تسابيح جراح

«إنّ قولنا: أجرُ الجرحى في تزايد يوماً بعد آخر، قولٌ دقيق، وكلّ ساعة تمرّ من أعماركم يتضاعف أجرُكم فيها بذلك المقدار»


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2024-01

النسخة:


الكاتب

مجلة بقية الله

بقية الله مجلة إسلامية جامعة متنوعة المواضيع متوجهة إلى جمهور القراء؛ لذا فهي تعتمد أسلوب اللغة الواضحة، والمفهومة، وبساطة التعبير، مع المحافظة على العمق والدقة؛ بحيث يمكن للجميع قراءة مضمونها مهما كانت مستوياتهم العلمية، حيث يجد كل منهم ما يستحق القراءة ويحقق الاستفادة.


كلمة مجلّة بقية الله

كلمة مجلّة بقية الله

الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، وبعد...

فإنّه ليس بمقدور المرء أن يحدّد مكانة الجرحى، ويوصّف مقامهم الذي يستحقّونه؛ أولئك الذين بذلوا حواسّهم وأطراف أجسادهم في سبيل الله، يمثّلون بجراحاتهم أسمى مقامات التضحية التي لا ينضب معينها، والتي تستمرّ معهم طوال حياتهم؛ ليكونوا بذلك مصدر تأثير مستمرّ، تستضيء بنوره العقول، وتُصوَّب به بوصلةُ التائهين، فضلاً عمّا يعود عليهم أنفسهم من أجرٍ يتزايد يوماً بعد يوم، مع كلّ ألم يتحرّك فيهم وعند كل أنّة تستوطن جراحهم، وفي ذلك يقول الإمام الخامنئيّ المفدّى(دام ظله): «إنّ قولنا: أجرُ الجرحى في تزايد يوماً بعد آخر، قولٌ دقيق، وكلّ ساعة تمرّ من أعماركم يتضاعف أجرُكم فيها بذلك المقدار»[1].

كانت قصصهم منذ انطلاقة المقاومة محطّ تحريك مشاعر وأحاسيس كلّ مَن يقرؤها بحبّ وتأمّل، فإنّ مَن يقرؤها، ولو بعد حين من آلامهم، ستكون بالنسبة إليه بمثابة الدليل الذي يسلك به مسلك المبادئ السامية والأخلاق الرفيعة، مثل التوكّل والتسليم والتضحية والفداء والسخاء والأمل...، علاوة على البُعد الأخرويّ الذي يتلقّاه المتأمّل بتلك القصص، ليصبح أكثر ارتباطاً بذاك اليوم الذي يقف فيه بين يدي الله تعالى. وإنّ ما يعيشه الإنسان اليوم، في هذه الدنيا، لا يعدو كونه جسراً يعبر به إلى عالم أخرويّ وأبديّ، والمُوَفَّق في عبور هذا الجسر هو مَن يقدّم ما يعمر به آخرته التي تمثل الحياة الحقيقية: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ (الفجر: 24)، وهذا ما سطره الجرحى بتضحياتهم، لتكون جراحهم أوسمة عبور وكلمات مرور إلى حيث الفوز العظيم.

وقد تشرّفت مجلّة «بقيّة الله» بنشر قصص جرحى المقاومة، حتّى أصبح لديها تراثٌ كبير من حكاياهم التي تضجّ بالعزّة والإباء، وتموج بالتضحية والولاء. ولأجل حفظها وتقديمها للعاشقين والمحبّين والتائقين سلوك درب الجهاد؛ بادرت المجلّة، بالتعاون مع مؤسّسة الجرحى لإصدار كتابٍ يجمع طرفاً من تلك القصص المباركة، ليكون ذلك عربونَ وفاءٍ متواضعاً لأولئك الأبطال؛ تخليداً لتضحياتهم، وتدليلاً على فضل النهج الذي سلكوه في حياتهم، وإسهاماً منها في نشر ثقافة العطاء والسخاء في سبيل الله والأمّة.

ونرجو من الله العليّ القدير، أن يتقبّل منّا ما نشرناه وننشره، من قصص هؤلاء الأبطال، وأن يوفقّهم ويسدّدهم.

مجلّة بقيّة الله

[1] من كلمة له (دام ظله) في العام 2015م.


7

كلمة مجلّة بقية الله

كلمة مؤسسة الجرحى

وجب علينا نحن كبشرٍ أن نخطَّ ما قمنا به لنتعلّم من تاريخنا إن أخطأنا، ولنخلّد أمجادنا إن كنا قد أسلفنا الخير في سابق أيامنا، فتكون لهذه الكتابات ألوان عدّة تتماوج ما بين ترسيخٍ لحقائق لا تحمل الزيف، أو تكريمٍ لجهودٍ بُذِلت وجب أن يخلّدها التاريخ، أو أخذِ العبرةِ من دروسٍ عاشها الناس في حلوِ الليالي ومرّها، والأهم من ذلك كلّه نقش الواقع حرفيّاً في ذاكرة الأجيال كي لا تُنسى فضائل من واجه وناضل وضحّى، لما لذلك من أهميّة تنعكس على روحيّة المجتمع ككلّ، فتشكّل الدافع والمسوّغ للصبر والعزيمة والإقدام والاستمرار.

ولأنّنا شعبٌ وعى باكراً على مظلوميّةٍ عاشها، واضطهادٍ مورس عليه بعنفٍ ووحشيةٍ إن كان باحتلال أرضه، أو بسجن شبّانه، أو تدمير بيوته، أو بفرض العقوبات عليه بكافة الأشكال، واجه ذلك كلّه بلحمه العاري وإن سُحِق، أو بُترت بعض أطرافه، أو حتى إن سلّم روحه قرباناً على مذبح المواجهة، تكليفُنا الأخلاقيُّ أن نحفظ من جاد بنفسه وبجسده ودمه وروحه بإحياء إنجازاته، ونشرها ليعلم العالم مدى افتخارنا بمن حمل همّ الأرض والعرض، ولم يتوانَ البتّة عن الإقدام والوثوب في حِجرِ الموت كي نحيا.

من هنا برز دور مؤسسة الجرحى لبثّ الروح في أحداثٍ عاشها كلّ جريحٍ لإضفاء صفة الديمومة عليها، كي تحيا فينا ما حيينا، وهذا أبسط ما يمكن أن نقدّمه كمؤسّسةٍ هدفها العناية بالجرحى وذويهم، فتكون هي الذراع والعين والقدم وكلّ عضوٍ قد بُتِر من جسدِ مجاهدٍ ليحمينا، وقد لمسنا طيف البركة من نشر تلك القصص الموشحة بالمعجزات، لما لأصحابها من كراماتٍ عند الله، فهم الوحيدون الذين تركوا أجزاءً منهم في الحرب حين عاد الجميع، ولهذا نحن مستمرّون في نقش تاريخنا الأنصع طالما هناك ظلم يقابله مقاومة، عملًا بتوصيات الإمام السيد علي الخامنئيّ(دام ظله) وسماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله (دامت بركاته)، وكبادرة امتنانٍ لما قدّمه هؤلاء الأبطال، والله من وراء القصد، وهذا أقلّ الواجب الذي علينا تقديمه كوفاءٍ لحقّهم، في مقابل كثير العطاء الذي قدّموه وما زالوا يقدّمونه.

مدير عام مؤسسة الجرحى في لبنان
محمد دكروب


9

حين تُقدِّمُه بفرح

حين تُقدِّمُه بفرح..

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد محمد عبد المجيد قانصوه (بلال).

مكان الإصابة: كفررمان.

تاريخ الإصابة: 23/7/1983 م.

نوع الإصابة: بتر الساق اليمنى.

مجلة بقيّة الله / العدد 350/ ربيع الأول - ربيع الآخر 1442 هـ/تشرين الثاني 2020 م/ السنة الثلاثون.

حين شاركت النجوم مكانها، ظننت أنّ قاذف الـB7 الذي كنت أحتضنه انفجر. تلاشت الدنيا عن عينيّ خلال لحظات، ملكوت السماء بكلّه حضر، يا فرحتي! طلبتني الشهادة! تلوت بضع كلمات باطمئنان: «أشهد أن لا إله إلّا الله»، وأسلمت النفس، أغمضت عينَيّ وابتسمت. مرّت الثواني ببطء، عدت إلى رشدي، وعلى ثغري توكّأَت تساؤلات: تُرى هل هناك تعاقبٌ لليلٍ ونهار في البرزخ؟ ما هذا النور كلّه الذي يملأ المكان ويكسر حاجز الظلمة؟

صوت قريبي المصاب بجانبي خلق اليقين داخلي أنّي ما زلت أرزح تحت أنياب الدنيا، جذبني النور مجدّداً، أمعنت النظر، إنّه موقع الدبشة الصهيونيّ يسطع بالإضاءة ليكشف سبل المجاهدين. تشريكة الألغام الخاصّة بالآليّات كانت تذكرة المضيّ من عالم الجهاد الممهور بالعرق والكدّ إلى عالم الشهادة الممهور بالدم، قدمي التي بُترت كانت هي الجواز، وأمّا عن نزيفٍ أذهلني عن الإحساس بقدمي الأخرى، فلا يسعني البوح سوى بأنّ الأحمر جميلٌ جدّاً، خصوصاً حين تقدّمه بفرح.

الطريق البيضاء

بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، ببركة الإمام الخمينيّ العظيم (قدس سره)، بدأت النهضة الإسلاميّة في لبنان. عندما تأسّس حزب الله عام 1982م، خضعتُ لدورة عسكريّة، وانطلقت بعدها في العمل العسكريّ. باشرت عملي الجهاديّ في الجنوب عام 1985م، إلى جانب استكمال دراستي الجامعيّة في اختصاص الميكانيك. كان علينا مراقبة ورصد تحركّات العدوّ الصهيونيّ في محور كفررمان. احتاج المجاهدون في كفرصير للمؤازرة فانطلقنا لمساعدتهم. مشينا في الطريق البيضاء، اجتازها رفاقي، وحين خطوت دوّى الانفجار، ورحت أذوب.

قام المجاهدون بسحبي، وصلت بالإسعاف إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة، خضعت فيها لجراحة كُلّلت بالنجاح، بعدها ماج الفقد بي، وغبت عن الوعي لأربعة أشهر متتالية. الوجع القاتل لم يسمح لي باستيعاب ما عشت، خضعت لثماني جراحات لترميم أذني، ذاكرتي الهشّة احتفظت بصورٍ لشراييني التي كانت بارزة، كما أنّ أنبوب نقل الدم الذي بقي ردحاً من الزمن نابتاً في وريدي، ما زال حاضراً في البال.

خدمة الجرحى شرفٌ لي

إصابتي لم تُعقني مطلقاً. أهمّ طباعي أنّي أعاند الظروف وأتعالى عليها. لم أستسلم مقدار لحظة، فالمعوّق معوّق العقل وليس الجسد، وطالما أهداني ربّي عقلاً راجحاً، فكلّي إيمانٌ بأنّ رسالتي لم تنتهِ؛ لذلك عملت في مؤسّسة الشهيد عام 1988م. وحين صار لمؤسّسة الجرحى كيانٌ قائمٌ بذاته، تسلّمت عام 1991م الملف الاجتماعيّ للجرحى، أستقبلهم في المستشفيات، وأتابع أمورهم كافّة. ولأنّي منهم، وجدت سهولة في التعاطي معهم، وكنت مقرّباً إليهم. تسلّمت إدارة منطقة بيروت لشؤون الجرحى عام 1994م. كنت وسأبقى في خدمة هذه الشريحة من المقاومين الذين قدّموا كلّ ما يملكون، وأهدونا الانتصار، وما وقفوا يوماً على أطلال ما سُلِبوه في ميدان الجهاد. عقيدتهم أنّ ما كان لله ينمو، وتلك الأعضاء التي فُقِدت في الحرب إنّما سبقتهم إلى الجنّة، ويكفيهم الفخر أنّ الانتماء إلى خطّ الحقّ الذي يتمثّل بحزب الله، يوصل إلى الفردوس الأعلى. جراحي في هذا النهج أعتبرها مسؤوليّة، وخدمة الجرحى شرف لي.

بطولة وعزيمة

بعد حرقةٍ راقية الأوجاع، قسم لي الله بلطفه كلَّ الخير، تزوّجت ورُزِقت بثلاثة شبّان هم روحي التي بين جنبيّ. أمارس العيش ككلّ الناس، أحبّ الرياضة كثيراً، خصوصاً كرة الطاولة، وكنت عضواً في اللجنة البارالمبيّة، وقد شاركت في العديد من البطولات، وفزت ببطولة لفئة المعوّقين، كما وأعشق السباحة. أشكر الله أنّ جراحي ستُكتب في صحيفة أعمالي، وستشفع لي يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم.

فارس الحجاز

قبل توجّهي لأداء فريضة الحجّ بأشهر، رأيت في عالم الرؤيا أنّي أطوف حول الكعبة وألبّي. زُرِع اليقين داخلي أنّي سأُرزق الحجّ، قدّمت أوراقي وكان اسمي من بين الأسماء التي كُتِب لها ذلك. زهد الأوضاع الماديّة أرهقني، فحملت العزم في جعبتي والتسليم، كنت وكان الله معي، صدقته النيّة وانطلقت. وضع الحملة المزري دفع أفرادها للانتشار حين طرأ عطلٌ على الباص بعد وصولنا، وكلٌّ مشى وحده. اقترن الذكر بأنفاسي. كنت وِتراً لا صديق لي سوى عكّازي، ولكثرة ما التحم بي أكل بعض جلدي، فازداد في جنب الحبيب صبري، وفي بئر رأسي نداء: «يا أيّها العزيز، قد ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾» (الأنبياء: 83). وفي لحظة ضاقت الدنيا في عينيّ، ذكرت فارس الحجاز، وغيم مقلتَيّ يسحُّ ما اكتنز من دمع. تبادر إلى ذهني أن أقترب من الكعبة أثناء صلاة الحجيج، قوّة عجيبة سرت في مفاصلي، أدّيت الصلاة وبدأ الطواف، انتهى الأوّل فالثاني... إلى السابع، سبحانك من معين، لقد أدّيت طوافي! ذاك العزم السماويّ دفع بي نحو الصفا والمروة، حان وقت السعي، نظرت وقدرتي المنكسِرة تحدو بي، ناجيته بأنينٍ حزين: «ها إنّي أُحرِمُ في ميقاتِ الدَّمعِ، وأذرفُ سجدةَ شكرٍ في محرابِ يديك، أفرشُ صحرائي الجدباءَ حقولاً من عشبِ التوبةِ في كفَّيْكْ، مؤتزراً كلَّ حنينِ القلبِ أتيتُكَ أسعى، بين الحُلُمِ وبين الحِلْمِ، أتيتُ لأقرعَ بابَ العفوِ، وأشربَ نورَكَ من ميزابِ الرحمةِ يا الله، قد جئتك من ركنِ يقيني، من مَرْمَر هذا القلبِ ألبّي، يا كلَّ القدرةِ فأعنّي..». وإذ بشابّ قمحيّ البشرة، في خدّه خالٌ له من الروعة كلّ القِسمة، وقف بجانبي مع كرسيٍّ متحرّك لا يشبه الكراسي الموزّعة على الحمّالين.. أومأ لي بالجلوس، فأخبرته أنّ لا مال لديّ، أجابني: «أعرف».. أردفت قائلاً: إنّ سعينا يبدأ من حدود الصخرة، هزّ رأسه بالقبول وبدأ السعي بي. رافق نبضي حتّى الشوط السابع، وحين هممت بالقيام لأشكره عند انتهائنا، اختفى وكرسيُّه خلال لحظات، بكيت لغفلتي، فحين أسلمت أمري لخالقي بصدق، كان المدد الغيبيّ حاضراً لتوّه.

ذكريات خالدة

من الذكريات المخفوقة في لون الصبا، ما هو عصيٌّ على النسيان. أذكر حين مكثت في الجنوب أني مُنحتُ نعمة الاهتمام بوالدي، مرضه الخبيث آذاني، السرطان الذي فتك به لم يكن سبب تعلّقي العظيم بروحه، فما كُتِب لنا افتراقٌ دون وداع، وإن كنّا في المشفى عينه وتفصل بيننا طبقة واحدة، فالغيبوبة التي دخلتُها حالت دون لقائه قبل رحيله إلى المستقرّ الأبديّ. أمّا رحيق الذكريات، فيعبق حين تلوح صورة الإمام الخمينيّ (قدس سره) في خافقي، أذكر زيارتنا له في إيران، حيث أكرمنا الله بالتبرّك برؤيته، أعيش حضوري بين يديه كلّ لحظة، ويسكُنني النور المتألّق في وجهه. انتابني الشعور عينه عند لقائي بالإمام السيّد علي الخامنئيّ  (دام ظله) سنة 1997م، عندما كنت في خدمة وفود الجرحى في إيران، كانت فرحة عارمة أن دخلنا منزله وصلّينا بإمامته، تلك النزهة في وجهه الحسن كحلمٍ ورديّ، وذاك الفيض النورانيّ لا يبارحني، يشبه مرور عطرٍ فاخرٍ شديد التباهي لا يتيح نفسه إلّا للحظات، ينسيك كلّ ما حولك، وينتشلك من عالم المادة إلى ملكوت الروح.

أمنيةٌ ورجاء

لأنّنا نُسنِد الأمس إلى الغد، وكنّا في سوح المقاومة بملء عقيدتنا، أقول لإخواني الذين وهبهم الله وسام الجراح: «دوركم يا أحبّائي لم ينتهِ بعد، كونوا القدوة الحسنة المؤثّرة في الناس، اخدموهم قدر استطاعتكم، تلك النظرة التي حبَوْكم بها على أنّكم ملائكة قدّمتم أجسادكم على مذبح التضحية؛ لأجل أن يحيا الجمعُ الأكبر بسلام، يجب أن تستثمروها لإثبات عقيدة حزب الله ورسالته أكثر. ولأنّي منكم لن يُنكرَني صوتي، نحن جنود وقفنا على باب الموت، سنكون مدرسةً في الصبر والتحمّل والعطاء.. علينا أن نُظهر أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، وأن ننبذ العصبيّة واليأس.

وأنا كفردٍ منكم أستلذّ بدقّة جُرحي وأتحدّاه، لم يركعني يوماً، بل طوّعته في سبيل راحتكم قربةً لله. أقول لكم: إنّ مؤسسة الجرحى معكم ومحيطةٌ بكم، وجاهزة لتسهيل عوائق حياتكم. الجؤوا إلى الله، وتقرّبوا منه بالدعاء والصلاة، خصوصاً في أوّل وقتها، وإحياء المناسبات وتحديداً في محرّم، فإنّ جراحكم تحمل بعضاً من مشاهد عاشوراء، أليس العبّاس ابن أمير المؤمنين (عليهما السلام) قدوتنا؟ هل أضعفه سيل الإصابات عن تأدية واجب الدفاع عن إمامه والخيام؟ كذلك نحن، علينا أن نستمّر».

 

 


11

على قدمٍ وساق

على قدمٍ وساق

-نسرين إدريس قازان-

اسم الجريح: المجاهد عماد خشمان (أبو حسن).

مكان الإصابة: طريق المطار.

تاريخ الإصابة: 13/7/1986 م.

نوع الإصابة: بتر الفخذ الأيسر.

مجلة بقية الله/ العدد 343/ شعبان - شهر رمضان 1441هـ / نيسان 2020م / السنة التاسعة والعشرون.

وفي زحمةِ العمل وتراكضِ الأيّام، أحنُّ إلى ملاحقة أبي لي ولرفيقي في المحاور.. كنّا طفلين شقيّين، لم نرضَ -إلّا رغماً عنّا- العودة إلى منزلَينا، وكلّما سنحت الفرصة للهروب، توجّهنا إلى حيث المجاهدون يحمون أطراف الضاحية الجنوبيّة، فنحمل سلاحاً أطول منّا. كان جميع مَن حولي مجاهدين: والدي، إخوتي، جيراننا... فلماذا لا أكون معهم؟ أهو العمر؟ الموقف لا يُقاسُ بعدد السنين. ولكنّ أبي أراد تجنيبي ذلك حتّى يشتدّ عودي، مع أنّه كان ممّن يدرك ضرورة أن يقسو عظم الإنسان باكراً جدّاً.

يوم اشتدّ عودي

كلّما مكثتُ في مكانٍ، جاء من يقول لي: «والدك يريدك..». إنّه الفخُّ الذي لم أنجح بالتفلّت منه، فـ «السلاح مسؤوليّة»، هكذا كان يقول لي دوماً، إلى أن اجتاح العدوّ الإسرائيليّ لبنان، وكنتُ قد بلغت السادسة عشرة من عمري، يومها، اطمأنّ إلى أنّي في مركز الإشارة أقوم بواجبي على أكمل وجه.

مشاهد ألمٍ وعزّ

لم تكن بدايات شبابي سهلة، فبين الصراعات الطائفيّة واجتياح العدوّ الإسرائيليّ، انبثق الكثير من الوجع. وبين بيروت والجنوب مشاهد كثيرة حفرت عميقاً في نفسي، منها وجهُ عمّتي التي وقفت بين الناس المتجمهرة أمام جنود العدوّ الإسرائيليّ، الذين جمعوا الشباب ليسوقوهم إلى معتقل أنصار. يومها، أخذوا من أبنائها الأربعة ثلاثةَ شبّان، فما كان منها إلّا أن أخذت بقميص ابنها الرابع ودفعته لهم، هزمتهم قوّتها وقدرتها على انتزاع قلبها من بين ضلوعها على أن لا تضعف أمامهم. وجهها، ووجه العميل المغطّى بقناع، ووجه الإسرائيليّ، اختصرت أمامي حقيقة الصراع.

تضليل مسير العدوّ

السلاحُ قليل، والشباب محاصر، ولكنّنا جيل فعلنا الكثير، من طريق أبو الأسود المؤدّية إلى صور، وحتّى قرية عدلون، كنتُ أنتزع وصديقي في كلّ يوم اللافتات العبريّة التي ترشد القوافل الصهيونيّة إلى طريقها، ونرميها في الحقول بين القصب والحشائش. ثمّ بدأنا بنقل السلاح. وفي خضمِّ هذه الثورة، عدتُ أدراجي بناءً على رغبة أبي بالتزام المقاعد الدراسيّة، فيما إخوتي يقارعون العدوّ. وكانت معركة الدفاع عن أهلنا الفقراء والمستضعفين في الضاحية الجنوبيّة، أصبت خلالها في بطني في مواجهة مع جيش السلطة الفئويّ عام 1983م، وكانت الإصابة الأولى.

«جملة واحدة قلبت حياتي»

كنتُ في الطريق عندما التقيتُ بأحد مسؤولي المقاومة، فسلّم عليّ وسألني عن أحوالي، فأجبته أنّني أتابع في المهنيّة دراسة الرسم المعماريّ، فابتسم مربّتاً على كتفي قائلاً: «عماد، نحن بحاجة ماسّة إلى مقاومين». تغيّر كلّ شيء، حتّى أبي. جملة واحدة قلبت حياتي ووضعتني في المكان الذي أريد. وبدأت عملي التنظيميّ في المقاومة، مشاركاً في المهمّات الجهاديّة بين بيروت والجنوب. في تلك الفترة أصبت في ركبتي اليمنى خلال إحدى المهمّات الجهاديّة إبّان اعتداء عمليّة القبضة الحديديّة الصهيونيّة جنوبي الليطاني عام 1985م، وكانت إصابتي الثانية. كنّا نحبك الليل بالنهار، فلم يعرف التعب لنا طريقاً، فالتحدّياتُ أكبر من أن نستكين للحظات في وقت كانت الأوضاع الأمنيّة تتدهور فيه بسرعة.

رصاصٌ هشّم العظام

ذات يومٍ، كنّا ثلاثة مجاهدين في سيّارة تمّ رصدها، ترجّل أحدنا لزيارة أحد الإخوة الذي استشهد لاحقاً، وأكملتُ مع الشاب الآخر أمتاراً قليلة.. ماذا حصل؟ لستُ أدري. خرجنا من السيّارة بين الرصاص خافضين رأسينا، وقد أُصبتُ في فخذي اليسرى. اقترب المسلّحون منّا؛ إذاً، وقعنا في كمين! قرأنا الشهادتين. الأسلحة المصوّبة نحونا تريد قتلنا. صرتُ أتخبّطُ بدمي، والرصاص يرفعني تارةً ويُسقطني أخرى. استقرّت أكثر من ثلاث عشرة رصاصة في ساقي اليسرى، فهشّمتها وطحنت العظام، وعرفتُ أنّني فقدتها، وشعرت بإصابة الحوض والخاصرة اليمنى أيضاً. وسرعان ما جاء مسلّح ووضع فوهة البندقيّة على رأسي. حانت اللحظة، وما إن أغمضتُ عينيّ مسلّماً أمري لله، حتّى جاءه صوتٌ أوقفه.

«وحيداً مع عكّازيَّ»

نُقلتُ إلى المستشفى على عجل. كان النزيف شديداً ولم يستطيعوا السيطرة عليه. أربعة أشهر بين أكناف الدعاء والقرآن. لم أكن واعياً لشيء إلّا لوجه أبي الذي استشهد قبل أشهر قليلة من إصابتي، وصوت أمّي يصل ترنيماً إلى قلبي بدعاء ملتهب الحروف.

خرجتُ من المستشفى على عكّازين. لقد غادرني ذلك الفتى الشقيّ الذي لا يفتأ يركضُ في الأزقّة، وفقدتُ الشاب الذي مكانه الجبال والأودية، وكان عليَّ أن أكون شخصاً جديداً، غيّرت حياته الكثير من الأمور؛ فقد استشهد أخي الصغير، ثمّ استشهدت أمّي، وخلت الدارُ عليّ وعلى عكّازين كان عليّ بناء علاقة جيّدة معهما، فهما ستلازمانني طوال ما تبقّى من هذا العمر.

على ثلاثة أقدام

الآن، مضى على إصابتي أربعة وثلاثون عاماً، بنيتُ فيها حياتي على قدمٍ وساق. أتوجّه إلى عملي صباحاً مع عكّازين صارا جزءاً منّي، وأعود إلى منزلي الذي ساعدتني زوجتي بتأسيسه على الحبّ والرضى.

في خندقٍ من خنادق الجهاد المكتبيّ أقاوم، ولا أشعر أنّني أفتقد لشيء. حاليّاً أتابع دراستي الجامعيّة في مجال الإعلام والعلاقات العامّة، وعندما تعكسُ الشمس أشعّتها عليّ وأنا أسير في الطريق، أرى أمامي ظلّاً لرجلٍ يمشي على ثلاث أقدام، فعل الكثير من الأشياء في هذه الحياة التي لم يظنّها ستطول، غير أنّ الصبر والإرادة منحاها المزيد والمزيد من الوقت.


19

عزمٌ لا يوقفه الجرح

عزمٌ لا يوقفه الجرح

-حنان الموسوي-

اسم الجريح: المجاهد حسن مصطفى وهبي (أبو يعقوب).

مكان الإصابة: الغبيري.

تاريخ الإصابة: 9/6/1988 م.

نوع الإصابة: شلل رباعيّ إثر طلقة قنّاص في العنق.

مجلة بقيّة الله / العدد 349/ صفر - ربيع الأول 1442 هـ/تشرين الأول 2020 م/ السنة الثلاثون.

 

كنّا في مكان قرب الموت. دائماً ما يكون الحضور في مراكز التماس حماسيّاً؛ نقاؤه أبيض، حتّى هواؤه يختلف. أردت الانتقال ومن معي من زاويةٍ إلى أخرى من الشارع في مهمّة، وفي لحظةٍ غفا عنها الوجود، حضر الإمام الحسين (عليه السلام) بكلّ جلاله في وجداني، عجبت لصفاء نيّتي لبرهة، وما إن لامست قدماي الطريق، تحسّست وجه السماء مرفرفاً بدمي. لون الرمّان كان شهيّاً جدّاً في حضرة القنّاص الذي اختار عنقي فريسة لطلقته... وفعلاً عبرت.

عندما تملّكني الشلل

هرع إليّ كلّ من كان في المكان، ونقلت بالإسعاف إلى مشفى الجامعة الأميركيّة. مكثتُ هناك مدّة شهر، بعدها انتقلت إلى مشفى الشرق الأوسط وبقيت فيه ثلاثة أشهر، ومنها نُقلت إلى مشفى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مدّة أربعة عشر يوماً.

ذلك الخَدَر الذي صعق أعضائي أصابني بشللٍ رباعيّ، لم يترك لي أنا ابن الاثنين وعشرين ربيعاً شيئاً ينبض غير قلبي، أمّا عن عقلي فالحديث يطول.

كانت الصدمة ما بعد الإصابة كبيرة، وجب عليّ أن أمتصّها، وأن أُفهم كلّ عضوٍ من أعضاء جسدي الهزيل حالته الجديدة.

فطرة طيّبة

بين شهادة أخي الأصغر المفقود الأثر، وإصابتي أشهر بسيطة. ووسط الحيرة التي تنهش أمّي، نزل خبر إصابتي على قلبها ليحتزّه ألماً. إحساسها الصادق زاد الحرقة في نفسها. دعت الله وتضرّعت إليه أن تكون إصابتي طفيفة، لكنّ الله اختار لها واقعاً يحدوه الأجر العظيم.

حدّثتها بكلمات فيها من التسليم ما يسكّن الروح: «عزيزة القلب، إن لم تكن الإصابة في طاعة، لكانت حتماً في معصية، قضاء الله مبرمٌ لا يتغيّر، جزعتِ أم لم تجزعي فقد وقع البلاء».

فطرتها الطيّبة تقبّلت مصابي بلذّة، وهبتني الحنان بصمت. مرّت تسع سنوات جنّدت أمّي نفسها لخدمتي خلالها، ما مرّ على قلبي أسعد منها في حياتي بعد الإصابة.

دفء العائلة

ولدت في منطقة الشيّاح، داخل منزل متواضع الإمكانات، عظيم الحسّ. عشنا حياة كانت مزيجاً من لعب ودراسة. مرّت السنوات سريعاً وحصلت على شهادة البكالوريا القسم الثاني.

أمّي طاقة من حنان متوهّج، جلُّ همّها نحن، ركعات صلاتها كثيرة، فكلّ نظرة من عينيها نحونا كانت ترتيلاً ودعاء. أمّا والدي فقد كان عاملاً بسيطاً، لكنّه رجلٌ بما تحمله الرجولة من واسع معانيها، طيّب المعشر، فكاهيّ، يحبّ الناس.

الرعيل الأوّل

فطرة الجهاد كانت راسخة في نفوسنا. الحروف التي تنسكب من القلب لها أجمل الأثر، فكيف بالأفعال الطيّبة؟ كان أخي الشيخ مالك قدوتي في الحياة. عقيدته الناصعة انتقت تصرّفاته، والله سدّدها. شارك في المظاهرات الداعمة للثورة الإسلاميّة في إيران إلى أن انتصرت، بعدها سافر إلى إيران لطلب العلوم الدينيّة. كان أثره عجيباً في نفسي. شاركت معه في المظاهرات، بعدها انضممت إلى جمعيّة الاتّحاد اللبنانيّ للطلبة المسلمين، ذات التوجّه الدينيّ الثقافيّ، وعملت ضمن هيئتها الإداريّة مدّة سنة ونصف.

طُرح عليّ في وقتٍ لاحق الانضمام إلى أحد المحاور، في مركز جديد أنشأته مجموعة من المؤمنين مع بعض المراكز لتدريب الشبّان على استخدام السلاح وعلى القتال، كمركز الشيّاح ومركز حيّ ماضي، فالتحقت به سريعاً.

عام 1984م، أُعلن عن قيام حزب الله ونُشرت رسالته، حينها كنت أدرس السنة الثانية في اختصاص هندسة الاتّصالات في الجامعة العربيّة، ودرست اللغة الإنكليزيّة في جامعة الـ LAU التي اشتُهرت قديماً باسم BUC. بعد أن التحقت بحزب الله، عملت باختصاصي في غرفة الإشارة لأحد المراكز، وهي نقطة التواصل بين مراكز عدّة تابعة للحزب، كان ذلك قبل إصابتي بوقت قليل.

عائلتي.. هبة إلهيّة

في سنّ الثلاثين، اخترت زوجة هي نِعم الزوجة، كانت السند بعد الله واليد التي سُلِبتها، كانت «أنا» في جسدٍ كرّس كلّ طاقته لخدمتي، ورُزقت منها بأطفال أربعة، هم زينة الحياة الدنيا. تحمّلت وحدها مشقّة العناية بهم، وتقبَّلت ذلك برضى وفرح، فكانت الهبة الأغلى التي وهبنيها الله.

كلّ أمنياتي حقّقها أبنائي، أنجح بنجاحهم وأحيا بتفوّقهم. نظرة الفخر التي أراها في عيون أولادي تدفعني كي أكون على مرّ الزمن تاريخاً. في نهاية المطاف سأحتوي مخزوناً معرفيّاً وثقافيّاً، وكلّ الغايةِ أن أخدمهم بهذه المعارف بإخلاص، لتكون درساً جوهره أنّ الإصابة تعيق الجسد ولا تعيق الروح، وأنّ العزيمة لا يوقفها جرح.

تهديدٌ وفرصة

التهديد هو سلب شيءٍ منّا في هذه الدنيا، والفرصة هي استثمار التهديد وتحويله إلى متعة، خاصّة إن ابتكرت بذكائك فرصاً متعدّدة. كما أنّ احتضان المقاومة وحزب الله لي بعد الإصابة، فضلاً عن المواساة والخدمات التي أتيحت لي، أغنتني عن كلّ من في الوجود. وأمّا عن الصبر، فله مواطن عدّة، إمّا أن يتجرّع الإنسان ألمه برضى، أو أن يتجرّعه بأسى، فإن رضي هان عليه مصابه، واتّسعت رحمة الله في فؤاده، ورأى مَن حوله يركضون متخبّطين، فيما هو تغشاه السكينة. فأعضائي التي فارقَتها الحياة لازمتني، احتضنتها بكلِّ ما أوتيت من عزم، كانت أنانيّة بدورها، ما ساعدتني يوماً لاحتضان ابن أو ابنة، وحرمتني الشعور بالاستقلاليّة، لكن تبقى الغصّة في القلب على شكل جرعاتٍ من الصبر.

الأمل الواعد

سبب الكآبة عدم إطلاق الروح، فالإنسان روحٌ وجسد، وعلاقة الإنسان بربّه قناتها الروح، يترجمها بالتفكّر، والمناجاة، والدعاء، ولبّها الحضور القلبيّ في حضرة الله العظيم، فالثرثرة ولقلقة اللسان لا وزن لهما في ميزان الله. لذا حين أقول بسم الله الرحمن الرحيم وأنوي زيارة الله في عرشه عند الصلاة، أستحضر في وجداني أنّ الله هو جبّار السماوات والأرض، هو العظيم، خالق الخلق، وأنا في محضره كلّ حين. هذا الحضور يثبت أن لا يأس مع قدرة الله، حين ترنو إليه بنظرة يأتيك بكلّه، والدليل أنه منَّ عليَّ من جديد بأملٍ واعد.

قضيت تلك المدّة في القراءة. كلّ كتاب وقع نظري عليه هو بمثابة وليمة شهيّة. الكتب التي قرأتها أزهار استمتعت بعبيرها؛ لذا اخترت من كلّ بستان زهرة: النحو، العقائد، السيرة، الأدب، كليلة ودمنة، الأخلاق، الأربعون حديثاً، الفلسفة، بداية الحكمة، إنّ مع الصبر نصراً، الكشكول، البؤساء وغيرها الكثير... إنّي أتابع دراستي الجامعيّة باختصاص الفلسفة، كما أنّني ناشطٌ عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، يعود الفضل في ذلك إلى المعالجة الانشغاليّة في مؤسسة الجرحى، التي كانت مفصلاً محوريّاً في حياتي، وقد أهدتني (فأرة حاسوبٍ ذكيّة) أحرّكها بذقني، فبتّ استخدم الحاسوب بسهولة أكبر، ونسيت العجز الذي يلبسني، لدرجة أنّ من يحدّثني من وراء الشاشة يستحيل أن يعيَ حالتي.

موقف لا يُنسى

بعد أن يستكين الجرح من موقفٍ ما، يصبح الوقت ثقيلاً لبلسمته، تكوي ثوانيه القلب حين تمرّ الذكرى. حين حازت ابنتي شهادة البروفيه، وفي حفل تخرّجها، كنت سبباً لبكائها على منصّة التخرّج، وقفت وعلى عينَيها جدار مالح المذاق حين لم تجدني بين الحضور، زيارتي للطبيب اضطرّتني إلى المغادرة، رافقتني غصّة قلبها ثلاثة أعوامٍ، إلى أن حازت الشهادة الثانويّة، اختصرت الحديث في زحمة الفخر والشوق، وعلى أعتاب نجاحها لمعت أعيننا فرحاً، أسعدها حضوري، وأسعدني نجاحها.

رسالة رجاء

نسأل الله أن يحفظ هذه المسيرة، وأن يحمي قائدها سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، من لقّبني بـ«عميد الجرحى». هذه المسيرة تعتزّ بشهدائها وجرحاها، فالجرح كحالة البرزخ بين الدنيا والآخرة، والجريح هو الشاهد على ما مضى، والشاهد على من بقي، هو الاستمراريّة بين المجاهد الشهيد وبين المجاهدين الأحياء.

لا أنسى اهتمام سماحته بي، وقد تبرّكتُ بخاتمه وسجّادة صلاته الخاصّة وسجدته وسبحته. أقول له: إن منَّ الله عليَّ بالوقوف مجدّداً، وأفاض على أعضائي القدرة، أوّل ما سأقوم به هو صلاة ركعتين شكراً لله، وسأعود إلى مراكز الجهاد لأكون جنديّاً بين جنودك.


25

كلمة مجلّة بقية الله

كجراح العبّاس (عليه السلام)

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد عبد الإله الموسوي (رضا).

مكان الإصابة: إقليم التفّاح.

تاريخ الإصابة: 4/2/1990م.

نوع الإصابة: بتر يد والقدمين وفقدان العين اليمنى.

مجلة بقيّة الله / العدد 346/ ذو القعدة - ذو الحجة1441 هـ/ تموز 2020 م/ السنة التاسعة والعشرون.

 

كان من المقرّر أن يتسلّم مهامه الجهاديّة في جنوب لبنان؛ لذلك عليه رسم خرائط عن أمكنة وجود العبوات تأميناً للطريق أمام المجاهدين. وبينما كان ورفاقه يتقدّمون للبحث عن مكان قذيفة مشرّكة أُخبِروا بوجودها، لمع وميضٌ قويٌّ، وبحركة لا إراديّة رفع كفّه ليحمي عينَيه، فتطايرت ثلاثة أصابع من يده، كما توزّعت الشظايا في أنحاء جسده.

جراحكم رسالة

«جراحكم رسالة».. هذا القول خطّه عبد الإله بدمه وأوجاعه مع كلّ عمليّةٍ جراحيّةٍ كان يخضع لها في قدمَيه أو ذراعه أو عينه، حيث يحضر الكافل أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) في روحه أكثر، وتتبلور المواساة بأبهى حُلَلها، فتتجسّد فيه إرادة صلبة. وحين نُقل إلى المشفى، جرى التعامل مع الجراح والشظايا المتناثرة في جسده، فبُترت قدماه وذراعه، واستؤصلت عينه، وعُقِدت العروق والشرايين فيها، ولكنّه ظلّ يعاني من آلامٍ كثيرة لسنوات طويلة، دون أن يدرك مصدرها.

رحلة علاجٍ طويلة

لم يقتصر علاجه على مستشفيات لبنان فحسب، بل تعدّاه إلى إيران وبعدها إلى ألمانيا. وفي كلّ بلدٍ كان يغرس من جسده بعض لحمٍ وعظم ودم، وكثيراً من الآمال بأنّ ما عند الله أفضل.

في البداية، مكث في مستشفى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مدّة شهرين، وكان الأطباء يلجؤون إلى تخديره كي يبقى نائماً ولا يتألّم، نتيجة لخضوعه لعمليّات جراحيّة بشكلٍ متكرّر حتّى تنمو عظام أطرافه.

سافر إلى إيران ثلاث مرّات، مرّةً نال فيها شرف الزيارة، ومرّتين لتلقّي العلاج بين عامَي 1991م و1992م، حيث خضعت رجلاه لعمليّتين جراحيّتين بعد أن التهب جرحهما. وقد رُكّبت له أطراف صناعيّة هناك، استعان بها لسنوات حتّى إنّه تمكّن من قيادة السيّارة بمفرده.

حين سافر إلى ألمانيا سنة 1995م، عُرف السبب الرئيس لآلامه، وهو شرايينه المعقودة، وذلك بعد أن أُرسل إلى عدّةِ مشافٍ مختصّة. وعلى الرغم من العناية التي أُحيط بها من قِبل الأطباء، والتعاطف معه نظراً إلى وضعه الصعب، لم يخلُ الأمر من بعض المضايقات من أشخاص لم يتقبّلوه بسبب خلفيّته العقائديّة، وقاموا بكتابة توصية إلى السلطات بضرورة إرجاعه إلى بلده.

في خضمّ ذلك، كانت الشظايا المستقرّة في عينه الناجية تعاند النور الهارب من سجن الظلمة وتهدّد وجوده، فمزّقت الشبكيّة، وعلى أثر ذلك أُجريت له عمليّة جراحيّة عبر اللايزر لرتقها، ولكنّه ظلّ يعيش حالة خوف وقلق من أن تتحرّك الشظايا فيها مجدّداً، تطفئ ما تبقّى من نور.

«وجدتك كلّي»

هنا كربلاء، على ضفّة العمر شبيه العبّاس (عليه السلام) لم يقعده اليأس عن المضيّ قُدماً في الحياة، ولم يتسلّل القنوط إلى نفسه طرفة عين. ذاك الشاب الفتيِّ بعمر السبعة عشر عاماً، أقدم على طلب الزواج من أخت جريح، وتمّ ذلك عام 1992م، وقد عقد قرانهما سماحة الأمين العام المفدّى السيّد حسن نصر الله (حفظه الله). رُزِق عبد الإله بطفلين: مصطفى وحوراء، وهما فرحته الكبرى في الدنيا، يعطفان عليه ويهديانه الحبَّ. هما جسده المتناثر الذي جُمِع في جسمين، وأسوته الأمير (عليه السلام) وهو يخاطب ابنه الإمام الحسن (عليه السلام) : «وجدتك بعضي، بل وجدتك كلّي»[1]، فكانا كلّه في كلّ حين، ومعه على الدوام.

خدمة الناس أفضل عبادة

في قانون الله، النيّة يجب أن تقرن بعملٍ ليتمَّ القبول، وما يكون نابعاً من القلب لا تحدّه سماء ولا يعوقه فقدان قدم وذراع. فها هو عبد الإله يتّجه صباحاً إلى عمله في مؤسّسة الجرحى مستعيناً بكرسيّه المتحرّك، لا يؤخّره المطر ولا الطقس البارد ولا حتّى حرّ الصيف ورطوبته العالية. معروف عنه دقّة مواعيده وإتقانه للعمل. تسابقه البسمة عند إلقاء التحيّة، يسأل رفاقه عن الفطور الصباحيّ، يحفظ ما يريدون، وينطلق لإحضار ما طلبته نفوسهم بكلّ سرور، ودائماً ما يكون جلب طبق «الفول أو المسبّحة» مفعماً بالحبّ والرضى. وعند عودته يبدأ عمله في محترف الجرحى، فتلهو أصابع يده اليتيمة على الأخشاب لتصنع منها تحفاً فنيّة مميّزة.

صلاةٌ وهديّةٌ

شاهد ذات مرّة في عالم الرؤيا أنّه في إيران، ويصلّي جماعة خلف الإمام القائد السيّد عليّ الخامنئيّ (دام ظله). لم يخيّل إليه أنّ رؤياه صادقة وستتحقّق بعد أيّام، وأنّه سيكون بين يدي القائد وفي ضيافته!

كان لقاؤه الأوّل بالوليّ الفقيه عام 1990م أثناء فترة العلاج، خلال لقاء عامّ للجرحى. أمّا في العام 2018م، فقد كان اللقاء الخاصّ، حيث تجسّدت رؤياه واقعاً ملموساً. جهّز الحاضرون أنفسهم للصلاة، رصّوا الصفوف، الكتف لصيقة الكتف، وعبد الإله يقف بينهم على أطرافه الصناعيّة، شغله كمُّ المحبّة والمودّة الذي لا يُحصى، والشعور بالأنس الذي لفّ المكان. قد قامت الصلاة وبدأت رحلة العشق.

لقاؤه بالحبيب ما زال على ضفّة الروح يعطي العزم، وبقايا العطر السماويّ ما فتئت تخالج النبض. وأمّا الهديّة، فلها في القلب مقام عظيم، ذاك الخاتم مكانه المهجة لا إصبع في اليد.

الله الله في المسجد

كان قد اشترط في عقد عمله أن يكون دوامه يوم الجمعة ساعتين فقط، أي أنّه يغادر عند الساعة العاشرة صباحاً. وحين سُئل عن السبب، أجاب بأنّ لهذا اليوم خصوصيّة في نفسه، وعليه أن يرتّب أوضاعه والتوجّه إلى المسجد باكراً، فتوصيات الشيخ بهجت، أدعية وأذكار، كلّها تحتاج وقتاً لإنجازها، لذلك كلّما سابق الناس لأداء صلاة الجماعة في مسجد الإمام الكاظم (عليه السلام) شعر بالرضى، وعادةً ما يكون أوّل الواصلين إليه. حضوره مختلف على الرغم من صعوبة وضعه، يحفّز من حوله على ارتياد المسجد على الدوام، حتى إنّه أنشأ صداقات مع رجال من خلال المسجد. أمّا صلاة الفجر، فقد عقد معها اتّفاقاً ألّا يفارقها ما دام حيّاً، وعليها ألّا تفارقه حين يلقى الله.

ذاك الشوق إلى زيارة الله في بيته حُجّة على كلّ من حوله من المتقاعسين عن أداء الصلاة وعن زيارة المسجد، أولئك الناس الذين أتمّ الله عليهم ورزقهم الصحّة والعافية.

 

[1] نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص392.


33

كلمة مجلّة بقية الله

ما السرّ فيك؟

-داليا فنيش-

اسم الجريح: المجاهد محمّد حسين نسر (أبو حسن).

مكان الإصابة: اللويزة.

تاريخ الإصابة: 1/11/1990 م.

نوع الإصابة: بتر الساق اليمنى.

مجلة بقيّة الله / العدد 340/ جمادى الأولى 1441 هـ/كانون الثاني 2020 م/ السنة التاسعة والعشرون.

 

تشكّلت عقيدته الجهاديّة تأثراً بالثورة الإسلاميّة في إيران بقيادة الإمام الخمينيّ (قدس سره) حين بلغ الحادية عشرة من العمر، فكانت بمثابة منارةٍ للعشق تجذب الأنفس الصافية، وبدوره امتلك روحاً شفافة اتخذت من الثورة دافعاً أمدّه بالشجاعة، وزرعت فيه حبّ المقاومة والنضال. إنّه الجريح محمّد حسين نسر (أبو حسن)، ابن المقاومة الذي التحق بصفوفها عبر التعبئة التربويّة، ثمّ مضى للجهاد نحو الجنوب. شارك في معارك عدّة في منطقة الإقليم، وأشهرها: سُجد، واللويزة، وجبل صافي.

المهمّة الأخيرة

كان أبو حسن قائد مجموعة، جاهزٌ ومن معه لاقتحام الموت كلّ آن. طُلبت منهم مهمّة ضدّ العدوّ الإسرائيليّ، فراحوا يخيطون الأرض بخطواتهم، وبينما كانوا يتسلّلون إلى موقع العمليّة، تفاجؤوا بحقل ألغام داست أقدامهم بعضها، فوضى المنايا فاحت في الأرجاء، انفجر اللغم تحت قدمه، فأصيب أبو حسن بشكلٍ مباشر. حاول الرّفاق سحبه إلّا أنّ طائرات العدوّ الصهيونيّ منعتهم من ذلك، وقد أُمطروا بوابل من الرصاص من الجوانب كلّها. بعد أن غصّت النيران بالسكوت، تمّ سحب الجريح إلى مستشفى ميدانيّ، تعرّض المجاهدون لمشقّات خلال المسير، سار بهم ليلٌ بلا رئةٍ، مشوا على الشكِّ خوفاً على الجريح، خاصّة وأنّه نزف لساعاتٍ طويلة، وهو محمول على أكتافهم من قريةٍ إلى أخرى.

«خذ حتّى ترضى»

وُضِّبت الجراح على الجراح، حتى وصل إلى المشفى، كان بانتظاره طاقم طبّيّ، أشهرهم فقيد الجهاد الدكتور محسن الخنسا الذي أخبر الجريح أنّ ساقه اليمنى يجب أن تُبتر، فما كان من الأخير إلّا أن واجه الموقف بصلابة: «أرضيتَ يا رب؟ خذ حتّى ترضى».

تعرّض الجريح خلال مدة علاجه إلى الكثير من المضاعفات والوعكات الصحّيّة، مضافاً إلى خضوعه للعديد من العمليّات الجراحيّة.

جهادٌ آخر

بعد مدّة، غادر أبو حسن المستشفى بمعنويّات عالية وفخر كبير، قطع حبل ماضيه مستقبلاً أياماً جديدة بعبق الصبر.  يقول أبو حسن: «وقفتُ للحظات أفكّر في حالتي وحياتي الجديدة التي سأعيشها وكيفيّة مساعدة المقاومة في العمل الجهاديّ».

لذا، دفعته عقيدته وثباته وإرادته إلى التوجّه نحو جهادٍ آخر، عبر العمل الثقافيّ الاجتماعيّ ومجالات أخرى، مدعوماً من رفاق الدرب والجهاد.

بناء الأسرة

أحبّ أبو حسن أن يبني حياةً عائليّة، فتزوّج عام 1994م من امرأة صالحة، فيها روح السلام وريح الجنة، قدّمت له المساعدة. تقول زوجته: «أنا أفتخر أن زوجي جريح، فهذا وسام شرف أحمله مدى الحياة. لقد رزقنا الله أربعة فوارس من خيرة الشباب المجاهدين على الخطّ الحسينيّ الكربلائيّ».

لا للاستسلام

استقرّ وضع أبي حسن بعد مرحلة العلاج والمعاناة التي كانت تحمل في طيّاتها الجَلَد والعزم، وقرّر بدء حياة ومرحلة جديدة عنوانها «لا للاستسلام والجلوس في المنزل»، فتغلّب -بفضل الله- على الحياة الروتينيّة اليوميّة التي كان يمضيها، وبدأ العمل في المجال الإداريّ الثقافيّ.

«ما السرُّ فيك؟»

كان أبو حس» يمشي يوميّاً ساعتين قرب صخرة الروشة، وكان هناك امرأة مسنّة تراقبه منذ مدّة، فاقتربت منه ذات يوم وقالت: «ما السرّ الذي تحمله في داخلك؟ أراك رغم معاناتك سعيداً، وتمشي باستمرار مسافاتٍ طويلة رغم امتلاكك قدماً واحدة، أمّا زوجي فقد تعرّض لحادث وبُترت رجله، لكنه يائسٌ ولا يحبّ الحياة. هل بإمكانك لقاءه للحديث معه، علّك تطوف في فُلكه فتساعده ليتغيّر؟».

وبالفعل، تعرّف أبو حسن إلى ذلك الرجل، وبدأ يقصده صباحاً، وخلال يومين فقط، خلع الرجل رداء الحزن والكآبة، وعاد إليه نبض الحياة من جديد، وصار يستشير أبا حسن في أموره كلّها، ويعتبره نعمة قدّمها الله له.

نافذة الأمل

روحه المفعمة بالأمل والسعادة باتت حديث الكثير من الإخوة، لذا راحوا يتكلّمون عن الأنشطة الرياضيّة التي يقوم بها أبو حسن، وقد تلقّى اتّصالاً من مؤسسة الجرحى للعمل فيها، وتسلّم ملف الأنشطة الرياضيّة والترفيهيّة للجرحى وعوائلهم. يقول: «عندما عُرض عليّ هذا العمل لم يهمّني سوى أنّني سأقدّم جزءاً من الأمل لجرحانا». نشّط الرياضة بطريقة أدهشت الجميع، وبدأ بالتحضير لتأسيس فريق من المجاهدين الجرحى لكلّ لعبة: كرة السلّة، كرة الطاولة، السباحة، كرة القدم، كرة الطائرة، المشي... وشاركوا في العديد من المسابقات، وحصلوا على ميداليّات وكؤوس عدّة في المراتب الأولى. هذا العمل عزّز بناء علاقات وطيدة بالجرحى، وأعطاهم الأمل بالعودة إلى الحياة.

المرشد والرفيق

كان أبو حسن، بحماسه وهمّته العالية، الدافع الأساس لبعض الجرحى للخوض في الأنشطة والمباريات، لما له من تأثير إيجابيّ في حياتهم. يقول أحد الجرحى عنه: «هو ملجأ أسرارنا، نخبره بمشاكلنا وهمومنا. ينظر إلينا بابتسامة جميلة فيها الكثير من المعاني والكلمات التي تطلب منّا أن لا نيأس، ونرضى بقضاء الله.بعضهم يعتبره الأب الذي يرشدهم إلى الطريق الصحيح، وبعضهم الآخر يعتبره المرشد والصديق والرفيق».

رافع المعنويّات

يقول أبو حسن: «عندما بدأت الحرب على مقدّساتنا في سوريا، شعرتُ بحزن كبير لأنّني لم أشارك مع هؤلاء المجاهدين في الدفاع عنها». لذا، أخذ على عاتقه مهمّة متابعة الجرحى وزيارتهم باستمرار في المستشفيات. فكان يتفقّد كلّ جريح، ويقدّم له الدعم المعنويّ من أجل تخطّي مرحلته الصعبة، وكان الجرحى بدورهم يستأنسون بكلامه العذب.

على الخُطى نفسها

لأنّه لم يستطع مواصلة درب الجهاد العسكريّ، طلب أبو حسن من أبنائه الانضمام إلى صفوف المقاومة، وحول ذلك يقول: «كانت فرحتي لا توصف حين تقدّم أحد أولادي وقال: (سأشارك في معارك الدفاع عن المقدّسات)، فقمتُ بتحضير أغراضه بنفسي».


41

كلمة مجلّة بقية الله

جريح القدس

-حنان الموسويّ-

اسم الجريح: المجاهد حسين محمّد المقداد (وائل سلامة).

مكان الإصابة: مدينة القدس.

تاريخ الإصابة: 11/4/1996م.

نوع الإصابة: فقدان البصر مع بتر في الأطراف.

مجلة بقيّة الله / العدد358/ ذو القعدة- ذو الحجة 1442 هـ/تموز 2021 م/ السنة الثلاثون.

 

«صيدٌ ثمين بانتظاري، طيورٌ وفيرةٌ تحوم حول الشِّباك، عليَّ فقط اختيار الأنسب. انتقيت الطائر الأرفع، من سيكون لاصطياده الصدى الأكبر. جررت أنفاسي بين جوعٍ وتعب. جهّزت العبوة وعزلتها، بانتظار لحظة الصفر...».

عِلمٌ وفداء

حين حصلت على منحة بعد شهادة البكالوريا، تمكّنتُ من تلقّي العلوم في الجامعـة الأميركيّة. وقد تزامنت دراستي مع تطوّعي في العمل التعبويّ، وصرت أتنقّل بين المحاور في محيط مدينة بيروت. مع قدوم الحرس الثوريّ إلى لبنان، ولأنّي من عشّاق روح الله الإمام الخمينيّ (قدس سره)، تفرّغت ضمن صفوف المجاهدين في حزب الله عام 1990م. سكب الله نوره في مهجتي حين اختارني أحد القادة المجاهدين لأداء مهمّة خاصّة ضدّ العدوّ الإسرائيليّ.

مهمّة أمنيّة عسكريّة

«أهلاً بكم في مطار بن غوريون»، عبارة لفتتني حين وطئت قدماي أرض تل أبيب. كانت أوّل ما وقعت عليه عيناي. توجّهت نحو موظّفة الجمارك لتختم جواز سفري البريطانيّ. صعقها ردّي على سؤالها عن سبب مجيئي إلى تل أبيب بأن لا شأن لها بذلك، وأنّ الأمر لا يعنيها. بعدها صمتت، وفي الصمت الكلام الأثمن، تلك الثقة لاذت بفرحٍ مفقود، في بالي أنّ هذه الأرض المقدّسة لا تُصان إلّا بالدماء، والموت الراكض في أحياء فلسطين سيُقضى عليه، ولن يبقى محتلٌّ واحد على تلك الأرض.

كان الهدف تصفية قائدٍ عسكريّ في مهمّة خاصّة، أمنيّة عسكريّة. بعد تجوال دام خمسة أيّام فيها، قسّمت خلالها الخرائط إلى مربّعات، وتفقّدت طرقاتها واستطلعت كلّ شبرٍ فيها، إلّا أنّني لم أجد ضالّتي. بعدها انتقلت إلى مدينة القدس، وهناك بعد مضيّ أيّامٍ أربعةٍ تهجّأتُ حروف عشقها، وآلاف «الله أكبر» عشتها، كان الله بين الناس يحضن خوفهم، ويُطمئن روعهم بسبب الغاصب. ووجدت هدفي الذي أصبو إليه.

وبينما أضع اللمسات الأخيرة قبيل تنفيذ العمليّة، حصل خلل تقنيّ وإذ بالعبوة تنفجر! بعد شهرٍ عدت إلى وعيي في مشفى حدّاثا مقطّع الأعضاء، فاقد العينَين، عشرات الآلات قد وُصِلت بجسدي، وبجانبي محقّق محتلٌّ إسرائيليّ، أولى عباراته ما زالت ترنُّ في مسمعي: «أنت كنز الذهب، هديّة السماء لنا، سنستعيد الطيّار رون آراد بفضلك». ولكن أمله خاب.

تحقيقٌ وتعذيبٌ

حقّق معي اثنا عشر محقّقاً حول المهمّة التي جئت من أجلها، لكن دون جدوى، فقد عقدت العزم على عدم الاعتراف. نُقِلت بعدها إلى مشفى آخر، وبقيت وحيداً طيلة أشهر أعاني من التعذيب وقلّة النوم. كانت فترة صعبة واستمرّت إلى أن حُرّرتُ في عمليّة تبادل للأسرى في 24 حزيران عام 1998م، مقابل أشلاء جنود العدوّ الذين قضوا في عمليّة أنصاريّة.

تحريرٌ وحياة

بعد عودتي إلى لبنان رجعت إلى الحياة، خضعت لعلاج طويلٍ في المشفى، ولا أزال حتّى الآن.

اخترقت الجروح جسدي، لكنّ روحي ما فتئت مهيّأة تضجُّ بالحياة والتفاؤل، لذا التحقت بجامعة آزاد وحصلت على شهادة ماجستير في الفلسفة، وبعدها ماجستير آخر في الموارد البشريّة، ثمّ انتقلت إلى جامعة LIU وحصلت على شهادة الماجستير في اختصاص الإدارة، وحاليّاً أحضّر للدكتوراه، كما أنّني أشغل منصب معاون مسؤول الجامعات الخاصّة في التعبئة التربويّة تطوّعاً.

تزوّجت بحمد الله من امرأةٍ متديّنةٍ أشمّ رائحة الودّ بكلّ تصرّفاتها، هي المجاهدة الأولى في عالمي، تخدمني بعينيها وتقوم على رعايتي. أتوجّه لها بكلّ الشكر والامتنان، وأدعو لها بطول العمر. رُزقت بثلاث بنات هنَّ زينة حياتي، يفتخرن بي، علاقتي بهنّ أكثر من ممتازة، أعدهنَّ أن أرعاهنّ حتّى ما بعد زواجهنّ، وأوصيهنّ بالعلم ثمّ العلم ثمّ العلم.

خدمة وعطاء

بعد تحريري، قامت مؤسّسة الجرحى باحتضاني. كان دورها فعّالاً جدّاً ومهمّاً. العاطفة والمسؤوليّة من أبرز صفات القيّمين فيها، رعايتهم لنا كجرحى ممتازة، تشمل الطبابة والتعليم والترفيه وكلّ ما يخطر في البال من تأمين للعيش الكريم، حتّى إنّهم أوكلوا مهمّة تعليمي لمدرّسة رافقتني وقتاً طويلاً، تقرأ لي وتساعدني في مشوار دراستي. جزاهم الله كلّ خير. لم يقصّروا معنا مطلقاً.

درب الرحمن

لا يساورني ندم على ما حصل معي، فعمري كلّه دربٌ إلى الرحمن مضنٍ إن جزعت، وهيّنٌ إن صبرت. حزني أنّي خسرت الشهادة، وأحاول الاستعاضة عن ذلك بخدمة الناس ما استطعت، وبمتابعة علمي. حمدت ربّي على ما عشت، وإن كلّفت بمهمّة أخرى سأؤدّيها بفرح، فالخوف يموت عند الجرح الأوّل. لا مجال للاضطراب في قاموس وجودي، وأشكر الله أنّي سأختم عمري وأنا على هذه الحالة المزدانة برضاه.

أوجاعي لا تستكين، انتشرت في كامل ما تبقّى من جسدي، مضافاً إلى أمراضٍ اجتاحت دمي، كالسكريّ والضغط، غسيل الكلى، وكلُّ ذلك بعين الله.

إن عاد بيَ الزمان لالتحقت بصفوف المجاهدين على الثغور، لألوّن الليل بالنار وأهزم الطاغوت، كي أحظى بالشهادة، فهي الحرقة العظمى في نفسي. أتمنّى أن يكرمني الله بظهور الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه) لأستشهد بين يديه. يا ليتني كنت بين المجاهدين المدافعين عن المقدّسات، فهم ممن كرّمهم الله. نظرتي لهم نظرة إكبار وإجلال، فهم من دافعوا عن حقّ أهل البيت (عليهم السلام) في حياتهم وشهادتهم. أسأل الله لهم العون والعمر المديد، فقد فُتح لهم باب الثواب والأجر، فهم الصابرون، المحامون عن الأعراض.

تسليمٌ واقتداء

المثال الأعلى بالصبر هو أبو الفضل العبّاس (عليه السلام). أجد نفسي قريباً جدّاً منه. وأهل بيت النبوّة (عليهم السلام) بأجمعهم هم القدوة. عقيدتي ازدادت أضعافاً عمّا قبل، فقد سلّمت بيقينٍ أمري وآلامي لله، ولديَّ أملٌ أن يكون عملي مقبولاً.

زرت مقام الإمام الرضا (عليه السلام) وأحببت المكوث عنده طويلاً، وطلبت من الإمام الحسين (عليه السلام) أن يسأل الله لي النجاة من ضغطة القبر. المؤمن ممتحن طالما هو في دار الفناء، لذلك أراقب نفسي ألّا أغتاب وأنمّ على أحد، كي أوسّد في لحدي مرتاح الضمير.

أمنيات ورسالة

أتمنّى لقاء الأمين العامّ السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، ضميرنا الحيّ، وعزّتنا، وحبيب القلوب، وتاج الرؤوس.

أمّا للجرحى فأقول: اصبروا ولا تيأسوا، ومن كان منكم قادراً على متابعة طريق العلم فليسلكه، فللعلم درجات عظيمة عند الله، واقضوا حوائج الناس بجراحكم، اخدموهم ما استطعتم بمعرفتكم. أحبّوا جراحكم وافرحوا بها، فهي بابنا إلى الجنّة، نحن الشهداء الأحياء.

أمّا للناس: التفّوا حول المقاومة ولا تتركوها، هي عزّتكم وكرامتكم، وما تضحيات الشهداء والجرحى سوى كرمى لكم.

الفضل في بقائنا وشموخنا للثورة الإسلاميّة في إيران، للإمام الخمينيّ (قدس سره) والإمام الخامنئيّ (دام ظله)، هما درّبانا وأسّسا فينا عقيدة رفض الظلم، ونحن صرنا تجربةً يُحتذى بها.


42

كلمة مجلّة بقية الله

نشاطٌ لا يهدأ

-داليا فنيش-

اسم الجريح: المجاهد عبّاس حبيب الحسينيّ (ملاك).

مكان الإصابة: الهرمل.

تاريخ الإصابة: 21/6/2003 م.

نوع الإصابة: شلل رباعي.

مجلة بقيّة الله / العدد 334/ شوال - ذو القعدة 1440 هـ/تموز 2019 م/ السنة الثامنة والعشرون.

 

منذ نبضة الحبّ الأولى، لم يكن اسمه كأيّ اسمٍ عابر، وإنّما حمل له نكهةً وتأثيراً خاصَّين منذ الطفولة، كيف لا؟ وقد اقترن بسماحة السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله تعالى عليه)، ذلك العالِم الجليل الذي كان يتردّد إلى منزل ذويه، قبل تولّيه منصب الأمانة العامّة، لصداقة وعلاقة قويّة جمعت العائلتَين، فترعرع ونشأ على صدى دروسه وخطاباته، وشجيّ صوته في دعاء الحزين ودعائه الخاص بطلب الشهادة، حتّى غدا السيّد القدوة، حارس الروح والمواعيد، والدليل الذي شبّ على نهجه وخطاه.

من نبعه نهل حبّ المقاومة

نشأ عبّاس في كنف عائلة يعمّها الأدب والالتزام بالتكليف الدينيّ. غياب رب الأسرة الدائم عن المنزل بسبب عمله الجهاديّ، ترسّخ أثره في نفوس أبنائه، فمن نبعه نهل عبّاس حبّ المقاومة، وتأسّس على يد مجموعة من النخبة في كشّافة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) الذين ارتقى بعضهم شهداء.

أمّا والدته، صاحبة القلب المفعم بالإيمان، فقد ربّت أبناءها على ما نشأت عليه من ثقافة إيمانيّة وجهاديّة، فكانت نِعم المربّي والمرشد.

 

على الكرسيّ المتحرّك

كان عبّاس قد شارف على المرحلة الثانويّة عندما تعرّض للإصابة، أثناء تأديته لعمله الجهاديّ، فاستكملها لاحقاً عبر المراسلة. لم يفقد وعيه عند إصابته، ما أتاح له سماع كلام الطبيب أنّ الإصابة قويّة، وقد ألحقت ضررًا بالغًا في العمود الفقري، سيؤدّي إلى شللٍ رباعيّ، فعرف ما ينتظره مستقبلاً، رمى بعين الله حِنطة فجره مبلولة بالصبر لينمو الأمل، مدركًا أن الخالق قادرٌ على صنع المعجزات.

أعار الرقاد كلّ جوارحه الرّثة، ومكث فترة طويلة في المستشفى يتلقّى العلاج، خضع خلالها للعديد من العمليّات إلى أن استقرّ وضعه، فغادره وهو يعلم أنّ حياته ستبدأ من جديد على كرسيٍّ متحرّك.

كان الشوق أقوى

عبّاس شابّ محظوظ جدّاً؛ لأنّ سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) أرسل له رسائل عديدة مؤثّرة، ومعبّرة، وعاطفيّة، كما وفّق للّقاء معه غير مرّة، وفي كلّ مرّة كان الشوق أقوى، فعناقه الحار أشعره بحرارة الودّ: «أنا فداء للسيّد ولهذا النهج المقاوم، ومستعدّ لتقديم روحي وجسدي كي أحميه ويكون بخير».

حديثٌ لا يمحى من ذاكرته، حثّه فيه سماحة السيّد (حفظه الله) على الصبر والتحمّل والمتابعة على الرغم من صعوبة الإصابة، وتأرجح عمره الفتيّ بالأسى، قال لي: «نحن نفتخر بك كونك أحد مجاهدينا، ونحتاج إليك بالقدر الذي تستطيع أن تقدّمه دون إرهاق نفسك»، كما شجّعه على متابعة الدراسة الأكاديميّة: «كان كلامه وأسلوبه ساحرَين، يخترقان القلب دون استئذان، كنت أنظر في وجهه فأشعر بنورٍ يسطع أمامي، وبقوّةٍ وصلابةٍ غريبة»، وقدّم له درعاً وميداليّة رمزيّة.

أُنس المطالعة

خلال ستّة أشهر قضاها في المستشفى، كان يرى رجلاً يزوره باستمرار دون أن يعرف من يكون، بعد ذلك تبيّن أنّه طبيب والدته حيث كانت تخضع لعلاج طويل، وكان يأتي كلّ يوم ليطمئن عنها. كان يجالس عبّاس لساعات، «طلب منّي أن نستثمر هذا الوقت بطريقة إيجابيّة من خلال قراءة الكتب، فقرأت بعض الكتب في الطبّ، ثمّ أخذ يناقشني ويختبر معلوماتي عند نهاية كلّ محور، حتّى أصبحت ملمّاً بتفاصيل كثيرة في الطبّ. هذا أشعرني بالفرح، ولم أعد أشعر بمرور الوقت». لقد أثّر الطبيب في شخصيّة عبّاس كثيراً، وبهذه الطريقة أدخل البهجة والصبر على قلبه، حيث امتلك عباس حافزاً كبيراً للمطالعة في سبيل تطوير نفسه.

العودة إلى الشِّعر

كان عبّاس موهوباً في كتابة الشِّعر، لكنّ ضيق الوقت وانشغاله بالعمل الجهاديّ، جعلاه يبتعد عن هوايته، إلّا أنّه كوّر وجعه في كبد الوقت وكرّس نفسه لحفظ بعض الدواوين الشعريّة، مستعيناً بزوج أخته الشاعر الذي أمدّه دائماً بالأمل والمعونة: «قام زوج أختي بتأمين كتب الشعر ومتابعة ما أكتبه»، إلى أن أصبح عبّاس صاحب قصائد وأبيات شعريّة من الشعر الخليليّ الموزون.

فاعليّة ونشاط

مضافاً إلى ذلك، ارتاد عباس معهداً لشبكات وأنظمة الحاسوب (Network) مدّة عامين، وشارك في العديد من الدورات في الإلكترونيّات واللغة الإنكليزيّة، ثمّ انتسب إلى معهد المعارف الحكميّة لدراسة فلسفة الإلهيّات نحو ثلاث سنوات، إلى أن اضطُرَّ إلى الانتقال إلى القرية، فكان يشغل نفسه بالقراءات المنفردة: «خلال وجودي في الهرمل، كنتُ أتابع مع الكشّافة بعض الأنشطة بحسب قدرتي». كما أخذ عالم التواصل الاجتماعيّ والإنترنت حيّزاً كبيراً من وقته، فأصبح ناشطاً في متابعة الصفحة الخاصّة بالجرحى.

بعد سنة تقريباً، رجع إلى بيروت لمتابعة دراسته الدينيّة، بانتظار إيجاد طريقة تمكّنه من الذهاب إلى المعهد بمفرده. كما أنّه يرغب في استكمال دراسته الأكاديميّة في الجامعة، ولكن هناك عوائق أمام ذوي الاحتياجات الخاصّة في بعض الجامعات اللبنانيّة، خاصّة أنّه لا يستطيع الكتابة بمفرده، ويتوجّب أن يرافقه شخص باستمرار ليكتب عنه.

كتابات شعريّة

ذاك الحسّ الذي سكبه بين اللمس والسمع، بحجم كتابين إن ما فكّر في نشر أشعاره، هذا المشروع لا يزال قائماً لأنّ كتاباته تلامس كلّ وجع. كما أنّ لديه أصدقاء من الشعراء يدعونه إلى المشاركة في الأمسيات الشعريّة: «أحاول القيام بمشروع إنتاجيّ أخطّط له حاليّاً».

كما يشارك عبّاس مع مؤسّسة الجرحى في الفرقة الإنشاديّة، من خلال الكتابة لهم. وبعد اندلاع الحرب في سوريا، حزن لأنّه لم يستطع مشاركة المجاهدين العمل العسكريّ، فكتب:

لِمَ لا أكون مجاهداً وشهيدْ

                                   ونياط روحي كبَّرَت توحيدْ

عتبي كبير أنّ جسمي هاهنا

                                      يفنى ولا يفنى هناك سعيدْ

«هو كفيلي»

تقول أخت الجريح: «يتمتّع عبّاس بسرعة بديهة وذكاءٍ ملفت، ولديه قدرة كبيرة على صيانة أيّ آلة كهربائيّة، مهما كان العطل فيها، ودون أيّ صعوبة، وذلك كلّه تحصيل ذاتيّ».

كما أنّه شخص مثقّف دينيّاً، وتجلّت هذه الثقافة من خلال حواره مع أحفاد العائلة، إذ استطاع التأثير فيهم بشكل كبير، أيقظ بأسلوبه الرقيق الأرواح الهاجعة، وأعادها إلى صراط الله،  فأصبح النموذج والقدوة بالنسبة إليهم، وباتوا يستشيرونه في أدقّ تفاصيل حياتهم، حتّى أخذ هذا الأمر حيّزاً كبيراً من وقته.

وتضيف: «يعتمد عبّاس على نفسه، فلم يُشعرنا يوماً بأنّه يحتاج إلى شيء، على الرغم من أنه بحاجة إلى من يقدّم له الطعام، إلا أنّ عفّة نفسه تدفعه للبقاء دون طعام كي لا يزعجنا. نحن من نشعر بالحاجة إليه في أكثر أمورنا الحياتيّة، فهو من يرشُّ الصبر في نفوسنا ويؤنسنا. وعلى الرغم من مرور هذه السنوات على جراحه، لم تره العائلة يوماً يتأفّف أو يغضب، بل دائماً يكرّر هذه العبارة: (الحمد لله... اختارني الله جريحاً لأنّه يحبّني، وهو كفيلي)».

نصف الكوب الممتلئ

يشبّه عباس الحياة بشخص يملك المال، وآخر يملك أكثر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصحّة. فالكلّ يدرك جماليّة هذه الحياة، «فإذا ما أصاب الإنسانَ شللٌ رباعيٌّ، فإنّه كمن يملك مبلغاً صغيراً من المال، صحيح أنّه قليل، ولكن يستطيع الإنسان أن يجمع الفرح من خلاله».

من هذا المنطلق، يحثّ عبّاس الناس على النظر إلى الجانب المشرق من حياتهم دوماً، وعلى أن يتمتّعوا بالحياة كيفما كانت «حتّى لو واجهنا بعض المعوّقات، فلننظر إلى نصف الكوب الممتلئ وليس العكس، فهناك الكثير من الأمور التي تبعث السرور في القلوب».

 


57

سأكون عينيك

سأكون عينيك

-داليا فنيش-

اسم الجريح: المجاهد أمجد محمود شعيب (نور).

مكان الإصابة: مزارع شبعا.

تاريخ الإصابة: 2005م.

نوع الإصابة: فقدان البصر.

مجلة بقيّة الله / العدد 341/ جمادى الآخرة 1441هـ/ - شباط 2020 م/ السنة التاسعة والعشرون.

 

«ها هي المقاومة عَرفت دم الحسين الأطهرِ.. ترفع راية النصر على أعلى بيرقٍ، قبضاتُ رجالها حيدريّة، يضغطون على الزناد فيتبدّد ليل الاحتلال المظلم... طهّر الله قلوبهم وآمنوا باليوم الآخر، لا يخشون الموت ويرحلون إلى الله بثوب شهادةٍ مطهّرة». هي كلمات ثوريّة سكبت الصمت في وحي الهيام فتشظّى، كتبها أمجد أحد أبناء المقاومة الشرفاء، بينما كان يرابط يوميّاً في أعالي جبال لبنان، مرسلاً رسالةً للعدوّ الإسرائيليّ مع كلّ حرفٍ من حروفها، أنّ المجاهدين سيبقون العين الساهرة على الوطن. طيفٌ من الأزل القديم أحاط به، فراح يُحدّثنا...

حكاية الجهاد

ولدتُ في بيتٍ مقاوم، يَحبُكُ الأرواح غزلاً من ضياء، فتترعرع على حبّ المقاومة والجهاد، وأنا الذي كنت أُضحي وأُمسي على كلمات والدي المزروعة أقصى الشِغاف: « متى سترفعون رأسي لأفتخر بكم شهداء؟ يجب أن تكونوا مثل هؤلاء الأبطال».

وفي أحد الأيّام، وبينما كنت جالساً معه،  تقدّم مني هامساً: «اقرع باب الجنان بانضمامك إلى صفوف المقاومين، أفرِح قلبي حتى أموت مرتاحًا».

وهكذا بدأت حكاية الجهاد، حين انطلقتُ في هذا الدرب الطويل، وصولًا لمشاركتي في تحرير العام 2000م، أعين الغرباء الحاقدين رصدتني، حيث بقيتُ محاصراً لأربعة أيّام في مكانٍ خالٍ من الطعام والشراب، قبل أن يتمكّن الإخوة المجاهدون من تحريري.

سرّ النظرات

وفّقني الله بشريكة طاعنةٍ في الحب لحياتي، زوجة مضحّية صابرة. بعد مدّة من زواجي طُلبتُ إلى مهمّة جهاديّة، فودّعتُ الأهل، وأوصيت زوجتي الاعتناء بنفسها وبجنينها، لكنها بادرتني بنظراتٍ استغربتها، وقالت لي إنّها لا تكتفي من النظر في عينيّ. لم أعرف وقتها السرّ في ما فعلت، ولم أدرك أنّها ستكون مصدر النور الذي اختفى من عينيّ في المستقبل القريب بعد انطفاء شمسهما.

«هل فقدتُ بصري؟»

وصلتُ إلى المكان المقصود عصرًا، وبعد أن أدّيتُ صلاة العشاءين، دعوتُ الله أن يهبني نسمة لطفٍ ويرزقني الشهادة. وبعد رصدٍ طال وقتًا، انطلقتُ في مهمّتي.

تلك الطرق التي مررت بها تنعش الروح برائحة تراب الجنوب، وبعد مسيرٍ دام ساعة ونصف، داست قدمي عبوة مخفية، فانفجرت بنا، تدحرجتُ وارتطمتُ بشجرة. حاولتُ القيام لكنّ عجزًا تملّكني. سمعتُ صوتاً خفيفاً لرفيقي جواد، فقلتُ له: «أين أنت يا جواد؟ وماذا حصل؟». قال: «قد بُتِرت رجلايَ». تقاسمنا الصبر على الأوجاع، صرخنا من أعماق قلبَينا لعلّ أحداً يسمعنا ويساعدنا، ثمّ وضعتُ يدي على وجهي وإذا بالدم يسيل من عينيّ، وأحسستُ أنّ وجهي يحترق.

بعد ساعات، زحف بعض الشباب إلينا، ولم يكن معهم سوى حمّالة واحدة، فطلبتُ منهم حمل جواد عليها لأنّه كان فاقداً للوعي، بينما حملني آخرون على الأكتاف. قلت لهم: «هل فقدتُ بصري؟ أنا لا أرى شيئاً». قال أحدهم: «لا، عيناك بخير».

«سأكون عينَيك»

أخضعت للعديد من العمليّات في يديّ وقدميّ. وبعد خمسة أيّام من الإصابة، جاء وفد من قِبل سماحة الأمين العام السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) وهنّأني بالسلامة: «السيّد يتمنّى عليك أن تتحلّى بالصبر والتحمّل، ففي ذلك جهاد؛ لذا كن قويّاً، وتغلّب على معاناتك».

بعد العلاج الفيزيائيّ بدأتُ أحرّك يدَيَّ مع كثيرٍ من المعاناة والألم. وأكثر ما آلمني هو ملازمة زوجتي الحامل لي دون أن تفارقني لحظةً واحدة، وكانت دائماً تقول لي: «أنت قدّمتَ عينيك فداء للوطن والشرف والحقّ، وأنا سأكون عينيك، ولي الشرف أن أكون زوجة جريح دافع عن وطنه وأهله».

وبعد مرور شهر، أخبرني الطبيب أنّني فقدتُ بصري إلى الأبد. شكرتُ الله لأنّني أبصرتُ النور من خلال أرض الجنوب، أأبخل عليها ببصري؟

 

السند والمعتمد

تقول الزوجة: «أمجد لم يتغيّر بعد الإصابة، فأنا أعتمد عليه في الكثير من الأمور، ولا يحبُّ أن يعتمد على أحد، وهو من يتسوّق لنا أغراض المنزل، ويساعدني في تربية الأولاد. حياتي استمرّت بتغيّر كبير، هو وسام الشرف الذي أفتخر به مدى العمر».

«أبي تاج على رؤوسنا»

تربطني علاقة قويّة بأبنائي الأربعة؛ إذ إنّني أرى النور بهم، وخاصّة أميرة المنزل، ابنتي الكبرى بتول التي تهتمّ بأموري الخاصّة جدّاً، وهي تقول عنّي: «أنا أفتخر بهذا الرجل العظيم، فهو تاج يجب أن يضعه كلّ إنسان شريف على رأسه»، وتخاطبني قائلة: «لا تخف يا والدي، فأنا سأكون عينَيك اللتَين فقدتهما أثناء جهادك».

أمّا عبّاس، فيعشق خدمة الآخرين ومساعدتهم، ويلحّ على والده ليطلب منه ما يريد، غير مسموح لأحد أن يخدمه، فهذا واجبه، يقول أمجد: «عندما وُلد عبّاس حملته بين ذراعَيّ ورفعته إلى جهة القبلة وقلت: يا رب منَّ على ولدي بالشهادة عندما يكبر، ليرفع رأسي عند مولاتي السيّدة الزهراء (عليها السلام)».

«رحيل» تسأل والدها: «أين عيناك؟» فيحدّثها بما جرى، فتقول: «لا تخف سأقدّم لك عندما أكبر عيوناً». آخر العنقود لا تتعدّى الأشهر، غنّوجة المنزل، هؤلاء الأولاد غيّروا حياة أمجد ليكون أقوى.

رحلة جهاديّة

قرّر أمجد القيام برحلة جهاديّة مع أولاده ليعرّفهم إلى أرض الجنوب العصيّة على المغتصبين. وردة وجعه فاح أريجها، فعرف أنّه وصل من رائحة التراب والهواء، «كنت أشتاق لأضمّ أغصان اللوز والتفاح وأقبّل ثمارها». كان غارقاً في أحلامه يبحث عن الجبل الذي حرسه، والمغارة التي احتمى بها، وساقية الماء التي ارتوى منها. قاطعته ابنته بتول: «هذه الأرض جميلة جدّاً، وفرحتُ كونها تلطّخت ببعض دمك الغالي».

لا تجعل الدنيا لي سجناً

بعد مرور سنة على الإصابة، أحسّ أمجد بملل وضجر كبيرَين، لم يترك الحزن لقلبه موضعًا يحيا به، ذكرى أيام الجهاد كادت تفتك به، وكلّما ضاقت به الأيّام كان يكرّر دعاء: «اللهمّ لا تجعل الدنيا لي سجناً ولا فراقها عليَّ حزناً»[1].

يذكر أوّل حادثة قرّر فيها الاعتماد على نفسه: «كنت في شهر رمضان جالساً على شرفة المنزل، فخطر في بالي أن أذهب إلى منزل أهل زوجتي أثناء السحور، كنت خائفاً من العواقب التي ستخبئها الدروب ولن أراها، ولكني تغلّبت عليها، واجتزت مسافة  تقارب 150 متراً، تفيض صعوبة وخطرًا، لكن في النهاية وصلت إلى المنزل، فتحت زوجة عمّي لي الباب أذهلتها الصدمة: «كيف أتيت بمفردك؟». وهكذا بدأ بالتنقّل من مكان إلى آخر حتّى أصبح يتجوّل في جميع طرقات القرية، «العصا تساعدني كثيراً وأعتمد عليها».

في درب الحياة

تدرّبتُ على صيد الأسماك، وأنا أمارس هوايتي على نهر العاصي برفقة بعض الأصدقاء. تعلَّمتُ صناعة القشّ وشاركت في معارض كثيرة. أتقنتُ عزف البيانو من خلال مؤسّسة الجرحى وبلديّة الهرمل، ثمّ أخذتُ أطوّر نفسي عبر سماع المقطوعات ومن ثمّ عزف مقطوعات خاصّة بي، وشاركتُ مع فرقة الجراح التابعة للجرحى. أستخدم الهاتف من خلال البرنامج الخاصّ بالمكفوفين، وأنا ناشط على وسائل التواصل الاجتماعيّ، ولديّ صفحة تخدم المقاومة وجمهورها.

خضعتُ للعديد من الدورات الثقافيّة والتربويّة، وأحضر في مسجد الضيعة بشكلٍ مستمرّ بحمد الله.

قولٌ وفعل

«لا تخافوا إذا استشهد أبناؤكم أو جُرحوا، افتخروا بذلك، كونوا بقربهم، ساعدوهم للتغلّب على جراحهم كي يمتلكوا العزيمة». فالإصابة جُعلت لصنع المعجزات، لا للفشل والاستسلام. والإنسان المؤمن يكتشف إيمانه في الأوقات الصعبة، أمّا دور الجريح، فإنّه لم ينتهِ بعد وإلّا لاختاره الله شهيداً، وبذلك نكون قد قرنّا قول (يا ليتنا كنّا معكم، فنفوز فوزاً عظيماً) بالفعل حقّاً».

 

[1]  مقتبس من الصحيفة السجادية، ص573.


65
تسابيح جراح