دروس في العلاقة بين القرآن والسنّة

﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2023-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية


المقدّمة

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي، ألا وهما الخليفتان من بعدي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض»[1].

شكّل نزول القرآن على قلب المصطفى(صلى الله عليه وآله) فتحاً عظيماً وهائلاً على صعيد الهداية الإلهية، لم يسبقه فتح مثله، ولن يليه كذلك، فهو كتاب الهداية الإلهية العظمى الذي يشتمل على أرقى المعارف الاعتقادية، ويعرض للبشرية شريعة وأحكاماً ومنهجَ حياة، وفضائل أخلاقية بأسلوب تميّز به هذا الكتاب العظيم، لا يركّز فيه على عرض الجانب النظري من الأخلاق وإنّما يشفعها بذكر النموذج والمصداق، ليكون أشدّ تأثيرا وأقرب إلى مقصده. وهو أيضاً وأيضاً يتضمّن العديد من الأصول العلمية، التي كان غرضه من عرضها تحقيق الهدف الأساس منه، وهو الهداية الإلهية للتي هي أقوم.

هذا، وقد اقترن القرآن مع بداية نزوله ببيان رسول الله محمد(صلى الله عليه وآله)، ولم يكن بدّ من الأخذ بكليهما لدلالته هو -أي القرآن- على ذلك، ودلالة العقل عليه. قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[2].

 

 


[1]  الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، الأمالي، ص500.

[2]  سورة النحل، الآية 44.

 

7


1

المقدّمة

وقال -عزّ من قائل-: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[1].

وقد امتدّت وظيفة البيان -لا تلقّي الوحي القرآني- والهداية في أهل بيت النبيّ المعصومين (عليهم السلام)، ورثة علمه والدعاة إلى سبيله؛ سبيل الله القويم، والخلفاء من بعده «فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك»[2].

وقد أكّد النبي(صلى الله عليه وآله) في مواطن عديدة على لزوم التمسّك بالكتاب والعترة لمن أراد النجاة ونيل رضوان الله تعالى، وكان حديثه المتواتر، والمشهور بحديث الثقلين، من أوضح البيان لهذه الحقيقة والضرورة، وكان لازمه البيّن أنّ الأخذ بأحدهما دون الآخر هو مخالفة لهذا الحديث من الأساس، فإنّ عدم افتراقهما يفيد أنّ الاقتصار على أحدهما فحسب مساو لعدم الأخذ بكليهما، فلا القرآن يفترق عن العترة، ولا العترة تفترق عن القرآن.

هذا الكتاب «دروس في العلاقة بين القرآن والسنّة» -وعلى الرغم من صغر حجمه- تناول في بحوثه التي عرضها محاولة لفهم طبيعة هذه العلاقة، مع ضرورة الانتباه إلى أنّ السنّة -بحسب ما هو ثابت في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)- تعمّ تراث النبيّ وآله المعصومين (عليهم السلام) قولاً وفعلاً وتقريراً. وقد تضمّن الكلام فيه حجية كلٍّ من القرآن والسنّة، والعلاقة بينهما سواء بلحاظ السنّة الواقعية، أو السنّة المحكيّة، مشفوعاً بملحقَين؛ الأوّل تحدّث –بنحو ملخّص– عن رؤية العلامة الطباطبائي (قدس سره) لطبيعة هذه العلاقة، والثاني عرض لألفاظ حديث الثقلين كما ورد في مصادر كثيرة للمسلمين شيعة وسنّة.

نسأل الله تعالى أن يبارك هذا العمل المتواضع، وأن ينفع به الباحثين عن المعرفة الأصيلة، والساعين لإعلاء راية الإسلام المحمّدي الأصيل، وأن ينيل جميع من عمل على إنجاز هذا الكتاب وساهم فيه الأجر والثواب بفضله ورحمته، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية

 

 


[1]  سورة الحشر، الآية 7.

[2]  ابن طاووس، علي بن موسى، إقبال الأعمال، ج1، ص 506.

 

8


2

الدرس الأوّل: مصطلحات ومبادئ تصوّريّة (القرآن الكريم والسنّة)

الدرس الأوّل: مصطلحات ومبادئ تصوّريّة (القرآن الكريم والسنّة)

 

أهداف الدرس

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف معنى لفظ "السنّة" في اللغة وأصل اشتقاقه.

2. يتعرّف المعاني التي استعمل فيها القرآن الكريم هذه المادّة.

3. يتعرّف معاني مصطلح "السنّة" في العلوم المختلفة.

4. يعرف المراد من "القرآن الكريم" ضمن هذا البحث.

 

9


3

الدرس الأوّل: مصطلحات ومبادئ تصوّريّة (القرآن الكريم والسنّة)

تمهيد

الأسئلة الرئيسة التي سنُجيب عنها في هذا الدرس هي:

- ما المراد من السنّة في اللغة؟

- ما المراد من السنّة في الاصطلاح؟

- هل هناك حقيقة غيبيّة للقرآن الكريم وراء الوجود اللفظيّ؟

السنّة في اللغة

يظهر من تتبُّع كلمات اللغويّين، أنّ معنى لفظ "سنّة" في خصوص ما نحن فيه من البحث، هو "السيرة والطريقة، حسنةً كانت أو قبيحة"[1]. وقد ورد في الحديث: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ"[2].

وفي الفرق بين العادة والسنّة: "أنّ العادة ما يديم الانسان فعله من قبل نفسه،

 

 


[1]  انظر: الزبيديّ، محمّد مرتضى الحسينيّ، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: مصطفى حجازي، الكويت، سلسلة التراث العربيّ، 1421هـ–2001م، ط1، ج35، ص230.

[2]  القشيريّ، مسلم بن الحجّاج، المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، دار إحياء الكتب العربيّة، كتاب العلم، باب من سنّ سنّة حسنة أو سيّئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، ح15، ص2059.

 

11


4

الدرس الأوّل: مصطلحات ومبادئ تصوّريّة (القرآن الكريم والسنّة)

والسنّة تكون على مثال سبق"[1]. لذا، نقل صاحب اللسان عن شمر[2]، أنّ السنّة في الأصل سنّة الطريق، وهو طريقٌ سنَّه أوائل الناس، فصار مسلكًا لمن بعدهم. وسَنَّ فلانٌ طريقًا من الخير، يسنّه، إذا ابتدأ أمرًا من البرّ لم يعرفه قومه، فاستسنوا به وسلكوه[3].

 

السنّة في القرآن

أمّا معاني لفظ "السنّة" في القرآن الكريم، فإنّا حين نستقرئ آيات الكتاب الكريم، نجد أنَّ المادّة (س ن ن) قد وردت في تسعة مواضع من السور المكّيَّة، وفي عشر آيات من السور المدنيَّة؛ ولدى استقرائها ودراستها في مواضعها من الآيات والسور، يتَّضح لنا أنَّ القرآن المجيد قَدِ اسْتَعْمَلَ[4] هَذِهِ المَادَّةَ تارةً في القوانين الكَوْنِيَّةِ والاجتماعيَّة، التي على الرغم من تكرُّر مفردات أحداثها بصيغ مختلفة، غير أنّها تبقى هي الحاكمة كقانون واحد لا يقبل التغيّر والتحوّل؛ واستُعمِلَت أخرى في طريقة تشريع الله تعالى لفروع الشرائع، فنبّه القرآن الكريم على أنّها تنبع من منبع واحد، وغاية واحدة هي تطهير الإنسان والهداية إلى سبيله تعالى.

أمّا المعنى الأوّل، فيمكن استنتاجه من الآيات: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِن يَنتَهُواْ يُغۡفَرۡ لَهُم مَّا قَدۡ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدۡ مَضَتۡ سُنَّتُ ٱلۡأَوَّلِينَ﴾[5]، ﴿لا يُؤۡمِنُونَ بِهِۦ

 

 


[1]  العسكريّ، أبو هلال، معجم الفروق اللغويّة، تحقيق: مؤسَّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين، قمّ المقدَّسة، 1412ه‍، ط1، ص346.

[2]  الظاهر أنّه شمر بن حمدويه الهرويّ، أبو عمرو: لغويّ أديب. من أهل هراة (بخراسان) زار بلاد العراق في شبابه، وأخذ عن علمائها. له كتاب كبير في اللغة، ابتدأه بحرف الجيم، غرق في النهروان، ورأى منه الأزهريّ (المتوفّى سنة 370هـ) تفاريق أجزاء غير كاملة. (انظر: الزركلي، خير الدين، الأعلام، دار العلم للملايين، لبنان- بيروت، أيار - مايو 1980م، ط5، ج3، ص375).

[3]  انظر: ابن منظور، جمال الدين محمّد بن مكرم، لسان العرب، نشر أدب الحوزة، قمّ – إيران، 1405ه‍- 1363ق، المجلّد الثالث عشر، ص226.

[4]  وردت المادّة أيضًا بمعنى آخر قد لا يكون له صلة وثيقة بالمعنى محلّ البحث، في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰل مِّنۡ حَمَإ مَّسۡنُون﴾ (الحجر 26). قال ابن منظور في اللسان: "والمسنون: المنتن. وقوله تعالى: (من حمأ مسنون)، قال أبو عمرو: أي متغيّر منتن، وقال أبو الهيثم: سَنَّ الماء فهو مسنون؛ أي تغيّر، وقال الزجاج مسنون مصبوب على سنّة الطريق، قال الأخفش: وإنّما يتغيّر إذا أقام بغير ماء جار، قال: ويدلّك على صحّة قوله أنّ مسنون اسم مفعول جار على سنّ، وليس بمعروف، وقال بعضهم: مسنون طوله، جعله طويلًا مستويًا. يُقال: رجل مسنون الوجه؛ أي حسن الوجه طويله، وقال ابن عبّاس: هو الرطب، ويُقال المنتن. وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب. ويُقال: المسنون المصبوب على صورة، وقال: الوجه المسنون سُمِّي مسنونًا لأنَّه كالمخروط" (ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج13، ص227).

[5] سورة الأنفال، الآية 38.

 

 

12


5

الدرس الأوّل: مصطلحات ومبادئ تصوّريّة (القرآن الكريم والسنّة)

وَقَدۡ خَلَتۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ﴾[1]، ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض ليخرجوك مِنۡهَاۖ وَإِذا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلا ٧٦ سُنَّةَ مَن قَدۡ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِن رُّسُلِنَاۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِيلًا﴾[2]، ﴿وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إلا أن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلا﴾[3]، ﴿لَّئِن لَّمۡ يَنتَهِ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ والذين في قُلُوبِهِم مَّرَض وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لَنُغۡرِيَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلا ٦٠ ملعونين  أَيۡنَمَا ثُقِفُوٓاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقۡتِيلا ٦١ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلا﴾[4]، ﴿وَأَقۡسَمُواْ بالله جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَهُمۡ نَذِير لَّيَكُونُنَّ أَهۡدَىٰ مِنۡ إِحۡدَى ٱلۡأُمَمِۖ فَلَمَّا جَآءَهُمۡ نَذِير مَّا زَادَهُمۡ إِلَّا نُفُورًا ٤٢ ٱسۡتِكۡبَارا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَكۡرَ ٱلسَّيِّيِٕۚ وَلَا يَحِيقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦۚ فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِينَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا﴾[5]، ﴿فَلَمۡ يَكُ يَنفَعُهُمۡ إِيمَٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ فِي عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾[6]، ﴿وَلَوۡ قَٰتَلَكُمُ الذين كَفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلۡأَدۡبَٰرَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّا وَلَا نَصِيرا ٢٢ سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلا﴾[7]، ﴿قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سنن فسيروا في الأرض فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ﴾[8].

والآيات التي قد تشير إلى المعنى الثاني: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم﴾[9]، ﴿وَإِذۡ تَقُولُ للذي أَنۡعَمَ الله عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡد مِّنۡهَا وَطَرا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى

 


[1]  سورة الحجر، الآية 13.

[2]  سورة الإسراء، الآيتان 76 – 77.

[3]  سورة الكهف، الآية 55.

[4]  سورة الأحزاب، الآيات 60 – 62.

[5]  سورة فاطر، الآيتان 42 – 43.

[6]  سورة غافر، الآية 85.

[7] سورة الفتح، الآيتان 22 – 23.

[8]  سورة آل عمران، الآية 137.

[9] سورة النساء، الآية 26.

 

 

13


6

الدرس الأوّل: مصطلحات ومبادئ تصوّريّة (القرآن الكريم والسنّة)

ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَج فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَراۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولا ٣٧ مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنۡ حَرَج فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُۥۖ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرا مَّقۡدُورًا﴾[1].

وقال الطبريُّ عن معنى "السُّنَّةِ" في آية سورة النساء ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم﴾: "يريد الله لِيُبَيِّنَ لكم حلاله وحرامه ويهديكم سُنَنَ الذين من قبلكم، أي: سُبُلَ مَنْ قبلكم من أهل الإيمان بالله وأنبيائه، ومناهجهم في ما حرّم عليكم من الأمّهات والبنات والأخوات، وسائر ما حرّم عليكم في الآيتَين اللتَين بيَّن فيهما ما حرَّم من النساء..."[2].

وقال القرطبيّ في تفسير الآية نفسها: "معنى يهديكم: يبيّن لكم طرق الذين من قبلكم من أهل الحقّ وأهل الباطل"[3].

السنّة في الاصطلاح الأصوليّ

عرّف بعض الأصوليين "السنّة" بأنّها "قول النبيّ(صلى الله عليه وآله)، أو فعله، أو تقريره"، وعرّفها بعضهم بأنّها "ما صدر عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) غير القرآن من قول، أو فعل، أو تقرير". وأُشكِل على هذا التعريف بأنّه شامل للأقوال والأفعال والتقريرات العاديّة، كطلب الماء والغذاء، والقعود والقيام، والتقرير عليها. لذا، فإنّه زِيدَ في التعريف قيد "غير قرآن ولا عاديّ"، لإخراج مثل تلك الأقوال والأفعال والتقريرات[4].

 

 


[1]  سورة الأحزاب، الآيتان 37 – 38.

[2] الطبريّ، أبو جعفر محمّد بن جرير، جامع البيان في تأويل القرآن، لا.ت، لا.ط، قدّم له الشيخ خليل الميس، ضبط وتوثيق وتخريج صدقي جميل العطّار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ج5، ص38.

[3]  القرطبيّ، أبو عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاريّ، الجامع لأحكام القرآن، ضبطه وحقّقه وقابل مخطوطاته "سالم مصطفى البدريّ"، دار الكتب العلميّة، بيروت – لبنان، لا.ت، لا.ط، المجلّد 3، ج5، ص98.

[4]  انظر: بهاء الدين العامّليّ، الشيخ محمّد بن حسين، زبدة الأصول، تحقيق: السيّد عليّ جبّار كلباغيماسوله، انتشارات دار البشير، ط1، 1383ه‍.ش- 1425ه‍.ق، ص180.

 

14


7

الدرس الأوّل: مصطلحات ومبادئ تصوّريّة (القرآن الكريم والسنّة)

وأصوليّو الإماميّة يعرّفونها بأنّها "قول المعصوم، أو فعله، أو تقريره"، أو "قول مَن لا يجوز عليه الكذب والخطأ، وفعله، وتقريره، غير عاديّ"[1]؛ وذلك لأنّ "السنّة" عندهم تشمل ما صدر عن المعصومين من أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) وعترته (عليهم السلام)[2].

والسنّة في بعض الاصطلاحات[3]، قد تُطلَق ويراد بها الحديث الحاكي للأقسام الثلاثة للسنّة الواقعيّة، وقد يُصطَلح عليها حين حكايتها بالسنّة المحكيّة، كما وقع في تعريف الشيخ حسين بن عبد الصمد للسنّة: "وهي طريقة النبيّ(صلى الله عليه وآله) أو الإمام المحكيّة عنه"[4].

السنّة في الاستعمال الفقهيّ

أمّا لفظ "السنّة" في استعمالات الفقهاء، فيُطلَق على مجموعة من المعاني:

منها: أنّها تُطلَق على كلّ حكم شرعيّ تمّ تعرُّفُه بواسطة النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله)، وذلك في مقابل الحكم الشرعيّ الذي تصدّى القرآن الكريم لبيانه، ويُعَبَّر عنه بالفرض.

وبهذا، فهم يطلقون -تبعًا لبعض الروايات- على الوقوف بالمشعر الحرام عنوان "الفرض"؛ وذلك لأنّ القرآن الكريم قد تصدّى لبيانه، في حين يطلقون على الوقوف بعرفات عنوان"السنّة".

ومنها: أنّها تُطلَق على كلّ حكم شرعيّ مجعول من قِبل النبيّ (صلى الله عليه وآله) بتخويل من الله تعالى، وذلك في مقابل ما هو مجعول ابتداءً من الله جلّ وعلا، فإنّهم يُطلِقون عليه عنوان "الفرض".

ومثال ذلك الركعتان الأخيرتان في الصلوات الرباعيّة، والركعة الثالثة في صلاة المغرب، فإنّها من السنّة؛ لأنّها مجعولة من قِبل النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله) بتفويضٍ من الله جلّ وعلا، وفي مقابل ذلك، الركعتان الأوليان في تمام الصلوات اليوميّة، فإنّها فريضة باعتبارها

 

 


[1]  المامقانيّ، الشيخ عبد الله، مقباس الهداية في علم الدراية، تحقيق: الشيخ محمّد رضا المامقاني، مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ط1، 1411ه‍، ج1، ص69. وانظر: الشيخ محمد رضا المظفر، أصول الفقه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران- قم، لا.ت، لا.ط، ج3، ص64.

[2]  انظر: المظفّر، أصول الفقه، مصدر سابق، ج3، ص64.

[3]  لعلّه في اصطلاح بعض أعلام علمَي الحديث والدراية.

[4]  العامّليّ، الشيخ حسين بن عبد الصمد، وصول الأخيار إلى أصول الأخبار، تحقيق: جعفر المجاهدي وعطاء الله الرسولي، العتبة الحسينيّة المقدَّسة، ط1، 1436هـ–2015م، ص128.

 

 

15


8

الدرس الأوّل: مصطلحات ومبادئ تصوّريّة (القرآن الكريم والسنّة)

مجعولة من الله تعالى ابتداءً، كما دلّت على ذلك مجموعة من الروايات، ويترتَّب على ذلك وعلى المعنى الأوّل مجموعةٌ من الثمرات الفقهيّة.

ومنها: أنّها تُطلَق على كلّ فعلٍ ثبت استحبابُه في الشريعة، وذلك في مقابل ما ثبت وجوبُه في الشريعة، فيُقال: النافلة سنّة، وصلاة الظهر فريضة.

ومنها: أنّها تُطلَق على كلّ حُكم ثبت عن الشريعة، وذلك في مقابل البدعة، وهو إسنادُ ما ليس من الشريعة إليها[1].

وأبحاث "السنّة" في هذا الكتاب تشمل السنّة الواقعيّة؛ أي كلّ ما صدر عن المعصوم (عليه السلام) بوجه، وله دلالة على علم دنيويّ أو أخرويّ، سواء كان حكماً شرعيًّا أو مطلبًا عقديًّا أو أخلاقيًّا أو غير ذلك، والسنّة المحكيّة؛ أي الأخبار والروايات التي رُوِيَت عن المعصوم (عليه السلام)، سواء ثبت صدورها عنه أو لم يثبت.

القرآن الكريم

حين إطلاق لفظ "القرآن"، ينصرف الذهن بحقّ إلى الوجود اللفظيّ للكتاب الكريم النازل بصورة آيات وسور على قلب الخاتم (صلى الله عليه وآله).

ولكنّ المتدبّر في هذه الآيات والسور عينها، يدرك -بلا شكّ- أنّ هناك حقيقة غيبيّة وراء هذه الألفاظ، لا تكون هذه الألفاظ والمفاهيم المحكيّة بها إلّا حكاية أو مثلًا-يناسب التفاهم بالمفاهيم المحدودة بالحدود الذهنيّة للمخلوقات العاقلة في عالم الشهادة- عن تلك الحقيقة الغائبة عن الأفهام.

قال تعالى: ﴿وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ ٢ إِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ٣ وَإِنَّهُۥ فِيٓ أُمِّ ٱلۡكِتَٰبِ لَدَيۡنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾[2]، ﴿فلا أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ ٧٥ وَإِنَّهُۥ لَقَسَم لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ ٧٦ إِنَّهُۥ لَقُرۡءَان كَرِيم ٧٧ فِي كِتَٰب مَّكۡنُون ٧٨ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ ٧٩ تَنزِيل مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾[3]، ﴿بَلۡ هُوَ قُرۡءَان مجيد ٢١ في لَوۡح محفوظ﴾[4].

 

 


[1]  انظر: صنقور علي، محمّد، المعجم الأصوليّ، مطبعة عترت، ط1، 1421ه‍، ص638-639.

[2]  سورة الزخرف، الآيات 2 - 4.

[3]  سورة الواقعة، الآيات 75 - 80.

[4] سورة البروج، الآيتان 21 - 22.

 

16


9

الدرس الأوّل: مصطلحات ومبادئ تصوّريّة (القرآن الكريم والسنّة)

وهذه الآيات ونظيراتها تفيد أنّ للقرآن الكريم، في غير مرتبته اللفظيّة حيث هو في اللوح المحفوظ أو أمّ الكتاب، وجودًا لا سبيل للقوّة العاقلة بإدراك كنهه؛ لانحصار مدركاتها بالمفاهيم، فلا يناله في تلك المرتبة إلّا من طَهُرَت نفسُه عن كلّ رجس، وسيجيء نزرٌ من التفصيل في هويّة هؤلاء "المطهَّرون" وأدوارهم، في الفصول اللاحقة عند الكلام في حديث الثقلَين، بحول الله وقوّته.

لذا من رحمته تعالى بعباده، تنزيله القرآن الكريم من تلك المرتبة، إلى مرتبة المفاهيم والألفاظ؛ لينال كلٌ حسب سعته وقدره، من ذلك المَعين، ولو عبر المثل: ﴿ وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِۖ وَمَا يَعۡقِلُهَآ إِلَّا ٱلۡعَٰلِمُونَ﴾[1]، وتفصيله بعد أن كان محكمًا في تلك المرتبة.

قال في الميزان: "قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾، الضمير للكتاب، و﴿قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّا﴾ أي مقروءًا باللغة العربية، و﴿لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ غاية الجعل وغرضه.

وجَعلُ رجاء تعقُّله غايةً للجعل المذكور، يشهد بأنّ له مرحلة من الكينونة والوجود لا ينالها عقول الناس، ومن شأن العقل أن ينال كلّ أمر فكريّ، وإن بلغ من اللطافة والدقّة ما بلغ، فمفاد الآية أنّ الكتاب -بحسب موطنه الذي له في نفسه- أمرٌ وراء الفكر، أجنبيٌّ عن العقول البشريّة، وإنّما جعله الله قرآنًا عربيًا وألبسه هذا اللباس، رجاء أن يستأنس به عقول الناس، فيعقلوه. قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ فِيٓ أُمِّ ٱلۡكِتَٰبِ لَدَيۡنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ تأكيدٌ وتبيينٌ لِما تدلّ عليه الآية السابقة، أنّ الكتاب في موطنه الأصليّ وراء تعقُّل العقول.

والضمير للكتاب، والمراد بأمّ الكتاب: اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: ﴿بَلۡ هُوَ قُرۡءَان مَّجِيد ٢١ فِي لَوۡح مَّحۡفُوظِۢ﴾[2]. وتسميته بأمّ الكتاب لكونه أصل الكتب السماويّة، يستنسخ منه غيره...

 

 


[1]  سورة العنكبوت، الآية 43.

[2]  سورة البروج، الآية 22.

 

 

17


10

الدرس الأوّل: مصطلحات ومبادئ تصوّريّة (القرآن الكريم والسنّة)

والمراد بكونه عليًّا، على ما يعطيه مفاد الآية السابقة، أنّه رفيع القدر والمنزلة من أن تناله العقول، وبكونه حكيمًا، أنّه هناك محكم غير مفصَّل ولا مجزّى إلى سور وآيات وجمل. وهذان النعتان -أعني كونَه عليًّا حكيمًا- هما الموجِبان لكونه وراء العقول البشرية؛ فإنّ العقل في فكرته لا ينال إلّا ما كان من قَبيل المفاهيم والألفاظ أوّلًا، وكان مؤلّفًا من مقدّمات تصديقيّة يترتّب بعضُها على بعض، كما في الآيات والجمل القرآنيّة. وأمّا إذا كان الأمر وراء المفاهيم والألفاظ، وكان غير متجزٍّ إلى أجزاء وفصول، فلا طريق للعقل إلى نيله.

فمحصّل معنى الآيتَين: أنّ الكتاب عندنا في اللوح المحفوظ ذو مقام رفيع وإحكام لا تناله العقول لذينك الوصفَين، وإنّما أنزلناه بجعله مقروءًا عربيًّا رجاءَ أن يعقله الناس"[1].

والمعنيّ بالقرآن الكريم في دراستنا هذه، اللفظُ المنزل على محمّد(صلى الله عليه وآله) للإعجاز بسورة منه، المتعبّد بتلاوته[2]، ولا نعني مرتبته الغيبيّة في اللوح المحفوظ، ولا غير ذلك من المعاني.

 


[1]  الطباطبائيّ، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسَّسة الأعلميّ، بيروت – لبنان، ط1، 1997م، ج18، ص84-85.

[2] انظر: السبكيّ، تاج الدين عبد الوهاب بن عليّ، جمع الجوامع في أصول الفقه، منشورات محمّد عليّ بيضون، دار الكتب العلميّة، بيروت لبنان، ط2، 1424هـ- 2002م، ص21.

 

18


11

الدرس الثاني: حجّيّة القرآن الكريم 1 (المحكم والمتشابه)

الدرس الثاني: حجّيّة القرآن الكريم 1 (المحكم والمتشابه)

 

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يعرف المراد من "الحجّيّة" في هذا البحث.

2. يتعرّف أركان أصل حجّيّة القرآن الكريم.

3. يتبيّن الأقوال في المحكم والمتشابه.

 

19


12

الدرس الثاني: حجّيّة القرآن الكريم 1 (المحكم والمتشابه)

تمهيد

لا بدّ في بداية الحديث عن حجّيّة القرآن الكريم من بيان معاني الحجّيّة لغةً واصطلاحًا وتحديد المراد منها في هذا الكتاب.

معاني الحجّيّة

- الحجّة لغة:

الحجّة "بالضم": الدليل و"البرهان"، وقيل: ما دفع به الخصم. قال الأزهريّ: الحجّة: الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة[1]. وقيل إنّها الغلبة، ومعه يكون إطلاق الحجّة على البرهان والدليل من باب إطلاق المسبَّب وإرادة سببه، إذ إنّ البرهان يكون سببًا للغلبة على الخصم، فيكون إطلاق الحجّة في اللغة على ما يُحتَجّ به على الخصم، وعلى ما يوجب الظفر عند الخصومة، إطلاقًا مجازيًّا بنحو المجاز المرسل، وذلك بعلاقة المسبّبيّة.

ومن الممكن أن تكون "الحجّة" مشتقّة من الحجّ، بمعنى القصد؛ لأنّها تقصد، أو بها يقصد الحقّ المطلوب[2]. وحينئذٍ، تكون الحجّة أقرب للوسيلة منها إلى الغاية، فالغاية هي الغلبة، والوسيلة هي البرهان والدليل، وحينئذٍ، يكون إطلاق لفظ الحجّة على البرهان والدليل إطلاقًا حقيقيًّا[3].

 

 


[1] انظر الزبيديّ، تاج العروس، مصدر سابق، ج5، ص464.

[2] ابن فارس، أحمد بن فارسبن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الإعلام الإسلامي، إيران- قم، 1404هـ، ط1، ج2، ص29.

[3]  انظر: صنقور، المعجم الأصوليّ، مصدر سابق، ص499.

 

 

21


13

الدرس الثاني: حجّيّة القرآن الكريم 1 (المحكم والمتشابه)

- الحجّة اصطلاحًا:

1. الحجّة عند المناطقة: الحجّة، بحسب اصطلاح المناطقة، هي كلّ معلومٍ تصديقيّ يصلح لإثبات مجهول تصديقيّ. وهناك تعريف آخر للحجّة، ذكره بعض المناطقة، وهو أنّ الحجّة عبارة عن تأليف قضايا ينتج عنها المطلوب. وعليه، تكون الحجّة المنطقيّة هي مجموع القضايا المؤلَّفة بشكل خاصّ، وينتج عن مجموعها المطلوب، فيكون القياس بصغراه وكبراه، وكذلك الاستقراء بتمام مقدّماته، وهكذا التمثيل وغيرهم، مصاديقَ الحجّة المنطقيّة[1].

وهناك تعريف ثالث للحجّة المنطقيّة، وحاصله: أنّ الحجّة هي "الحدّ الوسط، الذي يكون بينه وبين الأكبر الذي يُراد إثباته للأصغر، علقةٌ وربطٌ ثبوتيّ"، إمّا علقة التلازم، وإمّا علقة العلّيّة والمعلوليّة، سواء كان الوسط علّة لثبوت الأكبر الذي هو البرهان اللمّيّ، أو كان معلولًا له الذي هو البرهان الإنّيّ[2].

2. الحجّة عند الأصوليّين: إنّ الحجّة عند الأصوليّين قد تُطلَق ويُراد منها المنجّزيّة والمعذّرية. والمنجّزية هي المسؤوليّة وثبوت العهدة، والمعذريّة هي انتفاء المسؤوليّة وصحّة الاعتذار عن منافاة الواقع[3].

3. الحجّة في هذا الكتاب: نعني بالحجّة هنا، معنى أقرب إلى المعنى اللغويّ، وهو كلّ ما له صلاحيّة الاستدلال على مؤدّى معيّن وفق الدين الإسلاميّ، بغضّ النظر عن كون المستدَلّ له مطلبًا عقديًّا من أصول الدين، أو حكمًا فقهيًّا، أو غير ذلك. وهذا معنى جامع ينطبق على الحجّة في علوم إسلاميّة مختلفة، لكنّها قد تختلف في شروط الاستدلال، بناءً على منهج كلّ علم منها، كالاختلاف المفروض بين علمَي الكلام والفقه، باشتراط يقينيّة المضمون أو النتيجة[4] في الأوّل، وإمكان التعبّد بالظنّ في الثاني.

 

 


[1] صنقور، المعجم الأصوليّ، مصدر سابق، ص500–501.

[2]  انظر: النائينيّ، محمّد حسين، فوائد الأصول، تحقيق: الشيخ رحمت الله الأراكي، مؤسَّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، لا.ت، لا.ط، ج3، ص7.

[3]  انظر: صنقور، المعجم الأصوليّ، مصدر سابق، ص501-502.

[4]  وفق بعض الرؤى.

 

22


14

الدرس الثاني: حجّيّة القرآن الكريم 1 (المحكم والمتشابه)

وبعبارة مختصرة، نقصد بالحجّة هنا: كلّ ما يصلح للاحتجاج به.

ونحن هنا لن ندخل في تفاصيل الشروط المختلفة الخاصّة بكلّ علم، إلّا بالحدّ الذي يقتضيه المقام أو يرتبط بموضوع البحث.

أصل حجّيّة القرآن الكريم[1]

تارةً يُبحَث عن حجّيّة الكتاب من حيث صدوره، وأخرى يُبحَث عن حجيّته من حيث ظهوره ومقاصده، وسنتناول في هذا الدرس البحث عن حجية الكتاب من حيث صدوره:

حجّيّة الكتاب من حيث صدوره

إنّ أصل الحجّيّة للكتاب العزيز في زماننا الحاضر يتوقّف على تماميّة مقدّمتَين:

- الأولى: وصوله إلينا عبر التواتر الموجب للقطع بكون الواصل إلينا هو النازل على نبيّه (صلى الله عليه وآله). وهذا حاصل فعلًا، فقد نقله المسلمون جيلًا إلى جيل، بدئًا بصدر الإسلام إلى عصرنا الحاضر.

- الثانية: إعجازه المثبِت لمصدره الإلهيّ، وذلك عبر مختلف الأساليب والمضامين؛ من الإعجاز بالإخبار عن المغيّبات، وبعدم الاختلاف فيه، وبتحقيق مسائل علميّة كانت مجهولة للبشر في عصر النزول، إلى الإعجاز البيانيّ البلاغيّ في النظم والأسلوب وغير ذلك[2].

وبالجملة، فإنّ أصل حجّيّة القرآن الكريم أمرٌ مُجمَعٌ عليه بين الأمّة، لا حاجة إلى مزيد بحث فيه. وإنّما وقع الكلام في حدود دائرة هذه الحجّيّة، وهو ما يأخذنا للبحث في حجّيته من حيث الظهور، وهو ما سنتعرَّض له في الدرس الآتي.

 

 


[1] نقصد بالحجّيّة هنا إثبات الصدور عن الله تعالى.

[2] انظر: الحكيم، محمّد تقي، الأصول العامّة للفقه المقارن، المجمع العالميّ لأهل البيت، ط3، 1432ه‍ - 2011م، ص94.

 

 

23


15

الدرس الثاني: حجّيّة القرآن الكريم 1 (المحكم والمتشابه)

المُحكَم والمتشابَه

يرجع أصل التفصيل بين المُحكَم والمتشابَه في القرآن الكريم، إلى قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰت مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾[1].

- المُحكَم والمتشابَه لغةً: الشِّبْهُ وَالشَّبَهُ وَالشَّبِيهُ: الْمِثْلُ، وَالْجَمْعُ أَشْبَاهٌ. وَأَشْبَهَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ: مَاثَلَهُ. وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ... وَفِي التَّنْزِيلِ: مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ. وَشَبَّهَهُ إِيَّاهُ وَشَبَّهَهُ بِهِ مَثَّلَهُ. وَالْمُشْتَبِهَاتُ مِنَ الْأُمُورِ: الْمُشْكِلَاتُ. وَالْمُتَشَابِهَاتُ: الْمُتَمَاثِلَاتُ. وَتَشَبَّهَ فُلَانٌ بِكَذَا. وَالتَّشْبِيهُ: التَّمْثِيلُ، وَالشُّبْهَةُ: الْالْتِبَاسُ. وَأُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ وَمُشَبِّهَةٌ: مُشْكِلَةٌ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَشَبَّهَ عَلَيْهِ: خَلَّطَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ حَتَّى اشْتَبَهَ بِغَيْرِهِ[2].

وأَحْكَمَ الأَمر: أَتقنه، أَحْكَمْتُ الشَّيْءَ فاسْتَحْكَمَ: صَارَ مُحْكَماً. واحْتَكَمَ الأَمرُ واسْتَحْكَمَ: وثُقَ[3].

- الإحكام والتشابه في استعمالات القرآن الكريم وأوصافه: لقد جاء في التنزيل وصفُ القرآن الكريم جميعه بأنّه كتابٌ مُحكم: ﴿الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾[4]. ونقل بعض اللغويّين[5] في قوله تعالى: ﴿الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ﴾[6] أنّ "حكيم" هنا بمعنى مُحكَم.

وكذلك جاء في التنزيل أيضًا، وصفُ القرآن جميعه بأنّه كتابٌ متشابه: ﴿ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبا مُّتَشَٰبِها﴾[7].

 

 


[1]  سورة آل عمران، الآية 7.

[2]  ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج13، ص503.

[3] المصدر نفسه، ج12، ص143.

[4]  سورة هود، الآية 1.

[5]  انظر: ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج12، ص143.

[6]  سورة يونس، الآية 1.

[7]  سورة الزمر، الآية 23.

 

24


16

الدرس الثاني: حجّيّة القرآن الكريم 1 (المحكم والمتشابه)

ويظهر أنّ الإحكام والتشابُه هنا استُعمِلا في معناهما اللغويّ، فالإحكام استُعمِل لوصف ما في القرآن من إحكام النظم وإتقانه، وما فيه من التماسك والانسجام في الأفكار والمفاهيم والأنظمة والقوانين، أو لوصف حالٍ من حالات الكتاب، كان عليها قبل النزول، وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزُّؤ والتبعُّض بعد، بتكثُّر الآيات، فهو إتقانه قبل وجود التبعُّض، فهذا الإِحكام وصفٌ لتمام الكتاب كما ذهب إليه صاحب تفسير الميزان (قدس سره)[1].

والأمر كذلك في وصفه بالتشابه في قوله تعالى: ﴿ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبا مُّتَشَٰبِها مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ﴾[2]، حيث أطلق وصف "المتشابه" عليه لمحض التماثل والتشابه بين بعضه وبعضه الآخر، في الأسلوب والهدف، الذي هو من دلائل إعجازه، كما في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفا كَثِيرا﴾[3]،[4].

أمّا استعمالات القرآن الكريم الأخرى لـ"التشابه" فلم تخرج عن معنى المثل والشبه أيضًا. ونضرب لذلك أمثلة:

﴿وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰت تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَة رِّزۡقا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهاۖ﴾[5].

﴿وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآء فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡء فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّا مُّتَرَاكِبا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَان دَانِيَة وَجَنَّٰت مِّنۡ أَعۡنَاب وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِها وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰت لِّقَوۡم يُؤۡمِنُونَ﴾[6].

 

 


[1]  انظر: العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج3، ص22-23.

[2]  سورة الزمر، الآية 23.

[3] سورة النساء، الآية 82.

[4]  انظر: الحكيم، محمّد باقر، علوم القرآن، مجمع الفكر الإسلاميّ، قمّ، ط3، ربيع الثاني 1417ه‍.ق، ص168.

[5]  سورة البقرة، الآية 25.

[6]  سورة الأنعام، الآية 99.

 

25


17

الدرس الثاني: حجّيّة القرآن الكريم 1 (المحكم والمتشابه)

﴿وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّٰت مَّعۡرُوشَٰت وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰت وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِها وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهۚ﴾[1].

الأقوال في المُحكَم والمتشابه في الآية السابعة من سورة آل عمران:

قد تعدّدَت الأقوال في المراد من المٌحكَم والمتشابه في هذه الآية، حتّى أحصى صاحبُ تفسير الميزان (قدس سره) ستّة عشر قولًا، ونذكر في ما يلي أهمّ[2] هذه الأقوال والاتّجاهات ملخّصة:

1. المتشابه خلاف الظاهر:

ويمكن تلخيص هذا الرأي كما صاغه الفخر الرازيّ كالآتي:

ينقسم اللفظ، بحسب دلالته على المعنى إلى أربعة أقسام:

أ. النصّ: وهو ما كانت دلالته على المعنى بالنحو الذي لا تفسح مجالًا لاحتمال معنى آخر.

ب. الظاهر: وهو ما كانت دلالته على المعنى بنحو راجح، مع احتمال معنى آخر.

ج. المشترك والمجمل: وهو ما كان دالًّا على معنيَين بنجو متساو.

د. المؤوَّل: وهو ما كان دالًّا على المعنى بنحو مرجوح، فهو عكس الظاهر.

و"المحكم": ما كانت دلالته على المعنى من القسم الأوّل والثاني، لوجود الترجيح فيهما. و"المتشابه": ما كانت دلالته على المعنى من القسم الثالث والرابع، لاشتراكهما في أنّ دلالة اللفظ فيهما غير راجحة، وإنّما سُمِّيا متشابهًا لعدم حصول فهم المعنى فيهما[3].

ويقرب ممّا ذكره الرازيّ ما نُسِب إلى الشافعيّ، من كَون المحكم من الآيات ما لا

 

 


[1] سورة الأنعام، الآية 141.

[2] وثمّة كثير من الأقوال التي تُنسَب إلى بعض الصحابة والعلماء، تحصر الآيات المحكمات والمتشابهات في آيات معيّنة، كآيات الأحكام (المحكمات) وآيات الصفات (المتشابهات)، ولا دليل ولا معيار لمثل هذه الأقوال. لذا، طوينا عنها كشحًا.

[3]  انظر: الرازيّ، فخر الدين أبو عبد الله محمّد بن عمر بن حسين، التفسير الكبير، دار الكتب العلميّة، بيروت – لبنان، 1425هـ - 2004م، سورة آل عمران، تفسير قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰت مُّحۡكَمَٰتٌ﴾. وانظر: الحكيم، محمّد باقر، علوم القرآن، مصدر سابق، ص172.

 

26


18

الدرس الثاني: حجّيّة القرآن الكريم 1 (المحكم والمتشابه)

يحتمل من التأويل إلّا وجهًا واحدًا، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهًا كثيرة، وما نُسِب إلى أحمد من كَون المتشابه ما يحتاج إلى بيان، والمحكم بخلافه[1].

وظاهر هذا الاتّجاه إرجاع التشابه إلى التشابه في المفاهيم ومعاني الألفاظ؛ أي في علاقة اللفظ بالمعنى، أو ما يُسَمّى بالدلالة التصوريّة.

2. رأي العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره):

رأى العلَّامة (قدس سره) أنّ المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعيَّن مرادُها لفهم السامع بمجرّد استماعها، بل يتردَّد بين معنى ومعنى، حتّى يرجع إلى محكمات الكتاب، فتعيّن هي معناها وتبيّنها بياناً، فتصير الآية المتشابهة -عند ذلك- محكمة بواسطة الآية المحكمة. والآية المحكمة محكمة بنفسها، كما في قوله: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ﴾[2]، حيث يشتبه المراد منه على السامع أوّل ما يسمعه، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى: ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءۖ﴾[3]، استقرّ الذهن على أنّ المراد به التسلُّط على المُلك، والإِحاطة على الخلق، دون التمكّن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسّم المستحيل على الله سبحانه، وكذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة، تبيّن أنّ المراد بها حكم محدود بحدّ الحكم الناسخ، وهكذا.

واستفاد (قدس سره) هذا المعنى للمتشابه من قرينة المقابلة في الآية بين قوله تعالى: ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتۖ﴾، وقوله: ﴿مِنۡهُ ءَايَٰت مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ﴾، بالإضافة إلى ذكر اتّباع الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل[4].

 

 


[1]  انظر: العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج3، ص42.

[2]  سورة طه، الآية 5.

[3]  سورة الشورى، الآية 11.

[4]  انظر: العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج3، ص23-24.

 

27


19

الدرس الثاني: حجّيّة القرآن الكريم 1 (المحكم والمتشابه)

3. التشابه هو في تحديد المصداق الواقعيّ:

رأى السيّد محمّد باقر الصدر(قدس سره) أنّ التشابه المقصود في الآية الكريمة يقع ضمن نطاق التشابه في تجسيد صورة المعنى وتحديد مصداقه الواقعيّ الموضوعيّ، لا في نطاق التشابه في العلاقة بين اللفظ ومفهومه اللغويّ (المعنى).

واستفاد هذا المعنى على أساس وجود قرينة خاصة في الآية الكريمة، تجعلها تأبى الحمل على هذا اللون من التشابه. وهذه القرينة مستفادة من قوله تعالى: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ﴾[1]؛ فإنّ مفهوم "الاتباع" المستفاد من هذه الفقرة لا ينطبق إلّا في حالة ما إذا كان للفظ مفهوم لغويّ يكون أخذُه والعملُ به اتّباعًا له، إذ ليس من اتّباع الكلام -أيّ كلام- أن يُؤخذ بأحد معانيه المشتركة أو المردّدة، إذا لم يكن له ظهور فيها، وإنّما يكون هذا العمل من اتّباع الهوى والرأي الشخصيّ في تعيين المعنى؛ لأنّ الكلام لا يعيّنه.

إذًا، فالتشابه لم ينشأ من ناحية الاختلاط والتردّد في معاني اللفظ ومفهومه اللغويّ؛ لأنّنا فرضنا أن يكون للفظ مفهوم لغويّ معيّن، وإنّما ينشأ من ناحية أخرى، وهي الاختلاط والتردّد في تجسيد الصورة الواقعيّة لهذا المفهوم اللغويّ المعيّن، وتحديد مصداقه في الذهن من ناحية خارجيّة.

وفي قوله تعالى: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ﴾[2]، نجد للفظ "الاستواء" مفهومًا لغويًّا معيّنًا اختصّ به، وهو الاستقامة والاعتدال مثلًا، وليس هناك أيّ تشابه بينه وبين معنى آخر في علاقته باللفظ، فهو كلام قرآنيّ قابل للاتّباع، ولكنه متشابه؛ لِما يوجد فيه من التردّد في تحديد صورة هذا الاستواء من ناحية واقعيّة، وتجسيد مصداقه الخارجيّ بالشكل الذي يتناسب مع الرحمن الخالق الذي ليس كمثله شيء.

 

 


[1]  سورة آل عمران، الآية 7.

[2] سورة طه، الآية 5.

 

28


20

الدرس الثاني: حجّيّة القرآن الكريم 1 (المحكم والمتشابه)

أمّا المحكم من الآيات، فبقرينة المقابلة مع المتشابه في الآية، فهوما يكون مضافًا لدلالته على مفهوم معيّن، لا نجد صعوبة أو تردّدًا في تجسيد صورته أو تشخيصه في مصداق معيّن، ففي قوله تعالى: ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءۖ﴾[1]، نجد الصورة الواقعيّة لهذا المفهوم متعيّنة، فهو ليس كالإنسان، ولا السماء، ولا كالأرض، ولا كالجبال...[2].

خلاصة في حجّيّة المحكم والمتشابه: وأيًّا كان المراد من المحكم والمتشابه، فلا ريب لدى جمهور الأمّة أنّه لا حجّيّة -بمعنى صلاحيّة الاستدلال على مؤدّى معيّن- للمتشابه من الآيات في الأصول والفروع، دون إرجاعه إلى المحكم، ليتعيّن المعنى، أو تنجلي -بأيّ حدّ- حقيقة المصداق، بل يمكن القول: إنّ العمل بالمتشابه دون قيد الرجوع إلى المحكم، مظنّة للوقوع في الفتن، خصوصًا إذا كان الحامل من أصحاب الأهواء والغايات الضالّة، كما هو صريح الآية.

 

 


[1] سورة الشورى، الآية 11.

[2]  انظر: الحكيم، محمّد باقر، علوم القرآن، مصدر سابق، ص169-171؛ والحائريّ، كاظم، مباحث الأصول (تقريرًا لأبحاث السيِّد محمّد باقر الصدر)، نشر دار البشير، قمّ المقدَّسة، مطبعة شريعت، ط3، 1433ه‍، ج2، من القسم الثاني، ص230-231.

 

29


21

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

 

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يعرف المراد من الظهور لغةً واصطلاحًا.

2. يتعرّف إلى أدلة مانعي حجّيّة ظهور القرآن الكريم، ومناقشتها.

3. يتعرّف إلى أدلة حجّيّة ظواهر القرآن الكريم.

 

 

31


22

الدرس الثاني: حجّيّة القرآن الكريم 1 (المحكم والمتشابه)

تمهيد

جرت عادة أهل كلّ لسان على التحاكم إلى ظهورات كلامهم، والاعتماد عليها في مقام الفهم والتفهيم، وتوابعه من الاحتجاج وغيرها. والأمر كذلك في الأمم كلّها إلى عصرنا الحاضر. ومن تلك العصور، عصر النبيّ(صلى الله عليه وآله)، حيث لم يُعهَد منه (صلى الله عليه وآله)، ولا من أوصيائه(عليهم السلام)، طريقة أخرى في هذه المجالات المذكورة، ولا غيرها. فما هو الظهور؟

 

الظهور لغةً واصطلاحًا

الظهور في اللغة هو البروز والبيان، ووصف الشيء بالظاهر يعني وصفه بالبارز والبيّن. وهذا المعنى لا يبتعد كثيرًا عمّا هو متداول في استعمالات الأصوليّين، فهم يقصدون من الظهور: تعيُّن أحد المعاني المحتملة للكلام تصوُّرًا وتصديقًا[1]، أو تصوُّرًا دون التصديق، وذلك في مقابل النصّ والمجمل؛ إذ لا ينقدح في الذهن من النصّ سوى معنى واحد، فلا يكون معه أيّ احتمال بالخلاف، وأمّا المجمل فهو يحتمل أكثر من معنى، دون أن يتعيّن معه واحد من المعاني المحتملة[2].

 

 


[1]  ينقسم الظهور الى قسمَين:

القسم الأوّل: الظهور التصوُّريّ، وهو تعيّن أحد المعاني المحتملة وانسباقها الى الذهن، من إطلاق اللفظ، على أن يكون منشأ ذلك الانسباق والتعيّن هو الأوضاع اللغويّة، فهو المنشأ لاستقرار المعنى في الذهن، وركون النفس بتعيُّنه دون سائر المحتملات، إذ إنّ لانسباقه واستقراره مبرّرًا، وهو الوضع.

القسم الثاني: الظهور التصديقيّ، وهو الظهور الحاليّ السياقيّ، والذي يتعيّن بواسطته المراد الجدّيّ من كلام المتكلّم. وهو لا ينشأ عن الأوضاع اللغويّة كما هو الحال في الظهور التصوُّريّ، وإن كان قد يساهم في انعقاد الظهور التصديقيّ. (انظر: صنقور، المعجم الأصوليّ، مصدر سابق، ص724).

[2]  انظر صنقور، المعجم الأصوليّ، مصدر سابق، ص723.

 

33


23

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

هذا وقد ذهب بعض العلماء إلى عدم حجّيّة ظهور القرآن الكريم. ولعلّ أصل التفصيل بين حجّيّة ظهور الكتاب العزيز وباقي الظهورات الشرعيّة، يرجع إلى ما نُسِب إلى طائفة من العلماء الإخباريّين[1] من المنع أو التوقّف في العمل بظهورات القرآن الكريم، إن لم يرد بها نصٌّ عن المعصوم (عليه السلام).

أدلّة المانعين ومناقشتها

أهمّ الأدلّة التي سِيقَت لإثبات المدّعى هي:

1. اختصاص فهم القرآن الكريم بمن خُوطِب به[2]:

وقد استندوا في هذه الدعوى إلى عدّة روايات[3] واردة في هذا الموضوع، كمرسلة أبي زهير بن شبيب بن أنس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال لأبي حنيفة: "أنت فقيه أهل العراق؟ قال: نعم. قال (عليه السلام): فبأيّ شيء تفتيهم؟ قال: بكتاب الله وسنّة نبيّه. قال (عليه السلام): يا أبا حنيفة، تعرف كتاب الله حقّ معرفته، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: نعم. قال (عليه السلام): يا أبا حنيفة، لقد ادّعُيْتَ عِلمًا؛ ويلك! ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم. ويلك! ما هو إلّا عند الخاصّ من ذرّيّة نبيّنا  (صلى الله عليه وآله)، وما ورَّثك الله تعالى من كتابه حرفًا"[4].

وفي رواية زيد الشحّام، قال: "دخل قتادة على أبي جعفر (عليه السلام)، فقال له: أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون. فقال (عليه السلام): بَلَغَني أنّك تفسِّر القرآن. فقال له قتادة: نعم... إلى أن قال (عليه السلام): ويحك يا قتادة! إن كنتَ إنّما فسّرتَ القرآن من

 

 


[1]  انظر: مثلًا: الأسترآباديّ، محمّد أمين، الفوائد المدنيّة (وبذيله الشواهد المكّيّة)، تحقيق: الشيخ رحمة الله الرحمتي الأراكي، مؤسَّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، قمّ المشرّفة، منتصف شعبان المعظّم 1424ه‍.ق، ص269–270.

[2]  وهم الرسول وأهل بيته (عليهم السلام)، بحسب اعتقاد مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

[3]  راجع: الحرّ العامّليّ، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، عني بتصحيحه وتحقيقه وتذييله: الشيخ محمّد الرازيّ مع تعليقات للشيخ أبي الحسن الشعرانيّ، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت - لبنان، لا.ت، ج18، ب13 من أبواب صفات القاضي، ح25 و38 و41 و64 و69 و73 و74.

[4]  الصدوق، أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّيّ، علل الشرائع، منشورات المكتبة الحيدريّة ومطبعتها، النجف، 1385ه‍- 1966م، ج1، ص90.

 

34


24

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

تلقاء نفسِك، فقد هلكتَ وأهلكتَ، وإن كنتَ قد أخذتَه من الرجال، فقد هلكتَ وأهلكتَ... ويحك يا قتادة! إنّما يَعرف القرآنَ مَن خُوطِب به"[1].

والجواب:

- أوّلًا: نقول -بعد الإغماض عن إرسال[2] قسم من تلك الروايات، وضعف بعض[3] آخر، والأخذ بالقدر المشترك بينها-: إنّ المراد من هذه الروايات وأمثالها أنّ فهم القرآن حقّ فهمه، ومعرفة ظاهره وباطنه، وناسخه ومنسوخه، مختَصٌّ بمن خُوطِب به. والرواية الأولى صريحة في ذلك، فقد كان السؤال فيها عن معرفة كتاب الله حقّ معرفته، وتمييز الناسخ من المنسوخ، وكان توبيخ الإمام (عليه السلام) لأبي حنيفة على دعوى معرفة ذلك. ويدلّ على ذلك أيضًا، قوله (عليه السلام) في المرسلة: "وما ورَّثَك اللهُ من كتابه حرفًا" فإنّ معنى ذلك أنّ الله قد خصّ أوصياء نبيّه (صلى الله عليه وآله) بإرث الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ﴾[4]، وهذا أمرٌ مغاير لفهم ظاهر الكتاب، الذي يشترك فيه كثيرٌ من أفراد الأمّة؛ وإلّا فكيف يُعقَل أنّ أبا حنيفة لا يعرف شيئًا من كتاب الله، حتّى مثل قوله تعالى: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾[5]؟![6].

- ثانيًا: إنّ التعليل في الرواية الأولى بعدم معرفة الناسخ من المنسوخ، لو حُمِل على مدّعى الإخباريّ من كونه مانعًا عن العمل بظهورات الكتاب، لدلّ على عدم جواز العمل بأحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، ففي رواية سليم بن قيس الهلاليّ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "إنّ أَمْر النبيِّ(صلى الله عليه وآله) مثلُ القرآن، منه ناسخٌ ومنسوخٌ، وخاصٌّ وعامٌّ، ومُحكمٌ ومتشابهٌ؛ وقد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام له وجهان، وكلامٌ عامٌّ

 

 


[1]  الكلينيّ، أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الروضة من الكافي، صحَّحه وقابله وعلّق عليه: علي أكبر الغفاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، طهران - بازار سلطاني، ط2، 1389ه‍.ق- 1348ه‍ ش، ج8، ص311-312.

[2]  هي روايات تفسير العيّاشيّ، 69 و 73 و 74.

[3]  بجهالة من روى عن المعلّى بن خنيس في الرواية 38، إن سُلِّمَت وثاقة المعلّى نفسه، وضعف محمّد بن سنان في الرواية 25.

[4]  سورة فاطر، الآية 32.

[5] سورة التوحيد، الآية 73.

[6]  انظر: الخوئيّ، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، منشورات أنوار الهدى، مطبعة فروردين، ط8، 1401ه‍- 1981م، ص268.

 

35


25

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

وكلامٌ خاصٌّ، مثل القرآن"[1]. وسيأتي نزر من الروايات حول متشابهات الحديث.

- ثالثًا: إنّ جواز العمل بظواهر القرآن وعدمه من أهمّ المسائل، ومن المسائل الرئيسيّة في الفقه ومعرفة الأحكام، ومن أبرز المواضيع التي دار حولها النزاع والبحث والجدل بين علماء غير الشيعة، فجميع الدواعي التأريخيّة والشرعيّة والواقعيّة كانت تقتضي أن تكون هذه المسألة أهمّ مسألة في مقام السؤال والجواب، وفي مقام الاستفادة والتحقيق. أضف إلى ذلك أنّ العمل بظواهر القرآن يوافق مقتضى الطبع العقلائيّ، وإيقاف هذا الطبع بحاجة إلى بيانات كثيرة وإعلامات متتالية؛ فلو كان أمرٌ من هذا القبيل، لَكثُرَ نقلُه وشاع وذاع، ولَما اقتصر في بيان هذا الأمر المهمّ -الذي هو على خلاف الطبع- على مرّات عديدة[2].

2. النهي عن التفسير بالرأي:

قالوا إنّ الأخذ بظاهر اللفظ من التفسير بالرأي، وهو منهيٌّ عنه في روايات قد تبلغ حدّ التواتر، منها:

- "ومَن فَسَّر القرآنَ برأيه فقد افترى على الله الكذب"[3].

- وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "مَن فسَّر القرآن برأيه، إن أصاب لم يُؤجَر، وإن أخطأ خرّ أبعد من السماء"[4].

- وعن عمّار بن موسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سُئِلَ عن الحكومة فقال: "من حَكَمَ برأيه بين اثنَين فقد كفر، ومَن فسَّرَ برأيه آيةً من كتاب الله فقد كفر"[5].

 

 

 

[1]  الحرّ العامّليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 18، ب 14 من أبواب صفات القاضي، ح1؛ وانظر: الأنصاريّ، مرتضى، فرائد الأصول، لجنة تحقيق: تراث الشيخ الأعظم، قمّ، مجمع الفكر الإسلاميّ، 1422 ه‍.ق، ج1، ص144.

[2]  انظر: الحائريّ، مباحث الأصول (تقريرًا لأبحاث السيّد محمّد باقر الصدر)، مصدر سابق، ج2 من القسم الثاني، ص234-235.

[3] الحرّ العامّليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج18، ب13 من أبواب صفات القاضي، ح37.

[4] المصدر نفسه، ج18، ب13 من أبواب صفات القاضي، ح66.

[5]  المصدر نفسه، ج18، ب6 من أبواب صفات القاضي، ح45.

 

36


26

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

والجواب:

- أوّلاً: إنّ كلمة "الرأي"، وإن كان معناها اللغويّ الأصليّ هو النظر مثلًا، أو ما يقرب من ذلك في المعنى، إلّا أنّ الذي يطالع مجموع الروايات الواردة في باب "الرأي"، ويطالع عصر هذه الروايات، يعرف أنّ هذه الروايات كانت ملقاة مِن قِبَل الأئمّة(عليهم السلام)، على أُناس كانوا يعيشون ويفكّرون في جوٍّ علميّ خاصّ، له مصطلحاته الخاصّة، وتعبيراته الخاصّة، وله مسائله المطروحة للبحث إثباتاً ونفياً. ومن أهمّ تلك المسائل التي راج بحثها وذكرها، واختلف الناس بسببها، هي مسألة "الرأي". وهي تعني أنّ الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكمًا شرعيًّا، ولم يجد نصًّا يدلّ عليه في الكتاب أو السنّة، رجع إلى الاجتهاد بدلًا عن النصّ. ويُراد بالاجتهاد هنا: التفكير الشخصيّ؛ فالفقيه حيث لا يجد النصّ، يرجع إلى تفكيره الخاصّ، ويستلهمه ويبني على ما يرجّح في فكره الشخصيّ من تشريع. وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السنّيّ، وعلى رأسها مدرسة أبي حنيفة، فيما لقي هذا المعنى، في الوقت نفسه، معارضة شديدة من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ولا سيّما الصادقَين d، والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم. وعلى هذا الأساس، فإنّ كلمة "الرأي" هنا قد يُدَّعى ظهورها في هذا المصطلح[1].

- ثانيًا: لو سُلّم شمول إطلاق كلمة "الرأي" وما في مقامها في هذه الروايات، لحمل اللفظ على المعنى الظاهر، فهذا الإطلاق لا يصلح للردع عن حجّيّة ظهور الكتاب؛ إذ حجّيّة ظهور القرآن الكريم مطلبٌ عقلائيّ على طِبق القريحة العقلائيّة المركوزة المستحكمة في أذهان الناس بارتكازهم الجبلّيّ، والمناسبات التي فُطِروا عليها في تعايشهم. والردع عنها لا بدّ أن يكون مناسِبًا لمقدار استحكامها، حتّى يحصل التحفّظ على غرض الشارع، الذي يخاف من تأثيرها على تعاليمه وأحكامه.

 


[1] انظر: الحائريّ، مباحث الأصول (تقريرًا لأبحاث السيّد محمّد باقر الصدر)، مصدر سابق، ج2 من القسم الثاني، ص237؛ الصدر، محمّد باقر، المعالم الجديدة للأصول، ص23-24.

 

 

37


27

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

وعلى هذا، فلا يُعقَل الاكتفاء في الردع عن مثل السيرة العقلائيّة في باب حجّيّة الظهور، المستحكمة الجذور في أذهانهم، بإطلاق مثل هذه الروايات؛ لأنّ الردع يجب أن يتناسب -حجمًا ووضوحًا- مع درجة استحكام السيرة[1].

- ثالثًا: لو سُلِّم أيضًا شمول إطلاق كلمة "الرأي" وما في مقامها في هذه الروايات، لحمل اللفظ على المعنى الظاهر، فإنّ سيرة المتشرّعة في عصر المعصومين (عليهم السلام) على العمل بظواهر القرآن الكريم –وهي سيرة مسلَّمة- كافيةٌ في تقييد مثل هذا الإطلاق[2].

أدلّة حجّيّة ظواهر الكتاب

استُدِلّ[3] لحجّيّة ظواهر القرآن الكريم بأدلّة كثيرة تثبت المطلوب بمجموعها، منها:

1. الأخبار الآمرة بالتمسّك بالكتاب: مثل حديث الثقلَين المتواتر[4]؛ فإنّ مفاد هذه الأحاديث وجوب التمسّك بكلّ دلالة قرآنيّة، نصًّا كانت أو ظهورًا.

2. الأخبار الآمرة بعرض شروط العقود على كتاب الله، وردّ ما خالفه منها[5]: فإنّها تدلّ -عرفًا- على جعل مداليل ألفاظ الكتاب حجّةً ومقياسًا لصحّة الشرط وفساده[6].

3. الأخبار الآمرة بعرض الروايات على القرآن الكريم، سواء الأخبار التي جعلت العرض على الكتاب كشرط مطلق في قبول الروايات أو ردّها -وقد صرّح جَمعٌ من الأعلام بتواترها- أو تلك الأخبار التي جعلت موافقة الكتاب أو مخالفته معيارًا للترجيح بين الروايات المتعارضة[7].

 

 


[1]  انظر: الحائريّ، مباحث الأصول، مصدر سابق، ج2 من القسم الثاني، ص238.

[2]  انظر: المصدر نفسه، ج2 من القسم الثاني، ص239؛ الصدر، محمّد باقر، دروس في علم الأصول الحلقة الثانية، دار الكتاب اللبناني - مكتبة المدرسة، بيروت – لبنان، ط2، 1406ه‍- 1986م، ص246-247.

[3]  إضافة لما مرّ من سيرة المتشرّعة.

[4] سيأتي الكلام في سند الحديث ومدلوله.

[5]  انظر: الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 12، ص352–353، باب ثبوت خيار الشرط بحسب ما يشترطانه، وكذا كلّ شرط إذا لم يخالف كتاب الله.

[6] انظر: الحائريّ، مباحث الأصول (تقريرًا لأبحاث السيّد محمّد باقر الصدر)، مصدر سابق، ج2 من القسم الثاني، ص241-242.

[7]  انظر: المصدر نفسه، ص242-244.

 

38


28

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

4. الأخبار الدالّة -قولًا وفعلًا وتقريرًا- على جواز التمسّك بظواهر الكتاب: مثل قول الباقر (عليه السلام)، لمّا قال زرارة: مِن أين علمتَ أنّ المسح ببعض الرأس؟ فقال (عليه السلام): «لمكان الباء»[1]؛ فعرّفه (عليه السلام) مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب. 

وقول الصادق (عليه السلام) في مقام نهي الدوانيقيّ عن قبول خبر النّمام: "إنّه فاسق، وقال الله: ﴿إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوٓاْ﴾[2]"[3].

وقوله (عليه السلام) لابنه إسماعيل: "إنّ الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[4]، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم"[5].

وقوله (عليه السلام) لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء، اعتذارًا بأنّه لم يكن شيئًا أتاه برجله: "أَمَا سمعتَ قولَ الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡ‍ُٔولا﴾"[6].

 

 


[1]  انظر: الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج1، ص291، الباب 23 من أبواب الوضوء، الحديث الأوّل.

[2]  سورة الحجرات، الآية 6.

[3] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج8، ص619، ب 164 من أبواب أحكام العشرة، ح10.

[4]  سورة التوبة، الآية 61.

[5]  الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج13، ص230، ب 6 من أحكام الوديعة، الحديث الأوّل.

[6]  المصدر نفسه ج2، ص957، ب 18 من أبواب الأغسال المسنونة، الحديث الأوّل.

 

 

39


29

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

مقدّمة

لا إشكال لدى المسلمين جميعًا في حجّيّة السنّة بمعنى قول النبيّ(صلى الله عليه وآله) وفعله وتقريره[1]، فهي من المصادر الأساسيّة لأصول الدين وفروعه عندهم، كما تشهد به كتبهم. وإنكار حجيّتها مستلزمٌ لإنكار كثير ممّا عُلِم من الدين بالضرورة[2].

لكنّ الموجود اليوم، نتيجة البُعد عن عصر النصّ هي طرق مباشرة أو غير مباشرة إلى السنّة بالمعنى المتقدّم[3]. وهذه الطرق، إن أفادت علمًا وجدانيًّا[4] بصدور القول أو الفعل أو التقرير، ثبتت به السنّة، التي تقدَّم أنّه لا شكّ في حجّيّتها، وإلّا انتقل الكلام إلى حجّيّة الظنّ أو الطرق الظنّيّة للسنّة تعبّدًا، أو العمل بالاحتياط وفق ما وصل من هذه الطرق. وتفصيل البحث في ذلك خارج عن محلّ الكلام، وموكول إلى محلّه من كتب أصول الفقه، وقد تأتي بعض الإشارات عند البحث في العلاقة بين القرآن الكريم والسنّة الظنّيّة.

 

 


[1]  وقد يُعَبَّر عنها بالسنّة الواقعيّة كما ذكرنا في بحث المصطلحات.

[2] كعدد ركعات الفرائض.

[3]  وقد يُعَبَّر عنها بالسنّة المحكيّة. وتجدر الإشارة إلى اقتصار السنّة في مدرسة الصحابة على سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وشمولها في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) للمعصومين من آل النبيّ (صلى الله عليه وآله).

[4] كالحال في الخبر المتواتر أو الواحد المحتفّ بالقرائن أو الإجماع، أو سيرة المتشرّعة (والإجماع الكاشف عنها) وسيرة العقلاء الممضيّتَين من المعصوم (عليه السلام) (انظر الصدر، محمّد باقر، دروس في علم الأصول الحلقة الثالثة، المؤتمر العالميّ للإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر، ط4، مطبعة شريعت - قمّ، 1428ه‍، ص145-164؛ الصدر، محمّد باقر، دروس في علم الأصول الحلقة الثانية، المؤتمر العالمي للإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر، ط4، مطبعة شريعت - قمّ، 1436ه‍.ق، ص276-287.

 

 

43


30

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

وعلى الرغم من التسالم على حجّيّة السنّة بين الأمّة، ذُكِرَت لذلك أدلّة من القرآن الكريم والإجماع والعقل، سنستعرض بعضها في ما يلي.

الأدلّة على حجّيّة السنّة

1. القرآن الكريم

يمكن الاستدلال على حجّيّة السنّة بآيات عدّة من القرآن الكريم، أمثال: ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ﴾[1]، ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُور رَّحِيم ٣١ قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾[2].

وآيتا آل عمران المتقدّمتان، إن أمكن استفادة شمول الحجّيّة لغير القول من الفعل والتقرير منهما من جهة وجوب الاتّباع مثلًا، فهو، وإلّا يمكن الاستدلال على حجّيّة خصوص الفعل والتقرير بما دلّ من القرآن والعقل والسنّة نفسها -بعد ثبوت حجّيّة القول منها بأمثال الآيات السابقة- على العصمة المطلقة أو وجوب الاتّباع مطلقًا.

ويدلّ على العصمة عن الخطأ في التبليغ -مثلًا- قوله تعالى: ﴿عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُول فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدا ٢٧ لِّيَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا﴾[3]. فظاهره أنّه سبحانه يختصّ رسله بالوحي، فيظهرهم ويؤيّدهم على الغيب، بمراقبة ما بين أيديهم وما خلفهم، والإحاطة بما لديهم، لحفظ الوحي عن الزوال والتغيّر بتغيير الشياطين وكل مغيّر غيرهم، ليتحقَّق إبلاغهم رسالات ربّهم. ونظيره قوله تعالى، حكايةً عن قول ملائكة الوحي: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّا﴾[4]،[5].

 

 


[1]  سورة المائدة، الآية 92.

[2]  سورة آل عمران، الآيتان 31-32.

[3] سورة الجنّ، الآية 28.

[4]  سورة مريم، الآية 64.

[5]  انظر: العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج2، ص136-137.

 

44


31

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

ويمكن تعميم التبليغ إلى القول والفعل؛ فإنّ في الفعل تبليغًا كما في القول. وعلى هذا، فكلّ رسول معصوم من المعصية، باقتراف المحرّمات وترك الواجبات الدينيّة؛ لأنّ في ذلك تبليغًا لِما يناقض الدين، فهو معصوم من فعل المعصية، كعصمته من الخطأ في أخذ الوحي وحفظه قولاً[1].

وبالجملة، فالمتدبّر في مجموع آيات الكتاب العزيز، لا يشكّ بالمعنى الواسع لحجّيّة السنّة الذي يعتقد به المسلمون.

 

2. الإجماع:

ذكرنا في المقدّمة، أنّ المسلمين مجمعون على حجّيّة السنّة الثابتة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). وقد نقله غير واحد من العلماء والباحثين[2].

هذا، ولكن إن استُند في حجّيّة الإجماع إلى قيام دليل شرعيّ تعبّديّ من السنّة على حجيّته، أو إلى مثل الحديث المنسوب إليه(صلى الله عليه وآله): "لا تجتمعُ أمّتي على ضلالة"[3]، لزم الدور؛ لكونه من الاستدلال على حجّيّة السنّة بالسنّة نفسها، إلّا أن يُتَمَّم الاستدلال بما دلّ على حجّيّة أقواله (صلى الله عليه وآله)، من أمثال الآيات الآنفة الذكر. وإن استُنِد في حجّيّته إلى حكم العقل المدَّعى بلزوم تدخُّل الشارع لمنع الاجتماع على الخطأ -وهو ما يُسَمّى بقاعدة اللطف- فله وجهٌ، بعد التسليم بالقاعدة وشمولها للمقام.

3. العقل:

ويُراد من الدليل العقليّ هنا، خصوص ما دلّ على عصمته (صلى الله عليه وآله) في مراتبها الثلاث؛ أي: العصمة من المعصية، والعصمة في تبليغ الرسالة، والعصمة من الخطأ والسهو في تطبيق الشريعة والأمور الفرديّة والاجتماعيّة.

 

 


[1]  العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج20، ص62.

[2] انظر مثلًا: خلاف، عبد الوهاب، علم أصول الفقه، مكتبة الدعوة - شباب الأزهر (عن الطبعة الثامنة لدار القلم)، ص37.

[3]  انظر مثلًا: الهيثميّ، أبو الحسن نور الدين عليّ بن أبي بكر بن سليمان، تحقيق: حسام الدين القدسيّ، مكتبة القدسيّ، القاهرة، 1414هـ- 1994م، المجلّد 5، ص218، حديث 9100 نقلًا عن الطبرانيّ بإسنادين.

 

45


32

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

وعمدة الدليل العقليّ على ذلك كلّه، هو ما يُسَمَّى بدليل الوثوق. قال المحقّق نصير الدين الطوسيّ (قدس سره): "ويجب في النبيّ العصمة، ليحصل الوثوق، فيحصل الغرض"[1].

وتوضيحه: إنّ الغاية المتوخّاة من بعث الأنبياء هي هداية الناس إلى صراط الله المستقيم، ولا تحصل هذه الغاية إلّا بكسب اعتمادهم وثقتهم المطلقة بصحّة ما يقوله الأنبياء ويحكونه عن الله تعالى. فإذا شاهد الناس نبيَّهم يعصي أو يسهو في تطبيق الشريعة الموكَل إليه تبليغها، أو في أيّ أمر آخر في حياته الفرديّة أو الاجتماعيّة، فإنّ الشكّ سيجد طريقاً رحبة للتسرّب إلى أذهانهم في ما يخصّ مجال الوحي والرسالة أيضًا، بل لن يبقى شيء ممّا جاء به هذا النبيّ إلاّ وتَطْرُقُهُ علامات الاستفهام. ولسان حال الناس يقول: "هل ما يحكيه عن الله تعالى من الوظائف، هي وظائف إلهيّة حقّاً؟ أم إنّها مزيجٌ من الأخطاء والاشتباهات؟ وبأيّ دليل هو لا يخطئ في مجال الوحي، إن كان يخطئ ويسهو في المجالَينْ الآخرين؟". وهذا الحديث النفسيّ والشعور الداخليّ، إذا تعمَّق في أذهانهم، سوف يَسْلُب اعتمادهم على النبيّ، ومن ثمّ تنتفي النتيجة المطلوبة من بعثه.

فلا بدّ -لسدّ هذا الباب الذي ينافي الغاية المطلوبة من إرسال الرسل- من أن يكون النبيّ مصوناً عن الخطأ في عامّة المراحل، سواء في حقل الوحي، أو تطبيق الشريعة، أو في الأُمور الفرديّة والاجتماعيّة[2].

السنن المدَّعى دخولها -واقعًا أو حكمًا- في السنّة الشريفة

سنّة الصحابة:

- الصحبة لغةً وعرفًا واصطلاحًا: قال الراغب الأصفهانيّ: "الصاحب: الملازم، إنسانًا كان أو حيوانًا أو مكانًا أو زمانًا. ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن -وهو الأصل


[1]  الطوسيّ، نصير الدين محمّد بن الحسن، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (شرح العلَّامة الحسن بن يوسف بن عليّ المطهّر الحلّيّ)، دار المحجّة البيضاء، لا.ت، لا.ط، المقصد الرابع، المسألة الثالثة، ص326.

[2]  انظر: السبحانيّ، جعفر، الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل (بقلم الشيخ حسن محمّد مكّي العامّليّ)، مؤسَّسة الإمام الصادق (عليه السلام)، قمّ المقدَّسة، ط7، 1388هـ.ش- 1430هـ.ق، ج3، ص191.

 

46


33

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

والأكثر- أو بالعناية والهمّة ولا يُقال في العرف إلّا لمن كثرت ملازمته"[1]. و"الصحابة"، وإن كان يُطلق في الأصل على جمع صاحب، وهو يشمل كلّ من لازم شخصًا، لكنّه غلب في عُرف المتشرّعة على من صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله).

واختلفوا في أنّ الصحابيّ يُشترط في كونه صحابيًّا طولُ المجالسة أم لا؟ فالذي نُسِب إلى جمهور الأصوليّين وجمعٍ من المحدّثين هو اشتراطه، وأيّدوه بالعرف، فإنّ الصحابيّ لا يَفهم منه أهلُ العرف إلّا من يصحب صحبة معتدّاً بها، لا مَن له رؤية لحظة مثلًا، وإن لم تقع معها مجالسة ولا مماشاة ولا مكالمة. ومنهم من اشترط، مع ذلك، أن يغزو مع النبيّ(صلى الله عليه وآله) غزوة أو غزوتَين[2].

والاصطلاح الآخر في الصحابيّ، هو المنسوب للمحدّثين، ولعلّه الأشهر. قال ابن حجر: "وأصحّ ما وقفتُ عليه من ذلك [أنّ] الصحابيّ مَن لقي النبيّ(صلى الله عليه وآله) مؤمناً به، ومات على الإسلام، فيدخل في من لقيه مَن طالت مجالسته له أو قصرت، ومَن روى عنه أو لم يروِ، ومَن غزا معه أو لم يغزُ، ومَن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومَن لم يَرَه لعارضٍ كالعمى"[3]. وقال الشهيد الثاني: "الصحابيّ: من لقي النبيّ(صلى الله عليه وآله) مؤمنًا به، ومات على الإسلام، وإن تخلَّلت ردّته بين لقيه مؤمنًا به، وبين موته مسلمًا، على الأظهر"[4].

تحرير محلّ النزاع:

اتّفقَت آراء علماء الأصول عند أهل السّنة، على أن قول الصحابيّ الذي لا يُدرَك بالاجتهاد والعقل، حجّة على المسلمين، على أساس أنّ قول الصحابيّ في مثل هذه الأحوال، يستند إلى دليل شرعيّ، ولا يمكن أن يقوله تشهّيًا وعبثًا.

 

 

 

[1]  الراغب الأصفهانيّ، أبو القاسم الحسين بن محمّد، المفردات في غريب القرآن، تحقيق وضبط: إبراهيم شمس الدين، مؤسَّسة الأعلميّ، بيروت، ط1، 1430هـ- 2009م، باب الصاد، مادّة صحب، ص364.

[2]  انظر: اللكنويّ، محمّد عبد الحيّ، ظفر الأمانيّ بشرح مختصر السيّد الشريف الجرجانيّ، اعتنى به عبد الفتّاح أبو غدّة، مكتب المطبوعات الإسلاميّة، حلب، ط3، بيروت، 1416هـ،ص496.

[3]  ابن حجر العسقلانيّ، أبو الفضل أحمد بن عليّ بن محمّد بن أحمد بن حجر العسقلانيّ، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعليّ محمّد معوّض، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، 1415هـ، المجلّد 1، ص158.

[4]  الشهيد الثاني، زين الدين بن علي بن أحمد الجبعي العامّلي، الرعاية في علم الدراية، تحقيق: عبد الحسين محمد علي بقال، نشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشيّ النجفي - قم المقدَّسة، إشراف الأمين العامّ للمكتبة الدكتور السيد محمود المرعشيّ، مطبعة بهمن، قمّ، 1408ه‍.ق، ص339.47

 

47


34

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

وكذلك اتّفقَت آراؤهم على قبول قول الصحابيّ الذي أبداه ولم يخالفه فيه أحد من الصحابة، وكونه حجّة على المسلمين؛ لأنّ اتّفاقهم دليلٌ على وقوفهم على مستند شرعيّ صحيح.

أمّا قول الصحابيّ في الاجتهاد، فقد اتّفقوا على أنّه ليس بحجّة على غيره من الصحابة المجتهدين.

هذا في صورة عدم تعدُّد أقوال الصحابة واختلاف اجتهاداتهم، أمّا في صورة التعدُّد والاختلاف، فقد اختلفوا في أنّ قول الصحابيّ واجتهاده -حينئذٍ- يكون حجّة على التابعين ومَن بعدهم أم لا؟ ذهب بعضهم –كأبي حنيفة ومالك– إلى وجوب الالتزام بأحد أقوال الصحابة بدون تعيين، واختيار المناسب منها، مع عدم الخروج عن مجموع آرائهم، وذهب آخرون -كالشافعيّ وأحمد بن حنبل– إلى عدم حجّيّة قول الصحابيّ حينئذٍ، فتجوز متابعته، وتجوز مخالفته[1].

وفي المقابل، اتّفقت كلمة علماء الإماميّة على عدم حجّيّة قول الصحابيّ في نفسه، قال العلَّامة الطباطبائيّ في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ﴾[2] «وفي الآية دلالة على حجّيّة قول النبيّ(صلى الله عليه وآله) في بيان الآيات القرآنيّة. هذا في بيانه(صلى الله عليه وآله) نفسه، ويلحق به بيان أهل بيته، لحديث الثقلَين المتواتر وغيره. وأمّا سائر الأمّة من الصحابة أو التابعين أو العلماء، فلا حجّيّة لبيانهم؛ لعدم شمول الآية وعدم نصّ معتمَد عليه يعطي حجّيّة بيانهم على الإطلاق»[3].

 

 


[1]  انظر: الزحيليّ، محمّد مصطفى، الوجيز في أصول الفقه الإسلاميّ، دار الخير، ط2، ج1، ص271-274.

[2]  سورة النحل، الآية 44.

[3]  العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج12، ص261.

 

48


35

الدرس الخامس: حجّيّة السنّة 2 (سنّة أهل البيت (عليهم السلام))

الدرس الخامس: حجّيّة السنّة 2 (سنّة أهل البيت (عليهم السلام))

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرَّف أهمّ أدلّة الكتاب على حجّيّة سنّة أهل البيت (عليهم السلام).

2. يتعرّف أهم الإشكالات التي أوردت على الاستدلالات المذكورة.

3. يناقش الإشكالات على الاستدلال بالكتاب على حجّيّة سنّة أهل البيت (عليهم السلام).

 

49


36

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

مقدّمة

ارتبط البحث في سنّة أهل البيت -غالبًا- بالبحث الكلاميّ بين المسلمين حول الإمامة، فنادرًا ما كان يُطرَح بحث مستقلّ حول سنّتهم.

وقد طُرِح لإثبات إمامتهم السياسيّة والدينيّة للأمّة، أدلّةٌ كثيرة من الكتاب والسنّة، كآية التطهير وأُولي الأمر والمودّة[1]، وحديث الثقلَين والسفينة[2]، وغيرها[3] الكثير.

والمقام هنا لا يسمح باستيعاب جميع الأدلّة المطروحة لإثبات ذلك، فسنقتصر في البحث على دليلَين من الكتاب، ودليل من السنّة الشريفة، لهم مسيس الارتباط بموضوع البحث. وسنُرجئ الكلام في المراد من أهل البيت في الاصطلاح القرآنيّ والنبويّ، إلى نهاية البحث.

 

 


[1]  قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ   عِبَادَهُ   ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِۗ قُل لَّآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ وَمَن يَقۡتَرِفۡ حَسَنَة نَّزِدۡ لَهُۥ فِيهَا حُسۡنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُور شَكُورٌ﴾ (الشورى 23).

[2]  إشارة إلى الحديث المرويّ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): "ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق" (الحاكم، أبو عبد الله محمّد بن عبد الله الحاكم النيسابوريّ، المستدرك على الصحيحَين، دار المعرفة، بيروت - لبنان، 1418هـ- 1998م، ج3، ص81، ح3365).

[3]  مثل الأحاديث عنه (صلى الله عليه وآله): "النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمانٌ لأمّتي من الاختلاف؛ فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس" (الحاكم النيسابوريّ، المستدرك على الصحيحَين، مصدر سابق، ج4، ص131، ح4769)؛ "من سرّه أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي، فليوالِ عليًّا من بعدي، وليوالِ وليّه، وليقتدِ بأهل بيتي؛ فإنّهم عترتي، خُلِقوا من طينتي، ورُزِقوا فهمي وعلمي، فويلٌ للمكذّبين بفضلهم من أمّتي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنزلهم الله شفاعتي" (المتّقي الهنديّ، علاء الدين عليّ بن حسام الدين ابن قاضي خان القادري الشاذليّ الهنديّ البرهانفوريّ، كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، المحقّق: بكري حياني وصفوة السقا، مؤسَّسة الرسالة، ط5، 1401هـ- 1981م، ج12، ص103، ح34198)؛ "في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من توفدون" (نقله ابن حجر في الصواعق المحرقة عن الملّا في سيرته، انظر: الهيتمي، أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّد بن عليّ بن حجر، الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الله التركيّ وكامل محمّد الخراط، مؤسَّسة الرسالة، بيروت، ط1، 1997، ج2، ص441).

 

51


37

الدرس الثالث: حجّيّة القرآن الكريم 2 (حجّيّة ظواهر الكتاب)

الأدلّة من الكتاب العزيز

آية التطهير

وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرا﴾[1].

1. مفردات الآية:

- إنّما: أداة تفيد الحصر عند جمهور العلماء[2].

- الرجس: قال البخاريّ القنوجيّ في تفسير فتح البيان "والمراد بالرجس: الإثم والذنب المدنّسان للأعراض، الحاصلان بسبب ترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه، فيدخل في ذلك كلّ ما ليس فيه رضا الله. وقيل: الرجس: الشكّ، وقيل: السوء، وقيل: عمل الشيطان، والعموم أَوْلى"[3].

وقال في تفسير الميزان: "والرجس -بالكسر فالسكون- صفة من الرجاسة، وهي القذارة، والقذارة هيئة في الشيء توجب التجنُّب والتنفُّر منها، وتكون بحسب ظاهر الشيء، كرجاسة الخنزير، قال تعالى: ﴿أَوۡ لَحۡمَ خِنزِير فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ﴾[4]، وبحسب باطنه -وهو الرجاسة والقذارة المعنويّة- كالشرك والكفر وأثر العمل السيّئ، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَض فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ﴾[5]، وقال: ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾[6].

 

وأيّا ما كان، فهو إدراك نفسانيّ وأثر شعوريّ من تعلُّق القلب بالاعتقاد الباطل أو

 

 


[1]  سورة الأحزاب، الآية 33.

[2] انظر: السيوطيّ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطيّ، الاتقان في علوم القرآن، تحقيق: فوّاز أحمد زمرلي، دار الكتاب العربيّ، 1419هـ- 1999م، ج2، ص66.

[3]  الحسينيّ البخاريّ القِنَّوجيّ، أبو الطيّب محمّد صديق خان بن حسن بن عليّ ابن لطف الله، فتحُ البيان في مقاصد القرآن، عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاريّ، المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر، صَيدَا - بَيروت، 1412هـ- 1992م، ج11، ص85.

[4]  سورة الأنعام، الآية 145.

[5]  سورة التوبة، الآية 125.

[6]  سورة الأنعام، الآية 125.

 

 

52


38

الدرس الخامس: حجّيّة السنّة 2 (سنّة أهل البيت (عليهم السلام))

العمل السيّئ، وإذهاب الرجس -واللام فيه للجنس- إزالة كلّ هيئة خبيثة في النفس تخطئ حقّ الاعتقاد والعمل، فتنطبق على العصمة الإلهيّة، التي هي صورة علميّة نفسانيّة تحفظ الإنسان من باطل الاعتقاد وسيّئ العمل"[1].

- أهلَ البيت: نَصَبَه على النداء أو المدح. وكلمة أهل البيت، سواء كانت لمجرّد الاختصاص أو مدحًا أو نداءً،تدلّ على اختصاص إذهاب الرجس والتطهير بالمخاطَبين، بقوله: "عنكم"، ففي الآية حقيقة قصران: قصر الإرادة في إذهاب الرجس والتطهير، وقصر إذهاب الرجس والتطهير بأهل البيت[2].

- يطهّركم تطهيرًا: تأكيد بالمصدر على إزالة أثر الرجس، وفيه إشارة لطيفة أنّ الرجس قد يزول عينًا ولا يطهر المحلّ، فقوله تعالى: ﴿لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ﴾ أي يزيل عنكم الذنوب[3] و﴿وَيُطَهِّرَكُمۡ﴾ بإزالة أثرها.

2. تقريب الاستدلال بالآية:

إنّ المراد بإذهاب الرجس هو نفي سببه تكوينًا، لا إذهابه بعد وقوعه، وإلّا لم يكن معنى لحصر نفي الرجس والتطهير بجماعة معيّنة، فإزالة أثر الذنب بعد وقوعه بالتوبة عامٌّ للمكلّفين جميعًا.

بناءً على ما ذُكِر، فإذهاب الرجس في الآية ملازمٌ للعصمة من الذنوب جميعًا، كما هو مقتضى نفي جنس الرجس في الآية الكريمة. وهذا كلّه مستند على كون الإرادة في الآية تكوينيّة، لا تشريعيّة. ويدلّ على ذلك قرائن شتّى، على رأسها:

- أنّ الأوامر والنواهي الشرعيّة المفترضة بناءً على كون الإرادة تشريعيّة ليست مختصّة بـ"أهل البيت"، أيّا كان المراد منهم، بل هي عامّة لجميع المكلّفين، فلا معنى لحصر إذهاب الرجس المبتني على هذه الأوامر والنواهي، بهم في الآية.

 

 


[1]  العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج16، ص318.

[2] المصدر نفسه، ج16، ص315؛ وانظر: الحسينيّ البخاريّ القِنَّوجي، فتحُ البيان في مقاصد القرآن، مصدر سابق، ج11، ص85.

[3]  انظر: الفخر الرازيّ، أبو عبد الله محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيميّ، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت ط3، 1420هـ، ج25، ص168.

 

53


39

الدرس الخامس: حجّيّة السنّة 2 (سنّة أهل البيت (عليهم السلام))

فإذا ثبت أنّهم (عليهم السلام) مطهَّرون عن أنواع الذنوب جميعًا، وأنّهم معصومون بلطف إلهيّ خاصّ بهم، فقد ثبت أنّ كلّ ما يصدر عنهم (عليهم السلام)، مِن قول أو فعل أو تقرير، فهو حجّة يلزم المسلمون اتّباعه، اللهم إلّا ما ثبت بالدليل اختصاصه بهم (عليهم السلام).

3. الإشكال على الاستدلال بالآية الكريمة

فإن قيل: إنّ المراد بقرينة السياق ما توجّه في الآيات السابقة إلى نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) من التشديد في التكاليف، بدءًا من قوله تعالى: ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَة مُّبَيِّنَة يُضَٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرا﴾[1]، ومعاملتهنّ في ذلك معاملة خاصّة، نظرًا لصلتهنّ السببيّة به (صلى الله عليه وآله)، كما في قوله تعالى: ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَد مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَض وَقُلۡنَ قَوۡلا مَّعۡرُوفا﴾[2].

وعلى هذا، يصبح معنى الآية -كما قرّره الفخر الرازيّ- أنّ الله لَيْسَ هو الْمُنْتَفِع بِتَكْلِيفِكُنّ،َ وَلَا تَنْفَعْنَ اللَّهَ فِي مَا تَأْتِينَ بِهِ، وَإِنَّمَا نَفْعُهُ لَكُنَّ، وَأَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاكُنَّ لِمَصْلَحَتِكُنَّ[3].

الجواب:

أوّلًا: إنّ سياق الآيات السابقة واللاحقة يصلح كقرينة لو تمّ أمران:

أوّلهما: كون هذا المقطع المختصّ بإذهاب الرجس من الآية -أي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرا﴾- نازلًا في الوقت نفسه مع أوّل الآية التي وضع فيها وبقيّة الآيات الأخرى. والأمر ليس كذلك؛ إذ سيوافيك في روايات تفسير مصطلح "أهل البيت" من النبيّ(صلى الله عليه وآله)، أنّ هذا المقطع نزل منفردًا عن بقيّة الآيات، ووضعه في هذه الآية وبين بقيّة الآيات توقيفيّ وفق الترتيب الذي أمر به (صلى الله عليه وآله)، ولا دلالة فيه على المعنى المستفاد من السياق.

 

 


[1] سورة الأحزاب، الآية 30.

[2]  سورة الأحزاب، الآية 32.

[3]  انظر: الفخر الرازيّ، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، مصدر سابق، ج25، ص168.

 

 

54

 


40

الدرس الخامس: حجّيّة السنّة 2 (سنّة أهل البيت (عليهم السلام))

ثانيهما: عدم ورود النصّ من النبيّ(صلى الله عليه وآله) في تفسير المراد من أهل البيت؛ إذ مع وروده، لا معنى للتمسّك بهذه القرينة الظنّيّة. وهل هو إلّا اجتهاد في مقابل النصّ؟!

والحال أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) -كما سيأتي- حَصَرَ "أهل البيت" في جماعةٍ خاصّة، هم أصحاب الكساء.

ثانياً: إنّ تذكير الضمير في قوله تعالى: "عنكم" يقتضي -على أقلّ تقدير- مشاركة غير نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) معهنّ، ليصحّ توجيه الخطاب، كما اعترف به الفخر الرازيّ نفسه.

وعلى هذا، فالمشارِك إمّا أن يكون النبيّ(صلى الله عليه وآله) وحده، أو أقرباؤه، أو هو وأقرباؤه. وعلى التقادير كلّها، هو عدول من الخطاب السابق إلى خطاب جماعة آخرين، فيبطل الاستدلال بالسياق؛ لكون المخاطبين -على كلّ حال- في المقطع المستدَلّ به، غير المخاطَبين في الآيات السابقة واللاحقة.

ثالثًا: إنّ سياق المدح والامتنان في الآية، وتأكيد التطهير بالإتيان بالمفعول، يناسب الإرادة التكوينيّة، بل صريح روايات النزول الآتية في دعاء النبيّ(صلى الله عليه وآله) لأهل بيته بعد نزول المقطع المذكور من الآية بإذهاب الرجس عنهم لا يتناسب إلّا مع الإرادة التكوينيّة الملازمة للعصمة.

ويبقى الكلام بعدما ظهر دلالة الآية على العصمة من الذنوب، في استفادة العصمة عن الخطأ منها. وهو يتوقّف على شمول الرجس للخطأ في كلّيّات الشريعة وتطبيقاتها؛ فإن بان شموله فهو، وإلّا ففي باقي الأدلّة غنى وكفاية.

آية أولي الأمر

وهي قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡر وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا﴾[1].

 

 


[1]  سورة النساء، الآية 59.

 

55


41

الدرس الخامس: حجّيّة السنّة 2 (سنّة أهل البيت (عليهم السلام))

وتقريب الاستدلال بالآية -كما قرّره الفخر الرازيّ ما يلي-: "والدليل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمْرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَمَرَ اللَّه بِطَاعَتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ؛ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ، كَانَ بِتَقْدِيرِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْخَطَأِ، يَكُونُ قَدْ أَمَرَ اللَّه بِمُتَابَعَتِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِفِعْلِ ذَلِكَ الْخَطَأِ، وَالْخَطَأُ -لِكَوْنِهِ خَطَأً- مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَهَذَا يُفْضِي إِلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّهُ مُحَالٌ؛ فَثَبَتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمَرَ اللَّه بِطَاعَتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ، فَثَبَتَ قَطْعًا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا"[1].

أمّا ما ذُكِر من الإشكالات على الاستدلال بالآية على حجّيّة سنّة أهل البيت،فنذكر أحد أهمّها مع دراسته:

أُولي الأمر هم أهل الحلّ والعقد:

ما هو مقتضى الرأي الشائع في تفسير الآية، مِن كَوْن أُولي الأمر هم جماعة أهل الحلّ والعقد، أو الأمراء، أو قادة السرايا، وما شاكل من الطوائف غير المعصومة التي قد تناط بها مسؤوليّة إدارة الأمور في الأمّة.

ووجوب طاعة هؤلاء -وفق هذا الرأي- هو من باب نظم الأمر في الأمّة وحفظ وحدتها، وليس لعصمتهم، فإن أَمَروا بما يخالف الكتاب والسنّة، فلا يجوز ذلك منهم، ولا ينفذ حكمهم، لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». وقد روى هذا المعنى الفريقان، وبه يُقَيَّد إطلاقُ الآية. وأمّا الخطأ والغلط، فإن عُلِم به رُدَّ إلى الحقّ، وهو حُكم الكتاب والسنّة، وإن احتُمِل خطؤه، نُفِّذَ فيه حُكمه، كما في ما عُلِم فيه عدم خطئه، ولا بأس بوجوب القبول وافتراض الطاعة في ما يخالف الواقع من هذا النوع من الأوامر؛ لأنّ مصلحة حفظ الوحدة في الأمّة وبقاء السؤدد والأبّهة تُتَدارَك بها هذه المخالفة[2].

 

 


[1]  الفخر الرازيّ، التفسير الكبير، مصدر سابق، ج10، ص112-113.

[2] انظر: العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج4، ص400.

 

56


42

الدرس الثامن: العلاقة بين القرآن والسنّة الواقعيّة

الجواب:

أوّلًا: إنّ ما ذُكِر من جعل الشارع الحجّيّة لغير المعصوم ممكنٌ في نفسه، بل واقعٌ أيضًا، كالذي جعله من حجّيّة قادة الجند وولاة المدن والمناطق، وكجعل الحجّيّة للحكم الظاهريّ عند امتناع إمكان الوصول للحكم الواقعيّ.

لكنّ كون الأمر ممكنًا في نفسه وقابلًا للتحقّق، لا يغيّر من ظاهر الآية شيئًا، وليس كافيًا في نفسه لتقييد إطلاقها، فالآية تدلّ على افتراض طاعة أُولي الأمر هؤلاء، ولم تقيّده بقيد ولا شرط، وليس في الآيات القرآنيّة الأخرى ما يقيّد الآية في مدلولها، حتّى يعود معنى قوله: ﴿وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ﴾ إلى مثل قولنا: وأطيعوا أُولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم، فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة لهم عليكم، وإن علمتم خطأهم فقوّموهم بالردّ إلى الكتاب والسنة. هذا، مع أنّ الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد في ما هو دون هذه الطاعة المفترضة، كقوله في الوالِدين: ﴿وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡناۖ وَإِن جَٰهَدَاكَ لِتُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡم فَلَا تُطِعۡهُمَآۚ﴾[1]، فما باله لم يُظهر شيئًا من هذه القيود في آية ترتبط بأحد أخطر شؤون الأمّة، وهي الإمامة؟!

ثانيًا: إنّ الآية جمع فيها بين الرسول وأُولي الأمر، وذكر لهما معًا طاعة واحدة، فقال: ﴿وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ﴾، واللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً وَمَشْرُوطَةً مَعًا؛ فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الرَّسُولِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ أُولِي الْأَمْرِ. ولا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم؛ فلو جاز شيءٌ من ذلك على أُولي الأمر، لم يَسَعْ إلَّا أن يذكر القيد الوارد عليهم. ومعه، لا مناص من أخذ الآية مطلقةً من غير أيّ تقييد، ولازمُه اعتبار العصمة في جانب أُولي الأمر كما اعتُبِر في جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، من غير فرق[2].

 


[1]  سورة العنكبوت، الآية 8.

[2]  انظر: العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج4، ص400-401؛ وانظر: الفخر الرازيّ، التفسير الكبير، مصدر سابق، ج10، ص114.

 

57


43

الدرس السابع: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 2 (حديث الثقلَين)

وخلاصة الكلام في الآية: إنّ الآية، كما تَبَيَّن، ظاهرةٌ في عصمة أُولي الأمر عصمةً مطلقةً عن الذنب والخطأ، أمّا هويّة أُولي الأمر، فموكولةٌ إلى ما سيأتي بعض الكلام فيه من الأدلّة في السنّة الشريفة.

 

58

 


44

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

 

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف ربط حديث الثقلَين بالبحث في العلاقة بين القرآن والسنّة الواقعيّة.

2. يتعرّف أوّليّات حديث الثقلَين: فقه الحديث وسنده ومناسباته.

 

59


45

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

تمهيد: ربط حديث الثقلَين بالمقام

يأتي البحث في حديث الثقلَين في سياق البحث عن حجّيّة سنّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو من أهمّ الأدلّة على حجّيّتها. لكن يهمّنا في المقام، التمهيد لبحث العلاقة بين القرآن والسنّة الواقعيّة، الذي سيرتكز على الخلاصات المستفادة من حديث الثقلَين.

سبق أن بيّنّا أنّ السنّة، بالمصطلح الإماميّ، شاملةٌ، إضافةً إلى سنّة النبيّ(صلى الله عليه وآله)، لأقوال المعصومين وأفعالهم وتقريراتهم، بل الذي عُرِف عنهم (عليهم السلام) أنّهم ليس عندهم شيءٌ إلّا من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا يخرجون في أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم عن القرآن والسنّة؛ فالسنّة واحدة، وهي سنّة النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وهم ليسوا إلّا ورثتها والمبلّغين لها، مع عظمة هذا المقام. ففي الكافي عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن قتيبة، قال: "سأل رجلٌ أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة، فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيتَ إن كان كذا وكذا، ما يكون القول فيها؟ فقال له: مَه! ما أجبتُك فيه من شيء فهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ لسنا من "أرأيتَ" في شيء"[1].

وعن يونس بن عبد الرحمن عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، في حديث طويل نذكر منه: "فإنّا إن تحدّثنا حدَّثْنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة. إنّا عن الله وعن رسوله نُحدِّث، ولا نقول قال فلان وفلان، فيتناقض كلامنا، إنّ كلامَ آخِرِنا مثلُ كلامِ أوّلِنا، وكلامَ أوّلِنا مصادقٌ لكلامِ آخِرِنا"[2].

 


[1]  الكلينيّ، أبو جعفر محمّد بن يعقوب، الكافي، صحّحه وعلّق عليه: عليّ أكبر الغفاريّ، دار الكتب الإسلاميّة مرتضى آخوندي، طهران، ط3، 1388ه‍، ج1، ص58 ح21.

[2]  الطوسيّ، أبو جعفر محمّد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّيّ)، تصحيح وتعليق: مير داماد الأسترآبادي، تحقيق: السيّد مهدي الرجائيّ، مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)، لا.ت، لا.ط، ج2، ص490.

 

61


46

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

وفي بصائر الدرجات الكبرى عن الأحول عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "سمعتُه يقول: إنّا لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا، لكنّا من الهالكين، ولكنّها آثارٌ من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، (و) أصلُ علمٍ نتوارثها كابر عن كابر(عن كابر)، نكنزها كما يكنز الناس ذَهَبَهم وفضّتهم"[1]. والأحاديث بهذا المعنى مستفيضة، لا داعي للإطالة بذكرها.

ومن هنا تبرز أهمّيّة حديث الثقلَين لدى البحث عن العلاقة بين القرآن الكريم والسنّة، إذ إنّ الحديث يصف العلاقة بين القرآن والعترة كما سيأتي عند الكلام في متنه، والتمسّك بالقرآن والعترة هو تمسُّكٌ بالقرآن وسنّة النبيّ(صلى الله عليه وآله) بوجه، كما اتّضح من خلال الأحاديث المذكورة آنفًا، ومن خلال تعريفات علماء الشيعة للسنّة، واشتمالها على أقوال المعصومين كلّهم وأفعالهم وتقريراتهم، ولا معنى لمخالفة المعصوم للمعصوم في الشريعة نفسها، كما لا يخفى، وصاحب الشريعة هو النبيّ(صلى الله عليه وآله).

وحديث الثقلَين يمتاز عن غيره بمميّزات تؤهّله لريادة البحث في هذا المجال، أهمّها: التواتر من ناحية السند، والصراحة والوضوح من ناحية الألفاظ، وكونه مسوقًا مساق الوصيّة للأمّة كما تشهد بذلك بعض عباراته والمناسبات التي أُلقِي بها، وسيأتي تفصيل ذلك كلّه إن شاء الله تعالى.

فقه الحديث وسنده ومناسباته

1. سنده ومناسباته

رُوِي الحديث عند الفريقَين بأسانيد متعدّدة متضافرة، وصلَت حدّ التواتر، فقد رُوِي عند غير الإماميّة عن نحو بضعة عشرة صحابيًّا[2]، أو نيّف وعشرين كما في كلام ابن حجر الآتي. وأحصى صاحب العبقات[3] أربعة وثلاثين صحابيًّا ممّن رُوِي

 

 


[1]  الصفّار، أبو جعفر محمّد بن الحسن، بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمّد، تحقيق: السيّد محمّد السيّد حسين المعلّم، المكتبة الحيدريّة، قمّ – إيران، 1384هـ، ص320.

[2]  أحصى بعض الباحثين المعاصرين 17 صحابيًّا (انظر درويش، زكريّا بركات، قرّة العين بحديث الثقلَين، ص40–41).

[3]  انظر: الميلانيّ، عليّ الحسينيّ، عبقات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار، نشر مركز الحقائق الإسلاميّة، لا.ت، لا.ط، ج2، ص227-236.

 

 

62


47

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

عنهم الحديث. وممّا يزيد في الوثوق بتواتر الحديث، تعدُّدُ طُرُقِ كثيرٍ من أفراد هذه الأسانيد[1].

أمّا عند الإماميّة، فإنّ العدد قد وصل إلى اثنَين وثمانين سندًا، بناءً على ما أحصاه صاحب غاية المرام[2].

ومناسبات الحديث وموارده تُظهِر اهتمامًا خاصًّا من النبيّ(صلى الله عليه وآله)، بتأكيد منهج عدم الافتراق بين القرآن والعترة كمرجع وحيد للأمّة، وذلك عبر تكرار الوصيّة بالثقلَين في مناسبات شتّى، كما تثبته كتب الأحاديث والسير. لذا، قال ابن حجر: "ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسُّك بذلك طرقًا كثيرة، وردَت عن نيّفٍ وعشرين صحابيًّا، ومرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه. وفي بعض تلك الطرق، أنّه قال ذلك بحجّة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنّه قاله بالمدينة في مرضه، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنّه قال ذلك بغدير خمّ، وفي أخرى أنّه قاله لَمّا قام خطيبًا بعد انصرافه من الطائف، كما مرّ؛ ولا تنافي، إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها، اهتمامًا بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة"[3].

 

 


[1]  قد أخرج الحديث عن زيد بن أرقم مثلًا، بما لا يقلّ عن تسعة طرق، وإن انتهت ثمانية منها إلى ثلاثة رواة عن زيد، هم: أبو الضحى مسلم بن صبيح، وأبو الطفيل عامر بن واثلة، ويزيد بن حيّان. انظر مثلًا: النيسابوري، المستدرك، مصدر سابق، كتاب معرفة الصحابة، ح4576، 4577، 4711، 6272؛ وانظر: الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة، الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، تحقيق وتصحيح: عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1403هـ-1983م، ط2، مناقب أهل بيت النبيّ، ح3720؛ وانظر: الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، تحقيق وتخريج: حمدي عبد المجيد السلفي، دار إحياء التراث العربي، لا.م، لا.ت، ط2، باب من اسمه زيد، زيد بن أرقم، ح3838، 4847، 4848، 4886، 4887، 4889، 4901؛ وانظر: النسائي، أحمد بن شعيب، سنن النسائي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1348-1930م، ط1، فضائل عليّ، ح6921، 6948، وبَابٌ قَوْلُ النبيّ (صلى الله عليه وآله): "مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فَعَلِيٌّ وَلِيُّه"، ح7235؛ وانظر: أحمد بن حنبل، المسند (مسند أحمد)، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، حديث زيد بن أرقم، ح18927، 18972.

[2]  انظر: البحرانيّ، هاشم، غاية المرام وحجّة الخصام، تحقيق: السيّد عليّ عاشور، مؤسَّسة التاريخ العربيّ، ط1، 1422هـ - 2001م، ج2، ص321.

[3]  الهيثميّ، أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّد بن عليّ ابن حجر، الصواعق المحرقة، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الله التركيّ وكامل محمّد الخرّاط، مؤسَّسة الرسالة، بيروت، ط1، 1997م، ج2، ص440.

 

63


48

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

ونذكر هنا ثلاث مناسبات تحدّث بها النبيّ(صلى الله عليه وآله) بحديث الثقلَين:

- أوّلها: يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء: عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، قال: "رأيتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) في حجّته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: يا أيّها الناس، إنّي قد تركتُ فيكم ما إنْ أخذتُم به لن تضلّوا: كتابَ الله، وعترتي أهلَ بيتي"[1].

- ثانيها: يوم غدير خمّ، عند منصرفه من حجّة الوداع: حيث أوصى لعليّ (عليه السلام) بالولاية من بعده، بعد أن نعى نفسه الشريفة إلى الناس، فقال، كما في رواية كنز العمّال: "إنّي لا أجد لنبيّ إلّا نصف عمر الذي كان قبله، وإنّي أوشك أن أُدعى فأجيب، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نصحت. قال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأنّ محمّدًا عبده ورسوله، وأنّ الجنّة حقّ، وأنّ النار حقّ، وأنّ البعث بعد الموت حقّ؟ قالوا: نشهد. قال: وأنا أشهدُ معكم. ألا هل تسمعون؟ فإنّي فرطكم على الحوض، وأنتم واردون عَلَيَّ الحوض، وإنّ عرضَه أبعدُ ما بين صنعاء وبصرى، فيه أقداحٌ عدد النجوم من فضّة، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلَين. قالوا: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: كتاب الله؛ طرفُه بيد الله، وطرفُه بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلّوا. والآخَر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرّقا حتّى يَرِدا على الحوض، فسألتُ ذلك لهما ربّى، فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلوهم (كذا)[2] فإنّهم أعلم منكم. مَن كنتُ أَوْلى به من نفسه، فعليٌّ وليُّه اللهمّ، والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه"[3].

- ثالثها: في مرض وفاته: فقد أخرج الحافظ ابن عقدة في كتاب الولاية من طريق عروة بن خارجة، "عن فاطمة الزهراء (رضي الله عنها)[4] قالت: سمعتُ أبي (صلى الله عليه وآله) في مرضه الذي قُبِض فيه يقول، وقد امتلأت الحجرة من أصحابه: "أيّها الناس، يوشك أن

 

 


[1]  انظر: سنن الترمذيّ، مصدر سابق، ح3786؛ والمعجم الكبير للطبرانيّ، مصدر سابق، ح2615.

[2] كذلك وردت في المصدر، ولعلّ الأنسب (تعلّموهم) كما ورد في رواية الطبرانيّ.

[3]  الهنديّ، علاء الدين عليّ المتّقيّ بن حسام الدين، كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، تحقيق: محمود عمر الدمياطيّ، دار الكتب العلميّة، لا.ت، لا.ط، ج1، كتاب الإيمان والإسلام، قسم الأقوال، ح953، ص107.

[4] كذا في المصدر.

 

 

64


49

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

أُقبَض قبضًا سريعًا، وقد قدّمتُ إليكم القول معذرةً إليكم، أَلَا وإنّي مخلّف فيكم كتاب ربّي عزَّ وجلَّ وعترتي أهل بيتي"، ثم أخذ بيد عليٍّ فقال: "هذا عليٌّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ، لا يفترقان حتّى يَرِدا عَلَيَّ الحوض، فأسألكم ما تخلفوني فيهما"[1].

2. أمارات فارقة

وثمّة أمارات فارقة في الأحاديث في هذه المواطن التي ذكرناها، تشير إلى أهمّيّة المضمون عند النبيّ(صلى الله عليه وآله)، منها:

أ. الخطبة والصلاة والموعظة: ففي واقعة الغدير، وأمام الالآف ممّن كانوا قد حجّوا معه (صلى الله عليه وآله) -وقد كان معه جموعٌ في الحجّ لا يعلمها إلّا الله تعالى، قيل: كانوا أربعين ألفًا، وقيل: كانوا سبعين ألفًا، وقيل: كانوا تسعين ألفًا، وقيل: كانوا مئة ألف وأربعة عشر ألفًا، وقيل: وعشرين ألفًا، وقيل: كانوا أكثر من ذلك-[2] نزل (صلى الله عليه وآله) بين مكّة والمدينة عند سمرات خمس دوحات عظام، فكنس أناسٌ ما تحت السمرات، ثم راح رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصلّى، ثمّ قام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ، وقال ما شاء الله أن يقول، ثم قال: "يا أيّها النّاس، إنّي تاركٌ فيكم أمرَين، لن تضلّوا إذا اتّبعتموهما: كتاب الله، وأهل بيتي عترتي"، ثمّ قال: "أتعلمون أنّي أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ ثلاث مرّات، فقال الناس: نعم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "مَن كنتُ مولاه، فإنّ عليًّا مولاه"[3].

ب. في يوم شديد الحرّ: كما في أوصاف يوم الغدير، فقد أخرج الحاكم عن زيد بن أرقم، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى غَدِيرِ خُمٍّ، فَأَمَرَ

 

 


[1] ابن عقدة الكوفي، الولاية، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص242؛ القندوزي، الشيخ سليمان بن إبراهيم الحنفي، ينابيع المودة لذوي القربى، تحقيق: السيد عليجم الأشرف الحسيني، دار الأسوة للطباعة والنشر، إيران- قم، 1416هـ، ط1، ج1، ص124 ح56.

[2] انظر: الحلبيّ، عليّ بن إبراهيم بن أحمد الحلبيّ، إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط2، 1427ه‍، ج3، ص361.

[3]  انظر: ابن عساكر الدمشقيّ، أبو القاسم عليّ بن الحسن بن هبة الله، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، لا.ت، لا.ط، ج23، تتمّة حرف العين (عليّ بن أحمد بن إبراهيم – عليّ أبو الحسن)، ص367.

 

 

65


50

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

بِدَوْحٍ[1]، فَكُسِحَ[2] فِي يَوْمٍ مَا أَتَى عَلَيْنَا يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ حَرًّا مِنْهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا مَا عَاشَ نِصْفَ مَا عَاشَ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ... قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ"[3].

ج. بعد نعي النبيّ (صلى الله عليه وآله) لنفسه: كما في الأحاديث التي ذكرناها عن ابن عقدة وكنز العمّال، وغيرها كثير.

د. بعد أن أشهدهم على تبليغه (صلى الله عليه وآله) للرسالة: بعد أن أشهدهم على تبليغه (صلى الله عليه وآله) للرسالة: "أمّا بعد، أيّها الناس، فإنّي لا أراني إلّا موشكًا أن أُدعى فأجيب، وإنّي مسؤولٌ وأنتم مسؤولون، فما أنتم قائلون؟" قالوا: نشهد أنّك بلّغتَ ونصحتَ وأدّيتَ. قال: "إنّي لكم فرط، وأنتم واردون عَلَيَّ الحوض، وإنّي مخلّف فيكم الثقلَين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي"[4].

 

 


[1]  الدوح: البيت الضخم الكبير من الشعر (الزبيديّ، تاج العروس، مصدر سابق، ج4، ص37) والدوح: جمع دوحة: الشجرة العظيمة، من أيّ الشجر كان (الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين، لبنان- بيروت، 1407هـ- 1987م، ط4، ج1، ص361).

[2]  الكَسْحُ: الكَنْسُ؛ كَسَحَ البيتَ والبئر يَكْسَحُه كَسْحاً: كَنَسه. (لسان العرب، ابن منظور، مصدر سابق، ج2، ص571)، والمراد تسوية الأرض.

[3]  الحاكم النيسابوريّ، أبو عبد الله محمّد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحَين، دار الكتب العلميّة، بيروت، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ط1، 1411هـ–1990م، ج3، ص613، ح6272، (قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبيّ).

[4]  السخاويّ، شمس الدين محمّد بن عبد الرحمن، استجلاب ارتقاء الغرف بحبّ أقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله) وذوي الشرف، تحقيق: محمّد أمين الضناوي، دار الكتب العلميّة، بيروت، لا.ت، لا.ط، ص51.

 

 

66


51

الدرس السابع: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 2 (حديث الثقلَين)

الدرس السابع: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 2 (حديث الثقلَين)

 

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرف معنى العترة وأهل البيت لغة والمراد منهما.

2. يدرك المراد من أهل البيت في التعبير القرأنيّ والنبويّ.

3. يتبيّن دلالة حديث الثقلين على عدم افتراق القرآن والعترة.

 

 

67


52

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

فقه الحديث

والكلام في فقه الحديث واللطائف المستفادة منه بنحو مختصر يناسب المقام:

أوّلًا: في لفظ الثقلَين ومعناه

إن قُرئ بتسكين القاف وكسر الثاء، كان بمعنى ضدّ الخفّة، وواحده "ثِقْل"، وسيأتي وجهه عند نقل بعض كلمات اللغويّين. وإن قُرِئ بتحريك الحرفَين، كان بالمعنى المذكور، أو بمعنى متاع المسافر وحشمه، أو الشيء ذي الخطر النفيس والمصون، وواحده "ثَقَل".

قال في تاج العروس: "الثِّقَلُ كعِنَبٍ ضِدُّ الخِفَّةِ، قالَ الرَّاغِبُ: وهما مُتَقَابِلان. والثَّقَلُ محرَّكَةً: مَتاعُ المُسافِرِ وحَشَمُه، والجَمْعُ: أَثْقالٌ، وكلُّ شيءٍخطيرٍ نفيسٍ مَصونٍ له قَدْرٌ ووَزْنٌ ثقل عنْدَ العَرَبِ، ومنه قيلَ لبيضِ النَّعامِ: ثقل؛ لأَنَّ آخِذَه يفْرَحُ به وهو قوتٌ، وكذلك الحدِيثُ: «إِنَّي تارِكٌ فيكُم الثقلَين كِتابَ اللَّهِ وعِتْرَتِي»، جَعَلَهما ثَقَلَيْن إعْظاماً لقَدْرِهما وتَفْخِيماً لهما. قالَ ثَعْلَب: سمَّاهُما ثَقَلَيْن لأنَّ الأَخْذَ بهما والعَمَل بهما ثَقِيلٌ"[1].

ويظهر من ذيل الكلام الأخير المنقول عن ثعلب، في كون اللفظَين بمعنى واحد، وهو المعنى الأوّل، وهو ما يظهر أيضًا ممّا نقله صاحب لسان العرب عن ابن الأنباريّ، قال: "قَالَ ابْنُ الأَنباري: قِيلَ لِلْجِنِّ والإِنس الثَّقَلان لأَنّهما كالثَّقَل للأَرض وَعَلَيْهَا. والثَّقَل بِمَعْنَى الثِّقْل، وَجَمْعُهُ أَثقال، وَمَجْرَاهُمَا مَجْرَى قَوْلِ الْعَرَبِ مَثَل ومِثْل وشَبَه وشِبْه ونَجَس ونِجْس"[2].

 

 


[1] الزبيديّ، محمّد مرتضى الحسينيّ، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: الدكتور محمود محمّد الطناحيّ، راجعه عبد السلام محمّد هارون ولجنة فنيّة من وزارة الإعلام، 1413ه‍.ق-1993م، ج28، ص156.

[2]  ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج11، ص88.

 

69


53

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

هذا، ولكنّ القرائن الموجودة في الحديث ترجّح إرادة معنى الشيء النفيس والمصون. ولعلّ أهمّ هذه القرائن ذِكر نعي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنفسه الشريفة، وإخباره بدنوّ أجله -كما نقلنا في قرائن اهتمامه (صلى الله عليه وآله) بالحديث- بعبارات مثل: "أيّها الناس، يوشك أن أُقبَض قبضًا سريعًا"[1]، و"يوشك أن أُدْعى فأجيب"[2]، و"كأنّي قد دُعِيتُ فأجبتُ"[3]. وإن كان لا يبعد إرادة معنى متاع المسافر، كما وجَّهَهُ جامع نهج البلاغة.

 

قال الشريف الرضيّ: "في هذا الخبر أيضًا مجازٌ. وذلك تسميته(عليه السلام)الكتابَ والعترةَ بِـ «الثقلَين»، وواحدهما: ثَقَل، وهو متاع المسافر الذي يصحبه إذا رحل، ويسترفق به إذا نزل، فأقام(عليه السلام) الكتابَ والعترةَ مقام رفيقه في السفر، ورفاقه في الحضر، وجعلهما بمنزلة المتاع الذي يخلفه بعد وفاته، فلذلك احتاج إلى أن يوصي بحفظه ومراعاته"[4].

 

ثانيًا: في معنى العترة وأهل البيت والمراد منهما

قال الجوهريّ: «عترة الرجل: نسله ورهطه الأدنون»[5]. وفي لسان العرب: «ابن الأَثير: عِتْرةُ الرجل أَخَصُّ أَقارِبه. وقال ابن الأَعرابيّ: العِتْرة ولدُ الرجل وذرّيّته وعِقُبُه من صُلْبه، قال: فعِتْرةُ النبيّ(صلى الله عليه وآله)، ولدُ فاطمة البَتُولi. ورُوِي عن أَبي سعيد، قال: العِتْرةُ ساقُ الشجرة، قال: وعِتْرةُ النبيّ(صلى الله عليه وآله) عبدُ المطلّب وولده، وقيل: عِتْرتُه أَهل بيته الأَقربون، وهم: أَولاده وعليٌّ وأَولاده، وقيل: عِتْرتُه الأَقربون والأَبعدون منهم، وقيل: عِتْرةُ الرجل أَقرباؤُه من ولد عمّه دِنْيًا... إلى أن يقول: والمشهور المعروف أَن عتْرتَه أَهلُ بيته، وهم الذين حُرِّمَت عليهم الزكاة والصدقة المفروضة، وهم ذوو القربى الذين لهم خُمُسُ الخُمُسِ المذكور في سورة الأَنفال»[6].

 

 


[1]  أبو العبّاس ابن عقدة، كتاب الولاية، مصدر سابق، ص242.

[2]  انظر مثلًا: المعجم الكبير للطبرانيّ، مصدر سابق، حديث رقم 3052، وبلفظ "أوشك أن أدعى..." ح4971.

[3]  انظر مثلًا: سنن النسائيّ، مصدر سابق، ح8148 و 8464.

[4]  الرضيّ، محمّد بن حسين، المجازات النبويّة، تصحيح: مهدي هوشمند، مؤسَّسة دار الحديث للثقافة، قمّ، 1422ه‍.ق، ص208.

[5] الجوهريّ، الصحاح، مصدر سابق، ج2، ص537.

[6]  ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج4، ص538.

 

70


54

الدرس السابع: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 2 (حديث الثقلَين)

و"الأهل"، كما قال الراغب: "أهل الرجل: من يجمعه وإيّاهم نَسَبٌ أو دين، أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد. وأهل الرجل في الأصل: من يجمعه وإيّاهم مسكن واحد، ثم تُجَوِّزَ به فقيل أهل الرجل لمن يجمعه وإيّاهم نَسَبٌ، وتُعُورِفَ في أسرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) مطلقًا إذا قيل: "أهل البيت"، لقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ﴾[1]، وعُبِّرَ بأهل الرجل عن امرأته.

وأهل الإسلام: مَن يجمعهم. ولمّا كانت الشريعة، حكمت برفع حُكم النسب في كثير من الأحكام، بين المسلم والكافر، قال تعالى: ﴿إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحۖ﴾[2]، وقال تعالى: ﴿وَأَهۡلَكَ   مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ﴾.

ثالثًا: العترة وأهل البيت(عليهم السلام) في الاصطلاح القرآنيّ والنبويّ

إنّ المعاني المنقولة عن اللغويّين للكلمتَين، وإن دارت حول محور واحد، إلّا إنّها غير كافية في تحديد المراد منهما؛ إذ فضلًا عن اختلافها -سعةً وضيقًا- في تحديد دائرة المراد من كلامه (صلى الله عليه وآله)، لا يمكن لهذه التفسيرات إسقاط المعاني على الاصطلاح الشرعيّ القرآنيّ أو النبويّ؛ فإنّ "أهل البيت" إطلاقٌ قرآنيٌّ أو نبويٌّ على جماعة خاصّة من أقربائه  (صلى الله عليه وآله)، ذُكِروا في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرا﴾[3]. وقد فسّره هو (صلى الله عليه وآله) وبعض الصحابة ممّن عايشوا نزول هذا المقطع من الآية، في موارد كثيرة، تارةً ببيان في مَن نزل، وأخرى بحصر الداخلين تحت مفهوم "أهل البيت" بالجماعة عينها التي نزل فيهم. هذا فضلاً عن أنّ المراد بالعترة وأهل البيت في الحديث واحد؛ إذ إنّ الحديث رُوِي في كثير من الأسانيد -كما مرّ- بلفظ "عترتي أهل بيتي"، و"أهل بيتي" هنا عطف بيان أو بدل كما لا يخفى.


 


[1] سورة الأحزاب، الآية 33.

[2]  سورة هود، الآية 46.

[3]  سورة الأحزاب، الآية 33.

 

 

71


55

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

وعليه، فلا بدّ -لتعيين المراد من أهل البيت- من الرجوع لكلامه (صلى الله عليه وآله) السابق، في تحديد دائرة أفراد هذا المصطلح وتعيينها. وإليكم طائفة[1] من الروايات الصريحة عند الفريقَين في تعيين ذلك.

1. ما رُوِي عند أهل السنّة[2]

أ. ففي مسند أحمد ما ورد بثلاثة أسانيد، منها:

- حدّثَنا عبد الله: حدّثني أبي ثنا عبد الله بن نمير، قال حدّثَنا عبد الملك -يعني ابن أبي سليمان- عن عطاء بن أبى رباح، قال: حدّثَني مَن سمع أمَّ سلمة تذكر: أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان في بيتها، فأتته فاطمة ببرمة فيها خزيرة[3] فدخلَتْ عليه، فقال لها: ادعي زوجك وابنيك. قالت: فجاء عليّ والحسين والحسن، فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامة على دكّان تحته كساء له خيبريّ. قالت: وأنا أصلّي في الحجرة، فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرا﴾. قالت: فأخذ فضل الكساء، فغشّاهم به، ثم أخرج يدَه، فألوى بها إلى السماء، ثمّ قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي، فأذهِب عنهم الرجسَ، وطهِّرهم تطهيرًا. اللهمّ، هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي، فأذهِب عنهم الرجسَ، وطهِّرهم تطهيرًا. قالت: فأدخلتُ رأسي البيت، فقلتُ: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنّكِ إلى خير، إنّك إلى خير. قال عبد الملك: وحدّثَني أبو ليلى عن أمّ سلمة مثلَ حديثِ عطاء سواء. قال عبد الملك: وحدّثَني داود بن أبي عوف الحجاف عن حوشب عن أمّ سلمة بمثله سواء"[4].

 

 


[1] أحصى صاحب غاية المرام ما يقرب من 40 حديثًا عند العامّة في نزولها في الخمسة أصحاب الكساء، و34 حديثا عند الخاصّة في نزولها فيهم وفي الأئمّة التسعة من ذرّيّة الحسين (عليه السلام). (انظر: غاية المرام، مصدر سابق، ج3، ص173-211).

[2]  لمزيد من التفصيل، انظر كذلك ما رواه الترمذيّ: الترمذيّ، محمّد بن عيسى بن سورة الترمذيّ، سنن الترمذيّ، دار الكتب العلميّة، لا.ت، لا.ط، ج5، ح3205 و3259.

[3]  البرمة: القِدر من الحجارة، والخزير: لحم يُقطع قطعًا صغارًا، ثمّ يُطبَخ بماء كثير وملح، فإذا اكتمل نضجه، ذُرَّ عليه الدقيق وعصد به.

[4] ابن حنبل، أبو عبد الله الشيبانيّ أحمد، المسند، مؤسَّسة قرطبة، القاهرة، لا.ت، لا.ط، ج6، ص 292، ح26551. وعلّق شعيب الأرناؤوط على هذا الحديث قائلًا: حديث صحيح. وله ثلاثة أسانيد: الأوّل ضعيف لإبهام الراوي عن أمّ سلمة، والثاني إسناده صحيح، والثالث ضعيف لضعف شهر بن حوشب.

 

 

72


56

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

ب. حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) جَلَّلَ عَلَى عَلِيٍّ وَحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَفَاطِمَةَ كِسَاءً، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ، هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَحَامَّتِي. اللهُمَّ، أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ، وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا". فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: "إِنَّكِ إِلَى خَيْر"[1].

2. نبذة ممّا روي عند الشيعة

أ. عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل: "وقال (صلى الله عليه وآله) أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، فإنّي سألتُ الله عزّ وجلّ أن لا يفرّق بينهما، حتّى يوردهما عَلَيَّ الحوض، فأعطاني ذلك. وقال: لا تعلّموهم، فهم أعلم منكم. وقال: إنّهم لن يُخرِجوكم من بابِ هدى، ولن يُدخِلوكم في باب ضلالة. فلو سكت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلم يبيّن مَن أهل بيته، لادّعاها آلُ فلان وآلُ فلان، لكنّ الله عزَّ وجلَّ أنزله في كتابه تصديقًا لنبيّه (صلى الله عليه وآله): ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرا﴾، فكان عليٌّ والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام)، فأدخلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت الكساء في بيت أمّ سلمة:

 


[1]  ابن حنبل، أبو عبد الله الشيبانيّ أحمد، المسند، حقّقه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه: شعيب الأرنؤوط - محمّد نعيم العرقسوسيّ - إبراهيم الزيبق - محمّد أنس الخن، مؤسَّسة الرسالة، ج44، ص217، ح26597. ورواه الترمذيّ بالسند عينه، بواسطة زائدة، هو محمود بن غيلان. انظر: الترمذيّ، سنن الترمذيّ، حقّقه وصحّحه عبد الرحمن محمّد عثمان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ج5، ص360–361، ح3963. قال الترمذيّ تعقيبًا على الحديث: "هذا حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء: رُوِيَ في هذا الباب". والسند الثالث هو: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عن شداد أبي عمّار، قال: دخلتُ على واثلة بن الأسقع، وعنده قوم، فذكروا عليًّا، فلمّا قاموا، قال لي: ألَا أخبرُك بما رأيتُ من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قلت: بلى، قال: أتيتُ فاطمة (رضي الله تعالى عنها) أسألها عن عليّ، قالت: توجَّه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). فجلستُ أنتظره حتّى جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومعه عليّ وحسن وحسين (رضي الله تعالى عنهم)، آخذ كلّ واحد منهما بيده، حتّى دخل فأدنى عليًّا وفاطمة، فأجلسهما بين يدَيه، وأجلس حسنًا وحسينًا، كلَّ واحد منهما على فخذه، ثمّ لفّ عليهم ثوبه -أو قال: كساء- ثمّ تلا هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرا﴾ [الأحزاب: 33]، وقال: "اللهمّ، هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحقّ". (السنديّ، أبو الحسن نور الدين محمّد بن عبد الهادي، حاشية مسند الإمام أحمد بن حنبل، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة في دولة قطر، ط1، 1428هـ- 2008م، ج10، ص58، ح16540. قال السنديّ في شرح الحديث: " قوله: "وأهل بيتي أحقّ": أي: بهذه الكرامة، وهي إذهاب الرجس والتطهير").

 

73


57

الدرس السابع: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 2 (حديث الثقلَين)

اللهمَّ، إنّ لكلّ نبيّ أهلًا وثقلًا، وهؤلاء أهل بيتي وثقلي، فقالت أمّ سلمة: ألست من أهلك؟ فقال: إنّكِ إلى خير، ولكن هؤلاء أهلي وثقلي"[1].

ب. الصدوق في علل الشرائع: "أبي(رحمه الله) قال: حدّثَنا سعد بن عبد الله عن الحسن بن موسى الخشاب عن عليّ بن حسان الواسطيّ، عن عمّه عبد الرحمن بن كثير، قال: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما عنى الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرا﴾؟ قال: نزلَتْ في النبيّ وأمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام)"[2].

رابعًا: في دلالة الحديث على عدم افتراق القرآن والعترة

إنّ قوله (صلى الله عليه وآله): "إنّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا عَلَيَّ الحوض"، وما بمعناه من العبارات في ذيل الحديث، هو بمثابة تعليل للوصيّة بالثقلَين، وجعلهما مرجعًا للأمّة بعد رحيله، يأمن المتمسّك بهما من الضلال. وهذه العبارة المرويّة بطرق مستفيضة، إن لم نقل متواترة، عند الفريقَين، لها نتائج على مختلف المستويات العقديّة والأصوليّة، إلّا إنّنا سنكتفي بما يناسب المقام في ما يأتي:

1. التلازم في الوجود

إنّ مقتضى جعلهما في معرض التمسّك للأمّة للأمن من الضلال مِن قِبَله (صلى الله عليه وآله)، يفترض مسبقًا بقاءهما في الأمّة، ما بقي التكليف بذلك. ومن الواضح أنّ بقاء كلّ من الثقلَين بحسبه؛ فبقاء القرآن الكريم في الأمّة بوجوده اللفظيّ بين الدفّتَين، وبقاء العترة يكون ببقاء مَن هو أهلٌ للتمسّك منها في الأمّة.

هذا مقتضى الأمر بالتمسّك، فكيف إذا صرّح (صلى الله عليه وآله) بأنّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا عليه الحوض؟ والقرآن باق كمعجزة النبيّ(صلى الله عليه وآله) الأزليّة، وحجّته على العالمين إلى يوم الدين،

 

 


[1]  الكلينيّ، محمّد بن يعقوب، الأصول من الكافي، صحّحه وعلّق عليه: علي أكبر الغفاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، تهران - بازار سلطاني، ط3، 1388ه‍، ج1، ص287. وقد رواه بطريقَين إلى أبي بصير.

[2] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، علل الشرائع، تقديم: السيد محمد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدرية، العراق - النجف الأشرف، 1385هـ - 1966م، لا.ط، باب 156 - العلة التي من أجلها صارت الإمامة في ولد الحسين، ح1.

 

74


58

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

فكذلك العترة، وإلّا وَقَعَ الافتراقُ في الوجود بينهما في هذه الدنيا، وهو ما نفاه (صلى الله عليه وآله).

وقد صرّح غير واحد من علماء الفريقَين باستفادة هذه النتيجة من الحديث الشريف. قال السمهوديّ: "إنّ ذلك يفهم وجود من يكون أهلًا للتمسّك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كلّ زمان وُجِدوا فيه، إلى قيام الساعة، حتّى يتوجَّه الحثّ المذكور إلى التمسّك به، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أمانًا لأهل الأرض[1]، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض"[2].

وقال ابن حجر الهيثميّ: "وفي أحاديث الحثّ على التمسّك بأهل البيت، إشارةٌ إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك؛ ولهذا كانوا أمانًا لأهل الأرض، كما يأتي، ويشهد لذلك الخبرُ السابقُ: في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي[3]، إلى آخره"[4].

ولا يخفى أنّ ما ذكره هذان العَلَمان، إذا ما أُضِيفَ إلى المضمون المتواتر بين المسلمين، من كون الأئمّة اثنَي عشر[5]، أصبح كالصريح في مذهب الإماميّة (أعزّها الله تعالى).

ومن ذلك، يظهر أنّ مصطلح "أهل البيت" في الحديث لا ينحصر بالخمسة المطهّرين أصحاب العبا الذين نزلت فيهم آية التطهير[6]، بل يمتدّ إلى مَن كان من الذرّيّة الطاهرة عِدلًا للكتاب. وتحديد هويّة هؤلاء وتعيينهم موكولٌ إلى الكتب المختصّة، فليُطلَب من مظانّه.

 

 


[1]  إشارة إلى ما رُوِيَ عنه (صلى الله عليه وآله): "النجوم أمانٌ لأهل السماء، وأهل بيتي أمانٌ لأهل الأرض؛ فإذا ذهب أهل بيتي، ذهب أهل الأرض" (أحمد بن حنبل، فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رض)، من مخطوطات موقع مركز الفقيه العاملي لإحياء التراث، لا.ت، لا.ط، ح1145).

[2]  السمهوديّ، جواهر العقدَين في فضل الشرفَين، مصدر سابق، ص244.

[3]  إشارة إلى ما أخرجه الملّا في سيرته عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. ألَا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزَّ وجلَّ فانظروا مَن توفدون".

[4] الهيثميّ، الصواعق المحرقة، مصدر سابق، ج2، ص442.

[5]  رُوِيَ المضمون -كون الأئمّة أو الأمراء اثنا عشر- بأسانيد متعدّدة عند الفريقين (انظر مثلًا: الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، الغيبة، تحقيق: الشيخ عباد الله الطهراني والشيخ علي أحمد ناصح، مؤسسة المعارف الإسلامية، إيران - قم، 1411هـ، ط1،، ص157، ح96؛ وانظر مثلًا: المتقي الهندي، كنز العمّال، مصدر سابق، من حديث 33848 إلى ح33861).

[6]  أو المقطع الخاصّ المعروف الذي نزل منفردًا عن الآية، وفق الترتيب الحاليّ للمصحف.

 

 

75


59

الدرس السادس: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 1 (حديث الثقلَين)

2. التلازم في الكمال والصفات

من لوازم عدم الافتراق في كلامه (صلى الله عليه وآله)، أنّ كلّ ما ثبت للقرآن الكريم من صفات كماليّة، فهو ثابت بالضرورة للعترة الطاهرة، وإلّا وقع الافتراق بينهما.

ومن نتائج ذلك، عصمة العترة عن الذنب والخطأ والضلال، ككتاب الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيز ٤١ لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيل مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيد﴾[1].

ومن نتائج ذلك، هو ما يعنينا في المقام، من علم العترة بكلّ ما في الكتاب، خاصّه وعامّه، محكمه ومتشابهه، ظاهره وباطنه، وتأويله.

وبناءً على ما تقدّم، يظهر -بما لا يقبل الشكّ- حجّيّة أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم؛ كونها لا تفارق الكتاب العزيز.

وبما أنّهم لا يخرجون في أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم عن القرآن والسنّة -كما أوضحنا في مقدّمة البحث عن الحديث الشريف- يتّضح أنّ السنّة الواقعيّة للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، التي ورثها أهل بيته الطاهرون (عليهم السلام)، لا يمكن أن تفترق -بحال من الأحوال-[2] عن الكتاب العزيز، من ناحية المضمون، بنصّ حديث الثقلَين المتواتر لدى المسلمين جميعًا.

وقد أكّد الكتاب العزيز على وجود أفراد من الأمّة لديهم هذه الميّزات في جملة من آياته الشريفة منها:

﴿بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰت فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ﴾[3].

﴿إِنَّهُۥ لَقُرۡءَان كَرِيم ٧٧ فِي كِتَٰب مَّكۡنُون ٧٨ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ﴾[4]،[5].

 


[1]  سورة فصّلت، الآيتان 41 - 42.

[2]  قد يُستثنَى من ذلك من السنّة الشريفة، ما صدر عنهم على وجه التقيّة ونحوها.

[3]  سورة العنكبوت، الآية 49.

[4] أشرنا في الدرس الأوّل إلى أنّ هذا العلم هو بلحاظ بعض المراتب الغيبيّة للكتاب.

[5]  سورة الواقعة، الآيات 77 - 78 - 79.

 

 

76


60

الدرس السابع: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 2 (حديث الثقلَين)

﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰت مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ﴾[1][2].

﴿وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسۡتَ مُرۡسَلاۚ قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَٰبِ﴾[3]،[4].

 


[1]  في تحديد المراد من الواو في قوله تعالى: ﴿وَٱلرَّٰسِخُونَ﴾ ودورها، قولان؛ أحدهما أنّها استئنافيّة، بمعنى كون الراسخين في العلم طرفًا للترديد الذي يدلّ عليه قوله في صدر الآية ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغ﴾، والمعنى أنّ الناس، في الأخذ بالكتاب، قسمان: فمنهم من يتّبع ما تشابه منه، ومنهم من يقول إذا تشابه عليه شيء منه: ﴿ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّ مِّنۡ عِندِ﴾، وإنّما اختلفا لاختلافهم من جهة زيغ القلب ورسوخ العلم (لاحظ: العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج3، ص27-28). والثاني أنّها للعطف، بمعنى أن ﴿وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ﴾ يشاركون الله تعالى في العلم بالتأويل، ذلك أنّه لا معنى لتخصيص الإيمان بالمحكم والمتشابه بـ ﴿وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ﴾؛ لأنّه وصفٌ يشترك به المؤمنين جميعًا.

[2]  سورة آل عمران، الآية 7.

[3] وإذا ضممنا هذه الآية وما يشاكلها، كآيات ﴿فِي كِتَٰب مَّكۡنُون ٧٨   يَمَسُّهُۥٓ   ٱلۡمُطَهَّرُونَ﴾، إلى آيات أُخر، كقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنا لِّكُلِّ شَيۡء وَهُدى وَرَحۡمَة وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ﴾ يظهر لنا مقدار مَن يعلم بالكتاب في مراتبه كافّة.

[4]  سورة الرعد، الآية 43.

 

78


61

الدرس الثامن: العلاقة بين القرآن والسنّة الواقعيّة

الدرس الثامن: العلاقة بين القرآن والسنّة الواقعيّة

 

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف أقسام السنّة بالنظر للقرآن الكريم.

2. يدرك علاقة الحجّيّة بين القرآن والسنّة في المصدريّة العلمية.

3. يدرك علاقة الحجّيّة بين القرآن والسنّة في تبيين السنّة للقرآن.

 

79


62

الدرس السابع: الأدلّة على حجّيّة سنّة أهل البيت(عليهم السلام) من السنّة النبويّة 2 (حديث الثقلَين)

تمهيد

قد تبيّن من تفصيل مضامين حديث الثقلَين، أنّ المحيط بمرادات الله تعالى الواقعيّة في القرآن الكريم، هم العترة الطاهرة؛ ولذا، فإنّ علاقتهم بالكتاب من حيث الحجّيّة، مختلفة عن علاقة غيرهم به، فهم لا يفارقون الكتاب ولا يفارقهم، فيما غيرهم مأمور للأمن من الضلال بالتمسّك بهم وبالقرآن الكريم، بمقتضى الحديث الشريف.

وهذا الفرق المذكور بين العترة وباقي المكلّفين، يجعل من الضروريّ أن نتطرّق لبحث أخّرناه عن بحوث حديث الثقلَين، لإفراده ببحث مستقلّ، وهو بحث كيفيّة "التمسّك" المطلوب من الأمّة بالثقلَين.

وما يعنينا في هذا المقام من بحث "التمسّك"، هو علاقة القرآن والسنّة الشريفة من حيث ترتُّب حجّيّة أحدهما على الآخر، أو عدمه للأمّة، في سياق تحصيلها للمعارف الإلهيّة النظريّة والعمليّة، من القرآن والسنّة. وسنتناول ذلك بالبحث ثبوتًا وإثباتًا.

وقد قُسِّمَت[1] السنّة الشريفة، بالنظر للقرآن الكريم، إلى ثلاثة أقسام رئيسة، هي:

- السنّة المؤكّدة والمقرِّرة لِما ورد في القرآن الكريم: وذلك كالسنّة التي وردت في تأكيد أصول العقائد أو ضروريّات الفقه الإسلاميّ التي وردَت في القرآن الكريم، وتقريرها.

- السنّة المبيّنة والمفصِّلة لِما يُرى مجملًا أو غير مبيّن لدى الأمّة أو بعض أفرادها: وهذا القسم يشمل التفسير، وتفصيل المجمل، وتقييد المطلق، وتخصيص العامّ.

 


[1]  نُقِل أنّ أوّل من ذكر هذا التقسيم هو الشافعيّ (انظر: الشافعيّ، محمّد بن إدريس المطّلبيّ، الرسالة، تحقيق: أحمد محمّد شاكر، مطبعة مصطى البابي الحلبيّ وأولاده، مصر، 1357ه‍- 1938م، ط1، ص91-92.

 

81


63

الدرس الثامن: العلاقة بين القرآن والسنّة الواقعيّة

- السنّة المؤسِّسة لمعارف جديدة لا تظهر للأمّة من الكتاب: ومن أمثلة هذا القسم، كثيرٌ من تفاصيل العقائد والأحكام.

الترتُّب في الحجّيّة ثبوتًا

لا ريب لدى المسلمين قاطبة، في حجّيّة القرآن الكريم والسنّة الشريفة في نفسَيهما؛ أي كونهما مصدرًا إلهيًّا في علوم الاعتقاد (كالكلام) والعمل (كالفقه) إجمالًا، بشروط مختلفة خاصّة بمنهج كلّ علم. ولذا، لا داعي لنا لنبحث أصل حجّيّة كلِّ منهما.

وما يعنينا هنا ويرتبط بموضوع بحثنا، هو العلاقة بينهما من جهة الحجّيّة ثبوتًا. والجهات التي سنبحث عنها ستكون وفقًا للتقسيم الآتي: الجهة الأولى هي علاقة الحجّيّة بينهما في غير تبيين أحدهما للآخر، والجهة الثانية هي علاقتهما في الحجّيّة في تبيين أحدهما للآخر.

ويمكن اختصار البحث في مقام الثبوت في سؤالَين:

- أوّلهما: هل لأحد هذَين الحجّتَين تقدُّم على الآخر في المصدريّة العلميّة لأفراد الأمّة؟

- ثانيهما: ثبت بنصّ الكتاب أنّ إحدى أهمّ وظائف السنّة الشريفة هي تبيين القرآن الكريم: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾[1].

والسؤال المطروح هنا هو: هل يمكن على ضوء حديث الثقلَين، الاستقلال بفهم الكتاب عن السنّة الشريفة أو العترة؟

الترتيب الأوّل: في المصدريّة العلميّة

اشتُهِر على ألسنة بعض الأصوليّين والفقهاء، تقدُّم الكتاب رتبةً على السنّة، وأنّ رتبة السنّة متأخّرة عن رتبة الكتاب في الاعتبار. واستُدِلّ على ذلك بأدلّة، منها:

أحدها: أنّ السنّة إمّا بيانٌ للكتاب، أو زيادةٌ على ذلك. فإن كان بيانًا، فهو ثانٍ على المبيَّن في الاعتبار، إذ يلزم من سقوط المبيَّن سقوط البيان، ولا يلزم من سقوط البيان


 


[1]  سورة النحل، الآية 44.

 

82


64

الدرس الثامن: العلاقة بين القرآن والسنّة الواقعيّة

سقوط المبيَّن، وما شأنه هذا فهو أَوْلى في التقدُّم. وإن لم يكن بيانًا، فلا يُعتَبَر إلّا بعد أن لا يوجد في الكتاب، وذلك دليلٌ على تقدُّم اعتبار الكتاب.

والثاني: ما دلّ على ذلك من الأخبار والآثار، كحديث معاذ، وقد سأله رسول الله (صلى الله عليه وآله): "بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنّة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي" الحديث!

وعن عمر بن الخطّاب أنّه كتب إلى شُرَيح: "إذا أتاك أمرٌ، فاقضِ بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله، فاقضِ بما سَنَّ فيه رسولُ الله (صلى الله عليه وآله)". وفي رواية عنه: "إذا وجدت شيئًا في كتاب الله، فاقضِ فيه ولا تلتفت إلى غيره". ومثله عن ابن مسعود: "مَن عرض له منكم قضاء، فليقضِ بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله، فليقضِ بما قضى به نبيُّه (صلى الله عليه وآله)[1].

- المناقشة في هذَين الدليلَين:

- أمّا الدليل الأوّل، فإنّه يمكن الحديث في فرضَين وردا فيه، وهما:

الفرض الأوّل: حالة كون السنّة بيانًا لِما في الكتاب:

استُدِلّ لتقدُّم المبيَّن على البيان في الاعتبار؛ بأنّه بسقوط المبيَّن يسقط البيان، ولا عكس. والجواب: إنّ أقصى ما يمكن أن يلزم من تقدَّم كهذا، هو التقدّم في الشرف، بمعنى كون الكتاب بمنزلة الأصل والمتن، والسنّة بمنزلة الفرع والشرح على ذلك المتن. وهذا لا ربط له بالتقدُّم في الحجّيّة؛ إذ لا يلزم من التقدُّم من حيث الشرف والأولوية التقدُّم في الحجّيّة[2]. فضلًا عن أنّه لا يمكن التفكيك بين البيان والمبيَّن في الفهم وتحصيل المعنى النهائيّ لمراد المتكلّم، ولا سيّما إذا كان المتكلّم بالكلام المبيَّن نفسه قد عيّن مبيِّنًا

 

 


[1]  انظر: الحكيم، الأصول العامّة للفقه المقارن، مصدر سابق، ص258؛ الشاطبيّ، الموافقات في أصول الشريعة، مصدر سابق، ج4، ص7-8.

[2] انظر: الحكيم، محمّد تقي، السنّة في الشريعة الإسلاميّة، منشورات قسم الإعلام الخارجيّ في مؤسَّسة البعثة، إيران – طهران، ط1، 1402ه‍، ص135.

 

83


65

الدرس الثامن: العلاقة بين القرآن والسنّة الواقعيّة

يوضح كلامه للمخاطَبين، وهذا هو الحال في القرآن الكريم مع السنّة الشريفة؛ إذ إنّه تعالى أناط برسوله الكريم مَهمَّة تبيين كتابه العزيز للناس، بقوله: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾[1].

الفرض الثاني: حالة كون ما في السنّة زيادة على ما في الكتاب:

وفي هذا الفرض، قولهم إنّ حجّيّة السنّة متوقّفة على عدم وجود ما يشاكلها في الكتاب يعارض إطلاقات الكتاب نفسه في أوامره باتّباع الرسول دون قيد أو شرط، من مثل قوله تعالى: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ﴾[2].

وأمّا الدليل الثاني:

- فغير حديث معاذ، لا حجّة فيه؛ لأنّ قائله غير معصوم عند المسلمين جميعًا، ولسنا من القائلين بحجّيّة سنّة الصحابيّ، إضافة إلى أنّه يَرِدُ عليه ما تقدّم من استحالة تحصيل الفهم الصحيح بالتفكيك بين البيان والمبيَّن في السنّة المبيِّنة.

- وخبر معاذ -الذي يمكن أن يُستَدَلّ به بتقرير النبيّ (صلى الله عليه وآله) لمعاذ على ترتيبه في موارد الاستنباط للقضاء- لو أغمضنا النظر عن كونه واردًا في باب القضاء، فإنّه ضعيفٌ بجهالة الحارث بن عمرو الوارد في سنده، وبإغفال الراوي لذكر من أخذ عنهم الحديث من الناس من أصحاب معاذ[3]. مضافًا إلى أنّه كيف يُعقَل الاكتفاء بالكتاب في حكم واحد من الأحكام، فضلًا عن جميع ما ورد فيه منها،

 


[1]  سورة النحل، الآية 44.

[2]  سورة الحشر، الآية 7.

[3]  قال في عون المعبود: "وهذا الحديث أورده الجوزقانيّ في الموضوعات، وقال: هذا حديث باطل رواه جماعة عن شعبة. وقد تصفّحتُ هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألتُ من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه، فلم أجد له طريقًا غير هذا، والحارث بن عمرو -ابن أخي المغيرة بن شعبة- هذا مجهول، وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يُعرَفون، ومثل هذا الإسناد لا يُعتَمد عليه في أصل من الشريعة.

فإن قيل: إنّ الفقهاء قاطبة أوردوه في كتبهم واعتمدوا عليه.

قيل: هذا طريقه، والخلف قلّد فيه السلف، فإن أظهروا طريقًا غير هذا ممّا يثبت عند أهل النقل رجعنا إلى قولهم، وهذا ممّا لا يمكنهم البتّة". (العظيم آبادي، محمّد شمس الحقّ، عون المعبود على شرح سنن أبي داوود، دار الفكر، 1415هـ- 1995م، ج9، ص403).

 

84


66

الدرس الثامن: العلاقة بين القرآن والسنّة الواقعيّة

مع العلم أنّ من طريقة الكتاب في البيان، الاتّكال على القرائن المنفصلة، والسنّة هي الكفيلة ببيانها، فكيف يُسَوَّغ العمل بظواهر الكتاب –في مورد الأحكام- مع هذا الاحتمال[1]؟!

الترتّب الثاني: في تبيين السنّة للقرآن

ذكرنا من قبل أنّ إحدى أهمّ وظائف السنّة الشريفة هي تبيين القرآن الكريم:
﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾[2]. وبعد ذكر الكتاب لهذه الوظيفة للسنّة وممارسة النبيّ(صلى الله عليه وآله) لها، لا يشكّ مسلمٌ في صلاحيّة السنّة الشريفة لتبيين الكتاب العزيز.

وكلامنا هنا ليس في أصل هذه الصلاحيّة، إنّما في إمكان استقلال أفراد الأمّة -غير العترة- عن السنّة الشريفة في استنباط مرادات الله تعالى في الكتاب كلّه[3].

ظاهر حديث الثقلَين شرطيّة التمسّك بالثقلَين معًا في كلّ تفصيل، للأمن من الضلال؛ إذ مقتضى إطلاق الأمر بالتمسّك بهما أو إطلاق شرطيّته للأمن من الضلال، شموله للتفاصيل كلّها في تبيين الكتاب وغيره، سواء كان أصلاً اعتقاديًّا أو فرعًا فقهيًّا.

ولعلّ هذا المعنى هو المشهور بين أصولييّ الإماميّة. قال الميرز االنائينيّ(قدس سره) في سياق ردّه على مدّعى الإخباريّين بعدم حجّيّة ظواهر الكتاب: "... المدّعى هو العمل بظاهر الكتاب بعد مراجعة ما ورد عن أهل البيت من التفسير، وبعد الفحص عن المقيّدات والمخصّصات، فإنّه لا يدّعي أحدٌ جوازَ الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب، بلا مراجعة الأخبار الواردة عنهم (عليهم السلام)"[4].

وللعلّامة السيّد محمّد حسين الطباطائيّ(قدس سره) تفصيلٌ في المقام -ليس بعيدًا عن كلامِ جملةٍ من المحقّقين والأصوليّين- حيث رأى اختصاص لزوم البحث عن مخصِّصٍ

 


[1]  انظر: الحكيم، الأصول العامّة للفقه المقارن، مصدر سابق، ص249-250.

[2]  سورة النحل، الآية 44.

[3]  لا شكّ في إمكان معرفة معاني الألفاظ ومعرفة مرادات الله تعالى في بعض آيات الكتاب.

[4] النائينيّ، محمّد حسين الغرويّ، فوائد الأصول، تفرير الشيخ محمّد عليّ الكاظميّ الخراسانيّ مع تعليقات آقا ضياء الدين العراقيّ، مؤسَّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، لا.ت، لا.ط، ج3، ص137.

 

85


67

الدرس الثامن: العلاقة بين القرآن والسنّة الواقعيّة

لعمومات الكتاب في الأحكام الفرعيّة، أمّا غيرها، فيمكن الأخذ فيها بظاهر القرآن الكريم، ضمن قواعد الأخذ بالظهور. نعم، دورُ السنّة بما يخصّ الكتاب، هو التعليم والإرشاد، وحديث الثقلَين لا دلالة له عنده على إبطال حجّيّة ظاهر القرآن وقصر الحجّيّة على ظاهر بيان أهل البيت (عليهم السلام)، بل للقرآن الدلالة على معانيه والكشف عن المعارف الإلهيّة، ولأهل البيت الدلالة على الطريق وهداية الناس إلى أغراضه ومقاصده.

قال (قدس سره): "إنّ الآيات التي تدعو الناس عامّةً -من كافر أو مؤمن، ممّن شاهد عصر النزول أو غاب عنه- إلى تعقُّل القرآن وتأمُّله والتدبُّر فيه، وخاصّة قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفا كَثِيرا﴾[1]، تدلّ دلالة واضحة على أنّ المعارف القرآنيّة يمكن أن ينالها الباحث بالتدبُّر والبحث، ويرتفع به ما يتراءى من الاختلاف بين الآيات. والآية في مقام التحدّي، ولا معنى لإرجاع فهم معاني الآيات -والمقام هذا المقام- إلى فهم الصحابة وتلامذتهم من التابعين، حتّى إلى بيان النبيّ(صلى الله عليه وآله)؛ فإنّ ما بيَّنَه إمّا أن يكون معنى يوافق ظاهر الكلام، فهو ممّا يؤدِّي إليه اللفظ، ولو بعد التدبُّر والتأمُّل والبحث، وإمّا أن يكون معنى لا يوافق الظاهر، ولا أنّ الكلام يؤدّي إليه، فهو ممّا لا يلائم التحدّي ولا تتمّ به الحجّة".

ثم يضيف قائلًا: "نعم، تفاصيل الأحكام ممّا لا سبيل إلى تلقّيه من غير بيان النبيّ(صلى الله عليه وآله)، كما أرجعها القرآن إليه في قوله تعالى: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ﴾[2]، وما في معناه من الآيات، وكذا تفاصيل القصص والمعاد مثلًا...".

وعليه، "فالنبيّ(صلى الله عليه وآله) إنّما يعلّم الناس، ويبيّن لهم ما يدلّ عليه القرآن بنفسه، ويبيّنه الله سبحانه بكلامه، ويمكن للناس الحصول عليه بالآخرة... فإن قلت: قد صحّ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّه قال في آخر خطبة خطبها: إنّي تاركٌ فيكم الثقلَين: الثقل الأكبر والثقل الأصغر؛ فأمّا الأكبر فكتاب ربّي، وأمّا الأصغر فعترتي أهل بيتي، فاحفظوني فيهما، 

 

 


[1]  سورة النساء، الآية 82.

[2]  سورة الحشر، الآية 7.

 

86


68

الدرس الثامن: العلاقة بين القرآن والسنّة الواقعيّة

فلن تضلّوا ما تمسّكتم بهما... وفي بعض الطرق: لن يفترقا حتّى يَرِدا عَلَيَّ الحوض. والحديث دالّ على حجّيّة قول أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن، ووجوب اتّباع ما ورد عنهم في تفسيره، والاقتصار على ذلك، وإلّا لزم التفرقة بينهم وبينه.

قلت: ما ذكرناه في معنى اتّباع بيان النبيّ(صلى الله عليه وآله) آنفًا، جارٍ هاهنا بعينه، والحديث غير مسوق لإبطال حجّيّة ظاهر القرآن وقصر الحجّيّة على ظاهر بيان أهل البيت (عليهم السلام). كيف وهو (صلى الله عليه وآله) يقول: "لن يفترقا"، فيجعل الحجّيّة لهما معًا؛ فللقرآن الدلالة على معانيه والكشف عن المعارف الإلهية، ولأهل البيت الدلالة على الطريق وهداية الناس إلى أغراضه ومقاصده"[1].

وفي موطن آخر من تفسيره، يدفع تهمة التفسير بالرأي على مَن يأخذ بظاهر الكتاب مع عدم الرجوع إلى السنّة، فإنّ التفسير بالرأي المنهيّ عنه إنّما يعني اعتماد المفسِّر على نفسه، من دون الرجوع إلى القرآن نفسه. قال في الميزان: "والمحصّل أنّ المنهيّ عنه [يقصد التفسير بالرأي] إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن، واعتماد المفسِّر على نفسه من غير رجوعٍ إلى غيره، ولازمُه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، وهذا الغير لا محالة إمّا هو الكتاب أو السنّة، وكونه هي السنّة ينافي القرآن والسنّة نفسها الآمرة بالرجوع إليه وعرض الأخبار عليه، فلا يبقى للرجوع إليه والاستمداد منه في تفسير القرآن إلّا نفس القرآن"[2].

وتفصيل الكلام حول النظريّتَين المتقدّمتَين، وأنّهما في عرض بعضهما بعضًا، وفي غيرهما من الأقوال والأنظار، وبيان الحقّ منها أو الراجح، يحتاج إلى بحث مستقلّ خارج عن دائرة البحث في هذا الكتاب.

 


[1]  أنظر: العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج3، ص84-87. ولاحِظ أيضًا: حاشية الكفاية، نسخة إلكترونيّة، ج1، ص163-164.

[2]  انظر: العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج3، ص89.

 

87


69

الدرس التاسع: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 1

الدرس التاسع: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 1

 

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف بعض المبادئ الأوّلية في العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة.

2. يحدّد المراد من موافقة السنّة ومخالفتها للكتاب.

3. يدرك معنى الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفته.

 

89


70

الدرس التاسع: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 1

تمهيد

قد يصل الخبر الحاكي للسنّة الواقعيّة حدّ التواتر، أو يكون محفوفًا بقرائن قطعيّة، فتثبت به تلك السنّة بالعلم والقطع. لكن قد لا يحصل الأمران، ويبقى الخبر خبرَ واحدٍ غيرَ محفوف بالقرائن القطعيّة، وغير مفيد للعلم، فيأتي محلّ كلامنا في تصوير العلاقة بين هذا النوع من السنّة المحكيّة -وهو الغالب على التراث الحديثيّ- والقرآن الكريم.

والكلام في هذا البحث يعتمد على أصول موضوعيّة أُخِذَت مسلَّمة من علم الأصول، كأصل حجّيّة خبر الواحد. وهناك جوانب وعوامل أخرى قد تؤثّر على هذه العلاقة، خارجة عن محلّ بحثنا، تركناها رومًا للاختصار، كدائرة حجّيّة خبر الواحد من حيث المضمون، وذلك كالفرق المفترض بين كونه في المعارف العقديّة أصولًا وفروعًا، أو كونه في الأحكام الفرعيّة، فيُقبَل في الثاني دون الأوّل مثلًا، ولتفصيل الكلام محلّ آخر يُطلَب من كتب الأصول[1].

وسنقتصر في البحث على العناوين الأساسيّة المشهورة، لإعطاء الطالب فكرة أوّليّة عن بعض المبادئ في العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة.

عرض الروايات على الكتاب

هناك روايات عديدة صرَّح جمعٌ من الأعلام[2] بتواترها -ولو إجمالًا- مفادها الأمر بعرض الروايات عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) على القرآن الكريم، والأخذ بما وافقه، وطرح ما خالفه.

 

 


[1]  انظر مثلًا: الأنصاري، فرائد الأصول، مصدر سابق، ج1، ص553.

[2]  انظر مثلًا: المصدر نفسه، ج3، 556؛ والخوئيّ، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن مصدر سابق، ص265.

 

91


71

الدرس التاسع: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 1

وقد قُسِّمَت[1] هذه الروايات، بحسب ألسنتها، إلى ثلاثة أقسام رئيسة، هي:

- المجموعة الأولى: ما ورد بلسان الاستنكار والتحاشي عن صدور ما يخالف الكتاب من المعصومين، من قبيل رواية أيّوب بن الحرّ: قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"[2]، ورواية أيوب بن راشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "ما لم يوافق من الحديث القرآن، فهو زخرف"، ورواية هشام بن الحكم وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "خطب النبيُّ(صلى الله عليه وآله)بمنى، فقال: أيّها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أَقُلْه"[3].

- المجموعة الثانية: ما دلّ على إناطة العمل بالرواية بأن يكون موافقًا مع الكتاب وعليه شاهد منه، من قبيل رواية ابن أبي يعفور، قال: "سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا تثق به؟ قال: "إذا ورد عليكم حديثٌ، فوجدتم له شاهدًا من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإلّا فالذي جاءكم به أَوْلى به"[4].

- المجموعة الثالثة: ما دلّ على نفي الحجّيّة عمّا يخالف الكتاب الكريم، من قبيل رواية السكونيّ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ على كلّ حقٍّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نورًا؛ فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه"[5].

المراد من المخالفة والموافقة

ذُكِرَت معانٍ كثيرة للمخالفة والموافقة في هذه الطوائف من الأحاديث الشريفة، يمكن حصرها في قسمَين رئيسَين: أحدهما المخالفة والموافقة لنصٍّ جزئيٍّ من الكتاب،

 

 


[1]  انظر مثلًا: الصدر، محمّد باقر، دروس في علم الأصول الحلقة الثالثة، مصدر سابق، ص567-569.

[2]  الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص69،

[3]  المصدر نفسه، ج1، ص69، ح3-4-5.

[4]  المصدر نفسه، ج1، ص69، ح2.

[5]  المصدر نفسه، ص69، ح1.

 

92


72

الدرس التاسع: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 1

ككون الرواية مخالفة بنحو التباين أو العموم من وجه، مع نصٍّ خاصٍّ من الكتاب، أو موافقة لإطلاق أو عمومِ نصٍّ آخر، كما قد يُقال في تفسير كلمتَي "الشاهد" و"الشاهدين" الواردة في الطائفة الثانية من روايات العرض. والقسم الآخر هو المخالفة والموافقة مع نظرة القرآن الكريم العامّة تجاه موضوع الرواية.

ولا شكّ أنّ الأوفق بظاهر حديث الثقلَين وأحاديث أخرى، والمتعيّن من العمل بآية المحكم والمتشابه، هو العرض على المحصّل العامّ المستخلَص من الكتاب، بمراعاة الترتيب الدلاليّ للآيات وجِهات إحكامها وتشابهها، أو العرض على القواعد الثابتة ومسلَّمات الكتاب في موضوع الرواية المعروضة.

وسنذكر هنا نظرتَين لتفسير هذه الرؤية الموضوعيّة للعرض، قد تؤولان إلى معنى واحد:

أوّلهما: ما احتمله السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر (قدس سره)، بأن يكون المقصودُ بموافقةِ الكتاب الكريم الملائمةَ للمزاج والإطار العامّ للقرآن، بأن لا يكون مخالفاً لمسلَّمات الشريعة، التي يكون مثالها الكامل هو القرآن، باعتبار أنّ القرآن هو كتاب الشريعة ودستورها. وبناءً على هذا الاحتمال، يكون محصّل هذه الأخبار هو أنّه كلّما ورد حديثٌ غير موافق في المضمون للإطار والذوق العامّ للكتاب الكريم، كان هذا الحديث ساقطًا، سواء كان في الأحكام أو في العقائد، وممّا يُقطَع بعدم مطابقة مضمونه للواقع؛ لعدم ملائمته مع مسلّمات الشريعة. ويوجد لهذا الاحتمال بعض أُمور تكون مؤيّدة له، أو موجبة لاستشعاره، أو قرينة عليه على اختلاف مراتب التأييد:

- فمنها: أنّه يوجد في جملة من الأخبار عنوانان: «ما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»، ولم يُفرَض شقّ ثالث. فلو فرض أنّ المراد بالموافقة هي الموافقة لنصّ خاصّ للكتاب، وبالمخالفة هي المخالفة لنصّ خاصّ له، لكان الشقّ الثالث المسكوت عنه في المقام أكثر من كِلا هذَين القسمَين.

- ومنها: ما ورد في بعض الروايات المتعلّقة بهذا الموضوع، من أنّه "إن وجدتم عليه شاهداً أو شاهدَين من كتاب الله، فخذوا به"، فإنّ ظاهر ذلك: أنّ وجود شاهد ثانٍ

 

 

93

 

 


73

الدرس التاسع: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 1

يوجب التأكيد في مِلاك الأخذ، مع أنّه لو كان المقصود الموافقة بمعنى دلالة آية على مفاده، لم تكن دلالة آية ثانية عليه موجباً لتأكيد مِلاك الأخذ، كما هو واضح، وهذا بخلاف ما لو كان المراد الموافقة للمزاج العامّ، فإنّه كلّما كانت المناسبة مع عدد أكبر من المسلَّمات، وعدد أكثر من الأذواق المستكشفة للشريعة الإسلاميّة، يكون مِلاك الأخذ، عندئذٍ، أقوى، لا محالة.

- ومنها: أنّ قسماً من تلك الأخبار يدلّ على نفي صدور ما لا يوافق الكتاب منهم (عليهم السلام)، واستنكار ذلك، لا مجرّد نفي الحجّيّة، في حين من الواضح أنّ ورود ما لا يوافق نصّاً خاصّاً من الكتاب ليس بعيداً عن شأنهم. ومن المعلوم لدى المسلمين جميعاً أنّ القرآن الكريم لا يحتوي على تمام أحكام الشريعة، بلا خلاف في ذلك بين الشيعة والسنّة؛ فإنّ الشيعة تأخذ بقيّة الأحكام عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام)، والسنّة يأخذونها عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) والصحابة والتابعين وأئمّة مذاهبهم. وعليه، فما لا يناسبهم(عليهم السلام) هو صدور ما لا يوافق الذوق العامّ للكتاب الكريم، ولا يلائم المسلَّمات[1].

ثانيهما: ما تبنّاه بعض الأعلام من أنّ المراد من الموافقة ليس هو الموافقة مع ظواهر القرآن، كالموافقة مع إطلاقاته وعموماته، بل المراد هو الموافقة من حيث الهدف والروح؛ أي بناءً على المخطّط الذي وضعه القرآن لهداية البشر، بلحاظ الجوانب الفرديّة والاجتماعيّة والدنيويّة والأخرويّة، فإنّ تلك الأهداف العليا المتمثّلة في القرآن -والتي بلحاظها يكون القرآن هدى نورًا وبصائر وشفاء لِما في الصدور وغير ذلك، والمتمثّلة في عدد من الكُبرَيات وعدد من الأحكام الجزئيّة- لا بدّ أن يكون الخبر موافِقًا معها، أي يكون في امتداد ذلك الخطّ، وعلى ضوء تلك القواعد والأصول نفسها.

والمراد من المخالفة هو ما يكون في قبال الموافقة بهذا المعنى.

والأصول عبارة عن تلك النظريّات المتعلّقة بالله والإنسان والمبدأ والمعاد والعلاقات الأصيلة بين البشر -التي يشير إليها قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ

 

 


[1]  انظر: الحائريّ، مباحث الأصول، مصدر سابق، الجزء الثاني من القسم الثاني، ص363-365.

 

94


74

الدرس التاسع: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 1

ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ﴾[1]- أو العلاقات الأخرى، والحكم بالقسط والعدل؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ﴾[2]، ونفي الحرج؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجۚ﴾[3] و﴿يُرِيدُ  بِكُمُ  يُرِيدُ بِكُمُ ﴾[4]، والمساواة والكرامة الإنسانيّة وغير ذلك؛ فهذه بعض الأهداف الرئيسة والمبادئ العامّة للدين الإسلاميّ، فالإسلام مبيِّنٌ لذلك الدين الفطريّ -الذي يُعَبَّر عنه اليوم بالقانون الطبيعيّ- المرتكز في النفوس، وعن تلك الأصول تتفرّع مجموعة من القوانين التي بَيَّنَها القرآن الكريم بنحو تفصيليّ، ومن بعده سُنَن النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الهداة بتفصيل أكثر. وعليه، فإذا قيل: لا بدّ أن يكون الخبر موافِقًا، فيُقصَد بذلك الموافقة مع تلك الأهداف المتمثّلة بالعقل الفطريّ الذي يصرّح القرآن بأنّه ترجمان له. والسنّة أيضًا مُبَيِّنة لتلك الأهداف وفي امتدادها[5].

الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفته

وردَت روايات صنَّفها العلماء ضمن الأخبار العلاجيّة، مفاد بعضها ترجيح إحدى الروايات المتعارضة على الأخرى بموافقة الكتاب ومخالفة الأخرى له، وذلك مثل رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: قال الصادق (عليه السلام): "إذا ورد عليكم حديثان مختلفان، فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه؛ فإن لم تجدوهما في كتاب الله، فاعرضوهما على أخبار العامّة؛ فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه"[6].

وتشتمل هذه الرواية -كما هو الظاهر منها- على مرجِّحَين مترتِّبَين؛ ففي المرتبة الأولى، يرجّح ما وافق الكتاب من الحديثَين على ما خالفه، وفي المرتبة الثانية، ومع فقد

 

 


[1]  سورة النحل، الآية 90.

[2]  سورة النساء، الآية 58.

[3] سورة الحجّ، الآية 78.

[4] سورة البقرة، الآية 185.

[5]  انظر: الربّانيّ، محمّد عليّ، حجّيّة خبر الواحد - تقريرًا لأبحاث السيّد عليّ الحسينيّ السيستانيّ، ص23-25.

[6]  الحرّ العامّليّ، محمّد بن الحسن بن عليّ، وسائل الشيعة، تحقيق ونشر: مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، قمّ المشرّفة، ط2، 1414ه‍.ق، ج27، باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفيّة العمل بها، ح29، ص118.

 

95


75

الدرس التاسع: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 1

المرجِّح الأوّل، يرجّح ما خالف العامّة من الحديثَين على ما وافقهم.

وقد بنى عددٌ من المحقّقين من العلماء الأصوليّين على أنّ مورد هذه الرواية وما شابهها صورةُ كون الخبرَين المتعارضَين ممّا يكونان حجّة في نفسَيهما، لولا التعارض، وأنّ المراد من المخالف للكتاب، والذي يكون مرجوحًا، ما لا يكون مباينًا للكتاب، وإلّا فهو ساقط عن الحجّيّة، وإنّما ما يخالفه مخالفةَ الخاصّ للعامّ، أو المقيّد للمطلق، ونظائرهما من أنواع المخالفة[1].

وذكر بعضٌ آخر، كالإمام الخمينيّ (قدس سره)، أنّ المخالف للكتاب في مورد الخبرَين المتعارضَين، والذي ينبغي تركه، هو الأعمّ من المخالف على نحو التباين، أو العموم من وجه، أو مطلقًا. قال (ره): «فالخبران المختلفان إذا لم يكن بينهما جمع عرفيّ، إذا وافق أحدُهما كتابَ الله وخالفه الآخر، يجب أخذ الموافق وترك المخالف، سواء كانت المخالفة بالتباين، أو الأعمّ من وجه، أو الأعمّ مطلقًا، ولا وجه لرفع اليد عن هذا الإطلاق بلا قرينة صارفة ودليل مقيِّد»[2]. ونترك تفصيل الكلام حول هذا الأمر إلى مقام آخر من البحث.

 

 


[1]  لمزيد من التفصيل، انظر: الصدر، محمّد باقر، دروس في علم الأصول - الحلقة الثانية، مصدر سابق، ص451-453.

[2]  الإمام الخميني، السيد روح الله الموسوي، الرسائل، مع تذييلات لمجتبى الطهراني، مؤسسة اسماعيليان- للطباعة والنشر والتوزيع، 1385، لا.ط، ج2، ص79.

 

96


76

الدرس التاسع: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 1

الدرس العاشر: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 2

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف -إجمالًا- إمكانيّة تخصيص الكتاب بخبرِ الواحد.

2. يناقش فيما استُدِلَّ به على عدم تخصيص الكتاب بخبرِ الواحد.

3. يتعرّف -إجمالًا- إمكانيّة نسخ الكتاب بخبرِ الواحد.

 

 

97


77

الدرس العاشر: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 2

تخصيص الكتاب بخبرِ الواحد

إذا ثبتت حجّيّة خبر الواحد بدليل قطعيّ، فهل يُخَصَّص به عمومُ ما ورد في الكتاب العزيز، أو يُقَيَّد به إطلاقُه؟ ذهب مشهور العلماء إلى جواز ذلك، وخالف فيه فريقٌ من علماء أهل السنّة، فمنَعَه بعضُهم على الإطلاق. وقال عيسى بن أبان: إن كان العامُّ الكتابيّ قد خُصَّ -من قبل- بدليلٍ مقطوعٍ به، جاز تخصيصُه بخبرِ الواحد، وإلّا لم يَجُزْ. وقال الكرخيّ: إذا خُصَّ العامُّ بدليلٍ منفصل، جاز تخصيصُه بعد ذلك بخبرِ الواحد، وإلّا فلا. وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف[1].

ومن الأمثلة التي تُضرَب للمسألة، تقييدُ حُكمِ الحلّيّة المستفاد من قوله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ﴾[2] بقوله (عليه السلام): «لا تُنكَح المرأة على عمّتها، ولا على خالتها»[3]، وكذا آية الإرث[4]، بقوله (عليه السلام): «لا يرثُ الكافرُ المسلمَ».

والدليل على ما ذهب إليه المشهور، أنّ الخبر -كما فرضنا- قطعيُّ الحجّيّة، ومقتضى ذلك أنّه يجب العمل بموجبه، ما لم يمنع منه مانع.

وممّا استُدِلَّ به على عدم تخصيص الكتاب بخبرِ الواحد (الحجّة)، دليلان، كِلاهما لا يصلحان للدلالة على المدَّعى:

الدليل الأوّل:

قالوا: إنّ الكتاب العزيز كلامُ الله العظيم المنزَّل على نبيّه الكريم، وذلك قطعيٌّ

 

 


[1] انظر: الحكيم، محمّد تقي، الأصول العامّة للفقه المقارن، مصدر سابق، ص242.

[2]  سورة النساء، الآية 24.

[3] انظر مثلًا: الشيخ الكلينيّ، الكافي ، مصدر سابق، ج5، ص445.

[4]  الأقرب أنّها قوله تعالى: ﴿وَأُوْلُواْ   بَعۡضُهُمۡ   بِبَعۡض   كِتَٰبِ   إِنَّ   بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ﴾ (الأنفال 75). الطوسيّ، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ، تهذيب الأحكام، حقّقه وعلّق عليه: السيّد حسن الموسويّ الخرسان، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، ط4، 1365ه‍.ش، ج9، ص372، ح1329؛ وانظر: الحلّيّ، جمال الدين الحسن بن يوسف بن عليّ بن محمّد بن مُطهّر، تهذيب الوصول إلى علم الأصول، مؤسَّسة الإمام عليّ (عليه السلام)، لا.ت، لا.ط، ج1، ص148.

 

99


78

الدرس العاشر: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 2

لا شبهة فيه. وأمّا خبرُ الواحد، فلا يقين بمطابقته للواقع، ولا بصدور مضمونه عن المعصوم؛ إذ لا أقلَّ من احتمال اشتباه الراوي. والعقل لا يجوّز رفع اليد عن أمرٍ مقطوع به لدليلٍ يُحتَمَل فيه الخطأ.

والجواب عن ذلك:

إنّ الكتاب، وإن كان قطعيّ الصدور، إلّا أنّه لا يقين بأنّ الحكم الواقعيّ على طبق عموماته، فإنّ العمومات إنّما وجب العمل على طِبقها من أجل أنّها ظاهر الكلام، وقد استقرّت سيرة العقلاء على حجّيّة الظواهر، ولم يردع الشارع عن هذه السيرة. ومن البيّن أنّ سيرة العقلاء على حجّيّة الظاهر مختصّة بما إذا لم تقم قرينة على خلاف الظهور، سواء أكانت القرينة متّصلة أو منفصلة؛ فإذا نهضت القرينة على الخلاف، وجب رفع اليد عن الظاهر، والعمل على وفق القرينة. إذًا، فلا مناص من تخصيص عموم الكتاب بخبرِ الواحد، بعد قيام الدليل القطعيّ على حجّيّته. وإن شئت فَقُلْ: إنّ سند الكتاب العزيز، وإن كان قطعيًّا، إلّا أنّ دلالته ظنّيّة، ولا محذور -بحكم العقل- في أن تُرفَع اليد عن الدلالة الظنّيّة لدليلٍ ظنيّ آخر ثبتت حجّيّته بدليل قطعيّ.

الدليل الثاني:

قالوا: قد صحّ عن المعصومين (عليهم السلام) أن تُعرَض الروايات على الكتاب، وما يكون منها مخالفًا لكتاب الله يلزم طرحه وضربه على الجدار، وهو ممّا لم يقولوه. والخبر الخاصّ المخالف لعموم الكتاب، ممّا تشمله تلك الأدلة، فيجب طرحه وعدم تصديقه.

والجواب عن ذلك:

مضافًا لِما تقدَّم في الدرس السابق من توضيح المراد من الخبر المخالف للكتاب -والذي يلزم طرحه وضربه عرض الجدار- وأنّه ليس المراد منه ما تكون نسبته إلى الكتاب نسبةَ الخاصّ إلى العامّ أو المقيّد إلى المطلق، فإنّا نعلم أنّه قد صدر عن المعصومين (عليهم السلام) كثيرٌ من الأخبار المخصِّصة لعمومات الكتاب، والمقيِّدة لمطلقاته؛ فلو كان التخصيص أو التقييد مخالفةً للكتاب، لَما صحّ قولُهم: "ما خالف قولَ ربَّنا لم نقله، أو هو زخرف، أو باطل"، فيكون صدور ذلك عنهم (عليهم السلام) دليلًا على أنّ التخصيص أو التقييد ليس من المخالفة في شيء[1].

 


[1] انظر: الخوئيّ، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ص399-401.

 

100


79

الدرس العاشر: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 2

نسخ الكتاب بخبرِ الواحد

1. بيان المراد من النسخ وإمكانه:

النسخ -لغةً- هو الإزالة، وفي الاصطلاح: عبارة عن رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة، بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفيّة أم الوضعيّة، وسواء أكان من المناصب الإلهيّة أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى كونه شارعًا، وإنّما يُقيِّد الرفع بالأمر الثابت في الشريعة، ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجًا، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان، وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها، وارتفاع مالكيّة شخص لماله بسبب موته، فإنّ هذا النوع من ارتفاع الأحكام لا يُسَمَّى نسخًا، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه، ولا خلاف فيه من أحد.

ولتوضيح ذلك، نقول: إنّ الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة له نحوان من الثبوت:

أحدهما: ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والإنشاء، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولًا على نحو القضيّة الحقيقيّة[1]، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه، وإنّما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع. فإذا قال الشارع: شرب الخمر حرام -مثلًا- فليس معناه أنَّ هنا خمرًا في الخارج. وأنَّ هذا الخمر محكوم بالحرمة، بل معناه أنَّ الخمر متى ما فُرِضَ وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة في الشريعة سواء أكان في الخارج خمرٌ بالفعل أم لم يكن، ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلا بالنسخ.

 

[1] يقول الشيخ المظفّر: "إنّ الموضوع في القضيّة الحمليّة الموجبة يجب أن يفرض موجودًا قبل فرض ثبوت المحمول له، إذ لولا أن يكون موجودًا، لَمَا أمكن أن يثبت له شيء، كما يقولون في المثال: "العرش ثمّ النقش". فلا يمكن أن يكون "سعيد" في مثل "سعيد قائم" غير موجود، ومع ذلك يثبت له القيام، ولكن وجود موضوعها :تارةً يكون في الذهن فقط، فتُسمَّى "ذهنيّة"، مثل: كلّ اجتماع النقيضَين مغاير لاجتماع المثلَين. فإنّ مفهوم "اجتماع النقيضَين" غير موجود في الخارج، ولكنّ الحكم ثابتٌ له في الذهن .

وأخرى يكون وجود موضوعها في الخارج على وجهٍ يُلاحَظ في القضيّة خصوصُ الأفراد الموجودة المحقّقة منه في أحد الأزمنة الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل)، نحو: كلّ جنديّ في المعسكر مدرَّب على حمل السلاح. وتُسَمَّى القضيّة هذه: "خارجيّة".

وثالثة يكون وجوده في نفس الأمر والواقع، بمعنى: أنّ الحكم على الأفراد المحقّقة الوجود والمقدّرة الوجود معًا. فكلّ ما يفرض وجوده، وإن لم يوجد أصلًا، فهو داخل في الموضوع ويشمله الحكم، نحو: كلّ مثلّث مجموع زواياه يساوي قائمتَين. فإنّه كلّ ما يُفرَض للموضوع من أفراد- سواء كانت موجودة بالفعل، أو معدومة ولكنّها مقدّرة الوجود- تدخل فيه، ويكون لها حكمه عند وجودها. وتُسَمَّى القضيّة هذه: "حقيقيّة". (المظفر، الشيخ محمد رضا، المنطق، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران- قم، لا.ت، لا.ط، بتصرّف، ص166-167).

 

 

101


80

الدرس العاشر: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 2

وثانيهما: ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أنّ الحكم يعود فعليًّا بسبب فعليّة موضوعه خارجًا، كما إذا تحقَّق وجودُ الخمرِ في الخارج، فإنَّ الحرمة المجعولة في الشريعة للخمر تكون ثابتةً له بالفعل، وهذه الحرمةُ تستمر باستمرار موضوعها، فإذا انقلب خلًّا فلا ريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعليّة التي ثبتت له حال خمريته، ولكنَّ ارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شيء، ولا كلامَ لأحدٍ في جواز ذلك ولا في وقوعه، وإنَّما الكلام في القسم الأول، وهو رفعُ الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء.

والحقيقة أنَّ النسخ لا يتجاوزُ الإخبار عن انتفاء الملاك في جعل الحكم في الأزمنة اللاحقة، الملازمِ لارتفاع الحكم وإنْ أُدّي بصيَغِ الرفع في مقام التبليغ.وهو بهذا المعنى يفيد أنَّ الحكمَ المنسوخَ المجعولَ مقيّدٌ في الواقع بزمانٍ خاص معلوم عند الله، وإن لم يُظهر تعالى هذا التقييد في مقام إبرازه للحكم، لكون المصلحةِ قد تقتضي أحيانًا بيان الحكم على نحو العموم أو الإطلاق، والحال أنَّ المراد الواقعيّ هو الخاصّ أو المقيّد.

وعليه فالنسخُ في الحقيقة تقييد لإطلاق الحكم من حيث الزمان، ولقد أشار القرآن الكريم[1] إلى امكانه وأجمع المسلمون على وقوعه، ولم يُنقَل الخلاف إلا عن أبي مسلم الأصفهاني[2].

2. إمكان نسخ القرآن الكريم بخبرِ الواحد

إنّ مقتضى القاعدةِ الأوليّة هو جوازُ النسخ بخبر الواحد لو ثبت ذلك بالدليل القطعي، لما تقدّم من أنَّ النسخ في الحقيقة تقييد أو تخصيص للحكم من حيث الزمان بدليلٍ منفصلٍ، وهو صنف آخر من القرينيّة كالتخصيص المصطلح الذي اتضّح سابقًا عدم كونه معارضا للكتاب تلك المعارضة المسقطة لحجّيّة الخبر.

ولكن قام الإجماع بين المسلمين كافّة، على عدم جواز نسخ الكتاب بخبرِ الواحد، وعدم وقوعه. وهذا الإجماع ليس إجماعًا تعبُّديًّا، بل له منشأ، وهو أنّ بعض الأمور من شأنها أن تُنقَل بالتواتر لو تحقَّقَت في الخارج، فيَكشِف عدمُ اشتهارها عن عدمِ

 

 


[1] في قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ   مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ   قَدِيرٌ﴾ (البقرة 106)

[2] انظر: الحكيم، مصدر سابق، ص132؛ والخوئيّ، أبو القاسم، مصدر سابق، ص277-278.

 

102


81

الدرس الثامن: العلاقة بين القرآن والسنّة الواقعيّة

تحقُّقها. والنسخ من هذا القبيل، فإنّه لو كان جائزًا بخبرِ الواحد، لبانَ واشتهر بين علماء المسلمين عامّة، فلا يكون قابلًا للإنكار، فنستكشف من عدم اشتهاره بين المسلمين أجمع، كشفًا قطعيًّا عن عدم وقوعه، وأنّه لا يجوز نسخ الكتاب به.

وعليه، فلو دلّ خبر الواحد على نسخ الكتاب، فلا بدَّ من طرحِه وحمله إمّا على كذب الراوي، أو على خطئه، أو سهوِه، كما هو الحال، بالإضافة إلى إثبات قرآنيّة القرآن، حيث إنّها لا تثبت بخبرِ الواحد، وإنّما تثبت بالخبر المتواتر عن النبيّ الأكرم  (صلى الله عليه وآله)[1].

 


[1] انظر: تقرير بحث السيد الخوئي للفياض، محاضرات في أصول الفقه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران- قم، 1419، ط1، ج5، ص314.

 

103


82

الدرس الحادي عشر: حجّيّة السنّة المحكيّة الظنّيّة في تفسير القرآن الكريم

الدرس الحادي عشر: حجّيّة السنّة المحكيّة الظنّيّة في تفسير القرآن الكريم

 

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف الآراء حول حجّيّة خبرِ الواحد في التفسير.

2. يتعرّف -إجمالًا- طرق تفسير السنّة للقرآن الكريم، وأساليبها.

 

105


83

الدرس التاسع: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 1

تمهيد

اتّضح في البحوث السابقة، حجّيّة السنّة الواقعيّة في مجال تفسير القرآن وغيره، كما اتّضح -إجمالًا- صلاحيّة السنّة الظنّيّة في بعض المواطن في تبيين الكتاب في الأمور الشرعيّة كتخصيصه وتقييده وعدم صلاحيّتها في مواطن أخرى، كنسخه.

وقد ذهب معظم الأُصوليّين إلى حجّيّة السنّة المحكيّة بخبرِ الواحد الثقة، في الأمور الشرعيّة، واستدلّوا عليه بالكتاب والسنّة والإجماع وسيرتَي العقلاء والمتشرّعة[1]، وتفصيل الكلام في ذلك موكولٌ إلى محلّه من أبحاث أصول الفقه.

ومدار البحث هنا ليس حول ذلك بل حول صلاحيّة هذه السنّة الظنّيّة -التي هي عبارة عن أخبار آحاد غير مقترنة بقرائن تفيد القطع واليقين- ومدى إمكانيّة الاعتماد عليها في تفسير القرآن الكريم في غير الأمور الشرعيّة.

الآراء حول حجّيّة خبرِ الواحد في التفسير

ذهب جماعةٌ من علماء الشيعة والسنّة إلى صحّة الاعتماد على خبرِ الواحد الثقة أو الموثوق، بشروطه، في التفسير، ومن هؤلاء:

1. الزركشيّ: فإنّه يظهر من استثنائه الحديث الضعيف والموضوع، اعتمادُه على أنواع الحديث الأخرى غير المبتلية بهذه الآفات في التفسير. قال في البرهان في علوم القرآن: "لطالب التَّفْسِيرِ مَآخِذُ كَثِيرَةٌ، أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعَةٌ:

 

 


[1] انظر مثلًا: السبحانيّ، جعفر، الموجز في أصول الفقه، مؤسَّسة الإمام الصادق (عليه السلام)، قمّ، ط4، 1429ه‍.ق، ص162-170؛ والسبحانيّ، جعفر، الوسيط في أُصول الفقه، مؤسَّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، قمّ، ط4، 1388ه‍.ش، ص53-55.

 

 

107


84

الدرس العاشر: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 2

الْأَوَّلُ: النَّقْلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)، وَهَذَا هُوَ الطِّرَازُ الْأَوَّلُ، لَكِنْ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنَ الضَّعِيفِ فِيهِ وَالْمَوْضُوعِ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ"[1].

2. السيّد الخوئيّ(قدس سره): فقد قرّر الإشكال على الاستفادة من خبرِ الواحد الموثوق، وأجاب عنه في تفسيره البيان. قال: "ولا شبهة في ثبوت قولهم (عليه السلام) إذا دلّ عليه طريقٌ قطعيّ لا شكّ فيه، كما أنّه لا شبهة في عدم ثبوته إذا دلّ عليه خبرٌ ضعيف غير جامع لشرائط الحجّيّة. وهل يثبت بطريقٍ ظنّيّ دلَّ على اعتبارِه دليلٌ قطعيّ؟ فيه كلامٌ بين الأعلام.

وقد يشكل في حجّيّة خبرِ الواحد الثقة إذا ورد عن المعصومين(عليهم السلام) في تفسير الكتاب. ووجه الإشكال في ذلك أنّ معنى الحجّيّة التي ثبتت لخبرِ الواحد، أو لغيره من الأدلّة الظنّيّة، هو وجوب ترتيب الآثار عليه عملًا في حال الجهل بالواقع، كما تترتّب على الواقع لو قطع به، وهذا المعنى لا يتحقّق إلّا إذا كان مؤدّى الخبر حكمًا شرعيًّا، أو موضوعًا قد رتّب الشارع عليه حكمًا شرعيًّا، وهذا الشرط قد لا يوجد في خبرِ الواحد الذي يُروَى عن المعصومين في التفسير.

وهذا الإشكال خلاف التحقيق؛ فإنّا قد أوضحنا في مباحث "علم الأصول" أنّ معنى الحجّيّة في الأمارة الناظرة إلى الواقع، هو جعلها علمًا تعبُّديًّا في حُكم الشارع، فيكون الطريق المعتَبَر فردًا من أفراد العلم، ولكنّه فردٌ تعبُّديّ، لا وجدانيّ، فيترتّب عليه كلّ ما يترتب على القطع من الآثار، فيصحّ الإخبار على طِبقه، كما يصحّ أن يخبر على طِبق العلم الوجدانيّ، ولا يكون من القول بغير علم.

ويدلّنا على ذلك سيرةُ العقلاء؛ فإنّهم يعامِلون الطريق المعتَبَر معاملةَ العلم الوجدانيّ، من غير فرق بين الآثار، فإنّ اليد –مثلًا- أمارةٌ عند العقلاء، على مالكيّة صاحب اليد لِما في يده، فهم يرتّبون له آثار المالكيّة، وهم يخبرون عن كونه مالكًا للشيء بلا نكير، ولم يثبت من الشارع ردعٌ لهذه السيرة العقلائيّة المستمرّة.

 


[1] الزركشيّ، أبو عبد الله بدر الدين محمّد بن عبد الله بن بهادر، البرهان في علوم القرآن، المحقّق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربيّة، ط1، 1376هـ- 1957م، ج2، ص156.

 

 

108


85

الدرس العاشر: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 2

نعم، يُعتَبَر في الخبر الموثوق به، وفى غيره من الطرق المعتَبَرة، أن يكون جامعًا لشرائط الحجّيّة، ومنها أن لا يكون الخبر مقطوع الكذب، فإنّ مقطوع الكذب لا يُعقَل أن يشمله دليل الحجّيّة والتعبّد؛ وعلى ذلك، فالأخبار التي تكون مخالفة للإجماع، أو للسنّة القطعيّة، أو الكتاب، أو الحكم العقليّ الصحيح، لا تكون حجّة قطعًا، وإن استجمعت بقيّة الشرائط المعتَبَرة في الحجّيّة. ولا فرق في ذلك بين الأخبار المتكفّلة لبيان الحكم الشرعيّ، وغيرها"[1].

وفي مقابل هذه الجماعة، ذهب أعلامٌ آخرون إلى المنع، منهم:

1. الشيخ الطوسيّ(قدس سره): قال في تفسيره التبيان، محذّرا من تقليد المفسّرين: "ولا يجوز لأحد أن يقلّد أحدًا منهم، بل ينبغي أن يرجع إلى الأدلّة الصحيحة: إمّا العقليّة، أو الشرعيّة، من إجماع عليه، أو نقل متواتر به، عمّن يجب اتّباع قوله، ولا يقبل في ذلك خبرَ واحد، خاصّة إذا كان ممّا طريقه العلم. ومتى كان التأويل يحتاج إلى شاهد من اللغة، فلا يقبل من الشاهد إلّا ما كان معلومًا بين أهل اللغة، شائعًا بينهم. وأمّا طريقة الآحاد من الروايات الشاردة والألفاظ النادرة، فإنّه لا يقطع بذلك، ولا يجعل شاهدًا على كتاب الله، وينبغي أن يتوقّف فيه"[2].

2. العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره): قال في سياق تفسيره للآية 44 من سورة النحل: "هذا كلّه في نفس بيانهم [يقصد بيان النبيّ وآله(عليهم السلام) ] المتلقّى بالمشافهة، وأمّا الخبر الحاكي له، فما كان منه بيانًا متواترًا أو محفوفًا بقرينة قطعيّة وما يلحق به، فهو حجّة؛ لكونه بيانهم، وأمّا ما كان مخالفًا للكتاب، أو غير مخالف لكنّه ليس بمتواتر ولا محفوفًا بالقرينة، فلا حجّيّة فيه؛ لعدم كونه بيانًا في

 

 


[1] الخوئيّ، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ص398-399.

[2] الطوسيّ، أبو جعفر محمّد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، لا.ت، لا.ط، ج1، ص6-7.

 

 

109


86

الدرس العاشر: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 2

الأوّل[1]، وعدم إحراز البيانيّة في الثاني[2]، وللتفصيل محلّ آخر"[3].

وسنفرد الملحق الأوّل الآتي للحديث بصورة أكثر تفصيليّة عن رؤية العلَّامة الطباطبائيّ للعلاقة بين القرآن والسنّة (الواقعيّة والمحكيّة).

طرق تفسير السنّة للقرآن الكريم وأساليبها

ذُكِرَت لتفسير القرآن بالسنّة، أساليب عديدة، تحتاج إلى الاستقراء من كتب التفسير بالمأثور، منها[4]:

1. توضيح مفردات الآية

ساهمَت بعضُ الروايات في توضيح بعض الكلمات المبهمة والمجملة، وكشفت الغطاء عن بعض الألفاظ الصعبة. ومثال ذلك ما ورد في توضيح قوله تعالى: ﴿وَٱلنَّخۡلَ بَاسِقَٰت لَّهَا طَلۡع نَّضِيد﴾[5]، فقد سُئِل النبيّ(صلى الله عليه وآله) عن "بسوقها"، فأجاب: "طولها"[6].

2. تطبيق الآية على مصداق خاصّ

فقد جاءت بعض الأحاديث لبيان مصداق المفاهيم التي ذُكِرَت بألفاظ الآية، وهذا الطريق في التفسير على ثلاثة أنواع:

أ. بيان مصداق لا ينحصر تطبيق المفهوم فيه، وليس بالضرورة المصداق الأكمل: ويكثر ذلك في الروايات الفقهيّة. مثال ذلك ما ورد عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) في تفسير المراد من كسوة المساكين، الوارد في الآية 89 من سورة المائدة ﴿أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ﴾ كأحد أفراد الكفّارة، قال: "عباءة لكلّ مسكين"[7]. ومن الواضح أنّ

 

 


[1] يقصد المخالف للكتاب.

[2] يقصد غير المخالف للكتاب.

[3] العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج12، ص261.

[4] انظر: الرضائيّ، محمّد عليّ، مناهج التفسير واتجاهاته، تعريب قاسم البيضاني، جامعة المصطفى العالميّة - مكتب التخطيط وتقنيّة التعليم، قمّ المقدَّسة، ط2، 1431ه‍.ق- 1389ه‍.ش، ص87-91.

[5] سورة ق، الآية 10.

[6] انظر: النيسابوريّ، الحاكم، أبو عبد الله محمّد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحَين، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، لا.ت، لا.ط، ج2، ص504، ح3727.

[7] انظر: السيوطيّ، جلال الدين، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، لا.ت، لا.ط، ج2، ص313.

 

 

110


87

الدرس التاسع: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 1

العباءة ليست هي المصداق الوحيد للكسوة، بل هي أحد المصاديق؛ لذا لا تختصّ الكسوة في الآية بالعباءة.

ب. بيان المصداق الأتمّ والأكمل للمفهوم الوارد في الآية، وإن لم ينحصر التطبيق به: ومثال ذلك ما ورد من تفسير "الصراط المستقيم" في سورة الحمد بأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام).

ج. بيان المصداق الوحيد الذي ينحصر تطبيق المفهوم فيه: ومثال ذلك من الروايات التي مرَّت معنا في تحديد المراد بـ "أهل البيت" في آية التطهير، وحصرهم في جماعة معيّنة، والروايات التي وردت في بيان مصداق الأبناء والنساء والأنفس المنتسبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في آية المباهلة: ﴿أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ﴾[1]، ووليّ المؤمنين في آية الولاية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ﴾[2].

3. بيان جزئيّات الأحكام

ذكرنا في الدرس السابق ثلاثة أقسام من بيان السنّة الظنّيّة للأحكام في القرآن الكريم، ونقلنا إمكانه وأمثلة عليه في التخصيص والتقييد لعموم آيات الأحكام وإطلاقها، والإجماع من الأمّة على عدم صحّته في النسخ. ويبقى إمكان النسخ بالسنّة المتواترة، كما قيل في نسخ الحكم المستفاد من السنّة الشريفة في رجم الزاني المحصن[3] للحكم المستفاد من قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَ‍َٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا
فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابا رَّحِيمًا﴾[4].

 


[1] سورة آل عمران، الآية 61.

[2] سورة المائدة، الآية 55.

[3] انظر مثلًا: العيّاشيّ، أبو النظر محمّد بن مسعود بن عيّاش السلميّ السمرقنديّ، تحقيق: السيّد هاشم الرسولي المحلّاتي، المكتبة العلميّة الإسلاميّة، طهران، ج1، ص227.

[4] سورة النساء، الآية 16.

 

111


88

الدرس العاشر: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 2

ومن وظائف السنّة تجاه الأحكام الواردة في القرآن الكريم، بيانُ متعلّقاتها، كالصلاة والصوم والحجّ وغيرها؛ فإنّ ما ورد في كيفيّة أداء هذه التكاليف في القرآن الكريم هو النزر اليسير بحسب فهم عامّة الناس، وتُرِك للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه بيانُ تفاصيلها للناس، فتعلّم المسلمون منه(صلى الله عليه وآله) الصلاة مثلًا، اعتمادًا على ما رُوِيَ عنه: "صلّوا كما رأيتموني أصلّي"[1]. والأمر كذلك في بيان شرائط الأحكام وموضوعاتها، كبيان حدّ الاستطاعة الوارد في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلاۚ﴾[2].

4. بيان شأن النزول وأسبابه

إنّ لبيان شأن النزول -كمكان نزول الآية والحادثة التي نزلت فيها وزمانه- دورًا مهمًّا في فهم مدلول الآية؛ لذا اعتنى المفسّرون، منذ القدم، بالأحاديث[3] التي تبيّن ذلك. ويجدر بالذكر أنّ روايات شأن النزول ليست كلّها من السنّة بالمعنى الاصطلاحيّ، فبعضها رُوِيَ عن مفسِّري الصحابة والتابعين وغيرهم، وما كان منها كذلك لا يدخل في نطاق البحث عن الحجّيّة في التفسير؛ إذ لا عبرة في ذلك بغير كلام النبيّ(صلى الله عليه وآله) وعترته، كما هو معلوم، وهي إذ ذاك إنّما تصلح كشواهد ومؤيّدات في البحث التفسيريّ في أحسن الأحوال.

5. بيان بعض بواطن الآيات وتأوليها[4]

تصدّت بعض الروايات لبيان بواطن بعض الآيات وتأويلها. وقد لا يُعَدّ بيان الباطن

 

 


[1] انظر مثلًا: ابن حجر العسقلانيّ، أحمد بن عليّ، فتح الباري شرح صحيح البخاريّ، راجعه قُصَي محبّ الدين الخطيب، دار الريان للتراث، 1407هـ- 1986م، ج13، ص243، ح6819.

[2] سورة آل عمران، الآية 97.

[3] قد جُمِعَت هذه الأحاديث في كتب التفسير بالمأثور، كتفسير البرهان ونور الثقلَين والدرّ المنثور، وفي كتب أسباب النزول أيضًا.

[4] للكلام في معنى التأويل والمراد منه في القرآن الكريم، ذيلٌ طويل لا يسمح المقام بذكره، ويحسن في ذلك مراجعة بحث العلَّامة الطباطبائيّ (قدّس سرّه) في الميزان في ذيل قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰت مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغ فَيَتَّبِعُونَ

مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ (آل عمران 7). (انظر: العلامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج3، ص51-57). وبحث آية الله معرفة في كتابة التفسير والمفسِّرون (انظر: معرفة، محمّد هادي، التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب، تنقيح قاسم النوريّ، الجامعة الرضويّة للعلوم الإسلاميّة، ط2، 1425ه‍.ق- 1383ه‍.ش، ج1، ص22-44.

 

112


89

الدرس العاشر: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 2

 

والتأويل من التفسير بالمعنى الاصطلاحيّ-سواء اعتمد الاتّجاه الذي يعرّف التفسير بما يشمل علوم اللغة وعلوم القرآن وغيرها[1]، التي يكون محورها القرآن الكريم، أو الاتّجاه الذي يخصّص التفسير بمعرفة مرادات الله تعالى الظاهريّة من الآيات-[2] إلّا أنّ ذلك لا يمنع الاستفادة من روايات التأويل في معرفة التفسير، فكثيرًا ما تكون روايات بيان أحد تأويلات الآية معتمدة على مناسبة بين المعنى الظاهريّ أو ظهر الكلام للآية، وتأويلها وبطنها، بحيث يكون المفهوم أو الصورة العامّة المنتزَعة من بطن الآية صالحةً للانطباق على ظهرها انطباقَ الكلّيِّ على مصاديقه[3]. مثال ذلك ما ورد عن الإمامَين الباقر والصادق d، في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعاۚ﴾[4]: «قولُ الله عزَّ وجلَّ في كتابه: ﴿وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ﴾، قال: مِن حَرَقٍ أو غَرَقٍ. قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال: ذاك تأويلها الأعظم»[5].

ومثله: «قُلْتُ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعاۚ﴾. قَالَ: مِنْ حَرَقٍ أَوْ غَرَقٍ. ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: تَأْوِيلُهَا الْأَعْظَمُ أَنْ دَعَاهَا فَاسْتَجَابَتْ لَهُ»[6].

والروايتان ها هنا قد بيَّنَتا أنّ التفسير الظاهريّ للآية هو أحد مصاديق كبرى كلّيّة تشمله ومصاديقَ أُخَر للإحياء.


 


[1] ومن أصحاب هذا الاتجاه: أبو حيّان الأندلسيّ، فقد عرّف التفسير بقوله: «هو علم يبحث عن كيفيّة النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها، وأحكامها الإفراديّة والتركيبيّة، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، وتتمّات ذلك» (أبو حيّان الأندلسيّ، تفسير البحر المحيط، الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ عليّ محمّد معوّض، شارك في التحقيق: د. زكريّا عبد المجيد النوقيّ - د. أحمد النجوليّ الجمل، دار الكتب العلميّة، 1422هـ- 2001م، ط1، ج1، ص121).

[2] ومن التعاريف التي اعتُمِدَت في هذا الاتجاه، قولهم: إنّ التفسير علم يُبحَث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشريّة (الزُّرْقانيّ، محمّد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، مطبعة عيسى البابي الحلبيّ وشركاه، ط3، لا.ت، لا.ط، ج2، ص3).

[3] انظر: محمّد هادي معرفة، التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب، مصدر سابق، ج1، ص26.

[4] سورة المائدة، الآية 32.

[5] المازندرانيّ، محمّد صالح، شرح أصول الكافي مع تعاليق الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ، ضبط وتصحيح: السيّد عليّ عاشور، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت - لبنان، ط1، 1421هـ- 2000م، ج9، ص105، ح2.

[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص211، ح3.

 

113


90

الدرس العاشر: العلاقة بين القرآن والسنّة المحكيّة الظنّيّة 2

وأحيانًا أخرى، يكون تحقُّق التأويل الوارد في الروايات في حقيقة عينيّة خارجيّة، وليست برجوع معنى إلى آخر، كما في المثال السابق. وذلك كما في مصاديق قوله تعالى: ﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥۚ يَوۡمَ يَأۡتِي تَأۡوِيلُهُۥ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشۡفَعُواْ لَنَآ أَوۡ نُرَدُّ فَنَعۡمَلَ غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ قَدۡ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ﴾[1]. فقد ورد عن الإمام الباقر في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِنۡ أَصۡبَحَ مَآؤُكُمۡ غَوۡرا فَمَن يَأۡتِيكُم بِمَآء مَّعِينِۢ﴾[2] ما يلي: "قال: هذه نزلت في القائم، يقول: إنْ أصبح إمامُكم غائبًا عنكم، لا تدرون أين هو، فمن يأتيكم بإمام ظاهر، يأتيكم بأخبار السماء والأرض وحلال الله عزَّ وجلَّ وحرامه؟ ثم قال (عليه السلام): والله، ما جاء تأويل هذه الآية، ولا بدّ أن يجيء تأويلُها"[3].

وينبغي التنبيه أنّ الخوض في التأويل، من دون الرجوع إلى المعصوم، يُخرِج دلالات النصّ القرآنيّ عن الضبط، ويفتح مجالًا لإسقاط الرؤى والأحكام على القرآن الكريم، فيما المفروض استخراجها منه، فيغدو الكتاب تابعًا بدل أن يكون متبوعًا، وقد مرّ شطرٌ من الكلام عن ذلك في بحث المحكم والمتشابه.

 

 


[1] سورة الأعراف، الآية 53.

[2] سورة الملك، الآية 30.

[3] الصدوق، أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي، كمال الدين وتمام النعمة، صحّحه وعلّق عليه: عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسَّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، 1405ه‍.ق- 1363ه‍.ش، ج1، ص354-355، ح3.

 

 

114


91

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

1. يتعرّف رأي العلامة الطباطبائي في تفسير القرآن بالقرآن.[1]

2. يعدّد النظريات الثلاث في دور الروايات في تفسير القرآن.

3. يحدّد رأي العلامة الطباطبائي في دور السنّة في تفسير القرآن.

 

 


[1] هذا البحث ممّا يمكن ويستحقّ التوسّع فيه، ولكنّنا اقتصرنا على عرض بعض الأفكار الأساسيّة، وأردنا من ذلك تسليط الضوء بنحو مختصر على منهج العلَّامة الطباطبائيّ في التعامل مع الروايات الواردة في مجال التفسير. مع الإشارة إلى أنّ ما عرضناه خاضعٌ للتأمّل والنقاش. (الإعداد)

 

115


92

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

تمهيد

يُعَدُّ العلَّامة الطباطبائيّ من أبرز العلماء الذين شدّدوا على محوريّة القرآن وأهمِّيّته في تفسير نفسه، عبر اتّباعه لمنهج «تفسير القرآن بالقرآن». إلّا أّنه مع ذلك، لم يترك البحث الروائيّ ويسقطه عن الاعتبار؛ ذلك أنّ من يُراجع تراثه، يرى، وبكلّ وضوح، اهتمامه بالبحث الروائيّ؛ غايته أنّه يُشدّد على كون القرآن الكريم هو المحور والأصل في تفسير نفسه، وفي فهم المعارف الدينيّة.

العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) وتفسير القرآن بالقرآن

يعتمد العلَّامة الطباطبائيّ منهج تفسير القرآن بالقرآن[1]. والمراد بهذا المنهج هو: أن تكون النصوص القرآنيّة بعضُها مفسِّرًا لبعض. وإذا ما عرفنا أنّ التفسير هو الكشف عن معاني النصّ القرآنيّ ومراداته، فإنّه في ضوء هذا المنهج، يكون النصّ القرآنيّ المرادُ كشف معانيه، مُنكشِفًا ومُفسِّرًا -بصيغة اسم المفعول- بنصٍّ قرآنيّ آخر. ويرى المعتقدون بهذا المنهج أنّه المنهج الأكمل والأتمّ الذي ينبغي أن يُسلَك في تفسير القرآن.

ولقد أكّد العلَّامة الطباطبائيّ على اعتماده هذا المنهج، في أكثر من مورد من كلامه، منها:

المورد الأول: في مقدّمة تفسير الميزان، بعد أن استعرض بعض المناهج التي سلكها المفسِّرون، وقدَّم النقد لها، نجده يبيّن أنّ فهم حقائق القرآن وتشخيص مقاصده العالية يتمّ على أحد وجهَين: «أحدهما: أن نبحث بحثاً علميّاً أو فلسفيّاً أو غير ذلك،

 

 


[1] للوقوف أكثر على هذا المنهج، وتعرُّف أدلّة الموافقين والمعارضين، وكذلك أنواعه واختلاف الآراء حوله بين العلَّامة الطباطبائيّ والآخرين، يمكن الرجوع إلى كتاب رضائي، محمد علي، مناهج التفسير واتّجاهاته، مصدر سابق، ص47-91.

 

 

117


93

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

عن مسألة من المسائل التي تتعرَّض لها الآية، حتّى نقف على الحقّ في المسألة، ثمّ نأتي بالآية ونحملها عليه، وهذه طريقة يرتضيها البحث النظريّ، غير أنّ القرآن لا يرتضيها. وثانيهما: أن نفسِّر القرآن بالقرآن، ونستوضح معنى الآية من نظيرتها، بالتدبُّر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخّص المصاديق ونتعرّفها بالخواصّ التي تعطيها الآيات، كما قال تعالى: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنا لِّكُلِّ شَيۡء﴾[1] الآية، وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه. وقال تعالى: ﴿هُدى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰت مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ﴾[2] الآية، وقال تعالى: ﴿  إِلَيۡكُمۡ نُورا مُّبِينا﴾[3] الآية، وكيف يكون القرآن هدىً وبيّنةً وفرقانًا ونورًا مبيّنًا للناس في جميع ما يحتاجون، ولا يكفيهم في احتياجهم إليه، وهو أشدّ الاحتياج؟! وقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ﴾[4] الآية، وأيّ جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه! وأيّ سبيل أهدى إليه من القرآن!»[5]. 

- المورد الثاني: في تفسيره لقوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰت مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾[6]، حيث يقول في ختام بحث في تفسير هذه الآية: «والمحصّل: أنّ المنهيّ عنه إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن، واعتماد المفسِّر على نفسه، من غير رجوع إلى غيره، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، وهذا الغير لا محالة إمّا هو الكتاب أو السنّة، وكونه هو السنّة ينافي القرآن والسنّة نفسها الآمرة بالرجوع إليه وعرض الأخبار عليه، فلا يبقى للرجوع إليه والاستمداد منه في تفسير القرآن إلّا القرآن نفسه»[7].

 

 


[1] سورة النحل، الآية 89.

[2] سورة البقرة، الآية 185.

[3] سورة النساء، الآية 174.

[4] سورة العنكبوت، الآية 69.

[5] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص14.

[6] سورة آل عمران، الآية 7.

[7] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج3، ص89.

 

 

118


94

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

ويؤكّد العلَّامة الطباطبائيّ أنّه استفاد هذا المنهج من السنّة المتمثّلة في النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، فهم الذين أرشدونا إليه، حيث قال: «ثمّ إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) الذي علّمه القرآن وجعله معلِّماً لكتابه... وعترته وأهل بيته الذين أقامهم النبيّ(صلى الله عليه وآله) هذا المقام... وقد كانت طريقتهم في التعليم والتفسير هذه الطريقة بعينها، على ما وصل إلينا من أخبارهم في التفسير»[1]. بل إنّ العلَّامة الطباطبائيّ يؤكّد في مورد آخر «على أنّ جمًّا غفيرًا من الروايات التفسيريّة الواردة عنهم (عليهم السلام) مشتملةٌ على الاستدلال بآية على آية، والاستشهاد بمعنى على معنًى، ولا يستقيم ذلك إلّا بكون المعنى ممّا يمكن أن يناله المخاطَب ويستقلّ به ذهنه؛ لوروده من طريقه المعيّن له»[2].

النظريّات في دور الروايات في التفسير

يمكن، في هذا المجال، الحديث عن نظريّات ثلاثة:

- النظريّة الأولى: استقلال القرآن عن الأحاديث في التفسير: وقد قُدِّمَت هذه النظريّة بعدّة أشكال، يجمعها استقلال القرآن عن السنّة، وعدم حاجته إلى الروايات في تفسير نفسه.

- النظريّة الثانية: نظريّة محورية السنة: ويُراد بها تفسير القرآن بالروايات المأثورة فقط، لا غير. ولعلّ من أصحاب هذه النظريّة، الذين أنكروا حجّيّة ظواهر القرآن، واكتفوا بالنصوص الروائيّة لفهم القرآن وتفسيره.

- النظريّة الثالثة: نظريّة محوريّة القرآن وقرينيّة السنّة: ويُراد بها عَدُّ أحاديث النبيّ وأهل بيته (عليهم السلام) قرائن لتفسير الآيات، وأدوات لتوضيح معاني الآيات ومقاصدها. وللروايات في هذه النظريّة أدوار مختلفة، منها: تبيين سبب النزول، أو الكشف عن مصداق الآية ومفهومها، أو بيان تأويل الآية وباطنها، أو الشرح لبعض الجزئيّات في آيات الأحكام[3].

 

 


[1] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص15.

[2] المصدر السابق، ج3، ص100.

[3] راجع: رضائي، مناهج التفسير واتّجاهاته، مصدر سابق، ص95-101.

 

 

119


95

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

العلَّامة الطباطبائيّ والنظريّات الثلاثة

ذهب العديد من الباحثين إلى تصنيف العلَّامة الطباطبائيّ ضمن القائلين بالنظريّة الأولى -استقلال القرآن عن الأحاديث في التفسير- وذلك استنادًا إلى بعض كلماته الصريحة، ولا سيّما تلك التي أوردها في تفسيره الميزان. وكنموذج على ذلك، ما ذكره في بحثه حول روايات التفسير بالرأي، في ذيل تفسيره للآية السابعة من سورة آل عمران، حيث يقول في ختام البحث، كما تقدَّم: «والمحصَّل أنّ المنهيّ عنه إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن، واعتماد المفسِّر على نفسه، من غير رجوع إلى غيره، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، وهذا الغير -لا محالة- إمّا هو الكتاب أو السنّة، وكونه هو السنّة ينافي القرآن والسنّة نفسها الآمرة بالرجوع إليه وعرض الأخبار عليه، فلا يبقى للرجوع إليه والاستمداد منه في تفسير القرآن إلّا القرآن نفسه»[1].

ويظهر من كلامه «أنّ التفسير الاستقلاليّ ليس صحيحًا؛ لأنّه تفسيرٌ بالرأي، وتفسير القرآن الكريم بالسنّة غير صحيح أيضًا؛ لأنّه يتنافى مع القرآن والسنّة؛ فإذًا، لا يبقى طريقٌ إلّا بالرجوع إلى القرآن نفسه بالتفسير، وهو ما يُسَمَّى "تفسير القرآن بالقرآن»[2].

إلّا أنّه، وللوقوف بنحو دقيق على متبنّى العلَّامة في هذه المسألة، نجد من المناسب أن نتحدّث عن قسمَي السنّة الواقعيّة والسنّة المحكيّة، لنرى بنحو أكثر مقاربة للواقع، حقيقةَ نظره للعلاقة بين القرآن والسنّة في كِلا هذَين القسمَين.

القرآن والسنّة الواقعيّة

إنّ المتبادَر الأَوَّليّ من كلام العلَّامة الطباطبائيّ، مع ملاحظة كلامه المنقول آنفًا –كما تقدّم- هو استقلال القرآن عن السنّة، وعدم حاجته إليها في تفسير نفسه. ولكنّ الإنصاف والدقّة في البحث يدعواننا لتتبُّع كلماته المختلفة، للوقوف بعد ذلك على مراده النهائيّ من هذه المسألة. ونكتفي في هذا المجال بذكر الموردَين الآتيتين:

 

 


[1] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج3، ص89. تقدّم نقل نصّ العبارة في بداية الدرس، وقد أَعَدْنا ذكرها هنا لأهمّيّة الوقوف عليها. (الإعداد)

[2] رضائي، مناهج التفسير واتّجاهاته، مصدر سابق، ص96.

 

 

120


96

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

المورد الأوّل: ذكر (رحمه الله) في معرض تفسيره للآية 44 من سورة النحل، وهي قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أنّه يعدّ بيان النبيّ والأئّمة (عليهم السلام) حجّة في تفسير القرآن. قال(رحمه الله): «وفي الآية دلالة على حجّيّة قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) في بيان الآيات القرآنيّة. وأمّا ما ذكره بعضهم أنّ ذلك في غير النصّ والظاهر من المتشابهات، أو فيما يرجع إلى أسرار كلام الله وما فيه من التأويل، فممّا لا ينبغي أن يصغى إليه. هذا في بيانه نفسه (صلى الله عليه وآله)، ويلحق به بيان أهل بيته لحديث الثقلَين المتواتر وغيره...»[1].

المورد الثاني: في قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾[2]، حيث يقول: «وتعليمُ الكتاب بيانُ ألفاظِ آياته وتفسيرُ ما أشكل من ذلك، ويقابله تعليم الحكمة، وهي المعارف الحقيقيّة التي يتضمّنها القرآن. والتعبير عن القرآن تارةً بالآيات، وتارةً بالكتاب، للدلالة على أنّه بكلٍّ مِن هذه العناوين، نعمةٌ يمتنّ بها كما قيل»[3]. إلى أن يقول: «فالتعليم القرآنيّ الذي تصدّاه الرسول (صلى الله عليه وآله)، المبيّن لِما نزل من عند الله، هو تعليم الحكمة، وشأنه بيان ما هو الحقّ في أصول الاعتقادات الباطلة الخرافيّة، التي دبّت في أفهام الناس، من تصوُّر عالَم الوجود وحقيقة الإنسان الذي هو جزء منه -كما تقدَّمَت الإشارة إليه- وما هو الحقّ في الاعتقادات الفرعية المترتّبة على تلك الأصول ممّا كان مبدأ للأعمال الإنسانيّة، وعناوين لغاياتها ومقاصدها»[4].


 


[1] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج12، ص260.

[2] سورة الجمعة، الآية 2.

[3] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج19، ص276.

[4] المصدر السابق، ج19، ص284.

 

 

121


97

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

والحاصل ممّا تقدّم، أنّ ظاهر كلام العلَّامة، الوارد في تفسيره للآية السابعة من سورة آل عمران، لا يكشف عن مقصوده بصورة مطلقة، فهو لا يقصد نفي حجّيّة السنّة في تفسير الكتاب بصورة مطلقة، بل إنّه يعترف بحجّيّتها في بيان القرآن.

وفي هذا المجال، «ذكر أحدُ تلامذته البارزين -وهو الشيخ عبد الله الجوادي آملي- تفسيرًا لاستقلال القرآن الكريم لدى العلَّامة الطباطبائيّ، يمكن عَدُّه توضيحًا جيّدًا لكلامه، وهو:

 أوّلًا: إنّ الثقلَين لا يمكن أن يفترقا عن بعضهما بعضًا، بل هما متلازمان، ويشكّلان حجّة إلهيّة واحدة. غاية ما هناك أنّ أحدهما يُعَدُّ أصلًا والآخر فرعًا لذلك الأصل، أو أنّ أحدهما نصًّا والآخر شرحًا له. فالقرآن والعترة لا يفترقان، كما أنّه ليس أحدهما في عرض الآخر، فرسالة الدين النهائيّة ترتبط بالقرآن والسنّة.

 ثانياً: إنّ القرآن الكريم لا يحتاج إلى غيره في سنده، ولا في ظواهره، ولا في رسم الخطوط الكلّيّة للدين، وهو مستقلٌّ حدوثًا وبقاءً، فهو الثقل الأكبر للأحاديث التابعة للقرآن، حدوثًا وبقاءً؛ لأنّ المراد من الاستقلال هو الاستقلال النسبي وليس الاستقلال النفسي. ومن هنا فإن الاعتماد على الأصول العقلائية في فهم معاني القرآن وألفاظه لا ينافي استقلاله في الحجّيّة والدلالة.

ثالثًا: ارتباط الروايات بالقرآن من حيث اعتبار السند، سواء كان ذلك في السنّة القطعيّة، وأيضًا من ناحية حجّيّة النصّ في خصوص السنّة غير القطعيّة. ولكن بعد تأمين أصل اعتبار السنّة بواسطة القرآن، فسوف تكون حجّة مستقلّة غير منحصرة شأنها شأن القرآن. فالقرآن مستقلٌّ في شؤونه جميعها، وغير مرتبط بغيره، ولكن لأنّ الدين يرتبط بالقرآن وسنّة المعصومين (عليهم السلام) في عرض رسالته النهائيّة، ومن هذا الجانب، فإنّ القرآن والسنّة لا يمكن أن يفترقا في بيان مفاهيم الدين في الاعتقاد والعمل؛ بمعنى أنّ القرآن يتكفّل بتبيين الخطوط الكلّيّة للدين، وتتعهّد السنّة ببيان التفصيلات وجزئيّات الأحكام»[1].

 


[1] رضائي، مناهج التفسير واتّجاهاته، مصدر سابق، ص97-98.

 

 

122


98

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

والنتيجة التي نخلص إليها من العرض المتقدّم، أنّ العلَّامة الطباطبائيّ يعدّ بيانَ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) حجّة في بيان القرآن الكريم. هذا فيما يرتبط بالسنّة الواقعيّة.

القرآن والسنّة المحكيّة

لا بدّ في بداية الحديث، من التأكيد على مسألة، وهي أنّ الكلام سيتركّز على علاقة القرآن بخبرِ الواحد من السنّة المحكيّة، لا المتواتر، ولا خبرِ الواحد المحفوف بقرائن تفيد القطع بصدور مضمونه عن المعصوم؛ فإنّهما كاشفَين قطعيَّين عن السنّة الواقعيّة، فيلحقهما حكمها. قال في الميزان: «هذا كلّه في نفس بيانهم المتلقّى بالمشافهة، وأمّا الخبر الحاكي له، فما كان منه بيانًا متواترًا أو محفوفًا بقرينة قطعيّة وما يلحق به، فهو حجّة؛ لكونه بيانهم»[1].

فالكلام ينحصر في خبر الواحد، سواء منه ما ثبَتت حجّيّته دون أن يصل إلى حدّ القطع بصدوره، وما لم تثبت حجيّته، كالخبر الضعيف. وفي هذا المجال، يقول (رحمه الله) بعد كلامه السابق: «وأمّا ما كان مخالِفًا للكتاب، أو غير مخالف لكنّه ليس بمتواتر ولا محفوفًا بالقرينة، فلا حجّيّة فيه؛ لعدم كونه بيانًا في الأوّل، وعدم إحراز البيانيّة في الثاني، وللتفصيل محلٌّ آخر»[2].

وكلامه (رحمه الله) في عدم حجّيّة الخبر الضعيف في تفسير كتاب الله تعالى، ممّا لا غبار عليه[3]. وإنّما ما يحتاج إلى بحث وتقصٍّ، هو عدم حجّيّة خبرِ الواحد في التفسير، مع استجماعه لشرائط الحجّيّة. وقد تقدَّم وجود اتّجاه آخر تبنّى حجّيّة هذا النوع من خبرِ الواحد، تبنّاه العديدُ من الأعلام، منهم السيّد الخوئيّ(رحمه الله)[4]. فهل إنّ العلَّامة (رحمه الله) يتبنّى بنحو مطلق عدم حجّيّة خبر الواحد في التفسير، أو لا؟

 

 


[1] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج12، ص262.

[2] المصدر نفسه.

[3] وإن كان e لا يتساهل في ردّ الأخبار التي لم تثبت حجّيّتها، كما ستأتي الإشارة إليه.

[4] الخوئيّ، السيد أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ص398.

 

 

123


99

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

يبدو، وعبر التتبُّع لكلماته المتفرقة، ولأسلوب بحثه في تفسيره الميزان، أنّه يَقبَل حجّيّة خبرِ الواحد في بيان الكتاب في عدّة موارد، منها:

أوّلًا: دور السنّة في بيان تفاصيل الأحكام الشرعيّة

حيث أكّد العلَّامة الطباطبائيّ في تفسيره الميزان، أنّ الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفا كَثِيرا﴾[1]، «تدلّ دلالةً واضحة على أنّ المعارف القرآنيّة يمكن أن ينالها الباحث بالتدبُّر والبحث... نعم، تفاصيلُ الأحكام ممّا لا سبيل إلى تلقّيه من غير بيان النبيّ(صلى الله عليه وآله)، كما أرجعها القرآن إليه في قوله تعالى: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ﴾، وما في معناه من الآيات، وكذا تفاصيل القصص والمعاد مثلًا»[2].

وكذلك تعرَّض(رحمه الله) لهذا الأمر في كتابه "الشيعة في الإسلام"، بقوله: «يشير القرآن الكريم إلى كلّيّات بعض المعارف الإسلاميّة، وهي الأحكام والقوانين التشريعيّة، كالصلاة والصوم والمعاملات وسائر العبادات، ويتوقّف تفصيلها بالرجوع إلى السنّة -حديث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت(عليهم السلام)- وبعضها الآخر، كالاعتقادات والأخلاق، وإن كانت مضامينها وتفاصيلها يفهمها العامّة، لكنّ إدراك معانيها وفهمها، يستلزم اتّخاذ نهج أهل البيت (عليهم السلام)، مع الاستعانة بالآيات، فإنّها تفسّر بعضها بعضاً، ولا يمكن الاستعانة برأيٍ خاصّ، والذي أصبح من العادات والتقاليد، وباتت النفس تستأنس به»[3].

وكلامه(رحمه الله) يعمّ السنّة الواقعيّة والمحكيّة، سواء منها ما وصل إلى حدّ القطع بصدوره، أو ما لم يصل إلى هذه الدرجة ولكنّه استوفى شرائط الحجّيّة.

 


[1] سورة النساء، الآية 82.

[2] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج3، ص97-98. ولكن قد يُقال: إنّ كلامه هذا ناظر للسنّة الواقعيّة دون المحكيّة، إلّا أنّه وبالنظر إلى كلماته المتفرّقة، لا يبعد القول إنّ هذا الكلام منه يعمّ السنّة المحكيّة، ولو لم تكن ممّا يُقطَع بصدوره. قال في كتابه (الشيعة في الإسلام، ص77-78): «وبموجب هذا الحديث والأحاديث النبويّة القطعيّة الأخرى، تصبح أقوال أهل البيت (عليه السلام) تاليةً لأقوال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وواجبة الاتباع، وأنّ أهل البيت (عليهم السلام) لهم المرجعيّة العلميّة في الإسلام والأحكام الإسلاميّة، فأقوالهم حجّة يُعتَمَد عليها، سواءً كان مشافهة أو نقلًا».

[3] الطباطبائي، العلامة السيد محمد حسين، الشيعة في الإسلام، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص79-80.

 

124


100

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

وقد صرّح في غير موضع في تفسير الميزان، أنّ خبرَ الواحد حجّةٌ فيما يترتّب عليه أثر عمليّ، كالأحكام دون غيرها، قال(رحمه الله): «لا معنى لجعل حجّيّة أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعيّة، فإنّ حقيقة الجعل التشريعيّ إيجابُ ترتيبِ أثر الواقع على الحجّة الظاهريّة، وهو متوقِّف على وجود أثر عمليّ للحجّة، كما في الأحكام، وأمّا غيرها فلا أثر فيه حتّى يترتّب على جعل الحجّيّة، مثلًا، إذا وردَت الرواية بكون البسملة جزءًا من السورة، كان معنى جعل حجّيّتها وجوب الإتيان بالبسملة في القراءة في الصلاة، وأمّا إذا ورد –مثلًا- أنّ السامريّ كان رجلًا من كرمان، وهو خبر واحد ظنّيّ، كان معنى جعل حجّيّته أن يجعل الظنّ بمضمونه قطعًا، وهو حكم تكوينيّ ممتنع، وليس من التشريع في شيء، وتمام الكلام في علم الأصول»[1].

ويُستفَاد من كلامه أنّ البيان الوارد –ولو كان خبرَواحدٍ- على آيات الأحكام حجّة؛ لأنّ خبر الواحد في الأحكام الشرعيّة حجّة، فيصبح التفسير في هذا القسم حجّة[2].

ثانيًا: دور السنّة في بيان مصاديق الآيات

كثيراً ما يستعمل العلَّامة الطباطبائيُّ السنّةَ للوقوف على بعض مصاديق الآيات القرآنيّة، وهناك العديد من الأمثلة، منها:

 المثال الأول: في قوله تعالى: ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ﴾[3]، حيث إنّ العلَّامة الطباطبائيّ، بعد أن تطرّق لبيان المراد من الآية، نقل بعض الروايات وعلّق عليها، منها الرواية الآتية: «في الفقيه، وتفسير العيّاشيّ، عن الصادق (عليه السلام)، قال: الصراط المستقيم أمير المؤمنين... (عليه السلام). أقول: وفي هذه المعاني روايات أخر، وهذه الأخبار من قبيل الجري، وعدّ المصداق للآية. واعلم أنّ الجري -وكثيراً ما نستعمله في هذا الكتاب-

 

 

 


[1] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج14، ص206. ولاحِظ المصدر نفسه، ص133.

[2] لاحِظ: رضائي، مناهج التفسير واتّجاهاته، مصدر سابق، ص126. ويدخل في هذا المورد: الروايات المخصّصة للآيات الكريمة والمقيّدة لها، والحاكية عن الناسخ من المنسوخ منها..

[3] سورة الفاتحة، الآية 6.

 

 

125


101

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

اصطلاحٌ مأخوذٌ من قول أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)[1]. ففي هذا المثال، من الواضح أنّ الرواية بيَّنَت المصداق الأتمّ والأكمل لهذه الآية، وهو أمير المؤمنين عليّبن أبي طالب (عليه السلام)، وإن كان معناها لا ينحصر بهذا المصداق فقط»[2].

 المثال الثاني: في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ﴾[3]، يقول العلَّامة الطباطبائيّ: «على أنّ الروايات متكاثرة من طُرُق الشيعة وأهل السنّة، على أنّ الآيتَين نازلتان في أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) لَمّا تصدَّق بخاتمه وهو في الصلاة، فالآيتان خاصّتان غيرُ عامّتَين...»[4]. ففي هذا المثال، جاءت الروايات لبيان مصداق خاصّ ومحصور بأمير المؤمنين (عليه السلام)، لا ينطبق على غيره، بخلاف المثال الأوّل الذي أوضح المصداق الأكمل والأتمّ.

وعبر التتبُّع في كلماته المتفرّقة، يتّضح عدم انحصار استفادته في هذا المجال، على الأخبار المقطوع بصدورها عن المعصومين (عليهم السلام).

ثالثًا: دور السنّة في بيان تأويل الآيات

مثال ذلك في قوله تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَاد فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعاۚ﴾[5]، حيث يقول العلَّامة الطباطبائيّ: «وفي الكافي، بإسناده عن فضيل بن يسار، قال: قلتُ لأبي جعفر (عليه السلام) قول الله عزَّ وجلَّ في كتابه: ﴿وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعاۚ﴾، قال: مِنْ حَرَقٍ أو غَرَقٍ. قلتُ: مَن أخرجَها من ضلالٍ إلى هدى؟ قال: ذلك تأويلُها الأعظم: أقول: ورواه الشيخ في

 

 


[1] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص43-44. ومن أجل هذا المورد وغيره، ذكر الدكتور الشتيوى في كتابه (منهج الشيعة الاثني عشريّة في تفسير القرآن وعلومه عرض ونقد)، قاصداً العلَّامة الطباطبائيّ: "فقد ادّعى أنّه يفسّر القرآن بالقرآن، وهذه دعوى عارية عن الصحّة تمامًا... ومن الأدلّة على أنّ الطباطبائيّ يفسّر القرآن بهواه ورأيه المذموم الفاسد، ما قاله في تفسير قوله تعالى: ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ﴾ الفاتحة/6"، وبعدها ينقل الرواية عن الإمام الصادق، أنّ الصراط المستقيم هو الإمام عليّ (عليه السلام) ص59-60.

[2] للتفصيل أكثر، راجع مقالة «الجري والتطبيق القرآنيّان، قراءة أنموذجيّة روائيّة لتطبيقات القرآن على أهل البيت (عليهم السلام) وأعدائهم»، للدكتور محمّد كاظم شاكر، دراسات قرآنيّة القسم الثاني، كتاب المنهاج 13، مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1428هـ- 2007م.

[3] سورة المائدة، الآية 55.

[4] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج6، ص8.

[5] سورة المائدة، الآية 32.

 

 

126


102

ملحق 1: رؤية العلَّامة الطباطبائيّ(قدس سره) للعلاقة بين القرآن والسنّة(1)

 

أماليه والبرقيّ في المحاسن، عن فضيل، عنه (عليه السلام)، ورُوِيَ الحديث عن سماعة وحمران، عن أبي عبد الله (عليه السلام). والمراد بكون الإنقاذ من الضلالة تأويلًا أعظم للآية، كونُه تفسيرًا أدقّ لها، والتأويل كثيرًا ما كان يُستَعْمَل في صدر الإسلام مرادِفًا للتفسير...»[1].

تنبيه

في ختام هذا البحث يلزم التنبيه على أمر، وهو أنّ العلَّامة، وعلى الرغم من عدم قبوله لحجّيّة خبرِ الواحد -غير المقطوع بصدوره- في أصول الدين[2] -كالتوحيد، والنبوة، والمعاد- وفي التفسير، سوى ما استثنيناه من موارد ونظائرها[3]، إلّا أنّه في المقابل، لم يكن متساهلًا في ردّ الأخبار ما لم تكن منافيةً لأصل عقائديّ أو ظهور قرآنيّ. قال (رحمه الله)في ذيل بحثه الروائيّ فيما يرتبط بقوله تعالى: ﴿قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ﴾[4]، «أقول: والأخبار في هذه المعاني كثيرة متظافرة، وأنت إذا أجلت نظرة التأمّل والإمكان فيها، وجدتها شواهد على ما قدّمناه، وسيجيء شطرٌ من الكلام في بعضها. وإيّاك أن ترمي أمثال هذه الأحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم ومنابع الحكمة، بأنّها من اختلاقات المتصوّفة وأوهامهم! فللخلقة أسرار، وهوذا العلماء من طبقات أقوام الإنسان، لا يألون جهداً في البحث عن أسرار الطبيعة، منذ أخذ البشر في الانتشار، وكلّما لاح لهم معلومٌ واحد، بان لهم مجاهيل كثيرة، وهي عالم الطبيعة، أَضْيَق العوالم وأخسّها، فما ظنّك بما ورائها، وهي عوالم النور والسعة؟!»[5].

 

 


[1] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج6، ص329-330.

[2] تجدر الإشارة إلى أنّنا نجده في الكثير من الموارد يستشهد بالعديد من الأخبار المرتبطة بأصول المعارف الإلهيّة، والموافِقة للظهور القرآنيّ، ويتعامل معها لا كمؤيِّد فحسب، بل كحجّة في المراد. ويمكن تفسير ذلك على أساس أنّها عنده إمّا متواترة معنًى، أو محتفّةً بقرائن تفيد القطع بصدورها.

[3] كما لا يبعد القول به في روايات المعارف، التي بيَّنَت أمورًا لا تُعَدُّ من أصول الدين، وإنّما من فروع تلك الأصول، ولم تكن مخالِفةً لظهورٍ قرآنيّ أو لدليل عقليّ قطعيّ.

[4] سورة البقرة، الآية 33.

[5] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص132. ويمكن أن يُلاحَظ كذلك موقفه ممّن ينكر روايات الرجعة، فلاحِظ: العلّامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج2، ص109-110.

 

127


103

ملحق 2: في بعض ألفاظ حديث الثقلَين

ملحق 2: في بعض ألفاظ حديث الثقلَين

 

على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:

- يطلع على الألفاظ المتقاربة لحديث الثقلين الذي روي في مصادر المسلمين؛ شيعة وسنّة.

 

 

129

 


104

ملحق 2: في بعض ألفاظ حديث الثقلَين

رُوِيَ حديث الثقلين بألفاظ عديدة متقاربة، تؤدّي –بمعظمها- مضمونًا واحدًا، نقتصر منها على الآتي:

«إنّي تارك[1]: (تركت[2]/ قد تركت[3]/ خلّفت[4]/ قد خلّفت[5]/ مخلّف[6] فيكم الثقلَين (+خليفتَيَّ[7]) (ثقلَين[8]/فأسألكم عن ثقلَيَّ[9]/ خليفتَين[10]/ الخليفتَين[11]/

 

 


[1] أحمد بن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج3، ص14.

[2] البغداديّ، محمّد بن حبيب، المنمّق في أخبار قريش، صحّحه وعلّق عليه: خورشيد أحمد فاروق، كتاب آليّ صدر عن المكتبة الشاملة.

[3] الترمذي، سنن الترمذيّ، مصدر سابق، ح3786، والطبراني، المعجم الكبير، مصدر سابق، ح2615.

[4] ورد بهذا اللفظ في: الزمخشريّ، محمود بن عمر، الفايق في غريب الحديث، دار الكتب العلمية، لبنان- بيروت، 1417-1996م، ط1، ج1، باب الثاء مع القاف، مادّة (ثقل).

[5] نقله ابن الصبّاغ المالكيّ في الفصول المهمّة عن الزهريّ، حقّقه ووثّق أصوله وعلّق عليه: سامي الغريريّ، دار الحديث للطباعة والنشر، ط1، 1422هـ، المجلّد الأوّل، ص237.

[6] أخرجه: ابن عقدة، كتاب الولاية، مصدر سابق، من طريق عروة بن خارجة إلى الزهراء i، وطريق يونس بن عبد الله بن أبي فروة إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، ص218-242.

[7] القندوزيّ الحنفيّ، ينابيع المودّة، م.س، كتاب السبعين في فضائل أمير المؤمنين، ص711، ح68.

[8] صحيح مسلم، مصدر سابق، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عليّ بن أبي طالب، ح4552.

[9] ذكره بهذا اللفظ: الشيخ محمد الزرندي الحنفي، نظم درر السمطين، لا.ن، لا.م، 1377-1958م، ط1، عن زيد بن أرقم: "قال: أقبل رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) يوم حجّة الوداع، فقال: إنّي فرطكم على الحوض، وإنّكم تبعي، وإنّكم توشكون أن تَرِدُوا عَلَيَّ الحوض، فأسألكم عن ثقلَيَّ كيف خلّفتموني فيهما...".

[10] أخرجه ابن عقدة في كتاب الولاية، مصدر سابق، من طريق محمّد بن كثير، ص209، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن زيد بن ثابت، دار صادر، بيروت، ج5، ص182. وأخرجه الطبرانيّ في المعجم الكبير عن زيد بن ثابت أيضًا، ح4921.

[11] أخرجه الطبرانيّ في الكبير، مصدر سابق، من حديث زيد بن ثابت، ح4922.

 

131


105

ملحق 2: في بعض ألفاظ حديث الثقلَين

الخليفتَين مِن بعدي[1]/ أمرَين لن تضلّوا إن[2]: (إذا[3]) اتّبعتوهما/ اثنَين لن تضلّوا بعدهما أبدًا[4]/ ما لن تضلّوا بعدي إن اعتصمتم[5]/ ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا[6]: + بعدي[7]/ ما إن أخذتم بهما[8] (به[9]) لن[10] (لم[11]) تضلّوا + (من[12] بعدي) أحدهما أكبر من الآخر[13] (أحدهما أعظم من الآخر[14]/الثقل الأكبر[15]/أوّلهما[16] 


[1] أخرجه: ابن أبي شيبة الكوفي، عبد الله بن محمد، المصنف، تحقيق وتعليق: سعيد اللحام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان- بيروت، 1409-1989م، ط1، كتاب الفضائل، باب ما أعطى الله محمّدًا (صلى الله عليه وآله)، ح41، ورواه عنه ابن أبي عاصم في كتابه السنّة، ح1549.

[2] المتقي الهندي، كنز العمّال، مصدر سابق، ح950، والحاكم النيسابوريّ، أبو عبد الله، وبذيله التلخيص للحافظ الذهبيّ طبعة مزيدة بفهرس الأحاديث الشريفة، بإشراف د. يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة، بيروت – لبنان، ج3، ص110.

[3] ابن عساكر، أبو القاسم عليّ بن الحسن بن هبة الله، تاريخ مدينة دمشق، دراسة وتحقيق: علي شيري، دار الفكر، لا.ت، لا.ط، ج42، ص216.

[4] الهيثميّ، نور الدين، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تحقيق: محمّد عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت – لبنان، لا.ت، لا.ط، ج9، ص183، ح14958، والسمهوديّ، نور الدين عليّ بن عبد الله، جواهر العقدَين في فضل الشرفين، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت – لبنان، لا.ت، لا.ط، ص239. والسيوطيّ، جلال الدين، إحياء فضائل أهل البيت، ح22. جميعهم نقلوه عن مسند البزّار.

[5] نقله المتّقي الهنديّ في كنز العمّال، مصدر سابق، عن ابن أبي شيبة، والخطيب في المتّفق والمفترق من حديث جابر، ح951.

[6] أخرجه الطبرانيّ في الجامع الصغير، مصدر سابق، من طريق الحسن بن مسلم، باب الحاء/ من اسمه الحسن، ح376، وقال: لم يَرْوَ هذا الحديث عن هارون إلّا يونس.

[7] صحيح الترمذيّ، محمّد بن عيسى أبو عيسى، الجامع الصحيح سنن الترمذيّ، تحقيق: أحمد محمّد شاكر وآخرون، الأحاديث مذيّلة بأحكام الألبانيّ عليها، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت – لبنان، لا.ت، لا.ط، ج5، ص663، ح3788. قال الترمذيّ: وهذا حديث حسن غريب، قال الشيخ الألبانيّ.

[8] رواه: محمد بن سليمان الكوفي، مناقب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، إيران- قم، 1412هـ، ط1، بهذا اللفظ، بسنده إلى أبي سعيد الخدريّ، ج2، ح622.

[9] رواه الطبرانيّ في أخبار الحسن بن عليّ (عليهما السلام) عن أبي سعيد الخدريّ، ح154؛ وفي المعجم الكبير، مصدر سابق، عن جابر، ح2680؛ ورواه أبو يعلى الموصليّ في مسنده عن أبي سعيد الخدريّ، ح1102.

[10] الطبرانيّ، كما في الحاشية السابقة.

[11] أبو يعلى الموصليّ ومحمّد بن سليمان الكوفيّ، كما في الحاشيَتين 55 و56.

[12] المصدر كما في الحاشية 55.

[13] ورد هذا اللفظ في مصادر كثيرة، انظر مثلًا: السنن الكبرى للنسائيّ، مصدر سابق، ح8148 و 8446؛ والسنّة لابن أبي عاصم، ح1555؛ وفي خبر الطبرانيّ المنقول في كتاب أخبار الحسن بن عليّ (عليهما السلام)، ح154؛ والحاكم في المستدرك، مصدر سابق، ح4553.

[14] انظر مثلًا: سنن الترمذيّ، مصدر سابق، ح3876.

[15] انظر مثلًا: الشيخ الصدوق في الخصال، م.س، ح98؛ والطبرانيّ في المعجم الكبير، مصدر سابق، ح3052.

[16] انظر مثلًا: سنن النسائيّ، مصدر سابق، ح8175.

 

132


106

ملحق 2: في بعض ألفاظ حديث الثقلَين

كتاب الله (+ حبل ممدود من السماء إلى الأرض[1]/ ما بين السماء والأرض[2]/ سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم[3] + فتمسّكوا به لن تزالوا ولا تضلّوا[4]/ فيه الهدى والنور[5]. وعترتي[6] (+ أهل بيتي[7]/ وهم أهل بيتي[8] (وأهل بيتي[9]/ والأصغر عترتي[10]/ونسبي[11]/ونسبتي[12]) (+فتمسّكوا بهما لن تضلّوا[13]/ لن تضلّوا ما

 

 


[1] انظر مثلًا: الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الأوسط، قسم التحقيق بدار الحرمين، دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع، 1415-1995م، لا.ط، ح3463؛ والطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الصغير، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ح363.

[2] انظر مثلًا: الجامع الصغير للسيوطيّ، ح2631؛ والمعجم الكبير للطبرانيّ، مصدر سابق، ح2678.

[3] ذُكِرَ بأسانيد متعدّدة، انظر مثلًا: الطبراني، المعجم الكبير، مصدر سابق، عن زيد بن أرقم، ح2681؛ وعن حذيفة بن أسيد الغفاريّ، ح2683.

[4] رواه الطبرانيّ في أخبار الحسن بن عليّ عليهما السلام ح157.

[5] رُوِيَ عن زيد بن أرقم، انظر مثلًا: السنن الكبرى للنسائيّ، مصدر سابق، ح8175؛ والسنّة لابن أبي عاصم، ح1551.

[6] رواه: الصدوق، الشيخ محمد بن علي، الأمالي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية- مؤسسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، إيران - قم، 1417هـ، ط1، بهذه الصيغة: "فإنّه لا بدَّ سائلكم عمّا عملتم بالثقلَين من بعدي: كتاب الله وعترتي، فانظروا أن لا تقولوا: أمّا الكتاب فغيّرنا وحرّفنا، وأمّا العترة ففارقنا وقتلنا". الأمالي، الشيخ الصدوق، ص354؛ وابن أبي عاصم، عمرو بن أبي عاصم، السنة (ومعه ظلال الجنة بتخريج السنة بقلم محمد ناصر الدين الألباني)، المكتب الإسلامي، لبنان- بيروت، 1413-1993م، ط3، عن زيد بن ثابت، ح1548.

[7] وردتَ بلفظ "وعترتي أهل بيتي" في معظم المصادر، انظر مثلًا: السنن الكبرى للنسائيّ، مصدر سابق، حديث رقم 8148، 8464؛ والسنّة لابن أبي عاصم، ح754، 1549، 1553؛ والأمالي للشيخ الصدوق، ح686، ص500؛ وأخبار الحسن بن عليّ (عليهما السلام) للطبرانيّ، ح154، 155، 156؛ والطبقات الكبرى لابن سعد، ج2، ص194.

[8] ذكره القندوزيّ الحنفيّ في ينابيع المودّة، مصدر سابق، في كتاب "السبعين في فضائل أمير المؤمنين"، ح68.

[9] انظر مثلًا: المستدرك للحاكم النيسابوريّ، مصدر سابق، ح4765؛ والمعجم الكبير للطبرانيّ، مصدر سابق، ح4921.

[10] انظر مثلًا: المعجم الكبير للطبرانيّ، مصدر سابق، ح2681.

[11] نقله الحافظ نور الدين الهيثميّ في مجمع الزوائد، عن البزّار بلفظ (ونسبي). انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تحقيق: محمّد عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت – لبنان، لا.ت، لا.ط، ج9، ص183، ح14958؛ ونقله السمهوديّ الشافعيّ كذلك في جواهر العقدين باللفظ نفسه (ونسبي)، انظر: جواهر العقدَين في فضل الشرفَين، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت – لبنان، لا.ت، لا.ط، ص239.

[12] نقله السيوطيّ في إحياء فضائل أهل البيت عن البزّار بلفظ (ونسبتي)، انظر: إحياء فضائل أهل البيت، ح22. وعلى ضوء ما ورد من نقل السيوطيّ والسمهوديّ والهيثميّ، يتّضح أنّ ما ورد في بعض نسخ مسند البزّار من لفظ (وسنّتي) بعيدٌ جدًّا.

[13] الخزّاز القمّيّ الرازيّ، أبو القاسم عليّ بن محمّد بن عليّ، حقّقه السيّد عبد اللطيف الحسينيّ الكوه كمرى الخوئيّ، انتشارات بيدار، لا.ت، لا.ط، ص265.

 

 

133


107

ملحق 2: في بعض ألفاظ حديث الثقلَين

استمسكتم بهما[1]/ وإنّكم لن تضلّوا بعدهما[2]) وإنّ اللطيف الخبير (قد[3]) نبّأني[4] (قد أنبأني[5] /قد وعدني[6]/ عهد إليّ[7]/أخبرني[8]/ خبّرني[9]). أنّهما لن يتفرّقا[10] (يفترقا[11]) حتّى يَرِدَا عَلَيَّ الحوض (+كهاتَين (وأشار بإصبَعيه المسبّحتَين) ولا أقول كهاتَين (المسبّحة والوسطى)[12] / وإنّي قد سألتُ لهما اللطيف الخبير، فأعطاني أن يَرِدَا عَلَيَّ الحوض كهاتَين -وأشار بالمسبّحتَين-، ناصِرُهما لي ناصِر، وخاذِلهما لي

 

[1] رواه الحافظ بن عقدة في كتاب الولاية، مصدر سابق، ضمن حديث المناشدة، ص175؛ ورواه عنه ابن المغازليّ في كتابه "مناقب عليّ"، ح155.

[2] انظر مثلًا: إحياء فضائل أهل البيت للسيوطيّ، ح23، نقلًا عن البزّار.

[3] انظر مثلًا: النعمانيّ، محمّد بن إبراهيم، الغيبة، تحقيق: فارس حسّون كريم، منشورات أنوار الهدى، إيران – قمّ، ط1، 1422ه‍.ق، ج1، ص48؛ وابن عساكر، أبو القاسم عليّ بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت – لبنان، لا.ت، لا.ط، ج23، تتمّة حرف العين (عليّ بن أحمد بن إبراهيم – عليّ أبو الحسن)، ص369.

[4] انظر مثلًا: المعجم الكبير للطبرانيّ، مصدر سابق، ح4971.

[5] نقله القندوزيّ الحنفيّ في ينابيع المودّة، مصدر سابق، ج3، ص142.

[6] رواه الدارقطنيّ في المؤتلف والمختلف، مصدر سابق، عن أبي ذرّ الغفاريّ (رضوان الله عليه)، باب رُسْتُم ورَسِيم، فصل مُحمَّد بن رُسْتُم أبو الصَّامت الضَّبيّ.

[7] رواه الشيخ الكلينيّ في الكافي، مصدر سابق، عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، باب أدنى ما يكون العبد به مؤمنًا أو كافرًا أو ضالًا، ح1، ج2، ص415.

[8] انظر مثلًا: ابن سعد، محمّد، الطبقات الكبرى، دراسة وتحقيق: عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت – لبنان، ط1، ج2، ص150؛ وفضائل أهل البيت للإمام أحمد، ح433؛ وهو في المسند برقم 11147؛ وكمال الدين وتمام النعمة، باب اتّصال الوصيّة من لدن آدم (عليه السلام) وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله عزَّ وجلَّ على خلقه إلى يوم القيامة، ح46.

[9] نقله المتقيّ الهنديّ في كنز العمّال، مصدر سابق، عن الطبقات الكبرى لابن سعد، والمسند للإمام أحمد، مصدر سابق، ومسند أبي يعلى الموصليّ، ومسند ابن أبي شيبة، برواية أبي سعيد الخدريّ.

[10] انظر مثلًا: سنن النسائي، مصدر سابق، ح8148 و 8464؛ عن زيد بن أرقم، والسنة لابن أبي عاصم، ح754 و1549؛ عن زيد بن ثابت و1553 عن أبي سعيد الخدريّ، والمستدرك للحاكم، مصدر سابق، ح4578 و 4765؛ عن زيد بن أرقم، والمعجم الكبير للطبرانيّ، مصدر سابق، ح4922 و4923؛ عن زيد بن ثابت، و 4832 عن زيد بن أرقم.

[11] انظر مثلًا: المعجم الكبير للطبرانيّ، مصدر سابق، ح2678 و 2679؛ عن أبي سعيد الخدريّ، و2681 عن زيد بن أرقم؛ والأمالي للشيخ الطوسيّ، المجلس التاسع، ح52، ومجلس يوم الجمعة السادس والعشرين من المحرّم سنة سبع وخمسين وأربعمئة، ح4.

[12] سليم بن قيس الهلالي الكوفي، كتاب سليم بن قيس، تحقيق: محمّد باقر الأنصاري الزنجاني، إيران- قم، نشر دليل ما، 1422هـ- 1380ش، ط1، ص178.

 

 

134


108

ملحق 2: في بعض ألفاظ حديث الثقلَين

خاذِل، وليُّهما لي وليّ، وعدوّهما لي عدوّ[1]/ وَسَأَلْتُهُ ذَلِكَ لَهُمَا[2]/ نبّأني العليم[3] (اللطيف[4]) الخبير أنّهما لن ينقضيا حتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحوض/ فإنّهما لن يزالا جميعًا[5] (جمعًا[6]) حتّى يَرِدَا عَلَيَّ الحوض/ سألت اللهَ أن لا يفرّق بينهما حتّى يوردهما عَلَيَّ الحوض، فأعطاني ذلك[7]/ فتعلّموا منهم، ولا تعلّموهم، فإنّهم أعلم منكم[8]) (+ فانظروا كيف تخلّفوني فيهما[9]/ فانظروا بِمَ[10] (ماذا[11]/ بماذا[12]) تخلّفوني فيهما/ فانظروا كيف تلحقوا بي فيهما[13] / والله سائلكم كيف خلّفتموني في كتاب الله وأهل بيتي[14] /سألتُ ذلك لهما ربّي[15]/ سألت لهما ذاك ربّي[16]/ وسألت ذلك لهما فأعطاني[17]/ سألت الله ربّي لهم ذلك، فأعطاني، فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا

 

[1] ابن عقدة في كتاب الولاية، مصدر سابق، ص222.

[2] أخرجه الحافظ بن عقدة في كتاب الولاية، مصدر سابق، من طريق محمّد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جدّه أبي رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ص224.

[3] ابن مخلّد القرطبيّ، بقيّ، ما رُوِيَ في حوض الكوثر، ما روى حذيفة بن أسيد، ح16.

[4] رواه الطبرانيّ في المعجم الكبير، مصدر سابق، ح2683 و3052.

[5] الصدوق، محمّد بن عليّ بن الحسين بن باوبويه، كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، باب (اتّصال الوصيّة من لدن آدم (عليه السلام) وأنّ الارض لا تخلو من حجّة)، ح56.

[6] أورده ابن الجوزيّ في كتابه "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية"، دار الكتب العلميّة، بيروت، ج1، ص269،..

[7] رواه الحاكم الحسكانيّ في شواهد التنزيل، مصدر سابق، بإسناده عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى:

﴿أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ﴾ ح203 بلفظ "أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي إنّي سألتُ الله أن لا يفرّق بينهما".

[8] روى هذه الزبادة في ينابيع المودّة عن كتاب "المناقب" عن الإمام الحسن (عليه السلام)، عن جدّه (صلى الله عليه وآله)، الباب الثالث في بيان أنّ دوام الدنيا بدوام أهل بيته (عليهم السلام)، وبيان أنّهم سببٌ لنزول المطر والنعمة وبيان فضائلهم، ح9.

[9] انظر مثلًا: المستدرك للحاكم النيسابوريّ، مصدر سابق، كِتَابُ مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ، مَنَاقِبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ح4553.

[10] أخرجه أحمد في مسنده، مصدر سابق، ح11131.

[11] رواه ابن المغازليّ في "مناقب عليّ"، مصدر سابق، ح282.

[12] رواه الشيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، باب "اتّصال الوصيّة من لدن آدم (عليه السلام) وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة"، ح46.

[13] رواه الترمذيّ في سننه، مصدر سابق، ح3788، وقال: "هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ".

[14] ابن عقدة في كتاب الولاية، مصدر سابق، ص159.

[15] الطبرانيّ في المعجم الكبير، مصدر سابق، ح4971.

[16] المصدر نفسه، ح2615.

[17] رواه ابن عقدة في كتاب الولاية، مصدر سابق، من طريق سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن عليّ (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ص159.

 

135


109

ملحق 2: في بعض ألفاظ حديث الثقلَين

تعلّموهم فهم أعلم منكم[1]/ فتمسّكوا بهما ولا تقدّموهما فتضلّوا[2]/ فإنّي قد سألتُ لهم اللطيف الخبير فأعطاني[3]/ فلا تتقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا، وَلَا تَعْلّمُوهُمَا فَهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ[4] / فلا تقدّموهما لتهلكوا، ولا تعلّموهما فإنّهما أعلم منكم[5]».

 


[1] ابن عقدة في كتاب الولاية، مصدر سابق، ص233.

[2] تقدّم عن الكافيّ، الشيخ الكلينيّ في الكافيّ، مصدر سابق، عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، باب أدنى ما يكون العبد به مؤمنًا أو كافرًا أو ضالًا، ح1، ج2، ص415.

[3] مناقب عليّ (عليه السلام) لابن المغازليّ، مصدر سابق، ح23، قوله (صلى الله عليه وآله): "مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه".

[4] ذكره الحافظ نور الدين الهيثميّ في مجمع الزوائد، مصدر سابق، ح14963.

[5] الطبرانيّ في المعجم الكبير، مصدر سابق، ح4971.

 

136


110
دروس في العلاقة بين القرآن والسنّة