بحوث فقهيّة في العلاقات الأسريّة

تمتاز الشريعة الإسلاميّة عن بقيّة الشرائع السماويّة السابقة لها بأنّها ليست محدّدة بزمن دون زمن، وليست مختصّة بأمّة دون أخرى.


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2023-01

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية


المقدّمة

المقدّمة

تمتاز الشريعة الإسلاميّة عن بقيّة الشرائع السماويّة السابقة لها بأنّها ليست محدّدة بزمن دون زمن، وليست مختصّة بأمّة دون أخرى. بل هي خاتمة الشرائع السماويّة، ولهذا فهي كفيلة بإسعاد المجتمع، ومعالجة مشاكله، وإكمال نواقصه. فهي في حقيقتها قانون إلهيّ للإنسان، فلا بدّ من تطبيق أحكامها، ورعاية مفرداتها، وهي في الوقت نفسه أحكام توقيفيّة لا تخضع للتبدّل الطارئ من تعاقب القرون، فحلال محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

 

ويقف مذهب أهل البيت عليهم السلام في مقدّمة المذاهب الإسلاميّة في هذا المجال لأنّه:

1. فتح باب الاجتهاد أمام فقهاء الشيعة ممّا أعطاهم زخماً كبيراً لتطوير حركة الفقه الإسلاميّ، ودفعهم نحو التعمّق والدقّة أكثر فأكثر في مختلف الفروع، والتأمّل في أدلّتها، والتفكير في إيجاد براهين أقوى.

 

2. أدى تقليد المجتهد الحيّ، وعدم جواز تقليد المجتهد الميت -الذي هو مورد اتّفاق علماء الشيعة تقريباً- إلى أن يهتمّ فقهاء أهل البيت عليهم السلام في كلّ عصر وزمان بتنقيح المسائل الفقهيّة، وخاصّة المسائل المستحدثة، والعثور على إجابات علميّة مقنعة ومستدلّ عليها، ولهذا نرى في كلّ يوم كتباً جديدة وأبحاثاً موسّعة في هذا المجال.

 

9


1

المقدّمة

ومن بين المواضيع التي أولاها الإسلام اهتماماً خاصّاً الأحكام المرتبطة بالأسرة، حيث نرى التجدّد في أبحاثها، والاستحداث في مسائلها، ولذا نجد الفقهاء الكرام - قديماً وحديثاً - قد تعرّضوا لها لِما لهذه الأحكام من أهميّة بالغة، إن على صعيد الفرد، أو على صعيد المجتمع، وذلك لأنّ الأسرة هي النواة الأولى في المجتمع، فإذا صَلَحت صَلَح المجتمع، وإن فَسَدت فسد المجتمع.

 

والكتاب الماثل بين أيدي القرّاء الكرام "بحوث فقهية في العلاقات الأسرية" هو مجموعة من الأبحاث الفقهيّة في مسائل مهمّة تتعلّق بأحكام الأسرة، أغلبها من المسائل المستحدثة، خطّتها يَراع ثُلة من أساتذة الحوزة العلميّة الكبار وهم: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في كتاب "بحوث فقهيّة هامّة"، المرحوم السيد محمود الهاشميّ في كتاب "مقالات فقهيّة معاصرة"، والشيخ محمد آصف المحسني في كتاب "الفقه ومسائل طبّيّة"، والشيخ محمد المؤمن في مقالة بعنوان: "عدّة من لا رحم لها" ضمن "المجلّة الفقهيّة"، و"موسوعة أحكام الأطفال وأدلتها" المشرف على جمعها الشيخ محمد جواد الفاضل اللنكراني.

 

وقد جمع مركز المعارف للمناهج والمتون التعليميّة مادّة هذا الكتاب من مصادرها، وإعدادها بما يتلاءَم مع الشريحة المخاطبة من طلّاب في المعاهد الدينيّة والثقافيّة، وتصرّف في بعض الموارد المحدودة ليكون الكتاب مناسباً للعمليّة التعليميّة من دون الإخلال بالمضمون العلميّ لها، ومن الله نستمدّ التوفيق، ومنه نرجو الرحمة والمغفرة.

 

                                                                                 والحمد للَّه ربّ العالمين

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليميّة

 

10

 


2

الدرس الأول: تحديد النسل

الدرس الأول

تحديد النسل (1)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدّرس:

1. يتعرّف إلى أدلّة استحباب زيادة النسل ويُحلّلها.

2. يُعدّد مؤشّرات رجحان تحديد النسل.

3. يُحدّد الحكم الشرعيّ لمسألة تحديد النسل أو زيادته[1]

 

 


[1] تمّت الاستفادة في هذا الدرس من كتاب: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، بحوث فقهيّة مهمّة، نسل جوان للطباعة والنشر، إيران - قم، 1422هـ، ط1.

 

12


3

المقدّمة

تمهيد

لا يجب -بالعنوان الأوّلي[1]- تكثير الأولاد. وهو يكاد يكون على حدّ الضّرورة الفقهيّة. فيبقى الكلام في أن يكون متعلّقًا بحكمٍ تكليفيٍّ غير إلزاميٍّ (الاستحباب أو الكراهة)، أو لقسيم الوجوب من الأحكام التّكليفيّة الإلزاميّة (وهو الحرمة).

 

فالقائل بالرجحان يراه مستحبّاً، والقائل بعدمه يراه مكروهاً أو حراماً.

 

التراث الفقهيّ

صرّحت طائفةٌ من علماء المسلمين بمطلوبيّة زيادة الأولاد، حاكمين باستحبابه. وفي المقابل، ذهبت طائفةٌ ثانية إلى رجحان تكثير الأولاد خصوصاً في زماننا هذا، فقالوا برجحان تحديد النّسل استحبابًا بل وجوبًا. وقد استدلّ كلّ من الطّائفتين بمجموعةٍ من الأدلّة[2].

 

أدلّة مطلوبيّة تكثير الأولاد

أوّلًا: الأدلّة القرآنيّة

استدلّ القائلون بمطلوبيّة تكثير الأولاد بعددٍ من الأيات القرآنيّة التي يعضد بعضها بعضًا في إفادة معنى أنّ كثرة الأولاد سبب للقوّة والقدرة والعزّة والشّوكة، منها قوله -تعالى-: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾[3]، وقوله: ﴿أَمَدَّكُم بِمَا

 


[1] وقد يجب بالعنوان الثانويّ.

[2] راجع: الشيرازي، بحوث فقهيّة مهمّة، مصدر سابق، ص275.

[3] سورة الإسراء، الآية 6.

 

13


4

المقدّمة

تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ﴾[1]، وكذا قوله: ﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾[2].

 

وتقريب الاستدلال أنّ سياق الآيات أعلاه هو سياق التّذكير بالنّعم الإلهيّة التي يتفضّل الله سبحانه بها على النّاس -عدّةً وعددًا- والتي تؤدّي إلى تحقيق الاقتدار، ولمّا كان اقتدار المسلمين ممّا لا شكّ في مطلوبيّته شرعًا، كانت مقدّماته الاختياريّة -كثرة المال وكثرة البنين- بمثابة مقدّمات الواجب، فيُطلب إيجادها، ما يدلّ على مطلوبيّة تكثير الأولاد، وحيث إنّها غير واجبة فليس أقلّ من استحبابها.

 

فإن قيل: إنّ غاية ما تُفيده هذه الآيات هو مدح وجود الأولاد نفسه من غير اشتراط كثرتهم، فيكون متعلّق الطّلب هو أصل وجود الأولاد دون كثرتهم، أُجيب: هذا خلاف الظّاهر العرفي لمفردات (أكثر) و (أمدّكم) و (يمدّكم)، كما أنّه خلاف المنسبق عرفًا من سياق التّذكير بالنّعم التي تفضّل الله تعالى بها.

 

ثانيًا: الأدلّة الرّوائيّة

يمكن تنويع الرّوايات التي تحدّثت عن الأولاد إلى طوائف عديدة، فمنها ما يرتبط بما في الولد من بركةٍ ونعمةٍ، ومنها ما يرتبط بتربية الأولاد وتنشئتهم، ومنها ما يرتبط بحقوقهم، ومنها ما يرتبط ببلوغهم وتكليفهم، ومنها ما يرتبط بعبادتهم ومعاملتهم، ومنها طائفةٌ مدلولها المطابقي هو مطلوبيّة تكثير الأولاد، وهذه الأخيرة هي العمدة في الباب.

 

فمن الرّوايات التي استُدِلّ بها قوله عليه السلام: "أكثروا الولد أُكاثر بكم الأمم غدًا"[3]


 


[1] سورة الشعراء، الآيتان 132 - 133.

[2] سورة نوح، الآية 12.

[3] الحرّ العامليّ، الشيخ محمد بن الحسن، وسائل الشيعة (الإسلاميّة)، تحقيق وتصحيح: وتذييل الشيخ عبد الرحيم الربانيّ الشيرازي، لبنان - بيروت، دار إحياء التراث العربيّ، 1403هـ - 1983م، ط5، ج15، ص96، ب 1، أحكام الأولاد، ح8.

 

14


5

المقدّمة

ونحوه قوله عليه السلام: "تزوّجوا فإنّي مكاثرٌ بكم الأمم غداً في القيامة"[1]. وتقريب الاستدلال أنّ صيغة الطّلب في "أكثروا" و "تزوّجوا" ظاهرةٌ في الطّلب (كما قُرّر في محلّه)، ولمّا كان الوجوب ممّا يُعلم عدمه بالضّرورة الفقهيّة، تعيّن الحمل على الاستحباب.

 

فإن قيل: إنّ قوله: "تزوّجوا" يدلّ على مطلوبيّة الزواج واستحبابه، ولا دلالة لها في نفسها على مطلوبيّة تكثير الأولاد، لوضوح عدم الملازمة بين الزواج والولد. أُجيب: إنّ قوله "مكاثرٌ" ظاهرٌ في بيان ثمرة الزواج وغايته، والتي هي المكاثرة. وهي منصرفةٌ -إن لم تكن متعيّنةٌ- إلى المكاثرة الحاصلة بالأولاد. ولمّا كان قوله: "مكاثرٌ" بمثابة القرينة، قُدّم ظهورها على ظهور "تزوّجوا"، لما قُرّر في محلّه من تقديم ظهور القرينة على ظهور ذيها[2].

 

مناقشة أدلّة المطلوبيّة

إنّ السّياق العامّ الذي ارتبطت به الآيات والروايات آنفة الذكر، يكشف أنّ هذه الآيات والرّوايات ليست من قبيل القضايا الحقيقية التي تجري في كلّ زمان، وإنّما هي من قبيل القضايا الخارجية النّاظرة إلى زمانٍ خاصٍّ[3]. ومن عناصر هذا السّياق، قوله -تعالى-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾[4]. ومنها قوله: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ

 


[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ص96، ب 1، أحكام الأولاد، ح14، وفي هذا الباب نفسه اثنتا عشرة رواية أخرى لا يدلّ شيء منها إلّا على كون الولد محبوباً ولو بصرف وجوده، لا بكثرته.

[2] راجع: الصدر، السيد محمّد باقر، بحوث في علم الأصول، تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر للسيد محمود الشاهرودي، مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلاميّ طبقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام، سنة الطبع: 1426ه - 2005م، ج7، ص163.

[3] راجع: الصدر، السيد محمّد باقر، دروس في علم الأصول، دار الكتاب اللبناني، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية، 1406ه - 1986م، القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة للأحكام، ج2، ص27.

وراجع: الصدر، السيد محمّد باقر، بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، فصل في شمول الخطابات لغير المشافهين من الغائبين بل المعدومين زمن صدورها، ج3، ص369.

[4] سورة سبأ، الآيتان 34 - 35.

 

15


6

المقدّمة

أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾[1]. وكذا قوله: ﴿مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ﴾[2]. وقوله: ﴿وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَ‍َٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ﴾[3].

 

وتقريب الاستدلال أنّ الآيات قد تعاملت مع كثرة الأولاد مرّةً بما هي سببٌ من أسباب استبعاد العذاب، وأخرى بما هي عاملٌ من عوامل التّهديد والوعيد والتّرهيب، وثالثة بما هي مظهرٌ من مظاهر الاستمتاع، ورابعة بما هي إن فقدت كان فقدها مستلزمًا للاستضعاف. وجميع هذه التّوظيفات ظاهرةٌ عرفًا في أنّ كثرة الأولاد -بما هي كثرةٌ- منظورٌ إليها بما هي من عوامل الاقتدار ومقوّماته.

 

ولمّا كان السّياق القرآنيّ العامّ يخاطب أقوامًا يعتبرون أنّ كثرة الأولاد -بما هي كثرةٌ- من عوامل الاقتدار ومقوّماته،كان هذا السّياق القرآنيّ العامّ قرينةً مانعةً عن للتمسّك بالإطلاق الزّمانيّ للآيات والرّوايات الحاثّة على كثرة الأولاد، صارفةً إلى معنى القضيّة الخارجيّة المقيّدة بالظّروف الزّمانيّة والمكانيّة للمخاطبين، ليصير مفاد النّصوص الحاثّة: "لمّا كانت كثرة الأولاد من عوامل الاقتدار، أكثروا الأولاد فإنّي أكاثر بكم الأمم غدًا".

 

وحينئذ لو ثبت لنا بالأدلّة القطعيّة أنّ كثرة النّفوس في بعض الأزمنة توجب الضّعف والوهن والفقر والجهل والمرض والبطالة، فإنّها تخرج بذلك عن شمول تلك الآيات والروايات الحاثّة على كثرة الأولاد، لأنّها وردت في ظروف أخرى ناظرة إلى أناس آخرين، وأنت ترى في العصر الحاضر أنّه لا يفتخر إنسان على غيره بأنّي أكثر منك ولداً، نعم يمكن أن يفتخر بماله، وقد ثبت -في محلّه- أنّ تبدّل الموضوعات مقتضٍ لرفع الأحكام[4].


 


[1] سورة القصص الآية 78.

[2] سورة التوبة الآية 69.

[3] سورة الأنفال الآية 26.

[4] راجع: الشيرازي، بحوث فقهيّة مهمّة، مصدر سابق، هل للزمان والمكان تأثير في الاجتهاد؟، ص284.

 

16


7

الدرس الأول: تحديد النسل

مؤشّرات رجحان تنظيم النّسل

اتّضح أنّ الأدلّة التي سيقت لإثبات مطلوبيّة تكثير الأولاد غير صالحةٍ لإثبات حكمٍ كلّيٍّ على نحو القضيّة الحقيقيّة هو الاستحباب، وإنّما هي في مقام بيان حكم قضيّةٍ خارجيّةٍ، وبرغم كونها عامّة، غير شخصيّةٍ، إلّا أنّها مقيّدة بالظّروف والمعطيات الزّمانيّة. وهذا النّوع من الأحكام العامّة هو المسمّى في الاصطلاح بالأحكام السّلطانيّة التي يدور أمرها مدار المصالح والمفاسد. وقد توافق الفقهاء، سواءٌ القائلون بالحسبة، أم القائلون بالجعل والتّنصيب (جعل الولاية للفقيه العامّة أو الخاصّة) على أنّ تشخيص المصالح والمفاسد المرتبطة بالشّؤون العامّة للأمّة إنّما هو في عصر الغيبة بيد الفقيه الجامع للشّرائط.

 

وممّا من شأنه أن يدخل في دراسة الفقيه للمصالح والمفاسد لتشخيص تكليف الأمّة تجاه تكثير النّسل أو تنظيمه، المؤشّرات الآتية:

 

1. تغيّر شواخص الاقتدار

فالكثرة العدديّة في السّابق كانت شاخصًا مهمّا من شواخص الاقتدار المحقّقة للتقدّم والغلبة، أمّا في زماننا هذا فقد أصبحت الحياة في قطاعاتها المختلفة أكثر تعقيداً، حيث لم تعد الكثرة العدديّة وحدها معيارًا من معايير الاقتدار، وإنّما صارت السّلطنة العلميّة التّخصّصيّة هي المحقّق للتقدّم والغلبة. لذلك نرى بعض الدّول الغاصبة قد استولت على كثير من بلاد المسلمين بالرغم من قلّة عدد نفوسها -بالنسبة إلى المسلمين- وذلك لتقدّمهم العلمي والتّكنولوجي. فكم من فئة قليلة من العلماء والمتخصّصين بهذه الفنون في عصرنا غلبت فئة كثيرة جاهلة ضعيفة.

 

2. محدوديّة الموارد الطّبيعيّة

لا شكّ في أنّ نِعم الله تعالى عنده في خزائنه، ولكن لا شكّ أيضًا أنّه سبحانه يُنزّلها بقدرٍ معلوم، فالإمكانيّات الطبيعيّة الموجودة على وجه الأرض -برّها وبحرها- تُشكّل مقداراً معيّناً يمكن إحصاؤه وفق المحاسبات الرّياضيّة الدّقيقة. وهذه الحسابات تُثبت أنّ المياه الصالحة للشرب والقابلة للاستعمال في الريّ، ومصادر الطاقة والحرارة،

 

17

 


8

الدرس الأول: تحديد النسل

والأراضي القابلة للزّراعة، والمعادن والصّلب، والثّروة الحيوانيّة، وغيرها من الموارد الطّبيعيّة إنّما تتناسب ندرتها طرديًّا مع عدد البشر، فكلّما ازدادت أعداد البشر ازدادت ندرة الموارد البشريّة[1].

 

النّتيجة

إنّ وضع السياسات السكانيّة، والتحكّم بتحديد النسل أو تنظيمه هو من الأحكام الولائيّة الحكوميّة المجعولة بيد وليّ أمر المسلمين، وهو الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة الكبرى. وإنّ حكمه فيها، تحديداً أو تكثيراً -مع حسم مسألة مطلوبيّة الأولاد لبقاء النوع وإعمار الأرض- ينطلق من دراسته لحاجات الأمّة، والمصالح أو المفاسد المترتّبة على هذه السياسات.

 

فالفقيه، إذا ما لاحظ المؤشّرات المتقدّمة، ولاحظ أنّ تكثير الأولاد من شأنه أن يؤدّي إلى اندثار الموارد الطّبيعيّة في بلاد المسلمين، أو إلى عدم التكافؤ بين الموارد الطبيعيّة والزيادة السكانيّة، ممّا يؤدّي إلى انتشار الفقر والحاجة والجهل، وبالتالي يؤدّي إلى عدم الاقتدار، وهو ما يستدعي التّبعيّة لغير المسلمين، إذا لاحظ كلّ هذه المعطيات حكم لا محالة برجحان تنظيم النّسل.

 

أما إذا لاحظ -مثلاً- أنّ قلّة المؤمنين قبال الكافرين، ولو في بلد معيّن، ممّا يوجب استضعاف المؤمنين وتضييع حقوقهم، أو أنّ كثرة المسلمين في بلد ستكون من عوامل القوّة والاقتدار في مواجهة أعداء الدين، أو بسط سلطان الإسلام أو فرض احترام المسلمين، مع كفاية الموارد الطبيعيّة المتوافرة، فإنّه سيحكم برجحان تكثير النسل والحثّ عليه.


 


[1] ويُلاحظ على هذا المؤشّر النظريّة المقابلة التي تقول بأنّ المشكلة ليست في محدوديّة الموارد وندرتها، بل في إدارة هذه الموارد والعمل على تنميتها وحركة المجتمع نحو الإنتاج. قال -تعالى-: ﴿وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ...﴾. (سورة إبراهيم: الآية 34). (الاعداد)

 

18


9

المقدّمة

المفاهيم الرئيسة

1. لا يجب -بالعنوان الأوّلي[1]- تكثير الأولاد. وهو يكاد يكون على حدّ الضّرورة الفقهيّة.

 

2. استدلّ القائلون بمطلوبيّة تكثير الأولاد بعددٍ من الآيات القرآنيّة، منها قوله -تعالى-: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾[2].

 

3. يمكن تنويع الرّوايات التي تحدّثت عن الأولاد إلى طوائف عديدة، منها، قوله عليه السلام: "أكثروا الولد أُكاثر بكم الأمم غدًا"[3].

 

4. إنّ السّياق العام الذي ارتبطت به الآيات والروايات يكشف أنّها ليست من قبيل القضايا الحقيقية التي تجري في كلّ زمان.

 

5. وهذا النّوع من الأحكام العامّة هو المسمّى في الاصطلاح بالأحكام السّلطانيّة التي يدور أمرها مدار المصالح والمفاسد.

 

6. ممّا من شأنه أن يدخل في دراسة الفقيه للمصالح والمفاسد لتشخيص تكليف الأمّة تجاه تكثير النّسل أو تنظيمه، المؤشّرات الآتية:

أ. تغيّر شواخص الاقتدار.

ب. محدوديّة الموارد الطّبيعيّة.

 

7. النّتيجة: إنّ وضع السياسات السكانية والتحكّم بتحديد أو تنظيم النسل هو من الأحكام الولائية الحكومية المجعولة بيد ولي أمر المسلمين وهو الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة الكبرى.

 

 


 


[1] وقد يجب بالعنوان الثانوي.

[2] سورة الإسراء، الآية 6.

[3] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج15، ص96، ب 1، أحكام الأولاد، ح8.

 

19


10

الدرس الثاني: استعمال موانع الحمل (اللولب)

الدرس الثاني

استعمال موانع الحمل (اللولب)[1]

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدّرس

1. يُحدّد الحكم الفقهيّ لاستعمال اللولب.

2. يتعرّف إلى الأدلة الفقهيّة لهذه المسألة.

3. يتعرّف إلى حكم بعض فروع المسألة.

 


[1] تمت الاستفادة في هذا الدرس من كتاب محمد آصف المحسني، الفقه ومسائل طبية، مؤسسة بوستان كتاب، ط1424هـ.

 

21


11

الدرس الثاني: استعمال موانع الحمل (اللولب)

تمهيد

لمنع الحمل طرائق مختلفة ووسائل متعدّدة، ومنها استعمال اللولب، وهو ما سنُبيّن حكمه في البحث الآتي:

استعمال اللولب

اللولب آلة تمنع انغراس البويضة الملقّحة في جدار الرحم[1].

 

وقيل: اللولب النحاسيّ يمنع تلقيح البويضة، ولا يمنع التصاق البويضة الملقّحة بالرحم. وبالتالي فهو ليس عامل إجهاض[2].

 

بناءً على التعريف الأوّل يستشكل جواز استعمال اللولب إذا دخلت البويضة الملقّحة الرحم، بل قد يقال بالحرمة، وعلى التعريف الثاني يجوز. وتشخيص الموضوع بعهدة الطبّ.

 

واذا شكّ المكلّف في آليّة عمل اللولب، ولم يؤدِّ فحصه إلى إحراز إحدى الطريقتين فحكمه الشرعيّ هو جواز استعمال اللولب، تمسّكاً بأصالة البراءة عن الحرمة؛ لأنّ المورد من موارد الشبهة الموضوعيّة التحريميّة[3]، وهي مجرى للبراءة إجماعاً.


 

[1] لاحظ: إبراهيم، القطان، ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام، المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، 1410هـ- 1989م، ص290 و322 و326.

[2] العوضي، عبد الرحمن، المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، 1410هـ- 1989م، ندوة رؤية إسلاميّة لزراعة بعض الأعضاء البشرية، ص636.

[3] قال الشيخ المشكيني: "والشبهة التحريميّة أيضا تنقسم إلى مسائل أربع، مثلاً إذا شككنا في حرمة الفقاع من جهة عدم الدليل أو إجماله أو تعارضه وهذه أقسام الشبهة الحكميّة التحريميّة، أو شككنا في أن هذا المايع فقاع أم لا مع العلم بأنّ كلّ فقاع حرام، وهذه هي الشبهة الموضوعيّة التحريميّة، منشأ الشكّ فيه اشتباه الأمور الخارجية". (الشيخ علي المشكيني، اصطلاحات الأصول، دفتر نشر الهادي، إيران - قم، 1413-1371ش، ط5، ص47).والمورد هو مجرى للبراءة النقليّة بل العقليّة، أمّا النقليّة منها فواضح فإنّ من جملتها خبر الرفع وهو بعمومه يشمل المقام بلا كلام وكذلك حديث كلّ شيء فيه حلال.. الخ، بل يمكن أن يقال باختصاصه بالشبهة الموضوعيّة التحريميّة، كما لا يبعد ظهوره فيها، وأمّا العقليّة أعني قبح العقاب بلا بيان فبيان جريانها فيه هو أنّ المايع المردّد بين الماء والخمر مثلاً بشخصه لم يرد من الشرع بيان فيه للتحريم وإن كان قد ورد منه النهي بالإضافة إلى عنوان الخمر الكلّيّ المنطبق على أفراده لكن هذا الفرد المشكوك يصدق عليه أنّه لم يرد فيه بيان، وإن كان بحسب الواقع ممّا ينطبق عليه عنوان الخمريّة الذي عُلِم بتحريمه (راجع: تقرير بحث البروجردي للحجتي، حاشية على كفاية الأصول، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج2، ص253).

 

23


12

الدرس الثاني: استعمال موانع الحمل (اللولب)

وقد يقال: إنّ المحرّم هو إجهاض البويضة المخصَّبة بعد استقرارها في جدار الرحم، لا قبله، كما هو شأن اللولب وتأثيره، فيجوز استعماله على كلّ حال.

 

توضيح المسألة: اللولب جهاز يوضع في رحم المرأة فيمنع الإنجاب مدّة فاعليّته، واختلف الأطباء في كيفيّة تأثيره، فقيل: إنّه يمنع تخصيب البويضة بالحيوان المنويّ كسائر الموانع. حيث إنّ جمعاً من الأطباء ذهبوا إلى أنّ وجود اللولب في الرحم يؤدِّي إلى إبطاء حركة الحيامن باتّجاه قناة الفالوب التي يجري فيها الإخصاب، فلا تصل إليها في الوقت المناسب، أو يؤدِّي إلى إتلاف الحيامن عند مرورها في قناة عنق الرحم بفعل ما يحدث فيها من حموضة شديدة أو يجعل الرحم غير مهيّأ لاستقبال الحيامن، فلا تتمّ عمليّة الإخصاب.

 

وينقل عن عالم يُدعى "سيكال" أنّه أجرى عمليّة مختبريّة عن عمل اللولب فاستنتج منها أنّ اللولب يمنع التخصيب رأساً.

 

وبناءً على هذا التشخيص لآليّة عمل اللولب، فمن الطبيعيّ أن يكون حكمه الشرعيّ هو الجواز.

 

وفي المقابل ذهب آخرون إلى أنّه يؤدّي إلى تلف البويضة الملقّحة؛ وذلك لأنّ البويضة تلتقي بالحويمن في قناة الفالوب فتُلقَّح به، وبعد عدّة أيّام تنتقل إلى الرحم لتغرز في بطانته بعد استعداده لاستقبال البويضة المخصّبة بإفراز إنزيم، يساعد على غرزها في البطانة، ولكنّ اللولب يمنع ذلك (أي انغراسها في الرحم)، إمّا بالتسريع في دفع البويضة إلى الرحم بحيث تصل قبل أن تكون بطانة الرحم مهيّأة تماماً لاستقبالها، وإمّا بالمنع من إفراز الإنزيم الخاصّ المساعد على عملية الغرز، وإمّا بإحداث الخدش في الغشاء الداخليّ للرحم بحيث يؤدّي -في النتيجة- إلى أن يلفظ الرحم البويضة المخصّبة حديثة الإنبات.

 

 

24

 


13

الدرس الثاني: استعمال موانع الحمل (اللولب)

البحث الفقهيّ

البحث الفقهيّ في هذه المسألة له مرتبتان:

المرتبة الأولى: مرتبة الشكّ بقول أحد من الطرفين.

المرتبة الثانية: مرتبة إحراز أحد القولين.

 

أمّا المرتبة الأولى فإذا شككنا ولم نطمئنّ إلى قول أحد من الطرفين، من الأطبّاء أو الاختصاصيّين، فالمستند في المقام -أي مقام الشبهة الموضوعيّة التحريميّة- هو الرجوع إلى البراءة الشرعيّة عن الحرمة والحكم بجواز استعمال اللولب وعدم الإثم في استعماله.

 

وأمّا المرتبة الثانية فإن ثبت القول الأوّل طبّياً، فجواز وضع اللولب، بناءً على هذا القول، ممّا لا شبهة فيه، وإن ثبت القول الثاني طبّياً، فالسؤال المتّجه إلى الفقه هو أنّ إتلاف البويضة المخصّبة قبل تعلّقها بجدار الرحم هل يحرم أو لا؟

 

نُقل عن السيِّد الخوئي في بعض كتبه أنّه أنكر حرمته؛ لعدم صدق الإجهاض حقيقة ما لم يكن حمل في الرحم، وأن مبدأ حدوث الحمل يكون باستقرار البويضة الملقّحة في جدار الرحم آخذة في الرشد[1].

 

وأكّد بعض تلامذته بأنّ معظم الشهادات الطبّية الصادرة بشأن وضع اللولب تؤكّد أنّه لا يتسبّب في إسقاط البويضة بعد غرزها والتصاقها ببطانة الرحم، وإنّما غاية ما يدّعى أنّه يمنع الغرز والاستقرار رأساً، فلا مانع إذاً من استعماله من هذه الجهة وإن ثبت كونه مدمّراً للبويضة المخصّبة.

 

ويمكن أن يورد عليه بمخالفة ذلك لإطلاق موثّقة إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقى ما في بطنها؟ فقال: "لا، فقلت: فإنّما هو نطفة، قال: إنّ أوّل ما يخلق نطفة"[2].


 


[1] الخوئي، أبو القاسم الموسوي، المسائل الشرعية، مؤسسة الخوئي الإسلامية، ج2، ص205.

[2] الصدوق، الشيخ محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1414هـ، ط2، ج4، ص171.

 

25


14

الدرس الثاني: استعمال موانع الحمل (اللولب)

فقوله عليه السلام: "لا"، يدلّ على عدم جواز إلقاء ما في البطن من البويضة الملقّحة سواء المستقرّة (أي الملتصقة بجدار الرحم) وغير المستقرة. وهذا يضعّف هذا القول.

 

لكنّ ذيل صحيحة رفاعة عن الإمام الصادق عليه السلام: "فلا تسقها دواء إذا ارتفع طمثها شهراً وجاز وقتها الذي كانت تطمث فيه"[1]. يقيّد هذا الإطلاق بمفهوم الشرط، ويخصّ الحكم بإسقاط البويضة الملقّحة المستقرّة في الرحم جزماً.

 

وعليه؛ فما ذكره السيِّد الخوئي رحمه الله هو الأظهر.

 

قال الإمام الخامنئيّ دام ظله في جواب المسألة: "لا يجوز إسقاط النطفة بعد استقرارها في الرحم، ولا إسقاط الجنين في شيء من المراحل اللاحقة"[2].

 

بقي في المقام فروع

الفرع الأوّل: قيل: إنّ اللولب قد يستتبع أعراضاً شديدة كالالتهابات الرحميّة الحادّة أو النزف الدموي المستمرّ ونحو ذلك، وفي حالات شاذّة يخرق فيها اللولب جدار الرحم فيصل إلى جوف البطن ممّا يتطلّب تدخّلاً جراحياً لرفعه.

 

والجواب: إنْ ثبت طبّياً وجود أضرار شديدة مترتّبة عليه فلا يجوز استعماله، وإذا كانت الإضرار طفيفة فلا حرمة (بناءً على أنّه لا يُسقط البويضة الملقّحة ولو قبل استقرارها في الرحم).

 

الفرع الثاني: لا يجوز للطبيب والطبيبة وضع اللولب إذا استلزم النظر واللمس المحرّمين في غير صورة الاضطرار.

 

الفرع الثالث: إذا فرضنا كون اللولب أداة للإجهاض لا مانعاً للحمل، يصبح وضعه حراماً لحرمة الإجهاض أيضاً في فرض عدم الاضطرار، إلّا أن يقال: إنّ الإجهاض لا يترتّب على وضع اللولب؛ إذ بإمكان المرأة انتزاعه لاحقاً قبل أن يؤدّي دوره في إسقاط البويضة المخصّبة.


 


[1] الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق وتصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج3، ص108.

[2] الإمام الخامنئيّ، السيد علي الحسيني، أجوبة الاستفتاءات، دار النبأ للنشر والتوزيع، الكويت، 1415ه- 1995م، ط1، ج2، ص67.

 

26


15

الدرس الثاني: استعمال موانع الحمل (اللولب)

وفيه نظر أو منع؛ إذ انتزاع اللولب يتوقّف على ارتكاب محرمين آخرين، أي لمس الطبيبة ونظرها، وهذان الفعلان المحرّمان لا يصيران، لأجل إنقاذ الحمل من الإسقاط، ممّا لا يستحقّ العقاب عليهما؛ فإنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً، وإن كان ينافيه تكليفاً، على ما تقرّر في أصول الفقه[1].

 

لا يقال: مقتضى هذا البيان اختصاص الحرمة بالمرأة دون الطبيبة إذا لم تباشر انتزاع اللولب في المرحلة اللاحقة، فإنّه يقال: إنّ الحرمة تشمل وضع اللولب في الابتداء أيضاً، فإنّ الطبيبة هي التي تسبّب الانتزاع المحرّم، وقد ذُكر -في محلّه-[2] أنّ إيجاد مبغوض الشارع حرام مباشرة وتسبيباً[3].

 

ثمّ إنّ إخراج اللولب إذا صار ضروريّاً طبّياً، لإضراره، ولو لأجل انتهاء صلاحيّته، أو لأنّه يصبح مجهضاً، فإن كان استخدامه أوّلاً مباحاً لأجل الاضطرار مثلاً جاز العمل المذكور للمرأة والطبيبة الأولى وغيرها من الطبيبات، كما هو ظاهر، وأمّا إذا كان استخدامه أوّلاً محرّماً فقد ذهب بعضهم إلى عدم جواز ذلك للمرأة والطبيبة الأولى، وجوازه لطبيبة أخرى، حفاظاً على حياة المرأة أو على سلامتها من الأضرار المهمّة، بل قد يجب على المرأة أو الطبيبة الأولى وإن كانتا مستحقّتين للعقاب، لما ذكروا من أنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً.

 

 


[1] يقول السيِّد المصطفوي في تعريف القاعدة: "معنى القاعدة هو أن المكلف إذا ألقى نفسه في المحذور (الفعل المحرّم) يتحقّق الامتناع بمعنى عدم إمكان الامتثال في ذاك الحال، ولكن ذلك (الإلقاء في المحذور بسوء الاختيار) لا يوجب نفي التكليف والعقاب، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار الذي يشترط في التكليف". (السيد المصطفوي، مائة قاعدة فقهية، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1417، ط3، ص69). ومثاله: كما إذا عجّز الإنسان نفسه في الوقت عن الإتيان بالصلاة عن الطهارة المائية والترابية بسوء اختياره، فلا شكّ في أنّه يُعاقب، وذلك للقاعدة التي تقول: (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإن كان ينافيه خطاباً).

[2] انظر: الخوئي، السيد أبو القاسم، التنقيح في شرح العروة الوثقى، تقرير الشيخ علي الغروي، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، 1426ه.ق- 2005م، ط2، ج2، ص210.

[3] مصطلح الفعل المباشري والفعل التسبيبي‏، فإنّ الفعل تارة يكون مقدوراً للإنسان بالمباشرة، كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحو ذلك، وأخرى يكون مقدوراً عليه بالواسطة، كالزوجية مثلاً، فإنّها ليست مقدورة للإنسان بالمباشرة، وإنّما المقدور بالمباشرة هو العقد، وهي مقدورة بواسطة القدرة على العقد، ويصطلح على الأوّل بالفعل المباشري، وعلى الثاني بالفعل التسبيبي‏ أو التوليدي. (انظر: تقرير بحث السيد محمد الروحاني لعبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول، لا.ن، لا.م، 1416ه، ط2، ج1، ص486).

 

 

27


16

الدرس الثاني: استعمال موانع الحمل (اللولب)

وإذا طلبت المرأة إخراجه للحمل ثانياً فلا يجوز مباشرة الطبيبة ذلك لأجل حرمة النظر واللمس، سواء كان استخدامه أوّلاً حلالاً أو حراماً، إلّا إذا صار عدم الحمل حرجياً على المرأة.

 

وممّا تقدّم ظهر حكم ما لو طلبت المرأة من الطبيبة الفحص، لغرض تأكيد وجود اللولب في مكانه المناسب أو عدم تسبّبه للالتهابات الرحميّة مثلاً.

 

 

28


17

الدرس الثاني: استعمال موانع الحمل (اللولب)

المفاهيم الرئيسة

 

1. اللولب آلة تمنع انغراس البويضة الملقّحة في جدار الرحم.

 

2. اذا شكّ المكلّف في آليّة عمل اللولب، فحكمه الشرعيّ هو جواز استعمال اللولب تمسّكاً بأصالة البراءة عن الحرمة.

 

3. قيل: إنّه يمنع عن تخصيب البويضة بالحيوان المنوي كسائر الموانع. وذهب آخرون إلى أنّه يؤدّي إلى تلف البويضة الملقّحة.

 

4. البحث الفقهيّ في هذه المسألة له مرتبتان:

المرتبة الأولى: مرتبة الشك بقول أحد من الطرفين.

المرتبة الثانية: مرتبة إحراز أحد القولين.

5. أمّا المرتبة الأولى فإذا شككنا، ولم نطمئّن إلى قول أحد من الطرفين فالمستند في المقام -أي مقام الشبهة الموضوعيّة التحريميّة- هو الرجوع إلى البراءة الشرعيّة عن الحرمة والحكم بجواز استعمال اللولب.

6. وأمّا المرتبة الثانية فإن ثبت القول الأوّل طبّياً، فجواز وضع اللولب، بناءً على هذا القول، ممّا لا شبهة فيه، وإن ثبت القول الثاني طبّياً، فالسؤال المتّجه إلى الفقه هو أنّ إتلاف البويضة المخصّبة قبل تعلّقها بجدار الرحم هل يحرم أو لا؟

7. نُقل عن السيِّد الخوئي في بعض كتبه أنّه أنكر حرمته؛ لعدم صدق الإجهاض حقيقة ما لم يكن حمل في الرحم.

8. إنْ ثبت طبّياً وجود أضرار شديدة مترتّبة عليه فلا يجوز استعماله، وإذا كانت الإضرار طفيفة فلا حرمة.

9. إنّ إخراج اللولب إذا صار ضروريّاً طبّياً، لإضراره ولو لأجل انتهاء صلاحيّته أو لأنّه يصبح مجهضاً، فإن كان استخدامه أوّلاً مباحاً لأجل الاضطرار مثلاً جاز العمل المذكور للمرأة والطبيبة.

 

 

29

 


18

الدرس الثالث: إجهاض الجنين (1) (الحكم التكليفيّ)

الدرس الثالث

إجهاض الجنين (1)

(الحكم التكليفيّ)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدّرس

1. يفهم حقيقة الإجهاض في الطبّ.

2. يتعرّف إلى مراحل تكوّن الجنين في الكتاب والسنّة.

3. يستدلّ على الحكم التكليفيّ للإجهاض.

 

 

31


19

المقدّمة

تعريف الإجهاض

عرّف الطريحي الإجهاض: "الإجهاض بالكسر اسم من أجهضت الناقة والمرأة ولدها إجهاضاً أسقطته ناقص الخلق، ومنه المُجهِض المُسقِطة للحمل، والولد مُجهَض بفتح الهاء وجهيض"[1].

 

وفي المصباح المنير: "أجهضت الناقة والمرأة ولدها (إجهاضاً) أسقطته ناقص الخلق فهي (جهيض) و(مجهضة) بالهاء وقد تحذف..."[2].

 

الإجهاض في الطبّ

يعرف الاجهاض أو الإسقاط في الطبّ بأنّه خروج محتويات الحمل قبل الأسبوع الثامن والعشرين بعد آخر حيضة حاضتها المرأة.. وأغلب حالات الإجهاض تقع في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل عندما يقذف الرحم محتوياته، بما في ذلك الجنين وأغشيته، ويكون في أغلب حالاته محاطاً بالدم، أمّا الإجهاض بعد الشهر الرابع MIS CAعليهم السلام عليهم السلامAIGE فيشبه الولادة إذ تنفجر الأغشية أوّلاً وينزل منها الحمل ثمّ تتبعه المشيمة[3].


 


[1] الطريحي، الشيخ فخر الدين، مجمع البحرين، تحقيق: السيّد أحمد الحسينيّ، نشر مرتضوي، لا.م، 1362ش، ط2، ج4، ص199.

[2] المقري الفيومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لا.ت، لا.ط،ج1، ص113.

[3] البار، محمد علي، خلق الإنسان بين الطب والقرآن، الدار السعودية للنشر والتوزيع - جدة - السعودية، 1412ه- 1991م، ط8، ص431.

 

33


20

الدرس الثالث: إجهاض الجنين (1) (الحكم التكليفيّ)

الحمل العنقوديّ لا يعدّ إجهاضاً

إنّ الحياة موجودة في الحيوان المنويّ قبل التلقيح، وموجودة في البويضة قبل الالتقاء، وقد يلتقي الحيوان المنويّ والبويضة، ويسفر عن ذلك حمل عنقود لا حمل إنسان، والحمل العنقوديّ ليس جنيناً، وإنّما هو خلايا وحسب لا تكوّن في مجموعها أيّ شكل من الأشكال، وإنّما شكلها شكل عنقود العنب، وبعد فترة من الزمن يتقلّص الرحم ويطرد هذا المحتوى، ولكن ليس فيه ما يدلّ على الإنسان، أو على صورة الإنسان، أو على الحياة، وهو أيضاً نتيجة التقاء الحيوان المنوي والبويضة[1].

 

مراحل الجنين في الرحم

في الكتاب العزيز

- قال الله-تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ[2] لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾[3].

 

- وقال -تعالى-: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ[4] عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾[5].


 


[1] قال بعض الأطباء: إنّ البويضة المخصَّبة من ناحية خلوية بالتأكيد هي ليست الجنين، إنّ جزءاً يسيراً منها يتكوّن منه الجنين، وهذا يحدث في اليوم العاشر بعد العلوق، وقد لا يحدث فتكون بويضة فاسدة لا ينتج عنها جنين، وقد يحدث منها حمل عنقودي، وقد يحدث توأم... (العوضي، عبد الرحمن، الرؤية الإسلاميّة لبعض الممارسات الطبيّة، المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، 1407ه- 1987م، ص677).

[2] نقل في مجمع البيان في تفسيره وجهين: أوّلهما: تامّة الخلق وغير تامّة. وثانيهما: مصوّرة وغير مصورة وهي ما كان سقطاً لا تخطيط فيه ولا تصوير. ويبدو أنّ الثاني يرجع إلى الأوّل كما في تفسير الميزان، وقيل مصوّرة لا نقص فيها ولا عيب، وغير مصوّرة.

[3] سورة الحج، الآية 5.

[4] لعل المراد: من المضغة عظاماً. وليس المراد أن المضغة بتمامها تصير عظاماً.

[5] سورة المؤمنون، الآيات 12 - 14.

 

34


21

الدرس الثالث: إجهاض الجنين (1) (الحكم التكليفيّ)

ومدلول الآيتين أنّ مراحل الحمل أو الجنين في الرحم هي:

1. كونه نطفة.

2. ثمّ كونه علقة.

3. ثمّ كونه مضغة.

4. ثمّ كونه عظاماً[1].

5. ثمّ كَسو العظام لحماً (أي كونه ذا عظام مستورة باللّحم).

6. إنشاؤه خلقاً آخر (أي نفخ فيه الروح فصار حيّاً بحياة إنسانيّة).

ولم يوقّت القرآن هذه الحالات المترتّبة بوقت معيّن، فإذا ثبت في علم الطبّ وعلم الأجنّة ثبوتاً حسّيّاً أو قطعيّاً تحديدها، فالأخذ به لا ينافي القرآن كما هو واضح.

 

في الأحاديث الشريفة

1. معتبرة الحسن بن الجهم المرويّة في الكافي قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: قال أبو جعفر عليه السلام: "إنّ النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً ثمّ تصير علقة أربعين يوماً ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلّاقين فيقولان: يا ربّ ما تخلق ذكراً أو أنثى؟ فيؤمرون"[2].

 

2. صحيح زرارة الطويل المرويّ في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام...: "فتصل النطفة إلى الرحم فتتردّد فيه أربعين يوماً (صباحاً)، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً ثمّ تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة، ثمّ يبعث الله ملكين خلّاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله، فيقتحمان بطن المرأة من فم المرأة فيصلان إلى الرحم، وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال


 


[1] ادعى بعض الأطباء في كتابه أن أوّل عظم يخلق هي الترقوة يبتدئ من اليوم الخامس والثلاثين إلى اليوم الثاني والأربعين من الحمل، وأمّا تكميل العظام ففي الذكور إلى عشرين سنة وفي الإناث إلى 18 سنة. وهذا ينافي الأحاديث الآتية جزماً.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص13.

 

 

35


22

الدرس الثالث: إجهاض الجنين (1) (الحكم التكليفيّ)

وأرحام النساء[1]، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ويشقّان له السمع والبصر وجميع الجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله، ثمّ يوحي الله إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي ونافذ أمري..."[2].

 

والمشهور بين الفقهاء أن مراتب الجنين هي أنّه: أربعون يوماً نطفة، وأربعون يوماً علقة، وأربعون يوماً مضغة.

 

الحكم التكليفيّ للإجهاض

يحرم الإجهاض مطلقاً -قبل ولوج الروح أو بعده- ولم ينقل عن أحد من فقهاء الشيعة الخلاف في ذلك، وقد استُدلّ على الحرمة بالآيات الكريمة والروايات الشريفة، وذلك بوجهين:

الأوّل: الأدلّة العامّة التي دلّت على حرمة قتل النفس المحترمة، فالجنين إذا ولجته الروح يكون نفساً محترمة، وإسقاطه بعد ولوج الروح يصدق عليه القتل عرفاً. ومن هذه الأدلّة:

قوله – تعالى -: ﴿وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾[3].

 

وقوله – تعالى -: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾[4]،[5].


 


[1] ولعلّه إشارة إلى الحياة الكامنة في الحيوان المنويّ والبويضة كما هي غير بعيدة.

قال بعض الأطباء: الحقيقة أنّ الحياة متصلة ليست في الحيوان المنوي والبويضة فقط، لكن من خلق آدم إلى يوم القيامة متصلة باستمرار لم تنقطع قطّ، خلق النطفة هو اتحاد هاتين... إبراهيم، القطان، الإنجاب في ضوء الإسلام، المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، 1403ه - 1983م، ص284.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص13.

[3] سورة الأنعام، الآية 151.

[4] سورة الإسراء، الآية 33.

[5] في حالات الضرر والحرج تكون المسألة من صغريات قاعدتي نفي الضرر والحرج الحاكمة على أدلّة الأحكام الأوليّة. وسيأتي الكلام في بعض الحالات.

 

 

36


23

الدرس الثالث: إجهاض الجنين (1) (الحكم التكليفيّ)

فهاتان الآياتان بعمومهما يمكن الاستفادة منهما لإثبات المطلوب، باعتبار أنّ النفس التي حرّم قتلها في الآيتين تشمل الجنين أيضاً بعد ولوج الروح فيه.

 

الثاني: الاستدلال بالروايات الخاصّة الصريحة أو الظاهرة في حرمة إسقاط الجنين، والعمدة فيها روايتان شريفتان:

إحداهما: معتبرة إسحاق المرويّة في الفقيه، قلت لأبي الحسن عليه السلام: المرأة تخاف الحَبَل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها، قال: "لا، فقلت: إنّما هو نطفة، فقال: إنّ أوّل ما يخلق نطفة"[1].

 

ثانيهما: صحيح رفاعة المرويّ في الكافي: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أشتري الجارية فربّما احتبس طمثها من فساد دم أو ريح في رحم فتسقى دواء لذلك، فتطمث من يومها؟ فقال لي: "لا تفعل ذلك، فقلت له: إنّما ارتفع طمثها منها شهراً، ولو كان ذلك من حبل إنّما كان نطفة كنطفة الرجل الذي يعزل، فقال لي: إنّ النطفة إذا وقعت في الرحم تصير إلى علقة ثمّ إلى مضغة ثمّ إلى ما شاء الله، وإنّ النطفة إذا وقعت في غير الرحم لم يخلق منها شيء، فلا تسقها الدواء إذا ارتفع طمثها شهراً وجاز وقتها الذي كانت تطمث فيه"[2].

 

فقد نهى الإمام عليه السلام عن سقي الجارية الدواء لكي تطمث وتقذف النطفة من رحمها وإن كان ذلك في أوّل حملها.

 

كما أنّ مفهوم الشرط (إذا ارتفع) يقيّد إطلاق الحديث السابق ويخصّه بالنطفة المستقرّة.

 

ثمّ إنّ الحديث يدلّ على وجوب الاحتياط، وعدم إجراء استصحاب عدم الحبل كما هي القاعدة في كلّ ما شكّ في حدوثه، وهذا يحكي عن اهتمام الشارع بالنطفة.


 


[1] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج19، ص15.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص338،

 

 

37


24

الدرس الرابع: إجهاض الجنين (2) (الحكم الوضعيّ)

المفاهيم الرئيسة

1. يُعرّف الإجهاض أو الإسقاط في الطب بأنه خروج محتويات الحمل قبل الأسبوع الثامن والعشرين بعد آخر حيضة حاضتها المرأة.

2. مدلول الآيات أنّ مراحل الحمل أو الجنين في الرحم هي:

أ. كونه نطفة.

ب. ثمّ كونه علقة.

ج. ثمّ كونه مضغة.

د. ثمّ كونه عظاماً.

ه. ثمّ كسو العظام لحماً (أي كونه ذا عظام مستورة باللّحم).

و. إنشاؤه خلقاً آخر (أي نفخ فيه الروح فصار حيّاً بحياة إنسانيّة).

 

3. ولم يوقّت القرآن هذه الحالات المترتّبة بوقت معيّن، فإذا ثبت في علم الطب وعلم الأجنة ثبوتاً حسيّاً أو قطعيّاً تحديدها فالأخذ به لا ينافي القرآن كما هو واضح.

 

4. المشهور بين الفقهاء أن مراتب الجنين هي أنّه: أربعون يوماً نطفة، وأربعون يوماً علقة، وأربعون يوماً مضغة.

 

5. يحرم الإجهاض مطلقاً -قبل ولوج الروح أو بعده- ولم ينقل عن أحد من فقهاء الشيعة الخلاف في ذلك.

 

6. استُدلّ على الحرمة بالآيات الكريمة والروايات الشريفة، وذلك بوجهين:

الأوّل: الأدلّة العامّة التي دلّت على حرمة قتل النفس المحترمة ومن هذه الأدلّة:

قوله -تعالى-: ﴿وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾[1].


 


[1] سورة الأنعام، الآية 151.

 

 

38


25

الدرس الثالث: إجهاض الجنين (1) (الحكم التكليفيّ)

الثاني: الاستدلال بالروايات الخاصّة الصريحة أو الظاهرة في حرمة إسقاط الجنين، منها:

معتبرة إسحاق المرويّة في الفقيه، قلت لأبي الحسن عليه السلام: المرأة تخاف الحَبَل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها، قال: "لا، فقلتُ: إنّما هو نطفة، فقال: إنّ أوّل ما يخلق نطفة"[1].

 


[1] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج19، ص15.

 

39


26

الدرس الرابع: إجهاض الجنين (2) (الحكم الوضعيّ)

الدرس الرابع

إجهاض الجنين (2) (الحكم الوضعيّ)

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدّرس

1. يستدلّ على حكم إجهاض الجنين الذي لم تلجه الروح.

2. يدرك حكم إجهاض الجنين الذي ولجته الروح.

3. يتعرّف إلى حكم ما يُذكر كمبرّرات للإجهاض[1].

 

 


 


[1] تمّت الاستفادة في هذا الدرس من كتاب: محمد آصف المحسني، الفقه ومسائل طبيّة، مصدر سابق.

 

41


27

الدرس الخامس: عدّة من لا رحم لها

أوّلاً: الجنين الذي لم تلجه الروح

الدية

المشهور بين الفقهاء، أنّ الحمل إذا كان نطفة فديته عشرون ديناراً، وإن كان علقة فأربعون ديناراً، وإن كان مضغة فستون ديناراً، وإن نشأ العظم فثمانون ديناراً، وإن كُسي لحماً فمئة دينار.

 

وقد دلّت عليه عدّة روايات، منها، رواية سليمان بن صالح عن أبي عبد الله عليه السلام: "في النطفة عشرون ديناراً، وفي العلقة أربعون ديناراً، وفي المضغة ستون ديناراً، وفي العظم ثمانون ديناراً، فإذا كُسي اللحم فمِائة دينار، ثمّ هي ديته، حتّى يستهلّ فإذا استهلّ فالدية كاملة"[1].

 

وظاهر الروايات عدم الفرق بين الذكر والأنثى في الدية هنا - أي فيما لم تلجه الروح - ولم ينقل الخلاف فيه إلّا عن الشيخ[2] رحمه الله في مبسوطه[3].

 

هذا ولو كان الحمل زائداً على واحد، فلكلّ واحد ديته كما في الشرائع[4] وجواهر الكلام[5].


 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، باب دية الجنين، ج7، ص345.

[2] أي الشيخ الطوسي.

[3] انظر: محمد آصف المحسني، الفقه ومسائل طبيّة، مصدر سابق، ص70.

[4] انظر: المحقّق الحِلّي، الشيخ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن الهذلي، شرائع الإسلام، مع تعليقات السيد صادق الشيرازي، انتشارات استقلال - طهران، 1409ه، ط2، ج4، ص1045.

[5] انظر: النجفيّ، الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام، تحقيق وتعليق: الشيخ عباس القوچاني، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1365ش، ط2، ج43، ص363-364.

 

43


28

الدرس الرابع: إجهاض الجنين (2) (الحكم الوضعيّ)

وهل تتعلّق الدية بإتلاف الجنين في الأنبوبة؟ الأظهر تعلّقها به، إذا كان في مسيره إلى الكمال والإنسانيّة، وأمّا إذا لم يكن كذلك، وإنّما وضع فيها من أجل الاختبار العلميّ أو التلقيح وحسب فلا، كما يظهر من صحيح رفاعة[1]، فلاحظ وتأمّل.

 

كفارة القتل

لم يوجب الفقهاء كفّارة القتل على المجهض، لعدم صدق القاتل عليه بعد فرض عدم ولوج الروح في الجنين. لكنّ صاحب جواهر الكلام نقل في بحث كفّارة القتل عن تحرير العلّامة ثبوتها في قتل الجنين الذي لم تلجه الروح، وردّه بعدم صدق القتل على الإجهاض المذكور[2].

 

لكن قوّى بعض المؤلّفين في رسالته قول العلّامة بموثّقة طلحة بن زيد، عن الإمام الصادق عليه السلام في امرأة حبلى شربت دواء فأسقطت. قال: "تُكفّر عنه"[3].

 

ودليله: بأنّ الموثّقة مطلقَة تشمل ما ولجته الروح وما لم تلجه، ومجرّد عدم صدق القتل على الثاني لا يصلح مانعاً من الأخذ بالإطلاق.

 

على أنّه ورد في صحيحة أبي عبيدة عن الإمام الصادق عليه السلام، قوله: "وإن كان جنيناً علقة أو مضغة، فإنّ عليها أربعين ديناراً.. قلتُ: فهي لا ترث من ولدها من ديته؟ قال: لا، لأنّها قتلته"[4].


 


[1] قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أشتري الجارية فربّما احتبس طمثها من فساد دم أو ريح في رحم فتُسقى دواء لذلك، فتطمث من يومها؟ فقال لي: "لا تفعل ذلك، فقلتُ له: إنّما ارتفع طمثها منها شهراً، ولو كان ذلك من حبل إنّما كان نطفة كنطفة الرجل الذي يعزل، فقال لي: إنّ النطفة إذا وقعت في الرحم تصير إلى علقة ثمّ إلى مضغة ثمّ إلى ما شاء اللّه، وإنّ النطفة إذا وقعت في غير الرحم لم يُخلق منها شيء، فلا تسقها الدواء إذا ارتفع طمثها شهراً وجاز وقتها الذي كانت تطمث فيه". (الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج2، ص338).

[2] النجفي، الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام، مصدر سابق، ج43، ص408.

[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج22، ص374.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص344.

 

44


29

الدرس الرابع: إجهاض الجنين (2) (الحكم الوضعيّ)

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: إنّ طلحة غير موثوق فخبره غير معتبر.

 

ثانياً: إنّ إطلاق القتل في الرواية الأخيرة مجاز لا يسوغ قبوله في مورد لم تقم القرينة عليه. فقول العلّامة وهذا القائل ضعيف.

 

يقول السيِّد الخوئي رحمه الله في تضعيف القول المشهور: "إنّ الآيات والروايات الواردة في كفّارة القتل قد أُخذ في موضوعهما عنوان المؤمن والرجل، ومن المعلوم انصرافهما عن الجنين، بل يشكل الأمر بالإضافة إلى الصبي غير المميّز أيضاً إلّا أن يكون إجماع فيه، وهو غير بعيد"[1].

 

ثانياً: إجهاض الجنين الذي ولجته الروح

الدية

أمّا في إجهاض الجنين الذي ولجته الروح فتثبت فيه الدية كاملة للذكر ونصفها للأنثى في الحرّ المسلم بلا خلاف للنصوص.

 

القصاص

قال المحقّق في الشرائع: "ولو ضربها فألقته، فمات عند سقوطه، فالضارب قاتل يُقتل، إن كان عمداً"[2]. وقال صاحب جواهر الكلام في شرحه: "لتحقّق موضوع القصاص فيه، وهو إزهاق الروح المحترمة، سواء كانت مستقرّة أو لا"[3].

 

ويمكن أن يُستدلّ على ثبوت القصاص بقوله -تعالى-: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾[4]. وغيرها من الآيات.


 


[1] الخوئي، السيد أبو القاسم الموسوي، مباني تكملة المنهاج، لا.ن، لا.م، 1396، ط2، ج2، ص410.

[2] المحقق الحلي، شرائع الإسلام، مصدر سابق، ج4، ص1048.

[3] النجفي، الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام، مصدر سابق، ج43، ص381.

[4] سورة الإسراء، الآية 33.

 

 

45

 


30

الدرس الرابع: إجهاض الجنين (2) (الحكم الوضعيّ)

ويمكن أن تُذكر وجوهٌ لتقييد الأدلّة الدالّة على القصاص:

منها: صحيحة أبي بصير المرويّة في الكافي قال: سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن رجل قتل رجلاً مجنوناً، فقال: "إنْ كان المجنون أراده فدفعه عن نفسه فلا شيء عليه من قود ولا دية، ويُعطى ورثته ديته من بيت مال المسلمين، وقال: وإنْ كان قتله من غير أن يكون المجنون أراده، فلا قود لمن لا يُقاد منه، وأرى أنّ على قاتله الدية من ماله يدفعها إلى ورثة المجنون ويستغفر الله ويتوب إليه"[1].

 

فإنّ قوله: "فلا قود لمن لا يُقاد منه" مطلق يشمل الطفل فضلاً عن الجنين، كما استدلّ به السيِّد الخوئي رحمه الله على ما اختاره من عدم تشريع القصاص في المقام[2].

 

نعم، الجنين غير قابل لأن يُقاد منه ولفعل ما يوجب القود، فلا يبعد انصراف قوله: "لمن لا يُقاد منه" عنه، مع نقض الكليّة بالأعمى، فإنّه ممّن لا يُقاد منه عند السيِّد الخوئي وجماعة[3] وبالوالد بالنسبة إلى الابن، والحرّ بالنسبة إلى العبد، والمسلم بالنسبة إلى الكافر، ولعلّه لا مورد لإطلاق الرواية سوى الطفل. فالأحسن عدم التعدّي من المجنون إلى غيره وعدم الاعتماد على إطلاق الصحيحة.

 

ومنها: صحيحة عليّ بن رئاب أو أبي عبيدة، عن أبي عبد الله عليه السلام في امرأة شربت دواء وهي حامل لتطرح ولدها، فألقت ولدها؟ قال: "إن كان له عظم قد نبت عليه اللّحم وشقّ له السمع والبصر، قال: عليها دية تُسلّمها إلى أبيه"[4].

 

وشقّ السمع والبصر يدلّ على ولوج الروح فيه، كما يظهر من صحيح محمَّد بن مسلم[5].


 


[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج29، ص71.

[2] لاحظ: الخوئي، السيد أبو القاسم الموسوي، مباني تكملة المنهاج، مصدر سابق، ج2، ص71 و 471.

[3] المصدر نفسه، ج2، ص82.

[4] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج29، ص318.

[5] المصدر نفسه، ج29، ص314.

 

46


31

الدرس الرابع: إجهاض الجنين (2) (الحكم الوضعيّ)

فالحديث ظاهر في نفي القصاص عن الأم المجهضة التي لا فرق بينها وبين غيرها في الحكم.

 

ومثلها غيرها من الروايات الواردة في المقام، المقتصرة على الدية الساكتة عن القصاص.

 

على من تجب الدية؟

لو ألقت الأمّ حملها مباشرة أو تسبيباً فعليها دية ما ألقته، قيل: بلا خلاف ولا إشكال، ولا نصيب لها من هذه الدية بلا خلاف، ولا إشكال مع العمد[1].

 

ولو أفزعها مفزع فألقته، فالدية على المفزع بلا خلاف، ولا إشكال كما في جواهر الكلام[2].

 

ودية أعضاء الجنين وجراحاته بنسبة ديته، قيل: بلا خلاف يوجد[3].

 

ويرث دية الجنين من يرث المال منه - لو كان حيّاً مالكاً ثمّ مات - على ما ذكروه في كتاب الميراث[4].

 

مبرّرات الإجهاض

لا شكّ في بطلان جملة من المبرّرات المقبولة عند الغربيّين، وأنّها غير مشروعة ولا نُطيل المقام بذكرها، وإنّما نذكر ما يمكن أن يكون مبرّراً عندنا:

المبرّر الأوّل: الخطر على حياة الأم في فرض استمرار الحمل

ففي فرض عدم ولوج الروح لا إشكال عند بعض الفقهاء في جواز الإجهاض، بل في لزومه؛ لدوران الامر بين الأهمّ والمهمّ، ولزوم تقديم الأهمّ، كما قُرّر في البحث عن المرجّحات في باب التزاحم.


 


[1] انظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج43، ص374.

[2] انظر: المصدر نفسه، ج43، ص374.

[3] انظر: المصدر نفسه، ج43، ص375.

[4] انظر: المصدر نفسه، ج39، ص303.

 

47


32

الدرس الرابع: إجهاض الجنين (2) (الحكم الوضعيّ)

وأمّا الدية فقد يقال بلزوم أدائها عليها؛ لعدم ترتّبها على خصوص الإسقاط المحرّم.

 

أمّا بعد ولوج الروح فيه، ففيه بحث فقهي مطوّل، ملخّصه أنّه يجب إخراجه حيّاً (مع إمكان ذلك) إذا علم أنّ بقاءه في رحمها يوجب موته أو موت أمّه.

 

وأمّا إذا دار الأمر بين حفظ الولد وموت الأمّ وعكسه - لعدم إمكان التحفّظ على كليهما - ففيه إشكال، يقول صاحب جواهر الكلام رحمه الله: "وأمّا لو كانا معاً حيّين وخشي على كلٍّمنهما، فالظاهر الصبر إلى أن يقضي الله ولا ترجيح شرعاً[1]، والأمور الاعتبارية من غير دليل شرعي لا يلتفت إليها"[2]،[3].

 

المبرّر الثاني: إن كان في استمرار الحمل خطر على صحّة الأمّ

ففي هذا المورد ثمّة قول بجواز إسقاط الجنين الذي لم تلجه الروح بعد؛ لقاعدتي نفي الحرج والعسر، بل ولقاعدة نفي الضرر، وأمّا إذا ولجته الروح فلا تجري تلك القواعد في المقام؛ لأنّها امتنانية في حقّ جميع المكلّفين، فلا معنى لإجرائها لنفع بعض وضرر بعض آخر.

 

المبرّر الثالث: استلزام الحمل والولادة حرجاً شديداً للأم

وحكم هذا المورد ظهر من حكم المورد الثاني فلا نُعيد.

 

المبرّر الرابع: موت الجنين

لا شكّ في لزوم إخراج الجنين ولا دية فيه قطعاً، بل إذا تضرّرت الأمّ ببقائه لزم إخراجه في الجملة؛ كما أنّه يجوز إجهاض الحمل المسمّى بالعنقودي أو الحمل الحويصلي، فإنّه حمل ينتج عنه تكوين كتلة من الأنسجة على شكل حويصلات مائيّة تشبه عنقود العنب في مظهرها، ولا تكون جنيناً أو إنساناً سويّاً.


 


[1] لعدم الفرق بين النفسين من حيث كون كلٍّ منهما نفساً محترمة، فهما من هذه الجهة سواء. ولا يجوز قتل أحدهما لحفظ حياة الآخر.

[2] النجفي، الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام، مصدر سابق، ج4، ص378.

[3] أفتى السيِّد الخوئي رحمه الله أنّه يجوز للأمّ نفسها أن تقتل ولدها إذا أحرزت أن طفلها يقتلها، قال رحمه الله في صراط النجاة: "ويجوز للأم نفسها إذا أحرزت أن طفلها يقتلها إذا بقي في رحمها أن تقتل ولدها بشرب دواء، أو شيء آخر، ثم بعد موته يخرج منها بعمل جراحي، والله العالم" (الخوئي، السيد أبو القاسم الموسوي، صراط النجاة، تعليق: الميرزا جواد التبريزي، دفتر نشر برگزيده، إيران، 1416ه، ط1، ج3، ص395).

 

48


33

الدرس الرابع: إجهاض الجنين (2) (الحكم الوضعيّ)

المبرّر الخامس: كون الجنين مصاباً بمرض أو عاهة

كون الجنين مشوَّهاً ليس (بمجرّده) مجوّزاً شرعيّاً لإسقاطه حتّى قبل ولوج الروح فيه، نعم إذا كان بقاؤه في رحم الأمّ ضرريّاً على صحّتها أو حرجيّاً بحدٍّ لا يُتحمّل عادةً يمكن القول إنّه يجوز لها إٍسقاطه وذلك قبل ولوج الروح فيه.

 

وأمّا بعد ولوج الروح فلا يجوز إجهاضه قطعاً، لأنّه نفس محترمة فتشمله الآيات الناهية عن قتله.

 

المبرّر السادس: كون الجنين تكوّن عن علاقة غير شرعيّة

سواء كانت هذه العلاقة عن إكراه أو عن مطاوعة من المرأة فلا يجوز إسقاطه، وإذا فرض أنّ حمله أو ولادته يوجب حرجاً شديداً للأمّ:

1. فإن كان الزنا عن اختيارها فلا يجوز لها إجهاضه، لعدم جريان قاعدتي نفي الحرج ونفي الضرر في حقّها.

 

2. وإن كان عن إكراه فإن كان بعد نفخ الروح فيه فلا يجوز أيضاً، لما تقدّم، وإن كان قبله فيمكن القول بجوازه في الجملة[1]، والمسألة خلافيّة بين الفقهاء.


 


[1] لإمكان القول بجريان قاعدة نفي الحرج في هذه الحالة.

 

49


34

الدرس الرابع: إجهاض الجنين (2) (الحكم الوضعيّ)

المفاهيم الرئيسة

1 - أوّلاً: الجنين الذي لم تلجه الروح

أ. المشهور بين الفقهاء، أنّ الحمل إذا كان نطفة فديته عشرون ديناراً، وإن كان علقة فأربعون ديناراً، وإن كان مضغة فستون ديناراً، وإن نشأ العظم فثمانون ديناراً، وإن كُسي لحماً فمئة دينار.

 

ب. ظاهر الروايات عدم الفرق بين الذكر والأنثى في الدية - فيما لم تلجه الروح -.

 

ج. لم يوجب الفقهاء كفّارة القتل على المجهض؛ لعدم صدق القاتل عليه بعد فرض عدم ولوج الروح في الجنين.

 

2 - ثانياً: إجهاض الجنين الذي ولجته الروح

أ. إجهاض الجنين الذي ولجته الروح تثبت فيه الدية كاملة للذكر ونصفها للأنثى في الحرّ المسلم بلا خلاف للنصوص.

 

ب. قال المحقّق في الشرائع: "ولو ضربها فألقته، فمات عند سقوطه، فالضارب قاتل يُقتل إن كان عمداً". وقال صاحب جواهر الكلام في شرحه: "لتحقّق موضوع القصاص فيه، وهو إزهاق الروح المحترمة، سواء كانت مستقرّة أو لا".

 

3 - مبرّرات الإجهاض

المبرّر الأول: الخطر على حياة الأم في فرض استمرار الحمل.

المبرّر الثاني: إن كان في استمرار الحمل خطر على صحّة الأمّ.

المبرّر الثالث: استلزام الحمل والولادة حرجاً شديداً للأمّ.

المبرّر الرابع: موت الجنين.

 

أ. كون الجنين مشوَّهاً ليس (بمجرّده) مجوّزاً شرعيّاً لإسقاطه حتّى قبل ولوج الروح فيه، فتشمله الآيات الناهية عن قتله.

 

ب. كون الجنين تكوّن عن علاقة غير شرعيّة، لا يُجوّز إسقاطه بعد ولوج الروح.

 

50

 


35

الدرس الخامس: عدّة من لا رحم لها

الدرس الخامس

عدّة من لا رحم لها

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدّرس

1. يُعدّد آراء الفقهاء في المسألة.

2. يُعطي دليلاً على إلحاقها باليائسة.

3. يستدل بعنوان "التي لا تحيض مثلها" على حكم المسألة[1].


 


[1] تمّت الاستفادة في هذا الدرس من بحث الشيخ محمد المؤمن تحت عنوان "عدّة من لا رحم لها"، المجلة الفقهية، الرقم2.

 

52


36

الدرس الخامس: عدّة من لا رحم لها

تمهيد

إنّ التقدّم العلميّ الحديث اليوم توصّل إلى إمكان إزالة رحم المرأة عند ابتلائها بمرض يرجى زواله بذلك أو لدواع شخصيّة لها، وأن تعيش بعدها عيشة ترضاها، فيقع الكلام في أنّ المرأة إذا أزالت رحمها، فهل عليها - إذا كانت في سنّ من تحيض - الاعتداد بالأشهر إذا طلّقها زوجها أو هي بحكم اليائسة لا عدّة عليها، ويحلّ لها الزواج من حين الطلاق؟

 

المستفاد من كلمات الفقهاء

إنّ المسألة وإن كانت من مستحدثات المسائل إلّا أنّه لا بأس مع ذلك بالرجوع إلى كلمات الفقهاء لعلّه يستنبط منها ملاك الاعتداد عندهم، فنستفيد منها أدلّة لهذه المسألة.

 

إنّ المأثور عن الفقهاء في عدّة الطلاق لمن لا تحيض من النساء لصغر سنّها أو كبره قولان:

القول الأول: ذهب إليه السيِّد المرتضى[1] وأبو المكارم ابن زهرة[2]، حيث قالا بأنّ عليهما أيضاً الاعتداد إذا طلّقهما زوجهما.


 


[1] هو عليّ بن الحسين بن موسى المعروف بـ"السيِّد المرتضى" و"الشريف المرتضى" و"علم الهدى" (355هـ- 436هـ) من متكلّمي الإماميّة ومرجعهم بعد وفاة أستاذه الشيخ المفيد. وكان متعمّقاً في علم الكلام والمناظرة في كلّ مذهب، له العديد من المؤلّفات، منها: كتاب الانتصار في الفقه، كتاب الذريعة إلى أصول الشريعة في علم الأصول، وغيرهما من المصنّفات.

[2] هو السيِّد ابن زهرة الحلبيّ. وُلد ابن زهرة في شهر رمضان 511هـ في مدينة حلب. وكان من السادات الأشراف ويرجع نسبه إلى إسحاق بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام؛ ولذلك اشتهرت أسرته بالإسحاقيّين.

 

53


37

الدرس الخامس: عدّة من لا رحم لها

قال السيِّد المرتضى في الانتصار: مسألة: "... والذي أذهب أنا إليه أنّ على الآيسة من المحيض والتي لم تبلغه[1] العدّة على كلّ حال، من غير مراعاة الشرط الذي حكيناه عن أصحابنا. والذي يدلّ على صحّة هذا المذهب قوله -تعالى-: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾[2]. وهذا نصّ صريح في أنّ الآيسات من المحيض واللائي لم يبلغن[3] عدّتهن الأشهر على كلّ حال؛ لأنّ قوله -تعالى-: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ﴾ معناه: واللائي لم يحضن كذلك"[4]. ثمّ تصدّى لتبيين دلالة الآية وإبرام ما قيل على دلالتها من النقوض. فهو رحمه الله لا يرى أثراً لليأس من المحيض بل الآيسة وغيرها لديه سواء يجب عليهما الاعتداد بثلاثة أشهر.

 

وكلامه رحمه الله لا دليل فيه على نفي الاعتداد عمّن أزالت رحمها، بل إنّ حكمه بوجوب العدّة على الصغيرة واليائسة يقتضي أنّه لا يستثنى من المطلّقات أحد، ويجب عدّة الطلاق على جميع النساء، وتعمّ موضوع الكلام.

 

وقال ابن زهرة: "وإن كانت لا تحيض لصغر أو كبر وليس في سنها من تحيض، فقد اختلف أصحابنا في وجوب العدّة عليها، فمنهم من قال: لا تجب، ومنهم من قال: يجب أن تعتدّ بالشهور، وهو اختيار المرتضى رحمه الله وبه قال جميع المخالفين، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك"[5].

 

القول الثاني: لا عدّة عليهما، وذهب إليه مشهور الفقهاء.

 

قال ابن إدريس[6]- في باب العدد من السرائر -: "وإن كانت لا تحيض لصغر لم تبلغ

 


 


[1] أي لم تبلغ سنّ المحيض، وهي الصغيرة.

[2] سورة الطلاق، الآية 4.

[3] أي لم يبلغن سنّ المحيض.

[4] السيد المرتضى، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، الانتصار، تحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1415ه، لا.ط، ص335.

[5] ابن زهرة الحلبي، غنية النزوع، الشيخ إبراهيم البهادري، إشراف: جعفر السبحاني، مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام، 1417ه، ط1، ص382.

[6] هو أبو عبد الله محمّد العِجليّ الحلّيّ (543هـ- 598هـ)، من كبار فقهاء الإماميّة وذكره المترجمون بلقب (الحلّيّ) والمعروف عند الفقهاء بـ"صاحب السرائر".

 

54


38

الدرس الخامس: عدّة من لا رحم لها

تسع سنين أو لكبر بلغ خمسين سنة، مع تغيّر عادتها، وهما اللتان ليس في سنّهما من تحيض، فقد أختلف أصحابنا في وجوب العدّة عليهما، فمنهم من قال: لا تجب، ومنهم من قال: تجب أن تعتدّ بالشهور؛ وهي ثلاثة أشهر، وهو اختيار السيِّد المرتضى وبه قال جميع المخالفين..." إلى أن قال - بعد ذكر دليله كما في الانتصار -: "والقول الآخر أكثر وأظهر بين أصحابنا، وعليه يعمل العامل منهم، وبه يفتي المفتي، والروايات بذلك متظافرة متواترة، وهو مذهب شيخنا المفيد[1] وشيخنا أبي جعفر[2] في سائر كتبه. فأمّا الآية فلا تعلّق فيها بحال لا تصريحاً ولا تلويحاً؛ لأنّه -تعالى- شرط في إيجاب العدّة ثلاثة أشهر إن ارتابت، والريبة لا تكون إلّا فيمن تحيض مثلها، فأمّا من لا تحيض مثلها فلا ريبة عليها، فلا يتناولها الشرط المؤثّر"[3].

 

فتراه  رحمه الله قد استدلّ في مقام ردّ قول السيِّد بوجوب العدّة على الآيسة والصغيرة بأنّ شرط إيجاب العدّة هو ارتياب الحمل أو الحيض، والريبة لا تكون فيهما، فلا عدّة عليهما، ففيه دلالة واضحة على عدم ثبوت العدّة على من لا تحيض لإزالة رحمها.

 

وقال الشيخ الطوسيّ رحمه الله في كتاب العدّة من الخلاف-: "مسألة 1: الأظهر من روايات أصحابنا أنّ التي لم تحض، ومثلها لا تحيض والآيسة من المحيض، ومثلها لا تحيض لا عدّة عليهما من طلاق، وإن كانت مدخولًا بها. وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وقالوا: يجب عليهما العدّة بالشهور. وبه قال قوم من أصحابنا.


 


[1] هو محمّد بن محمّد بن النعمان بن عبد السلام الحارثيّ، أبو عبد اللَّه العكبريّ، البغداديّ، المعروف بابن المعلّم، ثمّ اشتهر بـ"المفيد". وُلد في سنة 336 وقيل: 338ه، كان تلميذ الشيخ الصدوق، وأستاذ السيِّدين الرضيّ والمرتضى وكذلك الشيخ الطوسيّ. للشيخ المفيد العديد من المصنّفات، وفي شتّى العلوم، نذكر منها: كتاب المقنعة في الفقه، كتاب الفرائض الشرعيّة، وكتاب التذكرة في أصول الفقه...

[2] المراد به شيخ الطائفة الشيخ الطوسي

[3] ابن إدريس الحلي، الشيخ الفقيه أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، لجنة التحقيق في تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1410ه، ط2، ج2، ص732-734.

 

55


39

الدرس الخامس: عدّة من لا رحم لها

دليلنا روايات أصحابنا وأخبارهم وقد ذكرناها، وأيضاً قوله -تعالى-: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾[1] فشرط في إيجاب العدّة ثلاثة أشهر إن ارتابت، والريبة لا تكون إلّا في مَن تحيض مثلها، وأمّا من لا تحيض مثلها فلا ريبة عليها"[2].

 

المتحصّل من كلماتهم

فالمتحصّل من كلمات الفقهاء: أنّ السيِّدين[3] لم يُفرّقا في ثبوت عدّة الطلاق بين أقسام النساء وأوجباها حتّى على اليائسة والصغيرة، وأمّا غيرهما من الفقهاء فقد نفوها عنهما، وعباراتهم في التعبير عن اليائسة مختلفة، فربّما عبّروا عنها بمن يئست من المحيض وليست في سنّها من تحيض، وهم الأكثر، كما في المقنعة[4] والسرائر والمهذب[5] والمراسم[6] بل والشرائع[7] والنافع[8] والقواعد[9] والإرشاد[10]، وربّما عبّروا عنها بمن يئست عن المحيض ومثلها لا تحيض، كما في عبارة الصدوق في المقنع[11] والشيخ


 


[1] سورة الطلاق، الآية 4.

[2] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، الخلاف، تحقيق: جماعة من المحققين، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1407ه، لا.ط، ج3، ص50 كتاب العدّة، المسألة 1.

[3] المرتضى وابن زهرة.

[4] انظر: المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، المقنعة، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1410ه، ط2، ص533.

[5] انظر: القاضي ابن البراج، عبد العزيز بن البراج الطرابلسي، المهذب، إعداد مؤسسة سيد الشهداء العلمية / إشراف: جعفر السبحاني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1406ه، لا.ط، ج2، ص286.

[6] انظر: الشيخ حمزة بن عبد العزيز الديلمي، المراسم العلوية في الأحكام النبوية، السيد محسن الحسيني الأميني، المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام، 1414ه، لا.ط، ص167.

[7] انظر: المحقّق الحلّيّ، شرائع الإسلام، مصدر سابق، ج3، ص599.

[8] انظر: المحقق الحلي، الشيخ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن الهذلي، المختصر النافع، قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة - طهران، 1402هـ- 1410ه، ط2، ص200.

[9] انظر: العلامة الحلي، أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي، قواعد الأحكام، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1413ه، ط1، ج3، ص139 وما بعدها.

[10] انظر: العلامة الحلي، أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي، إرشاد الأذهان، الشيخ فارس حسون، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1410ه، ط1، ج2، ص47 وما بعدها.

[11] انظر: الصدوق، الشيخ محمد بن علي، المقنع، تحقيق: لجنة التحقيق التابعة لمؤسسة الإمام الهادي عليه السلام، مؤسسة الإمام الهادي عليه السلام، 1415ه، لا.ط، ص345.

 

56


40

المقدّمة

في كتبه الثلاثة[1] وابن حمزة[2] في الوسيلة[3] والحلبي[4] في الكافي[5].

 

ولا يبعد إمكان دعوى عموم التعبير الثاني (يئست من المحيض ومثلها لا تحيض) لما نحن فيه، فإنّ من أزيل رحمها يائسة عن المحيض، ومثلها لا تحيض، ولازمه عموم حكمهم بانتفاء العدّة لها، إلّا أنّ الإنصاف انصرافها إلى متعارف ذلك الزمان من كون منشأ اليأس الكبر والطعن في السنّ، فيتّحد التعبيران، ولا يعمّ شيء منهما لما نحن فيه، نعم في كليهما إشعار بأنّ سرّ انتفاء العدّة عنهما إنّما هو عدم إمكان الحيض والحمل، وهو بعينه موجود في ما نحن فيه، ولازمه أن ينتفي حكم وجوب الاعتداد عن موضوع بحثنا أيضاً، فالمسألة محلّ خلاف[6].

 

الدليل على إلحاق من لا رحم لها بحكم اليائسة والصغيرة

يمكن الاستدلال لإلحاق "من لا رحم لها" بحكم اليائسة والصغيرة بمجموعة من الأخبار:

- فمنها: ما عن الكافي والتهذيبين بإسناد صحيح عن صفوان عن محمّد بن حكيم عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: "التي لا تحبل مثلها لا عدّة عليها"[7].

 

والكلام فيه إمّا في السند، وإمّا في الدلالة:


 


[1] انظر: الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، مصدر سابق، ج7، ص469.

[2] هو الشيخ الفقيه المتكلّم الأمين أبو جعفر الرابع عماد الدين محمّد بن عليّ الطوسيّ المشهديّ، المشتهر بالعماد الطوسيّ المشهديّ، والمكنَّى عند فقهائنا بـ(ابن حمزة) المتوفي في حدود 550هـ.

[3] انظر: كتاب ابن حمزة الطوسي، الوسيلة، تحقيق: الشيخ محمد الحسون / إشراف: السيد محمود المرعشي، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، 1408ه، ط1، ص325.

[4] هو تقي أو تقي الدين بن نجم أو نجم الدين بن عبيد الله بن عبد الله بن محمّد الحلبي، وكنيته أبو الصلاح. ومن قال: (تقي بن نجم بن عبد الله) فلعلّه قد نسبه إلى جدّه. ولد سنة 374هـ في حلب، وتوفي بها سنة 447هـ. قال عنه الشيخ الطوسي: تقي بن نجم الحلبي ثقة [عدل] له كتب قرأ علينا وعلى المرتضى، له كتاب البداية في الفقه، الكافي في الفقه.

[5] انظر: أبو الصلاح الحلبي، الكافي في الفقه، رضا أستادي، مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي (ع) العامة - أصفهان، لا.ت، لا.ط،ص312.

[6] تجدر الملاحظة إلى أنّ أحدا من الفقهاء لم يذهب إلى عدم وجوب الاعتداد على المرأة التي يمكنها استعلام حالها بكونها خليّة من الحمل، ممّا قد يفهم منه أن عدم إمكان الحمل ليس هو تمام العلّة لوجوب الاعتداد على المرأة. (الاعداد)

[7] الحر العاملي،وسائل الشيعة، مصدر سابق،ج22، ص182، باب 3 من أبواب العِدد، ح2.

 

57


41

الدرس الخامس: عدّة من لا رحم لها

أمّا سنده، فليس فيه أحد يُتأمّل في وثاقته، إلّا محمّد بن حكيم، فإنّه وإن سلّم أنّه الخثعمي إلّا أنّه مع ذلك لم يُنصّ على توثيقه؛ إذ لم يرد في محمّد بن حكيم أزيد من "أنّ أبا الحسن عليه السلام كان يأمره أن يُجالس أهل المدينة في مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأنّ يُكلّمهم ويُخاصمهم، حتّى كلّمهم في صاحب القبر، فكان إذا انصرف إليه، قال له: ما قلتَ لهم؟ وما قالوا لك؟ ويرضى بذلك منه"[1]. وهذا الارتضاء لا يدلّ على أنّه كان ثقة في الحديث، صحيح أنّه قد روى الحديث عنه صفوان الذي لا ريب في أنّه صفوان بن يحيى، وهو من الثلاثة الذين ذكر الشيخ في العدّة (أنّهم من الثقات الذين عُرفِوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عمّن يوثق به)[2]، مضافاً إلى أنّه من أصحاب الإجماع، من الستّة الثالثة، فبناءً على الأخذ بظاهر كلام الشيخ -كما ليس ذلك بالبعيد- يكون سند الرواية معتبراً، واللّٰه العالم.

 

وأمّا دلالته، فقد حكم بأنّه لا عدّة على "التي لا تحبل مثلها" فجعل موضوع حكم انتفاء العدّة أن تكون المرأة داخلة تحت عنوان "التي لا تحبل مثلها" فيعمّ ما نحن فيه، ويقتضي أن لا يكون عدّة على من أزيل رحمها.

 

وتوضيحه: إنّ عدم حمل امرأة تارة يحتمل فيه أن يكون لخصوصيّة شخصيّة عارضة ربّما ترتفع بمرور الزمن فيحتمل ارتفاعها كلّ آن، فعدم الحمل والحبل، إذا كان من هذا القبيل فلا أثر له في انتفاء العدّة، وتارة أخرى يكون مستنداً إلى جهة واضحة توجب أن لا تحمل كلّ امرأة وجدت فيها هذه الجهة، ويصحّ أن يقال: إنّ هذه المرأة لا تحمل مثلها، فهذه هي موضوع الحكم في الحديث، فحينئذٍ هذه المرأة ومثلها إذا طلّقت فلا عدّة عليها.

 

وهذا كما يجري في الصغيرة التي لم تبلغ، والعجوز التي جازت سنّ المحيض، فهو

 

 


 


[1] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، تصحيح وتعليق: مير داماد الأسترابادي، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لا.م، 1404، لا.ط، ج2، ص746، الرقم 844.

[2] الخوئي، السيد أبو القاسم الموسوي، معجم رجال الحديث، لا.ن، لا.م، 1413ه- 1992م، ط5، ج1، ص63.

 

 

58


42

الدرس الخامس: عدّة من لا رحم لها

كذلك في المرأة التي أُزيل رحمها من رأس، فهي أيضاً داخلة تحت عموم الموضوع فيعمّها الحكم بلا إشكال.

 

وانحصار مصداق الموضوع في مثل زمان صدور الحديث بخصوص القسمين الأوّلين لا يوجب انحصار مفهومه فيهما، بل يعمّ جميع ما كان داخلًا تحت العموم، ولا سيّما أنّ تعليق الحكم المذكور على هذا العنوان فيه إشعار قويّ[1] بأنّ تمام الملاك لانتفاء العدّة إنّما هو أنّها لا تحبل، وهو موجود قطعاً في موضوع البحث، كما لا يخفى. وبالجملة، فقد ذهب بعضهم إلى دلالة الحديث على عدم وجوب العدّة على المرأة التي أزالت رحمها.

 

- ومنها: صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "سألته عن التي قد يئست من المحيض والتي لا تحيض مثلها، قال: ليس عليها عدّة"[2].

 

بيان الاستدلال:

إنّ تمام موضوع السؤال هو عنوان "التي لا تحيض مثلها"، وهي شاملة لمن أُزيل رحمها، فإنّ الرحم مبدأ دم الحيض، فالمرأة التي أُزيل رحمها لا تحيض مثلها، فلا محالة يحكم عليها بأنّها لا عدّة عليها.

 

فإن قيل: إنّ هذا العنوان المطلق قد وقع في كلام السائل، وحيث إنّ إزالة الرحم أمر حادث اقتضته التطوّرات العلميّة الحديثة، فلا محالة كان مصداقه في ذلك الزمان منحصراً في الصغيرة التي لم تبلغ سنّ الحيض، ولذا كان ذكره في لسان السائل منصرفاً إلى خصوص الصغيرة، فلا ينعقد له في كلام السائل إطلاق عامّ لما نحن فيه، والإمام عليه السلام جعل ما ذكره عليه السلام السائل موضوعاً لحكمه، فيختصّ الحكم المذكور في كلامه ر أيضاً بخصوص الصغيرة.

 

فالجواب: يمكن أن يقال: إنّ التعرّض لانتفاء الحيض عن المطلّقة في كلام السائل يشير إلى أنّ في ذهنه ارتباطاً بين التحيّض والاعتداد.


 


[1] من الممكن المناقشة في أصل هذا الإشعار أولاً، وفي حجيّته ثانياً. (الاعداد)

[2] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج22، ص177، باب 2 من أبواب العِدد، ح1.

 

 

59

 


43

الدرس الخامس: عدّة من لا رحم لها

ولعلّه نشأ ممّا سمعه عنهم عليهم السلام من قولهم: "العدّة من الماء"[1] وقولهم: "أما عدّة المطلّقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحم من الولد"[2]. فارتكز في ذهن هذا الفقيه العظيم - الذي أجمعت العصابة على تصحيح ما صحّ عنه - أنّ الاعتداد إنّما هو لمكان الاطمئنان إلى عدم الحبل، فإذا كانت المرأة لا تحيض فهذا الاطمئنان حاصل بنفسه، فلا حاجة إلى الاعتداد، فلأجل هذا الارتكاز قام بصدد السؤال ليطمئنّ قلبه بما ارتكز عليه ذهنه.

 

وعليه، فتمام الموضوع عنده هي التي لا تحيض مثلها، وخصوصية عدم بلوغ سنّ الحيض أو الخروج عنه لا أثر لها عنده، فإذا أجيب بقوله عليه السلام: "ليس عليها عدّة" فُهِمَ أنّ تمام الموضوع لعدم الاعتداد هو ما ارتكز عليه ذهنه، فإذا حدث له مصداق آخر بمقتضى التقدّم العلميّ الحديث، لما كان ريب في محكوميّته أيضاً بحكم ذينك المصداقين الطبيعيّين.

 

وعليه؛ فلو بنيّنا تماميّة ما تقدّم لثبت عدم وجوب الاعتداد على من أزالت رحمها من النساء كما كان الأمر كذلك في الصغيرة التي لم تبلغ سنّ المحيض والكبيرة التي جازت سنّه، وإلّا فلا. والمسألة خلافيّة لا بدّ لكلّ مكلّف من الرجوع فيها إلى فتوى مرجعه في التقليد.


 


[1] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج22، ص254، باب 38 من أبواب العِدد، ح2.

[2] المصدر نفسه، ج22، ص236، باب 30 من أبواب العِدد، ح2.

 

60


44

المقدّمة

المفاهيم الرئيسة

1. المأثور عن الفقهاء في عدّة الطلاق لمن لا تحيض من النساء لصغر سنّها أو كبره قولان:

القول الأول: أنّ عليهما الاعتداد إذا طلّقهما زوجهما.

القول الثاني: لا عدّة عليهما، وذهب إليه مشهور الفقهاء.

 

2. يمكن الاستدلال على إلحاق من لا رحم لها بحكم اليائسة والصغيرة بمجموعة من الأخبار:

- منها ما عن الكافي والتهذيبين بإسناد صحيح عن صفوان عن محمّد بن حكيم عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: "التي لا تحبل مثلها لا عدّة عليها"[1].

 

•         أمّا سنده، فليس فيه أحد يُتأمّل في وثاقته.

•         وأمّا دلالته، فقد حكم بأنّه لا عدّة على "التي لا تحبل مثلها" فجعل موضوع حكم انتفاء العدّة أن تكون المرأة داخلة تحت عنوان: "التي لا تحبل مثلها" فيعمّ ما نحن فيه.

 

- ومنها صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "سألته عن التي قد يئست من المحيض، والتي لا تحيض مثلها، قال: ليس عليها عدّة"[2].

 

فإنّ تمام موضوع السؤال هو عنوان "التي لا تحيض مثلها"، وهي شاملة لمن أزيل رحمها، فإنّ الرحم مبدأ دم الحيض، فالمرأة التي أزيل رحمها لا تحيض مثلها، فلا محالة يحكم عليها بأنّها لا عدّة عليها، والمسألة خلافية.

 


 


[1] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج22، ص182، باب 3 من أبواب العِدد، ح2؛ وباب 33 من أقسام الطلاق، ح1.

[2] المصدر نفسه، ج22، ص177، باب 2 من أبواب العِدد، ح1.

 

61


45

الدرس السادس: ميراث الزوجة من العقار

الدرس السادس

ميراث الزوجة

من العقار (1)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدّرس

1. يتعرّف إلى أقوال الفقهاء في مسألة ميراث الزوجة من الأرض والعقار.

2. يناقش الروايات الظاهرة في حرمان الزوجة من إرث العقار.

3. يذكر دليلاً على التفصيل في إرث الزوجة[1].

 


[1] تمّت الاستفادة في هذا الدرس من كتاب: مجموعة من الفقهاء والباحثين، قراءات فقهيّة معاصرة في معطيات الطبّ الحديث، الغدير للدراسات والنشر، 2002م.

 

63


46

الدرس السادس: ميراث الزوجة من العقار

الدرس السادس

ميراث الزوجة

من العقار (1)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدّرس

1. يتعرّف إلى أقوال الفقهاء في مسألة ميراث الزوجة من الأرض والعقار.

2. يناقش الروايات الظاهرة في حرمان الزوجة من إرث العقار.

3. يذكر دليلاً على التفصيل في إرث الزوجة[1].

 


[1] تمّت الاستفادة في هذا الدرس من كتاب: مجموعة من الفقهاء والباحثين، قراءات فقهيّة معاصرة في معطيات الطبّ الحديث، الغدير للدراسات والنشر، 2002م.

 

63


46

الدرس السادس: ميراث الزوجة من العقار

تمهيد

المعروف بين فقهائنا بل ادّعي أنّه ممّا أجمعت عليه الطائفة أنّ الزوجة لا ترث من العقار وأرض الرباع -وهو المساكن والدور- شيئاً لا عيناً ولا قيمة، وإنّما ترث من قيمة الآلات والأنقاض والأبنية التي عليها. وأضاف بعضهم القرى والضياع إلى ذلك، فلا ترث من الأراضي شيئاً، وإنّما ترث من قيمة الشجر والقصب والبناء.

 

الأقوال في المسألة

الأقوال في المسألة عديدة، ونحن سنقتصر على ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: عدم توريثها من الأرض مطلقاً لا عيناً ولا قيمة، ولكن تورّث من قيمة البناء إذا لم يكن لها ولد منه، وإلّا ورثت من الأعيان جميعاً، وهو صريح الشيخ الطوسي وأتباعه، بل هو المشهور بعد الشيخ.

 

قال الشيخ في النهاية: "والمرأة لا ترث من زوجها من الأرضين والقرى والرباع[1] من الدور والمنازل، بل يقوّم الطوب والخشب وغير ذلك من الآلات وتُعطى حصتها منه، ولا تُعطى من الأرض نفسها شيئاً. وقال بعض أصحابنا: إنّ هذا الحكم مخصوص بالدور والمنازل دون الأرضين والبساتين، والأوّل أكثر في الروايات وأظهر في المذهب، وهذا الحكم الذي ذكرناه إنّما يكون إذا لم يكن للمرأة ولد من الميت، فإن كان لها منه ولد أُعطيت حقّها من جميع ما ذكرناه من الضياع والعقار والدور والمساكن"[2].


 


[1] الرباع: جمع ربع، وهي المنازل ودور الإقامة والسكن. (المصطلحات، مركز المعجم الفقهي، لا.ط، ص1145).

[2] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، انتشارات قدس محمدي، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص642.

 

 

65


47

الدرس السادس: ميراث الزوجة من العقار

وقال المحقّق الحلّي في الشرائع: "إذا كان للزوجة من الميت ولد ورثت من جميع ما ترك، ولو لم يكن لم ترث من الأرض شيئاً، وأُعطيت حصّتها من قيمة الآلات والأبنية، وقيل: لا تُمنع إلّا من الدور والمساكن، وخرّج المرتضى رحمه الله قولًا ثالثاً: وهو تقويم الأرض وتسليم حصتها من القيمة. والقول الأوّل أظهر"[1].

 

القول الثاني: الحكم بحرمانها من الأرضين مطلقاً، وهو الأشهر بين متأخّري المتأخّرين.

 

وأوّل من ذهب إلى عدم التفصيل من القدماء ابن إدريس في السرائر، إلّا أنّه وافق الشيخ المفيد في اختصاص الحرمان بالرباع والمنازل دون مطلق الأرضين، قال: "فأمّا إذا كان لها منه ولد أُعطيت سهمها من نفس جميع ذلك على قول بعض أصحابنا، وهو اختيار محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه تمسّكاً منه برواية شاذّة وخبر واحد، لا يوجب علماً ولا عملًا، وإلى هذا القول ذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته إلّا أنّه رجع عنه في استبصاره، وهو الذي يقوى عندي -أعني ما اختاره في استبصاره- لأنّ التخصيص يحتاج إلى أدلّة قويّة وأحكام شرعيّة، والإجماع على أنّها لا ترث من تربة الرباع نفسها والمنازل شيئاً سواء كان لها من الزوج ولد أو لم يكن، وهو ظاهر قول شيخنا المفيد في مقنعته والسيِّد المرتضى في انتصاره"[2].

 

القول الثالث: توريثها من قيمة الرباع والأبنية فيها جميعاً، ومن أعيان الأموال الأخرى حتّى الضياع والقرى، وهذا ما ذهب إليه السيِّد المرتضى في الانتصار قال: "مسألة: وممّا انفردت به الإمامية أنّ الزوجة لا ترث من رباع المتوفّى شيئاً، بل تُعطى بقيمته حقّها من البناء والآلات دون قيمة العراص[3]. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، ولم يُفرّقوا بين الرباع وغيرها في تعلّق حقّ الزوجات.


 


[1] المحقّق الحلّي، الشيخ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن الهذلي، شرائع الإسلام، مصدر سابق، ج4، ص835.

[2] ابن إدريس الحلي، السرائر، مصدر سابق، ج3، ص259.

[3] وهي كل موضع واسع لا بناء فيه (ابن الأثير، المبارك بن محمد، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناجي، مؤسسة إسماعيليان، إيران - قم، 1364ش، ط4، ج3، ص208).

 

66


48

الدرس السادس: ميراث الزوجة من العقار

ويمكن أن يكون الوجه في صدّ الزوجة عن الرباع أنّها ربّما تزوّجت وأسكنت هذه الرباع من كان ينافس المتوفّى أو يغبطه أو يحسده فيثقل ذلك على أهله وعشيرته فعدل بها عن ذلك على أجمل الوجوه"[1].

 

الأدلّة على المسألة

أمّا الآيات القرآنيّة، فقوله–تعالى-: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾[2].

 

فإن ما يقتضيه ظاهر الآية الكريمة عدم حرمان الزوجة من العقار، وأنّها ترث الربع أو الثمن من تمام تركة الزوج.

إلّا أنّه ورد في قبال ذلك مجموعة من الروايات -وفيها الصحاح- تدلّ على حرمانها من العقار على اختلاف في ألسنتها كما سيأتي، كما أنّ جملة منها دلّت على حرمانها من إرث البناء أيضاً عيناً، وإنّما ترث من قيمته. وقد جمعها صاحب الوسائل ضمن سبع عشرة رواية[3] باختلاف الطرق إلى بعض من رووا هذه الأحاديث عن المعصومين عليهم السلام، وإلّا فالمرويّ عنهم عليهم السلام مباشرة ليس بهذا المقدار.

 

وهي بحسب اختلاف دلالتها يمكن تقسيمها إلى طوائف، منها:

1. ما ظاهره حرمان الزوجة من إرث العقار والأراضي مطلقاً من دون تعرّض لكيفيّة إرثها من البناء، وهي عدّة روايات:

أ. ما رواه الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن محمّد بن حمران، عن زرارة، عن محمّد بن مسلم (وفي نسخة مخطوطة

 


 


[1] انظر: السيّد المرتضى، الانتصار، مصدر سابق، ص585.

[2] سورة النساء، الآية 12.

[3] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج26، ص205-212.

 

67


49

الدرس السادس: ميراث الزوجة من العقار

ومحمّد بن مسلم) عن أبي جعفر عليه السلام، قال: "النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً"[1].

 

ب. وعن الكليني أيضاً عن حميد بن زياد، عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن عمّه جعفر بن سماعة، عن مثنّى، عن عبد الملك بن أعين، عن أحدهما عليهما السلام قال: "ليس للنساء من الدُور والعقار شيء"[2].

 

2. ما ظاهره حرمان الزوجة من إرث العقار والضياع وإرثها من نفس البناء:

أ. ما ينقله الشيخ في التهذيب والاستبصار باسناده عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن محمّد بن زياد، عن محمّد بن حمران، عن محمّد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر عليه السلام: "إنّ النساء لا يرثن من الدور ولا من الضياع شيئاً، إلّا أن يكون أحدث بناءً فيرثن ذلك البناء"[3].

 

وظاهره الأوّلي الإرث من نفس البناء عيناً، لا قيمة فحسب.

 

ب. ما ينقله الكليني باسناده عن سهل -وأضاف في الوسائل وعن محمّد عن أحمد- عن عليّ بن الحكم، عن علاء، عن محمّد بن مسلم، قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: "ترث المرأة الطوب (وفي نسخ الكافي من الطوب)، ولا ترث من الرباع شيئاً، قال: قلت: كيف ترث من الفرع ولا ترث من الرباع (وفي نسخ الكافي من الأصل) شيئاً؟! فقال: (وفي نسخ الكافي فقال ليليس لها منه وفي الكافي منهم) نسب ترث به، وإنّما هي دخيل عليهم، فترث من الفرع ولا ترث من الأصل، ولا يدخل عليهم داخل بسببها"[4].


 


[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ص207، ب 6 من ميراث الأزواج، ح4.

[2] الشيخ الكليني،الكافي، مصدر سابق، ج7، ص129، ح9.

[3] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1364ش، ط3، ج9، ص300، ح1073. الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، الاستبصار، تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلامية - طهران، 1363ش، ط4، ج4، ص153، ح579.

[4] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص129، ح5. الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج26، ص206، ب 6 من ميراث الأزواج، ح2.

 

68


50

الدرس السادس: ميراث الزوجة من العقار

3. ما دلّ على التفصيل في إرث الزوجة:

فلا ترث من الدور والعقار والأراضي، ولكن ترث من قيمة البناء والآلات -وهي أكثر الروايات الواردة في الباب- وألسنة هذه الطائفة مختلفة أيضاً، فبعضها خصّت الحكم بالرباع -وهي المنازل- وأرض الدور، وبعضها أطلقت العقار بناءً على شموله لكلّ أرض أو الأرض، وبعضها صرّحت بالقرى أيضاً، كما أنّه تقدّم في خبر زرارة ومحمّد بن مسلم في الطائفة السابقة التصريح بالضياع أيضاً وأنّ المرأة لا ترث منها، وفي بعضها صرّح بحرمان الزوجة من السلاح والدوابّ أيضاً، وهو غير محتمل فقهياً، كما أنّه ورد في ذيل بعضها تعليل هذا الحكم بأنّ ذلك "لئلّا يتزوّجن فيفسدن على أهل المواريث مواريثهم"[1].

 

وفي قِبال ذلك هناك طائفتان من الروايات معارضة لها ودالّة على عدم الحرمان:

إحداهما: الروايات الكثيرة، وفيها الصحيحة الدالّة بإطلاقها أو عمومها على إرث الزوجة الثمن أو الربع من تمام التركة من دون تفصيل بين العقار وغيره.

 

إلّا أنّ هذه الروايات حيث إنّ دلالتها بالإطلاق أو العموم، بخلاف الروايات الدالّة على الحرمان؛ فإنّها مفصّلة وواردة في خصوص إرث العقار والدور، فقد جمع الأصحاب بينهما بالتخصيص، كما هو مقتضى الصناعة والجمع العرفي في أشباه ذلك.

 

الثانية: ما دلّ على عدم حرمان الزوجة مطلقاً، أو في خصوص ذات الولد من الزوج في خصوص العقار، وأنّها ترث منه وهو يتمثّل في خبرين:

الأول: صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألتُه عن الرجل هل يرث من دار امرأته أو أرضها من التربة شيئاً، أو يكون في ذلك بمنزلة المرأة فلا يرث من ذلك شيئاً؟ فقال: "يرثها وترثه من كلّ شيء ترك وتركت"[2].

 


[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج26، ص208، ب 6 من ميراث الأزواج، ح7.

[2] المصدر نفسه، ج26، ص212-213، ب 7 من ميراث الأزواج، ح1.

 

68


51

الدرس السادس: ميراث الزوجة من العقار

3. ما دلّ على التفصيل في إرث الزوجة:

فلا ترث من الدور والعقار والأراضي، ولكن ترث من قيمة البناء والآلات -وهي أكثر الروايات الواردة في الباب- وألسنة هذه الطائفة مختلفة أيضاً، فبعضها خصّت الحكم بالرباع -وهي المنازل- وأرض الدور، وبعضها أطلقت العقار بناءً على شموله لكلّ أرض أو الأرض، وبعضها صرّحت بالقرى أيضاً، كما أنّه تقدّم في خبر زرارة ومحمّد بن مسلم في الطائفة السابقة التصريح بالضياع أيضاً وأنّ المرأة لا ترث منها، وفي بعضها صرّح بحرمان الزوجة من السلاح والدوابّ أيضاً، وهو غير محتمل فقهياً، كما أنّه ورد في ذيل بعضها تعليل هذا الحكم بأنّ ذلك "لئلّا يتزوّجن فيفسدن على أهل المواريث مواريثهم"[1].

 

وفي قِبال ذلك هناك طائفتان من الروايات معارضة لها ودالّة على عدم الحرمان:

إحداهما: الروايات الكثيرة، وفيها الصحيحة الدالّة بإطلاقها أو عمومها على إرث الزوجة الثمن أو الربع من تمام التركة من دون تفصيل بين العقار وغيره.

 

إلّا أنّ هذه الروايات حيث إنّ دلالتها بالإطلاق أو العموم، بخلاف الروايات الدالّة على الحرمان؛ فإنّها مفصّلة وواردة في خصوص إرث العقار والدور، فقد جمع الأصحاب بينهما بالتخصيص، كما هو مقتضى الصناعة والجمع العرفي في أشباه ذلك.

 

الثانية: ما دلّ على عدم حرمان الزوجة مطلقاً، أو في خصوص ذات الولد من الزوج في خصوص العقار، وأنّها ترث منه وهو يتمثّل في خبرين:

الأول: صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألتُه عن الرجل هل يرث من دار امرأته أو أرضها من التربة شيئاً، أو يكون في ذلك بمنزلة المرأة فلا يرث من ذلك شيئاً؟ فقال: "يرثها وترثه من كلّ شيء ترك وتركت"[2].

 


[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج26، ص208، ب 6 من ميراث الأزواج، ح7.

[2] المصدر نفسه، ج26، ص212-213، ب 7 من ميراث الأزواج، ح1.

 

69


52

الدرس السادس: ميراث الزوجة من العقار

والرواية وإن كانت واردة في إرث الزوج، إلّا أنّه يمكن أن يُستفاد منها حكم إرث الزوجة؛ لأنّ السؤال فيها، وإن كان ابتداءً عن إرث الزوج لعقار زوجته، إلّا أنّه حيث كان من المركوز في ذهن السائل حرمان الزوجة من إرث العقار، صاغ سؤاله عن إرث الزوج للعقار بلسان القياس على عدم إرث الزوجة للعقار، فقال: هل يرث الزوج من التربة شيئاً أو لا يرث كما لا ترث الزوجة، لكونهما بمنزلة واحدة، فجاء الجواب مصرّحاً بأنّهما بمنزلة واحدة، يرثها وترثه في كلّ ما ترك وتركت، فتكون صريحة في إرث الزوجة أيضاً للعقار، وليست دلالتها على ذلك بالعموم أو الإطلاق. لكي يمكن تقييدها بالروايات الدالّة على الحرمان، بل هي واردة في نفس ما وردت فيه تلك الروايات، فتكون معارضة.

 

إنّ ظهورها في أنّها ترث من عين ذلك لا قيمته ليس بنحو الصراحة، فإذا استُفيد من بعض روايات الحرمان مدّعى السيِّد المرتضى[1] أمكن الجمع بينه وبينها بذلك.

 

الثاني: ما ينقله الشيخ الطوسي والشيخ الصدوق عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة "في النساء إذا كان لهنّ ولد أُعطين من الرباع"[2].

 

وهي صريحة أيضاً في إرث الزوجة إذا كانت ذات ولد من الرباع، كما أنّها لو تمّت دلّت بمفهومها على عدم إعطائهنّ من الرباع إذا لم يكنّ ذوات ولد. ومن هنا قد يجعل هذا الحديث أيضاً من أدلّة الحرمان في الجملة، وحيث إنّها مفصِّلة في إرث الزوجة من الرباع بين ذات الولد وغيرها فتكون أخصّ من مطلقات الحرمان.

 

وإنّ مفهومها ليس بأزيد من أنّ الزوجة لا تُعطى من أعيان الرباع وتربتها؛ لأنّ مفاد المنطوق استحقاقها من الرباع نفسه كما هو في سائر التركة، فلا دلالة في المفهوم إلّا على انتفاء ذلك، لا نفيَ مطلقِ حقّها ولو في قيمة الرباع فتُعطى من قيمة البناء مثلًا.


 


[1] أي توريثها من قيمة الرباع والأبنية فيها جميعاً، ومن أعيان الأموال الأخرى حتّى الضياع والقرى (كما تقدّم).

[2] الشيخ الطوسيّ، الاستبصار، مصدر سابق، ج4، ص155، ح582. الصدوق، الشيخ محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1414هـ، ط2، ج4، ص349، ح5754.

 

70


53

الدرس السادس: ميراث الزوجة من العقار

وقد نوقش في هذه الرواية بأنّها مقطوعة[1] ابن أذينة، ولم يشهد بأنّه ينقلها عن المعصوم، فلعلّه نقل فتواه ونظره فلا يُحرَز كونها رواية أصلًا، ولهذا لا تكون بمثابة المرسل عن المعصوم عليه السلام أيضاً، فلا يمكن تصحيحها سنداً حتّى بعمل المشهور بناءً على القول بانجبار الخبر الضعيف أو الخبر المرسل بعمل الأصحاب به[2].

 

إلّا أنّه من المستبعد جدّاً بل لعلّه غير معهود على أصحاب الأئمّة عليهم السلام خصوصاً الأجلّاء منهم كابن أبي عمير، وابن أذينة أن يُفتوا أصحابهم ورواة الأحاديث عنهم بآرائهم وفتاواهم، كما يُستبعد جدّاً عن مثل ابن أبي عمير ومن بعده من أجلّاء وعيون رواة الأحاديث عن المعصومين أن لا يُميّزوا بين فتاوى الأصحاب ورواياتهم فينقلوا ما هو فتوى لأحدهم مكان الحديث عن المعصوم ثمّ تتناقله طبقات الرواة جيلًا بعد جيل وتُسجّله كتب الحديث والأصول إلى زمان الصدوق والشيخ، فإنّ هذا في قباله اطمئنان بالخلاف.

 

والمظنون بقوّة أنّ كثرة التقطيع الواقع من قِبل أصحاب الكتب والمجاميع الحديثية في روايات المعصومين عليهم السلام هي منشأ صيرورة بعض الأحاديث مقطوعة غير مصرّح باسم الإمام المبارك فيها، ومن هنا اعتمد مشهور القدماء من الفقهاء خصوصاً علماء الحديث والرجال ممّن كانوا خبراء هذا الفنّ كالصدوق والشيخ وأتباعه ومشهور الفقهاء بعده على هذا الخبر بعنوان حديث المعصوم، ولم يتفوّه أحد منهم بالتشكيك في ذلك،


 


[1] وقال المامقاني: ... مع أنها مقطوعة، بسبب كونها مضمرة.

والإضمار: هو ما يُطوى فيه ذكر المعصوم عليه السلام، في ذلك المقام بالضمير الغائب، إما لتقية، أو سبق ذكر في اللفظ، أو الكتابة، ثمّ عرض القطع لداع وذلك، كما لو قال: سألته، أو سمعته يقول، أو عنه، أو نحو ذلك، وهو كسابقيه في عدم الحجية، لاحتمال أن يكون المراد بالضمير، هو المعصوم عليه السلام.

نعم، لو علم كون المراد به: الإمام عليه السلام، بأن سبق ذكره في الفقرة الأولى، واقتصر في الفقرة الثانية على ارجاع الضمير إليه عليه السلام، خرج ذلك عن عنوان الإضمار القادح. (مقباس الهداية، ص60؛ وينظر أيضاً: محيي الدين الموسوي الغريفي، قواعد الحديث، لبنان - بيروت، دار الأضواء، 1406-1986م، ط2، ص213–229).

[2] الخبر إن كان ضعيفاً في نفسه هل ينجبر ضعفه بعمل المشهور أم لا ؟ المشهور بين المتأخّرين هو ذلك. وذكر المحقّق النائيني M في وجه ذلك أن الخبر الضعيف المنجبر بعمل المشهور حجّة بمقتضى منطوق آية النبأ، إذ مفاده حجية خبر الفاسق مع التبين، وعمل المشهور من التبين.

 

 

71


54

الدرس السادس: ميراث الزوجة من العقار

حتّى إنّ ابن ادريس، الذي كان أوّل مخالف صريح للفتوى بالتفصيل، لم يروِ الحديث بأنّه غير صادر عن المعصوم، وإنّما قال إنّه خبر واحد، وهو على مبناه ومختاره، لا يُفيد علماً ولا عملًا، وهذه التشكيكات إنّما صدرت عن متأخّري المتأخّرين.

 

72


55

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

المفاهيم الرئيسة

1. المعروف بين فقهائنا بل ادّعي أنّه ممّا أجمعت عليه الطائفة أنّ الزوجة لا ترث من العقار وأرض الرباع -وهو المساكن والدور- شيئاً لا عيناً ولا قيمة، وإنّما ترث من قيمة الآلات والأنقاض والأبنية التي عليها.

 

2. الأقوال في المسألة عديدة، ونحن سنقتصر على ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: عدم توريثها من الأرض مطلقاً لا عيناً ولا قيمة. ولكن تورّث من قيمة البناء إذا لم يكن لها ولد منه، وإلّا ورثت من الأعيان جميعاً.

 

القول الثاني: الحكم بحرمانها من الأرضين مطلقاً، وهو الأشهر بين متأخّري المتأخّرين.

 

القول الثالث: توريثها من قيمة الرباع والأبنية فيها جميعاً، ومن أعيان الأموال الأخرى حتّى الضياع والقرى.

 

3. الأدلّة على المسألة بالآيات القرآنيّة، فإنّ ما يقتضيه ظاهر الآيات الكريمة عدم حرمان الزوجة من العقار، وأنّها ترث الربع أو الثمن من تمام تركة الزوج.

 

4. ورد في قبال ذلك مجموعة من الروايات -وفيها الصحاح- تدلّ على حرمانها من العقار على اختلاف في ألسنتها، كما أنّ جملة منها دلّت على حرمانها من إرث البناء أيضاً عيناً وإنّما ترث من قيمته.

 

5. الروايات بحسب اختلاف دلالتها يمكن تقسيمها إلى طوائف، منها:

أ. ما ظاهره حرمان الزوجة من إرث العقار والأراضي مطلقاً من دون تعرّض لكيفيّة إرثها من البناء، وهي عدّة روايات.

ب. ما ظاهره حرمان الزوجة من إرث العقار والضياع وإرثها من البناء نفسه.

ج. ما دلّ على التفصيل في إرث الزوجة.

 

 

73

 


57

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

6. في قبال ذلك هناك طائفتان من الروايات معارضة لها ودالّة على عدم الحرمان:

إحداهما: الروايات الكثيرة، وفيها الصحيحة الدالّة بإطلاقها أو عمومها على إرث الزوجة الثمن أو الربع من تمام التركة من دون تفصيل بين العقار وغيره.

 

الثانية: ما دلّ على عدم حرمان الزوجة مطلقاً، أو في خصوص ذات الولد من الزوج في خصوص العقار، وأنّها ترث منه وهو يتمثّل في خبرين.

 

 

74


58

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

الدرس السابع

حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)[1]

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدّرس

1. يُبيّن الحكم التكليفيّ للتلقيح الصناعيّ.

2. يُعدّد محاذير التلقيح الصناعيّ.

3. يُناقش أدلّة حكم التلقيح بماء الأجنبيّ[2]..

 


[1] حصلت الاستفادة في هذا الدرس من موسوعة "أحكام الأطفال وأدلتها" المشرف على جمعها الشيخ محمد جواد الفاضل اللنكراني، إعداد ونشر: مركز فقه الأئمة الأطهارعليهم السلام، ط1، 1425ه.

[2] سورة الطارق، الآيتان 5 - 7.

 

76


59

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

تمهيد

إنّ من المباحث الهامّة الحديثة التي ترتبط بأحكام الأسرة، البحث في التلقيح الصناعيّ وأطفال الأنابيب، وحكمه في الشريعة الإسلاميّة تكليفاً ووضعاً، وخاصّة بعد أن انتشر في العالم انتشاراً كبيراً حتّى بين كثير من المسلمين في البلاد الإسلاميّة.

 

التلقيح: هو التقاء الحيوان المنويّ والبويضة داخل الرحم، ويكون ذلك عادةً في الثلث الأعلى من قناة المبيض، وهو طبيعيّ وصناعيّ.

 

التلقيح الطبيعي: هو التقاء نطفة الرجل بويضة المرأة داخل الرحم التقاءً مباشراً عبر الاتّصال الجسديّ (الطبيعيّ)، وإذا التقى الحيوان المنوي ببويضة المرأة؛ فإنّهما يختلطان ويمتشجان ليكوّنا ولداً، وهذا هو التلقيح الطبيعيّ الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله -تعالى-: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ﴾[1].

 

والمراد بالماء الدافق ماء الرجل وماء المرأة؛ لأنّ الولد مخلوق منهما بعد امتزاجهما، وإذا لم يصل السائل عن طريق الاتّصال الجسميّ، وتعذّر الحصول على الولد بالتلقيح الطبيعيّ، فإنّه يُلجأ إلى الطريقة الأخرى، وهي الطريقة المسمّـاة بالتلقيح الصناعيّ.

 

التلقيح الصناعي: والمقصود به تلقيح الزوجة بغير الطريق الطبيعيّ المعتاد، والأولاد الّذين يولدون بهذه الطريقة يُسمّون بـ "أطفال الأنابيب"، باعتبار أنّ تلقيح بويضة الأنثى بمنيّ الرجل يجري داخل الأنابيب[2].


 


[1] سورة الطارق، الآيتان 5-7.

[2] زيدان، عبد الكريم، المفصّل في أحكام المرأة، مؤسسة الرسالة، 1413ه - 1993م، ج9، ص389.

 

 

77


60

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

وبالجملة: المقصود بالتلقيح الصناعيّ هو كلّ طريقة أو صورة يجري فيها التلقيح والإنجاب بغير الاتّصال الجسديّ الطبيعيّ بين الرجل والمرأة[1].

 

وهو يُقسم إلى قسمين:

1. التلقيح الداخليّ: وعُرّف بأنّه "الحصول على المنيِّ من الرجل وحقنه في رحم الأنثى ليصل إلى البويضة في قناة فالوب، ويعمل على تلقيحها وتكمل بعد ذلك البويضة المخصّبة التكوين الجنينيّ الطبيعيّ"[2].

 

بتعبير أوضح، يتمّ في هذه الحالة إدخال منيّ الزوج داخل رحم الزوجة بوسائل طبيّة معيّنة، حيث يؤخذ السائل المنويّ حارّاً غير بارد بعد وضعه في إناء نظيف معقّم غير مبلّل بالماء، ويُسحب بمحقن خاصّ ويُحقن في فوهة عنق الرحم ليدخل الرحم رأساً، وتُترك المرأة بعدها ممددة على ظهرها مدّة ساعة تقريباً لتُساعد النطف على الوصول إلى الجهاز التناسليّ، حيث تنتظرها البويضة في البوق[3].

 

2. التلقيح الخارجيّ: وهو عمليّة تلقيح البويضة بحيوان منويّ بطريق غير طرق الاتّصال الطبيعيّ الجسديّ، ومن الرجل إلى المرأة..... خارج جسم المرأة[4].

 

الحكم التكليفيّ في التلقيح الصناعيّ

تارة: يقع الكلام في حكمه التكليفيّ، بمعنى أنّ التلقيح الصناعيّ محرّم مطلقاً، أو في بعض الصور، وأخرى: في حكمه الوضعيّ، أي إلحاق الولد.

 

أمّا حكمه التكليفيّ فقد توجد هناك عدّة صور لجواز التلقيح الصناعيّ:

الصورة الأولى: كأن يقوم الزوج –كونه طبيباً اختصاصيّاً- بإخراج البويضة من المرأة بطريقة ما ويُدخلها بعد التلقيح في رحم زوجته، أو تقوم هي بنفسها بإخراج البويضة،


 


[1] عقلة، محمد، نظام الأسرة في الإسلام، مكتبة الرسالة الحديثة، الأردن، 1423ه- 2002م، ج1، ص149.

[2] غانم، عمر بن محمد بن إبراهيم، أحكام الجنين في الفقه الإسلامي، دار الأندلس، ط1، 1421ه- 2001م، ص229.

[3] انظر: مجموعة من الفقهاء والباحثين، قراءات فقهيّة معاصرة في معطيات الطبّ الحديث، الغدير للدراسات والنشر، 2002م، ص186.

[4] غانم، عمر بن محمد بن إبراهيم، أحكام الجنين في الفقه الإسلامي، مصدر سابق، ص234.

 

78


61

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

ويكون الماء ماء الزوج نفسه، إلّا أنّ هذه الصورة نادرة جدّاً.

 

والظاهر أنّه لا إشكال في جواز هذه الصورة، كما أفتى بعض أعلام العصر[1]، قال الإمام الخميني قدس سره: "لا إشكال في أنّ تلقيح ماء الرجل بزوجته جائز، وإن وجب الاحتراز من حصول مقدّمات محرّمة... فلو فرض أنّ النطفة خرجت بوجه محلّل ولقّحها الزوج بزوجته، فحصل منها ولد كان ولدهما كما لو تولّد بالجماع"[2].

 

وبالجملة: لا مانع من التلقيح بهذه الكيفيّة،وإن لم تكن عاديّة، ولو شكّ في حليّتها أو حرمتها فمقتضى البراءة الشرعيّة والعقليّة هو الجواز.

 

الصورة الثانيّة: الصورة الأولى نفسها مع افتراض بقاء الولد في حاضنة صناعيّة إلى حين ولادته.

 

الصورة الثالثة: أخذ البويضة من امرأة -إن أمكن الأخذ بطريق محلّل- وتلقيحها بامرأة أخرى متزوّجة؛ سواء أكان التلقيح مع ماء الرجل في خارج الرحم ثمّ نقله الزوج الذي هو صاحب الماء، أم الزوجة نفسها إلى رحمها، أم في الرحم، مثل ما إذا كانت رحم امرأة ضعيفة، فيقوى الجواز بهذا الطريق، كما قال به بعض الأعلام[3].

 

المحاذير المترتّبة على التلقيح الصناعيّ

قد تستلزم عمليّة التلقيح بعض المحاذير الجانبيّة المحرّمة. والمحاذير هي:

1. إخراج الماء من الرجل بالاستمناء المحرّم ليستطيع الطبيب أن يأخذ بعضه ويُلِقّح به.

 

2. النظر إلى عورة المرأة خلال إخراج البويضة منها، ومن المعلوم فقهيّاً أنّ نظر الرجل الأجنبيّ إلى عورة الأجنبيّة حرام، وإن كان طبيباً، وكذلك نظر المرأة إلى المرأة في ذلك الموضع وإن كانت طبيبة، وكذلك اللمس حرام.


 


[1] انظر: اللنكراني، الشيخ فاضل، جامع المسائل، امير العلم، قم- إيران، ج2، ص489.

[2] الإمام الخميني، السيد روح الله الموسوي، تحرير الوسيلة، مصدر سابق، ج2، ص491، مسألة 1.

[3] انظر: اللنكراني، الشيخ فاضل، جامع المسائل، مصدر سابق، ج2، ص570.

 

 

79


62

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

3. نظر الأجنبيّ إلى عورة المرأة خلال إدخال البويضة الملقّحة فيها، سواء قام بعمليّة التلقيح رجل أو امرأة، فإنّها جميعاً محرّمة شرعاً.

 

4. دخول ماء الأجنبيّ في رحم الأجنبيّة؛ فإنّ هناك قولاً بالحرمة، وإن لم يصدق عليه الزنا، كما سيذكر قريباً، وهذا المحذور يحصل في أكثر محتملات التلقيح الصناعيّ، نعني في غير صورة أن يكون الماء للزوج نفسه.

 

5. اختلاط الأنساب؛ لأنّ جواز عمليّة التلقيح يوجب ولادة مجموعات كبيرة من الأولاد لا يعرفون آباءهم بسبب كون المانح أو البائع مجهولاً، وهذا يؤدِّي إلى فوضى عارمة في الأنساب[1]. ولذا قيل في إحدى الإحصائيات الحديثة: هناك ما لا يقلّ عن ربع مليون طفل لا يُعرف لهم أب نتيجة استخدام التلقيح الصناعيّ[2].

 

والحاصل: إنّه إذا استلزمت عمليّة التلقيح المحاذير المحرّمة المتقدّمة، فيحرم قطعاً كما صرّح به كثير من الفقهاء المعاصرين[3].

 

التلقيح بماء الأجنبيّ

قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "لا يجوز التلقيح بماء غير الزوج؛ سواء كانت المرأة ذات بعل أو لا، رضي الزوج والزوجة بذلك أو لا، كانت المرأة من محارم صاحب الماء كأمّه وأخته أو لا"[4].

 

 


[1] غانم، عمر بن محمد بن إبراهيم، أحكام الجنين في الفقه الإسلامي، مصدر سابق، ص232.

[2] ) غويبة، سمير، المتاجرة بالأمومة والأعضاء البشرية، مكتبة مدبولي الصغير، القاهرة - مصر، ص74.

[3] انظر: السبزواري، السيد عبد الأعلى، مهذّب الأحكام، مكتب السيد السبزواري، 1413ه، ط4، ج25، ص247؛ أيضاً: اللنكراني، الشيخ فاضل، جامع المسائل، مصدر سابق، ص489؛ أيضاً: كلبايكاني، محمد رضا، مجمع المسائل، نشر: حاج شيخ حسين ايوقي، قم - ايران، ط1417ه، ج2، ص177؛ أيضاً: السبزواري، السيد عبد الأعلى، جامع الأحكام، مؤسسة المنار، ط9، ج2، ص53، أيضاً: مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر، الفتاوى الجديدة، مكتبة مدرسة الفقاهة، إيران - قم، 1385هـ.ش، ص428؛ أيضاً: توضيح المسائل، ج2، ص656 و 696 و 764 و787؛ أيضاً: الفقه والمسائل الطبّية، ص88 وما بعدها؛ أيضاً: السيد محمد الصدر، ما وراء الفقه، المحبين للطباعة والنشر، 1427هـ- 2007م، ط3، ج6، ص14 وما بعده، أيضاً: المسائل المنتخبة للسيِّد الفقيه السيستاني، ص534.

[4] الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، مصدر سابق، ج2، ص559.

 

80


63

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

وفي صراط النجاة: "لا يجوز ذلك العمل؛ لأنّ التمايز والاختلاف بين أبناء البشر ضرورة للمجتمعات الإنسانيّة، اقتضتها حكمة الله سبحانه... إضافة إلى استلزامه محرّمات أخرى، كمباشرة غير المماثل، والنظر إلى العورة، واختلال النظام، وحصول الهرج والفوضى -إلى أن قال:- فتضيع الأنساب والمواريث، وهذا غيض من فيض"[1].

 

وجاء في المسائل المنتخبة: "لا يجوز تلقيح المرأة بماء الرجل الأجنبيّ، سواء أكان التلقيح بواسطة رجل أجنبيّ، أم بواسطة زوجها"[2].

 

في المقابل يوجد قول ذهب إليه الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) هو جواز تلقيح المرأة بماء الرجل الأجنبيّ.

 

ففي سؤال ورد إلى سماحته حول جواز تلقيح زوجة الرجل الذي لا يُنجب بنطفة رجل أجنبيّ، عن طريق وضع النطفة في رحمها، يقول:"لا مانع شرعاً من تلقيح المرأة بنطفة رجل أجنبيّ في نفسه، ولكن يجب الاجتناب عن المقدّمات المحرّمة من قبيل النظر واللمس الحرام وغيرهما، وعلى أيّ حال، فإذا تولّد طفل عن هذه الطريقة فلا يُلحق بالزوج، بل يُلحق بصاحب النطفة وبالمرأة صاحبة الرحِم والبويضة"[3].

 

ولعلّ ما ذهب إليه الإمام الخامنئيّ (حفظه الله) إنّما كان لقصور الأدلّة الآتيّة المثبتة للحرمة في مثل هذا العمل.

 

 


 


[1] الخوئي، السيد أبو القاسم الموسوي، صراط النجاة، تعليق: الميرزا جواد التبريزي، دفتر نشر برگزيده، إيران، 1416ه، ط1، ج3، ص393-394.

[2] الخوئي، السيد أبو القاسم الموسوي، منهاج الصالحين، لا.ن، لا.م، 1410، ط28، ج1، ص427.

[3] الإمام الخامنئيّ، السيد علي الحسيني، أجوبة الاستفتاءات، مصدر سابق، سؤال رقم 1275.

 

 

81


64

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

أدلّة القول بحرمة التلقيح بماء الأجنبي

يمكن أن يُستدلّ على حرمة التلقيح في الصور المتقدّمة -مضافاً إلى ما تقدّم من محاذير- بأمور:

الأوّل: الآيات

-منها: قوله -تعالى-[1]: ﴿هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾[2]، بناءً على عدم الفرق في حفظ الفرج بين الرجال والنساء، وحفظ الفرج مطلق يشمل حفظه عن فرج الآخر ومنيّه.

 

جاء في كنز الدقائق: "أي حفظوها في كافّة الأحوال إلّا في حال التزوّج أو التسرّي[3]"[4].

 

وقال العلاّمة الطبرسي: "المعنى أنّهم يُلامون في إطلاق ما حظر عليهم، وأُمروا بحفظه إلّا على أزواجهم"[5].



 

[1] يمكن الاستدلال بالآية الأولى، كما أنّه يمكن التمسّك بالآية الأخيرة، وبينهما فرق واضح؛ فإنّ الاستدلال بالآية الأولى لحرمة التلقيح يحتاج إلى ضمّ قاعدة أدبيّة؛ وهي: أنّ حذف المتعلّق يدلّ على العموم، بخلاف الاستدلال بالآية الأخيرة، فلا يحتاج إلى انضمام هذه القاعدة؛ فإنّه مطلق يشمل موارد التلقيح الصناعيّ بين الأجنبي والأجنبيّة؛ فإن جعل نطفة الأجنبي في رحم المرأة حتّى من دون تحقّق الزنا يعدّ من مصاديق العادون.

لكنّ الاستدلال بالآية الأولى -مضافاً إلى وجود التأمّل في القاعدة الأدبيّة- مخدوش من جهة وجود بعض الروايات الدالّة على أنّ المقصود بحفظ الفرج في جميع الآيات عبارة عن الحفظ عن الزنا إلّا في سورة النور، فإنّ المقصود به هو الحفظ عن النظر [المشهدي، الشيخ محمد بن محمد رضا القمي، تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب، تحقيق حسين درگاهي، مؤسسة الطبع والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إيران، 1407ه- 1366ه‍.ش، ط1، ج7، ص46-47 وص51-52]، مضافاً إلى القرينة الداخليّة الدالّة على أنّ المقصود هو حفظ الفرج عن الزنا، فتدبّر. وبناءً على ذلك لا يصحّ الاستدلال بالآية الأولى على ما نحن فيه.

نعم، يصحّ الاستدلال بالآية الأخيرة من جهة الإطلاق -كما استدلّ به الإمام المعصوم عليه السلام- لحرمة الاستمناء، (الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج28، ص364، كتاب الحدود، ب 3 من أبواب نكاح البهائم، ح4).

[2] سورة المؤمنون، الآيات- 5 - 7.

[3] التسري اتخاذ السرية: وهي الأمة تُنزلها بيتاً وتُخفيها عن نسائك.

[4] المشهدي، الشيخ محمد بن محمد رضا القميّ، تفسير كنز الدقائق، مصدر سابق، ج6، ص581.

[5] الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1415ه.ق- 1995م، ط1، ج7، ص157.

 

 

82


65

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

وفي التفسير الكبير: "غير ملومين؛ أي يلامون على كلّ مباشرة إلّا على ما أطلق لهم؛ فإنّهم غير ملومين عليه"[1].

 

وقوله -تعالى-: ﴿وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ...﴾[2] أيّ من الزنا وأنواع الفجور، كما في تفسير التبيان[3].

 

ولكنّ الظاهر من الآيات المتقدّمة انصرافها إلى خصوص الزنا واللواط، لعدم تعارف نقل المنيّ من غير عمل الزنا في تلك الأعصار حتّى نادراً، مضافاً إلى أنّ الآية الثانية -في سورة الأحزاب- لا تدلّ على الوجوب إلّا أن يُدّعى أنّه معلوم من الخارج، وأنّ حفظ الفرج محكوم بالوجوب دائماً[4]، اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ حذف المتعلّق في الآية يدّل على لزوم حفظ الفرج حتّى عن الاستيلاد بالنحو المذكور، فلا وجه لدعوى الانصراف لو كان إطلاق[5].

 

نعم، يمكن أن يقال: إنّ الآيات الكريمة -من سورة المؤمنون- بقرينة ما قبلها وما بعدها في مقام وصف المؤمنين بأوصاف مذكورة إجمالاً، وليست في مقام بيان تفصيلها، ولذلك لا إطلاق لها بحيث يشمل الاستيلاد بالطرائق الحديثة.

-ومنها: قوله -تعالى-: ﴿قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ -إلى


 


[1] الفخر الرازي، محمد بن عمر، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (تفسير الرازي)، لا.ن، لا.م، لا.ت، ط3، ج8، ص261-262.

[2] سورة الأحزاب، الآيات 33 - 35.

[3] الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي، مكتب الإعلام الإسلاميّ، لا.م، 1409ه، ط1، ج8، ص309.

[4] آصف المحسني، الشيخ محمّد، الفقه والمسائل الطبّيّة، الطبعة الأولى، قم، ص89.

[5] هذا الردّ مبنيّ على قاعدة مشهورة؛ وهي أنّ حذف المتعلّق يدلّ على العموم. مثلاً: إذا قيل: احفظ مالك من السارق، دلّ هذا القول، على وجوب التحفظ وصيانة المال من السرقة فحسب، أما إذا قيل: احفظ مالك، ولم يذكر المتعلق، فيدلّ على حفظه من السرقة والإسراف والتلف وغير ذلك.

وعليه، فلو كان الإخبار عن حفظ الفرج في هذه الآية عامّاً، أو الأمر بحفظه في الآية الآتية مطلقاً لحذف متعلق الحفظ (فلم يُصرّح بكون الحفظ عن الزنا أو النظر مثلاً بل حذف متعلّقه، وهو يدلّ على عموم الحفظ من الزنا والنظر واللمس وكل ما يُحفظ منه الفرج، ومنه الاستيلاد بهذه الطريقة)، فلا وجه لدعوى انصراف الحفظ في الآية إلى خصوص حفظ الفرج من الزنا واللواط، لمقام الإطلاق في الآية المستفاد من حذف متعلّق الحفظ.

 

83


66

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

 قوله- وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ﴾[1]،[2] تُبيّن الآية وجوب غضّ البصر وحفظ الفرج، فيُستفاد من إطلاقها عدم جواز الاستيلاد والتلقيح بماء الرجل الأجنبي؛ لأنّ حذف المتعلّق يدلّ على الإطلاق والتعميم حتّى بالنسبة إلى الاستيلاد المذكور.

 

-ومنها: قوله -تعالى-: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ... وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ﴾[3] بدعوى أنّ الطوائف المذكورة قد حكم بكونها محرّمة على الرجال، والحرمة هي الممنوعيّة، وحيث أسندت إلى الذوات فتدلّ بإطلاقها على حرمة كلّ فعل يتعلّق بهنّ، فيحرم تلقيح الماء في أرحامهّن حتّى لو كان بوسيلة غير الفرج أيضاً.

 

وأورد عليه: بأنّ الاستدلال بالآية الكريمة ضعيف، من جهة انصراف الحرمة في أمثال المقام -بمناسبة الحكم والموضوع- إلى خصوص النكاح والاستمتاع بهنّ، ولذلك قال في زبدة البيان: "الظاهر أنّ المراد تحريم نكاحهنّ؛ لما تقدّم وتأخّر، وللتبادر من مثله كتبادر الأكل في ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ﴾[4]، ولعدم تحريم الذّات والنكاح أولى ما يمكن تقديره"[5].

 

وفي مجمع البيان: "فالتقدير حرّم عليكم نكاح أمهاتكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه؛ لدلالة مفهوم الكلام عليه، وكلّ امرأة رجع نسبك إليها بالولادة... فهي أمّك"[6].

 


 


[1] سورة النور، الآيتان 30-31.

[2] والظاهر من الآية الشريفة حفظ الفرج من الغير، وذلك بقرينة السياق، فلا تدلّ فيما إذا كانت المرأة تدخل بيدها أو بالآلات الطبّية منيّ الغير في فرجها، هذا، مضافاً إلى ما في الرواية الصحيحة من أنّ المقصود بحفظ الفرج في هذه الآية الشريفة هو النظر، وهو قول الصادق عليه السلام-في تفسير هذه الآية-: "كلّ شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية فإنها من النظر" (الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص36)، فلا يشمل ما نحن فيه، وعلى هذا فتسقط الآية عن الاحتجاج.

[3] سورة النساء، الآيتان 23 - 24.

[4] سورة المائدة، الآيات 5 - 3.

[5] المحقق الأردبيلي، زبدة البيان في أحكام القرآن، تحقيق وتعليق: محمد الباقر البهبوديّ، المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفرية - طهران، لا.ت، لا.ط، ص661.

[6] الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، مصدر سابق، ج3، ص51.

 

 

84


67

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

وقال بعض الباحثين: "إنّ موارد الاستشهاد لا تدلّ على انحصار مدلول آية تحريم الأمهات في النكاح، لو لم نقل بانصرافها عن غير النكاح. هذا، مضافاً إلى منع[1] دعوى الانصراف والتبادر إلى خصوص النكاح، بل حذف المتعلّق يدلّ على إرادة عموم ما يتعلّق بهنّ من النكاح والاستمتاعات والاستيلاد.

 

نعم، يمكن أن يُقال: إنّ الآية الكريمة حيث كانت في مقام ذكر موارد المحرّمات من النساء -نسبيّةً كانت أو رضاعيّة أو سببيّة- لا إطلاق لها بالنسبة إلى خصوصيّات المحرّم وكيفيّاته. وعليه: فلا تشمل الاستيلاد بالطرق الحديثة"[2].


 


[1] المنع ممنوع، ولا ريب في أنّ الآية إنّما هي بصدد بيان تحريم النكاح وذلك لقوله -تعالى-: ﴿وَأَن  ِ﴾ سورة النساء، الآية 23، فهذه قرينة واضحة على كون الآية بصدد تحريم النكاح، مضافاً إلى قرينة قوله – تعالى - فيما بعد الآية: ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ﴾ سورة النساء، الآية 24.

[2] مجموعة من الفقهاء والباحثين، قراءات فقهيّة معاصرة في معطيات الطبّ الحديث، مصدر سابق، ص246-247.

 

 

85


68

الدرس السابع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(1)

المفاهيم الرئيسة

1. التلقيح الصناعيّ هو تلقيح الزوجة بغير الطريق الطبيعيّ المعتاد، والأولاد الّذين يولدون بهذه الطريقة يُسمّون بـ"أطفال الأنابيب"، باعتبار أنّ تلقيح بويضة الأنثى بمنيّ الرجل يجري داخل الأنابيب.

2. هناك عدّة صور لجواز التلقيح الصناعي.

3. قد تستلزم عمليّة التلقيح بعض المحاذير الجانبيّة المحرّمة.

4. إذا استلزمت عمليّة التلقيح المحاذير المحرّمة، فيحرم قطعاً كما صرّح به كثير من الفقهاء المعاصرين.

5. ذهب الإمام الخامنئيّ a إلى جواز تلقيح المرأة بماء الرجل الأجنبيّ.

 

6. يمكن أن يستدلّ على حرمة التلقيح بنطفة الأجنبيّ بأمور:

الأوّل: الآيات

منها: قوله -تعالى﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ﴾[1].

 

- الظاهر من الآيات المتقدّمة انصرافها إلى خصوص الزنا واللواط.

 

ومنها: قوله -تعالى-: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ... وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ﴾[2].

 


 


[1] سورة المؤمنون، الآيات 5 – 7.

[2] سورة النساء، الآيتان23 - 24.

 

 

86


69

الدرس الثامن: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(2)

الدرس الثامن

حكم التلقيح

وأطفال الأنابيب (2)

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدّرس

1. يُناقش دلالة بعض الروايات على حرمة التلقيح.

2. يُعدّد الأدلّة المذكورة على حرمة التلقيح بماء الأجنبيّ.

3. يُناقش الاستدلال باختلاط الأنساب على حكم المسألة[1].


 


[1] حصلت الاستفادة في هذا الدرس من "موسوعة أحكام الأطفال وأدلتها" المشرف على جمعها الشيخ محمد جواد الفاضل اللنكراني، مصدر سابق.

 

87


70

الدرس الثامن: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(2)

تقدّم في الدرس السابق الاستدلال بالآيات الدّالة على حرمة التلقيح في بعض الصور، وفي هذا الدرس نستعرض باقي الأدلّة على الحرمة.

 

الثاني: النصوص الروائية

رواية علي بن سالم عن أبي عبد اللَّه

-منها: ما رواه في الكافي عن عليّ بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجل أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه"[1].

 

ورواه البرقيّ[2] في محاسنه، والصدوق في عقاب الأعمال[3].

 

ومثله ما روي عن عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من ذنب أعظم عند الله -تبارك وتعالى- بعد الشرك من نطفة حرام وضعها امرؤ في رحم لا تحلّ له"[4].

 

مرسلة الفقيه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم

-ومنها: ما رواه في الفقيه مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: "لن يعمل ابن آدم عملاً أعظم عند الله -عزَّ وجلَّ- من رجل قتل نبيّاً، أو هدم الكعبة التي جعلها الله قبلةً لعباده، أو أفرغ ماءه في امرأة حراماً"[5].


 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص541.

[2] هو أحمد بن محمد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي البرقي أبو جعفر.

[3] البروجردي، السيد حسين الطباطبائي، جامع أحاديث الشيعة، لا.ن، إيران - قم، 1399ه، لا.ط، ج20، ص346.

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه.

 

88


71

الدرس الثامن: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(2)

رواية الدعائم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم

وهكذا ما روي في الدعائم أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة من أقرّ نطفته في رحم محرّم عليه"[1].

 

فالظاهر من هذه النصوص أنّ العذاب الشديد مترتّب على إقرار النطفة في الرحم الذي يحرم عليه، بحيث لو زنى الزاني، وعزل ماءه لما تحقّق موضوع لهذا العذاب الأشدّ، فتدلّ النصوص دلالةً واضحةً على أنّ جَعْلَ نطفة الرجل بحدّ ذاته في رحم تحرم عليه معصية كبيرة، وحينئذ يعدّ الزنا والجماع طريقاً عاديّاً للوصول إلى هذا الأمر المحرّم، وإلّا فلو أوجده بطريق آخر غير عاديّ أيضاً لما كان شكّ في حصول موضوعه، وشمول الإطلاق له، وترتّب حكم الحرمة عليه.

 

وفي التعبير بالنطفة -التي هي أمشاج من منيّ الرجل وبويضة المرأة- دلالة على أنّ تمام موضوع الحرمة هو عقد النطفة بماء امرأة محرّمة عليه، فلو كان مجرّد إفراغ المنيّ من دون أن ينعقد به نطفة لما تحقّق موضوع هذا الحرام.

 

وبالجملة: فالمتحّصل من هذه النصوص – إذا لوحظت مع أدلّة حرمة الزنا - أنّ الزنا نفسه والإيلاج حرام، ووضع نطفته المنعقدة من منيّه وبويضة المزنيّ بها في رحمها حرام آخر، وهو – ولاسيّما بتناسب الحكم والموضوع - مطلق يعمّ ما إذا كان بطريق الإفراغ العاديّ، أو بطريق آخر؛ فإنّ الحرام إنّما هو إقرار النطفة في رحم يحرم عليه[2] فارغاً عن خصوصيّات أسبابه[3].


 


[1] البروجردي، السيد حسين الطباطبائي، جامع أحاديث الشيعة، لا.ن، إيران - قم، 1399ه، لا.ط، ج20، ص346.

[2] والظاهر أنّ تناسب الحكم والموضوع يدلّ على أنّ المراد بالحرمة هي إقرار النطفة في فرج الأجنبيّة من طريق الزنا، وإلّا فنفس الإقرار من دونها لا تناسب أشدّية العذاب من الجميع.

[3] انظر: المؤمن، محمد، كلمات سديدة في مسائل جديدة، مؤسسة النشر الإسلامي، 1415هـ، ط1، ص81-82 مع تصرّف.

 

89


72

الدرس الثامن: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(2)

المناقشة في دلالة الروايات المتقدمة

وفيه: أوّلاً: إنّ هذه النصوص ضعيفة[1] سنداً[2]، فلا تصلح لإثبات الحكم إلّا أن تذكر تأييداً للحكم.

 

وثانياً: إنّ إقرار النطفة في الرحم ينصرف إلى الزنا والإيلاج والإدخال حتّى يتحقّق الإقرار في الرحم، ويؤيِّده كون فاعل ذلك أشدّ عذاباً يوم القيامة من جميع الناس، ومن غير المعلوم أنّ مجرّد صبّ المنيّ في الفرج المحرّم أشدّ عذاباً من الزنا من دون إفراغ المنيّ، كما أنّه ليس له حدّ الزاني، ولا أقلّ من الشكّ فلا يشمل مثل المقام.

 

رواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام

-ومنها: رواية إسحاق بن عمّار المرويّة في الكافي والتهذيب، قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: الزنا شرّ أو شرب الخمر؟ وكيف صار في شرب الخمر ثمانون وفي الزنا مئة؟ فقال: "يا إسحاق الحدّ واحد، ولكن زيد هذا لتضييعه النطفة، ولوضعه إيّاها في غير موضعه الذي أمره الله -عزَّ وجلَّ- به"[3].

 

بيان الدلالة: أنّه عليه السلام علّل جعل عقوبة الزاني مئة سوط بزيادة عشرين سوطاً عن الحدّ الأصلي (وهو ثمانون) باستلزامه تضييع النطفة، فقد دلّ على أنّ تضييع النطفة حرام، حتّى أنّه أوجب زيادة العشرين جلدةً على ما هو الحدّ الواحد، وقد فسّر تضييع النطفة المذكورة بقوله عليه السلام: "ولوضعه إيّاها في غير موضعها الذي أمره الله -عزَّ وجلَّ- به".

 

والظاهر أنّ المراد بالنطفة المذكورة هي المركّبة من منيّ الرجل وبويضة المرأة؛ وهي أوّل ما يخلق من مبدأ نشوء الإنسان، كما في موثّقة إسحاق بن عمار الواردة في


 


[1] قد يقال: إنّ ما رواه في الكافي معتبر، والسند وإن كان فيه عليّ بن سالم، وهو مردّد بين شخصين: أحدهما البطائني الواقفي، والآخر مجهول، إلّا أنّه يمكن توثيقه برواية الأجلّاء عنه، فتكون الرواية معتبرة سنداً.

[2] بناء على العمل بمبنى حجية خبر الثقة، وقد يقال باعتبار هذه الأخبار بناء على العمل بحجية الخبر الموثوق.

[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج14، ص267، الباب 28 من أبواب النكاح المحرّم، ح4.

 

 

90


73

الدرس الثامن: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(2)

النهي عن شرب الدواء المسقط للحمل من قول أبي الحسن عليه السلام: "إنّ أوّل ما يخلق النطفة"[1].

 

وحينئذ فوجه إسناد وضع النطفة -في ظاهر الحديث- إلى الرجل مع أنّه لا يضع إلّا ماءه ومنيّه، هو أنّ إفراغه لمائه هو السبب القويّ في تكوّن نطفة الإنسان وقرارها في رحم المرأة.

 

فقد دلّ الحديث على أنّ إقراره لنطفته المتكوّنة من مائه وبويضة المرأة في غير موضعها الّذي أمره الله -عزَّ وجلَّ- به حرام، وهذا عنوان عامّ يشمل ما كان بالطريق الطبيعيّ المتعارف عليه، وما كان بالطريق الصناعيّ فيما نحن فيه، وذلك لما مرّ من أنّ المستفاد من مثله أنّ تمام الموضوع والموجب للحرمة هو وضع النطفة وإقرارها في غير موضعها الّذي أمره الله به، وهو صادق على مفروض ما نحن فيه[2].

 

المناقشة في دلالة الرواية

وفيه: أنّ الرواية، لاشتمالها على المجاهيل، ضعيفة.

 

إضافةً إلى أنّ الحكمة المذكورة ليست عامّة، بل مختصّة بالزاني؛ لأنّ الزاني[3] حيث ضيّع نطفته بحسب الغالب -لاحتمال الزنا من غير إنزال- استحقّ المزيد من الحدّ على حدّ الشارب، ولا يُستفاد منه حرمة مطلق الوضع وإن لم يصدق عليه التضييع حتّى يشمل المقام.

 

والظاهر أنّه لم يلتزم أحد من الفقهاء بحرمة تضييع النطفة مطلقاً ولو لم يرتكب المضيّع محرّماً آخر.


 


[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، الباب 7 من أبواب القصاص في النفس، ح1، ج19، ص15.

[2] محمد، المؤمن، كلمات سديدة في مسائل جديدة، مصدر سابق، ص84.

[3] فإنّ الولد المتكوّن من طريق الزنا، يُعدّ ولد الزنا، وله أحكام خاصّة في الفقه، بينما أنّ الولد المتولِّد من طريق وضع المنيّ في الرحم المحرّم عليه بطريق الآلات الحديثة لا يُعدّ ولد الزنا وإن قلنا بحرمة هذا العمل، ولكن لا يترتّب عليه أحكام ولد الزنا. وعليه: فالرواية مخصوصة بباب الزنا ولا تشمل ما نحن فيه.

 

91


74

المقدّمة

ما دل على لزوم الاحتياط في باب النكاح والاستيلاد

 

-ومنها: ما ورد من الروايات في لزوم الاحتياط في باب الفروج والاستيلاد، منها:

صحيحة شعيب الحداد قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: رجل من مواليك يُقرِئُك السلام وقد أراد أن يتزوّج امرأة وقد وافقته وأعجبه بعض شأنها، وقد كان لها زوج فطلّقها على غير السنّة، وقد كره أن يُقدم على تزويجها حتّى يستأمرك فتكون أنت تأمره، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "هو الفرج، وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد، ونحن نحتاط فلا يتزوّجها"[1].

 

فالظاهر من الرواية هو الأمر بالاحتياط في باب النكاح والاستيلاد فيما إذا لم يجر أصل منقّح -كالاستصحاب- للجواز، ولكنّ الرواية في الشبهات الموضوعيّة، وكلامنا في حكم التلقيح الصناعيّ وهو شبهة حكميّة، اللهمّ إلّا أن يُقال: إنّ الاحتياط إذا كان لازماً في الشبهات الموضوعيّة يكون الأمر كذلك في الشبهات الحكميّة بطريق أولىٰ[2].


 


[1]  الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج20، ص258.

[2] الشبهة الحكمية والموضوعية:

يطلق هذان الاسمان غالباً على الشكوك التي تقع مجرى للأصول العملية، ومورد الأحكام الظاهرية، كالشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب وأصالة البراءة والتخيير والاحتياط وقاعدة الطهارة وغيرها.

فالأولى -(أي الحكمية)- هي الشك المتعلق بالحكم الشرعي الكلّي مع كون منشئه عدم النص في المسألة أو إجماله أو تعارضه مع نص آخر، وتوصيفها بالحكمية لأنّ متعلّقها هو الحكم الشرعي، وحلّ الاشتباه ورفعه لا يكون إلا من ناحية جاعل الحكم والدليل الواصل من قبله.

فإذا شكّ المكلّف في وجوب السواك، أو في بقاء وجوب الجمعة، أو في كون الواجب يوم الجمعة صلاتها أو صلاة الظهر؛ أو في كون صلاة الجمعة واجبة أو محرّمة أو في طهارة العصير المغلي، كان ذلك من جهة عدم الدليل المعتبر في المورد أو إجمال الدليل الوارد أو تعارض الدليل الظاهر مع مثله، كان الأول من قبيل الشبهة الحكمية للبراءة والثاني للاستصحاب والثالث للاحتياط والرابع للتخيير والخامس لقاعدة الطهارة.

والثانية -(أي الموضوعية)- هي الشك المتعلّق بالموضوع الخارجي أو الحكم الجزئي مع كون منشئه اشتباه الأمور الخارجية، والتوصيف بالموضوعية لكون متعلّقها هو الموضوع الخارجي، ورفع الشبهة موقوف على الفحص عن الأمور الخارجية من غير ارتباط له بالشرع.

فإذا شك في كون هذا المايع خمراً أو خلاًّ، أو أنّ خمر هذا الإناء هل انقلبت إلى الخل أو لا، أو أنّ نهي والده هل تعلّق بشرب التتن أو شرب الشاي، أو أنّه هل أمره بشرب الشاي أو نهاه عنه، أو أنّ هذا الغذاء المأخوذ من السوق هل هو طاهر أو نجس، كان الأول شبهة موضوعية للبراءة والثاني للاستصحاب والثالث للاحتياط والرابع للتخيير والخامس للطهارة. (المشكيني، اصطلاحات الأصول، مصدر سابق، ص148).

 

92


75

الدرس الثامن: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(2)

المناقشة في دلالة ما تقدّم

ولكن يمكن أن يُقال إنّ هذه الرواية قاصرة الدلالة على وجوب الاحتياط، بل غاية ما تدلّ عليه إنّما هو رجحان الاحتياط فيها وآكديّته، أو على أنّ الأمر بالاحتياط ليس مولويّاً شرعيّاً، بل إرشاديّ؛ فإنّ السؤال فيها ليس من جهة عدم العلم بجواز التزويج، بل الرجل الذي كان من الموالي للإمام عليه السلام يعلم بأنّ التزويج صحيح شرعاً من جهة جريان قاعدة الإلزام، لكنّه استشار الإمام لأجل إقدامه في ذلك، أو عدم إقدامه، وجواب الإمام عليه السلام فيه قرينة واضحة على كون الحكم إرشاديّاً، فإنّ التعليل بأنّ أمر الفرج شديد، وفيه يكون الولد قرينة على ذلك.

 

وبالجملة: الأخبار الواردة في المقام تدلّ على رجحان الاحتياط في الفرج والاستيلاد، فلا وجه لتخصيص دائرة الاحتياط بمورد النكاح والدماء، فكما أنّ الاحتياط فيهما مطلوب، كذلك في الاستيلاد، مضافاً إلى أنّ الإحصان والعفّة ممّا أكّد عليهما الشارع المقدّس؛ لأنّ قوام العائلة بهما، ويُنافيهما عدم حفظ المرأة فرجها عن ماء غير زوجها.

 

الثالث: التسالم بين الأصحاب

قال بعض المحقّقين: "إنّ رحم الزوجة معدّ للتولّد من زوجها، وليس لها حقّ إشغال رحمها بماء الرجل الأجنبيّ، ولايبعد أنّ الفقيه يفهم من مذاق الشرع الأقدس حرمة العمل المذكور، ولعلّ الحكم مورد تسالم الأصحاب"[1].

 

الرابع: السيرة

جاء في كلمات بعض الباحثين: "أنّ دعوى قيام سيرة المتشرّعة على الاجتناب عن مياه غير الأزواج ولو مع عدم تمكّن الأزواج من الاستيلاد غير مجازفة، والقول بعدم اتّصالها إلى زمان المعصوم، أو أنّها مستندة إلى الفتاوى[2] غير مسموع"[3].


 


[1] الطباطبائي، تقي، مباني منهاج الصالحين، مكتبة المفيد، إيران - قم، 1405هـ - 1985م، ج10، ص254.

[2] بل إنّها مستندة إلى الروايات، وعلى هذا تكون السيرة مدركيّةَ لا اعتبار بها.

[3] مجموعة من الفقهاء والباحثين، قراءات فقهيّة معاصرة في معطيات الطبّ الحديث، مصدر سابق، ج1، ص256.

 

93


76

الدرس الثامن: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(2)

الخامس: اختلاط الأنساب

إنّ تجويز التلقيح الصناعي بماء الغير مع عدم إقامة الشهود، وإخفاء الفعل يوجب اختلاط الأنساب وذهابها في كثير من الموارد، ولاسيّما إذا كان صاحب الماء غير معلوم، كما في موارد إعداد بنك المنيّ بالمعنى المعهود منه في بنك الدّم؛ بأن يؤخذ منيّ الرجال ويُحفظ في حرارة وكيفيّة مناسبة من دون تكتب عليه أنّه منيّ فلان، ثمّ يوضع في رحم من راجعته، ففي هذه الصورة - التي هي شائعة في بلاد غير المسلمين - يؤدِّي التلقيح الصناعيّ إلى ذهاب الأنساب الذي دلّت بعض الأخبار على حرمته.

 

فقد روى الصدوق بإسناده عن محمّد بن سنان، عن الرضا عليه السلام فيما كتب إليه من جواب مسائله "وحرّم الله الزنا لما فيه من الفساد، من قتل النفس، وذهاب الأنساب، وترك التربية للأطفال، وفساد المواريث، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد"[1].

 

ونحوه ما رواه الطبرسيّ في الاحتجاج مرسلاً، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث أنّ زنديقاً قال لأبي عبد الله عليه السلام: لِمَ حرّم الله الزنا؟ قال: "لما فيه من الفساد، وذهاب المواريث، وانقطاع الأنساب، لا تعلم المرأة في الزنا مَن أحبلها، ولا المولود يعلم مَن أبوه" الحديث[2].

 

وربّما يُقرّب الاستدلال بهما بأنّهما تدلّان على أنّ ذهاب الأنساب سرّ من أسرار حرمة الزنا، فهو أمر مبغوض يجب الاجتناب عنه مهما كان. وكونه حكمة لا يدور حرمة الزنا مدارها لا يضرّ بالقول بحرمة كلّ عمل اشتمل على هذه الحكمة، فانّ الحكمة لا تقصر عن العلّة في موارد ثبوتها، بل تزيد عليها في موارد انتفائها، فإنّ الحكمة بمثابة من الأهميّة توجب احتمالها ومظنّتها إنشاء الحكم بنحو الإطلاق بخلاف العلّة، وتمام الكلام في محلّه[3].

 

إلّا أنّ الروايتين ضعيفتان سنداً، مضافاً إلى أنّ العلّة تُعمّم وتُخصّص دون الحكمة؛ لأنّ


 


[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج14، ص234، الباب 1 من أبواب النكاح المحرّم، ح15.

[2] المصدر نفسه، ص252، الباب 17 من أبواب النكاح المحرّم، ح12.

[3] انظر: المؤمن، محمد، كلمات سديدة في مسائل جديدة، مصدر سابق، ص87-88.

 

 

94


77

الدرس الثامن: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(2)

الحكمة عبارة أخرى عن المقتضي، ومن المحتمل أن يكون معه مانع يمنع عن تأثيره، ولاسيّما في مثل المقام ممّا ذُكر فيه مقتضيات متعدّدة لا يقتضي بعضها إلّا الكراهة، كترك التربية المذكورة في رواية ابن سنان، كما أشار إليه بعض المحقّقين"[1].

 

فيستفاد ممّا ذكر –من دلالة[2] بعض الآيات والروايات، ومقتضى العفّة والإحصان وقاعدة الاحتياط في النفوس والأعراض والدماء والأموال- أنّ مقتضى الاحتياط -الاجتماعي عند بعض والذي لا يترك عند بعض آخر- الاجتناب عن التلقيح بماء الأجنبيّ. وهذا الحكم يشمل الرجل الأجنبيّ -أي صاحب الماء- والمرأة الأجنبيّة -أي التي وقعت النطفة في رحمها-، والله العالم بحكمه[3].


 


[1] مجموعة من الفقهاء والباحثين، قراءات فقهيّة معاصرة في معطيات الطبّ الحديث، مصدر سابق، ص279.

[2] ولا يخفى عليك وجود الفرق الواضح بين الاستدلال بالروايات والاستدلال بالآيات في المقام، فإنّه إذا استندنا في التحريم إلى الروايات فقط، وقلنا بخصوصيّة قيد (رحم يحرم عليه)، فالتلقيح في الخارج خارج عن مدلول الروايات، والحرمة منحصرة بدخول منيّ الرجل في رحم امرأة يحرم عليه. نعم، لو قلنا بإلغاء الخصوصيّة، وذهبنا إلى أنّ الرحم لا دخل له في هذا الحكم، بل الملاك مجرّد تلقيح نطفة الأجنبي مع البويضة الأجنبيّة، فتشمل التلقيح في الخارج أيضاً.

وكيف كان، دلالة الآيات على خصوصيّة الرحم لا ريب فيها؛ فإنّ إطلاق قوله -تعالى-: ﴿فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ﴾ [سورة المؤمنون، الآية 7] يدلّ على عدم جواز جعل المرأة رحمها لغير زوجها مطلقاً حتّى للاستئجار.

[3] وعلى كلّ مكلّف أن يعمل وفق رأي مرجع تقليده، والمسألة من المسائل الخلافية بين الفقهاء.

 

95


78

الدرس الثامن: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(2)

المفاهيم الرئيسة

1. في هذا الدرس نستعرض باقي الأدلّة على الحرمة.

الثاني: النصوص

منها: ما رواه في الكافي عن عليّ بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجل أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه"[1].

 

2. تدلّ النصوص دلالةً واضحةً على أنّ جعل نطفة الرجل في رحم هذا نفسه يحرم عليه معصية كبيرة.

 

- وفيه:

أوّلاً: إنّ هذه النصوص ضعيفة سنداً، فلا تصلح لإثبات الحكم إلّا أن تذكر تأييداً للحكم.

وثانياً: إنّ إقرار النطفة في الرحم ينصرف إلى الزنا والإدخال حتّى يتحقّق الإقرار في الرحم، ويؤيِّده كون فاعل ذلك أشدّ عذاباً يوم القيامة من جميع الناس.

 

3. بالجملة: الأخبار الواردة في المقام تدلّ على رجحان الاحتياط في الفرج والاستيلاد، فلا وجه لتخصيص دائرة الاحتياط بمورد النكاح والدماء، فكما أنّ الاحتياط فيهما مطلوب، كذلك في الاستيلاد.

 

4. الثالث: التسالم بين الأصحاب

 

5. الرابع: السيرة

 

6. الخامس: اختلاط الأنساب

 


 


[1] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص541.

 

 

96


79

الدرس التاسع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(3)

الدرس التاسع

حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(3)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدّرس

1. يذكر حكم صورة ما لو عُلِم استناد الولد إلى ماء الزوج في تحديد نسب الجنين.

2. يستدلّ على حكم صورة الشكّ في استناد الولد إلى الزوج واشتباه الحال.

3. يناقش أدلّة الحكم في صورة انتقال البويضة الملقّحة[1].


 


[1] تمّت الاستفادة في هذا الدرس من "موسوعة أحكام الأطفال وأدلتها" المشرف على جمعها الشيخ محمد جواد الفاضل اللنكراني، مصدر سابق.

 

97


80

الدرس التاسع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(3)

قال السيِّد السبزواري في تعليقته على القول الآتي: "الرابع: تلقيح ماء أجنبيّ معلوم بامرأة ذات بعل ولم يُعلم أن الولد من الفراش أو من التلقيح" يلحق بصاحب الفراش لتغليبه عليه[1].

 

وقال الشيخ الآصفي: "فإذا عُلم استناد الولد إلى ماء الزوج أو شكّ فيه واشتبه الحال فالولد ولد الزوج بلا إشكال، ولا يُنسب إلى الأجنبيّ صاحب الماء، سواء نقل ماءه بطريق الزنا أو بطريق طبّي في رحم المرأة، أمّا في فرض العلم فواضح، وأمّا في صورة الشكّ فلقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"[2]،[3].

 

الصورة الثالثة: إذا انتقلت البويضة الملقّحة -سواء كانت من الزوجين أو من الحيوان المنوي للأجنبي- إلى رحم امرأة غير صاحبة البويضة؛ سواء كانت مزوّجة أو خليّة، كما قيل في مسألة رحم المستأجرة، وتكوّن الولد في رحم المرأة الثانية؛ أي المستأجرة، وثبت أنّ البويضة المنتقلة هي منشأ للولد فقط لا غير، فالرجل الذي هو صاحب الماء أب له عرفاً، كما سيأتي في الصورة الرابعة قريباً، وإنّما الاختلاف في أنّه هل المرأة المستأجرة هي الأمّ للحمل والولد يُنسب إليها، أو يُنسب إلى صاحبة البويضة، أو هما معاً؟ وجوه بل أقوال:

•         القول الأوّل: ما نُسِبَ إلى السيِّد الخوئي قدس سره من أنّ المرأة المذكورة التي زُرع المنيّ في رحمها أمّ للولد شرعاً؛ فإنّ الأمّ هي المرأة التي تلد الولد، كما هو مقتضى قوله -تعالى- ﴿ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمۡۖ إِنۡ أُمَّهَٰتُهُمۡ إِلَّا ٱلَّٰٓـِٔي وَلَدۡنَهُمۡۚ﴾[4]، وصاحب النطفة أب له. وأمّا المرأة صاحبة البويضة فليست أمّاً له... ويترتّب عليه تمام أحكام الولد من السببيّة والنسبيّة بالنسبة إلى أبيه وأمّه[5].


 


[1] السيد عبد الأعلى السبزواري، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، مكتب آية الله العظمى السيد السبزواري (قدس سره)، 1413، ط4، ج25، ص248.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص163.

[3] آصف المحسني، الشيخ محمّد، الفقه والمسائل الطبّية، مصدر سابق، ص101.

[4] سورة المجادلة، الآية 2.

[5] الخوئي، السيد أبو القاسم الموسوي، صراط النجاة، تعليق: الميرزا جواد التبريزي، مصدر سابق، ج1، ص363، سؤال 998.

 

99


81

الدرس التاسع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(3)

•         القول الثاني -وهو الأقوى-: ما ذهب إليه الإمام الخمينيّ قد سره من أنّه لو ثبت أنّ نطفة الزوجين -أي الّلذين انتقلت منهما النطفة والبويضة إلى رحم المرأة الثانية- منشأ للطفل، فالظاهر إلحاقه بهما، سواء انتقل إلى رحم المرأة أو إلى رحم صناعيّة[1]. واختاره بعض المعاصرين[2].

 

وقال في الفتاوى الجديدة: "هذا الولد يخصّ أصحاب النطفة ويكون من محارمهم وورثتهم. أمّا فيما يتعلّق بالأم البديلة فيكون بمثابة ابنها بالرضاعة، بل إنّ لها الأولوية عليه من بعض الجهات؛ لأنّ جميع لحمه وعظمه نامٍ منها، لذا يحرم عليه الزواج فيما بعد من هذه المرأة أو ابنها، ولكنّه لا يرثها[3].

 

وقد أوضح في كتابه (كلمات سديدة) هذا الوجه بقوله: "إنّ ملاك الأمومة عند العرف مثل ملاك الأبوة، وهو كون الطفل في مبدأ خلقته مخلوقاً بمائها، فإذا كان المفروض أنّ نطفته التي هي مبدأ خلقته وأوّل ما يخلق حاصلة من تركّب ماءين فهذا المخلوق الأوّل هو أوّل مراحل وجود الطفل، فالطفل بوجوده الأوّل متقوّم ومستند إلى صاحبي المنيّ والبويضة، بل هو مركّب من جزأين كلّ منهما لواحد من صاحبي البويضة والمنيّ، والتغذّي الذي يلحقه ويحصل له إنّما يوجب نموّه.

 

فالغذاء الذي يتغذّى به في رحم المرأة -كالغذاء الذي يتغذّى به بعد أن تولّد وخرج من الرحم- لا يوجب انقلابه عمّا كان عليه من كونه طفلاً لصاحبي الماءين، فكما أنّه لو أجهض النطفة وربّيت في مصنع معدّ لمثل ذلك إلى أن بلغت مرحلة نفخ الروح وتمكّنت من إدامة الحياة خارج المصنع كسائر أبناء البشر، فكما أنّه لا ريب حينئذ في أنّه ولد لصاحبي البويضة والمنيّ، فهكذا إذا كان رحم المرأة مكان ذاك المصنع المفروض، فالطفل يلحق بصاحبة البويضة؛ وهي أمّ له عند العرف"[4].


 


[1] الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، مصدر سابق، ج2، ص594، مسألة 10.

[2] مجموعة من الفقهاء والباحثين، قراءات فقهيّة معاصرة في معطيات الطبّ الحديث، مصدر سابق، ص265.

[3] شيرازي، ناصر مكارم، الفتاوى الجديدة، (مسائل طبيّة)، مدرسة الإمام علي(ع)، قم-ايران، 1385ه.ش، ص427.

[4] المؤمن، محمد، كلمات سديدة في مسائل جديدة، مصدر سابق، ص98.

 

100


82

الدرس التاسع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(3)

الصورة الرابعة: -وهي العمدة وأكثرها وقوعاً في الخارج-: إذا عُلم أنّ الولد كان من ماء الأجنبيّ، فيلحق بصاحب الماء والمرأة التي ولدته بلا خلاف في ذلك.

 

ففي تحرير الوسيلة: "لو حصل عمل التلقيح بماء غير الزوج، وكانت المرأة ذات بعل، وعُلم أنّ الولد من التلقيح، فلا إشكال في عدم لحوق الولد بالزوج"[1].

 

وفي جامع المسائل للشيخ اللنكراني: "وعلى كلّ حال يلحق الولد بصاحب الماء"[2].

 

وكذا في مجمع المسائل[3]، وجامع الأحكام[4]، وما وراء الفقه[5]، والفقه والمسائل الطبّية[6]، وتوضيح المسائل للمراجع[7]، والفتاوى الجديدة[8].

 

وقال في المهذّب: "يلحق الولد بصاحب الماء وكذلك بالأم وإن كان الفعل نفسه منكراً في الشريعة الإسلاميّة"[9].

 

وفي المسائل المنتخبة: "إن حدث -أي التلقيح- مع العلم والعمد فلا يبعد انتسابه إليه أيضاً، وثبوت جميع أحكام الأبوّة والبنوّة بينهما حتّى الإرث؛ لأنّ المستثنى من الإرث هو الولد عن زنا، وهذا ليس كذلك"[10].

 

وهو الظاهر من منهاج الصالحين، حيث قال: "إذا أدخلت المرأة منيّ رجل أجنبيّ في فرجها أثمت، ولحق بها الولد وبصاحب المني..."[11]، وكذا في مباني منهاج الصالحين[12].


 


[1] الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، مصدر سابق، ج2، ص559.

[2] اللنكراني، الشيخ فاضل، جامع المسائل، مصدر سابق، ج2، ص571.

[3] كلبايكاني، محمد رضا، مجمع المسائل، مصدر سابق، ج2، ص177.

[4] السبزواري، السيد عبد الأعلى، جامع الأحكام، مصدر سابق، ج2، ص53-54.

[5] السيد محمد الصدر، ما وراء الفقه، مصدر سابق، ج6، ص26 وما بعده.

[6] آصف المحسني، الشيخ محمّد، الفقه والمسائل الطبّية، مصدر سابق، ص101.

[7] توضيح المسائل للمراجع، ص765.

[8] شيرازي، ناصر مكارم، الفتاوى الجديدة، (مسائل طبيّة)، مصدر سابق، ص428.

[9] السيد عبد الأعلى السبزواري، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، مصدر سابق، ج25، ص248.

[10] السيستاني، السيد علي الحسيني، المسائل المنتخبة، مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني، إيران - قم، 1414-1993م، ط3،ص533.

[11] الخوئي، السيد أبو القاسم الموسوي، منهاج الصالحين، مصدر سابق، ج2، ص284.

[12] المؤمن، محمّد تقي، مباني منهاج الصالحين، مصدر سابق، ج10، ص254.

 

101


83

الدرس التاسع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(3)

ويدلّ على هذا الحكم أمور منها:

إنّه في كلّ مورد عُلم أنّ الولد انخلق من ماء الرجل ونطفته، نحكم بإلحاقه به، والمفروض أنّنا في المقام نعلم بأنّ الطفل نشأ لأجل عمليّة التلقيح ومن ماء الرجل الأجنبيّ، فيكون ولداً له لغةً وعرفاً.

 

تنبيهات: ما يلحق التلقيح الصناعيّ من أحكام وآثار

ومن الضروريّ أن نذكر في الخاتمة أموراً لا ينبغي أن تُغفل:

الأوّل: أنّ الحكم التكليفيّ لعمليّة التلقيح الصناعيّ مورد خلاف عند الفقهاء، فمنهم من قال بحرمتها، ومنهم من قال بجوازها، وعلى القول بحرمتها، فلو فعلها شخص فهو عاصٍ للشريعة، ولكنّ الحمل يلحق بأبويه، فالمرأة صاحبة البويضة هي أمّ للحمل والولد ينسب إليها، لا إلى المرأة المستأجرة، والرجل الذي هو صاحب النطفة أب له عرفاً ويلحق الولد به كما تقدّم. وأمّا معاملة إجارة الرحم فباطلة؛ لأنّها معاملة على عمل محرّم، ولا تستحقّ المرأة المستأجَرَة الأجرة، وإذا أخذتها بل يجب عليها إرجاعها إلى صاحبها.

 

ويدلّ عليه ما اتّفقوا عليه في باب الإجارة بأنّ من شرائطها أن تكون المنفعة مباحة.

 

قال المحقّق في الشرائع: "الخامس: أن تكون المنفعة مباحة، فلو آجره مسكناً ليصنع فيه خمراً، أو دكّاناً ليبيع فيه آلة محرّمة، أو أجيراً ليحمل له مسكراً، لم تنعقد الإجارة، وربّما قيل بالتحريم وانعقاد الإجارة؛ لإمكان الانتفاع في غير المحرّم، والأوّل أشبه"[1].

 

وكذا في القواعد[2]، وجامع المقاصد[3]، والجواهر[4]. وفي تفصيل الشريعة: "يُعتبر في صحّة الإجارة كون المنفعة مباحةً، فلا تصحّ فيما إذا كانت المنفعة محرّمة، بل


 


[1] المحقق الحلي، شرائع الإسلام، مصدر سابق، ج2، ص186.

[2] العلامة الحلي، قواعد الأحكام، مصدر سابق، ج2، ص286.

[3] المحقق الكركي، الشيخ علي بن الحسين، جامع المقاصد، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم المشرفة، 1408ه، ط1، ج7، ص122.

[4] النجفي، الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام، مصدر سابق، ج27، ص307.

 

102


84

الدرس التاسع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(3)

الظاهر اتّفاق أصحابنا على اعتبار هذا الشرط في صحّة الإجارة، وأنّه لا تنعقد مع حرمة المنفعة"[1].

 

الثاني: إذا حكمنا بإلحاق الولد، الذي تخلّق من طريق عمليّة التلقيح، بالرجل، يترتّب عليه في الجملة أحكام الأب من وجوب النفقة، وحرمة النكاح، وجواز النظر إليها إن كان بنتاً، والولاية له ولأبيه عليه، والتوارث، ويصير لأولاد أبيه أخاً أو أختاً، وهم إخوته أو أخواته.

 

وهكذا في كلّ مورد حكمنا بإلحاق الولد بالمرأة ثبتت أمومتها، ويترتّب عليها أحكام الأمومة في الجملة، فتكون المرأة أمّاً للوليد، فيجوز له النظر إليها، ويجوز لها النظر إليه، وتحرم عليه ويحرم عليها النكاح مؤبّداً، ولها فيه حقّ الحضانة ذكراً كان أم أنثى، ويصير بالنسبة إلى أولاد أمّه إخوة لأم، ويتوارثان على إشكال، كما أشار إلى بعض ذلك في تحرير الوسيلة[2] وغيرها[3].

 

ولكلّ هذه الأحكام أدلّة ومباحث فقهيّة قد ذُكرت أصولها في المطوّلات.

وذكر السيِّد الصدر في "ما وراء الفقه" من جملة الأحكام المترتّبة على التلقيح وجوب مهر المثل، حيث قال: "من تسبّب بحملها فعليه مهر[4] أمثالها يدفعه لها، وإذا كان العمل برضاها وسخط زوجها لو كانت متزوّجة، فالمهر لزوجها بإزاء إشغال رحم زوجته بغير إذنه، وهذا المهر ثابت سواء كانت بكراً عند التلقيح أو ثيّباً. أمّا لو كانت بكراً فعليه دية البكارة، وهي دية النفس كاملة"[5].


 


[1] اللنكراني، الشيخ فاضل، تفصيل الشريعة، كتاب الإجارة، مصدر سابق، ص41-42.

[2] الإمام الخمينيّ، تحرير الوسيلة، مصدر سابق، ج2، ص559.

[3] اللنكراني، الشيخ فاضل، جامع المسائل، مصدر سابق، ج2، ص177؛ السيستاني، المسائل المنتخبة، مصدر سابق، ص533.

[4] الظاهر عدم وجود دليل واضح على ثبوت مهر المثل في المقام، ولا سيّما إذا كان العمل. يرضاها ومخالفة الزوج؛ فإنّ إشغال رحم الزوجة بغير إذنه لا يكون مثبتاً لمهر المثل، مضافاً إلى أنّ الظاهر من الفتاوى ثبوت مهر المثل في موارد الوطء؛ سواء كان بعقد فاسد أو من طريق الشبهة. أمّا في موارد التلقيح من دون الوطء، فلا دليل على ثبوته.

[5] السيد محمد الصدر، ما وراء الفقه، مصدر سابق، ج6، ص20.

 

103


85

الدرس التاسع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(3)

الظاهر اتّفاق أصحابنا على اعتبار هذا الشرط في صحّة الإجارة، وأنّه لا تنعقد مع حرمة المنفعة"[1].

 

الثاني: إذا حكمنا بإلحاق الولد، الذي تخلّق من طريق عمليّة التلقيح، بالرجل، يترتّب عليه في الجملة أحكام الأب من وجوب النفقة، وحرمة النكاح، وجواز النظر إليها إن كان بنتاً، والولاية له ولأبيه عليه، والتوارث، ويصير لأولاد أبيه أخاً أو أختاً، وهم إخوته أو أخواته.

 

وهكذا في كلّ مورد حكمنا بإلحاق الولد بالمرأة ثبتت أمومتها، ويترتّب عليها أحكام الأمومة في الجملة، فتكون المرأة أمّاً للوليد، فيجوز له النظر إليها، ويجوز لها النظر إليه، وتحرم عليه ويحرم عليها النكاح مؤبّداً، ولها فيه حقّ الحضانة ذكراً كان أم أنثى، ويصير بالنسبة إلى أولاد أمّه إخوة لأم، ويتوارثان على إشكال، كما أشار إلى بعض ذلك في تحرير الوسيلة[2] وغيرها[3].

 

ولكلّ هذه الأحكام أدلّة ومباحث فقهيّة قد ذُكرت أصولها في المطوّلات.

وذكر السيِّد الصدر في "ما وراء الفقه" من جملة الأحكام المترتّبة على التلقيح وجوب مهر المثل، حيث قال: "من تسبّب بحملها فعليه مهر[4] أمثالها يدفعه لها، وإذا كان العمل برضاها وسخط زوجها لو كانت متزوّجة، فالمهر لزوجها بإزاء إشغال رحم زوجته بغير إذنه، وهذا المهر ثابت سواء كانت بكراً عند التلقيح أو ثيّباً. أمّا لو كانت بكراً فعليه دية البكارة، وهي دية النفس كاملة"[5].


 


[1] اللنكراني، الشيخ فاضل، تفصيل الشريعة، كتاب الإجارة، مصدر سابق، ص41-42.

[2] الإمام الخمينيّ، تحرير الوسيلة، مصدر سابق، ج2، ص559.

[3] اللنكراني، الشيخ فاضل، جامع المسائل، مصدر سابق، ج2، ص177؛ السيستاني، المسائل المنتخبة، مصدر سابق، ص533.

[4] الظاهر عدم وجود دليل واضح على ثبوت مهر المثل في المقام، ولا سيّما إذا كان العمل. يرضاها ومخالفة الزوج؛ فإنّ إشغال رحم الزوجة بغير إذنه لا يكون مثبتاً لمهر المثل، مضافاً إلى أنّ الظاهر من الفتاوى ثبوت مهر المثل في موارد الوطء؛ سواء كان بعقد فاسد أو من طريق الشبهة. أمّا في موارد التلقيح من دون الوطء، فلا دليل على ثبوته.

[5] السيد محمد الصدر، ما وراء الفقه، مصدر سابق، ج6، ص20.

 

103


85

الدرس التاسع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(3)

الثالث: ينبغي أن لا يترك الاحتياط في كلّ مسائل التلقيح والأحكام المترتّبة عليه، كالمصالحة في باب الإرث، وترك النظر والزواج في مسائل النكاح وغيرها.

 

قال في تحرير الوسيلة -بعد الحكم بإلحاق الولد بصاحب الماء والمرأة إن كان التلقيح شبهة-: "وأمّا لو كان مع العلم والعمد ففي الإلحاق إشكال، ومسائل الإرث في باب التلقيح شبهة كمسائله في الوطء شبهة، وفي العمديّ المحرّم لابدّ من الاحتياط"[1].

 

وفي المهذّب: "وكيف كان، فهذه العمليّة موضوعاً وحكماً مشكلة جدّاً"[2].

 

رأي الإمام الخامنئي (دام ظلّه)

تقدّم معنا أنّ الإمام الخامنئيّ دام ظله يرى جواز تلقيح المرأة بنطفة الرجل الأجنبيّ، وأنّ الطفل المتولّد من هذه العمليّة هو طفل شرعيّ ملحق بأبويه (صاحب النطفة وصاحبة البويضة) واحتاط في ترتّب آثار النسب الشرعية بين الطفل وصاحبة الرحم. قال حفظه الله في جوابه على مسألة:

سؤال: هل يجوز الحمل عن طريق التلقيح الصناعي من نوع (ivf)، وبمن يلحق الجنين الذي يولد بهذه الطريقة؟

 

الجواب: لا مانع منه في نفسه، ولكن يجب الاجتناب عن المقدّمات المحرّمة من قبيل النظر واللمس المحرّمين. وعلى كلّ حال إذا ولد الجنين بهذه الطريقة، فيلحق بصاحبي النطفة والبويضة[3]، ويشكل إلحاقه بصاحبة الرحم؛ فتجب مراعاة الاحتياط في ترتيب آثار النسب الشرعيّة[4] بين الطفل وصاحبة الرحم[5].


 


[1] الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، مصدر سابق، ج2، ص559.

[2] السيد عبد الأعلى السبزواري، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، مصدر سابق، ج25، ص248.

[3] فيكون صاحب النطفة أباه، وصاحبة البويضة أمّه، وتجري أحكام النسب والتوارث بينه وبين صاحب النطفة وصاحبة البويضة.

[4] فيحتاط بعدم لمسها والنظر إليها فيما يحرم على الأجنبيّ لمسه والنظر إليه (مع عدم وجود سبب غيره للتحريم)، وكذا لمس أولادها والنظر إليهم والتزويج منهم. كما يُراعى الاحتياط في الإرث بأن يتم التصالح بين هذا الولد وبين ورثة صاحبة الرحم.

[5] انظر: السيد الخامنئي، موقع مكتب سماحة القائد آية الله العظمى الخامنئي الإلكتروني، التلقيح الصناعي.

 

 

104

 


86

الدرس التاسع: حكم التلقيح وأطفال الأنابيب(3)

المفاهيم الرئيسة

1. يختلف الحكم الوضعيّ للطفل الناتج من عمليّة التلقيح، ومنه تعيين نسبه، باختلاف الصور المفروضة.

 

2. الصورة الأولى: إذا عُلِم استناد الولد إلى ماء الزوج؛ فإنّه يُلحق بالزوج والزوجة بلا إشكال فيه.

 

3. الصورة الثانية: إذا شكّ في إستناد الولد إلى الزوج واشتبه الحال، فيُلحق بهما أيضاً، كما أفتى به جمع من الفقهاء المعاصرين.

 

4. الصورة الثالثة: إذا انتقلت البويضة الملقّحة إلى رحم امرأة غير صاحبة البويضة؛ فالرجل الذي هو صاحب الماء أب له عرفاً، وإنّما الاختلاف في أمّه. وفيه قولان:

القول الأوّل: ما نُسِبَ إلى السيِّد الخوئي قدس سره سره من أنّ المرأة المذكورة التي زرع المنيّ في رحمها أمّ للولد شرعاً؛ فإنّ الأمّ هي المرأة التي تلد الولد، كما هو مقتضى قوله -تعالى- ﴿ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمۡۖ إِنۡ أُمَّهَٰتُهُمۡ إِلَّا ٱلَّٰٓـِٔي وَلَدۡنَهُمۡۚ﴾[1].

 

القول الثاني: -وهو الأقوى-: ما ذهب إليه الإمام الخمينيّ قدس سره من أنّه لو ثبت أنّ نطفة الزوجين -أي الّلذين انتقلت منهما النطفة والبويضة إلى رحم المرأة الثانية- منشأ للطفل، فالظاهر إلحاقه بهما.

 

5. الصورة الرابعة: -وهي العمدة-: إذا علم أنّ الولد كان من ماء الأجنبيّ، فيُلحق بصاحب الماء والمرأة التي ولدته بلا خلاف في ذلك.

 


 


[1] سورة المجادلة، الآية 2.

 

 

105


87

الدرس العاشر: معرفة جنس الجنين والتحكّم فيه

الدرس العاشر

معرفة جنس الجنين والتحكّم فيه

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدّرس 

1. يُجيب عن مسألة مختصّات علم الله سبحانه.

2. يُبيّن حكم اختيار جنس المولود.

3. يُناقش أدلّة حرمة التحكّم بجنس الجنين[1].

 

 

 


[1] حصلت الاستفادة في هذا الدرس من كتاب الفقه مسائل طبيّة لآية الله محمد آصف المحسني، مصدر سابق.

 

 

107


88

الدرس العاشر: معرفة جنس الجنين والتحكّم فيه

تمهيد

توهّم جماعة من أهل العلم بأنّ الإنسان لا يمكن له معرفة جنس الجنين، وأنّ غير الله -سبحانه- لا يعلم ما في الأرحام، مستدلّين على ذلك ببعض الآيات الكريمة والروايات الشريفة.

 

أما الآيات، فمنها:

1. قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ﴾[1]، فإنّ الآية تدلّ على نفي علم غيره -تعالى- بهذه الأمور الخمسة.

 

الجواب: الاستدلال بالآية الكريمة في غاية الضعف، إذ لا يستفاد الحصر منها إلّا في علم الساعة، وذلك لأنّ إثبات شيء لشيء لا يوجب نفيه عمّا عداه كما اشتَهر. وقد ثبت من أدلّة أخرى أنّ علم الساعة خاصّ به -تعالى-. وأمّا أنّه لا يعلم ما في الأرحام غيره -تعالى- فهو دعوى جزافية على إطلاقها.

 

عن أمير المؤمنين عليه السلام في قوله -تعالى-: "﴿إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ﴾، فيعلم الله -سبحانه- ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، وقبيح أو جميل، وسخي أو بخيل، وشقيّ أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنبيّين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلّا الله..."[2].


 


[1] سورة لقمان، الآية 34.

[2] الشريف الرضي، السيد أبو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه - 1967م، ط1، ص186.

 

 

108


89

الدرس العاشر: معرفة جنس الجنين والتحكّم فيه

2. قوله -تعالى-: ﴿ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ﴾[1].

 

الجواب: الجواب المتقدّم نفسه.

 

أما الروايات الشريفة، فمنها:

الروايات الواردة حول تفسير الآية الأولى النافية لعلم غيره -تعالى- بما ذكر فيها من الأمور الخمسة، فعن أبي عبد الله عليه السلام: "هذه الخمسة أشياء لم يطلع عليها ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل، وهي من صفات الله -عزَّ وجلَّ-"[2].

 

الجواب: إنها أوّلاً لم تصح سنداً للإرسال. وثانياً لو تنزّلنا عن موضوع السند فإنّه يمكن تأويلها بما ذكره صاحب بحار الأنوار بأنّ المراد أي بدون تعليم الله - تعالى - ووحيه[3].

 

وفي هذا الصدد يقول الشيخ السبحاني: "أخرج الإمام أحمد في مسنده، عن عبيد الله بن بريدة، عن أبيه، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "خمس لا يعلمهنّ إلّا الله، إنّ الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأيّ أرض تموت إنّ الله عليم خبير".

 

لا شكّ في انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أخبر بأنّ ثمة أُموراً خمسة لا يعلمها إلّا الله يُحتّم علينا القبول لأنّه خبر صادق مصدّق.

 

إنّما الكلام إذا حاولنا استخراج هذا الخبر الغيبيّ من الآية الواردة في آخر سورة لقمان، فالظاهر أنّ الآية لا تدلّ على الانحصار إلّا في موارد ثلاثة:

- علم الساعة: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ﴾.

 

- العلم بما يكسبه الإنسان في غده: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾.

 


[1] السبحاني، الشيخ جعفر، الحديث النبوي بين الرواية والدراية، مؤسسة الإمام الصادق  عليه السلام، 1419هـ، ط1، ص416.

[2] سورة النجم، الآية 46.

[3] سورة القيامة، الآيتان 36 - 37.

 

109


90

الدرس العاشر: معرفة جنس الجنين والتحكّم فيه

- العلم بالأرض التي تموت فيها: ﴿وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ﴾ هذه الأُمور الثلاثة ممّا استأثر الله -سبحانه- علمها لنفسه، وأمّا الأمران الباقيان فلا دلالة في الآية على الاستئثار.

 

أمّا الأوّل: أعني قوله: ﴿وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ﴾ فهو إخبار عن كونه - سبحانه - منزلَ الغيث، ولا دلالة في قوله على استئثار علم النزول بنفسه، ويشهد لذلك تغيير الصيغة بين المعطوف عليه والمعطوف.

 

فالمعطوف عليه جملة اسمية أعني قوله: ﴿عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ﴾.

 

والمعطوف جملة فعلية أعني قوله: ﴿وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ﴾ فلو كانت الجملة الثانية هادفة لبيان الانحصار كان الأنسب أن يقول: "ونزول الغيث"، فتكون الآية بالشكل التالي: إنّ الله عنده علم الساعة ونزول الغيث.

 

وأمّا الثاني: أعني قوله: ﴿وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ﴾ فهو بصدد إثبات العلم للّه -سبحانه- لا بصدد النفي عن غيره، واستفادة النفي منه يحتاج إلى دليل قاطع[1].

 

وعليه، فمن أخبر اليوم بأنّ الجنين ذكر أو أنثى لم يُخالف الدين ولا داعي لتكذيبه، بل الطبّ اليوم قادر على معرفة ذلك في الجملة، والله -تعالى- هو الذي علّم الإنسان التوصّل إلى ذلك.

 

التحكّم في جنس الجنين

من المقرّر علميّاً أنّ جنس المولود يتحدّد في اللحظة الأولى التي يلتقّي فيها الحيوان المنوي البويضة فيُلقّحها. فإذا ما التقى حيوان منوي يحمل شارة الذكورة (Y) والبويضة فإنّ الجنين سيكون ذكراً بإذن الله.. أمّا إذا كان الحيوان المنوي الذي سيُلقّح البويضة يحمل شارة الأنوثة (X) فإنّ الجنين سيكون أنثى بإذن الله.. إذن الحيوان المنويّ أو نطفة الرجل هي التي تُحدّد نوعيّة الجنين: أيكون ذكراً أم أنثى.. يقول الله -تعالى-:

 

 


[1] قيل ليس من الممكن تغيير جنس المبيض داخل الرحم لأنّ التحام حيوان منوي ببويضة أنهى الموضوع وختمه، ورد: بأنّ العلم في تطوّر وليس من حقّ الطبيب وغيره الحكم بالاستحالة وعدم الإمكان والعلم إنّما يصلح للإخبار عن الوقوع وعدم الوقوع حسب الظروف فلاحظ.

 

 

110


91

الدرس العاشر: معرفة جنس الجنين والتحكّم فيه

﴿وَأَنَّهُۥ خَلَقَ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰ ٤٥ مِن نُّطۡفَةٍ إِذَا تُمۡنَىٰ﴾[1]. والنطفة التي تُمنى هي نطفة الرجل بلا ريب. ويقول -تعالى- أيضاً: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى﴾[2].

 

والسؤال أنّه: هل يجوز للوالدين اختيار جنس للجنين على حساب جنس آخر إذا أمكن ذلك طبيّاً؟ بأن يكون هذا الاختيار خارج الرحم ثمّ أُدخلت البويضة الملقّحة في رحمها؟ أو أن يكون داخل الرحم[3] إذا لم يستلزم محرّماً آخر من المسّ والنظر المحرّمين؟

 

قد يُقال بحرمة التحكّم المذكور؛ وذلك لأنّه مناقض لروح الإسلام، ولروح العدالة الإلهية، أو لأنّه من الوأد المنهي عنه في القرآن الكريم، أو لأنّه تدخّل في مشيئة الله –تعالى-، أو لأنّه فيه مخالفة واضحة لقوله -تعالى-: ﴿يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثٗا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ﴾[4].

 

وجميع ما ذُكر فيه مغالطة وتوهّم بل واضح الضعف، فلا نقف عنده. والعمدة في المنع في المقام وغيره هو قوله -تعالى- حكاية عن الشيطان -لعنه الله-: ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا﴾[5].

 

قال الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان: "أي لآمرنّهم بتغيير خلق الله فليُغيّرنه، واختلف في معناه فقيل: يريد دين الله وأمره، عن ابن عباس وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة


 


[1] سورة النجم، الآية 46.

[2] سورة القيامة، الآيتان 36 - 37.

[3] قيل ليس من الممكن تغيير جنس المبيض داخل الرحم لأنّ التحام حيوان منوي ببويضة أنهى الموضوع وختمه، ورد: بأنّ العلم في تطوّر وليس من حقّ الطبيب وغيره الحكم بالاستحالة وعدم الإمكان والعلم إنّما يصلح للإخبار عن الوقوع وعدم الوقوع حسب الظروف فلاحظ.

[4] سورة الشورى، الآية 49.

[5] سورة النساء، الآية 119.

 

 

111


92

الدرس العاشر: معرفة جنس الجنين والتحكّم فيه

وجماعة[1]، وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه السلام، ويؤيِّده قوله -تعالى-: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[2]، وأراد بذلك تحريم الحلال وتحليل الحرام. وقيل: أراد معنى الخصاء... عن ابن عبّاس... وقيل: إنّه الوشم، عن ابن مسعود، وقيل، إنّه أراد الشمس والقمر والحجارة عدلوا عن الانتفاع بها إلى عبادتها، عن الزجّاج"[3] انتهى.

 

أمّا القول الأخير فهو خلاف الظاهر جدّاً أو غلط، فإنّ العدول عن الانتفاع الصحيح بمخلوق ليس تغييراً له، وأمّا القولان الوسطان فهما أيضاً ضعيفان؛ لأنّهما من التقييد من دون مقيّد.

 

وعلى الجملة إن أُريد من تغيير الخلق -الذي هو بمعنى المخلوق؛ ضرورة عدم قدرة البشر على تغيير الخلق بمعنى المصدر والله غالب على أمره - مطلقه لزم تخصيص الأكثر المستهجن جدّاً؛ لجواز تغيير أكثر المخلوقات من النبات والجماد والحيوان بل الإنسان -وإن شئت فقل: إنّ حياة الإنسان وحوائجه الأوليّة موقوفة على تغيير المخلوقات حتّى لا يمكن أكله من دون تغيير، وكلّ ذلك جائز الدينيّة- وإن أريد بعضه، فلا بدّ لإثباته من دليل معتبر وهو مفقود، مع لزوم استهجان تقييد الأكثر وتخصيصه، كما قرّر في أصول الفقه.

 

وأمّا القول الأوّل (أي تغيير الدين) فلا يترتّب عليه محذور أصلاً سوى أنّه مخالف لظاهر الكلمة، وأنّ حمل الخلق على الدين محتاج إلى دليل مفقود، واستعماله فيه إنْ صحّ في قوله: ﴿لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ﴾ لا يوجب صحّته في المقام وغيره من غير دليل.


 


[1] كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك والسدي وغيرهم كما نقل بعضهم وقال: إمّا على معنى أنّ اللّه فطر النّاس على التوحيد والإسلام الوجه له، أو على أن معنى تغيير دين الله تغيير أحكامه كما رجحه محمّد بن جرير الطبري (لاحظ: الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان، عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، لبنان - بيروت، 1415هـ - 1995م، لا.ط، ج5، ص285؛ والفخر الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير، لا.ن، لا.م، لا.ت، ط3، ج11، ص49).

[2] سورة الروم، الآية 30.

[3] الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، مصدر سابق، في تفسير سورة الروم، الآية 30.

 

112


93

الدرس العاشر: معرفة جنس الجنين والتحكّم فيه

ويمكن أن يقال: إنّ قوله -تعالى-: ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ﴾، سواء كان التبتيك بمعنى التشقيق أو القطع قرينة على أنّ المراد بالخلق الدين، فإنّه من تغيير الخلق ولا معنى لعنوانه في مقابله إذا أريد بالخلق المخلوق التكوينيّ.

 

ويدلّ على تفسير الخلق بالدِّين حديثان مذكوران في بحار الأنوار[1]، لكنّ سندهما ضعيف، فلا اعتماد عليهما.

 

ويحتمل أن يُراد بتغيير الخلق مطلقه بغرض تحريم الحلال، ويؤكّده أنّ التبتيك غير محرّم بعنوانه، وليس من الشيطان إلّا بقصد تحريم الحلال كما كان أهل الجاهليّة يفعلون، وعليه فيقرب القولان (أي الأوّل والثاني) في تفسير الآية، وهذا أحسن الأقوال، فإنْ تمّ فهو وإلّا فلا بدّ من الحكم بدخول الآية في المتشابهات.

 

والمتحصّل من جميع ما مرّ جواز التحكّم في جنس الجنين في حدّ نفسه ما لم يستلزم محرّماً آخر؛ اعتماداً على أصالة البراءة.

 

ولكن إذا فرضنا أنّه ينجر إلى الاختلال بالتوازن العامّ الموجود بين الجنسين فنحكم بحرمته بالعنوان الثانويّ، لما يترتّب عليه من مفاسد كما لا يخفى.

 


 


[1] الحديث الأوّل: 56– العياشي: عن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: ﴿وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ   خَلۡقَ ٱللَّهِۚ﴾ قال:"أمر الله بما أمر به".
الحديث الثاني: 57– ومنه عن جابر عن أبي جعفر عليه السلامفي قول الله: ﴿وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ﴾ قال: "دين الله". (العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج60، ص219).

 

113


94

الدرس العاشر: معرفة جنس الجنين والتحكّم فيه

المفاهيم الرئيسة

 

1. توهّم جماعة من أهل العلم بأنّ الإنسان لا يمكن له معرفة جنس الجنين مستدلّين على ذلك ببعض الآيات الكريمة والروايات الشريفة.

 

2. أمّا الآيات، فمنها:

قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[1].

 

الجواب: الاستدلال بالآية الكريمة في غاية الضعف؛ إذ لا يستفاد الحصر منها إلّا في علم الساعة، وذلك لأنّ إثبات شيء لشيء لا يوجب نفيه عمّا عداه كما اشتهر.

 

3. أمّا الروايات الشريفة، فمنها:

الروايات الواردة حول تفسير الآية الأولى النافية لعلم غيره -تعالى- بما ذكر فيها من الأمور الخمسة، فعن أبي عبد الله عليه السلام: "هذه الأشياء الخمسة لم يطلع عليها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهي من صفات الله -عزَّ وجلَّ-"[2].

 

الجواب: إنّها أوّلاً لم تصحّ سنداً للإرسال، وثانياً لو تنزّلنا عن موضوع السند فإنّه يمكن تأويلها بما ذكره صاحب بحار الأنوار بأنّ المراد: "بدون تعليم الله -تعالى- ووحيه".

 

التحكّم في جنس الجنين

1. العمدة في المنع في المقام وغيره هو قوله -تعالى- حكاية عن الشيطان -لعنه الله-: ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا﴾[3].

 

أ. إن أُريد من تغيير الخلق مطلقه لزم تخصيص الأكثر المستهجن جدّاً؛ لجواز تغيير أكثر المخلوقات من النبات والجماد والحيوان بل الإنسان.

ب. إن أُريد تغيير الدين فلا يترتّب عليه محذور أصلاً سوى أنّه مخالف لظاهر الكلمة.

 

2. المتحصّل من جميع ما مرّ جواز التحكّم في جنس الجنين في حدّ نفسه ما لم يستلزم محرّماً آخر، اعتماداً على أصالة البراءة.

 


[1] سورة لقمان، الآية 34.

[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج4، ص82.

[3] سورة النساء، الآية 119.

 

 

114


95
بحوث فقهيّة في العلاقات الأسريّة