سأكون عينيك
-داليا فنيش-
اسم الجريح: المجاهد أمجد محمود شعيب (نور).
مكان الإصابة: مزارع شبعا.
تاريخ الإصابة: 2005م.
نوع الإصابة: فقدان البصر.
مجلة بقيّة الله / العدد 341/ جمادى الآخرة 1441هـ/ - شباط 2020 م/ السنة التاسعة والعشرون.
«ها هي المقاومة عَرفت دم الحسين الأطهرِ.. ترفع راية النصر على أعلى بيرقٍ، قبضاتُ رجالها حيدريّة، يضغطون على الزناد فيتبدّد ليل الاحتلال المظلم... طهّر الله قلوبهم وآمنوا باليوم الآخر، لا يخشون الموت ويرحلون إلى الله بثوب شهادةٍ مطهّرة». هي كلمات ثوريّة سكبت الصمت في وحي الهيام فتشظّى، كتبها أمجد أحد أبناء المقاومة الشرفاء، بينما كان يرابط يوميّاً في أعالي جبال لبنان، مرسلاً رسالةً للعدوّ الإسرائيليّ مع كلّ حرفٍ من حروفها، أنّ المجاهدين سيبقون العين الساهرة على الوطن. طيفٌ من الأزل القديم أحاط به، فراح يُحدّثنا...
حكاية الجهاد
ولدتُ في بيتٍ مقاوم، يَحبُكُ الأرواح غزلاً من ضياء، فتترعرع على حبّ المقاومة والجهاد، وأنا الذي كنت أُضحي وأُمسي على كلمات والدي المزروعة أقصى الشِغاف: « متى سترفعون رأسي لأفتخر بكم شهداء؟ يجب أن تكونوا مثل هؤلاء الأبطال».
وفي أحد الأيّام، وبينما كنت جالساً معه، تقدّم مني هامساً: «اقرع باب الجنان بانضمامك إلى صفوف المقاومين، أفرِح قلبي حتى أموت مرتاحًا».
وهكذا بدأت حكاية الجهاد، حين انطلقتُ في هذا الدرب الطويل، وصولًا لمشاركتي في تحرير العام 2000م، أعين الغرباء الحاقدين رصدتني، حيث بقيتُ محاصراً لأربعة أيّام في مكانٍ خالٍ من الطعام والشراب، قبل أن يتمكّن الإخوة المجاهدون من تحريري.
سرّ النظرات
وفّقني الله بشريكة طاعنةٍ في الحب لحياتي، زوجة مضحّية صابرة. بعد مدّة من زواجي طُلبتُ إلى مهمّة جهاديّة، فودّعتُ الأهل، وأوصيت زوجتي الاعتناء بنفسها وبجنينها، لكنها بادرتني بنظراتٍ استغربتها، وقالت لي إنّها لا تكتفي من النظر في عينيّ. لم أعرف وقتها السرّ في ما فعلت، ولم أدرك أنّها ستكون مصدر النور الذي اختفى من عينيّ في المستقبل القريب بعد انطفاء شمسهما.
«هل فقدتُ بصري؟»
وصلتُ إلى المكان المقصود عصرًا، وبعد أن أدّيتُ صلاة العشاءين، دعوتُ الله أن يهبني نسمة لطفٍ ويرزقني الشهادة. وبعد رصدٍ طال وقتًا، انطلقتُ في مهمّتي.
تلك الطرق التي مررت بها تنعش الروح برائحة تراب الجنوب، وبعد مسيرٍ دام ساعة ونصف، داست قدمي عبوة مخفية، فانفجرت بنا، تدحرجتُ وارتطمتُ بشجرة. حاولتُ القيام لكنّ عجزًا تملّكني. سمعتُ صوتاً خفيفاً لرفيقي جواد، فقلتُ له: «أين أنت يا جواد؟ وماذا حصل؟». قال: «قد بُتِرت رجلايَ». تقاسمنا الصبر على الأوجاع، صرخنا من أعماق قلبَينا لعلّ أحداً يسمعنا ويساعدنا، ثمّ وضعتُ يدي على وجهي وإذا بالدم يسيل من عينيّ، وأحسستُ أنّ وجهي يحترق.
بعد ساعات، زحف بعض الشباب إلينا، ولم يكن معهم سوى حمّالة واحدة، فطلبتُ منهم حمل جواد عليها لأنّه كان فاقداً للوعي، بينما حملني آخرون على الأكتاف. قلت لهم: «هل فقدتُ بصري؟ أنا لا أرى شيئاً». قال أحدهم: «لا، عيناك بخير».
«سأكون عينَيك»
أخضعت للعديد من العمليّات في يديّ وقدميّ. وبعد خمسة أيّام من الإصابة، جاء وفد من قِبل سماحة الأمين العام السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) وهنّأني بالسلامة: «السيّد يتمنّى عليك أن تتحلّى بالصبر والتحمّل، ففي ذلك جهاد؛ لذا كن قويّاً، وتغلّب على معاناتك».
بعد العلاج الفيزيائيّ بدأتُ أحرّك يدَيَّ مع كثيرٍ من المعاناة والألم. وأكثر ما آلمني هو ملازمة زوجتي الحامل لي دون أن تفارقني لحظةً واحدة، وكانت دائماً تقول لي: «أنت قدّمتَ عينيك فداء للوطن والشرف والحقّ، وأنا سأكون عينيك، ولي الشرف أن أكون زوجة جريح دافع عن وطنه وأهله».
وبعد مرور شهر، أخبرني الطبيب أنّني فقدتُ بصري إلى الأبد. شكرتُ الله لأنّني أبصرتُ النور من خلال أرض الجنوب، أأبخل عليها ببصري؟
السند والمعتمد
تقول الزوجة: «أمجد لم يتغيّر بعد الإصابة، فأنا أعتمد عليه في الكثير من الأمور، ولا يحبُّ أن يعتمد على أحد، وهو من يتسوّق لنا أغراض المنزل، ويساعدني في تربية الأولاد. حياتي استمرّت بتغيّر كبير، هو وسام الشرف الذي أفتخر به مدى العمر».
«أبي تاج على رؤوسنا»
تربطني علاقة قويّة بأبنائي الأربعة؛ إذ إنّني أرى النور بهم، وخاصّة أميرة المنزل، ابنتي الكبرى بتول التي تهتمّ بأموري الخاصّة جدّاً، وهي تقول عنّي: «أنا أفتخر بهذا الرجل العظيم، فهو تاج يجب أن يضعه كلّ إنسان شريف على رأسه»، وتخاطبني قائلة: «لا تخف يا والدي، فأنا سأكون عينَيك اللتَين فقدتهما أثناء جهادك».
أمّا عبّاس، فيعشق خدمة الآخرين ومساعدتهم، ويلحّ على والده ليطلب منه ما يريد، غير مسموح لأحد أن يخدمه، فهذا واجبه، يقول أمجد: «عندما وُلد عبّاس حملته بين ذراعَيّ ورفعته إلى جهة القبلة وقلت: يا رب منَّ على ولدي بالشهادة عندما يكبر، ليرفع رأسي عند مولاتي السيّدة الزهراء (عليها السلام)».
«رحيل» تسأل والدها: «أين عيناك؟» فيحدّثها بما جرى، فتقول: «لا تخف سأقدّم لك عندما أكبر عيوناً». آخر العنقود لا تتعدّى الأشهر، غنّوجة المنزل، هؤلاء الأولاد غيّروا حياة أمجد ليكون أقوى.
رحلة جهاديّة
قرّر أمجد القيام برحلة جهاديّة مع أولاده ليعرّفهم إلى أرض الجنوب العصيّة على المغتصبين. وردة وجعه فاح أريجها، فعرف أنّه وصل من رائحة التراب والهواء، «كنت أشتاق لأضمّ أغصان اللوز والتفاح وأقبّل ثمارها». كان غارقاً في أحلامه يبحث عن الجبل الذي حرسه، والمغارة التي احتمى بها، وساقية الماء التي ارتوى منها. قاطعته ابنته بتول: «هذه الأرض جميلة جدّاً، وفرحتُ كونها تلطّخت ببعض دمك الغالي».
لا تجعل الدنيا لي سجناً
بعد مرور سنة على الإصابة، أحسّ أمجد بملل وضجر كبيرَين، لم يترك الحزن لقلبه موضعًا يحيا به، ذكرى أيام الجهاد كادت تفتك به، وكلّما ضاقت به الأيّام كان يكرّر دعاء: «اللهمّ لا تجعل الدنيا لي سجناً ولا فراقها عليَّ حزناً»[1].
يذكر أوّل حادثة قرّر فيها الاعتماد على نفسه: «كنت في شهر رمضان جالساً على شرفة المنزل، فخطر في بالي أن أذهب إلى منزل أهل زوجتي أثناء السحور، كنت خائفاً من العواقب التي ستخبئها الدروب ولن أراها، ولكني تغلّبت عليها، واجتزت مسافة تقارب 150 متراً، تفيض صعوبة وخطرًا، لكن في النهاية وصلت إلى المنزل، فتحت زوجة عمّي لي الباب أذهلتها الصدمة: «كيف أتيت بمفردك؟». وهكذا بدأ بالتنقّل من مكان إلى آخر حتّى أصبح يتجوّل في جميع طرقات القرية، «العصا تساعدني كثيراً وأعتمد عليها».
في درب الحياة
تدرّبتُ على صيد الأسماك، وأنا أمارس هوايتي على نهر العاصي برفقة بعض الأصدقاء. تعلَّمتُ صناعة القشّ وشاركت في معارض كثيرة. أتقنتُ عزف البيانو من خلال مؤسّسة الجرحى وبلديّة الهرمل، ثمّ أخذتُ أطوّر نفسي عبر سماع المقطوعات ومن ثمّ عزف مقطوعات خاصّة بي، وشاركتُ مع فرقة الجراح التابعة للجرحى. أستخدم الهاتف من خلال البرنامج الخاصّ بالمكفوفين، وأنا ناشط على وسائل التواصل الاجتماعيّ، ولديّ صفحة تخدم المقاومة وجمهورها.
خضعتُ للعديد من الدورات الثقافيّة والتربويّة، وأحضر في مسجد الضيعة بشكلٍ مستمرّ بحمد الله.
قولٌ وفعل
«لا تخافوا إذا استشهد أبناؤكم أو جُرحوا، افتخروا بذلك، كونوا بقربهم، ساعدوهم للتغلّب على جراحهم كي يمتلكوا العزيمة». فالإصابة جُعلت لصنع المعجزات، لا للفشل والاستسلام. والإنسان المؤمن يكتشف إيمانه في الأوقات الصعبة، أمّا دور الجريح، فإنّه لم ينتهِ بعد وإلّا لاختاره الله شهيداً، وبذلك نكون قد قرنّا قول (يا ليتنا كنّا معكم، فنفوز فوزاً عظيماً) بالفعل حقّاً».
[1] مقتبس من الصحيفة السجادية، ص573.