الإخلاص: ماذا نفعل لإعادة الثقة؟

 

الشعب يثق بالنظام، والنظام أيضًا واثق من الشعب. وسترون، إن شاء الله، في الانتخابات المقبلة -التي ستُقام بعد سنتَين أو ثلاث- كيف سيُسجِّل هذا الشعب نفسه، مشاركته القويّة في الانتخابات، على الرغم من هذه الألاعيب التي مارسها المعارضون والأعداء والغافلون الداخليّون.

 

نظامٌ إسلاميّ ظاهرًا وباطنًا

إذًا، النقطة هي أنّنا يجب علينا جميعًا، لئلّا يتحوّل نظام الجمهوريّة الإسلاميّة -وهو نظام إسلاميّ ودينيّ، ويفخر بأنّه يروم التحرُّك في إطار أحكام الدين والإسلام والقرآن- إلى نظامٍ لا يؤمن بالدين، أو نظام علمانيّ، على حدّ تعبير السادة، باطنه علمانيّ، وظاهره دينيّ، باطنه منجذب للثقافة الغربيّة والقوى المهيمنة على تلك الثقافة، وظاهره لا يخلو من الشعائر الدينيّة والشؤون الدينيّة البسيطة، يجب أن لا يحدث هذا. يجب أن يكون النظام الإسلاميّ إسلاميًّا بالمعنى الواقعيّ للكلمة، وأن يصبح، يومًا بعد يوم، أكثر قربًا من المباني الإسلاميّة. هذا ما يحلّ العقد المغلقة، ويعالج المشكلات، وما يمنح المجتمع العزّة والاقتدار، ويضاعف من أنصار الجمهوريّة الإسلاميّة في كلّ مكان.

 

بعضهم ترتعد فرائسهم حينما ينظرون إلى الأعداء وعدائهم. يرتعبون حين يشاهدون الأفواه المفتوحة الغاضبة تسيء للجمهوريّة الإسلاميّة، وتتحدّث ضدّها. لكلّ الأنظمة في العالم، ولكلّ الحكومات في العالم، أعداؤها وأصدقاؤها. وكذا الحال اليوم، وقد كان كذلك على مرّ التاريخ. لن تجدوا حكومة تكون علاقة جميع الناس معها، في داخلها أو خارجها، طيّبة معها أو سيّئة معها. لا، لها مؤيّدوها، ولها معارضوها. هكذا كانت حكومة الرسول أيضًا. وكذا كانت حكومة الإمام أمير المؤمنين. وكذلك حكومة معاوية ويزيد. بعضهم يؤيّد، وبعضٌ آخر يعارض. وكذا الحال للجمهوريّة الإسلاميّة، بعضٌ يؤيّدها، وبعضٌ آخر يعارضها. لكن القضيّة هي أن نعرف من هم مؤيّدو الحكومة، ومن هم معارضوها، هذا هو المؤشّر.

 

 

444

 


381

خطاب الولي 2009

معارضة الجبابرة مبعث فخر، وتأييد الشعوب المؤمنة "له قيمته"

ثمّة حكومة يعارضها كلّ الناهبين الدوليّين، ويخالفها كلّ العتاة والجبابرة الدوليّين، تعارضها جميع الدول ذات السوابق الاستعماريّة السوداء، ويعارضها كلّ الرأسماليّين الصهاينة الخبثاء. هذه المعارضات مبعث فخرٍ لها، ويجب أن لا تخيف أحدًا. ومَن هم أنصارها ومؤيّدوها؟ تؤيّدها الشعوب المؤمنة في كلّ أنحاء العالم: الشعوب المسلمة غير الإيرانيّة في أفريقيا، وفي بلدان أفريقيا الشماليّة، في المناطق المسلمة من أفريقيا، وفي آسيا حتّى إندونيسيا وماليزيا، وفي البلدان العربيّة وغير العربيّة، وفي أوروبّا، وبين الجماعات المسلمة والشعوب المسلمة، لها أصدقاؤها ومناصروها.

 

في مباراة كرة القدم، قبل عدّة سنوات، فاز الفريق الإيرانيّ على الفريق المقابل. صفّق الشباب الجالسون في مقهى في أحد بلدان شمال أفريقيا، حينما سجّل اللّاعب الإيرانيّ هدفًا، فقال لهم شخص: لكن هذا ليس بلدكم، وكيف لكم أن تصفّقوا للاعبٍ إيرانيّ سجّل هدفًا في مرمى الفريق المقابل، وهو بدوره ليس عدوّكم؟ وكانوا يقولون له: إنّ انتصار إيران هو انتصارنا. حتّى في ساحة كرة القدم! هذا شيء له قيمته.

 

في اضطرابات ما بعد الانتخابات، أصاب القلقُ المسلمين في مختلف البلدان الإسلاميّة. كانوا يسألون أصدقاءهم هنا: ماذا حلَّ بإيران؟ وكان هؤلاء يقولون لهم: لا تقلقوا ولا تخافوا، الجمهوريّة الإسلاميّة أقوى من هذه الأشياء. مثل هذه الدولة، هؤلاء أعداؤها، وهؤلاء أصدقاؤها، يعاديها كلّ الأشرار والشمريّون[1] في العالم، ويؤيّدها كلّ المظلومين في العالم، يؤيّدها الشعب الفلسطينيّ، والشعوب العربيّة المقاومة. نعم، تعارضها الحكومة الأمريكيّة، وتعارضها الحكومة البريطانيّة بسوابق خبثها التي تمتدّ لمئتَي سنة في إيران. هذه المعارضات لا تخيف أحدًا. لكنّ دولةً، على العكس من ذلك، أنصارها لصوص العالم وناهبوه ومستكبروه وعتاته، ومعارضوها هم شعبها أو الشعوب المؤمنة والمظلومة، فهذا عارٌ عليها. كان للجمهوريّة الإسلاميّة، إلى هذا اليوم، معارضوها، مِن قَبيل أولئك المعارضين:


 


[1] أي أمثال شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله).

 

 

445

 


382

خطاب الولي 2009

لصوص العالم، ناهبي العالم، مستكبري العالم، هؤلاء هم الذين يعارضون الجمهوريّة الإسلاميّة، وهم الذين يحاولون مواجهة الجمهوريّة الإسلاميّة، ومعارضتها في المحافل العالميّة، لكنّ أنصارها هم: الشعوب (في العالم)، والمجاميع الشعبيّة، والحكومات المستقلّة، ورجال السياسة المتحرّرين من السلطات، والشعوب المظلومة، هؤلاء أنصار الجمهوريّة الإسلاميّة. يجب عدم الاستسلام بسبب الخوف من مثل هذه المعارضات. على كلّ حال، يجب على جيلنا الشابّ أن يكون يقظًا.

 

الغد لكم، والاقتدار سبيلكم

أيّها الشباب الأعزّاء، هذا البلد بلدكم، والغد لكم. النظام المقتدر -سواء الاقتدار العلميّ، أو الاقتدار السياسيّ، أو الاقتدار الاقتصاديّ، أو الاقتدار المعلوماتيّ، أو القدرة على التحرّك في المناطق والمساحات العالميّة والدوليّة المختلفة- هو مبعث عزّةٍ لكم، مبعث فخرٍ لكم، وينبغي لكم السعي والشعور بالمسؤوليّة، في سبيل استكمال مثل هذا النظام، وإتمام أشواطه.

 

الجمهوريّة الإسلاميّة، أي هذه الجمهوريّة الإسلاميّة التي أسّسها الإمام الخمينيّ (رضوان الله -تعالى- عليه) لنا، وأهداها لبلادنا، بوسعها تأمين هذه الخصائص بالمعنى الحقيقيّ للكلمة: الاقتدار الدوليّ، والاقتدار السياسيّ، والعزّة، ورفاه الدنيا، وعمارة الآخرة معنويًّا. ولكن، احذروا من أن يصنعوا لكم نظام جمهوريّة إسلاميّة مزيّف، وهذا ما قد لاح من بعض التحرّكات التي جرت قبل عشرة أعوام، لكنّ الله -تعالى- دفع ذلك، وكان الشعب يقظًا، ولم يسمح به. أرادوا القيام بأعمال، وإيداع شعارات الإمام في المتاحف، وكانوا يقولون صراحةً: إنّها قد بليَت وصارت قديمة. لا، إنّ شعارات الثورة لا تَبلى، فهي جديدة دومًا، وجذّابة لأبناء الشعب. وإنّ الشعار الذي يكون لصالح المستضعفين، ولصالح العزّة الوطنيّة، والشعار الذي تكون فيه مقاومة وصمود، هو من الشعارات التي لا تبلى أبدًا لأيّ شعب من الشعوب، وهي لا تبلى لنظامنا أيضًا.

 

 

446

 


383

خطاب الولي 2009

يوم القدس إحياءٌ لقضيّة فلسطين

في الأسبوع القادم، الجمعة، هناك يوم القدس. هذه من أبرز ذكريات إمامنا العزيز، ومؤشّر انشداد ثورتنا وشعبنا لقضيّة القدس الشريف، وقضيّة فلسطين. استطعنا ببركة يوم القدس، إحياء هذا الاسم في العالم كلّ سنة. كانت كثير من الحكومات، وكثير من السياسات ترغب وتريد أن يُنسى اسم فلسطين، وقد سعَت وأنفقَت الأموال من أجل ذلك. ولولا مساعي الجمهوريّة الإسلاميّة، ووقوفها بكلّ قواها لمواجهة هذه السياسة الخبيثة، لَما كان مُستَبعَدًا أن يستطيعوا عزل قضيّة فلسطين، تدريجيًّا، وأن يجعلوها في مطاوي النسيان. والآن، تعترف أجهزة الاستكبار نفسها، والصهاينة الخبثاء أنفسهم، ويعتقدون وينـزعجون من رفع الجمهوريّة الإسلاميّة لراية فلسطين، وكونها لا تسمح بإخراج قضيّة فلسطين من الميدان، عن طريق العمليّات الاستسلاميّة التي يمارسونها.

 

يوم القدس يوم إحياء هذه الذكرى وهذا الاسم. والسنة أيضًا، سيُحيي شعبنا العظيم يوم القدس في طهران، وفي كلّ المدن، بتوفيقٍ وهديٍ من الله -عزّ وجلّ- ، وسيخرج في مظاهراته. وفي بلدان أخرى أيضًا، يتبع كثير من المسلمين الشعب الإيرانيّ في يوم القدس. إنّ يوم القدس يومٌ لقضيّة القدس، وهو هنا، مظهر وحدة الشعب الإيرانيّ. احذروا من أن يحاول بعضهم في يوم القدس، استخدامَ هذه الحشود (المظاهرات) للتفرقة، ينبغي الحذر من التفرقة. يجب مواجهة التفرقة ومعارضتها. يجب أن لا تحدث التفرقة. يستطيع الشعب الإيرانيّ رفع راية القدس، حينما يكون متلاحمًا. حاوَلوا طوال هذه السنوات، إفساد حتّى هذا الشيء، لكنّهم لم يستطيعوا، والحمد لله، ولن يستطيعوا بعد ذلك أيضًا، إن شاء الله.

 

اللهمّ، بمحمّد وآل محمّد، اجعل شعبنا متوثّبًا، يقظًا، قويًّا، مقتدرًا، ونشيطًا أكثر فأكثر، على الدوام.

 

447

 


384

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ *وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ﴾[1].

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 


[1] سورة العاديات، الآيات 1 – 11.

 

448


385

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء فنّاني الدفاع المقدّس

 

 

 

 

 

المناسبة:   لقاء فنّاني الدفاع المقدّس

الحضور:  جمع من فنّاني الدفاع المقدّس

المكان:   طهران

 

الزمان:    24/06/1388هـ.ش.

25/09/1430هـ.ق.

15/09/2009م.

 

 

450

 


386

خطاب الولي 2009

إنّه لاجتماع جدّ طيّب وجذّاب وعميق المعاني لي. ليس كلّ الذين أنجزوا أعمالًا أدبيّة أو فنيّة تتعلّق بالدفاع المقدّس، موجودين هنا، دون شكّ، لكنّ المرء يلاحظ تنوّعًا لطيفًا في جمعكم هذا، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، سواء من حيث تعدُّد الفنون والحقول والأقسام، أو من حيث تنوُّع وجهات النظر الاجتماعيّة والسياسيّة والفنّيّة والإداريّة وغير ذلك. لم يكن متاحًا لكلّ من كانوا يرغبون في طرح وجهات نظرهم، ها هنا، أن يطرحوها، وهذا بسبب ضيق الوقت.

 

التقدُّم ملحوظ

نحن هنا منذ الساعة الخامسة، وللأسف، لا تكفي ساعتان أو ثلاث ساعات لطرح كلّ هذا الكلام المكنون في القلوب والأذهان، وسماعه، لكن حتّى هذا المقدار الذي قِيل، مهمٌّ وغنيمةٌ لي. وإنّ الآراء التي طرحها الأعزّاء طبعًا، آراء بنّاءة في القطاعات والمجالات المختلفة، وقد سجّلتُها. ويجب أن تُستَخرَج تفاصيل هذه القضايا، إن شاء الله. ينبغي أن لا نتصوّر بأنّ ما نقوله، وما نطرحه من انتقادات واقتراحات، لن يؤثّر شيئًا، ولن يحظى بالاهتمام، ولن يأخذ طريقه إلى التطبيق العمليّ في موضعٍ أو مكانٍ ما، ليست هذه هي الحال. لقد سجّلنا تقدُّمًا إلى الأمام، في مجال أدب الدفاع المقدّس، وكذلك على مستوى فنون الدفاع المقدّس، وأنا أشاهد الساحة. أن نقول: بأنّنا تراجعنا إلى الوراء، وتأخّرنا، وكان التساقط عندنا أكثر من النماء، قولٌ غير صائب، ولا أوافق عليه. لقد كان لنا تقدُّمٌ وتكامُل. قد يكون المنجَز أقلّ من توقّعاتنا، وهذا جيّد، إنّها لحالة إيجابيّة وحَسَنة جدًّا أن نتوقّع أكثر ممّا نحقّق، وأن لا نكون راضين عن الواقع، ولا نقتنع بما هو موجود، لكن أن نتصوّر أنّنا راوحنا مكاننا، ولم نتقدّم شيئًا، على الرغم من كلّ هذه المساعي التي بُذِلَت في هذه الأعوام، فهذا غير صحيح أبدًا. لقد تقدَّمنا في

 

 

452

 


387

خطاب الولي 2009

الطريق الصحيح، وأُنجِزَت أعمال، وكان هذا هو الحال في مجالات عدّة. هذه ليست قضيّة مهمّة لنطيل الحديث عنها، هناك الكثير من الكلام في هذا المجال.

 

مهمّتكم رواية الدفاع المقدّس

أذكر هنا ما دوّنته، ولا مجال في هذا الوقت القصير، لذكر كلّ ما يعتمل في الذهن. أريد أن أقول فقط: إنّ العمل الفنّيّ في مجال الدفاع المقدّس، من أفضل الأعمال الفنّيّة. ينبغي للذين عملوا في هذا الحقل، والذين كان لهم حضورهم في هذا الصراط، أن يتقدّموا به إلى الأمام، وليغتنموا (وليعتبروا هذا المجال فرصة). ليست الأعوام الثمانية من الدفاع المقدّس مجرّد امتداد زمنيّ أو فترة زمنيّة، بل هي كنـزٌ عظيمٌ يمكن لشعبنا الانتفاع منه إلى فترات طويلة، ويمكنهم استخراجه واستهلاكه والاستثمار فيه. فالحدث العظيم الذي وقع في هذه الأعوام الثمانية، كان مجموعة الصفات السامية، والثقافات الحسنة الممتازة المختارة، والعقائد والمعارف المتعالية، التي ورثها شعبنا طول التاريخ، أو حافظ على مواهبه الخاصّة بها، إلى أن ظهرَت هذه المواهب مع الثورة الإسلاميّة. إنّها كنـزٌ يحتوي على هذه الأمور كافّة. أنتم الذين تروون حكاية الدفاع المقدّس، خصوصًا الذين يروونها فنّيًّا، أنتم في الواقع، مرايا أمام مظهر من مظاهر الجمال والجلال، تقومون بإظهاره. ما حدث في فترة تلك الأعوام الثمانية، من بروزٍ للخصال السامية والصفات الإنسانيّة الحميدة، من الشجاعة، والإيثار، والإخلاص، والصدق والصفاء، وظهور أشكال من التدبير والإبداع، لم يكن مُتَوَقَّعًا. هذه الحالات المتألّقة الشامخة، التي ظهرت في ثمانية أعوام من الدفاع المقدّس، حَدَثَ كلّه، مترافقًا مع أثمان باهظة. كم من الأرواح العزيزة أُزهِقَت! وكم من الثروات والأموال والوقت أُنفِقَت!

 

إنّكم اليوم، في الواقع، تعيدون إنتاج ما حدث، بأعمالكم الفنيّة. الآثار التي كان بوسع ذلك الحدث أن يتركها في الجيل والمجتمع، تُوجِدُونها أنتم، في المخاطَب، بكتاباتكم وأفلامكم وأعمالكم الفنّيّة، التي تعكس ذلك الحدث، وتُصوّره. هذا عمل عظيم جدًّا، عمل مهمّ جدًّا. إنّكم في الواقع، تتحوّلون إلى مرآة تعكس تلك اللوحة

 

 

 

453


388

خطاب الولي 2009

العظيمة، المليئة بالدقائق والجمال. إنّ عملكم الثقافيّ والفنّيّ هذا، الذي يروي الجهاد المقدّس، يُعَدّ بذاته، جهادًا، لأنّه قد جرت محاولات وأعمال، وبُذِلَت مساعٍ لإيداع هذه المفاهيم المتألّقة العالية طيّ النسيان. إنّ تلك العزّة، وتلك الثقة بالذات، والشعور بالاقتدار المنبعث من معنويّات المقاتلين والمجتمع الإسلاميّ، والذي استطاع خلق ذلك الحدث العجيب المذهل -أي الانتصار في الدفاع المقدّس، وعدم الانهزام أمام هجمات كلّ هؤلاء الأعداء- وتلك الخصائص والخصال، لَهِيَ من أكبر الاحتياجات لشعبنا وبلادنا، ويجب أن نحافظ عليها، ونقاوم المساعي الرامية لمحوها ونسيانها. عملُكم هو رواية واقع الدفاع المقدّس، وهذا جهاد كبير.

 

هدفكم إيصال مضامين الدفاع المقدّس

من النقاط التي ينبغي الاهتمام بها، ذات الصلة برواية الدفاع المقدّس، والعمل الفنّيّ لتصوير تلك الفترة، هي أنّ هذه الساحةَ ساحةٌ واسعةٌ جدًّا، والواقع أنّ العديد من أجزائها لا يزال غير مكتشَف. ليس لأنّ الإنسان والأذهان عاجزة عن الوصول إليه وفهمه ومعرفته، لا، بل لأنّه لم يُصَوَّر. ينبغي أن لا نتصوّر أنّ مضامين الدفاع المقدّس مضامين تكراريّة. هناك الكثير من المفاهيم والمضامين التي تندرج في مجموعة الأعمال التي بُذِلَت في الأعوام الثمانية، والتي لم تجرِ عليه أيّة أعمال أو أفكار حتّى الآن. ثمّة لائحة طويلة أمامي، وقد ذكرتُ بعض فقراتها حينما كنتُ أتحدّث هنا ذات مرّة، للأعزّاء السينمائيّين. إنّ التفكير والبحث في هذه المجالات، يوصِلان الفنّان إلى مضامين بليغة وغير مسبوقة، يمكن بواسطتها، إنتاج عمل فنّيّ. ومن ثمّ، فإنّ ما يستطيع المرء أن يقوله، كخلاصة لقضيّة الدفاع المقدّس، هو أنّ هذه الأعوام الثمانية كانت مظهرًا لأروع الصفات التي يستطيع المجتمع أن يتباهى بها، ويتوقّعها من شبابه. فالدفاع المقدّس كان مظهر الملاحم، ومظهر الروح المعنويّة والدينيّة، ومظهر النـزعة المبدئيّة، ومظهر الإيثار والتضحية، ومظهر الصمود والمقاومة والثبات، ومظهر التدبير والحكمة.

 

الحرب عمليّة معقّدة، وإدارة الحرب وقيادتها عمليّة جدّ معقّدة وجسيمة. وقد نهض شبابُنا، أصحابُ المبادئ، بهذه المَهَمَّة، في العديد من الجوانب. إنّ هذا التدبيرَ

 

 

454

 


389

خطاب الولي 2009

(التخطيط) والحكمةَ شيءٌ على جانبٍ كبيرٍ من الإثارة، إنّه مظهر تَفَتُّح المواهب والاستعدادات. كم من الشباب اليافعين (صغار السنّ) توجّهوا إلى الجبهات، واستطاعوا القيام هناك بأعمال كبيرة! بعضهم استشهد، وبعضهم بقي كرأسمال للثورة، استفادَت منها البلاد فيما بعد. والحقّ أنّ حرس الثورة أصبح مركز تصديرِ الطاقات لكلّ أنحاء البلاد، طوال هذه الأعوام السبعة أو الثمانية وعشرين، وذلك أنّ الحرب استطاعَت أن تصنع من مجموعة من الشباب، طاقات وعناصر كفوءة وموهوبة، وتُقدِّمها للمجتمع، فقد تفتَّحَت الاستعدادات فيهم. الحرب مظهر هذه القيم. هذه ليست أشياء يمكن لأيّ شعب الاستغناء عنها. وعليه، فإنّ رواة الحرب إنّما يروون في الواقع، مثل هذه القيم، ويحكون لمستمعيهم هذه الخصال الحميدة، والقمم الشامخة. لقد أُنجِز العديد من الأعمال في هذه المجالات.

 

إنّني أوصي، أوّلًا، المسؤولين الفنّيّين ومسؤولي الأقسام الأدبيّة المختلفة، بالاهتمام بالآراء التي طرحها الأعزّاء هنا، وبالآراء التي تُطرح في هذه المجالات. طبعًا، تمّ إنجاز بعض الأعمال، قد لا يكون الأعزّاء الذين تحدّثوا هنا على علمٍ بها، وهناك أعمال جيّدة أخرى تجري وتُنجَز في الوقت الحاضر.

 

على الفنّانين متابعة المَهَمَّة بشوق وأمل

أن نتصوّر أنّ فنّ الدفاع المقدّس لا جمهور له في مجتمعنا، وليس له مَن يطلبه، فهذا أيضًا خطأ كبير، وهو من الأخطاء الفاحشة، إذا اقتنع أحد به. الحقّ أنّ أكثر الأعمال الفنّيّة بعد الثورة، التي حازت على جمهور واسع، وعلى شتّى المستويات، هي تلك الأعمال الفنّيّة ذات الصلة بالدفاع المقدّس. سواء في حيّز السينما والأفلام، أو على صعيد الكتاب والخواطر والقصص. فالكتب الأكثر طباعة هي من كتب الدفاع المقدّس. في الحقيقة، هذا المقدار من الطبع غير مسبوق في بلادنا، حيث تُعاد طباعة كتاب مئة مرّة في غضون سنتَين. أبلغوني في التقارير، أنّ بعض كتب الدفاع المقدّس، نظير كتاب "تراب كوشك الناعم"، أو كتاب "دا" (الجدّة)، قد أُعِيدَ طباعتها أكثر من سبعين مرّة، في أقل من سنتَين! وليس لدينا أيّ كتاب في أيّ مجال، سَجَّل مثل هذا العدد من النسخ.

 

 

455

 


390

خطاب الولي 2009

وكذا الحال في حيّز الأفلام السينمائيّة. أكثر الأفلام مبيعًا وجاذبيّة وجمهورًا، هي الأفلام ذات الصلة بالدفاع المقدّس، بدءًا من فيلم "المكتب الزجاجيّ"، و"ليلى معي"، وصولًا إلى هذا الفيلم الأخير "المطرودون"[1]، الذي أخرجه السيّد دهنمكي. هذه أفلام سجَّلَت أعلى نسبة من المشاهدين، وأعلى رقم مبيعات، وكانت حول الدفاع المقدّس. إنّها ليست أعمالًا بلا جمهور، وبلا مشاهدين. طبعًا، هناك أعمال ليس لها جمهورًا. هذا ليس إشكالًا في المضمون والمحتوى، إنّما إشكال في الإبداع والقالب والجودة، وفي الرصيد الفنّيّ الضئيل الذي يبذله الفنّان في عمله، وتكون النتيجة طبعًا، قلّة الجمهور. إذًا، كلّما أمكن العمل في هذا المجال، وكلّما أمكن الاستثمار الماليّ والإداريّ والزمنيّ، وكان ذلك مناسبًا ولازمًا، وهذه هي توصيتنا، وعلى الفنّانين الأعزّاء متابعة هذه المهمّة بشوق وأمل. طبعًا، هذه مَهمّة تستدعي أفرادًا دؤوبين مستعدّين، يشعرون بالمسؤوليّة، أي إنّها تتطلّب أشخاصًا يشعرون حقًّا بالمسؤوليّة، بعيدًا عن أيّ كسل، أو خمول، أو ما إلى ذلك. مثل هؤلاء الأشخاص هم الذين يستطيعون ممارسة دورٍ مؤثّرٍ في هذا الميدان.

 

وطبعًا، من جملة نواقص أعمالنا، أنّها قلّما تجد فرصة الانتشار العالميّ. ولهذا أسبابه طبعًا. المهرجانات الدوليّة لا تسمح أبدًا، ولا ترغب بالأعمال التي تروي بشكلٍ جيّد وصحيح، ملحمة الدفاع المقدّس، أو الثورة، أو قيم نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، إلّا إذا اضطرّوا للسماح ببعض الأعمال، بالمشاركة في مجموعة أعمالهم. إنّ سياسة المهرجانات الدوليّة مخالفة لهذا، وعلى النقيض ممّا لدينا، إلّا أنّ المستمِعين لا يُختَزَلون بهذه المهرجانات على كلّ حال، وبالمقدور إيجاد متلقّين وطلّاب وقرّاء لكتب الدفاع المقدّس، ومشاهدين لأفلام الدفاع المقدّس، إذا قُدِّمَت للعمل ترجمةٌ سليمة جيّدة، وأعتقد أنّ هذا أحد مجالات العمل.

 

نتمنّى أن يوفّقكم الله -تعالى- لتبذلوا كلّ ما بوسعكم من أجل العمل لتصوير ملحمة الدفاع المقدّس. على المسؤولين أن يسعوا، وعلى الفنّانين،كذلك أن يسعوا، وعلى الباحثين أيضًا بذل جهودهم في مجالٍ هو على جانب كبير من الأهمّيّة. ولحُسن


 


[1] أسماء الأفلام: آجانس شيشه اى- ليلى با من است- اخراجى ها.

 

 

456


391

خطاب الولي 2009

الحظّ، تُنجَز بحوث جيّدة في بعض المراكز، سواء في المؤسّسات التي تتوفّر لها الوثائق، حيث يتمّ حفظ الوثائق ومعالجتها وتدوينها، وهذا شيء مهمّ جدًّا. يجب أن يَحُولوا دون تلف هذه الوثائق وضياعها، بل ينبغي أن تُوضَع تحت تصرُّف الباحثين، وسينتفع أدب الدفاع المقدّس، إن شاء الله، من هذه البحوث، كما سينتفع فنّ الدفاع المقدّس، إن شاء الله، وإلى أقصى الحدود، من أدب الدفاع المقدّس، والبحوث المتعلّقة بهذه الملحمة. وفّقكم الله جميعًا، إن شاء الله.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

457

 


392

خطاب الولي 2009

خطبتا الإمام الخامنئيّ دام ظله

في عيد الفطر السعيد

 

 

 

المناسبة:   عيد الفطر السعيد

الحضور:  حشد من أبناء الشعب

المكان:   طهران

 

الزمان:    29/06/1388هـ.ش.

01/10/1430هـ.ق.

20/09/2009م.

 

459


393

خطاب الولي 2009

التقوى. تُوضَع له العديد من المراحل في هذا الطريق، ليجدّد الذكريات، ويستعيد الذكر والإنابة. ويوم عيد الفطر هو من هذه المراحل والمحطّات المقرّرة له في وسط الطريق. ينبغي اغتنام هذا اليوم.

 

وإنّ صلاة يوم عيد الفطر، بمعنًى من المعاني، هي شكرٌ نقدّمه للنعمة الإلهيّة التي ننالها في شهر رمضان. إنّها شكرُ هذه الولادة الجديدة. نقول للباري، عدّة مرّات، في صلاة عيد الفطر: "أدخِلني في كلِّ خيرٍ أدخَلتَ فيه محمّدًا وآلَ محمّدٍ"، أدخِلنا جنّة الصفاء والإيمان والأخلاق والعمل، التي أدخلتَ فيها منتجِبيك. "وأخرِجني مِن كلِّ سوءٍ أخرجتَ منه محمّدًا وآلَ محمّدٍ (صلواتك عليه وعليهم)"[1]، أخرِجنا من جحيم الأعمال الرذيلة والأخلاق القبيحة والعقيدة المنحرفة، التي حفظْتَ وصنْتَ منها هؤلاء الأجلّاء والأعزّاء في عالم الخلق. نرسم لأنفسنا هذا الهدف الكبير في يوم عيد الفطر، ونطلبه من الله، ويقع علينا، طبعًا، واجبُ السعي والجدّ، للبقاء على هذا الصراط المستقيم. هذه هي التقوى.

 

من جملة مكتسبات شهر رمضان الكبيرة، التوبة والإنابة، العودة إلى الله -تعالى-. نقرأ في دعاء أبي حمزة الثماليّ الشريف: "وَاجْمَعْ بَيْنِي وَ بَيْنَ الْمُصْطَفَى... وَانْقُلْنِي إِلَى دَرَجَةِ التَّوْبَةِ إِلَيْك‏"[2]، اللهمّ، ارفعنا إلى درجة التوبة، لنعود عن الطريق الخطأ، والعمل السيّئ، والظنون السيّئة، والأخلاق الذميمة.

 

يقول الإمام السجّاد عليه السلام في دعاء وداع شهر رمضان المبارك، مخاطِبًا خالق العالم: "أَنْتَ الَّذِي فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَابًا إِلَى عَفْوِكَ، وسَمَّيْتَه التَّوْبَةَ"[3]، فتحتَ لنا هذا الباب، لنسارع إلى عفوك، وننهل من نعمة عفوك ورحمتك، هذا الباب هو باب التوبة. نافذة رحبة نحو مناخات العفو الإلهيّ الصافية. لو لم يفتح الله -تعالى- سبيل التوبة على عباده، لكان وضعُنا، نحن العباد المذنبين، سيّئًا جدًّا. يقع الإنسان في الخطايا والزلّات والمعاصي، نتيجة غرائزه الإنسانيّة وأهوائه النفسيّة. وكلّ واحد من تلك الذنوب،


 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص529.

[2] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مصدر سابق، ص591.

[3] الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص194، الدعاء 45.

 

 

461


394

خطاب الولي 2009

 يُحدِث جرحًا في قلب الإنسان وروحه. ماذا كنّا سنفعل لولا طريق التوبة؟

 

يقول الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في دعاء كميل: "لَا أَجِدُ مَفَرًّا مِمَّا كَانَ مِنِّي، وَلَا مَفْزَعًا أَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِي، غَيْرَ قَبُولِكَ عُذْرِي‏"[1]، لو لم تكن هناك حالة قبول العذر التي منَّ الله الكريم الرحيم بها علينا، كيف كنّا سنستطيع إنقاذ أنفسنا من كلّ ما أنزلناه بأنفسنا، ومن شرور كلّ تلك الأعباء الثقيلة من الذنوب، والمخالفات والخطايا واتّباع الأهواء؟ لَما كان لنا مفرّ، ولا ملاذ. الله -تعالى- هو الذي فتح أمامنا هذا الملاذ، ألا وهو التوبة. اعرفوا قدر التوبة.

 

(مثال) شابٌّ يهرب من بيت أبيه وأمّه بسبب جهله، ثمّ يعود لأحضانهما، فيواجه حبّهما وعطفهما ومداراتهما، هذه هي التوبة. حينما نعود إلى بيت الرحمة الإلهيّة، يقبلنا الله -تعالى- بأذرع مفتوحة. اغتنِموا هذه العودة، التي تتحقّق للمؤمن بصورة طبيعيّة في شهر رمضان. لقد شاهدتُ صور مشاركة الشباب والأحداث والنساء والرجال، في شهر رمضان، في جلسات الدعاء والقرآن، وجلسات الذكر. إنّ الدموع التي كانت تُذرَف على الخدود، بفعل الإقبال على الله، لها قيمة كبيرة. هذه هي التوبة. لنحافظ على هذه التوبة. تقودنا أهواؤنا وقلوبنا الغافلة إلى ارتكاب الأخطاء والوقوع في الزلّات، وقد وفّر لنا شهر رمضان فرصةَ غسل أنفسنا وتطهيرها، هذا الغسل له قيمة كبيرة. هذه الدموع تطهّر القلوب، ويجب أن نحافظ عليها، ونُبقيها. كلّ هذه الآلام الكبرى والأمراض المهلكة الخطيرة، أي الأنانيّات، والكبر، والحسد، والاعتداءات، والخيانة، واللاأباليّة -وهي أمراضنا الكبرى- تجد لها في شهر رمضان علاجها، وتغدو ممكنة التطبيب. يُقبِل الله -تعالى-، ولا شكّ أنّه قد أقبل وتوجَّه. كان شهر رمضان الذي مررنا به هذه السنة، حَسنًا جدًّا، حيث المجالس التي شهدها هذا الشهر -مجالس القرآن، ومجالس الذكر، ومجالس الدعاء والموعظة- وحضور شرائح الشعب المختلفة، والفئات الاجتماعيّة المتنوّعة، والوجوه والأشكال المختلفة في هذه المجالس. كم من إنفاقٍ حصل في هذا الشهر، وكم من المساعدات قُدِّمَت طوال الشهر


 


[1] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مصدر سابق، ج2، ص846.

 

 

462


395

خطاب الولي 2009

الفضيل للضعفاء! هذه لها قيمة كبيرة. كلّ واحد من هذه الأنشطة، ينشر عطرًا في روح الإنسان، ويوفّر له فتحًا. لنحافظ على هذه الأمور. أوصي الشباب بأن يغتنموا هذه القلوب الطريّة النيّرة. قلّما يحدث هذا في أعوام العمر المتقدّمة، وكثيرًا ما يحصل للشباب، حافظوا على هذه القلوب. اغتنِموا الصلاة في أوقات الفضيلة، والحضور في المساجد، وتلاوة القرآن، والأنس به، والأنس بالأدعية الواردة عن أهل البيت، وهي من كنوز المعارف الإسلاميّة.

 

أهمّيّة الأخلاق في النظام الإسلاميّ

ولنهتمّ بأخلاقنا، لنهتمّ بأخلاقنا أيضًا[1]، أهمّيّة الأخلاق تفوق العمل. لنجعل مناخَ المجتمع مناخَ أخوّة وعطف وحُسن ظنّ. لا أوافق إطلاقًا، على جَعلِ مناخ المجتمع مناخَ سوء الظنّ. يجب أن نُبعِد هذه العادات عن أنفسنا. للأسف، أن تعمل بعض الصحف ووسائل الإعلام وأجهزة الاتّصال المختلفة - والتي تزداد وتتّسع وتتعقّد، أكثر فأكثر- لاعتماد منهجٍ تُوجِّه عبره الاتّهامات، فهذه ليست ظاهرةً حسنةً على الإطلاق. هذا ليس بالشيء المحبَّذ، إنّه شيءٌ يكدّر قلوبنا، ويجعل أجواء حياتنا مظلمة. لا تَعارُض أبدًا، بين أن ينال المذنب جزاء ذنبه، ويبقى المناخ بعيدًا عن إشاعة الذنوب وتوجيه الاتّهامات. وأضيف هنا، أنّه حين يُذكَر في المحاكم -والتي تُبَثّ من التلفزة- شيءٌ على لسان أحد المتّهمين، حول شخص آخر، أقول هنا: إنّ هذا القول لا يتمتّع، شرعيًّا، بالحجّيّة. إنّما كلّ ما يقوله المتّهَم في المحكمة، حول نفسه، هو الحجّة. ما يقوله بعضهم، من أنّ اعتراف المتّهَم وإقراره في المحكمة على نفسه، ليس حجّةً، هو قولٌ فارغٌ لا قيمة له. كلّا، أيّ اعتراف وإقرار يدلي به المتّهَم في محكمةٍ أمام الكاميرات، وأمام ملايين المشاهدين، يُعَدّ شرعًا وعرفًا، وعند العقلاء، اعترافًا مسموعًا ومقبولًا ونافذًا. ولكن أن يعترف على الآخرين، فهذا شيءٌ غير مسموع. ينبغي عدم ملء الأجواء بالتهم والظنون السيّئة. يقول القرآن الكريم: ﴿لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ


 


[1] كرّرها سماحته مرّتين: لنهتمّ بأخلاقنا.

 

 

463


396

خطاب الولي 2009

وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيْرًا﴾[1]، لِمَ لا تحسنون الظنّ ببعضكم، حينما تسمعون تهمةً ضدّ أحد؟ (إلّا أنّ) واجبات الأجهزة التنفيذيّة والقضائيّة محفوظةٌ في مواضعها، وعليها ملاحقة المجرم، وعلى الأجهزة القضائيّة محاكمة المجرم ومعاقبته بالطريقة التي تثبت بها الأمور، وطبق القوانين الإسلاميّة والقوانين العرفيّة (المعروفة، المعمول بها)، وينبغي عدم التقصير في هذا الجانب إطلاقًا. لكنّ معاقبة المجرم الذي ثبتت جريمتُه بالطرق القانونيّة، شيء، وتوجيه التهم إلى شخص من الأشخاص، انطلاقًا من الظنون والمخيّلات، وتشويه سمعته، وجعله حكايةً تتناقلها الأفواه، شيء آخر. هذا غير ممكن، وهذا المناخ ليس بالمناخ السليم. أو أنّه إذا تحدّث الآخرون -الأجانب وقنوات التلفزة المغرضة- ضدّ شخص أو أشخاص بشيء، وادّعوا أنّهم ارتكبوا الخيانات الفلانيّة والأخطاء الفلانيّة، ثمّ نأتي نحن وننشر هذه الادّعاءات نفسها، فهذا ظلمٌ غير مقبول. متى كانت وسائل الإعلام الأجنبيّة مخلصةً لنا؟ ومتى أرادت أن تتّضح الحقائق المرتبطة بنا، حتّى يكونوا صادقين هنا في عرض الحقيقة[2]؟ يقولون أشياء، ويُطلِقون كلامًا وادّعاءات معيّنة. يجب أن لا نعتبر ذلك شفافيّةً، هذه ليست شفافيّة، إنّما هي تعكيرٌ للأجواء. معنى الشفافيّة أن يعمد المسؤول في الجمهوريّة الإسلاميّة، لعرض أدائه أمام الناس، بشكلٍ واضح. هذا هو معنى الشفافيّة، وهذا ما يجب على المسؤولين أن يعملوا به. أمّا أن ننسب إلى هذا وذاك، أمورًا، تحت ضغط التهم، قبل أن يثبت شيء، فقد تكون هذه الأمور حقيقيّة في الواقع، لكنّه ما لم تثبت بعد، فليس من حقّنا التحدّث عنها، نتّهم هذا ونتّهم ذاك، ونسوق الأدلّة على ذلك من وسائل الإعلام الأجنبيّة -الإعلام الإنجليزيّ المغرض- ثمّ يظهر شخصٌ من ذلك الجانب، فيتّهم النظامَ كلَّه بأمورٍ لا تليق بالنظام الإسلاميّ. إنّ مكانة النظام الإسلاميّ وشأنه، أرفع بكثير من هذه الأمور التي ينسبها بعضهم إلى هذا النظام الإسلاميّ. فهذا الإشكال يردّ عليهم بدرجة أكبر. إنّ توجيه التهمة لشخص معيّن، خطيئة، و(كذلك) توجيه التهمة للنظام الإسلاميّ ولمنظومة متكاملة، هي خطيئة أكبر بكثير من الأولى.

 

 


 


[1] سورة النور، الآية 12.

[2] أو حتّى يأتوا ويعرضوا علينا الحقيقة.

 

464


397

خطاب الولي 2009

اللهمّ، أبعِدنا بتقواك، عن هذه الذنوب والمعاصي.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

﴿وَٱلۡعَصۡرِ * إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ * إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ﴾[1].

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، ولا سيّما عليّ أمير المؤمنين، والصدّيقة الطاهرة، والحسن والحسين سيّدَي شباب أهل الجنّة، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعليّ بن موسى، ومحمّد بن عليّ، وعليّ بن محمّد، والحسن بن عليّ، والخلف الهادي المهديّ، حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك، وصلِّ على أئمّة المسلمين، وحماة المستضعفين، وهداة المؤمنين. أوصيكم عباد الله، بتقوى الله.

 

يوم القدس رسالة عالميّة

النقطة الأولى التي أجد من واجبي الإشارة إليها في الخطبة الثانية، هي تقديم الشكر والتقدير للشعب الإيرانيّ العظيم، على ما قام به في يوم القدس، من استعراضٍ للعظمة أمام أنظار العالم. كم حاولوا طوال هذه الأعوام، إضعافَ يوم القدس، الذي يُعَدّ رمزًا لاصطفاف الحقّ مقابل الباطل. إنّ يوم القدس مؤشّر اصطفاف الحقّ أمام الباطل، والعدل في مواجهة الظلم. ليس يومُ القدس يومَ فلسطين فقط، بل هو يوم الأمّة الإسلاميّة، يوم صرخة المسلمين البليغة ضدّ سرطان الصهيونيّة القاتل، الذي زُرِعَ في جسد الأمّة الإسلاميّة على يد المعتدين المحتلّين والمتدخِّلين والقوى الاستكباريّة.


 


[1] سورة العصر، الآيات 1-3

 

465


398

خطاب الولي 2009

ليس يوم القدس بالشيء الهيّن. يوم القدس يومٌ عالميّ، وله رسالة عالميّة. إنّه دليل على أنّ الأمّة الإسلاميّة لا تخضع للظلم أوّلًا، حتّى لو كان هذا الظلم مدعومًا مِن قِبَل أكبر دول العالم، وأقواها. كم حاولوا إضعاف يوم القدس، وقد بذلوا هذه السنة جهودًا أكثر من أيّ وقت آخر، لكنّ يوم القدس في إيران الإسلاميّة، وفي طهران العظيمة، قد أثبتَ للعالم بأسره، إلى أيّ اتّجاه تتّجه مؤشّرات الثورة والشعب الإيرانيّ، أوضَحَ للعالم ما هي إرادة الشعب الإيرانيّ، أثبَت أنّ حيلَهم وأحابيلهم وأموالهم التي ينفقونها، وخبثهم السياسيّ، لا تأثير له على معنويّات الشعب الإيرانيّ.

 

لقد انطلَت على الرؤساء والساسة الغربيّين، في هذه الأشهر، حيَلَ وسائلهم الإعلاميّة، وقد خدعهم المحلّلون المحترفون في الصحافة والإذاعات والتلفزيونات التي يمتلكونها هم أنفسهم، وظنّوا أنّ بوسعهم التأثير على الشعب الإيرانيّ.

 

لقد أثبتُّم في يوم القدس، أنّهم كانوا يلهثون وراء السراب. هذه هي الحقيقة. إنّ حقيقة الشعب الإيرانيّ هي ما ظهر في يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان المبارك، يوم القدس، وأثبتَ أنّ امتداد هذه العظمة وهذه الحركة، منتشرة في أرجاء العالم الإسلاميّ، وهو ليس شيئًا يختصّ بإيران. مزج المسلمون في مناطق العالم المختلفة -أينما استطاعوا ذلك- يوم القدسَ، بهتافاتهم ضدّ الظلم.

 

يوم القدس يومٌ عظيم جدًّا. لقد أنجزتُم هذه المَهَمَّة على أحسن وجه. أثبتَ الشعبُ الإيرانيّ مرّة أخرى، أنّه على استعداد لإيصال هتافاته بأعلى الأصوات، إلى أسماع العالم في المواقع الحسّاسة.

 

الدفاع المقدّس: تفجيرُ المواهب

إنّ أسبوع الدفاع المقدّس على الأبواب. لقد كان الدفاعُ المقدّس الجهادَ الدينيّ والوطنيّ الكبير للشعب الإيرانيّ. وقد استطاع شعبُ إيران، في أثناء ثمانية أعوام من الدفاع المقتدر، تعزيز روح الثقة بالذات الوطنيّة في داخله، واستطاع تفجير المواهب الكامنة فيه، وتمكّن من معرفة إمكاناته، وقدراته، وفرصه غير المعروفة. تمكّن شبابُنا، سواء في القوّات المسلّحة -الجيش والحرس- أو في التعبئة الشعبيّة الهائلة -تعبئة

 

 

466


399

خطاب الولي 2009

المستضعفين- تمكّنوا في الحرب المفروضة، من عرض صورةٍ لإيران، لم يشاهدها العالم عن هذا البلد، منذ عشرات الأعوام، وربّما أمكن القول: منذ مئتَي سنة، أو ثلاثمئة سنة. إنْ كنتم ترون اليوم، أنّ شعبنا وشبابنا يساهمون بطاقاتهم العظيمة الحاضرة والمستعدّة، في ميادين العلم والتقنيّة، فإنّ الفضل في جزء كبير من هذه الظاهرة، يعود إلى ملحمة الدفاع المقدّس. هناك، تنبَّه الشعبُ الإيرانيّ إلى إمكاناته وقدراته، وعرف القدرات التي يمتلكها. (أولئك) الذين هجموا على الجمهوريّة الإسلاميّة، وعَدُوا أنفسَهم بأن يفتحوا طهران بعد ثلاثة أيّام، أو بعد أسبوع، أو بعد شهر، وها قد مضى، اليوم، على تلك الأيّام، قرابة الثلاثين سنة، وقد ازداد الشعب الإيرانيّ قوّةً وصلابةً، وازدادَت هذه الشجرة تجذُّرًا وضخامةً وقوّةً. أمّا أولئك المساكين الذين حدّثوا أنفسهم بهذه الأخيلة الباطلة، فقد سقط كلُّ واحدٍ منهم في زاويةٍ أو مزبلةٍ، وانتهوا، وسيكون الوضع كذلك بعد الآن أيضًا.

 

الوصيّة اليوم: الاستعداد لعقد التقدُّم والعدالة

ما أوصي به حاليًّا، شعبَنا العزيز والمسؤولين المحترمين -ونحمد الله على أنّ السلطة التنفيذيّة والسلطة القضائيّة بدأتا دورة جديدة، وتعدّان سلطتَين فتيّتَين- هو أن يستعدّ الجميع لعقد التقدُّم والعدالة[1]. نحن بحاجة إلى قفزة في هذا الطريق، لدينا الكثير من التأخُّر. لا يمكن الوصول للأهداف المنشودة، بالعمل والسير الطبيعيّ، نحن بحاجة إلى قفزة، وهذه القفزة تقتضي التحلّي بالإيمان والإخلاص، والتنسيق، وتعاون القوى بعضها مع بعض. لتتعاون السلطات الثلاث، ولتتعاطف، ولتساعد بعضها بعضًا. ليمدّ الناس يد العون للمسؤولين، وخصوصًا السلطة التنفيذيّة التي تتحرّك في وسط الساحة، وليتعاونوا معهم، ويواكبوهم، كي نستطيع السير في طرق غير مسبوقة،


 


[1] عقد التقدُّم والعدالة: منظومة مشاريع، وقوانين، وبرامج اقتصاديّة، علميّة واجتماعيّة، سيتمّ العمل عليها لمدّة عشر سنوات، تقوم الحكومة، من خلالها، بالتعاون والمواكبة التشريعيّة والقانونيّة من المجلس (الشورى)، بإعداد هذه الخطط، والعمل على تطبيقها في مختلف مساحات عمل النظام والدولة. وهي تراعي، بالدرجة الأولى، البناء العلميّ، وحُسن توزيع الفرص والإمكانات. والعقد الرابع هو العشر سنوات الرابعة من عمر الثورة والنظام الإسلاميّ في إيران، وقد جُعِلَت مقولة "التطوّر والعدالة" عنوانًا عريضًا لمختلف نشاطات الدولة ومؤسَّساتها، وخاصّة المستوى العلميّ والتربويّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ.

 

 

467


400

خطاب الولي 2009

والنهوض بالمشاريع الكبرى التي تنتظرنا.

 

وأودّ التشديد على نقطة خاصّة، من بين الأعمال والمشاريع التي يجب أن ننهض بها، ألا وهي العلم. انطلقَت الحركة العلميّة في البلاد، منذ سنوات. يجب أن لا تسمح النخبة لهذه الحركة بالبطء، أو لا سمح الله، التوقّف. تقدّموا إلى الأمام.

 

تقع على الحوزة والجامعة في هذا الحيّز، مسؤوليّات جسيمة. يتحمّل الأساتذة والطلبة الجامعيّون، جميعهم، مسؤوليّات. عليكم مواصلة هذا الطريق. إذا لم يستطع شعبٌ التقدُّمَ في ساحة العلم، والتقدُّمَ العلميّ، والريادة العلميّة، فلن يكون حليفه سوى التخلُّف والضعف.

 

إن كنتم ترون بعضهم في العالم يَظلمون الآخرين علانيّةً، ودون اكتراث لشيء، فما هذا إلّا اعتمادًا على علومهم. العلم هو الذي هيّأ لهم الثروة والسلطة السياسيّة والنفوذ في العالم، وفي مناطق مختلفة من العالم. العلم مفتاح التقدُّم. لا تسمحوا للحركة العلميّة بالتوقُّف.

 

وأذكر ها هنا، نقطة أخرى، هي أنّنا أعلنّا هذا العام عامًا لإصلاح نمط الاستهلاك في البلاد، وقد رحّب الجميع بهذا الأمر، كما رحّب به المسؤولون، والناس أيضًا -كلّ مَن استطاع إيصال صوته إلينا- رحّبوا بالأمر، ورحّب به أيضًا، المتخصّصون والنخبة والمطّلعون وأصحاب الرأي في الشؤون الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وقالوا: يا له من شعار صحيح جيّد! جيّد، ماذا حصل؟ للأسف، جرى البلد لثلاثة أو أربعة أشهر، وراء هذه العواطف الزائفة (الكاذبة)، وخسر الوقت على هذا الصعيد. نحن الآن، في نهاية النصف الأوّل من السنة. طبعًا، لا يختصّ إصلاح نمط الاستهلاك بسنة معيّنة، بل يستغرق سنوات طويلة. وقد ذكرتُ هذه المسألة في أيّام العيد. قد يستغرق عشرة أعوام، حتّى يستطيع المرء النهوض بهذه المَهَمَّة، ولكن ينبغي أن نبدأ. على المسؤولين أن يعملوا ويجدّوا ويتعاونوا في هذا المجال، وتقع على الجامعات وأصحاب الخبرة والحوزات العلميّة مَهَمّات وأدوار عديدة، وسوف يمارسون أدوارهم، إن شاء الله، وسنتمكّن بعون الله، وبهمّة الحكومة المحترمة، التي يجب أن تكون السبّاقة والرائدة في هذا الحيّز، وبمساعدة جماهير الشعب، أن نتقدّم في هذا المشروع.

 

468

 

 


401

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ ١ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾[1].

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 


[1] سورة الكوثر، الآيات 1 - 3.

 

468


402

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء أعضاء مجلس الخبراء

 

 

 

المناسبة:   لقاء أعضاء مجلس الخبراء

الحضور:  أعضاء مجلس الخبراء

المكان:   طهران

 

الزمان:    02/07/1388هـ.ش.

05/10/1430هـ.ق.

24/09/2009م.

         

471


403

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أرحّب بكم كثيرًا، أيّها السادة المحترمون، والإخوة الأعزّاء، النخبة والعلماء الخبراء، والمتّقون من هذا الشعب. وأشكركم شكرًا جزيلًا، على جهودكم في هذَين اليومَين، والاجتماع المفيد الذي عقدتموه، وكذلك على الكلمة التي ألقاها رئيس مجلس الخبراء المحترم، والتقرير المفصَّل والمفيد والكامل الذي عرضه سماحة السيّد شاهرودي.

 

كلمةُ تعزية

أوّلًا، أرى لِزامًا عليَّ أن أبارك وأعزّي الأهالي الكرد، والإخوة أهل السُنّة، برحيل هذا العالم الشهيد، الذي كان خسارةً حقيقيّةً لكردستان، ولنا أيضًا، وأبارك وأعزّي أيضًا، كلّ محبّي رفعة البلاد ووحدتها. هذا نموذج من الجرائم التي تمتدّ رؤوس خيوطها، دون شكّ، إلى خارج الحدود، وإلى الأجهزة التجسّسيّة المعشعشة في العراق المحتلّ، وفي كردستان العراق، فأولئك هم، بلا شكّ، منفِّذو ومسبِّبو هذه الجرائم، وهم المخطّطون لهذه الجرائم. كانت هذه خسارة لنا طبعًا، لكن ما من شكٍّ في أنّ هدف العدوّ من قتل الماموستا الملّا محمّد شيخ الإسلام، لن يتحقَّق. لم يستطع الإرهاب، ولن يستطيع توجيه ضربةٍ للثورة، بل على العكس، أينما أُريق ظلمًا دمٌ على الأرض، ارتفعت هذه الراية الدامية مِن قِبَل عددٍ أكبر من الناس. وسيكون الوضع كذلك هنا أيضًا. لا مراء أنّ طلبة العلوم الدينيّة الشباب من أهل السنّة، وعلماء أهل السنّة، والأهالي الكرد - في محافظة كردستان وغيرها - سيواصلون طريق هذا الشهيد، بشوق وحرارة أكبر.

 

لقد اطّلعتُ على دور أخينا الصالح هذا في كردستان عن بُعد، واطّلعتُ عليه أيضًا، عن كثب، حين زرتُ المحافظة، وشاهدته. لقد كان من العاملين للوحدة، ومن الناشطين في نشر أفكار الثورة الإسلاميّة، وكان مؤمنًا بأُسُس النظام، ويتحلّى بمنتهى الصدق والجدّ. وسوف تنمو وتنتشر هذه الروح، بلا شكّ، بين محبّيه، وبين طلبة

 

 

473


404

خطاب الولي 2009

العلوم الدينيّة الشباب في كردستان. ليعلم العدوّ أنّ هذا العنف، وهذه الجريمة لن تجدي نفعًا، ولن تضمن له بلوغ أهدافه. وليعلم الجميعُ أنّ العدوّ لا يعرف في عدائه، شيعةً وسنّةً، وكردًا وفرسًا، وتركًا وبلوشًا، وغير ذلك. كلّ من ينادي بالوحدة، وكلّ من يلتزم بأُسُس النظام وأركانه، هو مورد لبغضاء العدوّ وعدائه، أيًّا كان، ومهما كان، ومِن أيّ مذهبٍ أو قوميّة كان.

 

مجلس خبراء غير مسيّس

النقطة الثانية التي أودُّ طرحها، هي أنّ الميزة الفذّة لمجلس خبراء القيادة، أنّه مجلس يطرح الهموم (الهواجس) الوطنيّة العامّة، بما يتّصل بالإسلام والثورة. لا سبيل في هذا المجلس -ولعلّ هذه الخصوصيّة لا نظير لها فيه- إلى الفئويّات السياسيّة، وألاعيب الخطوط والتيّارات. هكذا كان الوضع إلى الآن، وسيبقى كذلك بعد الآن أيضًا، بحول الله وقوّته. وهذا هو مردّ رزانة هذا المجلس، وأهمّيته وقيمته في أعين الشعب. ولذلك، ترون أنّ معاداة الأعداء لهذا المجلس شديدة وواسعة، وهي تَظهر في كلّ فترة من الزمن، بشكلٍ من الأشكال. هذا أساس ثقة الشعب، أن يشعر أنّ هذه الجماعة المنتخَبة مِن قِبَلهم في هذا المجلس -وجميعهم من الشخصيّات العلمائيّة المعروفة بحملها لعلوم الدين- تفكّر بالقضايا الأساسيّة للإسلام والمسلمين، والمجتمع الإيرانيّ، والشؤون الرئيسيّة للبلاد. ولا سبيل للقضايا الشخصيّة والفئويّة في قراراتهم وتصريحاتهم. هذا شيء على جانبٍ كبير من الأهمّيّة. وإنّ ساحة العمل لهذا المجلس، هي ساحة دفاعٍ عن المبادئ، ودفاعٍ عن القيم. وقد تختلف الأذواق والتعبيرات، بَيدَ أنّ حقيقة القضيّة هي هذه، ويجب أن تستمرّ، إن شاء الله، بكلّ جدٍّ وقوّة.

 

معارضة النظام: قديمة، جديدة

النقطة اللاحقة التي نذكرها للإخوة المحترَمين، هي أنّ لمعارضة النظام في هذه الثورة، سابقة تعود إلى ثلاثين سنة، فهي ليست بالشيء الجديد. وقد تلبّسَت المعارضة بأشكالٍ متنوّعة، لكنّها كانت موجودة دومًا، وقد تأرجحَت شدّتُها وضعفُها بما يتناسب ووضعنا في الداخل. أينما شعروا، ومتى ما شعروا أنّه يمكنهم الحضور والعمل بصورةٍ

 

 

474

 


405

خطاب الولي 2009

أقوى وأكثر تأثيرًا، وجّهوا ضربتهم التي استطاعوا توجيهها، حسبما يتوهّمون. وقد وقفَت الثورة طوال هذه الأعوام الثلاثين، مقابل ضرباتهم، ولم تضعف أبدًا، وليس هذا وحسب، بل لقد ازداد البلد ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة قوّةً، يومًا بعد يوم، والحمد لله. ولكن ثمّة نقطة هنا، هي أنّنا في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، كلّما استطعنا تعميق جذورنا، والتقدُّم إلى الأمام، وتثبيت أعمالنا، وتعقيدها، تعقّدَت مؤامراتُ الأعداء أكثر. ينبغي التنبّه لهذه النقطة. صحيحٌ أنّنا نحمل تجربة الانتصار على التحدّيات المفروضة، لا في حالةٍ واحدة أو حالتين، بل على مدى هذه الأعوام الثلاثين، كانت تجربةُ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة تجربةَ الانتصار على التحدّيات والمعارضات والعداء. ولكن يجب التنبُّه، وكما أشاروا إلى أنّ العدوّ يقِظ، و"مَنْ نَامَ، لَمْ يُنَمْ عَنْهُ"[1]. فالأنباء التي تصلنا عن المراكز السياسيّة والأمنيّة الحسّاسة في العالم، تشير إلى أنّ هناك أجهزة عملاقة وواسعة، وذات ميزانيّات عالية، تعمل دومًا ضدّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. بدوافع مذكورة ومعروفة لنا ولكم، إنّهم يعملون، ويطلقون في كلّ يوم مشروعًا، ويرتّبون كلّ يوم ساحةً واصطفافًا جديدًا، مقابل الجمهوريّة الإسلاميّة. وسوف يستمرّ هذا المسلسل، إلى أن ييأسوا، وذلك حينما يصل نظام الجمهوريّة الإسلاميّة إلى نصاب (مستوى) محدّد في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة والعلميّة والأخلاقيّة. ما لم تصل الجمهوريّة الإسلاميّة إلى هذا النصاب في المستويات المحدّدة، فسوف يواصلون عداءهم ومؤامراتهم، وإذا وصلنا إلى هذه الحدود، فسيقع العدوّ في اليأس، طبعًا، وسيرضخ إلى الواقع بشكلٍ كامل.

 

على كلّ حال، مؤامرة العدوّ اليوم مؤامرة معقّدة. يجب علينا معرفة جوانب هذه المؤامرة بوضوح، وتعريفها للآخرين، هذا هو واجبنا. إنّ الحرب العسكريّة ضدّنا ليست محتمَلة كثيرًا -لا نقول: إنّها منتفية بالمرّة، لكنّ احتمالها ليس كبيرًا- بَيدَ أنّ الحرب القائمة إن لم يكن خطرها أكثر، فهو ليس بأقلّ. وإذا لم تكن تتطلّب احتياطًا أكثر، فالاحتياط الذي تتطلّبه ليس بأقلّ. في الحرب العسكريّة، يتقدّم العدوّ نحو


 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص452.

 

 

475


406

خطاب الولي 2009

خنادقنا الحدوديّة، ويحاول تدميرها، ليستطيع التوغُّل داخل الحدود. أمّا في الحرب النفسيّة وما يُسمّى اليوم في العالم، بالحرب الناعمة، يتقدَّم العدوّ نحو الخنادق المعنويّة، ليدمّرها، يتقّدم نحو الإيمان، والمعرفة، والعزيمة، والأُسُس، والأركان الأساسيّة للنظام والبلاد، يتقدّم العدوّ نحو هذه العناصر، ليدمّرها، ويبدّل نقاط القوّة في إعلامه، إلى نقاط ضعف، ويحوّل فرص النظام إلى تهديدات (له). كذلك الأعمال التي يقومون بها، ولديهم تجاربهم في هذا المجال، ويبذلون الكثير من الجهود، ويمتلكون كثيرًا من الأدوات اللازمة. علينا معرفة أبعاد العدوّ، وأبعاد عدائه، لكي نستطيع التغلُّب عليه. طبعًا، لدينا الإمداد الإلهيّ والعون الغيبيّ، بلا شكّ. هذا ما يشاهده الإنسان، لكن إذا لم نتواجد في الساحة بيقظة ووعي، وما لم نستخدم التدبير اللازم، فلن يشملنا العون الإلهيّ.

 

خطوط العداء غير المخفيّة

أعداؤنا، أعداء الثورة وأعداء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، يسيرون ويتابعون عدّة خطوط واضحة في إعلامهم، وفي الأعمال التي يقومون بها. إنّها ليست بالخطوط الخفيّة السرّيّة، علينا تجميع هذه الخطوط في أذهاننا، والتركيز عليها، وعدم نسيانها:

1. النيل من مؤشّرات الأمل

أحد هذه الخطوط هو النيل من مؤشّرات الأمل، وثلمها. ومن ذلك، ما حدث في الانتخابات الأخيرة. فقد كانت المشاركة الشعبيّة البالغة نسبتها 85 في المئة، شيئًا يبعث على الأمل، وظاهرة مهمّة للغاية. وكما قلنا، فأن يحضر الناس بعد مضيّ ثلاثين سنة على الثورة، ويمنحوا النظام المنبثق عن الثورة مثل هذا الحجّم من الأصوات، فلا معنى لهذا سوى الثقة بهذا النظام، والتعلّق به، وحبّه. وهذا ما حصل. أو رئيس الجمهوريّة بهذه الأصوات العالية، فهذا شيء لا سابقة له. هذا شيء حصل في البلاد، وكان يمثّل نقطة قوّة مهمّة جدًّا. حاوَلوا تبديل نقطة القوّة هذه إلى نقطة ضعف، وتحويل رصيد الأمل هذا إلى رصيد شكّ ويأس، إنّه عملٌ عدوانيٌّ خصاميٌّ. إنّ أرصدة الأمل في البلاد كثيرة، والبنى التحتيّة فيها اليوم، بنى تحتيّة متينة جدًّا. أُنجِزَتُ العديد

 

 

476

 


407

خطاب الولي 2009

خنادقنا الحدوديّة، ويحاول تدميرها، ليستطيع التوغُّل داخل الحدود. أمّا في الحرب النفسيّة وما يُسمّى اليوم في العالم، بالحرب الناعمة، يتقدَّم العدوّ نحو الخنادق المعنويّة، ليدمّرها، يتقّدم نحو الإيمان، والمعرفة، والعزيمة، والأُسُس، والأركان الأساسيّة للنظام والبلاد، يتقدّم العدوّ نحو هذه العناصر، ليدمّرها، ويبدّل نقاط القوّة في إعلامه، إلى نقاط ضعف، ويحوّل فرص النظام إلى تهديدات (له). كذلك الأعمال التي يقومون بها، ولديهم تجاربهم في هذا المجال، ويبذلون الكثير من الجهود، ويمتلكون كثيرًا من الأدوات اللازمة. علينا معرفة أبعاد العدوّ، وأبعاد عدائه، لكي نستطيع التغلُّب عليه. طبعًا، لدينا الإمداد الإلهيّ والعون الغيبيّ، بلا شكّ. هذا ما يشاهده الإنسان، لكن إذا لم نتواجد في الساحة بيقظة ووعي، وما لم نستخدم التدبير اللازم، فلن يشملنا العون الإلهيّ.

 

خطوط العداء غير المخفيّة

أعداؤنا، أعداء الثورة وأعداء نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، يسيرون ويتابعون عدّة خطوط واضحة في إعلامهم، وفي الأعمال التي يقومون بها. إنّها ليست بالخطوط الخفيّة السرّيّة، علينا تجميع هذه الخطوط في أذهاننا، والتركيز عليها، وعدم نسيانها:

1. النيل من مؤشّرات الأمل

أحد هذه الخطوط هو النيل من مؤشّرات الأمل، وثلمها. ومن ذلك، ما حدث في الانتخابات الأخيرة. فقد كانت المشاركة الشعبيّة البالغة نسبتها 85 في المئة، شيئًا يبعث على الأمل، وظاهرة مهمّة للغاية. وكما قلنا، فأن يحضر الناس بعد مضيّ ثلاثين سنة على الثورة، ويمنحوا النظام المنبثق عن الثورة مثل هذا الحجّم من الأصوات، فلا معنى لهذا سوى الثقة بهذا النظام، والتعلّق به، وحبّه. وهذا ما حصل. أو رئيس الجمهوريّة بهذه الأصوات العالية، فهذا شيء لا سابقة له. هذا شيء حصل في البلاد، وكان يمثّل نقطة قوّة مهمّة جدًّا. حاوَلوا تبديل نقطة القوّة هذه إلى نقطة ضعف، وتحويل رصيد الأمل هذا إلى رصيد شكّ ويأس، إنّه عملٌ عدوانيٌّ خصاميٌّ. إنّ أرصدة الأمل في البلاد كثيرة، والبنى التحتيّة فيها اليوم، بنى تحتيّة متينة جدًّا. أُنجِزَتُ العديد

 

 

476

 


407

خطاب الولي 2009

من الأعمال والمشاريع طوال هذه الأعوام، والبلد اليوم مستعدٌّ لقفزةٍ واسعة نحو الأمام. وإنّ حالات التقدُّم العلميّ في البلاد، في الوقت الراهن، ملحوظة ومثيرة للإعجاب حقًّا! حتّى إنّ الآخرين -علماء البلدان الأخرى، ومَن ليست لديهم أغراض سياسيّة- يعترفون بذلك، وقد شاهدنا ليلة أمس، نموذجًا لذلك في التلفزيون، ففي مسألة الخلايا الجذعيّة، اعترفوا أنّهم لم يكونوا ليصدّقوا كلّ هذا التقدُّم الحاصل في إيران.

 

يقول أحدهم: شاركتُ العام الماضي في هذا المؤتمر العلميّ، وشاركتُ هذا العام أيضًا، ولاحظتُ فارقًا كبيرًا بين هذه السنة والسنة الماضية. (نعم) حصل تقدُّمٌ كبير. هذا أحد النماذج. ولدينا العشرات منها وهي كلّها أمثلة ودلائل على التقدُّم العلميّ، وأرصدة أمل، وبواعث تفاؤل. إنّ تجربة الأعوام الثلاثين نفسها - لدينا تجربة ثلاثين سنة ترفدنا - والجيل الشابّ المتوثّب والمتعلّم في وسط الساحة، هذه كلّها بواعث أمل ونقاط قوّة، (أي) الجيل الشابّ الذي يكون متعلّمًا، وله ثقته بنفسه، ويشعر أنّه يستطيع التقدُّم ببلاده. لدينا "ميثاق أفق عشرينيّ" يحدّد، إلى عام 1404 (2025م)، خطوطنا فيما يرتبط بتقدُّم البلاد والإنجازات المادّيّة، وهو شيءٌ مهمّ جدًّا. أوضحنا إلى أين يجب أن نصل، وما هي الطرق التي يجب أن نسلكها. هذه عوامل أمل ونقاط قوّة، يريدون تبديلها إلى أسباب يأس. إذا جرى الحديث عن ميثاق الأفق، يقولون: يا سيّدي، لم يحصل اهتمام بهذا الميثاق. وإذا جرى الكلام عن التقدُّم العلميّ، يقولون: إنّ هذه الأمور ليست ذات أهمّيّة كبيرة. ويجري الحديث عن الانتخابات، فيطرحون هذه الشبهات والتشكيكات. يدور النقاش حول الشباب، فيذكرون مخالفات عدد من الشباب، هنا وهناك. أي إنّهم يحاولون الحطّ من قدر كلّ هذه النقاط الإيجابيّة، والقمم المميّزة، الباعثة كلّها على الأمل. وفي المقابل، يضخّمون نقاط ضعف صغيرة، موجودة طبعًا، أو لنقُل: إنّهم يضخّمون نقاط الضعف، ولا نقول: إنّها صغيرة، بل هي نقاط ضعفٍ موجودة، يضخّمونها أضعاف ما هي في حقيقتها، ويجعلون الأجواء سوداويّة، وينشرون التصوّرات المتشائمة عن النظام، وأنتم ترون طبعًا، يريدون بثّ هذا اليأس في المجتمع بالقوّة. حينما يتفشّى اليأس في المجتمع سيسقط عن الحيويّة، وسوف يعتزل المبدعون والنخبة والشباب النشيط، ولا يستطيعون العمل، وسوف تقلّ

 

 

477

 


408

خطاب الولي 2009

حالات المشاركة والحضور والتواجد، وتزول حيويّة المجتمع. هذا أحد خطوط عمل العدوّ: الإيحاء بالطريق المسدود، دون انقطاع. لو اطّلعتم على إعلام هذه الإذاعات -والقضيّة اليوم لم تعد قضيّة إذاعات. وذات يوم، كنّا نقول: عشرات الإذاعات، أمّا اليوم، المسألة مسألة آلاف الإذاعات والتلفزيونات ووسائل الاتّصال عبر شبكة الإنترنت- لوجدتم أنّها توحي دومًا، ومن مراكز معيّنة، بوجود طرقٍ مسدودة، وأزماتٍ، ووضعٍ حالك، يعملون بكلّ ما أُوتوا من قوّة، وبأقصی ما يستطيعون استقطابه مِن المستمعين ومَن يصدّقون كلامهم، يعملون في هذا المضمار. هذا أحد خطوط عمل العدوّ.

 

2. التفرقة والشقاق

ومن خطوط العمل الرئيسة للعدوّ، قضيّة التفرقة والشقاق، التي شدّدتم عليها بحقّ، أيّها السادة، وذكروها (الخبراء) في التقرير، وجرى الاهتمام بقضيّة الاتّحاد في البيان الختاميّ لاجتماع الخبراء. إنّها مسألة على جانبٍ كبير من الأهمّيّة. قضيّة اتّحاد الشعب، والعمل الذي يجري حاليًّا لبثّ الفرقة، قضيّة مهمّة جدًّا. إنّنا نرى مؤشّرات الوحدة العامّة بين الشعب. لقد شاهدتم صلوات الجمعة في شهر رمضان، وشاهدتم يوم القدس، وصلوات عيد الفطر، أيّة عظمة! حين ينظر الإنسان -لا في طهران وحسب، بل في مشهد، وأصفهان، وكرمان، وتبريز، وفي مختلف المناطق- يجد أنّ المشاهد لا نظير لها. ربّما لم يكن هناك، طوال تاريخ الإسلام، صلاة عيد فطر بهذه العظمة والجلال العجيب، وفي مختلف مناطق البلاد، وليس في مدينة معيّنة. نحن اليوم، لدينا هذه الميّزات. هذه كلّها مؤشّرات وحدة وتعاطف بين أبناء الشعب، مؤشّرات وجود محور مشترك، يتّفق جميع أبناء الشعب على الميل إليه، والانتماء له، على الرغم من اختلافاتهم الجزئيّة والفرعيّة. قلوبهم تهفو إلى ذلك المركز، وذلك المركز هو الدين والأصول الإسلاميّة والقيم السامية، إنّه دين الله. هذا شيء على جانبٍ كبير من الأهمّيّة. يجب على الجميع أن يُحنوا هاماتهم لهذه الوحدة، حين يرونها. وترون أنّه يحصل أحيانًا العكس، للأسف، فيتحدّث بعضهم عن التفرقة، انطلاقًا من الجهل والغفلة، هذه أمور تُحمل على الغفلة حقًّا، أكثر ممّا تُحمل على أمور أخرى. هذه مسألة مهمّة. مسألة إيجاد الوحدة المذهبيّة والقوميّة، والوحدة بين المشارب والسلائق السياسيّة،

 

 

478

 


409

خطاب الولي 2009

مسألة مهمّة ينبغي بذل الجهود لها. من خطوط العدوّ، إيجاد التفرقة، يريد إشعال نار الخلافات والفرقة مهما استطاع، وأينما استطاع، وعلى أيّ مستوى استطاع، وعلى المستويات المختلفة، من مسؤولين وغير مسؤولين، وبين جميع أبناء الشعب، وبين مجاميع علماء الدين أنفسهم، وبين الفئات الجامعيّة، وبين التجمّعات والجمعيّات والتكتّلات الاجتماعيّة، وبين المذاهب المتعدّدة. وأنتم تلاحظون نماذجَ عديدة لذلك في المجتمع، إنّها قضيّة مشهودة على مستوى المجتمع. خطّ العدوّ هو خطّ زرع الفرقة. هذه أيضًا مسألة من المسائل.

 

﴿وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾

المسألة التالية، الخطّ الآخر الذي نعتقد أنّ العدوّ يستثمر به ويعمل وفقه، هي صرف أذهان الجماهير عن عداء الأعداء. إنّنا لا ننكر إطلاقًا، وجود تقصيرات شخصيّة وجماعيّة داخليّة، فيما يتّصل بالنواقص المتعدّدة، والمشاكل الكثيرة التي تعترض طريق المجتمع والأفراد، هذا ممّا لا شكّ فيه إطلاقًا، ولا ينكره أحد. ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾[1]، هذا شيءٌ معروف. وإذا وجّه لنا العدوّ ضربة، وكانت قاصمة ومؤثّرة، فهي أيضًا ﴿فَمِن نَّفۡسِكَۚ﴾. لا شكّ في هذا. ففي معركة "أُحُد"، حينما هجم العدوّ ووجّه ضربته، كان المسلمون في الحقيقة، قد تلقّوا الضربة من أنفسهم، هذا ممّا لا نقاش فيه. لكنّ المسألة هي أنّ الإنسان إذا أراد أن لا يتلقّى ضربة، فعليه أن يرى دور العدوّ. من لوازم التنبُّه والتفطُّن من أجل توقُّع ضربات الأعداء، هي رؤية الأعداء الذين يرومون توجيه الضربة. يجب أن لا ينجحوا في إغفالنا عن هذه المسألة. إنّ خطّ إغفال (إلهاء) الناس، وخصوصًا النخبة والخواصّ منهم، عن تأثير العدوّ، هو من الخطوط الإعلاميّة والإيحائيّة للعدوّ. ولديهم طبعًا، طرق وأساليب متعدّدة لذلك. ما إن يقول شخص: "العدوّ"، حتّى يقولوا: لِمَ تُلقي كلَّ اللوم على الأعداء؟ لأنّ العدوّ موجود. لماذا لا نرى العدوّ؟ لماذا لا نرى الفرحة الكبيرة التي تصيب العدوّ، بسبب اختلافاتنا هنا، وبسبب الأحداث المختلفة والاضطرابات


 


[1] سورة النساء، الآية 79.

 

 

479


410

خطاب الولي 2009

التي أعقبت الانتخابات؟ إنّهم يشجّعون العناصر المؤثِّرة. هناك، (عندما) يَذكر رئيس جمهوريّة بلد كبير أسماء بعض الأشخاص، فهل هذا سوى تكريس للعداء؟ يذكر أسماء معارضي النظام، ويثني عليهم، ويذكر فلانًا، ويقول: إنّنا ذُهِلنا لشجاعته! لماذا؟ لأنّه قال: كلمةً أعجبتهم. يجب رؤية هذه الأمور، والتنبّه إليها، وينبغي عدم الغفلة عن عداء الأعداء.

 

لن نكمل جدول "الكلمات المتقاطعة"

طبعًا، ليس عداء الأعداء خلاف المتوقَّع، إنّما غفلتنا هي خلاف المتوقَّع. تعلن الحكومة البريطانيّة، ذات السجلّ الأسود الممتدّ لمئتَي سنة من تواجدها في بلادنا وعلاقتها ببلادنا -حقًّا، إنّنا لا نجد محطّةً أو فترةً يمكن القول عنها: إنّ الحكومة البريطانيّة اتّخذَت فيها خطوة بسيطة لصالح الشعب الإيرانيّ. فكلّ ما قامت به كان إلحاق الضرر بنا، ولم تفعل لنا سوى توجيه الضربات والخسائر الكبرى- تعلن "أنّنا نناصر الشعب الإيرانيّ"! وكذلك الحكومة الأمريكيّة، تعلن "أنّها تناصر الشعب الإيرانيّ"! أي "إنّنا على علاقة سيّئة بنظام الجمهوريّة الإسلاميّة، لكنّنا نحبّ الشعب!". لكنّ الشعبَ جزءٌ من هذا النظام، وهذا النظام غير منفصل عن الشعب. هذه حيل الأعداء، التي يتعيّن معرفتها وفهمها. من الطبيعيّ أن يمارس العدوّ عداءه، لكن من غير المقبول أن لا نفهم عداءه، ونغفل عنه. سنجد أنفسنا فجأة، داخل جدول العدوّ، وداخل لعبة الپازل، يرصفون قطعًا إلى جانب بعضها، ليكوّنوا منها شكلًا معيّنًا، وإذا بنا نشكّل إحدى هذه القطع. هذا شيء سلبيّ جدًّا. يتوجّب أن نبذل كلّ جهودنا كي لا نؤمِّن القطع والأشياء التي يريدها، مثل جدول الكلمات المتقاطعة الذي يضعون فيه حروفًا، بعضها إلى بعض، فتتكوّن منها كلمة معيّنة. لقد أعدَّ العدوّ مثل هذا الجدول، ليستخرج منه كلمات معيّنة، ثمّ نأتي ونساعده في استخراج بعض هذه الكلمات؟! ينبغي الحذر من هذا الشيء. هنا موضع النقاش. يجب أن لا نكمِّل جدول العدوّ، ينبغي أن لا نكمل (مربّع) بازل العدوّ، لنرى ماذا يفعل العدوّ، وماذا يريد أن يفعل. يجب أن نلاحظ أهدافه ومكان حضوره الواضح.

 

 

480


411

خطاب الولي 2009

إنّ سلاح الإعلام اليوم، هو من أكثر الأسلحة الدوليّة تأثيرًا ضدّ الأعداء والمعارضين، سلاح الاتّصالات الإعلاميّة[1]. هذا هو أمضى الأسلحة اليوم، وهو أسوء وأخطر حتّى من القنبلة الذريّة. ألم تشاهدوا سلاح العدوّ هذا، في اضطرابات ما بعد الانتخابات؟ كان العدوّ يتابع قضايانا بسلاحه هذا، لحظةً بلحظة، وكان يوجّه به مَن هم أصحاب المشاغبة والشيطنة، ﴿وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِهِمۡ لِيُجَٰدِلُوكُمۡۖ﴾[2]، هم يوحون لأوليائهم وأنصارهم دومًا. إنّه حضور العدوّ على كلّ حال. هل يمكن افتراض حضور العدوّ بأوضح وأجلى من هذا؟

 

البصيرة: إرادة المواجهة

ينبغي التحلّي بالبصيرة. ما يتوقّعه المرء من النخب في المجتمع، ومن التيّارات والفئات السياسيّة، هو أن يتعاملوا مع هذه الأحداث، ومع خطوط العدوّ، ببصيرة، ببصيرة! إذا كانت هناك بصيرة، وكانت ثمّة إرادة للمواجهة، فقد تتغيّر الكثير من سلوكيّاتنا، وعندئذٍ، يصبح الحال أفضل. بعض الأعمال وليدة عدم التحلّي بالبصيرة.

 

علينا (حسبان) أن نحسب هذه المحاور التي ذُكِرَت -خطوط الأعداء هذه- في أعمالنا وفي تصريحاتنا، ويجب إدراجها في حساباتنا. فلو أردنا التصريح بشيء، ينبغي أن لا ننسى هذه الخطوط التي يتحرّك فيها العدوّ، وإذا أردنا القيام بشيء أو خطوة، يجب أخذ تلك الحقائق بعين الاعتبار، لنرى هل سنساعد العدوّ أم لا؟ هذا باعتقادي، شيءٌ مهمّ.

 

الإسلام والشعب: نسيج الجمهوريّة الإسلاميّة

النقطة الرابعة هي أنّ الثورة الإسلاميّة، التي انبثقت الجمهوريّة الإسلاميّة عنها، وحدةٌ واحدةٌ، لها بُعدان: الإسلاميّة، والشعبيّة. إنّها إسلاميّة وشعبيّة في آنٍ واحد. وهي شعبيّة، لأنّها إسلاميّة، ولأنّ الإسلام دينُ المجتمع. الدين مسؤوليّة شاملة للجميع (جماعيّة). ليس الإسلام دين الأفراد، واحدًا واحدًا، من حيث هم أفراد منفصلين. هو طبعًا، دين الفرد


 


[1] التواصل الإعلاميّ.

[2] سورة الأنعام، الآية 121.

 

 

481


412

خطاب الولي 2009

بما هو فرد أيضًا، بَيدَ أنّ الأفراد بما هم مجتمعٌ، مخاطَبون أيضًا بخطاب الإسلام. الإسلام دينٌ شعبيٌّ جماعيّ. إنّه دين المسؤوليّة العامّة. إذًا، (الحالة) الشعبيّة تنبثق عن (الحالة) الإسلاميّة نفسها (في الثورة الإسلاميّة). وهي أيضًا إسلاميّة، فالله -تعالى- مَنَّ: ﴿بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِيمَٰنِ﴾[1]، مَنَّ الله علينا، وهدانا للإيمان. لقد مَنَّ الخالق على شعبنا وعلينا، إذ هدانا لهذا الدين. لذا، فإنّ جمهورنا يريد الإسلام، وهذا الدين الإلهيّ منحه الله -تعالى- لنا، وله الحمد على ذلك. إذًا، فهي "جمهوريّة إسلاميّة"، إنّها منظومة، وهي مجموعة، أو لنقل: "وحدة" واحدة، لها أبعاد يجب أخذها بعين الاعتبار مع بعضها، إلى جانب بعض. ينبغي حفظ هذا النسيج المحبوك. وإنّ إضعاف أيّ جانب من هذه الجوانب والمسّ به، سيعود بالضرر على مجمل المنظومة.

 

الولاية: رعاية الإسلام الأصيل

وقضيّة الولاية تمثّل التزامًا بهذه المنظومة، سواء كانت ولاية المعصومين عليهم السلام، أو ولاية الفقيه، وهي تتمّة (تابعة) لولاية المعصومين. القضيّة قضيّة التزامٍ بهذه المنظومة، ومراعاتها، وحفظها في البلاد، وفي النظام، لئلّا يحدث فيها انحراف أو مشكلة أو نقص أو تمييز، ولكي تواصل مسيرتها بهذه الجامعيّة، وتتقدّم إلى الأمام. وإنّ الإسلام الأصيل المذكور في كلمات الإمام، يتعلّق بهذا الجانب، فقد ذكر الإمام[2] الإسلام الأصيل، مقابل الإسلام الأمريكيّ. ليس الإسلام الأمريكيّ ما ترضاه أمريكا فقط. كلّ شيءٍ خارج نطاق هذا الإسلام الأصيل: الإسلام الملكيّ أيضًا (إسلام أمريكيّ)، والإسلام الانتقائيّ (الالتقاطيّ) أيضًا (إسلام أمريكيّ)، الإسلام الرأسماليّ كذلك (إسلام أمريكيّ)، والإسلام الاشتراكيّ أيضًا كذلك، أنواع الإسلام التي تُعرَض بأشكال وألوان مختلفة، ولا تتوفّر فيها تلك العناصر الرئيسيّة، كلّها على الضدّ من الإسلام الأصيل، وهي في الحقيقة إسلام أمريكيّ. يلاحظ الإنسان في هذه المعارضات التي شُنَّت ضدّ النظام (الإسلاميّ)، طوال الثلاثين عامًا الماضية، حضور هذه الأنواع من الإسلام. فقد كان هناك الإسلام الانتقائيّ،

 


 


[1] سورة الحجّرات، الآية 17.

[2] الإمام الخمينيّ قدس سره.

 

 

482


413

خطاب الولي 2009

وكان هناك الإسلام الملكيّ، وكذلك الإسلام الاشتراكيّ، ومختلف أنواع الإسلام في مواجهة نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. حسنًا، في هذه النظرة للإسلام، وفي هذا الفهم والوعي للإسلام، يُؤخَذ الفرد والمجتمع كلاهما بعين الاعتبار، وتُؤخَذ المعنويّة والعدالة إلى جانب بعضهما، والشريعة والعقلانيّة الواحدة مع الأخرى، والعاطفة والحسم إلى جوار بعضهما بعضًا. هذه العناصر كلّها يجب أن تتوفّر. الحسم في موضعه، والعواطف في موقعها، والشريعة في مكانها، والعقلانيّة -وهي طبعًا، ليست خارج نطاق الشريعة- في موضعها. كلّها يجب أن (تُستَثمَر و) تحضر بعضها إلى جانب بعض. يفضي الانحراف عن هذه المنظومة المتينة، إلى الانحراف عن النظام الإسلاميّ.

 

"شجاعةٌ في الفهم": شرطٌ للتبليغ

النقطة الأخرى هي أنّنا لا نحتاج إلى الشجاعة في العمل فقط، بل نحتاج إليها في الفهم أيضًا. ثمّة حاجة للشجاعة في الفهم الفقهيّ. إذا افتُقِدَت الشجاعة، فسيقع الخلل حتّى في الفهم، وفي الوعي الواضح للكبريات والصغريات. أحيانًا، يفهم الإنسان الكبريات بصورة صحيحة، لكنّه يُخطئ في الصغريات. هذا الوعي الصحيح لمباني الدين، وللموضوعات الدينيّة، وللموضوعات الخارجيّة المطابقة للمفاهيم الكلّيّة والعامّة -أي الكبريات والصغريات- يحتاج لأن نكون شجعانًا ولا نخاف، وإلّا فالخوف على أموالنا، وعلى أرواحنا، وعلى سمعتنا، والانفعال أمام الأعداء، والخوف من الأجواء ومن المحيط، (سيكون حاضرًا). إذا قلنا: كذا، فسوف يتكتّلون ضدّنا، وإذا قلنا كذا: فسوف يَصِموننا بالوصمة الفلانيّة، هذه المخاوف تزعزع فهم الإنسان، وتصيبه بالخلل. أحيانًا، لا يفهم الإنسان شكل القضيّة بصورةٍ صحيحة، ويعجز عن معالجتها، بسبب هذه المخاوف والملاحظات، وبذلك يقع في الخطأ. من هنا، كان شعار ﴿وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ﴾ مهمًّا جدًّا. في هذه الآية الشريفة: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾[1]، يتّضح أنّ شرط البلاغ والإبلاغ والتبليغ، هو عدم


 


[1] سورة الأحزاب، الآية 39.

 

483


414

خطاب الولي 2009

الخوف والخشية. ﴿وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ﴾. قد تقول: يا سيّدي، لو فعلتُ هذا، فقد تنطلي عَلَيَّ لعبةٌ في العالم، طيّب ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾، اتركوا الحسابات على الله، ودعوه هو -تعالى- يحسب لكم. إذا جعلنا خوف أحكام الناس وأقوالهم، محلّ الخوف من الله، فسوف نتعرّض لمشاكل، لأنّ الخوف من الله -تعالى- هو التقوى، وإذا نبذناه جانبًا، وأحللنا محلّه الخوف من الناس، عندئذٍ، لن يحصل الفرقان الذي تحدّث الله -تعالى- عنه: ﴿إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانٗا﴾[1]، هذا الفرقان ناتج عن التقوى. من ثمرات التقوى، تجلّي الحقيقة للإنسان. وأعتقد أنّ هذه المسألة على جانبٍ كبير من الأهمّيّة. مسألة الخشية على المال والأرواح، والخوف من كلام الناس، والخوف على السمعة، والخوف من الهمس والأقاويل والتهم، وما إلى ذلك. هذه القضيّة مهمّة إلى درجة أنّ الله -تعالى- يخاطب رسوله ويحذّره: ﴿وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ﴾[2]، يجب عدم الاهتمام لكلام الناس والتهم التي سيطلقونها، وما سيفعلونه: ﴿وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ﴾. أعتقد أنّ من الأمور التي هيّأَت للإمام الجليل، ما حقّقه من فتوحات متنوّعة، هو شجاعته. شجاعته هي التي حقّقَت له فتوحاته العلميّة والمعنويّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وشدَّت إليه قلوب الناس، وكان ذلك شيئًا عجيبًا حقًّا! وقد تمثّلَت شجاعته في أنّه لم يكن يخاف من شيء. يرغب أهل الفتنة طبعًا، في دسِّ خشيتهم وخوفهم في قلوب النخبة والخواصّ، بدل خشية الله، أي إنّهم يرغبون في أن يخافهم الناس: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[3]. إنّهم يقولون لنا دومًا: ﴿إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ﴾، والجواب على ذلك: ﴿وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ﴾، وستكون نتيجة ذلك: ﴿فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾.


 


[1] سورة الأنفال، الآية 29.

[2] سورة الأحزاب، الآية 37.

[3] سورة آل عمران، الآية 173.

 

 

484


415

خطاب الولي 2009

وإنّ نتيجة هذا الشعور، وهذا الوعي، وهذه الحقيقة الروحيّة والمعنويّة: ﴿فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾[1] إذًا، يتوجّب التحلّي بهذه الشجاعة.

 

كيد الأعداء في نحورهم

يمارس الأعداء شتّى صنوف الأعمال وأشكالها. يعملون على مختلف الأصعدة والمستويات. وأظنّ أنّ المستهدَف الرئيس اليوم، بمؤامرات الأعداء، هم الخواصّ. الخواصّ هم المستهدَفون راهنًا، مِن قِبل الأعداء. يجتمع الأعداء، ويخطّطون لتغيير أذهان الخواصّ، من أجل أن يستطيعوا جرَّ الجماهير للاتّجاه الذي يريدون، فالخواصّ لهم تأثيرهم، وكلمتهم لها نفوذها في عامّة الناس. أخال أنّ من الواجبات الرئيسيّة التي تقع حاليًّا على عواتقنا، نحن وإيّاكم، هي أن نعزّز بصيرتنا بخصوص القضايا المختلفة، ونتمكّن، إن شاء الله، من مضاعفة بصيرةِ مخاطِبينا ومستمِعينا.

 

إنّ الثورة الإسلاميّة قويّة الجذور جدًّا، وأركانها متينة للغايةً، والله -تعالى- سندنا وعمادنا. وكما رويتُ مرارًا عن الإمام الراحل (رضوان الله عليه)، حيث قال لي: لقد رأيتُ منذ بداية دخولي في هذه القضيّة، وشعرتُ أنّ يد القدرة هي التي تدبّر الأمور. وهذه هي الحقيقة. هذا ما قاله هو لي. يرى الإنسان يد القدرة الإلهيّة هذه. طبعًا، يد القدرة الإلهيّة ليست لها قرابة أو صلة رحم بنا: "مَن كان لله، كان اللهُ له"، ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ﴾، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ﴾. يجب أن نكون في خدمة هذا الدرب بإخلاص، ونأتي بما عندنا إلى الساحة، ونقدّمه في هذا السبيل. علينا تقديم مساعينا وأعمالنا في هذا السبيل، وسوف يمنّ الله - تعالى - بفضله ولطفه. وقد حصل هذا اليوم، حيث تفضّل الله -تعالى- وأعاد كيد الأعداء إلى نحورهم. عادت سهامهم إلى نحورهم، ولم يجنوا شيئًا من المؤامرة التي دبّروها.

 

لا شكّ أنّ اضطرابات ما بعد الثورة، مدبَّرة، في نظر الخبراء والواعين. هذا ما يستنبطه المرء حينما يتحاور مع أيٍّ من أصحاب الفهم والوعي بقضايا البلاد والقضايا

 


 


[1] سورة آل عمران، الآية 174.

 

 

485


416

خطاب الولي 2009

العالميّة. قلتُ له[1] هذا قبل أمس: قلتُ له: إنّ هذه الأمور مدبَّرة، فقال: بلا شكّ. أي إنّ الجميع يفهمون ذلك، ويُدركون أنّ هذه الأمور مدبَّرة، وليست فجائيّة، لنقول: إنّها حصلَت من تلقاء نفسها، كأن يقوم شخص ويتحدّث بشيءٍ دون مقدّمات. لا، إنّما كان هذا الأمر مدروسًا ومدبَّرًا وموجَّهًا من مركزٍ معيَّن. لكنّهم أخفقوا على كلّ حال، وسوف يستمرّ إخفاقهم هذا، إن شاء الله، لكنّهم يواصلون التآمر.

 

الاعتزال ظهير الفتنة

وأشير إلى نقطةٍ أخرى، هي أنّ بعضهم يُسيء فهم هذه العبارة: "كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ، لَا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ، ولَا ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ"[2]، ويتوهّمون أنّ معناها هو أنّ الفتنة إذا اشتعلت وتشابهت الأمور، فعليك الاعتزال. ليس معنى هذه العبارة ممّا يفيد الاعتزال إطلاقًا، بل معناها أن لا يستطيع صاحب الفتنة استخدامك على الإطلاق. "لَا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ، ولَا ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ"، لا يستطيع أن يرَكبك، ولا يستطيع أن يَحلبك، ينبغي الحذر.

 

في حرب صفّين، لدينا في جانبٍ، عمّار بن ياسر، الذي كان يخطب في الناس دومًا -انظروا الأعمال والآثار الخاصّة بصفّين- وكان في هذا الطرف وفي ذلك الطرف، جيشٌ مع مجموعات مختلفة. فقد كانت تلك الساحة ساحة فتنة حقًّا، حيث تحاربَت فئتان من المسلمين، وكانت فتنة كبرى اشتبهت على بعضهم، وكان عمّار ينوِّر الأذهان دومًا، يذهب لهذا الجانب، وذاك الجانب، ويتحدّث ويخطب في جماعات مختلفة، وخطبه وكلماته مسجّلة في التاريخ. من جانبٍ آخر، تشير الروايات إلى أنّ جماعة "نفر من أصحاب عبد الله بن مسعود" جاءوا إلى الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وقالوا: "يا أمير المؤمنين -وكانوا يعترفون به أميرًا للمؤمنين- إنّا شككنا في هذا القتال"[3]، لقد


 


[1] المقصود: الشيخ هاشمي رفسنجانيّ.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص469.

[3] المنقريّ، نصر ابن مزاحم، وقعة صفّين، تحقيق وشرح عبد السلام محمّد هارون، المؤسّسة العربيّة الحديثة للطبع والنشر والتوزيع، مصر - القاهرة، 1382ه، ط2، ص115. وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج3، ص186.

 

486


417

خطاب الولي 2009

شككنا في هذه الحرب، فابعثنا إلى الحدود والثغور، لكي لا نشترك في هذا القتال. هذا الاعتزال هو بذاته "ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ" و"ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ". الصمت، والاعتزال، وعدم التحدّث يتحوَّل أحيانًا، إلى ممارسات تساعد الفتنة. على الجميع في الفتنة، ممارسة التنوير والإرشاد، وعلى الجميع التحلّي بالبصيرة. نتمنّى أن يوفّقنا الله -تعالى-، نحن وإيّاكم، للعمل بما نقول وما ننوي.

 

وحول هذه الفكرة التي ذكرها حضرةُ السيّد شاهرودي، أعتقد أنّ الخبراء يجب أن لا يبادروا للإعلان عن أيّ شخصٍ من بينهم (في المجلس)، له عقيدة مخالفة. لا أرى هذه خطوة مناسبة جدًّا. أنا لا أريد طبعًا، تعيين واجبات الخبراء، أو ذكر شيء على أنّه واجبهم وتكليفهم، هذا هو ذوقي. شخصٌ له رأيٌ مخالف، على كلّ حال، في قضيّة معيّنة، لا أنّه يختلف عنهم في المباني والأصول، ولا أعتقد أنّه كذلك.

 

وحول قضيّة عيد الفطر التي تحدّثوا عنها، أعتقد أنّه من غير الممكن أن ندعو لاتّفاق الجميع على يومٍ واحد في العيد، أي إنّ هذا غير متاح وفقًا لمبانينا الفقهيّة. من غير الممكن اتّفاق جميع الفقهاء على فتوى واحدة. إذًا، الاختلاف سيحصل على كلّ حال. يجب أن لا نضخّم هذا الاختلاف كثيرًا، فما هي أهميّته؟ وما الإشكال فيه؟ شخصٌ له فتواه الخاصّة به -وله مقلّدوه، أو ليس له مقلّدوه- ويعمل طبقًا لفتواه. لكن في هذه السنة طبعًا، لاحظتم أنّ بعض السادة الكبار المحترمين، ومراجع الدين العظام، كان رأيهم مختلفًا، ولم يحصل أيّ تظاهر وإعلان لهذا الرأي المختلف، لقد لاحظتم ذلك. هذا شيء على جانب كبير من الأهمّيّة، وهو شيءٌ عظيم جدًّا، ينبغي تثمينه وشكره بجدّ. لم يحصل أن تُقام صلاة عيد في يوم الأحد، وتُقام صلاة عيد أخرى يوم الاثنين في أصفهان مثلًا، أو مشهد، أو طهران، أو منطقة أخرى. لم يحدث مثل هذا، وإنّه لشيءٌ على جانب كبير من الأهمّيّة. يلتزم الكبار[1]، وكما اعتقدنا دومًا - ولا نزال للإنصاف - بمباني النظام ومصالحه، وعلى درجة عالية جدًّا من الإيمان، يلاحظ المرء هذا المعنى، ويجب أن يشكره ويقدّره حقًّا. أنا أشكر شكرًا جزيلًا، السادة الأكابر المحترمين


 


[1] مراجع التقليد.

 

487


418

خطاب الولي 2009

الذين كانت فتاواهم على غير مبنى حكمنا، لكنّهم في الوقت ذاته، لم يتظاهروا بالخلاف، هذا شيء مهمّ جدًّا. قد يتحدّث العدوّ ببعض الكلمات، ويضخّم الأمر، ويثير الضجيج، لكنّنا لا نتّبع نغماته وإيقاعه طبعًا. وفَّقَنا الله وأيَّدَنا جميعًا، إن شاء الله.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

488


419

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في كليّة العلوم البحريّة في نوشهر

 

         

 

المناسبة:   تخريج دفعة جديدة من طلّاب الجامعات العسكريّة التابعة لجيش الجمهوريّة الإسلاميّة

الحضور:  عدد من طلّاب الجامعات العسكريّة التابعة لجيش الجمهوريّة الإسلاميّة

المكان:   مجمع الإمام الخمينيّ قدس سره الجامعيّ للعلوم البحرّيّة في مدينة نوشهر

 

الزمان:    14/07/1388هـ.ش.

17/10/1430هـ.ق.

06/10/2009م.

 

 

490


420

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أبارك للضبّاط الشباب الأعزّاء الذين أنهوا فترة الدراسة وتخرّجوا، وأصبحوا بشكل رسميّ، منذ اليوم، جزءًا من منظومة جيش الجمهوريّة الإسلاميّة المجيدة. وأبارك للشباب الأعزّاء الذين نالوا رتبهم، وسيبدؤون فترة التحصيل العلميّ في جامعات الضبّاط التابعة لجيش الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.

 

أهمّيّة القوّات المسلّحة

إنّ ما نراه أهمّيّة للقوّات المسلّحة، لهذه المجموعة، والذين يخدمون بلادهم وشعبهم في هذا الزيّ، هي:

أوّلًا، من جهة أنّ منظومة القوّات المسلّحة تُعَدّ العامل الأهمّ في الحفاظ على أمن البلاد. القوّات المسلّحة على حدّ تعبير أمير المؤمنين، حصن الأمّة المتين، وسورها الذي تحمي به أراضيها، وتؤمِّن به أمنها. وإنّ قيمة الأمن ومقداره لأيّ جماعة أو أمّة، ممّا لا يمكن مقارنته بأيّ شيء آخر. إذا وُجِدَ الأمن، تيسّر العلم والتقدُّم والعدالة والمجد والشموخ والعزّة والدنيا والآخرة. وإذا لم يتوفّر الأمن، فلا يمكن الوصول إلى المكتسبات والإنجازات البشريّة. هذا هو السبب الأوّل لاحترام القوّات المسلّحة، والاهتمام بها.

 

السبب الثاني هو أنّ القوّات المسلّحة مستعدّة، من أجل أداء واجبها، لدفع تكاليف لا يمكن مقارنتها بأيّ شيء آخر. (أفراد) القوّات المسلّحة يقدّمون أرواحهم في هذه الساحة، فالعسكريّ المدافع عن أمن البلاد -سواء كان من الجيش، أو من الحرس، أو سائر أقسام القوّات المسلّحة في الجمهوريّة الإسلاميّة- يقدّم روحه في الميدان، من أجل أن يحفظ الأمن. هذا شيء كبير. إنّ الحفاظ على ذكرى شهدائنا، وسبب بقائها حيّة في ذاكرة شعبنا، هو أنّهم بذلوا هذا الرأسمال (في هذا السبيل).

 

 

491

 


421

خطاب الولي 2009

لا يمتنع أهل الدنيا عن التضحية بأنفسهم وحسب، بل بحاجاتهم التافهة أيضًا. إنّ رجال الحقّ، والأبطال، والمدافعين عن القيم المعنويّة، مستعدّون للتضحية بأرواحهم، والسير في هذا الطريق.

 

اقتدار الشعب واجب عليه

أعزّائي، أيّها الشباب الأبرار في جامعات الضبّاط في جيش الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، أنتم بمثابة الأُسُس القويّة لاقتدار هذا البلد. من حقّ أيّ شعب، ومن واجبه أن يسعى لتحقيق اقتداره. إذا لم ترفع الشعوب أنفسها إلى مرتبة الاقتدار، فسوف تُسحَق في تجاذبات النـزاعات العالميّة وصراع القوى. الشعب الذي اعتاد على الضعف، ولم يعتبره عيبًا كبيرًا، يكون جديرًا بالشموخ والعزّة. وإنّ القوى والعتاة وأرباب الحرب والمستبدّين والدكتاتوريّين العالميّين، لن يرحموا مثل هذا الشعب، من واجب الشعوب أن تتمتّع بالاقتدار.

 

طبعًا، اقتدار الشعب لا يقتصر على القوّات المسلّحة. إنّ اقتدار الشعب حقيقةٌ متعدّدة الجوانب. القوّات المسلّحة هي الخطّ الأماميّ للتحرُّك، وعلامة اقتدار الشعب، لكنّ الشعب يجب أن يكون متقدّمًا من حيث العلم، ومن حيث الأخلاق، ومن حيث الإيمان، ومن حيث العزيمة والإرادة، حتّى يستطيع الحفاظ على اقتداره. إنّنا نشدّد على العناصر المعنويّة للاقتدار. العنصر المعنويّ الرئيسيّ للاقتدار، هو الإيمان، الإيمان بالله، والتوكّل عليه، وحُسن الظنّ به. هذا ما يجعل القلب مستعدًّا لخوض الميادين الصعبة، وما يثبّت الأقدام للسير في الطرق الوعرة. وهذا هو ما يصغّر المشاكل في الأعين، ويحقّق للإنسان أهدافًا كبيرةً أمام ناظرَيه، ويجعلها في صلب طموحاته، هو الإيمان بالله. من دون هذا الإيمان، سيكون الإنسان قالبًا مادّيًّا. في البيئة غير المؤمنة بالله، لا تخفق القلوب بحبّ الله، وبحبّ المعنويّة والفضيلة، ومن ثمّ، ففي مثل هذه المجاميع، لن يتأتّى الاقتدار بالمعنى الحقيقيّ للكلمة.

 

لا يكون الاقتدار بمجرّد الحصول على الأسلحة المتطوّرة، ولا يكون بالحصول على المال والسلطة السياسيّة والإعلاميّة. لو كان بوسع المال والأسلحة المتطوّرة وأدوات

 

 

492

 


422

خطاب الولي 2009

التخريب، توفير الاقتدار الحقيقيّ لبلد معيَّن، لَما فُضِح الكيان الصهيونيّ، وانهتك ذلك الانهتاك الفظيع، أمام الشباب اللبنانيّ المؤمن في حرب الـ 33 يومًا، وفي مقابل الفدائيّين في غزّة في حرب الـ 22 يومًا. لو كانت العناصر المادّيّة للاقتدار كافية لتحقيق القدرة الحقيقيّة، لَما أخفقَت حكومة الولايات المتّحدة في حربها ضدّ الشعب الأفغانيّ الفقير الأعزل، ولَما أخفقَت في احتلال أفغانستان والعراق. هذه أمور ماثلة أمام أنظارنا. هذه اختبارات هامّة للغاية وقيّمة، لحقائق سمعناها وقرأناها وعلمنا بها. حينما تتنوّر قلوب الشعوب بالإيمان والأهداف الوضاءة، ستكتسب العزيمة والإرادة اللازمة، ولن يكون بمقدور أحدٍ مدُّ يد العدوان على أرواح أفرادها، والتطاول على حياتها ومصيرها. ليس الاقتدار في أن يعتدي الإنسان على جيرانه، أو يهاجم أناسًا مظلومين عزّلًا، أو ينقل جيوشه من أقصى العالم لقمع شعب، وتحقيق أهداف عسكريّة واقتصاديّة وسياسيّة، ويسير بها آلاف الكيلومترات إلى مناطق أخرى، هذا ليس اقتدارًا. سوف تلاقي القوى المادّيّة التي اعتمَدَت على مثل هذه الركائز، ونمت وتضخّمَت وفرضَت وزنها الثقيل في عالم السياسة والاقتصاد، على الآخرين، جزاءَ هذه الإساءات، وسوف تسقط. إذا سعَت الشعوب المؤمنة، على الرغم من كونها مستضعفة، وجاهدَت، وسارت بعزيمة وإرادة فولاذيّة ونوايا صادقة، نحو أهداف سليمة، سوف تمسك بيدها مستقبلَ العالم، مستقبلًا ليس فيه عدوان، ولا تطاول، ولا سباق رعب، ولا سباق تسلُّح، مستقبلًا يبتني على العدالة.

 

قوّة إيران لا يمكن إنكارها

أعزّائي، أنتم الشباب، الروّاد والسبّاقون في الحركة نحو مثل هذا العالم. أنتم في القوّات المسلّحة، وشبابنا الأعزّاء في مختلف قطاعات هذا البلد، كلّكم روّاد هذه الحركة والمتقدّمون فيها. الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة تحمل لعالم اليوم والغد، هذه الرسالة الجديدة الساطعة، رسالة السلام والسعادة. الغد لكم، فعليكم السعي والاجتهاد. أوجِدوا النواة الأوّليّة بعزيمتكم الراسخة، ونواياكم السليمة، وإحضاركم جميع إمكاناتكم إلى الساحة، ثمّ نمّوا تلك النواة، لتستطيعوا أن تكونوا جنود هذه

 

 

493

 


423

خطاب الولي 2009

الحركة، وروّادها، والسبّاقين فيها بالمعنى الحقيقيّ للكلمة.

 

للقوّات المسلّحة في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة اليوم، وبتوفيق من الله، مميّزات كبرى، لديها امتيازات بارزة ومنقطعة النظير. ضاعِفوا هذه الامتيازات في أنفسكم، يومًا بعد يوم. خذوا البحث والعلم والتعلُّم بعين الجدّ، واغتنِموا فترة الشباب لتفجير المواهب المتنوّعة التي أودعها الله -تعالى- فيكم، واعرِفوا أهمّيّة المقدرة على خدمة هذا البلد وهذا الشعب، بهذه الأهداف السامية النيّرة. إنّ التواجد في الصفوف الأماميّة للدفاع، وخدمة مثل هذا البلد، ومثل هذا الشعب، ومثل هذا النظام، لهو مفخرة كبرى. هذه المفخرة اليوم، هي في متناول أيدينا وأيدي الأجيال المتعاقبة الصاعدة، التي عاشت في عهد الثورة الإسلاميّة، اغتنِموا هذه الفرصة.

 

لا يمكن اليوم، حتّى للأعداء، إنكار اقتدار إيران الإسلاميّة. هذا ما يعترفون به هم أنفسهم. طبعًا، يحمل العدوّ نيّة طرح مشروع التخويف من إيران، فهو يصرخ ويرفع الصوت -بهذه النيّة والموقف العدائيّ- حول قدراتكم، والقوّة الوطنيّة لهذا البلد، وهذا النظام. جزء ممّا يقوم به صحيح، وجزء آخر مغلوط وكاذب. الجزء الذي يحكي عن قدرة نظام الجمهوريّة الإسلاميّة صحيح، إنّنا بدأنا من الصفر في فترة الثلاثين عامًا من عمر الجمهوريّة الإسلاميّة، ووصلنا إلى محطّات جدّ متقدّمة، لكنّنا غير مقتنعين بما وصلنا إليه. ما وصلنا إليه لا يقبل المقارنة مع النقطة التي كنّا فيها. كنتُ متواجدًا في القوّات المسلّحة منذ اليوم الأول، في الجيش، وفي وزارة الدفاع، وفي الحرس، وفي قوّات الشرطة، وقد خبرتُ هذه القوّات بكلّ مضامينها وإمكاناتها عن كثب. أنتم اليوم، أيّها الشباب الأعزّاء، في قمّةٍ لم يكن بالإمكان، سابقًا، الإشارة إليها بالإصبع[1]، ولم يكن أحد ليصدِّق وصولنا إليها. الاقتدار العلميّ، والاقتدار التسليحيّ، والثقة بالذات، والاعتماد على النفس، والانسجام والتقدُّم في المجالات المختلفة. هذا الجزء من كلام العدوّ صحيح.


 


[1] كناية عن الصغر والحجم المتواضع الذي لا يُحسَب له حساب.

 

494


424

خطاب الولي 2009

اقتدار إيران فرصة

بَيدَ أنّ الجزء الكاذب من كلامه، هو ما يُطرَح من أجل تمرير مشروع التخويف من إيران. هذا الاقتدار الوطنيّ العظيم للجمهوريّة الإسلاميّة لا يشكّل تهديدًا لأيّ أحد. ليس تهديدًا للجيران، إنّما هو فرصة. نعم، هو تهديد لعتاة العالم، وطلّاب السيطرة على العالم، والمتدخِّلين في شؤون الشعوب. إنّه تهديد للذين استغلّوا يومًا ما، المصادر الطبيعيّة والبشريّة الهائلة لهذا الشعب، أبشع استغلال، وركلوا حيثيّة هذا الشعب وشخصيّته، ولا تزال الآمال تراودهم في عودة تلك الأيّام التي لن تعود، لكنّه ليس تهديدًا للشعوب. ليست مناوراتنا العسكريّة تهديدًا، وصواريخنا ليست تهديدًا. نصنع الطائرات، ونصنع الفرقاطات، ونأتي بشباب أبرار مثلكم إلى الساحة، ليس أيٌّ من هذه تهديدًا. هذا دليل على أنّ الشعب يستطيع أن يتقدّم وينمو، إذا اعتمد على نفسه، وتوكّل على ربّه، وملأ قلبه بالإيمان. هذه حال مشجّعة للشعوب الأخرى. لتعلم الشعوب الأخرى وترى أنّها إذا أرادت العزّة، فإنّ تلك العزّة ليست عند أمريكا، وليست في التبعيّة للقوى الكبرى، ولا في الإنفاق وإعطاء الأموال لملء أكياس صنّاع السلاح في العالم، والشغف بأسلحتهم، إنّما هي في التفتُّق من الداخل، وفي الثقة بالنفس، وفي التوكُّل على الله، والتقدُّم في هذه الأمور.

 

يا أبنائي الأعزّاء، أيّها الشباب الأبرار، اعرفوا قدر فترة التعليم هذه، واعرفوا قدر شبابكم، واعرفوا قدر عزّتكم وسمعة الشعب الإيرانيّ الطيّبة، وهذه العظمة السياسيّة التي يتمتّع بها هذا الشعب، وهذا البلد، وهذا النظام، وأَعِدّوا أنفسكم لغدٍ أفضل، وفتح ميادين أكثر. الغد لكم، والمستقبل يتعلّق بكم.

 

القوّة البحريّة قوّة استراتيجيّة

فيما يتعلّق بمنظومة القوّات المسلّحة التي تُعَدّ عائلة واحدة، فإنّ توصيتي الأكيدة هي العطف والألفة والاتّحاد، وهي حالات متوفّرة اليوم، والحمد لله. الجيش، والحرس، والتعبئة، وقوّات الشرطة، كلّكم أبناء هذه العائلة الواحدة، وأنتم إخوة. وبخصوص القوّة البحريّة التي تستضيفكم اليوم، أنتم شباب الجامعات الأخرى، وتستضيفنا جميعًا في هذه الجامعة، أوصي على الخصوص، بالقول: إنّ القوّة البحريّة تُعَدّ في كثير من مناطق العالم، وفي بلادنا، قوّة استراتيجيّة، ينبغي النظر للقوّة البحريّة على أنّها قوّة استراتيجيّة. السواحل الجنوبيّة الشرقيّة للبلاد، التي تتواجد فيها القوّة البحريّة لجيش الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، هي مناطق في غاية الأهمّيّة، وفيها إمكانيّة جيّدة جدًّا للتقدُّم. اهتمّوا بتلك المناطق، واصِلوا ريادة البحار التي اكتسبَت اليوم، والحمد لله، شكلًا متطوّرًا عمّا كانت عليه في السابق، وأَولُوا أهمّيّة لِما تحت سطح البحار، واهتمّوا أيضًا بالإمكانات والتجهيزات المضادّة للزوارق والطرادات السطحيّة في كلّ مكان، خصوصًا في بحار الجنوب.

 

تمتلك القوّة البحريّة اليوم، والحمد لله، إمكانيّات جيّدة، ولها قيادة جيّدة، والشكر لله. بإمكان جهودكم اليوم، أن تثمر كثيًا،ر وتحقّق ازدهارًا لكم، وللقوّة البحريّة، ولكلّ جيش الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، ولفصائل القوّات المسلّحة كافّة في الجمهوريّة الإسلاميّة، إن شاء الله. نطلب هذا من الله، ونتوجّه بقلوبنا إليه، ونحن واثقون من أنّنا سنصل لِما يريده -عزّ وجلّ-.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

495

 


425

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء أهالي جالوس ونوشهر

 

 

 

 

         

         

المناسبة:   لقاء أهالي جالوس ونوشهر

الحضور:  حشد من أهالي جالوس ونوشهر

المكان:   مدينة جالوس

 

الزمان:    15/07/1388هـ.ش.

18/10/1430هـ.ق.

07/10/2009م.

         

 

496


426

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء أهالي جالوس ونوشهر

 

 

 

 

         

         

المناسبة:   لقاء أهالي جالوس ونوشهر

الحضور:  حشد من أهالي جالوس ونوشهر

المكان:   مدينة جالوس

 

الزمان:    15/07/1388هـ.ش.

18/10/1430هـ.ق.

07/10/2009م.

         

 

496


426

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، ولا سيّما بقيّة الله في العالمين.

 

أشكر الله -تعالى- على أن وفّقني أخيرًا، لأكون بين جمعكم -أهالي جالوس ونوشهر الأودّاء- في هذا اليوم الماطر، وأن أقف أمام كلّ هذه المشاعر المخلصة الودودة. لم أُوَفَّق في زيارتي السابقة لهذه المنطقة، للقاء أهالي جالوس عن قرب. لم يسمح لنا المطر في ذلك اليوم، لم يسمح للناس بالتجمُّع، ولا لي بأن آتي لزيارتكم ولقائكم. واليوم أيضًا، مع أنّ الأمطار تهطل، لكن نتمنّى أن نستطيع قضاء هذه الساعة القصيرة معكم.

 

جالوس ممرّ الشهداء

أعرف مدينة جالوس، باعتبارها المدينة التي كان معظم الجنود في فترة الدفاع المقدّس، والمتوجّهين من مازندران وكيلان نحو جبهات القتال بين الحقّ والباطل، كانوا يمرّون بها. كانت جالوس غالبًا، نقطة تعبئة عشرات الآلاف من الجنود نحو الجبهة. والواقع أنّ هذه المدينة موطئ أقدام أكثر من واحدٍ وعشرين ألف شهيد من كيلان ومازندران.

 

لقد خاض أهالي مازندران عمومًا، تجربةً في القضايا المختلفة ذات الصلة بالإسلام والثورة، خاضوا غمار امتحانات، أعتقد أنّه- في حسابٍ منصفٍ- قلّ نظيرهم فيها. والسبب هو أنّ حجم العمل الضخم الذي رصده أعداء الأخلاق والإسلام، قبل انتصار الثورة، وفي عهد الطاغوت، الموجَّه لهذه المنطقة، كان أكبر من أيّ مكان آخر. وإنّ هؤلاء الذين دفعهم المناخُ الطيّب والمناظرُ الجميلة النادرة في هذه المحافظة، وبحرُها وغاباتُها، نحو هذه المنطقة، والتملّك فيها، ووضع أيديهم، لم يكونوا يريدون لأهالي هذه المحافظة خصوصًا، ولأهالي هذه المناطق الحسّاسة جدًّا، أن يلتزموا بالدين والأخلاق،

 

 

498


427

خطاب الولي 2009

لأنّهم يعلمون أنّ الدين والأخلاق هما أهمّ العقبات والموانع بوجه التعدّي والظلم والطغيان. وإنّ المقدار الذي بذلته الأجهزة المتجبّرة في عهد الطاغوت، لمحو الدين في هذه المنطقة ومنطقة كيلان، قلّما نجد نظيرًا له في منطقة أخرى من إيران. ولكن، على الرغم من هذا كلّه، نجد أنّ مازندران في عهد الثورة، كانت رائدةً سبّاقة. أيُّ إيمان هذا، وأيُّ قدرة على الإخلاص والتديّن تنبع من قلوب الناس، فيعلنون أنفسهم جنودًا للدين، على الرغم من ذلك التخريب كلّه. هكذا كان الحال في الثورة، وهكذا كان في الحرب المفروضة، وفي أحداث ما بعد الحرب، وإلى اليوم، أينما كانت القضيّة قضيّة الإسلام والدين والثورة والجمهوريّة الإسلاميّة والنظام الإسلاميّ، كان أهالي مازندران من المدافعين الأشدّاء عن جبهة الحقّ. لقد قدّم أهالي جالوس ونوشهر الأعزّاء نحو ألف شهيد.

 

هذا شيء مسجَّل في الهويّة المعنويّة والإنسانيّة والإسلاميّة لهؤلاء الأهالي. هذه من المحطّات المضيئة التي ترسم مسيرة الشعب والمجتمع. واليوم أيضًا، فإنّ مودّتكم تحت هذه الأمطار، واجتماعكم الحماسيّ في هذه الساحة، يعبّران عن جانبٍ من النور الذي في قلوبكم. يجب عليَّ أن لا أضايقكم كثيرًا في مثل هذا المناخ. أغتنم هذا اللقاء، وأذكر نقطةً عن مازندران، ونقطةً أخرى حول قضايا البلد والثورة العامّة.

 

في ما يخصّ مازندران

هناك ثروتان وفرصتان كبريان لهذه المحافظة، هما: البحر، والغابات. إنّهما مصدران هائلان للثروة لأهالي هذه المحافظة، ولعموم البلاد. ينبغي المحافظة على هاتَين الثروتَين العظيمتَين، وهاتَين الفرصتَين الكبيرتَين، بشكل صحيح، واستثمارهما أيضًا بشكل صحيح. هذه هي توصيتي لمسؤولي البلاد: هذه الغابات هي ملك للشعب، وهذا البحر هو ملك للشعب، وإنّ مسؤولي الحكومة يتولّون تنظيم شؤون الشعب والعمل في البلاد، عليهم توخّي الدقّة والحذر. يجب أن يُصار إلى الاستثمار الأمثل والاقتصاديّ والصحيح، والحيلولة دون مختلف أشكال استغلال الغابة أو البحر، بنحو من الأنحاء -حيث إنّ الاستغلال يطال الغابة أكثر- وهذا هو واجب مسؤولي البلاد. أن تبادر الأيدي الطامعة

 

 

499


428

خطاب الولي 2009

واللاهثون وراء المصالح الشخصيّة، بعناوين متنوّعة، لتفريغ هذه الثروة الوطنيّة في جيوبهم، فهذا أمر غير مقبول. هذه المنطقة عمومًا، وهذه المدينة المحاذية للطريق بين جالوس وطهران، وهذه المناطق الجميلة الطيّبةِ المناخ حول هذه المنطقة كلّها، نِعَمٌ إلهيّة، وينبغي الاستفادة من هذه النِعَم، ولكن بشكل صحيح. ينبغي الانتفاع منها، ولكن بمراعاة الحرمات الإلهيّة. يجب الانتفاع منها، ولكن إلى جانب احترام القيم والدين والأخلاق التي يتحلّى بها الأهالي، هذه القيم التي حافظوا عليها سنين طويلة، في الميادين العصيبة.

 

مازندران سند المقاومة دومًا

اعلموا يا أهالي مازندران -وأنتم تعلمون- أنّ قوى بني أميّة وبني العبّاس لم تستطع أبدًا في القرون الإسلاميّة الأولى، وبما لديها من جيوش جرّارة، التغلّب على هذه المنطقة الشماليّة من البلاد (منطقة طبرستان). إنّ كلّ جيوش بني أميّة وبني العبّاس، التي زحفَت نحو هذه المناطق، والتي فتحت باقي أقاليم هذه البلاد، وفتحت بلاد الروم، لم تستطع فتح مازندران. وقد مكّنت سلسلةُ جبال البرز هذه، الناسَ هنا، كحصنٍ منيع، من المقاومة أمام جيوش بني أميّة وبني العبّاس، فلم تستطع الانتصار على مازندران. إنّما فُتِحَت مازندران على يد أبناء آل محمّد المظلومين. وقد استطاع الأبناء المظلومون والمشرّدون من ذريّة الإمام السجّاد، والإمام الباقر، والإمام الصادق عليهم السلام، والذين هربوا من خلفاء زمانهم السفّاحين الفتّاكين، استطاعوا الوصول إلى هذه المنطقة بصعوبة. وحينما وصلوا، فتح أهالي مازندران وكيلان أذرعَهم لهم، واحتضنوا أبناء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأسلموا على أيديهم. لذلك، كانت هذه المنطقة الشماليّة من البلاد، تابعة لمذهب الإمام عليّ ومذهب التشيّع، منذ اللحظة الأولى لدخولها في الإسلام. هذا عن الماضي التاريخيّ لهذه المنطقة. لقد كانوا دومًا سندًا قويًّا للقيم الإسلاميّة، وللجهاد في سبيل الله، ولحَمَلة رايات مواجهة الظلم والجور. واليوم هم كذلك أيضًا. ولا بدّ من احترام هذه القيم، وهذا الإيمان، وهذه الأخلاق العميقة المتبقيّة عن قرون طويلة من الزمن.

 

 

500


429

خطاب الولي 2009

يجب التنبُّه لئلّا يؤدّي استخدام الغابات والاستفادة من البحر ومن المناظر الجميلة، إلى خدش أخلاق الناس وإضعاف دينهم. ويجب أن يُستفاد من هذه المواهب، بحيث لا يبقى للفقر معنى في هذه المحافظة. هذه من الواجبات، وهو طبعًا، واجب يتطلّب تعاونكم. على الناس أن يرغبوا في هذه الثقافة في مازندران، خصوصًا في المناطق القريبة جدًّا من الساحل والغابات. يجب أن يطالبوا بأن تعمل الأجهزة الحكوميّة لهم، ولصالحهم، ليستطيعوا الحفاظ على دينهم وأخلاقهم، وكذلك على مصالحهم. لا بدّ من تعاون وثيق، وارتباط عميق بين الحكومة والشعب، في هذه الأمور.

 

البصيرة بوصلة المسير

وهناك نقطة حول القضايا العامّة للبلاد والثورة. لاحِظوا أيّها الإخوّة والأخوات الأعزّاء، يقول الله -تعالى- لرسوله في الفترة المكّيّة الصعبة: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ﴾[1]، النبيّ نفسه يسير على بصيرة، وكذلك أتباعه وأنصاره والمدافعون عن فكره، هم أيضًا على بصيرة من أمرهم. هذا الأمر يتعلّق بالفترة المكّيّة. ذلك الوقت حيث لم تكن ثمّة حكومة بعد، ولم يكن هناك مجتمع، ولم تكن هناك إدارة صعبة، البصيرة كانت ضروريّة، وفي فترة المدينة المنوّرة من باب أولى. وما حدا بي طوال السنوات الماضية، للتشديد والتأكيد على البصيرة، هو أنّ الشعب إذا كان صاحب بصيرة، والشباب في البلاد إذا كانوا أصحاب بصيرة، ويتحرّكون بوعي، ويسيرون بوعي، فسوف تكِلُّ جميع سيوف الأعداء أمامهم. هذه هي البصيرة. إذا توافرت البصيرة، لن تستطيع أغبرة الفتنة تضليلهم وإيقاعهم في الخطأ. وإذا لم تتوافر البصيرة، فقد يسير الإنسان في الطريق الخطأ، حتّى لو كانت نيّته حسنة. إذا لم تكونوا على معرفة بالطريق في جبهات الحرب، وإذا لم تكونوا ممّن يجيدون قراءة الخرائط، وإذا لم تكن لديكم بوصلة، قد تنظرون فجأة، وإذا بكم محاصَرين من قبل الأعداء، لأنّكم سرتم في الطريق الخطأ، واستطاع العدوّ السيطرة عليكم. هذه البوصلات هي البصيرة.


 


[1] سورة يوسف، الآية 108.

 

501


430

خطاب الولي 2009

في الحياة الاجتماعيّة المعقّدة اليوم، لا يمكن السير من دون بصيرة. على الشباب أن يفكّروا ويتأمّلوا ويزيدوا من بصيرتهم. كذلك الأساتذة في الجامعات والحوزات، عليهم الاهتمام بمسألة البصيرة. البصيرة في الهدف، والبصيرة في الوسيلة، والبصيرة في معرفة العدوّ، والبصيرة في معرفة عقبات الطريق، والبصيرة في معرفة سبل الحدّ من هذه العقبات ورفع الموانع، هذه البصائر كلّها ضروريّة. إذا توافرت البصيرة، ستعرفون من هو عدوّكم، وستختارون الأدوات والوسائل اللازمة (لمواجهته). تارةً تريدون أن تتمشّوا في الشارع، ويمكن للمرء أن يتمشّى في الشارع بملابس عاديّة، وحتّى بالنعال. ولكن تارةً تريدون الذهاب لفتح قمّة دماوند، هذه العمليّة تتطلّب طبعًا، أدواتها الخاصّة. البصيرة هي أن تعلموا ماذا تريدون،، لتعرفوا ما الذي يجب أن تأخذوه معكم.

 

إيران حاضرة بقوّة

لقد أطلقت الجمهوريّة الإسلاميّة كلامًا (خطابًا) جديدًا على مسرح السياسة العالميّة. لا يزال هذا الكلام الجديد اليوم، بعد مرور ثلاثين سنة، جديدًا وجذّابًا في الثقافة السياسيّة العالميّة. لذلك، ترون أنّ الشعوب تهتمّ بالجمهوريّة الإسلاميّة، وتحبّها. حينما تقام انتخاباتكم بمشاركة 85 في المئة من الشعب، يفرح الناس في المناطق المختلفة، وفي البلدان المختلفة، ويُسَرّ محبّو الجمهوريّة الإسلاميّة، ويرفعون الشعارات، ويروّجون لهذا الأمر. لدينا اطّلاع على هذه الحالة عبر قنوات عديدة.

 

حينما يريد العدوّ تخريب هذه الانتخابات، وهذه المشاركة العظيمة، وهذا الانتصار السياسيّ الكبير، يبادر إلى بثّ الإشاعات، وتوجيه التهم، وخلق الاضطرابات في مناطق البلاد، ونرى أنّ محبّي الجمهوريّة الإسلاميّة يقلقون لذلك، والشعوب تقلق لذلك، في لبنان، وفي باكستان، وفي أفغانستان، وفي مناطق متعدّدة، أينما كان هناك شيعة، وأينما كان هناك مسلمون مخلصون، تراهم يقلقون لوضع البلاد. هذا دليل الحضور الحيّ للجمهوريّة الإسلاميّة في العالم الإسلاميّ.

 

 

502

 


431

خطاب الولي 2009

"جمهوريّةٌ"، "إسلاميّة"

للجمهوريّة الإسلاميّة بُعدان (وجهتان): الجمهوريّة بمعنى الشعب (الشعبيّة)، والإسلاميّة بمعنى أنّها قائمة على القيم والشريعة الإلهيّة.

 

الصفة الشعبيّة معناها أنّ الشعب له دور في تشكيل هذا النظام، وفي تعيين مسؤوليه. إذًا، الشعب يشعر بالمسؤوليّة. وهم (الناس) ليسوا بمعزل عن هذه الأمور. النظام نظام شعبيّ جمهوريّ، بمعنى أنّ مسؤولي النظام من الشعب، وقريبون منه، وليس فيهم نزعات أرستقراطيّة، أو بُعدٌ عن الناس، أو عدم اكتراث للناس، أو استهانة بهم. لقد جرّب شعبنا لقرون طويلة، طباع الأرستقراطيّة والاستبداد والدكتاتوريّة، في الحكّام غير الشرعيّين في البلاد، ولا يمكن أن يكون عهد الجمهوريّة الإسلاميّة كتلك العهود. إنّ معنى عهد الجمهوريّة الإسلاميّة، معناه عهد سيادة أفراد هم من الشعب، ومع الشعب، ومنتخَبون من قبل الناس، وإلى جانب الناس، ولهم سلوك شبيه بسلوك الناس. هذا هو معنى الجمهوريّة والشعبيّة. الشعبيّة بمعنى الاهتمام بعقائد الشعب، وحيثيّته، وهويّته، وشخصيّته، وكرامته، هذه خصائص الحالة الشعبيّة.

 

أمّا الإسلاميّة فهي بمعنى أنّ كلّ ما ذكرناه يكتسب رصيدًا معنويًّا[1]، فستُستبعد الحكومات الديمقراطيّة العلمانيّة، والأجنبيّة عن الدين، والمنفصلة عن الدين، أو المعادية للدين في بعض الأحيان. معنى الإسلاميّة أنّ الناس حين يعملون لدنياهم، إنّما يقومون في الحقيقة، بعمل إلهيّ. الذين يعملون للمجتمع، والذين يعملون لتمتين أركان النظام، والذين يعملون لتقدُّم كلمة النظام والبلاد، وإعلاء كلمة النظام، إنّما يعملون لله، وعملهم هذا عمل إلهيّ. هذا شيء له قيمة كبيرة. هذه وصفة جديدة لم يشهدها العالم من بعد زمن الرسل، وما بعد صدر الإسلام، وإلى اليوم، هذا ليس بالشيء القليل. ولهذه الحالة أعداؤها، أعداء هذا النظام المستبدّون في العالم، وكذلك المهيمنون والمعتدون على حقوق الشعوب هم أعداؤه، ينبغي توقُّع هذا العداء. لكنذ هذا الشعب أثبت أنّ هذه العداوات لا تؤثّر على صموده. منذ ثلاثين عامًا،


 


[1] أو يوجد ذخيرة معنويّة أو دعمًا معنويًّا.

 

 

503


432

خطاب الولي 2009

والأعداء يمارسون عداءهم، والشعب الإيرانيّ يقف ويصمد، ونتيجة هذه التحدّيات تَقَدُّمٌ مذهلٌ أحرزَه الشعب الإيرانيّ، وسوف يستمرّ التقدُّم بعد اليوم أيضًا[1]. شكرًا لكم. إلى متى سنبقيكم تحت المطر[2]؟ هذا لطفٌ منكم، لا شكّ في هذا، لكنّني جالس هنا تحت السقف، وأنتم تحت المطر، هذا شيء صعب عَلَيَّ.

 

لا تسمحوا بامتزاج الحقّ والباطل

أقول كلمة واحدة فقط، أخاطب بها عموم الناس، ولا سيّما الشباب منهم، جميع أبناء البلاد، خصوصًا هذه المناطق الحسّاسة: أيّها الشباب الأعزّاء، زيدوا ما استطعتُم من بصيرتكم، واسعوا لتعميقها، ولا تسمحوا للأعداء باستغلال ضعف بصيرتنا. يظهر العدوّ بمظهر الصديق، ويعرض الحقيقة بشكل الباطل، والباطل في لبوس الحقيقة. يعدُّ الإمام عليّ في إحدى خطبه، أنّ هذه من أهمّ مشكلات المجتمع: "إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّه"[3]. ويقول الإمام عليّ في هذه الخطبة نفسها: لو أنّ الحقّ ظهر للناس واضحًا جليًّا، لَما استطاع أحد التفوّه بشيء ضدّ الحقّ. ولو ظهر الباطل بشكل واضح، لَما مال الناس نحوه. "ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ، ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ"، الذين يريدون إضلال الناس، لا يعرضون الباطل خالصًا، بل يمزجون الحقّ بالباطل، فتكون النتيجة: "فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه"، يشتبه الحقّ حتّى على أنصار الحقّ، عندئذٍ تصبح البصيرة أوّل واجباتنا. يجب أن لا نسمح بامتزاج الحقّ والباطل.

 

﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ﴾

اليوم، ثمّة صفوف تقف في مواجهة نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، الذي يمثّل قمّة ثبات الإسلام في العالم الإسلاميّ. والاستكبار العالميّ يقف في قلب هذه الصفوف، وكذلك الصهيونيّة. هؤلاء هم ألدّ أعداء الإسلام صراحة، وعليه، فهم أعداء الجمهوريّة الإسلاميّة الألدّاء. وهكذا نصل إلى المعيار: إذا قمنا بشيء ينتهي لصالح الأعداء، فعلينا


 


[1] شعارات الجمهور: أيّها القائد الحرّ، نحن مستعدّون مستعدّون.

[2] شعارات الجمهور: هطلت أمطار الرحمة، فمرحبًا بقائدنا.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص88، الخطبة رقم 50.

 

504


433

خطاب الولي 2009

التيقّظ إذا كنّا غافلين، ويجب أن نعلم أنّنا نسير في الطريق الخطأ. إذا قمنا بعمل وجدنا أنّه يُغضب الأعداء، فيجب أن نعلم أنّ طريقنا صحيح. يغضب العدوّ من تقدُّم الشعب الإيرانيّ، ويغضب من نجاحاتكم، ويغضب من تماسك النظام الإسلاميّ وقوّته. لاحِظوا ما هي الأعمال التي تُغضِب العدوّ، الشيء الذي يُغضِب العدوّ هو الخطّ الصحيح، والشيء الذي يُفرِح العدوّ ويثيره، فيجعله متّكًا له في إعلامه وسياسته دائمًا، هو الخطّ المنحرف والأعوج. خذوا هذه المعايير بعين الاعتبار، هذه المعايير هي التي تُجلي الحقائق. في كثير من الأحيان، حينما تقع أخطاء، يمكن تصحيحها بواسطة هذه المعايير. يجب التوكّل على الله -تعالى-، والثقة به، وحسن الظنّ به. لقد وعد الله -تعالى-: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ﴾[1]. الذين يسيرون في طريق نصرة دين الله، إذا تحرّكوا وعملوا، فسوف ينصرهم الله. نعم، إذا كنّا أنصارًا لدين الله، ولم نفعل شيئًا، بل نمنا في بيوتنا، فلن تكون هناك نصرة. ولكن حينما نتحرّك لنصرة دين الله، وقد تكون لذلك تكاليفه، ستكون النصرة يقينيّة، مثلما انتصر الشعب الإيرانيّ، منذ بداية الثورة وإلى اليوم، في تحديّات متنوّعة، هذه هي النصرة الإلهيّة. في الحرب المفروضة، وقفَت تقريبًا جميع دول العالم المهمّة آنذاك، لمدّة ثمانية أعوام، سندًا لعدوّنا، وحاربتنا. ساعدَته أمريكا، وساعده الاتّحاد السوفياتيّ، وساعده حلف الناتو، وساعده الجيران عديمو الإنصاف، حيث أعطوه المال والإمكانات، ووقفوا جميعهم ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة، وكان قصدهم تجزئة إيران، وفصل خوزستان، واحتلال الأرض، لإظهار الجمهوريّة الإسلاميّة وكأنّها غير كفوءة، وإسقاطها. لكنّ الله -تعالى- صفعهم على وجوههم. ووجَّه الشعب الإيرانيّ، بصبره وصموده وبصيرته، ضربةً للأعداء، جعلتهم يتراجعون. هذه الإمكانيّة متاحة لكم على الدوام.

 

ربّنا، نقسم عليك بمحمّد وآل محمّد، كما أنّ أمطار الرحمة هذه تهطل اليوم على هؤلاء الأهالي، أمطِر علينا جميعًا رحمتك وفضلك وهدايتك. اللهمّ، أحيِنا دومًا بالإسلام والقرآن. ربّنا، زِد يومًا بعد يوم، من عزّة شعب إيران وشموخه واقتداره. ربَّنا،


 


[1] سورة الحجّ، الآية 40.

 

 

505


434

خطاب الولي 2009

اشمل كلّ من يعمل ويسعى ويخدم ويُخلص لهذا الشعب، بلطفك ورحمتك وعنايتك. اللهمّ، احرِم الذين يسيئون لهذا الشعب، ويوجّهون له الضربات، ويصدِّعون وحدته، من لطفك ورحمتك. ربّنا، اجعلنا عبادًا مخلصين لك، وجندًا حقيقيّين للإسلام. أَرضِ عنّا القلب المقدّس للإمام المهديّ، وأَرضِ عنّا الروح الطاهرة للإمام الجليل، وأرواح الشهداء الطيّبة.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

506


435

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء الباحثات القرآنيّات في إيران

 

 

 

 

         

المناسبة:   لقاء الباحثات القرآنيّات في إيران

الحضور:  جمع من الباحثات القرآنيّات

المكان:   طهران

 

الزمان:    28/07/1388هـ.ش.

01/11/1430هـ.ق.

20/10/2009م.

 

508


436

خطاب الولي 2009

أرحّب بكن كثيرًا، أيّتها السيّدات المحترمات والأخوات العزيزات. إنّه ليوم عيد حقيقيّ لي، حيث ألتقي هذا الحشد الكبير والمثقّف والمحبّ للقرآن، وإنّني لأعدُّ هذا لطفًا من كريمة أهل البيت السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام. نشكر الله على أن جعل في بلادنا يومًا، تتوجّه فيه هذه المجموعة العظيمة الواسعة من سيّدات البلاد، وبدافع قويّ ومنطقيّ وعلميّ، نحو القرآن، ونحو فهم القرآن، والترويج له، والبحث فيه، وأن يساعدن على ازدهار الأجواء القرآنيّة للبلاد بهذا الشكل. لا شكّ أن هذه موهبة كبرى مَنَّ الله بها على بلادنا.

 

كلّ الاقتراحات التي قدّمتها السيّدات المحترمات هنا، جديرة بالاهتمام. سنأخذها إن شاء الله، وندرسها، ونهتمّ بها، ونحيلها إلى المسؤولين عنها في هذا المجال. ونتمنى أن تأخذ الاقتراحات العلميّة والمنطقية والمقبولة طريقَها إلى التنفيذ، إن شاء الله.

 

أذكر هنا نقطتَين: النقطة الأولى هي أصل هذه الحركة النسويّة المميّزة والعظيمة جدًّا في بلادنا، وفي الجمهوريّة الإسلاميّة. والنقطة الثانية حول المسائل المرتبطة بالقرآن الكريم. أعتقد أن أساس اهتمام سيّدات بلادنا بالقرآن، ومشاركتهن في الساحة القرآنيّة، ظاهرةٌ يجب أن توضع أمام أنظار الناظرين والباحثين والناقدين والأصدقاء والمعارِضين، باعتبارها نجاحًا كبيرًا لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة، ليراها الجميع.

 

أوّلًا، إنّ انخراط السيّدات في القضايا البحثيّة والعلميّة -وهذا لا يختص بالأبحاث القرآنيّة- لهو شيء لافت للنظر. إنّني أرى عادةً، المجلّات التي تُنشَر في البلاد -سواء كانت مجلّات علميّة، علميّة بحثيّة، أو علميّة ترويجيّة - وأراجعها. ويجد الإنسان أنّ عدد الكاتبات والباحثات فيها ملحوظ، في جميع الحقول التي تهتمّ بها مجلّاتنا. نلاحظ أنّ حضور نساء بلدنا في العلوم الحوزويّة، وفي الفقه، وفي الفلسفة، وفي القضايا

 

 

 

510

 


437

خطاب الولي 2009

الجامعيّة، وفي العلوم الإنسانيّة، وفي العلوم الطبيعيّة، هو حضور بارز في الفروع العلميّة كافّة. فتياتنا الطالبات يملأن الجامعات، وإنّ الأجواء العلميّة تشهد مشاركة واضحة ومدهشة للنساء. ما معنى هذا؟ وأيّة ظاهرة هذه؟ أيّة حقيقة هذه؟ متى شهدَت البلاد هذه العناصر النسويّة كلّها من الباحثات والدارسات والعالمات والمثقّفات والمبلّغات؟ لم يكن مثل هذا الشيء موجودًا في ماضينا التاريخيّ. إنّما كان هناك عدد قليل جدًّا من العالمات والمميّزات، ولكن هذا لا يعني مشاركة غالبة وواضحة للمرأة في المجتمع ككلّ. هذه حالة مختصّة بمرحلة الجمهوريّة الإسلاميّة. وقد تحقّقَت بفضل سيادة الإسلام في هذا البلد، حيث تتمكّن النساء من تسجيل مشاركتها بهذا الشكل، في المجالات العلميّة، والوصول إلى هذا التميُّز. هذه من مفاخر نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. ولهذا، قلتُ مرارًا، أمام الحشود الطلّابيّة والجموع والشبابيّة: إننا في قضيّة المرأة، لا ندافع عن أنفسنا حيال الدعاوى الغربيّة، وإنّما نهجم، وعلى الغرب، وليس الإسلام، الدفاع عن نفسه، فيما يتعلّق بقضيّة المرأة. يمنح الإسلام المرأة شخصيّتها، وهذا خلاف ما كان دومًا في الأنظمة الطاغوتيّة، حيث ينظرون إلى المرأة نظرة مختلفة. حينما يريد الإسلام عرض نموذج عن المؤمن، يأتي بامرأة لتكون هذا النموذج: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ﴾[1]، هذا هو المثال الأوّل. ﴿وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ﴾[2] المثال الثاني. امرأتان هما النموذج الأمثل للذين آمنوا. وللذين كفروا أيضًا، هناك نموذجان نسويّان: ﴿اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا﴾[3]، أي إنّه يجعل المرأة محورًا وعبرة ومرآةً، لا للنساء وحسب، بل للمجتمع كلّه. كان بالإمكان أن يختاروا رجلًا. لا، هذا ردٌّ على تلك النظرة التحريفيّة الخاطئة التي كانت موجودة عن المرأة، ولم تكن نظرةً مذلةً دائمًا، لكنّها كانت خاطئة على الدوام.

 

كانت الأنظمة الطاغوتيّة تنظر للمرأة دائمًا، نظرة خاطئة. وكذا الحال في الغرب اليوم أيضًا. وقد تظهر بعض النسوة، كالكثير من الرجال، في الأنظمة الغربيّة، فتكون

 


[1] سورة التحريم، الآية 11.

[2] سورة التحريم، الآية 12.

[3] سورة التحريم، الآية 10.

 

511


438

خطاب الولي 2009

شخصيّات بارزة ومحترمة ونزيهة، لكنّ النظرة العامّة للمرأة، والتي تكرّسَت في الثقافة الغربيّة، نظرة خاطئة، نظرة أداتيّة[1] نفعيّة، نظرة مُهينة. من وجهة نظر الغرب، إنّ السبب في أن لا ترتدين الشادور أو الحجّاب، ليس لأنّكن يجب أن تتمتّعن بالحرّيّة، فأنتنّ تؤكّدن على تمتّعكنّ بالحرّيّة مع وجود هذا الحجّاب. إنّما يرمي الغرب إلى غاية أخرى. إنّه يريد المرأة للترفيه عن الرجل، وليستغلّها الرجل بشكل غير شرعيّ، لذلك يريد لها الظهور بشكل معيّن في المجتمع. هذه أكبر إهانة للمرأة، حتّى لو غلّفوها بأثواب عديدة من المجاملات، وأطلقوا عليها أسماء أخرى.

 

إنّ احترام المرأة هو أن تُعطى المرأة الفرصة لإظهار طاقاتها ومواهبها العظيمة، التي أودعها الله -تعالى- في كلّ إنسان -بما في ذلك المرأة، مضافًا إلى المواهب المودعة لدى المرأة نفسها - على مستويات شتّى: على مستوى العائلة، وعلى مستوى المجتمع، وعلى المستوى العالميّ، ولأجل (في مجال) العلم، والمعرفة، والبحث العلميّ، والتربية، والبناء. هذا هو احترام المرأة. أرى أنّ هذا الشيء يبرز في مجتمعنا، بتوفيقٍ وفضلٍ من الله. هذا ما يتعلّق بأساس العمل الذي تقوم به السيّدات في بلادنا، والحمد لله، وهو عمل قيّم جدًّا، حيث يسجّلن مشاركتهنّ في كلّ المجالات العلميّة، وبشكلٍ فاعلٍ مثيرٍ للإعجاب، وبالأخصّ، الحضور والمشاركة في المنظومة القرآنيّة، والعمل القرآنيّ الذي هو على قدر كبير من الأهمّيّة.

لا أظنّ أنّه يوجد في أيّ مكانٍ من العالم الإسلاميّ، هذا الكمّ الكبير من الأنشطة القرآنيّة، بهذا الدافع والحماسة المنصبّة على الأنشطة القرآنيّة. طبعًا، ليست لدي معلومات دقيقة، ولم أدرس المسألة، ولكن كما يسمع المرء من المعلومات العامّة، لا يوجد مثل هذا الشيء - ولو كان لبان - ولا أظنّ أنّ له مثيلًا في العالم الإسلاميّ. هذه ميزة مختصّة بكنّ فقط. كلّ هذا العدد من السيّدات الباحثات في مختلف قضايا القرآن، من القضايا العلميّة المحضة، إلى القضايا التبليغيّة، والقضايا التربويّة، والشؤون الفنّيّة، هذا كلّه برأيي، شيء له قيمته. وإذا تحقَّق الاقتراح الذي طُرِح -ويجب أن


 


[1] على أنّها أداة ووسيلة.

 

 

512


439

خطاب الولي 2009

يُدرَس ويُنظَر في أبعاده المختلفة- بإقامة مسابقات دوليّة، عندئذٍ، ستتجلّى للعيان قيمة جهود المرأة الإيرانيّة في مجال القرآن. وهذه مفخرة، سواء للمرأة الإيرانيّة، أو للجمهوريّة الإسلاميّة، أن تستطيع ممارسة مثل هذا النشاط الملحوظ في المجال القرآنيّ.

 

على صعيد القرآن، يجب الاعتراف أنّ مجتمعنا كان بعيدًا عن القرآن لسنوات طويلة. ونعمل في الجمهوريّة الإسلاميّة على تقليص هذه الفاصلة، وتلافي حالات التأخُّر، لكن التأخُّر كان كبيرًا جدًّا. في فترة الحكومات الطاغوتيّة، لم يكن للقرآن دور ومشاركة رسميّة في المجتمع. كان بعض الأشخاص، هنا وهناك، على معرفة بالقرآن، متديّنون يتلون القرآن في دور القرآن، إلّا أنّها كانت مجرّد تلاوة وحسب، أمّا (مسألة) التدبر في القرآن، فقد كانت نادرة جدًّا، خصوصًا على مستوى المجتمع وفي الأوساط العامّة. وكانت النتيجة أن ابتعدَت المجموعات المتنوّرة (المثقّفة) والجامعيّة عن القرآن كلّيًّا، أي إنّنا لا نجد حقًّا في ذلك الوقت، وبين المتعلّميّن والخرّيجين، شخصًا يمتلك أنسًا ومعرفة بالقرآن الكريم. ولا أقصد هنا المعرفة الواسعة العميقة، بل المعرفة المحدودة، إلّا من كان لهم سابقة دراسة حوزويّة، وقد حفظوا بعض الآيات من زمن دراستهم الحوزويّة.

 

أمّا في سائر البلدان الإسلاميّة، وخصوصًا في البلدان العربيّة، وبسبب بعض الظروف، فلم يكن الوضع على هذه الشاكلة، وهكذا هو اليوم أيضًا. حينما يلتقي المرء مثقَّفيهم ومتعلّميّهم وشخصيّاتهم الجامعيّة الذين يتولّون مناصب حكوميّة مختلفة، يرى أنّهم يستخدمون الآيات القرآنيّة، ويذكرونها للتمثيل والاستشهاد بها، والتأييد والاستدلال (من خلالها)، الأمر الذي لم يكن مشهودًا لدى مجاميعنا الثقافيّة القديمة، لكنّه مشهود لدى جيلنا الشاب. وقد كان هذا بسبب الابتعاد عن القرآن، فقد كنّا بعيدين عنه. أمّا ما هي نوعيّة التربية والتعليم في تلك البلدان، فهذا بحث آخر.

 

كان هذا، ولا يزال شيئًا دارجًا في البلدان العربيّة خصوصًا. لقد واجَهنا هذه الظاهرة منذ بداية الثورة. كان القرآن حاضرًا في أذهان وعلى ألسنة رجال السياسة والحكم في البلدان العربيّة، والذين كنّا نعترض دومًا على بُعدهم عن مباني القرآن عمليًّا، ولا نزال نعترض، وهو اعتراضٌ حقُّ. كنّا نأسف دومًا، لأنّنا لسنا كذلك. وإذا أردتُ تشبيه المسألة اليوم، لقلتُ:

 

 

513


440

خطاب الولي 2009

إنّهم كانوا كبعض الذوّاقين الإيرانيّين، الذين يذكرون أثناء كلامهم عبارات أو أبيات من "كلستان" سعدي الشيرازيّ، أو من ديوان حافظ الشيرازيّ، أو عبارات لبعض الكتّاب المعروفين. كان أولئك يستشهدون بالقرآن على هذا الغرار، لكنّ الأمر لم يكن في بلادنا على هذه الشاكلة. كنّا بعيدين عن القرآن، بسبب نوعيّة التربية قبل الثورة.

 

نريد اليوم تلافي القضيّة. وللحقّ والإنصاف، فقد بُذِلَت جهود كبيرة في هذا السياق، منذ مطلع الثورة، وإلى الآن، وها نحن نلاحظ نتائجها، بَيدَ أنّ هذه هي بداية العمل والطريق. ينبغي الامتزاج بالقرآن. إنّ مفاهيم القرآن مفاهيم للحياة، وليست مجرّد معلومات. قد تكون المعلومات القرآنيّة لدى شخص ما جيّدة، ولكن لا أثر للقرآن في حياته إطلاقًا! أشارت بعض السيّدات هنا إلى هذا المعنى. علينا السعي لتجسيد القرآن في حياتنا. وكما قالت إحدى زوجات الرسول الأكرم المكرّمات، حينما سُئِلَت حول أخلاق الرسول: "كانَ خُلُقُه القرآنُ"[1]، أي إنّه كان قرآنًا متجسِّدًا. ينبغي إيجاد هذا المعنى في مجتمعنا.

 

هناك حقيقة واضحة جدًّا، لكنّها خافية في الغالب، بسبب شدّة وضوحها. لنطرح هذه الحقيقة ونذكرها. هذه الحقيقة هي أصل تحقُّق الجمهوريّة الإسلاميّة. هذا تجسيد للقرآن. إنّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة نظام دينيّ، وهو من أكبر مصاديق العمل بالقرآن، المصداق الذي أوجدَته لنا الثورة. يجب أن لا نغفل عن هذا الشيء. أجل، هناك جداول عديدة داخل هذا الإطار الكبير، ينبغي أن تُملأ، وأعمال كثيرة لا بدّ أن تُنجَز، بَيدَ أنّ المَهَمَّة والعمل الرئيسيّ هو إيجاد هذا النظام، إيجاد نظام قائم على الدين، وتكون هويّة المسؤولين فيه وخصوصيّاتهم وأداؤهم وعلاقتهم بالجماهير وخدمتهم للناس، كلّها (قائمة) على أساس الدين، وعلى أساس القانون الدينيّ، والقانون الإسلاميّ. هذا هو أكبر مصداق من مصاديق العمل بالقرآن. إنه الشيء الذي قام به الرسول الأكرم حينما هاجر إلى المدينة. ما لم يكن هناك مجتمع ونظام


 


[1] أحمد بن حنبل، المسند (مسند أحمد)، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج6، ص163. الفيروز آبادي، السيّد مرتضى الحسينيّ اليزديّ، فضائل الخمسة من الصحاح الستّة، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، 1393 - 1973م، ط3، ج1، ص123.

 

 

514


441

خطاب الولي 2009

وسلطة مركزيّة، تَنشر ظلالَها على الأنشطة الاجتماعيّة كافّة، فلن تكون هناك ضمانة للأعمال. كان هناك قبل الثورة، خيّرون وناصحون قلائل، تتحرّق قلوبهم وضمائرهم، ويتألّمون وينصحون الناس باستمرار - في وسائل الإعلام العامّة، أو ضمن حدود أضيق - ويعظونهم، وليست الموعظة عديمة التأثير، بل هي تؤثِّر في القلب، لكنّها لم تتحقّق عمليًّا؟ لماذا؟ لأنّ النظام نظام خاطئ، ولأنّ اتّجاه المجتمع يخالف العدالة والإنصاف والمروّة والأخلاق. في مثل هذا الاتّجاه الخاطئ، هل من المجدي الإصرار على هذا وذاك، أن كُن عادِلًا، وكُن رحيمًا، وكُن منصفًا؟ الاتّجاه هو المهمّ. يتشكّل أساس الاتّجاه عبر تأسيس نظام ذي اتّجاه دينيّ صحيح. هذا ما قامت به الثورة، حيث أَسَّسَت هذا النظام. ما أودّ قوله، هو أن لا ينسى باحثونا القرآنيّون وشبابُنا المتحمّسون والمحبُون، هذه الحقيقة. إنّها حقيقة جدّ واضحة وساطعة، لكنّها تبقى مغفولًا عنها في الغالب. إنّها حقيقة مهمّة جدًّا.

 

ينبغي الدخول في البناء القرآنيّ ضمن هذا الإطار، والنهوض بالمهامّ الأساسيّة، وذلك من أجل أن يكون المحتوى قرآنيًّا بالمعنى الحقيقيّ للكلمة. سلوكنا الفرديّ، وسلوكنا الإداريّ، وسلوكياتنا المؤسّساتيّة، سلوكنا في التربية والتعليم -أي أجهزة التربية والتعليم، بما في ذلك الجامعات ومراكز البحث والحوزات وغيرها- وسلوكنا داخل العائلة، وسلوكنا السياسيّ، وسلوكنا الدوليّ، يجب أن يكون هذا كلّه على أساس الإسلام. فمتى ستتحقّق هذه الغاية؟ حينما نكون قد تعرّفنا إلى المفاهيم القرآنيّة بشكل صحيح. إنّه الشيء الذي يتحقّق بهذه الحركة البحثيّة القرآنيّة العظيمة، سواء في جانبها النسويّ أو الرجاليّ. هذا هو الاتّجاه المنشود الذي ينبغي للبحوث أن تسير فيه.

 

من النقاط المهمّة في الأعمال البحثيّة القرآنيّة، أنّ مَن يريد السير في طريق العمل القرآنيّ، عليه إعداد فؤاده لمواجهة الحقيقة القرآنيّة الخالصة، بمعنى أنّ عليه تطهير قلبه. إذا لم يكن القلب طاهرًا، ولم يكن جاهزًا لتقبُّل الحقّ والحقيقة من لسان القرآن، وإذا كان متعلّقًا ومنجذبًا للأسُس غير الإسلاميّة وغير الإلهيّة، ثمَّ واجه القرآن، فلن

 

515

 

 

 


442

خطاب الولي 2009

ينتفع منه شيئًا. يقول القرآن: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾[1]. طيّب، لماذا الإضلال بالقرآن؟ الهداية بالقرآن حالة معلومة وواضحة، ولكن لماذا الإضلال بالقرآن؟ السبب هو ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾[2]، فالذين في قلوبهم مرض، حينما يقرؤون القرآن، يتضاعف الرجس الذي في داخلهم، تزيدهم الآيات القرآنيّة أو السور القرآنيّة رجسًا. فما هو هذا الرجس؟ حينما يقول ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾، فما هو هذا المرض؟ إنّه الأمراض الأخلاقيّة. حينما نكون مصابين بالحسد والنوايا السيّئة والحرص والتكالب على الدنيا، وحينما تتغلّب علينا الشهوات وطلب السلطة، وحين نَسحق الحقَّ ونتجاهله ونكتمه، عندها لن ننتفع من القرآن، سوف نتلقّى من القرآن نقيض الشيء الذي ينبغي أن نأخذه منه. يجب اللجوء إلى الله. ترون أن بعضهم أحيانًا، يقرؤون آيات قرآنيّة لدحض الإسلام، ولإسقاط الجمهوريّة الإسلاميّة، وللقضاء على الفضائل التي وفّرَتها لنا الجمهوريّة الإسلاميّة! ينبغي التقرُّب إلى القرآن بطهر، لتؤثّر أنوار القرآن ودعوة القرآن للتذكّر والذكرى في قلوبنا، ونستطيع الانتفاع منها، إن شاء الله.

 

النقطة الأخرى بخصوص البحوث القرآنيّة، هي أنّ الاهتمام بالمشاريع التأسيسيّة في البحوث القرآنيّة، حالة ضروريّة جدًّا.

 

ليس كلّ مَن كان على معرفة باللغة العربيّة، يستطيع فهم جميع ما في القرآن، فيكون باحثًا قرآنيًّا. لا، أوّلًا، لا بدّ من الأنس بالقرآن نفسه، أي إنّ على الباحث القرآنيّ الاستئناس بمجموع القرآن الكريم. فتلاوة القرآن، وتلاوته مرّة ثانية، ومرّة ثالثة، والتدبُّر الشخصيّ في القرآن، أمورٌ تساعدنا حينما نبحث عن الحقائق في القرآن، فيما يتعلّق بموضوع معيّن، على أن نصل لنتائج جيّدة حول ذلك الموضوع. إذًا، الأنس بالقرآن أمر ضروريّ.


 


[1] سورة البقرة، الآية 26.

[2] سورة التوبة، الآية 125.

 

 

516


443

خطاب الولي 2009

ثم هناك كيفيّة الاستفادة من القرآن. الأسلوب الذي يتّبعه علماء ديننا وفقهاؤنا في الاستفادة من الآيات والروايات، هو أسلوبٌ مجرَّب. إنّه منهج علميّ ناضج، ومجرّب تمامًا. يتعيّن إتقان هذه الأمور. لا أريد القول: إنّ كلّ مَن يروم مزاولة البحث القرآنيّ، يجب أن ينخرط في الدراسة الحوزويّة لسنوات، ليس هذا ما أرمي إليه، إلّا أنّ البحث القرآنيّ غير ممكن، من دون تعرُّف مقدّمات فهم القرآن ومبادئه، ومنها المعرفة باللغة ودقائقها وأحوالها، وتعرُّف بعض مباني أصول الفقه. هذه مقدّمات وأدوات ينبغي فهمها، كما يجب تعرُّف الروايات والأحاديث ذات الصلة بالآيات القرآنيّة. هذه كلّها أمور مؤثِّرة في البحوث القرآنيّة.

 

والنقطة الأخرى التي نذكرها، ولتكن النقطة الأخيرة، هي أنّني وجَّهتُ عتابًا للجامعات والجامعيّين بخصوص العلوم الإنسانيّة. وقد وجَّهتُ هذا العتاب مرارًا، وفي الآونة الأخيرة أيضًا. إنّ علومنا الإنسانيّة مبنيّة على مبادئ ومبانٍ متعارضة مع المباني القرآنيّة والإسلاميّة.

 

تبتني العلوم الإنسانيّة الغربيّة على رؤية كونيّة أخرى، وعلى فَهمٍ مختلف لعالم الخلق، فهي تقوم غالبًا على الرؤية المادّيّة. هذه النظرة نظرة خاطئة، وهذا المبنى مبنى خاطئ. إنّنا نأتي بهذه العلوم الإنسانيّة على شكل ترجمات، من دون أن نُعمِل أيَّ بحث فكريّ إسلاميّ فيها، وننشرها في جامعاتنا، وندرسها في الأقسام المختلفة. والحال أنّه يجب البحث عن العلوم الإنسانيّة في القرآن. هذا أحد الأجزاء الهامّة للبحث القرآنيّ. ينبغي (الاهتمام) التفطُّن لإشارات القرآن ودقائقه في المجالات المختلفة، والبحث عن مباني العلوم الإنسانيّة في القرآن الكريم، واستخراجها. هذه عمليّة جدّ أساسيّة ومهمّة. إذا ما حصل هذا، عندئذٍ، يستطيع المفكِّرون والباحثون والمتخصِّصون في العلوم الإنسانيّة المختلفة، تشييد صروح شامخة على هذه الأُسُس والأركان. وبالطبع، يستطيعون، عندئذٍ، الاستفادة من تقدُّم الآخرين والغربيّين ومَن حقّقوا تقدُّمًا في العلوم الإنسانيّة. إلّا أنّ الأساس (المبنى) يجب أن يكون أساسًا قرآنيًّا.

 

نتمنّى أن يوفّقكن الله -تعالى-. إنّني أتقدّم بالشكر الجزيل لجميع السيّدات المحترمات الناشطات في مجال القرآن في شتّى مؤسّسات البلاد. إنّ مشاركتكنّ في مجال

 

 

517

 


444

خطاب الولي 2009

العمل القرآنيّ سوف تلهم المجتمع النسويّ في البلد، بحيث ترغب النساء الإيرانيّات -أي نصف المجتمع- في التوجُّه والانعطاف نحو القرآن، إن شاء الله. وإذا تحقّق الأنس بالقرآن لدى النساء، سيتمّ علاج الكثير من مشكلات المجتمع، لأنّ أفراد الجيل اللاحق سيترعرعون في أحضان النساء. وإنّ المرأة التي تحوز على المعرفة والأنس بالقرآن، والمتعلّمة لمفاهيم القرآن، يمكنها أن تكون مؤثّرة جدًّا في تربية أبنائها. ونتمنّى ببركة حركتكنّ وأنشطتكنّ العظيمة هذه، أن يغدو مجتمعنا في المستقبل، مجتمعًا قرآنيًّا أكثر بكثير ممّا هو عليه اليوم.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

518


445

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء القائمين على شؤون الحجّ

 

 

 

 

         

         

المناسبة:   اقتراب موسم الحجّ

الحضور:  القائمون على شؤون الحجّ

المكان:   طهران

 

الزمان:    04/08/1388هـ.ش.

07/11/1430هـ.ق.

26/10/2009م.

 

 

520

 


446

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أشكر الله - تعالى - وأحمده من أعماق وجودي، على أن منحنا التوفيق والفرصة والمهلة مرّةً أخرى، وسنة أخرى، لنشهد مراسم الحجّ، وتوجُّه الحجّاج نحو ذلك القطب المحبوب في قلوب المسلمين، على مرّ التاريخ.

 

الحجّ فرصة لا تفوِّتوها

يجب أن تكون النظرة للحجّ نظرةً لنعمة وفرصة إلهيّة كبيرة، هكذا هي جميع العبادات. الصلاة أيضًا فرصة ونعمة، لو لم تجب علينا الصلاة، لكان هناك خوف من أن نغرق في بحر الغفلة المحضة. هذه النعمة الكبيرة التي نُؤخَذ فيها عدّة مرّات في اليوم، نحو لقاء الخالق والتحدّث معه والخشوع والتضرّع أمامه، هي نعمة كبيرة جدًّا، وفرصة عظيمة، وهكذا الحجّ أيضًا. ميزة الحجّ على سائر الواجبات والفرائض الإسلاميّة، هي طابعه العالميّ والدوليّ. وإنّ التضرّع الذي يحتاج إليه كلّ مسلم في قلبه، حيث يحتاج أن يخضع ويخشع ويتضرّع أمام خالقه، يكتسب في الحجّ تجليًّا عامًّا ودوليًّا. يصل جميع المسلمين، على اختلاف لغاتهم وأعراقهم وعاداتهم وتقاليدهم، إلى هناك، فيخشعون ويتضرّعون. هذه ظاهرة جدّ عجيبة، تعوّدنا عليها، ولم نعد نفهم أهميّتها وعظمتها بشكل صحيح. أن يجتمع كلّ المسلمين ويتهافتون على قطبٍ ومركزٍ واحد، ويخشعون حياله، لننظر إلى الحجّ من هذه الزاوية، من زاوية كونه فرصة.

 

إذا نظرنا له من زاوية كونه فرصة، حينئذٍ، ستتّسع نظرتنا، وسوف ننتبه لواجباتنا أكثر. تجدون الفرصة لإظهار العبوديّة لله في بيت الله، إلى جانب باقي المسلمين، هذه هي النقطة الأولى في هذه الفرصة. إذا نظرنا من زاوية كون الحجّ فرصة، عندئذٍ، يقتضي الأمر أن لا يفوِّت الإنسان هذه الفرصة، مهما كلّف الأمر. من المؤسف أن يتواجد الإنسان في مكّة المكرّمة أو المدينة المنوّرة، بجوار مرقد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم

 

 

522

 


447

خطاب الولي 2009

ومراقد أئمّة الهدى (سلام الله عليهم أجمعين) ومراقد كبار الصحابة وشهداء أُحُد وباقي العظماء الذين يتلألؤون في التاريخ كالشمس، ثمّ ينشغل بالدنيا، بدل التوجُّه والذكر، وخصوصًا إذا كانت هذه الدنيا دنيا تافهة شخصيّة، مثل التجوُّل في الأسواق، والذهاب إلى هنا وهناك، لأمور قليلة الأهمّيّة، ننشغل بها طوال حياتنا، للأسف. إنّ لذلك المقطع الزمنيّ الإكسيريّ، الذي تكتسب كلّ دقيقة وكلّ ساعة منه، قيمة كبيرة، وُتَعدّ فرصة عظيمة، من المؤسف أن ننفقه للأعمال اليوميّة قليلة الأهمّيّة، التي يمكن أن نقوم بها في أسواق مدننا، وفي أيّ مكان آخر، هذه هي النقطة الأولى. لنفكّر بالتزوُّد في مكّة والمدينة، ولنفكّر بزيادة رصيدنا الإيماني والمعنويّ، ورأسمالنا من الذكر والخشوع أمام الخالق. هذه هي الخطوة الأولى.

 

اغتنام الفرصة: أن يقدّم الإيرانيّ إسلام بلاده

من جملة مظاهر اغتنام هذه الفرصة الكبيرة، الارتباط بالعالم الإسلاميّ. العالم هو الشعوب، وليس الساسة، ولا القادة الظالمون، ولا المستكبرون والمتكبّرون. تسمعون أحيانًا، أنّ المتكبّرين ينسبون نتائج أذهانهم الفاسدة للمجتمع العالميّ، فيقولون: هكذا يريد المجتمع العالميّ! المجتمع العالميّ معناه المليارات من أبناء البشر، وهكذا هو الحال للمجتمع الإسلاميّ. الأمّة الإسلاميّة هي هذا الجسد الكبير. ليست الأمّة الإسلاميّة زيد وعمرو ومَن تسلّط بأيّة وسيلة، على جزء من هذا الجسد الكبير، وراح يحكمه. الأمّة هي هذا الجسد من الشعوب. إنّ البركات والخيرات في هذا الجسد، عظيمة، ولديه إرادة يمكنها أن تزحزح الجبال. وحركة هذا الجسد هي التي تستطيع أن تجعل القيم الإسلاميّة عالميّة وشاملة، وهذا رهن إرادتكم (وهمّتكم). يلتقي الإنسان الحاجّ في موسم الحجّ، من كلّ سنة، حشدًا هائلًا من هذا الجسد العظيم للأمّة الإسلاميّة والعالم الإسلاميّ. ينبغي اغتنام هذا الأمر، إنّها فرصة ويجب اغتنامها.

 

كيف نغتنم الفرصة؟ ثمّة طرق مختلفة لذلك. من أسهل الطرق، والتي يستطيع الجميع القيام بها، أن يقوم الإيرانيّ المسلم الذي يعيش تحت لواء الجمهوريّة الإسلاميّة والسيادة الإسلاميّة، بتعريف إسلام الجمهوريّة الإسلاميّة، عبر سلوكه وأعماله وحركاته.

 

 

523


448

خطاب الولي 2009

وبهذا النحو، يتمكّن من تقديم نفسه، وإظهار تأثير التربية الإسلاميّة عليه، هذا من أسهل الطرق.

 

الحاجّ الذي يكون سلوكه في المسجد الحرام أو مسجد النبيّ أو البقيع أو عند زيارة شهداء أحد وفي منى وعرفات، سلوكَ إنسانٍ مؤدّب بالآداب الإسلاميّة، وسلوكَ إنسانٍ تربّى بالتربية القرآنيّة، وهو من أهل الخشوع والتواضع والمحبّة والابتعاد عن توجيه الإهانات لهذا وذاك، ويكون من أنصار الجمع، وليس التفرقة.

 

الحجّ مَظهر الوحدة

لدينا الكثير من الوصايا في الروايات، في زمن الأئمّة عليهم السلام، حول ثواب المشاركة في صلاة جماعة أهل السنّة، إلى درجة القول: بأنّ الصلاة خلفهم في المسجد الحرام، كالصلاة خلف الرسول. ما معنى هذا؟ واضح أنّ الإمام الصادق لا يقارن صلاتهم بصلاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقارنها بصلاة واحد من أتباعه، لكنّه يقول: صلّوا وراءهم. ما معنى هذا؟ هذا يعني أنّها مظهر للوحدة. إنّه شيء يُظهر الوحدة عمليًّا. وعلى أساس هذه الأفكار، أوصى إمامنا الجليل (رضوان الله عليه)، ذلك الرجلُ الواعي اليقظُ، أوصانا جميعًا، وأوصى جميع الحجّاج الإيرانيّين، بالمشاركة في صلاة الجماعة في المسجد الحرام والمسجد النبويّ، والمشاركة في هذه التجمّعات، وهذه من مصاديقها. لا ينبغي أبدًا، حين أداء الصلاة، والجميع مشغولون بالصلاة، أن يُرى حاجٌّ إيرانيّ يحمل أمتعته -ويحمل أوزاره- ويتّجه نحو فندقه، هذه أشياء ضارّة. السلوك المتأدّب بالآداب الإسلاميّة من أسمى الأمور وأرفعها. حتّى لو لم تكونوا تجيدون اللغة العربيّة، ولا تتواصلون مع الآخرين، بمجرّد أن يكون واضحًا أنّكم حجّاج إيرانيّون، وتتحلّون بهذا السلوك المؤدّب المحترم، وأنّكم أهل نظافة ودعاء وذكر -دعاء كميل الذي بدأ يروج، بحمد الله، منذ سنوات- لكان ذلك أكبر تبليغ، هذا أهمّ من كثير من أساليب التبليغ. تجلس هذه الجماعة المؤمنة الهائلة أمام الله -تعالى-، وتتضرّع وتستغفر وتذرف الدموع، هذا سيكون تبليغًا.

 

وإنّ المشاركة في مراسم البراءة، تبليغٌ كبير. مجرّد هذه المشاركة هو تبليغ. هذا يدلّ على أنّكم قبلتم الحجّ بكلّ أبعاده، وعلى شكل رزمة كاملة.

 

 

524

 


449

خطاب الولي 2009

ثمّة توحيد في الحجّ، وللتوحيد بذاته جزءان: أحدهما الله، والثاني لا إله غير الله، أحدهما الإثبات، والثاني النفي. الحجّ هو مظهر التوحيد، إثبات ولاية الله، ونفي ولاية غير الله، هذه هي البراءة.

 

اتّحاد المسلمين حاجةٌ معاصرة

نقطة أخرى في باب الحجّ، هي أن تقوم قوافل الحجّ الإيرانيّة الكبرى -وهي والحمد لله، مبعث فخر للجمهوريّة الإسلاميّة- بتلبية الاحتياجات المعاصرة، واحتياجات الأمّة الإسلاميّة، بحسب ما تقتضيه هذه الاحتياجات. لنرَ ما هي الاحتياجات كلّ سنة. يشعر الإنسان في هذا العصر، وفي هذه الأعوام القريبة، ومنها هذه السنة، أنّ من الاحتياجات المهمّة، الحاجة إلى الاتّحاد الإسلاميّ، والوحدة بين الفرق الإسلاميّة. لاحِظوا ما يقوم به أعداء الإسلام والأمّة الإسلاميّة، من أجل تمزيق المسلمين، وخلق الفواصل بينهم، وكم يبذلون من الأموال ليقف المسلمون في وجه بعض. هذه من الأهداف الأكيدة للأحداث الدامية التي سمعتم بنموذج لها أمس في العراق، وتقع نماذج عديدة لها في باكستان ومناطق أخرى، ويُقتَل المسلمون قتلًا جماعيًّا، بواسطة الإرهاب الأعمى، أو يجرحون، أو تُقطّع أعضاؤهم. إنّ جزءًا كبيرًا من هذه العمليّة، يتّصل بقضيّة إيجاد الخلافات بين الشيعة والسنّة.

 

عاش الشيعة والسنّة قرونًا طويلة في العراق، بعضهم إلى جانب بعض. كانت هذه الكتب نفسها، وهذه العقائد نفسها الموجودة اليوم، موجودةً في السابق، وربّما بطابع أشدّ، إلّا أنّه لم يكن لمثل هذه الأحداث سابقة، طوال قرون، ولم يكونوا يهاجمون بعضهم. فمَن هم هؤلاء؟ أو هذه الأحداث الدامية التي وقعت في مناطق من بلدنا أحيانًا، وعلى مرّ الزمن، وفي الفترة الأخيرة، أو الحوادث التي تقع في باكستان، الشيعة ضدّ السنّة، والسنّة ضدّ الشيعة، هؤلاء ليسوا شيعة أو سنّة. الذين يقومون بهذه الأعمال، هم عملاء الأجنبيّ، إمّا بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، إنّهم عملاء الأجنبيّ وأياديه. مَن هم هؤلاء الذين يظهرون للحجّاج الشيعة

 

 

525

 


450

خطاب الولي 2009

والحجّاج الإيرانيّين بجوار البقيع وفي المسجد الحرام وفي مسجد النبيّ، ولا أحد يدري مَن أين هم، يظهرون لهم، ويهينون المقدّسات، ويتجاسرون أحيانًا حتّى على أعراضهم؟ ينبغي أن يتيّقظ الجميع، ويتحلّوا بالوعي إزاء هذه الأمور. من واجب الحكومات، ومن واجب الحكومة السعوديّة، أن لا تسمح بالتعرُّض لزائر بيت الله، ولحجّاج بيت الله الحرام، ولزوّار المرقد المقدَّس للرسول والأئمّة عليهم السلام. أن يأتي شخص ويقوم بحركة ضدّ زائر، أو ضدّ رجل الدين الشيعيّ، أو ضدّ كذا وكذا، ثمّ يقف الشرطيّ السعوديّ ويتفرّج، أو يتدخّل أحيانًا لصالح المعتدي، هذه ممارسات غير صحيحة، وهي مناقضة تمامًا للوحدة. إنّها الشيء الذي تريده أمريكا وأجهزة التجسّس الأجنبيّة. لا يمكن لمجموعة حجّاج بيت الله الحرام أن يغفلوا عن أحداث العالم الإسلاميّ.

 

اليوم، تعاني بلدان العراق وأفغانستان وفلسطين المظلومة، وجزء من باكستان، من ضغوط الجنود الأجانب، وممارساتهم المستكبرة. فهل يمكن للعالم الإسلاميّ أن لا يرى هذا الواقع؟ هذه أمور ينبغي الاهتمام بها في الحجّ. ينبغي للحجّ أن يكون مظهرًا لظهور إرادة الأمّة الإسلاميّة، وعزيمتها الراسخة ضدّ هذه الممارسات التي تمسّ وحدة الأمّة، وتنال من تقدُّمها، أو من راية الإسلام المرفرفة اليوم بين أبناء الأمّة. ونحمد الله أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة تمسك اليوم، بهذه الراية، في أيديها القويّة. ينبغي التحسُّس من هذه الأمور، فهذا التحسُّس واجب. هذه أمور يجب أخذها بعين الاعتبار، في برامجنا لإدارة القوافل، وخياراتنا ومجموعات حجّاجنا يجب أن تكون كلّها متناسبة مع هذه الاحتياجات.

 

أنا طبعًا، أشكر جميع القائمين المحترمين على شؤون الحجّ، والذين بذلوا في هذه السنين، الجهود للنهوض بهذا العمل الكبير، وهذا الواجب العظيم. أشكر من الصميم، حضرة الشيخ الري شهري، وحضرة السيّد خاكسار، وباقي المسؤولين الحكوميّين، ووزراء الإرشاد المحترمين، الذين ساعدوا طوال هذه الأعوام، والعاملين في باقي الأقسام والقطاعات، ورؤساء القوافل، ورجال الدين المحترمين.

 

 

526

 


451

خطاب الولي 2009

العمل كبير، والهدف جدّ عظيم، وواجبنا كبير جدًّا. نتمنّى أن يوفّقكم الله -تعالى- جميعًا، وأن تشملكم جميعًا أدعية سيّدنا بقيّة الله الأعظم (أرواحنا فداه).

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

527


452

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء جمع من النخب العلميّة في البلاد

 

 

         

المناسبة:   لقاء النخب والمتفوِّقين علميًّا

الحضور:  جمعٌ من النخب العلميّة والمتفوّقين على مستوى البلاد

المكان:   طهران

 

الزمان:    06/08/1388هـ.ش.

09/11/1430هـ.ق.

28/10/2009م.

 

 

529


453

خطاب الولي 2009

لقاؤنا بكم اليوم، أيّها الأعزّاء، وكما هو دائمًا، لقاء جدّ طيّب ومفعم بالأمل (بالنسبة إليّ). في الحقيقة، إنّ قطب الأمل الرئيس في البلاد، هم الشباب المتعلّمون المثقّفون، خصوصًا حينما يترافق هذا التعليم مع الالتزام والشعور بالمسؤوليّة. وإنّ اللقاء بكم، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، ويا أبنائي الأحبّاء -وقد كان لقاءً جدّ طيّب وجيّد، والحمد لله- يعزّز هذا الأمل لا في قلبي وقلوب المسؤولين وحسب، بل على مستوى البلاد كلّها.

 

تخطيطٌ على ضوء الواقع

أولًا، أشير إلى نقطة أخاطب بها المسؤولين المحترمين -الوزراء المحترمين الحاضرين هنا، ورئيس مؤسّسة النخب المحترم، والسيّدة معاونة رئيس الجمهوريّة، وسائر المسؤولين- وهي أن ينظّموا البرامج والرؤى على أساس هذه الحقائق (الوقائع).

 

إنّ ما يسمعه الإنسان في هذا العام، عن الشباب النخب العلميّة، هو أنضج وأعمق بشكل محسوس عمّا كنّا نسمعه في العام الماضي، وعمّا كنّا نسمعه قبل سنتين، ومن باب أولى، عمّا كنّا نسمعه قبل عشرة أعوام، حول الشباب الجامعيّين والخرّيجين. ولقد كنت على تواصل دائم مع المجموعات الجامعيّة[1]. تعلمون أنّني أجتمع عدّة مرّات كلّ سنة، وبمناسبات مختلفة، مع الشباب ولدينا مثل هذه الجلسات التي يتحدّثون فيها ويطرحون وجهات نظرهم. أنا شخصيًّا، لديّ تقييمي خارج نطاق الخطط العامّة، أو غير العامّة للبلاد. في هذا التقييم، ألاحظ بَونًا ملموسًا بين ما لدينا اليوم، وما كان لدينا قبل عشرة أعوام، أي إنّ التقدُّم بدأ يعبّر عن نفسه بشكلٍ واضح. ينبغي للمسؤولين التخطيط للمستقبل، في ضوء هذا الواقع. إنّ النقاط التي ذكرها الشباب الأعزّاء هنا،


 


[1] عبّر سماحته: المجاميع العلميّة.

 

 

531


454

خطاب الولي 2009

هي بالضبط النقاط ذاتها الموجودة في ذهن الإنسان الذي يفكّر في قضايا المسيرة العلميّة للبلاد، ومستقبل البلاد وتقدّمها، ويبدو واضحًا أنّ الشباب يهتمّون بالمسائل الأساسيّة بعمق.

 

ما قاله أحد الشباب الأعزّاء: "يجب أن تتمّ الأنشطة على أساس احتياجات المستقبل. لذا، يجب رسم هذا المستقبل، وبلورة هذه الاحتياجات". وقد قال شابّ عزيز آخر في هذا المجال: "يجب أن نحدّد اتّجاه حركتنا بأنفسنا، لا أن نستكمل اتّجاه الحركة التي رسمها الآخرون -الغربيّون- ونرمّم قطع البازل لحياتهم المستقبليّة، يجب أن نشخّص احتياجاتنا، فنعمل على تحديدها"، هذه الكلمات كلمات كبيرة جدًّا، وهامّة للغاية. إنّها الأمور نفسها التي لو نظر أيّ إنسان واعٍ مفكّر مخلص ملتزم، نظرةً عامّة للمسيرة العلميّة للبلاد، لأدركها وتوصّل إليها. بَيدَ أنّ إدراكها غير كافٍ، مع أنّه أمر لازم، المهمّ هو التخطيط على أساسها. ذكر عدد من الشباب الأعزّاء هنا، آراءً حول "صناعة الثقافة" للنخبة، وأن نقوم بصناعة ثقافة التزام النخبة في المجتمع، ونشرها، وعدم الاكتفاء بالتوقُّع الصرف[1]. طبعًا، التوقُّع شيء منطقيّ، وفي محلّه، وهو ليس بالضرورة توقُّعًا في غير محلّه، ولكن ينبغي أن يكون إلى جانب هذا التوقُّع، شعور بالالتزام والمديونيّة، فأنا بوصفي فردًا من هذه الجماعة الكبيرة في البلاد، ما هو الواجب الملقى على عاتقي؟ وما الذي يتحتّم عليَّ أن أفعله؟ هذه أمور على جانب كبير من الأهمّيّة. ما قيل من أنّه: "يجب جعل عنصر المعنويّة الدينيّة، وليس المعنويّة الخالية من الدين، والمنفصلة عن الدين -وهي أساسًا ليست معنويّة، بل توهُّم- عنصرًا أصليًّا في المسيرة العلميّة والبحثيّة"، وما قالته إحدى السيّدات هنا، شيءٌ صحيح تمامًا. هذه من النقاط الأساسيّة التي ينبغي التنبُّه لها.

 

إذا حصل هذا، فسوف يتحقّق الطابع الأخلاقيّ للمجتمع الذي أشار إليه الشابّ العزيز، الذي تحدّث أخيرًا، وهو ما نصبو إليه، وقد ذكرناه مرارًا. إذ لا يمكن التحرّك بالشعارات، إنّما يجب التحرّك فعلًا، نحو الأهداف المرسومة.


 


[1] أو: وليس ثقافة التوقُّع والانتصار الصرف.

 

532


455

خطاب الولي 2009

حينما أسمع هذه الآراء منكم، أشعر بمزيد من الأمل، وأتيقّن أنّ هذا المجتمع وهذا النظام وهذه المجموعة، ومع المسيرة المادّيّة والمعنويّة والعلميّة والأخلاقيّة المحسوسة، ستصل إلى أهدافها، دون شكّ. ولهذا، فإنّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة يتمتّع بالمناعة.

 

المؤامرات ليست بوهم، لا تستهينوا!

أشاروا إلى الأحداث والقضايا الأخيرة. جيّد، هناك الكثير من الكلام في هذا الصدد. لا تتصوّروا أنّ الكلام الذي تقوله مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون، هو كلّ الكلام، لا، هناك الكثير من الكلام. ويُقال: "صدْرٌ كاملٌ من الكلام يتموّج على شفاهنا". ليس كلّ ما يشعر به الإنسان يقوله، أو يستطيع أن يقوله، هناك كثيرٌ من الكلام. أنتم الشباب، والحمد لله، أذكياء وموهوبون، وسوف تتّضح لكم تدريجيًّا، كثيرٌ من الحقائق. أرى في هذه الأحداث السياسيّة الأخيرة، وفي مجمل الأحداث التي وقعت طوال هذه الأعوام الثلاثين، أنّ البلاد تحوّلت، تدريجيًّا، إلى منظومة ذات مناعة مضادّة للضربات والقنابل، أي (هذا النظام) نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. ليس هذا بالهزل. لا تستهينوا بالقدرات الأمنيّة والتجسّسيّة والإعلاميّة لهذه الأجهزة الأمنيّة والإعلاميّة العالميّة المتنوّعة. يشعر الجميع بهذا -ولعلّه قلّما استطاع غير المتبحّرين في هذه المواضيع، رؤيةَ ذلك- لا تستهينوا بهوليوود. لا تستهينوا بالتأثير الفنّيّ -كما قالت إحدى السيّدات- في الغرب، والانتقاء الدقيق جدًّا للحروف الإعلاميّة[1] في العالم الغربيّ. فجميع هذه الطاقات الهائلة، بالإضافة إلى الثروات اللامتناهية، والأجهزة السياسيّة والإعلاميّة العظيمة، تهاجم الجمهوريّة الإسلاميّة. لن تجدوا اليوم، أيَّ بلدٍ في العالم، يتعرّض لكلّ هذه الهجمات، والجمهوريّة الإسلاميّة صامدة مقاوِمة. هل هذا بالهزل؟ فهذا الكائن القويّ المحنّك ذو المناعة يقاوم. ليست المؤامرة أمرًا متوهَّمًا، ليعلم شبابنا الأعزّاء هذا. لا تظنّوا أنّني أنزعج لسماع كلام كهذا، لا، إنّما أنزعج حينما لا يُطرح مثل هذا الكلام.

 

حينما أرى أنّ بعضهم في اللقاءات الطلّابيّة والجامعيّة، لا يطرحون كلامًا معيّنًا بسبب بعض الملاحظات، أو انطلاقًا من الاحترام، أو لأيّ سبب آخر، ظنًّا منهم أنّني أنزعج من هذا الكلام، الواقع أنّني


 


[1] أو: الصياغة الماهرة والدقيقة للمادّة الإعلاميّة والحبكة الفنّيّة في العالم الغربيّ.

 

 

533


456

خطاب الولي 2009

أنزعج لعدم طرحه، ولا أنزعج أبدًا لطرحه. ليت المجال كان يسمح للحديث، ليفتح الإنسان، عندئذٍ، أوراق كتاب الكلام المكدّسة على بعضها، لتتّضح الكثير من الحقائق. وبالطبع، سيحصل هذا في المستقبل.

 

فهم المؤامرة يحتاج إلى ذكاء

لا تظنّوا أنّ المؤامرة على هذا البلد وهمٌ. لا، إنّها حقيقة. المؤامرة تأتي من كلّ ناحية. قد يكون الشخص الذي يتحرّك داخل البلد، في اتّجاه تلك المؤامرة نفسه، وهو لا يشعر بذلك على الإطلاق.

 

إنّ فهم هذا أيضًا يحتاج إلى ذكاء. بعضهم لا يتحلّون بهذا الذكاء. لقد جرّبنا الأشخاص، لا يفهمون في أيّ اتّجاه يسيرون. بَيدَ أنّ هذا لا يغيّر الواقع، سواء فهموا أم لم يفهموا، علموا أم لم يعلموا، هذه المؤامرات موجودة. وفي الوقت نفسه، لا يتضعضع هذا البلد وهذا النظام، إطلاقًا، ولا يضعف، يتقدّم اليوم مجتمعه العلميّ، ومجتمعه المتطوّر -وهو أنتم أيّها الشباب-بشكل أوضح، منذ عشرة أعوام. ما معنى هذا؟ هذا يعني الحقّانيّة، يعني الأصالة، يعني التجذُّر: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ﴾[1]. هذه هي عقيدتنا. إنّنا نعمل بعقيدة راسخة في أعماق قلوبنا، وأنا لا أنكر النواقص. إنّني على معرفة بالنواقص، أكثر من كثير من الناقدين، غير أنّ السبيل لرفع النواقص ليس هذه الأمور التي تُتَصَوَّر أحيانًا، بأنْ تعالَ وأعلِن عن أنّ الوضع كذا في المكان الفلانيّ. لا، لا تصلح كثيرٌ من الأمور بالإعلان، بل بالعمل. ولا تصلح بالكلام، فالكلام والضجيج الإعلاميّ والمهاترات الكلاميّة، لا تقدّم أيّة مساعدة لحلّ المشكلات،كما رأيتم.

 

في قضيّة الانتخابات هذه، كان يجب أن تبدأ الدعاية الانتخابيّة قبل شهر مثلًا، أو عشرين يومًا من بدء الانتخابات، لكنّها بدأت قبل عيد النوروز! وهذا التلفزيون الذي ينتقده بعض الأصدقاء، كان – للأسف - يُظهِر ذلك، ولم أكن موافقًا. ولا تتصوّروا لأنّني أختار رئيس مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون، فإنّهم يأتون بجميع برامج الإذاعة


 


[1] سورة إبراهيم، الآية 24.

 

 

534


457

خطاب الولي 2009

والتلفزيون لأراها، واحدًا واحدًا، وأوقّع عليها، كلّا، أنا أيضًا غير راض عن كثيرٍ من برامج الإذاعة والتلفزيون. ومن ذلك، أنّني لم أكن راضيًا عن بثّ بعض الزيارات الدِعائيّة، والكلام الذي يُقال، والمظاهرات التي تخرج، والجدال الذي يدور من التلفزيون قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات -انتخابات الثاني والعشرين من خرداد- ومنذ شهر إسفند، أو حتّى قبل شهر إسفند. ولكن تمّ بثّها عبر التلفزيون، للأسف، وذلك لكي يقولوا: إنّنا متحرّرون فكريًّا! هذه أوهام. إنّه افتعالٌ للضجيج داخل البلاد. الضجيج الفكريّ يختلف عن النقاشات الصائبة.

 

منبرٌ حرّ

طلبت إيجاد كرسيّ التفكير الحرّ في الجامعات، طيّب، لماذا لم توجدوه أنتم الشباب؟ أوجِدوا كرسيّ التفكير الحرّ[1]، والتفكير المعرفيّ الحرّ في جامعة طهران، وفي جامعة شريف، وفي جامعة أمير كبير، وليذهب عدد من الطلبة الجامعيّين، ويطرحوا آراءهم، وينقدوا آراء بعضهم، ويناقشوا ويجادلوا بعضهم بعضًا، وهناك يكشف الحقّ عن نفسه. لا يظهر الحقّ بأنْ يَقذف شخصٌ نقدًا معيّنًا، ولن يُفهم الحقّ بصورة صحيحة على هذا النحو. إنّ خلقَ مناخٍ ذهنيٍّ مضطربٍ مشوّشٍ بالسجال الكلاميّ، لا يساعد أبدًا على تقدّم البلاد، خذوا تجربة أبيكم المسنّ هذا في هذا المجال. إنّ ما يساعد على تقدّم البلاد، هو الحرّيّة الفكريّة الحقيقيّة، أي التفكير بحرّيّة، وطرح الآراء بحرّيّة، وعدم الهلع من الضجيج والضوضاء، وعدم الالتفات أيضًا إلى التشجيع والتحريض. تارةً تطلقون كلامًا، وترون فجأةً، أنّ جميع المراقبين السياسيّين في العالم، المملوء كيانهم بالدرن والخبث، يصفّقون لكم، يجب أن لا يشجّعكم هذا الشيء. وبتعبير الشباب الدارج، يجب أن لا تسيطر عليكم الأجواء، يجب أن تناقشوا الموضوع بشكل صحيح ومنطقيّ، تسمعون كلامًا، وتقولون كلامًا، ثمّ تفكّرون جيّدًا. وهذا هو الأمر القرآنيّ: ﴿فَبَشِّرۡ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ﴾[2]، ينبغي استماع القول،


 


[1] أو "منبر الفكر الحرّ": مصطلح جديد أطلقه سماحته، ودعا إلى إيجاده في الجامعات منذ عدّة سنوات.

[2] سورة الزمر، الآية 17 و18.

 

 

535


458

خطاب الولي 2009

واختيار أحسنه، وإلّا هكذا تكون نتيجة إيجاد أجواء صاخبة، هكذا تكون نتيجة إيجاد صخب قبل الانتخابات وبعدها، خصوصًا حينما تتدخّل أيدي الأجانب. ما هو السبب، وما هو المبرّر الذي تظنّون أنّه يدفع الأجهزة الإعلاميّة في العالم، لنشر الأحداث التي يعتقدون أنّها تضرّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، لحظةً بلحظة؟ ما هي الحسابات التي تتمّ وفقها هذه العمليّة؟ ألا يجب التفكير في هذا؟ ألا ينبغي دراسة هذا؟ هذه هي الأشياء التي يتعيّن التفطّن إليها.

على كلّ حال، البلد يتقدّم. اعلموا هذا دون تردُّد: البلد يتقدّم، ولا شكّ أنّ في الخطط السابقة عيوبًا، إلّا أنّ محصّلة جميع النقاط، الإيجابيّة والسلبيّة، هي ما تشاهدونه اليوم.

 

لقد تقدّم شبابنا من الناحية العلميّة، وتقدّموا من حيث البصيرة السياسيّة، وتقدّموا من حيث رسوخ التفكير الدينيّ ونفوذه في أعماق عقولهم. هذا الكلام الذي قاله شبابنا هنا، حول المعنويّة والدين وعدم الاتّكال على التخمينات والخطط الغربيّة والاستقلال -هذه الأفكار التي أصبحت اليوم من آرائكم السائدة- كانت قبل عهدكم بقليل، من الأفكار البارزة لمثقّفين كانوا يتصوّرون أنّ من واجبهم التحدّث بها أو فهمها! أمّا اليوم، فهي جزء من الثقافة الرائجة في مجتمعنا. أليس هذا تقدُّمًا؟ إنّنا نتقدّم. طبعًا، لدينا كثير من الأعداء، وأمامنا كثير من العقبات. لو لم تكن هناك عقبات، لَما ازدادت فاعليّتنا، ولَما تطوّر أداؤنا بهذا الشكل، ولَما اكتسب المجتمعُ الإسلاميّ والجمهوريّة الإسلاميّة كلَّ هذه المهارة. هناك عقبات، وإلّا فالسير على الأرض المنبسطة السويّة، لا يقوّي العضلات، ينبغي تسلّق الجبال والصعود على العقبات وتجاوزها. وقد فعل مجتمعنا هذا الشيء، وسار في هذا الطريق، وسوف يسير أيضًا. اعلموا أنّ الجيل الشابّ اليوم، ليس جيلًا يمكن إيقاف مسيرته.

 

"لا يمكن قصف العلم!"

وأوصيكم هنا: إنّ العلم هو رمز تقدُّم البلاد، أي إنّه المحور الرئيس لقوّة البلد، أو التقدُّم المترافق مع القوّة. إنّ المستهدَف من كثير من المؤامرات التي تحاك اليوم

 

 

536


459

خطاب الولي 2009

ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة، هو العلم وأهل العلم والطلبة الجامعيّون والبيئة العلميّة، تنبّهوا لهذا الشيء. لا تسمحوا لهذا السهم الذي أطلقه الأعداء، أن يصيب الهدف الذي يريدونه، لا تسمحوا بتوقُّف العمل العلميّ. وما هو أهمّ من كلّ هذا الكلام الذي قيل، هو قضيّة العلم والبحث والتحقيق. إنّ ثروة العالم الغربيّ، إنّما هي بفضل العلم، وكذلك اقتداره ومنطق القوّة الذي يستخدمه في الوقت الراهن، إنّما كان بسبب ما لديه من علم. فالمال بذاته لا ينتج القوّة، وإنّ الذي يأتي بالقوّة هو العلم. لو لم يكن لأمريكا اليوم تقدّمها العلميّ، لَما استطاعت ممارسة كلّ هذا التعسّف في العالم، والتدخّل في كلّ قضايا العالم. حتّى الثروة التي تُجنى، إنّما هي بسبب العلم. اهتمّوا بالعلم. هذا هو ما يجعلني أشدّد منذ سنوات، على قضيّة العلم، والبحث العلميّ، والتقدُّم، والإبداع، وتحطيم حدود العلم. إنّ قوّة البلد أمر غير ميسور، من دون أنواع العلم. العلم يبعث على الاقتدار.

 

قالوا: فلنقصف المراكز النوويّة الإيرانيّة. وقال أحد الرؤساء في العالم - ولا أريد ذكر اسمه الآن[1] - قال: "لا يمكن قصف العلم"، وهو على حقّ. على الرغم من كلّ الأكاذيب التي يقولونها، إلّا أنّ قولهم هذا صحيح. لنفترض أنّهم قصفوا نطنـز، وقصفوا معمل إصفهان، فكيف سيقصفون العلم؟ لاحِظوا أنّ العلم يُفرز المناعة والاقتدار. احذروا من أن يعملوا على إيجاد اختلال في جامعاتكم، وفي صفوفكم، وفي مراكزكم البحثيّة، وفي مشاريعكم البحثيّة. إذا شاهدتم يدًا تمارس الإخلال، أسيئوا الظنّ بها. إنّهم يستهدفون اقتداركم ومستقبلكم.

 

لوازم الاستقلال: استقلال الحركة العلميّة، والفنّيّة، والسياسيّة

لديّ كثيرٌ ممّا أقوله لكم، خصوصًا أنتم الشباب. النقطة التي ذكرَتها السيّدة الفنّانة، أعتقد أنّها على جانب كبير من الأهمّيّة، هذا هو أحد الأعمال. يأتي أشخاص ويتعرّفون إلى مذاق الأسواق الغربيّة وحاجاتها، مثلًا، حاجاتها إلى لوحات الرسم، ثمّ يأتون إلى

 


 


[1] استطرد سماحته قائلًا: "الجميع يعلم ذلك طبعًا، وربّما كنتم تعلمون، فقد أُذِيع ذلك في العالم. وأنا لا أرغب أن أذكر أسماء بعضهم".

 

 

537


460

خطاب الولي 2009

هنا، ويقدّمون الدعم الماليّ، ويدفعون رسّامينا إلى تأمين تلك الحاجات. وتحدُث مثل هذه الحالة بالضبط في إخراج الأفلام. يرشّحون أفلامًا للمهرجانات، تتماشى مع إرادتهم. وتحصل مثل هذه القضيّة تمامًا في العمل العلميّ، في البحث الذي يُنشَر في الـ آي.أس.آي (ISI)، وفي موضوع البحث الذي تختارونه في مراكزكم البحثيّة. يأتي الـsrosnops [1]- بالتعبير الأجنبيّ الدارج اليوم للأسف- وينتشرون في القطاعات المختلفة، ويقدّمون المساعدات الماليّة والمادّيّة لإنجاز الأعمال بالاتّجاه الذي يريدونه. لا تغب هذه النقطة عن بالكم. من جملة لوازم الاستقلال العلميّ للبلاد، استقلال الحركة العلميّة، والحركة الفنّيّة، ومن باب أولى، الحركة السياسيّة. بعض الحركات السياسيّة هي من هذا القبيل.

 

نِعَمٌ تستوجب الشكر

وما أريد أن أوصيكم به، أنّ نعمة المواهب الجيّدة التي تتمتّعون بها، هي نعمة كبيرة، كنعمة السلامة، وكنعمة الحياة ذاتها، وهي تستوجب الشكر، فالنعم هي من الله، ويجب شكرها. احفظوا هذه الوصيّة منّي في أذهانكم. إنّنا لا نعرف كثيرًا من النعم، إلّا حينما نُبتلى بضدّها وبخلافها. الشباب نعمة، وعند الشيخوخة يفهم الإنسان أكثر، كم هي نعمة عظيمة. الموهبة الجيّدة، والذكاء الجيّد، نِعَمٌ كبيرة يجب شكرها.

 

ما هو الشكر؟ للشكر ثلاثة أجزاء: الأوّل، معرفة النعمة، وعدم الغفلة عنها، والثاني، معرفة أنّ هذه النعمة من عند الله، وأنّها عطيّة وهديّة إلهيّة، والثالث، هو استخدام هذه النعمة بالاتّجاه الصحيح. ينبغي استخدام نعمة الموهبة الجيّدة بالاتّجاه الصحيح. هذا هو ما يوقظ روح الالتزام والمسؤوليّة لدى الإنسان. الالتزام تجاه المجتمع، وتجاه مستقبل البلد، وتجاه هذه المجموعة الهائلة من الإمكانات التي تُعَدّ النخبة والمواهب، من ثمّ، ثمرتها وحصيلتها، هكذا يكون شكر النعمة. يجب أن لا يعتبر الإنسان نفسه جزيرة منفصلة عن منظومة المجتمع، ولا أن يتصوّر أنّه قد توصّل الآن، إلى إمكانيّة، وإلى ثروة معنويّة معيّنة، فيجب أن يحوّلها إلى ثروة مادّيّة وشخصيّة، ليست القضيّة كذلك، ينبغي توظيف الإمكانيّات في سبيل مستقبل البلاد.


 


[1] الرعاة: sponsors.

 

 

538


461

خطاب الولي 2009

أوصي المسؤولين أيضًا، ووصيّتي للمسؤولين تتعلّق قبل كلّ شيء، بالشكر أيضًا، شكر نعمة وجود النخب. وهنا أيضًا، ينطوي الشكر على تلك الأجزاء الثلاثة، المعرفة: يجب أوّلًا، معرفة النخب، ثمّ أن نعرف أنّ هذه النخبة هي من النعم الإلهيّة، وأنّ الله هو الذي منحها لنا ولمسؤولي النظام، وبعد ذلك، يجب أن نستفيد من هذه المجموعة الهامّة والمحترمة والعزيزة -أي مجموعة النخب والمواهب المتفوّقة - في الاتّجاهات الصحيحة.

 

"هذه مؤاخذتنا على مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون"

فيما يتعلّق بهذه العبارات التي أشار إليها هذا الشابّ العزيز من شبابنا، يجب القول: إنّ الكلام كثيرٌ، كما أشرنا. حينما ننتقد عدم إنصاف مؤسّسة معيّنة أو شخص معيّن، يجب أن لا نقع نحن أنفسنا في عدم الإنصاف، ينبغي التفطّن لهذه المسألة. هل تعرض الإذاعة والتلفزيون الوضع الحقيقيّ للبلد؟ لا، إنّها تعرضه بشكل ناقص. هناك الكثير من التطوّرات البارزة والكبيرة، لا تعرضها الإذاعة والتلفزيون. الدليل على ذلك هو أنّكم أنتم مجموعة ذات علاقة بأحداث مختلفة، غير مطّلعين على كثير من حقائق البلاد، وحالات التقدُّم الحاصلة فيه. هذا بسبب النقص الذي تعاني منه مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون عندنا. وإلّا لو استطاعت هذه المؤسّسة، وكما يفعل تلفزيون البلد الغربيّ الفلانيّ، بما له من تجارب وسوابق طويلة، وباستخدام الأساليب الفنّيّة لقلب أكاذيبه إلى أحاديث صادقة، لو استطاعت عرض حقائق البلاد، لكان أمل الجيل الصاعد، وحبّ جيل الشباب لبلاده، ولدينه ولنظامه، نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، أعظم بكثير ممّا هو عليه الآن. هذه هي مؤاخذتنا على مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون. لو كانت تستطيع عرض واقع البلاد بصورة صحيحة، لكان شغف المشاهدين وابتهاجهم أكبر بكثير ممّا هو عليه اليوم.

 

والتعبير فنٌّ أيضًا

يتمّ إنجاز الكثير من الأعمال التي تبعث على السرور والارتياح، لا في المجالات العلميّة وحسب، بل على المستويات الاجتماعيّة والسياسيّة أيضًا، ممّا يستدعي الفخر

 

 

539


462

خطاب الولي 2009

والاعتزاز. هذه أمور لا يعلمها الكثيرون، بل لا تعلمها الأغلبيّة. كثيرًا ما أعترضُ على مسؤولي الحكومة، بالقول: لماذا لا تستطيعون التعبير عن الأعمال المنجزة؟ التعبير فنّ من الفنون أيضًا.

 

التعبير والبيان فنّ خاصّ وكبير، لكنّهم لا يتحلّون به.

 

من المؤاخذات التي نسجّلها عادة، على بعضهم، هي أنّهم يوافقون ويقبلون ما يقوله الأجنبيّ، ويشكّكون فيما يقوله الأصدقاء. لماذا؟! هذه الطريقة طريقة غير سليمة وغير صحيحة، ويجب إصلاحها. طبعًا، ستدخلون أنتم الشباب الجيّدين، إن شاء الله، المجالات المختلفة، وتستلمون المجالات الإعلاميّة للبلد، كذلك الحال فيما يخصّ صحافتنا. إنّني أشاهد في الأيّام الاعتياديّة، قرابة ستّ عشرة أو سبع عشرة صحيفة. طبعًا، لا أشاهد صفحاتها الداخليّة كافّة، لكنّني أقرأ العناوين وبعض الافتتاحيّات اللافتة. كثير من صحفنا ضعيفة، للأسف، في نقل الحقائق، وتعمل بشكل غير منصف، في الخلط بين القضايا الأصليّة والفرعيّة. في هذه القضايا الأخيرة، ينبغي تصنيف الأمور إلى أصليّة وفرعيّة. ما هي القضيّة الأصليّة، وهناك جملة من القضايا الفرعيّة حولها. هذا لا يعني أنّ القضايا الفرعيّة قليلة الأهمّيّة، لكنّ القضيّة الأصليّة أهميّتها أكبر من تلك القضايا.

 

التشكيكُ في الانتخابات الجريمةُ الأكبر

القضيّة الأصليّة في الأحداث الأخيرة، هي الانتخابات. كان التشكيك في أصل الانتخابات، أكبر جريمة ارتُكِبَت. لماذا تُغمضون أعينكم عن هذه الجريمة؟! تُبذَل كلّ هذه الجهود، ويأتي الناس، وتحصل مشاركة بهذه العظمة، ويتحطّم الرقم القياسيّ للسيادة الشعبيّة في العالم، في الديمقراطيّة التي يتشدّقون بها كلّ تشدُّق، ثمّ يأتي عدد من الأفراد، ومن دون أيّ دليل أو برهان، ليقولوا في اليوم الثاني من الانتخابات: إنّ الانتخابات كذب! هل هذا بالشيء القليل؟! هل هذه جريمة بسيطة؟! ينبغي رعاية الإنصاف قليلًا، في هذه القضايا. وقد استغلّ العدوّ هذه الحالة إلى أقصى الحدود. وهناك بعضٌ في داخل البلد، لم يكونوا يؤيّدون نظام الجمهوريّة الإسلاميّة منذ البداية -ليس موقفهم وليد اليوم أو الأمس القريب، إنّهم لا يؤيّدون هذا النظام منذ ثلاثين

 

 

540

 


463

خطاب الولي 2009

عامًا- استغلّوا هذه الفرصة، ووجدوا أنّ عناصر تابعة للنظام نفسه، ومن داخل النظام، يعملون على إفساح المجال بهذه الصورة، لذلك، استغلّوا الفرصة، ونزلوا إلى الساحة، ورأيتم ما حصل.

 

لقد بعثتُ رسالة منذ اليوم الأوّل، لهؤلاء السادة الذين يوجّهون هذه القضايا ويديرونها، بعثتُ لهم في الساعات الأولى، رسالة خاصّة. حينما أقول شيئًا في صلاة الجمعة، فليس ما أقوله هو بداية الأمر الذي لا شيء يسبقه، هناك كلام خصوصيّ ورسائل خصوصيّة، ونصائح ضروريّة قد وُجِّهَت. وحينما يضطرّ الإنسان، سيطرح بعض الأمور في العلن. لقد بعثتُ رسالة، وقلت لهم: إنّكم تبدؤون شيئًا لا تستطيعون السيطرة عليه إلى النهاية، وسوف يأتي الآخرون وينتهزون هذه الفرصة. فهل رأيتم الآن، كيف جاؤوا وانتهزوا هذه الفرصة؟ شطبوا شعار الموت لإسرائيل! شطبوا شعار الموت لأمريكا! ما معنى هذا العمل؟ مَن يدخل إلى ساحة العمل السياسيّ، ينبغي له أن يكون كلاعب الشطرنج، ماهرًا، فلا يقوم بأيّة خطوة إلّا بعد أن يتوقّع الخطوات الثلاث أو الأربع اللاحقة التي تترتّب على خطوته. أنتَ تقوم بهذه الخطوة، وسوف يقوم منافسك بخطوة مقابلة. ينبغي أن تفكّر به، ما هي الخطوة التي سوف يُقدِم عليها؟ وإذا وجدتَ أنّكَ سوف تُحاصَر غدًا بخطواته، فلا تُقدِم على خطوتك هذه اليوم. وإذا أقدمتَ، ستكون غير ماهر -بالتعبير الملطّف- في هذه العمليّة، وفي هذه اللعبة، وفي هذه الخطوة. هؤلاء لا يفهمون ماذا يفعلون، يبدؤون خطوة، ولا يلتفتون كيف سيحاصَرون ويسقطون في الخطوات والحركات اللاحقة واللاحقة واللاحقة. كان ينبغي لهم أخذ هذه الأمور بالحسبان، هذه هي القضيّة الأصليّة. إنّ التشكيك في الانتخابات ومواجهة مجموعة من الناس[1] للنظام والبلاد، بتحرّكات عامّة في البلد، هذه ليست أمورًا صغيرة. إذا كنتم منصفين، لاحِظوا تلك التحرّكات الجانبيّة والقضايا الفرعيّة، ولاحِظوا أهميّتها، ولكن لاحِظوا أيضًا تفوُّق هذه القضيّة في الأهمّيّة.


 


[1] استطرد سماحته: ولم يكونوا يحملون أيّة نوايا سيّئة، بل شاركوا في الانتخابات، وعملوا وفقًا لِما يعتقدونه، وكان ذلك جيّدًا جدًّا.

 

 

541


464

خطاب الولي 2009

أنا طبعًا، في الاجتماعات التي تجمعني بكم، آسف أن أتحدّث بشيء سوى الكلام العلميّ، والكلام المعنويّ، وسوى النصائح، وأن أخوض في الشؤون السياسيّة وأمورٍ من هذا القبيل، لكنّني كنتُ مضطرًّا للحديث بهذا المقدار. وما قالوه، من أنّهم لا ينتقدون القيادة، اذهبوا أنتم وقولوا لهم: انتقِدوا. لم نقل: لا ينتقدها أحد، ليس لدينا مشكلة مع النقد. إنّني أرحّب بالنقد، أرحّب بالنقد، وهم ينتقدون طبعًا، وليس هذا موضع إيضاح هذه المسألة. هناك انتقادات تُوَجَّه، وهي كثيرة، وليست قليلة، وأنا أستلم الانتقادات وأفهمها.

 

نتمنّى أن يهدينا الله -تعالى- جميعًا، للاتّجاه الذي يُرضيه، وأن يجعل مستقبلكم جميعًا، أفضل من ماضيكم، إن شاء الله، ويجعلكم مبعثًا لشموخ بلدكم، وسوف ترون أنتم الشباب ذلك اليوم -وسوف تذكروننا بخير، إن شاء الله- الذي يصل فيه بلدكم إلى ذروة الاقتدار.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

542

 

 


465

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء حشد من الطلّاب بمناسبة 13 آبان

 

 

         

         

المناسبة:   13 آبان اليوم الوطنيّ لمقارعة الاستكبار

الحضور:  حشد كبير من طلبة المدارس والجامعات في الجمهوريّة الإسلاميّة

المكان:   طهران

 

الزمان:    12/08/1388هـ.ش.

15/11/1430هـ.ق.

03/11/2009م.

 

         543

 


466

خطاب الولي 2009

أرحّب بكم جميعًا، أيّها الشباب الأعزّاء، والطلبة الجامعيّون، وطلّاب المدارس، وعوائل الشهداء المعظّمون.

 

الكفاح والمواجهة: طرقٌ وأساليب

أطلق شعبنا ومسؤولونا على يوم الثالث عشر من آبان، اسم "يوم مقارعة الاستكبار العالميّ". المقارعة والكفاح أمر مهمّ ومعقّد، كلّ ظاهرة يمكن محاربتها بطريقة معيّنة: يجب محاربة العدوّ الذي يهاجم البلد عند الحدود بطريقة معيّنة، ويجب محاربة العدوّ الذي يستخدم الأساليب الأمنيّة بطريقة أخرى. ويجب محاربة العدوّ الذي يهدّد أساس الشعب والمجتمع والبلد، ويعادي الشعب من الأساس، ويستخدم مختلف الأساليب، بطريقة معيّنة.

 

الكفاح الصحيح والمنطقيّ والمعقول، وفي الوقت ذاته، الحاسم، يحتاج إلى عدّة أمور:

المحفّزات النابعة من الإيمان

الأوّل، الحافز النابع من الإيمان. لا يمكن فرض الصمود في الميدان، على الشباب وعلى الأمّة، بواسطة القانون. يجب أن تتدفّق المحفّزات من القلب، ويجب أن تكون المحفّزات نابعة من الإيمان. هذا شيء متوفّر لدى شبابنا اليوم بالحدّ الكافي، إنّني أقول عن معرفة بجيلنا الشابّ وشرائحنا الشبابيّة. شبابنا اليوم، لديهم دوافع أكثر، وليست أقلّ من شباب سنة 57 (79)، حيث هجم النظام البهلويّ العميل لأمريكا على شبابنا في هذه الشوارع، وضرّجهم بالدماء. ودوافع شبابنا ليست بأقلّ، إن لم تكن أكثر من اليوم الذي توجّه فيه جمع منهم، واحتلّوا السفارة الأمريكيّة التي غدت آنذاك، مركزًا

 

 

545


467

خطاب الولي 2009

ومقرًّا للتآمر ضدّ الثورة. والسبب واضح، لأنّ هناك ثلاثين عامًا من التجارب المتراكمة في تاريخ هذا الشعب. وإنّ ذهنيّة الشباب اليقظة، وعيونهم المفتّحة تستلهم تلك التجارب، وإن لم تشهد تلك الأيّام. تزداد تجارب الشعب غنًى وعمقًا وفائدةً، جيلًا بعد جيل. إذًا، شبابنا اليوم لا تعوزهم الدوافع على الإطلاق. بغضّ النظر عن بعض الثوريّين المهترئين النادمين، الذين بدؤوا، ولأسباب شتّى، يفضّلون الحياة الرغيدة والاستسلام، أو الذين لا يرون التناغم مع العدوّ وتوجيهاته عيبًا، فإنّ شباب البلد، وأكثريّة أبناء الشعب، ومعظمهم من الشباب، يمتلكون هذه المحفّزات العميقة. أقول لكم: لو وقع اليوم حدث مثل الحرب المفروضة التي وقعت سنة 59 (1980)، لكان تدفُّق الشباب على الجبهات، وتطوُّعهم لمواجهة العدوّ العلنيّ المهاجِم، أكبر من سنة 59 و60.

 

بصيرةٌ شديدة اليقين

العنصر الآخر الضروريّ هو البصيرة. حين ترون أنّي أشدّد في لقاءاتي بالشباب والطلّاب وشرائح الشعب المختلفة، على البصيرة، وأكرّر ذلك، فذلك لأنّ أيّ حركة عامّة تحتاج إلى بصيرة عامّة في هذا الواقع العالميّ المعاصر، والبالغ الأهمّيّة، والموقع الاستثنائيّ لبلدنا العزيز، وهو وضع ممتاز في العالم اليوم. وطبعًا، أقول لكم أيضًا: إنّ بصيرة شبابنا اليوم، هي بالتأكيد أشدّ من بصيرة الشباب في مطلع الثورة وأثناء الثورة. تعلمون كثيرًا من الأمور اليوم، وهي من الواضحات لكم، بينما كان يجب أن نشرحها ونبيّنها للشباب يوم ذاك، لكنّ شبابنا اليوم يدركون هذه الأمور، فالبصيرة عالية. ومع ذلك، أشدّد على البصيرة.

 

معنى الاستكبار

المسألة الأولى في البصيرة هي: ما هو هذا الاستكبار الذي يجب مقارعته؟ الاستكبار معناه وجود قوّة في العالم، أو عدّة قوى تنظر إلى نفسها، فتجد أنّها ذات إمكانات ماليّة وتسليحيّة وإعلاميّة، لذلك تعطي لنفسها الحقّ بالتدخّل في شؤون حياة البلدان والشعوب الأخرى، تدخُّلَ المالكين. هذا هو معنى الاستكبار، روح التسلُّط. هذا شيء كان قائمًا بصورة واضحة في بلادنا، قبل الثورة. أي إنّ أمريكا المتكبّرة قد غرست أظافرها

 

546

 


468

خطاب الولي 2009

في هذا البلد الكبير، وفي هذا الشعب العظيم، بما له من تاريخ غنيّ، وراحت تتدخّل في الأمور المهمّة والأساسيّة لبلادنا. والسبب هو أنّ ساسة البلاد كانوا فاسدين، ولم تكن لهم مكانة بين الشعب، وكانوا يبحثون لهم عن سند، فاعتمدوا على أمريكا. وأمريكا لا تعطي لأحد شيئًا بالمجّان، فجعلَت دعمهم رهنًا بتدخّلها التامّ في شؤون البلاد. ربّما كان غريبًا لكم، ولكن اعلموا أنّ الشاه، محمّد رضا، اضطرّ من أجل عزل رئيس وزراء وتنصيب رئيس وزراء آخر مكانه، إلى السفر لأمريكا، والبقاء هناك أسبوعَين أو ثلاثة، ليحصل على موافقتهم في عزل زيد وتنصيب عمرو مكانه! وصلَت الأمور في بلادنا إلى هذه الدرجة. وأصبح الأمر أشدّ قباحة في السنوات الأخيرة من الحكم البهلويّ. لم تبقَ القضيّة قضيّة سفر إلى أمريكا. كان السفير الأمريكيّ والسفير البريطانيّ هنا، يذهبان إلى قصر الشاه، ويقولان له: اعمل بالطريقة الفلانيّة في قضيّة النفط، واعمل كذا وكذا في العلاقات الدوليّة، تصرّف هكذا مع الشعب، وتصرّف هكذا مع المعارِضين! كانوا يصدرون له الأوامر، والشاه يقبل. حينما يكون رئيس البلاد ضعيفًا وخائرًا ومستسلمًا أمام الأجانب إلى هذه الدرجة، فما بالك بالآخرين؟ هكذا كان وضع بلادنا، وهذا هو معنى الاستكبار.

 

أمريكا مستكبِرة بكلّ ما للكلمة من معنى. والقضيّة ليست قضيّتنا وحسب، بل قضيّة العالم، قضيّة العالم الإسلاميّ. يحمل الأمريكيّون هذه الروح الاستكباريّة حيال أنحاء العالم كلّه. في الحرب العالميّة الثانية، وبعد أن هزموا اليابان، أنشؤوا لهم هناك قواعد، لا تزال موجودة هناك، ولم يستطع اليابانيّون، مع كلّ تقدّمهم العلميّ، إغلاق القواعد الأمريكيّة في بلادهم! لديهم هناك قواعد عسكريّة، يظلمون الناس ويؤذونهم، وقد جاء في الصحف ووكالات الأنباء أنّهم يعتدون على الأعراض، ولديهم ممارسات مشينة أخرى، لكنّهم لا يزالون هناك. وفي كوريا الجنوبيّة أيضًا، لا تزال القواعد العسكريّة الأمريكيّة موجودة. والمخطّط الأمريكيّ في العراق أيضًا، هو أن يُنشِئوا قواعد لهم، ويبقون فيه خمسين سنة أو مئة سنة. وفي أفغانستان، التي تشكّل نقطة (مركزيّة)، لو كان لهم فيها قواعد، لمكّنهم ذلك من الهيمنة على بلدان جنوب غرب آسيا، وروسيا، والصين، والهند، وباكستان، وإيران. يبذلون تلك الجهود كلّها هناك، ليؤسّسوا لهم قواعد دائمة، وليبقوا. هذا هو معنى الاستكبار.

 

 

547


469

خطاب الولي 2009

"فعلوا كلّ ما استطاعوا"

لقد طرد الشعبُ الإيرانيّ أمريكا من هذا البلد، بإسقاطه النظام العميل لها. كان بمقدور الأمريكيّين بعد الثورة مباشرة، أن يراجعوا أنفسهم، ويجدوا أنّ هذا الشعب مقتدرٌ إلى هذه الدرجة، وبوسعه اقتلاع النظام المدعوم من قبل الشرق والغرب، وباستطاعته إسقاط النظام الملكيّ، بماضيه الممتدّ إلى 2500 سنة. كان بإمكانهم الاعتذار من الشعب الإيرانيّ، وتعويض الخسائر والأضرار التي وجّهوها للشعب الإيرانيّ، والتي يمكن تعويضها. لو كانوا قد فعلوا ذلك، لانتهت مشكلتهم مع إيران. هذا، مع أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة ستبقى تعارض الظلم الذي يرتكبونه في العالم الإسلاميّ، ولكن لو حصل هذا (الاعتذار)، لخفَّ هذا السجال الشديد بينهم وبين الجمهوريّة الإسلاميّة وشعب إيران. لكنّهم لم يفعلوا ذلك. لم يعتذروا، ولم يعتبروا من سقوط النظام الملكيّ. إنّما وضعوا أيديهم على مقابض أسلحتهم، منذ اليوم الأوّل، وغدت سفارتهم مقرّ تآمر، ووكر تجسُّس، وبؤرة اتّصالات مشبوهة لتحريض هذا وذاك، عسى أن يستطيعوا إسقاط الجمهوريّة الإسلاميّة وهزيمتها. ارتكب الأمريكيّون هذا الخطأ الكبير، ثمّ فعلوا كلّ ما يستطيعونه ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة، وضدّ شعبنا العزيز وبلدنا. ومن نماذج ذلك، الهجوم على طبس، وإسقاط طائرة الركّاب الإيرانيّة، حيث قتلوا نحو ثلاث مئة إنسان في الخليج الفارسيّ، بضربهم الطائرة المدنيّة وإسقاطها في الماء. ومن النماذج الأخرى، هجماتهم على أرصفة النفط الإيرانيّة، حيث هاجموا أرصفتنا النفطيّة في الخليج الفارسيّ في عهد ريغان. ومن الأمثلة الأخرى، مساعدتهم الشاملة لصدّام البعثيّ الخبيث، عسى أن يستطيع الانتصار علينا في الحرب، وتوجيه ضربة للجمهوريّة الإسلاميّة. إذا أردنا إعداد لائحة بجرائم أمريكا من هذا القبيل، لشكّلَت هذه الجرائم كتابًا. ذات مرّة، صرّح أحد وزراء الدفاع الأمريكيّين بمكنون قلوب الأمريكيّين، وقال: علينا استئصال جذور الشعب الإيرانيّ! لاحِظوا، جذور الشعب الإيرانيّ، وليس الحكومة الإيرانيّة، ولا الجمهوريّة الإسلاميّة. كان يفهم القضيّة بصورة صحيحة، ويدرك أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة تعني الشعب، ومسؤولي الجمهوريّة الإسلاميّة يمثّلون كلّ الشعب الإيرانيّ، لذلك يقول: إنّ علينا استئصال جذور الشعب الإيرانيّ. كان هذا

 

 

548

 


470

خطاب الولي 2009

أسلوب الأمريكيّين، وقد فعلوا كلّ ما يستطيعون فعله.

 

قال إمامنا الجليل، الذي كان رجلًا استثنائيًّا في التاريخ بحقّ، مقابل كلّ هذه الممارسات: كلّما تآمرتم أكثر، ارتدَّت الخسائر عليكم، والجمهوريّة الإسلاميّة لن تتراجع، وأمريكا ليس بمقدورها ارتكاب أيّ حماقة، هذا هو الاستكبار. ليس للجمهوريّة الإسلاميّة مجاملات مع أيّ حكومة، بَيدَ أنّ الحكومة التي قُطِعَت يدُها عن المصادر الماليّة والبشريّة الهائلة للبلد، والتي مارسَت كلّ أشكال التآمر، هي الحكومة الأمريكيّة. تآمرت الحكومة الأمريكيّة ضدّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، وضدّ شعب إيران، طوال ثلاثين سنة، ووجَّهَت الضربات المتنوّعة، وخطّطَت ودبّرَت بأشكال مختلفة، وفعلَت كلّ ما استطاعت. إذا تصوّرتم أنّه بقي شيء يمكن للأمريكيّين فعله، ولم يفعلوه، فاعلموا أنّه ليس هناك مثل هذا الشيء. لقد فعلوا كلّ ما استطاعوا.

 

وهل هذه مفاوضات؟

حسنًا، تلاحظون أنّ نتيجة هذه المواجهة هي مزيد من التقدُّم والرفعة للشعب الإيرانيّ والجمهوريّة الإسلاميّة، وقوّة متزايدة أحرزها هذا البلد وهذا النظام، هم الذين تضرّروا. وقد صدرَت عنهم أحيانًا، في هذه المدّة، كلماتٌ ظاهرها طلب المصالحة، لكنّهم كلّما كانوا يبتسمون لمسؤولي الجمهوريّة الإسلاميّة، لاحظنا أنّهم يخفون خنجرًا وراء ظهورهم. لم يقلعوا عن التهديد، ولم تتغيّر نواياهم، فالضحك التكتيكيّ، والابتسام، والوجه المنشرح التكتيكيّ لا يخدع إلّا الأطفال. من السذاجة بمكان، أن يُخدَع شعبٌ بهذه العظمة والتجارب، والمسؤولون المنتخَبون من قبل مثل هذا الشعب، وإذا ما انطلت عليهم الخدع، فهم إمّا سذّج، أو أنّهم غارقون في الأهواء والنـزوات، ويلهثون وراء حياة الدعة والراحة والعافية، ويريدون التناغم مع العدوّ. وإلّا إذا كان مسؤولو البلاد أذكياء ويقظين وأصحاب تجربة وناضجين ومنشدين من الأعماق لمصالح الشعب، فلن يخدعهم الابتسام. قال رئيس الجمهوريّة الأمريكيّ الجديد هذا: كلامًا جميلًا، وبعث لنا عدّة رسائل شفهيّة ومكتوبة، أن تعالوا نقلب الصفحة، ونبدأ وضعًا جديدًا! تعالوا نتعاون سويًّا لمعالجة مشكلات العالم، إلى هذا الحدّ! وقلنا: لن نصدر أحكامًا

 

 

549


471

خطاب الولي 2009

مسبقة، وإنّما ننظر إلى الأعمال. قالوا: نريد إيجاد تغييرات، قلنا: طيّب، لنرَ التغييرات. منذ يوم الأوّل من فروردين[1]، حينما خطبتُ في مشهد، قلتُ: إذا مددتم نحونا يدًا حديديّة عليها قفّاز من مخمل، فلن نمدَّ أيدينا لمصافحتها. وجّهتُ هذا التحذير هناك، ومضت الآن ثمانية أشهر على ذلك. طوال هذه الأشهر الثمانية، ما رأيناه كان بخلاف ما قالوه بألسنتهم، وأبدوه في ظاهرهم. ظاهر القضيّة: تعالوا نتفاوض، ولكن هناك إلى جانب التفاوض تهديد، بحيث لو لم تصل المفاوضات إلى هذه النتيجة المطلوبة، سيحدث كيت وكيت! فهل هذه مفاوضات؟! إنّها علاقة الذئب والحمل، التي قال عنها الإمام: نحن لا نريد علاقة الذئب والحمل. تعالوا اجلسوا معنا على طاولة المفاوضات لنتفاوض حول الموضوع الفلانيّ، حول الموضوع النوويّ مثلًا، لكن شريطة أن تنتهي المفاوضات إلى النتيجة الفلانيّة، مثلًا، تخلّي البلد عن النشاط النوويّ، وإنْ لم تصل المفاوضات لهذه النتيجة، سنفعل كذا وكذا، تهديد.

 

نحن طلّاب علم وحريّة واستقلال

إنّني أستغرب، لماذا لا يعتبرون من الوضع السابق؟ لماذا هم غير مستعدّين لمعرفة شعبنا؟ ألا يدرون أنّ هذا الشعب صمد يوم كانت في هذا العالم قوّتان عُظمَيان مختلفتان في جميع الأمور تقريبًا، باستثناء معاداة الجمهوريّة الإسلاميّة -كانت هاتان القوّتان العُظمَيان، أي أمريكا والاتّحاد السوفياتيّ السابق، متّحدتَين فقط في معاداة الجمهوريّة الإسلاميّة- وانتصر على هاتَين القوّتين العُظمَيَين؟ لماذا لا تعتبرون؟ إنّكم اليوم، لا تمتلكون حتّى القدرة التي كانت لكم يوم ذاك. الجمهوريّة الإسلاميّة اليوم أقوى بمرّات ممّا كانت عليه يومذاك، وما زلتم تتكلّمون بهذه اللغة؟ هذا هو الاستكبار. إنّ التحدّث مع شعب من موقع الاستكبار، وممارسة التهديد ضدّه -وإذا لم تفعلوا كذا، سنفعل كذا- يجعل شعبنا يقول: نحن صامدون.

 

ما تريده الجمهوريّة الإسلاميّة، ليس أكثر من حقّها المعقول. تنشد الجمهوريّة الإسلاميّة استقلالها وحريّتها ومصالحها الوطنيّة، وتطلب العلم والتقنيّة للبلاد. هذه


 


[1] بداية السنة الهجريّة الشمسيّة.

 

 

550


472

خطاب الولي 2009

حقوق الشعب، وكلّ من يتطاول على هذه الحقوق، سيقف الشعب الإيرانيّ أمامه بكلّ قدرته، وسوف يفرض عليه الهزيمة.

 

يوم تُقلع أمريكا عن الاستكبار، وعن التدخّل غير المبرّر في شؤون الشعوب، ستكون حكومة كباقي الحكومات، ستكون لنا حكومة كباقي الحكومات. ولكن طالما بقي الأمريكيّون يطمعون في العودة إلى إيران، واستئناف العهد الماضي، وتغيير التاريخ، وإعادة الزمن إلى الوراء، وطالما أرادوا الهيمنة على بلادنا، فلن يستطيعوا بأيّ وسيلة، فرض التراجع على بلادنا. ليعلموا ذلك! ولا تغرّنّهم هذه الاضطرابات التي حدثت بعد الانتخابات. الجمهوريّة الإسلاميّة أقوى وأعمق وأصلب جذورًا من هذه الأمور. واجهَت الجمهوريّة الإسلاميّة أحداثًا أصعب بكثير، وتغلّبَت عليها كلّها. ويأتي الآن، بضعة أشخاص، إمّا إنّهم سُذَّج -ولا نريد إصدار أحكام حولهم وحول دوافعهم- أو أصحاب نوايا سيّئة وخبيثة، أو ليسوا أصحاب نوايا سيّئة جدًّا، لكن فيهم شيئًا من السذاجة وسوء فهم الأمور، يواجهون الجمهوريّة الإسلاميّة. هؤلاء لا يستطيعون فرش السجادة الحمراء لأمريكا في بلادنا، ليعلموا هذا! الشعب الإيرانيّ صامد.

 

البلد ملككم، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ

أقول لكم أيّها الشباب: أيّها الشباب الأعزّاء، البلد بلدكم، هذا البلد بلدكم، والتاريخ لكم. لقد قمنا بدورنا. المقدار الذي كان جيلنا وجماعتنا تستطيع القيام به -بمقدار ما وفّقنا الله- قامت به. اليوم نقدّم البلد لكم، وهو ملككم. اليوم لكم، والغد لكم أيضًا. يجب عليكم الحفاظ على هذا البلد بقوّة وبإرادة متينة. بمستطاع هذا البلد، بفضل عزيمتكم وإرادتكم القويّة المنبعثة من الإيمان الدينيّ، أن يزداد اقتدارًا، يومًا بعد يوم. عليكم إيصال بلدكم إلى حيث لا يجرؤ أحد على تهديده. هذا منوط بعزمكم وإرادتكم.

 

على الشباب العكوف على العلم. قلتُ هذا مرارًا، وأكرّر أيضًا: الاقتدار الحقيقيّ لشعب ما رهنٌ بالعلم. العلم هو الذي يوفّر سائر مصادر الاقتدار وأرصدته للبلد. لا تغفلوا عن العلم، سواء كنتم طلّاب مدارس، أو طلبة جامعيّين، وفي أيّ مرحلة كنتم.

 

 

551

 


473

خطاب الولي 2009

قضيّة العلم وقضيّة البحث العلميّ على جانب كبير من الأهمّيّة، إلى جانب الحافز الدينيّ. الدين مهمّ جدًّا، ليس الدين لمجرّد عمارة الآخرة، إنّما لأنّه يعمِّر دنياكم أيضًا. الدين يمنحكم الوجد والنشاط والطراوة والفتوّة. الدين يمنحكم الروح التي تجعلكم ترون جميع القوى المادّيّة صغيرةً وتافهة، ولا أثر لتهديداتها وأعمالها. اعلموا أنّ النصر حليفكم، وأنّ النصر الإلهيّ لكم. هذه القوى الكبرى التي تهدّد - وأذنابهم في الداخل يساعدونها بدورهم - ومراكز القوى الاستكباريّة والتهديدات، ليس لهم من سبيل أمام الشعب المقتدر المؤمن، سوى التراجع. ثِقوا بالله -تعالى- وأحسِنوا الظنّ به. حينما يؤكّد الله ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[1]، وأنّه -عزّ وجلّ- سينصر يقينًا، وبلا أدنى شكّ، الذين يدافعون عن دينه وأهدافه، فهذا كلام صادق ووعد صادق. ثِقوا بهذا الوعد، وتقدّموا إلى الأمام باقتدار، وعزيمة كافية، وتهذيب للنفس، وبناء للذات، البناء العلميّ للذات، وكذلك البناء الأخلاقيّ للذات. وسترون، إن شاء الله، اليوم الذي تعلو فيه بلادكم بفضل جهادكم، إلى ذروة الفخر والاقتدار.

 

أتمنّى أن يسلّمكم الله -تعالى- جميعًا، ويؤيّدكم، وسيرى الجميع، إن شاء الله، تلك الأيّام الحلوة المشرقة.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 


[1] سورة الحجّ، الآية 40.

 

 

 

552


474

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء حشدٍ من التعبويّين

 

 

 

         

         

المناسبة:   شهادة الإمام الباقر عليه السلام

الحضور:  حشد من التعبويّين

المكان:   طهران

 

الزمان:    04/09/1388هـ.ش.

07/12/1430هـ.ق.

25/11/2009م.

 

554


475

خطاب الولي 2009

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أرحّب بكم جميعًا أيّها الأعزّاء -الإخوة والأخوات- التعبويّون الشامخون. هذه الأيّام من الناحية التاريخيّة، أيّام كبيرة ومميّزة.

 

ذكرى الإمام الباقر عليه السلام: انبعاث التيّار الإسلاميّ الأصيل

إنّ شهادة الإمام الباقر عليه السلام شهادة ذات رسالة، لذلك، أوصى الإمام الباقر نفسُه أن يُصار إلى إحياء ذكرى رحيله في مِنى، على مدى عشرة أعوام، وهذا شيء غير مسبوق لدى أئمّتنا. ذكرى الإمام الباقر تعني ذكرى انبعاث التيّار الإسلاميّ الأصيل في مواجهة التحريفات والمسوخ التي حصلَت.

 

بين عيد الأضحى وعيد الغدير، "عشرة الإمامة"

الذكرى الأخرى، ذكرى يوم عرفة وعيد الأضحى. وفي الواقع، إنّ الفاصلة الممتدّة من عيد الأضحى إلى عيد الغدير، هي مقطع متّصل يرتبط بموضوع الإمامة. يقول الله -تعالى- في القرآن الكريم: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾[1]. نُصِّب إبراهيم إمامًا مِن قِبل الله، لماذا؟ لأنّه خرج بنجاح في امتحانات صعبة. يمكن اعتبار يوم عيد الأضحى بدايةً لهذا الأمر الذي يستمرّ إلى يوم عيد الغدير، يوم إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه آلاف التحيّة والثناء). كان هذا عقب امتحانات عسيرة. أمضى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب حياته المباركة كلّها، في امتحاناتٍ خرج منها مرفوع الرأس. فمنذ الثالثة عشرة من عمره، أو الحادية عشرة، وإيمانه بنبوّة الرسول، وإلى ليلة المبيت، كان شابًّا مضحّيًّا متفانيًا في الرسول، وعلى استعداد للتضحية بنفسه -وقد أثبت ذلك عمليًّا في حادثة هجرة الرسول (والمبيت في


 


[1] سورة البقرة، الآية 124.

 

556


476

خطاب الولي 2009

فراشه)- ثمّ كانت تلك الامتحانات الكبرى في بدر وأُحُد وحُنَين وخيبر وسائر الوقائع. فهذا المنصب الرفيع هو نتيجة تلك الامتحانات. لذلك مالت القلوب إلى وجود صلة ما بين عيد الأضحى وعيد الغدير، وقد أطلق بعضهم على هذه الأيّام، اسم "عشرة الإمامة"، وهي تسمية مناسبة.

 

التعبئة: رمز الصمود والعزّة

أسبوع التعبئة بدوره أيضًا، مقطع مهمّ، إنّه ذكرى كبيرة. أعلنوا عن أسابيع كثيرة طوال السنة، لكن لهذا الأسبوع امتيازات استثنائيّة، لماذا؟ لأنّ التعبئة هي بذاتها استثناء، إنّها حدث لا نظير له. أن يدافع الناس في بلد ما عن حقيقةٍ وعن نظامٍ، بكلّ كيانهم، وبخيرة عناصرهم، وبأكثر أفرادهم إيمانًا، وأن لا يعرفوا أيّ حدود لميادين الجهاد والدفاع المختلفة، فهذا ما لا أعرف له نظيرًا في مكان آخر. على الأقلّ، في العالم القريب من زماننا -وهو عالم الثورات والتحوّلات والأنظمة المتنوّعة- لم أرَ مثل هذا الشيء، إنّما هو شيء يختصّ بثورتنا. وإنّه القلب النيّر لإمامنا الجليل، الذي توصّل إلى هذه الحقيقة، وحقّقها بفضلِ الإلهام والعونِ الإلهيّ، ومَنحت القابليّةُ العظيمة لقلوب الشعب المؤمن النيّرة، مثلَ هذه الثمرة للثورة، هذه هي التعبئة.

 

حينما يُنظر إلى التعبئة بحقيقة معناها، فإنّها رمز الصمود والبقاء والعزّة الوطنيّة. هم مجموعة من أفضل الناس وأكثرهم إيمانًا، يدخلون إلى أيّ ساحة يحتاجهم فيها البلد والنظام. يضعون كلّ طاقاتهم على أكفّهم، ويقدّمونها في الساحة، من دون المطالبة بأجرٍ أو ثمن، ومن دون أن يحقّق لهم ذلك عنوانًا أو شهرة. هذا شيء على جانب كبير من الأهمّيّة. لقد تعوّدنا على هذا الشيء، ككثير من الأشياء المهمّة التي يتعوّد عليها الإنسان، ولا يلتفت لأهميّتها. لا يوجد مثل هذا الشيء في مكان آخر.

 

الساحة الأولى: الدفاع عن الاستقلال

الساحة الأولى التي اجتذبت إليها التعبئة، هي ساحة الدفاع عن استقلال البلاد، وعن حدوده. القضيّة هي قضيّة روحن وقضيّة التخلّي عن جميع ملذّات الحياة. ولم يكن ثمّة فرق بين الشيب والشباب، جاء الجميع: جاءت النساء، وجاء الرجال، وجاء

 

557

 

 


477

خطاب الولي 2009

الأحداث، وجاء الشيب المسنّون وخاضوا غمار الساحة والامتحان. أيّ امتحان أرفع من هذا؟ كان في ذلك الزمن، أشخاصٌ لم يكونوا على استعداد للتضحية بأرواحهم أو أموالهم أو راحتهم، أبدًا، من أجل البلاد والثورة واستقلال الوطن. لكنّ جماعةً كبيرة من الشعب، نزلت إلى الساحة، وقدّمت كلّ شيء، من أرواح، وأموال، وراحة، وسمعة، وصانت استقلال البلاد وعزّتها.

 

وبقيت حاضرةً في كلّ الميادين

وبعد عهد الحرب، كانت التعبئة رائدة في كلّ الأحداث، كانت متقدّمة وسبّاقة في جميع الميادين. إذا كانت هناك قضيّة اقتدار سياسيّ وصمود سياسيّ، فإنّ تيّار التعبئة الشعبيّة العظيم في كلّ أنحاء البلاد، كرّس هذا الشعار، وعرضه أمام أنظار العالم. وإذا كانت القضيّة قضيّة ثقافة، أو قضيّة بناء، فكم من الأعمال الهائلة الجبّارة تمّ إنجازها على يد قوّات التعبئة، في شتّى أنحاء البلاد! وحتّى في الميادين العلميّة -لقد أشاروا لذلك، وكانت الكلمة كلمة جيّدة[1]- استخدم الشبابُ المؤمن جميعَ الإمكانيّات المتاحة، وهدفهم في ذلك هو مبادئ النظام الإسلاميّ. إنّهم شباب مؤمن، ولا يلهثون وراء أسماء أو عناوين، هذا هو معنى التعبئة. نـزل الشباب بهذه الخصوصيّات إلى الميدان. وإنّ مفاخر البلد اليوم، من صناعة هؤلاء الأفراد الخدومين ذوي الشأن. وإنّ عدم معرفة هذه الحقائق -وأعني بها حقائق معنى التعبئة- هو بذاته ظلمٌ للتعبئة.

 

تصوّر بعضهم أنّ التعبئة تنحصر في هذا العدد من أفواج التعبئة، أو التشكيلات العسكريّة التعبويّة، هؤلاء طبعًا، من خيرة التعبئة، لكنّ التعبئة لا تنحصر في هذا، التعبئة واسعة وتستوعب جميع المجالات. ولعلّه يصل عددها إلى مئات أضعاف العدد الموجود في المؤسّسات العسكريّة، أو أكثر من مئات أضعافه. التعبئة متواجدة في المؤسّسات غير العسكريّة، وفي القطاعات المختلفة، في الجامعة بشكل، وفي المعامل بشكل، وفي شرائح الشعب المختلفة بشكل، وفي القرى بشكل، وفي المدن بشكل، وبين العشائر بشكل، وفي الحوزات العلميّة بشكل. التعبئة حاضرة حضورًا شاملًا مقتدرًا


 


[1] الكلمة التي أُلقِيَت في مستهلّ اللقاء.

 

 

558


478

خطاب الولي 2009

لامتناهيًا. التعبئة غير مرتبطة لا بالمال، ولا بالعناوين، ولا بالجاه والجلال، ولا بالأوامر التي تصدر من الرؤساء. معيار التعبئة هو البصيرة والإيمان. الإيمان ينبع من قلوبهم، ويدفعهم إلى العمل. وتُفهِمُهم البصيرةُ كيف يعملون، وكيف يشخّصون المعايير، وكيف يحثّون الخطى على الدرب. هذا هو معنى التعبئة.

 

المظلوميّة لا تنافي الاقتدار

ما من منظومة أو تشكيلة أخرى يمكن مقارنتها بمنظومة التعبئة. وهذا الشكل التنظيميّ للتعبئة لا يقبل التكرار، ولا يقبل التقليد. إنّه شيء يختصّ بالتعبئة نفسها، فعدم معرفة هذه الحقيقة ظلم للتعبئة. حينما يفهم الإنسان حقيقة التعبئة، سيدرك سبب العداء والعناد الذي يقوده أعداء الثورة والبلاد والنظام ضدّ التعبئة. إنّ القمم ونقاط القوّة معرّضةٌ للهجمات أكثر (من غيرها)، فالمَواطن البارزةُ تلفت النظر أكثر من غيرها، فتكون عرضة للهجمات.

 

يعلم الأعداء مدى أهمّيّة حضور التعبئة، وحقيقتها في البلاد، وبين أبناء الشعب الإيرانيّ، لذلك يركّزون جهدهم على مهاجمة هذه الحقيقة المؤثّرة والكفوءة والنافذة. هذه طبعًا، مظلوميّة. والمظلوميّة لا تعني الضعف إطلاقًا، فأقوى الأشخاص في العالم يتعرّضون للظلم. إنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب لهو أقوى إنسان في مختلف العصور، وهو أيضًا أكثر الناس مظلوميّة. وإنّ ثورتنا ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة هما من أكثر ظواهر العصر الراهن اقتدارًا ونفوذًا، لكنّهما تعرّضا للظلم في الوقت نفسه. كذلك إمامنا الجليل، الذي كان إنسانًا مقتدرًا قويًّا، بإمكانه هزّ العالم، وقد هزّه فعلًا، وكان في الوقت نفسه، من أكثر الناس مظلوميّة في زمانه. إذًا، المظلوميّة لا تتنافى مع الاقتدار. التعبئة مظلومة، لكنّها مقتدرة ونافذة ومؤثّرة. ينبغي لهذا التأثير أن يبقى، وعلى عناصر التعبئة ومجموعات التعبئة أنفسهم أن يعزّزوا هذا التأثير ويعمّقوه، يومًا بعد يوم. طالما أنّ التعبئة موجودة، فلن يتعرّض النظام الإسلاميّ والجمهوريّة الإسلاميّة للخطر والتهديد مِن قِبل الأعداء، هذا ركن أساسيّ. وقد أثبتَت التعبئة كفاءتها في الكثير من القضايا المختلفة.

 

559

 


479

خطاب الولي 2009

إنّ ما هو مهمّ للمجاميع (التشكيلات) المؤمنة المتعدّدة -الموجودة في كلّ أنحاء البلاد، والحاضرة بين كلّ شرائح الشعب، بدون أيّ اختلافات، والتي تُسَمّى تعبئة، وتسميتها بالتعبئة تسميةٌ حقيقيّةٌ وواقعيّةٌ- هو أن تراقب وتشخّص الآفات والثغرات، وأن لا تدع مخطّطات الأعداء تنجح في الإضرار والتغلغل، هذا هو المهمّ. ثمّة عمليّتان مهمّتان في كلّ المشاريع الناجحة: إحداهما تخمين (تقدير) سُبُل التقدُّم والنجاح، والثانية معرفة النواقص ومكافحة الآفات ومعرفة المضارّ، وذلك من أجل تلافي نقاط الضعف. وهذه العمليّة أيضًا تشبه مسألة تخمين طريق التقدُّم، إنّها من الواجبات واللوازم الأكيدة لأيّ مشروع.

 

الحرب الناعمة: المواجهة الجديدة

أدرك الجميع اليوم، أنّ مواجهة الاستكبار لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة، قد اختلف عمّا كانت عليه في العقد الأوّل للثورة. فقد جربّوا في تلك المواجهة القوّة، وانهزموا. كانت المواجهة صعبة، وكان هناك إشعال الحرب وتدبير الانقلاب. في بداية الثورة، دبّروا انقلابًا، وفشلوا، وأطلقوا حالات تمرّد قوميّة، وهُزِموا وأخفقوا، وأشعلوا الحرب المفروضة التي استمرّت ثمانية أعوام، وفشلوا، إذًا، لن يعاودوا تجربة هذه الطرق، أي إنّ احتمال ذلك ضعيف. طبعًا، ينبغي التيقُّظ والانتباه لجميع الاحتمالات والجوانب، لكن هذه ليست أولويّة الاستكبار في مواجهة النظام الإسلاميّ، إنّما الأولويّة اليوم هي لِما يسمّونه الحرب الناعمة، أي الحرب بواسطة الأدوات الثقافيّة والتغلغل والاندساس والكذب وبثّ الشائعات، بواسطة الأدوات المتطوّرة الموجودة حاليًّا، فأدوات الاتّصال التي لم تكن موجودة قبل عشرة أعوام أو خمسة عشر عامًا وثلاثين عامًا، قد اتّسعَت وانتشرَت اليوم. الحرب الناعمة تعني إيجاد الشكّ في قلوب الناس وأذهانهم.

 

من الأدوات المستخدمة في الحرب الناعمة، أن يجعلوا الناس في المجتمع، سيّئي الظنّ، بعضهم ببعض، ويملؤوا قلوبهم حقدًا ضدّ بعض، ويزرعوا الخلافات والفرقة فيما بينهم. يجدون ذريعةً يخلقون بها الخلافات بين الناس، نظير الأحداث التي وقعت بعد انتخابات هذا العام، ورأيتم كيف اختلقوا ذريعة لبثّ الخلاف بين الناس، لكن

 

 

560


480

خطاب الولي 2009

لحُسن الحظّ، كان شعبنا صاحب بصيرة. وإنّ مثل هذه الأعمال، غيّرَت الوضع برمّته في بلدان أخرى. في أماكن أخرى، يبثّون الشكوك في قلوب الناس، بعضهم مقابل بعض. يختلقون ذريعةً مثل ذريعة الانتخابات، ويبثّون الشكوك، ويزرعون الأحقاد في القلوب، ويضعون الناس في مواجهة الناس. بعد ذلك، يحضّون العناصر المدرَّبة المغرِضة المعانِدة على أعمالٍ مخالفة (مخرّبة)، ولا يستطيع مسؤولو البلاد تشخيصَ ما الذي يحدث، وعلى يد مَن يحدث. هذه من مخطّطاتهم الأساسيّة. هكذا يتابعون الأمور.

 

البصيرة: لتشخيص المسيء والخائن

حسنًا، لاحِظوا ما هو الأمر الأهمّ من كلّ شيء للإنسان في مثل هذه الظروف؟ إنّه البصيرة. لقد شدّدتُ مرارًا على البصيرة، وهذا هو السبب: ليعلم الناس ما الذي يحدث، ليروا تلك اليد التي تدير العمليّة وتبعثر المشهد، ليتمكّن عنصرٌ خائنٌ عميلٌ مدرَّبٌ، في خضمّ فوضى الناس، أن يفعل ما يريدونه، ولا يُعثَر عليه وسط الناس. هذا ما يريد العدوّ القيام به. إنّ أيّة خطوة تؤدّي إلى البصيرة، وإلى إمكانيّة تشخيص العنصر الخائن والمسيء من بين أبناء الشعب وجمهوره، فهي خطوة جيّدة. وأيّة خطوة تشوّش الأجواء، وتضبّبها، وتزرع الشكّ والريب بين الناس، وتُشيع التهم، وتخلط المجرمين بغير المجرمين، فهي خطوة ضارّة ومعرقِلة.

 

أؤكّد وأصرّ على اتّحاد أبناء الشعب الإيرانيّ والتيّارات السياسيّة المختلفة كلّها، بوجه أولئك النفر القلائل المعارِضين لأصل الثورة، ولأصل استقلال البلاد، وهدفهم تقديم البلاد لأمريكا والاستكبار. لدى العدوّ مثل هذه العناصر بين الشعوب، ومثل هذه العناصر القليلة العدد موجودة في شعبنا أيضًا. ينبغي الفصل بين عموم الشعب، وأبناء الشعب والجماهير الشعبيّة الهائلة -من خواصّ وعوام- وبين تلك العناصر القليلة التي باعت نفسها. ينبغي عدم الوقوع في الخطأ.

 

الثقة بالمسؤولين وحُسن الظنّ بهم

أرى في بعض التصريحات والكلمات، أنّها تشوّش الأجواء وتعكّرها، إلى درجة أن

 

 

561

 


481

خطاب الولي 2009

يتيه الأفراد، ويسيء الناس ظنّ بعضهم ببعض وبنخبهم وبمسؤوليهم. هذا غير صحيح.

 

بعضهم لا يقبلون النصائح والوصايا. بعضهم ممّن هم في الصحافة أو غيرهم، هؤلاء لا يريدون توصية منّا. ليس واضحًا مَن الذي يرسم سياسات بعض هذه الأجهزة والصحافة ووسائل الإعلام، وأين يتمّ رسم هذه السياسات، فهؤلاء يعتاشون على إيجاد الخلاف والفرقة. لكن وصيّتي للذين تهمّهم مصالح البلاد ويريدون تغليب الحقائق، أن يكفّوا عن هذه الخلافات الجزئيّة غير المبدئيّة، ليس من الصواب اختلاق الإشاعات وترويجها. يرى الإنسان أنّهم يوجّهون الاتّهامات، صراحةً وعلنًا، لمسؤولي البلاد الذين يحملون على كاهلهم أعباء البلاد، ويبثّون الشائعات حولهم، ولا فرق في ذلك بين رئيس الجمهوريّة، أو رئيس مجلس الشورى، أو رئيس مجمع تشخيص المصلحة، أو رئيس السلطة القضائيّة، هؤلاء هم مسؤولو البلاد. إنّ مسؤولي البلاد هم الذين أُوكِل إليهم زمام عمل معيّن، وعلى الناس أن يثقوا بهم ويُحسِنوا الظنّ بهم. ينبغي عدم بثّ الإشاعات، فهذا ما يريده الأعداء، يريد الأعداء أن تنتشر الشائعات، يريدون زرع السوء في قلوب الناس، بعضهم ببعض، وتجاه مسؤوليهم ومديريهم.

 

فقد رأيتم أنّ أوّل عمل حدث بعد الانتخابات، وفي الفتنة التي أعقبت الانتخابات، هو بثّ الشكوك في عمل المسؤولين الرسميّين للبلاد، في عمل مجلس صيانة الدستور، وفي عمل وزارة الداخليّة. هذه الشكوك مضرّة جدًّا، وهذا ما يريده العدوّ. على الشباب التعبويّين ملاحظة الإيمان والبصيرة والدوافع، ومراعاة الموازين والمعايير كلّها، بعضها مع بعض.

 

الروح التعبويّة: حمايةٌ وضمانة

من جملة الأشياء المهمّة التي يجب أن تُؤخَذ بعين الاعتبار، هو تنوُّع مجالات مشاركة التعبئة. إنّ هذا التوجُّه الذي أُعلِن مؤخّرًا للتعبئة -توجُّه العلم، والتجديد (الإبداع) العلميّ، والعمل الثقافيّ- لهو شيء مبارك جدًّا. يجب إنجاز الكثير من الأعمال، وهذا لا يتمّ إلّا بالروح التعبويّة، وبهذا الإيمان المتدفّق. كونوا على ثقة أنّه طالما كانت التعبئة موجودة في هذا البلد، وطالما كانت روح الصدق والأخلاق والخدمة

 

 

562

 


482

خطاب الولي 2009

غير الممنونة وغير المأجورة، موجودةً بين أبناء شعبنا، وخصوصًا الشبّاب، فلن يستطيع الأعداء توجيه أيّ ضربة لهذه الثورة، ولهذا النظام، ولهذه البلاد.

 

والذين يريدون بإشارات الأعداء وتشجيعهم وابتساماتهم وتصفيقهم، محاربة هذا النظام، وهذا الدستور، وهذه الحركة الشعبيّة العظيمة، إنّما يقرعون رؤوسهم بالصخور وبالجدران، ويعملون عملًا عبثيًّا.

 

دقِّقوا واحذروا!

لا يمكن أن نقول لأيّ شخص، بمجرّد أن تفوّه بكلمة مخالفة لأفكارنا، أنا وأنتم: إنّه ضدّ ولاية الفقيه. يجب أن تدقّقوا كثيرًا في تشخيص الأمور. هذا ما أؤكّده عليكم، أيّها الشباب الأعزّاء، يا أبنائي الأعزّاء، أيّها الشباب المتحمّس في هذا البلد، وفي هذا الوطن العزيز، من أقصاه إلى أقصاه. يجب المحافظة على المحفّزات والدوافع بكلّ شدّة، وبكلّ قوّة، وبإيمان تامّ، وأمل كامل بالمستقبل، ولكن يجب أن تدقّقوا في تشخيص الأمور والمصاديق المختلفة. إنّ عدم التدقيق في المصاديق، يتسبّب أحيانًا في أضرار وخسائر كبرى.

 

توكّلوا على الله -تعالى-، واطلبوا منه العون. إنّني أدعو لكم. وسوف تشملكم جميعًا، إن شاء الله، عنايةُ سيّدنا بقيّة الله (أرواحنا فداه)، وتشمل جميع شباب هذا البلد، وأبناء شعبنا العزيز كافّة، وستقدِّم أدعيتُه الزاكية عليه السلام العونَ لنا في جميع هذه السبل، وتأخذ بأيدي شعبنا العزيز.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

563


483

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

بمناسبة عيد الغدير

 

 

         

المناسبة:   عيد الغدير

الحضور:  جمع كبير من أبناء الشعب الإيرانيّ

المكان:   طهران

 

الزمان:    15/09/1388هـ.ش.

18/12/1430هـ.ق.

06/12/2009م.

 

564

 

         


484

خطاب الولي 2009

أبارك هذا العيد السعيد، وهذا اليوم الكبير، وهذا الحدث التاريخيّ العظيم، لكم جميعًا، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، ولكلّ الشعب الإيرانيّ، ولكلّ الشيعة، ولجميع المسلمين في العالم.

 

عيدُ الغدير إكمالُ الدين وإتمامُ النعمة

أُطلِق على عيد الغدير، اسم "عيد الله الأكبر"، إنّه عيد أكبر من كلّ الأعياد الموجودة في التقويم الإسلاميّ، وأعمقها معنى، وتأثيره أكبر من كلّ هذه الأعياد. لماذا؟ لأنّ حادثة الغدير هذه قد حدّدَت تكليف الأمّة الإسلاميّة، من ناحية التوجيه (الهداية)، ومن ناحية الحكومة. لا كلام في أنّه لم يجرِ العمل بوصيّة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الغدير -وطبقًا لبعض الروايات، كان الرسول قد أخبر أنّه لن يجري العمل بها- بَيدَ أنّ قضيّةَ الغدير قضيّةُ إيجاد مؤشّر ومعيار وميزان، يستطيع المسلمون حتّى آخر الدنيا، أن يضعوا هذا المؤشّر والمعيار نصب أعينهم، ويحدّدوا وِفقه، وظيفةَ الأمّة ومسارها العامّ. حينما اختار الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أكثر الأزمنة حساسيّة لإعلان قضيّة الولاية، لم يكن هذا اختيار الرسول نفسه، بل اختيار الله -تعالى-. جاء الوحي من الله أن: ﴿بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ﴾[1]. لا أنّ الرسول لم يكن يعلم قضيّة الإمامة والولاية من خالقِه قبل هذا، بلى، كانت هذه القضيّة واضحة له، وجليّة منذ بداية البعثة. ثمّ كشفت الأحداث المختلفة طوال هذه الأعوام الثلاثة والعشرين، الحقيقة، وأَجْلَتها، بحيث لم يبقَ أيّ موضع للشك، لكنّ الإعلان الرسميّ يجب أن يتمّ في أكثر الأزمنة حساسيّة، وبأمرٍ من الله: ﴿بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ


 


[1] سورة المائدة، الآية 67.

 

 

565


485

خطاب الولي 2009

وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ﴾[1]، أي إنّ هذه رسالة إلهيّة، يجب أن تُلقيها إلى الناس. ثمّ حين أوقف النبيُّ المكرَّمُ الناسَ في غدير خمّ، بالقرب من الجحفة، وجمعَ قوافل الحجّاج، وأعلن عن هذه المسألة، نزلت الآية الشريفة: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي﴾[2]، اكتملت النعمة، واكتمل الدين. في سورة المائدة المباركة، وقبل آية ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ﴾، هناك الآية المباركة: ﴿ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ﴾[3]، اليوم هو يوم يأس الأعداء وقنوطهم، أيّ إنّ المعيار والمؤشّر قد اتّضح، ومتى ما أرادت الأمّة، ومتى ما فتحت عينها على الحقيقة، سوف ترى المؤشّر والمعيار، ولن يبقى لديها أيّ شكّ. هنا تكمن أهمّيّة الغدير. إنّ قضيّة الإمامة والولاية، كما جاءت في التاريخ الإسلاميّ، واضحة ومشخَّصة، هي قضيّةٌ إلهيّةٌ. لا أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم انتخب الإمام عليًّا بحساباته الشخصيّة. مع أنّ الحسابات الشخصيّة أيضًا ترشد أيَّ إنسان إلى أنّ الإمام عليًّا هو خليفة الرسول، إلّا أنّ خطوة الرسول كانت خطوة إلهيّة.

 

منذ بداية البعثة، حينما عرض الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم رسالته على قبائل العرب المختلفة في مكّة، وعرض عليها الإسلام -وهذه قصّة طويلة في تاريخ بدايات البعثة وما قبل الهجرة- حيث توجَّه إلى هذه القبيلة، وإلى تلك القبيلة، زعيم إحدى القبائل المذكور في التاريخ[4]، قال للرسول: إنّنا على استعداد للإيمان بالإسلام بصفة جماعيّة، ولكن هناك شرط، والشرط هو أن يكون هذا الأمر لنا من بعدك، أي يجب أن يكون رئيس قبيلتنا خليفة من بعدك. وقد ورد في التاريخ أنّ الرسول قال في جواب هذا الشخص: لا، "هَذَا أمرٌ سماويّ"، هذه مسألة ليست بيدي، إنّما هي قضيّة سماويّة وبيد الله، فلم تؤمن تلك القبيلة، وانصرفَت. إذًا، تقوم مسألة خلافة الرسول على أساس الوحي الإلهيّ، وعلى أساس إرادة الخالق، وليست بِيد الرسول. ولكن إذا أراد الرسول الأكرم أن

 

 


 


[1] سورة المائدة، الآية 67.

[2] سورة المائدة، الآية 3.

[3] سورة المائدة، الآية 3.

[4] استطراد سماحته: هذه من مسلَّمات التاريخ، ولا دور لقضايا التشيُّع والتسنُّن في طرح هذه الوقائع، بل إنّ أخوتنا أهل السنَّة أنفسهم يروونها وينقلونها.

 

 

566


486

خطاب الولي 2009

ينتخب، فمن كان يجب أن يختار؟ الشخص الذي كان سيختاره النبيّ الأكرم طبعًا، هو مَن تجتمع فيه جميع المعايير الأساسيّة للإسلام، بحدودها الكاملة. ويمكن للمسلمين في العالم أن يحسبوا ويُقيِّموا شخصيّة الإمام عليّ[1]، وينظروا في المعايير، ويضعوها بجوار بعضها، ويقارنوا على أساس القرآن والسنّة، ويروا مَن الذي كان سيُنتخب.

 

الإمام عَلِيّ: القمّة الشامخة

عِلمُ الإمام عليّ: والعلم أحد المعايير، وفقًا لروايات جميع المسلمين -الشيعة والسنّة- يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حول الإمام عليّ: "أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا"[2]، فأيّ شهادة فوق هذه؟ وحول جهاد الإمام عليّ، يقول الله -تعالى-: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ﴾[3]، آية قرآنيّة نزلت في جهاد الإمام عليّ وإيثاره، ولم تنـزل هذه الآية (مثلها) في غيره. وحول إنفاق الإمام عليّ: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾[4]، الإمام عليّ وآله المكرّمون المقرّبون مشمولون بهذه الآية الكريمة. ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ﴾[5]، الجميع قالوا: إنّها نزلت في أمير المؤمنين. وهذه المعايير -المعايير المتعدّدة للتفوّق والتميّز في الإسلام- مِن علم، وتقوى، وإنفاق، وإيثار، وجهاد، وباقي المعايير الواردة في الإسلام تنطبق كلّها على الإمام عليّ، واحدًا واحدًا. مَن الذي بوسعه إنكار هذه الأمور في عليّ بن أبي طالب عليه السلام؟

 

دعوَتُنا لجميع مسلمي العالم، هي أن يتأمّلوا في هذه الحقائق. إنّنا في عالم وحدة الأمّة الإسلاميّة، لا نصرّ أبدًا على أن تقبل إحدى الفرقِ عقائدَ فرقةٍ أخرى، لا، ليست الوحدة بهذا المعنى. الوحدة تعني التركيز على المشتركات، على الرغم من العقائد المختلفة والشعب المتفاوتة، وعدم جعل مَواطن الاختلاف سببًا للاقتتال والحرب


 


[1] استطراد سماحته: صحيحٌ أنّه تروى أحاديث مختلفة في فضيلة بعض الصحابة.

[2] الطبرسيّ، الشيخ أبي منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب، الاحتجاج على أهل اللجاج، تعليق السيّد محمّد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر، العراق - النجف الأشرف، 1386ه - 1966م، لا.ط، ج1، ص102.

[3] سورة البقرة، الآية 207.

[4] سورة الإنسان، الآية 8.

[5] سورة المائدة، الآية 55.

 

567


487

خطاب الولي 2009

 والعداء بين الإخوة. هذه هي قضيّة الوحدة.

 

ولكن بعنوان التعبير عن الحقيقة وطلب الحقيقة، فمن المنطقيّ الطلب من جميع المسلمين، أن يبحثوا ويحقّقوا ويلاحظوا ما كتبه باحثو الشيعة، وما جمعه علماء الشيعة الكبار في زماننا، وكتبوه وحقّقوه وعرضوه في العالم الإسلاميّ، وقد حظيَت كتاباتُهم بتقدير علماء الإسلام، ومثقّفي الإسلام، والشخصيّات الإسلاميّة البارزة، فليلاحظوا هذه الأعمال، ولا يحرموا أنفسهم، ولا يقيّدوها، (من قبيل) كتب المرحوم السيّد شرف الدين العامليّ (رضوان الله عليه)، وكتاب الغدير للعلّامة الأمينيّ، هذه كلّها حقائق جُمِعَت ودُوِّنَت. قضيّة الغدير قضيّة تاريخيّة مسلَّمٌ بها في عشرات الكتب، يروي المرحوم الأمينيّ عشرات الطرق من طرق أهل السنّة، تروي حادثة الغدير بالشكل الذي نرويه نحن، وهذا ليس موجودًا في كتبنا نحن فقط. قد يناقش بعضهم في معنى كلمة "مولى"، وقد لا يناقش بعضهم الآخر. الحادثة حادثة حقيقيّة وواقعيّة، وهي مبيِّنةٌ للمعايير. (إنّه لأمر) واضح أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه آلاف التحيّة والثناء) هو قمّة شامخة، سواء كحاكم إسلاميّ وحكومة إسلاميّة، أو كفرد مسلم.

 

(ففترة) شباب هذا الإنسان الكبير، هي نموذج لشباب الأمّة الإسلاميّة. أن يرى الحقيقة بكلّ ذلك الصفاء والصدق والبصيرة، ويعرفها، ويجري وراءها، ويدافع عنها بكلّ كيانه، ويجوب ميادين الخطر، ولا يرى الأخطار، ولا يكترث لها، ولا ينحرف عن طريق الصواب قيد أنملة، ويتبع خطى الرسول، "يَحْذُو حَذْوَ الرَّسُولِ"[1]، ويسير خلف النبيّ خطوة خطوة، ويسلّم ويُذعن للأوامر الإلهيّة وأوامر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، تسليمًا محضًا، وفي الوقت ذاته، كان يضيف على علمه، لحظة بعد لحظة، وعمله مطابق لعلمه في كلّ لحظات وآنات حياته، هذا عن فترة شباب الإمام عليّ. وكذلك فترة كهولته وشيخوخته عليه السلام، هي محفوفة بالامتحانات العسيرة والاختبارات العجيبة الغريبة. وقد أبدى في جميعها الصبر العظيم الجميل، وقدّم مصلحة الإسلام - حينما كانت مصلحة الإسلام في خطر- على كلّ شيء، حتّى على حقّه المفروغ منه. كان بإمكان

 


 


[1] ابن المشهديّ، محمّد بن جعفر بن عليّ المشهديّ الحائريّ، المزار الكبير، تحقيق جواد القيوميّ الأصفهانيّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ، إيران - قمّ، 1419ه، ط1، ص577.

 

 

568


488

خطاب الولي 2009

الإمام عليّ، حينما شعر أنّ حقّه يُضَيَّع، أن يثور، فهو لا يخاف من أحد. كان شخصًا إذا تقدُّمٍ إلى الميدان (وثار)، فهناك من سيتبعه بلا شكّ (ويقتفي أثره)، ولكن "فَأَمْسَكْتُ يَدِي ،حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم"[1]. يقول: وجدتُ أنّ هناك دوافع تعارضُ أصل الدين، وهي تتغلغل في القلوب وتنمو، وأنّ ثمّة أعداءَ ومعارضين يريدون انتهاز الظرف (الفرصة)، لذلك نزلتُ إلى الساحة، ودافعتُ عن أساس الدين، وتنازلتُ عن حقّي، وتجاوزت.

 

هكذا يراعي مصلحة الإسلام، بكلّ كيانه. وعندما حان دوره للحكم والسياسة، بحسب التقدير الإلهيّ، ينهال عليه الناس، ويصرّون عليه أن يمسك زمام السلطة، فينـزل إلى الساحة بكلّ اقتدار "لا يخافُ في اللهِ لومةَ لائمٍ"[2]، لا يخاف أيّ شيء، ولا تُثنيه أيّ لومة عن مواصلة هذا الطريق. إنّ أمير المؤمنين نموذجٌ كامل، هذا هو ذلك الإنسان الشامخ السامق، الذي ترى له الشيعة كلّ ذلك المقام والعظمة. من المناسب أن تلتفت الأمّة الإسلاميّة جميعها إلى ذلك.

 

حادثة الغدير سبيلٌ إلى الوحدة

إنّ حادثة الغدير، برأي المرحوم العلّامة الأمينيّ (رضوان الله -تعالى- عليه)، صاحب كتاب الغدير، ومن ثمّ في رأي المرحوم الشهيد مطهّري (رضوان الله عليه)، هي وسيلة لوحدة الأمّة الإسلاميّة. لا يظنّنّ بعضٌ أنّ حادثة الغدير هي سبب شقاق واختلاف. لا، لاحِظوا، فهؤلاء يتّهمون الشيعة اليوم، أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، مع أنّ هذه التهم كانت موجودة في السابق أيضًا. ليعرف (هؤلاء) أنّ التشيُّع نابعٌ من عقيدة (اعتقاد) صحيحة سليمة خالصة تجاه الوحي الإلهيّ -هذا هو معنى التشيُّع- (أي) الاعتقاد بالقيم وبالمعايير، مِلاك جعل المعايير المتّبعة، هو تلك التي اعتبرها القرآن الكريم معايير ومِلاكات. وهناك حفنة من المهرّجين، هنا وهناك في العالم الإسلاميّ، يتّهمون الشيعة بما هم بعيدون عنه فراسخ، كالحديث عن مسألة التزييف والجعل، والظهور


 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص451، الكتاب رقم 62.

[2] الشيخ الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصدر سابق، ص176.

 

 

569


489

خطاب الولي 2009

المتأخّر، والطابع السياسيّ، وما إلى ذلك من كلام. لا، إنّ حادثة الغدير تشطب بخطّ البطلان على كلّ هذا.

 

ما الذي يستفيده أولئك الذين يحاولون إخراج هذه الجماعة، وهذا التيّار الإسلاميّ العظيم، من دائرة الإسلام؟ حيث إنّ السياسات اليوم تقف وراءهم. فاليوم، تروِّج السياسات لهذه الأفكار. لماذا؟ لأنّ الشيعة استطاعوا ببركة روح الولاية، أن يفعلوا ما يتمنّاه كلّ المسلمين. فجميع المسلمين الخيّرين والمخلصين والطيّبين كانوا يتمنّون أن يأتي اليوم الذي يتربّع الإسلام، بما له من كمالٍ وحقّانيّة، على كرسيّ السلطة. فقد بقي المثقّفون المسلمون في القرن أو القرنَين الماضيَين، يتحسّرون على مشاهدة مثل هذا اليوم، وقد رحلوا عن الدنيا والحسرة في قلوبهم. وقد أوجد الشيعة اليوم، هذا الشيء، وحقّقوه: حاكميّة الإسلام، وهذه العظمة الإسلاميّة، وهذه العزّة الإسلاميّة، وكانت هذه بفضل روح الولاية. يرى العدوّ هذا، ويريد أن يفرّغ الشيعة وأهل الولاية من دورهم. لذا، فالاتّهامات الموجّهة للتشيّع اليوم، أكثر من أيّ وقت آخر.

 

كان هناك طوال التاريخ، أشخاص منحرفو الفهم، ومنحرفو المسير، يتحدّثون ضدّ الشيعة، ويوجّهون لهم التهم، ويختلقون الأكاذيب ضدّهم. بَيدَ أنّ حجم الاتّهامات اليوم، أكبر من كلّ تلك التهم، وهذا من صنع السياسات[1] وتأثيرها، فلماذا لا يفهمون ذلك؟!

 

نحن أيضًا يجب أن نفهم. نحن الشيعة يجب أن نفهم، وأن نعلم أنّ سياسة الاستكبار اليوم، هي فصلُ الشيعة عن غير الشيعة، وفصلُ الجماعات المسلمة بعضها عن بعض، وتأجيج الاحتراب فيما بينها. يجب أن لا نساعد على هذا الهدف، ينبغي أن لا نسمح للعدوّ بالوصول إلى هذا الهدف. هذا من واجبنا، ومن واجب غير الشيعة، أي المسلمين في المذاهب والفِرَق والجماعات غير الشيعيّة. ليعلم الجميع هذا: إنّ الشيعة اليوم هم الذين يرفعون في إيران الإسلاميّة، راية الاقتدار الإسلاميّ، والعزّة الإسلاميّة، ويشعر الاستكبار بالعجز أمامها. هذا واقع، هذا واقع. فهذه المؤامرات التي حِيكَت طوال الأعوام الثلاثين المنصرمة، ضدّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، مِن قِبَل شتّى


 


[1] المقصود: سياسات الأعداء المستكبرين وخططهم.

 

 

570


490

خطاب الولي 2009

الأعداء -على رأسهم أمريكا، وأخبثهم بريطانيا بالطبع- إنّما هي بسبب خوفهم بأنّهم فزعون من التحرّك الإسلاميّ، ومن الصحوة الإسلاميّة، ومن عودة العالم الإسلاميّ إلى رشده ووعيه. يعلمون أنّه إذا استعاد العالم الإسلاميّ وعيه ويقظته، وشعر بالاستقلال، وشعر بالهويّة والعزّة، فسوف تخرج هذه المنطقة الحسّاسة من العالم، التي يسكنها المسلمون -وهي من أكثر مناطق العالم حساسيّة- من تحت سيطرة الاستكبار، إنّهم يخافون هذا. ولأنّهم يخافون، لذلك يتآمرون ويستخدمون وسائل وأدوات مختلفة. لقد عبّأ زعماء السياسات الاستكباريّة -أمريكا والصهيونيّة وباقي المستكبرين- اليوم، كلّ قدراتهم، لعلّهم يستطيعون عزل الشعب الإيرانيّ، وعزل نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، واحتواء تأثيره، لكنّهم لم يفلحوا، ولن يفلحوا في المستقبل أيضًا، بتوفيقٍ من الله، وبفضله وحوله وقوّته.

 

العلوم النوويّة ضمانة المستقبل

في القضيّة النوويّة، لاحِظوا أنّ الأمر قد وصل بهم إلى بثّ الأكاذيب، وترويجها، واختلاقها، وتضليل الرأي العامّ العالميّ. ليست القضيّة قضيّة الإذاعة الفلانيّة، أو الجهاز الإعلاميّ الفلانيّ، إنّما مجموع الساسة الغربيّين، للأسف -أي هذه المجموعة المؤثّرة الخاضعة غالبًا لتأثير الصهاينة- أصبحَت مَهمَّتهم تضليل الرأي العامّ العالميّ، ونشر الأكاذيب، واصطناع الشعارات الكاذبة. إنّنا نطلب من رؤساء البلدان هؤلاء، أن لا يكذبوا هذا الكذب كلّه، ونطلب من هذه الدول الغربيّة، الدولة الأمريكيّة، والدولة البريطانيّة، وبعض الدول الأوروبّيّة الأخرى، أن لا تضلّل الرأي العامّ العالميّ هذا التضليل كلّه. هذه الأكاذيب سترتدّ عليهم بالضرر. لقد اختبروا ذلك، وشاهدوا النتائج. حينما يكذبون ويتحدّثون بخلاف الواقع، ثمّ تتّضح الحقيقة، تذهب سمعتهم، ويُراق ماء وجههم. وقد حدث هذا في بعض الحالات، حيث كذبوا وضلّلوا الرأي العامّ، ومارسوا بعض الأفعال على أساس ذلك، ثمّ اتّضحت الحقيقة. وعندئذٍ، سوف تمسك شعوبهم بتلابيبهم، نتيجة كذبهم وتضليلهم.

 

ما تريده إيران في إطار الملف النوويّ، هو العلوم التي تحتاجها. العلم الذي إنْ لم

 

 

571

 


491

خطاب الولي 2009

من الأمور التي يركّز عليها إعلام الاستكبار العالميّ اليوم، وجود الخلافات داخل البلاد. على بعضهم أن يجيبوا أمام الله على ما فعلوه، حين فعلوا أشياء يفهم منها العدوُّ وجود التفرقة داخل البلاد، فتزداد جرأته. القضيّة هي أن نعرف العدوّ، ونفهم أحابيله، وندرك ما نقوله، وكيف يمكن للعدوّ أن يستفيد من كلّ كلمة نقولها، فتزداد جرأته، ويتشجّع، وترتفع معنويّاته، ويفتح الطرق لتدخّله ونفوذه، هذه أمور يجب التنبُّه لها.

 

إنّ شعبنا، والحمد لله، شعبٌ صبور غيور صاحب استقامة، ولقد أثبت هذا. أثبت شعبنا هذا، طوال هذه الأعوام الثلاثين، وقبل انتصار الثورة. نحن صابرون، لكنّ زعماء الاستكبار والناطقين باسمهم يقولون باستمرار: إنّ صبرَنا يكاد ينفد، وطاقتنا تكاد تنتهي، هذا ما يقولونه مقابل إيران. إنّكم لم تصبروا مقابل الشعب الإيرانيّ. متى صبرتم أنتم؟ لقد نفّذتم كلّ ما تستطيعونه في كلّ مكان، ضدّ شعب إيران. متى صبرتم أنتم؟ ألم تتآمروا؟ ألم تشنّوا الهجمات الإعلاميّة؟ ألم تفرضوا الحظر الاقتصاديّ؟ ألم تشنّوا الهجوم العسكريّ؟ ألم تطلقوا كلابكم المسعورة في المنطقة -أعني إسرائيل الغاصبة- ضدّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة؟ متى صبرتم حتّى تقولوا: إنّ صبرنا يكاد ينفد؟! الصبور هو الشعب الإيرانيّ. نحن الذين صبرنا ووقفنا وصمدنا، نحن الذين غضضنا الطرف عن مؤامراتكم وإعلامكم وضجيجكم، وواصلنا طريقنا. وسوف يواصل الشعب، بكلّ كيانه، وبهمم شبابه، هذا الطريق الذي أشار إليه إمامنا الراحل الكبير، ودلّنا عليه، وسيبلغ القمّة النهائيّة، إن شاء الله.

 

لا تتركوا الجِدّ!

لا تتركوا العمل، ولا تتركوا البصيرة. الإمام عليّ هو نموذجكم أيّها الشباب. عِلمُ الإمام عليّ وتقواه وطهره، نموذجٌ لكم، فلا تتركوه. لا تتركوا الجهاد والسعي في سبيل الله -كلّ ميدانٍ من الميادين له جهاده الخاصّ به- واعلموا أنّ غد هذا البلد سيكون أفضل بكثيرٍ من حاضره، إن شاء الله. وهذا الغد هو لكم. وسوف تُعِينكم روح الإمام عليّ (عليه آلاف التحيّة والثناء)، وأدعية سيّدنا بقيّة الله (أرواحنا فداه)، إن شاء الله.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

 

573


 


492

خطاب الولي 2009

كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله

في لقاء طلبة وأساتذة العلوم الدينيّة

 

 

 

المناسبة:   ذكرى يوم المباهلة

الحضور:  جمع من طلبة وأساتذة العلوم الدينيّة

المكان:   طهران

 

الزمان:    22/09/1388هـ.ش.

25/12/1430هـ.ق.

13/12/2009م.

         

575


493

خطاب الولي 2009

نرحّب بجميع الإخوة الأعزّاء والأخوات العزيزات، الحاضرين في هذا الحشد النورانيّ. الحمد لله على أنّ العلماء المحترمين، والفضلاء الأعزّاء، وطلبة العلوم الدينيّة الأعزّاء، وأساتذة ومديري الحوزة العلميّة في قمّ، كلّهم حاضرون في هذا الاجتماع، ما يجعله اجتماعًا ممتازًا نادرًا.

 

المَهمّة الأصليّة تبليغ الحقيقة

والمناسبة هي مناسبة التبليغ، وهي في الحقيقة، المَهَمّة الأصليّة والجوهريّة لي ولكم. والأيّام أيّام مناسِبة ومُلهِمة جدًّا. بالأمس، كانت ذكرى يوم المباهلة المباركة، وبعد أيّام، ستبدأ أيّام محرّم، ويوم السابع والعشرين من آذر، يوم اتّحاد الحوزة والجامعة. كلّ هذه المناسبات مهمّة وذات عبرة لنا، نحن المشمّرين عن سواعدنا لتبليغ الدين، وإبلاغ الحقيقة للقلوب والأذهان.

 

يوم المباهلة: تمييز الحقّ من الباطل

يوم المباهلة هو اليوم الذي جاء فيه رسول الإسلام الكريم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الساحة، بأعزّ عناصره الإنسانيّة. النقطة المهمّة في باب المباهلة هي أنّ فيه ﴿وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ﴾ و﴿وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ﴾[1]. اختار الرسول الأكرم أعزّ الناس، وجاء بهم إلى الساحة، للمحاججة التي يُراد لها أن تكون مائزًا بين الحقّ والباطل، ومعيارًا واضحًا يُعرَض أمام أنظار الجميع. لم يسبق أن أخذ الرسول، في سبيل تبليغ الدين وبيان الحقيقة، يدَ أعزّائه وأبنائه وابنته وأمير المؤمنين -وهو أخوه وخليفته- وأتى بهم إلى وسط الساحة. هكذا هو الطابع الاستثنائيّ ليوم المباهلة، أي ما يدلّ على مدى أهمّيّة بيان الحقيقة


 


[1] سورة آل عمران، الآية 61.

 

 

576


494

خطاب الولي 2009

وإبلاغها. يأتي بهم إلى الساحة بهذه الدعوة، ليقول: تعالوا نبتهل، فيبقى منّا من كان على الحقّ، ويحلّ العذابُ الإلهيّ على مَن هو على خلاف الحقّ.

 

عاشوراء امتدادُ التبليغ

ومثل هذه القضيّة حصلَت في محرّم، بشكل عمليّ. بمعنى أنّ الإمام الحسين عليه السلام أحضر أعزّ أعزّائه للساحة، من أجل بيان الحقيقة والتوضيح على طول التاريخ. فالإمام الحسين عليه السلام الذي كان يعلم كيف ستنتهي الواقعة، أخذ زينب وأخذ زوجاته وأبناءه وإخوته الأعزّاء. هنا أيضًا، كانت القضيّة قضيّة تبليغ الدين، التبليغ بالمعنى الحقيقيّ للكلمة: إيصال الرسالة، و(تنوير) وتوضيح الأجواء، هكذا يمكن فهم أبعاد قضيّة التبليغ ومدى أهميّتها. في تلك الخطبة: "مَن رأى سلطانًا جائرًا، مستحلًّا لحرم الله، ناكثًا لعهد الله، (مخالفًا لِسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعملُ في عبادِ الله بالإثمِ والعُدوانِ)، فلم يغيّر عليه بفعلٍ، ولا قولٍ، كان حقًّا على اللهِ أنْ يُدخِلَهُ مدخَلَهُ"[1]، أي حينما يلوّث السلطانُ الأجواء بهذا الشكل، وحينما يخرِّب بهذا الشكل، يجب النـزول إلى الساحة وممارسة التنوير، إمّا بالفعل، أو بالقول. وقد قام الإمام الحسين عليه السلام بهذه المهمّة وبهذه التكاليف العالية، أخذ عياله، وزوجاته، وأعزّاءه، وأبناء أمير المؤمنين، وزينب الكبرى إلى وسط الميدان.

 

وحدة الحوزة والجامعة من أجل إبلاغ الرسالة

المناسبة الثالثة هي البُعد المعاصِر للقضيّة، أي الوحدة والارتباط بين الحوزة والجامعة. هنا أيضًا، المسألة مسألة بناء وإبلاغ. ارتباط منظومة الطلبة الجامعيّين الهائلة، بعلماء الدين، وبالشباب العاملين في طريق المعرفة الدينيّة والتبليغ الدينيّ، وهو الأمر المنشود والمطلوب في هذه المناسبة، أي إنّ المناسبة من أجله. هذا هو معنى الوحدة بين الحوزة والجامعة. وإلّا ليس المراد الوحدة العينيّة والخارجيّة، فهذا ليس له معنى. الحوزة هي حوزة، والجامعة هي جامعة. الوحدة والارتباط الحقيقيّ بين مجموعتَين مؤثّرتَين ومهمّتَين، عملت السياسات -إلى أن أعلن إمامنا العزيز عن هذه


 


[1] الأزديّ، أبو مخنف، مقتل الحسين عليه السلام، تعليق حسين الغفاريّ، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص85.

 

 

577


495

خطاب الولي 2009

الوحدة- على إبعادهما وفصلهما بعضهما عن بعض، تبقى الجامعة بعيدة عن الإسلام، وتبتعد الحوزة عن التطوّرات العالميّة والتقدُّم العلميّ، ولتبقيا بعيدتَين بعضهما عن بعض، فلا يساعد هذان الجناحان بعضهما بعضًا، ولا ينسّقان معًا. هذه القضيّة تعود إلى مسألة التبليغ، وهنا تبرز أهمّيّة التبليغ. حينما ندرس، إنّما نفعل ذلك من أجل أن نستطيع إبلاغ الرسالة الإلهيّة، سواء على صعيد المعارف الإلهيّة، أو على صعيد الأحكام الدينيّة، أو على مستوى الأخلاق الإلهيّة.

 

البصيرة واليقين لازِمتا التبليغ

إذًا، هذه المناسبات، وأساس قضيّة التبليغ، ناظرة إلى العمل المصحوب بالبصيرة واليقين، لا بدّ من البصيرة. اليقين هو الإيمان القلبي الملتزم، وهو حالة لا بدّ منها، إذ يجب السير على أساس هذه البصيرة واليقين. إذا كانت البصيرة موجودة، واليقين موجودًا، ولكن لم يَجرِ إنجاز عمل ما، فهذا غير منشود، أي إنّ عمليّة التبليغ لم تحصل. وإذا تمّ تبليغ شيء معيّن، ولكن من دون بصيرة ولا يقين، لكان فُقِد أحد الأركان، ولن تحصل الغاية المرجوّة. اليقين هو ما أشارت إليه الآية: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ﴾[1]، بمعنى أنّ الشخص الأوّل الذي لديه اعتقاد وإيمان عميق بالرسالة، هو حامل الرسالة نفسه. وإذا لم يكن هذا، فلن تستمرّ المهمّة، ولن يُكتَب لها النفوذ والنجاح. ويجب أن يترافق ذاك الإيمان مع البصيرة. وقد ذكرتُ بعض الأفكار حول البصيرة، واتّضح الأمر. هذا هو العمل الصالح، أي ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾[2]. والحقّ أنّ العمل الصالح والمصداق الأتمّ للعمل الصالح، هو هذا التبليغ الذي يجب أن يحصل. إذًا، يجب التفكير والعمل حول التبليغ. النقطة التي ذكرها حضرة الشيخ مقتدائي[3] في كلمته، لم أكن قد سمعتها، وهي نقطة مهمّة لي، حيث قال: إنّه تمّ تأسيس مركز للتخطيط حول تبليغ الدين. هذا هو الشيء الذي أردتُ المطالبة به، والتأكيد على ضرورة إنجازه.


 


[1] سورة البقرة، الآية 285.

[2] سورة البقرة، الآية 277.

[3] رئيس الحوزة العلميّة في قمّ.

 

 

578


496

خطاب الولي 2009

أساليبٌ للتبليغ

لاحِظوا أنّ التبليغ في العالم اليوم، احتلّ دورًا كبيرًا، وقد كان الأمر كذلك دومًا. لم تكن هذه الوسائل من قبل، ولم تكن هذه الاتّصالات القريبة. نحن المعمّمون لنا ميزة التبليغ القريب (المباشر)، وجهًا لوجه. هذه عمليّة نادرة، لا يحلّ محلّها أيّ شيء، صعود المنابر والتحدّث إلى الناس. هذا الأسلوب، من جهات عدّة، أنجح من كلّ أساليب التبليغ. وتلك الجهات الفنّيّة وغيرها ضروريّة أيضًا في مواضعها، لكن لهذا الأسلوب تأثير خاصّ، وهو يملأ فراغًا لا تملؤه سائر الأساليب والأجهزة التبليغيّة. إذًا، التبليغ مهمّ، وهو اليوم أداة أساسيّة. ولدينا أحد الأساليب المؤثّرة في التبليغ.

 

نريد أن نقول: إنّ التبليغ يجب أن يخلق تيّارًا، ويصنع خطابًا، ويخلق أجواءً. الخطاب يعني مفهوم ومعرفة شاملة، في برهة من الزمن، داخل مجتمع معيّن. فإذا ما حصل هذا، كان خطابًا للمجتمع. ومثل هذا الشيء لن يحصل بالأعمال المتفرّقة غير المبرمَجة، إنّما هو مَهمّة تحتاج إلى برمجة وعمل فعّال، وهو أشبه بالنفخ المستمرّ في آلة ضغط، بإمكانها إيصال الماء أو الهواء أو سبب الحياة، إلى نقاط مقصودة مختلفة. ينبغي النفخ باستمرار، ليبقى هذا الاشتعال، ولا ينطفئ. يجب أن لا تتوقّف هذه العمليّة بأيّ شكل، وهي بحاجة إلى برمجة.

 

لماذا صناعة الخطاب هذه؟

إنّه من أجل نموّ الفكر الدينيّ والمعرفة الدينيّة لدى المخاطَبين والناس والجماهير. إذا نما الفكر الدينيّ، وترافق ذلك مع الشعور بالمسؤوليّة والالتزام، عند ذلك، يحصل العمل، ويظهر الشيء الذي سعى إليه الأنبياء. إنّ للثقافة الصحيحة والمعرفة الصحيحة في بعض الموارد، فعل الإيقاظ، ودور المنبِّه والمحذِّر، هذا هو عمل التبليغ وفاعليّاته، وهذه هي الآثار والنتائج المترتِّبة على التبليغ.

 

التبليغ في شهر محرّم: رسمُ معالم الطريق

إحدى هذه النماذج، التبليغ في شهر محرّم، الذي يجري بمناسبة العزاء في محرّم. هذه أفضل فرصة للتبليغ. ينبغي استثمار هذه الفرصة لأجل تلك المسألة التي ذكرناها،

 

 

579


497

خطاب الولي 2009

لإيجاد المعيار (المحدّد)، والمائز، ومن أجل صناعة المؤشّر، ورسم معالم الطريق. إذا لم تكن هنالك لوحة عند مفترق طريقَين، تشير إلى أين ينتهي هذا الطريق على اليمين، وإلى أين يفضي ذلك الطريق على اليسار، فإنّ السائرَ سوف يذهب في الطريق الخطأ. وإذا كانت الطرق متعدّدة، فسوف يضلّ. ينبغي تحديد المؤشّرات، ويجب أن يكون إصبع الإشارة واضحًا أمام أعين الجميع، حتّى لا يضلّوا. في عالَمٍ يُقيم فيه أعداءُ الحقيقةِ أساسَ أعمالِهم وأمورِهم على الفتنة، يجب أن يُقيمَ أنصارُ الحقيقةِ أساسَ أمورِهم على البصيرِة والهدايةِ، وأن يوضحوا هذه البصيرة ما استطاعوا، وأن يجعلوا هذه المؤشّرات (المحدّدات) وهذه المميّزات ومعالم الطريق هذه، أكثر وضوحًا، وأجلى شخصًا، وأكثر تحديدًا أمام أنظار الجميع، حتّى يفهم الناس، ويشخّصوا الأمور، ولا يسيروا في طريق الضلال.

 

من جملة الأفكار ذات الصلة بالتبليغ، ما ورد في آية سورة الأحزاب المباركة، التي تُليت هنا: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾[1]، يصبح تبليغ رسالات الله عمليًّا، بشرطين: أوّلًا، ﴿وَيَخۡشَوۡنَهُۥ﴾، والشرط الثاني، ﴿وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ﴾. أوّلًا، لا بدّ من الخشية الإلهيّة، بمعنى أن يكون العمل لله، وفي سبيل الله، ومستلهَمًا من التعاليم الإلهيّة. إذا كان خلافًا للإلهام الإلهيّ وما يُستَلهَم من التعاليم الإلهيّة، فهو ضلالة، ﴿فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَٰلُۖ﴾[2]. فَهمُ الحقّ وإدراكه يحصل من الخشية الإلهيّة. ثمّ في مرحلة بيان الحق: ﴿وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ﴾، لماذا؟ لأنّ للحقّ والحقيقة أعداءهما. ليس بيان الحقيقة بالأمر اليسير. أعداء الحقيقة هم أرباب الدنيا، والعتاة، وطواغيت العالم. هكذا كان الأمر على مرّ التاريخ، وسيبقى الأمر كذلك إلى النهاية، وحتّى زمن قيام دولة الحقّ بظهور الإمام المهديّ المنتظر (أرواحنا فداه). هؤلاء العتاة لن يبقوا مكتوفي الأيدي، بل سوف يختلقون العراقيل، ويوجّهون الضربات، ويستخدمون كلّ ما يملكونه من وسائل. إذًا، لا بدّ من وجود ﴿وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ﴾، وإلّا لو كان هناك خوف ممّا سوى الله -الخوف


 


[1] سورة الأحزاب، الآية 39.

[2] سورة يونس، الآية 32.

 

580


498

خطاب الولي 2009

بأنواعه وأقسامه، ليس الخوف على شاكلة واحدة- إذا كان ثمّة خوف ممّا سوى الله، فسوف نكون أمام طريق مسدود. تارةً يخاف الإنسان على روحه، وتارةً يخاف على ماله، وتارةً يخاف على سمعته وماء وجهه، وتارةً يخاف من كلام الناس وأقوال هذا وذاك، هذه كلّها مصاديق للخوف. ينبغي نبذ هذه المخاوف جانبًا، ﴿وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ﴾، هذه المسألة تتطلّب مشقّة كبيرة. في كثير من الأوقات، لا يدرك الأشخاص هذه المشقّة وهذا العذاب، ولا يعرف الناس الجهود التي تُبذَل. ويقول بعد ذلك: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾[1]، أي أتركُ الحسابَ على الله. إنّه الإخلاص والمبادرة، المترافق مع اليقين، ومع الشجاعة والشهامة، وترك الحساب والكتاب على الله. هذا هو الشكل العامّ للتبليغ الإسلاميّ.

 

وأشير إلى مسألة التبليغ في موسم محرم. بعضهم قد يقولون: إنّكم تريدون توضيح ثورة الإمام الحسين، حسنًا، استعرِضوا ثورة الإمام الحسين، لماذا قراءة التعزية والبكاء والنحيب وما إلى ذلك؟ اجلسوا واذكروا أنّ الإمام الحسين فعل كذا وكذا، وكان هدفه كذا وكذا.

 

(الجواب) هذه فكرة خاطئة جدًّا، ونظرة مغلوطة. هذه العاطفة تجاه أولياء الله وأولياء الدين، وهذه الآصرة العاطفيّة تُعَدّ رصيدًا وسندًا قيّمًا جدًّا للارتباط الفكريّ والعمليّ. وسيكون من الصعب جدًّا التحرُّك في هذا الطريق، من دون هذا الرصيد. هذه الآصرة العاطفيّة مهمّة جدًّا. حين أوصى الإمام الخمينيّ الراحل (رضوان الله عليه) بإقامة العزاء بالطريقة التقليديّة، لم يكن كلامه هذا بدافع العادة، بل هو كلامٌ عميقٌ جدًّا.

 

ثلاثة تعابير بخصوص أولياء الله

لاحِظوا أنّ في القرآن الكريم، ثلاثة تعابير بخصوص أولياء الله:

أحد التعابير هو تعبير الولاية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ

 


 


[1] سورة النساء، الآية 6.

 

 

581


499

خطاب الولي 2009

يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ﴾[1]. القضيّة هنا قضيّة ولاية. ومن الجليّ أنّ الآصرة والارتباط والمعرفة، أمورٌ داخلة كلّها تحت عنوان (مجموعة) الولاية.

 

والبحث الآخر هو قضيّة الطاعة: ﴿أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ﴾[2]، إطاعة الرسول وإطاعة أولي الأمر. هذا على مستوى العمل. ينبغي تحقيق الطاعة والاتّباع على الصعيد العمليّ.

 

ولكن هناك بحثٌ ثالث، وهو بحث المودّة: ﴿قُل لَّآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ﴾[3]. ما هي هذه المودّة؟ فإذا ما كنتم توالونهم وتطيعونهم[4]، فلماذا المودّة إذًا؟ المودّة موجودة هنا، دعامةً وسندًا. لو لم تكن هذه المودّة موجودة، لنـزل بالأمّة الإسلاميّة البلاء نفسه، الذي نزل في العصور الأولى، ببعض الذين تركوا هذه المودّة جانبًا، فكانت عاقبتهم أن تركوا -تدريجيًّا- الطاعة والولاية أيضًا. قضيّة المودّة على جانب كبير من الأهمّيّة. تحصل المودّة بهذه الأواصر العاطفيّة، وعبر ذِكر مصائبهم، وخلق نوع من الترابط العاطفيّ. وإنّ ذكر مناقبهم وفضائلهم هو نوع آخر من الرباط العاطفيّ.

 

إذًا، مراسم العزاء التي تُقام، وهذا البكاء والنحيب، وذِكر أحداث عاشوراء، هذه كلّها أمور ضروريّة. فلا يأتيَنَّ بعضهم من منطلق التنوير والتوضيح، ليقول: لم تعد هناك ضرورة لهذه الأمور! لا، هذه أمور ضروريّة، وهي ضروريّة إلى آخر المطاف، هذه الأعمال التي يقوم بها الناس. طبعًا، ثمّة أشكال سيّئة ذكرناها، مثل التطبير، الذي قلنا: إنّه ممنوع، ويجب أن لا يحصل. هذه من دواعي تجرُّؤ الأعداء وتطاولهم على محبّي أهل البيت. لكن هذا العزاء المتعارَف، ومواكب اللطم، ورفع الأعلام، وإعلان المحبّة، وكتابة الشعارات، وقراءة التعازي والبكاء، هذه ممارسات تزيد من الوشائج العاطفيّة، يومًا بعد يوم، هذه أمور جيّدة جدًّا. هذه هي أهمّيّة التبليغ.


 


[1] سورة المائدة، الآية 55.

[2] سورة النساء، الآية 59.

[3] سورة الشورى، الآية 23.

[4] أو: فإذا ما كانت لديكم الولاية لهم والطاعة، فلماذا إذًا المودّة؟

 

 

582


500

خطاب الولي 2009

وصيّة للمبلِّغين: التخطيط والمتابعة

إذًا، يجب بالتأكيد، القيام بعمل جيّد في الحوزة العلميّة -ومركزها من كلّ النواحي هو مدينة قمّ- من أجل ترتيب الأمور، وخلق التيّارات، وتنسيق الأعمال، ورسم السياسات للتبليغ. وقد بشّرونا الآن، بمثل هذا العمل الجيّد، وسوف تُتابَع الأمور، إن شاء الله. ربّما يجب تبليغ بعض الأمور في فترات معيّنة، مثلًا، نحتاج لذكرها مدّة خمسة أعوام أو عشرة أعوام، وبعد ذلك، قد لا نحتاج إلى ذكرها على الإطلاق. ينبغي التخطيط لهذه الأمور. هذا ما نوصي به المبلّغين وطلبة العلوم الدينيّة والفضلاء دومًا، أن يرصدوا الحاجات، ويتحدّثوا حسب حاجات المتلقّين واستفهاماتهم وأسئلتهم. لكن هذه ليست مَهمّة فرد واحد. قد يخطئ الأفراد في معرفة الأمور وتقييمها أحيانًا. هذه مَهمّة جماعة منظَّمة، تقوم بتخطيط وبرمجة مدروسة. وهذا ما سيحدث، إن شاء الله.

 

أهميّة التبليغ في ظلّ وجود الفتنة

إنّ أهمّ مرحلة وزمان ومكان يَكتسب فيه التبليغُ معناه، هو عند وجود الفتنة. كانت المشقّة الأكبر في زمن صدر الإسلام، وفي عهد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، تلك التي تعود إلى المنافقين. وبعد عهد الرسول، أي في زمن أمير المؤمنين الإمام عليّ، برزَت مشاقّ كانت نتيجة اصطدام الحكومة الإسلاميّة بأشخاص يدّعون الإسلام. واستمرّ الحال كذلك في مرحلة الأئمّة عليهم السلام، حيث كانت الأجواء أجواء ضبابيّة مغبّرة. وإلّا حينما تكون القضيّة (مثل) قضيّة معركة بدر، لن يكون الأمر صعبًا، لم تكن القضيّة صعبة حينما كان المسلمون يحضرون في سوح الحرب ليقاتلوا أعداءً واضحٌ ما يقولون. القضيّة تصعب حينما يقف الإمام عليّ مقابل أشخاص يدّعون الإسلام، ويعتقدون به. لم يكونوا ممّن لا يعتقد بالإسلام، أو من المرتدّين عنه، لا، كانوا يعتقدون بالإسلام، لكنّهم يسيرون في الطريق الخطأ، وقد غلبَتهم أهواؤهم النفسيّة. هذه أصعب المواقف التي تضع الأفراد أمام الشبهات، إلى درجة أنّ أصحاب عبد الله بن مسعود يأتون إلى الإمام

 

 

583


501

خطاب الولي 2009

عليّ، ليقولوا له: "يا أمير المؤمنين، إنّا شككنا في هذا القتال"[1]! لماذا يجب أن يشكّوا؟ وإنّ شكوك الخواصّ هذه تنخر أُسُس الحركة الصحيحة للمجتمع الإسلاميّ، كالأرضة، فأن يشكّ الخواصّ في الحقائق الجليّة، حالةٌ تخلق المشكلات والصعاب للعمل، بشكل أساسيّ. هذه هي المشكلة التي واجهها الإمام عليّ. وكذا الحال اليوم أيضًا، حينما ننظر إلى هذا العالم، نرى أنّ الوضع على الشاكلة نفسها. وكذا هو الحال على مستوى مجتمعنا الداخليّ أيضًا. لا بدّ من التوضيح.

 

أيّ حكومة أكثر خرقًا للقانون من الحكومة الأمريكيّة؟

على المستوى الدوليّ، يستخدم الأعداء اليوم، جميع الأدوات، من أجل التشويش على أذهان عموم الناس والشعوب في العالم، خواصّهم وعوامهم، يفعلون ذلك قدر المستطاع. إنّهم يبذلون جهودهم في هذا الأمر، يتشدّقون بالقانون وحقوق الإنسان ومناصرة المظلومين، هذه كلمات جميلة وجذّابة، بَيدَ أنّ الحقيقة شيء آخر. قال رئيس جمهوريّة أمريكا قبل أيّام: إنّنا نريد أن تتحمّل الحكومات الخارقة للقانون مسؤوليّاتها. حسنًا، أيّ حكومة خارقة للقانون؟ أيّ حكومة أكثر خرقًا للقانون من الحكومة الأمريكيّة؟ بأيّ قانون احتلّت الحكومة الأمريكيّة العراق، وفرضَت على الشعب العراقيّ كلّ هذه الخسائر البشريّة والمادّيّة والمعنويّة؟ على أساس شائعة كاذبة اختلقوها هم بأنفسهم، هجموا على العراق، حيث قُتِل مئاتُ الآلاف من الشعب العراقيّ، في غضون الأعوام القليلة المنصرمة، وشُرِّد الملايين من أبنائه. جاء في الأخبار قبل مدّة، أنّ خمسمئة وخمسين عالِمًا عراقيًّا اغتالَتهم إسرائيل. هل هذا بالشيء القليل؟! تعبّأَت فِرَق الاغتيال، وذهبت واغتالت العلماء العراقيّين، واحدًا واحدًا. هذا نتيجة الاحتلال الأمريكيّ. بأيّ قانون دخلتم العراق؟ وبأيّ قانون بقيتم إلى اليوم؟ وبأيّ قانون تتصرّفون مع الشعب العراقيّ بهذه الطريقة المهينة؟ بأيّ قانون احتللتم أفغانستان؟ وبأيّ قانون دوليّ مقبولٍ عقليًّا، تضاعفون عدد قوّاتكم في أفغانستان؟ كم حدث أن قصفت الطائرات الأمريكيّة قوافل الأعراس في أفغانستان؟ حدث هذا مرّات


 


[1] المنقريّ، وقعة صفّين، مصدر سابق، ص115.

 

 

584


502

خطاب الولي 2009

على كلّ حال، بذلوا ما كان بوسعهم- هؤلاء فسحوا المجال لأعداء الثورة وأعداء الإسلام، كي يطيلوا ألسنتهم، ووفّروا لهم الجرأة. عملوا ما من شأنه أن يتجرّأ الذين يختزنون الحقد ضدّ الإمام، ويأتوا إلى الجامعة، ويهينوا صور الإمام[1]. فعلوا ما من شأنه أن يشجّع العدوّ اليائس القانط، وليأتي أمام أنظار حشود الطلبة الجامعيّين، الذين هم من محبّي الإمام والثورة، دون شكّ، ومن عشّاق العمل لبلادهم ووطنهم والجمهوريّة الإسلاميّة، ويقترف مثل هذه الإهانة، ومثل هذا الفعل الكبير! ذلك خرقهم للقانون، وإثارتهم للاضطراب -تشجيعهم على الاضطراب، وجرّهم الناس إلى ساحة التوتّر- وهذه هي نتائجه. تحدث هذه الأخطاء والأعمال المشينة والممارسات المغلوطة، ثمّ من أجل التستّر على خطأ هذه الأعمال الخاطئة، ينسجون الفلسفات حولها، ويقدّمون الاستدلالات لتبريرها. هذه من الابتلاءات الكبرى للإنسان. كلّنا معرّضون للخطر، ويجب أن نحذر ونراقب. نفعل الفعل الخطأ، ثمّ من أجل الدفاع عن فعلتنا، نقدّم فلسفة ودليلًا تبريريًّا مقابل ضمائرنا، وحيال أسئلة الشعب، وأمام أنظار السائلين.

 

هذه أمور تخلق الفتن، أي إنّها تجعل الأجواء ملبّدة حالكة. يرفعون شعارات مناصرة القانون، ويقومون بأعمال مخالفة للقانون بصراحة. يرفعون شعارات مناصرة الإمام، ثمّ يقترفون ما من شأنه حصول مثل هذا الذنب الكبير، على مستوى مناصريهم ومؤيّديهم، يهينون الإمام، ويهينون صورته. هذا ليس بالعمل القليل، ولا هو بالفعل الصغير. لقد فرح الأعداء لهذا الفعل كثيرًا. وهم ليسوا فرحين فقط، بل يحلّلون الحدث، ويتّخذون القرارات على أساس هذا التحليل، ويعملون على أساس ما يتّخذونه من قرارات. يشجّعون ضدّ المصالح الوطنيّة، وضدّ الشعب الإيرانيّ. إنّ ما يخلق المشكلة هنا، هو هذا الخداع، وهذه الأجواء الضبابيّة، والشيء الذي ذَكرَه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، حين قال: "وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ، وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه‏"[2]. يخلطون كلمة حقّ بكلمة باطل،


 


[1] شعار الحضور: "الخمينيّ روحي، الخمينيّ محطِّم الأصنام".

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، مصدر سابق، ص88، الخطبة 50.

 

 

586


503

خطاب الولي 2009

إبّان فترة الطاغوت وإرهابه وقمعه- وأحرزوا عناوين ومكانةً ببركة الثورة، وكلّ ما لديهم إنّما هو بفضل الثورة، وترون كيف أنّ أعداء الثورة استعدّوا واصطفّوا، وهم فرحون ويضحكون، أنتم ترون هذا طبعًا؟ ارجعوا إلى أنفسكم وتنبّهوا.

 

واجب احترام القانون والخضوع له

أنتم إخوتنا السابقون. هؤلاء أشخاصٌ بعضُهم تعرّض للإهانة، بسبب مناصرته للإمام. ولاحِظوا الآن، أنّ الذين يهتفون لهم وباسمهم، ويرفعون صورهم، ويذكرون أسماءهم بتكريم واحترام، يهتفون ضدّ الإمام، وضدّ الثورة، وضدّ الإسلام، ويفطرون علنًا في يوم القدس في شهر رمضان، أنتم ترون هذا. لذلك يجب أن تنسحبوا. لقد انتهت الانتخابات. كانت هناك انتخابات، وكانت عامّة وصحيحة، ولم يستطيعوا تسجيل إشكال عليها، وإثباتَه، لكنّهم أطلقوا دائمًا دعاوى معيّنة، وأُعطِيَت لهم الفرصة. قلنا لهم: تعالوا وأثبِتوا، فلم يستطيعوا، ولم يأتوا، وانتهى الأمر. الالتزام بالقانون يقتضي من الإنسان، حتّى لو لم يكن مؤمنًا برئيس الجمهوريّة الذي انتُخِب، لكن لأنّه يحترم القانون، يجب عليه أن يخضع للقانون. واضحٌ أنّه لا أحد يستطيع القول: إنّ الشخص الذي انتُخِب، حَسَنٌ مئة في المئة، وإنّ الشخص الذي لم يُنتَخب، قبيحٌ مئة في المئة. لا، الكلّ لديهم حُسن وقبح. هذا الطرف لديه حُسن وقبح، وذاك الطرف أيضًا لديه حُسن وقبح. القانون هو المِلاك والمعيار. لماذا يحدث هذا؟ لماذا؟

 

إنّه هوى النفس!

وهو ليس شيئًا يختصّ باليوم والحاضر فقط. الذين يتذكّرون بدايات الثورة، يعلمون أنّ بعضًا من أنصار الإمام والمقرّبين إليه، وصل بهم الأمر في العقد الأوّل للثورة، وفي زمان حياة الإمام، إلى الوقوف بوجه الإمام ومعارضته، وأصرّوا على إركاع الإمام، وإثبات خطأ حركته وهزيمته، وإثبات خطأ حركة الإمام (رضوان الله -تعالى- عليه)، ذلك الرجل الإلهيّ الكبير، لكنّهم انحرفوا بعد ذلك، وطردتهم الثورة. بعض الذين كانوا من المقرّبين للإمام، ومن أنصاره، وصل بهم الأمر إمّا إلى اللجوء للعدوّ، أو مجابهة الثورة، أو توجيه الضربات للثورة. هذه يجب أن تصبح عِبَرًا لنا جميعًا، يجب

 

 

588

 


504

خطاب الولي 2009

أن تصبح عِبَرًا يجب أن نفهمها.

 

إنّني لا أؤمن أبدًا بالإقصاء (والدفع)، وقد قلتُ هذا في صلاة الجمعة. أعتقد بالحدّ الأقصى من الجذب، والحدّ الأدنى من الدفع. ولكن كأنّ بعضهم يصرّون هم أنفسهم، على الابتعاد عن النظام. حوّل بعضهم اختلافًا داخل العائلة وداخل النظام -تمثّل في التنافس الانتخابيّ- إلى حربٍ ضدّ النظام -وهؤلاء طبعًا، أقليّة صغيرة، وهم صفر مقابل عظمة الشعب الإيرانيّ، لكنّهم يهتفون باسم هؤلاء، وهؤلاء يفرحون لذلك- هذا شيء يجب أن نعتبر منه. يجب أن تتمكّن عمليّة التبليغ من توضيح هذه الحقائق للشعب ولهم، ليفهموا أنّهم على خطأ.

 

هذا النظامُ نظامٌ إلهيّ

هذا النظام نظامٌ أظهر الله -تعالى- مرارًا وتكرارًا، لطفه وحمايته له. إنّ كلّ تجاربنا، منذ بداية الثورة، تدلّ على هذا المعنى. إذا كنّا مع الله، كان الله معنا. سوف يتلقّى هؤلاء الناهبون العالميّون، الذين يريدون اليوم بمنطقهم المغلوط الهزيل على المستوى الدوليّ -والذي أشرت إليه- إدارة العالم والسيطرة عليه، سوف يتلقّون بالتأكيد، صفعةً من هذا الشعب، ومن الشعوب المستقلّة، بحول الله وقوّته. هؤلاء لم يعرفوا الإسلام، ولم يعرفوا هذا الشعب، ولم يعرفوا هذه الثورة، ولم يعرفوا إمامنا الراحل العظيم، لا يعلمون مَن هو طرفهم المقابل. ولم يعرفوا هذا الشعب، هذا الشعب شعبٌ مقاوم. شبابنا شبابٌ يسعون من أعماق أرواحهم، وبالمعنى الحقيقيّ للكلمة، لنيل السعادة، السعادة المتوفّرة في الإسلام. وكذا الحال لطلبتنا الجامعيّين. طلبتنا الجامعيّون اليوم، من أفضل الطلبة الجامعيّين، وأكثرهم تفوّقًا، لا من حيث الذهنيّة والعلم فقط، بل حتّى من حيث الإخلاص والنقاء والمعنويّة والإيمان. طلبتنا الجامعيّون جيّدون جدًّا. وفي هذه القضايا بالذات، شُوهِد مرارًا، أنّ الجامعات خرجَت من التحدّيات مرفوعةَ الرأس. لقد أثبتَت الجامعة في هذه القضايا، أنّها متواجدة في الساحة، وأنّها تتحلّى بالوعي واليقظة. وكلّما ازداد هذا الترابط بين الحوزة والجامعة، ازدادَت هذه المعنويّة، وهذه الحال الروحيّة.

 

 

589


505

خطاب الولي 2009

حافِظوا على الهدوء

ما نطلبه من الشعب طبعًا، هو: في قضيّة إهانة الإمام الراحل (رضوان الله عليه)، لقد غضب شعبنا، والحقّ معه، وأعلن البراءة، وكان إعلانه هذا جيّدًا وفي محلّه. ولكن على الشعب أن يحافظ على هدوئه. وهذا ما نطلبه أيضًا من الطلبة الجامعيّين، حافِظوا على الهدوء. الذين يقفون بوجهكم، ليسوا أصحاب جذور أو بوسعهم البقاء ومقاومة عظمة هذا الشعب وعظمة هذه الثورة، لا. بهدوء، افعلوا كلّ شيء بهدوء. إذا اقتضى الأمر في وقت ما، سيقوم المسؤولون أنفسهم بواجبهم، وكذلك القانون وحماة القانون بواجباتهم. طبعًا، يجب أن يقوموا بالتشخيص، وعلى الطلبة الجامعيّين أنفسهم معرفة العناصر المسبّبة للفساد في البيئة الجامعيّة، وإعلام الآخرين بها. هذا بذاته تبليغٌ صائبٌ وصحيح. ليعلموا ويعرفوا ما هي علاقات هؤلاء وتوجّهاتهم، ولكن يجب أن تجري كلّ الأمور بهدوء. ليس من المصلحة نُشوب التوتّر والشغب والنـزاعات على مستوى المجتمع. هذا شيء يريده الأعداء. يريد الأعداء الفوضى لمجتمعنا، وانعدام الهدوء. الأمن هو المهمّ. أعداء أمن الشعب يحبّون أن يعيشَ الشعب أجواء انعدام الأمن، ويعيشَ الألم والغيظ والانزعاج، وهذا ما لا نريده نحن. نحن نريد أن تكون حياة الناس حياةً هادئة، فيستطيع الطالب الجامعيّ أن يدرس، ويستطيع طالب العلوم الدينيّة أن يدرس، ويستطيع العالِم القيام ببحوثه العلميّة، والعامل والفلّاح والتاجر يستطيعون جميعًا القيام بأعمالهم. يجب أن تكون البيئة الجامعيّة، بدورها، بيئة آمنة. شباب الناس وأبناؤهم مجتمِعون في الجامعات، ويريد الناس لأبنائهم أن يعيشوا في أجواء آمنة. إنّ الذين يزعزعون أمن الجامعة بشغبهم، إنّما يجابهون الناس، ويتحدّون الشعب. طبعًا، للأجهزة القانونيّة واجباتها، وعليها القيام بهذه الواجبات.

 

﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء﴾

 

اعلموا أيّها الشباب الأعزّاء، أيّها الطلبة الأعزّاء، أيّها الفضلاء الشباب، اعلموا أنّ

 

 

590

 


506

خطاب الولي 2009

الآية المباركة: ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ﴾[1]، لها اليوم مصداقها التامّ في زمانكم، وسوف ترون هذا المصداق. سترون بفضلٍ من الله، أنّه ﴿وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ﴾. سيبقى هذا البناء المتين ذو الهندسة الإلهيّة، والذي شيّدَه رجلٌ إلهيّ، والذي بقاؤه رهنٌ بإرادة هذا الشعب العظيم، وإيمان هذا الشعب العظيم، سيبقى شامخًا، وسوف تتجذّر هذه الشجرة، إن شاء الله، أكثر فأكثر، على مرّ الزمن، وسترون أنّ هؤلاء المعارضين والذين يعادون هذا الصرح، وهذا الحقّ، وهذه الحقيقة ﴿فَيَذْهَبُ جُفَاء﴾، أي إنّهم سوف يضمحلّون أمام أعينكم، إن شاء الله.

 

نتمنّى أن يجعل الله -تعالى- القلب المقدّس لإمامنا المهديّ المنتظر عطوفًا علينا جميعًا، وأن تشملنا أدعيته عجل اله تعالى فرجه الشريف، وأن يجعل أرواح الشهداء الطيّبة، وروح إمامنا الجليل، راضيةً عنّا، إن شاء الله.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 


[1] سورة الرعد، الآية 17.

 

 

591


507
خطاب الولي (2009)