المقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيّدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله الطاهرين.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "خرج الحسين بن عليّ عليهما السلام على أصحابه وقال: أيّها النّاس إنّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه"1.
فلا قيمة ولا معنى لأيّ عبادة إن لم تكن مقرونة بالعلم والمعرفة، بل إنّ العبادة الصحيحة والمقبولة شرطها الأساسي المعرفة الصحيحة. ومن هنا نفهم معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾2 أي ليعرفون كما جاء في التفاسير، لأنّ قيمة العبادة بحسب المعرفة التي تختزنها، حتّى جعل أمير المؤمنين عليه السلام قيمة كل إنسان مقدار ما يعلمه: "قيمة كلّ امرئ ما يعلمه"3 .
بل وجعل عليه السلام كمال الدين بطلب العلم والعمل به كما قال عليه السلام: "أَيها الناس اعلموا أَن كمال الدين طلب العلم والعمل به، أَلا وإنّ طلب العلم أَوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسومٌ مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أَهله وقد أمرتم بطلبه من أَهله فاطلبوه"4.
إنّ هذا لأمرٌ صريح وواضح من مولى الموحّدين بضرورة طلب العلم وعدم التساهل أو الاستخفاف فيه، لأنّه لا نجاة للإنسان إلا بالعلم والتعلّم، كما ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال: "يا هشام لا نجاة إلا بالطّاعة والطّاعة بالعلم والعلم بالتّعلّم والتّعلّم بالعقل يُعتقَدُ
1-م.ن، ج5، ص 312.
2-الذاريات، 56.
3- بحار الأنوار، ج1، ص 165.
4- الكافي، ج1، ص 30، باب فرض العلم.
6
1
المقدمة
ولا علم إلّا من عالم ربّانيّ ومعرفة العالم بالعقلِ"5.
وهذا المتن الثقافيّ هو محاولة لإزكاء روحية طلب العلم في النفوس وإبقاء شعلته مضيئة. والأمل كلّ الأمل أن تغدو هذه الكلمات شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي ثمارها الطيبة في الدنيا والآخرة ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء﴾6.
وقد حرصنا في كتابة هذا المتن على إعداده بطريقة هادفة ومدروسة، حيث رتّبت دروسه بأسلوب منهجيّ ومترابط، لذا من الضروريّ المحافظة على التسلسل من أجل بلوغ الأهداف المتوخّاة من هذا المتن، والتي يمكن أن نختصرها بالتالي:
- تثبيت روحية الارتباط بالله سبحانه وتعالى في النفوس.
- معرفة أنّ الارتباط الصحيح بالله تعالى يكون من خلال الإيمان والعمل الصالح.
- بيان أنّ الذنوب والمعاصي هي من أهمّ الموانع والعوائق التي تحول دون تحقّق هذه الروحية.
- التأكيد على أنّه من المستحيل تحقيق الرابطة السليمة بالله تعالى من دون تهذيب النفس وطلب العلم.
- التعرّف إلى جملة من الرذائل والفضائل الأخلاقية التي بمعرفتها يتّقي الإنسان من الوقوع في الفاسد منها والتحلّي بالصالح منها.
- التأكيد على أن شرط الارتباط السليم بالله تعالى موقوف على الارتباط السليم أيضاً بكتابه الكريم وأئمة الهدى والدين.
- بيان أنّ عبادة الحقّ تعالى هي براق العروج إليه وأنّ الصلاة والدعاء هما أفضل وسيلة لعروج الروح إليه.
5- وسائل الشيعة، ج27،ص19.
6- ابراهيم، 24.
7
2
الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى
الدرس الأول:
الإرتباط بالله تعالى
على الطالب مع نهاية الدرس ان:
1- يتعرّف إلى هدف الإسلام من خلق الإنسان.
2- يبيّن كيفية تحقّق هذا الهدف السامي في الحياة الإنسانية.
3- يشرح أنّ الحكمة من إيجاد الفطرة الإنسانية وإرسال الأنبياء هو تذكير الناس بالهدف النهائيّ للخلقة.
10
4
الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى
هدف الإسلام
إذا أردنا أن نختصر الهدف الأساس للإسلام ولكلّ الأديان السماوية بكلماتٍ بسيطةٍ يمكن أن نوجزها بجملةٍ واحدة هي: ربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى وبعالم الآخرة. هذا الارتباط الذي يتجلّى من خلال معرفة الله والإيمان به: "أوّلُ الدّين معرِفَتهُ وكمال معْرِفتِه التّصديق1 بِه وكمالُ التّصديق به توحيدُه"2.
الإنسان هو الوحيد من بين جميع مخلوقات الله الذي استحقّ هذه الكرامة والمنزلة لما حباه الله تعالى من نعمة العقل: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾3، وأفاض عليه من روحه: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾4، فاستحقّ بذلك لقب خليفة الله في الأرض: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾5.
فالارتباط بالله هو الهدف الذي من أجله خُلق الإنسان، والغاية التي من أجلها أوجد في هذه الحياة الدنيا. وقد سخّر الله تعالى للإنسان كلّ شيء، ووهبه كلّ ما يلزمه ويحتاجه لبلوغ هذا المقصد الشريف: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾6.
الدنيا ليست هي الهدف
ولم تكن هذه الحياة الدنيا الفانية والزائلة بحالٍ من الأحوال مستقرّ الإنسان الدائم وهدفه النهائيّ، بل هي بمثابة الممر الإجباريّ والمعبر الوحيد إلى المقصد النهائيّ والنعيم الباقي، وهي مزرعة الآخرة التي فيها يكون الزرع وفي الآخرة حصاده: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا
1-التصديق، الإيمان.
2-نهج البلاغة، خطبة 39.
3-الحج، 46.
4- الحجر، 29.
5- البقرة، 30.
6- لقمان، 20.
12
5
الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى
حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾7، وعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قال: "إنّما الدّنيا دار ممرّ والآخرة دار مستقرّ، فخذوا من ممرّكم لمستقركم" 8. وهو عزّ اسمه لم يسخّرها للإنسان إلّا لأجل بلوغ هذا الهدف السامي دون سواه، فهذه الدنيا هي فرصة الإنسان الوحيدة والسانحة والتي من خلالها يمكنه أن يعرج الى جنة الآخرة ولقاء الحق: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾9. ونصيب الإنسان من الدنيا هو ما قسمه الله له وقدّره له من رزقٍ فيها، من الصحة والمال وغيرهما من النّعم التي يفترض أن يسخّرها الإنسان لدار بقائه. فعن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "لا تنس صحتك وقدرتك وفراغك وشبابك ونشاطك أن تطلب بها الآخرة" 10.
وأمّا الذين نسوا الآخرة، ورضوا بمتاع الحياة الدنيا وزينتها، فقد ظلموا أنفسهم واستحقّوا العقاب الإلهيّ لأنّهم استبدلوا الدنيا بالآخرة، فكان العذاب من نصيبهم مرّتين؛ عند فراقهم للحياة الدنيا، وعند دخولهم النار: ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾11.
معنى الارتباط بالله تعالى
الارتباط بالله سبحانه وتعالى يعني حضوره الدائم في حياتنا، وعدم الغفلة عنه أبداً، والتوجه إليه دائماً. فلا نعبد غيره، ولا ندعو سواه، ولا نطلب حوائجنا إلّا منه. فالإنسان عندما يدرك أنّ الله تعالى خالقه وهو مالكٌ لكلّ شيء وبيده كلّ شيء وله الأمر كلّه وهو ربّ العالمين، فمن الطبيعيّ أن يتوجّه إليه بالعبودية والتسليم: ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾12. وحضور الله تعالى في حياتنا يتحقّق من خلال أمرين أساسيّين هما:
- الإيمان.
- والعمل الصالح.
7- النحل، 30.
8- غرر الحكم، ص 149
9- القصص، 77
10- معاني الأخبار، تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 139.
11- يونس، 7 و8.
12- الانعام، 102.
13
6
الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى
وبمراجعة الآيات الشريفة التي تحدثت عن شروط الفوز بالجنة والنجاة من العذاب، نجد أنّ الإيمان والعمل الصالح هما العاملان الأساسيان بل الوحيدان لأنّ إيمان الإنسان بشيءٍ هو الدافع والموجه نحوه. فمن آمن بالله عزَّ وجلَّ توجّه إليه وطلبه وسلك طريقه: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى *جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾13. ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾14.
ومن سياق هذه الآيات وغيرها الكثير التي وصفت أهل الجنة وشروط الدخول إليها، ومن خلال التأكيد المتكرّر على العمل الصالح عند ذكر أهل الجنّة من المؤمنين، نجد أنّ الإيمان دون العمل الصالح لن يكون كافياً للفوز بالجنة ولقاء الحقّ، فالإيمان شرطٌ أساسيّ في التوجه إلى الله. وكلّما ازداد الإيمان قوي التوجه إلى الله أكثر. والعمل الصالح بدوره وسيلةٌ لتثبيت هذا الإيمان في القلب والازدياد منه: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾15. ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾16.
كلّ ما في الوجود يدعو إلى الله
إنّ من له أدنى إلمام بتعاليم الإسلام وأحكامه يعلم أنّ الأصل الأوّليّ والمحور المركزيّ الذي تدور حوله جميعها هو تحقيق الارتباط الصحيح والعميق بالله تعالى.
1- الآيات الآفاقية والأنفسية:
فنحن إذا تأملنا في السماوات والأرض وفي جميع الحقائق التي ذكرت في الإسلام من قبيل الجنة والنار والآخرة والأنبياء والأوصياء، لوجدنا أنها جميعها بمنزلة الآيات الدالّة على الله سبحانه وتعالى. فهي آيات الحقّ سبحانه التي تدفع وتوجّه الإنسان نحو المبدأ الأول
13- طه، 75 - 76.
14- النور، 55.
15- الكهف، 110.
16- البقرة، 62.
14
7
الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى
لتجعل تفكيره وتوجّهاته مركّزة وسائرة باتّجاه المطلوب، والتي تهدف إلى ربط الإنسان فكرياً وعقائدياً وقلبياً بالحقّ سبحانه، فيزداد إيمان الإنسان بالله ويقوى تعلّقه به أكثر: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾17. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾18. ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾19.
2- الأحكام والتشريعات الإلهية:
وإذا جئنا إلى الأحكام المنبثقة من تعاليم الإسلام، من عباداتٍ وطاعات، وأوامرَ عليه السلامونواهٍ، لوجدنا أيضاً أنّ كل حكم فيها إنّما يهدف إلى ربط الإنسان بالحقّ تعالى. فما تشريع الصلاة، والصوم، والحجّ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، والخمس، وغيرها من الأحكام إلّا لإحكام هذه العلاقة بين الإنسان وخالقه. فعندما يلتزم الإنسان بأوامر الحقّ الشرعية وأحكامه العملية وينتهي عن نواهيه فهو في حالة ارتباط به، كونه ينفّذ أوامره وينتهي عن نواهيه . والحكمة من هذه الأحكام الإلهية والهدف منها ربط الانسان عملياً بالحقّ.
إذاً، فالحقائق التي هي آياتٌ والأعمال التي هي طاعاتٌ وقربات، كلها تريد أن تُحكِم العلاقة بين الإنسان وخالقه، وليس الإسلام سوى هذا. وإنّ أية سعادة أخرى إنّما تنبع من هذه السعادة الواقعية، ودونها لا يبقى للسعادة معنىً سوى الوهم.
اللطف الإلهيّ
من عناية الله بعباده ورحمته بهم، ولبيان الأحكام والحقائق الإلهيّة وكشفها للناس حتّى يكونوا على بيّنة من أمرهم، وليعرفوا الهدف من وجودهم، ولإتمام الحجة عليهم فلا يقولوا: ﴿رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾20 كان لا بدّ من أمرين أساسيين لكي تكتمل الحجّة على الناس هما:
17- فصلت، 53.
18- آل عمران، 190.
19- الرعد، 2.
20- طه، 134.
15
8
الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى
1- الأنبياء والرسل:
أرسل الله عز وجل رسله إلى الناس وبعث فيهم الأنبياء مبشّرين ومنذرين لهدايتهم وإخراجهم من ظلمات الحيرة والشقاء إلى نور السعادة والتوحيد، ولتخليص الناس من مستنقع الدنيا وفسادها ليصلوا إلى أعلى مراتب الرقيّ والكمال الإنسانيين. فخاطبوا فطرة الإنسان وتوغّلوا في أعماق رغباته وبيّنوا له الطريق: "فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أَنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبلِيغ ويثيروا لهم دفائِن العقول"21، فكان هدفهم الأساسي هداية الإنسان إلى الله وإيصاله إلى السعادة الحقيقة بجوار الرب الودود. وحمّلهم عز وجل القوانين والتشريعات اللازمة التي تضمن للناس في حال التزموا بها الوصول إلى هذا الهدف السامي والفوز العظيم: ﴿قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾22.
2- الفطرة الإنسانية:
ومن عناية الله تعالى أيضاً ورحمته الواسعة بعباده، أن خلق الإنسان وكوّنه بنحوٍ خاص وطريقةٍ فريدة، ليسهّل عليه عناء البحث عن مطلوبه من جهة، ولإتمام الحجّة عليه من جهة أخرى فلا يتذرّع بعدها بالحجج الواهية والأعذار البالية، حيث زوّده تعالى بفطرة التوحيد؛ وهي بمثابة النداء الباطني والتوجّه المعنوي الذي جعله الله تعالى داخل كل إنسانٍ ليهتدي من خلاله إلى ما تريده روحه وتبحث عنه. وهي من أهم القوى التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان، فهي تحثّه دائماً وتطلب منه التوجّه إلى مصدر كل كمالٍ وأصل كل جمالٍ ومنبع كل سعادة، وقد أودعها الله نفس كل إنسان بعد أن أخذ منها صكّ الاعتراف أنه ربها وخالقها وإلهها الأوحد: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾23. ولمّا سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن قوله تعالى:
21- بحار الأنوار، ج11، ص61.
22- الطلاق، 10 - 11.
23- الروم، 30.
16
9
الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى
﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾، ما تلك الفطرة؟ قال عليه السلام: "هي الإسلام، فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد"24.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلُّ مولود يولد على الفطرة يعني المعرفة بأَنَّ الله عز وجل خالقه كذلك قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ﴾"25.
24- الكافي، ج2، ص12.
25- م.ن، ص 13.
17
10
الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى
المفاهيم الرئيسة
1- الهدف الأساسي للإسلام هو ربط الإنسان بخالقه.
2- جميع الحقائق والأحكام الإلهية تدور حول محورٍ واحد أيضاً هو ربط الإنسان بالخالق جل وعلا.
3- المقصود من الارتباط بالله سبحانه وتعالى توجّهنا إليه وحضوره الدائم في حياتنا.
4- التوجه إلى الله يتحقق من خلال أمرين: الإيمان والعمل الصالح.
5- خلق الله تعالى الإنسان على فطرة التوحيد، وأرسل إليه رسله لتذكيره بأن مراده الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى.
أسئلة حول الدرس
1- هل لوجود الإنسان هدف في هذه الحياة؟ وما هو هذا الهدف؟
2- ما المقصود من الارتباط بالله عز وجل؟ وهل هو ارتباط مادي أم معنوي؟
3- ما هو الهدف الأساسي من إرسال الأنبياء و الرسل إلى الناس؟
4- ما هي الفطرة؟ وما هي أهمّ ميّزاتها؟
18
11
الدرس الأول: الإرتباط بالله تعالى
للمطالعة
الإنسان بفطرته يحب الله 26
إعلم أن للإنسان إن لم أقل كل موجود حباً فطرياً للكمال المطلق وحباً للوصول إلى الكمال المطلق. وهذا الحب يستحيل أن ينفصل عنه. كما أن الكمال المطلق محالٌ أن يتكرر أو أن يكون اثنين، فالكمال المطلق هو الحق جلّ وعلا، والجميع يبحثون عنه، وإليه تهفو قلوبهم وإن كانوا لا يعلمون. فهم محجوبون بحجب الظلمة والنور، ولهذا فهم يتوهمون أنهم يطلبون شيئاً آخر وهم لا يقنعون بتحقيق أيّة مرتبة من الكمال ولا بالحصول على أي جمالٍ أو قدرةٍ أو مكانة. فهم يشعرون أنهم لا يجدون في كل ذلك ضالّتهم المنشودة. فالمقتدرون وأصحاب القوى العظمى هم في سعيٍ دائمٍ للحصول على القدرة الأعلى مهما بلغوا من القدرة. وطلاب العلم يطلبون الدرجة الأعلى من العلم مهما بلغوا منه ولا يجدون ضالتهم التي غفلوا عنها في ذلك. ولو أُعطي الساعون إلى القدرة والسلطة التصرف في كل العالم المادي من الأرضين والمنظومات الشمسية والمجرّات وكل ما فوقها ثم قيل لهم: إن هناك قدرة فوق هذه القدرة التي تملكونها وهناك عالمٌ أو عوالم أخرى أبعد من هذا العالم فهل تريدون الوصول إليها؟
فإنهم من المحال أن لا يتمنّوا ذلك، بل إنهم سيقولون بلسان الفطرة: ليتنا بلغنا ذلك أيضاً! وهكذا طالب العلم فهو إن ظن أن هناك مرتبة أخرى غير ما بلغه فإن فطرته الباحثة عن المطلق ستقول: يا ليت لي القدرة للوصول إليه، أو يا ليت لي سعة ً من العلم تشمل تلك المرتبة أيضاً!
إن ما يُطمِئنُ الجميع ويخمد نيران النفس المتمرّدة ويحدّ من إلحاحها واستزادتها في الطلب إنما هو الوصول إليه تعالى، والذكر الحقيقي له جلّ وعلا؛ إذا كان مظهراً له، فإن الاستغراق فيه يبعث الطمأنينة والهدوء وكأن قوله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾27 هو نوع من الإعلان أن: انتبه انتبه! عليك أن تلجأ إلى ذكره حتى تحصل على الطمأنينة لقلبك الحيران الذي يواصل القفز من مكان إلى مكان والطيران من غصنٍ إلى غصن.
الإمام الخميني قدس سره
26- وصايا عرفانية، ص20.
27- الرعد، 28.
19
12
الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله
الدرس الثاني:
طريق الارتباط بالله
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
1- يشرح الطريق الصحيح للارتباط بالله عزّ وجلّ.
2- يتعرّف إلى حقيقة الإنسان.
3- يبيّن أهميّة طلب العلم في الوصول إلى الهدف المنشود.
20
13
الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله
ما هو السبيل إلى معرفة الله والإيمان به؟
إذا كان الارتباط بالله سبحانه وتعالى والتوجه إليه هو هدف التشريعات السماوية وإرسال الأنبياء، والهدف الأساسي من خلق الإنسان، وإذا كانت الفطرة الإنسانية خُلقت بالأصل باحثةً عنه وطالبة له، وإذا كانت آيات الحق التكوينية وأحكامه الشرعية تهدف بدورها إلى تحقيق هذه الرابطة بين الخالق والمخلوق، فما هو السبيل إلى ذلك؟ وما هو الطريق الذي ينبغي لنا اتّباعه ليغدو قربنا من الله تعالى أمراً ممكناً وقابلاً للتحقق؟
هذا السؤال جوهري وأساسي، ومن دون الإجابة عنه سيبقى الإنسان حائراً وتائهاً في هذه الحياة. فمن غير الممكن أن يهاجر الإنسان إلى ربه وهو لا يعرف السبيل إلى ذلك. لذا على الإنسان المخلص والصادق في طلبه أن يتعرف إلى الطريق الذي يوصل إلى الحق. والله سبحانه وتعالى قد بيّن ذلك ولم يجعله خافياً: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾1، ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾2.
معرفة النفس
لكي نجيب عن هذا السؤال علينا أن نبدأ من الطريق السهل والذي لن يكلفنا عناء البحث كثيراً. علينا أن نبدأ من أنفسنا التي سوّاها الحق ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾3، لأن الجاهل بنفسه بالآخرين أجهل، والعارف بها قد أُعطيَ فرصةً قلَّ نظيرها لاكتشاف الكثير مما قد خفي عنه.
إذا رجع الإنسان قليلاً إلى هذه النفس، وأعطى لفكره وقتاً للتأمل في أعماقه، ومحاسبة كل حياته ونشاطاته، فسوف يقف على حقيقةٍ مهمةٍ جداً تعتبر عند أهلها أساس كل خيرٍ وراحة في هذه الحياة. سوف يدرك أنه طالبٌ لأشياء يحتاجها ويرى فيها لذةً لنفسه أو راحةً أو
22
14
الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله
منفعة. ثم إذا حاول أن يفهم سر كل حركةٍ يؤديها أو مشروعٍ يقوم به فسوف يجد أن احتياجه وفقره هو الذي يدفعه للقيام به. فالإنسان قد فطر على أساس الطلب والحاجة، ووجوده فقيرٌ لا ينفكّ عن السعي للغنى والطلب للقدرة. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحالة بأروع صورة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾4، ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾5.
حقيقة الإنسان
من المؤكد أن الفقر المقصود هنا في الآية ليس الفقر المادي، لأن بعض الناس بطبيعة الحال أغنياءٌ على المستوى المادي. بل المراد منه شيءٌ آخر يمسّ جوهر الإنسانية وحقيقتها. فهذه الآيات الآنفة الذكر تشير إلى أن الضعف والاحتياج هما حقيقة الإنسان ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾6.
فلو فكّر الإنسان ساعةً واحدة في نفسه وفي موجودات هذا العالم كله فسوف يكتشف أن أي موجودٍ ليس لديه شيءٌ من نفسه، وأن كل ما حصل عليه الإنسان ووصله هو ألطافٌ ومواهب مستعارة وهي ليست منه، سواء قبل أن يأتي إلى هذه الحياة أم خلال حياته فيها، أم حتى بعد الممات. وإذا تأمل الإنسان في كيفية خلقه منذ أن كان طفلاً إلى أن تحين لحظة وفاته وفكّر قليلاً في كل مرحلة وما أُعطي فيها من نِعمٍ وقوىً متنوعة من الفكر والعقل والخيال والقلب والأعضاء والجوارح المختلفة وغيرها من النعم والألطاف، لدهش وتحيّر لأنه في لحظةٍ من اللحظات لم يكن شيئاً مذكوراً ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾7 ثم أتى من أفاض عليه الحياة والروح ووهبه من ألوان النعم التي تبهر العقول وسخّر له كل هذا الوجود. فالإنسان إذاً في الأصل لا يملك شيئاً، فمن تراه يكون المالك الحقيقي والرازق والمعطي!؟
1- طه، 50.
2- التوبة، 115.
3- الشمس، 7.
4- فاطر، 15.
5- القصص، 24.
6- النساء، 28.
7- الدهر، 1.
23
15
الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله
﴿وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾8، ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾9.
فالأمور كلها بيد الله وليس للإنسان من حولٍ وقوة إلا به، وهذا عين الضعف والعجز: ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾10، ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾11، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾12.
سبيل الله بالتفكر والطاعة
من هنا كان الارتباط بالحق تعالى مطلب كل إنسان لأنه لن يجد أغنى منه ولا أكمل ولا أقدر، ومطلب الحق أيضاً لأنه يريد الخير لعباده والنفع لهم، وهو يعلم أن ما يبحث عنه الإنسان موجود عنده فقط، وليس سواه تعالى من يستطيع تأمين احتياجات الإنسان وحل مشاكله. لذا يقول الإمام الخميني قدس سره: "إن ما يطمئن الجميع ويخمد نيران النفس المتمردة ويحدّ من إلحاحها واستزادتها في الطلب، إنما هو الوصول إليه تعالى، والذكر الحقيقي له جل وعلا"13.
فالطريق الوحيد لخروج الإنسان من عجزه وضعفه هو بالتوجّه الى الغني الذي لا يفتقر، والكمال الذي لا نقص فيه على الإطلاق، وطلب العون والمدد منه. وهذا الالتجاء لا يتحقّق إلا بالطاعة والتفكر، لأن حضور الحق في حياتنا وتوجّهنا إليه ينبغي أن يتحقق على المستويين:
الفكري: من خلال التفكّر في آياته. لأنه بالتفكّر ينبّه الإنسان عقله وقلبه ويحملهما إلى حيث يدنوان أكثر فأكثر من الباري عز وجل، من خلال التفكر في صفاته وأفعاله، وفي روائع صنعه وإتقانه: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾14، ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا
8- المائدة، 17.
9- يونس، 31.
10- آل عمران، 154.
11- الذاريات، 58.
12- فصّلت، 15 .
13- وصايا عرفانية، ص 21.
14- آل عمران، 191.
24
16
الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾15. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته"16، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "فِكْرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنة"17.
العملي: من خلال الطاعة والتقوى. فالطاعة بما تعنيه من الالتزام والانقياد لأحكام الله تعالى، والتقوى بما تعنيه من وقاية النفس من عصيان أوامر الله ونواهيه وما يمنع رضاه، هما البرنامج العملي الذي ينبغي العمل به واتّباعه للقاء الحق والتقرّب إليه. لأن الإنسان عندما يرى كمالاً ما في موجودٍ فسوف يتوجه إليه، وسيترجم توجهه هذا بالخضوع والطاعة له، والابتعاد عن كل ما يخالف إرادته، لأنه يأمل بذلك أن ينعم عليه بما يسدّ به عوزه ويرفع عنه نقصه. وهذا هو السبيل الأوضح والطريق الأوحد لنيل السعادة الأخروية والكمال الإنساني. فمقتضى الفقر والعجز هو طاعة الغني والكامل والمقتدر، ولهذا السبب أمر الله الناس بطاعته: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُون َ* أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ﴾18، حتى جعل عبادته تعالى هدف الخلقة والإيجاد فقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾19، وقال عز اسمه: ﴿وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾20.
طاعة الله بالعلم والتعلم
طاعة الله عز وجل لا تتحقق إلا بمعرفة أوامره ونواهيه ومن ثم العمل على تطبيقها. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "وجدت عِلْمَ النّاس كلَّهُ في أربَعٍ: أولها أن تعرف ربّك، والثّاني أن تعرف ما صنع بك، والثّالث أن تعرف ما أراد منك، والرّابع أن تعرف ما يخرِجُكَ من دينك"21.
15- الجاثية، 13.
16- الكافي، ج2، ص 55.
17- مستدك الوسائل، ج2، ص 105.
18- الشعراء، 131 الى 133.
19- الذاريات، 56.
20- هود، 123.
21- أصول الكافي، ج1،ص50.
25
17
الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله
فمن يُرد طاعة الله عليه أولاً أن يعرف ما يريده منه. ومعرفة ما يريده تتحقق بالرجوع إلى أحكامه وقوانينه، وأوامره ونواهيه المتمثّلة بشريعته، فيلتزم بها ويقوم بتطبيقها حتى تسري هذه الشريعة في كل تفاصيل حياته، فتصبح حياته عامرةً بطاعات الله وقرباته، فلا يغفل عنها طرفة عينٍ أبداً، فيستحق عندها أن يكون من "المتقين"، وهم قومٌ اشتدت طاعتهم لله وحذرهم من مخالفة أوامره إلى الحد الذي باتت حياتهم كلها عبادة، فغدوا محبوبين عند الحق، ومن أوليائه المقرّبين: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾22، ﴿إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ﴾23. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إعمل بفرائض الله تكن أتقى الناس"24. وفي الحديث القدسي قال الله تبارك وتعالى: "ما تحبب إليّ عبدي بأحب مما افترضت عليه"25.
ومن هنا أيضاً تبرز أهمية طلب العلم كوسيلةٍ مهمة لمعرفة أحكام الله، وفرصةٍ شريفة للتفكّر في آياته أيضاً. فالإسلام يمثّل مجموعةً كبيرةً من التعاليم التي تفسّر لنا هذا الوجود وظواهره، وتجيب عن الأسئلة المصيرية التي تقلق الإنسان وتتعلّق بمصيره، ويتضمّن أيضاً مجموعةً كبيرة من الأحكام الشرعية التي تدلّه على كيفية العمل والتصرف في كل شأنٍ من شؤون حياته سواء مع الحق أم مع الخلق. لذا كان طلب العلم واجباً على كل مسلم ومسلمة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم. ألا إن الله يحبّ بغاة العلم"26، لأنه لا يمكن أن تصحّ عبادةٌ وطاعة من دون معرفة، والمعرفة لا تتحقّق إلا بطلب العلم. عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "نُصِبَ الحق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم والعلم بالتعلم"27. فطلب العلم هو السبيل الوحيد للتعرف إلى أحكام الحق الشرعية، ومقدمةٌ لتحصيل الواجبات وترك المحرمات، وفي نفس الوقت بابٌ مهمٌّ جداً للتفكر في آياته الآفاقية والأنفسية. وهذه المعرفة هي المدخلية الصالحة التي تخوّل الإنسان الدخول في سلك المطيعين والعابدين والمتفكرين، وبالتالي الارتباط الحقيقي بالله سبحانه وتعالى.
22-آل عمران، 76.
23-الأنفال، 34.
24- أصول الكافي، ج2، ص 109، ح4.
25- م.ن، ح5.
26- م.ن، ج 1، ص 30.
27- م.ن، ص 17.
26
18
الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله
المفاهيم الرئيسة
1- حقيقة الإنسان هي الفقر والاحتياج والنقص على الدوام.
2- فقر الإنسان وضعفه يدفعانه للبحث عن الغنى والكمال.
3- الله سبحانه وتعالى هو الغني الذي لا حدّ لغناه والكمال الذي لا حدّ له.
4- كمال الإنسان وغناه لا يتحققان إلا بطاعة الله الغني والقدير، والتفكر في آياته.
5- طلب العلم مقدمة أساسية ليتمكّن الإنسان من القيام بالطاعات, والتفكر في الآيات.
أسئلة حول الدرس
1- أذكر شاهداً من القرآن على فقر الموجودات وبالخصوص الإنسان.
2- ما هي العلاقة بين فقر الإنسان والارتباط بالحق عز وجل؟
3- ما هو الطريق العلمي للارتباط بالله عزَّ وجلَّ؟
27
19
الدرس الثاني: طريق الإرتباط بالله
للمطالعة
فقر الموجودات28
إعلم أن العالم سواء كان أزلياً وأبدياً أم لا، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أم لا، فإنها جميعاً محتاجة، لأن الوجود ليس ذاتياً لها. ولو تفكرت وأحطت عقلياً بجميع السلاسل غير المتناهية فإنك ستدرك الفقر الذاتي والاحتياج في وجودها وكمالها إلى الوجود الموجود بذاته والذي تمثّل الكمالات عين ذاته. ولو تمكنت من مخاطبة سلاسل الموجودات المحتاجة بذاتها خطاباً عقلياً وسألتها: أيتها الموجودات الفقيرة من يستطيع تأمين احتياجاتكم؟ فإنها ستردّ جميعاً بلسان الفطرة: إننا محتاجون إلى من ليس محتاجاً مثلنا إلى الوجود، وكمال الوجود. وهذه الفطرة أيضاً ليست من ذاتها، ففطرة التوحيد ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾29 من الله، والمخلوقات الفقيرة بذاتها لن تتبدّل إلى غنيّة بذاتها، فمثل هذا التبديل غير ممكن الوقوع، ولأنها فقيرةٌ بذاتها ومحتاجة فلن يستطيع سوى الغني بذاته أن يرفع فقرها واحتياجها.
كما أن هذا الفقر الذي هو لازمٌ ذاتي لها هو صفة دائمة أيضاً سواء كانت هذه السلسلة أبدية أم لا، أزلية أم لا، وليس سواه تعالى من يستطيع حل مشاكلها وتأمين احتياجاتها. كذلك فإن أي كمالٍ أو جمالٍ ينطوي عليه أي موجودٍ ليس منه ذاتاً، إنما هو مظهرٌ لكمال الله تعالى وجماله، ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾30. حقيقةٌ تصدق على كل شيءٍ وكل فعلٍ وكل قولٍ. وإن كل من يدرك هذه الحقيقة ويتذوّقها لن يتعلق قلبه بغير الله تعالى، ولن يرجو غيره تعالى.
الإمام الخميني قدس سره
28- وصايا عرفانية، ص12.
29- الروم، 30.
30- الأنفال، 17.
28
20
الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي
الدرس الثالث:
الذنوب والمعاصي
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
1- يستدل أن الذنوب هي من أهم الموانع التي تحول دون وصول الإنسان إلى الغاية السامية من خلقه.
2- يبيّن منشأ الذنوب وأهم آثارها السلبية.
3- يشرح كيفية التخلّص من هذا المانع.
30
21
الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي
المعاصي هي المانع الأكبر
إذا كان الإنسان باحثاً عن الله بحكم فطرته، والأنبياء يسعون على الدوام إلى ربطه بخالقه وحثّه على التوجه إليه، وإذا كانت سعادة الإنسان وتحققّه بالكمال والغنى الواقعيين لن يتحققا إلا في ظلّ ولاية الحق وطاعته، فلماذا نجد أن قلّةً من الناس جعلوا الحق تعالى وجهتهم، وأن قليلين هم الذين وصلوا إلى هذا المقصد الشريف والهدف السامي، مع أن الله تعالى زوّدهم بكل ما يلزم للوصول إلى هذه السعادة المنشودة؟!
في الواقع هناك سببٌ أساسي يحول دون تحقق ذلك وهو الذنوب والمعاصي. فكما هو معروفٌ لدى كلّ مسلمٍ أن لله تعالى أحكاماً وحدوداً شرعية على الإنسان أن لا يتعدّاها ﴿وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾1 وإلا فإن العذاب المهين سيكون من نصيب من يفعل ذلك ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾2. وهذه الأحكام الشرعية تنقسم إلى خمسة أقسامٍ معروفة: الواجب، والحرام، والمستحب، والمكروه، والمباح. والإنسان إنما يعدّ عاصياً إذا ترك الواجب وفعل الحرام. أما المستحب فجائزٌ تركه وكذا المكروه جائزٌ فعله لأن الأمر فيهما لم يصل إلى حدّ الإلزام كما في الواجب والحرام. ففي الواجب إلزامٌ بالفعل، وفي الحرام إلزامٌ بالترك. والعاصي هو الذي يخالف الحكم الشرعي بحيث يستحقّ العقاب على مخالفته هذه، لأنه خروجٌ عن طاعة الله سبحانه وتعالى. فالمعصية في الواقع هي نوعٌ من الرفض والإعراض عن الله تعالى. والعاصي بمعصيته كأنه يقول له: لا أريدك، وبإمكاني أن أتدبر أموري بنفسي! وهذا هو التكبّر بعينه، إذ كيف يمكن لمخلوقٍ ضعيف ومحتاج أن يعرف ما هو خيرٌ له من تلقاء نفسه؟! وهل صار الإنسان أعرف بما ينفعه وما يصلحه من خالقه وموجده؟! فالمعصية في الواقع هي جحودٌ بربوبية الحق وإنكارٌ لألوهيّته المطلقة. وعبادة الحق لا تتحقق بشكلها الصحيح إلا
32
22
الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي
بالالتزام التام بالشريعة المقدسة، وهو أصدق تعبيرٍ عن الالتفات والتوجّه إلى مصدر الخير والسعادة والكمال. أما المعصية فهي إعلان حالة الرفض والتمرد وطلب الخير من مصدرٍ آخر.
منشأ الذنوب
إن منشأ الذنوب والمعاصي التي يرتكبها الإنسان يمكن اختصاره بكلمةٍ واحدة وهي: رؤية الإنسان كماله وسعادته وغناه في أمورٍ أخرى لا ارتباط لها بالحق تعالى والآخرة، بل يجد أن سعادته تكمن في ملذّات الدنيا وشهواتها، فيسعى خلفها دون أيّ وازعٍ ولا رادعٍ، حتى إذا أسرف وخالف أمر الله فيها وقع فيما لا تحمد عقباه. لذا قالوا إن منشأ الذنوب والمعاصي يعود في الأساس إلى حب الإنسان للدنيا وانغماسه فيها، كما في الحديث عن الإمام الصادق: "حب الدنيا رأس كل خطيئة"3. فالإنسان إذا سعى وراء شهوات الدنيا أعمته عن الحق تعالى وعن الآخرة حتى ينساها، والنتيجة: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾4.
وليس المقصود من حب الدنيا حب الطبيعة من الجبال والأنهار وغيرها أو حب الناس، بل المراد بحب الدنيا تعلق القلب بها بحيث تشكل عائقاً أمام ارتقاء الإنسان وسفره نحو الحق تعالى. وبشكلٍ أدقّ إن تعلق القلب بملذات الدنيا وشهواتها وأموالها وزينتها الى الحدّ الذي يحول دون توجّه عقل الإنسان وقلبه وفكره وعمله الى الله سبحانه وتعالى، وإلى الحدّ الذي يدفعه للوقوع في الحرام هو المذموم وهو الدنيا التي ورد ذكرها في الروايات الشريفة أنها رأس كل ذنبٍ وخطيئة، ففي الحديث أنه ممّا وعظ به الله تعالى عيسى عليه السلام: "يا عيسى... واعلم أَن رأس كل خطيئة وذنب هو حبّ الدنيا فلا تحبّها فإني لا أحبّها"5. وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "حبّ الدنيا يفسد العقل ويصمّ القلب عن سماع الحكمة ويوجب أَليم العقاب"6. وأَوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: "إن كنت تحبني فأَخرج حبّ الدنيا من قلبك فإن حبّي وحبّها لا يجتمعان في قلب"7.
1- البقرة، 229.
2-النساء، 14.
3- وسائل الشيعة، ج16، ص 9.
4- السجدة، 14.
5- الكافي، ج8،ص 131.
6- مستدرك الوسائل، ج12، ص 41.
7- م.ن، ج12، ص39.
33
23
الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي
الآثار السلبية للمعاصي
للذنوب آثارٌ سلبيةٌ تمنع الإنسان وتحول دون ارتباطه بالحق وتوجّهه إليه، نذكر أهمها:
1- العداوة والكفر بالله: إن حالة الرفض والابتعاد عن الله إذا ازدادت وكثرت فإنها تشكّل في القلب حالةً من النّفور والكره للحقّ. وإذا قويت حالة البغض هذه أكثر تتحوّل إلى عداءٍ ومحاربة للحق سبحانه والعياذ بالله. وهي حقيقةٌ صرّح بها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾8.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا عباد الله احذروا الانهماك في المعاصي والتهاون بها، فإن المعاصي تستولي الخذلان على صاحبها، حتى توقعه في رد ولاية وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودفع نبوة نبي الله، ولا تزال أيضاً بذلك حتى توقعه في دفع توحيد الله والإلحاد في دين الله"9.
2- قسوة القلب: في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "ما جفّت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب"10. وقساوة القلب تعني عدم تأثّره بالمواعظ، وعدم خشوعه عند ذكر الله أو الموت، وكل ما يوجب وجل القلوب وخوفها. وهي من المفاسد العظيمة التي ذمّت النصوص الشرعية الاتصاف بها:﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾11.
3- خروج روح الإيمان: روح الإيمان هي قوة الإيمان والملكة التي تدعو الإنسان إلى الخير والطاعة وتزجره عن الشر والمعصية. وروح الإيمان هذه تفارق الإنسان حين تلبّسه بالذنب والمعصية. فعن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "إن الله تبارك وتعالى أيّد المؤمن بروحٍ منه تحضره في كل وقت يُحسن فيه ويتقي، وتغيب عنه في كل وقت يُذنب فيه ويعتدي، فهي معه تهتزّ سروراً عند إحسانه، وتسيخ في الثرى عند إساءته"12.
4- الخشية من الموت: قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
11- الزمر، 22.
12- الكافي، ج2، ص 268.
34
24
الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾13. تبيّن الآية الشريفة أن الإنسان يكره في بعض الأحيان لقاء الله ولا يتمنى الموت نتيجةً لما قدّمت يداه من أعمالٍ سيئة وأفعالٍ قبيحة يخجل أن يقابل ربّه وقد تحمّل وزرها وتقلد شنارها.
5- الحرمان من الخيرات: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اتّقوا الذنوب فإنها ممحقة للخيرات، إن العبد ليذنب الذنب فينسى به العلم الذي كان قد علمه، وإن العبد ليذنب الذنب فيمنع به من قيام الليل، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به الرزق وقد كان هنيئاً له ثم تلا: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِلَى آخِرِ الْآيَات"14. إن للذنوب أثراً في تسويد القلب وظلمته. وكلّما كثرت ذنوب العبد وعظمت خطاياه زاد احتجابه عن الحق تعالى وحرم من عطاياه. ومن أعظم هذه المنن العلم والمعرفة التي هي منبع الخشية من الله جلّ وعلا، وبها يرفع الله درجات العبد، والتوفيق للعبادات المقرّبة من الله، والرزق الحسن الذي يغنيه عن السؤال والطلب.
6- رد الدعاء وتأخير الإجابة: الذنوب والمعاصي توجب أيضاً إما عدم قبول الله تعالى لدعاء الإنسان أو تأخير الإجابة، كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "إن العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب، أو إلى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً فيقول الله تبارك وتعالى للملك: لا تقض حاجته واحرمه إياها، فإنه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني"15.
7- تسلّط الأعداء والأشرار: في الحديث عن إمامنا الصادق عليه السلام: "يقول الله عز وجل: إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني"16. هذا الحديث يكشف لنا بوضوح أن الذنوب هي عاملٌ مهم في تسلط الأعداء وغلبتهم وصيرورة الحكم بأيديهم.
التوبة كفّارة الذنب
صحيح أن للمعصية آثاراً سلبيةً في حياة الإنسان، وهي سببٌ في انحطاط الإنسان وتسافله وبالتالي استقراره في دركات الشقاء والحرمان. ولكن هذا لا يعني أن العذاب
13-الجمعة، 6 - 7.
14-بحار الأنوار، ج70،ص 77.
15- الكافي، ج2، ص271.
16- م.ن، ص276.
35
25
الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي
أصبح أمراً واقعاً ولا مفرّ منه أبداً، بل لدى الإنسان فرصةٌ حقيقيةٌ لتدارك الأمر وإصلاح ما فسد، بل وللارتقاء مجدداً في مدارج الكمال والقرب من الله الرحيم لأن رحمته تعالى وسعت كلّ شي: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾17، وذلك عندما يتوب الإنسان العاصي من معصيته ويرجع إلى ربّه، فإنه سيجد عندها ربّاً توّاباً رحيماً: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾18.
وهذا الباب من نعم الله الكبرى وألطافه العظمى التي وهبها لعباده، لأنه لو يؤاخذ الله عباده بذنوبهم لهلكوا ولما نجا منهم إلا القليل ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ﴾19، ولكن رحمته تعالى سبقت غضبه لذا ﴿يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ 20 رأفةً بهم وإحساناً إليهم، لأنه لطيفٌ بعباده، عطوفٌ عليهم. والرحمة الإلهية لم تقتصر على المغفرة في حال تاب العبد ورجع إلى ربه، بل وعد الله المنيبين إليه بأن يكفّر عنهم سيئاتهم ويسترها عن الناس، ويدخلهم الجنة أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾21. ولكن للتوبة النّصوح شروطاً ينبغي مراعاتها حتى تصبح مقبولةً عند الله وبالتالي تؤتي ثمارها الطيبة وهي:
أولاً: الندم على ما اقترفه الإنسان وأقدم عليه.
ثانيا: العزم على عدم الإتيان بالذنب مجدداً.
ثالثاً: الدعاء والتوسل والبكاء، وطلب المغفرة بصدق.
رابعاً: قضاء ما فاته من الواجبات، ورد الحقوق إلى أهلها ما استطاع إليه سبيلاً وطلب المسامحة منهم، وفي حال تعذّر عليه ذلك تماماً استغفر لأصحابها. وهذا ما بيّنه أمير المؤمنين علي عليه السلام في ردّه على من قال في حضرته: "أستغفر الله" حيث أجابه عليه السلام: "ثكلتك أمك ... أتدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين وهو اسم
17- الأعراف، 156.
18- الزمر، 53.
19- فاطر، 45.
20- فاطر، 45.
21- التحريم، 8.
36
26
الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي
واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى. الثاني: العزم على ترك العودة إليه. الثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله سبحانه أملس ليس عليك تبعة. الرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها. الخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد. السادس: أن تذيق الجسد ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية"22.
وفي الختام نلفت النظر إلى ثلاثة أمورٍ في غاية الأهمية لها علاقة بالتوبة وهي من أهم آثارها، وهي:
أولاً: أن الله تعالى يحب عبده التائب والعائد إليه بعد طول انقطاعٍ عنه:﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾23.
ثانياً: أن التائب من الذنب في الحقيقة كمن لا ذنب له. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"24.
ثالثاً: أن الأعمال الصالحة تساعد الإنسان على التخلّص من آثار وتبعات الذنوب والمعاصي، وتعوّض عليه شيئاً مما فات: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾25.
22- بحار الأنوار، ج6، ص 36.
23- البقرة، 222.
24-وسائل الشيعة، ج16، ص75.
25- هود، 114.
37
27
الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي
المفاهيم الرئيسة
1- الذنوب والمعاصي تمنع من الارتباط الصحيح بالحق تعالى.
2- للذنوب آثارٌ سلبية تحول دون ارتقاء الإنسان في مدارج الكمال الإنساني ولقاء الحق.
3- منشأ الذنوب حب الدنيا واتّباع الشهوات والملذات المحدودة والزائلة.
4- التوبة هي كفّارة الذنب ولا طريق للرجوع إلى الله إلا من خلالها.
أسئلة حول الدرس
1- لماذا اعتبرت الذنوب المانع الأكبر الذي يحول بين الإنسان والارتباط بربه؟
2- ما هي أهم آثار الذنوب السلبية على النفس؟
3- ما هو منشأ الذنوب والمعاصي؟
4- ما هي أهم شروط التوبة النصوح؟
38
28
الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي
للمطالعة
أفضل أيام التوبة 26
على سالك طريق الهداية والنجاة الانتباه إلى نقطة هامة: هي أن التوفيق إلى التوبة الصحيحة الكاملة مع توفير شرائطها من الأمور الصعبة، وقليلاً ما يستطيع الإنسان أن يصل إلى هذا المقصد. بل إن اقتراف الذنوب وخاصة المعاصي الكبيرة يجعل الإنسان غافلاً عن ذكر التوبة نهائياً. وإذا ما أثمرت وقويت شجرة المعاصي في مزرعة قلب الإنسان واستحكمت جذورها، ستكون لها نتائج وخيمة؛ منها حثّ الإنسان على الانصراف كلياً عن التفكير في التوبة، وإذا تذكّر أحياناً تكاسل في إجرائها وأجّلها وقال: اليوم أو غداً، وهذا الشهر أو الشهر المقبل، ويخاطب نفسه قائلاً :إنني أتوب آخر العمر وأيام الشيخوخة توبةً صحيحة، وإنه يغفل عن أن هذا مكرٌ مع الله ﴿وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾27. فلا يتوقّع الإنسان أنه بعد أن تقوى جذور الذنوب في نفسه يستطيع أن يتوب أو يقوم بتوفير شروط التوبة.
إن أفضل أيام التوبة وربيعها هو فترة أيام الشباب، لأن الذنوب أقلّ وشوائب القلب وظلمات الباطل أخفّ، وشروط التوبة أسهل وأيسر. وقد يكثر في سن الشيخوخة حرص الإنسان وطمعه وحبه للمال ويزداد طول أمله، وقد أثبتت التجربة ذلك. وإذا افترضنا أن الإنسان يستطيع القيام بهذا العمل (التوبة) في سن الشيخوخة، فما هو الضمان للوصول إلى سن الشيخوخة وعدم إدراكه الأجل المحتوم أيام الشباب على حين غرّة، وهو مشغولٌ بارتكاب الذنوب؟
إن انخفاض عدد المسنين دليلٌ على أن الموت أقرب إلى الشباب منه إلى الشيخ. فيا أيها العزيز كن على حذرٍ من مكائد الشيطان ولا تمكر على الله ولا تحتل الأهواء عليه بأن تقول أعيش خمسين عاماً أو أكثر مع الأهواء، ثم أستغفر ربي لدى الموت وأستدرك الماضي، لأن هذه أفكارٌ واهية. هل تظن أن التوبة مجرد كلامٍ يقال؟ إن القيام بالتوبة لعملٌ شاق. إن الرجوع إلى الله والعزم على عدم العودة إلى الذنب يحتاج إلى رياضةٍ علمية وعملية، إذ نادراً ما يحدث
26- الأربعون حديثا، ص306.
27- آل عمران، 54.
39
29
الدرس الثالث: الذنوب والمعاصي
للإنسان أن يفكر وحده بالتوبة أو يتوفق إليها أو يتوفق إلى توفير شرائط صحة التوبة وقبولها أو إلى توفير شرائط كمالها. إذ من الممكن أن يدركه الموت قبل التفكير في التوبة أو إنجازها وينقله من هذه النشأة مع المعاصي التي ينوء بها الإنسان ومع ظلمات الذنوب اللامتناهية. وفي ذلك الوقت يعلم الله وحده المصائب والمحن التي سوف يواجهها!.
الإمام الخميني قدس سره
40
30
الدرس الرابع: تهذيب النفس
الدرس الرابع:
تهذيب النفس
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
1- يشرح المراد والمقصد الواقعي لتهذيب النفس.
2- يشرح طبيعة العلاقة التي تربط الأخلاق بالعمل.
3- يبيّن أن تهذيب النفس وتطهيرها من الرذائل شرطٌ أساسي للسعادة في الدنيا والآخرة.
42
31
الدرس الرابع: تهذيب النفس
معنى تهذيب النفس
التهذيب في اللغة بمعنى التنقية والتطهير، وهذّب الشيء بمعنى نقّاه وأخلصه، وهذّب النخلة أي نقّى عنها الليف، والرجل المهذّب هو مطهّر النفس والباطن من الأخلاق الرذيلة والصفات الذّميمة. فالإنسان ذو جنبتين: جنبة روحية معنوية وجنبة جسمانية مادية، فبالجزء الجسماني يعيش في عالم الدنيا لفترةٍ محدودة، وبالجزء الروحاني ينتقل إلى عالم الآخرة ويقيم فيه أبداً: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾1.
العمل ومصير الإنسان
من الحقائق الأساسية التي تؤثّر تأثيراً جذرياً في حياة الإنسان حقيقة الموت والحياة الخالدة بعد الموت. فالإنسان ميتٌ لا محالة ومفارقٌ لهذا العالم المادي وتاركٌ له، أما روحه فتعرج إلى عالمٍ آخر وتبقى فيه. وفكرة الموت والخلود بعده تجعل الحياة الدنيا أمراً تابعاً ومحطةً عابرة. والعاقل وحده الذي يتوجّه الى تلك الحياة ويبني على أساسها كل شيء. والحياة في الآخرة على نحوين: إما جنةٌ ونعيم، أو جهنمٌ وعذاب. فالمؤمن بالله وشريعته وأنبيائه ورسله مآله إلى الجنة، والكافر بالله وبرسله وأنعمه مآله إلى النار. فالإيمان والكفر بالله هما ما يحدّدان وجهة سير الإنسان ومصيره في الآخرة.
وهناك عاملٌ آخرُ أساسي هو الذي سيخبرنا إذا ما كان الإنسان من أهل الإيمان الحقيقي أم لا، وهو العمل. فالعمل هو الذي يكشف لنا حقيقة الأمور ويبيّن لنا تمام الصورة. ومن هنا نفهم لماذا قرنت آيات القرآن الكريم الإيمان بالعمل الصالح، لأنه بالعمل الصالح يرسخ الإيمان ويتجذّر في النفس لينمو ويقوى، ومعه يصبح الإنسان مؤهلاً لدخول الجنة. فعن الإمام
1- السجدة، 7 - 9.
44
32
الدرس الرابع: تهذيب النفس
الصادق عليه السلام قال: "الإيمان لا يكون إلا بعمل والعمل منه ولا يثبت الإيمان إلا بعمل"2. إذاً فعيش الإنسان في الحياة الآخرة يحدّد وفق عمله في الحياة الدنيا، فبعمله الصالح يبني جنّته وبعمله السيئ يبني جهنمه. والإنسان سوف ينتقل إلى دار الآخرة حاملاً معه أخلاقه، وأعماله، ومعتقداته والتي على أساسها سوف يحشر ويحاسب. فادّعاء الإيمان وحده لا يكفي ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾3، بل لا بد أن يُتبع الإيمان بالعمل الصالح لكي يؤتي ثماره الطيبة في الدنيا والآخرة.
إذاً هناك رابطةٌ حقيقية وقوية بين العمل والجزاء الأخروي، فالإنسان بفعله يحصل على ما يستحقّه من الجزاء الحقيقي إما الجنة والسعادة وإما جهنم والعذاب. والإنسان سوف يرى نتيجة عمله يوم القيامة: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾4، ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾5. ولشدّة أهمية العمل وتأثيره في مصير الإنسان ذُكر في الأذان لكل صلاة.
وعن الإمام علي عليه السلام قال: "العمل الصالح حرث الآخرة"6، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إن مع العزّ ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شيء حسيباً، وإن لكل أَجل كتاباً، وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يُدفن معك وهو حيّ وتُدفن معه وأَنت ميّت، فإن كان كريماً أَكرمك، وإن كان لئيماً أَسلمك. ثم لا يُحشر إلا معك ولا تُحشر إلا معه ولا تُسأَل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحاً فإنه إن صلح آنست به وإن فسد لا تستوحش إلا منه وهو فعلك"7.
الأخلاق منشأ الأعمال
والأعمال هي أول ما يظهر من الإنسان عند تفاعله مع أحداث الحياة وشؤونها، والتي يستخدم لأجل القيام بها أعضاء بدنه. إذا قمنا بدارسة منشأ هذه الأفعال والتصرفات وسبب تمايزها بين شخصٍ وآخر لوجدنا أن وراءها مجموعةً من الصفات والميول النفسية التي يعبّرون عنها بالملكات أو الأخلاق. لذا عرّفوا الخلق بأنه عبارة عن: "ملكة للنفس مقتضية
2- الكافي، ج2، ص 38.
3- يوسف، 106.
4- الزلزلة، 7 ـ 8.
5- النجم، 39 ـ 40.
6- الكافي، ج5، ص 57.
7- بحار الأنوار، ج7، ص 229.
45
33
الدرس الرابع: تهذيب النفس
لصدور الأفعال بسهولة من دون احتياج إلى فكر وروية"8. فصدور أي فعلٍ عن الإنسان سببه مجموعةٌ كبيرة من الصفات النفسية والخُلقية. ويعرّف الإمام الخميني قدس سره الخُلق فيقول: "إعلم أن الخُلق عبارة عن حالة نفسية تدفع الإنسان نحو العمل من دون تروٍّ وتفكّر. فمثلاً، إن الذي يتمتع بالسخاء يدفعه خُلُقه هذا إلى الجود والإنفاق من دون حاجة إلى تنظيم مقدمات وترتيب مرجحات. وكأن هذا الخُلُق غدا من الأمور الطبيعية للإنسان مثل النظر والسمع. وهكذا النفس العفيفة التي اصبحت العفة خُلقاً لها وجزءاً طبيعياً لها"9. وعليه نصل إلى هذه القاعدة: إنّ الأخلاق والصفات النفسية هي منشأ الأعمال والأفعال الإنسانية في الخارج. من هنا نستطيع أنّ نقول إن أخلاق الإنسان إذا كانت فاضلةً فسوف تنعكس على أعماله لتصنع منها أعمالاً صالحة وبالتالي يضمن لنفسه الآخرة السعيدة، وإذا كانت رذيلةً فسوف تكون سبباً في فساد أعماله وبالتالي سبباً للعذاب والشقاء في الآخرة.
وقصة إبليس اللعين خير شاهد، فهو بحسب ما يروى أنّه عبدَ الله تعالى سبعة آلاف سنةٍ لا يُعلم أنها من سنيّ الأرض أم من سنيّ السماء، ولكن عندما أمره الله تعالى بالسجود لآدم عصى وخالف التكليف: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾10. ولما سأله الحق تعالى عن السبب في عدم سجوده: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾11. هذه الآية تحكي عن أول معصية عُصيَ الله تعالى بها وسببها: التكبر ومنازعة الله في كبريائه حيث قال لعنه الله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الاستكبار أول معصية عصي الله بها"12. إذاً، هي صفة التكبر وخلق الاستعلاء اللذان أبلساه من رحمة الله وأخرجاه من مقام المطيعين وأدخلاه في زمرة العاصين: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾13.
8- جامع السعادات، ج 1، ص 26.
9- الأربعون حديثاً، ص546.
10- الحجر، 28 ـ 31.
11- الأعراف، 12.
12- بحار الأنوار، ج11، ص 141.
13- الحجر، 34 ـ 35.
46
34
الدرس الرابع: تهذيب النفس
تهذيب النفس ضمانة العمل الصالح
الأخلاق الفاضلة والحميدة تنجي صاحبها وتوصله إلى السعادة الأبدية. والأخلاق الرذيلة تهلك صاحبها وتؤدّي به الى الشقاء والعذاب الأليم. من هنا يتحتّم على كل عاقلٍ أن يجتهد في اكتساب فضائل الأخلاق ويجتنب رذائلها. ومن هنا أيضاً كان التأكيد على مسألة تهذيب النفس وتطهيرها، والتي تعني تخلية النفس من الصفات الرذيلة وتحليتها بالصفات والأخلاق الحميدة والفاضلة، لأنها ضمانة العمل الصالح الذي هو بدوره ضمانة الحياة الأخروية السعيدة.
إذاً، فسالك طريق الآخرة بحاجةٍ إلى معرفة أخلاقه وتهذيبها، لكي لا يوصله عمله المتولّد منها إلى سوء العاقبة. لأن الرذائل الأخلاقية كالحسد والغضب والعجب وغيرها ليست كالشبهات الفكرية التي تزول بمجرد المعرفة، بل هي صفاتٌ نفسانية ترسخ في النفس إلى درجةٍ تحتاج إلى جهدٍ متكرر وعملٍ شاق لكي تخرج منها، وهذا ما يعبّر عنه بالمجاهدة والرياضة.
والأمر شبيهٌ بمن يريد أن يحصل على الليونة الجسمانية أو المهارات البدنية، فإن عليه أن يمارس الرياضة والتمرين لمدّة زمنيّة غير قصيرة، وعليه أن يتخلّص من الأمور التي تعيقه مثل السمنة والبدانة، ومن ثم يكرّر القيام بالحركات المطلوبة حتى يصبح أداؤها أمراً سهلاً عليه. وهكذا الأمر في ترويض النفس وتهذيبها، فالأخلاق التي كانت راسخةً في النفس يتطلّب التخلص منها الرياضة والمجاهدة النفسية وبعدها عليه أن يروّض نفسه على الأخلاق الفاضلة. وما يزيد الأمور تعقيداً أن الرذائل الأخلاقية أمراضٌ قد يصعب اكتشافها أحياناً، لأجل ذلك نحن بحاجة إلى معرفةٍ دقيقة بهذه الرذائل، وآثارها، وعلاماتها، ومراتبها. مثلما هو الحال في ضرورة الرجوع إلى الطبيب عند المرض، فإذا كانت نتيجة إهمال معالجة الأمراض الجسمانية قد تؤدي بالإنسان إلى الموت، فإن عاقبة إهمال معالجة الأمراض القلبية هي الخيبة والخسران في الآخرة.
تهذيب النفس شرط للارتباط بالله
بعد اكتشاف الأمراض القلبية نحتاج إلى الإحساس بخطرها وقبحها وآثارها السلبية في النفس لكي ننهض بعزمٍ لإزالتها، لأن القيام لتهذيب النفس أمرٌ شاقٌّ، وغالباً ما يتطلب وقتاً
47
35
الدرس الرابع: تهذيب النفس
مع ما ينجم عنه من آلامٍ ومراراتٍ لا حد لها. وقد أشارت الروايات الشريفة إلى الحالة التي تصيب النفس عندما تتّصف بالرذائل على أنها حالة عداء، وأن النفس تصبح أعدى أعداء الإنسان كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك"14، ما يعني أن الإنسان سيواجه حالةً في غاية الصعوبة وشديدة الوطأة عليه. وغالباً ما نسمع من المجاهدين الذين قاتلوا أشد القوى الكافرة تسلّحاً بأنهم يرون هذا القتال ضد أعداء الله أسهل بكثيرٍ من مجاهدة النفس!!
وقد حثّت الآيات والروايات الإنسان كثيراً على جهاد النفس وتزكيتها وتطهيرها من الأخلاق الرذيلة، منها صراحةً قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾15. فالحق تعالى يقسم بالنفس الإنسانية التي ألهمها وألقى في روعها وعرّفها بحسب فطرتها طريق الفجور والتقوى وطريق الخير والشر، وبالقدرة والعلم والحكمة التي خلقت هذه النفس وسوّتها وعدلت بين قواها، أن الفلاح والظفر بالسعادة الأبدية عماده وشرطه الأساسي زكاة النفس وطهارتها من الأخلاق الرذيلة، وأن الخيبة والخسران هما من نصيب كل من يستخف بهذا الشرط ويدسّ نفسه تحت تراب الأهواء والشهوات. إنها دعوةٌ من الحقّ لكلّ صاحب نفس والهة لكي يسلك طريق الطهارة بالمجاهدة والتزكية، حتى تصفو روحه بالكامل ويصبح مؤهلاً للفوز بنعم الحق وألطافه التي لا حد لها.
كما أن الروايات الشريفة استفاضت هي الأخرى أيضاً في التأكيد على ضرورة إخراج الأخلاق السيئة من النفس وتطهيرها بالكامل، لأن سوء الخلق يفسد العمل كما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن سوء الخلقِ ليفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل"16. ولأن التحلي بالصفات الكريمة والفاضلة كما ذكرنا هي مقدمة للأعمال الصالحة، والتي هي بدورها طريق بناء الآخرة السعيدة. من هنا صار التحلي بمكارم الأخلاق وإيصال الناس إلى المقامات المعنوية هدف بعثة الأنبياء. وسرّ هذا الأمر يعرف من خلال معرفة العلاقة التي تربط بين الصفات النفسية والأخلاق وبين الإيمان والعمل الصالح.
14- بحار الأنوار، ج67،ص 64.
15- الشمس، 7 - 10 .
16- الكافي، ج2، ص 321.
48
36
الدرس الرابع: تهذيب النفس
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عليكم بمكارم الأخلاق فإن الله عز وجل بعثني بها"17، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"18، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثر ما تلج به أمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق"19. حتى أنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل الدين مساوقاً لحسن الخلق، فقد جاءه يوماً رجلٌ يسأله ما الدين؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: "حسن الخلق"20.
وهذا الأمر طبيعي لأن جهاد النفس وتحلّيها بالأخلاق الفاضلة يعتبران مقدمة أساسية للارتباط الصحيح والعميق بالحق سبحانه وتعالى والظفر برضاه. فقد روي أن رجلاً اسمه مجاشع دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا رسول الله كيف الطريق إلى معرفة الحق؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: معرفة النفس، فقال: يا رسول الله فكيف الطريق إلى موافقة الحق؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: مخالفة النفس"21. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "طوبى لعبدٍ جاهد لله نفسه وهواه. ومن هزم جند هواه ظفر برضى الله"22.
حتى صار جهاد النفس أمراً واجباً على كل إنسان يبحث عن لقاء الله بصدقٍ وإخلاص ويتوق إلى الآخرة السعيدة. فعن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "يا هشام...وجاهد نفسك لتردّها عن هواها، فإنه واجب عليك كجهاد عدوّك، قال هشام: فقلت له: فأي الأعداء أوجبهم مجاهدة؟ قال عليه السلام: أقربهم إليك وأعداهم لك وأضرّهم بك وأعظمهم لك عدواة وأخفاهم لك شخصاً مع دنوه منك"23.
17- بحار الأنوار، ج 69، ص 375.
18- مستدرك الوسائل، ج2، ص 282.
19- الكافي، ج2، ص 100.
20- بحار الأنوار، ج 68، ص 393.
21- م.ن، ج70، ص 72.
22- م.ن، ج 70، ص 65.
23- م.ن، ج78، ص 315.
49
37
الدرس الرابع: تهذيب النفس
المفاهيم الرئيسة
1- تهذيب النفس هو تطهيرها من الأمراض والرذائل الأخلاقية.
2- إيمان الإنسان وأعماله في الدنيا هي التي ترسم مصيره في الآخرة.
3- أخلاق الإنسان وصفاته النفسية هي مصدر أفعاله في الخارج.
4- تهذيب النفس من الأخلاق الفاسدة شرط لصحة الأعمال والقرب من الله.
أسئلة حول الدرس
1- ما معنى تهذيب النفس؟ ومن ماذا على الإنسان أن يهذّب نفسه؟
2- هل صحيحٌ أن عمل الإنسان في الدنيا هو الذي يحدّد مصيره في الآخرة؟ لماذا؟
3- يقول الإمام الخميني: "الخُلق عبارة عن حالة نفسية تدفع الإنسان نحو العمل من دون تروٍّ وتفكر"، إشرح مُراد الإمام قدس سره الدقيق من هذا القول.
4- لماذا هذا التأكيد في الشريعة على مسألة تهذيب النفس وتطهيرها؟
50
38
الدرس الرابع: تهذيب النفس
للمطالعة
درب الكمال24
إعلم أيها العزيز أنه مثلما يكون لهذا الجسد صحة ومرض، وعلاج ومعالج، فإن للنفس الإنسانية أيضاً صحة ومرضاً، وسقماً وسلامة، وعلاجاً ومعالجاً. إن صحة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق الإنسانية، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانية. وإن الأمراض النفسية أشدّ فتكاً آلاف المرات من الأمراض الجسمية. وذلك لأن هذه الأمراض إنّما تصل إلى غايتها بحلول الموت. فما إن يحلّ الموت، وتفارق الروح البدن، حتى تزول جميع الأمراض الجسميّة والاختلافات المادية، ولا يبقى أثر للآلام أو الأسقام في الجسد. ولكنه إذا كان ذا أمراضٍ روحية وأسقامٍ نفسية ـ لا سمح الله ـ فإنه ما إن تفارق الروح البدن، وتتوجّه إلى ملكوتها الخاص، حتى تظهر آلامها وأسقامها...
إن الأنبياء هم بمنزلة الأطباء المشفقين، الذين جاءوا بكل لطفٍ ومحبة لمعالجة المرضى، بأنواع العلاج المناسب لحالهم، وقاموا بهدايتهم إلى طريق الرشاد. "إننا أطبّاء وتلاميذ الحق" وإن الأعمال الروحية القلبية والظاهرية والبدنية هي بمثابة الدواء للمرض، كما أن التقوى، في كل مرتبةٍ من مراتبها، بمثابة الوقاية من الأمور المضرّة للأمراض. ومن دون الحميّة لا يمكن أن ينفع العلاج، ولا أن يتبدّل المرض إلى صحة.
قد يغلب الدواء والطبيعة على المرض في الأمراض الجسميّة حتى مع عدم الحمية جزئياً. وذلك لأن الطبيعة هي نفسها حافظةٌ للصحة ودواءٌ لها. ولكن الأمر في الأمراض النفسية صعب، وذلك لأن الطبيعة قد تغلبت على النفس منذ البداية، فتوجهت هذه نحو الفساد والانتكاس ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾25. وعليه، فإن من يتهاون في الحمية، تصرعه الأمراض، وتجد مناطق للنفوذ إليه، حتى تقضي على صحته قضاءً مبرماً. إذاً، فالإنسان الراغب في صحة النفس، والمترفّق بحاله، إذا تنبّه أن وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر
24- الأربعون حديثاً، ص240.
25- يوسف، 53.
51
39
الدرس الرابع: تهذيب النفس
في أمرين: الأول: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمةً، والآخر، هو الامتناع عن كل ما يضرّها ويؤلمها.
ومن المعلوم أن ضرر المحرّمات أكثر تأثيراً في النفس من أي شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة. كما أن الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبةً وأفضل من أي شيء، ومقدمةً على كل هدف، وممهّدةً للتطوّر إلى ما هو أحسن. إن الطريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانية يمر عبر هاتين المرحلتين، بحيث إن من يواظب عليهما يكون من الناجين السعداء، وأهمهما هي التقوى من المحرمات، وإنّ أهل السلوك يحسبون هذه المرحلة مقدمة على المرحلة الأولى، إذ يتّضح من الرجوع إلى الأخبار والروايات وخطب "نهج البلاغة" أن المعصومين عليهم السلام كانوا يعتنون كثيراً بهذه المرحلة.
الإمام الخميني قدس سره
52
40
الدرس الخامس: طريق تزكية النفس
الدرس الخامس
طريق تزكية النفس
على الطالب في نهاية الدرس أن:
1- يستدل أن الهدف الأساسي لإرسال الأنبياء والرسل هو الدعوة إلى تهذيب النفس.
2- يشرح حقيقة أمّارية النفس بالسوء.
3- يبيّن الطريق العملي الذي أمرت به الشريعة للتخلّص من أمّارية النفس بالسوء.
54
41
الدرس الخامس: طريق تزكية النفس
الهدف من إرسال الأنبياء
جاء الأنبياء ليرشدوا البشر إلى طريق بناء النفس وتزكيتها. جاءوا ليطهّروا النفوس الإنسانية من الرذائل والأخلاق السيئة والصفات الحيوانية، وليعلّموهم الفضائل ومكارم الأخلاق: "إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"1. جاءوا ليرشدوا الناس إلى طريق طيّ مدارج الكمال ونيل مقام القرب الإلهي، وليأخذوا بأيديهم إلى مقام الإنسانية الشامخ، وليقولوا لهم إنكم لستم كالحيوانات بل يمكنكم أن تكونوا أفضل من الملائكة أيضاً، وإن زخارف الدنيا الفانية والمظاهر الحيوانية من شهواتٍ وأهواء لا تنسجم مع مقامكم الملكوتي الشامخ. لقد اهتمّ الإسلام بالأخلاق اهتماماً خاصاً، حتى أن أكثر القصص القرآنية لو تأمّلنا فيها جيداً لوجدنا أن أهدافها في الحقيقة أخلاقية. كما أن الأجر والثواب الذي ذكر للأخلاق الحسنة ليس أقلّ من الثواب الموضوع لسائر الأعمال، والعقاب والوعيد الذي جاء لذوي الأخلاق السيئة ليس أقل من التهديد الوارد في حق سائر الأعمال السيّئة، حتى قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق"2. والسبب في ذلك أن الأمور الأخلاقية تشكّل أساس الإسلام، بل هي الدين بعينه كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما سأله أحدهم: "يا رسول الله ما الدين؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: حسن الخلقِ"3.
أمّارية النفس بالسوء مرض خطير
إن النفس الإنسانية وصفاتها هي منشأ الأعمال والأفعال والأقوال لدى الإنسان، وإذا صلحت هذه النفس وصلحت صفاتها وأخلاقها، صلحت بالتالي الأعمال الصادرة عنها، وكانت منشأ للحسنات والنجاة في الدنيا والآخرة، وإذا فسدت صفاتها وأخلاقها كانت منشأ للسيئات والهلاك. وسوء الخلق في الحقيقة مرضٌ يصيب النفس فتصبح أمّارة بالسوء، أما
1- مستدرك الوسائل، ج2، ص282.
2- الكافي، ج2، ص 99 .
3- بحار الأنوار، ج68، ص393 .
56
42
الدرس الخامس: طريق تزكية النفس
النفس الإنسانية في الأصل فهي مفطورةٌ على التوحيد وحب الخير ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾4، بل هي جوهرةٌ ثمينة وأمرٌ ملكوتيُّ شريف، وهي منشأ كل الفضائل والقيم الإنسانية كما عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "إن النفس لجوهرة ثمينة من صانها رفعها ومن ابتذلها وضعها"5. ولكن بسبب انغماس الإنسان في الشهوات الحيوانية والإسراف في الملذّات الدنيويّة الفانية فإن نفسه تمرض فتصبح أمّارةً بالسوء.
فالنفس مثل البدن، فكما أن بدن الإنسان يُبتلى بالعلل والأمراض، كذلك نفسه أيضاً - التي يعبّر عنها أحيانا في الآيات والروايات بالقلب أو الروح - تصاب هي الأخرى بالمرض، وما لم يبادر الإنسان إلى علاجها ومحاربة آفاتها، فإنها تصبح موجوداً شريراً وعدواً للإنسانية ومنشأً للسيئات والأعمال القبيحة، وسبباً في شقاوة الإنسان وتعاسته. يقول إمامنا الخميني قدس سره: "مثلما يكون لهذا الجسد صحة ومرض، وعلاج ومعالج، فإن للنفس الإنسانية أيضاً صحة ومرضاً، وسقماً وسلامة"6. فانصياع الإنسان لأهوائه النفسية (من الأنا وحب النفس والجاه والمنصب و..)، وشهواته الحيوانية (من المأكل والمشرب وغريزة الجنس) وانجرافه خلفها من دون أي وازعٍ أو رادعٍ سيؤدّي إلى مرض قلبه ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً﴾7. وكما نعرف فإن الحياة الحقيقية في الآخرة، وسعادة الإنسان وشقاءه، مرتبطة بشكل أساسي بأوضاع القلب وحالته، فكل الجوارح والأعضاء مسخّرة له، وكل الأعمال والحركات نابعة منه، ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾8. ولما سُئل إمامنا الصادق عليه السلام عن القلب السليم في الآية الشريفة، قال عليه السلام: "هو القلب الذي سلم من حبّ الدنيا"9.
فالمشكلة إذاً تكمن في الغرائز الحيوانية والأهواء النفسية لأنها لا تتوقف عند حدّ معيّن، وليس لها هدفٌ إلا الإشباع الكامل. فالالتذاذ بالمأكولات والمشروبات، وحب الإنسان للمال والجاه والمنصب والشهرة وزينة الحياة وشهوة الغضب لا يتوقف عند حدّ. وإذا انقاد الإنسان
4- الروم، 30.
5- غرر الحكم، ص 226.
6- الأربعون حديثاً، الحديث الثاني عشر، في بيان التقوى العامة.
7- البقرة، 10.
8- الشعراء، 88 ـ 89.
9- مستدرك الوسائل، ج 12، ص 40.
57
43
الدرس الخامس: طريق تزكية النفس
لهذه الشهوات الحيوانية والأهواء النفسية صار عبداً مقهوراً لها، وأسيراً خاضعاً لإملاءاتها، إلى أن تتحكّم به وتصبح هي الآمر الناهي في مملكة وجوده فيخرج بذلك عن عبودية الحق ويدخل في طاعة النفس التي تأمره بما يخالف أمر الإله وأحكامه المقدسة، فيقع في الذنب والمعصية، ويصبح مصداقاً لقوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾10.
ويقول الإمام الخميني قدس سره مبيّناً هذه الحقيقة:
"اعلم أن الإنسان إذا أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوة والميول النفسية، كان رقُّه وعبوديته وذلته بقدر مقهوريته لتلك السلطات الحاكمة عليه. ومعنى العبودية لشخصٍ هو الخضوع التام له وإطاعته. والإنسان المطيع للشهوات، المقهور للنفس الأمارة يكون عبداً منقاداً لها. وكلما توحي هذه السلطات بشيء أطاعها الإنسان في منتهى الخضوع، ويغدو عبداً خاضعاً ومطيعاً أمام تلك القوى الحاكمة، ويبلغ الأمر إلى مستوىً يفضّل طاعتها على طاعة خالق السماوات والأرض، وعبوديتها على عبودية مالك الملوك الحقيقي"11. وإذا أصبح الإنسان عبداً لأهوائه وشهواته وصارت نفسه أمّارة بالسوء عندها لن تكون مصدراً للملكات والأخلاق الفاضلة وبالتالي الأعمال الصالحة وهو الخسران المبين كما يقول الإمام قدس سره أيضاً: "إن الملكات إنما تكون فاضلةً حين لا تتصرّف النفس الأمارة بالسوء فيها، ولا يكون لخطوات النفس دورٌ في تشكيلها"12.
من هنا فإن سيطرة الإنسان على أهوائه وضبط رغباته يعدّان أمراً ضرورياً. فنفس الإنسان كفرسٍ جموح غير مروّض، إذا لم يعمل على تهدئته بالرياضة والتمارين فلن يتمكّن من الاستفادة منه، وإذا بقي على اضطرابه وهيجانه فسيؤدي به إلى الهاوية حتماً، كما قال مولى الموحدين عليه السلام: "إغلبوا أهواءكم وحاربوها، فإنها إن تقيّدكم توردكم من الهلكة أبعد غاية"13.
إذاً، لا نجاة للإنسان إلا بجهاد النفس وتهذيبها. وترويضها ليس بالأمر السهل، فهي سوف تقاوم في البداية ولكن لو صبر الإنسان وبقي يقظاً فستستسلم للحق في النهاية. وهذا أفضل
10- الجاثية، 23.
11- الأربعون حديثاً، الحديث السادس عشر، في بيان أن أسر الشهوة مصدر كل أسر.
12- م.ن، الحديث الثاني، الرياء في العمل.
13- غرر الحكم، ج1، ص 138.
58
44
الدرس الخامس: طريق تزكية النفس
من تركها لأن النفس الأمّارة إذا تركت وشأنها دفعت الإنسان وأوقعته في المفاسد. والسؤال الملحّ الذي يطرح نفسه الآن أنه كيف يجاهد الإنسان نفسه؟ وما هو السبيل الأفضل إلى ذلك؟
جهاد النفس لا يتحقّق إلا بأمرٍ واحد, هو مخالفة هذه النفس والعمل على خلاف ما تريده وترغب به كما يبيّن الإمام قدس سره: "فإن الأسلوب الوحيد للتغلب على النفس الأمّارة، وقهر الشيطان، ولاتّباع طريق النجاة، هو العمل بخلاف رغباتهما"14. ولكن السؤال المهم هنا أنه كيف يخالف الإنسان نفسه وهواه؟ بمعنى آخر ما هو البرنامج العملي الذي ينبغي للإنسان اتّباعه لكي يخرج من أسر الهوى والنفس الأمّارة؟ الجواب: إن الطريق العملي يكمن في أمرٍ واحدٍ هو:
اتّباع الشريعة الإلهية
لأن الطبيعة البشرية إذا تُركت وشأنها واتّبعها الإنسان بلا حسيبٍ ولا رقيب أعمته عن الحق وشغلته بغيره. حتى إذا استحكمت فيه هذه الطبيعة جرّته نحو الفساد وجعلته عرضةً للأمراض المختلفة. فهذه النفس كما قيل إن لم تشغلها شغلتك، وليس هناك أفضل من شريعة الحق ليشغل الإنسان نفسه، الشريعة بما تعنيه من تركٍ للمحرمات التي نهت عنها، والإتيان بالواجبات التي أمرت بها.
بمعنى آخر، إن طاعة الله والالتزام بأحكامه هما الطريق الأسلم الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يخالف نفسه فيكون على الدوام في حالة طاعة وعبودية لله عز وجلّ لا للنفس الأمّارة، وهو ما يعرف بالتقوى أيضاً. فالتقوى من مادة الوقاية، وتعني وقاية النفس وحفظها والسيطرة عليها، وهي "تقيّد الإنسان وتعهده بطاعة القوانين والالتزام بأحكام الشرع"15.
وعرّفت في الآيات والروايات بأنها أفضل زاد الآخرة، والسبيل الوحيد للسعادة والراحة الأبدية: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾16، ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾17. ولقد عرّف أمير المؤمنين التقوى بأنها رئيسة الأخلاق وأفضل وسيلة لنيل السعادة حيث قال عليه السلام: "التقى رئيس الأخلاق"18، وقال عليه السلام أيضاً: "فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم
14- الأربعون حديثاً, الحديث الرابع, في بيان معالجة الكبر.
15- تزكية النفس وتهذيبها, ابراهيم الأميني، ص105.
16- البقرة، 197.
17- الطور، 17.
18- غرر الحكم, ص 271.
59
45
الدرس الخامس: طريق تزكية النفس
وبصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم وصلاح فساد صدوركم وطهور دنس أنفسكم وجلاء غشاء أبصاركم"19.
فبالتقوى والطاعة المستمرة لله تعالى يخرج الإنسان من سلطان النفس والأهواء ويدخل في سلطان الحق ويصبح عبداً له. ومن خلال الاستعانة بإرشادات الشرع تفنى الأهواء والشهوات في السلطة الإلهية المطلقة، ويسيطر الإنسان على غرائزه وأهوائه النفسية ويحول دون حصول الإفراط أو التفريط فيها، وينجي نفسه من الوقوع في براثن شرورها ومفاسدها، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وإنما هي نفسي أَروضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأَكبر"20. وهي الوسيلة الوحيدة للخلاص من العذاب والطريق الوحيد لنيل الكمالات المعنوية والإنسانية الرفيعة كما يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر في أمرين: الأول: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمة. والآخر هو الامتناع عن كل ما يضرّها ويؤلمها. ومن المعلوم أن ضرر المحرمات أكثر تأثيراً في النفس من أي شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أن الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبةً وأفضل من أي شيء، ومقدمةً على كل هدف، وممهدةً للتطور إلى ما هو أحسن. إن الطريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانية يمر عبر هاتين المرحلتين، بحيث إن من يواظب عليهما يكن من الناجين السعداء، وأهمهما هي التقوى من المحرمات"21.
فالتقوى هي بمثابة الوقاية للنفس من الأمور التي يمكن أن تضرّها وتسبب الأذى لها، والمتّقي في حالة إشغالٍ دائمة للنفس فيما يرضي الله، من خلال الاتباع الدائم لأوامره ونواهيه، وبذلك يبدأ الإنسان شيئاً فشيئاً بالتخلص من سلطة النفس الأمّارة بالسوء، وإذا استمر على هذه الحال فترةً وداوم عليها بجدّ وإخلاص فمن المتوقّع أن تتعافى هذه النفس بالكامل فتصبح مطمئنةً وتدخل جنته راضيةً مرضيةً طاهرةً مطهّرةً من كل رجزٍ وسوء،﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾22.
19- نهج البلاغة, خطبة 198.
20- نهج البلاغة، خطبة45.
21- الأربعون حديثاً، الحديث الثاني عشر، في بيان التقوى العامة.
22- الفجر، 27 - 30.
60
46
الدرس الخامس: طريق تزكية النفس
المراقبة
إن سعي الانسان لاتّباع الشريعة يفرض عليه أن يراقب نفسه. والمقصود من المراقبة مراقبة العبد لربه في نفسه وفي أعماله وسكناته وقلبه، وهي من العوامل المهمة والفعّالة في عملية بناء النفس وتهذيبها. فالإنسان الراغب في تطهير نفسه ونيل السعادة الحقيقية لا يمكن أن يغفل عن عيوبه وأمراض نفسه، بل عليه أن يكتشف هذه العيوب ليتمكّن من معالجتها. ولا سبيل أمام الإنسان لمعرفة هذه العيوب إلا بالمراقبة، بحيث تكون ملكاته وأخلاقه وأعماله وحتى أفكاره تحت مجهره ونظره بالكامل. وإمامنا الخميني قدس سره يؤكد على وجوبها حين يقول: "فيجب على الإنسان في هذه الدنيا أن يراقب النفس الأمارة كثيراً، إذ ربما تقوم بعملية التعتيم للحقائق على الإنسان وتذليل الصعوبات وتسهيلها، مع أنها توجب الشقاء الدائم والخذلان الأبدي"23. والمراقبة لا تكشف العيوب فقط، بل أثناء المراقبة إذا لاحت له معصيةٌ تذكّر الله وحساب يوم القيامة فوراً فيتركها. وهكذا يكون المراقب لنفسه في حالة سيطرةٍ دائمةٍ على نفسه يملكها ويمنعها من السيئات. وهذا البرنامج من أفضل وسائل تهذيب النفس.
بالإضافة إلى أن المراقب لنفسه يكون طوال اليوم مستذكراً للواجبات والأعمال الصالحة وفعل الخيرات فلا يضيع وقته فيما لا فائدة منه لآخرته فتصبح حياته كلها عامرةً بطاعة الله وذكره. وبذلك تكون المراقبة عاملاً مساعداً في عملية تهذيب النفس ومجاهدتها.
23- الأربعون حديثاً, الحديث التاسع والعشرون, بيان مفاسد الخيانة وحقيقة الأمانة.
61
47
الدرس الخامس: طريق تزكية النفس
المفاهيم الرئيسة
الهدف من بعث الأنبياء والرسّل إخراج الناس من ظلمة أهواء النفس والرذائل الأخلاقية إلى نور التوحيد والفضائل الأخلاقية.
1- النفس عندما تنغمس في الأهواء النفسية والشهوات الدنيوية تصاب بالمرض وتصبح أمّارة بالسوء.
2- العلاج الوحيد لحالة أمّارية النفس بالسوء يكمن في مخالفتها وعدم اتّباع ما تأمر به.
3- أفضل وسيلة يخالف بها الإنسان نفسه هي اتباع أوامر الشريعة ومراقبة النفس كي لا تقع مجدداً في فخ الأهواء والشهوات الرخيصة.
أسئلة حول الدرس
1- ما الفائدة الأساسية التي تستنتجها من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"؟
2- متى وكيف تصبح النفس الإنسانية أمارة بالسوء؟
3- ما هو السبيل الشرعي لمعالجة مشكلة النفس التي تأمر بالسوء؟
4- ما معنى المراقبة؟ وأين تكمن أهميتها في عملية تهذيب النفس؟
62
48
الدرس الخامس: طريق تزكية النفس
للمطالعة
برنامج الإمام الخميني للتحلي بالأخلاق الفاضلة24
أفضل علاجٍ لدفع هذه المفاسد الأخلاقية، هو ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كلّ واحدة من الملكات القبيحة التي تراها في نفسك، وتنهض بعزمٍ على مخالفة النفس إلى أمد، وتعمل عكس ما ترجوه وتطلبه منك تلك الملكة الرذيلة.
وعلى أيّ حال, اطلب التوفيق من الله تعالى لإعانتك في هذا الجهاد. ولا شك في أن هذا الخُلُق القبيح، سيزول بعد فترةٍ وجيزة، ويفرّ الشيطان وجنوده من هذا الخندق، وتحلّ محلهم الجنود الرحمانية.
فمثلاً من الأخلاق الذميمة التي تسبب هلاك الإنسان، وتوجب ضغطة القبر، وتعذّب الإنسان في كلا الدارين، سوء الخلق مع أهل الدار والجيران أو الزملاء في العمل أو أهل السوق والمحلّة، وهو وليد الغضب والشهوة. فإذا كان الإنسان المجاهد يفكّر في السموّ والترفع، عليه ـ عندما يعترضه أمرٌ غير مرغوب فيه حيث تتوهج فيه نار الغضب لتحرق الباطن، وتدعوه إلى الفحش والسيئ من القول ـ أن يعمل بخلاف النفس، وأن يتذكر سوء عاقبة هذا الخلق القبيح، ويبدي بالمقابل مرونةً، ويلعن الشيطان في الباطن ويستعيذ بالله منه.
إني أتعهّد لك بأنك لو قمت بذلك السلوك، وكرّرته عدّة مرّات، فإن الخلق السيئ سيتغيّر كلياً، وسيحلّ الخلق الحسن في عالمك الباطن. ولكنك إذا عملت وفق هوى النفس، فمن الممكن أن يبيدك في هذا العالم نفسه، وأعوذ بالله تعالى من الغضب الذي يهلك الإنسان في آنٍ واحد في كلا الدارين فقد يؤدّي ذلك الغضب ـ لا سمح الله ـ إلى قتل النفس. ومن الممكن أن يتجرّأ الإنسان في حالة الغضب على النواميس الإِلهية. كما رأينا أن بعض الناس قد أصبحوا من جراء الغضب مرتدّين. وقد قال الحكماء "إن السفينة التي تتعرّض لأمواج البحر العاتية وهي بدون قبطان، لهي أقرب إلى النجاة من الإنسان وهو في حالة الغضب" .وعلى كل حال, ينبغي للإنسان أن يأخذ بعين الإعتبار حدّ كل واحدٍ من الأخلاق القبيحة الفاسدة، ويخرجها من مملكة روحه بمخالفة النفس. وعندما يخرج الغاصب يأتي صاحب الدار نفسه.
الإمام الخميني قدس سره
63
49
الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس
الدرس السادس:
طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس
على الطالب مه نهاية الدرس أن:
1- يشرح أهمية طلب العلم والغاية الحقيقية منه.
2- يعدّد أهم آداب وسنن طلب العلم.
3- يستدل على أن طلب العلم تكليف وواجب شرعي.
64
50
الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس
تمهيد
تهذيب النفس شرطٌ أساسي لبلوغ المقامات الإنسانية الشامخة، والكمالات المعنوية الرفيعة، والسعادة الأبدية الخالصة. وهو بالدرجة الأولى تخلية النفس من الصفات والأخلاق السلبية والرذيلة والتحلي بالأخلاق الحسنة والفاضلة. والتقوى والطاعة لله سبحانه وتعالى هما الطريق الأسلم والمنهج الأقوم لمخالفة هذه النفس وترويضها حتى تصبح طيّعةً لأمر الحق فلا تعمل بخلاف إرادته ومشيئته، فتدخل بذلك في عباد الله الصالحين وتصبح مؤهّلة للتحلي بالأخلاق الحميدة والصفات الإلهية. ولكن تحقق هذا الشرط متوقفٌ على أمرٍ أساسيٍ ومهمٍ جداً، من دونه يصبح الوصول إلى هذا المقصد الشريف أمراً متعذراً إن لم يكن مستحيلاً، وهو المعرفة الصحيحة. فالمعرفة الصحيحة هي مقدمة لكل إصلاحٍ نفسي، وعبادة شرعية، وعمل صالح. وأما اكتساب المعرفة فطريقه الوحيد هو طلب العلم.
طلب العلم تكليف إلهي
الإسلام هو الطريق للوصول إلى السعادة الحقيقية. وهو يمثّل مجموعة كبيرة من التعاليم والأحكام الشرعية، والعقائدية، والأخلاقية وغيرها.. ولن يصل الإنسان إلى مبتغاه من السعادة والكمال إلا في ظلّ الطاعة لله والالتزام التام بقوانين الحق وأحكامه. والالتزام بالأحكام الإلهية بحاجة إلى معرفةٍ وعلمٍ بهذه الأحكام لكي يتمكّن الفرد المسلم من تطبيقها والعمل بها فيغدو مسلماً بحق. لذا كان طلب العلم واجباً على كل مسلم كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"1، لأنه الباب الذي من خلاله يعرف المسلم دينه، والمعرفة الصحيحة بالدين مقدمة للإيمان الصادق والحقيقي، والعمل الصحيح والمقبول.
1- بحار الأنوار، ج1، ص 172.
66
51
الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس
وعن أَمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "أَيها الناس اعلموا أَن كمال الدين طلب العلم والعمل به، أَلا وإن طلب العلم أَوجب عليكم من طلب المال، إن المال مقسومٌ مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أَهله وقد أُمرتم بطلبه من أَهله فاطلبوه"2.
ولأن الطاعة التي هي الطريق الوحيد للنجاة من العذاب غير ممكنة من دون المعرفة بمن تجب علينا طاعته، وبما يريده منا، كان طلب العلم واجباً كما ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام: "نُصِبَ الحق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم"3.
العلم غاية وجود الإنسان
لقد بلغ فضل العلم وأهميته إلى الحد الذي جُعل الهدف من خلق الإنسان والغاية من وجوده في هذا العالم، فعن الإمام الصّادق عليه السلام قال: "خرج الحسين بن عليّ عليهما السلام على أصحابه وقال: أيّها النّاس إن اللّه جلّ ذكره ما خلق العباد إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه"4.
من هنا نفهم معنى قوله تعالى حيث قال في معرض تعليله للهدف من خلق الإنسان: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾5، حيث فسّر بعض المفسرين6 قوله تعالى: ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ أي ليعرفون، لأنه لا عبادة من دون معرفة، فالمعرفة بالمعبود سابقة على العبادة له، فلا يمكن أن تصحّ عبادةٌ من دون معرفة.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى العلم أول منّة امتنّ بها على آدم بعد خلقه لما للعلم من فضلٍ وأهمية حيث قال في أول سورة أنزلها على نبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾7، فاختصّ الله تعالى الإنسان بوصف الأكرمية لأنه علّمه العلم وفتح له بابه، حتى جعل أمير
2- الكافي، ج1، ص 30.
3- م.ن، ص17.
4- بحار الأنوار، ج5، ص 312.
5- الذاريات، 56.
6- تفسير المعين، ج3، ص1413.
7- العلق، 1 - 5.
67
52
الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس
المؤمنين علي عليه السلام قيمة المرء مقدار ما يعلمه حيث قال: "قيمة كل امرئ ما يعلم"8.
وقد حذّر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من مغبّة الاستخفاف بالعلم أو إهماله لأن من دونه يكون الهلاك: "اغدُ عالما أَو متعَلما أَو مستمعا أَو محباً لهم ولا تكن الخامس فتهلك"9.
أهمية طلب العلم
1- طلب العلم وسيلة لتطبيق الأحكام والفرائض:
الإسلام هو الدين الوحيد الذي يمتلك الأحكام الشاملة لكل شأنٍ أو حادثةٍ في الحياة، ولهذا فهو البرنامج الأوحد لمخالفة النفس لأنه البرنامج الصادر عن خالق الخلائق أجمعين الذي يعلم حاجاتنا وشؤوننا كلّها. وهذا البرنامج ليس سوى الشريعة التي هي عبارة عن الأحكام الصادرة عن المولى القدير في كل شأنٍ من شؤون حياتنا. والطاعة لله عزّ وجلّ لن تتحقّق إلا باتّباع هذه الشريعة والعمل بأركانها. واتّباعها يحتاج إلى المعرفة المسبقة بأحكامها وقوانينها لكي يُصار إلى تطبيقها والالتزام بها. فالصلاة، الصوم، والحج، والخمس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطهارات والنجاسات وغيرها من الفرائض، كلها أحكامٌ فرضها الله تعالى علينا وحثّنا على الإتيان بها وعدم التخلف، لأنها أصل كل سعادة ومنبع كل خير. من هنا كانت الحاجة إلى طلب العلم وتعلّم الأحكام والمسائل الشرعية، لأنها الباب الذي من خلاله نلتزم بما فرضه الله علينا، فنحظى بفرصة الدنوّ منه والتقرّب إليه كما قال تعالى في الحديث القدسي: "ما تقرب إليّ عبدٌ بشيءٍ أَحب إلي مما افترضت عليه"10. أما الجهل بأحكام الله وحقوقه علينا فإن صاحبه لا يُعذر بل سيكون الباري تعالى خصيمه يوم القيامة، فقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾11، فقال: "إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلًا، قال: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه، وتلك الحجّة البالغة"12.
8- غرر الحكم، ص42.
9- بحار الأنوار، ج1،ص195.
10- الكافي، ج2، ص 352.
11- الأنعام، 149.
12- بحار الأنوار، ج1، ص178.
68
53
الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس
2- طلب العلم وسيلة لمعرفة الأمراض الأخلاقية:
من يريد أن يهذّب نفسه عليه أولاً أن يشخّص عيوبها بدقّة، من خلال التعرّف إلى هذه العيوب عن طريق معرفة الصفات الذميمة والأفعال القبيحة، ليتمكن لاحقاً من معالجتها. فالمعرفة المسبقة بالأخلاق الفاضلة والصفات الرذيلة، أنواعها، مناشئها، آثارها، طرق معالجتها، تساعد الإنسان على تشخيص عيوب نفسه واكتشاف أمراضه الأخلاقية. وباكتشافه للمشكلة يكون قد قطع نصف الطريق ويبقى عليه النصف الآخر وهو العمل على تطهير هذه النفس من هذه الآفات. فالمبتلى بمرض الحسد أو البخل أو الغيبة مثلاً، كيف له أن يعرف أنه كذلك إن لم يكن على اطّلاعٍ ومعرفةٍ بهذه الأمراض وبمدى خطورتها وتأثيرها الهدّام على إيمانه وارتباطه بالله تعالى!؟ إذاً، تهذيب النفس غير ممكنٍ من دون المعرفة بعلل وأمراض هذه النفس. من هنا وجب على كل سالكٍ لطريق الحق والمجاهدة أن يسلك طريق العلم أيضاً لأنه السبيل الوحيد لمعرفة الشوائب والعوائق التي تحول بين الإنسان وربه. كالطبيب الذي يريد أن يعالج داءً ما، حيث من المتعذّر عليه أن يعطي الدواء المناسب إذا لم يكن على علمٍ ودرايةٍ بالمرض ونوعه ليحدّد بعد ذلك كيفية معالجته. من هنا يتعيّن على كل من يريد تهذيب نفسه وتشخيص عيوبها أن يتعرّف إلى ما ورد عن الشارع المقدّس في تحديد العيوب النفسية وإلا فقد يجاهد نفسه ويتعبها فترةً وهو يضاعف عيوبها من حيث لا يعلم. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "كفى بالمرء جهلاً أن يجهل نفسه"13، لأن الجهل بالنفس منشأ كل الشرور والمفاسد.
3- طلب العلم باب الاعتقاد الصحيح:
النفس الإنسانية كما أنها بحاجة إلى التنقية والتهذيب من الرذائل والأخلاق السيئة، هي بحاجة أيضاً إلى التنقية والتطهير من العقائد الباطلة والأفكار الخاطئة والمنحرفة التي يمكن أن تحرف الإنسان عن جادة الحق والصواب. والعقيدة هي البناء الفكري الذي يتضمن مجموعةً كبيرة من المسائل التي تعتبر أهم ما في حياة الإنسان ولا يوجد أهم منها على الإطلاق، لأنها ترتبط بمصيره النهائي في الدنيا والآخرة، والتي على أساسها سيحدّد أنه من
13- غرر الحكم، ص233.
69
54
الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس
أهل السعادة أم الشقاوة. فعلى سبيل المثال تتناول العقيدة مسألة وجود الحياة بعد الموت.
وهذه القضية على درجةٍ عالية من الخطورة والأهمية، فإذا لم يلتفت الإنسان أو يعتقد بوجود الحياة بعد الموت. والحساب الأخروي سيتصرّف بطريقةٍ يهمل فيها العقاب ويرتكب الجرائم والمعاصي التي تؤدّي إلى شقائه الأبدي ودخوله نار جهنم.
فالعقائد الباطلة والأفكار الضالة أمورٌ تسبب ظلمة النفس وتحرف المرء عن صراط التكامل المستقيم والقرب من الله. وأصحاب العقائد الباطلة لا يمكن أن يعرفوا طريق التكامل أو أن يهتدوا إليه، بل هم تائهون في أودية الضلالة والضياع، وغير قادرين على الوصول إلى الأهداف الإلهية السامية. وعندما يحصل خللٌ في فهم العقيدة الصحيحة فإن ذلك سوف يؤدي إلى الوقوع في الذنوب والمعاصي ثم إلى نشوء مشاكلَ أخلاقية كثيرة. فالعقيدة الصحيحة تقول إن الله تعالى لا يظلم أبداً ولكن الناس يظلمون أنفسهم، وإن الله قد يسّر لكل إنسانٍ سبيل الهداية والصلاح. والإنسان عندما لا يعتقد بهذا الأمر سوف يسيء الظنّ بخالقه وربما يعتقد والعياذ بالله أنه يظلمه، وهكذا بدل أن يلتفت الإنسان إلى تقصيره ويعمل على إصلاح ذاته نراه يقع في مشاكل كثيرة.
والعقيدة الصحيحة تقول إن النفس باقيةٌ وإن الآخرة هي دار المقرّ التي تحيا فيها النفس حياةً خالدة. والإنسان الذي لا يؤمن بهذه الحقيقة سوف ينطلق في الحياة على أساس أن الدنيا هي كل شيء وربما يقول كما قال بعض الناس ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾14، عندها يرى أن عليه أن يتزوّد بكل ما يستطيع من قوة من ملذّاتها ويندفع لإشباع رغباته الدنيوية مهما كلّف الأمر.
العقيدة الصحيحة تقول إن الأرض لا تخلو من إمامٍ معصوم يمثل القدوة الحقيقية لكل البشر، يقودهم نحو الصلاح والسعادة اللامتناهية، والإنسان الذي يخالف هذا الرأي لن يبالي بوجود الإمام المعصوم، وربما يتبع غيره من الرؤساء والزعماء فيفقد بذلك القدوة الصالحة والحقيقية ويكون مثله كمن ركب في السفينة فسارت به وهو لا يدري إلى أي شاطىءٍ تحمله. لذا أول خطوةٍ في طريق تحقيق السعادة تكمن في التعرف إلى العقيدة الصحيحة، وهذا يتطلب السير في طريق طلب العلم.
14- الجاثية، 24.
70
55
الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس
آداب طلب العلم
إن لطلب العلم شروطاً وأحكاماً، من دون تطبيقها ورعايتها لن تحصل الثمرة الطيّبة المرجوّة، أو ربما نحصل على ثمرةٍ فاسدة تكون وبالاً علينا في الآخرة. فليس كل من سلك طريق العلم نجا من الهلاك، بل يذكر القرآن الكريم لنا قصصاً عن بعض العلماء الذين لم ينفعهم علمهم بل كان سبباً في هلاكهم أيضا: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾15.
لذا على طالب العلم والمعرفة أن يلتفت إلى مجموعةٍ من الشروط والآداب، ويعمل على مراعاتها بدقّة لكي لا تزلّ قدمه من حيث لا يشعر ولا يحتسب. ومن أهم هذه الآداب والشروط:
1- الإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:
لأن الشيطان يدخل إلى مجالس العلم موسوساً لأصحابها، كلاًّ بحسب حاله، فيقول لبعضهم؛ من هو هذا الشخص حتى يعطيكم درساً؟! ويقول لبعضهم: ليس العلم مهماً بل يكفي النية السليمة، ويقطع الطريق على الآخرين بقوله: لن تفهموا هذه الدروس فهي تحتاج إلى ذهنية خاصة ومقدمات كثيرة.. وعشرات المكائد الأخرى التي ابتكرها هذا اللعين لإضلال الناس عن جادة الحق والصراط المستقيم. ونحن لن نتمكّن من التخلّص من هذه الوساوس إلا بالاستعاذة بالله واللجوء إليه تعالى، وهذا القرآن رغم أنه كتاب الهداية والنور فإن الله تعالى يأمر من يقرأه أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾16.
15- الاعراف، 175 - 176.
16- النحل، 98.
71
56
الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس
2- الطهارة من الذنوب:
قد يسلك طالب العلم الطريق الصحيح لطلب العلم ولكن بسبب التهاون في أحكام الله وارتكابه للذنوب يقع في الضلالة بدلاً من الهداية. ومن الآثار البغيضة للذنب في طلب العلم النسيان الذي يعدّ آفة أساسية للعلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا أحسب أحدكم ينسى شيئاً من أمور دينه إلا بخطيئة أخطأها"17.
3- سلامة النية:
لأن مدار الأعمال على النيات فهي التي تعطي العمل قيمته الواقعية، فالذي يطلب العلم للتفاخر والاستعلاء أو الظهور والجدل فإنه يجعل بينه وبين الحق حجاباً غليظاً، لأن غاية العلم أن يصبح الإنسان عبداً حقيقياً لله. والله تعالى إنما أمرنا بطلب العلم لنتقرّب إليه ونعبده حق عبادته. والوصول إليه لا يحصل إلا بالعبودية له وترك الهوى. لذا على طالب العلم أن لا يكون قصده من طلب العلم إلا وجه الله، وامتثال أمره، وإصلاح نفسه، وإرشاد عباد الله إلى معالم دينه، فلا يقصد بذلك المآرب الدنيوية، والأغراض الفاسدة التي توجب الخذلان والمقت عند الله تعالى. عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوّأ مقعده من النار إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها"18.
4- الصبر والتحمّل:
غالباً ما يتطلب العلم منا أن نتنازل عن الكثير من المسائل المتعلقة بنا، أو أن نتحمل المشقّات والتعب. لذا لن ينال الإنسان شرف العلم إلا بالصبر والتحمّل. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"19. بل على طالب العلم أن يبذل جهده في الاشتغال بالقراءة والمطالعة وأن يكون طلب العلم مطلوبه ورأس ماله الدائم.
5- حسن اختيار المدرّس:
للمدرس دورٌ أساس في تربية المتعلّم وهدايته، فإذا لم يكن المعلم تقياً عادلاً ملتزماً
17- مستدرك الوسائل، ج11،ص 326.
18- الكافي، ج1، ص47.
19- بحار الأنوار، ج1،ص177.
72
57
الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس
بأحكام الله وشريعته من الممكن أن يحرف التلميذ عن الحق. فعن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ قال عليه السلام: "عِلمهُ الذي يأخذهُ عَمَّنْ يأخذهُ"20.
6- التواضع للمدرّس والتأدب في محضره:
على طالب العلم أن ينظر إلى أستاذه بعين الاحترام والإجلال، وأن يتغاضى عن عيوبه ونواقصه، فإن ذلك يجعله أكثر قدرةً على الانتفاع به وترسيخ ما يسمعه منه في ذهنه. وعليه أن يتواضع لأستاذه، ويعظّم من شأنه، ويراعي الأدب في مجلسه فإنه لن ينال العلم إلا بالتواضع. والتواضع في مثل هذه الحالة ليس ذلاً بل رفعة وشرف. قال الإمام الصادق عليه السلام: "اطلبوا العلم وتزيّنوا معه بالحلم والوقار وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم"21.
20- أصول الكافي، ج1،ص49.
21- م.ن، ص 36 .
73
58
الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس
المفاهيم الرئيسة
1- طلب العلم مقدمةٌ أساسية لتهذيب النفس، وهو تكليف شرعي على كل مسلم.
2- طلب العلم وسيلة لتطبيق الأحكام والفرائض.
3- طلب العلم وسيلة لمعرفة الأمراض الأخلاقية.
4- طلب العلم وسيلة لتحصيل الاعتقاد الصحيح.
5- لطلب العلم آدابٌ يجب مراعاتها للوصول إلى الأهداف المرجوّة.
أسئلة حول الدرس
1- ما هي العلاقة بين طلب العلم وتهذيب النفس؟
2- كيف تستدلّ على أن العلم والمعرفة غاية وجود الإنسان في عالم الدنيا؟
3- كيف يكون طلب العلم وسيلة لتطبيق الأحكام والفرائض الإلهية؟
4- كيف يكون طلب العلم وسيلة لمعرفة الأمراض الأخلاقية والباطنية؟
5- كيف يكون طلب العلم وسيلة لامتلاك المعتقد الصحيح بالله تعالى؟
74
59
الدرس السادس: طلب العلم ضرورة لتهذيب النفس
للمطالعة
علامات أهل العلم22
لأصحاب الفقه والعقل ـ الذين يقصدون التفقه في الدين وإدراك الحقائق ـ أيضاً علامات وآثار، عمدتها ما ذكره الإمام عليه السلام: منها: أنه ينجم عن هذا العلم في قلبه الحزن والهم والانكسار. ومن الواضح أن هذا الانكسار والفزع لا يكون لأجل الأمور الدنيوية الدنيّة الزائلة، بل إنه ناجمٌ عن الخوف من المعاد، والتقصير في وظائف العبودية. وإن الانكسار والحزن مضافاً إلى أنهما ينيران القلب ويجلّيانه، يكونان مبدأً لإصلاح النفس، ومنشأً للنهوض بوظائف العبودية. وإن هذا النور ـ نور القلب ـ يسلب السكون والقرار من النفس، ويعرّف قلبه إلى الحق سبحانه وإلى دار كرامته. ويجعله مستمتعاً في مناجاته مع الحق المتعالي فيحيي لياليه ويقوم بوظائف العبودية. كما قال عليه السلام: "قَدْ تَحَنَّكَ في بُرْنُسِهِ، وَقامَ اللَّيْلَ في حِنْدِسِهِ"23 فإن الجملة الأولى كناية عن ملازمة العبادة.
ومن علامات هذا العالم الرباني أنه رغم قيامه الكامل بوظائف العبودية يعيش حالة الفزع، لأن نور العلم يهديه إلى أنه كلما أدّى وظائفه، يشعر بأنّه قاصر أو مقصّر، وأنه لا يستطيع أن يخرج من مسؤولية شكر نعمه وحقيقة عبادته. فيكون قلبه مملوءاً من الخوف والخشية. وقد قال الحق جل جلاله فيهم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾24.
إن نور العلم يبعث على الخشية والحزن، وصاحبه رغم إقباله على إصلاح نفسه لا يقرّ له قرار من جرّاء خوفه من يوم القيامة، ويدفعه نحو الطلب من الله في أن يصلحه، ويحذّره من الإنشغال بغير الحق، ويبعده عن أهل زمانه، ويجعل هاجسه الخوف من أن أهل الدنيا قد يمنعونه من السير إلى الله، والسفر إلى عالم الآخرة، ويزيّنون الدنيا ولذائذها في عينه. والحق سبحانه يؤيّد مثل هذا الإنسان، ويقوّي وجوده وينعم عليه بالأمان يوم القيامة. فَيَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَهُمْ فَنَفُوزَ فَوْزاً عَظيماً.
الإمام الخميني قدس سره
22- الأربعون حديثاً، ص412.
23- الكافي، ج1، ص49.
24- فاطر، 28.
75
60
الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس
الدرس السابع:
الجهاد أفضل ميدانٍ لتزكية النفس
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
1- يتعرّف إلى أهمية الجهاد في سبيل الله.
2- يبيّن العلاقة التي تربط الجهاد في سبيل الله بتهذيب النفس وتزكيتها.
3- يشرح الأهداف الأساسية للجهاد في سبيل الله.
76
61
الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس
أهمية الجهاد
مشكلة كل زمانٍ في طاغيته الذي يستعبد الناس ويسلب حقوقهم ويصدّ عن طريق الحق، ويمنع من وصول شرع الله وأحكامه إليهم، ما يؤدّي إلى شيوع المفاسد وانتشار المظالم في الأرض، والتعدّي على حريات الآخرين، وانتفاء العدالة والمساواة في المجتمع، ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾1. فكان الوقوف بوجه الظالم وردعه وثنيه عن أهدافه ومخططاته أمراً لا بدّ منه من أجل تحرير البشرية وعتقها من إفساده وإضلاله. من هنا يأخذ الجهاد في سبيل الله دوره الشريف والمقدس لأنه الأسلوب الوحيد الرادع الذي يحول دون بلوغ الظالم أهدافه المضلّة. فعبر التاريخ الممتدّ على طول البشرية لم نسمع أن طاغيةً ما ترك قهر الناس وغصب حقوقهم بملء إرادته، أو أنه عاد إلى رشده فجأة وحكّم ضميره وأدرك فظاعة ما اقترفته يداه الملوثتان بالدماء والمحرّمات، بل على العكس تماماً نجد أنه مع مرور الأيام يزداد في إجرامه وطغيانه: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾2. فالحوار والمنطق لم يكونا في يومٍ من الأيام مفيدين مع الظالم الذي يقتل ويهجّر ويغصب ولا يلتزم بأي قانونٍ ومنطق لا لسببٍ سوى طمعه وجشعه وأنانيته المفرطة واستئثاره بالخيرات والملك. بل الحلّ الوحيد لردع هؤلاء الطغاة والمجانين كان ولا يزال بالسلاح والقوّة. فالجهاد وسيلةٌ إذاً لرفع الموانع والأشواك من أمام طريق الحق، وتحرير الإنسان من سطوة الظالم وإرادة المستكبر وإدخال الناس في رحمة الحق وإرادته، لذا جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخير كله فيه وتحت ظله: "الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي السَّيْفِ وَتَحْتَ ظِلِّ السَّيْفِ وَلَا يُقِيمُ النَّاسَ إِلَّا السَّيْفُ وَالسُّيُوفُ مَقَالِيدُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ"3.
1- النمل، 34.
2- البقرة، 205.
3- الكافي، ج5،ص2.
78
62
الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس
من هنا صار الجهاد في سبيل الله أول التكاليف الإلهية ومن أعظم الطاعات وأشرف القربات لأنه باب تحرير الناس من عبودية غير الحق، ولأن بقاء الإسلام وانتشاره وتنفيذ قوانين الشريعة يقوم على هذه الفريضة، لذا كان طريق أمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي عليهم اتّباعه لنيل العزة والكرامة في الدنيا والآخرة كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لكل أمةٍ سياحة (أي طريق) وسياحة أمتي الجهاد في سبيل الله"4. ولأجل ذلك أيضاً أصبح الباب العظيم الذي لا يدخل منه إلا خواصّ الأولياء فيعرجون من خلاله إلى ربهم المتعال حيث السعادة العظمى وما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر: "إن الجهاد بابٌ من أبواب الجنة فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنّته الوثيقة"5.
الهدف من الجهاد
جميع الرّسل قاتلوا في سبيل الله لأن مشكلتهم الأساسية كانت مع الطواغيت والظالمين، الذين يقطعون طريق الله باستعبادهم للناس وجعل قلوبهم تهوي إليهم بدل أن تتوجّه نحو خالقها وبارئها. فالنبي يريد أن يحرّر الناس ويأخذ بأيديهم الى الحق، والظالم يريد أن يسخّرهم لنفسه ليطيعوه. فحركة الأنبياء الجهادية كانت حركةً مدروسة وذات أبعادٍ هادفة وغايات سامية، ولم تكن عبثيةً على الإطلاق أو لأجل التسلّط والاستيلاء كالحروب التي يشنّها الطواغيت والمستكبرون. ونحن بدورنا علينا الالتفات إلى هذه الأهداف كي لا نحرف الجهاد عن مساره الإلهي والمقدّس، ولكي ننعم في نهاية المطاف بثماره النورانية الطيّبة، وهي:
1- كفّ بأس الكفار:
من الأهداف الأساسية للجهاد في سبيل الله، ردّ كيد الكفار وبأسهم الى نحورهم:
﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾6، فبعد أن أمر الله تعالى نبيّه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمواجهة أعدائه وجهادهم رغم قلّة الناصر، بيّن له أحد الأهداف الأساسية لهذا التكليف المقدس. فالجهاد في سبيل الله هو الطريق لكسر شوكة الظالمين وقوّتهم، وكفّ أذاهم
4- مستدرك الوسائل، ج11،ص14.
5- الكافي، ج5،ص4.
6- النساء، 84.
79
63
الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس
وشدّتهم وبأسهم عن المؤمنين الموّحدين. ولذا أُمر الرسول بالالتزام بهذا التكليف ولو كان وحيداً فريداً، وبالاعتماد على الله تعالى مصدر كل قدرةٍ وقوة في هذا العالم، فهو عز اسمه أقوى من كل ما يدبّره الأعداء من مكائدَ ودسائسَ بوجه دعوة الحق.
2- محو آثار الشرك:
من أهداف تشريع الحق تعالى للجهاد أنه يريد أن يكون المعبود الأوحد على هذه الأرض: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه﴾7، والفتنة هنا هي الشرك بالله. فاللّه عزّ وجلّ أنزل على البشريّة شرائع وبرامج لسعادة البشر وتحريرهم وتكاملهم وإيصالهم إلى السعادة والرفاه، وأوجب على الأنبياء أن يبلّغوا هذه الشرائع والإرشادات إلى الناس. وإذا وقف شخصٌ ما بوجه دعوة الأنبياء فلهم الحقّ في إزالة هذه الموانع بطريقة سلميّة أوّلاً، وإلا فعليهم استخدام القوّة لإزالتها. فالناس في جميع المجتمعات البشريّة لهم الحقّ في أن يسمعوا مقالة التوحيد، ولو تصدّى فردٌ أو جماعة لسلب هذا الحقّ المشروع للناس وحرمانهم منه ومنعوا صوت التوحيد من الوصول إلى الناس ليحرّرهم من أغلال الشرك وقيود العبوديّة لغير الحق تعالى، فلأتباع الدين الحقّ في الاستفادة من جميع الوسائل لتهيئة هذه الحريّة.
3- إبقاء ذكر الله حيّاً:
من الأهداف الأساسية لتشريع القتال في سبيل الله، إعلاء ذكر الحق: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾8. فتشريع القتال إنما هو لحفظ المجتمع الديني من شرّ أعداء الدين الذين يسعون في إطفاء نور الله وذكره. ولولا ذلك لانهدمتِ المعابد الدينية والمشاعر الإلهية ونسخت العبادات والمناسك، لأنّ الله تعالى لو لم يدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد، لهدّمت أماكن العبادة والمساجد التي يذكر فيها اسم الله. ولو تكاسل المؤمنون وغضّوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين وأولوهم الطاعة، لما أبقى هؤلاء أثراً لمراكز عبادة الله. لأنّهم سيجدون الساحة خاليةً من العوائق فيعملون على تخريب المعابد
7- الأنفال، 39.
8- الحج، 40.
80
64
الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس
لأنّها تبثّ الوعي في الناس، وتعبّئهم في مجابهة الظلم والكفر. وكلّ دعوة لعبادة الله وتوحيده تعارضها دعوة المتجبّرين الذين يريدون أن يعبدهم الناس تشبُّهاً منهم بالحق تعالى، لهذا يهدّمون أماكن توحيد الله وعبادته. من هنا كان صدّهم والوقوف بوجههم من الأهداف الأساسية لتشريع الجهاد في الإسلام.
4- الدفاع عن المجتمع الإسلامي:
هذا النوع من الجهاد يمثّل الطابع الأبرز لأغلب حروب النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي خاضها مع المشركين والكفّار الذين حاولوا هدم المجتمع الرسالي الجديد الذي أقامه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنوّرة، فأذن الله للمسلمين بأن يدافعوا عن أنفسهم ويحموا مجتمعهم الديني الحديث النشأة من أذى الكفار وكيدهم: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾9. فكان جهادهم لأجل الدفاع عن أنفسهم ضد الجيوش الزاحفة التي تريد أن تستأصل جذور الإسلام وتمحق شريعة القرآن وتقضي على دولته: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾10.
الجهاد الأصغر أفضل ميدانٍ للجهاد الأكبر
الجهاد في سبيل الله تكليف إلهي، فالله تعالى أمر الناس بالقتال والجهاد: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾11. قوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ إشارة إلى أنه حكمٌ وتشريع إلهي حتميّ ومقطوع، وهو فرضٌ على كافّة المؤمنين لكون الخطاب متوجهاً إليهم جميعاً إلا مَن كان معذوراً. وهو كرهٌ لكون القتال يستلزم إفناء النفوس، وتعب الأبدان، وتلف الأموال، وذهاب الأمن والراحة والرفاهية، ولاقترانه بأنواع المشقات والمصائب، وغير ذلك مما تكرهه النفس الإنسانية وتجده شاقاً ومتعباً.
فالذين لا يرون في الجهاد سوى الآلام والمصائب، والقتل والجرح، من الطبيعي أن يكون مكروهاً لديهم، أمّا الّذين ينظرون إلى أبعد من هذا المدى المحدود فإنهم يعلمون أنّ شرف
9- الحج، 39.
10- التوبة، 32.
11- البقرة، 216.
81
65
الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس
الإنسان وكرامته وحريّته تكمن في الجهاد، لذا يرحّبون به ويستقبلونه بفرحٍ وشوق. كما هو حال الّذين لا يعرفون آثار الأدوية المرّة والمنفّرة، فهم في أوّل الأمر يظهرون عدم رغبتهم فيها، إلّا أنّهم بعد أن يروا تأثيرها الإيجابي على سلامتهم وصحتهم يتقبّلونها برحابة صدر.
من هنا يشير الحق تعالى إلى مبدأ أساسي حاكم على القوانين التكوينيّة والتشريعيّة الإلهيّة: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾، فلا عبرة بما يكرهه الإنسان أو يحبه لأنه ربما يخطئ في تشخيص الواقع والمصلحة، وهو غير قادرٍ في كثيرٍ من الأحيان أن يهتدي بنفسه إلى حقيقة الأمر. لذا على البشر أن لا يحكّموا أذواقهم ومعارفهم الخاصة في الأمور المتعلّقة بمصيرهم، لأنّ علمهم محدود، وما علموه بالنسبة إلى ما يجهلونه كقطرةٍ في البحر، لذا يقول عز وجل: ﴿وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾. فالناس لأنهم لم يدركوا إلا القليل من أسرار الخلقة والقوانين والتشريعات الإلهيّة، تجدهم في بعض الأحيان يهملون أمراً ما ولا يعيرونه الاهتمام المطلوب، في حين أنّ أهميّته وفائدته قد تكون كبيرة، لأنهم جاهلون بكثيرٍ من المصالح والمفاسد الموجودة فيه. لذا قد يكرهون شيئاً في حين أنّ سعادتهم تكمن فيه، أو يفرحون لشيءٍ ويطلبونه في حين أنّه يستبطن شقاءهم. لذا لا يحق للإنسان مع الالتفات إلى علمه المحدود والناقص أن يعترض على علم الحق اللامحدود، ولا على أحكامه الإلهية، بل عليه أن يعلم يقيناً أن الله تعالى، الرحمن والرحيم، عندما يشرع لهم تشريعاً ما كالجهاد مثل, فإنه لا يشرّعه إلا لأنّه يرى فيه خيرهم وسعادتهم ونجاتهم. لذا على المؤمن أن ينظر إلى الأوامر والأحكام الإلهية على أنها كالأدوية الشافية له من كل علّة، وعليه أن يطبّقها بمنتهى الرضا والقبول. وإذا التزم الإنسان بأحكام الحق فالنفع والفائدة يعود إليه لأن الحق تعالى غنيّ عن العالمين: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾12.
الخير كل الخير في الجهاد
فالجهاد في سبيل الله تكليف إلهي بل ومن أعظم الطاعات، فالخير كله معه وفيه لأنه ما صلحت الدنيا ولا الدين إلا به كما قال أَمير المؤمنين ومولى الموحّدين علي بن أبي
12- العنكبوت، 6.
82
66
الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس
طالب عليه السلام: "إن الله عز وجل فرض الجهاد وعظّمه وجعله نصره وناصره. والله ما صلُحت دنيا ولا دين إلا به"13. وطاعة الله وأداء التكليف الشرعي كما ذكرنا سابقاً هما الباب الوحيد لجهاد النفس وتهذيبها وتخليصها من الشوائب الخلقية والأمراض الباطنية، والذي هو الجهاد الأكبر، وهو الطريق الأمثل للخروج من سيطرة أهواء النفس والشهوات.
والجهاد في سبيل الله هو أهم وأشرف التكاليف الشرعية كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام وهو قِوَامُ الدِّين والأَجْرُ فيه عظِيمٌ مع العزّة والمَنَعَةِ وهو الكَرَّةُ فيه الحسنات والبُشْرَى بالجنّة بعد الشّهادة وبالرّزق غداً عند الرَّبِّ والكرامة"14. وعليه يكون الجهاد في سبيل الله بدوره أهم ميدانٍ لجهاد النفس وتصفيتها من الأهواء والأمراض الخلقيّة. وهو مهمٌّ إلى درجةٍ عرّفه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد الأكبر، فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ فقال: جهاد النفس"15.
فالمجاهد يكون أثناء جهاده في حالة مخالفة دائمة لنفسه ولأهوائها لكونه مطيعاً لأمر الحق وأحكامه لا لأمر النفس وأهوائها. وهو عند أدائه للتكليف الشرعي سوف يكتشف عيوب نفسه وعللها، وسوف تخرج خبايا نفسه إلى العلن.
والمجاهد أثناء أدائه لتكليفه سوف تعترضه الكثير من المواقف التي لو كان صادقاً في جهاده ومراقبة نفسه، فسوف يلاحظ ما إذا كان يؤدّي هذه الأعمال لوجه الله وتقرّباً إليه، أم والعياذ بالله من أجل كسب الشهرة والجاه، أو حباً بالظهور والرياء أو لكسب المقام والمال وغير ذلك من الأغراض النفسية.
وباكتشافه لأمراضه الأخلاقية يكون المجاهد قد قطع نصف الطريق وبقي عليه النصف الآخر وهو التصدّي لمعالجة هذه الأمراض، والمداومة على العمل وأداء التكليف بعزم أكيد ونيّة خالصة لله وعدم تركه أو التخلف عنه مطلقاً. ومن المتوقع بعد فترة من المداومة على العمل أن يزول هذا المرض الخبيث والخلق الفاسد بتوفيق الله وعنايته. فساحات الجهاد
13- الكافي، ج5،ص8.
14- م.ن، ص36.
15- وسائل الشيعة، ج11، ص124.
83
67
الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس
التي هي ساحاتٌ مقدسة ومباركة والتي هي محطّ عناية الله وملائكته وتأييده وتسديده، إذا خلصت فيها النوايا وصفت فيها النفوس وتوجّهت نحو بارئها مستسلمةً خاضعةً نالت الرفعة والعزة في كلا الدارين، وفازت بإحدى الحسنيين. فالجهاد الأصغر إذاً هو أفضل ساحةٍ لتطهير النفوس وتكاملها وتزكية القلوب وتصفيتها لتصبح مؤهلةً للقاء المحبوب الأوحد وهي مطمئنة، راضية. إنه باختصار أفضل ميدانٍ للجهاد الأكبر.
84
68
الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس
المفاهيم الرئيسة
1- الجهاد وسيلةٌ شريفة لرفع الموانع التي يضعها الظالمون لأجل الصدّ عن طريق الحق.
2- للجهاد أهدافٌ مقدسة لا بدّ من فهمها والالتفات إليها حتى يكون الجهاد هادفاً وعن وعي.
3- من أهداف الجهاد نشر التوحيد، وإبقاء ذكر الله حياً، والدفاع عن المسلمين والمجتمع المسلم.
4- أداء التكليف الشرعي هو السبيل لتهذيب النفس، والجهاد في سبيل الله تكليفٌ شرعي بل من أفضل التكاليف.
5- النتيجة والمحصّلة النهائية أن الجهاد في سبيل الله سبيل لتهذيب النفس وتزكيتها أيضاً.
أسئلة حول الدرس
1- كيف يمكن أن يكون الجهاد في سبيل الله مدخلاً أساسياً لتهذيب النفس؟
2- للجهاد في سبيل الله أهدافٌ عديدة أذكرها وتحدث عن اثنين منها.
3- لماذا اعتبر أمير المؤمنين علي عليه السلام الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام؟
4- قيل "إن المجاهد أثناء جهاده هو في حالة مخالفةٍ دائمةٍ لنفسه ولأهوائها"، لماذا؟
5- كيف يكون الجهاد في سبيل الله عاملاً في اكتشاف أمراض النفس؟
85
69
الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس
للمطالعة
الجهاد الإلهي16
هناك شروط وأصول للجهاد في سبيل الله ينبغي تحصيلها، كما يجب الحذر من الموانع والعراقيل الموجودة في طريقه. إلا أن الركن الأهم والشرط الأساسي هو تجارة الدنيا والآخرة، أي بيع الدنيا وشراء الآخرة. والمقصود من الدنيا التي هي رأس كل خطيئة هو التوجه إلى غير الله تعالى. فكما أن للآخرة درجات فكذلك للدنيا دركات متفاوتة فيما بينها، فبعضها أنزل وأحطّ من البعض الآخر.
والشرط الأساسي للجهاد في سبيل الله هو الاجتهاد في تشخيص الدنيا بجميع دركاتها، وتمييز الآخرة بجميع درجاتها، والشروع بالمعاملة بترك الدنيا والذي هو في الحقيقة الخلاص من دركاتها، وتحصيل الآخرة والذي هو في الحقيقة نيل درجاتها والنجاة، وقد ذكر هذا السر المكتوم في قوله تعالى: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾17.
يعني أن الأشخاص الذين يقاتلون في سبيل الله هم الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وكل من اختار هذه المعاملة والتجارة وجاهد في سبيل الله فأمامه واحدٌ من طريقين لا ثالث لهما، أحدهما الشهادة والآخر النصر. ولا وجود لطريقٍ ثالث باسم المصالحة والتسليم وأمثال ذلك.
إن ترك الدنيا هو الشرط الوحيد للجهاد والثمن الوحيد للجنة, بمعنى أن الجهاد من دون بيع الدنيا لا يتّصف بالصبغة الإلهية، ولا ينتهي بانتصار الحق. وبدون ترك الدنيا لا يمكن الدخول إلى الجنة كما قال الإمام علي عليه السلام: "طلاق الدنيا مهر الجنة".
16- الحماسة والعرفان، ص31.
17- النساء، 74.
86
70
الدرس السابع: الجهاد أفضل ميدان لتزكية النفس
ومن المعلوم أن الحصول على الجنة يكون بمقدار المهر، لأن البعض يترك لذائذ الدنيا لكي يحصل على لذات الجنة الحسّية، أو الخيالية، أو العقلية، ولكن البعض الآخر يصرف النظر عن جميع اللذات لتحصيل اللذات الإلهية. فلا يستوي الزهّاد والعبّاد والعرفاء في الجنة، كما أن العرفاء لا يستوون فيما بينهم أيضاً. ومن الواضح أن جهاد الزهاد يختلف عن جهاد العبّاد، وجهاد هاتين الطائفتين يختلف عن جهاد العرفاء، كما جهاد العرفاء أنفسهم له درجات كثيرة بمقدار تفاوت مراتبهم.
آية الله جوادي الآملي
87
71
الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله
الدرس الثامن:
صفات المجاهد في سبيل الله
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
1- يذكر أهم الصفات التي ينبغي للمجاهد في سبيل الله التحلّي بها.
2- يستدل على ضرورة اتصاف المجاهد بهذه الصفات لأهمّيّتها.
88
72
الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله
تمهيد
صحيحٌ أن الله تعالى فضّل المجاهدين في سبيله على القاعدين ﴿وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾1، ولكن ليس كل من حمل السلاح وانطلق لقتال العدو نال بركة الجهاد وحصل على آثاره الطبيّة. فكثيرون هم الذين قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن عندما وافته المنيّة انقلبوا على أعقابهم خاسرين، ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾2. بل للجهاد في سبيل الله تعالى شروطٌ أساسية بمراعاتها ينال المجاهد ما وعده الله من الفضل العظيم، والزلفى والمغفرة، وجنة النعيم ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾3. وأهم هذه الشروط:
القتال تحت راية الحق
الجهاد في سبيل الله واجبٌ إلهي لا يجوز أن يشرع فيه الإنسان من نفسه وبالرجوع إلى أهوائه. بل عليه أن يتبع أوامر الشريعة فيما تأمر به وتنهى عنه في هذا المجال. وأول ما تأمر به هذه الشريعة الغرّاء أن يكون جهاد المرء مرتكزاً على أساس ديني، بمعنى أن يكون قتاله لأجل الأهداف الإلهية، وتحت راية الحق، وبقيادة المعصوم عليه السلام أو نائبه بالحق الذي ينوب عنه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾4. لأن الله عز وجل لن يقبل عمل من يوالي عدوّه ويقاتل تحت رايته ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء﴾5، بل ستكون أعماله باطلة ولا قيمة لها أيضا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾6.
1- النساء، 95.
2- المائدة، 21.
3- القلم، 34.
4- النساء، 59.
5- الممتحنة، 1.
6- محمد، 33.
90
73
الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله
طاعة القائد
من أهم الشروط التى يجب على المجاهد في سبيل الله الالتزام بها طاعة القيادة. وهي من الواجبات الشرعية التي أكد عليها الإسلام بشدة، لأن حفظ النظام وديمومته ونجاح الأعمال شرطها الأساسي طاعة القائد ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾7.أما التمرّد على القيادة الشرعية وعدم طاعتها فيدلّ في الواقع على عبادة النفس والتعصب للذات وهو ينافي مبدأ التسليم للحق والطاعة له. إن أول عملٍ ركّز عليه الإسلام في بداية ظهوره هو الطاعة لله ورسوله، ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾8، فالفوز في الدنيا والآخرة مرهونٌ بطاعة الله وطاعة رسوله والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾9. لذا عيّن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الأئمة عليهم السلام قادةً لأمّته بعد وفاته، والإمام الثاني عشر الحجّة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف عيّن نائباً عنه وقائداً للأمة في غيبته هو الوليّ الفقيه الجامع للشرائط، حيث أمر الناس بالرجوع إليه وأوجب عليهم طاعته كما جاء في التوقيع المقدّس عن إمامنا المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف حيث قال لسائلٍ أشكل عليه بعض المسائل: "وأَما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأَنا حجة الله عليهم"10. واستناداً إلى ما تقدّم فإن عدم الطاعة للولي الفقيه يعني الاستخفاف الصريح بحكم الله تعالى، لأن الرادّ على الولي الفقيه رادّ على حكم الأئمة والرادّ على حكمهم رادّ على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالتالي رادّ على الله ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾11.
ومما يجدر الانتباه إليه هنا أيضاً هو وجوب طاعة القادة والمسؤولين المعيّنين من قبل الولي الفقيه، فهؤلاء القادة تجب طاعتهم ما داموا مؤيّدين من قبل نائب الإمام المعصوم في عصر الغيبة. ومجريات التاريخ تحكي بوضوح عن كثيرٍ من الهزائم والويلات التي مُني بها المسلمون والتي كان السبب الأساسي فيها عصيان أوامر القيادة الإسلامية. وهذا ما تدعمه
7- الأنفال، 46.
8- النور، 52.
9- النساء، 59.
10- بحار الأنوار، ج53،ص 189.
11- النساء، 80.
91
74
الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله
وتؤيده النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة. وقصة معركة أحد خير شاهدٍ على ذلك. كما ويروي التاريخ لنا حادثة مهمة جداً ومعبّرة تحكي عن فداحة التخلّف عن أوامر القيادة لما له من عواقب وخيمة جداً، حين أعدّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً قبل وفاته وعيّن قائداً عليه لم يتجاوز من العمر أكثر من عشرين سنة، وكان ذلك سبباً عند بعض المسلمين للتخلف والعصيان، فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر وقال جملته المشهورة: "لعن الله من تخلف عن جيش أسامة"12.
التقوى
من يخشَ الله تعالى ويتّقه حق تقاته يجتنب ما حرّمه ونهى عنه، ويؤدّ ما فرضه وأوجبه. وهذا هو الإنسان المتّقي الذي يخاف الله ويحرص على عدم معصيته ومخالفة أمره، فتكون بذلك أعماله مورد قبول الحق ورضاه ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾13. أما الأعمال التي لا ترتكز على التقوى فتشبه البناء القائم على حافة جرفٍ هارٍ والذي لن يصمد طويلاً أمام التهديد وسرعان ما سوف يهوي بأهله ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾14.
فالتقوى تعدّ شرطاً أساسياً لأن الله لا يطاع من حيث يعصى. وإذا لم يحافظ المجاهد في سبيل الله على حدود الله عند أدائه لواجباته فلن يتقبل الله جهاده، ويُخشى أن يسلب منه فضل الجهاد والتوفيق إليه ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾15. لأن المجاهد إذا لم يكن مراعياً لحدود الله وملتزماً بشريعته فسيكون عرضةً لفتن النفس الأمّارة بالسوء والأهواء المضلّة، ما سينعكس سلباً على عمله وجهاده حتماً ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾16. فساحات الجهاد يجب أن تكون طاهرة وخالية من المعاصي وبذورها المكدّرة وآثارها الهدّامة التي تحول دون نشوء جبهة مباركة نورانية وقوية، لتكون أرضاً خصبة لفيوضات الحق وكراماته ونعمه المطلقة ومحلاً لعروج الإنسان وارتقائه.
12- بحار الأنوار، ج 30، ص 423.
13- النور، 52.
14- التوبة، 109.
15- المائد، 27.
16- القصص، 50.
92
75
الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله
الإخلاص
الإخلاص من الصفات الهامة التي ينبغي للمجاهد التحلي بها لأنها منشأ كل هداية وتوفيق. فالله سبحانه وتعالى أمر الناس بالعبادة ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾17 وجعلها شرطاً أساسياً للارتباط به وتحقق العبودية والوصول إلى مقامها الشامخ، ولكنه لم يأمر بأي عبادة بل أمر عز وجل بالعبادة الخالصة له التي لا يشاركه فيها أحدٌ أبداً: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾18، وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه"19. فالإخلاص هو روح العبودية لله وجوهرها، وحقيقته تخليص النية والدافع نحو العمل من كل شيء ما عدا الله سبحانه وتعالى. فالمخلص هو الذي لا يطلب من وراء أي عملٍ يقوم به سوى الله تعالى، ولا يكون له مقصدٌ أو دافعٌ سوى رضاه والتقرّب إليه.
إن الأعمال مرهونةٌ بالنيات وإذا لم تكن النوايا خالصة فهذا يعني أنه يشوبها الشرك، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾20، ولا يقبل إلا ما كان له خالصاً كما في الحديث القدسي المروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "يقول الله عز وجل: أَنا خير شريك من أَشرك معي غيري في عملٍ عمله لم أَقبله إلا ما كان لي خالصاً"21. وعليه فكل عملٍ لا يكون خالصاً لوجه الله تعالى فهو شرك، والشرك ظلمٌ عظيم ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾22، والله تعالى لا يهدي القوم الظالمين ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾23.
والمجاهد في سبيل الله عند أدائه لواجباته وتكاليفه الشرعيّة هو في حالة عبادة، ولأعماله بعدٌ إلهي يمكن أن يرفعه إلى أعلى عليّين ويقرّبه من الحق نجيّاً في حال اتّسمت أعماله ونواياه بالإخلاص. أما إذا لم تكن النوايا خالصةً ولم يكن الدافع الأساسي من وراء الجهاد رضا الله وأداء التكليف الشرعي فلن تكون الأعمال مقبولةً وبالتالي لن ينال الأجر والثواب الذي
17- الإسراء، 23.
18- البينة، 5.
19- الكافي، ج 2، ص16.
20- النساء، 48.
21- الكافي، ج2، ص 295.
22- لقمان، 13.
23- الصف، 7.
93
76
الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله
يستحقّه. لأن الذاهب إلى ميادين الجهاد لن يصدق عليه وصف المجاهد في سبيل الله ما لم تكن هجرته إلى الله، وما لم يكن دافعه الأساسي وهدفه النهائي هو الحق سبحانه وتعالى لا غير، ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾24.
الصبر
الصبر من صفات المجاهد الأساسية ومن دونه لن يتمكّن من مواجهة الصعاب وتحمّل المشاكل التي تنتظره. لذا أمر الله تعالى به عباده المؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾25، وجعله أساس الإيمان ودعامته الرئيسة كما روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأْس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له"26. والصّبر لا يعني تحمّل الشقاء وقبول الذلة والاستسلام للعوامل الخارجية، بل على العكس، الصبر يعني القدرة على التحمل والمقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والصمود أمام الحوادث المرّة وعدم الانهيار وترك الجزع والفزع. وتاريخ العظماء يؤكد أن أحد أهم عوامل انتصارهم هو صبرهم واستقامتهم، أما الفاقدون لهذه الصفة فسرعان ما ينهارون وينهزمون.
ومن الخصائص الأساسية للصبر، أن بقية الفضائل متوقفةٌ عليها لأنها سندها ورصيدها الأساسي، والأهم من ذلك كله أن الله تعالى يحب الصابرين ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾27 وهو معهم ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. فمن صبر على الجهاد ولم يشكُ ولم يجزع واستقبل البلايا بصبرٍ وسكينة، فنصيبه أن الله تعالى معه وسوف يؤيّده بالنّصر.
ويكفي للدلالة على مدى أهمية الصبر بالنسبة للمجاهد ما ذكره القرآن الكريم حين أمر الله النبي بالقتال وتحريض المؤمنين عليه، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾28. فالآية الكريمة تشير إلى ما يشبه المعجزة
23- الصف، 7.
24- الكهف، 110.
25- البقرة، 153.
26- الكافي، ج2،ص 87.
27- آل عمران، 146.
28- الأنفال، 65.
94
77
الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله
التي يمكن أن تحصل مع المؤمنين المجاهدين في الحرب إذا ما التزموا الصبر وكانوا من المتصبّرين في ميادين القتال. فقد وعدهم الله تعالى بأن يغلب الرجل منهم عشرةً من الكفار في حال كانوا من الصابرين، بل حتى لو كانوا عشرة أضعاف عددهم. وممّا يسترعي الانتباه أنّ أغلب المعارك التي جرت بين المسلمين وأعدائهم كان فيها ميزان القوى لصالح العدو، وكان المسلمون قلّة غالباً. والسبب الرئيس الذي يقف وراء انتصار المسلمين القلة في مثل هذه المعارك هو صبرهم وتجلدهم أمام عدو يفوقهم عدداً وعدّة، وتمتّعهم بروحية الثّبات والاستقامة التي هي ثمرة شجرة الإيمان.
التوكل
التوكّل على الله يجب أن يكون أقوى وأمضى أسلحة المجاهد في سبيل الله، لأنه يؤمن بأن الحول والقوة بيد الله، وأنه المؤثر الحقيقي والوحيد في هذا العالم، وأن الأمور كلّها في الحقيقة ترجع إليه، وليس على الإنسان الصادق في إيمانه سوى أن يعبد الله فيما أمره وأن يتوكّل عليه، فلا يعتمد على نفسه إطلاقاً ولا يكون همّه نتائج أعماله بل جلّ اهتمامه يكون منصبّاً على طاعة ربه وأداء تكليفه بصدق وإخلاص، ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾29. أما النتائج فأمرها موكولٌ إلى الله تعالى ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾30. فالتوكل هو الاعتماد على الله تعالى في جميع الأمور، والاعتقاد بأنه مسبب الأسباب والمتسلّط عليها، وأن بإرادته ومشيئته تتحقّق هذه الأسباب.
وهذا لا يعني ترك العمل والإعداد وتهيئة السلاح والمعدّات وزيادة القوة العسكرية وتطوير الكفاءات والحرص على التنظيم وغيرها من الأمور. بل كل هذه الأمور ضرورية وأساسية ويجب الاهتمام بها وتوفيرها بحسب القدرة والوسع كما يقول الله تعالى ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾31، فالتوكّل لا يعني ترك العمل والأخذ بالأسباب على الإطلاق. ورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى قوماً لا يزرعون فقال لهم: "ما أنتم؟ قالوا: نحن المتوَكِّلُونَ، قال: لا بل أنتم الْمُتَّكِلوُن"32. فمن أضحى عنده
29- هود، 123.
30- الأنفال، 10.
31- الأنفال، 60.
32- مستدرك الوسائل، ج11،ص217.
95
78
الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله
معرفة بالله تعالى يعلم أن مقتضى الحكمة الإلهية أن الأمور تتحقق بواسطة الأسباب، ولكن على قاعدة أن جميع تلك الأمور لا تعدو كونها وسائل لا أكثر، وأن العبودية لله وأداء التكليف الشرعي أهم من تحقيق النصر، وأن هذه الأمور ليست هي من يحسم النتائج ويحقّق النصر ويضمن الوصول إلى الأهداف المنشودة، بل الاعتماد والتوكل يجب أن يكون أساساً على من بيده الملك وهو على كل شيءٍ قدير لا على الأسباب الظاهرية ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾33، فهو في الحقيقة الناصر والمعين، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لَا يُغْلَبُ ومَنِ اعْتَصَمَ بِاللهِ لَا يُهْزَم"34.
ذكر الله
لقد أمر الله تعالى المجاهدين أن يذكروه عند لقائهم العدو ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾35. وليس المراد بالذكر هنا الذكر اللفظي فحسب، بل المقصود منه أيضاً الذكر القلبي بمعنى حضور الله تعالى في قلوبنا بحيث لا نغفل عن علمه وقدرته غير المحدودة ورحمته الواسعة. ومثل هذا التوجه إلى اللّه يقوّي من عزيمة المجاهد في ميدان القتال، ويُشعره على الدوام بأنّ هناك سنداً قويّاً يدعمه في ساحة المواجهة، لا تستطيع أية قدرة في الوجود أن تتغلب عليه. فذكر الله يبعث على الاطمئنان والقوّة والقدرة والثبات في نفس المجاهد ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾36.
33- الملك، 1.
34- بحار الأنوار، ج68، ص 151.
35- الأنفال، 45.
36- الرعد، 28
96
79
الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله
المفاهيم الرئيسة
1- إن للجهاد شروطاً وآداباً على المجاهد أن يراعيها حتى يكون جهاده في سبيل الله، ويفوز بما وعده الله من الفضل العظيم، والكرامة في الدنيا والآخرة.
2- من أهم هذه الشروط: القتال تحت راية الحق، طاعة القيادة، التقوى، الإخلاص، الصبر، التوكّل على الله، ذكر الله دائماً.
3- التمرّد على القيادة وعدم طاعتها يدل على عبادة النفس والتعصّب للذات وهو ينافي مبدأ التسليم والعبودية.
4- المجاهد إذا لم يكن مراعياً للحدود والواجبات الإلهية فسوف يكون عرضة لفتن النفس والأهواء المضلّة.
5- الأعمال مرهونة بالنيات وإذا لم تكن النية خالصة فهذا يكشف عن وجود الشرك في القلب.
6- الصبر الذي يعني القدرة على التحمّل والمقاومة والثبات مقدمة لبقية الفضائل والصفات.
7- التوكل لا يعني ترك العمل بل استفراغ الوسع وبذل الجهد الأقصى والنتائج بيد الله وحده.
أسئلة حول الدرس
1- متى يكون جهاد المرء في سبيل الله؟
2- ماذا يكشف التمرد على القيادة وعدم الالتزام بأوامرها؟
3- لماذا تعتبر التقوى شرطاً أساسياً من شروط الجهاد في سبيل الله؟
4- ما هي حقيقة الإخلاص؟ وكيف يكون الإنسان المجاهد مخلصاً؟
5- ما هي العلاقة بين النصر والصبر؟ اذكر أمثلة على ذلك.
97
80
الدرس الثامن: صفات المجاهد في سبيل الله
للمطالعة
أداء التكليف أهم من النصر37
أيها المجاهدون... إصبروا في مواطن الجهاد، وتواصوا بالصبر، وادعوا الآخرين إلى التمسك بالصبر والاستعانة به... لا تتزلزلوا ولا تهنوا تجاه الهزائم الظاهرية فقد قال إمامنا الخميني العظيم: "نحن لم نقم من أجل أن ننتصر أو نُهزم، بل إن علينا تكليفاً ويجب أن نؤديه".
ولهذا نهض إمام الأمة لوحده، وما كانت انتفاضته من أجل الانتصار أساساً، بل من أجل أداء الواجب الإلهي.. وكلما كان البعض ينصحونه كما يدّعون بترك الثورة كان يرفض ما يقولون ويردّ قائلا: "لدي تكليفٌ شرعيٌّ عليّ أن أؤديه، فإذا تمكنت من الوصول إلى ثمرته فقد حصل المطلوب، وإذا لم أصل ولم أحقّق شيئاً فقد عملت بواجبي الشرعي على كل حال".
في الحرب أيضاً كذلك، فالمهم فيها أداء الواجب الشرعي.. وحسنٌ جداً إذا فتحتم البلاد، أما إذا حقّقتم فتحاً كبيراً ولكن لم يكن هذا الفتح بنيّة أداء التكليف الشرعي، فاعلموا أن هذا الإنجاز ليس له أيّة قيمة عند الله، بل على العكس فإن جزاءه النار والعذاب. وإذا كان الرأي الشخصي لأحد المجاهدين يتعارض مع أوامر القيادة فعليه أن يضحّي بالتنازل عن رأيه وقناعته حرصاً على مصلحة الإسلام. قتل العدو ليس مسألة مهمة جداً، العمل الصعب والمهم هو تحمّل الرأي المخالف للقناعة الشخصية، والتنازل عن الرأي الشخصي حرصاً على مصلحة الإسلام. اصبروا وصابروا. ليكن لديكم صدرٌ واسعٌ بحيث تلتزمون الهدوء وتعملون لله سبحانه وتعالى... وتصبرون حتى لو أساء البعض ممّن تحت إمرتكم القول، فإن السكوت هنا لرضا الله.
أيها المجاهدون الأعزاء في ساحات المواجهة، إصبروا أمام المصاعب والمحن لكي تستقبلكم الملائكة بالسلام والصلوات عليكم، ولكي تصلوا إلى الدرجة التي يأتيكم معها الخطاب الإلهي: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾38.
الأستاذ مظاهري
37- الأستاذ مظاهري, خصال الجهادين, ص 24.
38- الفجر، 27 - 30.
81
الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)
الدرس التاسع:
الرذائل الأخلاقية (1) (هوى النفس - الحسد)
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
1- يشرح معنى وحقيقة كلّ من اتّباع الهوى والحسد.
2- يعدّد بعض الآثار السلبية لاتّباع الهوى والحسد.
3- يبيّن دوافع اتّباع الهوى والحسد وطرق معالجتها.
100
82
الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)
تمهيد
إن سلوك طريق الله والآخرة للوصول إلى الكمال الإنساني والسعادة الأبدية عند مليكٍ مقتدرٍ غير ممكنٍ من دون جهاد النفس وتهذيبها من الأمراض والرذائل الأخلاقية. وأوّل ما يحتاجه الإنسان المؤمن الحريص على آخرته هو معرفة هذه الموانع والعوائق التي تحول بينه وبين لقاء ربه، والتي تحرمه من فيضه الجزيل، وعطائه العميم. فالمعرفة الدقيقة والصحيحة بهذه الموانع هي المدخل الصحيح لإزالتها والتخلّص منها، لأنه من غير الممكن معالجة الداء ما لم نكن على معرفةٍ به وبآثاره ونتائجه. لذا كانت المعرفة المسبقة بهذه الأمراض والرذائل أمراً لا بدّ منه لمن يريد أن يهذّب نفسه ويطهّرها. وفي هذا الفصل والفصلين اللاحقين سوف نذكر بعض هذه الأمراض، مبيّنين خطرها الداهم على سلوك الإنسان، وكيفية معالجتها.
هوى النفس
1- حقيقة الهوى:
الهوى هو حب الشيء والميل إليه والتعلّق به واشتهاؤه، من دون فرقٍ بين أن يكون متعلقّه أمراً حسناً أو قبيحاً. وهوى النفس هو عبارة عن حب النفس وميل الإنسان إلى اتّباع الأوامر الصادرة عنها سواء كانت خيراً أم شراً. واتّباع أوامر النفس يعدّ شركاً بالله لأن المطاع فيه هو النفس وليس الله، فالأمر الصادر عن النفس إن كان خيراً ولم يكن في طاعة الله ولأهدافٍ إلهية فهو مخالفٌ لإرادة الله وبالتالي باطل، وإن كان شراً فهو صادرٌ عن النفس الأمّارة بالسوء التي تأمر الإنسان بالسوء دائماً وتدفعه إلى معصية الرب ومخالفة أمره. وقد تحدّث الله تعالى عن هذه الحقيقة وأشار إلى أن المتّبع لهواه في الحقيقة عابدٌ لغير الله: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾1. فأشار بشكلٍ واضحٍ إلى أن الإنسان يمكن أن يتسافل
1- الجاثية، 23.
102
83
الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)
إلى الحدّ الذي تصبح فيه نفسه هي المعبودة والمطاعة وليس الحق عز وجل. والمشكلة الكبرى في هذه التبعيّة للنفس تكمن في أنها تضلّ الإنسان عن جادّة الحق والصّراط المستقيم، كما قال عزّ اسمه: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾2. والأخطر من ذلك أن اتّباع الهوى يصدّ عن سبيل الحق، ويحول دون الوصول إليه، وهل بعد سبيل الحق إلا الضلال!؟ فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "إنما أَخاف عليكم اثنتين, اتّباع الهوى وطول الأَمل أَما اتّباع الهوى فإنه يصدّ عن الحق وأَما طول الأَمل فينسي الآخرة"3. لذا كان أمر الله وحكمه واضحاً وصريحاً بضرورة تجنّب هوى النفس وطاعتها، لأنها لن تورث الإنسان إلا العذاب والضّلال: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾4.
والمؤمن الصادق يكفيه أن يعرف الأضرار والمساوئ الناجمة عن اتّباع الهوى وحب النفس، وما وعد الله به الذين يخافونه في الغيب من الجنان، حتى يقلع عنه: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾5.
2- آثار اتّباع هوى النفس:
أ- عدم الإيمان بالآخرة: اتّباع الهوى يمكن أن يحول بين الإنسان والإيمان الصحيح بالآخرة: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾6.
ب- أسوأ الضلال: اتّباع الهوى أسوأ الضلال، فهو يخرج الإنسان عن طريق الله: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾7.
ج- إنتفاء العدالة: اتّباع الهوى مانعٌ من العدل والإنصاف: ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ﴾8.
د- فساد الكون: إن نظام السماء والأرض خاضعٌ لإرادةٍ حكيمة وعادلة، فلو دار حول محور
2- الأنعام، 119.
3- الكافي، ج 2، ص 355.
4- ص، 26.
5- النازعات، 40 - 41 .
6- طه، 15 ـ 16.
7- القصص، 50.
8- النساء، 135.
103
84
الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)
أهواء الناس وشهواتهم لعمّ الفساد كلّ ساحة الوجود: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾9.
هـ- مصدر الغفلة: اتّباع الهوى يحجب عن سبيل الحق ويورث الغفلة: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾10.
و- فساد العقل: اتّباع الهوى يفسد العقل ويضعفه ويمنعه من التمييز بين الحق والباطل: فعن الإمام علي عليه السلام قال: "طاعة الهوى تفسد العقل"11، وفي حديثٍ آخر عنه قال: "الهوى عدوّ العقل"12.
ز- التلوّث بالكبائر: إن الإفراط في طلب اللذة وعبادة الهوى يسوق الإنسان باتّجاه منزلقات الإثم وارتكاب الذنوب، كما حدث مع بني إسرائيل: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾13.
ح- أسّ المحن: اتّباع الهوى سببٌ أساسي للمحن والبلاءات التي تصيب الإنسان في هذه الحياة كما أخبر بذلك أمير المؤمنين عليه السلام: "الهوى أسّ المحن"14.
3- علاج اتّباع الهوى:
إذا عرفنا أن اتّباع الهوى يكون باتّباع أوامر النفس دون الله والانصياع التام لتلبية رغباتها، فإن العلاج الأساس يكون بمخالفة هذه الأوامر النابعة من النفس والاحتكام عوضاً عنها إلى أحكام الشريعة في كافة شؤون حياتنا لأنه ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾15، بالإضافة إلى تقوية رادع الإيمان والتقوى في النفس. فمن يشعر بوجود الله دائماً في حياته ويره حاضراً وناظراً إلى سلوكياته وأفعاله، ويرَ محكمة العدل الإلهية يوم
9- المؤمنون، 71.
10- الكهف، 28.
11- غرر الحكم، ص 64.
12- م.ن.
13- المائدة، 70.
14- غرر الحكم، ص 306.
15- المائدة، 44.
104
85
الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)
القيامة بعين البصيرة لا يمكن أن يتجرّأ على كسر طوق الحدود الإلهية ويتجاوز التشريعات الدينية ويتلوث بمفاسد الشهوات والرذائل. فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "خالف نفسك تستقم وخالط العلماء تعلم"16. فمخالفة النفس وإشغالها دائماً بالطاعات والواجبات الشرعية بحيث لا يعود لها منفذٌ للجري وراء تلبية الأهواء والشهوات هي السبيل الوحيد للتكامل والرقيّ الإنساني. كما أن معاشرة الصالحين وترك صحبة رفاق السوء لها الأثر الأكبر في توجيه الإنسان نحو معالي الأخلاق وعدم التلوّث في مستنقع الرذائل.
الحسد
1- حقيقة الحسد:
الحسد حالة نفسانية يتمنى معها صاحبها سلب النعمة التي يتصوّرها عند الآخرين، سواء نالها أم لا. وهي من أبشع الرذائل وأبغض الصفات. وهو يختلف عن الغبطة لأن الغبطة هي تمنّي النعمة التي لدى الغير ولكن دون تمنّي زوالها عنهم. والحسد آفة الدين كما جاء عن الإمام علي عليه السلام: "آفة الدّين الحسد وحسب الحاسد ما يلقى"17، ورأس العيوب والرذائل لأنه تتولّد منه أمراضٌ ومفاسد أخرى كالعجب وفساد الأعمال وغيرها، لذا قال أميرالمؤمنين عليه السلام: "رأس الرذائل الحسد"18. والأخطر من كل ذلك أن الحسد لا يمكن أن يجتمع مع الإيمان، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يجتمع الحسد والإيمان في قلب امرئ"19.
2- دوافع الحسد:
للحسد أسبابٌ كثيرة أهمها قلّة الإيمان وضعفه في النفس. فالحسود ساخطٌ على الله، غير مؤمنٍ بعدله وحكمته ورحمته وحسن تقديره. مع العلم أن تقسيم النّعم والأرزاق إنما جاء على خير تقديرٍ وأجمل نظامٍ وهو يتطابق تماماً مع المصالح التامة والنظام الكلي. والحاسد في حقيقة نفسه رافضٌ لهذا النظام الأصلح، ولا يرى أن الله عادلٌ قي تقسيمه للنعم والمواهب وحكيم في تقديراته، وهو في قرارة نفسه لا يؤمن بأن من يتمتع بالقابلية واللياقة ويطلب من
16- غرر الحكم، 237.
17- مستدرك الوسائل، ج 12، ص17.
18- م.ن، ص23.
19- م.ن، ص18.
105
86
الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)
الله أن يرزقه فإن الله سيرزقه حتماً لأنه الجواد المطلق. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله عز وجل لموسى بن عمران عليه السلام: يا ابن عمران لا تحسدنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي ولا تمدّن عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك فإن الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمتي الذي قسمت بين عبادي ومن يك كذلك فلست منه وليس مني"20.
وهناك عوامل أخرى منها:
أ- رؤية ذلّ النفس: عندما يعجز الإنسان عن الوصول إلى المراتب السامية، سوف يشعر في نفسه بعقدة الحقارة والدونيّة فيتمنى زوال النعمة عن غيره ليكون معهم سواء.
ب- العداوة والحقد: عندما يبغض الإنسان شخصاً آخر، ويسعى للانتقام منه، فإنه يتمنى أن تحيط به البلايا وتزول عنه النّعم.
ج- الكبر والغرور: عندما يرى المتكبر أن غيره يتمتّع بنعمٍ أكثر منه، فإنه يتمنّى زوالها بل ويسعى في إزالتها لكي يحرز تفوّقه وتقدمه عليه.
د- حب الرئاسة: لكي يبسط الإنسان سيطرته على الآخرين، يجب أن تكون إمكاناته وثرواته أكثر، لذا يتمنى زوال النعم عن غيره ليتمكن هو من السيطرة.
هـ- الخوف من عدم الحصول على المقاصد الدنيوية: لأن الحسود يتصور أن النّعم الإلهية محدودة فلو حصل الآخرون عليها فهذا يعني حرمانه هو منها، أو حصوله على القليل منها في أحسن الأحوال، لذا يتمنى زوال النعم عن الآخرين كي لا ينافسه أحدٌ فيها.
3- عواقب الحسد:
يترتّب على الحسد نتائجُ سلبية كثيرة أهمها:
أولاً: يشعر الحسود بالهمّ والغمّ دائماً، وهو يعيش حالةً شديدة من الانقباض والحزن والكآبة، فهو يشعر دائماً بالضيق والاختناق، ويتألم لمجرّد سماعه بنعمةٍ تصيب غيره، وهذا ما يسلبه هدوءه واستقراره. لذا نراه يتحرّك في تعامله مع الآخرين من موقع الخصومة والعداوة والتعرّض لهم وذكر عيوبهم من أجل الانتقاص من سمعتهم ومكانتهم. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الحسود كثير الحسرات متضاعف السيئات"21.
20- الكافي، ج2، ص 307.
21- مستدرك الوسائل، ج 12، ص22.
106
87
الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)
ثانياً: الحسد يأكل دعائم الإيمان ويوهن علاقة الإنسان مع ربّه، بحيث يدفع الإنسان إلى أن يسيء الظن بالله تعالى وحكمته، لأن الحسود في أعماق قلبه معترضٌ على الله تعالى. عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تتحاسدوا فإن الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب اليابس"22.
ثالثاً: الحسد يحجب العقل عن إدراك حقائق الأمور، فالحسود لا يستطيع أن يرى نقاط القوة عند المحسود حتى ولو كان قائداً عظيماً ومصلحاً اجتماعياً كبيراً. بل يبحث دائماً عن نقاط ضعفه وعيوبه.
رابعاً: يسلب الحسد الإنسان أصدقاءه ورفاقه، ويؤدي إلى تمزق روابط الألفة والمحبة بين الناس، كما جاء عن الإمام علي عليه السلام: "الحسود لا خلّة له"23. فمن العوامل الأساسية التي تؤدي إلى هزيمة المسلمين وانتصار الكافرين عليهم، هو تشتّت كلمتهم وتخاصمهم فيما بينهم.
خامساً: يؤدي الحسد إلى تلوّث صاحبه بأنواع الذنوب الأخرى، من قبيل الظلم، والعدوان، والغيبة، والتهمة، والكذب، والبهتان وغيرها من أجل الوصول إلى مقصده. فهو رأس العيوب كما قال الإمام علي عليه السلام: "الحسد رأس العيوب"24.
4- علاج الحسد:
لعلاج الحسد طريقان، طريقٌ علمي وآخر عملي.
أ- الطريق العلمي: بأن يتأمّل الإنسان جيداً في أمرين:
الأول: في النتائج السلبية والعواقب الضارّة للحسد على المستوى الروحي والبدني. إذ من المهم أن يعلم الحسود أن هذا المرض الأخلاقي سوف يؤدّي إلى هلاكه في الدنيا والآخرة كما أخبر بذلك أمير المؤمنين عليه السلام: "ثمرة الحسد شقاء الدنيا والآخرة"25. وسيحول دون إشراق نور الإيمان في قلبه، ويسلب منه الراحة والنوم وسيحوّل حياته إلى حزنٍ وغم دائمين.
22- مستدرك الوسائل، ص17.
23- م.ن، ج 12، ص21.
24- م.ن، ص21.
25- م.ن، ص23.
107
88
الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)
الثاني: أن يتأمّل في جذور ودوافع حصول هذه الحالة في النفس. فإذا كان السبب ضعف الإيمان وعدم المعرفة الصحيحة بالله، فعليه أن يعمّق أسس المعرفة والتوحيد والإيمان بالله في قلبه. أما إذا كان السبب الشعور بعقدة الحقارة والدونيّة فعليه أن يعالجها في ظل الثقة بالله وحسن الظن به، ومن خلال الإدراك بأن الكمال الحقيقي هو في التحلّي بمكارم الأخلاق والقرب من الله وهو ميسّر لكل إنسان.
ب- الطريق العملي: وهو أن يتكلّف الحاسد بدايةً في إظهار المحبة للمحسود. فإذا كانت نفسه تدعوه لإيذائه واعتباره عدواً وتدفعه إلى هتك حرمته وكشف عيوبه للآخرين، فعليه أن يعمل خلاف ما تريده نفسه، فيثني عليه مثلاً ويذكر صفاته الإيجابية ويحسن إليه ويدعو له بالخير ويقدّمه أمامه. ومع تكرار مثل هذه الأعمال تزول آثار الحسد من النفس شيئاً فشيئاً، ويعيش الإنسان حالةً من الرضا والصفاء والسلام الروحي مع نفسه ومع الآخرين.
108
89
الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)
المفاهيم الرئيسة
1- هوى النفس هو حب النفس وميل الإنسان لاتّباع الأوامر الصادرة عنها، وهو ما يعدّ شركاً بالله لأن المُطاع هو النفس وليس الحق عز وجل.
2- علاج الهوى يكون بمخالفة الأوامر النابعة من النفس والاحتكام عوضاً عنها إلى أحكام الشريعة في كافة شؤون حياتنا.
3- الحسد آفة الدين ورأس العيوب والمفاسد، لأن صاحبها يتمنى زوال الخير عن الآخرين، وله دوافع عديدة أهمها ضعف الإيمان في النفس.
4- علاج الحسد بالتعرف إلى آثاره المهلكة أولاً، وبِتَكُّلف إظهار المحبة والخير للمحسود ثانياً.
أسئلة حول الدرس
1- ما معنى اتّباع الهوى؟ ولماذا يعدّ اتّباع الهوى شركاً؟
2- اذكر أربعة آثارٍ سلبية لاتّباع الهوى وتحدث عن واحد منها بالتفصيل.
3- كيف يتخلّص الإنسان من أهواء النفس؟
4- ما هو الفرق بين الحسد والغبطة؟
5- لماذا لا يمكن أن يجتمع الإيمان والحسد في القلب؟
6- لعلاج الحسد طريقان علمي وعملي، تحدث عنهما بإيجاز.
109
90
الدرس التاسع: الرذائل الأخلاقية (1)
للمطالعة
جذور المفاسد الأخلاقية26
سبق القول بأن الإيمان، الذي هو حظ القلب، غير العلم الذي هو حظ العقل. ثم إن جميع المفاسد الأخلاقية والعملية تنشأ عن كون القلب غافلاً عن الإيمان، وأن ما يدركه العقل عن طريق البرهان العقلي أو عن طريق أخبار الأنبياء لم يوصله إلى القلب، ولذلك فالقلب لا يعرف عنه شيئاً. إن من بين المعارف التي يصدّقها الحكماء والمتكلّمون وعامّة الناس من أهل الشرائع، ولا يشكّون فيها أبداً، هو أن ما جرى به قلم الحكيم المطلق جلّت قدرته من الوجود والكمال ومن بسط النعمة وتقسيم الآجال والأرزاق، جاء على خير تقديرٍ وأجمل نظام، وهو يتطابق كل التطابق مع المصالح التامة والنظام الكلّي لأتمّ نظامٍ متصور. ولكن يعبّر كل واحد ـ من الحكماء والمتكلمين ـ بلسانه الخاص واصطلاحه الذي يختصّ بفنه الذي اتخذه وسيلةً لتبيان هذه النعمة الإلهية والحكمة الكاملة...
وليعلم من يحسد الناس ويتمنى زوال النعمة عن الآخرين، ويحقد في قلبه على أصحاب النّعم، أنه لا إيمان له بأن اللّه عزّ وجل من باب معرفة الصالح أسبغ نعمه على أولئك، وأن إدراكنا لذلك قاصر. وليعلم أيضاً أنه لا يؤمن بعدل الله تعالى ولا يرى التقسيم عادلاً. إنك في أصول العقائد تقول إن الله عادل، وما هذا إلاّ مجرد لفظة على لسانك. إن الإيمان بالعدل يناقض الحسد. إنك إذا كنت ترى الله عادلاً، لرأيت تقسيمه عادلاً أيضاً. وقد جاء في الحديث الشريف: "يقول الله عزّ وجل: إن الحسود يشيح بوجهه عمّا قسمته بين العباد، وهو ساخط على نعمي".
إن القلب يخضع بالفطرة للقسمة العادلة، وينفر بالفطرة كذلك من العسف والجور. إن من الفطرة الإلهية الكامنة في أعماق البشر حب العدل والرضى به، وكراهة الظلم وعدم الانقياد له. فإذا رأى خلاف ذلك فليعلم أن في المقدمات نقصاً. فإذا سخط على النعمة وأعرض عن القسمة، فذلك لأنه لا يرى ذلك عدلاً، بل يراه ـ والعياذ باللّه ـ جوراً. وليس معناه أنه يرى القسمة عادلةً ثم يعرض عنها، أو أنه يرى الخطة المرسومة مطابقة للنظام الأتم والمصلحة التامة، ثم يسخط عليها بل يرى أن هذا جورٌ ومغاير للعدل. أسفاً علينا! إن إيماننا ناقص، ولم تخرج أدلّتنا العقلية من نطاق العقل لتصل إلى حدود القلب. ليس الإيمان بالقول والسماع والمطالعة والمباحثة والنقاش فحسب وإنما يتطلب أيضاً خلوص النية. إن الباحث عن الله يجده لا محالة، والذي يطلب المعارف يبحث عنها: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾27، ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾28.
الإمام الخميني قدس سره
26- الأربعون حديثاً، ص 138.
27- الاسراء، 72.
28- النور، 40.
110
91
الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)
الدرس العاشر:
الرذائل الأخلاقية (2) (التكبر - الجبن)
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
1- يفسّر كيف أن الكِبر والجبن مانعان حقيقيان للجهاد في سبيل الله.
2- يذكر أهم أسباب ودوافع كل من التكبّر والجبن.
3- يبيّن كيفية معالجة كل من الكبر والجبن.
112
92
الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)
الكبر
1- حقيقة الكبر:
الكبر حالة في النفس تدعو إلى التعاظم على الغير والتعالي عليهم، لما يراه الإنسان في نفسه من التفوّق والتقدّم على الآخرين. وهو غير العجب، لأن العجب هو الإعجاب بالذات، أما التكبّر فهو التعالي على الناس والترفّع عليهم. وهو من أخطر الأمراض الخلقية، وأشدّها فتكاً بالإنسان، وأدعاها إلى مقت الناس له وازدرائهم به ونفرتهم منه. وهي من الصفات التي يبغضها الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾1، لأنها صفة وخُلق أهل جهنم: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾2. وقد ذمّ الحق تعالى التكبر كثيراً حيث خاطب المتكبر قائلاً: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾3.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة لا يُدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة عن كبر ساعة واحدة"4.
2- علامات الإنسان المتكبّر:
غالباً ما تكون الأمراض الأخلاقية مصحوبةً بآثارٍ وعلائم تظهر على ملامح الوجه وفي الأقوال والأفعال. فمن علامات الإنسان المتكبّر أنه يتخايل في مشيته، وتراه مقطّب الجبين، عبوس الوجه، يشيح بوجهه عمّن يحدّثه ويشمئزّ من كل ما يدور من حوله، ويتحدّث كثيراً عن نفسه بعبارات فيها مبالغة، ويقطع كلام الآخرين باستمرار ولا يصغي إليهم معتبراً كلامهم
1- النحل، 23.
2- الزمر، 60.
3- لقمان، 18.
4- نهج البلاغة، خطبة287.
114
93
الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)
تافهاً وعديم الجدوى، وفي المقابل يتوقّع منهم الإصغاء لكلامه والثناء عليه. ولا يبادر إلى السلام، ويسعى ليجلس في الصفوف الأمامية في المجالس والمحافل، ويتجنّب معاشرة الفقراء والمحتاجين، ولا يساعد في قضاء حوائج الغير بل يتوقع من الجميع أن يقدّموا الخدمة له، ويهتم بارتداء أفخر الثياب واقتناء أفخم الحاجيات من الأثاث والمركوب.
3- دوافع الكبر:
للكِبر أسبابٌ ودوافع كثيرة تعود كلها إلى أن الإنسان يتصوّر لنفسه كمالاً معيناً، وبسبب حبه لذاته، ومغالاته في تقييم نفسه، وتثمين مزاياها وفضائلها، والإفراط في الزهو بها، فإنه يرى نفسه الأكمل والأفضل والأعظم والآخرين أدنى منه، فيترفّع عنهم ويحتقرهم. وقد يكون هذا الكمال المتوهّم نابعاً من الأمور الدنيوية من قبيل: الحسب والنسب الشريف، كثرة الأولاد والأنصار، الجمال، المال، القوة الجسدية، النفوذ السياسي أو الاجتماعي وغيرها.. أو من الأمور الدينية حتى، كأن يتصوّر نفسه عالماً أو عابداً، ويرى في المقابل الآخرين جاهلين لا يعلمون شيئاً عن حقائق هذا الدين، فيعتزّ بعلمه أو عبادته ويستعظم نفسه، ويحتقر غيره ويتعالى عليهم. كما ويمكن إضافة أسباب ومناشئ أخرى منها:
أ- الجهل وضعف العقل: إن جهل الإنسان بحقيقة ضعفه وعجزه، وغفلته عن حقيقة أن كلّ نعمة أو كمالٍ إنما هي بالأصل من الله تعالى، من شأنه أن يورث الكبر في القلب. فما يتوهّمه في نفسه من كمال إنما هو من الله وليس من نفسه، وهو لا يكاد يساوي شيئاً أمام الكمالات المبسوطة في عالم الوجود. ولو رخّص الكبر لأحدٍ لكان الأنبياء أحقّ به من غيرهم، كما في الحديث عن الإمام علي عليه السلام: "لو رَخَّص الله سبحانه في الكبر لأحد من الخلقِ لرخص فيه لأنبيائه لكنه كره إليهم التكبر ورضي لهم التواضع"5.
ب- رؤية ذلّة النفس: فعندما يرى المتكبّر الذلّ والنقص في نفسه فسيدفعه حاله هذا إلى الاستعلاء على الآخرين ظناً منه أنه بذلك تعلو درجته، ويحصل على ما ينقصه من كمال، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ما من رجلٍ تكبر أو تجبر إلا لذلّة وجدها في نفسه"6.
5- مستدرك الوسائل، ج12، ص29.
6- الكافي، ج2،ص 312.
115
94
الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)
ج- العجب: تؤدي رذيلة العجب إلى نشوء رذيلة الكبر المهلكة في النفس. فعندما يتوهّم الإنسان أنه يتمتّع بصفةٍ من صفات الكمال تنتابه حالةٌ من السرور فيُصاب بداء العجب. وإذا أعجب الإنسان بأعماله استصغر أعمال الآخرين، بل احتقرها واعتبرها بلا قيمة، وعندها يجد نفسه أفضل من غيره وأعظم، فيقع في شراك التكبر.
د- الحسد: قد يتكبّر الإنسان الفاقد للكمال على من هو واجدٌ له، كأن يتكبّر الفقير على الغني، والجاهل على العالم. لأن الذي يفتقر إلى كمالٍ ما يراه موجوداً عند غيره، يمكن أن يدفعه حسده إلى التكبّر عليه، بهدف إذلاله وإهانته.
4- مفاسد الكبر:
من الواضح أن التكبّر من الأمراض الأخلاقية الخطيرة والشائعة والتي لها آثارٌ مدمّرة على روح الإنسان ومعتقداته وأفكاره وعلى مصيره أيضاً، ومن مساوئ هذه السجيّة:
أ- الكفر: قد يؤدي التكبّر بصاحبه إلى الكفر بالله واليوم الآخر: ﴿فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾7.
ب- الحرمان من الجنة: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر"8.
ج- المذلّة يوم القيامة: فمن وصايا الإمام الصادق لأصحابه: "إياكم والعظمة والكبر، فإن الكبر رداء الله عزَّ وجلَّ، فمن نازع الله رداءه قصمه الله وأذلّه يوم القيامة"9.
د- دخول النار: فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إن في جهنم لوادياً للمتكبرين يقال له (سقر)، شكى إلى الله عز وجل شدة حرّه وسأله أن يأذن له أن يتنفس فتنفس فأحرق جهنم"10.
هـ- الحرمان من العلم والمعرفة: فعن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "يا هشام إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا
7- النحل، 22.
8- وسائل الشيعة، ج17، ص7.
9- م.ن، ج15، ص376.
10- الكافي، ج2،ص310.
116
95
الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)
تعمر في قلب المتكبر الجبار لأَن الله تعالى جعل التواضع آلة العقل وجعل التكبر من آلة الجهل"11.
و- إرتكاب المعاصي: قال الإمام الكاظم عليه السلام: "إن الفرح والمرح والخيلاء كل ذلك في الشرك، والعمل في الأرض بالمعصية"12. وعن الإمام علي عليه السلام: "التكبر يظهر الرذيلة"13.
المقت لصاحبه ونزول النقم عليه: فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إياك والكبر فإنه داعية المقت، ومن بابه تدخل النقم على صاحبه، وما أقل مُقامَهُ عنده وأَسرع زواله عنه"14.
5- علاج الكبر:
إذا أراد المرء أن يعالج نفسه من داء الكبر فعليه اليقظة من الغفلة، ومن ثم تطهير القلب بنار الندامة، وهي بمثابة الخطوة الأولى لاستئصال هذه الرذيلة من جذورها، وأما الدواء والعلاج فهو على قسمين:
أ- العلاج العلمي: وهو بأن يتفكّر الإنسان المتكبّر بحال نفسه، وبمفاسد الكبر وآثاره السلبية. فمن المفيد للتخلّص من آفة الكبر أن يتفكّر الإنسان أولاً في حقيقة نفسه وفقره. كيف خُلق من نطفةٍ مهينة يستقذرها الناس، ومن ثم أصبح طفلاً ضعيفاً لا يقوى على شيء، وحتى عندما أصبح بالغاً وقوياً فإن قواه ليست تحت تصرفه، فلا يمكنه المحافظة على شبابه وجماله وصحته، أو دفع المرض أو البلايا عنه. وتستمرّ مسيرته إلى أن يبلغ سن الشيخوخة فيكون ضعيفاً عاجزاً لا يستطيع السير خطواتٍ معدودة بمفرده. إلى أن توافيه المنيّة فيصبح جيفةً نتنة رائحتها تزكم الأنوف وثرواته يتناقلها الورثة. عن الإمام الباقر عليه السلام: "عجباً للمختال الفخور وإنما خلق من نطفة ثم جيفة وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يصنع به"15. وإذا ما انتقل إلى العالم الآخر ولم يتخلص من رذيلة الكبر واستحكمت به آثارها المهلكة، فإنه سيلاقي
11- مستدرك الوسائل، ج11، ص299.
12- بحار الأنوار، ج70،ص 232.
13- غرر الحكم، 310.
14- مستدرك الوسائل، ج12،ص30 .
15- بحار الأنوار، ج70،ص229.
117
96
الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)
من أنواع العذاب ما لا يمكن وصفه.
ب- العلاج العملي: بعد أن يرى الإنسان خطورة بقاء هذه الرذيلة الأخلاقية على إيمانه ومصيره في الآخرة، لا بد له من السعي بجدّ للتخلّص منها. وأفضل سبيلٍ هو أن يعمل بما يضادّها. أي كلّما دعته نفسه ليتكبر على الآخرين، يقمعها ويخالف أوامرها بأن يتواضع لهم، فعن الإمام علي عليه السلام: "ضادوا الكبر بالتواضع"16. فإذا رأى أن سبب تكبّره ارتداء الملابس الفاخرة أو اقتناء الحاجيات الفخمة، فعليه أن يبادر إلى ارتداء الملابس البسيطة، وإن لاحظ في نفسه نفوراً من مجالسة الفقراء، فيصرّ على مجالستهم ومساعدتهم. وإن كان يحب أن يتقدم القوم، فليعمد إلى تقديمهم على نفسه، وإن كان لا يصغي إلى كلام الآخرين، أو لا يقضي حوائجه بنفسه دون الاعتماد على الآخرين، فعليه العمل بخلاف ذلك. وإذا حدّثته نفسه بالتعالي على غيره والسعي لإذلالهم أو الاعتداء على حقوقهم، فليتذكر ما أعدّه الله من عذابٍ للمتكبّرين الظالمين: ﴿قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾17.
الجبن
1- حقيقة الجبن:
من الرذائل الأخلاقية صفة الجبن وهو الخوف غير المنطقي والتي تقابل الشجاعة والجرأة، ففي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً"18. وهي صفة تورث الإنسان المذلة والمهانة وسوء العيش، وتحطّ من منزلة صاحبها، وتؤدي إلى هدر طاقاته، وتفضي إلى أن يتسلط عدوّه عليه. والمجتمع الذي يتّصف أفراده بالجبن يكون مجتمعاً خنوعاً ذليلاً خاضعاً لسياسة الظالمين غير قادرٍ على مواجهة التحديات الكبرى وتقديم الحلول الناجعة، ولا يُرجى له الرقي والتكامل في كافة مجالات الحياة، ويكون بعيداً عن تحقيق الأهداف الإلهية الكبرى من قبيل بسط الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. والمراد بالجبن هنا هو الخوف غير المنطقي من المواقف أو المظاهر
16- الكافي، ج2، ص329.
17- الزمر، 72.
18- بحار الانوار، ج72،ص301.
118
97
الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)
التي لا تستبطن خطراً حقيقياً، بل يتصورها الإنسان الجبان ويتوهم أنها أمور خطيرة، مع أنها ليست كذلك. وهذا بخلاف الخوف من الأمور التي تتضمن خطراً واقعياً على حياة الإنسان أو أنها يمكن أن تسبب الضرر والأذى له، فإن الاندفاع نحو هذا النوع من المخاطر دون تفكيرٍ ورويّة يوقع الإنسان في مفسدة أخرى لا تقل خطراً عن الجبن وهي التهور، وهو القائل في كتابه العزيز: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾19.
2- دوافع الجبن:
أ- ضعف الإيمان وسوء الظن بالله: لأن الشخص الذي يعيش الإيمان بالله والثقة به وينطلق في حياته من موقع التوكل على الله والتصديق بوعده، لن يذوق طعم الذلّة والمهانة والضعف، ولن يتردد أو يخاف أمام الحوادث الصعبة، ولن يتزلزل أمام التحديات، ولن يهاب أحداً من الأعداء لأنه يرى أن قدراتهم محدودة ولا تعادل شيئاً أمام قدرة الله المطلقة. فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله"20.
ب- ضعف النفس: من أهم خصائص الإنسان الجبان ضعف نفسه وعجزها عن مواجهة الصعاب والتحديات المختلفة، لذا نراه يلجأ دائماً إلى التذرع بالأعذار الواهية هرباً من المسؤوليات أو الواجبات المطلوبة منه. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "شدة الجبن من عجز النفس وضعف اليقين"21.
ج- الجهل وقلة المعرفة: حيث غالباً ما يسبب للإنسان الخوف الموهوم، كما يلاحظ في حالة خوف الإنسان من الموارد التي لا يعرفها جيداً. أما عندما تتضح له الصورة جيداً فإن حالة الخوف ستذهب من نفسه تدريجياً.
د- طلب الراحة والعافية: وهو من أحد الأسباب التي تكون منشأ للخوف غير المبرر، لأن خوض أي معتركٍ يتطلب من الإنسان أن يُقحم نفسه في دوامة من المشاكل والصعاب، ما يعني أن يتخلى عن حظوظه من الراحة.
19- البقرة، 195.
20- نهج البلاغة، خطبة 53.
21- غرر الحكم، ص 263.
119
98
الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)
هـ- الآثار الناجمة عن خوض تجاربٍ مؤلمة: فالحوادث المرّة غالباً ما تترك في نفس الإنسان حالةً من الخوف والرعب لأنها تترسخ في ذهنه وتحول دون إقدامه على خوض تجارب جديدة.
و- الإفراط في توخي الحذر: إن الإفراط في سلوك طريق الحذر من شأنه أن يورث الخوف أيضاً لأنه يدفع بالإنسان إلى توقّي كل ما يحتمل فيه الخطر، فيعيش التردد والخوف من الإقدام دائماً.
3- علاج الجبن:
إنّ إحدى الطرق لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية كما في سائر الرذائل الأخرى هي التفكر في آثارها السلبية وعواقبها الوخيمة على صعيد الفرد والمجتمع. فعندما يتعرف الإنسان إلى الآثار السلبية للخوف الموهوم وما يترتب عليه من مذلّة وحقارة وتخلّف وحرمان، فإنه سيتحرك حتماً لإزالة هذه الرذيلة من نفسه. أما الطريق العملي لعلاج هذه الآفة فهو بالسعي إلى قطع كل دوافع وجذور هذه الرذيلة من النفس. فعندما تزول السحب المظلمة لسوء الظن بالله من سماء القلب، وتشرق شمس الإيمان والتوكل على الله في فضاء الروح الإنسانية، فإن ظلمات الخوف الموهوم ستزول بسرعة من النفس. ومن الطرق الأخرى المفيدة في العلاج أيضاً، هي أن يورّط الإنسان نفسه في الميادين المثيرة للخوف والوحشة، ويعمل على إقحام نفسه فيها مرات عديدة، ومع تكرار التجربة سيزول الخوف من النفس حتماً. ونجد هذا المعنى بصورة جميلة في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإن شِدَّة توَقّيه أعظم مما تخاف منه"22.
22- بحار الأنوار، ج 68، ص362
120
99
الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)
المفاهيم الرئيسة
1- التكبر هو الاستعلاء على الناس، لما يراه الإنسان في نفسه من التفوق والتقدم عليهم. ودوافعه الجهل وضعف العقل، والعجب بالنفس، وحسد الآخرين.
2- علاج الكبر أولاً بالتفكر في مساوئه، وبحمل النفس وإكراهها على التواضع للآخرين.
3- الجبن من الصفات التي تقابل الشجاعة وهي صفة تورث صاحبها المذلّة والمهانة وتسلط عدوه عليه.
4- علاج الجبن بقطع كل دوافع وجذور هذه الرذيلة من النفس، وبإقحامها في المواقف الخطيرة والموحشة حتى تتعوّد.
أسئلة حول الدرس
1- لماذا لا يكون المؤمن جباناً؟
2- هل مطلق الخوف يعدّ جبناً؟ ولماذا؟
3- ما هو علاج الجبن؟
4- ما هي أسباب التكبر ودوافعه الأساسية؟
5- ما هو الحل العملي لمشكلة التكبر؟
121
100
الدرس العاشر: الرذائل الأخلاقية (2)
للمطالعة
موعظة23
لا بُدَّ من المجاهدة الخالصة الصادقة وبها يمكن إصلاح النفس. إن جميع الصفات النفسانية قابلة للإصلاح، إلاّ أن الأمر في البداية يتطلب بعض العناء، ولكن ما أن يضع قدمه على طريق الإصلاح حتى يسهل عليه الأمر. إنما المهم هو أن يشرع في التفكير في تطهير نفسه وإصلاحها، والاستيقاظ من النوم.
إن المرحلة الأولى من مراحل الإنسانية هي "اليقظة" وهي الاستيقاظ من نوم الغفلة، والصحوة من سكر الطبيعة، والإدراك أن الإنسان مسافرٌ، وأنه لا بُدَّ للمسافر من زادٍ وراحلة. وزاد الإنسان خصاله، وراحلته في هذه المرحلة الخطيرة المخيفة، وفي هذه الطريق الضيقة، على الصراط الذي هو أحدُّ من السيف وأدقّ من الشعرة، هي همّة الرجال وعزمهم. والنور الذي ينير ظلام هذا الطريق، هو نور الإيمان والخصال الحميدة. فإذا تقاعس الإنسان ووهنت همّته أخفق في العبور، وانكبّ على وجهه في النار، وساوى تراب الذل، وانقلب في هاوية الهلاك. فمن لم يستطع اجتياز هذا الصراط لا يستطيع اجتياز صراط يوم القيامة أيضاً. فيا أيها العزيز، اشدد عزيمتك، ومزّق عن نفسك سجف الجهل، وانج بنفسك من هذه الورطة المهلكة! كان إمام المتقين وسالك طريق الحقيقة ينادي في المسجد بأعلى صوته حتى يسمعه الجيران: "تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحيلِ"! وما زادٌ ينفعك سوى الكمالات النفسانية، وتقوى القلب، والأعمال الصالحة، وصفاء الباطن، وخلوص النية من كل عيب وغش.
الإمام الخميني قدس سره
23- الأربعون حديثاً، ص 124.
122
101
الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)
الدرس الحادي عشر:
الرذائل الأخلاقية (3) (الغيبة - النميمة)
1- يبيّن حقيقة كلّ من الغيبة والنميمة والفرق بينهما.
2- يذكر دوافع الغيبة والنميمة وأهم آثارهما السلبية على صعيد الفرد والمجتمع.
3- يبيّن العلاج المناسب للغيبة والنميمة.
124
102
الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)
الغيبة
1- حقيقة الغيبة:
الغيبة هي ذكر المؤمن بما يكره، سواء كان ذلك في خَلقه أم خُلُقه أم إحدى مختصاته. وليست الغيبة محصورة باللسان، بل يمكن أن تشمل كل ما يشعر بانتقاص الغير، قولاً أو عملاً، كتابةً أو تصريحاً. وقد عرّفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: "هل تدرون ما الغيبة؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره"1. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الغيبة أن تقول في أخيك ما ستر الله عليه وأما الأمر الظاهر فيه مثل الحدة والعجلة فلا"2. وهي من أخسّ الأفعال وأخطر الآثام، وكفاها ذمّاً أن الله تعالى ذمّها في كتابه الكريم وشبّه صاحبها بآكل لحم الميتة حيث قال: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾3، وأنّه ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في المجتمع وبين الناس، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز وجل عنهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾"4.
لذا من الحريّ بالمؤمن العاقل أن يترفّع عن هذه السجيّة وعن مجاراة المغتابين وصحبتهم، والاستماع إليهم، لأن المستمع للغيبة صنوّ المستغيب وشريكه في الإثم أيضاً، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "السامع للغيبة أحد المغتابين"5. ولا يخرج المستمع للغيبة عن إثمها إلا أن ينكر على مرتكبها بلسانه، أو يقطع كلامه بكلامٍ آخر، أو يقوم من مجلسه، وإن لم يقدر على كل ذلك فعليه بالحد الأدنى أن ينكر ذلك بقلبه.
1- بحار الأنوار، ج72، ص222.
2- الكافي، ج2، ص357.
3- الحجرات، 12.
4- الكافي، ج2،ص357.
5- مستدرك الوسائل، ج9، ص133.
126
103
الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)
2- دوافع الغيبة:
إن للغيبة عواملَ كثيرةً ودوافع متعددة يكاد كل واحد منها يكون سبباً كافياً لارتكابها. فعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "أصل الغيبة تتنوع بعشرة أنواع: شفاء غيظ، ومساعدة قوم، وتهمة، وتصديق خبر بلا كشفه، وسوء ظن، وحسد، وسخرية، وتعجب، وتبرم، وتزين. فإن أردت السلامة فاذكر الخالق لا المخلوق، فيصير ذلك مكان الغيبة عِبرة، ومكان الإثم ثواباً"6. إذاً، فالحسد والأنانية وحب النفس، والغرور والتكبر، والعجب بالنفس، ونصرة العشيرة ومجاملة الأصحاب ومجاراتهم دون وجه حق، والحقد، والتشفي وإطفاء سورة الغضب، وسوء الظن بالآخرين، والسخرية والاستهزاء بهم، وغير ذلك من أمثال هذه الدوافع النفسية كلها عوامل تؤدي بالإنسان إلى الوقوع في هذه الرذيلة المهلكة.
3- العواقب السلبية للغيبة:
للغيبة آثارٌ سلبية ونتائج مدمّرة كثيرة على الفرد والمجتمع كونها سبباً أساسياً في نشر سموم البغض والفرقة في صفوف المسلمين فتعكّر صفو المحبة والألفة فيما بينهم، وتفصم عرى الأخوّة والصداقة، وتقطع وشائج القرابة. هذا بالإضافة إلى العواقب المعنوية الوخيمة، والعقوبات الإلهية المترتّبة على هذه المعصية، ويمكن الإشارة إليها باختصار:
أ- الغيبة تأكل الحسنات: فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الغيبة حرام على كل مسلم، وانها لتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"7.
ب- انتقال حسنات المستغيب إلى المستغاب: فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يُؤتَى بأحدكم يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته فيقول: إلهي هذا كتابي فإني لا أرى فيه طاعتي، فيقول له: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس، ثم يؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه فيرى فيها طاعات كثيرة، فيقول: إلهِي ما هذا كتابي فإني ما عملت هذه الطاعات، فيقول: إن فلاناً اغتابك فدفعت حسناته إليك"8.
6- بحار الأنوار، ج72، ص257.
7- كشف الريبة، ص9.
8- مستدرك الوسائل، ج121، ص 9.
127
104
الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)
ج- خروج المستغيب من ولاية الله ودخوله في ولاية الشيطان: فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروّته ليسقط عن أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان"9.
د- الإصرار على الغيبة يؤدّي إلى دخول النار: روي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: "من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل النار، ومن مات مصراً عليها فهو أوّل من يدخل النار"10.
هـ- الغيبة سببٌ لعذاب القبر: فعن جابر قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسير فأتى على قبرين يعذّب صاحبهما، فقال:أما إنهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبيرة، أما أحدهما فكان يغتاب الناس..."11.
و- الغيبة سببٌ لفساد الدين: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه"12.
ز- الغيبة تؤدي بصاحبها إلى الفضيحة: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً قائلاً: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته"13.
ح- لا يغفر للمستغيب حتى يعفو عنه المستغاب: فعن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، إن الرجل يزني ويتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه"14.
9- الكافي، ج2، ص358.
10- مستدرك الوسائل، ج9،ص126.
11- م.ن، ص120.
12- الكافي، ج2،ص356.
13- منية المريد، ص327.
14- مستدرك الوسائل، ج9،ص119.
128
105
الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)
ط- الغيبة سببٌ في عدم قبول العبادات: فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله تعالى صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة إلا أن يغفر له صاحبه"15.
4- مستثنيات الغيبة:
الغيبة المحرّمة هي ما قصد بها انتقاص المؤمن وإذلاله، أما إن لم يكن القصد ذلك وتوقّف عليها غرضٌ وجيه فلا حرمة فيها. ومن هذه المستثنيات:
أ- شكاية المتظلّم لإحقاق حقه ورفع الظلامة عنه، وهو قوله تعالى: ﴿لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾16.
ب- في موارد النهي عن المنكر، التي يمكن أن يؤدي السكوت عنها إلى الوقوع في مشاكل أكبر من مفسدة الغيبة نفسها.
ج- عند المشورة ونصح المستشير في أمرٍ كالتزويج، أو لتحذير المؤمن من صحبة فاسق أو مضلّ لحفظه من شرّهما، في هذه الحالة يحق للمستشار أن يذكر مثالب الشخص الآخر.
د- في مورد الشهادة عندما يطلب من الإنسان أن يدلي بشهادته في موقع التحكيم مثلاً أو ما شابه.
هـ- في الموارد التي يكون فيها الإنسان متجاهراً بالفسق، كشرب الخمر ولعب القمار بشرط الاقتصار على ما يتجاهر به إذ ليس لفاسقٍ غيبة.
5- علاج الغيبة:
إن علاج هذه الآفة الخطيرة يشبه علاج سائر الأمراض الأخلاقية، والذي يمكن أن نختصره بأمرين أساسيين هما العلم النافع والعمل الصالح:
أما العلم: فهو أن يتفكّر الإنسان في الآثار الشّنيعة والعواقب الوخيمة المترتّبة على هذه الرذيلة، من التعرض لسخط الله والخروج من ولايته، وذهاب حسناته، والعذاب الأليم الذي ينتظره وغيرها من الآثار التي ذكرناها مفصلاً. لأن الإنسان العاقل متى ما أدرك عواقب الغيبة فسوف يرتدع عنها حتماً ولن يجرؤ على اقترافها. كما أنه من المهم أيضاً على المبتلى بهذه الآفة أن يبحث في أعماق نفسه عن جذورها وأسبابها ليتمكّن من علاجها. وبما أن دوافع الغيبة متعددة عليه أن يبحث عن أيها هو السبب والدافع: هل هو الحسد، أم الحقد، أم
15- م.ن، ص 122.
16- النساء، 148.
129
106
الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)
الأنانية، أو التكبر مثلاً وأمثال ذلك، لأنه ما دامت الدوافع والأسباب موجودةً فلن يتمكّن من إزالة هذه الرذيلة والتخلّص منها.
أما العمل: فمن خلال ترويض النفس وتهذيبها وحملها على صون اللسان والكفّ عن الغيبة، من خلال مخالفة النفس وعدم الانصياع لأهوائها لأن علاج كل علّة بمضادّة سببها. فكلما حملته نفسه على الإتيان بهذه الموبقة خالفها مذكراً نفسه بعواقبها، ومشتغلاً بعيوبه عن عيوب الآخرين، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس"17.
النميمة
1- حقيقة النميمة:
النميمة هي نقل الأحاديث التي يكره الناس إفشاءها ونقلها من شخصٍ إلى آخر بهدف الإيقاع بين الناس وإيجاد الاختلاف وإثارة العداوة والبغضاء فيما بينهم. وهي من الذنوب الكبيرة وأقبح الصفات الأخلاقية سواء كان الكشف بالقول أم بالكتابة أم بالرمز والإيماء، وسواء كان ذلك عيباً ونقصاً على المنقول أم لم يكن. بمعنى آخر هي إفشاء السر وهتك الستر عما يكره الإنسان كشفه بهدف التفريق بين الناس والأحبة. وقد حذّر الله تعالى في كتابه الكريم من هذا الصنف من الناس الذي يمشي بالنميمة فقال عزّ اسمه: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ *هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ *مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾18. وعدّهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرار القوم فقال: "ألا أنبئكم بشراركم؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال: المشاؤون بالنميمة المفرّقون بين الأحبة الباغون للبُرآء المعايبِ"19. فالنمّام يتألم لما يراه من خير لدى الآخرين، أو لما يجد من المحبة والألفة والتكاتف بين الناس فيسعى لإفساد ذات البين والتفريق، لإيقاع العداوة والحقد بينهم، مدفوعاً بعقدة الحقارة والذلة.
17- مستدرك الوسائل، ج1،ص116.
18- القلم، 10 - 13.
19- الكافي، ج2، ص 369.
130
107
الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)
2- الآثار السلبية للنميمة:
تجمع النميمة بين رذيلتين خطيرتين وهما: الغيبة والنَمّ. فكل نميمةٍ غيبة وليست كل غيبة نميمة، فمساوئها كالغيبة بل أشد لاشتمالها على إذاعة السر، وهتك المحكي عنه، والوقيعة به. ومن أهم آثارها:
أ- نشر الفساد في المجتمع: لأن النميمة من العوامل المهمة في إيجاد التفرقة وسوء الظن بين أفراد المجتمع وتفضي إلى العدواة وتعميق حالة الحقد والضغينة بين الناس، لذا تعدّ الروايات الشريفة الشخص النمام أشرّ أفراد المجتمع وأسوأهم. فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتُبعد عن الله والناس"20. ويمكن أن يصل الأمر بالنميمة إلى سفك الدماء وهتك الأعراض، فعن الإمامالصادق عليه السلام قال: "إن من أكبر السحر النميمة، يفرق بها بين المتحابّين، ويجلب العدواة على المتصافين، ويسفك بها الدماء، ويهدم الدور، ويكشف المستور، والنمام أشر من وطِئَ على الأرض بقدم"21.
ب- الحرمان من الجنة: فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "محرمة الجنة على القتّاتين المشّاءين بالنميمة"22. والحرمان من الجنة يعني بطبيعة الحال النار والعذاب الأليم وهذا هو حال النمّام في يوم القيامة، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أيما رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها بريء ليشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله عز وجل أن يدينه بها يوم القيامة في النار"23.
ج- البغض الإلهي: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أحبّكم إلى الله أحاسِنُكم أخلاقاً الموطَّئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون وأبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة المفرّقون بين الإخوان الملتمسون للبرآء العثرات"24.
20- غرر الحكم، ص 222.
21- بحار الأنوار، ج60، ص21.
22- الكافي، ج2،ص369.
23- كشف الريبة، ص42.
24- بحار الأنوار، ج68،ص 383.
131
108
الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)
3- دوافع النميمة:
دوافع النميمة عديدة ومتنوعة نذكر بعضها وهي:
أ- الحسد: لأن الشخص الحسود لا يمكنه أن يتحمل سعادة الآخرين وراحتهم والمودة فيما بينهم. لذلك يسعى من خلال النميمة إلى زرع بذور الفرقة والعداوة وسوء الظن بين هؤلاء الناس.
ب- حب الدنيا: لأن المحب للدنيا والعاشق لها يرى أن مكانته وكسبه وعمله الاقتصادي والاجتماعي يتوقف على تقوية عناصر الشرّ والكراهية بين أفراد المجتمع الواحد.
ج- النفاق: يعدّ عاملاً آخر من عوامل النميمة، لأن جُلّ عمل المنافق هو إيجاد الفساد والفتنة بأي وسيلة كانت، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "علامة النفاق الحث على النميمة"25.
4- علاج النميمة:
أغلب المفاسد الأخلاقية ناشئة من ضعف الإيمان، فكلما سعى الشخص إلى تقوية دعائم الإيمان بالله واليوم الآخر فإن هذه الرذائل سوف تتلاشى وتزول تدريجياً والنميمة واحدة منها. ومن جهة أخرى التأمل في الآثار السلبية الكثيرة للنميمة على صعيد الفرد والمجتمع وما تورثه من دمارٍ وخراب من شأنه أيضاً أن يردع الإنسان ويصدّه عن هذه الرذيلة. كما وأن لعشرة المؤمنين والصالحين الأثر المهم والبالغ لأن الشخص المبتلى بهذا المرض إذا رأى أن من يعاشرهم لا يعتنون بكلامه ولا يهتمّون بأقواله بل وقد يطردونه من مجالسهم فإنه سيتوقف بسرعة عن عمله هذا. ويبقى أن على الإنسان المبتلى أن يجاهد نفسه ويخالفها كلما سعت في هذه المعصية لأنه الطريق الوحيد للتخلص من هذا المرض، ومن دون المجاهدة والمخالفة الدائمة للنفس لن يتمكن من تطهير باطنه أبداً.
25- م.ن، ج69،ص207.
132
109
الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)
المفاهيم الرئيسة
1- الغيبة هي ذكر المؤمن بما يكره، ولها آثار سلبية ونتائج مدمّرة كثيرة على الفرد والمجتمع.
2- للغيبة دوافع عديدة يكاد كل واحد منها أن يكون سبباً كافياً لارتكابها منها؛ الحسد، والتكبر، والعجب وغيرها...
3- للغيبة عواقب وخيمة عديدة منها؛ أنها تحبط العمل، وتؤدي إلى النار، وسبب فساد الدين.
4- علاج الغيبة بالتفكر بآثارها الشنيعة على النفس والمجتمع، وبمخالفة النفس كلما همّت بالغيبة.
5- النميمة تشبه الغيبة والفرق أن النمّام لديه هدف وهو إيقاع الفرقة والاختلاف بين الناس.
أسئلة حول الدرس
1- عرّف الغيبة وبيّن معناها الدقيق.
2- اذكر بعض الآثار السلبية للغيبة على الفرد والمجتمع.
3- للغيبة مستثنيات تحدث عنها بإيجاز.
4- بيّن العلاج العلمي والعملي للغيبة.
5- ما هو الفرق بين الغيبة والنميمة؟
133
110
الدرس الحادي عشر: الرذائل الأخلاقية (3)
للمطالعة
الهدف الإلهي الكبير26
إن من الأهداف الكبيرة للشرائع الإلهية والأنبياء العظام سلام الله عليهم توحيد الكلمة وتوحيد العقيدة والاتفاق في الأمور الهامة، والحدّ من ظلم الجائرين الباعث على فساد بني الإنسان ودمار المدينة الفاضلة.
ولا يتحقق هذا الهدف الكبير المصلح للمجتمع والفرد إلا في ظلّ وحدة النفوس واتّحاد الهمم والتآلف والتآخي، والصداقة القلبية والصفاء الباطني والظاهري، وتربية أفراد المجتمع على نمطٍ يساهم كلهم في بناء شخص واحد، يحوّل المجتمع إلى فرد، ويجعل الأفراد بمنزلة الأعضاء والأجزاء لذلك الفرد وتدار كافة الجهود والمساعي حول الهدف الإلهي الكبير...
ومن المعلوم أن كل ما يبعث على ازدياد هذه الصفات، يكون محبوباً ومرغوباً فيه وكل ما ينقض هذه الأخوة ويفرط عقد التواصل ويدفع نحو التمزّق، يعتبر مبغوضاً عند صاحب الشريعة ومناقضاً لأهدافه الكبيرة.
ومن الواضح لدى الجميع أن هذه المعصية الكبيرة الخطيرة - الغيبة - إذا أشيعت في المجتمع، أصبحت سبباً للضغينة والحسد والعداوة والبغض وترسيخ جذور الفساد في المجتمع، وغرس شجرة النفاق فيه، وضعضعة وحدة المجتمع وتضامنه، ووهن أساس الديانة، وفي النهاية تزداد في المجتمع القبائح والفساد.
الإمام الخميني قدس سره
26- الأربعون حديثاً، ص342.
134
111
الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)
الدرس الثاني عشر
الفضائل الأخلاقية (1) (الصدق - العدل)
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
1- يتعرّف إلى صفتي الصدق والعدل وبيان معناهما.
2- يبيّن أهمية الصدق والعدل وأنواعهما.
136
112
الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)
تمهيد
لا بد لكل إنسانٍ تائقٍ إلى الكمال والسعادة الحقيقية أن يبحث عنهما أولاً في نفسه، فإذا وجدهما ارتاحت نفسه واطمأنت وعاشت السلام الذي تنشده وتبحث عنه على الدوام. وكمال كل نفس وقيمتها ما تختزنه من الفضائل الأخلاقية والصفات الحميدة. فكلما تخلقت هذه النفس بالصفات الحميدة والأخلاق الإلهية كلما صفت وطهرت وتنوّرت، وبالتالي ارتقت في مراتب الكمال الإنساني وتدرّجت في المقامات المعنوية الرفيعة. فصفات النفس هي التي تحدد جوهر ومعدن هذه النفس، وترسم للإنسان صورة مصيره بعد أن يغادر هذا العالم وليس في جعبته سوى صورته الخلقية وما عمله من أعمالٍ في هذه الدنيا. لذا من منطلق الأهمية التي تشكّلها هذه الصفات والأخلاق لا بد للإنسان التائق إلى لقاء ربه من أن يجهد نفسه في التعرف إلى هذه الفضائل ويسعى للتخلق بها. وسنحاول في هذه الفصول أن نسلّط الضوء على بعض هذه الشمائل ونكمل ما سبق وبدأنا به عندما تحدثنا عن صفات وخصال المجاهدين الأساسية، ونذكر منها:
الصدق
الصدق هو مطابقة القول للواقع، وهو من أشرف الفضائل النفسية والمزايا الخلقية، لخصائصه الجليلة، وآثاره الهامة في حياة الفرد والمجتمع. فهو أساس الإيمان، ورمز استقامة المجتمع وصلاحه، وسبب كل نجاح ونجاة، لذلك مجّدته الشريعة الإسلامية وحرّضت عليه، قرآناً وسنة.
1- فضيلة الصدق:
أ- في القرآن:
قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ
138
113
الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)
الْمُتَّقُونَ *لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ﴾1.
وقال عز اسمه: ﴿قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾2.
وقال عزّ وجلّ في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾3.
ب- في الروايات:
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أَربع من كنَّ فيه كمل إيمانه وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك. قال: وهو الصدق وأَداء الأمانة والحياء وحسن الخلقِ"4.
وعن عمرو بن أَبي المقدام قال: قال لي الإمام الباقر عليه السلام في أَوَّل دخْلَةٍ دخلت عليه: "تعلَّموا الصدق قبل الحديث"5.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوصيك يا عليّ في نفسك بخصال، اللَّهم أَعنه، الأولى الصِّدق ولا يخرج من فيك كذبة أَبداً" 6.
وعن أَبي جعفر ابن محمّد عليه السلام قال: "أَحسن من الصدقِ قائله وخيرٌ من الخير فاعله"7.
وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "الصدق يهدي إلى البر والبر يدعو إلى الجنة وما يزال أَحدكم يصدق حتى لا يبقى في قلبه موضع إبرة من كذب حتى يكون عند الله صادقاً"8.
جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا رسول الله ما عمل أَهل الجنة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الصِّدق. إذا صدق العبد برَّ وإذا برَّ آمن وإذا آمن دخل الجنة"9.
1- الزمر، 33 - 34.
2- المائدة، 119.
3- التوبة، 119.
4- الكافي، ج2، ص99.
5- وسائل الشيعة، ج12،ص 163.
6- م.ن.
7- م.ن، ج16،ص292.
8- م.ن، ج8،ص455.
9- مستدرك الوسائل، ج8، ص457.
139
114
الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)
وعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "قال تحرَّوا الصدق فإن رأَيتم فيه الهلكة فإن فيه النجاة"10.
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أَيّ الأخلاقِ أَفضل؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الجود والصدق"11.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من صدق لسانه زكى عمله"12.
2- أهمية الصدق:
إن من ضرورات الحياة الاجتماعية ومقوّماتها الأصلية شيوع التفاهم والتآزر بين أفراد المجتمع الواحد، ليتمكّنوا من النهوض بأعباء الحياة، وتحقيق غاياتها وأهدافها، لينعموا بحياةٍ هانئة وكريمة، ملؤها المودة والسلام. وهذا لا يتحقق إلا بالتفاهم، والتعاون الوثيق وتبادل الثقة والائتمان بين الأفراد. ومن البديهي أن اللسان هو أحد أهم أدوات التفاهم والتواصل بين البشر، والترجمان العملي لأفكارهم وما يدور في خلدهم، فهو يلعب دوراً خطيراً في حياة المجتمع والأفراد. وعلى صدق اللسان وكذبه تبنى سعادة المجتمع وشقاؤه، فإن كان اللسان صادق القول، وأميناً في الشهادة والنقل، كان عاملاً مهماً في إرساء السلام في المجتمع، وزيادة أواصر التفاهم والتعاضد بين أفراده، وكان رائد خيرٍ ورسول محبة بين البشر. وأما إن كان متصفاً بالخداع والتزوير، والخيانة والكذب، غدا رائد شر، ومدعاةً للتباغض بين أفراد المجتمع، وسبباً لخرابه وفساده. لذا كان الصدق من ضرورات الحياة الاجتماعية والفردية لما له من انعكاساتٍ مباشرة على كل منها، فهو نظام عقد المجتمع السعيد والمسالم، ودليل استقامة أفراده والمؤكد على صحة وقوة إيمانهم. لذا كان التأكيد والحثّ الشديد في الآيات والروايات عليه، لأنه باختصار العمود الفقري لمجتمعٍ معافى وسليم من الأحقاد والتنازع، وإيمان خالص وصادق بالله.
3- أقسام الصدق:
للصدق صورٌ وأقسامٌ أبرزها:
الصدق في الأقوال: وهو الإخبار عن الشيء على حقيقته من غير تحريفٍ أو تزوير.
الصدق في الأفعال: وهو مطابقة القول الفعل، كالبر بالقسم والوفاء بالعهد.
الصدق في العزم: وهو التصميم على أفعال الخير، فإن قام بإنجازها كان صادق العزم.
10- م.ن.
11- م.ن، ص458.
12- الكافي، ج2،ص 104.
140
115
الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)
الصدق في النية: وهو تطهير النية من شوائب الرياء وغيرها من الآفات، والإخلاص لله تعالى في القصد بحيث لا يكون الدافع ولا القصد سوى رضا الله والتقرب إليه.
العدل
العدل ضد الظلم، وهو مناعةٌ تردع صاحبها عن الظلم وتحفّزه على أداء الحقوق والواجبات. وهو سيد الفضائل وقوام المجتمع المتحضّر، والارتباط العميق والصحيح بالحق تعالى، وسبيل السعادة والسلام. وقد اهتمّ الإسلام اهتماماً شديداً بهذه الفضيلة وأمر بها في القرآن والسنّة:
1- فضيلة العدل:
أ- في القرآن:
قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾13.
وقال عزّ اسمه: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾14.
وقال عزّ وجلّ أيضاً: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾15.
وقال عزّ وجلّ أيضاً: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾16.
ب- في الروايات:
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال أَمير المؤمنين عليه السلام: "اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان"17.
وعنه عليه السلام أيضاً أنه قال: "إنّ الناس يستغنون إذا عدل بينهم، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها بإذن الله تعالى"18.
13- المائدة، 8.
14- النساء، 58.
15- النحل، 90.
141
116
الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)
روي أن أبي عبد الله عليه السلام رأَى زاملة قد مالت فقال: "يا غلام اعدل على هذا الحمل فإن الله تعالى يحب العدل"19.
عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة"20.
وعن الإمام الصادقِ عليه السلام أَنه سئل عن صفة العدل من الرجل، فقال: "إذا غض طرفه عن المحارم ولسانه عن المآثم وكفه عن المظالم"21.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "عَدْلُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سبعين سنةً قِيامٍ ليلها وَصِيامٍ نهارها"22.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "العدل ميزان الله في الأَرض فمن أَخذه قاده إلى الجنة ومن تركه ساقه إلى النار"23.
وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "العدل رأس الإيمان وجماع الإحسان"24. وعنه عليه السلام أيضاً قال: "شيئان لا يوزن ثوابهما العفو والعدل"25.
2- أهمية العدل:
النفوس السليمة فُطرت على حب العدل وبغض الظلم. وقد أجمع البشر على مرّ التاريخ ورغم اختلاف الشرائع والمبادئ على تمجيد العدل وتقديسه والتغني بفضائله ومآثره والتفاني في سبيله. وكيف لا وهو رأس الإيمان، ومن صفات أولي الأمر، وباب البركات ودوام النّعم، وميزان الله في أرضه الذي من تمسّك به قاده إلى جنة الرضوان والنعيم؟ وهو سر حياة المجتمعات، ورمز فضائلها، وقوام مجدها، وضمان أمنها ورقيّها ورخائها. وما دالت الدول الكبرى وتلاشت الحضارات العظمى إلا بضياع العدل والاستهانة بمبدئه الأصيل ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾26. وقد كان أهل البيت عليهم السلام المثل الأعلى للعدل، وكانت أقوالهم وأفعالهم دروساً خالدة تنير للإنسانية
19- من لا يحضره الفقيه، ج2،ص292.
20- مستدرك الوسائل، ج11،ص317.
21- مستدرك الوسائل، ج11، ص317.
22- م. ن.
23- م. ن.
24- م.ن، ص319.
25- م.ن، ص320.
26- النمل، 52.
142
117
الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)
مناهج العدل والحق والرشاد. وها هو سيّدهم أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: "والله لئن أبيت على حَسَكِ السَّعْدان27 مُسَهَّداً28، أو أُجَرَّ في الأغلال مُصَفَّداً، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيءٍ من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يُسرِعُ إلى البِلَى قُفولُها، ويطول في الثرى حُلولُها؟"29.
3- أنواع العدل:
للعدل أشكالٌ وصورٌ متعددة، منها ما هو مرتبطٌ بالله عزّ وجلّ، ومنها ما هو مرتبطٌ بالمجتمع، ومنها ما هو مرتبطٌ بالولاية والحكم.
أ-ـ عدل الإنسان مع الله عز وجل: الذي خلق الإنسان وسوّاه وأفاض عليه من أنواع النعم والكرامات ما يعجز اللسان عن إحصائه ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾30. ومقتضى العدل والإنصاف أن يؤدي الإنسان ما عليه من واجبات وحقوق تجاه الإله المنعم والتي تتلخص بالإيمان به، وتوحيده، والإخلاص له، والتصديق برسله وحججه على خلقه، وعبادته، وطاعته، وترك معصيته.
ب- عدل الإنسان مع المجتمع: من خلال رعاية حقوق أفراده وكفّ الأذى عنهم والإساءة إليهم، والتعاطي معهم بكرم الأخلاق، وحسن مداراتهم وحب الخير لهم، والعطف على بؤسائهم ومعوزيهم ونحو ذلك من محقّقات العدل الاجتماعي. وقد لخّص الله تعالى هذا النوع من العدل بقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾31.
ج- عدل الحكام: بما أن الحكام هم ساسة الرعية وولاة أمر الأمة فهم أجدر الناس بالعدل، وأولاهم بالتحلي به، فبعدلهم يستتّب الأمن، وتشيع المساواة، ويسود الرخاء والسلام، وبجورهم تنتكس كل الفضائل، وتغدو الأمة في قلق وحيرة وضنك وشقاء: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾32.
27- السعدان، نبات له حسك، أي له شوك حادّ وقاس.
28- المسهّد، الممنوع من النوم.
29- نهج البلاغة، خطبة 224.
30- إبراهيم، 34.
31- النحل، 90.
32- الزخرف، 65.
143
118
الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)
المفاهيم الرئيسة
1- الصدق هو مطابقة القول للواقع، وهو أساس الإيمان، ورمز استقامة المجتمع وصلاحه.
2- أهمية الصدق أنه شرط أساسي لشيوع التفاهم والثقة في المجتمع.
3- العدل صفة تردع صاحبها عن الظلم وتحفّزه على أداء الحقوق والواجبات، وهو باب البركات ودوام النعم، وسر حياة المجتمعات، ورمز فضائلها، وضمان أمنها ورقيّها ورخائها.
4- العدل على أشكال وأنواع متعدّدة منها العدل مع الله والعدل مع المجتمع، والعدل في الأحكام وغيرها...
أسئلة حول الدرس
1- عرّف معنى الصدق.
2- أين تكمن أهمية الصدق بشكل أساسي؟
3- اذكر نوعين من أنواع الصدق.
4- بيّن أهمية العدل وسبب كونه رأس الإيمان.
5- تحدّث عن أقسام العدل الثلاثة بإيجاز.
144
119
الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)
للمطالعة
مفاسد الكذب33
من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ملازمة الصدق والابتعاد عن الكذب: "فَالصدقُ ولا يَخْرُجَنّ مِنْ فِيكَ كِذْبَةً أبداً". ويستفاد من تقديم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الوصية على الوصايا الأخرى، أن هذه الوصية أهم من كافة الوصايا المذكورة. ونحن نقدّم مفاسد الكذب على مصالح الصدق. واعلم أن هذه الرذيلة من الأمور التي اتفق العقل والنقل على قبحها وفسادها وأنها في نفسها من الفواحش والمعاصي الكبيرة، كما تدلّ على ذلك الأخبار. وقد تترتب عليها مفاسد أخرى لا تقلّ عن هذه الموبقة، بل قد يسقط الإنسان من أعين الناس في الوسط الاجتماعي على إثر كذبة واحدة عندما تُكتشف، ولا يستطيع إلى نهاية العمر أن يجبرها. فإذا اشتهر إنسان لا قدّر الله بالكذب، فلعلّه لا يوجد شيءٌ آخر يسيء إلى شخصية الإنسان أكثر من الكذب. ومضافاً إلى ذلك فإن مفاسده الدينية وعقوباته الأخروية كثيرة أيضاً. ونحن نقتصر على ذكر بعض الأحاديث الشريفة في هذا الموضوع. وحيث إن شناعة الكذب من الأمور الواضحة المعروفة، نبتعد عن الإسهاب في الحديث عنه. رُوي في الوسائل عن محمَّد بن يعقوب بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل جَعَلَ لِلشَّرِّ أقفالاً وَجَعَل مَفاتيحَ تِلْكَ الأقْفالِ الشَّرابَ، وَالكِذْبُ أشَرُّ مِنَ الشَّرَابِ"34.
والآن تدبّر في هذا الحديث الشريف المروي عن عالم آل محمد عليه السلام، والمذكور في كتاب يعدّ مرجعاً لجميع علماء الأمة، ويُتلقى بالقبول لدى كافة العلماء رضوان الله عليهم، وانظر هل يبقى سبيل للاعتذار؟ أليس هذا التهاون في الكذب إلاّ من جراء الضعف في الإيمان تجاه أخبار أهل بيت العصمة عليهم السلام؟ نحن لا نعرف الصور الغيبية لأعمالنا، ولا ندرك الارتباطات الغيبية بين المُلك والملكوت، ولهذا نبتعد عن مثل هذه الأخبار، ونحمل أمثالها على المبالغة.
33- الأربعون حديثاً، ص 501.
34- الكافي، ج2، ص338.
145
120
الدرس الثاني عشر: الفضائل الأخلاقية (1)
ولكن هذا المنهج باطلٌ وناتج من الجهل والضعف في الإيمان. فلو فرضنا أننا حملنا هذا الحديث الشريف على المبالغة، أليست المبالغة ذات شروط ووضع خاص؟ هل نستطيع أن نقول عن كل شيء إنه أسوأ من الخمر، أو لا بدّ وأن يكون الشيء ذا شرّ عظيم حتى نتمكن من المبالغة ونقول إنه أعظم من الشر؟ عن أبي جعفر عليه السلام قالَ: "الكِذْبُ هُوَ خَرَابُ الإِيمانِ".
الإمام الخميني قدس سره
146
121
الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)
الدرس الثالث عشر:
الفضائل الأخلاقية (2) (القناعة - العفّة - الزهد)
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
1- يبيّن فضيلة كل من القناعة والعفّة والزهد.
2- يذكر أهم الآثار الطيّبة للتحلّي بفضيلة القناعة والعفّة في الحياة.
3- يعدّد أهم علامات الزهد وشروطه الأساسية.
148
122
الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)
القناعة
هي الاكتفاء من المال والمأكل والملبس بقدر الحاجة والكفاف، وعدم الاهتمام فيما زاد عن ذلك. وهي صفة كريمة تعرب عن عزة النفس وشرف الوجدان وكرم الأخلاق. فالقانع هو الذي لا يطمع في الناس، ولا يلتفت إلى ما في أيديهم، ولا يتعدّى أمله يومه أو شهره، فلا يشغل قلبه بأزيد من ذلك لأن الشوق لتحصيل المزيد وطول الأمل يحرم الإنسان من نعمة الراحة وسكون القلب، ويشغل قلبه عن ذكر الله تعالى.
1- فضيلة القناعة:
أ- في القرآن:
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾1.
وقال عز وجل أيضاً: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾2.
ب- في الروايات:
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "القانع غنيّ وإن جاع وعري"3.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس"4.
وعن الإمام الصادق عليه السلام أَنه قال لرجل يعظه: "اقنع بما قسم الله لك ولا تنظر إلى ما عند غيرك ولا تتمن ما لست نائله فإنه من قنع شبع ومن لم يقنع لم يشبع وخذ حظك
1- التوبة، 85.
2- طه، 131 .
3- مستدرك الوسائل، ج15، ص 228.
4- الكافي، ج2، ص139.
150
123
الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)
من آخرتك"5.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "حُرم الحريص خصلتين ولزمته خصلتان حُرم القناعة فافتقد الراحة وحُرم الرضا فافتقد اليقين"6.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "المستريح من الناس القانع"7، وقال عليه السلام: "القانع ناج من آفات المطامع"8.
2- أهمية القناعة:
للقناعة أهميةٌ كبرى وأثر بالغ في حياة الإنسان، فهي تحقق الرخاء النفسي والراحة الجسدية، وتحرّر الإنسان من عبودية المادة واسترقاق الحرص والطمع وعنائهما المرهق وهوانهما المذلّ، وتفتح باب العزة والكرامة والإباء والعفة والترفع عن صغائر الأمور. والقانع بالكفاف أسعد حياةً وأرخى بالاً وأكثر دعةً واستقراراً من الحريص المتفاني في سبيل أطماعه والذي لا ينفكّ عن القلق والمتاعب والهموم. والقناعة تمد صاحبها بصفاء ويقظة روحية، وبصيرة نافذة، وتحفزه على التأهب للآخرة، والقيام بالأعمال الصالحة. لذا صار القانع أغنى الناس لأن حقيقة الغنى هي غنى النفس، والقانع راض ومكتف بما رزقه الله تعالى وهو لا يحتاج أحداً ولا يسأل سوى الله تعالى. وأهمية القناعة تظهر بشكل جليّ عندما يتحرر الإنسان من قيود المادة، لأن التمسك بالمادة ذلٌّ على عكس القناعة التي تورث الإنسان العزة والكرامة. أما الثروة والمال فلا تعطي صاحبها الأفضلية على الآخرين سوى بالمال وليس بالمحاسن والفضائل المعنوية، لأن المال قابلٌ للزيادة والنقيصة بل والزوال أيضاً بعكس القناعة التي هي كنزٌ كما قال الإمام علي عليه السلام: "لا كنز أغنى من القناعة"9، بل وهي كنزٌ لا يفنى كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "القناعة كنز لا يفنى"10، لأنها كنز معنوي نتيجته تحصيل المقامات المعنوية الرفيعة، كيف لا وهي من أهم الأمور التي تعين الإنسان على صلاح نفسه كما في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أعوَن شيء على صلاح النفس القناعة"11.
5- مستدرك الوسائل، ج15، ص223.
6- وسائل الشيعة، ج16،ص 20.
7- غرر الحكم، ص 393.
8- م. ن.
9- بحار الأنوار، ج66، ص411.
10- مستدرك الوسائل، ج 15، ص 226.
11- غرر الحكم، ص 391.
151
124
الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)
العفّة
1- معنى العفّة:
العفّة من أهم الفضائل الإنسانية والأخلاقية، ومن أنبل السجايا، وأرفع الخصائص الدالّة على سموّ الإيمان وشرف النفس. ولا يمكن لأي إنسان أن يسير نحو الكمال الإلهي ويسلك مسلك الانفتاح على الله من دون التحلّي بهذه الخصلة الشريفة. ولو تأمّلنا في حياتنا الدنيوية قليلاً لوجدنا أن كرامة الإنسان وعزته وسمعته الطيبة رهينة بالتحلّي بهذه الفضيلة الأخلاقية. والعفّة تعني الامتناع والترفّع عما لا يحلّ من شهوة البطن والنظر والفرج، والتحرر من استرقاقها المذلّ، وجعلها منقادةً للعقل على ما يأمرها به من الطعام والشراب والنكاح، والاجتناب عمّا ينهاها العقل عنه. وهي تعتبر من الفضائل التي تساهم في ترشيد وتكامل المجتمعات البشرية، بعكس الشهوة التي تقع في مقابل العفّة والتي يوجب اتّباعها سقوط الفرد أخلاقياً وانحطاط المجتمع، والتي تعتبر منشأً ومصدراً للكثير من الجرائم والانحرافات الفردية والاجتماعية، فقد سُفك بسببها الكثير من الدماء وأُتلف الكثير من الأموال والثروات.
2- فضيلة العفّة:
أ- في الآيات:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ 12 فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ13 يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ14 تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا15 وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾16. ويقول عزّ اسمه أيضاً: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾17.
12- أي شغلتهم الأعمال الهامة التي في سبيل الله كالجهاد، وطلب العلم وغيرهما من العبادات...
13- أي الذين لا يقدرون على الترحال لكسب العيش.
14- بسبب تعفّفهم عن السّؤال.
15- أي أنّهم لا يشبهون الفقراء الشحّاذين الذين يلحّون في الطلب من الناس، فهم يمتنعون عن السؤال فضلاً عن الإلحاف.
16- البقرة، 273.
17- الأعراف، 31.
152
125
الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)
ويقول عزّ وجل أيضاً: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾18.
ب- في الروايات:
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "أفضل العبادة العفاف"19.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "ما عُبد الله بشيء أفضل من عفّة بطن وفرج"20.
وعن الإمام علي عليه السلام: "إذا أراد الله بعبد خيراً أعفّ بطنه وفرجه"21.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنما شيعة جعفر من عفّ بطنه وفرجه واشتدّ جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر"22.
3- حقيقة العفّة:
ليس المراد من العفّة حرمان النفس من رغباتها المشروعة في المطعم والجنس، بل المقصود منها الاعتدال في تناولها وممارستها، إذ كل إفراطٍ أو تفريط مضرّ بجسد الإنسان وروحه وداعٍ إلى شقائه وبؤسه. فالإفراط في شهوات البطن والفرج سببٌ في الكثير من الأمراض والعلل الجسمية. كما أن الروح التائقة إلى عالم الملكوت ولقاء الرب الودود سوف تتأذى هي الأخرى بسبب كثرة الانشغال والتلهّي بالشهوات الحيوانية والأمور الدنيوية الزائلة التي لا تزيد الإنسان إلا بعداً عن الحق. والتفريط باعثٌ على الحرمان من متع الحياة ولذائذها المشروعة، وموجبٌ لهزال الجسد وضعف طاقته، مما ينعكس سلباً على روحه أيضاً. فالمطلوب الاعتدال في غريزتي الطعام والجنس وهو الممدوح شرعاً وعقلاً، وهو الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط إذ إن خير الأمور أوسطها. وحدّ الاعتدال في طعام الإنسان يكون بحيث لا يحسّ بثقل المعدة ولا بألم الجوع، فالهدف من الأكل بقاء الحياة واستمرارها، والحصول على القوى اللازمة للعمل والعبادة. أما ثقل الطعام فإنه يمنع من العبادة، كما أن ألم الجوع يشغل القلب أيضاً. وإليه
18- النور، 30.
19- الكافي، ج2، ص 79.
20- م.ن.
21- غرر الحكم، ص 399.
22- وسائل الشيعة، ج11، ص199.
153
126
الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)
الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾23.
وخير مقياسٍ لذلك ما حدده أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: "لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام إلا وأنت تشتهيه"24. وأما الاعتدال في الجماع فبأن يقتصرالإنسان فيه على ما لا ينقطع عنه النسل، وما يحصل له من خلاله التحصّن، وتزول به خطرات الشهوة، ولا يؤدي إلى ضعف البدن والقوة، ولا يكون سبباً في الانشغال عن الطاعة والعبادة.
الزهد
1- حقيقة الزهد:
الزهد في الدنيا مقامٌ شريف جداً ومن أعلى مقامات السالكين إلى الله تعالى، وهو أن لا يرغب الإنسان في الدنيا ولا يميل إليها بقلبه، ويتركها بجوارحه إلا بقدر الضرورة، بهدف العدول إلى ما هو خير منها وأشرف وأبقى، إلى الله تعالى والحياة الآخرة. فجميع الدعوات الإلهية والشرائع الربانية الحقّة هدفها الأساسي ربط الإنسان بالله عز وجل، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بالإعراض عن غير الحق وكل ما سواه، مقدمة للوصول إلى جماله المطلق، كما قال إمامنا الصادق عليه السلام: "وإنما أَرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة"25.
فالرغبة في الدنيا موجبة للاحتجاب عن الحق تعالى. والمقصود من الدنيا كل ما يشغل الإنسان عن الحق عز وجل. وإلى هذه الحقيقة أشار الإمام الصادق عليه السلام حين عرّف الزهد بأنه: "تركك كلّ شيء يشغلك عن الله"26. لأنه من المستحيل العروج إلى الكمالات الروحية والوصول إلى لقاء الحق مع التعلّق بغيره تعالى، والتبعية للشهوات والملذّات الفانية.
2- فضيلة الزهد:
أ- في الآيات:
قوله تعالى في كتابه العزيز: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ
23- الأعراف، 31.
24- وسائل الشيعة، ح24،ص 245.
25- الكافي، ج2،ص16.
26- مستدرك الوسائل، ج12، ص45.
154
127
الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾27، حيث قال الإمام زين العابدين عليه السلام لرجلٍ سأله عن الزهد فأجابه أن الزهد في هذه الآية28. وقوله عز وجل: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾29، حيث فُسّر أحسن العمل في التفاسير بأنه الزهد.
ب- في الروايات:
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "حرام على قلوبكم أَن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا"30.
وعن أَمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "إن من أَعون الأخلاقِ على الدين الزهد في الدنيا"31.
وجاء أَعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا محمد أَخبرني بعمل يحبني الله عليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا أَعرابي ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أَيدي الناس يحبك الناس"32.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من زهد في الدنيا أَثبت الله الحكمة في قلبه وأَنطق بها لسانه وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها وأَخرجه منها سالماً إلى دار السلام"33.
وعن أَمير المؤمنين عليه السلام قال: "إن علامة الراغب في ثواب الآخرة زهد في عاجل زهرة الدنيا"34.
3- علامات الزهد:
للزهد ثلاث علامات أساسية كما أخبر الله تعالى في سورة الحديد المتقدمة آية 23. وهي:
أ- أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود
ب- أن يستوي عنده من يذمّه ومن يمدحه.
ج- أن يكون أنسه بالله هو الغالب، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة.
27- الحديد، 23.
28- وسائل الشيعة، ج16، ص12.
29- الكهف، 7.
30- الكافي، ج2، ص128.
31- م.ن، ص 128.
32- وسائل الشيعة، ج9، ص450.
33- م.ن، ج 16، ص 10.
34- م.ن، ص11.
155
128
الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)
4- شروط تحقّق الزهد:
يشترط في الزهد ثلاثة أمور:
أ- أن يترك الإنسان ما تحبّه النفس وترغب فيه وتطلبه، لأن من ترك ما ليس مطلوباً كتارك التراب والحشرات مثلاً لا يسمى زاهداً، بل من رغب عن الدراهم والذهب يسمى زاهداً.
ب- أن يكون زهده في أمرٍ بمقدوره نيله والوصول إليه، إلا أنه آثر تركه بملء إرادته واختياره. لأن ترك ما لا يقدر عليه الإنسان ولا يستطيع الوصول إليه لا يسمى زهداً.
ج- أن يكون الهدف من الزهد هو الله والدار الآخرة، أما لو كان لغرضٍ غير الله تعالى كاستمالة القلوب أو الاشتهار وأمثال ذلك لم يكن من الزهد أصلاً.
156
129
الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)
المفاهيم الرئيسة
1- القناعة هي أن لا يطمع صاحبها في الناس، ولا يلتفت إلى ما في أيديهم. وهي تمدّ صاحبها بصفاء روحي، وبصيرة، وتحفّزه على التأهب للآخرة والقيام بالأعمال الصالحة.
2- العفّة هي الامتناع والترفّع عما لا يحلّ من شهوة البطن والفرج، وجعلها منقادة للعقل، وليس المراد منها حرمان النفس من رغباتها المشروعة، بل المقصود منها هو الاعتدال في تناولها.
3- الزهد هو أن لا يرغب الإنسان في الدنيا ولا يميل إليها بقلبه، بهدف العدول إلى ما هو خير منها وأبقى، إلى الله تعالى والحياة الآخرة.
4- للزهد علامات ثلاث أساسية من خلالها نتبيّن صحة الزهد من عدمه.
أسئلة حول الدرس
1- عرّف القناعة واذكر مثالاً على ذلك.
2- بيّن أهمية القناعة وتأثيرها على حياة الإنسان المعنوية.
3- عرّف العفة وبيّن المراد الدقيق منها.
4- بيّن معنى الزهد وحقيقته.
5- اذكر أهم شروط تحقق الزهد في النفس.
157
130
الدرس الثالث عشر: الفضائل الأخلاقية (2)
للمطالعة
دواؤها الزهد فيها35
اعلم أن ما تناله النفس من حظٍ في هذه الدنيا، يترك أثراً في القلب، وهو من تأثير الملك والطبيعة، وهو السبب في تعلقه بالدنيا. وكلّما ازداد التلذّذ بالدنيا، اشتدّ تأثر القلب وتعلّقه بها وحبه لها، إلى أن يتجه القلب كُلّياً نحو الدنيا وزخارفها، وهذا يبعث على الكثير من المفاسد. إن جميع خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيئات سببها هذا الحب للدنيا والتعلق بها كما ورد في الحديث.
وإن من المفاسد الكبيرة لحب الدنيا - كما كان يقول شيخنا العارف (روحي فداه) - هو أنه إذا انطبع حب الدنيا على صفحة قلب الإنسان، واشتد الأنس بها، انكشف له عند الموت أن الحق المتعال يفصل بينه وبين محبوبه، ويفرّق بينه وبين مطلوبه، فيغادر الدنيا ساخطاً مغتاظاً على وليّ نعمته.
إن هذا القول القاصم للظهر يجب أن يوقظ الإنسان أيّما إيقاظ للحفاظ على قلبه. فالعياذ بالله من إنسان يسخط على وليّ نعمته، مالك الملوك الحق، إذ ليس أحدٌ يعرف صورة هذا السخط والعداء، غير الله تعالى. ويقول أيضاً شيخنا المعظّم ـ دام ظله ـ نقلاً عن أبيه المعظّم، إنه كان في أواخر عمره خائفاً بسبب المحبة التي كان يكنّها لأحد أولاده، ولكنه بعد الانهماك بالرياضات النفسية تخلّص من ذلك الخوف، وانتقل إلى دار السرور مسروراً، رضوان الله عليه. عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "مَثَلُ الدُّنيا كَمَثَلِ ماءِ البحرِ كُلَّما شَرِبَ مِنْهُ العطشانُ ازدادَ عَطَشاً حَتَّى يُقتل".
الإمام الخميني قدس سره
35- الأربعون حديثاً، ص 150.
158
131
الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)
الدرس الرابع عشر:
الفضائل الأخلاقية (3) (الحلم - العفو - الإيثار)
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
1- يشرح معنى وأهمية كلّ من فضيلة الحلم والعفو والإيثار.
2- يذكر نبذةٍ عن هذه الفضائل في الآيات والروايات.
3- يبيّن موارد استعمال العفو والعلاقة التي تربط الإيثار بتربية النفس.
160
132
الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)
الحلم
1- معنى الحلم:
الحلم من أشرف السّجايا وأعزّ الخصال الأخلاقية، ودليل على سموّ النفس، وكرم الأخلاق، وسبب للمودة والألفة بين الناس وفي المجتمع. لأن صاحب هذا الخلق يعيش السلام دائماً مع نفسه ومع الآخرين. والحلم هو اعتدال القوة الغضبية عند الإنسان وطمأنينة النفس بحيث لا يحرّكها الغضب بسهولة ودون مبرر، ولا يزعجها المكروه بسرعة. فالحليم إذا وقع في شيءٍ على خلاف ما تميل إليه نفسه، أو وصل إليه مكروهٌ أو أمر غير مناسب، فإنه لا يخرج عن طوره، ولا يغضب، بل يكظم غيظه ويواجه الواقع بهدوء ورويّة وحكمة.
2- فضيلة الحلم:
أ- في القرآن:
مدح الله الحلماء والكاظمين الغيظ وأثنى عليهم في محكم كتابه الكريم فقال عزّ وجلّ:
﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾1.
وقال عزّ اسمه: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾2.
وقال عزّ وجلّ:﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾3.
وفي آية أخرى يقول: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾4.
1- الفرقان، 63.
2- فصّلت، 34.
3- آل عمران، 134.
4- الإسراء، 44.
162
133
الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)
ب- في الروايات:
عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إن الله عز وجل يحب الحيِي الحليم"5.
عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً وإن الرجل كان إذا تعبّد في بني إسرائيل لم يعدّ عابداً حتى يصمت قبل ذلك عشر سنين"6.
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للسفيه منهما: قلت وقلت وأَنت أَهل لما قلت ستُجزى بما قلت، ويقولان للحليم منهما: صبرت وحلمت سيغفر الله لك إن أَتممت ذلك قال فإن ردَّ الحليم عليه ارتفع الملكان"7.
سأل أحدهم الإمام الحسن العسكري عليه السلام عن الحلم فقال: "هو أَن تملك نفسك وتكظم غيظك ولا يكون ذلك إلا مع القدرة"8.
3- مخاطر ترك الحلم:
ما دام الإنسان يعيش في هذه الدنيا فإن الأحداث المستجدّة والأمور المفاجئة والمواقف غير المتوقعة قد تطلّ برأسها في كل لحظة لتعكّر صفوه وتنغّص عيشه، فإذا لم يكن ذا حلم وسعة صدر في تحمّل الصعاب ومواجهة المشاكل، فسرعان ما قد تشتعل نار قوة الغضب في صدره، والتي إذا ما خرجت عن حدّ اعتدالها ومالت إلى حد الإفراط ربما أدّت بصاحبها إلى هلاك نفسه، أو فساد دينه وخراب دنياه، حيث يمكن أن توقعه والعياذ بالله في الطغيان والظلم، وهتك النواميس، وقتل النفوس المحترمة، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "أي شيء أشد من الغضب؟ إن الرجل يغضب فيقتل النفس التي حرم الله ويقذف المحصنة"9. كما يمكن أن تؤدي إلى ضياع العقل كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "من لم يملك غضبه لم يملك عقله"10، وإلى إطفاء نور الإيمان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل"11. فقوة الغضب تفوق سائر القوى خطراً لأنها قد تؤدي في لحظات
5- الكافي ج، 2، ص 112.
6- م.ن، 111.
7- م.ن، ص 112.
8- مستدرك الوسائل، ج 11، ص 291.
9- بحارالأنوار، ج 70، ص274.
10- الكافي، ج 2، ص 305.
11- م.ن، ص 302.
163
134
الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)
قليلة إلى الكثير من المفاسد والشرور، وقد تخرج الإنسان في دقائق معدودة من هذا الوجود كله، وتحرمه من سعادة الدنيا والآخرة. لذا على الإنسان المؤمن الحريص على دنياه وآخرته أن يتحلّى بملكة الحلم لكي لا يصبح أسيراً لآفة الغضب المهلكة، ولكي يتمكن من مواجهة مخاطرها المحدقة. فإذا سعى الإنسان في حركاته وسكناته إلى العمل بهدوء وسكينة، وضبط نفسه وكظم غيظه مدة وتكلّف الحلم وحمل نفسه على التصرف كذوي الحلم، فإن ذلك يفضي به لا محالة إلى الحلم. وإذا واظب على هذا الأمر مواظبة كاملة لمدة معيّنة وراقب نفسه مراقبة صحيحة، فسيتحول هذا الذي يتكلّفه إلى أمرٍ عادي بالنسبة إلى النفس وسيحصل على النتيجة المطلوبة. كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "إن لم تكن حليماً فتحلَّمْ، فإنه قلّ من تشبّهَ بقوم إلا أوشك أن يكون منهم"12. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا لم تكن حليماً فتحلّم"13.
العفو
1- أهمية العفو ومنشؤه:
من أعظم الكمالات الإنسانية والفضائل الأخلاقية أن يتجاوز الإنسان عن الأشخاص الذين أساءوا إليه. فصفة العفو من الصفات الجمالية للحق تعالى والاتّصاف بها تشبّهٌ بالحق عزّ وجلّ. والإسلام أكّد كثيراً على هذه الفضيلة لأنها سببٌ رئيسيٌّ في بناء الفرد المعنوي وتكامله الإيماني، وعاملٌ رئيسي في استقرار المجتمع وثباته، وركنٌ من أركان الإصلاح وحسن التعايش بين الناس، وذهاب الضغينة والحقد فيما بينهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تعافوا تسقط الضغائن بينكم"14. لذا صار تاج المكارم كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "العفو تاج المكارم"15، لأن جذور الصّفح والعفو إنما ترتوي من ترك حب الدنيا والنفس، كما أن جذور الانتقام والغضب ترتوي من حب الدنيا والنفس والتعلّق بالشهوات والمآرب الدنيوية، التي هي أسس كل المفاسد والشرور. إذاً، العفو من أهم صفات أهل الآخرة الذين طلّقوا الدنيا والتي
12- وسائل الشيعة، ج15، ص268.
13- الكافي، ج2، ص112.
14- كنز العمال، ج3، ص373.
15- ميزان الحكمة، ج1، ص805.
164
135
الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)
لم تعد تعني لهم سوى فرصةٍ للتزوّد، وساحةٍ للطاعة والعبودية. لذا تجدهم يتمسّكون بالعفو فكراً وعملاً لأن فيه رضا محبوبهم الأوحد، ولأنهم يعرفون أن حقيقة العفو هي العزّة في الدنيا والآخرة كما في الحديث: "من عفا عن مظلمة أبدله الله بها عزاً في الدنيا والآخرة"16.
2- فضيلة العفو:
أ- في الآيات:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾17.
﴿وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾18.
﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾19.
﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾20.
ب- في الروايات:
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته: أَلا أخبركم بخير خلائقِ الدنيا والآخرة؟ العفو عمن ظلمك وتصل من قطعك والإحسان إلى من أساء إليك وإعطاء من حرمك"21.
عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "الندامة على العفو أَفضل وأَيسر من الندامة على العقوبة"22.
عن أَمير المؤمنين عليه السلام أَنه قال: "إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه"23.
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنا أَهل بيت مروءتنا العفو عمن ظلمنا"24.
16- الآمالي، ص182.
17- البقرة، 219.
18- البقرة، 237.
19- النور، 22.
20- الشورى، 40.
21- الكافي، ج2، ص107.
22- م.ن، ص 108.
23- وسائل الشيعة ج 12، ص 171.
24- م.ن، ص، 174.
165
136
الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)
3- العفو الجميل وموارده:
صحيحٌ أن العفو جميل ولكن ليس في كل الموارد والشؤون، بل هناك حالات يكون العفو فيها قبيحاً ولا يعدّ من الفضائل. فالعفو إذا كان عنصراً مساعداً على الإصلاح والبناء، ومعيناً على خط الاستقامة ولا يلزم منه الضرر فهو مطلوبٌ ومرغوب. وأما إذا كان يشكل عنصراً مساعداً على الانحراف وتشجيعاً على تكرار الاعتداء وانتهاك الحقوق ويؤدي إلى الضرر، فهو في مثل هذه المواطن قبيحٌ وغير مرغوب. فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "جازِ بالحسنة وتجاوز عن السيئة ما لم يكن ثلماً في الدين أو وهناً في سلطان الإسلام"25. وعن الإمام السجاد عليه السلام: "حق من أساءك أن تعفو عنه وإن علمت أن العفو عنه يضر انتصرت، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾"26. والعفو الجميل والممدوح هو العفو مع القدرة، أي حينما يكون بمقدور الإنسان أن يأخذ حقّه من المعتدي بحيث كانت الظروف ملائمة والشروط متوفرة لكنه آثر أن يعفو عنه رجاء عفو الله عنه ورغبةً في ثوابه والنجاة من عقابه. وقد حثّت الروايات عليه كثيراً حيث روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "أحسن العفو ما كان عن قدرة"27، وقال عليه السلام أيضاً: "العفو مع القدرة جنة من عذاب الله سبحانه"28.
الإيثار
1- حقيقة الإيثار:
الإيثار هو من أرفع درجات الجود والكرم. ولا يتحلّى بهذه الصفة إلا الذين بلغوا قمة السخاء، فجادوا بالعطاء وهم بأمسّ الحاجة إليه، وآثروا بالنوال وهم في ضنك العيش، لذا عدّت من أهم صفات الأبرار وشيم الأخيار كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الإيثار سجية الأبرار وشيمة الأخيار"29. والإيثار هو أن يجود الإنسان بالمال أو النفس أو الراحة أو ما إلى ذلك من النّعم مع الحاجة إليها، وتفضيل الإنسان الآخرين على نفسه، وتقديم حاجتهم على
25- غرر الحكم، ص 245.
26- من لا يحضره الفقيه، ج2، ص625.
27- غرر الحكم، ص246.
28- م.ن، ص342.
29- م.ن، ص396.
166
137
الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)
حاجته. بخلاف السخاء الذي هو عبارة عن بذل الإنسان وجوده بما لا يحتاج إليه، لذا كان الإيثار من أرفع درجات السخاء. كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "الإيثار أعلى مراتب الكرم، وأفضل الشيم"30.
2- فضيلة الإيثار:
أ- في الآيات:
أثنى الله تعالى كثيراً في كتابه الكريم على الذين يؤثرون على أنفسهم فقال: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾31.
ب- في الروايات:
عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إن لله عز وجل جنة لا يدخلها إلا ثلاثة رجل حكم على نفسه بالحق ورجل زار أَخاه المؤمن في الله ورجل آثر أَخاه المؤمن في الله"32.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من آثر على نفسه آثره يوم القيامة بالجنة"33. وعن الصادقِ عليه السلام أَنه سئل ما أَدنى حق المؤمن على أَخيه فقال: "أَن لا يستأثر عليه بما هو أَحوج إليه منه"34.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "الإيثار أفضل عبادة وأجلّ سيادة"35، وقال عليه السلام أيضاً: "الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان"36.
30- غرر الحكم، ص395.
31- الحشر، 9.
32- الكافي، ج 2، ص178.
33- مستدرك الوسائل، ج7،ص249.
34- م.ن، ص212.
35- غرر الحكم، ص 395.
36- م.ن، ص 396.
167
138
الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)
3- الإيثار وتربية النفس:
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "عند الإيثار على النفس تتبيّن جواهر الكرماء"37. فالإيثار يكشف باطن الإنسان ويعرّفه حقيقة نفسه. لأنه ليس من السهل أن يقدّم الإنسان حاجة أخيه على نفسه، إلا إذا تجاوز عقبة حب الذات والدنيا، وآثر عليهما الله والدار الآخرة. فالإيثار من أهم العوامل التي تساعد على ارتقاء النفس وصفائها وبلوغها الدرجات العليا، لأنها تجرّد النفس من التعلقات الدنيوية والرغبات والأهواء النفسية التي لا تزيد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى إلا بعداً واحتجاباً. فالمطلوب من الإنسان في سيره إلى الله أن يتخفّف من أوزان وأثقال هذه الدنيا الفانية ليلحق بالصالحين الأبرار كما قال مولى الموحدين علي عليه السلام: "تخفّفوا تلحقوا"38. والتحلّي بصفة الإيثار يحتاج في البداية إلى ترويض ٍومجاهدة حتى تصبح هذه الصفة ملكةً راسخة في النفس، لذا في البداية يتكلّف الإنسان الإيثار ويجبر نفسه عليه لأن حب النفس ومصالحها ما زال موجوداً. من هنا يعتبر الإيثار من أنواع جهاد النفس أيضاً وثوابه عظيمٌ عند الله تعالى، إلى أن تطوّع النفس بشكل كامل بفعل المداومة على أعمال البرّ والإحسان فيصبح الإيثار عن طوعٍ ورضا ورغبة نفسية بعد أن كان عن كرهٍ وانزعاج.
37- غرر الحكم، ص396.
38- بحار الأنوار، ج6، ص135.
168
139
الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)
المفاهيم الرئيسة
1- الحلم صفة مَن إذا وقع في شيءٍ على خلاف ما تميل إليه نفسه، أو وصل إليه مكروهٌ أو أمر غير مناسب، فإنه لا يخرج عن طوره، ولا يغضب، بل يكظم غيظه ويواجه الواقع برويّة وحكمة.
2- العفو مع القدرة من أهم صفات أهل الآخرة، وهو جميلٌ ومطلوب في الموارد التي يساعد فيها على الإصلاح والبناء، ولا يلزم منه الضرر، أو الوقوع في المفاسد.
3- الإيثار هو أن يجود الإنسان بما لديه من النّعم مع حاجته إليها، وتفضيله الآخرين على نفسه، وهو من أهم العوامل التي تساعد على ارتقاء النفس وصفائها وبلوغها الدرجات العليا.
أسئلة حول الدرس
1- عرّف المعنى الدقيق للحلم.
2- بيّن مخاطر ترك التحلّي بالحلم على الإنسان.
3- ما هي جذور ومناشئ كل من العفو والانتقام.
4- هل العفو حسنٌ مطلقاً أم له موارده الخاصّة؟ بيّن ذلك.
5- عرّف الإيثار وبيّن حقيقته.
6- اذكر أهمية التحلّي بفضيلة الإيثار على صعيد تهذيب النفس وتربيتها.
169
140
الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)
للمطالعة
جوامع الكلم39
لقد وقعت أفظع الفتن وارتكبت أفجع الأعمال بسبب الغضب واشتعال ناره الحارقة. وعلى الإِنسان، وهو سليم النفس، أن يكون على حذرٍ كثير من حال غضبه. وإذا كان يعرف من نفسه حدوث حالات الغضب، عليه، في أثناء هدوئه النفسي، أن يعالجها وأن يفكر في مبادئها وفي مفاسدها عند اشتدادها وآثارها ونتائجها في النهاية، لعلّه يصل إلى معرفة طريق لإنقاذ نفسه. فليفكر في أن هذه الغريزة التي وهبه الله تعالى إيّاها لحفظ نظام الظاهر والباطن وعالم الغيب والشهادة، إذا استخدمها لغير تلك الأهداف وبخلاف ما يريد الله سبحانه وضد المقاصد الإِلهية، فما مدى خيانته؟ وما هي العقوبات التي يستحقّها؟ وكم هو ظلومٌ جهول؟ لأنه لم يَصُنْ أمانة الحق تعالى، بل استعملها في العداوات والمخاصمات. إن إِمرأً هذا شأنه لا يمكن أن يأمن الغضب الإلهي. ثم إن عليه أن يفكر في المفاسد العملية والأخلاقية التي تتولّد من الغضب وسوء الخلق. إذ كل مفسدة من هذه المفاسد يمكن أن تكون سبباً في ابتلاء الإِنسان بصورة دائمة ببلايا شديدة في الدنيا، وبالعذاب والعقاب في الآخرة.
أما المفاسد الأخلاقية التي تتولد من هذا الخلق فهي الحقد على عباد الله، وقد ينتهي به الأمر إلى الحقد على الأنبياء والأولياء، بل وحتى على ذات الله المقدسة الواجبة الوجود ووليّ النعم. وشدّة هذا القبح وهذه المفسدة واضحة للجميع. نعوذ بالله تعالى من شر نفس عنيدة إذا ما انفصم وثاقها للحظة واحدة، جرّت الإِنسان إلى تراب الذلّ وقادته إلى أرض الهلاك الأبدي. وكذلك الحسد الذي مرّت بك بعض مفاسده وشروره، وغير ذلك من المفاسد الأخرى التي تتولد من الغضب. وأما مفاسد الغضب المؤثّرة في الأعمال فإنها ليست بمحصورة، فلعله يتفوّه بما فيه الارتداد أو سبّ الأنبياء والأولياء ـ والعياذ بالله ـ
39- الأربعون حديثاً، ص 164.
170
141
الدرس الرابع عشر: الفضائل الأخلاقية (3)
وهتك الحرمات الإِلهية، وخرق النواميس المقدسة، وقتل الأنفس الزكية، والافتراء على العوائل المحترمة بما يصمها بالعار والذلّ ويقضي على النظام العائلي بكشف الأسرار وهتك الأستار. وغير ذلك من المفاسد التي لا تُحصى والتي يُبتلى بها الإنسان لدى فورة الغضب الباعثة على نسف الإيمان وهدم البيوت. لذلك يمكن أن توصف هذه السجيّة بأنها أم الأمراض النفسية ومفتاح كل شر. ويقابلها كظم الغيظ وإخماد سعير الغضب فإنه من جوامع الكلم ودائرة تمركز الحسنات ومجمع الكرامات.
الإمام الخميني قدس سره
171
142
الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام
الدرس الخامس عشر:
النظم والانضباط في الإسلام
على الطالب مع نهاية الدرس أن:
1- يستدلّ على أنّ الإسلام دينٌ محوره النظام وهو قائم على أساسه.
2- يشرح العلاقة التي تربط الإيمان بالنظام في الإسلام.
3- يتحدّث باختصار عن أهمّ الجوانب التي ينبغي أن يطالها النظام في الحياة.
172
143
الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام
الإسلام دين النظام
إنّ الإسلام يُنظّم الحياة البشريّة في مختلف ميادينها الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة. وقد بُنِي ديننا كلُّه على النظام، فالنظام هو محور حياة المسلم، بل الكون كلُّه يسير في نظام: البشر، الكائنات، الليل والنهار، السماء، الفلَك...
خلق الله عزّ وجلّ هذا الكون على أساس منظّم، فوضع كلّ شيء في موضعه، وجعل له مهمّة، عليه أن يؤدّيها في هذه الدنيا، قال الله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ* لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾1، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾2.
وكذلك نظرة الإسلام للنظام في تعاملات البشر واضحة، فالاستئذان شرط، ومن لا يؤذَن له لا يدخل، وللأكل آدابه، والالتزام بالعهود والعقود شرط، وفي السفر إن خرج اثنان في سفرٍ فليؤمِّروا أحدهما، ووصل النظام إلى ضرورة اختيار اسمٍ صالحٍ للأولاد بمجرَّد ولادتهم، ثمَّ حسن تربيتهم. ووضع الإسلام، كذلك، قواعد في آداب التحيَّة والسلام، وفي الصلاة: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل، ولينو3 بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجاتٍ للشيطان"4.
وفي الجهاد: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا
1- يس، 37 - 40.
2- الروم، 22 - 24.
3- ومعنى "ولينوا..." إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجل منكبيه حتّى يدخل في الصف.
4- سنن أبي داوود، ج1، ص157.
174
144
الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام
كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾5، وغيرها من الموارد. فهذا باختصار هو الإسلام، دين النظم والانتظام، نظام في كلّ شيء، منذ الولادة وحتى الممات، في الأمور الشخصيّة والمعاملات، وفي تكوين الأرض والسماوات.
النظام قرين التقوى والإيمان
ومن وصيّة للإمام علي عليه السلامللحسن والحسين عليهما السلام لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه الله) على رأسه الشريف: "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم ..."6.
ويحبُّ الله عزّ وجلّ - الذي خلق هذا الكون بهذا النظم العجيب - أن يكون الإنسان منظّماً في حياته الشخصيّة والعامة، وقد بيَّن طريق ذلك في رسالات السماء وبالخصوص دين الإسلام، وأمر برعاية ما بيّنه وأنزله.
وقد أوصى الإسلام بنظم الأمور في مختلف جوانب الحياة الإنسانيّة، بأبعادها الفرديّة والاجتماعيّة بهدف تحقيق امتثال التكليف الإلهي. ويتجلّى الالتزام بالنظام بالالتزام بتعاليم الدين الحنيف، التي جاءت لتنظيم الحياة الإنسانيّة وتأمين السعادة للمجتمع البشري كلّه، وهو ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام في وصيّته لولديه، حيث قرن التقوى - التي تُعبّر عن أعلى مراتب الإيمان والالتزام العملي بأحكام الشريعة وقوانينها- بالوصيّة بنظم الأمر، لأنّه لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً يتحلّى بالتقوى والإيمان الحقيقي دون أن يربّي نفسه على النظام، والالتزام بالحقوق والواجبات تجاه الله والناس، وإلّا لابتُلي بالنفاق والكذب، ما يؤدّي إلى ضعف الإيمان والتديُّن، ولا يبقى عندها أيّ قيمة للتقوى والإيمان.
وجوب مراعاة النظام في الفقه الإسلامي
أفتى الفقهاء المسلمون بوجوب الالتزام بمقرّرات نظام المجتمع، ولو كانت من دولة غير إسلاميّة، تجب مراعاتها على كل حال7، وليس لأيّ أحد أن يضع في الشوارع والطرقات العامّة ما يضرّ بالمارّة ونحوهم، ولا بدّ من منع ذلك بأيّة وسيلة ممكنة، ولو بتسجيل عقوبة مادّيّة عليه
5- الصف، 4.
6- بحار الأنوار، ج42، ص256.
7- الإمام الخامنئي, أجوبة الاستفتاءات، ج2 ص324.
175
145
الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام
لحفظ المصالح العامّة، وكذا الحال في وضع القذارات فيها، ولا ينبغي لأحد مخالفة النظام، ولا سيّما مع حصول الإضرار بالجار8. ومن الطبيعي أنّ المحافظة على أنظمة وقوانين، مثل: شبكات الكهرباء والماء والهاتف العامة، وعلى أنظمة السير والبناء والضمان الصحي والبيئة، وغيرها ممّا له جنبة مصلحة وفائدة اجتماعية عامّة، من المصاديق الطبيعيّة، التي تندرج تحت النظام العام الذي أوجب الفقهاء الالتزام به ومراعاته.
النظم في العلاقات الاجتماعيّة
أولى الإسلام الآداب العامّة التي ترتبط بالمجتمع وتمسّ حياة الناس وحقوقهم أهمّيّة قصوى، تبرز في مختلف مرافق الحياة العامّة والاجتماعيّة, فقد جعل الإسلام كلّ مسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعيّة، يمارس دوره الاجتماعي من موقعه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته"9، ودعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاهتمام بأمور المسلمين، ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، فقال: "من أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم"10.
فالمسلم مسؤول عن إصلاح وتحصين نفسه وأفراد مجتمعه، من خلال الالتزام بالأحكام الشرعيّة الاجتماعيّة المتعلّقة بالأسرة، والأرحام، والجيران والأبناء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة على النظام العام، ورعاية حقوق الآخرين، وعدم التهاون والتساهل بها, بالإضافة إلى المساهمة والحضور الاجتماعي بحسب المصلحة والوسع. قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾11.
النظام في الحياة الفرديّة
تشتمل الحياة الشخصيّة للإنسان على النظافة والصحّة وترتيب اللباس ونظافة الشعر والوجه وغيرها... نشير بشكل مختصر إلى بعض هذه الموارد:
1- التجمّل: رُوي أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كلّما أراد الخروج إلى المسجد، أو إلى لقاء أصحابه،
8- مجمع المسائل, ج1، ص399، م16.
9- جامع الأخبار, 327.
10- الكافي, ج2, ص163.
11- الحجرات، 10.
176
146
الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام
ينظر في المرآة ويُرتِّب شعره ويتعطَّر، وكان يقول: "إنّ الله يُحبُّ من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيَّأ لهم ويتجمَّل"12.
2- النظافة: وممّا أمر به الإسلام أيضاً رعاية النظافة العامّة والشخصيّة, لما في ذلك من مظهر حضاري ومدني له العديد من الأبعاد التربوية بين الناس، فعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الله طيّب يُحبُّ الطيّب، نظيف يُحبُّ النظافة"13، وفي كلام آخر له صلى الله عليه وآله وسلم قيّد الدخول إلى الجنّة بالنظافة: "تنظَّفوا بكلِّ ما استطعتم, فإنّ الله تعالى بنى الإسلام على النظافة، ولن يدخل الجنّة إلّا كلّ نظيف"14، وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: "من أخلاق الأنبياء التنظّف"15.
3- المظهر الحسن: إنّ تعاليم الإسلام كما أمرتنا برعاية النظافة والتجمّل والتطيّب، أمرتنا أيضاً بأن نراعي المظهر الحسن في الشكل واللباس، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه رأى رجلاً شعثاً، قد تفرّق شعره، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره"16. وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال: "من اتخذ ثوباً فلينظّفه"17، وعن الإمام علي عليه السلام حول لبس الحذاء قال: "استجادة الحذاء وقاية للبدن، وعون على الصلاة والطهور" 18.
الانضباط في الوقت
إنّ الاستفادة الصحيحة من الوقت هي من أهمِّ الأمور التي توجب نجاح الإنسان في أموره الاجتماعيّة ونجاح علاقاته مع الآخرين، ويكون ذلك عبر قيام الإنسان بتنظيم برنامج شخصي له للعمل، وللثقافة وللزيارات. إنّ عدم وجود نظام يسير عليه الإنسان يوجب ضياع الفرص، وأمّا الانضباط والعمل ضمن برنامج معيَّن فهو موجب للاستفادة من طاقة الإنسان واستثمار نتائج عمله. ويأمر الإمام الكاظم عليه السلام الإنسان بتقسيم أوقاته أربعة أقسام، فقد ورد عنه عليه السلام: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة
12- وسائل الشيعة، ج5، ص11.
13- كنز العمال، ج15، ص389.
14- م.ن، ج9، ص277.
15- بحار الأنوار، ج11، ص66.
16- مستدرك الوسائل، ج4، ص186.
17- الكافي، ج6، ص441.
18- وسائل الشيعة، ج5، ص61.
177
147
الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام
لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يُعرِّفونكم عيوبكم ويُخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرّم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات"19.
الانضباط في العهود والوعود
من الموارد الأخرى التي لا بدَّ فيها من الانضباط، الالتزام بالعهود والدقّة في الوعود، وهو قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾20. وقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوفاء بالعهد من لوازم الإيمان بيوم القيامة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد"21.
إنّ الاتّفاق المسبق عند كل عقد يمنع من وقوع الكثير من النزاعات، ورعاية ما اتّفق عليه يوجب المحبة والثقة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾22، وفي الرواية عن أحد أصحاب الإمام الرضا عليه السلام: "كنت مع الرضا في بعض الحاجة، فأردت أن أنصرف إلى منزلي، فقال لي: انصرف معي، فبت عندي الليلة، فانطلقت معه، فدخل داره مع المغيب، فنظر إلى غلمانه يعملون بالطين أواري الدواب أو غير ذلك، وإذا معهم أسود ليس منهم، فقال: ما هذا الرجل معكم؟! قالوا: يعاوننا، ونعطيه شيئاً. قال: قاطعتموه على أجرته؟ فقالوا: لا، هو يرضى بما نُعطيه، فغضب الإمام، وقال لصاحبه: إنّي قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرّة، أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه أجرته، اعلم أنّه ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة، ثم زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعاف أجرته، إلّا ظنَّ أنّك قد نقصته أجرته، وإذا قاطعته ثمّ أعطيته أجرته، حمدك على الوفاء، فإن زدته حبّة عرف ذلك، ورأى أنّك زدته"23.
النظم في العبادة
في العبادة أيضاً، لا بدَّ من مراعاة النظم والانضباط، وذلك بأداء كل عبادة في أوَّل وقتها، الصلاة جماعة، وصيام شهر رمضان، وقضاء ما فات المرء من الصوم في السنة نفسها التي فات فيها، وأداء الخمس والزكاة في وقتهما، والحذر من الإفراط أو التفريط في العبادة.
19- تحف العقول، ص410.
20- الإسراء، 36.
21- الكافي، ج2، ص364.
22- البقرة، 282.
23- بحار الأنوار، ج49، ص106.
178
148
الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام
إنّ رعاية الاعتدال والوسطيّة في العبادات له أثره في استمراريّة العمل وعدم الانقطاع عنه. إنّ الإفراط في العبادة والعمل والمستحبّات قد يوجب قسوة القلب، بل لعلّه يصبح عائقاً أمام قيام الإنسان بواجباته الاجتماعيّة، بل قد يجرُّ الإنسان إلى ارتكاب الذنوب، كأن يقوم بقراءة الدعاء أو العزاء أو سائر المستحبّات في وقت متأخّرٍ من الليل بما يوجب أذيّة الآخرين.
والعبادة إنما تكون بنّاءة ومفيدة متى صدرت عن رغبة وشوق ومحبَّة. إنّ قصّة ذلك الرجل الذي دعا جاره إلى الإسلام معروفة، حيث أخرجه من الدِّين كما أدخله، فإنّه عندما أسلم جاره اليهودي أخذه إلى المسجد في الصباح الباكر، وأبقاه هناك إلى الغروب في حالة الدعاء والذكر وقراءة القرآن، ولمّا جاءه في اليوم التالي ليأخذه إلى المسجد امتنع صاحبه من ذلك، وقال له: إنّي رجل ذو عيال، ولا بدَّ لي من تأمين معيشتي ومعيشة عيالي، وإنّي لا أريد ديناً كدينك، فاذهب وابحث عن رجلٍ غيري.
الانضباط في المصروف
لا بدّ للمسلم من رعاية الوسطيّة في اللباس والطعام وسائر مستلزمات الحياة، وفي الاستفادة من بيت المال والأموال العامّة، فلا يقع في الإفراط ولا في التفريط بما يوجب الشحّ والبخل.
إنّ الانضباط في المصروف يعني وجود حساب دقيق وبرنامج عملي فيما يحصّله الإنسان من مال - الواردات - وفيما يحتاجه من مصروف، وزيادة المصروف عن المدخول هو الإسراف. إنّ عدم وجود ضابطة لدى الإنسان فيما يصرفه أمر سيّئ، ويجرُّ الإنسان إلى الفقر. وقد ذمّ القرآن الإسراف والتبذير، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾24.
وقد وضع الإمام الصادق عليه السلاممجموعة من القواعد في باب الاقتصاد، ومن هذه القواعد قوله عليه السلام: "لا تكسل في معيشتك، فتكون كلّاً على غيرك"25، وقوله عليه السلام "ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر"26.
وقد كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أصحابه حول مورد مصرف بيت المال، فقال: "أدقّوا
24- الإسراء، 27.
25- الكافي، ج5، ص86.
26- وسائل الشيعة، ج17، ص64.
179
149
الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام
أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، واحذفوا عنّي فضولكم، واقصدوا قصد المعاني، إيّاكم والإكثار, فإنّ أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار"27.
الانضباط والنظم في الأمور العسكريّة والحرب
للانضباط في الحرب وأثناء أداء المهام الجهاديّة أهميّة خاصّة. إنّ أساس النجاح في الحرب بعد الإيمان والاعتقاد الراسخ لدى المجاهدين والتدبير والطاعة هو الدقّة في العمل والانضباط العسكري، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾28.
إنّ من عوامل النصر والرقيّ هو النظم والانضباط في الحرب أثناء الهجوم وأثناء الانتقال وأثناء الانسحاب، بل وأثناء الاستراحة، وأمّا عدم الانضباط، فإنّه موجب لتلف القوى وللهزيمة. وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قبل أن يأمر بالهجوم، يعمل على تنظيم الجيش وتوزيع المهام، وكان يحذّرهم من مخالفة أمره.
ومن الأمور الحسّاسة والمهمّة في الحرب عنصر الطّاعة للقيادة ورعاية القوانين والمقرّرات. وفي التاريخ نماذج كثيرة كان السبب في هزيمتها عدم الانضباط ومخالفة أوامر القيادة. فهذه معركة أُحد شاهد من تاريخ المسلمين، حيث أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جماعة المسلمين على رأسهم عبد الله بن جبير بحماية المسلمين من الخلف، وبعد أن رأى هؤلاء بوادر نصر المسلمين تلوح في الأفق تركوا الجبل وعصوا أمر رسول الله ليفوزوا بالغنائم، الأمر الذي أدّى إلى قيام المشركين بعمليّة التفاف ومستفيدين من غفلة المسلمين، وكانت النتيجة هزيمة وخسارة المعركة وانتصار المشركين.
وعليه فلا بدَّ في الحرب من التزام أوامر القيادة بدقّة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾29.
27- مستدرك البحار، ج3، ص132.
28- الصف، 4.
29- النور، 62.
180
150
الدرس الخامس عشر: النظم والانضباط في الإسلام
المفاهيم الرئيسة
1- الإسلام دين بُنِي كلُّه على النظام، وهو ينظّم الحياة البشرية في مختلف ميادينها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية.
2- لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً يتحلى بالتقوى والايمان الحقيقي دون أن يربّي نفسه على النظام، والالتزام بالحقوق والواجبات تجاه الله والناس.
3- لا ينبغي لأحد مخالفة النظام ولا سيما مع لزوم الإضرار بالآخرين. وقد أفتى الفقهاء المسلمون بالمحافظة على الأنظمة والقوانين وبوجوب الالتزام بمقررات نظام المجتمع.
4- أولى الإسلام الآداب العامة التي ترتبط بالمجتمع وتمسّ حياة الناس وحقوقهم أهمية قصوى، وجعل كل مسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعية.
5- نظّم الإسلام الحياة الشخصيّة والخاصة للإنسان فأمره بالمحافظة على النظافة والصحّة وترتيب اللباس ونظافة الشعر والوجه وغيرها...
6- من الموارد الأخرى التي لا بدَّ فيها من الانضباط ومراعاة مبادئ النظم: الوقت، والعهود، والمال، لما لها من تأثير مباشرعلى حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية.
7- لكي تحقّق العبادة أهدافها الطيّبة لا من مراعاة النظام فيها أيضاً. ويتجلى الأمر من خلال مراعاة آداب العبادة المختلفة، من الوقت والاعتدال والرغبة وغيرها...
8- إن أساس النجاح في الحرب بعد