فلسفة الأخلاق

الشهيد الشيخ مرتضى مطهّريّ


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2023-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق


المقدّمة

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إنّما بُعثتُ لأتمِّم مكارمَ الأخلاق»[1].

يحتلّ الإنسان مكانةً متميّزةً في سلَّم الكائنات ومراتب المخلوقات، وهو موجود مركّب من جوهرين؛ الأوّل مادّيّ وهو الجسد، والثاني غير مادّيّ وهو النفس والروح. وهما متلازمان مترابطان في الحياة الدنيا، وينفكّان عند الموت؛ فيبقى الجسد في عالمه المادّيّ الّذي ينتمي إليه، ليتفسّخ ويتحلّل، بينما تعود الروح إلى بارئها؛ إذ يتوفّاها الله تعالى، فلا تنعدم.

فالنفس هي حقيقة هذا الإنسان، الّتي يُعبَّر عنها بـ «أنا»، وهي الّتي تقف بين يدي الله تعالى للحساب على التكاليف الّتي أُسنِدَت إليها في عالم الدنيا. وهذه النفس الإنسانيّة لها قابليّتان؛ الأولى إيجابيّة تسير بها في طريق الصلاح والهداية، والثانية سلبيّة تدفعها إلى الانحراف والضلال، يقول تعالى: ﴿وَنَفۡس وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾[2]؛ لذا فإنّ هذه النفس تحتاج بشكلٍ دائمٍ إلى

 


[1] الطبرسيّ، الشيخ الحسن بن الفضل‏، مكارم الأخلاق‏، انتشارات الشريف الرضيّ‏، إيران - قمّ، 1412هـ، ط4، ص8.

[2] سورة الشمس، الآيات 7 - 10.

 

12


1

المقدّمة

غذاءٍ سليم، ورعاية صحيحة، وحمايةٍ من العلل والأمراض، ضمن شروط واضحة وظروف مناسبة؛ كي تسير في سلَّم الكمال الإنسانيّ، وتصل إلى السعادة الأبديّة الدائمة.

وإنّ أبرز ما يتكفّل صلاحها وعلاجها، ويضمن نجاتها من الشقاء، وعدمَ تحوّلها إلى نفسٍ بالسوء أمّارة، هو الأخلاق؛ لذا حَريّ بالإنسان الّذي كرّمه الله أن يُقدِم على ما يليق به من الأفعال، ليسلك دروب الحياة بطمأنينةٍ وبصيرة. يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله): «الأخلاق هي الموجّه للحركات والنشاطات الفرديّة والاجتماعيّة كلّها، وهي حاجة أساسيّة للمجتمع، ووجودها يجعل من أجواء الحياة جنّة، حتّى مع وجود النواقص المادّيّة، وعدم وجودها يجعل الحياة جحيماً، حتّى مع التمتّع بالإمكانيّات المادّيّة»[1].

في الختام، إنّ الشيخ الشهيد مرتضى مطهّري، كان عالِماً ربّانيّاً، أظهر الوجه المشرق للفكر الإسلاميّ الأصيل في شتّى المعارف، وكان له دور بارز وفعّال ومتميّز في إيصال النظريّة القرآنيّة واضحةً بيّنةً للأجيال المعاصرة. وإنّ كتابه «فسلفة الأخلاق» كتابٌ متميّزٌ، يبيّن فيه المعياريّة الأخلاقيّة الّتي تميّز الفعل الأخلاقيّ من الفعل الطبيعيّ، عبر عرض جملة من النظريّات المفسِّرة للفعل الأخلاقيّ، شرحاً ونقداً وتقويماً واستنتاجاً، مؤكِّداً ضرورة معرفة النفس الإنسانيّة، باعتبار أنّ أساس جميع القيم الخلقيّة هو الإحساس بالكرامة والشرف والقدرة والعظمة والعزّة، وهي الّتي تشكّل الذات الواقعيّة للإنسان... إنّه من الكتب المهمّة في دراسة فلسفة الأخلاق، يجد فيه القارئ غنىً في الطرح وعمقاً في المعالجة والنقد.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 


[1] من بيان الإمام الخامنئيّ (دام ظله) الموجَّه إلى الشباب، بتاريخ 11/02/2019م.

 

13


2

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

ما الأخلاق؟

ما معنى «أخلاقيّة» فعلٍ ما؟ وكيف يتّصف عمل الإنسان بـ«الأخلاقيّة»؟

قد يبدو هذا السؤال ساذجاً إلى حدٍّ كبير، والجواب عنه سهل يسير، لكن بالتعمّق والتدقيق فيه، سوف نرى أنّ الجواب عنه -فضلاً عن كونه ليس سهلاً كما يبدو- من أصعب مسائل الفلسفة البشريّة، وأكثرها إثارة للإشكال.

منذ آلاف السنين وإلى اليوم، لم تتّفق نظريّات فلاسفة العالَم على رأي واحد بما يخصّ هذا الموضوع.

ونحن قبل أن نُبيِّن مَلَاك[1] «الأخلاقيّة» ومناطها[2] في المدارس والمذاهب المتعدّدة، وقبل ذكر ما قاله «أفلاطون» (Plato)[3] ، و«أرسطو» (Aristotle)[4] ، و«أبيقور» (Epicurus)[5] 

 


[1] مَلاكُ (ومِلاك) الأمر: قوَامُه وخلاصته أو عُنصُره الأساسيّ.

[2] المناط: موضع التعليق. ومناط الحكم: علّته.

[3]  أفلاطون - Plato: فيلسوف يونانيّ، يُعدّ أعظم فيلسوف في العصور القديمة، وربّما في الأزمنة قاطبة. وُلد بُعيد وفاة بريكليس «Pericles» -سياسي وعسكريّ ورجل دولة وخطيب- نحو العام 427 ق.م، وهو تلميذ سقراط «Socrates»، من آثاره: «الجمهوريّة»، «القوانين» و«السياسيّ».

[4]  أرسطو - Aristotle: من أعاظم الفلاسفة، وُلد في «أسطاغيرا مقدونيا»، «ستافروا» اليوم، وهي مدينة صغيرة في شبه الجزيرة «الخلقيديّة»، وكان مولده في العام 384ق.م، وتُوفّي في خلقيس سنة 322.

[5]  أبيقور - Epicurus: فيلسوف يونانيّ، وُلد في «ساموس» سنة 341 ق.م، وتُوفّي في أثينا سنة 271 أو 270، وهو من أبرز مفكّري العصور القديمة. تتلمذ برهة من الزمن على أبيه، ثمّ ارتحل إلى بلدة «نايوس» ليدرس عند «نوزيفانس» -فيلسوف يوناني من المدرسة الذريّة- تلميذ «ديموقريطس» (Democritus).

 

16


3

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

و«الغزّاليّ»[1]، وفلاسفة أوروبّا في العصر الحديث، نذكر أمثلة واضحة وجليَّة للأفعال «الأخلاقيّة»، ثمّ نعطف عنان القلم نحو الشرح والتفسير؛ لأنَّه ليس صواباً شرح آراء الفلاسفة ونظريّاتهم قبل اتّضاح موارد «الفعل الأخلاقيّ». وقبل عرض هذه الأمثلة، لا بدَّ من التعرّض لِمَا يوضّح لنا أهمِّيّة هذا الموضوع.

ما الفرق بين الأفعال الأخلاقيّة وغيرها؟

ثمّة نوعٌ من أفعال الإنسان يُطلَق عليها «الأفعال الأخلاقيّة» أو «السلوك الأخلاقيّ»، ويقابلها الأفعال العاديّة والطبيعيّة. والفرق بين «الفعل الأخلاقيّ» وغيره، أنّ «الفعل الأخلاقيّ» جدير بالثناء والشكر، والبشر ينظرون إليه بعين الرضى والإعجاب، والقيمة الّتي يمنحها البشر لهذا الفعل ليست من نوع القيمة الّتي تُعطى للعامل إزاء عامله؛ لأنَّ العامِل يوجد لعمله قيمةً مادِّيّة، ومن ثمّ يكون مستحقّاً لمبلغ من المال أو لعَيْنٍ مقابل ذلك العمل. أمّا «الفعل الأخلاقيّ»، فله «قيمة» تفوق هذه القِيَم، فهو أعلى من أن يُقيَّم بالمال أو الأشياء المادِّيّة، مثلاً:

حينما يجعل الجنديّ روحه فداءً للآخرين، فإنَّ لعمله هذا قيمة، لكنَّها ليست من نوع «القِيَم المادِّيَّة». نحن -أيضاً- نقول: عملُ ذلك العامِل يُعادل 25 توماناً[2]، وعملُ ذلك البنَّاء يعادل 80 توماناً، وعملُ ذلك المهندس يساوي 100 تومان، أو العمل الكذائيّ يساوي 500 تومان أو 1000. هذا في ما يخصّ الأعمال العاديَّة.

أمَّا الأفعال الأخلاقيّة، فهي تملك قيمة أعلى ولها أهمِّيّة أكبر، قيمة لا يُدركها الذهن

 

 


[1]  أبو حامد بن محمّد، يُلقّب بحجّة الإسلام، وهو عَلَم في الفقه والحكمة وسائر العلوم الأخرى. وُلد في «طوس» في خراسان سنة 1059م/ 450هـ، ومات فيها سنة 1111م/ 501هـ. درس في مدينة «نيسابور» وأخذ عن المتكلّم والفقيه المشهور «الجويني» الملقّب بإمام الحرمين. من آثاره: «المنقذ من الضلال»، «إحياء علوم الدين» و«تهافت الفلاسفة».

[2]  التومان: كانت العملة الرسميّة في إيران حتّى العام 1932م.

 

17


4

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

البشريّ؛ ولأنَّ أنواع القِيَم متفاوتة، فنحن حتّى لو أخذنا بأعلى المقاييس، فلن نتمكّن من قياس «القيمة الأخلاقيّة» بالمقاييس المادِّيّة؛ فالأعمال العظيمة الّتي قام بها الإمام عليّ (عليه السلام) غير قابلة لأنْ تُثَمَّن بكذا مليون أو مليار من الدولارات؛ إنَّ لها قيمة أخرى تختلف كلِّيّاً عن القيمة المادِّيّة.

بعد ثبوت التفاوت بين القِيَم، يطرح هذا السؤال نفسه، وهو: كيف نُحلِّل هذه القِيَم ونُفسّرها؟ وبأيّ معيارٍ يجري تفسير حقيقة هذه القِيَم المعنويّة لسلوك البشر الأخلاقيّ واستجلاؤها[1]؟ وهل جميع المدارس والفلسفات قادرة على ذلك؟ أو إنّها كلّها عاجزة عن ذلك؟

لستُ الآن بصدد بسط الكلام في هذه المطلب، وإنَّما قصدتُ إعدادَكم ذهنيّاً لِمَا نحن بصدده؛ لتكون لديكم صورة إجماليّة عن طبيعة الموضوع المطروق.

جملة من المدارس الفلسفيّة غير قادرة على طرح مثل هذا التفسير، وقِسمٌ منها يُصرّح بالإنكار، ويقول:

«الأخلاق» كلمة لا معنى لها ولا رصيد، و«الفعل الأخلاقيّ» مسبَّبٌ عن سذاجة الإنسان، والإنسان العاقل لا يسعى إلى ذلك، ولا يطلبه حثيثاً، بل يحثّ الخطى وراء الملذّات والشهوات؛ ذلك أنّه لا يوجد في هذا العالَم سوى اللذّة والمنفعة. من حسن الحظّ، أن يعترف هؤلاء ويقولوا: إنَّ هذا هو معتقد مدرستنا وحقيقة مذهبنا، وإلَّا فإنَّ بعض أصحاب المدارس -على الرغم من أنّ فكرها وفلسفتها يوصلان إلى هذه النتيجة نفسها- لا يعترفون بها، بل يقولون بالعكس، يقولون: نحن نعتقد بالقيم الأخلاقيّة، ونعترف ونقول بقيمة «الإنسانيّة».

على كلّ حال، سوف نشير إلى هذا المعنى في البحوث المقبلة.

 


[1]  استجلاء الأمور: توضيحها وتبيانها.

 

18


5

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

نماذج من الأفعال الأخلاقيّة

1. العفو والتجاوز

الخطأ أو الجنحة[1] الّتي يرتكبها الشخص، نوعان:

أ. خطأ مرتبط بذلك الشخص فحسب، مثل: الغيبة[2] والتهمة[3]، حيث تصدران من المغتاب والمتَّهِم؛ إذ ليس لذلك ارتباط بحقّ المجتمع العامّ.

ب. خطأ يرتبط جانب منه بذلك الشخص، ويرتبط جانبه الآخر بالمجتمع، فله جنبتان: فرديّة واجتماعيّة؛ وذلك كالقاتل الّذي يقتل إنساناً، إذ له جنبتان: جنبة مرتبطة بالمجتمع، وجنبة مرتبطة بالفرد.

وفي الحالتَين، يستطيع صاحب الحقّ المجنيّ عليه التجاوز عن حقّه، والإغماض عنه؛ يعني إذا طلب القاتلُ العفوَ، ومنحه أصحابُ الحقّ (أب المقتول وأمّه أو ابنه) عفوهم، أو يتجاوز ويعفو المكذوب عليه والمتَّهَم بهتاناً[4] عن ظلمه، فهذا عمل أخلاقيّ، ويُعَدّ من الأعمال الشجاعة؛ إذ إنَّه يفوق العمل العاديّ.

قال الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في حديث شريف: «يَا عَلِيّ، ثَلَاثُ خِصَالٍ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ: تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ»[5].

2. عرفان الإحسان والوفاء

رَدَّة فعل الإنسان المحسَن إليه تجاه المحسِن، يمكن أن تكون أحد نوعَين: فبعض هؤلاء الأشخاص نراهم لا يعتنون بمَن أَحسَن إليهم، وينسونهم بمجرَّد أن يستوفوا غرضهم من

 


[1] الجنحة: الإثم والخطيئة والذنب.

[2]  الغيبة: الْحديثُ عَنْ إِنسْانٍ في غَيبْتَهِ، بذِكْرِ عيُوُبهِ وَمَسَاوِئهِ، وَبمِاَ يكْرهَهُ وَيسُوؤه ذكْرهُ.

[3]  التهمة: مَا يتّهَمُ بهِ المرْءُ مِنْ فعْلٍ إلىَ أنْ يثَبْتَ اتِّهاَمه أُوْ برَاَءتهُ.

[4]  البهتان: الكَذِبِ وَالافْتِرَاءِ، اِخْتِلاَقُ الكَذِبِ.

[5]  الصدوق، محمّد بن عليّ بن بابويه، ‏الخصال‏، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر غفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ، إيران - قمّ، 1403هـ، ط1، ص125.

 

20


6

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

أدلى بقبّعته صاحب الدِين الحَسَن

                                          جعل ذلك كالحبل وربط بيده

ولأجل خدمة الكلب شدَّ وسطه ومدَّ يده

                                         ثمَّ سقى الكلب المسكين قليلاً من الماء بكفَّيه

أخبر الرسول عن حالِ ذلك الرجل

                                            وأنّ الإله الحاكم غفر له ذنبه

إنْ كنت ظالِماً، ففكِّر وتأمَّل

                                           وكن ذا وفاءٍ وكرم

إذا قابَل الله الإحسان للكلب بالثواب ولم يُضيِّعه

                                         فكيف يضيع عنده تعالى الإحسان للرجل الصالح؟

فعليك بالإحسان ما استطعتَ إليه سبيلاً

                                         فإنَّ الإله لا يغلق باب الخيرِ في وجهِ أحدٍ

وإنْ أنتَ لم تحفر بئراً في الصحراء

                                         فضع في المعبدِ سراجاً منيراً يُستضاءُ به

قصّة «سَرِيّ السَقَطِيّ»[1]

يقول سَرِيُّ السَقَطِيُّ -وهو أحد العرفاء-:

ثلاثون عاماً وأنا أستغفر؛ لأنّي شكرتُ اللهَ مرّة واحدة. قيل له: كيف ذلك؟ قال: كان لي دكّان في سوق بغداد، وقد أخبروني بأنّ حريقاً نشب في ذلك السوق، فذهبتُ مسرعاً لأرى،

 


[1]  أبو الحسن السَّريّ بن مُغَلَّس السَّقَطِيّ: من مشاهير صوفيّة بغداد وعرفائها، ومن كبار رجال الطريقة، وهو تلميذ بشر الحافي وصاحبه، ومرشد ابن الجنيد البغداديّ، وخاله أيضاً. تُنسَب إليه الكثير من الأقوال العرفانيّة والحكميّة. تُوفّي العام 245 أو 250 أو 251 أو 253 أو 257 هجريّ.

 

21


7

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

هل احترق دكّاني أو لا؟ أخبرني أحدهم بأنّه لم يحترق، وأنّ الحريق بعيد عن دكّاني، فقلتُ: الحمد لله! في ما بعد، حدّثتُ نفسي وقلت: أنتَ لم تكن وحدك في الدنيا، وقد احترق عددٌ مِنَ الدكاكين! فإذا لم يحترق دكّانك، فلا ريب في أنّ دكّان غيرك قد احترق، فمعنى قولك: الحمد لله، هو: الحمد لله أنْ لم يحترق دكّاني واحترق دكّان غيري؛ يعني قد رضيت بهذه النتيجة. فقلت في نفسي: سَرِيّ! أَوَلَا تهتمُّ بالمسلمين؟! [إشارة لحديث الرسول(صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَصْبَحَ لَا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ بِمُسْلِم‏»[1]]. وقد مضت الآن ثلاثون سنة، وأنا أستغفر من قولي: الحمد لله!

دعاء مكارم الأخلاق

«الصحيفة السجّاديّة» مجموعة من الأدعية المعتبَرَة جدّاً، مضموناً وسنداً، وهي من بركات الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين(عليهما السلام). وقد اهتمَّ علماء الشيعة -وما زالوا- منذ ذلك الوقت إلى الآن بهذه الصحيفة، وهي وحدها الّتي وصلت إلى أيدينا بصورة كتاب -بعد القرآن- من أواخر القرن الأوّل الهجريّ وأوائل القرن الثاني.

«نهج البلاغة» أيضاً كتاب، إلّا أنّ خطب الإمام عليّ (عليه السلام) وحِكَمَه، كانت متفرّقة بين الناس، ثمّ جَمَعَها السيّد «الرضيّ» في القرن الرابع، وأخرَجَها في صورة كتاب. وقد كانت توجد مجموعة من الكتب أقدم عهداً من كتاب «الكافي»، لكنّها لم تصل إلينا، مثل مصحف فاطمة(عليها السلام)، وكتاب عليّ (عليه السلام)، وقد ذكر بعض الأئمّة (عليهم السلام) ذلك.

باستثناء هذه الكتب، تُعَدّ «الصحيفة السجّاديّة» أقدم كتاب شيعيّ وصل إلينا بصورة كتاب، وقد كانت عند زَيد بن عليّ بن الحسين(عليهما السلام) حينما كان يحارب بني أُميَّة، حيث استشهد إثر ذلك، وقد أودعها آنذاك رجلاً؛ وهذا مذكورٌ في أوّل «الصحيفة السجّاديّة».

 


[1]  الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفّاري، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1407هـ، ط4، ج2، ص163.

 

22


8

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

وكيف كان، فدعاء «مكارم الأخلاق» أحد أدعيتها، وقد ورد هذا التعبير في رواية نبويّة رواها أهل السُّنَّة، وهي قوله(صلى الله عليه وآله): «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاق‏»[1]. والتعبير الوارد في رواية الشيعة هو «عَلَيْكُمْ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنَّ رَبِّي بَعَثَنِي بِهَا...»[2]. ويُحتَمَل أن يكون كِلَا التعبيرَين صَدَرا عن لسان الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في مقامَين مختلفَين؛ وعلى كلّ حال فالمضمون واحد. ويُحتَمَل أن يكون الوجه في إطلاق اسم «مكارم الأخلاق» على هذا الدعاء، هو ما ورد في إحدى فقراته، وهي فقرة «وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الأَخْلَاقِ».

يُعَدّ «مكارم الأخلاق» من أفضل النماذج وأحسنها الّتي تُعرِّف بـ«مدرسة الإسلام الأخلاقيّة»، وقد كانت إحدى أمنيّاتي منذ سنين، أن أُوَفَّق لشرح هذا الدعاء وترجمته إلى الفارسيّة، وأن أشرح كلّ ما ورد فيه من نكات[3] فلسفيّة، وأقدّم ذلك خدمةً للناطقين باللغة الفارسيّة. آمل منه تعالى أن يلحظني بعنايةٍ ببركة الوجود المقدَّس لعليّ بن الحسين(عليهما السلام)، ويوفّقني لذلك. ولكن، من المناسب هنا أن أشير إلى فقرات من هذا الدعاء، ترشدنا إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في الإسلام، ولا شكّ في أنّ الإمام السجّاد (عليه السلام) نفسه مستجمِعٌ لتلك الفضائل الإنسانيّة، لكنَّه يريد منَّا أن نكون كما يحبّ، وأن نَرقى إليه.

«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَسَدِّدْنِي لأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وَأُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إِلَى حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكُرَ الْحَسَنَةَ، وَأُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ»[4].

أليست هذه أفكاراً جديرة بأعلى مراتب التقدير؟ أليس لها قيمة؟ وما نوع قيمتها؟

 

 


[1]  الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق‏، مصدر سابق، ص8.

[2]  الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن حسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)، إيران - قمّ، 1409هـ، ط1، ج‏12، ص174.

[3] نكات: أَيْ مَسائل فِيهَا إِمْعَانٌ وَنَظَرٌ وَفِكْرٌ.

[4]  الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، نشر الهادي، إيران - قمّ، 1418هـ، ط1، ص94.

 

23


9

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

هل الإنسان الّذي يحمل هذه الروح السامية -في نظرنا- صاحب قلب كبير طاهر، سواء كنّا راغبين في ما سأل أم لا، وسواء كنّا عاملين بهذه الخصال أم لا؟

أين يكمن سرّ هذه الأخلاقيّة والرغبات والأفكار؟

يقول الخواجة عبد الله الأنصاريّ[1]، وقوله يُنبئ عن مكانته:

«مقابلةُ الإساءةِ بمثلها شأنُ الكلبِ، ومقابلةُ الإحسانِ بمثله شأنُ الحمارِ».

فإذا أساء إنسانٌ لآخر، فمقابلتُه بمثلها ديدنُ[2] الكلاب؛ لأنَّها تعضّ بعضها بعضاً، كما أنّه ليس فضلاً أن يقابل الرجلُ إحسانَ الآخرين بمثله؛ لأنَّه حتّى الحمير تفعل ذلك، ولا أدري إن كنتم رأيتم ذلك أو لا، لكنّ كلّ قرويٍّ مثلي يرى ذلك؛ فإذا ما لامس حمارٌ وَجْهَ آخر، بادر الآخرُ إلى ذلك.

نعم، مقابلة الإساءة بالإحسان شأن عبد الله الأنصاريّ، وفي هذا الأُفق نقرأ شعراً للإمام عليّ (عليه السلام) في الديوان المنسوب إليه:

وذي سَفَهٍ يواجهني بجهلٍ

                                         وأَكرَهُ أن أكونَ لهُ مُجيباً

يَزيدُ سفاهةً وأَزيدُ حِلْماً

                                         كَعُودٍ زادَهُ الإحراقُ طِيباً

نعم، إنَّه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، صاحب الصدر الرحب والخُلُق الرفيع. ثمّ إنَّه ليس المراد بالسفيه: «المجنون»، فإنَّه لا لوم عليه؛ بل يُرادُ به مَن يفتقد الرشد الفكريّ؛ وإلّا لو كان ذا رشد، لكان لعلمِه السيّئ جنبةٌ اجتماعيّة، فلا مجال للعفو والصفح.

 

 


[1]  شيخ الإسلام أبو إسماعيل بن محمّد الهرويّ، عالِم وعارف مشهور، عاش في الفترة 396 - 481هـ، وهو من أعقاب أبي أيّوب الأنصاريّ الصحابيّ المعروف. وُلِدَ في «هرات»، كان قويّ اللسان ذا ذوق جيّد، وكان يجيد إنشاد الشعر. كتبه: المناجاة، النصائح، الإلهيّات. نقلاً عن (الثقافة الفارسيّة)، ج5، ص115 للدكتور محمّد معين.

[2]  ديدن: «هَذا مِنْ دَيْدَنِهِ»: مِنْ عادَتِهِ، مِنْ دَأْبِهِ.

 

 

24


10

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

السوقيّ ومالك الأشتر

وتلمس هذا مجسّداً في سيرة تلميذ الإمام عليّ (عليه السلام) «مالك الأشتر»؛ فقد ذكروا أنّه كان ذات يوم مجتازاً بسوق الكوفة، وعليه قميص خام وعِمامة منه، فرآه بعض الباعة، فأزْرَى بِزيِّه ورماه ببندقةٍ إهانةً له، فمضى «مالِك» ولم يلتفت إليه، فقيل للبائع: وَيلَك! أَتَعرِفُ مَنْ رَمَيْتَ؟ فقال: لا، فقيل له: هذا «مالِك» صاحبُ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فارتعد الرجل وهرول ليعتذر إليه، فرآه قد دخل مسجداً وهو قائمٌ يُصلِّي، فلمّا انفتل من صلاته، انكبَّ الرجلُ على قدمَيه يُقبّلهما، فقال «مالك»: ما الأمر؟ قال: أعتذر إليك ممّا صنعت. فقال: لا بأس عليك، فوالله، ما دخلتُ المسجدَ إلّا لِأستغفِرَنّ لك[1].

الإمام الحسين (عليه السلام) والشاميّ

الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) كانوا قمّة شامخة في الخُلُق، والكتب مشحونة بما يدلّ على ذلك، ومنها حكاية رجل من أهل الشام يُدعى «عصام بن المُصْطَلقِ»، وردَ المدينة فرأى رجلاً ذا جلال وهيبة[2]، فلفت نظره، فسأل عنه، فقيل: هو الحسين بن عليّ بن أبي طالب، يقول عصام: فأثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البُغض[3]، فقلت له: أنت ابن أبي تراب؟ فقال (عليه السلام): «نَعَمْ».

[قال الراوي:] فبالغتُ في شتمه وشتمِ أبيه، فنظر إليَّ نظرة عاطف رؤوف، ثمّ قال:

 


[1]  ورّام بن أبي فراس، مسعود بن عيسى‏، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر المعروف بمجموعة ورّام‏، مكتبة الفقيه‏، إيران - قمّ، 1410هـ، ط1، ج1، ص2. القمّيّ، الشيخ عبّاس‏، سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، دار الأسوة، إيران - قمّ، 1414هـ، ط1، ج4، ص382.

[2]  وأنا إذ أقول هذا وأصفه (عليه السلام) بالهيبة والجلال، فلا أقول هذا جرياً على عادتنا في وصف الأئمّة (عليهم السلام) فحسب، بل لأنَّ التاريخ هكذا يقول. فقد كان معاوية إذا أراد إيصال بريد إلى الحسين (عليه السلام)، يقول للرسول: إذا دخلتُ مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ورأيتُ رجلاً تحوطه الجلالة والبهاء، وقد تحلَّق حوله جماعة قد أخذتهم هيبته ووقاره، فاعلم أنّه الحسين بن عليّ.

[3]  إنّ هذا الشاميّ وقع ضحيّة التضليل الأُمويّ الّذي تزعّمه معاوية؛ لتشويه السيرة العطرة لأهل البيت (عليهم السلام). ففي وقت هذه الحادثة، يكون قد مضت ثلاثون سنة على ممارسة هذا التضليل القذر الّذي جعل من الإمام عليّ (عليه السلام) أخطر عدوّ للإسلام! لدرجة أنّ الشاميّين كانوا يعدّونه أنّه لم يشمّ رائحة الإسلام. يدلّك على هذا، ما جرى بين كوفيّ وشاميّ، إذا كان يتحادثان في بعض مسائل الصلاة، فاحتجّ الكوفيّ بأنّه رأى عليّاً يُصلِّي هكذا، فقال الشامي متعجّباً: أوَهل كان عليّ يُصلِّي؟!

 

25


11

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ ١٩٩ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ نَزۡغ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٠٠ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِف مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١ وَإِخۡوَٰنُهُمۡ يَمُدُّونَهُمۡ فِي ٱلۡغَيِّ ثُمَّ لَا يُقۡصِرُونَ﴾[1]».

ثمّ قال (عليه السلام) لي: «خَفِّضْ عَلَيْكَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكَ، إِنَّكَ لَو اسْتَعَنْتَنَا لَأَعَنَّاكَ، وَلَو اسْتَرْفَدْتَنَا لَرَفَدْنَاكَ، وَلَو اسْتَرْشَدْتَنَا لَأَرْشَدْنَاكَ». قال عصام: فتوسَّمَ مِنّي الندمُ على ما فرطَ مِنّي.

فقال (عليه السلام): «﴿لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ﴾[2]، أَمِنْ أهلِ الشامِ أنت؟» قلت: نعم. فقال (عليه السلام): «شِنشِنَةٌ أعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَم[3]، حَيَّانَا اللهُ وَإِيَّاكَ، انْبَسِطْ إِلَيْنَا فِي حَوَائِجِكَ وَمَا يَعْرِضُ عَلَيْكَ، تَجِدنِي عِنْدَ أَفْضَلِ ظَنِّكَ، إِنْ شَاءَ اللهُ».

قال عصام: فضاقت عَلَيَّ الأرضُ بما رَحُبَت، وودَدْتُ لو ساخَت بي، ثُمَّ سللتُ منه لواذاً، وما على الأرض أَحَبُّ إِلَيَّ مِنه ومِن أبيه[4].

يَزيدُ سفاهةً وأَزِيدُ حِلْماً

                                         كَعُودٍ زادَهُ الإحراقُ طِيباً

 


[1]  سورة الأعراف، الآيات 199 - 202.

[2] سورة يوسف، الآية 92.

[3] الشنشنة: العادة. والمثَل لأبي أخزم الطائيّ، وكان له ابنٌ يُقال له أخزم، وكان عاقّاً به، فمات وترك بنين، فوثبوا يوماً على جدّهم أبي أخزم، فأدموه، فقال:

«إنَّ بَنِيَّ ضرّجوني بالدم

شنشنة أعرفها من أخزم»

يعني أنّ هؤلاء أشبهوا أباهم في العقوق.

[4]  الشيخ عبّاس القمّيّ، سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، مصدر سابق، ج2، ص705.

 

26


12

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

حِلية المتّقين

بعد الفقرة السابقة، يُصلِّي الإمام على الرسول وآله مرَّتَين، ثمّ يتابع الدعاء:

«وَحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ»[1].

فما الحِلْيَة الّتي يطلب (عليه السلام) التحلِّي بها؟ وما اللباس الجميل الّذي يودّ (عليه السلام) التزيّن به؟

في الفقرات الآتية، يوضّح الإمام (عليه السلام) ذلك، فيقول:

«فِي بَسْطِ الْعَدْلِ، وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ، وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ، وَإِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِفْشَاءِ الْعَارِفَةِ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ»[2].

إذاً، زينة الصالحين وجميل لباس المتّقين هو هذه الخصال المرضيّة من نشر العدل وكظم الغيظ؛ بمعنى: ضبط النفس ولجمها ومنعها من الانتقام والتشفّي؛ والغيظ هو شدَّة الغضب وهيجانه، وهو عقدة نفسيّة يجب علاجها، كما تُعالَج الغدّة السرطانيّة بتسليط الأشعّة عليها حتّى تتلاشى.

ومن ذلك: «إِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ»؛ بمعنى إحلال السلام وإيجاد التوافق والوئام بين المؤمنين والمسلمين.

ومن ذلك: «إِفْشَاءِ الْعَارِفَةِ»؛ أي إذاعة محاسن الآخرين ونشر فضائلهم، والإشادة بجهودهم الخيِّرة وسيرتهم الصالحة.

و«سَتْرِ الْعَائِبَةِ»؛ أي ستر معايب الآخرين والغضّ عن مساوئهم وسترها.

وهذه جميعاً داخلة ضمن المسائل الأخلاقيّة. نعم، المسائل ذات البُعد الاجتماعيّ والأثر العام، ليست مقصودة هنا، بل لها تعاليم وأحكام أخرى تعرَّض لها الدعاء في فقرات مستقلّة.

 


[1]  الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص96.

[2]  المصدر نفسه.

 

27


13

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

وكيف كان، فينبغي للمؤمن أن يسعى لتجميل سيرة الآخرين، وخلقِ جوٍّ مِن حُسن الظنّ المتبادَل بين الإخوة المؤمنين، وهذا إنَّما يكون عن طريق الإشادة هنا وهناك بالخصال الممدوحة والسيرة المحمودة، والتستّر على المساوئ وإغضاء البصر عنها، وهذا الأمر في نفسه وظيفة إسلاميّة، فضلاً عن أنّه عامل مساعد في تقليل مساوئ الآخرين؛ لأنَّ مَن لديه مساوئ ومحاسن، إذا رأى المجتمع ينظر إلى محاسنه ويتجاهل مساوئه، فسيسعى بدوره إلى إزالتها وتقليلها، وخلافُ ذلك من المجتمع يؤدّي إلى خلافِ ذلك من الفرد؛ بمعنى أنّه سيُصابُ بخيبةِ أملٍ في محاسنه؛ ممّا يؤدّي إلى طغيان المساوئ عليها.

نهي القرآن عن إشاعة الفاحشة

ولهذا يقرع القرآن أسماعنا بنهيه الشديد عن إشاعة الفاحشة والمساوئ، حتّى الواقعيّة منها. يقول تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيم﴾[1]. وموردُ الآية هو المساوئُ الواقعيّةُ للمؤمنين، وإلّا فبهتانُهم والتقوُّلُ عليهم عذابُه أشدُّ. وفي الحديث: «إِذَا اتَّهَمَ المُؤْمِنُ أَخَاهُ، انْمَاثَ[2] الإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ كَمَا يَنْمَاثُ المِلْحُ فِي المَاءِ»[3]؛ ولهذا السبب عينِه حُرِّمَت «الغيبة»، لأنّها تخلق في المجتمع الإيمانيّ حالةً من إساءة الظنّ والنظر بعين الريبة، عِلماً بأنَّ «الغيبة» عبارة عن إفشاء المساوئ الواقعيّة للفرد وللآخرين.

موارد مستثناة للغيبة

نعم، توجد موارد مستثناة من التحريم، وهي جميعها ذات بُعدٍ اجتماعيّ صرف. من باب المثال: الاستيضاح وطلب المشورة؛ كما لو أراد رجلٌ مشاركة آخر، فيستنصح ويستشير

 

 


[1]  سورة النور، الآية 19.

[2]  انماث: ذاب.

[3]  الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص361.

 

28


14

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

مَن لديه معرفة واطّلاع على أخلاقيّات «الشريك» وسلوكه؛ ليرى مدى صلاحيّته للشركة، وكذا الحال في التزويج للبنت أو الابن، وغير ذلك. وفي مثل هذه المواطن، يجب على المستشار إظهار الحقيقة، وإخلاص النصيحة، وإعطاء المستنصِح حقَّه. ومن الموادّ المستثناة: إظهار المظلوميّة؛ فمن اغتُصِبَ مالُه، له كامل الحقّ في فضح الغاصِب أمام الملأ؛ لأنّ أَمْرَه يدور بين أمرَين: إمّا السكوت على مضض، ومن ثمّ يذهب حقّه هدراً، وإمّا إعلام المجتمع بظلامته، فهذه غيبة، لكنّها جائزة، لقوله تعالى: ﴿لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ﴾[1].

 

وأنا إذ أُبيِّن هذا، فلكي نُحذِّر من الإفراط والتفريط؛ لأنَّ عيب المجتمع الإسلاميّ، كما يعكسه التاريخ -ولا سيّما نحن الإيرانيّين- هو انعدام «الوسطيّة»؛ بمعنى إمّا أن نُفرّط وإمّا أن لا نفرّط، إمّا أن نملأ أفواهنا بالغيبة ونلوك الآخرين بألسنتنا، وإمّا أن نصل إلى درجة نُحرّم فيها غيبة «الحجّاج»[2]، ونعدّها ذنباً يجب الاستغفار منه، كما هو رأي ابن سيرين[3].

 

 


[1] سورة النساء، الآية 148.

[2]  الحجّاج: الحَجّاج بن يوسف الثقفيّ (المتوفّى سنة 95هـ)، أشهر قائد أمويّ في العراق والحجاز، ومن أعداء أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، وكان له دور في استقرار الدولة الأمويّة وتعزيزها.

الوفاء والولاء لآل أميّة، واللذان كان يتمتّع بهما الحجّاج، مضافاً إلى خدماته الكثيرة ومساعيه الجبّارة في حفظ الكيان الأمويّ، جعل له مكانة رفيعة عندهم، فقد أوصى عبد الملك بن مروان ابنه الوليد أن يهتمّ بالحجّاج، كما وسمّى أحد أبنائه باسم الحجّاج.

وقد اشتهر الحجاّج بالظلم وسفك الدماء، وقد بالغ في قتل أعدائه ومعارضيه، حتّى أّن عبد الملك بن مروان قد نهاه عن ذلك. يقول المؤرّخون أنّ عدد الّذين قد قُتِلوا على يده أكثر من 120 ألف شخص، وورد أيضاً أنّ العدد تجاوز الـ 130 ألف قتيل، فكان سفّاكاً وسفّاحاً، وكان أشهر من قتلهم الحجّاج التابعيّ سعيد بن جبير الّذي دعا عليه فمات، ولم يقتل أحداً بعده.

ذكر المؤرّخون أنّ الحجّاج الثقفيّ اتّخذ سجوناً لا تقي من حرّ ولا برد، وقد مات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهنّ ستة عشر ألفاً مجرّدات، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد. لقد أسّس الحجّاج مدينة واسط في العراق، ومات فيها.

[3]  ابن سيرين: هو أبو بكر محمّد بن سيرين البصريّ. تابعيّ، اشتهر بالتفسير والحديث والفقه وتعبير الرؤيا، تُوفّي في 9 شوّال 110هـ الموافق 14/01/ 729م، بعد الحسن البصريّ بمئة يوم، وكان عمره 78 عاماً.

 

29


15

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

اشتباه ابن سيرين والغزّاليّ

يروي لنا التاريخ أنّ «ابن سيرين» -أحد العلماء الإيرانيّين في القرن الثاني الهجريّ- كان يتحرّج من ذكر «الحجّاج» بسوء، فحدث أنّ أحدَهم ذكره بسوء ووقع فيه، فقال له المقدَّس ابن سيرين زاجراً: مَه! لا تغتبه؛ فإنَّ ذَنْبَ اغتيابِك أعظمُ مِن ذَنْبِ الحجّاج نفسه! فهل سمعت بهذا الهراء؟! والعجيب أنّ «الغزّاليّ»، مع عظمة مقامه، ينقل هذا ويؤيّده!

إنّ «الغزّاليّ»، على الرغم من تفوُّقه العلميّ وعمق أفكاره، وقع هنا في اشتباه كبير، والرجال الكبار عندهم أخطاء كبيرة أيضاً، وكما يذكر ابن الجوزيّ[1]، فإنّ من أخطاء «الغزّاليّ» هو إضفاء الصبغة الصوفيّة على الأحكام الشرعيّة في كثير من الموارد؛ ممّا تسبَّب في مزالق فقهيّة، كما في مسألتنا هذه. وليتَ شعري، إذا حُرِّمَت علينا غيبة «الحجّاج»، فمَن يجوز لنا اغتيابه وفضحه؟! فبحسب ما يراه هؤلاء، لا تجوز غيبة يزيد بن معاوية! هذا الّذي نفضحه فوق المنابر ليلاً ونهاراً، ونذكر للملأ مظالمه وبوائقه[2]! وعلى هذا، فالله تعالى قد اغتاب فرعون ونمرود وقارون وبَلْعَم بن باعُورا[3]، ومئات الأفراد، بل وأقواماً بأكملها، كبني إسرائيل!

عَوداً على بدء، نقول:

إنَّ هذه الفِقرات القليلة من هذا الدعاء، لَهِيَ مرآةٌ جليّةٌ تعكس لنا السموّ الروحيّ والرُّقيّ الأخلاقيّ لصاحبه، وكلُّ إناءٍ بما فيه يَنْضَحُ[4]، وإنسانٌ كهذا لهو المستحِقّ للتقديس

 


[1]  ابن الجوزيّ: هو أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن عليّ بن محمّد القرشيّ التيميّ البكريّ. فقيه حنبليّ، محدّث ومؤرّخ ومتكلّم (510هـ/1116م - 12 رمضان 597هـ) ولد وتُوفّي في بغداد. حظي بشهرة واسع، ومكانة كبيرة في الخطابة والوعظ والتصنيف، كما برز في كثير من العلوم والفنون.

[2]  البوائق: البائقةُ: الداهِيةُ.

[3]  بَلعَم بن بَاعُورَاء: بلعام أو بلعم بن باعوراء، كاهن ذُكر في التوراة (العهد القديم). بدأت قصّته في سفر العدد، الإصحاح 22، كما ذُكرت له قصّة في القرآن الكريم والتراث الإسلاميّ، إذ يُعتقد أنّه المقصود من الآيتين 175 و176 من سورة الأعراف.

[4]  نضح: رَشَحَ.

 

30


16

الباب الأوّل: مفهوم الأخلاق

حقّاً؛ لأنَّه تجاوزَ ذاتَه، وهذه هي المَلَكات الفاضلة والسجايا الخالدة، ويجب علينا أن نعرف سرّ عظمتها ومكمَن جلالها؛ كي نسعى مثابِرين لتحصيلها.

وتوجد مدارس مختلفة أَدْلَتْ بدلائها في تحديد البنية التحتيّة والركيزة الفلسفيّة للأخلاق، وبيان الأُطُر والدوافع الّتي تميّز السلوك الأخلاقيّ من غيره، وسوف نتعرّض لهذه المدارس والنظريّات المطروحة؛ لنعرف الجيّد من الرديء، والغثّ[1] من السمين، كما سنبيِّن الرؤية الإسلاميّة الأصيلة على ضوء القرآن الكريم والسنَّة الشريفة.

وإليك الآن بعضاً من النظريّات الأخلاقيّة.

 


[1]  الغثّ: «لاَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الغَثِّ وَالسَّمِينِ»؛ أَيْ لاَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الرَّدِيءِ وَالْجَيِّدِ.

 

31


17

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

نظريّة العاطفة

«العاطفيّة» من أقدم النظريّات الموجِّهة للسلوك الأخلاقيّ؛ فثمّة فريق يؤمن بأنّ مناط «أخلاقيّة» المواقف والأفعال هو العواطف الإنسانيّة. ويقسّمون الأفعال البشريّة إلى قسمَين:

أوّلاً، الأفعال العاديّة: وهي تنشأ من أنانيّة الإنسان والميل الطبيعيّ الموجود فيه، والهدف منها هو جلب المنفعة واللذّة، ومثل هذا العمل -منشأً وهدفاً- لا يمتّ للأخلاق بصلة، وذلك كأغلب الأفعال الصادرة عن الإنسان. فالعامل إنَّما يكدح ويجهد نفسه طلباً للأجرة والعوض المادّيّ؛ كي يؤمّن معيشته، وكذلك الموظّف الإداريّ العامل في شركة ما، أو التاجر الباحث عن التجارة والربح، إلى غير ذلك من المساعي والخطوات المرتبطة بذات الشخص وحياته الخاصّة، والنابعة من ميوله ورغباته الشخصيّة، والّتي هدفها جلب اللذّة ودفع الضرر، كمن يراجع الطبيب لرفع ألمٍ أَلَمَّ به، أو لدفع خطرٍ محدق به، فهذه كلّها أعمال طبيعيّة ولا تمتّ للأخلاقيّة بصلة.

ثانياً، الأفعال الأخلاقيّة: ومنشؤها «العاطفة» الّتي هي فوق الميول الفرديّة وأعلى منها. وأصحاب هذه «العاطفة» لا يحبّون ذواتهم فقط، بل يحملون في قلوبهم هَمَّ مصير الآخرين، ويهتمّون به تماماً كما يهتمّون بهمومهم ومصائرهم. وإذا نال الآخرون نفعاً أو لذّة، ابتهجت نفوسهم أيضاً، كما لو أنّهم هم أنفسهم الّذين نالوا النفع أو اللذة.

 

34

 


18

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

ومن الواضح أنّ لهذا درجات ومراتب. فأحياناً، تسمو «العاطفة» -والّتي هي غير الحبّ- عند بعض الناس إلى مرتبة أعلى، وتبلغ أوجها، وهي مرتبة «الإيثار»؛ أولئك هم الّذين تكون سعادتهم وسرورهم بإيصالهم الخير للآخرين، وإدخال الفرحة عليهم أكبر من سرورهم بوصول ذلك إليهم؛ يعني أن يكسوا الآخرين أحبُّ إليهم من أن يكسوا أنفسهم، وأن يُطعموا الآخرين أهنأ وألذّ لهم من أن يأكلوا، وأن يُريحوا الآخرين أطيب لهم من جلب ذلك لأنفسهم.

المبدأ والهدف لفعل الإنسان

الحاصل أنّ القائلين بهذه النظريّة يؤكّدون أنّ لكلّ فعلٍ إنسانيّ مبدأً وهدفاً، ومبدأُ كلِّ فعلٍ إنسانيّ هو الإحساس والعاطفة المحرِّكان نحو الفعل. ولولا المبدأ، لاستحال صدور فعل من الإنسان؛ فكلُّ فعلٍ له هدف منظور، والإنسان عبر فعله يروم الوصول إلى هدفه.

والفعل الأخلاقيّ هو ما ينشأ من مبدأ وميلٍ لا ربط له بشخص الفاعل، بل هو مرتبط بالآخرين؛ وهذا «الميل» هو ما يُصطلَح عليه بـ«العاطفة». ومن حيث الغاية، ليس الهدف منه وصول «الخير» للذات، بل وصوله للآخرين. فبحسب هذه النظريّة، فإنّ الفعل الطبيعيّ لا يكون خارجاً عن دائرة «الذات» و«الأنا»، والإنسان المربوط ميله بـ«الأنا» همُّه إيصالُ الخير والنفع لذاته وحدها، تماماً كما هي طبيعة الحيوانات.

أمّا الفعل الأخلاقيّ فهو -مبدأً وهدفاً- خارجٌ من دائرة «الأنا»؛ لأنّ الميل للفعل سببُه الآخرون، كما أنّ الهدف هو تجاوز «الذات» والخروج من دائرة «الأنا». والإنسان الأخلاقيّ، هو الّذي يخترق دائرة «الأنا» ويطؤها بقدمه؛ كي يصل إلى الآخرين. والأخلاق في هذا المسلك، تنشر المحبّة والمودّة، بل الأخلاق في هذا المسلك هي الحبّ والمحبّة، ومعلِّمُ الأخلاقِ القائمةُ أخلاقه على هذه الدعامة، يرى نفسه رسول المحبّة والصفاء.

 

35

 

 


19

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

لا بدَّ من القول: إنّ هذه النظريّة -إجمالاً وإلى حدٍّ ما- نظريّة مشتركة بين الأديان كافّة، وأغلب مدارس العالم الفلسفيّة تتشبّث بمبدأ «المحبّة»، ولا يوجد في دنيا الأديان دِينٌ لم يُوصِ بالمحبّة خيراً. وفي أخبارنا وأحاديثنا ما يدلّ على ذلك، نحو: «فأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا»[1]، وثمّة روايات كثيرة بهذا المضمون. وهذه التوصية وردت في الأديان الكبرى كافّة في عالمنا؛ غاية الأمر أنّ بعض المذاهب أو الأديان ترتكز على «المحبّة» أكثر من غيرها؛ يعني أنّ «المحبّة» تُشكّل محور الأخلاق فيها، في حين أنّه في بعض المذاهب والأديان الأخرى، تُعَدّ «المحبّة» عنصراً من عناصر الأخلاق، حيث هناك عناصر أخرى تشترك معها في تركيبة الأخلاق.

الأخلاق الهنديّة

الأخلاق الهنديّة أخلاق عاطفيّة؛ بمعنى أنّ محورها وعمادها هو «العاطفة»، كما هو حال الأخلاقيّة المسيحيّة.

يقول غاندي[2](Mahatma Ghandi) في كتابه «هذا هو مذهبي»: من قراءتي في «الأبانيشاد»[3] (Upanishad)، توصّلتُ إلى أصول ثلاثة، وهي:

 

[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص397، كتاب 31.

[2]  المهاتما غاندي (موهانداس كرمشاند غاندي) - Mahatma Ghandi (1869 - 1948م): هو السياسيّ البارز والزعيم الروحيّ للهند خلال حركة استقلال الهند. كان رائداً للساتياغراها، وهي مقاومة الاستبداد من خلال العصيان المدنيّ الشامل، الّتي تأسّست بقوّة عقب أهيمسا أو اللاعنف الكامل، والّتي أدّت إلى استقلال الهند، وألهمت الكثير من حركات الحقوق المدنيّة والحرّيّة في جميع أنحاء العالم. في الثورة الهنديّة قام غاندي باستعمال العصيان المدنيّ اللاعنفيّ حينما كان محامياً مغترباً في جنوب أفريقيا، في الفترة الّتي كان خلالها المجتمع الهنديّ يناضل من أجل الحقوق المدنيّة. بعد عودته إلى الهند في عام 1915م، قام بتنظيم احتجاجات من قِبل الفلّاحين والمزارعين والعمّال في المناطق الحضريّة ضدّ ضرائب الأراضي المفرطة والتمييز في المعاملة. بعد تولّيه قيادة المؤتمر الوطنيّ الهنديّ في عام 1921م، قاد غاندي حملات وطنيّة لتخفيف حدّة الفقر، وزيادة حقوق المرأة، وبناء وئام دينيّ ووطنيّ، ووضع حدّ للنبذ، وزيادة الاعتماد على الذات اقتصاديّاً. قبل كلّ شيء، كان يهدف إلى تحقيق بورنا سواراج أو استقلال الهند من السيطرة الأجنبيّة. قاد غاندي أيضاً أتباعه في حركة عدم التعاون الّتي احتّجت على فرض بريطانيا ضريبة على الملح في مسيرة ملح داندي عام 1930م. تظاهر ضدّ بريطانيا لاحقاً للخروج من الهند. قضى غاندي عدّة سنوات في السجن في كلّ من جنوب أفريقيا والهند. عاش غاندي متواضعاً في مجتمع يعيش على الاكتفاء الذاتيّ، وارتدى الدوتيّ والشال الهنديَّين التقليديَّين، واللذين نسجهما يدويّاً. كان يأكل أكلاً نباتيّاً بسيطاً، وقام بالصيام فترات طويلة كوسيلة لكلّ من التنقيّة الذاتيّة والاحتجاج الاجتماعيّ.

[3]  أبانيشاد: مجموعة كتب دينيّة هنديّة متوارثة من آلاف السنين، وتُعَدّ من الكتب المهمّة في الدنيا. وكان أستاذنا الكبير العلّامة الطباطبائيّ، قد قرأ هذا الكتاب قبل سنوات وأعجبه جدّاً، وكان يقول: يوجد فيه معانٍ راقية وعميقة. والمعاهد الأوروبّيّة تعدّه كتاباً عظيماً وذا قيمة كبرى إلى الآن (المؤلِّف رحمه الله).

 

36


20

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

1. أنّه توجد في هذا العالَم معرفةٌ واحدة، ألَا وهي معرفةُ النفس. ففي الفلسفة والثقافة الهنديّة، تُعَدّ معرفة النفس أساسَ المعرفة ولبَّها، والرياضات الهنديّة تُمارَس لأجل هذا.

2. أنّ كلّ مَن عرف نفسه، عرف ربّه وعرف حقيقة العالم.

هذان الأصلان صحيحان، وقد أكّدهما الإسلام، وظهرَا جليّاً في أحاديثا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ووصيّه (عليه السلام)، يقول عليّ (عليه السلام): «مَعْرِفَةُ النَّفْسِ أَنْفَعُ الْمَعَارِفِ‏»[1].

3. في هذا العالم، ثمّة قدرة واحدة، وهي قدرة التسلّط على «النفس»، والتمكّن من تطويقها. وبتعبير «غاندي»: «كلّ من يسيطر على نفسه وذاته، يسيطر على العالم أيضاً. في هذا العالم يوجد شيء جميل، وهو حبّ الآخرين كحبّ الذات». وهذه الفقرة هي مقصودنا من نقل كلام «غاندي»، حيث نثبت بها اعتماد الأخلاقيّة الهنديّة على حبّ الآخرين، والاندكاك في الأغيار.

وأمّا المبشّرون والمبلّغون المسيحيّون، فإنّهم يقولون أيضاً -ولو ادّعاءً-: نحن رُسُل المحبّة، والمسيح أيضاً كان رسول محبّة، حتّى إنّه كان يقول: «إذا صفعك أحدٌ على خدّك الأيمن، فأدِر له خدّك الأيسر». هذا علماً، أنّ الهنود -بحكم شرقيّتهم- أقلّ نفاقاً وكذباً، بخلاف المسيحيّين، فهم -بحكم غَربيّتهم- يقولون ما لا يفعلون؛ لذا قلنا: ولو ادّعاءً.

نقد نظريّة العاطفة

وكيف كان، فهذه النظريّة نصفها -القائل بأنّ الأخلاق تعني المحبّة وفِعل الجميل- صحيح، والنصف الآخر خطأ؛ ويتّضح ذلك عند ملاحظة الإيرادات الآتية:

1. لا يمكن عَدُّ كلِّ محبّةٍ أخلاقاً: وإن كانت تلك المحبّة ممدوحة ومحمودة، وليس

 


[1]  التميميّ الآمديّ، عبد الواحد بن محمّد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح السيّد مهدي رجائي‏، نشر دار الكتاب الإسلاميّ‏، إيران- قمّ‏، 1410هـ، ط2، ص712.

 

37


21

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

كلّ فعل ممدوح أو مذموم، يُعَدّ أخلاقيّاً أو غير أخلاقيّ؛ فالفارس القويّ يُمدَح على قوّته وبسالته، لكن لا يُعَدّ ذلك أمراً أخلاقيّاً بطبيعة الحال؛ لأنَّ «الأخلاقيّة» تتضمَّن عنصر الاختيار والاكتساب لِمَلَكات غير غريزيّة، فإذا كان الشيء الجميل الحَسَن فطريّاً وغريزيّاً في الإنسان، حيث لم يكتسبه اختياراً، فهو وإن كان رائعاً ومحموداً، إلّا أنّه لا يدخل تحت عنوان «الأخلاق».

على سبيل المثال: حبّ الوالدَين للابن شيءٌ مقدَّس وعظيم، لكن لا يُقال بأنَّ هذه الإحساسات الرقيقة والعاطفة الحارّة «أخلاق»؛ بدليل أنّ هذه الأُمّ لا تشعر تُجاه ابن جارتها بما تشعر به تُجاه فلذة كبدها، ولا يعنيها أمره، فهذه الأحاسيس لم تكتسبها اكتساباً، بل قانون الخلقة الحكيم هو الّذي وهبها إيّاها؛ لكي تنتظم الأمور والشؤون الاجتماعيّة للبشر، ولولا ذلك لَمَا أرضعَت أمٌّ ابنَها. وعلى هذا، فأحاسيس الأمومة هي مشاعر حبّ للغير، ناشئة من «العاطفة»، وخارجة عن نطاق «الذات» و«الفرد»، لكن لا يمكن عدُّها «أخلاقيّة»، ولا يمكن إدراج فعل الأمّ هذا ضمن «الأخلاق». كذلك هو شأن أحاسيس الأب و والأقارب والأرحام والمشاعر الوطنيّة والقوميّة. فالمشاعر الّتي لم تحصل للإنسان بالاكتساب، لا يمكن عدُّها «أخلاقيّة».

2. الإيراد الثاني هو أنّ دائرة الأخلاق أوسع من محبّة الآخرين: إذ توجد سلسلة من الأفعال والسلوكات النبيلة والراقية يمارسها الإنسان من غير أن تكون ناشئة من حبّه للآخرين، والمرء لا يملك إلّا أن يُقدّس تلك المعاني، كما يُقدّس ما يرتبط بمحبّة الآخرين، كالإيثار[1] والإحسان، ومن ذلك ما يسمّيه العرب «إباء الضيم»[2]. ونحن نعاين رجالاً في التاريخ يضحّون بأرواحهم، ويبذلون مهجهم فيما إذا خُيِّروا بين عزّتهم وكرامتهم، وبين أن يخنعوا أذلاء صاغرين[3].

 

 


[1]  الإيثار: تَفْضِيل الغير عَلَى نَفْسِهِ.

[2]  إباء الضيم: رفض الظلم.

[3]  صاغرون: مُهَانون رَاضون بِالذُّلِّ وَالضَّيْمِ.

 

38


22

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

هذه التضحية، وهذا الإباء والشموخ قمّةُ الأخلاق، ولا ربط له بمحبّة الآخرين، ولا يمتّ لها بصلة، بل هو إحساس نبيل. وتجد هذا في كلمة الإمام الحسين بن عليّ(عليهما السلام)، إذ يقول: «الْقَتْلُ أَوْلَى مِنْ رُكُوبِ الْعَار»[1]. وفي كلمة الإمام عليّ (عليه السلام) في المروءة: «قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ[2]؛ فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ، أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ، تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ؛ فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ»[3].

إذاً، فالقول بعدم وجود شيء جميل وحَسَن في هذا العالم، سوى «المحبّة»، قولٌ غير صائب، بل توجد أمور أخرى جميلة، غير محبَّة الآخرين.

3. الإيراد الثالث هو أنّ مفهوم «حبّ الإنسان» بحاجة إلى تفسير: فمثلاً: هل عطف الإنسان على الحيوان -كما في قصّة الرجل الّذي سقى الكلب الظامئ- لا يُعَدّ مِنَ الأخلاق؛ لأنّه ليس «محبّة إنسان»؛ لكون الكلب ليس إنساناً؟ وهل يتعيّن على الإنسان أن يقصر حبَّه على أبناء نوعه فحسب، ولا ينبغي له أن يحبّ الكائنات الأخرى؟ ينبغي أن يحبّ كلّ الأشياء؛ لأنّها مخلوقات الله. يقول «سعدي»:

مبتهجٌ أنا بهذا العالَم؛ لأنَّ هذا العالَم البهيج منه تعالى

وأنا عاشقٌ لكلّ العوالم؛ لأنَّها كلّها منه تعالى

فيا أيُّها الرفيق، عليكَ بنسيم السحر

كي تُحيي هذا القلب الميِّت؛ لأنَّ هذا النسيم نَفَسُه تعالى

حقّاً، لا يملك الملك ولا الفلك، مثل ما في القلب

الإنسان المفاض[4] منه تعالى

 


[1]  المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، نشر دار إحياء التراث العربيّ، لبنان - بيروت، 1403هـ، ط2، ج45، ص50.

[2]  استطعموكم القتال: طلبوا منكم أن تطعموهم القتال، كما يقال «فلان يستطعمني الحديث»؛ أي يستدعيه مني.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص88، الخطبة 51.

[4]  الإنسان المفاض: يُريد بذلك الروح.

 

39


23

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

إنِّي أشرب السمّ الزعاف[1] بلذّة ونشوة؛ لأنَّ الساقي هو الشاهد

وبإرادتي أقتل نفسي؛ لأنَّ المحيي هو تعالى

ما هي «الإنسانيّة»؟

«الإنسانيّة» شعارٌ يُردّده الكثيرون، وهو بحاجة إلى فَهم وتفسير دقيق؛ لئلّا يختلط الحابل بالنابل[2]، وتحلّ «اللاإنسانيّة» محلّ «الإنسانيّة». هل «الإنسان» هو هذا الحيوان ذو الرأس والأذنَين، بحيث إنّنا كلّما رأينا حيواناً برأس وأذنَين، نقول: هذا «إنسان» ومن ذرِّيَّة «آدم» أبي البشر؟ وكلّ مَن كان من نسل «آدم» ينبغي أن نحبّه، مهما كانت صفته ومواقفه؟ أم ليس المرادُ هو كلّ «إنسان»، فليس المراد مَن هو «إنسان بالقوّة»[3] ولا مَن هو «ضدّ الإنسان»، بل المراد هو «الإنسان ذو الإنسانيّة»؛ وحبّ «الإنسان» إنّما هو لأجل حبّ «الإنسانيّة» وحبّ «القيم الإنسانيّة».

و«الإنسانيّة» تعني تقديس المُثُل والقِيَم الإنسانيّة النبيلة. فالإنسان إنسان وجدير بالحبّ بقدر ما يحمل من تلك «القيم الإنسانيّة»، وساقط عن الاعتبار بقدر تخلّيه عن «الإنسانيّة» وخلعه ثوبها، وإن كان مثل الآخرين في الظاهر، وإلّا فـ«جَنكيز خان»[4] (Genghis Khan) إنسان، «يزيد بن معاوية» أيضاً إنسان، «الحجّاج بن يوسف»

 

 


[1]  السمّ الزعاف: سُمّاً قاتِلاً في الحينِ.

[2]  الحابل بالنابل: «اِخْتَلَطَ الحابِلُ بِالنَّابِلِ» (مثل)، اِخْتَلَطَ أَمْرُ مَنْ يَصيدُ بِالحِبالِ وَمَنْ يَصيدُ بِالنِّبالِ، أي اِخْتَلَطَتِ الأمورُ وَغَمُضَتْ وارْتَبَكَتْ.

[3]  بالقوّة مقابل الفعليّة والتحقّق.

[4]  جِنْكِيْزْ خَانْ - Genghis Khan (1165 - 1227م): مؤسّس الإمبراطوريّة المغوليّة وإمبراطورها، والّتي عُدَّت أضخم إمبراطوريّة في التاريخ ككتلة واحدة بعد وفاته. برز بعد توحيده عدّة قبائل رُحَّل لشمال شرق آسيا. فبعد إنشائه إمبراطوريّة المغول وتسميته بـ«جنكيز خان»، بدأ بحملاته العسكريّة، فهاجم خانات قراخيطان والقوقاز والدولة الخوارزميّة وزيا الغربيّة وإمبراطوريّة جين. وفي نهاية حياته كانت إمبراطوريّته قد احتلّت جزءً ضخماً من أواسط آسيا والصين. كان قائداً عسكريّاً شديد البأس، وكانت له القدرة على تجميع الناس حوله، وبدأ في التوسّع تدريجيّاً في المناطق المحيطة به، وسرعان ما اتّسعت مملكته حتّى بلغت حدودها من كوريا شرقاً إلى حدود الدولة الخوارزمّية الإسلاميّة غرباً، ومن سهول سيبريا شمالاً إلى بحر الصين جنوباً؛ أي إنّها كانت تضّم من دول العالم حاليّاً: الصين وإيران وكازاخستان وكوريا الشماليّة والجنوبيّة ومنغوليا وفيتنام وتايلاند وأجزاء من سيبيريا، إلى جانب مملكة لاوس وميانمار ونيبال وبوتان.

 

40


24

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

إنسان! إنّ الشيء الّذي افتقده أولئك، هو «القيم الإنسانيّة»، فهُم في الحقيقة أُناسٌ «ضدّ الإنسان».

إذاً، فـ«حبّ الإنسانيّة» يحتاج إلى تفسير. وإذا رأينا إنساناً كاملاً يعطف ويُشفِق على إنسانٍ عارٍ عن القِيَم الإنسانيّة؛ فذلك من حيث إنّه يريد الأخذ بيده والبلوغ به إلى مستوى «الإنسانيّة». وبهذا اللحاظ، يكون الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) رحمةً للعالَمين ورحمةً للبشر كافّة، كافرهم ومؤمنهم. والحاصل أنّ المعيار الّذي تحدّثوا عنه وسمّوه «المحبّة» و«العاطفة»، يُمثّل جزءاً وجانباً من الحقيقة، لا الحقيقة كلّها؛ لأنّ «الأخلاق» أعمّ من «العاطفة» و«المحبّة»، وأشمل.

أضاف بعضُهم قيداً هنا، لتصحيح هذه النظريّة، فقالوا: «الفعل الأخلاقيّ» هو ما تكون الغاية منه هي «الآخرين»، لكن بشرط أن يكون صدورُه بالاكتساب، لا بالغريزة؛ لإخراج عاطفة الأمومة والأبوّة من دائرة الأخلاق، فأضاف عنصر «الاختيار». ولكن يبقى إشكالٌ آخر؛ إذ توجد أخلاقيّات مُسَلَّمٌ بها دون أن يكون الآخرون هم الغاية منها، بل هي صفات وسجايا كماليّة للذات، كالصبر والاستقامة، كما توجد رذائل اكتسابيّة، كالحسد، فإنّه مرض روحيّ، وليس هو لخير «الآخرين» بطبيعة الحال. وعلى أساس هذه النظريّة، يخرج هذان عن الأخلاق. فلا بدَّ من تعميم التعريف والضابطة؛ لتشمل الأخلاقُ الصفاتِ المحمودةَ والمذمومةَ، ثمّ يُضبَط «الفعل الأخلاقيّ» على أنّه ما تكون الغاية منه هي «الآخرين»، إحساناً كانت أم إساءة؛ وحتّى هذا -أيضاً- غير دقيق؛ إذ قد يَظلِم الإنسانُ غيرَه عَرَضاً؛ بمعنى أنّ غايته ليست الإضرار بالآخرين، بل جلب النفع له.

نظريّة الفلاسفة المسلمين

مفاد هذه النظريّة أنّ الأخلاق مِلَاكُها العقل، لكن العقل الأمير، لا الأسير. فالإنسان، في رأي فلاسفة المسلمين، هو القوّة العاقلة المدركة، فجوهره عقله، وسعادته هي سعادة

 

 

42

 


25

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

حين يجوع الإنسان أو الحيوان، فإنّه يميل تلقائيّاً للأطعمة، وحين يعطش يميل للمشروبات، ومن حيث الغريزة الجنسيّة -أيضاً- يميل للجنس الآخر، وحين يتعب يرغب في الراحة. فهذه الميول كلّها تُحرّك الإنسان لتحصيل شيء ما، حتّى عاطفة الأمومة والعواطف الإنسانيّة -أيضاً- هي ميول؛ لذلك نرى الإنسان إذا صادف ورأى فقيراً، يميل لمدّ يد المساعدة والنجدة إليه، هذا ما يرجع إلى «الميل».

أمّا «الإرادة»، فهي تتعلّق بذات «المريد» وباطنه، ولا تمثّل علاقة جذب بينه وبين العالَم الخارجيّ؛ فالإنسان حين يُفكّر في موضوع ما، ويضع حساباته حوله، وينظر بعيداً لرؤية العواقب المترتّبة على خطواته، ومن ثمّ يقارن بين المصالح والمفاسد بواسطة عقله، ويقايس بينها، يستطيع -عندئذٍ- تشخيص الخطوة الأصلح والأفضل، ثمّ يعمل ويأتمر بما يُمليه عليه العقل، ولا يتمكّن «الميل» من جذبه وجرّه إليه.

نحن نرى في كثير من الأوقات، أنّ إرادة الإنسان تتعلّق بما يدرك العقل مصلحته، ومن ثمّ ينجزه استناداً إلى فتواه، وإن كان ذلك ضدّ «الميل» النفسيّ الموجود لديه؛ فمَن يتّبع نظاماً غذائيّاً خاصّاً مثلاً، تدعوه شهوته لتناول الأطعمة اللذيذة والأطباق الشهيّة الموضوعة أمامه على المائدة، وبما أنّ هذا الإقدام يضرّه، فإنَّنا نرى العقل يردعه ويقول له: إن أكلتَ هذا الطعام، فستنتابك عوارض مؤلمة، وستقع فريسة سهلة للمرض؛ فإن كان عاقلاً، ترك ميله واتّبع عقله.

ومثل ذلك -أيضاً- ما يحدث للمريض؛ إذ إنّ طبعه ينفر من الدواء، فهو ليس فقط لا «ميل» لديه نحوه، بل إنّه يشعر بالتقزّز منه، لكنّه حينما يُفكّر ويرجع إلى عقله، يجده يقول له: سلامتُك وعافيتُك تُوجِبان عليك أن تتناول الدواء، وإن كان مرّاً. وبناءً على حكم العقل هذا، يُصمّم المريض على تناوُل الدواء، وإنْ خالف ذلك ميلَه النفسيّ. «الخوف» خلاف «الميل»، فإنّه يعني النفور والفرار، لكنّ «الإرادة» تقاوم هذا الخوف وتنفخ في القلب روح الشجاعة.

 

43


26

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

إلى هنا، اتّضح أنّ معنى «الإرادة» هو: وضع الميول النفسيّة المرغوب فيها وعنها تحت نظام مراقبة صارم، بحيث تكون في خدمة «المصلحة» وما يحكم به العقل. وعلى هذا، يكون مؤدَّى هذه النظريّة أنّ «الأخلاق» تعني انبثاق الفعل من «المصلحة» و«الإرادة»، وليس من أحد الميول المتسلّطة.

العاطفة الإنسانيّة كذلك؛ أي إنّ حدودها يجب أن تكون ضمن حدود العقل، وبِيَدِه تعيينها، لا أن تُترَك بلا رقيب. في كثير من الموارد، تُصدِر العاطفة حُكماً معيّناً، والعقل يُصدِر حُكماً مغايراً. العاطفة تعني رقَّة القلب والإحساس بالرأفة، لكن لا ينبغي الانسياق وراءها، بل يجب جعل العقل والإرادة حاكمَين عليها، وقد صرَّح القرآن الكريم بهذا في الآية المتعلّقة بالزاني، يقول تعالى: ﴿ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِد مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَة فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَة مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[1].

القرآن في هذه الآية، يريد لفت نظر المخاطَب لقضيَّة، وهي أنّ المؤمنين حينما يريدون معاقبة أحد الجناة، ترقّ قلوب كثير من الأفراد، رأفةً به وحنوّاً عليه، ويقولون: حبّذا لو عُفِيَ عنه وصُرِفَ النظر عن معاقبته، وهذا إحساسٌ آنيّ، إلّا أنّ صاحب هذا الإحساس يغيب عن باله أمرٌ آخر، وهو أنّه إذا كان الغرض العفو عن كلّ جانٍ ومجرم، فإنّ هذا سيؤدّي إلى حدوث جناية تلو الأخرى، وستأخذ الجرائم بِيَد بعضها، حتّى تطوّق المجتمع وتخنقه. إنّ العاطفة تقول: لا تعاقِب، والعقل والمصلحة يقولان: عاقِب؛ فـ«العاطفة» في مثل هذه الموارد لا تُعَدّ «محبَّة»، بل هي في ذاتها ليست كذلك، لكن لبُعدها عن المنطق والفكر السليم، تمسك يد الإنسان، وتقول له: لا تقم بهذا العمل. أمّا العقل والمصلحة، فيجيزان له الاستعانة بالعنف، ويقولان للعاطفة: أنتِ قصيرة النظر، ولا ترين المستقبل البعيد إذ تُصدِرين حكمك بالكفّ. وعليه، فإذا رأيتم العدالة الإلهيّة تأخذ مجراها المقرَّر

 


[1]  سورة النور، الآية 2.

 

44


27

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

لأجل المصلحة البشريّة العامّة، فلا تذهب أنفسُكم حسرات، ولا تأخذكم الرحمة والرأفة، يقول «سعدي»:

الرحمة بالنمر ظلمٌ للأغنام

الرحمة والرأفة بالنمر، بلحاظ العاطفة، وبصرف النظر عن المنطقة والمصلحة والعقل، عملٌ خاطئ. أجل، لو لم يكن في الدنيا غير هذا النمر، لكان ذلك عملاً صائباً، لكنّ الأمر ليس كذلك؛ فالإنسان حينما يفتح عينَيه، يرى أنّ الدنيا أوسع أُفُقاً من مجرّد «نمر»، وسيفهم أنّ الرأفة به تساوي القسوة على مئات «الأغنام» البريئة. العاطفة -طبعاً- لا تدرك هذه المساواة، لكنّ العقل والمصلحة -إذ يقيسان الأمور وينظران المصالح والمفاسد- يريان من خلف العاطفةِ القسوةَ الكامنةَ في الشفقة على الحيوان المفترس؛ ولذلك يَحُولان دون العمل وفقها.

وما يقوله «العاطفيّون» حول جلد الزاني، يَرِد أيضاً على قطع يد السارق، فيُقال: قطعُ يد السارق قسوةٌ ووحشيّة، وعملٌ يندى له جبين الإنسانيّة! فهؤلاء لا يرون أبعد من مواطئ أقدامهم، ولا يدركون أنّ تنفيذ القانون وقطع يد السارق كفيل باجتثاث السرقة من أصولها، وتخليص المجتمع منها. وما نراه اليوم من انتشار السرقات والجرائم الّتي تترافق مع قتل النفوس وفقدان الأمن، إنّما هو من جملة آثار تعطيل هذا القانون الإلهيّ.

على هذا الأساس، ترى هذه النظريّة أنّ معيار «الأخلاقيّة» ومِلاكها هما: «العقل» و«الإرادة»، دون «العاطفة»، وعلى هذه أن تأتمر بأوامرهما وتستنير بهديهما. ولو أطلقنا سراح «العاطفة» وأوكلنا إليها القيادة، لانقلبت الآية، ولارتدَت الأعمالُ «غير الأخلاقيّة» لباسَ «الأعمال الأخلاقيّة»، وتسمَّت باسمها.

ومن المسائل المُسَلَّمة والمعتمَدة لدى علماء الإسلام وفلاسفته، هي مسألة اعتماد الأخلاق واتّكائها على قوّة العقل ووعي الإرادة. فالأخلاق الكاملة -بنظرهم- هي الأخلاق

 

45

 


28

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

المستندة إلى العقل، حيث تكون الميول الفرديّة والنوعيّة منضوية تحت مظلّة العقل والإرادة. فـ«الإنسان ذو الخُلُق الكامل» هو مَن يكون العقل والإرادة حاكمَين على وجوده وسلوكه، ومهيمنَين على نزعاته وميوله.

طبعاً، توجد في أعماق الإنسان عواطف جيّاشة غير فرديّة، وهي بمثابة منابع دافئة تغمر وجود الإنسان، وبإرشادات العقل ومعونة الإرادة، تُوظَّف هذه العواطف لِما فيه المصلحة الحقيقيّة. مثلُ هذا الإنسان الكامل، تكون ردود فعله غاية في الرقّة والعطف والنبل، ولو قُدِّر لنا رؤيةُ روحِه، لوجدناها أنعم مِن خميلة[1] الورد، وألطف من نسيم السحر. إلّا أنّ هذه الرقّة لا تمنعه من العنف والبأس إذا لزم الأمر؛ إذ لديه الشدّة ما لا تبلغه الجبال الرواسي، ويمتلك من قوّة القلب ما تخوّله لقطف مئة من الرؤوس دفعة واحدة، كما لو أنّها رؤوس أغنام أو ما هو أهوَن منها، من دون أن يضطرب له قلب، أو يقشعرّ له بدن، أو تطرف له عين. هذا النمط نراه -برؤيته لمشهدٍ ما- ترتعد فرائصه، وتأخذه رجفة تُفقِده السيطرة. ومن أظهر مصاديق هذا النمط من البشر، هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

الحاصل أنّ العاطفة عمياء لا عيون لها، وبلهاء لا منطق لديها، والإنسان المنقاد لها، الواضع نفسه في خدمتها، ستدلُّه على بيت الخراب حتماً ودائماً، في الموارد الحسنة والقبيحة على حدّ سواء. وبخلاف ذلك، مَن يضع عواطفه تحت تصرُّف عقله وإرادته؛ إذ تكون روحُه مظهراً للّطافة والرقّة والعظمة في حال، ومظهراً للقوّة والبأس في حال آخر، حسبما يقتضيه الموقف وتتطلّبه الظروف. وهذا هو الإنسان الكامل في الإسلام.

نحن إذ نقول إنّ هذه نظريّة فلاسفة المسلمين، لا يعني هذا أنّ نظريّة الإسلام هي هذه قطعاً؛ لأنّ الفلاسفة المسلمين ليس باستطاعتهم الإحاطة بواقع المسائل الإسلاميّة كلّها. نعم، هم كشفوا بعضاً من الحقيقة، وجانباً منها.

 


[1]  خميلة: حَدِيقَةٌ خَمِيلَةٌ، كَثِيرَةُ الشَّجَرِ.

 

46


29

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

نظريّة الوجدان

ثمّة فريق يؤمن ويعتقد بأنّ الله تعالى قد أودع في الإنسان قوّةً خلّاقةً، قادرةً على إلهامه وتكليفه وإفهامه وظيفته، والإيماء له بما ينبغي فعله من أعمال جيّدة وسيرةٍ حسنة. هذه القوّة ليست هي «العاطفة»، كما يقول أخلاقيّو الهند والمسيحيّة، وليست هي أيضاً «العقل والإرادة»، كما يقول الفلاسفة، بل هي عبارة عن «الإلهامات الوجدانيّة». فثمّة اعتقاد لدى بعضهم، بأنّ الله تعالى غرس هذه القوّة في باطن الإنسان لتلهمه -في كثير من الحالات والأعمال الّتي ندعوها أخلاقيّة- فعلَ ما ينبغي فعله، والابتعاد عمّا ينبغي تركه. إنّ هذه القوّة الباطنيّة لا علاقة لها بالعقل النظريّ، بل هي نابعة من الفطرة، كما أنّ هذه القوّة لا علاقة لها بالأنشطة والوظائف الطبيعيّة الّتي يمارسها الإنسان، من قبيل الأكل والشرب وأمثال ذلك؛ لأنّ هذه الأعمال مرتبطة بالطبيعة، لا بالوجدان.

نظرة القرآن للوجدان

إذا تصفّحتَ القرآن الكريم، ستجد سورة «الشمس» المباركة، وهي تتحدّث عن تسليح الإنسان بجملة من الإلهامات الفطريّة من قِبَل خالقه تعالى، يقول الحقّ تعالى:

﴿وَٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا ١ وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا ٢ وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا ٣ وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰهَا ٤ وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَىٰهَا ٥ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا طَحَىٰهَا ٦ وَنَفۡس وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾[1].

مِن الملاحَظ أنّه تعالى قدَّم «أقساماً» عدّة -آخره القَسَم بالنفس والروح واعتدالها- ليقرّر أنّه سبحانه قد ألهم النفسَ البشريّة الفجورَ والتقوى. فالقلب الإنسانيّ إذاً، يمتاز من قلوب بقيّة الحيوانات، وهو قادرٌ على التشخيص، وقد نُقِل أنّه حينما نزلت الآية

 


[1]  سورة الشمس، الآيات 1 - 10.

 

47


30

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

الشريفة: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ﴾[1]، قصد الرسولَ الأكرمَ (صلى الله عليه وآله) رجلٌ اسمه «وابصة» وقال: يا رسول الله، لديّ سؤال، وقبل أن يسأل، قال له الرسول(صلى الله عليه وآله): أنا أخبرك بسؤالك قبل أن تبوح. قال وابصة: نعم، يا رسول الله. فقال(صلى الله عليه وآله): قَدِمتَ لتسأل: ما هو البرّ والتقوّى والإثم والعدوان؟ قال وابصة: أجل، يا رسول الله. عند ذلك، وضع الرسول(صلى الله عليه وآله) إصبعه على صدر الرجل، وقال له: يا وابصة، استفتِ قلبك[2]؛ يعني إنّ الله تعالى ألهم معرفة ذلك قلبَ كلّ إنسان. وقد صاغ «مولوي»[3] هذا الحديث شعراً، فقال:

قال الرسول: استفتِ قلبك، وخُذ بفتواه وبما يُلقيه عليك.

استرشد قلبك، قال ذلك الرسول، واحذر من فتوى غيره فإنَّه فضول.

دع الآمال جانباً؛ كي تنال الرحمة، فإنّي بالتجربة علمتُ أنّ الأمر كذلك.

اخدمه لحظةً بلحظة؛ لأنّك دائماً تحت عينه، وأنت تسمع نداء الحقّ لكنّك لا تراه.

إذا سددت عينَيك بالأستار والحُجُب، فكيف ينفذ نور الشمس إلى قلبك؟

للأستاذ العلّامة الطباطبائيّ في «تفسير الميزان» التفاتةٌ لطيفة في تفسير قوله تعالى من سورة الأنبياء: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّة يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ﴾[4]، قال: لم يقل تعالى: وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات؛ لأنَّ الإتيان بـ«أن» دون المصدر

 


[1]  سورة المائدة، الآية 2.

[2]  راجع: الحميريّ القمّيّ، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد، تحقيق وتصحيح ونشر مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)، إيران - قمّ، 1413هـ، ط1، ص322: «... أَنَّ وَابِصَةَ بْنَ مَعْبَدٍ الْأَسَدِيَّ أَتَاهُ فَقَالَ: لَا أَدَعُ مِنَ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ شَيْئاً إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِلَيْكَ، يَا وَابِصَةُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِf، فَقَالَ النَّبِيُّ(صلى الله عليه وآله): ادْنُهْ يَا وَابِصَةُ، فَدَنَوْتُ. فَقَالَ: أَتَسْالُ عَمَّا جِئْتَ لَهُ، أَوْ أُخْبِرُكَ؟ قَالَ: أَخْبِرْنِي. قَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ. قَالَ: نَعَمْ. فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا وَابِصَةُ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ بِهِ الصَّدْرُ، وَالْإِثْمُ مَا تَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وجَالَ فِي الْقَلْبِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْك».‏

[3]  مولوي: عبد الرحيم ملّا سعيد مولوي الطوغوزيّ، ويشتهر باسم مولوي، هو شاعر وصوفيّ كردي ولد في سنة 1806م في قرية سرشتة الّتي تقع في محافظة السليمانيّة في إقليم كردستان في شمال العراق. يُعَدّ واحداً من أشهر الشعراء الكرد، ومعظم شعره كان يتكلّم عن إيمانه الصوفيّ، تُوفّي سنة 1882م.

[4]  سورة الأنبياء، الآية 73.

 

48


31

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

يدلّ على تشريع فعل الخيرات فقط، أمّا الإتيان بذات المصدر، فهو يدلّ على «أنّ الوحي تعلّق بالفعل الصادر عنهم؛ أي إنّ الفعل كان يصدر عنهم بوحيٍ مقارن له، ودلالة إلهيّة باطنيّة»[1].

 

نظريّة «كانط» (Immanuel Kant)

وعلى أيّة حال، فثمّة عدد من الفلاسفة يؤمنون بمثل هذا الوجدان المستقلّ لدى البشر، ومن هؤلاء: الفيلسوف الألمانيّ «كانط»[2] (Immanuel Kant)، والّذي يُعَدّ نظيراً وقريناً لـ«أرسطو» و«أفلاطون» في النبوغ والإبداع، له كتاب في فلسفة «العقل النظريّ»، وكتاب آخر في فلسفة «العقل العمليّ»، وأهمّ حديثه يدور حول مسائل الحكمة والأخلاق العمليّة. وهو يرى أنّ الفعل الأخلاقيّ هو ما يأتي به الإنسان بعنوان أنّه تكليف يُمليه عليه وجدانُه، إنَّه الفعل الّذي يأمر به الوجدان، والإنسان يُنجِز ذلك الفعل دونما تردُّد، إطاعةً للوجدان، لا لشيء أو غرض آخر.

 

ولـ«كانط» كلام كثير يتعلّق بالوجدان وضمير الإنسان، وقد شرحوا ذلك وبيَّنوه، وله جملة ذات مغزًى رفيع كُتِبَت على قبره، إمَّا بوصيّة منه أو بحسب اقتراح بعضهم، قال:

«شيئان يثيران إعجاب الإنسان دائماً، وكلَّما أمعن التفكير فيهما ازداد إعجابه، وهما:

1. السماء المملوءة نجوماً المرفوعة فوق رؤوسنا.

2. الوجدان المستقرّ في ضمائرنا».

 

 


[1]  راجع: الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرفة، إيران - قمّ، 1417هـ، ط5، ج14، ص305.

[2]  إيمانويل كانط - Immanuel Kant (1724 - 1804م): فيلسوف ألمانيّ، أمضى عمره في التعلّم والتعليم والتأليف والتصنيف، له آثار عديدة، تقارب الثمانين، ما بين رسالة وكتاب، أكثرها يدور حول النقد والفلسفة، ومن آثاره: نقد العقل المطلق، مباني فلسفة الأخلاق، نقد العقل العمليّ (الدكتور محمّد معين، الحضارة الفارسيّة، ج6، ص154).

 

49


32

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

الوجدان في نظر علماء النفس

في علم النفس، سطَّروا بحثاً طويلاً عن وجدانيّات الإنسان، وبتعبير أنسب: عن «فطريّات»[1] الإنسان وما هو موجود فيها. وهذا البحث يعتمد على أمور أربعة:

1. «الوجدان الراجع إلى طلب الحقيقة والعلم»: هل الإنسان يحبّ العلم لذاته، وأنّه خُلق مفطوراً على طلب الحقيقة والتحرِّي عنها، أوَليس الأمر كذلك؟

2. ما يُعبَّر عنه بـ«الوجدان الأخلاقيّ»: هل خُلِق الإنسان مفطوراً على حبّ الخير، وأنّه مُنِح وجداناً يدعوه إلى فعل الجميل وإسداء الإحسان، أو لا؟

3. ما يُعبَّر عنه بـ«الوجدان الجماليّ»: هل الإنسان يتذوَّق الجمال ويعشقه ويطلبه بحسب فطرته ووجدانه، أو لا؟

4. ما يُعبَّر عنه بـ«وجدان الدِين والعبادة»: هل كلّ إنسان تدعوه فطرته ووجدانه إلى اللجوء إلى العبادة والتوجُّه إلى إلهٍ ما؟ هل الوجدان الإنسانيّ يقضي بوجود إله يستحقّ العبادة أو لا؟

اعتمد «كانط» على مسألة «الوجدان الأخلاقيّ»، وآمن بأنّ الأخلاق دساتير صريحة وقوانين بيِّنة، يمليها الوجدان على الإنسان ويُلهمه إيّاها. وإذا ما سُئِل: لماذا يُؤثِر الإنسانُ غيرَه على نفسه؟ ولماذا يطلب الحقّ؟ ولماذا يرى الذلّة والمسكنة أصعب عليه من الموت والتضحية بالدم والروح؟ لأجاب: كلُّ ذلك علَّته وسببه «الوجدان»، ولا يوجد شيء آخر سوى قانون «الوجدان» ومعطياته.

هل المعلومات الذهنيّة مرهونة للتجارب فقط؟

نظريّة «الوجدان» هذه مبنيّة على نظريّة أخرى يؤمن بها «كانط» نفسه وفلاسفة آخرون، وتذهب إلى وجود حقائق غير متوقّفة على التجربة.

 

 


[1]  فطريّات الإنسان: اِعْتِبَارُ أَفْكَارِ الإِنْسَانِ وَتَصَرُّفَاتِهِ جِبِلِّيَّةً وَمَوْجُودَةً فِي النَّفْسِ قَبْلَ التَّلْقِينِ وَالتَّعَلُّمِ وَالتَّجْرِبَةِ.

 

50


33

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

ثمَّة سؤال قد أُثير، وهو: هل إنّ كلّ محتويات الذهن، وكلّ الثروات الفكريّة والوجدانيّة المكنوزة في الإنسان، مأخوذة من الحسّ والتجربة، وأنّه لا وجود لها في فطرة الإنسان وأصل خلقته، وأنّ الإنسان لا يمكنه إثباتها وتحصيلها إلّا عن طريق «الحسّ» فقط؟ أم إنّ الأمر خلاف ذلك، وأنّ ثمّة سلسلة من الأحكام والمعلومات مختمرة[1] في الذهن البشريّ ومتأصّلة في أعماقه؟

فريقٌ من الماضين والمعاصرين يعتقد بأنّ ذهن الإنسان خالٍ من كلّ زاد، وخِلْوٌ من كلّ شيء، وما هو موجود فيه إنّما اكتسبه عن طريق الحسّ وقنواته؛ فالذهن -بحسب تصوُّر هؤلاء القوم- كالمستودع الخلاء، وهو يُملَأ تدريجيّاً عن طريق «الحسّ»، وتُصَبّ فيه المعلومات عن طريق «التجربة».

وفريقٌ آخر يعتقد خلاف ذلك، ويقسم المعلومات الذهنيّة إلى قسمَين:

1. قِسم هو حصيلة الحسّ والتجربة والمشاهدة.

2. قِسم له حضور سابق على الحسّ، وهو مودَع في أعماق الإنسان وفطرته.

والفيلسوف «كانط» من أعضاء هذا الفريق، ويتبنَّى هذا الرأي.

العقل العمليّ والعقل النظريّ

من المسائل المرتبطة بموضوعنا، والمذكورة كثيراً في كلمات الفلاسفة المسلمين، مسألة انقسام أحكام العقل إلى قسمَين:

1. أحكام العقل النظريّ.

2. أحكام العقل العمليّ.

 


[1] مختمرة: مكتملة، ناضجة.

 

51


34

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

والمراد من هذا التقسيم، أنّ للعقل نوعَين من الإدراك: فهو تارةً يتعلَّق إدراكُه بما له حظّ من الوجود؛ أي بما ينبغي أن يُعلَم. وهو بهذا اللحاظ يُسَمّى بـ«العقل النظريّ».

وتارةً أخرى، يتعلَّق إدراكُه بما ينبغي ويجب إنجازه والقيام به، كالعدل والصدق. وهو بهذا اللحاظ يُسَمّى بـ«العقل العمليّ».

ويُلاحَظ هنا، أنّ فلسفة «كانط» تصبّ في تحليل هذَين العقلَين ومقدار تأثيرهما في حياة الإنسان وتصوّراته، وقد أوصله التحقيق إلى هذه النتيجة، وهي: ليس للعقل النظريّ دَورٌ يُذكَر في ذلك، وإنّ الأساس هو «العقل العمليّ»؛ لارتباطه بالوجدان وانتهائه إليه. يقول: إنَّ الوجدان أو العقل العمليّ مجموعة من الأُسُس والمبادئ المغروسة في فطرة الإنسان والمُودَعة فيه، وليست مأخوذة من «الحسّ» ومقطوفة من حقل «التجارب». فالأمر بالصدق والنهي عن الكذب مثلاً، موجود في فطرة الإنسان سلفاً، وهو يدرك ذلك وجداناً قبل أن تكون له أيّ تجربة مسبقة عن الصدق والكذب، فلا ارتباط لذلك بالتجربة. وهذان «الأمر والنهي» مطلقان؛ بمعنى أنّهما غير مقيّدَين بما وراء الصدق والكذب ونتيجتهما. فنحن حينما نحثّ على الصدق في الحديث، نذكر فوائده العائدة على الصادق، كاعتماد الآخرين عليهم والأخذ بكلامه، وهذا ممّا يُكسِبه شخصيَّة بارزة ومحترمة. وحينما ننهى عن الكذب، نذكر أضراره العائدة على الكاذب.

أمّا «كانط»، فهو يرى أنّ الوجدان الأخلاقيّ لا يلتفت للنتائج مطلقاً، ولا يعنيه أمرها[1]، أمّا العقل، فهو ينشدُ «المصلحة» دائماً، ويدور حيثما دارت، وأحكامُه أبداً مشروطةٌ بها؛ فلو زالت «المصلحة» وارتفعت، رفع العقل اليد عن حُكمه أيضاً. والسبب في أنَّ الأخلاقيّين

 

 


[1]  جاء في كتاب «قصّة الفلسفة» عن عقيدة «كانط» في «العقل العمليّ»، ما نَصُّه: يجب أن نستمدّ الأساس الأخلاقيّ من باطن النفس بإدراك وبصيرة مباشرة. يجب أن نجد أخلاقاً عامّة وضروريّة ويقينيّة كالرياضيّات، ويجب أن نُظهِر أنّ «العقل الخالص» يمكن أن يكون عمليّاً، وأنّه يمكنه، بطبيعته، أن يقود الإرادة، مستقلاً عن أيّ شيء تجريبيّ، وأنّ الأخلاق فطريّة فينا، ولم تُستَمَدّ من التجربة (ص349).

وفي ص350، يقول: وبموجب هذا القانون الأخلاقيّ المفطور في نفوسنا، يكون العمل فاضلاً وصالحاً، لا بسبب ما ينتج من هذا العمل من نتائج حسنة أو طيّبة أو بما فيه من حكمة، ولكن لأنَّ هذا العمل قد أُدِّي وفقاً لهذا الشعور الداخليّ بالواجب.

 

52


35

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

يجيزون السلوك خلاف الأصول الأخلاقيّة أحياناً، هو أنّهم لا يستندون إلى إلهام «الوجدان» وحُكمه، بل يستفتون «العقل» ويأخذون برأيه؛ لأنّ الّذي يراعي «المصلحة» هو «العقل» دون «الوجدان».

«الوجدان» يحثّ على الصدق، ولو جلب الضرر على صاحبه، وينهى عن الكذب، ولو جلب النفع الكثير لصاحبه. وكما يقول «حافظ»[1]:

لا أعرف مَن يُتعِب قلبي في أعماقي

                                         أنا صامتٌ وهو في صياح وهتاف

والله -عند «كانط»- هو الّذي أودع في الإنسان مثل هذه القوّة المقنَّنة[2]، والبشر مكلَّفون في حياتهم هذه بالتكاليف الأخلاقيّة، والقوّة المتمركزة فيهم تُصدِر قراراتها في ما يتعلَّق بذلك بنحوٍ دائم. وما مِن إنسان في هذه الدنيا يرتكب عملاً منافياً للأخلاق، إلَّا وذاق مرارة الندم، وقاسى تأنيب الضمير، وإن لم يشعر بذلك حين العمل؛ لغياب العقل آنئذٍ. إنّ الّذي يغتاب الآخرين -مثلاً- يكون لاهياً مستغرِقاً في ما هو فيه، وكذا حال مَن يتشاجر مع غيره، تجده وقد غاب عن ذاته، حيث إنّه قد لا يشعر بما يُصاب به من جروح وآلام. إنّ المغتاب اللاهي يلتذّ بفعله ويطرب وكأنّه أحرز انتصاراً، وهو في ذلك كالجائع السغب[3]؛ إذ يأكل ما أمامه بلذّة وشراهة، وقد مثَّل القرآن الكريم المغتاب بآكل الميتة[4] الّذي ما إن ينتبه من سِنَة الغفلة، ويثوب إلى رشده، حتّى يشعر بالاشمئزاز من ذاته، ويودّ لو يفرّ منها ولا يعقّب، ولا يزال يلوم نفسه ويعنّفها، وهذا هو عذاب «الوجدان» المحتوم الّذي لا ينجو منه إنسان، حتّى أعتى المجرمين والجناة -ولو للحظات من أعمارهم-

 

 


[1]  حافظ: شمس الدين محمّد حافظ الشيرازيّ (نحو 725 - 792هـ)، الملقّب بـ«خواجه حافظ الشيرازيّ»، والشهير بـ«لسان الغيب»، من أشهر الشعراء. مولده ووفاته بشيراز. لقب بـ«حافظ» لحفظه القرآن الكريم بقراءاته الأربع عشرة. له أشعار بالفارسيّة والعربيّة، وتُرجمت أشعاره إلى كثير من اللغات العالميّة.

[2]  المقنَّنة: وضع القوانين وتدوينها.

[3]  الجائع السغب: الجوع مع التعب.

[4] قال تعالى: ﴿وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ﴾ (سورة الحجرات، الآية 12).

 

53


36

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

يشعرون بهذا العذاب ويتلوُّون تحت سياطه ويقاسون وخز الضمير.

إنَّ السرّ في إدمان أغلب المجرمين على ممارسة جملة من السلوكات اللاهية والمغيِّبة للذات، مثل تعاطي الترياك والهيرويين وما يُسَمّى بالمشروبات الروحيّة، وكذا القمار وما شابه ذلك، هو الرغبة الملحّة في الفرار من «الذات»، إنّهم لا يريدون أن يعيشوا معها؛ لأنّها تُسبِّب لهم عذاباً، كما لو كان داخلُهم مشحوناً بالثعابين والعقارب، فهي تلدغهم وتعذّبهم بلسعاتها دوماً. وهذا الإدمان كالمخدِّر الّذي يُحقَن به المريض لتخفيف آلامه مؤقّتاً، دون أن تكون له القدرة على استئصال الداء الّذي يعاني منه. وهذا إن دلَّ على شيء، فهو يدلّ على تعاسة هذا الإنسان الّذي لا يستطيع بناء ذاته، حيث يسعه أن يخلو بها ويواجهها بدلاً من الهروب منها. فمرحى لأهل الصلاح والتقوى والأخلاق، ولأولئك الّذي يصغون لنداء «الوجدان»، والمتحرّرين من قيد الإدمان الهدّام، الفارّين من كلّ ما من شأنه تغييب ذواتهم وإلهاؤهم عنها، فهم يريدون أنفسهم لأنفسهم؛ لأنَّ عالَمهم الباطنيّ أسلم من عالَمهم الخارجيّ وأنقى، فهم فيه يعيشون الطمأنينة والرضى، بخلاف ذلك الإنسان الّذي يجعل من باطنه مسبعةً تسرح فيها الوحوش، فإنّه دائم الهرب من ذاته، متوجّساً خيفةً منها، وملتمساً ملجأً ما.

ولَنِعْمَ ما قال الملّا «الروميّ»[1]:

ابتعِد زمناً عن الخَلق والناس، متى تكون ذلك

                                         الإنسان الّذي يغتبط بنفسه ويُسَرّ

وخلاصة القول: إنّ مَن لا يقدر على الخلوة بنفسه، قد أضاع نفسه الواقعيّة.

 


[1]  هو محمّد بن محمّد بن الحسين الخطيبيّ، يُلقَّب بجلال الدين، واشتهر أيضاً بلقب «مولانا» أو «مولوي». وُلِد في مدينة «بلخ» في السادس من ربيع الأوّل 604هـ.ق، وإنّما لُقِّب بـ«الروميّ» لطول إقامته في مدينة «قونيه» من بلاد الأناضول، وكانت تُعرَف ببلاد الروم. وهو من أعظم الشخصيّات الأدبيّة عند الفرس. ومن أشهر كتبه: «المثنويّ» و«الرباعيّات».

 

54


37

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

وعطفاً على ما سبق، يقول «كانط»: لو لم تكن هذه السلطة الوجدانيّة في الإنسان، لَمَا ذاق مرارة الندم وألمَ العذاب، ولَرضيَ عن أفعاله، أو لَمَا أحسَّ بالقلق على الأقلّ.

وخلاصة القول: إنّ «الوجدان» الإنسانيّ، أمرٌ فطريّ مُطلَق وغير منوط بالتجربة، وأحكامه ثابتة وضروريّة وغير قابلة للإخضاع والمساومة. قد يخضع الإنسانُ لجبّارٍ ما، لكنّه أبداً لا يستطيع إخضاع وجدانه لفعل قبيح وإقناعه به، وإن كان الأعتى والأشدّ إجراماً؛ فـ«الوجدان» لا يحابي أحداً، ولا يبارك جناية أحد، بل هو ثابتُ القَدَم، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والتاريخ أصدقُ شاهد على ذلك، فكم من الجناة الّذين جُنُّوا إثرَ ارتكابهم الجرائم المفجعة بحقّ الإنسانيّة!

الوجدان والسعادة

من المسائل الّتي طُرِحَت هنا، مسألة العلاقة بين الكمال والسعادة، وأنّه هل الكمال غير السعادة أو هو عينُها وذاتها؟ لهذا السؤال جوابان:

الأوّل: ما ذكره «كانط» من أنَّ الكمال غير السعادة، وأنّ الوجدان إنّما يدعو الإنسان للكمال، لا للسعادة، وهو يدَّعي أنّ الشيء الجميل الوحيد في هذا العالَم هو «إرادة الخير»، وهي الإرادة الّتي تنقاد انقياداً مطلقاً للوجدان، وهذا هو الكمال المطلوب، سواء قدَّم لنا هذا الكمال سعادةً أم ألَماً؛ لأنّ المهمّ ليس السعادة، بل الواجب. فالواجدان إذاً، لا يسعى خلف السعادة ولا يعنيه أمرها، فالأخلاق عنده فوق السعادة؛ لأنّ السعادة تعني اللذَّة. إن كان ليس كلّ لذّة هي سعادة، فاللذّة المعقّبة بالألم ليست سعادةً، بل السعادة الخالصة تلك الّتي لا يشوبها شيءٌ من الآلام الروحيّة والجسميّة والدنيويّة والأخرويّة، ويقابلها «الشقاء».

من هنا، ينبغي ملاحظة مجموع اللذائذ ومجموع الآلام؛ فما كان منها أشدّ تحقيقاً للّذّة وخلوصاً من شوائب الآلام والشقاء، فهو السعادة؛ لأنّ «السعادة» تعني اللذّة

 

55


38

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

الخالصة. ولكن -يقول «كانط»- «الوجدان» لا يبحث عن هذه السعادة، بل هو يبحث عن «الكمال»، وإن جرَّ ألَماً وشقاءً؛ لأنّه لا يمكن عبور دائرة الحيوانيّة والوصول إلى أُفُق الملَكوت، إلَّا بذلك، فهو يفكّك بينهما، وهذا الرأي هو السائد بين مفكِّري الغرب إلى الآن.

الثاني: ما ذكره الفلاسفة والحكماء المسلمون في أبحاثهم الأخلاقيّة، منهم «ابن سينا»[1] في كتابه «الإشارات»، و«الفارابيّ»[2] في كتابه «تحصيل السعادة» وغيرهما، وحاصل ما ذكروه هو:

أنّ «السعادة» هي غاية كلّ إنسان، والساعي إليها يسعى إلى كمالٍ ما؛ لأنَّ كلّ سعادة هي كمال وخير، والكمال سعادة، خلافاً لِما يعتقده «كانط» من تغايُرهما وانفصالهما، وإنِ اعترف بإشكاليّة ذلك من حيث صعوبة تلك الأخلاق الّتي تضع «الواجب» فوق «الجمال»، و«الكمال» فوق «السعادة».

أمّا الفلاسفة المسلمون، فيرون مفهوم «السعادة» ركناً أخلاقيّاً لا يمكن إغفاله، ورقماً مهمّاً لا يمكن إسقاطه من المعادلة، كما صرَّح بذلك المعلّم الثاني «الفارابيّ» (في كتابه تحصيل السعادة)، وكذلك صاحب كتاب «جامع السعادات» وصاحب كتاب «معراج السعادة»[3].

ونحن هنا، نسأل «كانط»: هل الإنسان الواصل إلى الملَكوت بعد اجتيازه مرتبة الحيوانيّة، سعيدٌ أم شقيٌّ؟ والجواب جزماً، هو أنّه سعيدٌ. وهذا يدلّ على عدم انفكاك «الكمال» عن «السعادة». والسعادة المنفكّة عنه الّتي ذكرها «كانط»، إنّما هي السعادة


 


[1] هو ابن الحسين بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن سينا، الملقَّب بالشيخ الرئيس. وُلد في قرية «آفشنة» على مقربة من «بخارى» العام 370هـ - 980م، وتُوفّي العام 427 أو 428هـ. من مؤلّفاته: الشفاء، النجاة، الإشارات والتنبيهات، القانون في الطبّ. وللمزيد: لاحِظ الجزء الثاني من مختارات «عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء»، ص132، فله فيه ترجمة وافية.

[2] هو أبو نصر محمّد بن طرفان بن أوزنغ (259 - 339هـ)، المعروف بالمعلِّم الثاني، منسوب إلى بلدة «فاراب» من بلاد تركستان. وهو من أشهر فلاسفة المسلمين، وقد عدَّه ابن سينا وابن رشد أستاذاً لهما. من آثاره: آراء أهل المدينة الفاضلة، تحصيل السعادة، وغير ذلك.

[3] الأوّل لمؤلّفه العلّامة المولى مهدي بن أبي ذرّ النراقيّ الكاشانيّ، والثاني لمؤلّفه العلّامة الشيخ أحمد بن المولى مهدي النراقيّ، وهو مأخوذ من كتاب والده «جامع السعادات».

 

56


39

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

واللذّة المادّيّة الدنيويّة، وإلّا فالسعادة الحقيقيّة المطلقة لا يمكن فصلها عن الكمال، وحتّى «كانط» نفسه لم يستطع فصلها عنه. ونحن مهما فسَّرنا كلامه بشكل ما، فلا مناصّ من القول بأنّ مراده من «السعادة» هو ما يُطلِق عليه قدماء فلاسفتنا «السعادة الحسيّة» في قِبال «السعادة الروحيّة غير الحسيّة». لكن حيث إنّ «كانط» لا يقيم وزناً للعقل النظريّ، ولم يعتمد على ما نطلق عليه اسم «الفلسفة الإلهيّة»، فقد اتّخذ من «الوجدان الأخلاقيّ» محوراً ومنطلقاً لفلسفته، وهو يعتقد بأنّ مفاتيح المسائل المغلقة كلّها بِيَد هذا «الوجدان الأخلاقيّ»، من قبيل مسألة الدين والحرّيّة والاختيار وخلود النفس والمعاد وإثبات وجود الله تعالى.

الوجدان واختيار الإنسان

لقد آمن «كانط» بأنّ «العقل النظريّ» -أو ما نُسمِّيه «الفلسفة»- لا يمكنه إثبات حريّة الإنسان، بل هو -أي العقل- يصل إلى نتيجة معاكسة تماماً، وهي أنّ الإنسان مسلوب الاختيار والإرادة. ولكنّنا نستطيع عن طريق «الحسّ الأخلاقيّ» الفطريّ المرتكز في باطننا، والمعلوم لدينا بالعلم الحضوريّ[1] والإدراك المباشر، أن نكتشف أنّ الإنسان حرّ ومختار؛ فالإنسان إذا وضع إرادته تحت سلطان «الوجدان» واستشعر «الواجب»، فسوف يشعر بالحرّيّة شعوراً مباشراً، إذا ما وقف موقف الاختيار بين سلوكَين.

ما ذكره «كانط» هنا، سبقه إليه آخرون؛ إذ صرّحوا بأنّ الاختيار دليلُه الحسّ الباطنيّ، دون العقل النظريّ. يقول «مولوي»:

إنّ قولك: افعل هذا أو ذاك، هو دليل اختيارك لو كنت تعقل.

 

 


[1]  العلم الحضوريّ: يعني إدراك الإنسان لباطنه بنحو مباشر (المعرِّب).

 

57


40

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

الوجدان وخلود النفس

من جملة التساؤلات الملحّة الّتي تواجهها البشريّة في طلبها الحثيث للحقيقة، سؤال وثيق الصلة بذات الإنسان، بل إنّ جوابه يمثّل حقيقة هذا الإنسان، والسؤال هو:

هل النفس الإنسانيّة تفنى بموت الإنسان؟ أو هي تنعم بالخلود في عالَمٍ آخر، تسعد فيه أو تشقى؟

هذا السؤال تسبّب في انقسام فلاسفة الغرب الكبار إلى فئتَين، اختارَت إحداهما الشقّ الأوّل منه، وآمنت الأخرى بالثاني، وإليها ينتمي «كانط»، وهو وإن أصرَّ على أنّ البراهين الفلسفيّة ومنطق العقل النظريّ لا قدرة لها على إثبات خلود النفس، إلّا أنّه يثبت ذلك عن طريق الوجدان الباطنيّ للإنسان.

بيان ذلك: إنّ وجداننا الأخلاقيّ يدعونا دوماً للفضيلة وترك الرذيلة، يدعونا لأداء «الواجب الأخلاقيّ»، كالصدق والأمانة والعدل من جهة. ومن جهة أخرى، نحن نعلم بأنّ هذه الأمور لا ثواب ولا عوض عنها في هذه الحياة الدنيا؛ فالمحسن لا يُكافَأ فيها على إحسانه، بل هذه الأمور قيود تمنع الإنسان من التمتّع بالمنافع واللذائذ الدنيويّة[1]، ولولاها لنالت يداه ما لذَّ وطاب. ولكن، على الرغم من علمنا بهذا كلّه، فإنّنا ما نزال نشعر وجداناً بأفضليّة التقوى وصنع المعروف، وإن اصطدم ذلك بمنافعنا. وهذا الشعور ما كان ليبقى ويصمد لولا الإيمان القلبيّ العميق بأنّ هذه الحياة ليست سوى وجه ظاهريّ لحياة أخرى مستورة، يُكافَأ فيها المحسن، ويُعاقَب المسيء، وتلك الحياة حياة خالدة؛ إذ لولا خلودها لَما كان للجزاء معنى. وإذا وصلنا إلى هنا -يقول «كانط»- فقد وصلنا إلى

 

 


[1]  هنا يذكر الشهيد -رحمه الله- نموذجَين من الإنسان، مثَّل أحدهما الأخلاق والكمال، ومثّل ثانيهما الدناءة والانحطاط، فالإمام عليّ (عليه السلام) تراه عادلاً منصفاً كريماً، يبغض الحيف والإجحاف، ويرفض المكر والغشّ والكذب. وفي المقابل، ترى معاوية متحرّراً من ذلك كلّه، مبيحاً لنفسه شتّى الرذائل، وأقام سياسته على قانون «الغاية تُبرّر الوسيلة»، فهمّه الوصول إلى أهدافه، وإن كان ذلك من طريق الظلم وسرقة الأقوات ونهب الأموال؛ ومَن هذا ديدنُه، فهو جزماً المنتصِر. أمّا الإنسان المتمسّك بأهداب الفضيلة وعرى التقوى، فتصيبه الهزيمة في هذه الدنيا.

ملاحظة: إنّما ذكرنا هذا في الهامش حفاظاً على تسلسل فكرة «كانط» ورعاية لسلاسة السبك (المعرِّب).

 

58


41

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

«الله»؛ لأنَّ الإيمان بالخلود يتضمّن الإيمان بوجود إله بِيَدِه الجزاء والحساب.

وخلاصة القول: إنّه من المحال ألّا يعلم الإنسان بالعاقبة الحميدة لأفعاله الخيّرة، وإنّ كلّ إنسان يؤمن في أعماقه بوجود حياة أخرى للجزاء، وإن جحدها باللسان، وهذا معلوم لديه بالعلم الحضوريّ كما عرفت؛ ولذا تراه لا يترك الصدق والعدل، وإن جُوزِيَ عنها بالإساءة والظلم.

من هذا العرض المختصر، تبيَّن لنا أنّ «كانط» لا يثق بالفلسفة والعقل النظريّ في ما يرتبط بما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، وأنّه عوَّل في إثبات «الماورائيّات» على «الوجدان» و«العقل العمليّ»، فهو واقع تحت سلطان الوجدان ومتأثّر به إلى حدٍّ كبير ويعلّق عليه آمالاً عريضة، وهذا الانفعال يعكسه قوله المأثور عنه: بأنّ في هذا العالَم شيئَين يثيران عجب الإنسان، وهما: قبّة السماء ذات النجوم المتلألئة، والوجدان الإنسانيّ. وهو مغرم جدّاً بجملة «جان جاك روسو»[1] (Jean Jacques Rousseau) الّتي يقول فيها: إنّ شعور القلب فوق منطق العقل؛ بمعنى أنّه قد يدرك الإنسان بوجدانه ما لا يدركه بعقله؛ وذلك لأنّ للقلب أسباباً خاصّة به لا يفهمها العقل، كما يقول «باسكال»[2] (Pascal Blaise) العالِم الرياضيّ المشهور. إذاً، ثمّة طريق آخر غير «العقل النظريّ» يوصل إلى الله تعالى، وهو طريق القلب والوجدان، ويُشار هنا إلى استعمال كلمة «القلب» مكان «العقل» في لسان عرفائنا، ومرادهم منه هو «الوجدان» المطروح هنا.

هذا الوجدان نفسه، هو المراد في حديث الإمام الصادق (عليه السلام) مع ذلك الرجل الّذي

 

 


[1]  جان جاك روسّو - Jean Jacque Rousseau (1712 - 1778م): فيلسوف ومفكّر فرنسيّ، دعا إلى تبنّي الحسّ الوجدانيّ والإصغاء لنداء الفطرة، ورفض فكرة كون العقل هو المرجع النهائيّ في الحكم على الأمور. ومن كلامه: نثق في مشاعرنا في الأزمات الكبيرة الّتي تواجهنا في حياتنا وفي قضايا الإيمان والسلوك، أكثر من الثقة بعقولنا. وذُكِر أنّه كان ذا خُلُق سامٍ وسلوك رفيع، وهو من الّذين حاربوا المادّيّة وكافحوا الإلحاد الّذي جاء به عصر التنوير في أوروبّا، وقد تأثّر «كانط» به تأثّراً بالغاً.

[2]  باسكال بْليز - Pascal Blaise (1623 - 1662م): رياضيّ وعالِم طبيعة فرنسيّ، وهو أحد مؤسّسي نظريّة «الاحتمال». وعلى الرغم من اكتشافاته في العلوم الطبيعيّة، إلّا أنّه ذو نزعة شكِّيَّة موجَّهة ضدّ العلم والمعرفة العقليّة. وتُعَدّ آراؤه المنطقيّة تكراراً لآراء «ديكارت» (René Descartes). أهمّ مؤلّفاته «الأفكار»، وقد طُبع بعد وفاته سنة 1669م.

 

59


42

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

قال له: يَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى اللَّهِ مَا هُوَ؟ فَقَدْ أَكْثَرَ عَلَيَّ الْمُجَادِلُونَ وَحَيَّرُونِي. فَقَالَ لَهُ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةً قَطُّ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةَ تُنْجِيكَ، وَلَا سِبَاحَةَ تُغْنِيكَ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ هُنَالِكَ أَنَّ شَيْئاً مِنَ الْأَشْيَاءِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ [الإمام] الصَّادِقُ (عليه السلام): «فَذَلِكَ الشَّيْ‏ءُ هُوَ اللَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِنْجَاءِ حَيْثُ لَا مُنْجِيَ، وَعَلَى الْإِغَاثَةِ حَيْثُ لَا مُغِيثَ»[1].

نقد نظريّة «كانط»

لا شكّ في وجود نقاط مضيئة ومعانٍ عالية في هذه النظريّة، ولكن فيها أيضاً نقاط قابلة للنقد، نذكر منها موارد ثلاثة:

1. تحقير الفلسفة

إزراؤه[2] بـ«العقل النظريّ» أو ما يسمّيه هو بـ«العقل الخالص»، والتقليل من شأنه ودوره في استكشاف ما وراء الطبيعة (الميافيزيقا)، فهو يؤكّد بأنّنا لا نستطيع إثبات شيء من هذه المسائل عن طريق العقل النظريّ، وهذا اشتباه منه. فنحن -ودون تجاهُل لدور الوجدان والعقل العمليّ أو إنكاره- يمكننا إثبات اختيار الإنسان وبقاء النفس، ووجود الباري تعالى بواسطة العقل النظريّ أيضاً، كما أنّ الأخلاق الّتي يستلهمها من الوجدان، بإمكان العقل النظريّ إدراكها، ولو من باب التأييد للوجدان.

2. فصل الكمال عن السعادة

ما أشرنا إليه سابقاً، من فصله الكمال عن السعادة، وهذا خطأ فادح، لِمَا عرفتَ عن عدم الانفكاك بينهما، وأنّ كلّ كمال هو في ذاته نوع سعادة، وأنّ السعادة والبهجة غير منحصرة في اللذّة الحسّيّة. ولو صرفنا النظر عن هذه النقطة، فإنّ سؤالاً يطرح نفسه هنا،

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج3، ص41.

[2] إزراء: أزرى بالشيء إزراءً، تهاون به.

 

60


43

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

وهو: كيف يشعر الإنسان بالمرارة والندم حينما يتمرَّد على وجدانه ويخرج عن طاعته، ولا يشعر بالطمأنينة واللذّة حينما ينصاع ويدخل في طاعته؟

بناءً على رأي السيّد «كانط»، فالإحساس بالمرارة يلازم الإنسان حتّى لو كان مطيعاً للوجدان؛ لأنّه نفسه الّذي قال بفصله عن السعادة، وهذه النتيجة يُشْكَل قبولها ويعسر هضمها؛ إذ كيف يداخلنا الإحساس بالندم وتأنيب الضمير، سواء أطعنا الوجدان أم تمرّدنا عليه؟! إنّ هذا لمحال؛ لأنّ الإنسان إذ يشعر بالندم والحسرة إثر مخالفته لأوامر الوجدان، في قبال ذلك يشعر بالمسرّة والبهجة إثر إطاعته له وامتثال أوامره وتلبية ندائه. ومثال ذلك، الشخص الّذي يُؤثِر غيرَه على نفسه؛ إذ تعتريه حالة من النشوة الروحيّة، ويفيض قلبُه غبطةً وحبوراً، كالحديقة المملوءة زهوراً؛ لأنّه يعدّ ما أصابه من كدح ومشقّة في سبيل إسعاد الآخرين وهنائهم نوعاً من اللذّة والمسرّة الّتي لا يشعر بها في اللذّات الحسّيّة. وحسناً فعل «أبو علي سينا» في خاتمة «الإشارات»[1]؛ إذ عقد فصلاً خاصّاً تحت عنوان «خطأ حصر اللذّة في اللذّة الحسّيّة»، ثمّ ذكر نماذج عدّة من اللذائذ المعنويّة، بل إنّ علم النفس الحديث يثبت -أيضاً- عدم انحصار لذّة الإنسان في اللذّة الحسّيّة.

اللذّة الحسّيَّة لذَّة عضويّة مرتبطة بالمحرّك الخارجيّ، كلذّة الطعام والغذاء الحاصلة من المأكول أو المشروب، وكاللذائذ الأخرى الحاصلة من الحاسّة الشامّة أو اللامسة أو السامعة. وثمّة لذائذ غير مرتبطة بالجسم، كاللذّة الحاصلة من فضيلة الشجاعة للرجل الشجاع؛ فالرجل الحائز على هذه الفضيلة والمتلبّس بها، يشعر باللذّة حينما يرى يده وقدرته فوق الآخرين، كما أنّ المحبوب من الناس يُسَرُّ بذلك، والعالِم يداخله إحساس بالانتصار والنشوة إثر كشفه عن حقيقة علميّة ما، فهذه المسرّات لا يد للعوامل الحسّيّة فيها.

 

 


[1]  أي كتابه «الإشارات والتنبيهات».

 

61


44

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

من هذا الباب، ما يُحكى عن الخواجة «نصير الدين الطوسيّ»[1] من أنّه إذا استعصَت عليه مسألة ما، ثمّ وُفِّق لحلّها وكشفِ إبهامها، اعترته حالة من السرور والبهجة، وقال: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذّة؟ كما يُنقَل عن السيّد «محمّد باقر»[2]، المعروف بحجّة الإسلام، أنّه ارتأى ليلة زفافه أن يشتغل بالمطالعة حتّى يحين وقت الزفاف، إلّا أنّ استغراقه في البحث أنساه ذلك، ولم ينتبه لِما هو فيه حتّى سمع أذان الفجر، وأمّا عروسه المسكينة، فقد ظنَّت أنّه راغبٌ عنها، زاهدٌ فيها؛ ممّا اضطرّه لأنْ يُقسِم لها بأنّه لم يتعمَّد ذلك، وأنّ الاستغراق في المطالعة هو المسؤول عن تأخُّره.

والحاصل أنّه لا يمكن التفكيك بين مسألة اللذّة وبين المسائل الوجدانيّة؛ وإذ يلتذّ أحدٌ ما، فلأنّه نال ما يتمنّاه. وإذ يـتألّم؛ فلأنّه لم يبلغ الكمال الواجب بلوغه. فما هو الرائج اليوم في الفلسفة الغربيّة من التفكيك بينهما، أمرٌ مبايِنٌ للصواب وغير صحيح إطلاقاً؛ لأنّ كلّ كمال يجلب -قهراً- نوعاً من اللذّة للإنسان، ولو أنّه عند طلبه للكمال غافلٌ عنها.

عَدُّ أحكام الوجدان كلّها مطلقة

من هنا لم يرتضِ ثلّة من فلاسفة العرب ومفكّريهم هذه النظريّة، وقالوا: إنّ «الوجدان» ليست له أحكام مطلقة بالقدر المذكور في هذه النظريّة، بل توجد أحكام مطلقة وأخرى مقيّدة، فمِن الأُولى: العدل والظلم؛ فإنّ العاقل يحكم بحُسن الأوّل وقبح الثاني بنحوٍ مطلق. ومن الثانية: الصدق، حيث إنّ الحكم بحُسنه لا يتمتّع بالإطلاق، بل هو مقيَّد

 

 


[1]  الخواجة نصير الدين الطوسيّ (597 - 672هـ): أحد عظماء الفلاسفة والحكماء المسلمين، ويُعَدّ من مفاخر الشيعة، ألّف الخواجة الكثير من الكتب والرسائل العلمية في مواضيع مختلفة، منها في علم الأخلاق، والمنطق، والفلسفة، والكلام، والهيئة والرياضيات، والنجوم، ومن أهمّ مؤلفّاته في هذه العلوم: أخلاق ناصري، وأوصاف الأشراف، وأساس الاقتباس، وشرح الإشارات، وتجريد الاعتقاد، وجامع الحساب، وكتابه المشهور بـ زيج الإيلخاني، والتذكرة في علم الهيئة. كما أسّس مرصد مراغة ومكتبتها الّتي توفّر فيها أكثر من 400 ألف كتاب.

يُعَدّ الخواجة من الّذين أحيوا الفلسفة، ومبتكر المنهج الفلسفيّ في الكلام الشيعيّ، وقد درس عنده كبار علماء الشيعة، منهم: العلّامة الحلّيّ، وابن ميثم البحرانيّ، وقطب الدين الشيرازيّ.

[2]  السيّد محمّد باقر محمّد تقي الموسويّ: من أبرز العلماء المتأخّرين. عُرِف بسعة العلم وشدّة اهتمامه بأمور المسلمين، وترك آثاراً علميّة عديدة.

 

62


45

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

بالمبدأ الّذي تعتمد عليه فلسفة الصدق. وقد يحدث أن يُفَرَّغ الصدق من هذا المبدأ، فينقلب من حَسَنٍ إلى قبيح، ومن ممدوح إلى مذموم.

فما ذكره «كانط» من أنّ الوجدان يأمر بالصدق مطلقاً، بلا رعاية للمصلحة، رأيٌ تعوزه الدقّة، والوجدان نفسه يشهد بذلك. فلو أنّ ظالِماً يلاحق رجلاً ما كي يقتله ظلماً وعدواناً، سأل أحداً عنه وعن مكانه، فبماذا يجيبه؟ إن قال: لا أعلم عنه شيئاً، فهو كذبٌ لا يرتضيه الوجدان -وجدان «كانط»-، وإن أخبره بمكان ذلك المسكين، فسوف يقتله بغير وجه حقّ. فهل ترون هنا، أنّ الوجدان يأمر بالصدق مطلقاً، أيّاً كانت النتيجة؟! لا ريب في أنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ الوجدان لا يرضى أبداً بالظلم وإهدار حقّ الآخرين، وهذا حُكمٌ مطلق غير مقيّد بعدم الكذب؛ ولذلك أجاز الفقه الإسلاميّ مثل هذا الكذب الحكيم؛ لحكم العقل العمليّ به، وهذا هو رأي أهل المعرفة والحكمة. وهذه المسألة قريبة الصلة بمسألة الحُسن والقبح العقليَّين المطروحة من قِبَل المتكلّمين والأصوليّين. يقول «سعدي»: الكذب ذو المصلحة خيرٌ من صدقِ ذي فتنةٍ.

ثمّة حكاية تقول: أُدخِل أحدُ المتّهَمين على الملِك، فأمر بقتله، وإذ آيس الرجل من الحياة، شرع في سَبِّ الملِك وشتمه، ولكنّ الملِك لم يسمع جيّداً، فسأل: ماذا يقول هذا الرجل؟ فقال الوزير: إنّه يقول: ﴿وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ﴾[1]. وهنا تدخّل أحد الأشخاص ممَّن كانوا يتحيّنون الفرصة للنيل من الوزير كي يتقلَّد الوزارة بدلاً منه، فقال: لا ينبغي الكذب في حضرة الملوك، ثمّ التفت إلى الوزير، وقال: إنَّ هذا الرجل حقَّر الملِك وأهانه، وأنت تقول إنّه قرأ آية من القرآن؟ وظنَّ أنّه أصاب الوزير في مقتل. لكنّ الملِك قال له: إنّ كذِبَه أحسنُ من صدقِك[2]. وإنّما نسج «سعدي» هذه الحكاية للتنبيه على هذه الحقيقة.

 


[1] سورة آل عمران، الآية 134.

[2]  ما في «كلستان» يختلف عمّا ذكر المؤلّف في بعض التفاصيل.

 

63


46

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

لا بدَّ هنا من التفريق بين الكذب ذي المصلحة، والكذب الّذي يجرّ نفعاً لقائله بغير استحقاق، أو يدرأ عنه ضرراً هو مستحقٌّ له؛ إذ إنّ كثيراً من الناس إمّا أنّهم يتعمّدون الخلط بينهما، وإمّا أن يلتبس عليهم الأمر حقّاً. والفرق بينهما هو: أنّ الكذب ذا المصلحة فاقدٌ لروح الكذب وحقيقته، وحالَّةٌ فيه روح الصدق؛ وبعبارة أخرى: هو الكذب الّذي تُنقَذ به الحقيقة، ويُدفَع به الظلم. أمّا الكذب ذو النفع المذموم، فهو ما يُراد به النفع الشخصيّ، ولو على حساب الحقيقة. وثمّة فرق بين «المصلحة» و«المنفعة»، فـ«المصلحة» تدور مدار الحقيقة وترعاها، أمّا «المنفعة» فتدور مدار الذات، فهي المنظورة حال الكذب، كما هو دَيْدَن ممارسي الكذب؛ إذ يكذبون سعياً وراء المنافع الذاتيّة، وهم يدّعون أنّه كذب حكيم جائز، والحال أنّه كذب مذموم كسائر الأكاذيب. إلى هنا، اتّضح أنّ القبيح ليس هو مطلق الكذب، كما أنّ الحَسَن ليس هو مطلق الصدق.

وقد أخطأ جماعة من الزرادشتيّة[1]؛ إذ عابوا على «سعدي» قوله السالف الذكر، واعتبروه معلِّماً لمساوئ الأخلاق، وبهذا العذر منع المستعمرون الإنجليز قراءة كتب «سعدي» وتداوُلها في المدارس الهنديّة الّتي أسموها تحت إشرافهم، كما ذكر ذلك أحد فضلائنا. وكأنّ قلوب الإنجليز تقطر دماً على الشعب الهنديّ وتعليمه، حيث لا يريدون أن يكذبوا وإن كان في ذلك مصلحة. لكنّ أهل النظر سرعان ما أدركوا سرّ هذا المنع، وهو أنّ «سعدي» كتب في مقدّمة «كُلستان»[2] بيتَين من الشعر لا يعجبان الإنكليز، قال:

 


[1]  الزرادشتيّة: ديانة منسوبة إلى الزرادشت أو «زراتشترا Zarathushtra»، وهو رجل فارسيّ عاش قبل المسيح بقرون، وقد سنَّ سُنَّة، أصبحت الديانة الرسميّة للإمبراطوريّة الإيرانيّة وما والاها أكثر من ألف عام قبل الإسلام. وأتباع هذه الديانة يُسَمّون في اللغة العربيّة باسم «المجوس»، وهو معرّب كلمة «مكوسيا»، وهي لفظة بهلويّة، وتُعرَف في الفارسيّة الحديثة باسم (مع)، وهو لقب كان يُلقّب به رجال الدين في إيران قبل زرادشت، وقد تسرَّب كثير من عقائدهم إلى الديانة الزرادشتيّة. وكتاب زرادشت الدينيّ يُسمّى «الأفيستا Upasta»، وهو في معظمه أشعار، باستثناء الأحكام والنسك الدينيّة، فإنّها بالنثر.

[2] كلستان فارسي، للشيخ سعدى بن عبد الله الشيرازيّ (المتوفى سنة 691)، وهو على ثمانية أبواب، يحتوي أبياتاً فارسيّة وأشعاراً عربيّة وأمثالاً غريبة ولطائف عجيبة؛ الأوّل في سيرة الملوك، الثاني في أخلاق الفقراء، الثالث في فضيلة القناعة، الرابع في فوائد الصمت، الخامس في العشق، السادس في الضعف والهرم، السابع في تأثير التربية، الثامن في آداب الصحبة، وتاريخ تأليفه سنة 656.

 

64


47

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

أيّها الربّ الكريم، أنت ترزق من

                                         خزانة الغيب اليهود والنصارى

فكيف تحرم محبّيك من فيضك

                                         وأنت تشفق حتّى على أعدائك؟

وهما يتضمّنان أنّ المجوس والنصارى أعداء الله تعالى، وهذا لا يُعجب الإنكليز بطبيعة الحال.

والخلاصة أنّ الحكيم المجرِّب يدرك أنّ الصدق قد يفقد الحُسن في بعض الموارد، ويُفرَغ من المصلحة، وأنّ الكذب قد يكتسب سمة الحُسن في بعض الحالات، وتنعدم مفسدته، وأمّا الحكم بشيء من دون تجربة مسبقة -كما يفعله بعضهم- فلا يؤدّي إلى مطابقة الواقع، فمَن لم يجرّب الصدق في حياته، وجُبِل على الكذب، لو سألناه: هل تكذب إذا اقتضت المصلحة ذلك؟ لأجاب دون تردّد: كلّا، لا يجوز الكذب مطلقاً. فهو لأنّه لم يجرّب الصدق أصلاً، لا يخطر بباله أنّه قد يكون ذا مفسدة، بخلاف الممارس للصدق، فهو يدرك روح الصدق، وأنّه إنّما يصدق للمصلحة، فإذا اقتضت المصلحة أن لا يصدق، أخذ بها. ولذلك، أجاز الفقه الإسلاميّ الغيبة والكذب في موارد معيّنة، رعايةً للمصلحة، في حين أكّد حرمة الكذب في بقية الموارد، ولا سيّما ما أُريد منه إلقاء العداوة والبغضاء بين الناس. ولهذا، حرص الدين الإسلاميّ على إبعاد المسلم عن الكذب وممارسته، بل حتّى عن مجرّد التفكير فيه، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلى الله عليه وآله): لَا يَسْتَقِيمُ‏ إِيمَانُ‏ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى‏ يَسْتَقِيمَ لِسَانُه»[1].

فاستقامة اللسان أمر ضروريّ لاستقامة القلب الّذي هو محلّ الإيمان، وإن أحرجتك بعض المواقف، فبالإمكان استعمال ما يُسَمّى بـ«التورية» في الاصطلاح الفقهيّ، وهي أن

 

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص253، الخطبة 176.

 

65


48

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

يكون كلامك مطابقاً لِما تصوّرته أنت، لا لِما افترضه الطرف الآخر. مثلاً، لو سُئلت: هل رأيت فلاناً؟ وكنت قد رأيته فعلاً، فبالإمكان أن تقول في الجواب: لا، ولكن يكون قصدك شيئاً آخر غير (فلان) المسؤول عنه. وينبغي عدم ممارسة الكذب المذموم المحرَّم باسم التورية، كما يصنع بعض الأفراد، فإنّ ذلك استفادة غير مشروعة ويجب الاحتراز عنها.

نظريّة «الجمال» في الأخلاق

يوجد فريق من العلماء يعدّ الأخلاق من مقولة «الجمال». وقد يظنّ بعضهم أنّه حتّى لو علمنا بأنّ الأخلاق من أيّ مقولة هي، فهذا العلم لا فائدة فيه من الناحية العمليّة والتربويّة الاجتماعيّة، بل المفيد هو التخلُّق العمليّ والتحلّي الفعليّ بالأخلاق الفاضلة. أمّا تعرُّف مقولة الأخلاق، فهو بحث علميّ صرف ليس غير، تماماً كمَن سُئِل عن «القرمة»[1] وأنّها بالـ«غين» أو بالـ«قاف»، فأجاب: ليست بأحدهما، بل تكون باللحم والسمن.

لكنّ هذا التصوُّر غير دقيق؛ فإنّ معرفة كون الأخلاق من أيّ مقولة، وأنّها من مقولة واحدة أو من مقولات شتّى، لها تأثير كبير في تكميل أخلاق المجتمع وتتميمها، كما أنّ ذلك يرشدنا إلى نقطة البداية الواجب الانطلاق منها؛ وذلك يختلف باختلاف الأفكار: فمَن يتبع الفكر الهنديّ والمسيحيّ مثلاً، يرى أنّ إشاعة الأخلاق الفاضلة في المجتمع ونشرها يكون عن طريق تكثيف أحاسيس الحبّ وتنمية مشاعر العاطفة، وإزالة عوامل العداوة والتناحر والبُغض. ومَن يعتقد بأنّ الأخلاق من مقولة العِلم -مثل «سقراط»[2] وأمثاله-

 

 


[1]  القرمة؛ كلمة تركية يراد بها اللحم المقطّع قطعاً صغيرة.

[2]  سقراط «Socrates»: فيلسوف وحكيم يونانيّ (470 ق.م - 399 ق.م). يعَدّ أحد مؤسّسي الفلسفة الغربيّة، لم يترك سقراط كتابات، وجُلّ ما نعرفه عنه مستقى من خلال روايات تلامذته عنه. ومن بين ما تبقى لنا من العصور القديمة. تُعَدّ حوارات «أفلاطون» من أكثر الروايات شموليّةً وإلماماً بشخصيّة «سقراط». بحسب وصف شخصيّة «سقراط» كما ورد في حوارات «أفلاطون»، فقد أصبح «سقراط» مشهوراً بإسهاماته في مجال علم الأخلاق. وإليه تنسب مفاهيم السخرية السقراطيّة والمنهج السقراطيّ (أو المعروف باسم Elenchus). ولا يزال المنهج الأخير مستخدماً في مجال واسع من النقاشات، كما أنّه نوع من البيداغوجيا (علم التربية) الّتي بحسبها تطرح مجموعة من الأسئلة، ليس بهدف الحصول على إجابات فرديّة فحسب، وإنّما كوسيلة لتشجيع الفهم العميق للموضوع المطروح. إنّ «سقراط» الّذي وصفه أفلاطون هو من قام بإسهامات مهمّة وخالدة لمجالات المعرفة والمنطق، وقد ظلّ تأثير أفكاره وأسلوبه قويّاً، فقد صارت أساساً للكثير من أعمال الفلسفة الغربيّة الّتي جاءت بعد ذلك.

 

66


49

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

يرى أنّه يجب تعليم الفرد وتثقيف المجتمع الإنسانيّ وإخراجه من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم والمعرفة، فإذا صار المجتمع متعلّماً ومتنوّراً، فهذا العلم أخلاق، والتعليم هو التربية عيناً. ومن يحذو حذو «أرسطو»، فهو يقول: العلم وحده غير كافٍ، بل لا بدّ من تقوية الإرادة أيضاً، فهو يرى شيئاً آخر.

كذلك مَن يعتقد باعتماد الأخلاق على الوجدان الفطريّ الإنسانيّ، يذهب إلى وجوب إسكات النداءات المخالفة لنداء الوجدان، حتّى يتسنَّى سماع ندائه والإصغاء له؛ ففي باطن كلّ إنسان، منادٍ مقدّسٌ للأخلاق، يدعوه لعمل الصالحات واقتفاء الحسنات، وينهاه عن اجتراح[1] السيّئات وارتكاب قبائح الأعمال. ولكن، ما دام ثمّة ضوضاء ولغط، فلن يتمكّن الإنسان من الاستماع لنداء وجدانه، كما لو أنَّ واعظاً ينطق بكلمات الله ويفسّرها لنا، فما لم ينعم المكان بالهدوء والسكوت، لن يُفهَم ما يقول ذلك الواعظ فهماً صحيحاً. ومثل هذا يأتي في الأبصار، فالرؤية الواضحة الجليّة مشروطة بعدم وجود غبار وظلمة ونحو ذلك من الموانع والسواتر، وإلّا فلن يتمكّن من الإبصار. يقول «سعدي»:

إنّ الحقيقة تضيع إذا ثار غبار الهوى

                                         كما يضيع جَمال المنزل إذا عمَّه الغبار

ألا ترى أنّ العين لا تبصر شيئاً في المكان

                                         المغبّر؟ فكيف إذا كان الإنسان أعمى!

أنت ما دمت تفتح فاك حرصاً وطمعاً

                                         فلن تسمع أُذُنُ قلبك سرَّ الغيب

وأمّا من يعدّ الأخلاق من مقولة الجمال، فيقول: لا بدَّ من زرع الحسّ الجماليّ في البشر؛ لأنّ البشر إذا أحسُّوا بجماليّة الأخلاق الكريمة العالية، فإنّهم سيُقلِعون عن الكذب

 

 


[1]  اجتراح: ارتكاب.

 

67


50

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

ويرتدعون عن الخيانة؛ فالعلّة في كذب بعض الناس هي عدم إدراكهم لجمال الحقيقة والصدق، كما أنّ سبب الخيانة هو عدم إدراك جمال الأمانة وحُسنها. وعليه، يجب خلق الذوق الجماليّ وتنميته في الفرد؛ كي يُدرَك الجمال العقليّ والمعنويّ، كما يُدرَك جمال المحسوس.

والحاصل أنّ لهذا البحث أثراً عمليّاً. يُضاف إلى ذلك، أنّه ما لم نشرح ذلك بنحوٍ دقيق ونطَّلع عليه، فلن نستطيع تعرُّف نظريّة الإسلام في الأخلاق.

ما هو الجمال؟

كيف يمكن تعريف الجمال؟ وبحسب اصطلاح المناطقة، ما هو جِنسُه وفَصْلُه؟ من أيّ مقولة هو؟ هل هو من مقولة «الكمّ»؟ أو من مقولة «الكيف»؟ أو من مقولة «الإضافة»؟ أو من مقولة «الانفعال»؟ هل هو «جوهر» أو «عَرَض»؟ وبنظر الكيميائيّ والمادّيّ، من أيّ شيء يُصنَع؟ فهل يمكن تحديد العناصر المادّيّة للجمال وتشخيصها، كما هو شأن الأمور المادّيّة حينما تخضع للتحليل الكيميائيّ، أو لا يمكن ذلك؟

هذه الأسئلة المتلاحقة لم ترَ إلى الآن جواباً لها من أحد، بل يعتقد بعضهم أنْ لا جواب لها أصلاً؛ كون أجلى حقائق العالَم هي تلك الحقيقة الّتي لا يصحّ السؤال عنها بـ:كيف هي؟ فالجمال لا يمكن أن يُعرَّف وتُبيَّن ماهيّته، وقد قال العلماء في مبحث الفصاحة والبلاغة -وهي من مقولة «الجمال»- قالوا: لا يمكن تعريف الفصاحة تعريفاً حقيقيّاً؛ لأنّها «ممّا يُدرَك ولا يُوصَف».

فنحن عندنا أشياء كثيرة في هذه الدنيا يمكن إدراكها، ولكن لا يمكن تعريفها، ومن تلك الأشياء: «الجمال». هذا وقد ذكر أفلاطون أنّ الأخلاق من مقولة الجمال، وقد ذكر تعريفاً للجمال، مفاده: «إنّه تناسب الأجزاء مع الكلّ»، فكما أنّه إذا اتّسقت أعضاء الجسم الإنسانيّ وتوافقت قسماته، صار جميلاً ومليحاً، كذلك «الروح الإنسانيّة» إذا هُذِّبَت

 

68


51

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

ورُبِّيَت، حيث تتوازن قواها وقابليّاتها، ويُعطى كلّ جنبة من جنباتها حقّه دون زيادة ولا نقصان، فستصبح أيضاً جميلة وعظيمة.

فـ«الجمال الروحيّ» عنده هو تعادُل الأخلاق والقوى، وهذا أمره بِيَد الإنسان نفسه. فجمال صورته الظاهريّة أو قبحها ليس باختياره، بل هو يُصوَّر كما يشاء الله تعالى في بطن الأمّ، فيخرج إلى هذه الدنيا وقد قُضِي القضاء في ما يخصّ جسمه من تفاصيل وطول ولون... ولكنّه خلاف ذلك في ما يتعلّق بصورته الباطنيّة وروحه، فإنّ هذه الدنيا هي مكان بناء الروح وتصويرها بالصورة الّتي يختارها صاحبها، وكما يقول «الملّا صدرا»[1]: الدنيا للروح كبطن الأمّ للجنين، فالإنسان بيده جمال روحه وقبحها.

نقد تعريف أفلاطون للجمال

وكيف كان، فما ذكره أفلاطون، من وجود قوى متعدّدة في الإنسان، لا غبار عليه، ولكن يُعاب على تعريفه للجمال، بأنّ «التناسُب» في نفسه أمرٌ نسبيّ يختلف من شيء لآخر، ولا يمكن ضبط هذه النسبيّة لتَطَّرد في كلّ شيء؛ فليست هي كنسبة الأوكسجين والهيدروجين اللازمتَين للماء.

من هنا، فالجمال عاصٍ على التعريف، فهو كالقوَّة الكهربائية لا يمكن تعريفه، وإن لم يُشَكّ في وجوده.

 

 


[1]  الملّا صدرا: المولى صدر الدين محمّد بن إبراهيم القوّاميّ الشيرازيّ، (980 - 1050هـ)، الملقّب بـ«صدر الدين» و«صدر المتألّهين» والمعروف بـ «صدرا» أو «ملّا صدرا». من كبار الحكماء والفلاسفة الإسلاميّين، صاحب الآراء البديعة في الفلسفة، ومؤسّس «الحكمة المتعالية» إذ جمع بين الفلسفة والعرفان. وُلد في مدينة شيراز عام 980هـ، انتقل إلى أصفهان، ودرس فيها عند أساتذته: الشيخ البهائيّ، والسيّد الميرداماد. هجر القوم إلى القرى النائية منقطعاً إلى الرياضة الروحيّة بعد أن تعرّض من معاصريه لصنوف المضايقات، بسبب ما كان يطرحه من النظريّات، فأقام في ضواحي مدينة قمّ، ثمّ عاد إلى شيراز بأمر من الشاه عبّاس الصفويّ، وتُوفّي عام 1050هـ في مدينة البصرة أثناء طريقه إلى بيت الله الحرام. بعد وفاته طغى مذهبه الفلسفيّ على بقيّة المذاهب الفلسفيّة آنذاك، ويمكن القول -وبجرأة- إنّ أكثر الحكماء والفلاسفة الإسلاميّين من بعده هم من أنصار مذهبه في الفلسفة. له مؤلّفات كثيرة أشهرها «الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة»، والّتي تضمّ قسطاً كبيراً من آرائه ونظريّاته الفلسفيّة، ومن مصنّفاته الأخرى: تفسير القرآن الكريم، شرح أصول الكافي، المبدأ والمعاد، مفاتيح الغيب، الشواهد الربوبيّة، أسرار الآيات، حاشية على الشفاء.

 

 

69


52

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

هل الجمال مطلق أو نسبيّ؟

هذا هو السؤال المطروح هنا، وبصيغة أخرى:

هل الجمال -واقعاً- حقيقة واحدة لا يختلف باختلاف الأنظار، فالجميل جميل في نفسه، وإنْ لم يُدرك أحد جماله؛ فيكون من قبيل «وجود» الموجودات؟ فإنّ قمّة جبل «دماوند»[1] -مثلاً- موجودة وتطلّ برأسها على مَن حولها، سواء أدرك أحدٌ وجودها أم لا؛ أو أنّ الجمال رابط خفيّ بين المدرِك والشيء المدرَك، وهذا الرابط يختلف من شخص لآخر؟ فرُبَّ إنسان يرى معشوقه باهر الحُسن والجمال، في حين لا يراه الآخرون كذلك، كما هو حال مجنون ليلى، فقد أطارت لبَّه عشقاً وهياماً، وصار قلبه بحبّها متيَّماً وبدونها ميتّماً، فلا تكاد تقرأ شعراً له إلّا ورأيت ليلى فيه، حتّى إنّ حاكم زمانه وقع في خلده أنّها تحفة زمانها وحوريّة أرضها، لكن حينما أتوا بها من البادية، وجدها امرأة سوداء البشرة ولا فتنة فيها، ولكنّ الحبّ يُعمي ويصمّ. يقول الشاعر:

قال أحدهم يوماً لمجنون ليلى: ابحث

                                         عن جمال أجمل من جمال ليلى

فعلى الرغم من أنّها في عينَيك حوريّة

                                         إلَّا أنّ كلّ شيء عندها فيه عيب

اضطرب المجنون من كلامه، إلّا أنّه ضحك

                                         وقال له: إنّك ترى خصلات شعرها، وأنا أرى تموّجاته

 

 


[1]  جبل دماوند: جبل يقع وسط سلسلة جبال ألبرز، يبلغ ارتفاعه 5670 متراً؛ ممّا جعله من أعلى القمم في غربَي آسيا وأوروّبا. هذا الارتفاع وقمّته الّتي تغطّيها الثلوج بصفة دائمة، منح قمّة دماوند وجهاً مميّزاً؛ إذ أصبح إحدى المناطق الطبيعيّة البديعة لعشّاقها، تزيد من جماله الينابيع المعدنيّة الكثيرة على سفوحه، مثل: عين أسك ذات المياه الجارية، وعين تلخ رود، ولاريجان آمل، وغيرها، والّتي تصبّ جميعها في نهر هراز. ويتألّف جبل دماوند من سبعين فوّهة بركانيّة، وتنتشر على سفوحه قرى كثيرة متناثرة.

 

70


53

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

وإنّك ترى طرفها، وأنا أرى سحر إشاراته، وإذا

                                         قعدتَ في عيني لن ترى غير جمال ليلى

والشاعر في هذه المقطوعة يقرّر نسبيّة الجمال، وهو كأنّه يقول: إنّ العشق هو خالق الجمال في المعشوق، لا أنّ الجمال سببُ العشق، كما يعتقد بعضهم. فالعاشق إذا عشق شيئاً ما، رآه جميلاً بديعاً، وإن لم يكن كذلك واقعاً. وهذا إفراط؛ إذ لا يمكن إنكار وجود جمال في الخارج بنحوٍ كلِّيّ، فهو حقيقة ثابتة، سواء كان ثمّة عشق أم لم يكن، فهو ليس مخلوقاً للعشق.

والآن، هل الجمال مطلق أو نسبيّ؟ نحن لا نرى ضرورة تدعو للتحقيق في ذلك. القدر المتيقَّن هو ثبوت وجود شيء خارجاً اسمه «الجمال»، سواء أدركه الإنسان أم لم يدركه، فحتّى لو كان أمراً نسبيّاً، فإنّه حقيقة على أيّة حال.

جاذبيّة الجمال

النقطة الثالثة اللازم ذكرها كمقدّمة لبحثنا، هي أنّ الجمال توأم للجاذبيّة والعشق والمدح؛ فأينما وُجِد الجمال وُجِدت معه قوّة جاذبة، وروح عاشقة وطالبة له. فالجمال علَّة الطلب والحركة، وحتّى الفلاسفة الإلهيّون يعتقدون بأنّ حركات هذا العالَم كافّة، بما فيها «الحركة الجوهريّة» الّتي تجعل من قافلة عالَم الطبيعة موجوداً واحداً ذا حركة وليد العشق، وعلى حدِّ تعبيرهم: كتحريك المعشوق للعاشق وتحريك المعلِّل للمتعلَّل. فالميل والانجذاب موجود في تمام ذرّات العالم، ويطلق الفلاسفة عليه «العشق»، وفي هذا الموضوع توجد بحوث كثيرة في محلّها.

جمال العالَم

يُخطئ مَن يعتقد بانحصار الجمال في الوجه الحَسَن لإنسان ما؛ إذ فضلاً عن اختلاف

 

 

71

 

 


54

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

الأنظار حتّى في هذا النوع من الجمال، من شخص إلى آخر، فإنّ عالَم الطبيعة مليء بآلاف الأنواع من الجمال؛ فعيوننا يسحرها جمال الأشجار الباسقة والجبال الشاهقة، والسماوات المرفوعة بنجومها فوق رؤوسنا، وعيوننا يأسرها بهاء الفجر وإشراق الشمس، وخلابة الغروب والشفق، وكذلك نشمّه عطراً في الزهور الجميلة. نعم، ربّما يدرك بعضهم رائحته فقط، فيُولُونه من الأهمّيّة بقدر ما يدركونه منه، وأمّا أولئك الّذين يبصرون جماله ورونقه، فهم يشعرون بما هو أكثر، ومن ثمّ يُولُونه من الأهمّيّة قدراً أكبر؛ لأنّ لكلّ حاسّة جمالاً خاصّاً بها تُدركه، وما تستعذبه حاسّة ما، فهو جميلها ومعشوقها. وهذا الجمال المحسوس مُدرَك مِن قِبَل الأكثريّة الساحقة من الأفراد، فلا يتوهّم متوهِّمٌ بأنّ الجمال مقصور على الجنس والوجوه النضرة، فليس الجمال حكراً على ذلك أبداً، كما يعتقد ذوو الإدراك المحدود، الّذين ما إن يسمعوا كلمة «جمال» أو «جميل» حتّى تقفز أذهانهم إلى جمال المرأة، وما يرتبط بحُسنها.

الجمال المعنويّ

لا ريب في أنّ غالبيّة الأفراد يدركون محسوس الجمال وظاهره، ولكن هل يوجد جمال آخر غير محسوس لنا بالحسّ المادّيّ؟

نعم، يوجد «جمال معنويّ» هو أرقى من الحسّيّ، وهذا الجمال تجده ماثلاً في الصور الخياليّة الّتي يرسمها الذهن البشريّ، فإنّ لها جمالاً يدركه متخيِّلها، وتجده أيضاً في الكلام الفصيح البليغ، فإنّ للفصاحة والبلاغة جذباً لا يقاوَم وجمالاً لا يُنكَر؛ فهذا «سعدي» على الرغم من مرور سبعمئة سنة على وفاته، إلّا أنّ أشعاره وحِكَمَه ما زالت حيّة في القلوب والوجدان، تكرّرها الألسن وينجذب لها السامعون.

وسِرّ ذلك ليس هو جمال اللفظ فقط، بل روح تلك الألفاظ ومعانيها العالية الآسرة، وهذا ينطبق أيضاً على شعرَي «حافظ» و«مولوي» اللذَين يطفح شعرُهما بالجمال

 

72

 


55

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

المعنويّ الخياليّ الرفيع الساحر، حيث إنّه قد يُذهل المرء عن نفسِه نشوةً وانجذاباً، كما حدث للأديب النيسابوريّ[1] -وهو من الأدباء المبرزين، وأنا لم أره، لكنّي رأيت صورته، وهو حوزويّ قديم عليه سيماء العلماء، كان أديباً فذّاً قليل النظير، كما كان شاعراً-، فقد قرأت عنه في أحد الكتب أنّه قال: ثمّة شعر سحرني وأفقدني شعوري مرَّتين في حياتي، وهو شعر غزليّ لحافظ يقول فيه:

إنِّي شاكرٌ لذلك الرفيق المحبوب، وإن كنت عاتباً

وإذا أنت من أهل العشق، فأصغِ لهذه الحكاية

كلّ ما عملته كان بلا أجرٍ ولا مِنَّة منِّي

ولكن أرجو من الربّ العليّ ألّا يبخس المخدوم خادمه

إنّ العارفين بالله العطاشى لا يسقيهم أحد ماءً

لأنّ غير الواصل العارف لا يدرك حاجة العارف

والمرشد العرفانيّ الّذي يملك ماء المعرفة

ليس موجوداً وكأنّه غادر هذا البلد

في هذا الليل، ألا ليل ضاع طريق المقصود

فابرز من مكمنك يا كوكب هدايتي؛ لتدلّني على طريقي الضائع

إنّي في الظلمة كلّما سلكت طريقاً، ازددت وحشة

فيا ويلي من هذه الصحراء، وهذه الطريق الّتي لا نهاية لها

ترى متى أصل النهاية وأرى المحبوب؟

 

 


[1]  عبد الجواد بن الملّا عبّاس (1242 - 1305ه.ش): يُعرَف بالأديب النيسابوريّ، صرف همّته في دراسة الأدب، ولا سيّما الأدب العربيّ، تتلمذ عليه جملة من الأدباء المعاصرين، نظم الشعر باللغتَين الفارسيّة والعربيّة.

 

 

74


56

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

وأنا أرى في البداية مئة ألف عقبة وعقبة

لا يعلقنَّ قلبك المتيَّم بالظفائر؛ فإنّها كالجبال

ألا ترى العاشقين قُطعت رؤوسهم بلا جرم ولا جناية؟

لقد سفكت نظرات عينَيك دمي، وقد رضيتُ بذلك

يا روحي ليس من العدل حماية سافك الدماء

يا شمس الصالحين، إنّ قلبي يحترق شوقاً

فهَب لي ساعة أكون في ظلِّك؛ كي أستمتع ببرد حبّك

أنت وإن أرقت ماء وجهي، إلّا أنّي لن أبرح بابك

لأنّ جور الحبيب لذيذ لِمَن يدّعي العشق والهيام

لقد أضناني حبّك

وإذا كنت مثل «حافظ» أمكنك أن تقرأ القرآن بأربعة عشر طريقاً

أجل، لقد غرق هذا الأديب في هذا الجمال المعنويّ الآسر، وحلّقت روحه عالياً مع تلك المعاني اللطيفة، ولكن لو أراد عارف أن يترنَّم بأشعار حافظ، فهو لن ينتخب هذا الغزل حتماً، بل سينتخب له غزلاً عرفانيّاً كهذا الّذي يقول فيه «حافظ»:

منذ أعوام والقلب يطلب منّا كأس «جمشيد»

                                         ويتمنّى من الغرباء ما هو موجود لديه

إنّه يطلب الجوهرة الّتي لا توجد في صدف عالَم

                                         الكون والمكان، مِن الّذين لا يدلون شاطئ البحر

حملت مشكلتي إلى المرشد العارف

                                         كي يحلّ اللغز بالمدد الإلهيّ

 

74


57

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

فرأيته جذلان[1] باسماً وبيده قدح الخمرة

                                         وكان ينظر في مرآتها مئات التجلّيات

قال لي: إنّ ذلك الرفيق الّذي عُلّق رأسه

                                         في المشنقة، كان جرمه إذاعة الأسرار

فصاحة القرآن

لماذا نوغل في الطلب وننأى، وهذا القرآن نصب أعيننا وبين أيدينا؟ إنّ من أسرار إعجازه، فصاحته ونغمة آياته، وسلاسة ألفاظه وجمال سبكه. أجل، إنّ القرآن الكريم صاغ معانيه المتفاعلة مع وجدان الإنسان، والنافذة إلى أعماق روحه، في قوالب ذات رنين خاصّ، يتردَّد في عقل المستمع وقلبه، وكأنّه صادر من ضميره ومن أعماقه، وما القرآن إلّا مذكِّر فقط، كما يُعبّر القرآن عن نفسه. إنّ النهج الآسر للقرآن هو الّذي يستمطر الدموع رهبةً وخشوعاً، وهو الّذي يجعل أصحاب القلوب النقيّة ﴿يَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ سجداً﴾[2]، بل ﴿وَيَخِرُّونَ لِلۡأَذۡقَانِ يَبۡكُونَ وَيَزِيدُهُمۡ خُشُوعا﴾[3]. إنّ جمال الأسلوب وصدق المعنى القرآنيّ وصفاءه، يجعل المخاطَب الواعي ينقاد للحقّ طوعاً أو كرهاً؛ ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ﴾[4].

جمال كلام الإمام عليّ (عليه السلام)

إنّ من العوامل الظاهريّة الّتي ساهمت في تخليد اسم الإمام عليّ (عليه السلام)، وإبقاء الأفواه معطّرة بذكره، هو ذلك الجمال الخلّاب لكلامه (عليه السلام). فعلى الرغم من أنّ بني

 

 


[1]  جذلان: وَلَدٌ جَذْلاَنُ، فَرْحَانُ.

[2]  سورة الإسراء، الآية 107.

[3]  سورة الإسراء، الآية 109.

[4] سورة المائدة، الآية 83.

75


58

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

أُميَّة أخذوا عليه أقطار الأرض، وآفاق السماء -على حدِّ تعبير السيّدة زينب(عليها السلام)[1] -، وعلى الرغم من أنّهم لم يدَّخروا وسعاً في النيل من مقامه الشامخ، والحطِّ من شرفه الباذخ، إلَّا أنّه (عليه السلام) ما ازداد إلّا تألُّقاً ورفعةً، وما زال كلامه درَّةً يتيمةً ومنبعاً ثرّا[2] للحكمة والبلاغة والجمال، وكتابه «نهج البلاغة» شاهد عدل على ذلك. وهو حقّاً اسمٌ على مُسمَّى، ولفظٌ وافق المعنى، يعترف بذلك المخالِف قبل المؤالف، وكلُّ بليغٍ جاء بعده (عليه السلام) فمن عذب منهله ارتوى، حتّى أولئك الّذين لا يقيمون علاقات طيّبةً معه (عليه السلام)، حينما يُسألون: كيف أصبحتهم في المكان الرفيع من الفصاحة؟ يقولون: إنَّنا نستظهر مئةً من خطبه (عليه السلام)، وبهذا نكتسب هذه المَلَكَة، ومن هؤلاء «عبد الحميد»، وهو أحد الكتّاب الإيرانيّين المعروفين بالحذاقة والمهارة في فنِّ الإنشاء، حتّى قيل: (بدأَت الكتابة بعبد الحميد، وخُتِمَت بابن العميد)، وهو من حاشية آخر خلفاء بني أُميَّة المعروف بمروان الحمار، وهو ممَّن لا يميلون للإمام عليّ (عليه السلام) بحسب الظاهر. والحاصل أنّ عبد الحميد هذا، لَمّا سألوه: كيف تعلَّمت فنّ الكتابة وأمسكت زمامها؟ قال: علَّمني ذلك حفظ كلام الأصلع. أجل، حتّى خصوم الإمام عليّ (عليه السلام) لا يملكون إلّا أن يستظهروا خطبه، ويستعينوا بكلامه؛ لأنّه دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق.

شبهةٌ وردٌّ

لقد دأب شائنو الإمام عليّ (عليه السلام) على سلب محاسنه وإعارتها مجّاناً لغيره، ولم يَرُق لهم أن يكون «نهج البلاغة» له، فادَّعوا أنّه من آثار «الشريف الرضيّ»[3]، وهذا كلام فارغ

 

 


[1]  هذا التعبير ورد في خطبتها في مجلس يزيد في الشام، قالت: «أظننتَ يا يزيد، حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساقُ كما تُساقُ الأسارى، أنّ بنا على الله هواناً، وبك على الله كرامة؟!». ولم أجد هذا التعبير في مورد آخر (المعرِّب).

[2]  ينبوع ثرّ؛ أي واسع العطاء، لا ينضَب.

[3]  الحسن محمّد بن أحمد الطاهر ذي المنقبتَين بن الحسين بن موسى بن إبراهيم المجاب بن الإمام الهمّام موسى الكاظم (عليه السلام). وُلد في بغداد سنة 359هـ، وتُوفّي سنة 391هـ، من فطاحل الشعراء وفرسان الأدب ومشاعل العلم. من آثاره: حقائق التأويل في متشابه التنزيل، المجازات النبويّة، مجموعة رسائل، ديوان شعر، وغيرها.

 

76


59

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

لا يسنده دليل؛ لأنّ «المسعوديّ»[1] المؤرّخ المعروف والمعتمد من قِبَل الجميع -وهو غير معلوم التشيّع، وحتّى لو قيل بتشيّعه فليس ذلك بالمعنى المعروف للتشيّع في عصرنا، بل بمعنى الميل والحبّ فقط، أو حتّى بمعنى عدم العداوة- ذكر في كتابه «مروج الذهب» المدوَّن قبل عهد «الشريف الرضيّ» بمئة عام، مقاطع من كلامه وشيئاً من قصار جمله تحت عنوان «ذكر لمع من كلامه وأخباره وزهده». وذكر أيضاً، أنّه توجد في عهده 480 خطبة مستظهَرة تتداولها الألسن، والحال أنّ مجموع الخطب الواردة في النهج هو 239 خطبة فقط، وهذا يعني أنّ السيّد الرضيّ دوَّن أقلّ من النصف[2].

وعوداً على بدء، نقول: إنّ مثل الشعر والفصاحة والبلاغة والنثر الراقي، ذلك كلّه يتمتّع بجمال معنويّ خاصّ لا تصل إليه أدوات الإحساس الماديّة؛ لأنّه مرتبط بذهن الإنسان، وعلينا أن نخطو خطوةً أكبر لنخرج من مضيق المحسوس إلى أفق أرحب وجمال أرقى.

الجمال المعقول

بعد تجاوُز الجمالَين: الحسّي والمعنويّ، نصل الآن إلى جمال آخر، وهو «الجمال المعقول»، وهو جمالٌ لا يُدركه سوى العقل، دون الحواسّ والقوّة المتخيّلة، ويُسمَّى اصطلاحاً بـ«الحُسن العقليّ» ويقابله «القبح العقليّ». وهذا هو مورد المسألة المعروفة عند متكلّمي الشيعة والمعتزلة وفقهائهم، بمسألة «الحُسن والقبح العقليَّين»، وحاصلها: أنّ أفعال الإنسان قِسمان:

1. أفعال ذاتيّة الحُسن والجمال، تبعث على الإكبار والإعجاب.

2. أفعال طبيعيّة يمارسها الإنسان في أدوار حياته، ولا بريقَ لها.

 

 


[1] أبو الحسن عليّ بن حسين المسعوديّ، (ت336): مؤرّخ مشهور، أشهر مؤلّفاته «مروج الذهب ومعادن الجوهر». لاحظ: ج2، ص419 (المعرِّب).

[2]  يقول الشريف الرضيّ في هذا الصدد: «ولا أدَّعي- مع ذلك- أنّي أحيط بأقطار جميع كلامه (عليه السلام)، حتّى لا يشذّ منه شاذ ويندّ منه نادٌّ، بل لا أبعد أن يكون القاصر عنِّي فوق الواقع إليّ، والحاصل في رقبتي دون الخارج من يدي، وما عليَّ إلّا بذل الجهد وبلاغ الوسع». السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص36 (المعرِّب).

 

77


60

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

فمِن الأُولى: الإيثار والتضحية، فمَن الّذي لا يُكبِرُ مَن يتكبَّد المشاقّ في سبيل إسعاد الآخرين وهنائهم؟ إنّه تعالى أكبرَ ذلك في شخص رسوله الكريم، قال جلَّ ذكره: ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُول مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوف رَّحِيم﴾[1]؛ فالآية الشريفة هنا في مقام المدح والثناء على هذا الموقف الأبويّ.

وهذا الحُسن الذاتيّ، هو مناط أخلاقيّة الفعل البشريّ وتميُّزه؛ ولذلك -بناءً على نظريّة الجمال المعنويّ- ينبغي أوّلاً، إيجاد الأرضيّة الملائمة؛ كي يدرك الأفراد الجمال المعنويّ للأفعال، جمال التضحية والاستقامة والعدل والعفو والعلم والصبر والجود... لأنّ إدراك هذا النوع من الجمال وتذوُّقه، كفيل بجذب الأفراد نحو السلوك السويّ وتجذير الأخلاق الحميدة، وهذا يعني نفورهم من أضدادها؛ لإدراكهم قبحها وزيفها؛ فالكذب سيُرى شيئاً عفناً، والغيبة ستُرى جيفةً نتنةً، كما هو حال أولئك الثلّة الّذين هذَّبوا نفوسهم وارتقوا بأخلاقهم، حيث تنفُر بطبعها من الرذائل وتعشق الفضائل، وإن كلَّفَهم ذلك غالياً. فعلينا إذاً، أن نُصلِح الذوق العقليّ والفكريّ والمعنويّ؛ فإذا صلح الذوق وارتقى، ارتقى الإنسان بنفسه كذلك.

وقد تقول: ما هو السبيل للارتقاء بالذوق كي يدرك مثل هذا الجمال؟

ونقول لك: ليس ثمّة ما يعيق الإنسان عن هذا الهدف، ومستسهِل الصعب يدرك المُنى. وسبيل ذلك هو التربية الموجَّهة والمجاهدة المتبصّرة، ولقد رأينا في حياتنا جماعة تزيَّنت بجميل الخُلُق، وترفّعت عن سفاسف[2] الأمور، وهجرت محسوس اللذائذ طرّاً، وأنِست بذكر الباري تعالى، والتذَّت بعبادته وهداية العباد إليه تعالى، يعبدونه حبّاً وعشقاً لذاته المقدَّسة؛ لأنّهم أدركوا جمال أهليّته للعبادة، ولم يبتغوا من وراء ذلك نفعاً يجلبونه، أو ضرّاً يدفعونه، فحتّى لو آمنهم تعالى من عذابه إذ عصوه، أو حرمهم ثوابه إذ أطاعوه،

 

 


[1]  سورة التوبة، الآية 128.

[2]  سَفاسِفِ الأمور: الأمور التافهة الحقيرة.

 

 

78


61

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

لَمَا عصوه آمنين، ولَمَا تركوا طاعته متذمّرين. ولا ريب في أنَّ مَن هذا حاله، فهو متخلِّقٌ بأخلاق ذلك «الجمال المطلق»، كالعدل والإحسان، ومتنزّهٌ عن أضدادها، كالظلم والبغي، وصَدَق الله تعالى إذ يقول: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾[1]. وكيف كان، فهذا شيءٌ ممّا ذكره متكلِّمو الإسلام وفقهاؤه في مبحث الحُسن والقبح العقليَّين.

نظريّة أفلاطون

يرى «أفلاطون» -وخلافاً لِما تقدَّم- أنّ الفعل في ذاته لا يتَّصف بالجمال، بل الجميل هو «الروح»، وهو يستمدّ جماله ورونقه منها، كما يستمدّ القمرُ ضوءه من الشمس، وبهذا تكون الأخلاق المرضيّة عبارة عن انعكاسات للروح الراقية، وإن كان الأمر، بدواً، عكس ذلك. وهو يرى أنّ «العدالة» هي أُسّ الأخلاق وعمودها، والعدالة تساوي الجمال.

على الرغم من أنّه ذكر أنّ البشر يدركون حقيقة الأركان الثلاثة (العدالة، والجمال، والحقيقة)، إلّا أنَّ أيّاً منها غير قابل للتعريف. لكنّه مع ذلك، ذكر للعدالة تعريفاً ناقصاً، فقد ذكر أنّها عبارة عن «تناسُب الأجزاء مع الكلّ».

وقد عرَّف «العدالة الاجتماعيّة»، فقال: العدالة الاجتماعيّة هي أن يعمل كلّ فردٍ ويؤدّي وظيفته بقدر طاقته، وبمقدار ما يعمل وينجز يأخذ مقابله. وينبغي أن يكون ذلك حال أفراد المجتمع كافّة، حتّى تحصل المساواة وتتحقّق العدالة في ما بينهم، فلا يبذل فردٌ أكثر من طاقته، وآخر أقلّ من طاقته، أو تُعطى ثمرة العامل للخامل، وإلّا أصبح المجتمع غير عادل، والمجتمع غير العادل مجتمع غير راقٍ وغير سامٍ، ومجتمعٌ هذا حاله غيرُ مؤهّلٍ للبقاء.

ويتابع «أفلاطون» حديثه عن «العدالة»، فيقول:

 

 


[1]  سورة النحل، الآية 90.

 

79


62

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

الأخلاق، هي حفظ التوازن بين الميول والرغبات والمعقولات الموجودة عند الإنسان، وكذلك الحفاظ على سلامة الجهاز «الروحيّ»؛ لأنّ الجهاز الروحيّ للإنسان تماماً كالمركبة الّتي يجب مراعاة التناسُب بين أجزائها كي تسير سيراً معتدلاً. وأنت إذا رأيتَ أناساً يستحقّون من الآخرين بليغ الثناء ومنتهى الإطراء، فاعلم أنّهم إنّما استحقّوا ذلك؛ لإيجادهم كامل التوازن والمرونة بين العناصر الروحيّة في شخصيّاتهم، حتّى ارتفعت أرواحهم وصاروا أناساً كاملين. وإذا ارتقى الإنسان بروحه وصارت جميلة ألقة، فلا بدّ من أن تكون ذات جاذبيّة وقدرة على التأثير في الآخرين، ولا بدَّ من أن يرافقها -أيضاً- عشقٌ لها وطلبٌ، وتستجلب الاستحسان والثناء.

ترى هذا متجلّياً في الإمام عليّ (عليه السلام)؛ إذ إنَّ من خصوصيّات وجوده المقدَّس، العدل والتوازن الكامل المتجذّر في روحه المَلَكوتيّة؛ ولأجل ذلك عُرِف بأنّه كامل الصفات وجامع الأضداد. يقول فيه «صفيّ الدين الحلّيّ»[1]:

جُمِعَت في صفاتِكَ الأضدادُ

                                         ولهذا عزَّتْ لكَ الأندادُ

ويقول السيّد الرضيّ: كلامُ عليّ متعدّد الأقطار والجوانب، وهو عالٍ في ذلك كلّه[2].

نعم، لقد طرق في كلامه جميع الأبواب، وضرب الأوتار كلّها ببلاغة وروعة لا تُبارى.


 

[1]  صفيّ الدين عبد العزيز بن سرايا الحلّيّ الطائي (677 - 752هـ): من كبار شعراء عصره، بل أشعرهم، وقد أثنى عليه كلّ من ترجم له. ذكره العلّامة الأمينيّ في كتابه «الغدير» في عدّاد شعراء القرن الثامن الهجريّ. لاحظ: الجزء 6، ص39 - 54. كما ذكر «غديريّته». وتكملة الأبيات أعلاه -كما ذكر المرحوم العلّامة القاضي نور الله الشوشتري- هي:

زاهدٌ حاكم حليم شجاع

فاتك ناسك فقير جواد

شِيمٌ ما خُلقنَ في بشرٍ قطّ

ولا حاز مثلهنَّ العباد

(مجالس المؤمنين، ج2، ص576) (المعرِّب).

[2] بعد ملاحظة مقدّمة الشريف الرضيّ في «النهج»، لم أعثر على ما حكاه عنه الشهيد هنا، ولعلّه موجودٌ في مصدر آخر. وأقرب جملة من حيث المعنى لِما نقله المؤلّف هو قول الشريف الرضيّ: فأمَّا كلامه، فهو البحر الّذي لا يساجل والجمّ الّذي لا يحافل (المعرِّب).

 

80


63

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

وهذا إنّ دلَّ على شيء، فهو يدلّ على سعة روحه وشموليّتها، وبالتعبير الدارج، يدلّ ذلك على أنّ لروحه أبعاداً عدّة. وفضلاً عن ذلك، فإنّه يدلّ على وجود نوع من التوازن والتلاؤم بين تلك الأبعاد المختلفة ذات العلاقة بروح الإنسان، وكلّ فردٍ يستطيع إدراك هذا من دون أن يستطيع وضعَ تعريفٍ لجمال الإمام عليّ (عليه السلام)، أو مسَّ حقيقتِه.

لقد مضى، حتّى الآن، أربعة عشر قرناً على عصر الإمام عليّ (عليه السلام)، ولكن ما من قرنٍ خلا من مئات الآلاف، بل ملايين المعجبين والمنجذبين نحوه، المتحلّقين حوله.

هل سألتَ نفسك يوماً: لماذا صار حبُّ عليّ إيماناً؟ أليس ذلك لأنَّ حُبَّه يعني عشق الروح المتوازنة المتعادلة، عشق الكمال الإنسانيّ؟ أليس لأنّه عشقٌ لِمَا دعا إليه الله تعالى ورسوله الكريم، وحثَّا عليه؟

ومحبُّ الإمام عليّ (عليه السلام) ليس فقط عاشقاً له ومندكّاً في هواه، بل هو أكثر من ذلك؛ لأنَّ مَن يَعشق عليّاً ويحبّه حقّاً، يعلو بنفسه هو، ويرقى بروحه هو من حيث إنّه أدرك الجمال الخارق لعليّ (عليه السلام)، واستشفَّ الروح الكبيرة الّتي يحملها بين جنبَيه، واستوقفه ذلك التعادل والتوازن الّذي اتَّسمَت به شخصيّة عليّ (عليه السلام)، ومن ثمّ وجد فيه (عليه السلام) المعنى الحقّ للإنسان الكامل.

إنَّ عليّاً (عليه السلام) الّذي عاش مظلوماً مقصيّاً، ملأ الخافقين اسمُه، وعلا في القرون المتمادية ذِكرُه، ونفذ عبر التاريخ عطرُه. أجل، إنّ صدى مجده ينبثق من أعماق أربعة عشر قرناً من الزمن، وتردّده البشر جيلاً بعد جيل، ليس فقط مِن قِبَل مَن يُسمَّون بـ«الشيعة»، بل حتّى مِن قِبَل من يُطلَق عليهم «أهل السُّنَّة»، بل حتّى من المسيحيّين واليهود، فكلّ هؤلاء تلهج ألسنتهم باسم عليّ، وكلُّ من يمتلك ضميراً حيّاً، لا بدَّ من أن يُسمَع من لسانه تمجيدٌ للإمام عليّ (عليه السلام).

لكن، لِمَ ذلك كلّه؟

 

81


64

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

ذلك كلّه لِمَا لعليّ من جمال، وما لوجوده المقدّس من طهارة وألق، وحسبك دليلاً على ذلك أنَّ «ابن شهر آشوب»[1] قال في كتابه المناقب: وإنّي إذ أكتب هذا الكتاب، أعرف ألِفاً من الكتب المصنَّفة في مناقب عليّ (عليه السلام). ولا يُعلم، هل هذه الكتب الألِف كانت بحوزته، أو أنّه كانت لديه فهارسها فقط؟

وهذا الانطباع والإحساس تُجاه هذا الرجل الفذّ، هو ما تقتضيه فطرة البشر، فكما أنّ الفطرة البشريّة تذعن للجمال الظاهريّ، كذلك تنجذب وتَقِف وقفةَ إجلالٍ مقابل الجمال المعنويّ. والقرآن الكريم يقصّ علينا -وبمنتهى البلاغة والفصاحة- قصّةَ جمال «يوسف» المُحيِّر المدهش، يقول القرآن الكريم:

﴿فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَك كَرِيم﴾[2]. والوجه المعنويّ للإنسان الكامل، ينجذب إليه البشر أيضاً من أعماق فطرتهم، ومثال ذلك الوجه المعنويّ للإمام الحسين بن عليّ(عليهما السلام)، الّذي قال الرسول (صلى الله عليه وآله) في حقّه: «إنَّ للحسين محبّة مكنونة في قلوب المؤمنين»[3]، وكلمة «مكنونة» تحمل معنًى كبيراً، والمعنى: أنّ هذه المحبّة مستقرّةٌ وموجودةٌ في قلوب المؤمنين، وقد يحدث أن لا يلتفت المؤمنون في الدنيا لذلك، ولكنّ حبّ الحسين كامنٌ في قلوبهم، متغلغلٌ في ضمائرهم من حيث لا يشعرون.

ولا يقع في نفسك، أنّ الله تعالى أوجَدَ محبَّته (عليه السلام) في القلوب قهراً، وأثبتها جبراً؛ كلا، بل إنّ ذات الفطرة النقيّة للمؤمنين تقتضي تقديس مثل «الحسين» (عليه السلام) وإكباره؛ لأنّها تُقدّس «المُثُل والأخلاق» الّتي جسّدها الإمام الحسين (عليه السلام)، وحتّى لو وُجِد رجلٌ

 

 


[1]  أبو جعفر رشيد الدين، محمّد بن عليّ شهرآشوب السرويّ المازندرانيّ، (ت 588هـ)، كان من كبار علماء الشيعة في القرن السادس، وله آثار وتآليف مهمّة، منها كتاب «مناقب آل أبي طالب»، ويُعَدّ من أفضل الكتب في موضوعه.

[2] سورة يوسف، الآية 31.

[3] الحديث وارد بتعبيرات مختلفة في مصادر الحديث، راجع: قطب الدين الراونديّ، أبو الحسين سعيد بن هبة الله، الخرائج والجرائح، تحقيق مؤسّسة الإمام المهديّ b بإشراف السيّد محمّد باقر الموحد الأبطحيّ، مؤسّسة الإمام المهديّ، إيران - قم، 1409هـ، ط1، ج‏2، ص842، وفيه عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «إن للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة».

 

82


65

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

آخر قام بما قام به الحسين (عليه السلام)، لقدَّسَته أيضاً القلوبُ الطاهرة، وفاز بحبّهم، ولبَكوه كما تبكي أمٌّ وحيدها.

نظريّة العبادة

من النظريّات المطروحة هنا كمرجع للأفعال الجميلة والأخلاق الحميدة -مضافاً إلى ما تقدّم-، «نظريّة العبادة»؛ بمعنى أنّ هذه السلوكات تُعَدّ من مقولة «العبادة»، والمتحلّي بتلك الأخلاق، عابدٌ حقيقةً، وإن لم يشعر، بل وإن لم يعترف بالألوهيّة في مرتبة «الظاهر».

وقد تسألون: هل يمكن أن يكون هناك عابدٌ لله من دون أن يشعر؟ والجواب: نعم، بل يوجد بيننا مَن يؤمن بالله دون أن يشعر بذلك. كلُّ البشر يعرفونه تعالى في عمق فطرتهم، ويؤمنون به في «لاشعورهم»، ولكن يتفاوتون في معرفته سبحانه في رتبة «الشعور الواعي الظاهريّ». وإذا كانت هذه الفكرة غير قابلة للفهم في القرون السالفة، فهي سهلة الفهم هذه الأيام؛ إذ ثبت أنَّ للإنسان نوعَين من الشعور:

1. شعور ظاهريّ؛ وهو ما يكون للإنسان اطّلاع مباشر عليه.

2. شعور باطنيّ، وهو نوع من العلم أيضاً، إلّا أنّه خارج عن سلطة الشعور الظاهريّ، ولا اطّلاع له عليه.

وعلماء النفس اليوم، يعتقدون بأنّ القسم الأكبر من الشعور الإنسانيّ مغفول عنه، وما هو منظورٌ للإنسان هو القسم الأصغر منه. ونحن لو رجعنا إلى بواطننا وفتّشنا ضمائرنا، لعثرنا على سلسلة من الأفكار والإحساسات والمعلومات والميول والبُغض والحبّ وما شابهها، وقد نتصوّر أن لا شيء وراء ذلك. على الرغم من أنّ الكثير الكثير من المعلومات والمدركات والإحساسات والميول راسخة في أعماق أرواحنا، ونحن عنها غافلون، وقِسم منها خافٍ ومستتر عن ظاهر شعورنا. ويوضحون هذه الفكرة بقولهم: لو وضعنا بطّيخة في حوضٍ من الماء، فسوف يغطس منها 9/10، وسيبقى مقدار قليل منها طافح على وجه

 

83


66

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

الماء، وكذلك الحال لو ألقينا قطعة من الثلج، وتُقَدَّر نسبة الشعور الباطنيّ إلى الشعور الظاهريّ، كنسبة الجزء الغاطس إلى الجزء الطافح عيناً.

والعالَم أيضاً على هذا المنوال، فنحن لا ندرك سوى عالَم الطبيعة، وهو المسمَّى في القرآن بـ«عالَم الشهادة»، والحال أنّ ثمّة وجوداً لعالَم آخر هو المسمّى بـ«عالَم الغيب». ونسبة هذَين العالَمين إلى بعضهما كنسبة جزئَي تلك البطّيخة إلى بعضهما؛ فالجزء الغاطس منها يماثل عالَم الغيب. إنّ عالَم الطبيعة، بمجرّاته ونجومه، وبذلك الفضاء الّذي لا يعلم البشرُ إلى أين ينتهي، ليس إلّا كحلقةٍ ملقاةٍ في صحراء مترامية الأطراف.

والحاصل أنّ ما نذكره هو عبادةٌ لاشعوريّة، وقد يدعو هذا للعجب، ولكن بما ذكرناه من وجود شعور باطنيّ، لا يبقى للعجب مجال.

وقد يعترض معترضٌ بأنّ الإنسان ما دام حيّاً، فهو ليس بحاجة إلى وكيل ووصيّ، فإذا كان هو نفسه يعلم ويدرك بأنّه لا يَعبد، فلماذا نُلبِس فعله الأخلاقيّ ثوب «العبادة اللاشعوريّة»، ومن ثمّ ننسب ذلك إليه؟

وجواب ذلك: أجل، الإنسان كثيراً ما ينجز أعمالاً هو نفسه لا يشعر بها، والأهمّ من هذا، هو أنّه لا يعرف نفسه. ولتوضيح ذلك، نقول:

أوّل سؤال يواجهنا هو: ما هي العبادة؟ ما هو تعريف العبادة؟ ما هو جنسها وفصلها وأجزاؤها تحليلاً؟

إذا كان المقصود منها جملة الأفعال والطقوس الّتي يقوم بها الإنسان بعنوان «العبادة والتعبّد»، كالصلاة والصوم والحجّ والدعاء وصلة الأرحام وما شابه ذلك، فإيضاح هذه الأمور سهل يسير، فيُقال: الصلاة عبارة عن سلسلة الأذكار والنيّة والركوع والسجود، والعبادة صومٌ وإمساكٌ وهكذا.

 

84


67

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

وأمّا إن كان المقصود من «العبادة» حقيقةً ما، وما تلك الأفعال والشعائر الّتي حمَّلَنا إيّاها الله تعالى إلّا انعكاسٌ وقالبٌ لتلك الحقيقة المتجلّية في فطرتنا، سواء التفتنا إلى ذلك أم لا، ففي عمق فطرتنا تكمن حقيقةٌ ما؛ فإذا كان المراد من العبادة هذا المعنى -كما هو الحقّ- فلن يكون تعريفها ميسوراً، والفلاسفة عجزوا عن تعريفها كما عجزوا عن تعريف «العدالة» و«الجمال» -مع كونه غريزةً بشريّة كما قالوا- وكذا تعريف «العلم» أيضاً؛ فلو تصفّحنا كتب الفلاسفة، فسوف نرى تعاريف مختلفة له، فواحدٌ يقول: هو من مقولة «الكيف»، وآخر يقول: هو من مقولة «الإضافة»، وثالث يقول: هو لا ينتمي لأيّ مقولة أصلاً، وهكذا...

ولكن ما يجدر ذكره ولفت النظر إليه، هو أنّنا إذا أردنا إدراك حقيقة ما، فلا ضرورة تدعو لأن نَعلَمَها ونعرفها، بل إذا استطعنا تعريفها عرَّفناها، وإن لم نستطع ذلك لم نعرّفها، كما هو الحال في عنصر «الجمال»؛ فعلى الرغم من أنّنا لا نستطيع تعريفه، إلّا أنّنا نشخّص أموراً ذات مساس وعلاقةٍ به، وحتى في ما يرتبط بعنصر «العبادة»، يوجد لدينا تشخيص على نحو معيَّن؛ لأنّنا في «العبادة» نقدِّس حقيقةً ما، أمّا ما هي تلك الحقيقة؟ إنَّها تلك الّتي إذا أردنا إبرازها في صورة خاصّة وقولبتها، ننطق بـ«سبحان ربّي العظيم وبحمده»، وبـ«سبحان ربّي الأعلى وبحمده»، و«الله أكبر»؛ وبهذا نكون قد صغناها في قالبٍ لفظيّ أو عمليّ محدّد. ولك أن تقول: إنّ «العبادة» هي تقديس الكمالات والإشادة بها والترنّم بذكرها، كالبلبل حين يقف قبال زهرة جميلة، ثمّ تأخذه حالة من التغزّل بها والمديح لها، فكذلك الإنسان أيضاً، يمجّد حقيقة المعبود بواسطة عبادته.

«العبادة» تعني الخروج من دائرة الذات المحدودة والضيّقة، الخروج من محدوديّة الآمال والتمنيّات، والانطلاق والعروج إلى الكمال المطلق؛ لأنَّ في العبادة التجاءً وانقطاعاً واستغاثةً واستقواءً واستنجاداً بالمعبود، وتحرُّراً من «الأنا» وعبادة الذات والآمال، وهذا هو معنى «التقرُّب» إلى المعبود تعالى. ونحن إذ نقول: نصلِّي «قربةً إلى الله»، فليس ذلك

 

85


68

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

لمجرّد المجاملة والملاطفة، بل الإنسان المصلِّي هو واقعاً في حالة عروج إلى الحقّ المتعال. فهذه المعاني كلّها حاصلة في العبادة، ولا ضرورة لأن نكلّف أنفسنا تعريف «العبادة»؛ أي تعريف ذلك «التجلّي الروحيّ الخاصّ للبشر»، الّذي هو أعلى وأشرف وأبهى وأعظم حالات الإنسان على الإطلاق.

وما ذكرناه في «نظريّة الجمال» جارٍ هنا أيضاً، فقد قلنا إنّ «الجمال» ليس مقصوراً على الغريزة الجنسيّة الحيوانيّة، بل هو ذو مجال واسع ورقعة فسيحة جدّاً تشمل الطبيعة كلّها، بل تشمل ما هو أكثر؛ أعني المعاني، كالفصاحة والبلاغة، بل وندَّعي شمول سلطة الجمال للمعقولات أيضاً، الّتي هي أرفع وأسمى من الحسّ والخيال، ونحن نقرأ في دعاء «السحر»: «اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ جَمَالِكَ بِأَجْمَلِهِ، وَكُلُّ جَمَالِكَ جَمِيلٌ»[1].

فالجمال الحقيقيّ هو جمال الحقّ تعالى، جمال ما وراء المادّة، وما الجمال الموجود هنا والمنظور لنا إلّا ظلالٌ وانعكاسٌ لذلك الجمال. ولذلك، نلاحظ أنَّ «العرفاء» يُطلِقون على الصفات «الثبوتيّة» عنوان الصفات «الجماليّة»، وعلى الصفات «السلبيّة» عنوان الصفات «الجلاليّة»، وهذا خلاف ما اصطلح عليه «المتكلّمون»، فإنّهم يسمّونها «الثبوتيّة» و«السلبيّة».

العبادة لله أيضاً غير منحصرة في الإنسان، بل هي حقيقة ثابتة مستبطَنة في جميع موجودات هذا العالم، ولا يوجد في هذا العالَم والكون كائنٌ ما لا يعبد الله تعالى، كما لا يوجد إنسان غير عابدٍ له سبحانه، ولو بنحو «لاشعوريّ» كما عرَّفت، فالأشياء والكائنات كلّها تحمد تعالى وتثني عليه، يقول تعالى:

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾[2].

 

 


[1]  الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد‏، نشر مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411هـ، ط1‏، ج‏2، ص760.

[2]  سورة الحشر، الآية 1.

 

86


69

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾[1].

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ﴾[2].

﴿وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ﴾[3].

إذاً، «العبادة» في منطق القرآن ليست مقصورة على «العبادة الشعوريّة الواعية» للإنسان، بل قد يكون كثير من الناس الأقلّ عبادة، أقلّ ما يفعلونه هو الوقوف تُجاه القبلة لصلاة ركعتَين، وإن كانت الروح تحلّق بعيداً في مكان آخر.

كان «الفارابيّ» الّذي عاش قبل ألف ومئة عام، يقول:

«صلَّت السماء بدورانها، والأرض برجحانها، والماء بسيلانه، والمطر بهطلانه»[4]. ويُدلي أهلُ الباطن والقلب بِدَلوِهم أيضاً، فيقولون: لو حاز الإنسان من المراتب الكماليّة والمعنويّة ما تنفتح معها أُذُنُ قلبه، لسمع تسبيح الموجودات وتحميدها:

كلّ ذرّات العالَم في الخفاء

تقول لك في الصباح والمساء

نحن نسمع ونرى، نحن أذكياء

لكن معكم أنتم الغرباء، نحن صامتون

لأنّكم وراء الجماد تذهبون

متى أصدقاء روح الجمادات تصبحون؟

 


[1]  سورة الحديد، الآية 1.

[2]  سورة التغابن، الآية 1.

[3]  سورة الإسراء، الآية 44.

[4]  الحكيم السبزواريّ، شرح الأسماء الحسنى، مصدر سابق، ج1، ص86.

 

87


70

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

يعني: أنتم معشر البشر، لماذا أنتم منكوسون؟ متى تعرفون سرَّ الجمادات؟ نعم، إنّ «الوعي» و«الشعور» ليس من مختصّات الإنسان والحيوان، بل يوجد في النبات أيضاً، وحتّى الجمادات لها مرتبة معيّنة منه، والعلم في يومنا هذا يؤكّد ذلك، والخبراء يقولون: «كلّ ذرّ من ذرّات العالم -في حدّها الخاصّ بها- تستفيد من درجة معيّنة من الشعور».

الحسّ الأخلاقيّ موصول بالحسّ الباطنيّ بـ«الإله»

إنّ قلب الإنسان يعرف ربّه، ويدرك وجوده بحسب الفطرة والغريزة، وهذا معنى قولهم: إنَّ الأخلاق من مقولة «العبادة»، ولكنّها «عبادة لاشعوريّة»، والإنسان في ذلك كالطفل. يقول الشاعر:

مثل ميل الأطفال نحو الأمّهات

                                         ولكن لا يعرفون سرَّ ميل الشفاه

إنّ الطفل حديث الولادة، يبدأ منذ الأيّام الأولى من حياته، وقبل أن يتمكّن من فتح عينَيه أو يدرك إدراكاً شعوريّاً وجود أمّه، وتكون في ذهنه صورة لها، يبدأ بإحناء رأسه، ثمّ يحرّك شفتَيه، وفجأة ترى شفتَيه تبحثان عن ثدي الأُمّ. ولو سأل أحدٌ هذا الوليد: عن أيّ شيء تبحث؟ لَمَا استطاع الإجابة والإيضاح، بل هو فاقد للذهن المفكّر، وصفحة ذهنه خلاءٌ، لم تُزَيَّن بالصور والنقوش بعدُ، كما أنّه لا يستطيع النطق كي يفصح عن هذا الأمر، لكنّنا نراه يسعى بطريقة «لاشعوريّة» خلف شيء ما موجود؛ يعني يطلب بنحو «لاشعوريّ» ثدي الأمّ، وهذه الغريزة أقوى بكثير في الحيوانات، خصوصاً الحشرات منها.

إذاً، معنى كون الأخلاق من مقولة «العبادة»، هو أنّ المرء يُقدّس سلسلة من السلوكات الأخلاقيّة، ويمارسها في حياته، وإن خالفَت هوى نفسه ومنافعه الشخصيّة، بل و«العقل العمليّ» الّذي يدعو لمراعاة النفع الشخصيّ، وذلك كالإيثار والإنصاف ونحوهما. فعلى الرغم من أنّ المنطق الطبيعيّ لا يرتضي ذلك، إلّا أنّ المرء يفعل ذلك بشوق ورغبة، ويعدّه

 

88


71

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

نوعاً من الشرف والعظمة، ويرى أنّه بذلك قد ارتقى بذاته ذرى المجد، وما ذلك إلّا لتطابُق هذه الصفات مع صفات المعبود الباطنيّ، وملاءمتها لأخلاقه.

حين يواجه «الإنسان» نفسه، فإنّ مسألة «الإنصاف» تبدو له مسألة صعبة. فعلى سبيل المثال، لو كان يوجد طبيبان يُشرِفان على علاج مريض، وكان أحدُهما أكثر خبرة وشهرة، وكان الآخر شابّاً حديث التخرُّج ما زال في أوّل الطريق، ثمّ اختلف نظرُهما بشأن علاج ذلك المريض، فالآخرون لن يأخذوا -من دون شكّ- بنظر الطبيب الشابّ ويُعرِضوا عن قول الطبيب الأوّل المعروف صاحب الخبرة والتجربة، وهذا الأمر يقرّ به كِلا الطبيبَين. ولكن قد يتّفق أن يكون نظر الطبيب الشابّ هو الأصوب والأصحّ، ويدرك الطبيب الأوّل ذلك، فيكون -حينئذٍ- على مفترق طريقَين: فإمّا أن يدوس على شخصيّته وشهرته ويسحقها، فيقول: إنَّ هذا الطبيب الشابّ أَصوَب منّي نظراً، وأحسن فهماً، وإنّ التشخيص الّذي أعطيتُه للحالة لم يكن دقيقاً، وإنّ العلاج الصحيح هو الّذي وصفه ذلك الطبيب، فإنْ خطا هذه الخطوة وتصرّف على هذا النحو، فعملُه هذا يُعَبَّر عنه بـ«الإنصاف»؛ وإمّا أن لا يفعل ذلك، فيتجاوز الإنصاف، ويقول للطبيب الشابّ: أنت لا تعرف شيئاً، ولا خبرة كافية لديك، والأفضل أن تذهب لشأنك؛ وقد يستبدل العلاج الّذي وصفه بآخر كي لا يموت المريض، ولكنّه ليس مستعدّاً لأنْ يعترف بخطئه، بل يحاول تبرير عمله وتوجيهه.

إنّ الإنسان لَتَعتمِل فيه هاتان الحالتان، وكثيراً ما يوجد أُناسٌ في هذه الدنيا يميلون للإنصاف ويمارسونه بالفطرة وبنحوٍ فطريّ، وهذا نوع إسلامٍ واستسلامٍ لله؛ أي للقانون الإلهيّ؛ لأنّ لله تعالى نوعَين من القانون: نوع منها ثبّتَه في فطرة الإنسان، ونوع آخر لم يُجعَل كذلك، وإنّما يُعرَف فقط عن طريق أنبياء الله ورسله، وهي متشعّبة من الفطرة أيضاً.

من المفروغ منه أنّ الأنبياء يدعمون القوانين الفطريّة ويؤيّدونها، وإن كانوا قد أتوا، مضافاً إلى ذلك، بقوانين وتعاليم أخرى.

 

89


72

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

وكما يدرك الإنسان بروحه وفطرته، وعن طريق حاسّة «باطنيّة لاشعوريّة»، وجودَ الله سبحانه، كذلك هو يدرك قانون الله ويعرف ما فيه رضاه، فهو بالفطرة يخطو نحو رضاه تعالى، وإن كان لا يعلم بأنّه يسير في هذا الاتّجاه. وقد يتّفق هذا لعابد الوَثَن، مثل ما كان يفعله «حاتم الطائيّ» وأشباهه، ولدينا أحاديث كثيرة عن نبيّ الإسلام والأئمّة (عليهم السلام) تدور حول المشركين والكافرين الّذين قاموا بمثل هذه الأفعال، فقد كانوا (عليهم السلام) يُسأَلون: أليس لهذه الأعمال أجرٌ عند الله؟

فيجيبون (عليهم السلام): إنّها ليست دون أجر[1].

صحيحٌ أنّ المعتمَد في الإثابة على الأعمال هو «النيَّة»، ولكن حينما يستجيب الإنسان لحسّه الأخلاقيّ، فإنّ هذا الحسّ غير منفصل عن معرفة الله سبحانه، خلافاً لِما يظنّه بعضُهم؛ فـ«الحسّ الأخلاقيّ» هو حسّ معرفة الله وإدراك وجوده.

الإنسان يدرك بفطرته أنّ العفو موجِبٌ لرضى المعبود، يدرك بالفطرة أنّ خدمة خلق الله والتضحية من أجلهم موردُ رضى المعبود.

التوجيه الصحيح للأخلاق

بناءً على هذا، يكون قول «الأخلاق ذات جذر وجدانيّ» صحيحاً من جهة، وخاطئاً من جهة أخرى. هو صحيحٌ بلحاظ أنّ «قلب» الإنسان يُلهم الإنسان تلك الأخلاق، ومخطئٌ بلحاظ أنّ أولئك يتخيَّلون أنّ «الوجدان» حسٌّ مستقلّ عن حسّ معرفة الله، وأنّ وظيفته هي تشخيص تكليفنا فقط، من دون أن يكون معرِّفاً لمكلِّفِنا. إنّهم يتصوّرون «الوجدان» هو المكلِّف، وهو المعيّن لنا تكليفنا بشكل مستقلّ، ويجب علينا معرفة ما كُلِّفنا به، وهذا

 

 


[1]  ينقل العلّامة المجلسيّ رحمه الله عن ثواب الأعمال، حديثاً للإمام الكاظم (عليه السلام)، جاء فيه: «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ، وَكَانَ لَهُ جَارٌ كَافِرٌ، فَكَانَ يَرْفُقُ بِالْمُؤْمِنِ وَيُوَلِّيهِ الْمَعْرُوفَ فِي الدُّنْيَا. فَلَمَّا أَنْ مَاتَ الْكَافِرُ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتاً فِي النَّارِ مِنْ طِينٍ، فَكَانَ يَقِيهِ حَرَّهَا وَيَأْتِيهِ الرِّزْقُ مِنْ غَيْرِهَا، وَقِيلَ لَهُ: هَذَا بِمَا كُنْتَ تَدْخُلُ عَلَى جَارِكَ الْمُؤْمِنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مِنَ الرِّفْقِ، وَتُوَلِّيهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا» (العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج8، ص297)، وبهذا المضمون روايات أُخر (المعرِّب).

 

90


73

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

الخطأ هو العيب الوحيد في بيان «كانط»، حيث يريد تعريف «الوجدان الإنسانيّ» بأنّه حِسٌّ مستقلٌّ مشخِّصٌ للتكليف، لا غير. والحال أنّ الأمر ليس كذلك، بل «ضمير الإنسان» كما يدرك «التكليف»، فهو يدرك «المكلِّف» كذلك، وهذه الاتّهامات الوجدانيّة ناشئة من معرفة الله سبحانه فطرةً، وليست منفصلة عنها. يقول القرآن الكريم: ﴿وَنَفۡس وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾[1]؛ فالخلاص والانعتاق من الفجور حُكمٌ إلهيّ، والتقوى هي اجتناب الحرام قربةً إلى الله تعالى.

إنّ لوجدان الإنسان اتّصالاً بخالق عالَم الوجود، وارتباطاً بتمام عالَم الوجود وعمقه، وهو يتلقّى تكليف الإنسان من مكانٍ آخر ليُبَلِّغه له، وهذا الحسّ القلبيّ هو الّذي يتعرّف الله وتكليفه؛ ويُعَبَّر عن هذه الإلهامات القلبيّة بـ«الإسلام الفطريّ». يقول القرآن الكريم: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّة يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ﴾[2]؛ فهو لم يَقُل: وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات؛ كي يكون ذلك «تكليفاً تشريعيّاً» بحسب الاصطلاح المعروف -وهو ما ذكره الأستاذ الكبير العلّامة الطباطبائيّ في تفسير الميزان-، بل قال تعالى: إنَّنا ألهمنا قلوبَ الناس، نفس فعل الخير، وأوحينا إليهم به.

وفي منطق القرآن، للوحي عمومٌ ودائرةٌ تشمل مسائل أخرى أيضاً، مِن قَبيل «الجمال» و«العبادة»، ولا تنحصر بذلك الوحي الخاصّ النازل للأنبياء العظام، وإن كان هو أكمل درجات الوحي وأرقاها. ولكن مع ذلك يقول تعالى: نحن أوحينا لكلّ إنسان وألهمناه، وليس له وحده، بل أوحينا حتّى للنحل. يقول القرآن الكريم: ﴿وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتا﴾[3]، بل أوحينا حتّى للحيوانات وللنباتات والجمادات،

 

 


[1] سورة الشمس، الآيات 7 - 10.

[2]  سورة الأنبياء، الآية 73.

[3]  سورة النحل، الآية 68.

 

 

91


74

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

﴿وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ﴾[1]. وهذه كلّها أشكال عديدة لحقيقة واحدة، غاية الأمر أنّ الوحي المرسَل إلى الإنسان الكامل لا يُرسَل إلينا، ولكنّه وحيٌ على كلّ حال، ومثال ذلك: الشمعة المنيرة، والمصباح المنير، والشمس المشرقة على الدنيا، فهذه كلّها ذوات نور؛ فالوحي النازل على الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) مثل نور الشمس الّذي يعمّ العالَم، والإلهام الممنوح للإنسان كالمصباح، مختلف الإضاءة شدَّةً وضعفاً.

وأمّا النظريّة القائلة بأنّ الأخلاق من مقولة «الجمال»، فهي أيضاً تامّة من جهة، وغير تامّة من جهة أخرى. هي غير تامّة من حيث إنّ أصحابها تخيَّلوا أنّ «الجمال المعنويّ» ينتهي إلى هذا المطاف، وأنّ روح الإنسان خُلِقَت لتُدرِك سلسلة من الأفعال بنحو الاستقلال، مثل: الجمال، والصدق، والأمانة، والإيثار، والعفّة، والشجاعة، والاستقامة، والإنصاف، والعلم؛ فهي تؤكّد قدرة النفس الإنسانيّة على تذوُّق الجمال وإدراكه، ولكنّها تقف به عند هذا الحدّ.

كان يجدر بأصحاب هذه النظريّة أن يطمحوا بأنظارهم وراء ذلك؛ لأنّ النفس الإنسانيّة تدرك بـ«اللاشعور» و«اللاوعي» أصلَ الجمال ومبدأه، وهو الله تعالى، ومن ثمّ ترى إراداته جميلة، فتسعى إلى رضاه بالفطرة الأصيلة، ورضاه تعالى هو سعادتنا. بعبارة أخرى، إنّ جمال الأخلاق -في الحقيقة- من جمال مبدأ كلِّ جمال وخير، وهو الله تعالى، لكنّ الكثير من البشر يدرك جمال الأخلاق بالشعور والوعي، ويدرك مبدأها لا عن شعور.

والحقّ أنّ الحُسن والقبح العقليّين يرجعان واقعاً إلى الحُسن والقبح القلبيَّين؛ لأنّ الشعور بحُسن الحَسَن وقُبح القبيح من مقولة «الإحساس»، لا من مقولة «الإدراك»؛ والإحساس ليس من وظائف العقل، فإنّ وظيفته الإدراك، بل هو يتدفَّق من القلب، فالإنسان السويّ يدرك بفطرته اللاواعية جمالَ ما يرتضيه الربّ الجميل وحُسنَه، فهو

 

 


[1] سورة فصّلت، الآية 12.

 

 

92


75

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

يدرك أنّ هذا تكليف إلهيّ، تماماً كما هو حال مَن يؤمن بالله إيماناً واعياً، فإنّه يدرك جمال مراداته تعالى وحُسنه.

شعر:

مبتهِجٌ أنا بكلّ العالَمِ

                                         وعاشِقٌ له لأنَّه مِنَ الحبيب

وهذا أيضاً شأن النظريّات الأخرى، فإنّ كلّاً منها عكسَت جانباً من الحقيقة دون جانب. فمَن يؤمن بأنّ أساس الأخلاق وعمادها هو المحبّة والعاطفة، عليه أن يخطو للأمام أكثر، ليخبرنا عن السبب الكامن في أنْ يحبّ إنساناً آخر، وربّما آثَرَه على نفسه بلا رابط يربطه به، مِن رَحِم أو منفعة؛ إذ إنّ منطق «الأنا» يستنكر ذلك أشدّ إنكار، ويُسمّيه «حُمقاً»، فلا بدَّ من أن يكون ثمّة ما يدعو الإنسان للمحبّة الصادقة الخالصة، ولأنْ يتفانى في خدمة الأغيار، وكأنّه يخدم نفسه ولا يريد جزاءً ولا شكوراً. وهذا المنطق هو منطق «الشعور الباطنيّ» بالله تعالى، وهو إسلام فطريّ؛ فالإنسان السويّ يحسّ، بشامّة قلبه، أنّ محبوبه الواقعيّ يحبّ الآخرين من بني نوعه وجنسه؛ أعني البشر والحيوان، فهو يحبّ حبّاً لمحبوبه الحقيقيّ الّذي يُبعِده عن «الأنا» ويُذيبه في الآخرين.

الأخلاق من مقولة «العبادة»

ممّا تقدَّم، يتّضح بجلاء أنّ الحقيقة كاملةً تتلخّص في عدِّ الأخلاق من مقولة «العبادة». فالإنسان يتّبع سلسلةً من التعاليم الإلهيّة بقدر ما يعبد الله تعالى بطريق «اللاشعور» و«اللاوعي»، وحينما تتحوّل «عبادته اللاشعوريّة» إلى «عبادة شعوريّة واعية» -كما هو هدف الأنبياء- فستصبح أعماله وسلوكاته كلّها ذات صبغة أخلاقيّة، بلا فرق بين عمل وآخر، حتّى أكله ونومه. بعبارة أخرى، إذا جَعل الإنسانُ من تكليف الحقّ تعالى ورضاه، منطلَقاً لنشاطه، وأساساً لبرنامج حياته، وهدفاً يروم الوصول إليه، فسوف تكون حياته

 

93


76

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

كلّها، من البدو حتّى الختام، وبأنحائها كلّها، شعاعاً أخلاقيّاً، وسيكون كلّ شيء لله وفي الله: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾[1].

ثمّة نظريّات أخرى مطروحة هنا، لكنّها لا تؤدّي إلّا إلى سلبِ أشرفِ ما لدى الإنسان، وأقدسِ ما تملكه الإنسانيّة؛ فأصحابُها غير مقتنعين بوجود معانٍ سامية تنطوي عليها النفس الإنسانيّة، ولا يعتقدون بوجود سلسلة من الأخلاق الشريفة في هذا العالَم، وأنّ ثمّة أُناساً يقومون بتلك الأعمال من دون أن تكون لديهم منافع مادّيّة ومصالح ذاتيّة، بل لمجرّد شرفها وقداستها؛ وسنبسط نقدنا لهذه النظريّات في ما بعد، ومنها نظريّة «برتراند راسل»[2] (Bertrand Russel)، الّذي يرى الأخلاق من باب «المصلحة الفرديّة»، وكذلك النظريّة الماركسيّة ونظريّة الأخلاق الوجوديّة[3]. وهذه النظريّات تهوي بالأخلاق من قمّـتها وأوجها إلى الحضيض، ومع ذلك، فهؤلاء يعتقدون بـ«الإنسانيّة» وبـ«شرف الإنسان». ومن ثمّ فمُنكِرو جمال الأخلاق وشرفها الذاتيّ كلّهم مجبورون على الاعتقاد بالإنسانيّة وشرف الإنسان؛ فـ«برتراند راسل» مثلاً، تراه يتحدّث في بعض المواطن عن الإنسانيّة وشرف الإنسان، على الرغم من أنّ فلسفته لا تستطيع -بوجه- دعم شرف الإنسان وتأييده.

إنّ مسألة «الأخلاق» وشرف الإنسان وكرامته لا يمكن توجيهها وتفسيرها وتأييدها إلّا في ظلّ نظريّة «عبادة الله تعالى» فقط، وأمّا النظريّات الأخرى، فهي كلّها عاجزة عن ذلك.

 

 


[1]  سورة الأنعام، الآية 162.

[2]  برتراند ويليام راسل - Bertrand Russel (1872 - 1970م): فيلسوف إنكليزيّ، من آثاره المعروفة كتاب «ما الّذي أؤمن به؟» و«القدرة» و«تاريخ فلسفة الغرب» (المعرِّب).

[3] الوجودية: تيّار لاعقلانيّ في الفلسفة الحديثة، ظهر في الحرب العالميّة الأولى في ألمانيا، ثمّ في فرنسا. والوجوديّة مصطلح أدخله الفيلسوف الكانطي «ف. هاينمان» «Heinemann» في العام 1929، وللوجوديّة شكلان:

1. الوجوديّة الدينيّة المؤمنة، ويمثّلها: مارسيل، ياسبرز، مارتن.

2. الوجوديّة الإلحاديّة، ويمثّلها: سارتر، كامو، هيدكر.

للمزيد، لاحِظ: الموسوعة الفلسفيّة، ص579 (المعرِّب).

 

94


77

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

وأساساً، فإنّ الأخلاق تُعَدّ ممرّاً إلى عالَم المعنى، ومَعبَراً إلى المعنويّات في حياة الإنسان، إنّه مَنفَذٌ يتعرَّف الإنسانُ من خلاله على عالَم المعنويّات، ويدخل منه إلى عالَم «الدِين».

وهنا أمرٌ يجدر بنا ذكره، وهو أنّ جماعةً ذكروا أنّ «الدِين» و«الشرف الخُلُقيّ» لا يجتمعان ولا يتلاءمان؛ لأنّ معنى «الدين» هو عبادة الله تعالى، وعبادتُه تعالى إمّا أن تكون خوفاً من جهنّم، وإمّا طمعاً في الجنّة، فترجع العبادة إلى المطامع المادّيّة للإنسان، والحال أنّ العمل الأخلاقيّ المحض مُنزَّهٌ عن ذلك، ويتّسم بالشرف والقداسة الخالصَين.

والجواب عن هذا هو:

إنّ العبادة -في نظر الدين الإسلاميّ المقدَّس- مراتب ومستويات، والعبادة الأعلى مرتبةً هي العبادة الخالية من المطامع والأغراض كلّها؛ أي تلك الّتي لا تكون طمعاً في الجنّة أو هلعاً من جهنّم، وإنّما لأجل ذات الحقّ تعالى؛ لأنّه أهلٌ للعبادة. أمّا العبادة طمعاً في الجنّة أو خوفاً من جهنّم، فهي مرتبة نازلة، وإن كانت عبادة حقيقيّة أيضاً، وقد ذُكِر هذا الأمرُ في نهج البلاغة وفي أحاديث كثيرة.

يقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ؛ وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ؛ وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُكْراً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَار»[1].

عبادة الناس على أقسام ثلاثة:

1. بعضٌ يعبد الله طمعاً بالثواب، وهذه عبادة التجّار؛ فهؤلاء يريدون المتاجرة مع الله تعالى، يبذلون شيئاً ويأخذون أكثر؛ فهم كالتاجر الّذي يعرض بضاعته كلّها في أثناء معاملاته، حتّى يكسب أكثر من رأس المال الّذي دخل به إلى السوق.

 

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص510، الحكمة 237.

 

95


78

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

2. وبعضٌ يعبد الله خوفاً، وهذه عبادة العبيد؛ لأنّهم إذا كُلِّفوا مِن قِبَل مَواليهم بتكليف، فهم يمتثلونه وينجزونه حذراً من العقاب حال عدم الامتثال.

3. وآخرون يعبدونه تعالى من باب الشكر والحمد والحبّ والعشق له، وهذه العبادة منبثقة من عمق الفطرة والشعور الواعي؛ فهم يعبدون الله بالكيفيّة الّتي تقتضيها فطرتهم. فلأنّهم يحبّونه تعالى، تراهم يعبدونه سبحانه، وهم مداومون على عبادته حتّى لو لم يخلق الله الجنّة والنار، وهذه أعلى مرتبة للعبادة؛ لأنّها غير نابعة من مطامع ماديّة.

يقول الإمام عليّ (عليه السلام): «إِلهِي... مَا عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ نَارِكَ، وَلَا طَمَعاً فِي جَنَّتِكَ، لَكِنْ وَجَدْتُكَ أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ، فَعَبَدْتُكَ»[1].

إنَّ جملة «أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ» ذات معنى كبير؛ يعني أعبدك إلهي فقط لأنّك أنتَ أنتَ، وأنا أنا، وأنّه لَطبيعيّ جدّاً في هذا العالَم، أن تكون معبوداً، وأن أكون عابداً. ومَن يقرأ دعاء «كميل» ويتأمّله، يرى أنّه -مِن أوّله إلى آخره- يدور حول عبادة العاشقين، ويدرك أيضاً معنى الانسلاخ من الذات والانعتاق منها؛ لأنَّ الإمام عليّ (عليه السلام) لا يوجد في كلامه مع البشر أدنى حدّ للمبالغة، فكيف وهو يتكلّم مع ربّه ويناجيه! في هذا الدعاء، تطالعنا جملةٌ مرتبطة بنار جهنّم، وهي ذات مضمون لا يمكننا تصوّره، وهي: «وَهَذَا مَا لَا تَقُومُ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْض‏»[2]. إنّ نار جهنّم ليست من نوع نار الدنيا، بل هي نار لا تقاومها كلّ السماوات والأرض. بعد هذه الجملة، يقول (عليه السلام): «فَهَبْنِي، يَا إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلَايَ وَرَبِّي، صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ؟! وَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلَى حَرِّ نَارِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى كَرَامَتِك؟!‏»[3]، فهو (عليه السلام) لا يستطيع الصبر على فراق الحقّ تعالى، وعن النظر إلى كرامته؛ وهذه هي عبادة العاشقين.

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص186.

[2]  الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد‏، مصدر سابق، ج2، ص847.

[3] المصدر نفسه.

 

96


79

الباب الثاني: النظريّات الأخلاقيّة

ونحن نعشق عليّاً لذلك، كما يقول «حافط»:

«لا يَسَعُ ضميرُنا وقلبُنا إلّا لحبِّ رجلٍ

                                                نَصَب له العداوةَ كلِا العالَمَين؛ لكيلا نحبّه»

أجل، مقام الإنسان رفيع جدّاً، وليس منحصراً بعليّ (عليه السلام)، وثمّة الكثير ممَّن بلغوا درجة عالية من الإيمان الخالص لله وحده، وإن لم يبلغوا ذراه (عليه السلام).

 

97


80

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

سَعَة الروح

إنّ روح الإنسان عالَمٌ عجيب، أعجبُ العوالم عالَم روح الإنسان ونفسه. روح الإنسان يشبه جهاز تسجيل الصوت من حيثيّة واحدة، لكن ليس الجهاز الّذي لا يستوعب سوى شريط صوت واحد، بل الجهاز الّذي يتحمّل ويستوعب عشرات ومئات الأشرطة الصوتيّة، كلّ واحد منها يحفظ صوتاً خاصّاً ونغمة خاصّة، بحيث إذا ضُغِط أيّ زرّ أو أُديرَ أيُّ مفتاح، انبعث صوتٌ خاصّ. بمجرّد أن يُوضَع الإصبع على نقطة ما، ينبعث صوت قرآن، وإذا وُضِع على نقطة أخرى، انبعث صوتُ حديث دينيّ، أو وُضِع على نقطة ثالثة، سمع قارئ يقرأ. وهكذا روح الإنسان في تنوُّع استعداداتها واختلاف قابليّاتها؛ بمعنى أنّ الله تعالى أودع وجودَ الإنسان استعدادات متنوّعة ومختلفة، حيث إنّ مربّي البشريّة وموجِّهيها يضعُ كلُّ فريق منهم إصبعه على أحد الاستعدادات؛ مثلاً، قد ترى أُمَّةً ما يهتف كلّ أفرادها بالحماسة السياسيّة والعصبيّة الوطنيّة، ولا يوجد لديهم شيء آخر، وهذا شريط صوتيّ موجود فيهم، وهو الّذي يصدر تلك الهتافات، وقد نرى أُمّةً أخرى يتحدّث جميع أفرادها عن فضيلة الزهد والرياضة الروحيّة، وقد ترى أُمَّةً أخرى ينحو أفرادُها منحًى آخر. كلّ مجتمع يرفع شعاراً ما ويهتف به، وفي كلّ فرد توجد جميع تلك الاستعدادات، ولكنّ الحيَّ منها واحدٌ أو اثنان فقط، وهما ما ينبعث الصوت منهما، وأمّا البقيّة فهي ميّتة.

كذلك هو حال النظريّات والمدارس الأخلاقيّة، فكلّ نظريّة وضعَت إصبعَها على أحد

 

100


81

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

الاستعدادات البشريّة، لا كلّها. وهنا يواجهنا سؤالٌ في غاية الأهمّيّة، وهو: هل يوجد زرٌّ بإمكانه إدارة كلّ تلك الأشرطة المخزونة في ضمير الإنسان؟ إنّ المدرسة والنظريّة الّتي تتمكّن من تفعيل استعدادات الإنسان وقابليّاته كافّة، وفق آليّة متوازنة لا يجوز بعضُها على بعض، لَهِيَ الّتي تستحقّ أن تُوصَف حقّاً بأنّها «المدرسة الجامعة الكاملة».

 

«النفْسُ» في القرآن

للوهلة الأولى، قد يتصوَّر قارئُ القرآن والنصوص الإسلاميّة الأخرى وجودَ تناقُضٍ في الموقف من «النَفْس» وكيفيّة التعامل معها. فمثلاً، نجد القرآن الكريم تارةً يحثّ على مواجهة «النفس» ومجاهدتها، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ ٤٠ فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ﴾[1]، و﴿فَأَمَّا مَن طَغَىٰ ٣٧ وَءَاثَرَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ٣٨ فَإِنَّ ٱلۡجَحِيمَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ﴾[2]، و﴿أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ﴾[3].

كذلك ينقل القرآن الكريم عن يوسف الصدّيق (عليه السلام) أنّه كان ينظر إلى «النفس» بعين الريبة والحذر، يقول: ﴿وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ﴾[4]. فعلى الرغم من أنّه (عليه السلام) كان متَّهَماً في حادثةٍ معروفة، وكان بريئاً مئة بالمئة من تلك التهمة، ولم يأتِ بأيِّ ذنبٍ أو تقصير، لكنّه يقول: أنا لا أريد أن أُنزّه نفسي، فأنا ذاتاً لست كذلك؛ لأنّي أعلم أنّ «نفس» الإنسان تأمره بالسوء. إذاً، ما يُسَمَّى في القرآن الكريم بـ«النفس»، هو شيءٌ يجب أن يَنظر الإنسانُ إليه بعين الريبة والحذر، ويعدّه عدوّاً، ولا يُفسِح له مجالاً للتسلّط عليه، بل ينظر إليه على أنّه كائنٌ مطيع له، مسيطرٌ عليه. هذا من جهة.

 

 


[1]  سورة النازعات، الآيتان 40 - 41.

[2]  سورة النازعات، الآيات 37 - 39.

[3]  سورة الجاثية، الآية 23.

[4]  سورة يوسف، الآية 53.

 

101


82

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

من جهة أخرى، نجد في القرآن الكريم أيضاً، طائفة من الآيات الممجِّدة للنفس، والرافعة من شأنها، مثل: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ﴾[1]، ﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ﴾[2].

أيّها الرسول، قل لهم إنّ الفاشلين والخاسرين، ليسوا فقط أولئك الّذين فقدوا أموالهم وذهبت ثرواتهم، فإنّ هذا خسرانٌ حقير، والخسران الكبير هو أن يخسر الإنسان «نفسَه»، وباصطلاح «الوجوديّة» المعاصرة، هو أن يفقد «ذاته» و«شخصيّته». إنَّ أعظم ذخائر الإنسان هي «نفسه» ذاتها؛ إذا خسر أحدٌ ما ««نفسَه»، فهو صفر اليدَين، وإن مَلَكَ ما مَلَك. إنّ تعبيراً من قبيل (نسيان النفس، خسران النفس، بيع النفس) هو في ذاته لومٌ وتوبيخ شديد اللهجة للنفس، فعلى الإنسان ألَّا ينسى نفسه وألَّا يخسرها، ولا يبيعها. ومن ناحية أخرى، ينبغي للإنسان أن يقاوم هوى النفس؛ لأنّ هذه «النفس» تأمر بالسوء. هذا كلّه من حيث نظر القرآن.

النفْسُ في السنَّة والروايات

أمّا من حيث نظر السنَّة والروايات، فنجد النفس وهواها في «نهج البلاغة»، وقد مُزِّقَت شرّ مُمزّق، وغدت كعصفٍ مأكول، لقد جرى التعامل معها بشدّةٍ وعنف عجيبَين! نقرأ فيها: «أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَنَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ»[3]؛ فالمؤمن ينظر دائماً إلى نفسه ظانّاً بهذا السوء، فهو كرجلٍ له جارٌ خائن لا يطمئنّ إليه، ودائماً يحذر خيانته. وفي الأدب الإسلاميّ -سواءٌ العربيّ أم الفارسيّ- توجد أشعارٌ كثيرة في هذا المجال، يقول «سعدي» في «بُستان»:

 


[1] سورة الحشر، الآية 19.

[2] سورة الزمر، الآية 15.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص251، الخطبة 176.

 

102


83

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

قال لي الشيخ الحكيم المرشد شهاب حكمتين على السفينة

الأولى لا تُسِئ الظنّ في الناس

والثانية أن لا تُحسن الظنّ بنفسِك ولا تُعجَب بها

هذا من جانب، ومن جانب آخر من «نهج البلاغة»، نرى تقديراً وتكريماً عاليَين للنفس؛ من ذلك ما نقرؤه في وصيّته (عليه السلام) للإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، حيث كتب فيها: «وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّة[1]، وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ[2]، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً[3]. وَلَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً. وَمَا خَيْرُ خَيْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِشَرٍّ، ويُسْرٍ[4] لَا يُنَالُ إِلَّا بِعُسْرٍ[5]»[6]. ونظير هذا المعنى ما وُرِد في شعرٍ منسوب إلى الإمام الصادق (عليه السلام)[7] ، حيث روى الأصمعيّ له (عليه السلام):

أُثَامِنُ بِالنَّفْسِ النَّفِيسَةِ رَبَّهَا

                                         وَلَيْسَ لَهَا فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمُ ثَمَنُ

بِهَا يُشْتَرَى الْجَنَّاتُ، إِنْ أَنَا بِعْتُهَا

                                         بِشَيْءٍ سِوَاهَا إِنَّ ذَلِكُمْ غَبْنُ

إِذَا ذَهَبَتْ نَفْسِي بِدُنْيَا أَصَبْتُهَا

                                         فَقَدْ ذَهَبَتْ نَفْسِي وَقَدْ ذَهَبَ الثَّمَنُ

 

 


[1]  الدنيَّة: الشيء الحقير المبتذل.

[2]  الرغائب: جمع رغيبة، وهي ما يرغب في اقتنائه من مال وغيره.

[3]  عِوَضاً: بدلاً.

[4]  اليُسْر: السهولة، والمراد سعة العيش.

[5]  العُسْر: الصعوبة، والمراد ضيق العيش.

[6]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص401، الكتاب 31.

[7]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج47، ص25.

 

103


84

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

ورُوي عن الإمام السجّاد (عليه السلام) قولُه حينما سألوه: مَنْ أعظم الناس خطراً؟ قال: «مَنْ لَمْ يَرَ الدُّنْيَا خَطَراً لِنَفْسِه‏»[1]. وإذ نرجع إلى نهج البلاغة مرةً أخرى، نسمع أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) يقول: «مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ»[2].

إنَّ كرامة النفس، وعزَّة النفس، ومخالفة النفس، واحترام النفس، تعبيرات وردت بكثرة في الروايات، ويخطر في بالي الآن محاضرة ألقيتُها في الثالث من شعبان في ذكرى ولادة الإمام الحسين بن عليّ(عليهما السلام) قبل ثلاث عشرة سنة، وكانت بعنوان «مسألة النفس في الأخلاق»، ومنذ ذلك الوقت، برزت لديَّ هذه الفكرة وتلك النتيجة، وكلَّما قرأتُ وطالعتُ أكثر، ازداد اعتقادي ويقيني بها. والنتيجة المستخلَصة هي أنّ المحور الأساس في نظريّة «الأخلاق الإسلاميّة»، والنقطة الّتي يضع الإسلام اليد عليها من الإنسان، هي «كرامة» النفس الإنسانيّة وعزّتها وعظمتها، وسأذكر الآن جانباً من تلك المذكّرة:

عزَّة النفس

قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[3].

وقال الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): «اطْلُبُوا الحَوَائِجَ بِعِزَّةِ الأَنْفُسِ»[4].

الإنسان يحتاج إلى الآخرين بلا شكّ، ولكنّ السؤال هو: هل عرضُ الحاجة على الآخرين أمرٌ حَسَنٌ أو لا؟

هناك فريقٌ يقول إنّه أمرٌ حَسَنٌ ولا ضيرَ فيه.

 

 


[1] ابن شعبة الحرّانيّ، الحسن بن عليّ، تحف العقول عن آل الرسول(صلى الله عليه وآله)، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ، إيران - قمّ، 1404هـ، ط2، ص278.

[2]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص555، الحكمة 449.

[3]  سورة المنافقون، الآية 8.

[4]  پاينده‏، أبو القاسم، نهج الفصاحة (الكلمات القصار للنبيّ(صلى الله عليه وآله))، دنياى دانش‏، إيران - طهران‏، 1424هـ، ط4، ص218.

 

104


85

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

الكلبيّون وأصحاب الملامة

ومن هذا الفريق أُناسٌ كانوا يعيشون في «اليونان القديم»، ويُعرَفون بـ«الكلبيّين»، وكانوا يوصون بالدناءة والذلّة خيراً، وفي اعتقادهم أنّ مَن يذلّ نفسه ويُظهِر دناءته، فهو الأعلى أخلاقاً والأكثر تسامياً؛ ولا غرابة في هذا، فإنَّ الأخلاق الصوفيّة كانت منتشرةً آنذاك في اليونان. وحتّى في «أخلاقيّات» متصوّفينا، قد تُرى تعبيراتٌ تضادّ ما تقدَّم من تعبيرات إسلاميّة في هذا المجال، فقد ظهر على المسرح فريقٌ من المتصوّفة يُعرَف بـ«أصحاب الملامة»[1]، وكانوا يقولون:

كي نُذلّ النفسَ أشدَّ إذلالٍ، يجب علينا أن نكسر أنفسنا ونذلّها بكلّ استطاعتنا، وهذا هو منشأ اسم «خاكسار» الموجود الآن بين المتصوّفة، فهؤلاء هكذا كانوا يعتقدون ويعملون كي لا تكون للنفس أهمّيّةٌ عندهم، وبهذا المعنى يقول «سعدي»:

أنا أفتخر بأنّي نملةٌ تُداس تحت أقدام

                                         الناس ولستُ نحلةً يبكون مِنْ لسعتي

ومقصود «سعدي» هو أنّ إيذاء الناس أمرٌ سيّئ في نظر الإسلام، ولكن هل الأمر دائرٌ فقط بين كون المرءِ نملةً أو نحلةً، حتّى أقول: أشكرك يا إلهي، فأنا لا أمتلك القوّة والقدرة، ومن ثمّ فأنا لا أظلم الناس؟ إنّ كون الإنسان فاقداً للقدرة وغير ظالم للناس ليس أمراً ذا شأن، بل الشأن كلّه هو أن يكون مقتدراً مستطيعاً، لكنّه لا يؤذي أحداً ولا يظلم، فلسان حال المسلم يجب أن يقول: أشكرك يا إلهي، حيث جعلتَني أمتلك القدرة، ولكنّي لا أظلم الناس. فما نَظَمَه «سعدي» من شعر، إفراطٌ في الأخلاق، وهو جانبٌ من مذهب المتصوّفة «أصحاب الملامة» الّذي لا يرتضيه الإسلام أبداً.

 

 


[1]  أصحاب الملامة / الملاميّة: طريقة ظهرت في منتصف القرن الثالث الهجريّ، ومنظّرها الأوّل هو «حمدون بن أحمد عمارة» (المتوفّى سنة 271هـ)، وعمل على نشرها وترويجها أبو حفص عمر بن سلمة الحدّاد، وتلامذته، مثل أبي صالح حمدون القصّار وأبي عثمان سعيد الحيري (المتوفّى 298هـ)، وغيرهما. تقوم هذه الطريقة على فكرة خلاصتها: الهرب من الشهرة، والانزواء عن الخلق، وإذلال النفس بقدر الإمكان حذراً من طغيانها وادّعائها الكرامة. ولذلك، يخفون حالاتهم الصوفيّة ويرون أنّ إذاعتها كشفاً للسرّ الموجود بينهم وبين الله تعالى، وهم لا يهتمّون بالمبالغة في العبادات والطاعات، بل يكتفون بالفرائض والواجبات، شرط الصدق والإخلاص (المعرِّب).

 

105


86

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

نُقِل عن «إبراهيم بن أدهم»[1] -وكان من «مشايخ الصوفيّة»- أنّه قال: سررتُ في أوقات ثلاثة سروراً أعظم من أيّ وقت آخر:

الأوّل، حين كنت في مسجد «بيت المقدِس»، وكنت آنذاك مريضاً جدّاً، ولم يكن برفقتي أحد، فنمتُ في زاوية المسجد. بعد برهة، جاء خادم المسجد وأيقظ النائمين، ثمّ التفت إليَّ وقال: هيَّا استيقظ. ولكن لم تكن لديّ القدرة على النهوض، فأمسك برجلي وجرَّني إلى الخارج، وقد فرحتُ بهذا كثيراً؛ لأنّي صرتُ أمامه ذليلاً.

الثاني، كنت أنفش فروتي يوماً وأنظّفها، فوجدت قمّلاً كثيراً جدّاً، حيث إنّي لم أستطع أن أعرف هل صوف الفروة أكثر أم هذا القمّل؟ وقد سرَّتني هذه الحالة أيضاً؛ لأنّها أشعرتني بدناءة نفسي وحقارتها.

الثالث، كنت يوماً راكباً زورقاً مع جماعة، وكان معنا رجلٌ سيّئ يلهو ويمزح، فتحلَّق حوله الجماعة، وكان ممّا قاله: خرجتُ لحرب الكفّار ففعلت كذا وكذا، ثمّ أَسرْتُ أسيراً وجررتُه من لحيته. ثمّ تطلَّع حوله، فلم يجد أحداً أضعفَ جانباً منّي، فجاء إليَّ وأخذ بشعر لحيتي، ثمّ شرع يُعيد تلك القصّة، ويقول: هكذا أخذت ذلك الأسير. أمّا أنا، فقد سُعِدتُ جدّاً بهذا كعادتي؛ لِمَا أصابني من الذلّة والانكسار!

هذا هو الإفراط في الأخلاق، المقابل للتفريط فيها. وفي قِبال هذا الفريق، فريق لا يعرضون حاجاتهم على أحدٍ مهما اشتدَّت. لكنّ الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) يقول: «اطْلُبُوا الحَوَائِجَ بِعِزَّةِ الأَنْفُسِ»[2].

 

 


[1]  إبراهيم بن أدهم (80 - 161هـ): من كبار العرفاء والمتصوّفة، وعاصر ثلاثة من أئمّة الشيعة: الإمام السجّاد والإمام الباقر والإمام الصادق (عليهم السلام)، ولم يُذكر اسمه في كتب الرجال الشيعيّة القديمة، ولكن عدّه بعضهم من صوفيّة الشيعة. كان من أُسَر الأشراف والحكماء في بلخ، فإذا به يعرض عن الدنيا ويقبل على الزهد، ثمّ يسافر بعد التوبة إلى مكّة، ويلتقي بكبار الصوفيّة هناك كسفيان الثوريّ، والفضيل بن عيّاض، ويصحبهما، وبعد فترة يتّجه نحو الشام، ويظلّ فيها إلى آخر عمره. ويُعَدّ إبراهيم على رأس سلسلة بعض الطرائق، كالطريقة الأدهميّة، وكذا النقشبنديّة. انعكست أحداث حياته ونصائحه وتصرّفاته على أشعار العرفاء وآثارهم العرفانيّة، وكان إبراهيم يعتقد بأنّ الزواج وإنجاب الأولاد يعارض الزهد، ومن أشهر تلامذته شقيق البلخيّ.

[2]  أبو القاسم پاينده‏، نهج الفصاحة (الكلمات القصار للنبيّ(صلى الله عليه وآله))، مصدر سابق، ص218.

 

106


87

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

فلا مانع في أن يعرض الإنسان حوائجه على أصدقائه وأصحابه، ما دامت كرامته مصونة وشخصيّته محترمة. فمن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) بصفِّين، قال: «فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَالْحَيَاةُ في مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ»[1]؛ فالحياة هي النصر والعزّة ولو تحت الثرى، والموت هو الذلّ والهوان، يقول الحقّ تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾[2].

عزَّة «النفس» في كلام الإمام الحسين (عليه السلام)

على الرغم من قلَّة المأثور عن الإمام الحسين (عليه السلام)، إلّا أنّه لم يُنقَل عن أيّ إمام بكثرة ما نُقِل عنه (عليه السلام) في موضوع «كرامة النفس» وعزّتها، ومن ذلك قوله: «مَوْتٌ فِي عِزٍّ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي ذُلٍّ»[3]، وله (عليه السلام) جملةٌ مدوّية، وهي شعار: «هَيْهَاتَ مِنَّا الذِّلَّة».

كذلك له جملة معروفة، وهي عجيبة حقّاً، وستظلّ من العبارات الخالدة الّتي تشعّ نوراً وتفيض حرارةً إلى يوم القيامة، يقول (عليه السلام): «ألَا وإنّ الدَعِيَّ ابنَ الدَعِيِّ قدْ رَكَزَ[4] بينَ اثنَتَينِ: بينَ السِّلَّةِ[5] والذِّلَّةِ، وهيهاتَ منّا الذِّلَّةُ! يأبَى اللهُ لَنَا ذلكَ، ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ، وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرتْ، وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ، ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ[6]، مِنْ أنْ نؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ على مصارِعِ الكِرَامِ»[7].

كان (عليه السلام) في يوم عاشوراء يمتطي جواده، ويخطب في جموعِ أعدائه رافعاً صوته، بقوله: «لا وَاللهِ، لَا أُعْطِيكُمْ بِيَدِي إعْطَاءَ الذَّلِيلِ؛ وَلَا أُقِرُّ لَكُمْ إقْرَارَ الْعَبِيدِ»[8].


 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص88، الخطبة 51.

[2]  سورة آل عمران، الآية 139.

[3]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص192.

[4]  رَكَز منّا؛ أي أقامنا بين الأمرَين.

[5]  السِّلَّة: استلال السيوف.

[6] أبيَّة: مرتفعة عن الدنِيَّة.

[7] الشيخ الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول(صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص241.

[8]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص7.

 

107


88

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

ومن كلماتهم (عليهم السلام) في هذا المجال -وهي كثيرة- يُعلَم الربط الوثيق بين «العزّة» و«الأخلاق الكريمة»، وبين «الذِّلَّة» و«الأخلاق الرذيلة». يقول أبو عبد الله (عليه السلام): «الصِّدق عزٌّ والكذب عجز»[1]؛ بمعنى أنّ الكذوب يجد الدناءة في نفسه، والعجز عن مواجهة الحقيقة وتحمُّل تبعاتها، أمّا الشريف ذو العزَّة فلا يكذب أبداً. ويقول الإمام عليّ (عليه السلام): «الْغِيبَةُ جُهْدُ الْعَاجِز»[2]؛ لأنّ المغتاب الطاعن يجبن عن مواجهة المغتاب المطعون، فيلجأ إلى طعنه في ظهره؛ أمّا صاحب المروءة والقدرة، فهو أنبل من ذلك.

عزّة النفس في كلام أمير المؤمنين والإمام الصادق(عليهما السلام)

في «وسائل الشيعة» عن الإمام عليّ (عليه السلام): «لِيَجْتَمِعْ فِي قَلْبِكَ الِافْتِقَارُ إِلَى النَّاسِ وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُمْ؛ فَيَكُونَ افْتِقَارُكَ إِلَيْهِمْ فِي لِينِ كَلَامِكَ وَحُسْنِ بِشْرِكَ، وَيَكُونَ اسْتِغْنَاؤُكَ عَنْهُمْ فِي نَزَاهَةِ عِرْضِكَ وَبَقَاءِ عِزِّكَ»[3]؛ أي ليكن لديك إحساسان متضادّان: إحساسٌ بالافتقار إلى الخَلق، وإحساس بالاستغناء. كُنْ هشّاً بشّاً، متودّداً لخلق الله وكأنّك تطلب عوناً وتروم حاجةً. وفي الوقت ذاته، كُنْ عزيز النفس غير باذل ماء وجهك، مترفّعاً عمّا في أيدي الناس، مستغنياً حتّى عن الأفلاك برمّتها.

يقول (عليه السلام) في نهجه: «مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ طَلَباً لِمَا عِنْدَ اللَّهِ! وَأَحْسَنُ مِنْهُ تِيهُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ اتِّكَالاً عَلَى اللَّهِ»[4]. وفي هذا الاتّجاه، نقرأ في دعاء أبي حمزة الثماليّ: «الْحَمْدُ للهِ الَّذي وَكَلَني إِلَيْهِ فَأَكْرَمَني، وَلَمْ يَكِلْني إِلَى النَّاسِ فَيُهينُوني»[5].

 

 


[1]  اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص246.

[2]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص556، الحكمة 461.

[3]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج‏2، ص149. الشيخ الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج‏9، ص448.

[4]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص547، الحكمة 406.

 

108

 


89

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

وفي وصيّته (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام): «لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ، وَقَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً»[1]. هذه الجملة الذهبيّة، جرت على لسانه قبل أكثر من ألف وأربعمئة عام، وهي ذاتها الّتي افتُتِحَت بها الوثيقة العالَميّة لحقوق الإنسان الّتي أُعلِنَت عقيب الثورة الفرنسيّة، فقد جاء فيها: «إنَّ اللهَ خَلَقَ النَّاسَ أَحْرَاراً»[2].

وفي «تحف العقول»، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وَلَا تَكُنْ فَظّاً غَلِيظاً يَكْرَهِ النَّاسُ قُرْبَكَ، وَلَا تَكُنْ وَاهِناً يُحَقِّرْكَ مَنْ عَرَفَكَ»[3]؛ أي كُنْ دمث الأخلاق، ليِّن الجانب، طلق الوجه، لا متكبّراً مصعّراً خدّك للناس؛ لئلّا يزهد الناس في قربك، وكُنْ في الوقت ذاته عزيز النفس مرهوب الجانب، ولا تلبس ثوب الذلّ والمسكنة، فيحتقرك الآخرون؛ لأنَّ العزَّة لله ورسوله والمؤمنين[4].

ثنائيّة النفس

عرفت في ما سلف من البحوث، أنّ التوصيات الإسلاميّة تطالب -من ناحية- بمبارزة

 

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص401، الكتاب 31.

[2]  ذكر الأستاذ الشهيد هنا أموراً لا ربط لها بأصل البحث؛ ولذا رأينا حذفها من المتن وإثباتها في الهامش، حفاظاً على نظم البحوث ورصانة العرض، وعذره في ذلك أنّه كان في مقام الخطابة لا الكتابة، والخطابة تسع ما لا تسعه الكتابة، وإليك ما ذكره رحمه الله تعالى، قال: وأيضاً إذا قرأنا نهج البلاغة، فسنرى جملة يقول (عليه السلام): «قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ، وَصِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ، وَشَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ، وَعِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِه‏» (السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص477، الحكمة 47)؛ فليست الشجاعة منوطة بقوّة الأبدان، بل بقوّة القلب وثبات الجنان مع تبصُّرٍ واحتياط. ثمّ إنّه (عليه السلام) ربط بين العفّة والغيرة، وذكر أنّ الأولى فرع الثانية، فمَن لا عفَّة لديهم لا غيرةَ عندهم أيضاً، وغير العفيف هو الّذي لا يغار على عرض الآخرين؛ لأنّه لا غيرة لديه على عرضه وناموسه، وإلّا لو كان ذا غيرة على ناموسه، لتعفّف عن أعراض الناس. وتأكيداً لهذا، يقول (عليه السلام) أيضاً: « مَا زَنَى غَيُورٌ قَطُّ» (السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص529، الحكمة 305)؛ فمن يزني لا غيرة له، وهو لا يبالي إذا ما زُنِيَ بأهله؛ لأنّه مات حسُّ الغيرة في نفسه.

[3]  الشيخ الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول(صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص304.

[4]  أنت خبير عزيزي القارئ، بأنّه ليس معنى ذلك جواز تحقير المؤمن والنظر إليه بعين الازدراء؛ لمجرّد أنّه ضعيف الجانب خامل الذكر، فإنّ ذلك محرّم جزماً؛ لأنّ المؤمن أعزّ عند الله تعالى من الكعبة وأكرم، كما جاء عنهم (عليهم السلام)، بل معنى ذلك أنّ الناس جرت سيرتهم الخاطئة -لعوامل عدّة لا صلة لها بالدين والأخلاق الإنسانيّة الأصيلة- على تكريم القويّ بلا حساب، وتوهين الضعيف بلا حساب. فحفاظاً على شخصيّة المؤمن وكرامته، عليه تجنُّب ما يكون سبباً -في عُرف الناس- للسخرية والمهانة. وهذا نظير قول الإمام الصادق (عليه السلام): «رَحِمَ اللهُ مَنْ جَبَّ الغيبَةَ عَنْ نَفْسِهِ»؛ بمعنى تجنّب مواضع التهمة والريبة، لا جواز الغيبة (المعرِّب).

 

109


90

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

«النفس» وإماتتها، وفي المأثور: «مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا»[1]، لكنّها تطالب -من ناحية أخرى- بتكريمها وإعزازها وتحريرها. ولكن ما معنى ذلك؟ هل معناه أنَّ للإنسان «نفسَين واقعيّتَين» ومستقلّتَين، أم ماذا؟

الجواب: إنّ معنى ذلك هو أنّ هاتَين النفسَين ليستا في عَرْضٍ واحد، بل إحداهما دخيلة، وإلّا ففي الحقيقة، ليس للإنسان سوى «نفس» واحدة واقعيّة، وهي «ذاته». وله «نفس» «أخرى»، وهي واقعاً ليست «نفساً» له، ولكنَّه يتصوَّر خطأً أنّها «نفسُه». فحينما يُقال: يجب مبارزة «النفس»، فالمراد به «النفس المتوَهَّمة» للإنسانيّة، فلستَ «أنتَ» ما تتصوَّره أنّه «أنتَ»، فهذه «النفس اللانفس» يجب إبادتها حتّى تظهر «النفس الواقعيّة الأصيلة» من خلف الحُجب والأستار. وهذه «الثنائيّة للنفس» هي ما توصَّل إليه البشر بعد جهود علميّة وفلسفيّة قاموا بها في حقل «النفس»، لكنّهم ما عرفوا تفسيراً لذلك.

هذه المسألة لم تُطرح إلَّا حديثاً، في حين بيَّنها أئمَّة الدين قبل 1400 عاماً، وقد طُرِحَت على يد «هيغِل» (George Hegel)[2] ، والظاهر أنّه أوّل مَن طرحها تحت عنوان «الانفصال عن النفس»، وهو تعبير آخر عن «نسيان النفس» الّذي طرحه القرآن الكريم قبل 1400 سنة. والقرآن الكريم يؤكّد في طرحه، وجوب إماتة «نفسٍ» وإحياء أخرى، على إكرام «نفسٍ» وإذلال أخرى؛ لأنّ إحداهما مظهر الرذائل والأخرى مظهر الخير والفضائل، وبإحياء «النفس الواقعيّة»، تُحيَى الأخلاق المرضيّة والصفات الكريمة، وتموت أضدادُها في مهدها. وهذه النفس الشريفة هي المانعة من انزلاق صاحبها؛ لأنّها لا تجيز له ترك الصدق -مثلاً- وممارسة الكذب، أو ترك الأمانة وارتكاب الخيانة، أو التفريط في العزّة والرضى بالذلّة، أو التفريط بالعفَّة وممارسة الغيبة، وأمثال ذلك. ولهذا، يقول الإمام

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج69، ص59.

[2]  جورج فيلهلم فريدريش هيغل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel) (1770 – 1831م): أحد أهمّ الفلاسفة الألمان، إذ يُعَدّ أهمّ مؤسّسي المثاليّة الألمانيّة في الفلسفة في أواخر القرن الثامن عشر الميلاديّ. طوّر المنهج الجدليّ الّذي أثبت من خلاله أنّ سير التاريخ والأفكار يتمّ بوجود الأطروحة، ثمّ نقيضها ثمّ التوليف بينهما. كان هيغل آخر بناة «المشاريع الفلسفيّة الكبرى» في العصر الحديث. كان لفلسفته أثر عميق على معظم الفلسفات المعاصرة.

 

110


91

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

الهادي (عليه السلام): «مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، فَلَا تَأْمَنْ شَرَّهُ»[1]. ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) ما معناه: إذا استشعر المرء كرامة نفسه وشرفها، نفر من اتّباع الهوى، وسهُل عليه تنكُّب طريق الشهوات.

بناءً على ما تقدَّم، تكون هذه المسألة -ثنائيّة النفس- محلولةً ومفسَّرةً بنظر الإسلام؛ ذلك أنّ الإنسان وإن كان حيواناً، إلّا أنّ فيه في الوقت ذاته -كما يعبّر القرآن الكريم عنه- نفخةً من الروح الإلهيّة، والنور الملكوتيّ، وهو يُشرق في وجود كلّ إنسان. و«الأنا» الواقعيّة للإنسان، هي «الأنا الملكوتيّة» هذه، وأمّا «الأنا الحيوانيّة» في الإنسان، فهي طفيليّة ولا أصالةَ لها.

يقول الفلاسفة المسلمون في باب «المادَّة والصورة»: إنَّ «الفعليّة» الأخيرة لكلّ موجود، هي حقيقة ذلك الوجود. ولا شيء غير «الفعليّة» يُعَدّ جزءاً من حقيقته، كما لا تأثير له في «فعليّته». وعلى هذا، فما يوجد في الحيوان من ميول، إنّما تخلقه «الأنا الواقعيّة» لذلك الحيوان، وهذه «الأنا» تصبح «أناً طفيليّة» في الإنسان؛ فأنا آكلُ وأشرب وأنام وأمشي، ذلك كلّه مرتبط بي، ولكنّ ذلك في المرتبة النازلة لـ«الأنا»، وهي ذاتها الّتي تقول: أنا أُفكّر، أنا أعرف الله، أنا أحبُّ أن أُؤثِرُ الآخرين عَلَيَّ، فذلك كلّه مرتبط بـ«أنا» واحدة؛ لكن لهذه الأنا درجات، فـ«الأنا» الّتي تتكلّم كلاماً رفيعاً راقياً هي «الأنا الإنسانيّة العالية»، «والأنا» الّتي تتكلّم كلاماً حيوانيّاً هابطاً هي «الأنا الإنسانيّة السافلة».

صراعٌ داخليّ

إنَّ من خصوصيّات الإنسان، وجود جدال ونزاع وأمر ونهي بين نفسَيْه؛ أي بين كلتا «الأنا»؛ ويُعبَّر عنه بالجدال بين «العقل» و«النفس»، أو بين «الإرادة الأخلاقيّة» و«هوى النفس». وهذه التجربة كثيراً ما تحصل للإنسان، فتراه يعزم على فعل شيءٍ يضادّ ميله

 

 


[1]  الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول(صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص483.

 

 

111


92

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

الطبيعيّ، حيث يكون «ميله» في جهةٍ، وما عزم عليه في جهةٍ أخرى مضادَّة. ومثال ذلك: أن يضع الطبيب نظاماً غذائيّاً خاصّاً لمريضٍ ما، فيمنعه -مثلاً- من تناوُل بعض الفواكه، أو يسمح له بتناول كمٍّ مُحدّد، فهذا المريض يعزم بكلّ جدّ على اتّباع توصيات الطبيب، ولكنّ «الميل» ما يزال موجوداً عنده. لذلك، تبدأ «فعليّة» ذلك «الميل» بمجرّد أن يجلس إلى المائدة، فيدعو الإنسانَ إلى أكل الممنوع من الطعام وتناوله، لكنّ «الإرادة والعزم» يقفان بالمرصاد مقابل هذا «الميل والهوى»، فيكون «عقله» غالباً و«نفسه» مغلوبة، وتارة يعمل ضدّ «عقله» فتكون «نفسه» متفوّقة على «عقله».

وقد يُصمّم إنسانٌ ما على أن يكون من أهل الأسحار، فإذا استيقظ سَحَراً وأراد النهوض، أتى إليه «الميل» ليقول له في أذنَيه: ابقَ في هذا الفراش الدافئ ولا تبرحه، أمّا الإرادة الأخلاقيّة، فتقول له: هيّا انهض ولا تتوانَ. ففي هذا الموقف، قد ينصاع الإنسان للإرادة ويعمل ما يضادّ «ميله» وطبيعته، وقد ينصاع لـ«ميله» ويجاري طبيعته، فيبقى في مرقده مرتاحاً. وهذا النزاع والاختلاف لا وجودَ له في الحيوانات، بل هي تسير وفق طبائعها وميولها المغروسة فيها بيد بارئها تعالى.

إذاً، وكما يقول علماء النفس، هذا الجدال الداخليّ للإنسان هو بين نفسَيه. وبعبارة أخرى، في باطن الإنسان قوّتان متصارعتان، وهما في صراع دائم؛ فواحدة تقول: قُمْ بهذا الفعل، والأخرى تخالف ذلك وتعلن معارضتها. فإذا ما انتصرت «الميول الطبيعيّة الحيوانيّة» على «الإرادة الأخلاقيّة»، أُصيبَ الإنسان بالخجل والانكسار والتقهقر، وهو في هذه الحال كالفارس الشجاع المرسل إلى ساحة الوغى لمبارزة فارس آخر ومقارعته، فيُصاب بالهزيمة، فيشعر وقتها بالانكسار وتعلو وجهه حمرة الخجل.

خلاف ذلك، إذا ما انتصرت «الإرادة الأخلاقيّة» على «الميول الطبيعيّة»، فيقوم ذلك المريض من المائدة وقد نفّذ توصيات الطبيب، أو يقوم ذلك الإنسان سَحَراً ويغادر فراشه الدافئ، على الرغم من أمر طبيعته إيّاه بملازمته، فيعصي أمرها ليشرع في برنامجه العباديّ،

 

 

112

 

 


93

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

فتراه وقد غمره إحساسٌ بالنصر والمسرّة. وهذا الصراع قائمٌ عند كلّ فرد، ولا أظنّ أنَّ أحداً لم يمارس هذه التجربة في نفسه.

«الإرادة الأخلاقيّة» للإنسان هي تعبيرٌ آخر عن «نفسِه الواقعيّة الأصيلة»، كما أنَّ الإحساس بالانكسار والضعف من مفرزات «نفسه المتوَهَّمة المزيّفة»، وهي «النفس» الّتي يجب عليه مقارعتها ولجمها، وعدم تركها مطلقة العنان تجول في الميدان وتصول. والواقع أنّ هذه الحرب الخفيّة الداخليّة في الإنسان تدور رحاها بين «النفس» و«اللانفس»؛ فإن تغلَّب «الهوى والميول» الحيوانيّة، وصارت بيدها الحكومة المطلقة، اختفت «الإرادة» و«الفطرة الإنسانيّة» وانزوى «العقل»، فالشهوة والفضيلة فارسَا ميدان النفس، وبطلا حلبتها.

إنَّ الإنسان الّذي لا تحكمه سوى المشتهيات الحيوانيّة، لا يخسر في الحقيقة سوى «نفسه الواقعيّة»: ﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ﴾[1].

ترى فكرَه محكوماً بالمال والمأكولات والملبوسات، ويحسب ما ليست «نفساً» أنّها «نفسٌ»، وهو لا يعلم أنّه نسي «نفسَه»، ومع ذلك إذ يتحدّث، يتحدثّ دائماً عن «النفس»، يقول القرآن الكريم: لقد نسيت نفسَك! وهذه النفس الّتي تتعامل معها هي «النفس الطفيليّة»، ليس غير: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ﴾[2].

القرآن يطرح «النفس المذمومة»، والّتي يجب نسيانها قِبال «النفس اليقينيّة» الواقعيّة، وهذه «النفس» لا تنفكّ معرفتها عن معرفة الله تعالى، فهما متلازمتان في نظر القرآن الكريم، ولا ينفصلان. فمعرفة الله تعني معرفة «النفس»، وحقيقة «العبادة» هي العثور على تلك «النفس» الحقيقيّة الملكوتيّة، والوصول إليها. يقول الإمام عليّ (عليه السلام) في مقولة

 

 


[1]  سورة الزمر، الآية 15.

[2]  سورة الحشر، الآية 19.

 

 

113


94

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

عظيمة له: «عَجِبْتُ لِمَنْ يَنْشُدُ ضَالَّتَهُ وَقَدْ أَضَلَّ نَفْسَهُ، فَلَا يَطْلُبُهَا»[1].

ولا ننسى هنا «مولوي» إذ يقول:

أنت، يا مَن قتَلَ نفسَه في المعركة

                                         إذ لم تُميّز «نفسك» من الآخرين

أنت، كلَّما وقفت قِبال المرآة، قلت:

                                         هذا أنا! أنت لست ما في المرآة

قد يقف المرء أمام المرآة، ويتصوّر أنّه يرى نفسه وينظر إليها، والحال أنّ تلك الصورة المرئيّة ليست «هو». أمّا «مولوي»، فهو يُقدّم هنا اقتراحاً، ويقول: إذا أردت أن تعرف هل أضعت نفسك أوّلاً؟ فبإمكانك معرفة هذا السرّ عن طريق الخلوة والوحدة؛ بمعنى أنّك إذا انزويتَ أيّاماً عدّة ولم ترَ فيها أناساً آخرين، فسوف تحيط بك الوحشة وتعتريك السآمة؛ لماذا؟ لأنّك قد ضعتَ فيهم، فأنت تبحث عن «ذاتك» فيهم. اللهمَّ، إلّا إذا عثرتَ على «ذاتك» والتقيتها؛ فحينئذٍ، لن تشعر بذرّة من الوحشة، أو بلحظةٍ من ضيق القلب، حتّى لو بقيت في خلوتك مئة عام.

«نفس» البخيل

البخيل من «مصاديق»[2] الّذين أضاعوا «أنفسهم»، وللإمام عليّ (عليه السلام) كلامٌ في هذا المعنى. البخيل إنسان أضاع «نفسه»، وصارت الأموال والثروة غايته ومنتهى طموحه، وألبسها ثوب الأصالة؛ وبتعبير علماء النفس اليوم، حكَّم المال وثبَّته. فالنقود هي «الأنا» في نظره، ولا توجد «أنا» أخرى غير المال والنقود. وهو يريد «نفسه» للمال دون العكس،

 


[1]  الليثيّ الواسطيّ، عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق وتصحيح حسين الحسنيّ البيرجنديّ‏، نشر دار الحديث، إيران - قمّ، 1418هـ، ط1، ص329.

[2]  مصاديق: ما ينطبق عليه مفهوم ما.

 

 

114


95

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

ولأجله يغمض عينَيه عن روحه وحياته ونجاحه وعمره كلّه، وليس مستعدّاً لأنْ يغمض عينَيه عن المال لصالح سلامته وسعادته.

يقول (عليه السلام) في نهج البلاغة: «عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ الْفَقْرَ[1] الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَيَفُوتُهُ الْغِنَى الَّذِى إِيَّاهُ طَلَبَ، فَيَعِيشُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَيُحَاسَبُ فِي الْآخِرَةِ حِسَابَ الْأَغْنِيَاءِ»[2].

إنَّه سيّئ الحظّ حقّاً! فهو يستبدل «نفسَه» بالنقود، وليس مستعدّاً أن ينبق المال على نفسه، فيلبس ما الرثَّ من اللباس، ويأكل ما خشُن من الطعام حتّى يدّخر قليلاً من المال. فهو فقير؛ لأنَّ من لا ينتفع بطعامٍ ومسكنٍ ومركبٍ وملبوسٍ لائق وحَسَن، فهو فقير. والبخيل، وإن كان غنيّاً، إلّا أنّه يعيش مرارة الفقر وصعوبته، يقضي عمره في تناول الخبز والجبن إشفاقاً وحذراً من الفقر؛ فيخسر بذلك «نفسه الواقعيّة».

في هذا السياق، تمثيل لطيف لـ«مولوي»، حيث يقول:

لا تبنِ بيتاً في أرض الآخرين

أنجز عملك أنت، ولا تُنجز عمل الغريب

الغريب مَن؟ هو بدنُك الترابيّ، الّذي هو علّةُ غمّك وبُؤسك

وما دمت تُعطي البدن المرَّ والحلو، فلن تجعل جوهرةَ الروح تتألّق أبداً

وحتّى لو طُلِيَ ذلك البدن بالمسك، فسوف تفوح رائحته النتنة حين الموت

فلا تطلِ البدن بالمسك واطْلِ به الروح، هل عرفتَ المسك؟ هو الاسم المقدّس لذي الجلال.

افترضوا أنّ شخصاً أعدَّ أرضاً لبناء مسكن له، إلّا أنّه ولسببٍ ما، لم يكن يبني في النهار،

 

 


[1]  يريد أنّه يهرب من الفقر بجمع المال، وتكون له الحاجة فلا يقضيها، ويكون عليه الحقّ فلا يؤدّيه.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص491، الحكمة 126.

 

115


96

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

بل كان يُشتَغَل بالبناء ليلاً فقط، وقد أتعب نفسه وأجهدها وأنفق أموالاً حتّى أتمَّ المنزل، فلمَّا أراد الانتقال إليه واتّخاذه سكناً، فُوجِئ بأنّه قد شيَّد المنزل المطلوب في أرض الآخرين، وأنّ أرضه المجاورة خاليةٌ، لا شيء بها حتّى ولا لَبِنة[1] واحدة! فماذا سيكون شعوره في مثل هذه الحال؟

هكذا هي حال الإنسان حينما يرى ساحة القيامة، سوف يُعاين «نفسه» ويراها صفرَ اليدين ومجرّدةً من كلّ شيء، كأرض صاحبنا المذكورة، سوف يدرك أنّ الشيء الّذي لم يقدّم له شيئاً، ولم يدّخر له مؤونةً، هو «نفسُه»، وأنّ الشيء الآخر الّذي سعى من أجله وعمل له، ليس ملكاً له؛ لأنّه كان في أرض الآخرين.

روح الإنسان منبع الحسّ الأخلاقيّ

«الأنا الواقعيّة» لكلّ إنسان، في نظر الإسلام، هي تلك النفحة الإلهيّة السارية فيه. والإحساسات الأخلاقيّة إنّما تنبع من هذه «الأنا»؛ ولولا وجود هذه «الأنا الواقعيّة» في الإنسان، لانطفأت هذه الإحساسات وانعدمت؛ لعدم ملاءمتها للشهوات الحسيّة. والعجب أنّ الفكر «الغربيّ» -ولأسباب ليس هنا محلّ ذكرها- يرفض الاعتراف بوجود روحٍ ملكوتيّة عُلْويَّة للإنسان؛ وللميول الشهوانيّة والأهواء النفسيّة دور فاعل في ذلك. (هذا -بطبيعة الحال- لا يعمّ الجميع؛ إذ يوجد فيهم مفكِّرون كثيرون ينهجون منهجاً روحيّاً).

لكن على الرغم من إنكارهم لذلك، إلَّا أنّهم يدركون وجود اهتمامات إنسانيّة لا تتلاءم والطبيعة المادّيّة الظاهريّة للبشر. وهذا يعني -بجلاء- أنّ «روح الإنسان» كانت دائماً نافذته إلى المُثُل والمعنويّات، يُدرِك الإنسانُ بواسطتها أنّه حقيقة معنويّة، وأنّه حقيقة خالدة، وأنّ روحه ستظلّ فاعلة وخلّاقة حتّى بعد الموت الظاهريّ.

 

 


[1]  لَبِنة: وَاحِدَةُ اللَّبِنِ مِنَ الطِّينِ الْمَشْوِيِّ يُبْنَى بِهِ.

 

 

116


97

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

ممَّن صرَّح بوجود أبعادٍ واهتماماتٍ لا تتّفق والطبيعة المادّيّة، «ويليام جيمس»[1] (William James)، فقد صرَّح في كتابه «الدين والنفس» بهذه الحقيقة، وذكر أنّه كما أنّ الغرائز المادّيّة تشدّنا نحو المادّة وتربطنا بها، وتُعَدّ قنوات اتّصال لا غنى عنها بين الإنسان والعالَم المادّيّ -وذلك كالشعور بالجوع، فإنّه يُلجئ الإنسان لطلب المادّة والغذاء- كذلك توجد فينا إحساسات فطريّة تشدّنا نحو عالَم آخر يباين تماماً عالَم المادّة، وبهذه الغرائز يتوصلّ الإنسان لذلك العالَم الخفيّ، ويُلبّي رغباته وتطلّعاته المعنويّة.

لكنّ الفلاسفة المادّيّين لا يرتضون هذا المنطق، ويسلكون في توجيه هذه الميول المعنويّة طريقاً أخرى، حاصلها أنّ الإنسان يطلب شيئَين، هما: المنفعة والقيمة؛ فـ«المنفعة» يطلقونها على النزعات المادّيّة، و«القيمة» على النزعات المعنويّات. وهم يحسبون أنّهم بهذا الزخرف يقدرون على طمس الحقيقة والالتفاف عليها. ولئن سألتهم: ما هي هذه «القيمة»؟ فسيقولون: هي شيء ما، لا نفع فيه للإنسان، ولا يقضي له حاجة، كما أنّه لا يساير المنطق، ولا ينسجم ومعطيات العقل، مثل الإيثار والتضحية في سبيل الآخرين، فإنّه خلاف حُكم العقل القاضي بلزوم جلب النفع للذات والضنّ به. ولكن مع هذا، فهذا «الشيء» أو «القيمة» موجود لدى البشر ولا يمكن إنكاره؛ فالإنسان لديه ميل وانجذاب نحو التضحية والعدالة والحرّيّة والحِلم والصبر...، وهذه أمور لا تتلاءم والنفع المادّيّ؛ لذلك فهي لا تُسَمَّى «نفعاً»، بل تُدعَى «قيمة».

جوابنا عنه: أنّه محالٌ أن تكون لشيءٍ ما قيمة واعتبار ولا يكون عقليّاً ومنطقيّاً؛ وإلّا فما هو مصدر هذه «القيمة»؟ ومن هو الحاكم بها؟ يُضاف إلى ذلك، أنّ «القيمة» في نفسها ليست شيئاً ذا بال، بل المهمّ هو «ذو القيمة»، وما دام «الشيء» غير مرتبط بحقيقة الإنسان، فلن يكون «ذا قيمة» في نظر الإنسان. و«ذو القيمة»، كما يقرّر الإسلام، هو الروح

 

 


[1]  ويليام جيمس - William James (1842 - 1910م): عالِم نفس وفيلسوف اجتماعيّ أميركيّ مشهور، من كتبه: «إرادة الإيمان»، «أنواع من التجربة الدينيّة» و«معنى الحقيقة». وجيمس رجل إلهيّ، وأكثر آثاره المترجمة غاية في الجودة، ولا سيّما كتاب «الدين والنفس»، وهو من الفلاسفة المرموقين، وقد مضت على وفاته ستّون سنة لا أكثر.

 

 

117


98

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

الملكوتيّة الموجودة بين جُنُوبنا، وهي الشيء النفيس الّذي لا يُباع لغير الله تعالى -كما عبَّر الإمام الصادق (عليه السلام) في بيت شعر سابق[1]-؛ ذلك أنّ «الروح» هي حقيقة الإنسان ومنبع معنويّاته. وهذه «المعنويّات» هي خيرٌ، كما أنّ «المادّيّات» هي كذلك أيضاً، والفارق هو أنّ الطبيعة الحيوانيّة للإنسان لا تسعى وراء الخيرات المعنويّة، بل الساعي إليها حثيثاً هي حقيقته الملكوتيّة. ومن هنا، يكون «الحسّ الأخلاقيّ» طريقاً عريضةً توصل سالكها إلى «نفسه الواقعيّة» الخالصة، ومن ثمَّ يصل إلى عالَم الغيب والملكوت؛ لأنّه شعاعٌ من ذلك العالَم[2]؛ ولأنّ «روح الإنسان» نزلت من ذلك المحلّ الأرفع «المَلَكوت»، فهي عظيمة ومقدّسة؛ لأنّ المَلَكوت الإلهيّ كذلك. وعلى هذا، كلّما كان الإنسان بنفسه أَعرَف وبروحه ألصق، كانت سجاياها أَحْمد وأخلاقه أَعْرق.

يقول الإمام عليّ (عليه السلام): «مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، هَانَتْ عَلَيْهِ شَهَوَاتُهُ»[3]. ويشبه هذا حال رجل يرى لوحة فنيّة رائعة -كإحدى لوحات «رافائيل سانزيو»[4] (Raffaello Sanzio) مثلاً- فإنّه لا يخدشها؛ لإدراكه جمالها. فمَن يدرك حقيقة «نفسه الواقعيّة» المفاضة عليه من النفخة الربّانيّة، لا يمرّغها في مستنقع القاذورات من عجزٍ وهوانٍ

 

 


[1]  أثامن بالنفس النفيسة ربّها وليس في الخلق كلّهم ثمن.

[2] ذكر أحد الحكماء أنّ لكلّ من «النفس والبدن» تأثيراً على الآخر، بمعنى أنّ أفعال الجوارح -حَسَنة كانت أو قبيحة- تؤثّر في النفس أثراً مسانخاً. فالسلوك السيّئ للجوارح يعني تسافُل الروح، والسلوك السويّ يعني تعاليها. كما أنّ الهيئات العقليّة والحالات النفسيّة يسري أثرُها للبدن، يقول الشيخ الرئيس: فهذا الجوهر -يريد النفس- فيك واحد، بل هو أنت عند التحقيق، وله فروع وقوى منبثّة في أعضائك، فإذا أحسست بشيء من أعضائك شيئاً، أو تخيّلت أو اشتهيت أو غضبت، ألقَت العلاقة الّتي بينه وبين هذه الفروع، هيئةً فيك، حتّى تفعل بالتكرار إذعاناً ما، بل عادةً وخُلُقاً يتمكّنان من هذا الجوهر (النفس) المدبِّر تمكّن المَلَكات، كما يقع بالعكس، فإنّه كثيراً ما يبتدئ فتعرض فيه (في الجوهر) هيئة ما عقليّة، فتنتقل العلاقة من تلك الهيئة أثراً، إلى الفروع، ثمّ إلى الأعضاء، وهذا كلّه مستفاد من أحاديث بيت العصمة (عليهم السلام)، حيث دلَّت على أنّ الروح يوم العرض الأكبر تظهر مُسانِخةً لِمَلَكاتها وأفاعيلها، حتّى إنّ بعض الناس يُحشَرون بصوَر هي أقبح من صور القردة والخنازير، كما جاء في الخبر. وفي الخبر: المرء يُحشَر مع مَن أحبّ، ولو أنّ امرئ أحبَّ حجراً حُشر معه؛ أي حُشر حجراً حقيقةً. ولكنّ هذه الصور الباطنيّة لا يراها في هذا العالَم سوى من لهم عيون ذلك العالَم الآخر؛ لأنّها من مراتب ذلك العالَم. فصاحبها إنسانٌ ظاهراً، لكنّ قلبه قلب حيوان، فيكون تحقُّقُه تحقُّقاً حيوانيّاً. ومن هنا، أكّدت النصوص على سلامة الاعتقاد والأخلاق وحُسن العاقبة. وكتب الأدعية طافحةٌ بذلك. نسأله تعالى برد اليقين وحسن العاقبة (المعرِّب).

[3]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص555، الحكمة 449.

[4]  رافائيل سانزيو - Raffaello Sanzio (1483 - 1520م): من أعظم الفنّانين الإيطاليّين في الرسم والبناء، انتدبه الباب «يوليوس الثاني» و«لاون العاشر» لتزيين قصر الفاتيكان. من لوحاته الشهيرة: «مدرسة أثينا» و«العذراء». يتّسم رسمه بالتوازن في دقّة الرسم وطلاوة الألوان.

 

118


99

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

وكِبرٍ؛ لأنّه «مَا مِنْ رَجُلٍ تَكَبَّرَ أَوْ تَجَبَّرَ إِلَّا لِذِلَّةٍ وَجَدَهَا فِي نَفْسِهِ»[1]. فالمتكبّر أضاع «ذاته» الكريمة، فداخَله شعورٌ بالذلّة، فيتكبَّر ستراً لها. وكذلك المتجبّر، فهو يظلم الآخرين انتقاماً لعزّة نفسه الضائعة منه في مجاهل «النفس المتوَهَّمة»؛ ولو أنّه أدرك العمق الوجوديّ لـ«ذاته»، لَمَا مشى في الأرض مَرَحاً، يحسب أنّه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولاً! وأنت إذ ترى النوع الإنسانيّ محبّاً للعلم ولعاً به؛ فلأنّ حقيقته متنزّلة من عالَم العلم والنور، والشيء إلى جنسه أَمْيَل.

من هنا، تراه يرى الجودَ خيراً معنويّاً أو ذا قيمة بتعبيرهم؛ لأنّ الجود يسانخ عالَم الرحمة والفيض غير المتناهي، وهو لديه إحساسٌ بأنّه من عالَم ملؤه الرحمة، ولازِمُ ذلك الجودُ وإضافةُ الخير.

وخلاصة القول: إنَّ الأطروحة الإسلاميّة ترى أنّ «الحسّ الأخلاقيّ» منبثق من العثور على «النفس الواقعيّة» ودركها، ومن دون ذلك يتعذَّر بناء حسّ أخلاقيّ يتّسم بالواقعيّة والشموليّة، فرديّاً واجتماعيّاً. ومن يعتقد خلاف ذلك، فقد وقع في هوّة لا قرار لها؛ لعدم إمكان حصر العمق الإنسانيّ في حدود «النفس الظاهريّة» المسجّلة في بطاقة الهويَّة الشخصيّة. وإلى هذه القناعة توصَّل المادّيّون أيضاً، حيث لم يسعهم أبداً إنكار وجود «شخصيّة باطنيّة» والتملّص من هذا الواقع، وهم مُلزَمون بتفسيرٍ معقولٍ لذلك.

إطلالة على النظريّات المادّيّة في النفس

بعض المدارس المادّيّة أجابت عن ذلك بقولها: إنّ في الإنسان نوعَين من «الأنا»: «الأنا الفرديّة»، و«الأنا الكلّيَّة». الأولى يشعر بها صاحبها بالتشخيص والاستقلال عن الأغيار؛ أي بأنّه فرد، والثانية عبارة عن «الإنسانيّة» السارية والمنبسطة في الأفراد كافّة، ومن هذه الحيثيّة يكون كلّ إنسان محبّاً لأخيه الإنسان. وهذه الفرضيّة تُنسَب للفيلسوف المادّيّ

 

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص312.

 

119


100

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

الألمانيّ «مارتن هايدغر»[1] (Martin Heidegger).

لكنّ هذا الكلام غير صحيح، ولا يسعنا قبوله؛ لأنّهم لم يفهموا معنى «الكلّيّ» فهماً صحيحاً؛ إذ إنّهم حسبوا أنّ «الأنا» الشريفة، هي «الأنا» الكلّيّة الساريّة في الكلّ، وهي داخلة ضمن حدود الطبيعة. وأمّا «الأنا» المشعرة بالتشخّص والجزئيّة، فهي «الأنا» الخبيثة الواجب نبذها. وبعبارة أخرى، «الأنا الكلّيّة» تُشعِر صاحبَها بالإنسان الكلّيّ[2]، لا بذاته هو، وهذه هي «الأنا» المقدّسة الشريفة.

الصواب: إنّ «الإنسان الكلّيّ» وإن كان سارياً في الكلّ، إلّا أنّه أيضاً عينُ الفرد وغيرُ منفكّ عنه، لا أنّه شيءٌ آخر. وهذه المسألة تناولها الفلاسفة بالبحث والتحليل، ولا سيّما المسلمين منهم، فإنّ لهم بحوثاً شيّقة وتحقيقات رائقة في باب «الكلّيّ»، لا يناسب المقام ذكرها.

وقفة مع «سارتر»[3] (Jean - Paul Sartre)

يرى «سارتر» أنّ للإنسان «نفساً» حقيقيّةً وأخرى «مجازيّة»، لكنّ «النفس الحقيقيّة» ليس لها تعيُّن ولا طبيعة محدّدة، بل هي «وجود» صرف ومطلق، وهذا هو «جوهر» الإنسان و«نفسه الحقيقيّة». فإذا ما حصَّل الإنسان لنفسه تشخُّصاً وتعيُّناً، يكون قد فَقَدَ تلك «النفس الحقيقيّة» الّتي كانت له من قبل. وهذا الكلام وإن لم يكن متيناً، إلّا أنّه قابل للتوضيح، وهذا ما سنفعله إن شاء الله تعالى.

 

 


[1]  مارتن هايدغر Martin Heidegger (1889 - 1976م): فيلسُوف ألمانيّ، درس في جامعة فرايبورغ تحت إشراف إدموند هوسرل مؤسّس الظاهريّات، ثمّ أصبح أستاذاً فيها عام 1928م. وجّه اهتمامه الفلسفيّ إلى مشكلات الوجود والتقنيّة والحرّيّة والحقيقة وغيرها من المسائل. ومن أبرز مؤلّفاته: الوجود والزمان (1927)؛ دروب مُوصَدة (1950)؛ ما الّذي يُسَمَّى فكراً (1954)؛ المفاهيم الأساسيّة في الميتافيزيقا (1961)؛ نداء الحقيقة؛ في ماهيّة الحرّيّة الإنسانيّة (1982)؛ نيتشه (1983). تميّز هايدغر بتأثيره الكبير على المدارس الفلسفيّة في القرن العشرين، ومن أهمّها: الوجوديّة، التأويليّات، فلسفة النقض أو التفكيكيّة، ما بعد الحداثة. ومن أهمّ إنجازاته أنّه أعاد توجيه الفلسفة الغربيّة بعيداً عن الأسئلة الميتافيزيقيّة واللاهوتيّة والأسئلة الإبستمولوجيّة، ليطرح عوضاً عنها أسئلة نظريّة الوجود (الأنطولوجيا)، وهي أسئلة تتركز أساساً على معنى الكينونة (Dasein).

[2]  أي نوع الإنسان.

[3]  جان بول سارتر - Jean-Paul Sartre (1905 - 1980م): فيلسوف وكاتب وناقد فرنسيّ، وُلد في باريس، تأثَّر بظواهريّة «إدموند هوسِرْل» (Edmund Husserl) و«مارتن هايدغر» (Martin Heidegger)، وهو من وراء الوجوديّة المتشائمة وأبرز ممثّليها، قال بأنّ الوجود متقدّم على الماهيّة، وعرض أفكاره في قصص ومسرحيّات مشهورة، مثل: الوجود والعدم، طرق الحرّيّة، الجدار. ورفض جائزة نوبل في العام 1964م.

 

 

120


101

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

وقفة مع «الماركسيّة»[1]

أمّا الماركسيّون، فهم أيضاً لم يجدوا محيصاً إلّا أن يُقِرّوا بوجود نفسَين للإنسان، إلّا أنّهم نحوا منحًى اقتصاديّاً في تفسيرهم لذلك. فقد ادَّعوا بأنّ «النفس الخاصّة الفرديّة» هي ذاتها «النفس الخيّرة». ويدَّعون أيضاً، بأنَّ البشر في العهود القديمة لم تَدُر على ألسنتهم الضمائر الفرديّة (أنا وأنت)؛ لعدم وجود مفهوم «المُلْكيّة» في أذهانهم، فكانت كلُّ «الأنفُس» آنذاك «نفساً» واحدةً، تماماً كأفراد العائلة الواحدة الّذين يُشكّلون «نفساً» واحدةً، وهي ما نسمّيها «النفس العائليّة». فـ«المُلْكيّة الفرديّة» هي الّتي فتّتت «النفس الواحدة» الكبيرة، وحوَّلتها إلى «أنفُس» صغيرة متنافسة ومتطاحنة، وإلّا فالبشر قديماً كانوا كتلةً واحدةً، كالماء في البحر، لكنّ التملّك الفرديّ جعلهم قطرات متناثرة. يقول «مولوي»، وهو يريد معنًى عرفانيّاً:

كنّا جوهراً ذا حقيقة واحدة

                                         منبسطة، لا رأس لنا ولا قدم

كنّا جوهراً نورانيّاً كالشمس،

                                         وكنّا في النقاء والصفاء كالماء الزلال

بناءً على هذه الدعوى، فلكي نقضي على الأخلاق الفاسدة، لا بدّ -أوّلاً- من محاربة «المُلْكيّة الفرديّة» وإلغائها، وإحلال «المُلْكيّة العامّة» محلّها، ومن ثّم يرتفع التنافس، ويعود البشر إلى الطريقة المثلى.

 

 


[1]  الماركسيّة: هي ممارسة سياسيّة ونظريّة اجتماعيّة مبنيّة على أعمال كارل ماركس الفكريّة، وهو فيلسوف من أصول ألمانيّة يهوديّة من القرن التاسع عشر. كان عالم اقتصاد، وصحفيّاً وثوريّاً، شاركه رفيقه فريدريك إنجلز في وضع الأسس واللبنات الأولى للنظريّة الشيوعيّة، ومن بعدهم بدأ المفكّرون الماركسيّون في الإضافة والتطوير للنظريّة بالاستناد إلى الأسس الّتي أرسى دعائمها ماركس. سُمّيت الماركسيّة نسبة إلى مؤسِّسها الأوّل كارل ماركس. لقد أسّس ماركس نظريّة الشيوعيّة العلميّة بالاشتراك مع فريدريك إنجلز؛ فقد كان الاثنان اشتراكيَّين بالتفكير، لكن مع وجود الكثير من الأحزاب الاشتراكيّة، تفرّد ماركس وإنجلز بالتوصّل إلى فكرة الاشتراكيّة كتطوّر حتميّ للبشريّة وفق المنطق الجدليّ وبأدوات ثوريّة. فكانت مجمل أعمالهما تحت اسم واحد وهو الماركسيّة أو الشيوعيّة العالميّة. كانت أعمالهما تهتمّ في المقام الأوّل بتحسين أوضاع العمّال المهضومة حقوقهم من قِبل الرأسماليّين، والقضاء على استغلالهم للإنسان العامل.

 

121


102

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

النقد

إنّ ما ذكروه من الكلام هو أشبه بالشعر؛ إذ كيف يمكن القول بأنّ ما يفصل «النفوس» عن بعضها ويفتّتها هو «المُلْكيّة الفرديّة» فحسب؟ وهل مواهب الإنسان مقصورة على تلك الناشئة من المال والثروة؟ كلّا، بل توجد مواهب أخرى معنويّة، وحتّى أفراد العائلة الواحدة لن يتنازلوا عن حيثيّاتهم الخاصّة، وإن كانوا ينهجون مبدأ المُلْكيّة العامّة؛ لأنّه توجد لهم أمور أخرى تهمّهم -مثل: المكانة الاجتماعيّة والجاه وإثبات الوجود ونحو ذلك- تدعوهم إلى التمسّك بالاستقلاليّة والتميّز. ثمّ إنّ هذه «الاشتراكيّة» المدَّعاة، هل هي مطبَّقةٌ فعلاً، بحيث تُقسَم الثروات بالقسط والعدل؟ كلّا، وإنّهم يقولون ما لا يفعلون. ولو سلَّمنا بما يقولون، فما هو حال المناصب والجاه والمكانة والسلطة؟ هل يشملها قانون «الاشتراكيّة»؟ هل يمتلك عامل مصنع الصلب المسكين، الّذي لا يُعطَى من الخبز إلّا ما يسدّ رمقه، القدرة والسلطة ذاتها الّتي يتمتّع بها «بريجنيف»[1] مثلاً؟ أوَليست القدرة أمراً يهمّ الإنسان ويبذُل بإزائها الأموال الطائلة؟ وكذا «المرأة»، فهل تكون مُلْكاً مشاعاً؟ إنّهم يريدون ذلك، لكنّهم رأوا عدم إمكان تحقُّقه عمليّاً.

هكذا الحال لآلاف المواهب والنزعات الأخرى الّتي تشغل بال الإنسان، والّتي أُغمِض النظر عنها. وهذه المواهب والمزايا غير قابلة للاشتراك أو الشيوع؛ فالفداء والتضحية بالنفس في ساحات الوغى دفاعاً عن الآخرين، ومراعاة العدل والإنصاف في تعامل الإنسان

 

[1] ليونيد إيلييتش بريجنيف (Leonid Brezhnev) (بالروسيّة: Леони́д Ильи́ч Бре́жнев) (6091 – 2891م): كان رئيس الاتّحاد السوفييتيّ بين عامَي 1964 و1982م، ولكن في الفترة الأولى كان يشاركه السلطة آخرون. كان الأمين العامّ للحزب الشيوعيّ السوفييتيّ بين عامَي 1964 و1982م، وكان رئيساً لمجلس السوفييت الأعلى (رئيس الدولة) مرّتين، بين العامَين 1960 و1964م، وبين العامَين 1977 و1982م. ترأّس الاتّحاد كخليفة لخورتشوف. اتّصفت سياسة بريجنيف بالسعي إلى نشر النفوذ السوفيتيّ في العالم أجمع عن طريق دعم ما يُسمّى بحركة التحرّر الوطنيّ في الدول النامية والأحزاب الشيوعيّة في الدول الرأسماليّة المتطوّرة؛ الأمر الّذي أدّى إلى اصطدام مصالح الاتّحاد السوفييتيّ والولايات المتّحدة في شتّى مناطق العالم مثل منطقة جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأفغانستان وأمريكا اللاتينيّة والدول الأفريقيّة. وعلى صعيد العلاقات السوفييتيّة الأمريكيّة يعود إلى بريجنيف الفضل الكبير في بلوغ التوازن الاستراتيجيّ بين الاتّحاد السوفييتيّ والولايات المتّحدة، والبدء بسياسة تقليص الأسلحة الاستراتيجيّة الهجوميّة والدفاعيّة، وذلك بعد الزيارة الّتي قام بها الرئيس الأمريكيّ ريتشارد نيكسون إلى موسكو عام 1972م. من أولويّات السياسة الخارجيّة في عهد بريجنيف كان تعزيز تلاحم المعسكر الاشتراكّي الّذي احتوى على دول أوروبّا الشرقيّة والهند الصينيّة وكوبا في أمريكا اللاتينيّة.

 

122


103

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

ولو على نفسه، هي «أخلاق فرديّة»، ولا يمكن عدُّها «قيماً عامّة» للجميع.

ملخّص القول: إنّ إحساس «النفس» بكرامتها وشرفها وقدرتها، هو الأصل الأصيل للقيم والمُثُل العليا؛ لأنَّ هذا «الإحساس» صورة حيَّة «للنفس الواقعيّة» الربّانية، كما قال تعالى: ﴿وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾[1]. وهذا الإحساس لا يكون جزافاً، بل هو نتاج «معرفة النفس». ومن هنا، صحَّ أن يُقال: كلَّما عَرفَ الإنسانُ نفسَه أعمق، كان مِن غيرِه أكمل.

معرفة النفس

«معرفة النفس» واحدةٌ من أقدم توصيات حكماء العالَم، وقد ساهم الأنبياء العظام وكبار الحكماء في إبلاغها للبشر. و«معرفة النفس» وصيّةٌ محتفِظة بحيويّتها وقيمتها دائماً، بل هي تزداد أهمّيّة ورسوخاً تدريجيّاً.

«أيُّها الإنسان، اِعرِف نفسَك»، جملة معروفة للأنبياء والحكماء، ولقد بيَّن المعصومون  (عليهم السلام) هذه الحقيقة في الروايات، بتعبيرات مختلفة وألفاظ متغايرة.

يقول الإمام عليّ (عليه السلام): «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ، فَقَدْ عَرَفَ رَبَّه‏»[2]، ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): «فَإِنَّكَ قَدْ جُعِلْتَ طَبِيبَ نَفْسِكَ، وَعُرِّفْتَ آيَةَ الصِّحَّةِ، وَبُيِّنَ لَكَ الدَّاءُ، وَدُلِلْتَ عَلَى الدَّوَاء»[3].

وإذا رجعنا إلى الماضي السحيق، فسنرى أنّه بقي من «سقراط» بعد مُضيّ 2500 سنة على زمانه، جملةٌ غاية في الأهمّيّة، وهي قوله: أيّها الإنسان، اِعرِف نفسَك؛ والمقصود من هذه الجملة أمران:

1. أنِ اعرف نفسَك؛ كي تعرف ربّك. يقول «غاندي» في هذا الصدد: توصّلتُ عبر مطالعة

 


[1]  سورة الحجر، الآية 29.

[2]  الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص588.

[3]  الشيخ الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول(صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص305.

 

 

123


104

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

آباني شادها» -أقدم كتب الهند الدينيّة العرفانيّة- إلى ثلاثة أصول رئيسة، وهي الّتي اعتمدتُها منهاجاً في الحياة:

الأوّل: أنّ في العالَم معرفة واحدة فقط، وتلك هي «معرفة النفس».

الثاني: أنّ مَن عرف نفسه، عرف الله ربَّه.

الثالث: أنّ في الدنيا كلّها قوَّة واحدة، وهي قوّة التسلّط على «النفس».

فنحن نرى هنا، سفر «آباني شادها» الموضوع قبل كذا ألف من السنين، يطرح هذه المسألة نفسها، فهي من أقدم المسائل والحِكَم الّتي ورثها البشر من أسلافهم. ومسألة «الإنسان» اليوم، وخصوصاً القرن الأخير، تحتلّ مكاناً واسعاً، وتُعَدّ من أهمّ الوسائل البشريّة المطروحة على بساط البحث والدراسة، وكيف لا تكون كذلك، وهي تعني أنّ مَن يعرف نفسَه، فسيعرف سرَّ أصل هذا العالَم، وهو الله تعالى.

2. أنِ اعرف نفسك؛ كي تعرف ما يجب عليك فعله في هذا العالَم. فأنت إن لم تعرف نفسك، فلن تعرف ما وظيفتك في هذه الدنيا، لن تعرف ما ينبغي أن تكون عليه أخلاقك وسيرتك، وكيف يجب أن تعيش في هذه الدنيا وتحيا؛ لأنَّ الأخلاق -في كونها سلسلةً من المَلَكات النفسيّة- ترجع إلى كيفيّة الحياة ونمط الكينونة.

إذاً، فالنفس البشريّة ذاتها هي منبع أهمّ مسألة في الأخلاق العمليّة ومحورها.

ونقدّم إليك في ما يأتي توضيحاً للأمر الأوّل من ذينك الأمرَين؛ أعني: كيف أنّه إذا عرف الإنسان نفسَه فقد عرف ربَّه؟

معرفة النفس طريق معرفة الربّ

يحسب القرآن الكريم لمسألة «معرفة النفس» حساباً خاصّاً، وهي تحظى منه بعنايةٍ منفردة؛ بمعنى أنّ القرآن المجيد يعدّ كلّ عالَم الطبيعة وعالَم الخلق آيةً ودرساً لمعرفة الله

 

 

124


105

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

تعالى، وكلّ شؤون العالَم ونواميسه وأحداثه بسماواته وأراضيه، آيات وعلامات ودلائل على الوجود المقدّس للخالق:

﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰت لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾[1].

هذا النمط من الآيات كثيرٌ في القرآن المجيد. لكن في الوقت الّذي يعدّ فيه القرآن العالَم كتاباً مفتوحاً للحقّ تعالى، يدلّ كلّ سطرٍ مسطورٍ فيه على المؤلِّف وعِلمِه وحِكمتِه، فهو -كما ذكرنا- يفتح لـ«نفس الإنسان» حساباً خاصّاً، فالإنسان يتضمّن من الآيات والدلائل ما هو أعظم وأجلّ ممّا للأشجار مثلاً، وحقٌّ ما قال الشاعر:

الورق الأخضر للأشجار في نظر البصير

كلّ ورقة كتاب معرفة للخلّاق القدير

إلَّا أنّ «نفس الإنسان» الّتي هي أقرب إليه من أيّ شيء، لها من الهداية والدلائل الإلهيّة ما ليس لغيرها من الموجودات. فالإنسان له جنبتان، يشترك في واحدةٍ منهما مع بقية الموجودات الطبيعيّة، وهذه الجنبة هي جسمه المادّيّ، فوظائف الأعضاء «الفسيولوجيّة» كلّها تشترك في هذه الدلالة. فكما أنّ ورق الأشجار تدلّ على الصانع، كذلك أصابع الإنسان وأظفاره، بل وكلّ شعرةٍ فيه هي ذات دلالة؛ فهو -إذاً- من هذه الجنبة، نظيرٌ ومثيلٌ للموجودات الأخرى.

أمّا الجنبة الأخرى، فهي من مختصّات «النفس الإنسانيّة»، يقول تعالى: ﴿وَفِي ٱلۡأَرۡضِ ءَايَٰت لِّلۡمُوقِنِينَ﴾[2]، فكلّ شيء في الأرض آية، بما في ذلك الإنسان، لكن مع ذلك، يقول تعالى: ﴿وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ﴾[3]، حيث خصّ تعالى «الإنسان» بجملة خاصّة.

 

 


[1]  سورة آل عمران، الآية 190.

[2]  سورة الذاريات، الآية 20.

[3]  سورة الذاريات، الآية 21. ﴿وَفِي ٱلۡأَرۡضِ ءَايَٰتٞ لِّلۡمُوقِنِينَ ٢٠ وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ﴾ (سورة الذاريات، الآيتان 20 - 21).

 

 

125


106

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

ويقول تعالى -أيضاً-: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ﴾[1]؛ أفرد تعالى الآفاق والعالَم الخارجيّ بالذكر، وأفرد «نفس الإنسان» وحَدَّها بذكرٍ خاصّ. وكيف كان، فالآيات والدلائل لا تُحصَى، ولسنا هنا في صدد ذكر الدلائل والآيات العرفانيّة الّتي تُفاض على ذلك «السالك» بعد المراقبة الدائمة، حيث تنفتح له أذنُ قلبه وعينُ قلبه، فيرى عالَم ما وراء الطبيعة بِعَينِه الباطنيّة، أو يصل -على الأقلّ- إلى مقام السيّدة مريم بنت عمران، الّتي كانت الملائكةُ تحدّثها حال العبادة، فإنّ هذه البوارق الغيبيّة إنّما تبرقُ لأناس قلائل قطعوا أشواطاً في السير والسلوك والمراقبة، وتجاوزوا الحُجب والأستار، ونحن لسنا كذلك. إذاً، فبحثنا لا يشمل مثل هؤلاء، فإنّهم ثلّة خاصّة، وإنّما نحن نبحث عمّا هو حاصل لدى الأفراد كافّة.

عالَم المادّة في تغيُّر وحركة مستمرّة

من ذلك هذه المسألة، وهي أنّ عالَم الطبيعة في حركة دائمة ومتواصلة. إنّه عالَم يتغيّر في كلّ لحظة، لا شيء منه يبقى على صورة واحدة لحظتَين، وهذه الحقيقة تُثبَت أكثر فأكثر بمرور الأيّام الّتي تنقل العالَم من تقدُّم إلى آخر. قد تقولون: هذه سفسطةٌ؛ لأنّنا نرى اليوم هذا «البناء» كما رأيناه في الأمس الغابر، ولم يتفاوت ما بين أمسه ويومه، فأين التحوُّل المزعوم؟ والجواب عن هذا هو:

لو كانت كلُّ التغييرات والمستجدّات محسوسةً لنا، فليس ثمّة مشكلةٌ يُختَلَف حولها. ولكن لا يمكن لحواسّنا إدراك تغيُّرات العالَم، إلّا في نطاق ضيّق وحَدٍّ معيَّن لا تتجاوزه؛ فآذاننا وعيوننا ولمساتنا لا تُدرِك إلّا ما هو بين حدَّين خاصَّين لا أكثر، وما خرج عن هذَين الحدَّين المرسومَين، صعوداً أو نزولاً، لا تدركه حواسّنا. مثلاً، لو أخبرَنا شخصٌ بوجود أصوات وأمواج صوتيّة في هذا الهواء، فهل نقول له: كلّا، أنت تقول لنا خلاف ما هو

 

 


[1]  سورة فُصّلت، الآية 53.

 

126


107

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

بديهيّ، فإنَّ لنا آذاناً وسمعاً، ولو كان ثمّة أصوات لسمعناها، والحال أنّنا لا نسمع شيئاً؟ لا شكّ في أنّ مثل هذا الاستدلال خاطئ جدّاً؛ لأنَّ الأمواج الصوتيّة إذا خرجت عن الحدّ المعيّن لنا، صعوداً أو نزولاً، فلن يمكننا سماعها أبداً؛ ومثال ذلك المذياع الّذي لا يلتقط البثّ البعيد، فهل يدل ذلك على عدم وجود بثٌّ أصلاً، أو على أنّ قدرة المذياع محدودة؟ وهذا هو حال الإنسان؛ فقد ذكر العلماء المختصّون أنّ جهازه السمعيّ لا يمكنه التقاط الأمواج الصوتيّة ذات التردّد الأقلّ من 16 ألف أو الأعلى من 32 ألف في الثانية، فلو زادت التردّدات على 32 ألف، فنحن لن نسمع شيئاً، وترانا نمارس أعمالنا اليوميّة بكلّ اطمئنان وهدوء، وكأنّ لا شيء حولنا. والحال أنّه قد يكون ثمّة حيوان يسمع ما لا نسمع؛ يقولون بأنّ الفأر يسمع أصواتاً ذات تردّدات عالية تصل إلى 400 ألف ذبذبة.

وليت الأمر يقتصر على حاسّة السمع فقط، بل إنّ «عَين» الإنسان لا تُبصر حركات هذا العالَم ومجرياته، إلّا في نطاق معيّن وحدّ محدّد من حيث الشدّة والضعف والسرعة والبطء، وأوضح مثال يُضرب هنا، هو حركة «الساعة»، فعيوننا لا تُدرك ولا ترى حركة عقرب الساعة، وتظنّ أنّه متوقّف عن الحركة؛ لكنّها ترى جيّداً حركة مؤشّر الثانية؛ لأنّه أسرع حركة من «عقرب» الساعة أو الدقيقة؛ فالعين لا ترى حركة مؤشّر الدقيقة، لكنّ العقل يحكم بأنّه يتحرّك؛ لأنّه في الساعة الماضية كان «العقرب» يشير إلى رقم 7، والآن نراه يشير إلى رقم 8. ومن المعلوم أنّ عيوننا لم تكن مخدَّرة أو عليها غشاوة، حيث لم ترَ القفزة الدفعيّة للعقرب، والأمر ليس ذلك يقيناً، بل توجد حركة طبيعيّة بطيئة غير ملحوظة، كما هو الحال في «الماء»، فإنّه في حركة مستمرّة.

ومَن أثبت «الحركة الجوهريّة»، يقول: إنّ ما نراه ساكناً لا حراك له في هذا الكون يشبه ماءَ النهر، حيث نتصوّر حين النظر أن لا حركة له، وأنّه ثابت، ولكنّه في الحقيقة في حركة وتغيُّر دائمَين.

والمراد من كون الشيء متحرّكاً وفي حركة، هو أنّ كلّ جزء منه ينعدم في الآن الآتي؛

 

 

127

 

 


108

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

أي ما كان في الآن السابق غير ما هو في الآن اللاحق[1]؛ أي كلُّ «آن» له جزء خاصّ به، لا مسبوق ولا ملحوق به. وهذه الحركة الدائمة للأجزاء غير قابلة للرؤية، وحركات هذا العالَم كلّها تكون على هذا المنوال، ضمن نظام دقيق ومحدّد مِن قِبَل ربّ العالَمين.

لا تبدُّل ولا تغيُّر في النفس

حيث إنّ بدن الإنسان جزءٌ لا يتجّزأ من هذا العالَم، فهو -أيضاً- في حركة ثابتة، ابتداءً من خلاياه، بل من النواة والعناصر الموروثة والأجزاء الّتي تكوِّن النواة، حتّى أكبر شيء فيه. البدن كلُّه في حركة دائمة. فهناك خلايا تموت ويحلّ مكانها خلايا جديدة، وكذلك الّذين لم يموتوا، فبدنهم أيضاً في حركة تبدُّل دائم؛ وبالنظر العلميّ الدقيق البدن الّذي يكون قبل ساعةٍ، هو غيره بعدها. وإذا رجعنا إلى الطبّ القديم، نسمع علماءه يقولون: بدن الإنسان يتبدَّل مرّة كلّ 7 سنوات. لكن بالنظر الفلسفيّ المعمّق، فالأمر يختلف، حيث يقول الفلاسفة: إنّ البدن في الساعة اللاحقة ليس هو عينُه في الساعة السابقة، فضلاً عن البدن قبل سنة أو عشر أو ثمانين؛ إذ يكون قد تبدّل وتغيّر آلاف المرّات. هذا بلحاظ حركة البدن الإنسانيّ.

لكن ما هو الحال بلحاظ «الأنا» و«النفس الواقعيّة»؟ فهل هي أيضاً مشمولة بقانون «الحركة» والتغيُّر، فتتبدّل من حين لآخر، أو أنّها ليست كذلك؟ والجواب هو:

إنّ «النفس الحقيقيّة» للإنسان من شأنها التكامل والرقيّ، وهي ليست ساكنة، حيث تحلُّ مكانها «أنا» أخرى.

 

 


[1] أي إنّ الشيء الموجود في لحظة من الزمان، لا يبقى موجوداً في اللحظة اللاحقة الّتي تليه، حيث يحصل فيه تبدُّلٌ ما، وإن لم يكن ظاهراً للعيان.

 

128


109

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

حكاية بهمنيار وابن سينا

ثمّة حكاية معروفة جرت بين «أبي علي سينا» و«بهمنيار»[1]، لها علاقة بمسألتنا هذه. كان «بهمنيار» تلميذاً لـ«ابن سينا»، وكان من أهل «آذربيجان»، وكان أوّل أمره يدين بـ«الزرادشتيّة»، ثمَّ أسلم. وخلاصة الحكاية أنّ «ابن سينا» قصد الخبّاز يوماً ليبتاع خبزاً، وإذا بـ«بهمنيار» -وقد كان آنذاك صبيّاً- يأتي ويطلب من الخبّاز قبساً من النار ليأخذه إلى المنزل، فقال له الخبّاز: أيّها الصبيّ، لا يمكن إمساك النار باليد، فاجلب لك ظرفاً لتضع النار فيه. ما إن سمع الصبيّ ذلك حتّى ملأ كفَّيه تراباً، وقال: ضع النار على هذا التراب. هنا التفت «ابن سينا» إلى ذكاء هذا الصبيّ وفطنته النشطة؛ لذلك بادر إلى أبيه وأمّه، وقال لهما: من المؤلم جدّاً أن يذهب ذكاء هذا الصبيّ وفطنته هدراً، فضعاه تحت عنايتي وإشرافي، وسيكون غداً إنساناً فاضلاً وذا شأن. قَبِلَ الأبوان هذا العرض، وصار «بهمنيار» تلميذاً لـ«ابن سينا»، وقد هضم أفكار أستاذه وشرحها. له كتاب في الفلسفة بعنوان «التحصيل»، وقد ذكر فيه مباحثة في مسألتنا هذه، جرت بينه وبين أستاذه؛ ذلك أنّ «بهمنيار» كان يعتقد بأنّ كلّ شيءٍ يتبدّل ويتغيّر، ليس بدن الإنسان فقط، بل حتّى روحه أيضاً. فكما أنّ بدنه يتبدّل من لحظة إلى أخرى، فكذلك «الأنا»؛ وهل يمكن أن لا تتبدّل روح الإنسان؟

أمّا أستاذه، فقد قال له: البدن يتبدّل، أمّا «الأنا» فلا عوض لها، فـ«النفس» ثابتةٌ. ولكنّ التلميذ بقي مصرّاً على رأيه، وأخذ في الدفاع عن وجهة نظره. وبينما هو مشغول بذلك، إذ صمت «أبو علي سينا» فجأة، فسأله تلميذه: لِمَ لا تجيب؟ فقال له أبو علي: المسؤول قبل لحظة ليس هو بعدها، كما أنّ السائل قبل لحظة ليس هو بعدها، فأنت في كلِّ لحظة تسأل تصير إنساناً جديداً، وتخاطب أيضاً إنساناً آخر لم يكن قبلاً، وفي اللحظات الآتية لا يكون وجودٌ لذلك السائل والمسؤول، فأنت غير موجود في اللحظة اللاحقة؛ كي

 


[1] بهمنيار بن المرزبان: أحد تلامذة ابن سينا المبرّزين، له كتاب «التحصيل» في المنطق والفلسفة بقسمَيها والطبيعيّات والنفس، وهذا الكتاب مهمّ جدّاً لمن يريد دراسة فلسفة «المشّائين»، كما ذكر الشهيد مطهّري في مقدّمته لذلك الكتاب. والحكاية المسطورة هي بداية تعرّف ابن سينا بهذا التلميذ النابه. وبهمنيار هذا من بيت مجوسيّ، ولا يُعلَم إسلامُه يقيناً، لكن ذكر صاحب «الروضات» أنّ المشهور أنّه أسلم، ولا توجد معلومات عنه أكثر من هذا.

 

129


110

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

تسمع وتأخذ الجواب، وأنا أيضاً غير موجود فيها؛ كي يتسنّى لي الجواب! وهنا أُسقِط في يد «بهمنيار»، فسلَّم برأي «ابن سينا».

إذا عرف الإنسان «النفس الواقعيّة»، وفهم كيف أنّ هذه «الأنا» لها شخصيّة ووحدة حقيقيّة، وحقيقةٌ ثابتة ضمن هذه الطبيعة السيّالة، فسوف يدرك واقع العالَم كذلك، بلا فرق يُذكَر، فالعالَم وإن كان حركةً دائمةً، إلّا أنّه أيضاً حقيقة واحدة، وهذه الحقيقة ترعى وحدة العالَم وتحفظها من التبدّد.

ونحن إذا لاحظنا الشمس والقمر والنجوم والأرض وأمثالها، فسوف نرى أنّها في حالة تغيُّر وتبدُّل، ولكن مع ذلك، توجد حقيقةٌ ترعى العالَم، فكما أنّ البدن يتقوّم ويُحفظ بـ«النفس الواقعيّة»، كذلك وحدة العالَم تُحفَظ بوحدة تلك الحقيقة غير المادّيّة، وبها يكون مصوناً من التبدُّل. وتلك الحقيقة الحافظة هي الذات المقدّسة للربّ جلَّت عظمته.

يقول «مولوي»:

الخلق كغدير ماء صافٍ زلال

                                         تشعّ عليه صفات ذي الجلال

تبدّل ماء هذا الغدير مرّات ومرّات،

                                         ولصورة القمر المنير ثبات أيّ ثبات

فليست «النفس الإنسانيّة» مجرّد مجموعة من التصوّرات المتعاقبة، حيث تكون النفس عبارة عن ملايين الصور المختلفة والمتلاحقة، فهي تتبدّل بتبدُّل الصوَر الحالّة فيها، كما يعتقد بذلك مَن لم يعرف نفسَه.

الميول المعنويّة آيات إلهيّة

المسألة الأخرى المطروحة هنا، هي مسألة الميول المعنويّة للإنسان. ويُذكَر هنا أنّ أوّل

 

130

 

 


111

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

مَن أدخل مسألة «معرفة النفس» الدينيّة حقل التجربة والاختبار، هو «ويليام جيمس»، وقد صرف ما يقارب 40 عاماً من عمره عاكفاً على دراسة «النفوس»، فحصاً وتحليلاً على أرضيّة الظواهر النفسيّة الدينيّة، فهو قد تعمَّق في قراءة «النفس» الإنسانيّة من منظار الدِين، ولم تكن دراستُه التحليليّة على سبيل الاستدلال والقياس، بل بنحو التجربة، والنتيجة الّتي وصل إليها بعد جهدٍ دام 40 عاماً، قوله:

كما توجد في الإنسان سلسلة من الميول نحو الطبيعة والمادّة، والّتي تُشكّل رابطاً تربطه وتشدّه نحو الطبيعة، كذلك توجد في طيّاته ميولٌ أخرى، وهي لا تتّفق والحسابات المادّيّة، بل هي تضادّ ارتباط الإنسان بالطبيعة والمادّة، وهذا يدلّ على وجود عالَمٍ آخر، وهذه الميول والأحاسيس المعنويّة تربطنا وتشدّنا نحوه.

الإلهامات المعنويّة والإلهيّة، والبحث عن الله، والسعي للخير، والميل نحو المعنويّات، أمورٌ لها وجودٌ فعّال لدى أفراد البشر كافّة، وهي ترشد الإنسان إلى عالَمٍ آخر. ويقابل هذا، الفراغُ المعنويّ والإفلاسُ الأخلاقيّ الّذي أحدثَته المذاهب المادّيّة، وتسبّب عنه مشاكل كثيرةٌ لبَشَرٍ هم في غنًى عنها.

تعصُّب المادّيّين

في الواقع، إنّ هذه الموجات المادّيّة الحادثة والمنتشرة أكثر ما يكون في الغرب، والّتي وَجدَت مدارس تروّج لها بين البشر، كان له ردَّة فعل عنيفة لموقف الكنيسة المتميّز بالجهل والرعونة والتعصّب، ونحن ندفع الآن ضريبة جرائم الكنيسة ونُكفِّر عن سيّئاتها؛ فالّذي أوصل «العالَم» إلى هذا المستنقع وجرَّه إلى هذه الوضعيّة البائسة، هو جهل الكنيسة وتفسيراتها الخاطئة لمفهوم الله والقيامة والروح؛ وكذلك معاقبتها على الاعتقاد ومصادرة الحرّيّات والديمقراطيّة. وهذا كلّه جعل الإنسان يجد أنّ عليه الاختيار: فإمّا أن أقبل العلم أو أقبل الله، وإمّا أقبل الحياة الرغيدة أو أقبل الله، وإمّا أقبل الحرّيّة أو أقبل

 

 

131

 


112

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

الله، وإمّا أقبل الديمقراطيّة أو أقبل الله؛ فجُعِل بين هذه الميول تضادّ ومقابلة.

من المعلوم أنّه إذا جُعِل تضادٌّ بين الله ومئات الضروريّات الفطريّة للبشر، فإنّ البشر سيتمسّكون بضروريّاتهم الفطريّة، وهكذا فعلوا. وبهذا الشكل من المواجهة مع الكنيسة، برز المذهب المادّيّ للوجود.

لقد اجتاح هذا الطوفان المادّيّ دنيا الغرب بعلل مختلفة، وهو يتّجه نحو الشرق رويداً رويداً. والشرقيّون لم يفكّروا أو يلتفتوا إلى أنّ الظروف الّتي عاشها الغرب في السابق، تُغاير الظروف الّتي عاشها الشرق آنذاك، وشيئاً فشيئاً، تعصَّب للمادّيّة، كما تعصّبَت الكنيسة سابقاً لآرائها الدينيّة؛ يعني كما أنّ الكنيسة أرادت تبرير مقولاتها الدينيّة بالقوّة، ومن دون حجّة ودليل، كذلك المادّيّون، يريدون فرض مذهبهم فرضاً ويحاولون جاهدين توجيهه، وهم يخشون كساد «المادّيّة» وانكسارها، والعودة مرّة أخرى إلى القرون الوسطى. لذلك تراهم لا يدّخرون جهداً في إغلاق الطرق المفتوحة للبشر والموصِلة إلى الله تعالى، تلك الطرق والمعابر المفتوحة من قِبَل الطبيعة والنفس. يريدون سدَّ تلك الطرق بمختلف التبريرات والتأويلات، ويقولون: إنّ هذه الطرق غير قابلة للسير، ولا يُعتَمَد عليها.

من جملة الطرق، الميول المعنويّة. ونورد -على سبيل المثال- حياة النحل، فإنّها حياة عجيبة وغير قابلة للتفسير مادّيّاً، كيف تحصل هذه الحشرة على هذه الهداية والخبرة العالية؟ للقرآن آيةٌ صريحة في هذا، يقول:

﴿وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتا﴾[1].

والوحي المنظور هنا، هو نوعٌ من الإلهام الغيبيّ المفاض على هذا الحيوان، بل إنَّ القرآن يُصرّح في آية أخرى، بأنَّ للنمل أوفر ممَّا للنحل، فيذكر أنّ له إدراكاً وفهماً أكبر من إدراك النحل، وأنّ النمل يتبادلون في ما بينهم الكلام ويتناقلون الأنباء. وهذا الأمر

 

 


[1]  سورة النحل، الآية 68.

 

 

132


113

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

لم يكشفه العلم إلّا منذ 50 عاماً فقط، والحال أنّ القرآن الكريم يقول منذ 1400 عاماً:

﴿حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَة يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ١٨ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكا مِّن قَوۡلِهَا﴾[1].

وقد أثبت العلم الحديث أنَّ للنمل قرونَ استشعارٍ تستقبل وترسل، ترسل ذبذبات خاصّة، وتلتقط ما يَرِد عليها؛ وبهذه الوسيلة يفهم بعضهم بعضاً بمكنونه ومراده. ولندع النمل في واديه، لنعود إلى النحل، فعلى الرغم من أنّ النحل لم يلتحق بأيّة مدرسة، ولم يتلقَّ أيّ درس، لكنّ القرآن يقول عنه: ﴿وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ﴾[2]؛ إنَّه إلهام غيبيّ، فسبحانه خالقاً ومبدعاً!

كلام «موريس ماترلينك» [3]

«موريس ماترلينك» (Maurice Maeterlinck) أحد الكتّاب البارزين، وله كتب عدّة، منها كتاب في حياة النحل، وآخر في حياة النمل، ولعلّ جميع كتبه مترجمة هنا في إيران، فهو كاتب مقتدر حقّاً، معروف لدينا هنا بأنّه فيلسوف كبير، وهو جديرٌ بهذا اللقب. هذا الرجل ذكر في كتابه المشار إليه عجائب النحل، لكنّه يعزو ذلك كلّه إلى «روح النحلة»، فهي -بزعمه- الّتي تلهم النحل وتوحي لها. بالله عليكم، هل سمعتم هراءً كهذا؟

إنّ «خليّة النحل» ليس لها قيمة إلّا بالنحل، وإلّا فهي مجرَّدة، ليست سوى جماد،

 

 


[1]  سورة النمل، الآيتان 18 - 19.

[2]  سورة النحل، الآية 68.

[3]  موريس پوليدور ماري برنار ماترلينك (Maurice Maeterlinck)‏ (1862 – 1949م): المعروف أيضاً باسم الكونت ماترلينك منذ عام 1932، كان كاتباً مسرحيّاً بلجيكيّاً وشاعراً وكاتب مقالات فلمنكيّاً، لكنّه كان يكتب باللغة الفرنسيّة. حصل على جائزة نوبل في الأدب في عام 1911، «تقديراً لأنشطته الأدبية ذات الجوانب المتعددة، خاصةً أعماله الدراميّة الّتي تميّزت بثراء الخيال والخيال الشعريّ، والّتي تظهر أحياناً تحت ستار حكاية خرافيّة ذات إلهام عميق، في حين أنّها بطريقة غامضة تستقطب مشاعر القّراء وتحفز خيالهم». كانت مواضيع الموت ومعنى الحياة المحاور الرئيسيّة في عمله. كان عضواً بارزاً في مجموعة بلجيكا الشابّة (لا جون بلجيكي)، وتُعَدّ مسرحيّاته عنصراً مهمّاً للحركة الرمزيّة. من أبرز أعماله مسرحيّات مثل: الأعمى والداخل والأخت پياتريس والطائر الأزرق وماري ماگدالينا، مضافاً إلى مجموعات شعريّة ودراسات ونصوص أدبيّة متنوّعة ،جعلته من أشهر أدباء بلجيكا في زمنه.

 

133


114

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

لا يضرّ ولا ينفع، فماذا يعني قوله «روح الخليّة»؟! ولو سلَّمنا بقوله، كيف أدركت روح الخليّة ذلك؟ ثمّ إنّه أليست «روح النحل» أرقى من «روح الخليّة»، على فرض وجودها؟ وقد تسألون: ولماذا هذا كلّه؟ وما ضرَّه لو أنصف عقله؟ والجواب: إنّ «موريس ماترلينك» ومَن على شاكلته لا يروق لهم أن يَثبُت وجودُ إله لهذا الكون، ولا يريدون التسليم بهذه الحقيقة؛ لأنّ ذلك يُحمّلهم مسؤوليّة ثقيلة هم في راحةٍ منها؛ فإنّ مَن يبدأ بحرف «ألف» فسيضطرّ لتعقيبه بحرف «ب»، ثمّ بما يليه «ت»، وهكذا. فمَن لا يريد ذلك، فعليه حسم الأمر من أوَّله، كما فعل ذلك التلميذ الكسول للتهرّب من المدرسة، فقد طلب منه المعلّم أن يقول «أ»، لكنّه سكت ولم ينطق بشيء، فجاء أبواه وطلبا منه ذلك، فسكت أيضاً، فلمّا سألوه: لِمَ لا تنطق؟ أجاب: لو قلت «أ»، فسوف يُطلَب منّي بقيّة الحروف، وهذا ما لا أرغب فيه، فالأفضل السكوت من أوّل الأمر، والتخلّص من تبعات «أ». «موريس» فعل الشيء نفسه؛ كي يبقى حرّاً في هذه الحياة، وغير مقيَّد بأيّ تكاليف وواجبات تجاه إله الكون.

التوبة

أسلفنا القول بأنّ للإنسان ميولاً ونزعات تعاكس المنطق المادّيّ، وذكرنا أمثلة لذلك. ونضيف هنا مثالاً آخر، وهو ما يُسَمَّى في المصطلح الدينيّ بـ«التوبة» و«الإنابة»؛ وهي عبارة عن محاكمة الإنسانِ «نفسَه»، تكفيراً عمّا بدر منها من زلل في القول والعمل. وهذه الثورة على «الذات» هي مدلول آيات كثيرة قمت بإحصائها وجمعها، وإنّها لثورة بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى.

التوبة ليست كلمة تُقال لملء الفراغ، بل هي درجة العلّيّين، كما ذكر مولى الموحّدين في خطابه لذلك الرجل الّذي قال: أستغفر الله ربّي وأتوب إليه؛ إذ بادره (عليه السلام) قائلاً: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! أَتَدْرِي مَا الاسْتِغْفَارُ؟ الاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ

 

134


115

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

مَعَانٍ: أَوَّلُهَا: النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى. وَالثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً. وَالثَّالِثُ: أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ. وَالرَّابِعُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا، فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا. وَالْخَامِسُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ[1]، فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ، حَتَّى يَلْصِقَ الْجِلْدُ بِالْعَظْمِ، وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ. وَالسَّادِسُ: أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ، كَمَا أَذَقْتَهُ حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ. فَعِنْدَ ذلِكَ، تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ»[2].

ومثل هذا «الاستغفار» هو القادر على تغيير «النفس» وتطهيرها من الأدران والعلائق. وأذكر أنّي قرأت في بعض كتب المرحوم الحاجّ ميرزا «جواد ملكي التبريزيّ»[3] -وهو من أعاظم أهل المعرفة في زمانه- أنّ رجلاً ورد على أستاذه المرحوم الآخوند «حسين قلّي الهمدانيّ»[4] -وهو أيضاً فريد عصره في السلوك والعرفان- ليتوب على يدَيه، فلمّا أن عقد نيّة التوبة، ذهب، ثمّ عاد بعد 48 ساعة، وقد انقلبت أحواله وتبدّلت أطواره، حيث إنّنا لم نعرفه أوّل الأمر، لقد تحوَّل تحوُّلاً جذريّاً، ولم نصدّق أنّه ذاك الرجل ذاته!

أجل، إنّ الّذي جعل ذلك الرجل يثوب إلى رشده ويثور على نفسه، هو معرفته بنفسه، وبمن ثمّ بربّه، ومعرفة الربّ تعالى تعني الانقلاب والتحوّل من ظلمات الأرض إلى نور السماء.

 

 


[1]  السحت: المال من كسب الحرام.

[2]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص550، الحكمة 417.

[3]  الميرزا جواد الملكي التبريزيّ: فقيه عارف من علماء القرن 13هـ، وهو من العوائل الثريّة المعروفة بالتجارة في تبريز. أستاذ الأخلاق والعرفان المشهور في زمانه، وأستاذ الإمام الخمينيّ. هاجر إلى النجف ودرس في حوزتها، وانتقل بعدها إلى تبريز، ثمّ إلى مدينة قمّ، وبقي هناك إلى أن تُوفّي ودُفن فيها. كتابه المراقبات أو أعمال السنة، من الكتب المعروفة في الأعمال العباديّة.

[4]  الآخوند حسين قلّي الهمدانيّ: هو العارف الجليل الشيخ حسين بن قلّي الهمدانيّ، ينتهي نسبه إلى الصحابيّ الجليل جابر بن عبد الله الأنصاريّ. وُلد عام 1239هـ، في قرية «شوند»، من قرى مدينة همدان. قال السيّد محسن الأمين في كتابه «أعيان الشيعة»: «كان فقيهاً أصوليّاً متكلّماً أخلاقيّاً إلهيّاً، من الحكماء العارفين السالكين...»، تُوفّي في الثامن والعشرين من شعبان سنة 1311هـ، ودُفن في الصحن الحسينيّ في كربلاء المقدسة.

 

135


116

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

روح المجتمع

حاول بعضهم تفسير هذه الميول المعنويّة تفسيراً آخر شبيهاً بتفسير المفكّر «موريس ماترلينك»، وهو أنّ الدافع والملهِم هو روح المجتمع؛ فمَن يخدم الأمّة ويفنى من أجلها، فهو مُلهَمٌ مِن قِبَل تلك الروح، ولا شيء وراء ذلك.

هذا أيضاً توجيهٌ غير دقيق؛ لأنّنا لا نعقل هذه «الروح»، ولا نعرف لها معنى؛ ذلك أنّ «المجتمع» ليس له وجود مستقلّ عن وجود أفراده، بل هو مجموع الأفراد؛ فالوجود الحقيقيّ هو للأفراد، وأمّا المجتمع فهو موجودٌ اعتباريّ لا روح له. ولو سلَّمنا بما قالوا، فهذه «الروح» من أين اكتسبَت ذلك؟ ومَن هو مُلهِم هذه الروح المزعومة؟ ثمّ إنّه إذا لم نؤمن بشيء وراء «روح المجتمع» هذه، من جنّة ونار ومجازاة، فستكون هذه الروح روحاً خادعة للإنسان، مغرِّرةً به؛ لأنّه لا معنى لأنْ يضحّي المرء بسعادته وراحته في سبيل المجتمع بلا عوض، لا دنيويّ ولا أخرويّ، فإنّ هذا غاية الحمق.

الإلهيّون

قد أضاء الصبح لذي عينَين، وتقشّعت السحب الثقال عن عين الشمس، والقول الفصل هو ما عليه «الإلهيّون» من أنّ الله تعالى هو الملهِم والمرشِد، وأنّ تلك الميول الخيِّرة إنّما هي فطرته تعالى في خلقه، هي نداؤه تعالى للإنسان، وهذه التضحيات كلّها لن تذهب هدراً؛ لأنّه ﴿لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَةۖ﴾[1]، ولأنّه تعالى لا يضيع أجرَ مَن أَحسنَ عملاً، من ذكر أو أنثى.

ومن هذا الإحساس، يتحمّس أصحاب القلوب الرحيمة والنفوس الطيّبة لكلِّ ما فيه خير البشر. ولكنّ الخوف من تلاشي المذهب المادّيّ وإحياء التوجُّه الإلهيّ، هو السبب في بروز مثل هذه الآراء والنظريّات.

 

 


[1]  سورة يونس، الآية 26.

 

 

136


117

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

كلام «سارتر» حول «النفس الواقعيّة»

يرى «سارتر» أنّ الإنسان يحمل على عاتقه المسؤوليّة الكاملة عن «وجوده»، وأنّه قادر على خلق نفسه بحسب الصورة الّتي يشاؤها، لكنَّه يزعم أنّ افتراض وجود «إله» يؤدّي إلى سلب «حرّيّة» الإنسان، لماذا؟

يقول: لأنَّ إذا كان الإله موجوداً، فمعنى لك أنّ له «ذهناً»؛ فيكون قد تصوَّر طبيعةَ الإنسان سلفاً في ذهنه؛ وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمكن للإنسان أن يكون حرّاً؛ لكونه لا يقدر أن يكون إلّا كما تصوَّرَه «الإله» سلفاً. وأين هذا من «الحرّيّة»؟ فلأجل الحفاظ على حرّيّة الإنسان، لا بدّ من إنكار وجود أيّ «إله»؛ لأنّ حرّيّة الإنسان ذاتيّة له، فهو عين الحرّيّة، لا أنّه ذو حرّيّة.

إنّ «سارتر» يرى الله بعين واحدة، بل لا يراه أصلاً. ليس لـ«الإله» «ذهنٌ» حتّى ينفعل ويتصوَّر؛ وما فرَضَه «إلهاً» هكذا، إنّما هو مخلوقٌ مثله، لا غير، وإن سمّاه «إلهاً». وأمّا دعواه بأنّ الإنسانَ هو «إرادةٌ حرّةٌ»، فهي مغالطة سافرة؛ لأنّه إن كانت هذه «الإرادة» ناشئة من «طبيعة الإنسان» ومادّيّته، فهي لغوٌ؛ لأنّ المادّة مقصورةٌ على الحركة، وفاقد الشيء لا يعطيه. وبعبارة أخرى، المادّة حصيلة ذرّات، والذرّات لا «إرادةَ» لها في حركتها. وعليه، فنحن نسأل «سارتر»: ما هو منشأ «حرّيّة الإنسان»؟

لا مناص من الاعتراف بوجود قدرة فوق قدرة الطبيعة، وأنّ الإنسان أقدر على تسييس هذه الطبيعة وتذليلها، فلا معنى للقول بأنّه ليس الإنسان «نفسٌ» و«ذات» إلّا «الإرادة». نعم، قول «سارتر» بأنّ الإنسان لا «طبيعة» له، وأنّه هو الّذي يكيِّف «نفسَه» ويصوّرها كما يحلو له، هو قولٌ صحيحٌ إلى حدٍّ ما، وقد صرَّح حكماء الإسلام وفلاسفته بهذا؛ فالإنسان ليس كبقيّة المخلوقات، أسيرَ «الخِلقة الأولى». ولا تحسبنَّ أنّنا بهذا نوافق «سارتر» في أنّ الإنسان لا ماهيّة له ولا طبيعة؛ كلّا، ما هذا أردنا، بل أردنا القول بأنّ الإنسان «ماهيّة» ذات استعداد واقتضاء لأنْ تكون كما يريد الإنسان، وهذا الموضوع بحثه علماؤنا بحثاً

 

138


118

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

مستوفياً، وأفضلَ ممّا ذكره «سارتر»، ولا سيّما «صدر المتألّهين»، حيث له القدح المعلى. وهي فكرة لها جذور قرآنيّة، قال تعالى: ﴿يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأۡتُونَ أَفۡوَاجا﴾[1].

فمِن الناس من يُحشَر «إنساناً»، ومنهم من يُحشَر ذئباً أو كلباً أو خنزيراً أو أقبح، وهذا يدور مدار المَلَكات المكتَسَبة وأطوار النفس حين موتها. وما ألطف قول الشاعر «مولوي»:

أيّها الأخ، أنت لست إلّا فكراً،

                                         لست عظماً ولا شعراً

فإن كان فكرك خيراً صرت إلى جنّةٍ؛

                                         وإن كان شرّاً، صرت حطباً في الآتون

فلو سألنا الشاعر: ما هو الإنسان؟ لأجاب: هو ما يفكّر فيه. فإن كان يُفكر في «الحقيقة»، فهو «حقيقة»، وإن كان يُفكّر في «الله» دائباً في طاعته، فهو مَثَل «الله» وظلّه، وإن كان يفكّر في «عليّ» ويحذو حذوَه، فهو «عليٌّ»، وإن كان يُفكّر أو يعمل عمل «الكلب»، فهو «كلب»؛ ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾[2].

باختصار: قل لي بِمَ تُفكّر، أقُل لك مَن أنت.

إذاً، حقيقة الإنسان هو ما يعيشه فكراً وسلوكاً، والنصوص الإسلاميّة صريحةٌ في هذا. فقد جاء أنّ مَن أحبَّ حجراً حشره الله معه[3]؛ والمعنى أنّ مُحبَّ الحجر يُحشَر حجراً؛ لأنّه لا معنى لحشر الحجر. وذكرَت كتب الأخبار أيضاً، أنّ خراسانيّاً يتموَّج حبّاً لأهل البيت (عليهم السلام)، قطع الطريق إلى المدينة المنوّرة سيراً على قدمَيه، وقد تورَّمَت قدماه وتشقّقتا، فلمّا دخل على أبي جعفر (عليه السلام)، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ، مَا جَاءَ بِي مِنْ حَيْثُ جِئْتُ إِلَّا حُبُّكُمْ أَهْلَ

 


[1]  سورة النبأ، الآية 18.

[2]  سورة النجم، الآية 39.

[3]  الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، كتابچى‏، إيران - طهران‏، 1418هـ، ط6، ص130، وفيه: «فلو أنّ رجلاً تولّى حجراً لحشره الله معه يوم القيامة».

 

139


119

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

الْبَيْتِ. فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «وَاللَّهِ، لَوْ أَحَبَّنَا حَجَرٌ حَشَرَهُ اللَّهُ مَعَنَا؛ وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ؟»[1].

ولا فُضَّ فوه الشاعر إذ يقول:

إن كنت طالباً جوهرَ التراب، فأنت تراب

وإن كنت طالباً الروح، فأنت روح خالدة

أنا سأُعلن الحقيقة

حقيقتك هو ما تطلبه وتسعى إليه، فاختر لنفسك.

لماذا يحتاج الإنسان للأخلاق؟

لماذا الإصرار على أن يكون للإنسان سلوك خاصّ وتربية خاصّة وطبيعة خاصّة، ونُسمِّيها «خُلُقاً»؟ ما هي ضرورة ذلك؟ ولِمَ صار ذلك ضروريّاً؟

الحقّ إنّ الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلّب بحثاً مستقلاً؛ لكون ذلك مرتبطاً بالبناء الخُلقيّ الّذي أُوجِدَ عليه الإنسان؛ إذ إنّه ﴿وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفا﴾[2]. صحيح أنّ الخالق الحكيم قد خلق كلّ حيوان مزوَّداً بغرائز وقوى تناسب حياته الأرضيّة، لكنّ الإنسان، على الرغم من تمتُّعه بالاستعداد للترقّي والتكامل الروحيّ، إلّا أنّه خُلِق ضعيفاً من حيث الطبائع الأوّليّة والغرائز اللازمة لحياته الأرضيّة. لكن، في المقابل، قد زُوِّدَ بما يمكّنه من أن يختار به الخُلق المناسب، ككائن مكرَّم ومسؤول مكلَّف، وبهذا يسدُّ النقص ويرفع الضعف. ووظيفة المربّين هي مساعدة الإنسان في تكميل نفسه، وتخليصها من ضعفها الطبيعيّ، وهذا ما يرمي إليه قول الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاق‏»[3]؛

 

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج27، ص95.

[2]  سورة النساء، الآية: 28.

[3]  الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق‏، مصدر سابق، ص8.

 

 

140


120

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

أي إكمال الخصال الحميدة والصفات الاكتسابيّة المرهون بها سعادة الإنسان. فالإنسان يبدأ مسيرته ضعيفاً، لكن بالتربية الرشيدة المبنيّة على الأخلاق القويمة، وبما أُوتِيَ من إرادة وفكر، يتجاوز هذا الضعف إلى القوّة، وينطلق من النقص إلى الكمال الممكن له.

نوعان من الأخلاق

منظِّرو الأخلاق فريقان:

فريقٌ يقيم أخلاقَه على الأنانيّة وحبّ الذات، آخذاً بما يُقال له «تنازُع البقاء»، وأنّ الأقوى هو الأبقى، فهو يحرص على تقوية ذاته فقط، ومن هؤلاء «نيتشه»[1] (Friedrich Nietzsche)، فإنّه يقول بصراحة: إنّ القوّة وحدها هي أساس الأخلاق. وكذلك هي طبيعة «الأخلاق الشيوعيّة»، فإنّ أساسها المنفعة الشخصيّة.

وفريقٌ يعطي للأخلاق قيمةً ذاتيّة، ويعدّها عدوّاً «للذات» و«الأنا»، ومحاربة لها. فالصدق والأمانة وغيرهما أمور حَسَنة، ولا ينبغي التفريط فيها لحساب «الذات»، بل يجب أن تُداس «الذات» لأجلها.

 

[1]  فريدريش فيلهيلم نيتشه (Friedrich Nietzsche) ‏ (1844 – 1900م): فيلسوف ألمانيّ، ناقد ثقافيّ، شاعر وملحِّن ولغويّ وباحث في اللاتينيّة واليونانيّة. كان لعمله تأثير عميق على الفلسفة الغربيّة وتاريخ الفكر الحديث. بدأ حياته المهنيّة في دراسة فقه اللغة الكلاسيكيّ، قبل أن يتحوّل إلى الفلسفة. بعمر الرابعة والعشرين أصبح أستاذ كرسي اللغة في جامعة بازل في 1869م، حتّى استقال في عام 1879م بسبب المشاكل الصحّيّة الّتي ابتُلي بها معظم حياته، وأكمل العقد التالي من عمره في تأليف أهمّ كتبه. في عام 1889م، وفي سنّ الرابعة والأربعين، عانى من انهيار وفقدان لكامل قواه العقليّة. عاش سنواته الأخيرة في رعاية والدته وشقيقته، حتّى تُوفّي عام 1900.

كان من أبرز الممهّدين لعلم النفس، وكان عالم لغويّات متميّز. كتب نصوصاً وكتباً نقديّة حول الدين والأخلاق والنفعيّة والفلسفة المعاصرة المادّيّة والمثاليّة الألمانيّة. وكتب عن الرومانسيّة الألمانيّة والحداثة أيضاً، بلغة ألمانيّة بارعة. يُعدّ من بين الفلاسفة الأكثر شيوعاً وتداولاً بين القرّاء.

كثيراً ما تُفهم أعماله على أنّها حامل أساسيّ لأفكار الرومانسيّة والعدميّة ومعاداة الساميّة وحتّى النازّية، لكنّ بعض الدارسين يرفضون هذه المقولات بشدّة، ويقولون بأنّه ضدّ هذه الاتّجاهات كّلها. يُعدّ نيتشه مُلهِماً للمدارس الوجوديّة وما بعد الحداثة في مجالَي الفلسفة والأدب في أغلب الأحيان. روّج لأفكار اعتقد كثيرون أنّها مع التيّار اللاعقلانيّ. استُخدِمت بعض آرائه فيما بعد من قبل أيديولوجيّي الفاشيّة والنازيّة. رفض نيتشه المثاليّة الأفلاطونيّة، والمسيحيّة والأديان والميتافيزيقيا بشكل عام. ودعا إلى تبنّي قيم أخلاقيّة جديدة، وانتقد الكانتيّة والهيغليّة.

سعى نيتشه إلى تبيان أخطار القيم السائدة، عبر الكشف عن آليّات عملها عبر التاريخ، كالأخلاق السائدة، والضمير. يُعَدّ نيتشه أوّل من درس الأخلاق دراسة تاريخيّة مفصّلة. قدّم نيتشه تصوّراً مهمّاً عن تشكّل الوعي والضمير، فضلاً عن إشكاليّة الموت. كان نيتشه رافضاً للتمييز العنصريّ ومعاداة الساميّة والأديان، ولا سيّما المسيحيّة، لكنّه رفض أيضاً المساواة بشكلها الاشتراكيّ أو الليبراليّ بصورة عامّة.

 

 

141


121

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

وبهذا يتّضح لنا أنّ مسألة «النفس» في باب الأخلاق مسألةٌ مهمّة، وهي حدٌّ فاصِلٌ بين اتّجاهَين مختلفَين.

عماد الأخلاق

كيف نقنع الفرد بضرورة الفضائل وضرر الرذائل؟ ومن أيّ باب ندخل إليه كي يؤثر الصدق والحقّ ونحوها على منفعته الشخصيّة ونزواته الحيوانيّة؟ وبعبارة ثانية، يُراد من الأخلاق أن تكون حرباً شعواء ضدّ «الأنا» و«الذات»، وهذا لا يكون إلّا باعتمادها على منطق سديد يقنع المرء أن يجاهد «نفسه»، ومن دون ذلك، ستكون الأخلاق مجرّد كلمات رنّانة لا تملأ فراغاً من القلب، ولا تجيب سؤالاً من العقل.

إنّها كلمات فارغة لا نفع وراءها، ولا فائدة تُرجى منها إلّا دفن «الذات» تحت رمادها، كما يقول ذلك «ألكسيس كارِل»[1] (Alexis Carrel)؛ فالأخلاق في نظره كالبندقة الفارغة من اللبّ، وهذا هو سرّ زهد البشر في الأخلاق.

والملاحَظ أنّه كلّما تقدَّم العالَم في ميادين الثقافة والعلم، قلَّ تمسُّكه بالأخلاق الفاضلة، وازداد قناعةً بعدم جدواها؛ لأنّه إذ يفكّر مليّاً في ما يُعرَض عليه منها، يرى أنّه لا عماداً قويّاً لها يصمد أمام منطق «الأنا»، الداعي إلى عدّها فوق كلّ شيء. فلماذا يتعب ويكدح لأجل إسعاد الآخرين؟ وما هو عوض ذلك؟ وإذ لا يجد جواباً مقنعاً من ملقِّني هذه الكلمات، يُعرِض عنها ويصرف نظره؛ لماذا؟ لأنّه لُقِّن ذلك في منزل العائلة ومدرسة المجتمع، لكنّه ما إن يتقدّم في العلم والفكر، سوف يدرك أنّه لا واقع لهذه الأخلاقيّات؛ لأنّه لم يُقدَّم له تفسير منطقيّ لها.

لَعمري، إنّه لَخَطرٌ عظيمٌ يُهدّد البشريّة! لأنّ الضدّ هنا هو «العلم» لا «الجهل»، و«الوعي» لا «السذاجة»، وحتّى أولئك المحرومون من الرشد الفكريّ والوعي، والّذين قد

 

 


[1]  ألكسيس كاريل (Alexis Carrel) (1873 – 1944م): طبيب جرّاح فرنسيّ، حصل على جائزة نوبل في الطبّ عام 1912م، ومن أشهر كتبه كتاب (الإنسان... ذلك المجهول)، الّذي يضمّ تجاربه عن الإنسان والحياة.

 

142


122

الباب الثالث: النفس الإنسانيّة

يؤمنون بما يُلَقَّنونه من مفاهيم، سرعان ما يشكّكون بها لمجرّد همسة أُذُن مِن مشكِّك؛ فالجنديّ قد يتولَّد لديه، بالتلقين المستمرّ، إحساسٌ كاذب بحبّ وطن وتراب ما، وقد يُضحّي بسبب هذا الإحساس بالكثير، ولكنّ هذا الإحساس مبنيٌّ على رمال متحرّكة، ينهار لأقلّ نسمة تهبّ عليه؛ لأنّه إحساسٌ ليس له ركيزة راسخة في أرض الحقيقة، وهذه هي نوعيّة الأخلاق الّتي يروّج لها المادّيّون، لكن لا يجدون لها سوقاً.

معرفة الله عماد الأخلاق

كما أنّ «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ»[1] تعالى، كذلك هي حجر الزاوية في «إنسانيّة» الإنسان و«أخلاقه»، فلا معنى لها من دون معرفته تعالى، وكلّ المعنويّات لا قيمة لها إلّا في ظلّه تعالى. فـ«الإنسانيّة» و«المحبّة» إذا لم ترجعا إليه تعالى، فهما هباء، ولا يمكن أن تكونا مظلَّة للأخلاق. وأنا لم أرَ أحمق من منطق «برتراند راسِل» ذي الاتّجاه المادّيّ؛ فإنّه يدعو للأخلاق الفاضلة باسم «الإنسانيّة»، من دون ربطها بالله تعالى والروح. إنّه هراء؛ لأنّه ما لم يؤمن الفرد بالله تعالى وما يتبع ذلك، فسينظر لبقيّة الأفراد كما ينظر للشجر أو الخراف.

وقد يقول أحدكم بأنّنا نرى الانضباط الأخلاقيّ في مجتمعات متمدّنة بعيدة عن الله تعالى، فهم لا يكذبون ولا يخونون ولا يتجاوزون الحدود والقانون الموضوع لهم، على الرغم من عدم لجوئهم للدين والأمور المعنويّة، وهذا مُشاهَد في الشعوب الأوروبّيّة والأميركيّة. وحيث إنّ الوقوع أدلّ دليل على الإمكان، نستنتج إمكان بناء الأخلاق حيث تعلو على «الأنا»، بلا حاجة إلى الإيمان بالله ومعرفته. والحقّ أنّي أنا أيضاً كنتُ لفترةٍ أعتقد بإمكانيّة ذلك، حتّى انكشف لي شيء آخر، وهو أنّ «الأنا» المعبودة لها أنواع ومظاهر مختلفة، منها:

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص39، الخطبة الأولى.

 

143


123

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

قبل الشروع في تشخيص داء الإنسانيّة الّذي أفرزته الأيديولوجيّات المتعاقبة على فكر هذا «الإنسان» وقلبه المتوجّس خيفةً، من اللازم تقديم مقدّمة قصيرة عن «العقيدة وقيمتها».

قيمة العقيدة

تنقسم «قيمة» كلّ عقيدة إلى قسمَين:

1. قيمة نظريّة.

2. قيمة عمليّة.

المقصود من «القيمة النظريّة» مدى تطابُق تلك العقيدة والرؤية مع الواقع المعاش، حيث تكون شرعيّـتها مرهونة بمصادقة الواقع عليها. ولمعرفة ذلك، يُلجَأ إمّا إلى التجربة والاختبار، وإمّا إلى الاستدلال العقليّ. ومثال ذلك:

إنّ «بطليموس»[1] (Claudius Ptolemy) كان يعتقد بمركزيّة الأرض للعالَم، وأنّ

 

 


[1]  كلوديوس بطليموس (أو بَطْلُمْيوس) - Claudius Ptolemy (100 - 170م): رياضيّ وفلكيّ وجغرافيّ يونانيّ مشهور، تُوفّي في حدود العام 167 أو 168م، ونشأ في الإسكندريّة. يقوم نظامُه الفَلَكيّ على أَساس أنّ الأَرْضَ ثابِتَة، وأَنَّ الأَفْلاك تَدُور حَوْلَها. بطليموس هو مؤلّف العديد من الأطروحات العلميّة، كان لاثنين منها تأثير كبير على العلوم الغربيّة والشرقيّة، وذلك عن طريق كتبه العديدة والمتنوّعة المجالات. أوّلهما كتاب «المجسطيّ»، والآخر كتاب «الجغرافية»، ويُعَدّ هذا الأخير تجميعاً للمعرفة الجغرافيّة للعالم اليونانيّ الرومانيّ. يُعَدّ عمل بطليموس استمراريّة لتطوّر طويل في العلوم القديمة يقوم على ملاحظة النجوم والأعداد والحساب والقياس.

 

154


124

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

بقيّة الأفلاك تدور حولها، ثمّ جاء العلماء من بعده وأبطلوا هذا الرأي، منهم الفلكيّ «كوبرنيكُس»[1] (Nicolaus Copernicus)، الّذي قال بمركزيّة الشمس للمنظومة الشمسيّة فقط، لا للكون كلّه. ونحن إذا أردنا معرفة القيمة النظريّة لكِلا هذَين الرأيَين، فلا بدّ من إخضاعهما معاً للتجربة، فإنّها أكبر برهان حيث تُمكِن؛ وحينئذٍ، تكون القيمة والاعتبار للرأي المؤيَّد مِن قِبَل التجربة والاختبار.

أمّا «القيمة العمليّة»، فالمقصود منها ملاحظة ما تُقدِّمه تلك النظريّة من نفعٍ مباشر، وفائدة ملموسة تعود بالخير على البشريّة، بصرف النظر عن مطابقتها للواقع وعدمها. وكلّما كانت الفائدة أكبر، كانت القيمة أكبر.

وهذا الكلام يأتي في كلّ مشروع وعقيدة تُقدَّم للاستهلاك البشريّ -إن صحّ التعبير- بما في ذلك المعتقدات الدينيّة وتصوّراته عن «الإله» و«الإنسان» و«الحياة». والّذي يتكفَّل بإثبات «القيمة النظريّة» للأصول الدينيّة -من توحيد ونبوّة وغيرها- هو «علم الكلام»، أمّا المتكفِّل بإثبات «القيمة العمليّة»، فهو «علم الأخلاق» و«حكمة التشريع».

هاتان القيمتان لا بدّ من توفُّرهما معاً لديمومة النظريّة واستمرارها، ولا تُغْني إحداهما

 

[1]  نيكولاس كوبرنيكوس (Nicolaus Copernicus) (1473 – 1543م): راهب وفيلسوف وفلكيّ وقانونيّ وطبيب وإداريّ ودبلوماسيّ وجنديّ بولنديّ، كان أحد أعظم علماء عصره. يُعَدّ أوّل من صاغ نظريّة مركزيّة الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها في كتابه «حول دوران الأجرام السماويّة». ردَّ نظريّة «بطليموس» في كتابه «الأجرام السماويّة»، أحدث بنظريّاته انقلاباً كبيراً في العالم، وهو مطوّر نظريّة دوران الأرض، ويُعَدّ مؤسّس علم الفلك الحديث، الّذي ينتمي لعصر النهضة الأوروبّيّة - 1400 إلى 1600 ميلاديّة-.

ترجع شهرة كوبرنيكوس إلى تبنّيه فكرة وجود الشمس وليس الأرض، كجسم ثابت في مركز المجموعة الشمسيّة -نظريّة العالم المعروفة وقتها- على أن تتحرّك الأجسام الأخرى حولها. وبنظريّة مركزيّة الشمس هذه، وقف كوبرنيكوس مناهضاً لتعاليم بطليموس عن مركزيّة الأرض، الّتي ظلّت وقتها طويلاً غير قابلة للطعن. وقد استند كوبرنيكوس في نظريّته الّتي قدّمها في هذا الكتاب إلى أنّ حركة الأجسام السماويّة يمكن تفسيرها بطريقة أفضل وأبسط إذا تركنا فكرة وجود الأرض في مركز الكون.

حتّى منتصف القرن الماضي، كان يُعتقد أنّ أعمال كوبرنيكوس أصيلة، وهو من قام باختراعها، لكن بعد اكتشاف مخطوطات جديدة تعود إلى ابن الشاطر، تبدّل هذا المفهوم كُلّيّةً، حيث وُجِد أنّ جميع النماذج الفلكيّة (ما عدا مركزيّة الشمس) الّتي استخدمها نيكولاس كانت متشابهة للغاية مع أعمال مدرسة مراغة، وكاستعماله مزدوجة الطوسيّ الّتي عمل بها كوبرنيكوس من دون أن يذكر مصدرها؛ أمّا الضربة القاصمة فهي الاكتشاف الحديث (قبل بضعة عقود) لمخطوطات عربيّة تعود إلى ابن الشاطر، كانت مخبّأةً في بولندا مسقط رأس كوبرنيكوس، والمكان الّذي مات فيه، ممّا يؤكّد بشكل قويّ للغاية أنّه كان ينقل تلك المخطوطات وينسبها إلى نفسه.

 

155


125

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

عن الأخرى في ذلك؛ فإذا ما افتقدت النظريّة إحداهما، فَقدَت قيمتها وأهمّيّتها. لا حاجة للقول هنا بأنّ هاتَين القيمتَين متلازمتان، بمعنى أنّه لا يمكن بحال كون النظريّة معتضدة بصحيح البرهان ولا نفع فيها لبني الإنسان، أو تكون ذات نفعٍ عامٍّ لكنّها مهجورة العقول والأفهام؛ لأنّ الحقيقة تساوي الخير، كما يقرّر ذلك الذكر الحكيم، والحقيقة من دون خير زخرف وباطل؛ لأنّ الإنسان يسعى إلى ما فيه صلاحه، ويأخذ بما فيه قوامه.

بعبارة أخرى، العقيدة الّتي لا رصيدَ لها في صقع[1] الواقع، ليست ذات خير ونفع للبشريّة مهما لمعَت؛ إذ ليس كلّ ما يلمع ذهباً؛ لأنّ مقصودنا هو النفع الأعمّ من المادّيّ والمعنويّ، فليس عندنا إلّا شقّان: إمّا عقيدة مدعومة نظريّاً فهي خير، وإمّا عقيدة مغشوشة فهي شرّ، ولا يوجد شقّ ثالث ملفَّق.

نعم، ربّما جلبَت العقيدة الفاسدة والمقولات الكاسدة شيئاً من الفائدة لبعض الناس، لكنّ ذلك إلى أجلٍ مسمّى؛ لأنّه لا دولة للباطل، بل هو -كما يقول القرآن الكريم- زَبَدٌ يَذهَبُ جُفاءً، يقول الحقّ تعالى: ﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ﴾[2].

إنّ النِحَلَ المتطفّلة والمذاهب الجوفاء آيلةٌ للفناء والاضمحلال، وإنْ عمَّرَت حيناً من الدهر؛ لأنَّ حسّ الفطرة السليم يلفظها ويرمي بها بعيداً، وهذا ممّا يشهد به تاريخ البشريّة القديم والحديث. وهذه الآية الشريفة تُعَدّ من مظاهر إعجاز القرآن الكريم؛ لأنّ مضمونها أرقى من أن تناله يد البشر أو ينطق به لسان إنسان. ولقد ضرب الله تعالى في هذه الآية مَثَلاً هادياً، حيث شَبَّهَ الباطل بذلك الزَبَد الّذي يعلو ظهر الماء حينما ينحدر من الجبال سيلاً راعباً[3]، فيحجب الماءَ عن الأبصار، فيحسب الجاهلُ قصيرُ النظر بأنّ الماء

 

 


[1]  صُقْعٌ: مفرد أَصْقَاعٌ، النَاحِيَة.

[2]  سورة الرعد، الآية 17.

[3]  «سَيْلٌ رَاعِبٌ»: جارِفٌ، كاسِحٌ.

 

 

156


126

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

-وهو رمز الحقّ- صار مغلوب الزَبَد -وهو رمز الباطل-، ولكنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ هذا الزبد سيذهب ويزول ليبقى الماء الزلال؛ لأنّه هو النافع، والحقّ هو ماء الحياة للناس، والباطل هو الزبد الّذي يغشى وجه الحقّ إلى حين.

هذه كانت مقدّمة قصيرة لِمَا نريد بحثه، وهو الداء المزمن الّذي يعاني منه إنسان العصر.

الأزمة المعنويّة والأخلاقيّة أعقَدُ مشكلات العصر

علماء الاجتماع والمحلِّلون يعلمون جيّداً بأنّ أكبر العقبات الّتي تواجه المجتمعات البشريّة -خصوصاً المجتمعات المتطوّرة أو ما يُسَمَّى بالعالَم الأوّل- هو التوتّر المعنويّ والضمور الأخلاقيّ. وفي جنب هذه المشكلة، تهون المشاكل الأخرى، سياسيّة كانت أم اقتصاديّة؛ لأنّ الأزمات السياسيّة، مثل قضيّة العرب وإسرائيل، ومسألة الحدود المتنازَع عليها بين الصين والاتّحاد السوفياتيّ، لا تُعَدّ من الأزمات المستعصية على الحلّ. ومثلها الأزمات الاقتصاديّة، كمسألة التضخّم العالميّ، بل حتّى مثل الحروب العالميّة، فهذه كلّها تُحَلّ بطريق أو بآخر. إنّ الأزمة الوحيدة الجامعة الّتي ما زال العالَم يتخبّط بها، هي الأزمة المعنويّة الجاثمة على صدر إنسان اليوم، ولربّما كانت بعض الأزمات المستفحلة غير معنويّة في الظاهر، لكنّها -في نهاية المطاف- تعود إلى أسباب معنويّة. وسأستعرض الآن جملة من مظاهر هذه الأزمات المستشرية.

1. الانتحار: تفشّي ظاهرة «الانتحار» من المسائل الّتي تؤرّق من يهمّهم الأمر. وتشير الدراسات في هذا الشأن إلى أنّ هذه الظاهرة المشؤومة تتوطّن، في الأصل، المجتمعات الراقية والمرفّهة؛ ممّا يعني أنّ أسبابها غير مادّيّة، وليست من سيّئات الفقر، وإن كان الفقر المادّيّ نفسه ناتجاً من أمر معنويّ.

إذاً، ما هو «العامِل» المتَّهَم هنا؟

 

157


127

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

إنّه الشعور المتنامي بعبثيّة الحياة والعجز عن معرفة سرّها؛ فالإنسان لا يدري لماذا يحيا؟ وما فائدة هذه الدنيا؟ إنّه الفراغ يملأ كيانه ويحوطه من كلّ جانب، إنّه الجزع وعدم القدرة على تحمُّل مصاعب الحياة ومكاره الدهر، فيكون هذا باعثاً على التنصّل من المسؤوليّة. وعلى حدّ تعبير هؤلاء: إنّ الحرّيّة تكون في الحياة المنفلتة والفارغة من أيّ معنى. فهذه المشكلات الحياتيّة، والّتي لم تكن تُعَدّ كذلك في السابق، ولا كانت تسلب نوم ساعة من أحد، غدت عقدة لا تنحلّ في عصرنا الحديث، حيث صارت تسلب الحياة، فضلاً عن النوم. والإحصاءات شاهدة على ذلك، وقد اقتطعتُ بعضاً من قصاصات جرائدنا الّتي تذكر أرقاماً إحصائيّة، أورَدتُ بعضاً منها في كتاب «مسألة الحجاب».

2. الفراغ: إذا عُرِفَت المقدّمات، ينبغي أن لا يُفاجَأ بالنتائج. إنّ الحياة السطحيّة والرفاهيّة، والفراغ الروحيّ، وضبابيّة الرؤى الاجتماعيّة والدينيّة، مضافاً إلى قلّة ساعات العمل وارتفاع الأجور في الدول الصناعيّة، هذه كلّها عوامل أوجدت فراغاً وأوقات ميتة، وقد قيل قديماً: إن يكن الشغل مَجهَدَةً، فإنّ الفراغَ مَفسَدَةً.

إنّ الفراغ نفسه سببٌ لكثير من السلبيّات، ما لم يُملَأ، لكن كيف يُملَأ؟ إنّ ما وفّروه من وسائل تسلية، كالسينما والمسرح ونحوهما، زاد الطين بلَّة[1] -كما يقولون-؛ لأنّ هذه المسلّيات تؤدّي إلى نسيان «النفس» واللهْوِ عنها، وتنمية «النفس المتوَهَّمة» الخادعة، ولا يلبث الإنسان أن يرجع إلى نفسه مستشعراً الفراغ يلفّه من جديد.

3. شيوع الأمراض العصبيّة والنفسيّة: «أمراض المدنيّة» اسمٌ أُطلِق على مجموعة من الأمراض والاضطرابات النفسيّة الّتي أفرزَتها «المدنيّات» المعاصرة.

الإحصائيّات -وهي موجودة لدى الغرب من أكثر من مئتَي عام، خلافاً لحالنا- تشير إلى أنّه كلّما ارتفع المستوى الصناعيّ والرفاه المادّيّ، ازدادَت هذه الأمراض شيوعاً. ويؤيّد

 


[1] «زَادَ الطِّينَ بِلَّةً»: زَادَ الأَمْرَ تَعْقِيداً وَسُوءاً.

 

 

158


128

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

هذا أنّ أسلافنا كانوا بمنجى من هذه البليّات، على الرغم ممّا عانوه من خشونة الحياة وبدائيّتها. ثمّ إنّه غير خافٍ أنّ الأمراض العصبيّة تارةً تؤدّي إلى آلام وعلل عضويّة، مثل التهاب الأمعاء وقرحة المعدة، وتارةً تؤدّي إلى تأزُّم نفسيّ محض، مثل الاكتئاب.

آمل أن لا يُساء فهم كلامي، أنا لا أُحبّذ الفقر أو أدعو للحدّ من التمدُّن، كلّا، وإنّما أدعو إلى إيجاد الحلّ الأمثل لرفع هذه الأمراض المكدِّرة لصفو الحياة؛ لئلّا تكون ضريبة «التمدّن» هي حياة الإنسان وسعادته.

4. الانفلات وتمرُّد الشباب (الهيبّيّة): من الظواهر المنتشرة في عالَم الغرب، تميُّع الشباب وانفلاتهم من التقاليد والأعراف والسنن؛ فلو سرحتَ فيهم بصرك، لرأيتَ واحدهم وقد أطلق شعر رأسه ولِمَّته[1]، وأبان عن ذارعه ومتنه، ولم يرتدِ من الملبوس إلّا ما تهلهل وتخرّق، ولا من السروال إلّا ما قصر وأطبق. وهذا النموذج من الشباب الّذي يُصطَلَح عليه بـ«اللاأُبالي» و«اللاأُباليّة»[2]، يدلّ على صدوف الشبيبة عن المدنيّة الحاضرة وعزوفهم عنها، على الرغم ممّا توفّره لهم من أدوات المتعة ومستلزمات الراحة المادّيّة؛ وما ذلك إلّا لشعورهم بعدم أهليّتها وقدرتها على تلبية حاجاتهم الحقيقيّة، بل على العكس، وجدوا أنفسهم واقعين تحت ضغوط نفسيّة مرهبة، فرأوا أنّ الأجدر هو أن يكونوا «لاأُباليّين»، فتعاطوا المخدّرات؛ لعلّها تخفّف شيئاً من آلامهم وهمومهم.

هذا الجيل اللامبالي لديه قناعة بأنّ هذه المدنيّة فارغة المضمون، وأنّها عبث وضياع، وإن كانوا قد لا يستطيعون تحديد موضع عبثها وضياعها، فهل هذا العبث يكمن في تقصير الآلة الصناعيّة والآلة هي العبث؟ لماذا تكون الآلة هي العبث؟! وهل العلم هو العبث؟ لا يمكن أن يصبح العلمُ عبثاً.

 

 


[1]  اللِّمَّةُ من شعر الرأْس: دون الجُمّة، وهي الشعر المجاوز شحمة الأذن. سمِّيت بذلك لأَنها أَلَمّت بالمنكبين، فإذا زادت فهي الجُمّة.

[2]  الهِيبِّيّة.

 

159


129

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

ولأجل هذا كلهّ، نراهم يتوافدون على الشرق -خصوصاً أقصاه- زرافات ووحداناً[1]، اعتقاداً منهم بأنّ فيه بُغيتهم، وبأنّ فيه مِن الإيمان ما يُشبِع روحهم ويُطَمئِن نفوسهم القلقة. إنّ «الآلة» الصمّاء الّتي علَّقوا عليها آمالهم، لم تزدهم في أنفسهم إلّا خساراً، ولا في أخلاقهم إلّا جفافاً وانحداراً، فيمَّموا الشرق والبلاد الهنديّة، طلباً لندى الإيمان وطراوة العرفان.

من حسن الحظّ، أنّ هذه الظاهرة محدودة بين شبابنا، فهم واقعاً لا طغيان فيهم ولا انفلات، والموجود من ذلك بينهم تقليدٌ محض لشبيبة الغرب، فهي ظاهرة مهاجرة لا جذور لها في نفوس شبابنا.

5. انحسار العاطفة: إنّ اللهاث وراء سراب الحياة والابتعاد عن الله، أفضيا إلى جمود الإحساس بالحبّ والمودّة بين الأفراد، فهم يعيشون بلا روح تقدح فيهم شعلة العاطفة الدافئة، تماماً كالآلة الصمّاء، حتّى الأمومة فقدت معناها، فلم تعد الأمّهات يحببنَ أولادهنّ كما تقتضيه مشاعر الأمومة، وكذا الأخ لأخيه، وهكذا، حتّى نصل إلى علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وهذا ينعكس سلباً على العلاقة الزوجيّة الّتي هي نواة المجتمع، فتزداد حالات الطلاق، وتتفرّق العائلة.

الحكايتان الآتيتان تعبّران تعبيراً صادقاً عن هذا الواقع المرير:

الأولى: نقلها إليَّ أحد علمائنا الأفاضل، قال: إنّه ابتُلِي قبل سنوات بقرحة المعدة، فعزم على السفر إلى النمسا للعلاج، ولزيارة ابنه المقيم هناك. فلمّا أتمَّ علاجه وتماثل للشفاء، ذهب وابنه إلى مطعم، وكان ابنه يقوم على خدمته ويبالغ، وكان بالقرب منهما رجل وامرأة يناهزان من العمر 65 عاماً، وكانا يختلسان النظر إليهما بين الفينة والأخرى. يقول هذا الفاضل: إنّهما استدعيا ابني وتحادثا معه قليلاً، فأخبرني أنّهما سألاه: مَن هذا الّذي

 

 


[1]  «جاؤوا زَرَافَاتٍ وَوُحْدَاناً»: أَيْ جَمَاعَاتٍ وَأَفْرَاداً.

 

 

160


130

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

تخدمه وتبالغ؟ فأجابهما: إنّه والدِي، فقالا مندهشَين: وإنْ، فهل يعمل المرء مجّاناً لأبيه، ولو شاء لاتّخذ أجراً؟! فردَّ عليهما: وكيف لا أكون كذلك؟ وهو الّذي يرسل إليّ من إيران نفقة دراستي هنا. فدُهِشا، ثمّ قالا: نحن زوجان، ولنا بنت وابن، لكنّهما تركانا وحيدَين وافترقنا كلٌّ في مكان.

وبعد التحقيق، أقرّا بأنّهما تلاقيا وأحبَّ كلٌّ منهما الآخر قبل 33 عاماً، واتّفقا -آنذاك- على أن يتعاشرا لفترة من الزمن، فإن توافقَت طباعُهما وتجانسَت أخلاقُهما، عندها يتزوّجان. وإلى الآن، بعد مرور ثلاثين عاماً، لم ينجبا أطفالاً، ولم ينتهيا إلى نتيجة بعد فترة الخطوبة الطويلة هذه.

الثانية: قرأتُها في إحدى صحفنا، وحاصلها: إنّ طائرة ارتطمت بالأرض في «مصر»، وقُتِل في الحادث 92 راكباً، وقيل وقتها: إنّ أحد موظّفي المطار كان يعمل مشرفاً على تنظيم حركة الطائرات في المطار، وكان مطّلِعاً سلفاً على مآل الطائرة، وأنّها سرعان ما تهوي؛ لأنّها كانت على ارتفاع 2000 متر، والمفروض ألّا يقلّ ارتفاعها عن 3500؛ لكنّه لم يحذّر قائدها. فلمّا سُئِل عن السبب في عدم تحذيره له، أجاب ببرودة أعصاب: ذلك ليس من وظيفتي! إنّ أصحاب هذه القلوب الّتي هي كالحجارة، بل أشدّ قسوة؛ أناس مثلنا خلقةً وفطرةً، وقد يأتي يوم -لا سمح الله- نصبح فيه مثلهم، نفقد إنسانيّتنا في أدغال المادّة.

6. المجاعة: ذكرنا سابقاً أنّ بعض الأزمات قد لا تُصنَّف ضمن الأزمات المعنويّة اصطلاحاً، لكن لها أسباب معنويّة، ومن ذلك مسألة المجاعة. فمن المعلوم أنّه يوجد الآن في العالم، أكثر من خمسمئة مليون إنسان جائع، أكثرهم من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة، وإن كان يوجد أيضاً كمٌّ غيرُ قليل منهم في الدول الغنيّة. وهذه المأساة مردُّها إلى عدم الإحساس بالمسؤوليّة الإنسانيّة، وسوء توزيع الثروة وتبديدها في ما لا ينفع؛ فلو خُصِّص خُمسُ ميزانيّات التسلّح العالميّ لصالح القطاع الزراعيّ، أو الثروة الخضراء كما يسمّونها، لانجلى هذا الكرب والهمّ.

 

 

161

 

 


131

المقدّمة

لقد وصل رقم المخصّصات العسكريّة قبل ثلاث سنوات، إلى 204 مليار دولار، والحال أنّ 50 مليار دولار تكفي لإنقاذ هؤلاء البشر من خطر الجوع... ولكنّ السياسة هي الحاكمة، وإلّا فما أكثر المؤتمرات الّتي تُعقَد هنا وهناك لمعالجة هذه المشكلة، ولكن دونما فائدة، ومنها مؤتمر عُقِد في روما واستمرَّ أسبوعاً كاملاً؛ وفي ختامه، كان أهمّ خبر أُعلِن عنه هو الإشارة إلى كرم الضيافة الّذي غمر به المضيفون ضيوفهم، من ممثّلي الدول المشاركة.

ليس هذا فحسب، بل إنّ الأمريكيّين ينفقون سنويّاً ما يقارب مليارَي دولار على الكلاب والقطط، ويهدرون الفائض، وهم يرون أبناء جلدتهم يموتون بسبب الجوع والفقر.

7. تلوُّث البيئة: إنّ مشكلة تلوّث المحيط الحياتيّ للإنسان وغيره، تثير جدلاً عالميّاً لا ينقضي؛ ذلك أنّه، وبصوره كافّة، يُهدّد وجود الإنسان أو سلامته تهديداً جادّاً. وهذا التلوّث نعيشه في كبرى مدننا.

إنّ الهواء -وهو العنصر الأساس لحياة الإنسان- من أهمّ ضحايا التلوّث، وتلوّثُه يزداد يوماً بعد يوم. ولا أحسب أنّ هذا التلوّث لا مفرّ منه لكونه ضريبة للآلة الصناعيّة، كما يدَّعي بعضهم، بل أحسب أنّه ناتج عن التصنيع غير الرشيد وغير المتوازن مع حاجة المستهلك؛ فالمصنِّعون يُغرقون الأسواق بمنتجاتهم الّتي تزيد عن حاجة الإنسان بمرّات، وهذا يؤدّي إلى استمرار عمل المصانع، ومن ثمّ إلى ازدياد مخلّفاتها الضارّة بالصحّة والبيئة. والسبب في هذا كلّه، الحرص على الإثراء، ولو على حساب حياة البشر، وهم يبدون آلاف الحيل لتسويق منتجاتهم، ويستغلّون وسائل البثّ العالميّ الحديثة لإغراء المستهلكين وجذب أنظارهم، عن طريق الجنس والموسيقى الصاخبة ونحو ذلك.

بهذه الطريقة، تبقى تُروس المصانع تدور وتدرّ الربح الوفير من جيوب الشعوب. فالسبب في التلوّث ليس هو ذات الآلة، بقدر ما هو الإنسان الجشع، غريق المادّة. لذلك،

 

 

162

 


132

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

فأنا لا أوافق «توِينْبي»[1] (Arnold Toynbee) في ما يذهب إليه من أنّ الآلة هي المسؤولة، أوّلاً وأخيراً، عن مأساة الإنسان، وأنّها ستؤدّي إلى فنائه وطرده من جنّة الأرض، كما طُرِد أبوه «آدم» من جنّة السماء بسبب أكله من الشجرة المحرّمة. فالإنسان -والكلام له- بعد أن عمَّر هذه الأرض وجعل منها جنّة بديلة لجنّة أبيه، ارتكب خطأً فادحاً حينما اخترع هذه الآلة قبل ثلاثة قرون أو أربعة؛ لأنّه سيضطرّ لترك هذه الجنّة، فهو كدودة القزّ، تنسج شرنقتها لتموت داخلها، ولن يكون له مكان بديل عن هذه الأرض كما كان لأبيه، بل سيكون مصيره الفناء.

تدعيماً لرأيه، ذكر «توِينْبي» جنايات «الآلة» وما خلّفته من الآثار السيّئة على الطبيعة، هوائها وغاباتها، بحارها وأنهارها وحيواناتها. ثمّ شفّع كلامه بمَثَل أسطوريّ، وحاصله: أنّ ساحراً سحرَ جنّيّاً وحبسه في قارورة، وكان يتلفّظ بكلمة سرّ لإخراجه. وكان للساحر تلميذٌ يتحيَّن الفرص لمعرفة هذه الكلمة، وقد عرفها بعد حينٍ في غفلةٍ من أستاذه، فأخرَجَ الجنّيّ واستخدمه، لكنّه لم يكن يعرف كيف يدخله، فوقع في حيرة من أمره، ومن ثَمَّ انقلب الحال، وصار التلميذُ مُسَخَّراً للجنّيّ. وهكذا الإنسان، فإنّه تضاءل أمام قدرة الآلة، ووقع تحت سيطرتها.

هذا ما ذكره «توِينْبي» في مقال له نشرته صحيفة «اطّلاعات» مترجماً قبل عام، ولكنّني -كما عرفت- لا أشاطره هذا الرأي.

 

 


[1]  أرنولد جوزف توِينْبي - Arnold J. Toynbee (1889 - 1975م): فيلسوف ومؤرّخ بريطانيّ مشهور، عمل أستاذاً في جامعة لندن. من مؤلّفاته «الفلسفة الجديدة للتاريخ». يُعَدّ تُوينبي أحدثَ وأهمَّ مُؤرِّخ، بحَثَ في مَسألة الحضارات بشكلٍ مُفصَّلٍ وشامِل، ولا سيَّما في موسوعته التاريخيَّة المُعنونَة «دراسة للتاريخ»، والّتي تـتألّف من اثـني عشرَ مُجلَّداً، أنفق في تأليفها واحداً وأربعين عاماً. وهو يَرى، خِلافاً لمُعظم المؤرِّخين الّذين يعتبرون الأُمَم أو الدُول القوميَّة مَجالاً لدراسة التاريخ، أنَّ المُجتمعات (أو الحضارات) الأكثر اتِّساعاً زماناً ومكاناً هي المجالات المعقولة للدراسة التاريخيَّة. وهو يُفرِّقُ بين المُجتمعات البِدائيَّة والحَضاريَّة؛ وهذه الأَخيرة أقلُّ عدداً من الأُولى، فهي تبلغُ واحداً وعشرين مُجتمعاً، اندثَرَ مُعظمُها، ولم يبقَ غيرُ سبع حضارات، تمرُّ ستٌّ منها بدَور الانحلال، وهي: الحضارة الأُرثوذكسّية المسيحيّة البيزنطيّة، والأُرثوذكسيّة الروسيّة، والإسلاميّة، والهندوكيّة، والصينيّة، والكوريّة-اليابانيّة؛ أمَّا السابعة، أي الحضارة الغربيّة، فلا يُعَرف مصيرُها حتَّى الآن.

 

163


133

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

أصالة العلم

أعتقد بأنّ الخطأ الفادح الّذي نجمت عنه هذه التداعيات، هو مقولة «أصالة العلم» الّتي تبنّاها «فرانسيس بِيْكون»[1] (Francis Bacon) وأتباعه ونادوا بها. لقد حسبوا أنّ العلم وحده هو إكسير الحياة، وأنّه البلسم الشافي والدواء المعافي لكلّ أمراض البشريّة، من فقر مدقع وظلم مطبق وجشع وقلق؛ لأنّ هذه كلّها ناشئة -في نظرهم- من «الجهل»؛ فإذا حصل «العلم»، ارتفعت مظاهره برمّتها.

وهذه -بلا شكّ- رؤية قاصرة، لم تدرك سوى زبد الواقع؛ لأنّ العلم وحده لن يحقّق للإنسانيّة ما تصبو إليه من سعادة وطمأنينة بال. فالعلم، وإن كان نوراً مقدّساً، لكن لا بدّ من قرنه بالإيمان؛ لأنّهما توأمان، وإذا ما تجرَّد العلم من الإيمان، تحوَّل إلى شرّ فساد. لذلك، ذكرَت الأحاديث الإسلاميّة أنّ المؤمن أحقّ بالعلم من غيره. يقول الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): «الحكمة ضالّة المؤمن، يطلبها أينما وجدها، فهو أحقّ بها»[2]، وما ذلك إلّا لأنّ «المؤمن» هو الّذي سيضع العلم في خدمة البشريّة. وعن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال: «فَخُذِ الْحِكْمَةَ وَلَوْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ»[3]، و«خُذِ الْحِكْمَةَ وَلَوْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»[4].

وشعراً، يقول مولوي: «أيّها الرفيق، لئن صارت الحكمة على لسانك جارية، فهي من الأبدال، وهي عندك عارية».

 

 


[1]  فرانسيس بِيْكون - Francis Bacon (1561 - 1626م): فيلسوف ورجل دولة وكاتب إنجليزيّ، دعا إلى تجريد الفلسفة وإحياء العلوم الاختباريّة، معروف بقيادته للثورة العلميّة عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على «الملاحظة والتجريب». من الروّاد الّذين انتبهوا إلى عدم جدوى المنطق الأرسطيّ الّذي يعتمد على القياس. من كتبه: الأورغانون الجديد. لُقِّب بيكون بأب التجريبيّة. جادل بإمكانيّة المعرفة العلميّة المبنيّة فقط على الاستقراء والمراقبة الدقيقة للأحداث في الطبيعة. جادل أيضاً بأنّ العلم يمكن تحقيقه من خلال استخدام أسلوب متشكِّك ومنهجيّ يهدف من خلاله العلماء إلى تجنّب تضليل أنفسهم. إنّ الفكرة العامّة لإمكانيّة وجود منهجيّة متشكّكة وأهمّيّتها، تجعل بيكون أب المنهج العلميّ؛ وذلك على الرغم من أنّ مقترحاته الأكثر تحديداً حول مثل هذه الطريقة، طريقة بيكون، لم يكن لها تأثير طويل الأمد. كانت هذه الطريقة إطاراً بلاغيّاً ونظريّاً جديداً للعلم، وما تزال تفاصيلها العمليّة مركزيّة في المناقشات حول العلم والمنهجيّة.

[2]  راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج2، ص99: «الْحِكْمَةِ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا».

[3]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص481، الحكمة 79. وما قبلها كان قوله (عليه السلام): «خُذِ الْحِكْمَةَ أَنَّى كَانَتْ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ تَكُونُ فِي صَدْرِ الْمُنَافِقِ، فَتَلَجْلَجُ‏ فِي صَدْرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ، فَتَسْكُنَ إِلَى صَوَاحِبِهَا فِي صَدْرِ الْمُؤْمِن‏».

[4]  الطبرسيّ، الشيخ عليّ بن الحسن‏، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، المكتبة الحيدريّة، العراق - النجف، 1385هـ، ط2، ص134.

 

 

164


134

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

أمّا ما يقولونه من أنّ «العلم» يمنح الإنسان القوّة والقدرة، وأنّه يشفي أمراضه ويطوي بساط فقره، فهو صحيح إجمالاً؛ لأنّ العلم يجعلنا قادرين على تسخير الطبيعة والتصرّف بها، لا على النفوس الأمّارة بالسوء. وأمّا الفقر، فهو -كما ذكرنا- ليس ناشئاً دائماً من أمور اقتصاديّة بحتة، وكذلك ما يخصّ القلق والمعاناة النفسيّة، فالعلم يقف عاجزاً قبال ذلك. كما لا يخفى أنّ العلم في كثير من حقوله، صار آلة طيّعة بيد ظالمي الشعوب وناهبي الأقوات، فكيف يُعَوَّل عليه في اجتثاث الظلم والحرص والأنانيّة؟ ونحن اليوم نشاهد عياناً، الحصاد المرّ لهذا العلم الجافّ. ومع الأسف، ظلّت هذه المقولة رائجة في أوساط منظّري الغرب على مدى قرن أو قرنَين.

أيديولوجيّة جديدة

لكن، مع حلول القرن التاسع عشر، أدرك الغربيّون فشل تلك المقولة، واعترفوا بأنّ العلم وحده غير وافٍ بحاجات البشر، وأنّه لا بدّ من إقامة فلسفة اجتماعيّة لِمَا عجز عنه العلم، وبدأت الأطروحات والأيديولوجيّات تنهال من هنا وهناك، وكلٌّ يدَّعي أنّه أتى بالترياق[1] المجرَّب، ولكنّهم زادوا الطين بلّة؛ لأنّهم بنوا فلسفاتهم وشيّدوها على «رؤية كونيّة» تنفي وجود الله ووجود روح الإنسان، وعدّوه «آلة» محضة للإنتاج. ومع هذا، فهم يطمحون في «مثاليّة» اجتماعيّة مقدّسة! يطمحون في أن يسعى الإنسان لصيانة هذه المثاليّة، وأن يواسي الآخرين وينبذ الطمع والأنانيّة والظلم.

إنّ ما يرمون إليه لا يتمّ؛ لأنّ الأيديولوجيّة المتبنّاة لا تساعد على ذلك؛ يقولون للإنسان: إنّه لا وجود لله، ولا يوجد فيك شيء مقدَّس، ومع ذلك، كن ملتزماً بالتضحية للآمال الاجتماعيّة المقدّسة، ولا ينبغي لك التلوّث بالحرص والبخل والظلم، ويحسن بك أن تشعر بهموم الآخرين، وأن يحترق قلبك على معاناتهم!

 

 


[1]  ترياق: دَوَاءٌ لِلْعِلاَجِ مِنَ السُّمُومِ.

 

 

165


135

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

والعجب أنّ «جورج بوليتزر»[1] قال في كتاب له: نحن، وإن كنّا ماديّين فلسفةً، لكنّنا مثاليّون أخلاقاً! إنّه مجرّد كلام، وقائله يُدهن من قارورة فارغة. وما دعا القوم إلى هذه الأقاويل إلّا الفرار من الإيمان. ونحن نرى الهزائم المنكرة الّتي تلاحق هذه النظريّات الّتي تأبى إلّا الجحود بالله خالق الكون، وما انتصاراتها إلّا انتصارات سياسيّة دعائيّة، كما نشاهد التخبّط الّذي يعيشه القطب الشرقيّ الاشتراكيّ والغربيّ الإمبرياليّ، وما أشبه الليلة بالبارحة.

بعد هذا، جاء «سارتر» (Sartre) بحلٍّ آخر، قال: إنّ العلم والفلسفة الاجتماعيّة وحدهما لا يحقّقان شيئاً، لكن ينبغي التفريق بين العالِم ذي الحسّ الميِّت، وبين العالِم الواعي؛ أي الّذي يُدرك، وبعمق، حجم المسؤوليّة الملقاة على عاتقه تُجاه الأرض وقاطنيها؛ فإذا ما كان العالِم كذلك، كفى، ولا حاجة للإيمان.

هذا أيضاً كلام لا طائل منه؛ لأنّ المعرفة هي المعرفة، والعلم هو العلم، وليس من شأن العلم إلّا الإنارة والإضاءة، وليس من شأنه تحديد الأهداف وتشخيصها للإنسان. العلم يحقّق الوسيلة، وأمّا الغاية فبِيَد الإنسان، وقد تكون خيراً أو شرّاً. فبالعلم مثلاً، تُصنَع السيّارة والمركبات، وبها تُختَصَر المسافات، ولكن هل تُستَغَلّ في سُبُل الخير أو في سُبُل الشرّ؟ هذا موكولٌ إلى نفس الإنسان؛ فقد يستغلّ المركبة للسرقة وإلحاق الأذى بالآخرين، وقد يوظّفها في سُبُل البِرّ وينفع بها الناس. فالعلم وحدَه لا يبني الإنسان، ولا يجسّد فيه حبّ الناس والأرض، ولا يورده مشارع الخير.

وعليه، فلا غنى للإنسان عن الإيمان؛ لأنّه هو الّذي يسمو بالغايات ويردع عن الموبقات، وإلّا فالشيطان -كما يقول القرآن الكريم- كان أعلم من غيره بمراتب عظيمة، حتّى كاد علمُه أن يصل إلى الكمال، وكان عالِماً بوجود الله، ومعتقِداً بالنبوّات وبيوم القيامة، ولكنّه

 


[1]  جورج بوليتزر (Georges Politzer) (1903 – 1942م): ولد في هنغاريا، ثمّ غادرها إلى باريس عام 1921. أسّس مع غيره مجلّات نشر فيها دراسات في علم النفس والتحليل النفسيّ ونقداً للبرغسونيّة. كما أسّس مركز التوثيق التابع للحزب الشيوعيّ الفرنسيّ وأشرف عليه، أصبح محرّراً في صحيفة الأومانيته وهي الصحيفة المركزيّة للحزب. وكذلك كان أحد مؤسّسي (الجامعة العمّاليّة) في باريس 1935 - 1936.

 

166


136

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

في الوقت ذاته، كان كافراً؛ لأنّه لم يكن مؤمناً بما يَعلَم، فلم ينفعه علمُه وحده؛ لذلك تمرّد على الحقّ تعالى في حضرته، وأبى امتثال أمره؛ وليس الإيمانُ إلّا التسليم والخضوع المطلق للحقّ تعالى.

هذا الخضوع هو الدواء الّذي لا بديل عنه للإنسان؛ فالإيمان لا بدّ من أن يكون قرين العلم. ومن هنا، نرى القرآن الكريم دائماً ما يذكرهما معاً؛ فإذا ما افترقا، صار كلُّ واحد منهما بلاءً وشرّاً[1]. وليس للقوم من محيص[2] إلّا الإقرار بهذه الحقيقة؛ لأنّ تملُّصهم عنها وتشبُّثهم بما يشبه بيوت العنكبوت، لن يجديهم نفعاً، ولن يحلب لهم ضرعاً، وسيظلّون في ريبهم يتردّدون.

من نغماتهم الأخيرة، ما ندى به جماعةٌ من أنّ الثقافة هي الّتي يجب أن تصنع الإنسان، فكراً وسلوكاً؛ بمعنى أنّ على الإنسان أن يكيّف سلوكه بحسب ما تمليه عليه الثقافة المقدَّمة له. والحال أنّ العكس هو الصواب؛ لأنّ الإنسان هو مبدِع الثقافة وملهمها، فيجب أن تكون منسجمةً وفطرته، متأثّرةً بها. والإيمان بالإله أهمّ ما تمليه الفطرة الإنسانيّة؛ فإذا ما افتقدت الثقافة ذلك، فهي زبد.

عرفانٌ بلا دين

من شواهد تخبُّطهم، أنّهم لجؤوا أخيراً إلى «العرفان»، ولم يعلموا أنّ أساس العرفان هو معرفة «الله» والخضوع لإرادته. إنّهم يريدون «عرفاناً» من دون إله! إنّ هذا الشيء عجاب؛ لأنّ ذلك محال. وهذا التوجّه أراه أيضاً في مقالات الإيرانيّين المعاصرين.

إنّ مَصدر هذا التخبّط هو ابتعاد هؤلاء عن المنهل العذب للمعرفة، وهو الإسلام، دين

 

 


[1]  رحم الله أبا الحسن (عليه السلام)؛ إذ يقول: «قَصَمَ ظَهْرِي رَجُلَانِ: عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، وَجَاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ؛ هَذَا يُضِلُّ النَّاسَ عَنْ عِلْمِهِ بِتَهَتُّكِهِ، وَهَذَا يَدْعُوهُمْ إِلَى جَهِلِهِ بِتَنَسُّكِه‏» (الكراجكيّ، محمّد بن عليّ، معدن الجواهر ورياضة الخواطر، تحقيق وتصحيح أحمد الحسينيّ‏، إيران - طهران، نشر المكتبة المرتضويّة، 1394هـ، ط2، ص26).

[2]  محيص: مَهْرَبَ، مَحِيد، فِرَار.

 

 

167


137

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

الفطرة الإنسانيّة. وما داموا مُعرِضين عن الحقّ، فلن يجدوا إلّا الضلال. قال الإمام أبو جعفر (عليه السلام) لسلمة بن كهيل والحكيم بن عتبة: «شَرِّقَا وَغَرِّبَا؛ فَلَا تَجِدَانِ عِلْماً صَحيحاً إِلَّا شَيْئاً خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ»[1]. وعليه، فلا مُنقِذ للبشريّة من مأزقها سوى الخضوع والتسليم لله تعالى، وهذا وحده هو الكفيل بحلّ أزماتها المستعصية؛ لأنّ هذه الأزمات ذات جذور معنويّة وأخلاقيّة، ومرجعها عدم الإيمان والتمرّد على إرادة الخالق تعالى.

في الماضي، كانت معاناة البشر ناشئة من الجهل، ولكن اليوم -ولله الحمد- نما جناح العلم واستطال، إلّا أنّ جناح الإيمان ما زال كسيراً، والبشريّة لا يمكنها التحليق من دون جناح الإيمان؛ لأنّ جناح العلم وحده غير كافٍ، كما أنّ الإيمان إذا رافقه الجهل والحميّة الجاهليّة، لن يكون قادراً على النهوض بالإنسان والارتقاء به إلى معالي الأمور، بل يكون وبالاً على صاحبه.

من هنا، نجدّ أنّ القرآن المجيد يؤكّد على العلم والإيمان معاً؛ فتارةً يقرنهما، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَٱلۡإِيمَٰنَ﴾[2]، وأخرى يُفرد أحدهما بالذِكر، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ﴾[3].

السرّ في الحاجة للإيمان، هو أنّ الإيمان يفتح حصوناً لا سبيل للعلم إليها، وتلك هي حصون النفس الإنسانيّة، وهذا الفتح هو ما يُسَمّى بـ«الجهاد الأكبر» في علم الأخلاق وتهذيب النفس، وهذه التسمية مستفادة من الحديث النبويّ المعتبَر المعروف عند السُّنَّة والشيعة؛ فقد كان(صلى الله عليه وآله) يريد توجيه أنظار صحابته إلى هذا النوع من الجهاد، وبيان أهميّته، فلمّا كان اليوم الّذي رجعوا فيه من إحدى الغزوات، فرحين بنصر الله، استقبلهم

 

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص399.

[2]  سورة الروم، الآية 56.

[3]  سورة القصص، الآية 80.

 

 

168


138

الباب الرابع: الأزمة الأخلاقيّة في عصرنا

مهنِّئاً، فقال: «مَرْحَباً بِقَوْمٍ قَضَوُا الْجِهَادَ الْأَصْغَرَ، وَبَقِيَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؟ قَالَ: جِهَادُ النَّفْس»[1].

بمعنى، أنّ الجهاد في الإسلام لا يقتصر على مقارعة الطغاة ومحاربة الظلَمَة، بل يوجد عدوّ داخليّ أخطر تجب مقارعته والحذر منه. وقد أجاد مولوي في تصويره لهذا المعنى شعراً، إذ يقول:

أيّها الفرسان، قد قتلْنا عدوَّنا الظاهريّ

لكن بقي عدوٌّ داخليٌّ ألدُّ وأخطرُ

وقَتْلُ هذا العدوِّ لا يكون بالعقل والعلم

وهو قويٌّ وذو بطشٍ كالأسد، وليس كالأرنبِ اللعوب

إنّ النفس نارٌ موقدةٌ، والنار تبتلع مَن يقترب منها، كما يبتلع الثعبان

هذه النار الحريق -الّتي هي النفس- لا يُخمِدُها ماءُ البحر

المعنى: إنّ حصن النفس لا ينفع معه علمٌ أو فلسفة، بل لا بدّ من إيمان راسخ يدكّه دكّاً. لذلك، ذكرنا في ما سبق، أنّ الخطأ الّذي وقعَت فيه البشريّة، ليس هو اختراعها «الآلة» كما يقول السيّد «توِنيْبي»، بل الخطأ يكمن في الطمع والحرص اللذَين لا حدود لهما. ومن أين ينشأ هذا التحرُّر؟ من فقدان العامِل الوحيد للتقيُّد، وهو «الإيمان». لذا، لا بدّ من أن نعود إلى الإيمان، ولا مفرّ لنا من العودة إليه.

 


[1]  الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن حسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)، إيران - قمّ، 1409هـ، ط1، ج15، ص161.

 

169


139
فلسفة الأخلاق