المقدمة
المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وبعد...
لقد التقت مجموعة هامّة من الخصال القيادية النفيسة في شخصية الإمام الخميني قدس سره، يصوّرها تلميذه الإمام الخامنئي حفظه الله بقوله: "... ذلك العظيم الذي جمع قوّة الإيمان مع العمل الصالح، والإرادة الفولاذية مع الهمّة العالية، والشجاعة الأخلاقية مع الحزم والحكمة، وصراحة اللهجة والبيان مع الصدق والمتانة، والصفاء المعنوي والروحي مع الذكاء والكياسة، والتقوى والورع مع السرعة والقاطعية، وهيبة القيادة وصلابتها مع الرقّة والعطف"1.
وهذه الخصال نفسها بتمامها وكمالها نقرؤها في شخصية الإمام الخامنئي حفظه الله ومسيرته القيادية, فهو الذي يذوب في شخصية أستاذه، ويتبّع فكره ونهجه، كما يصرّح قائلاً: "إنّني أعتبر نفسي تلميذاً متواضعاً، وابناً مطيعاً، ومحبّاً عاشقاً لروح الله..."2.
وهذا ما نلمسه بوضوح عندما ننظر في الثوابث والأصول التي حرص الإمام الخامنئي حفظه الله على ترسيخها في وجدان الأمّة، والتزمها سلوكاً عملياً في قيادته وإدارته لمختلف المراحل الصعبة والمعقّدة التي واجهت الأمّة الإسلامية بشكل عام، والجمهورية الإسلامية بشكل خاص، ومن هذه الأصول:
روح التوحيد نفي العبودية لغير الله: يرى الإمام الخامنئي حفظه الله أنّ دائرة التوحيد ونهجه في الحياة وفي النظام الاجتماعي لا تعني عدم عبادة غير الله فقط ليكون الإنسان موحّداً، بل لا بدّ من شروط أخرى، أهمّها عدم إطاعة أعداء الله والطواغيت، وبهذا البيان يمكن التعبير عن عبادة الله - التي هي روح التوحيد - بالعبودية والطاعة المنحصرة بالله، وأنّ عبودية وطاعة غير الله تعدّ شركاً... سواء أكانت في الأوامر الشخصية، أم في القوانين العامّة، أم في شكل النظام الاجتماعي وكيانه.
تجلّي نفي العبودية لغير الله بالولاية: يعتبر الإمام الخامنئي أنّ الولاية نسيج من الترابط والاتّحاد الفكري والعملي الذي ينتج انصهار المجتمع والأمّة في بوتقة الإسلام، ما يحفظ قوّة الأمّة ووحدتها، ويمنع من الذوبان أو الانخراط في التيّارات الفكرية والعملية المنحرفة والمخالفة، ويشكّل جبهة محكمة وقويّة لا يمكن اختراقها.
1- من خطبة له، ألقاها بتاريخ: 18/3/1969 هـ.ش.
2- المصدر نفسه.
5
1
المقدمة
ويعتبر حفظه الله "أنّ المجتمع يكون صاحب "ولاية" عندما يكون "الولي" مصدراً لجميع النشاطات والفعاليات الإنسانية. أمّا الفرد فإنّه يكون صاحب "ولاية" عندما يمتلك معرفة صحيحة بـِ "الولي"، ويسعى دائماً لأجل تحقيق المزيد من الارتباط به, لكونه مظهر الولاية الإلهية, فـ"الولي" هو خليفة الله، ومظهر القدرة الإلهية العادلة على الأرض، وهو بدوره يستفيد من جميع القدرات والقابليات المودعة في وجود البشر لتحقيق تكاملهم وتعاليهم، ويقف سدّاً منيعاً بوجه كلّ ما يمكن أن يؤدّي إلى ضررهم"3.
نهج الإسلام يجب أن يبقى محمديّاً أصيلاً: لقد أولى الإمام الخامنئي حفظه الله فكرة "الإسلام المحمّدي الأصيل" اهتماماً وتركيزاً بالغين، واعتبره محوراً رئيساً في فهم الأمّة للدين والتزامها بتعاليمه وسعيها للاقتدار والتقدّم. وفي هذا دعوة واضحة للأمّة كي تذوب في الإسلام الذي دعا إليه وعمل به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والذي يقرن الإيمان بالعمل الصالح الدؤوب. حيث يعتبر حفظه الله أنّ الإسلام المحمّدي الأصيل إسلام العدل والقسط، إسلام العزّة، إسلام حماية الضعفاء والحفاة والمحرومين ... إسلام الدفاع عن حقوق المظلومين والمستضعفين، إسلام الجهاد ضدّ الأعداء وعدم مداهنة المتغطرسين والمتفرعنيين ... إسلام الأخلاق والفضيلة والسموّ المعنوي.
الروح الحسينية ثورة مستمرّة على الظلم: ينطلق الإمام الخامنئي حفظه الله في حديثه عن الثورة الحسينية من أنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام كانت لتأدية واجب عظيم، ألا وهو إعادة الإسلام والمجتمع الإسلامي إلى الخطّ الصحيح، والثورة ضدّ الانحرافات الخطيرة في المجتمع الإسلامي، وذلك بصرف النظر عن النتيجة، الحكومة أو الشهادة، وقد كان الإمام الحسين عليه السلام مستعدّاً لكلتا النتيجتين. ويُفهم من هذا أنّ الإمام الخامنئي حفظه الله يرى أن مواجهة الظلم تكون باستمرار الاندفاع المعنوي، والعرفان، والابتهال إلى الله والفناء فيه، وعدم رؤية الذات أمام إرادته المقدَّسة، الذي أضفى على واقعة كربلاء هذا الجلال والعظمة والخلود.
وهذا الكتاب (خطاب الولي2012) هو الكتاب الثالث على التوالي، الذي نعمل على إصداره لنضعه مادّة علمية موثّقة لخطب وبيانات ومحاضرات الإمام الخامنئي حفظه الله، والتي تتميّز بغناها المنهجي والمعرفي والفكري والسياسي المتقدّم، كلّ ذلك في إطار خطاب موضوعي واعٍ وحكيم، يعتمد الإسلام منطَلَقاً، ومصالح الأمّة الإسلامية والمستضعفين في العالم غايةً وهدفاً.
نسأل الله تعالى أن ينير قلوبنا بنور الولاية المشرق في عصر غيبة صاحب الزمان بنائبه الإمام السيد علي الخامنئي حفظه الله.
مركز نون للتأليف والترجمة
3- الإمام الخامنئي، الخطوط العامّة للفكر الإسلامي في القرآن، جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة.
6
2
في لقاء حشدٍ من أهالي قم المقدّسة وعلماء الحوزة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء حشدٍ من أهالي قم المقدّسة وعلماء الحوزة
المناسبة: ذكرى "19 دي".
الحضور: حشدٌ من أهالي قمّ المقدّسة، وعلماء الحوزة وفضلائها.
المكان: طهران.
الزمان: 9/1/2012م.
9
3
في لقاء حشدٍ من أهالي قم المقدّسة وعلماء الحوزة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نشكر الله تعالى أن عطّر أجواء هذه الحسينية مرّةً أخرى بالأنفاس الدافئة والقلوب المفعمة بالنشاط لشباب قم, وذلك بمناسبة التاسع عشر من دي. فإنّ وعي ويقظة وبصيرة أهالي قم الأعزّاء ودفاعهم المستميت عن الحوزة العلمية ومراجع تقليدهم تُعدّ حادثةً خالدةً على مرّ الزمان، وسوف تبقى.
لو اعتبرنا أنّ حادثة التاسع عشر من دي1 هي مبدأ تأريخ التحوّلات الجديدة في العالم فلا عجب في ذلك، ولا جزاف في الكلام. إنّ أحداث المجتمع البشري وهذا العالم الكبير تخضع لقانون التأثّر المتبادل، فكل حادثة تترك أثراً على غيرها من الحوادث، وبدورها تنتج سلسلة الأحداث التاريخية الوقائع الكبرى. فلو أنّنا عرضنا المسألة بهذه الصورة، وهي أنّ حركة أهالي قم في التاسع عشر من دي لعام 1356 هـ.ش. 9-1-1978م كانت بمثابة شرارةٍ وسط ظلمة القمع الحالكة في ذلك الزمان، حيث إنّ الحديث التفصيلي عن ذلك القمع في بلدنا الذي كان آنذاك مدعوماً من العالم كلّه الذي يُقال عنه إنّه مناصرٌ للحرية، ويدافع ويحمي الحكّام والمتسلّطين المستبدّين والدكتاتوريين بكلّ وجوده، يستلزم كتباً كثيرة ـ ففي مثل تلك الأجواء، كانت الدماء الطاهرة التي أُريقت في شارع "چهار مردان"2 في قم وأوجدت تلك الحركة العظيمة لأهالي تلك المدينة هي الشرارة التي أصابت المستودع الإيماني العظيم لهذا الشعب وقلبت الأجواء بشكل مفاجئ.
لو لم تحصل تلك الحادثة ذاك اليوم في مدينة قم، لما حصلت تلك الحوادث المختلفة في المحافظات وسلسلة الأربعينيات التي جرّت الناس إلى ميدان المواجهة. ولو لم تجرِ تلك التحوّلات والأحداث لما تحقّق الثاني والعشرون من شهر بهمن، (11-2-1979يوم انتصار الثورة الإسلامية) ولما وصلت الثورة الإسلامية إلى هذا النصر. الثورة الإسلامية وصلت إلى النصر وبدأ التحدّي مع الاستكبار، تحطّمت هيبة الاستكبار وهيبة أمريكا والصهيونية. فلو لم يتمّ تحطيم هذه الهيبة المزيّفة للقوى العظمى ـ حيث تهيمن على عالم البشرية بهالة زائدة عن واقعيتها (هيبتها اللاواقعية) ـ لما فكّر المسلمون في الدول المختلفة واستيقظوا. ثبات شعب إيران ومظلوميته في الأحداث المختلفة وفي الحرب المفروضة وفي مرحلة الدفاع المقدّس الشديدة المترافقة مع الحظر الصعب (الحصار الاقتصادي) - وصموده بمثل هذا الإحكام وتقدّمه بهذا الثبات - قد هزّ
1- يوم انتفاضة أهالي مدينة قمّ تنديداً بمقال نشرته السلطات الإيرانيّة في صحيفة اطلاعات وأهانت فيه الإمام الخميني قدس سره.
2- اسم شارع وحيّ كبير في مدينة قم المقدسة.
11
4
في لقاء حشدٍ من أهالي قم المقدّسة وعلماء الحوزة
الشعوب. لو أنّ هذا الثبات لم يكن، ولو أنّ هذا الصمود لم يتحقّق، ولولا جرّ هيبة القوى العظمى الكاذبة إلى التحدي، لما نزلت الشعوب إلى الميدان ولما تحقّقت الصحوة الإسلامية، حتى أنّ هذه الأحداث التي تقوم الآن بتغيير المنطقة وتصنع عهداً جديداً ما كانت لتتحقّق. فالأحداث تبدأ من نقطةٍ وتتحرّك وفق سلسلة متصلة. ففي ظل الاستقامة والصبر والاستمرار على الطريق والمداومة على العمل، تترتّب جميع الخيرات وكلّ البركات.
الصبر والبصيرة شرطا الانتصار
إنّ الصمود هو الشرط الأول. فعلى الشعوب التي تبدأ السير أن تستقيم، ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾1. نجد في القرآن الكريم أنّ الأمر المتوجّه إلى نبيّ الإسلام المكرّم بالاستقامة قد ورد في أماكن متعدّدة، وسرّه هو هذا الأمر: يجب الثبات، والعمل عليه، وعدم إضاعة الطريق، والتوجّه دوماً نحو الهدف، والمواظبة على التقدّم. فلو حصلت هذه الأمور، ستتوالى الانتصارات، كما حدث لشعب إيران.
شعب إيران يُقدّم اليوم تجربته العظيمة هذه للشعوب الأخرى. تجربة النجاح الناشئة من عامليّ البصيرة والصبر.
البصيرة تعني عدم فقدان الطريق وعدم الاشتباه في تحديده، وعدم الابتلاء بالانحرافات والاعوجاجات، وعدم التأثر بوساوس الخنّاسين، وعدم الخلط بين العمل والهدف. والصبر يعني الصمود. وكل جيل ينقل إلى الجيل اللاحق. واليوم بحول الله وقوّته، فإنّ لجيل الشباب في بلدنا حضوراً وتواجداً مع أنّه لم يشهد مرحلة الثورة، ولم يدرك مرحلة الحرب جيداً, إلا أنّه في الوقت نفسه يتمتّع بتلك الروحية والأحاسيس والدافعية، وبذاك العزم القاطع يصمد في الميدان, فهذا مهمٌّ جداً. هذا هو فنّ الثورة الإسلامية، ويجب علينا أن نقوّي عوامل هذا الصمود وهذه البصيرة في أنفسنا.
عاملا اقتدار الشعب (اقتدار النظام وثبات الشعب)
هناك عاملان مترابطان يشكّلان سلسلة اقتدار الشعب:
العامل الأول، هو الموقف الحازم لنظام الجمهورية الإسلامية المقدّس بعدم الانحراف
1- الشورى، 15.
12
5
في لقاء حشدٍ من أهالي قم المقدّسة وعلماء الحوزة
وعدم الخضوع، الصمود مقابل التجاوز والتسلّط الذي تمارسه القوى العظمى والاستكبار. إنّ النظام الإسلامي بمجموعه، وبهويّته الجمعية، يُدرك تماماً ماذا يفعل، وقد اختار الطريق وثبت عليه. هذا هو العامل الأول.
والعامل الثاني، هو الحضور الواعي الفائض بالعزم للشعب الوفي. فلو أنّ هذين الشيئين انفصلا عن بعضهما بعضا، ولو أنّ مسؤولي النظام ومدراء البلاد كانوا متواجدين والشعب لم يكن متواجداً، فلا شكّ أنّ العمل لن يتقدّم. لو أنّ مدراء النظام ابتُلوا بزيغ النوايا ووهن القدرة على التشخيص والفهم واتّخاذ القرارات أمام حشود الكفر والضلالة التي اصطّفت مقابلهم، فمن المؤكد أنّه سيكون لذلك أثره في اختلال النظام، وسيُخرج الناس من الساحة. فهذان العاملان موجودان معاً، وهما اليوم كذلك، وسيبقيان في المستقبل إن شاء الله. فمع هذين العاملين لن تؤثّر أيّ من الضربات والمؤامرات والمكائد والأحابيل التي يمارسها العدوّ مع هذا الشعب.
إنّ الجبهة التي تواجهنا اليوم ـ والتي تتزعمها أمريكا والصهيونية ـ تتوسّل بجميع الطرق التي يمكن استخدامها وتتشبّث بها, وتستعمل كل الوسائل التي يمكن استخدامها في مواجهة شعب إيران، علّهم يتمكّنون بذلك من إضعاف هذين العاملين والقضاء عليهما، وهما عامل اقتدار النظام، وعامل ثبات الشعب وصموده في الساحة. وهم بأنفسهم يُصرّحون بهذا الأمر ويقولون إنّ كل هذا الحظر الذي نُقرّه ونفرضه على إيران ـ ويتابعونه بمنتهى العناد ـ من أجل أن نُنهك هذا الشعب فيخرج من الساحة ويُعرض الناس عن النظام الإسلامي. فإمّا أن يحدث هذا الأمر، أو أن يتسلّل الوهن إلى إرادة المسؤولين فيعيدون النظر في حساباتهم. وبحسب تعبيرهم: إنّنا نريد أن يشعر مسؤولو الجمهورية الإسلامية أنّهم سيدفعون ثمناً باهظاً مقابل قراراتهم، وذلك من أجل إيجاد ثلمة وصدع في إرادة مسؤولي البلاد. فهم يلاحقون هذين الأمرين بكل ما أوتوا من قوّة وبجميع الوسائل التي يعرفونها. فإمّا أن يوجدوا الترديد والشكّ في قلوب الشعب ويبعدوه عن النظام، وإمّا أن يوجدوا التزلزل في المسؤولين ويحملوهم على إعادة النظر في قراراتهم وخياراتهم. لقد أخطؤوا, فإنّهم لن يتمكّنوا من تحقيق أيٍّ منهما. ذات يوم، في صدر الإسلام، ظنّ الأعداء أنّه بإمكانهم أن يخضعوا المسلمين في شِعب أبي طالب بالحصار الاقتصادي، ولكنّهم لم يتمكّنوا. وهؤلاء أصحاب الوجوه المُظلمة والحسابات الخاطئة، يتصوّرون أنّنا اليوم نعيش في أوضاعٍ مشابهة لشِعب أبي طالب. الأمر ليس كذلك، نحن الآن لسنا في ظروف تشبه ظروف شِعب أبي طالب، فنحن الآن في أوضاع بدرية وخيبرية. إنّنا نعيش في ظروفٍ شاهد شعبنا فيها علائم الانتصار بعينيه، وقد اقترب منها، وقد أنجز العديد من مقدّمات الانتصار بشموخ. فهل يخاف شعبنا اليوم من الحصار الاقتصادي؟! أفبهذه
13
6
في لقاء حشدٍ من أهالي قم المقدّسة وعلماء الحوزة
الكلمات وهذه الأحابيل يريدون أن يُخرجوا الشعب من الساحة؟! وهل يمكن هذا الشيء؟! أم يريدون اليوم أن يُلقوا الوهن في إرادة المسؤولين ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي1﴾، هذا هو الطريق الذي اختير ببصيرة، وقد افتُتح بالجهاد، وقد تم تعبيده بدماء أعزّائنا. لقد سلكنا هذا الطريق، وقد تسنّمنا القِمم، ولن نتوقّف، وإن شاء الله سنتقدّم أكثر وإن كنّا قد بلغنا إلى اليوم الكثير من القِمم. أين هي الجمهورية الإسلامية اليوم؟ وأين كانت قبل عشرين أو ثلاثين سنة؟ أين كانت هيمنة أعداء الجمهورية الإسلامية، وصخبهم وضجيجهم في ذاك الزمان؟ وأين هو ضعفهم وانكسارهم اليوم؟ إنّ هذه دلائل تشجّع شعب إيران. إنّ إرادة المسؤولين ستبقى مُحكمة في الاستمرار على طريق الإسلام الذي هو طريق الله، وطريق الدين، وطريق سعادة الدنيا والآخرة.والشعب اليوم وفي الغد سيبقى ثابتاً في هذه الحركة العظيمة.
الانتخابات
أهمّيّة الحضور في الانتخابات (المشاركة)
إنّ من المجالات التي يمكن للشعب أن يُظهر حضوره فيها هي الانتخابات. أمّا هم (الأعداء) فلم يبدؤوا بذلك (أن يوجدوا الترديد في قلوب الشعب) من اليوم، لقد شرعوا به منذ مدّة، علّهم يتمكّنون من تقليل حضور الناس في هذه الانتخابات. تسمعون ثم ترون، والآن كذلك بالمقدار الذي يصل إلى أسماع الناس وإلى أعينهم من خلال المطبوعات والوسائل الإعلامية المختلفة، فإنّ أعداءنا ومن أعلى المستويات حيث مراكز القيادة لجبهة الكفر والاستكبار، وحتى تلك الدمى والأيادي الصغيرة، وعملاء نظامهم الذين نشروهم في كل مكان، فهنا يوجد منهم وفي الخارج أيضاً، استنفذوا سعيهم علّهم يستطيعون أن يقوموا بعملٍ لكي لا يشارك الناس في هذه الانتخابات. وإنّني من خلال تجربتي مع سلوك هذا الشعب وبالثقة بلطف الله تعالى، أتوقّع بلطف الله وفضله وبحوله وقوّته أن يكون حضور الناس في هذه الانتخابات حضوراً يكبت العدوّ ويهب بهذه الانتخابات دماً جديداً لكيان الثورة والبلد ونظام الجمهورية الإسلامية, حيث سيمنحه ذلك حركة جديدة ويجلب المزيد من النشاط، مثلما كانت جميع الانتخابات. إنّ الانتخابات هي مظهر حضور الشعب ومظهر تدخلّه في رسم مصيره.
1- يوسف، 108.
14
7
في لقاء حشدٍ من أهالي قم المقدّسة وعلماء الحوزة
بالطبع، يوجد آفات وعلينا أن نسعى لكي لا تحصل. فشعبنا وبلدنا يحمل من انتخابات العام 2009م أجمل الذكريات وأسوأها. فأجملها نتج عن الحضور العظيم لأربعين مليون نسمة أمام صناديق الانتخابات ممّا أدهش العالم، وأسوأ الذكريات ما يتعلّق بتلك المناكفات السياسية لمجموعة من الجهلة عديمي اللياقة وبعض المعاندين. في كلّ قضية وحادثة قد يكون هناك من لا يقبل ويعترض، فكيف يجب أن يُظهر اعتراضه؟ لقد عيّن القانون طريق هذا الأمر، فلماذا يُخالفون القانون؟ ولماذا يُرهقون الناس؟ ولماذا يجعلون البلد سبباً لإدخال السرور على قلوب الأعداء؟ ولماذا يُنفّذون البرامج التي تفوح منها الروائح العفنة للخطط والبرامج التي أعدّها العدوّ؟ لقد عيّن القانون السبيل. هناك قلنا للجميع: كلّ الأطراف ملزمون بالعمل وفق القانون - محض القانون - فلماذا لم يعملوا؟!
هؤلاء لم يتمكّنوا من فعل شيء. وما دام هذا الشعب في الساحة، وما دام هذا الترابط موجوداً فلا يمكن لأي أحد في هذا البلد أن يُحقّق شيئاً من خلال المخالفات. إنّهم لم يتمكّنوا من فعل شيء ولن يتمكّنوا، ولكنّهم جلبوا خسائر للبلد والشعب. فهل لبلد أن لا يدفع ثمناً مع تلك الانتخابات العظيمة والمجيدة؟
هناك عوامل مختلفة. ويجب أن تكون بالنسبة لنا تجربةً، ويجب أن تكون صحيحة، ويجب أن نكون جميعاً حذرين, فالانتخابات مظهر حضور الشعب ونتاجه، وهي مظهر الرأي العام ومطالب الأُمّة، ويجب احترامها.
نزاهة الانتخابات
يجب أن تكون الانتخابات نزيهة وتنافسية. والتنافس هو غير الخصام، التنافس يختلف عن الطعن المتبادل ويجب على الجميع أن يكونوا ملتفِّين، فالتنافس لا يعني توقّف إثبات الذات على نفي الغير. التنافس لا يعني أن يقوم الأشخاص ومن أجل جذب أنظار الناس بإطلاق الوعود المخالفة للدستور وللقوانين العادية، فهذا لا ينبغي أن يكون. أولئك الذين يريدون أن يدخلوا في ميدان الانتخابات سواء أكانوا من العاملين فيها والمسؤولين عنها، أم من المرشحين، يجب عليهم أن يلتزموا بالآداب والشروط المتعلّقة بالحركة العامة النزيهة، وأن يكونوا ملتزمين. فهذا أمر ضروري.
يجب على جميع المشرفين على الانتخابات أن يبذلوا كل ما في وسعهم ليكونوا أمناء. ولحسن الحظّ، إنّ انتخاباتنا وطوال هذه السنوات المتمادية، كلّ هذه الانتخابات التي كانت من نصيبنا ـ قد حصلت أكثر من ثلاثين عملية انتخابية طوال هذه السنوات الـ 32 ـ كانت انتخابات نزيهة. وبعض الأوقات ادُّعي
15
8
في لقاء حشدٍ من أهالي قم المقدّسة وعلماء الحوزة
أنّ الانتخابات لم تكن نزيهة، فأرسلنا من يُحقّق ويُدقّق ـ سواء أكان في حياة الإمام المباركة لإ أم فيما بعد ـ
ووجدوا أنّ الأمر ليس كذلك. فمن الممكن أن يكون هناك بعض الأعمال المخالفة هنا وهناك، لكن ما يجعل الانتخابات غير نزيهة ويمكن أن يُغيّر نتائجها لم يحصل بتاتاً, فما انتخبه الناس قد تحقّق في الخارج. يجب أن يسعوا لجعل الانتخابات سالمةً ونزيهة, وهذا الأمر يقع على عاتق المشرفين، سواء أكان يعمل في الدولة ووزارة الداخلية أم في جهاز مجلس صيانة الدستور المحترم.
أهمّيّة القانون
على الجميع أن يكونوا متيقّظين فلا يوجد شيء أعلى وأعزّ من القانون. وفي العالم هناك أمر رائج حيث يُقال إنّ القانون السيّئ هو أفضل من عدم القانون. وليس ببعيد أن يقبل المرء بمثل هذا. لأنّه بدون القانون يحصل الهرج والمرج, فالقانون السيّئ على الأقل هو ضابطة وعلى الإنسان أن يقوم بإصلاحه. ولحسن الحظّ إنّ قوانين انتخاباتنا هي قوانين جيدة ومن الممكن تكميلها فيما بعد لتصبح أفضل.
سلوكيّات المرشّحين للانتخابات
أولئك الذين ينزلون في الحملات الانتخابية يجب عليهم التقيّد بمجموعة من الأمور والالتزام بها. فهذا الخطاب موجّه لكلّ الذين يُشاركون في الانتخابات كمرشّحين وكذلك لغيرهم من الناس. شعبنا العزيز عليه أن يتحرّى هذه السلوكيات في المرشّحين ويُدقّق فيها. فعلى المرشّح أن يُشارك في الانتخابات بقصد الخدمة. أمّا إذا كان بقصد تحصيل القدرة وجمع المال وأمثالها، وانطلاقاً من دوافع غير سليمة فإنّه لن يُقدّم أية خدمة للبلاد. إنّ مرشّح الانتخابات يجب أن يشارك بنيّة الخدمة. وهذا الأمر ينبغي تشخيصه وفهمه والتحرّي عنه, فلو إنّ المرشّحين كانوا متّصلين بمراكز الثروة والسلطة, فإنّ الأمر سيصبح خراباً، كما هو حال ما يسمّى بديمقراطيات العالم في أمريكا وغيرها, فالشركات وأصحاب الثروة يدعمون مرشّحي الانتخابات في رئاسة الجمهورية أو في انتخابات الكونغرس بالمال، فيكون المرشّح في المقابل ملزماً تجاههم. إنّ رئيساً للجمهورية يفوز بفضل أموال الأجهزة المختلفة ومراكز الثروة سيكون ملزماً تجاههم. ذاك النائب في المجلس الذي يفوز بفضل أموال الشركة الفلانية أو الشخصية الفلانية أو الرأسمالي الفلاني سيكون مضطراً أن يُقرّ قانوناً أو يُلغيه إذا اعتبر أولئك ذلك ضرورياً، ويكون عندها مستعداً لتوسعة القانون أو تضييقه. فوجود مثل هذا النائب لن يكون لصالح الشعب. فلا ينبغي أن يكون مرتبطاً بمراكز الثروات الشخصية وبطريقٍ أولى بالثروات العامّة. فالذي يأتي ويُنفق من بيت المال من أجل أن يصل إلى نيابة المجلس قد وقع في إشكالين، أي إن الإشكال مضاعفٌ. فهذه الأمور
16
9
في لقاء حشدٍ من أهالي قم المقدّسة وعلماء الحوزة
ينبغي أن يُراقبها الناس. وبالطبع، لا يجوز توجيه الاتهام لأي شخصٍ، ونقول إنّ هذا السيد مرتبطٌ بذاك المكان أو بهذا الشخص أو بتلك الأموال، فيجب استكشاف هذه الأمور وإثباتها.
يجب على الناس أن يفتحوا أعينهم ويلتفتوا. ولحسن الحظّ فإنّ الناس متيقظين. والذين يمكن أن يشكلوا للإنسان حجّة بينه وبين ربه، فليتم الاعتماد عليهم والثقة بهم، وحيث يمكن للمرء أن يُحقّق، فليُحقّق. هذه أمورٌ ضرورية، يجب التدقيق. وأسأل الله أن تجري الانتخابات بشكل جيد, وتكون مليئةً بالحيوية والحضور الشعبي ويُشخّص الناس فيها جيداً وينتخبون بشكل صحيح, وأسأل الله أن يتم تشكيل مجلسٍ لائق بالنظام الإسلامي. وبلطف الله - إن شاء الله - سيتحقّق هذا الأمر في المستقبل.
لو أردنا العون من الله، وشاركنا، وانطلق كل واحد منّا بدافع المسؤولية وكان هدفنا رفعة النظام الإسلامي والإسلام وشعب إيران، وأردنا أن نسعد وأن نؤمّن سعادة دنيانا وآخرتنا فطريق الله ليس مسدوداً. ولو تقدّمنا على هذه الأُسس فإنّ الله سيفتح لنا الطريق. المهمّ أن نبذل الهمّة ونعزم وننطلق.
إنّني مطمئن أنّ هذه الانتخابات ستكون معلماً للشعوب الأخرى. وبسبب هذا فإنّ الأجهزة الاستكبارية الخبيثة من إنكلترا وأمريكا والصهيونية وغيرها، سينشطون لتخريب هذه الانتخابات بأي شكلٍ وللطعن بها. الدول الأخرى تتطلع إلى هذه الريادة الانتخابية والثورية، أي إلى شعب إيران وما سيفعله. إنّ شعب إيران هو من السبّاقين في هذا المجال، فالشعوب الأخرى تنظر لترى إلى أين ستصل الانتخابات في إيران. الاستكبار يريد أن تجري الانتخابات في بلدنا بطريقة تجعل الشعوب يائسة...5 حسناً، لقد نطقتم بآخر الكلام! الموت لأمريكا هو آخر الكلام.
اللّهم، بمحمّد وآل محمّد اشمل بفضلك وهدايتك ورحمتك وعنايتك حال هذا الشعب العزيز.
اللّهم، اشمل شبابنا بنظرة عناية حضرة بقية الله أرواحنا فداه ودعاء هذا العظيم. وزد يوماً بعد يوم من انتصارات شعب إيران.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- هنا يهتف الحضور: "الموت لأمريكا".
17
10
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء المشاركين في الملتقى
الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
المناسبة: الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة.
الحضور: جمعٌ من العلماء والمفكّرين والمسؤولين والنخب.
المكان: طهران.
الزمان: 14/1/2012م.
19
11
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اللّهم، سدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة.
أُرحِّب بجميع الإخوة والأخوات وأشكر الحاضرين المحترمين على مشاركتهم في هذا العمل الجماعي البالغ الأهمية. كذلك أوجّه شكراً خاصاً للمتكلّمين والخطباء، سواء أكانوا الذين قدّموا مطالب أو الذين أبدوا حججاً وانتقادات على ما طُرح. كذلك أشكر من كل قلبي رئيس ومدير البرنامج جناب الدكتور واعظ زاده على الإدارة الحسنة لهذا اللقاء، وبشكل أكثر على تمهيده وتنظيمه لشكل هذا اللقاء ومضمونه، هو وثلّة من العاملين على مدى عدّة شهور.
هدف اللقاءات الاستراتيجيّة
إنّ الهدف من هذا اللقاء ومن هذه الاجتماعات هو تبادل وجهات النظر بشكل علمي مع مجموعات النخب حول المسائل الأساسية للبلاد. إذا قيل إنّها أفكار استراتيجية فهذا صحيح، في الحقيقة إنّ السعي هو وصولنا للفكر، بيد أنّه يمكن إجراء تقسيم وتنويع, الفكر في مجال العدالة، الفكر في مجال المرأة والأسرة، ثم إنّ لدينا لائحة طويلة تصل إلى أكثر من عشرين موضوعاً، كلّ منها يحمل صفة الفكر, الأفكار (وتنوّعها) هي بهذا اللحاظ، وإلاّ فإنّ المرجو بأن نصل إلى رؤية واحدة وفكر واحد في كلّ مجال من خلال التلاقي والمخاض الفكري والمعنوي لهذا الجمع من النُخب والمساعدة التي سيقدّمونها للإسلام ولنظام الجمهورية الإسلامية. وبالطبع فليس المقصود بأن نقوم في هذه اللقاءات ببحث موضوع ما من الصفر إلى المئة، فهذا الأمر ليس عملياً أيضاً، وإنّما الهدف شقّ طريق التعامل مع المسائل الهامّة والمطروحة والمستقبل. نريد - وخاصة في البعد النظري - أن يُفتَح طريق كي تتولى نُخب البلاد وعقولها الفعالة وأهل الخبرة في كل اختصاص جزءاً من المسؤولية لإنضاج فكر سليم، يتحول بدوره إلى قاعدة للتنفيذ والعمل والبرمجة, ما أقصده هو أنّ هناك نقاط ضعف وكذلك نقاط قوّة في المجال النظري وكذلك في المجال التطبيقي، وفي هذه اللقاءات يتم كشف هذه النقاط من خلال البحث الذي يتمّ مع المفكّرين وأهل الخبرة في كل اختصاص وبالاستناد إلى معلوماتهم وإنجازاتهم العلمية، ويمكننا أن نشخّص نقاط قوّتنا وكذلك نقاط ضعفنا وأن ننهض لمعالجتها، وأن نُرمّم النقاط المتزعزعة أو المتصدعة، وأن نُصلحها ونُزيل مواطن الضعف.
21
12
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
ينبغي لنا أن نعرف موقعيتنا في عالم التنظير، أين نحن متقدّمون وأين نحن متأخرون, في الواقع هناك أماكن نحن فيها في المقدمة وفي مجالات أخرى نحن في الخلف، وفي مجال مسألة المرأة وما نبحثه الآن. كل المصادر والتعاليم الإسلامية في متناول أيدينا، والآيات القرآنية الكريمة, سواء ما يتعلّق بهذه المسألة بشكل مباشر أو ما يشملها في كلياته من خلال عمومه وإطلاقه, ينبغي لنا أن نضعها في قالب نظري, أن نُخرجها بشكل نظريات ومجموعات لديها قابلية الاشتقاق والاستخدام والاستنتاج، ومن ثم نضعها بين أيدي الجميع - بين أيدينا لكي نحوّلها إلى برامج، وكذلك بين أيدي المخالفين والمستفسرين - حيث أشار بعضهم لهذا - والحقّ معهم، لقد ازداد اليوم في الدنيا عدد المستفسرين والمتسائلين حول رؤى الجمهورية الإسلامية التي تحمل في طياتها تجربة ثلاثين عاماً، وأنتم تُدركون هذا بالطبع ونحن على اطلاع بشكل كلّي, هناك كثر يراجعون ويسألون، يريدون أن يعرفوا المواضيع المختلفة حول ما هو موجود في الجمهورية الإسلامية، حسناً، ينبغي أن توفّر الإجابات لهؤلاء.
في السابق كان لنا لقاءان، أحدهما حول الأطروحة الإسلامية - الإيرانية للتقدّم، والآخر حول العدالة. مع أنّ هذين الموضوعين منفصلان الواحد عن الآخر، إلاّ أنّهما في طول بعضيهما بعضا. لقد أُنجزت أعمال جيدة، وأرغب أن يعرف الإخوة والأخوات بهذا، لأنّه - من الآن فصاعداً- يؤثّر على ما سأذكره بالنسبة لموضوع الليلة، اعلموا أنّ العمل يتقدّم بشكل جدي. لقد أشار السيد واعظ زاده لهذا, إلا أنّ تفاصيل الأعمال التي جرت هي أكثر مما ذكره في حديثه كتقرير، لأنّه كان على سبيل الاختصار. لقد أُنجزت أعمال جيّدة وجدّيّة، وخاصّة في هذا المركز الذي تأسّس للأطروحة الإسلامية الإيرانية للتقدّم، فهو بهمّة الباحثين يقوم بأعمال جيدة جداً. في الحقيقة، إنّ كل من هذه اللقاءات ينثر بذرة في أرض خصبة. مهمة ري وسقي هذه الأرض تقع على عاتق مجموعة من العاملين الذين تم تعيين بعضهم حتى الآن، وبعضهم الآخر نقوم بالتفكير بتحديدهم إن شاء الله، وبالطبع فإنّ الجو العام للبلاد يساعد على الازدهار. ونحن كذلك لسنا مستعجلين. بالطبع، نرغب في أن تتقدّم الأعمال بسرعة أي إنّنا لا نقبل بالكسل والتخلّف وما شابه, ولكن لا يوجد تسرّع في العمل، لا نريد أن نعمل بتسرّع، نريد للعمل أن يخرج متيناً وعميقاً وخالداً ويملك قابلية العرض والدفاع عنه. إن شاء الله، فإنّ هذه الجلسات - هذه الجلسة وما سبقها - ستؤدي هذا الدور، وأنا متأكد من هذا الأمر.
22
13
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
المرأة والأسرة
دور المرأة في الثورة
إنّ مسألة المرأة والأسرة هي من مسائل الدرجة الأولى بالنسبة للبلاد. ولقد أثبت الأصدقاء والسيدات والسادة الذين حضروا وتحدّثوا هنا هذا المعنى، لا ضرورة لأن نضيف شيئاً على ما قلتم وبيّنتم بشكل واسع وجيد، لقد دلّ الكلام هذا على أنّ المسألة مهمة جداً. إنّ دور وحصة السيدات في النظام دور استثنائي وممتاز, مثلما كان دور السيدات في أصل الثورة ممتازاً. ربما لا يعرف الشباب الأعزاء الحاضرون في هذا اللقاء - ممن لم يكونوا في زمان الكفاح أو الثورة - ما الذي حدث حينها، ومعلوماتهم هي عن طريق التقارير التي يشوبها النقص جميعاً, وللأسف، التقارير والأخبار كلّها التي خرجت من قلب الكفاح والثورة ناقصة وذات بُعد واحد ومختصرة. لدينا عمل كبير ينبغي إنجازه في هذا المجال - وإن لم يكن هذا من الأفكار الاستراتيجيّة إلا أنّه من الأعمال الاستراتيجيّة - وينبغي أن تتم متابعته إن شاء الله, أولئك الذين شاركوا وكان لهم حضور فعال منذ بداية الثورة يعلمون بأنّ النساء كان لهنّ دور (مميّز) سواء أكان في بدايات النهضة أم في زمن الثورة, أي في تلك السنة والنصف من التحركات الجماهيرية الثورية، كان للنساء دور مؤثّر ولا بديل له حتى أنّهن لو لم يشاركن فقط في هذه التحرّكات والتظاهرات الحاشدة والعظيمة، لما كان لهذه التحرّكات كل ذلك الأثر، بل إنّه في بعض الاماكن - مثلاً عندنا في مشهد - كان انطلاق التظاهرات بواسطة النساء, أي إنّ أول حركة شعبية كانت حركة نسائية وقد تصدّت لهنّ الشرطة، وانطلقت فيما بعد التحرّكات من الرجال، هكذا كان الأمر في الثورة والمواجهات. وكذلك بالنسبة إلى دورهن في تشكيل النظام وما جرى بعده بشكل سريع، أي زمن الحرب، زمن المحنة، زمن الامتحان الصعب ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ1﴾ لقد كانت الأوضاع قاسية في زمن الحرب. والحال، فإنّ بعضهم شاهد الحرب عبر التلفاز والإذاعة وما شابه، وبعضهم كان في ميدان الحرب بجسده وروحه، ما يتم عرضه من تقارير وأخبار مفعمة بالحماس والشوق في الحرب، كلّه صحيح وحقيقي، حيث إنّني أقرأ الكثير من الكتب المتعلّقة بذكريات المقاتلين وأعلم بأنّها صحيحة، كلّ ذلك الشوق والحرقة والعشق للجهاد والاشتياق للشهادة وعدم الرهبة من الموت وما شابه، هو ما يُعرض في التقارير وهو صحيح، لكنّ النظرة العامة للحرب كانت نظرة مثقلة بالمحنة والحزن. حسناً، تلك الكتيبة التي تتقدّم وتحارب بشوق ولهفة لا تعلم ما
1- التوبة، 118.
23
14
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
هي الحالة الموجودة في المركز الرئيس حول كل أوضاع الجبهة، وما هي نقاط الضعف، وما هي الهواجس الجدية. وما وراء المركز الرئيس على المستوى العام للبلاد، ماهي النواقص والمخاوف الموجودة. لقد كان زمناً صعباً، وفي هذا الزمن الصعب كان دور النساء دوراً استثنائياً, دور أمهات الشهداء، دور زوجات الشهداء، دور النساء المباشر المتصل بساحة الحرب مباشرة في أعمال الدعم والمؤازرة، وأحياناً وبشكل نادر في الأعمال العسكرية والعمليات. ولقد شاهدتُ عن قرب أعمال الدعم الحربي للنساء في الأهواز حيث كان دوراً منقطع النظير. لقد كانت النساء فاعلات حتى في الأقسام العسكرية. القصة "دا" التي كتبتها السيدة حسيني تدلّ على هذا الأمر، لقد شكّلن فريق عمل لا يمكن قياسه بأيّ معيار ولا ميزان. أن تكون أمّاً، أمّاً لشهيد، أمّاً لشهيدين، لثلاثة شهداء، لأربعة شهداء، ليس الأمر بالطرفة التي يسهل ذكرها على اللسان. إذا تعرّض طفل للزكام وسعل عدّة مرات، كم نقلق عليه؟ فماذا لو ذهب الولد فقُتل، ثم قُتل الثاني، ثمّ الثالث، هل هذه طرفة؟ وهذه الأمّ بكل عواطفها الأمومية المرهفة والملتهبة تؤدّي دورها بشكل تتشجّع معه مئة أمّ أخرى لإرسال أولادهن إلى ساحة الحرب، لو أنّ تلك الأمهات - حين وصلتهن جثامين أبنائهن أو لم تصل - صدرت منهنّ آهات وأنين، عتاب وشقّ للجيوب أو اعتراض على الإمام (الخميني) وعلى الحرب، فلا شكّ أنّ الحرب كانت ستُشلّ في تلك السنوات والمراحل الأولى للحرب، وهذا هو دور أمهات الشهداء، والزوجات الصابرات للشهداء. نساء شابات يفقدن أزواجهن في بداية الحياة الجميلة التي كنّ يتمنينها، أن يرضين أولاً بأن يذهب أزواجهن الشباب إلى حيث من الممكن أن لا يرجعوا، ومن ثمّ يتحملن شهادتهم، ثم يفتخرن بهذا ويرفعن رؤوسهن شموخاً، هذه أدوار لا بديل لها ولا مثيل. ثمّ المعاناة المستمرة حتى الآن لزوجات المعوّقين من جرحى الحرب. سيدات تزوّجن بمعوّق جسده ناقص، وفي بعض الأحيان يكون سيء الخُلُق بسبب وضعه الجسدي أو العوارض الناشئة من حالات الصرع والتشنّج العصبي، أن تقوم سيدة بملء إرادتها وبشكل ملتزم ومسؤول وتتحمّل هذا بشكل تطوّعي وبدون أي إجبارتكون قد قامت بعمل فدائي كبير. أحياناً قد تَقُلنَ (أيتها السيدات) إنّنا نجيء في اليوم لزيارة أحد الجرحى لمدة ساعتين، حسناً في كل مرة تذهبن تُشكرن على تعبكن، ولكن أحياناً يكون العكس، أنتن تخترن أن تكنّ زوجات لهؤلاء الجرحى، تصبحن دائنات! أي إنّ طبيعة الحال أن تقمن أنتنّ بهذا العمل، لكن أولئك النسوة قمن بتلك التضحية. وفي الحقيقة إنّ دور النساء لا يمكن أن يُحدّ ويُحسب.
24
15
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
دور الشعب في فكر الإمام الخميني
وإنّني أقرّ وأعترف بأنّ إمامنا العظيم كان أول من أدرك هذا الدور - كالكثير من الأمور الأخرى التي كان أول من أدركها ولم يكن أحد منّا يعرفها، ولذلك فقد أدرك الإمام دور الشعب، أدرك الامام تأثير حضور الشعب، في الوقت الذي لم يكن أحد يُدرك ذلك. بعض كبار الشخصيات كانوا بتعابير قبيحة يقولون لنا: هل تظنّون أنّه يمكن القيام بأعمال كبيرة مع هذا الشعب؟! كانوا يتكلّمون بشكل يحتقر هؤلاء الناس وكأنّهم لا يتحدّثون عن بشر! أمّا الإمام - فعلى العكس من ذلك - عرف قدر الشعب، وعرف الشعب، أدرك قدراته وكشفها واستنهضها, لأنّ الإمام كان صادقاً، لأنّ كلامه كان يخرج من ذلك القلب النوراني الكبير، فإنّه كان يؤثّر في الناس، لذلك فإنّ الجميع قد نزل إلى الساحة.
في ذلك اليوم الذي تشكّلت فيه اللجان، جميع الفئات جاءت إليها، من الطالب الجامعي إلى الأستاذ وطالب العلم، عالم الصف الأول، الناس العاديين، كلّهم جاؤوا وانتسبوا للجان. حين بدأت الحرب توجّه الجميع إلى جبهات الحرب بأمر الإمام. وحين قال الإمام في أواخر عمره: يجب أن تذهبوا وتبنوا وتصنعوا للوصول إلى الاكتفاء تحرّك الجميع نحو إعادة البناء، لكن الفتوحات لا تزال مستمرة حتى اليوم.
أعتقد أنّنا حيثما تقدّمنا اليوم إلى الأمام فإنّ ذلك بفضل الإمام، لقد أطلق عنان هذه الحركة بشكل متين بحيث إنّ أمثالي ينبغي أن يركضوا اليوم وراءه. لقد تحرّك هذا الشعب، ولا تزال الراية تنتقل من جيل إلى جيل ومن يد إلى يد.
دور المرأة في الثورة عند الإمام الخميني
وهكذا كان الإمام أيضاً في مجال المرأة، لقد أدرك الإمام دور النساء، وإلاّ فقد كان هناك علماء كبار حيث كنّا نتجادل معهم حول مسألة مشاركة النساء في التظاهرات أو عدم المشاركة، وكانوا يقولون بعدم مشاركة النساء في التظاهرات.
فكر الإمام حصن منيع
ذلك الحصن المنيع الذي كان الإنسان يعتمد عليه ويطمئنّ ليقدر على الوقوف في مواجهة هكذا آراء صادرة من مراكز هامّة، كان حصن رأي الإمام وفكر الإمام وعزمه. رحمة الله تعالى على هذا الرجل العظيم إلى أبد الآبدين.
25
16
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
أسباب البحث في دور المرأة
على أي حال، فإنّ دور النساء لا بديل له، لذا فإنّ هذا الدور ضروري لأنّ له مستقبلاً، لقد مضى على عمر الثورة 32 عاماً، وهو عمر شباب حتى عند الإنسان، فما بالك بمدة كهذه في التاريخ. ينبغي أن يُعمّر هذا النظام الإلهي لمئات السنين، نحن لا نزال في ريعان شبابه، المستقبل محتاج لهذا الحضور النسائي في حشود الحضور الوطني، لذا فإنّ علينا أن نبذل الجهد في مسألة المرأة والحفاظ على هذه السّعة الموجودة في مجتمعنا، وهذا هو السبب الأول لكي نتصدى لبحث مسألة المرأة.
السبب الثاني هو مسألة الأسرة، لقد كان للمتكلّمين المحترمين بالأمس أبحاث جيدة، إن أردت أن أحكم، فسأقول إنّ متوسط الأبحاث كان فوق مستوى "الجيد"، كلام صحيح، إحصاءات جيّدة، استنباطات واستنتاجات جيدة من زوايا مختلفة. فقضية متعدّدة الأبعاد قام كلّ مفكر بدراستها من أحد أبعادها، سلّطوا الأضواء على تفاصيل هيكل هذا الموضوع المهمّ والحساس. يمكن للإنسان أن يشاهد هذه الزوايا، في الواقع، كانت محل إفادة لنا.
أهمّيّة الأسرة في المجتمع
بناءً على هذا، إنّ مسألة الأسرة هي مسألة مهمّة جداً، القاعدة الأساس للمجتمع، الخلية الأساس في المجتمع، وليس بمعنى أنّه إذا كانت هذه الخلية سليمة، فإنّ السلامة ستُرى في بقية الأجزاء أو أنّها إذا فسدت فإن باقي الأجزاء ستفسد بتبعيتها، بل إنّها إذا كانت سليمة فإنّ الجسم سالم، لأنّ الجسم ليس شيئا آخر غير الخلايا، كل جهاز هو عبارة عن مجموعة من الخلايا. إذا استطعنا أن نحفظ هذه الخلايا سالمة، فسيكون الجهاز سليماً. المسألة مهمّة إلى هذا الحدّ.
في الأساس, لا يمكن للمجتمع الإسلامي أن يتقدّم ما لم ينعم البلد بمؤسسة أسرية سليمة وحيوية ونشيطة. لا إمكان للتقدّم في المجالات المختلفة والمجالات الثقافية خاصة بدون أُسر جيدة, فالأسرة ضرورة، ولا يتناقض ذلك مع القول بأنّه لا يوجد أسرة في الغرب ولكن يوجد تقدّم. إنّ ما تظهر مؤشراته بشكل أكبر يوماً بعد يوم في خراب مؤسسة الأسرة في الغرب، سوف يلقي بظلاله وآثاره (على الغرب)، لا داعي للاستعجال، فالأحداث العالمية والتاريخية ليست بالأمر الذي تظهر آثاره فوراً وبسرعة، بل تظهر بشكل تدريجي, مع أنّه لا تزال تؤثّر حتى الآن. في الزمن الذي أنتج الغرب هذا التطوّر كانت الأسرة هناك لا تزال محافظة على بنيانها، حتى مسألة العلاقة بين الجنسين كانت لا تزال مضبوطة من خلال رعاية الأخلاق الجنسية - بالطبع ليس بشكلها الإسلامي، وإنّما بأسلوبها الخاص. من لديه اطّلاع على المعارف الغربية سواء
26
17
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
في أوروبا أو في أمريكا يرى ويشاهد هذا الأمر، حيث كان هناك رعاية للأخلاق بين الجنسين وكان هناك حياء واجتناب للتهم وما شابه. لقد نشأ هذا الفلتان وهذه الإباحية بشكل تدريجي، وقد مهّدوا الأرضية لهذا في ذلك الزمن، واليوم وصلوا إلى هذا المستوى. لذلك فإنّ أوضاعهم اليوم ستنتج غداً 1مرّاً وصعباً جداً لهم. هذا هو السبب الثاني.
والسبب الثالث هو أنّه في هذه الاثنتين والثلاثين عاماً، لطالما كانت مسألة المرأة على رأس لائحة الاعتراض علينا من قبل الأعداء، منذ بداية الثورة، اعترضوا علينا وجعلوها في مستوى الإرهاب ونقض حقوق البشر، يومها لم يكن معلوماً (بالنسبة لهم) كيف سيتعامل المجتمع الإسلامي مع جنس النساء، بدأوا بحملتهم: الإسلام ضد المرأة، الإسلام هو هكذا وهكذا. وبالطبع فإنّهم لا يزالون مستمرين في هذا حتى اليوم.
حسناً، كان علينا أن نواجه وندافع. في المقابل، لا يمكن الاستخفاف بالرأي العام العالمي، فلا يمكن اعتبار الجميع مُغرضين وليس الكلّ خبيث، الخباثة خاصة بمجموعة معيّنة، من السياسيين وصنّاع السياسة والمخططين وأمثالهم، ينبغي لنا أن لا نسمح بأن يصبح عامّة الناس عرضة لهذا التضليل الكبير، لذا ينبغي أن نتصدّى.
علينا أن نذكر أيضاً، أنّ الغرب يتهرّب عمداً من طرح مسألة الأسرة، في جميع الأبحاث التي يجرونها، هناك بحث للمرأة ولكن لا يوجد أثر لبحث الأسرة، إنّ الأسرة هي نقطة ضعف الغرب، إنّهم يطرحون مسألة المرأة ولكن لا يذكرون حتى اسم الأسرة، مع أنّ المرأة ليست منفصلة عن الأسرة, وبناءً على هذا، فإنّ التصدّي لهذه المسألة أمر ضروري.
مسؤوليّة المؤسّسات والنُخب في مجالي المرأة والأسرة
1- مجال التنظير
حسناً، لقد كان هذا اللقاء أيضاً جيداً جداً، ما أدركناه في هذا اللقاء، بالإضافة إلى ما كسبناه من مضمون أبحاث الأصدقاء - وهو مهمّ - أنّنا عرفنا أنّه في مجال المرأة والأسرة لدينا على المستوى العلمي التخصّصي من الأعمال التي تنتظر الإنجاز إلى ما شاء الله تعالى، هناك من الأعمال المطلوب إنجازها والتي قد اقترحها بعض الأصدقاء - بتشكيل المركز الفلاني أو مركز كذا - وكل هذا صحيح، ينبغي أن
1- مستقبلاً.
27
18
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
يُنجز في الواقع. ولقد تكلّمنا سابقاً مع الإخوة في المكتب، مع (السيد واعظ زاده) وآخرين حول متابعة عمل هذا الملتقى في مسائل المرأة والأسرة، في أذهانهم العديد من الأعمال. في مجال التنظير سيتم إنجاز أعمال مهمّة إن شاء الله.
2- إنتاج الخطاب
كذلك في مجال إنتاج الخطاب وأيضاً في مجال تقريب هذا الخطاب من مرحلة التنفيذ، والذي - بطبيعة الحال - إن تمّت صياغته بشكل خطاب فلن يكون من الصعب إجراؤه عملياً. أي إنّ تلك الإشكالات الموجودة مع مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور وغيره، يتم حلها وإزالتها. إنّ الخطاب في المجتمع هو مثل الهواء يتنفسه الجميع - سواء أعرفوا بهذا أم لم يعرفوا، سواء أرادوا أم لم يريدوا - ينبغي صياغة هذا الخطاب الذي يقع دور بارز ومهم فيه على عاتق وسائل الإعلام، وكذلك بشكل خاصّ على علماء الدين وكبار الشخصيات وأساتذة الجامعات. حسناً، علينا أن نملأ الفراغ النظري في هذا المجال. وستكون النتيجة بأنّ الاستثمار في مجال الأبحاث أمر ضروري بأكبر قدر ممكن، ونحن نؤيّد هذا. لقد وصلتُ إلى هذه النتيجة من خلال مراجعتي لمقالات الأصدقاء - التي وصلتني خلاصاتها ونصوصها سابقاً - وكذلك قمتُ بتصنيفها بأنّه على مؤسسات النظام بمجموعها أن تُخصّص استثماراً وتمويلاً بقدر المستطاع بقدر طاقاتها وإمكاناتها في البحث والدراسات في هذا المجال.
3- دراسة النظريّات الرائجة ونقدها
يجب دراسة النظريات الرائجة في العالم ونقدها بدون انفعال، والتأكيد على عدم الانفعال هو أمر مهمّ جداً. ولقد شاهدتُ الليلة هذه الروح من الكلمة الأولى للمشاركين وحتى الكلمة الاخيرة، حيث رأيتُ أنّ النظرة هي نظرة انتقادية للوضع الموجود في الغرب فيما يتعلّق بالمرأة وخاصة في مسألة الأسرة.
نظرة الغرب للمرأة
والملاحظ أنّ أغلب الانتقادات التي وجهتموها للغرب كانت في مجال الأسرة، ولكنني أعتقد أنّ الجريمة الأكبر التي اقترفها الغرب في مسألة المرأة والأسرة كانت في نظرته للمرأة، وهذا لا يمكن وصفه بجملة أو اثنتين. إنّ السياسة الغربية توجِّه أكبر ضربة وإهانة لكرامة المرأة، حتى هؤلاء النسويون (الفمينيزم)1 والمتشدّدون
1- النسوية: هي مجموعة مختلفة من النظريات الاجتماعية، والحركات السياسية، والفلسفات الأخلاقية، التي تحرّكها دوافع متعلّقة بقضايا المرأة.
28
19
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
- ولديهم مستويات وطبقات مختلفة - يوجّهون ضربة للمرأة من حيث لا يشعرون، فهم يتصرّفون من باب حسن الظنّ - أي إنّ العاملين في هذا المجال حسب الظاهر لا يفهمون ماذا يفعلون - ويحتمل أن يكون صنّاع السياسات والمخططون للبرامج خلف الكواليس على علم كامل بما يفعلون.
كما أنّ هذا الاحتمال قد ورد في بروتوكولات بني صهيون بشكلٍ كامل، حيث إنّ تضييع جنس النساء وجعلهن مظهراً للاستغلال الشهواني للرجال قد ذُكِر في مواد ذلك الكتاب. وهنا قد يأتي شخص ويُشكّك في سند واعتبار هذه البروتوكولات, لكن عندما يشاهد الإنسان المؤسّسات الصهيونية والشبكات الإعلانية الصهيونية يُدرك أنّ هذا الأمر يتمّ تنفيذه بشكل عملي، فهو وإن لم يصبح واجباً بالنسبة لهم، لكنّهم يقومون به بشكل مستحب، لقد التزموا بهذا العمل وهم ينفّذونه، يهملون المرأة ويحقّرونها, أي إنّهم قاموا بتثبيت رسوم وأعراف وعادات لا تقبل المخالفة ولا التجرؤ عليها. (فعندهم مثلاً) ينبغي للرجل في أي مجلس عام (لقاء رسمي)، أن يرتدي بزّة رسمية، وأن يضع "بابيون" ويقفل ياقة البزّة ويسدل أكمامه حتى المعصم، وليس له أن يرتدي بنطلوناً قصيراً ولا قميصاً قصير الأكمام، ولكن على السيدة في ذلك اللقاء الرسمي نفسه أن تُظهر أقساماً من جسدها بشكل عار، وإذا حضرت بلباس كامل فهذا محل اشكال! إن لم تكن متبرجة ومتزينة فهذا محل إشكال! لقد أصبح هذا عرفاً، ويفتخرون به أيضاً.
يوجد في الغرب وخاصة في أميركا وفي شمال أوروبا - البلدان الإسكندنافية - مراكز مهمّة، عملها الأصلي هو عرض النساء للرجال، ويتم الإعلان عن هذا في الصحف والمجلات، ولا أحد يعترض! أصبح هذا عرفاً وعادة. أيُّ ضربة أشدّ على النساء من هذا؟ بأن يتم صناعة نموذج للنساء على تلك الشاكلة - لنسائهم هم وللبلدان التي تتبعهم وليس لنسائنا - فهذه من أشدّ الضربات التي يوجّهونها حالياً. وعليه ينبغي ألا يتملّكنا الانفعال في مواجهة هذه الثقافة الخاطئة. إنّ الغرب في مسألة المرأة والأسرة يعيش في ضياع وضلالٍ عميق، لا الأسرة فقط، بل الأمر يتعلّق بشخصية المرأة وهوية المرأة، والغرب واقع في ضلالٍ عجيب.
إنّ علينا أن نستفيد في هذه الدراسات من مخزوننا العلمي - وهو ليس بقليل - حيث يمكن استخراج عشرات النظريات والنماذج الراقية في مجال المرأة والأسرة. ينبغي صياغتها بشكل نظريات، وتدوينها وعرضها بتفاصيلها وأجزائها. هذه أعمال متوسطة المدى وطويلة المدى وينبغي أن تُنجز. ينبغي الاستفادة من التعاليم الأصيلة والراقية للإسلام في القرآن والحديث.
29
20
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
المرأة والأسرة في المنظور الإسلامي
ولقد دوّنتُ هنا عدّة ملاحظات، ولكن بما أنّ الوقت ضيّق، وكذلك فإنّ الكثير من الأفكار قد تمّ طرحها، فعليه لا حاجة لأن أكرّرها، ومن مجموع الأمور التي كتبتُها، ما أرغب أن أطرحه هنا، هو أنّ نظرة الإسلام بشكل إجمالي للمرأة - كجنس - هي نظرة مميّزة ومتعالية جداً، وكذلك نظرته للمرأة في العائلة, باعتقادي أنّ الكثير من هذه المشكلات المتعلّقة بالمرأة ناشئة من مشكلات الحياة الجمعية للأسرة، حيث إنّ المرأة هي محورها. لدينا فراغات قانونية وعرفية وتقليدية عجيبة ومتعدّدة، أحياناً حين تتصل بنا السيدات - من مجلس الشورى أو من الحوزة أو من المراجعات المتنوّعة للناس أو من مراكز أخرى - وتطرحن مشكلاتهن، نلاحظ أنّ هذه المشكلات تتعلّق بشكل أساسي بالمشكلات داخل الأسرة، إذا كان للمرأة داخل الأسرة أمان نفسي وأمان أخلاقي وراحة وسكن، وكان الزوج لباساً لها بشكل حقيقي - كما أنّها هي لباس للزوج أيضاً- وكما أراد القرآن أن يكون بينهما مودة ورحمة، وإذا تمّ رعاية ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ1﴾ في الأسرة - هذه الأمور التي هي أصول كلية وأساسية, حينها ستكون مشكلات المرأة خارج الأسرة قابلة للتحمّل، وستتمكّن المرأة من التغلب على هذه المشكلات. إذا تمكّنت المرأة أن تُخفِّف من هذه المشكلات في مركز استراحتها وفي متراسها الأساسي، فستتمكّن بلا شكّ، من أن تفعل ذلك في ساحة المجتمع.
في كلتا المسألتين, في قضيّة المرأة نفسها وكذلك في قضيّة الأسرة، لدى الإسلام أفكار جذّابة وبارزة ومهمّة.
أولاً: إنّ نظرة الإسلام إلى الجنس، هي نظرة من الدرجة الثانية. النظرة الأولى وذات الدرجة الأولى، هي البعد الإنساني، والتي لا دور فيها للجنس. الخطاب للإنسان، وهناك ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾2 ولا يوجد "يا أيتها اللواتي آمنّ" أي إنّ الصيغة آمنوا هي صيغة ذكورية وليست صيغة أنثوية، ولكن هذا لا يعني أبداً بأنّ هناك أفضلية للرجل على المرأة في هذا الخطاب، وإنّما هذا ناشئ من عوامل أخرى، وتلك العوامل واضحة بالنسبة لنا. ولا أريد هنا أن أدخل في بحث، مثلاً لماذا نقول في اللغة الفارسية للشعب "مردم" (كلمة فارسية تعني رجل) وهي مشتقّة من الرجل "مرد" ولا نقول
1- البقرة، 228.
2- الأنفال، 15.
30
21
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
"زنّم" مثلاً (زن = امرأة)، وكذلك في الإنكليزية هناك human لماذا man؟, فليست هذه علامة على أنّها موجودة بسبب غلبة الثقافة الذكورية وقد تصرّفوا في اللغة على أساسها، لا، ليس كذلك بل هناك عوامل أخرى.
في نهاية الأمر، الرجل هو الواجهة الخارجية داخل الأسرة، والمرأة هي الواجهة الداخلية، وإن شئتم أن تُعبّروا بلطفٍ أكثر، فإنّ الرجل هو غلاف (قشرة) حبة اللوز بينما المرأة هي لبها. ويمكن استخدام مثل هذه التعابير، الرجل هو اكثر ظهوراً، بنيته هي هكذا، لقد خلقه الله وجعله لهذا العمل، وخلق المرأة لعمل آخر. بناءً على هذا فإن البروز والظهور والعرض والإطلالة هي أكثر عند الرجل لهذه الخصوصيات وليس بمعنى الأفضلية. في القضايا الأساسية للإنسان - والتي تتعلق بالإنسان - فلا فرق بين الرجل والمرأة.
حسناً انظروا إلى مسألة التقرّب من الله، هناك نساء - كالزهراء وكزينب وكمريم - مقامهنّ فوق قدرة أمثالنا على الوصف والتصوّر. ففي الآية الشريفة من سورة الأحزاب، لا فرق بين المرأة والرجل، ولعلّ المقصود ضرب التصوّرات الجاهلية حول المرأة ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ1﴾ فهناك فاصلة بين الإسلام (المسلمون والمسلمات) والذكر (الذاكرون والذاكرات) في الآية، إذ توجد سلسلة أوصاف لو دقّق المتأمل فيها يجد هذا: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾2. فحيثما وجد الرجل هناك امرأة، رجل خاشع، امرأة خاشعة، رجل متصدّق، امرأة متصدّقة، لا فرق بينهما أبداً, ففي سورة آل عمران المباركة، يقول بعد تكرار "ربّنا": ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ3﴾ لا فرق بين الرجل والمرأة، حتى أنّه في مورد - ولأجل ضرب تلك الأفكار الجاهلية التي ذكرتها - رَفع من شأن المرأة أكثر من الرجل، حيث إنّ حالة كهذه لا يجدها المرء في القرآن سوى في أشخاص ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ﴾4، كمثالٍ للكفار، هاتان الامرأتان
1- الأحزاب، 35.
2- الأحزاب، 35.
3- آل عمران، 195.
4- التحريم، 10.
31
22
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
ليستا مثالاً للنساء، بل إنّهما مثالٌ للمرأة والرجل معاً، ﴿كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا1﴾ إلى آخر الآية. ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ2﴾ هنا أيضاً سمّى الله للمؤمنين امرأتين. لاحظوا أنتم، على مرّ التاريخ وإلى نهاية العالم، كم عدد المؤمنين، من الكبار الصلحاء الأولياء والأنبياء جاؤوا وذهبوا. عندما يريد الله أن يعرفهم على معيار، نموذج، رمز، يعرّفهم على امرأتين: "الأولى امرأة فرعون ﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ3﴾ إلى آخر الآية، والثانية مريم بنت عمران ﴿الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا﴾4 إنّه أمر عجيب.
إنّ الجنس هو أمر ثانوي، هو أمر عارض يتجلّى عملياً في الحياة. في السير الأساسي للبشر ليس له أي تأثير ولا معنى. حتى إنّ أعمالهم تختلف فيما بينها، "جهاد المرأة حسن التبعل"5 لكنّه جهاد, أي إنّ ثواب ذلك الشاب المجاهد الذي وضع دمه على كفّه وذهب إلى ميدان الحرب يُعطى لهذه المرأة, لأنّ هذا العمل لا يقّل تعباً عن الجهاد. بالتأكيد إنّ التبعّلَ أمرٌ صعبٌ جداً، مع توقّعاتهم، انتظاراتهم، مع سوء أخلاقهم، وصوتهم المرتفع وطولهم الفارع (بعض صفات الرجال), فأن تستطيع امرأة مع هذه الظروف أن تحافظ على محيط المنزل دافئاًوهانئاً، وحنوناً وفيه سكينة وهدوء، ذلك فنّ كبير. هذا حقاً جهاد. هذا فرع من ذلك الجهاد الأكبر الذي تكلّموا عنه، الجهادٌ مع النفس.
دور المرأة في الحياة الزوجيّة
بالنسبة لموضوع العائلة، يوجد كلام كثير، مسألة الزوجية، مسألة الأمومة، كلّها مسائل ينبغي التفصيل فيها. لدى المرأة في الأسرة دور الزوجية، دور الزوجية هذا هو دور استثنائي, حتى لو لم يكن هناك دور أمومة. افرضوا أنّ هناك امرأة، إمّا أنّها لم ترغب في الإنجاب، أو أنّها ولأي سبب آخر لم تنجب، ولكنّها زوجة, لا ينبغي الاستخفاف بدور الزوجية. إذا أردنا أن يكون الرجل شخصاً مفيداً في المجتمع، ينبغي لهذه المرأة
1- التحريم، 10.
2- التحريم، 11.
3- التحريم، 11.
4- التحريم، 12.
5- الكافي، ج5، ص9.
32
23
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
أن تكون امرأة جيّدة في المنزل، وإلا فلن يحصل هذا. نحن اختبرنا (هذا الأمر) في زمن المقاومة وما بعدها في زمن انتصار الثورة, الرجال الذين كانت ترافقهم زوجاتهم في حركتهم استطاعوا أن يصمدوا في نضالهم، وكذلك استطاعوا أن يتابعوا استقامتهم على الطريق الصحيح. وبالطبع، كان هناك حالات معاكسة. أحياناً عندما كنتُ أقوم بعقد قران لأولئك الشابات والشباب الذين كانوا يأتون - فيما مضى كنتُ أقوم بهذا ولكن حالياً لا أحظى بهذا التوفيق - كنتُ أقول لهم: إنّ الكثير من السيّدات يجعلن أزواجهن من أهل الجنة، والكثير من السيّدات أيضاً يجعلن أزواجهن من أهل النار، هذا رهنٌ بهنّ. وبالتأكيد فإنّ للرجال هذا الدور أيضاً. في مجال الأسرة لا ينبغي تجاهل دور الرجال كذلك. بناءً على هذا، إنّ دور الزوجية هو دور بالغ الأهمية. ثم هناك دور الأمومة.وحسناً، لقد أُلقيت كلمات مفصلة وجرى بحث وافر حوله.
عمل المرأة
من جملة المسائل التي تُطرح، مسألة عمل السيدات. إنّ عمل السيدات هو من جملة الأشياء التي نوافق عليها. إنّني موافق على أنواع المشاركة سواء كان من نوع العمل الاقتصادي أو من نوع العمل السياسي والاجتماعي والأنشطة الخيرية وأمثالها, فهي جيدة أيضاً. النساء نصف المجتمع، وأمر جيد جداً أن نتمكّن من الاستفادة من نصف المجتمع هذا في المجالات المتنوّعة. ولكن خلاصة القول: إنّ هناك أصلين أو ثلاثة ينبغي رعايتها وعدم تجاهلها.
1- الأول: أن لا يلقي هذا العمل بظلاله على العمل الأساسي - والذي هو عمل الأسرة والزوجية والأمومة والتدبير المنزلي - وهذا أمر ممكن. أعتقد أن لدينا نماذجَ من سيدات كنّ يقمن بهذا ولا شكّ بأنهنّ واجهن بعض الصعوبات, درسن وكذلك درَّسن، أنجزن أعمال البيت، أنجبن أطفالاً، قمنَ بتربيتهم والاهتمام بهم. فإذن نحن موافقون على العمل والمشاركة، على ألا تؤثّر وتضرّ بهذه المسألة الأصلية, لأنّه لا بديل عنهنّ فيها. فإن لم تقمن بأنفسكن بتربية أبنائكن في المنزل أو لم تقمن بفكّ عقد خيوط عواطف الطفل الظريفة جداً - والتي هي أنعم من خيوط الحرير - حتى لا يتعقّد عاطفياً، فلا يمكن لأي أحد آخر أن يقوم بهذا العمل, لا أبوه، ولا غيره بطريق أولى، إنّه عمل الأم فقط. أمّا ذلك العمل الذي لديكن في الخارج، فإن لم تقمن به أنتن فإنّ هناك عشرة أشخاص آخرين سيقومون بهذا العمل. بناءً على هذا، فإنّ الأولوية هي للعمل الذي لا بديل عنكن فيه، هذا هو المطلوب والمتعيّن.
33
24
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
وهنا تقع مسؤولية على عاتق الحكومة، ينبغي القيام بمساعدة تلك النساء اللواتي ولأي سببٍ أو أي حيثية أو ضرورة، يقمن بعمل بدوامٍ كاملٍ أو جزئي، كي يتمكنّ من الاهتمام بشؤون الأمومة وأمور المنزل, من خلال الإجازات وسنّ التقاعد وساعات الدوام اليومي، ينبغي على الحكومة أن تساعد بشكلٍ ما كي تتمكّن هذه السيدة التي تقوم بالعمل لأي سبب من الأسباب من متابعة تلك الشؤون.
2- الثاني: هي مسألة المحرَّم وغير المحرَّم (الاختلاط). إنّ هذه المسألة جدية في الإسلام، ولا شكّ بأنّ الجزء الأكبر من هذه القضية يرجع إلى الأسرة, أي إنّ العين الطاهرة والقلب الخالي من الوسوسة والشك لكل من الزوجين يؤدّي إلى تمتين أواصرالأسرة وبثّ الحنان فيها, مثل مدفأة للحرارة تبعث الدفء في محيطها. إذا كان الطرف المقابل طاهر العين والقلب، فإنّ هذا سيصبح من كلا الطرفين، وستكون أجواء الأسرة مفعمة بالحنان والمحبة.
إن لم يكن الأمر كذلك، فكانت العين خائنة واليد خائنة واللسان ذا وجهين والقلب خالٍ من المحبة، ولم يكن هناك إعتقاد بالزواج والزوجية، فإنّ أجواء الأسرة ستكون باردة حتى إن كان هناك تظاهر وتمويه.
قرأتُ في مقالات الأصدقاء أنّ الخروج والعمل يؤدي أحياناً إلى نشوء سوء ظنّ في غير محله. ولكن لا يوجد فرق, فحينما ينشأ سوء الظنّ فإنّه سيترك أثره، سواء أكانت الأسباب وجيهة أو لا، مثل الرصاصة التي تخرج من فوهة السلاح، حين تصطدم بصدر أحدهم فإنّها تقتله، سواء أكان الرامي قاصداً أم أنّ يده ضغطت خطأ على الزناد، الرصاصة لا تُميّز، ولن تقول: "لأنّ الذي أطلقني لم يكن يقصد ذلك، فلن أؤذي الطرف المقابل"، كلا فالرصاصة تقتل. سوء الظن هذا يفعل فعله، سواء أكان منشؤه صحيحاً، أو كان ناتجاً عن الوسواس، أو الأوهام الباطلة مثلاً.
ضرورة المحافظة على قداسة الزواج
هناك نقطة أيضاً في مسألة الزواج، إنّ للزواج قداسةً من وجهة نظر الأديان التي أعرفها. وأنا لم أدقّق كثيراً في هذا الخصوص، لا بأس كذلك بأن يقوم بعض الأصدقاء المستعدّين للعمل في التدقيق في هذا المجال. في الغالب، مراسم الزواج هي مراسم دينية يجريها المسيحيون في الكنيسة، واليهود في معابدهم، المسلمون وإن لم يجروا مراسم الزواج في المساجد، إلا أنّهم يجرونها حين يقدرون في المشاهد المشرّفة أو في الأيام المباركة وبواسطة علماء الدين، حين يقوم عالم الدين بعقد القران فإنّه يُبيّن بعض التعاليم الدينية. بناءً على هذا، فإنّ الصبغة صبغة دينية. إنّ للزواج بُعداً مقدّساً،
34
25
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
ولا ينبغي نزع هذا البُعد المقدّس عن الزواج. سلب القداسة يتم عبر هذه الأعمال القبيحة والتي للأسف أصبحت رائجة في مجتمعاتنا. هذه المهور الباهظة التي يتمّ وضعها، ويتخيّلون أنّها تستطيع أن تدعم الزوجيّة وتحفظ الأسرة، والحال أنّها ليست كذلك. فالحدّ الأقصى أن يقوم الزوج بالامتناع عن دفع المهر، فيؤخذ إلى السجن، ليبقى هناك سنة أو سنتين. وفي هذه الحال لا تستفيد المرأة شيئاً, لا تحظى بشيء سوى أنّ بنيان الأسرة سيتهدّم.
في الإسلام حين يُنقل عن الإمام الحسين عليه السلام قوله: "إنّنا لم نزوّج بناتنا وأخواتنا ونساءنا إلاّ على مهر السُنّة"، فلأجل هذا الأمر، وإلاّ فإنّه كان يستطيع. لو شاء الإمام أن يُزوّج بألف دينار لفعل ولم يكن من الضروري مثلاً أن يُلزم نفسه بخمسمئة درهم - المعادل لاثنتي عشر أوقية ونصف - لقد كانوا يستطيعون ذلك لكنّهم قلّلوا المهور. هذا التقليل للمهور كان مدروساً ومحسوباً بدقّة، هذا جيد جداً. وهناك أيضاً المبالغات الزائدة في الزواج ـ صرف المبالغ الطائلة وإقامة الحفلات المتعدّدة ـ والتي يغتمّ قلب الإنسان في الحقيقة عندما يسمع بها. هذه من النقاط التي ينبغي صياغة خطاب لها والترويج لثقافة حولها. حيث إنّ السيدات مؤثّرات والسادة مؤثّرون، وكذلك أساتذة الجامعات وعلماء الدين، وبشكل خاص الإذاعة والتلفاز ووسائل الإعلام، إنّ عليهم جميعاً أن يعملوا في هذا المجال، وأن يُخلّصوا الأجواء من هذه الحالة.
تقدير دور المرأة
كذلك نطرح هنا أمراً حول دور الرجال، حيث دائماً يُقال دور المرأة في الأسرة والسبب واضح، وهو أنّ المرأة هي عنصر محوري في الأسرة. ولكن هذا لا يعني أن لا دور ولا واجب ولا مسؤولية للرجل في الأسرة. الرجال اللامبالون، والرجال غير العاطفيين، والرجال اللاهون، والرجال الذين لا يُقدّرون أتعاب النساء في البيت، هؤلاء يوجّهون ضربة إلى أجواء الأسرة. على الرجل أن يكون معترفاً بالجميل. على المجتمع أن يكون عارفاً بهذا الفضل معترفاً بالجميل. ينبغي أن يتم تقدير عمل النساء في المنازل بشكلٍ خاص. بعضهن يستطعن أن يذهبن إلى العمل، بعضهن يستطعن الحصول على الشهادات العليا، وبعضهن لديهن شهادات عليا، أنا شاهدتُ نساءً من هذا النوع وقد قُلنَ نحن نريد أن نهتم بهذا الطفل ونربّيه تربيةً جيدة، لذا لم نذهب للعمل خارج المنزل. لم تذهب تلك المرأة للعمل، وبدوره فإنّ العمل هذا لم يبقَ معطّلاً، أولئك العشرة أشخاص الآخرون ذهبوا وقاموا به.
35
26
في لقاء المشاركين في الملتقى الثالث للأفكار الاستراتيجيّة في موضوع المرأة والأسرة
ينبغي تقدير هكذا امرأة. في الكلمات التي أُلقيت ذُكرت مسائل كالضمان والتأمين لتلك النساء، أجل ينبغي تخصيص هذه المسائل الضرورية لهنّ، كالتأمين الاقتصادي والضمان وباقي الأمور اللازمة. كذلك فإنّ الأبناءَ لهم دور، فهم من أهمّ أجزاء الأسرة، دورهم هو احترام الوالدين. وهذا الأمر له حكاية مفصلة.
على كل حال فإنّني أشكركم إنني راضٍ عن هذا اللقاء. الحمد لله كان لقاءً جيداً. نسأل الله أن يكون راضياً عنّا وعنكم، وأن تكون جهودكم مشمولة بنظر بقية الله أرواحنا فداه، وأن تجري متابعة هذا العمل وإكماله إن شاء الله.
التمهيد لمشروعٍ دوليٍّ حول المرأة
طرح هناك مشروع جيد لعمل دولي حول المرأة حيث لم تسنح الفرصة للحديث حوله، لقد رأيتُ هذا المشروع وأؤيّده. يمكن الاستفادة من وجهات نظر السيدة التي تكلمت حول المسائل الدولية. أمر جيد أن يتم القيام بعمل دولي في مجال النساء. جزاكم الله خيراً.
اللّهم، أنزل رحمتك وفضلك وهدايتك على هذا الجمع.
اللّهم، اجعل ما قلناه وسمعناه وفعلناه وما سنفعله لك وفي سبيلك واجعله خالصاً ومُخلصاً.
اللّهم، أنزل توفيقاتك على هذا الجمع وعلى الشعب الإيراني وخاصّة على المسؤولين الذين يحملون على عاتقهم مسؤوليات جسام في هذا المجال.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
36
27
في لقاء المشاركين في المؤتمر العالمي للشباب والصحوة الإسلاميّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء المشاركين في المؤتمر العالمي للشباب والصحوة الإسلاميّة
المناسبة: مؤتمر شباب الصحوة.
الحضور: شباب الصحوة الإسلاميّة (73 بلداً).
المكان: طهران.
الزمان: 30/1/2012م.
37
28
في لقاء المشاركين في المؤتمر العالمي للشباب والصحوة الإسلاميّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وسيد الخلق أجمعين، سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الطيبين، وصحبه المنتجبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ملامح العصر الجديد للعالم
أُرحّب بكم جميعاً أيّها الضيوف والشباب الأعزاء, حملة البشائر الكبرى لمستقبل الأمّة الإسلاميّة. كلّ واحد منكم يحمل بشارة كبيرة، حينما يستيقظ الشباب في بلد من البلدان يتضاعف الأمل بالصحوة العامّة في ذلك البلد. واليوم إنّ شبابنا في أرجاء العالم الإسلامي كلّه قد استيقظوا. الشراك كلّها منصوبة أمام شبابنا، لكن الشباب المسلم الغيور ذو الهمّة العالية خلّص نفسه من هذه القيود. لاحظوا ما الذي حدث في تونس، وفي مصر، في ليبيا وفي اليمن، وفي البحرين، وأية حركة انطلقت في بقية البلدان الإسلامية، كل هذه بشائر.
ما أقوله لكم أيّها الشباب الأعزاء ويا أبنائي، هو أن تعلموا أنّ تاريخ العالم وتاريخ البشرية اليوم يسير في منعطف تاريخي كبير، عصٌر جديد بدأت تلوح معالمه في العالم كلّه. والعلامة الكبرى والواضحة لهذا العصر عبارة عن التوجّه إلى الله تعالى، والاستمداد من القدرة الإلهية التي لا تزول، والاعتماد على الوحي. لقد تجاوزت البشرية المدارس والإيديولوجيات الماديّة. فاليوم لا الماركسية لها جاذبية تُذكر، ولا الليبرالية الديمقراطية في الغرب لها مثل هذه الجاذبية ـ وتُلاحظون ما الذي يحدث في مهد الليبرالية الديمقراطية الغربية، في أمريكا وأوروبا، حيث يعترفون بالهزيمة ـ، ولا القومية العلمانية لها جاذبية, الجاذبية الأشدّ بين الأُمّة الإسلامية في الوقت الراهن هي للإسلام وللقرآن ولمدرسة الوحي، وقد وعد الله تعالى أنّ بوسع المدرسة الإلهية والوحي الإلهي والإسلام العزيز أن يُوفّر السعادة للبشر. هذه ظاهرة جدّ مباركة وعلى جانب كبير من الأهمية، وذات معنىً ومغزىً عميق.
لقد قامت اليوم ثورات في البلدان الإسلامية ضد الدكتاتوريات العميلة، وهذه مقدمة للثورة على الدكتاتورية العالمية والدكتاتورية الدولية، وهي دكتاتورية الشبكة الفاسدة الخبيثة للصهيونية والقوى الاستكبارية - الاستبداد الدولي - والدكتاتورية الدولية في الوقت الحاضر متجسدة في دكتاتورية أمريكا وأتباع أمريكا والشبكة الصهيونية الشيطانية الخطيرة. هؤلاء اليوم يمارسون الدكتاتورية بأساليب مختلفة وبأدوات
39
29
في لقاء المشاركين في المؤتمر العالمي للشباب والصحوة الإسلاميّة
متنوعة في كل أنحاء العالم. ما قمتم به في مصر، وفي تونس، وفي ليبيا، وتقومون به في اليمن، وتقومون به في البحرين، وظهرت دوافعه بقوة في بلدان أخرى، هو جزء من الكفاح ضد هذه الدكتاتورية الخطيرة المضرّة التي تمارس ضغوطها على البشرية منذ قرنين من الزمان. هذا المنعطف التاريخي الذي ذكرتُه عبارة عن التحوّل من سيطرة هكذا دكتاتورية إلى حرية الشعوب وسيادة القيم المعنوية والإلهية. هذا ما سوف يحدث، لا تستبعدوا ذلك.
الوعد الإلهي بالنصر
في الوعد الإلهي:﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ1﴾ يؤكّد الله تعالى على أنكم إذا نصرتموه فسوف ينصركم. قد يبدو الأمر بعيداً في النظرة العادية القائمة على الحسابات الماديّة، لكن كثيراً من الأشياء كانت تبدو بعيدة وقد حدثت. هل كنتم تتصورون قبل سنة وشهرين أو ثلاثة أشهر أن يُذَلّ طاغوت مصر ويقضى عليه؟ لو قيل يومذاك لبعضهم إن نظام مبارك العميل الفاسد سوف يسقط لاستبعد الكثيرون ذلك، لكنه حدث. لو ادعى أحد قبل سنتين أن هذه الأحداث العجيبة سوف تقع في شمال أفريقيا لما صدّق الناس ذلك في الغالب. لو قال قائل إنّه في بلد مثل لبنان ستتمكن جماعة شابة مؤمنة من هزيمة الكيان الصهيوني والجيش الصهيوني المدجّج بالسلاح، لما صدّق ذلك أحد. لكن هذه الأحداث وقعت. لو قال قائل إنّ نظام الجمهورية الإسلامية بكل هذا العداء الذي ينصب له من الشرق والغرب، سيستطيع المقاومة 32 عاماً ويقوى يوماً بعد يوم، ويتقدم إلى الأمام، لما صدّق ذلك أحد. لكنه حدث. ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾2 هذه الانتصارات آية إلهية. إنها علامات قدرة الله الفائقة التي يظهرها الله تعالى لنا. عندما تنزل الجماهير إلى الساحة، وحينما نأخذ ما نملكه إلى الساحة، ستكون النصرة الإلهية قطعية أكيدة. وقد دلّنا الله تعالى على الطريق. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾3، فالله يهدي ويعين ويأخذ بالأيدي إلى الأهداف العليا، بشرط أن نكون متواجدين في الساحة.
ما حدث حتى اليوم كان كبيراً جداً، حكم الغربيون الأمّة الإسلامية مئتي عام (200) بفضل تقدّمهم العلمي، واحتلوا البلدان الإسلامية. احتلوا بعضها مباشرة واحتلوا
1- الحج،40.
2- الفتح،20.
3- العنكبوت، 69.
40
30
في لقاء المشاركين في المؤتمر العالمي للشباب والصحوة الإسلاميّة
بعضها الآخر بشكل غير مباشر وبمعونة دكتاتوريين محليين. فهيمنت بريطانيا وفرنسا ومن بعدهم أمريكا ـ وهي الشيطان الأكبر ـ على الأمّة الإسلامية، وأذلّوا الأمة الإسلامية ما استطاعوا، وزرعوا الغدّة السرطانية الصهيونية في قلب الشرق الأوسط في هذه المنطقة الحساسة، وعملوا على تقويتها في كل المجالات، وكانوا واثقين من أن مقاصدهم وسياساتهم في هذه المنطقة المهمة جداً من العالم قد تأمّنت، لكن الهمّة الإيمانية والهمّة الإسلامية والتواجد والمشاركة الشعبية بدّدت كل هذه الأحلام الباطلة، وأوقفت كل هذه الأهداف.
يشعر الاستكبار العالمي اليوم بالعجز أمام الصحوة الاسلامية. أنتم غالبون، منتصرون، المستقبل لكم. ما تمّ إنجازه عملٌ عظيمٌ جداً. ولكن ذلك ليس ختام العمل، هذا هو المهم، هذه البداية والانطلاق. على الشعوب الإسلامية أن تكمل جهادها حتى إزالة العدو من مختلف الميادين.
كفاح الشعوب المسلمة
الكفاح، كفاح الهمم والعزائم والإرادات. أي جانب تكون إرادته أقوى يكون هو الغالب. الشخص الذي يعتمد قلبه على الله تعالى هو الغالب. ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾1 إذا ظفرتم بالنصرة الإلهية فلن يتغلب عليكم أحد، وسوف تتقدّمون وتظفرون. إنّنا نريد أن تكون الشعوب المسلمة التي تشكل الأمة الإسلامية الكبرى حرّة، مستقلة، عزيزة، أبية الذل، تنظم حياتها وفقاً لأحكام الإسلام الراقية والمتقدمة، والإسلام قادر على ذلك. لقد أبقونا لسنين متمادية متخلفين من الناحية العلمية، وقد سحقوا ثقافتنا، وقضوا على استقلالنا، لقد استيقظنا اليوم، وسوف نقتحم ميادين العلم الواحد تلو الآخر.
حينما تأسّست الجمهورية الإسلامية قبل 30 عاماً كان الأعداء يقولون إن الثورة الإسلامية قد انتصرت لكنها لا تستطيع إدارة ميادين الحياة الواحد تلو الآخر، وسوف تتراجع إلى الوراء. واليوم فإن شبابنا استطاعوا ببركة الإسلام إنجاز أعمال كبيرة في المضمار العلمي، إنجازات لم تكن في الماضي لتخطر حتى ببالهم أنفسهم. واليوم بفضل التوكل على الله تعالى ينجز الشباب الايراني أعمالاً علمية كبيرة، فهم يخصّبون اليورانيوم، وينتجون الخلايا الجذعية ويطوّرونها، وقد قطعوا خطوات واسعة في تقنيات الأحياء، واقتحموا الفضاء، وهذا كله بفضل التوكل على الله تعالى
1- آل عمران، 160.
41
31
في لقاء المشاركين في المؤتمر العالمي للشباب والصحوة الإسلاميّة
وبشعار "الله أكبر"1. يجب أن لا نستهين بقدراتنا. من أكبر الآفات التي أدخلتها الثقافة الغربية إلى بلداننا الإسلامية تصوران خاطئان ومنحرفان, أحدهما بث فكرة عجز الشعوب المسلمة، حيث يقولون إنكم لا تستطيعون فعل شيء، لا في ميدان السياسة، ولا في مضمار الاقتصاد، ولا على مستوى العلم. وقالوا: إنكم ضعفاء. ولقد بقينا نحن البلدان الإسلامية على هذه القناعة الخاطئة عشرات السنين وبقينا متخلفين. الفكرة الثانية التي بثوها فينا هي لانهائيّة قوة أعدائنا وعدم قابليتها للهزيمة. أفهمونا أن أمريكا لا يمكن أن تهزم، ولا يمكن فرض التراجع على الغرب، ولا سبيل لنا سوى أن نتحمّلهم.
وقد بَانَ للشّعوب المسلمة اليوم عياناً أن هاتين الفكرتين خطأ في خطأ. بإمكان الشعوب المسلمة أن تتقدم وبمقدورها إحياء المجد والعظمة الإسلامية التي كانت ذات يوم في ذروة الفخر وعلى قمة التألق العلمي والسياسي والاجتماعي، والعدو مضطر للتراجع في ميادين عديدة.
هذا القرن هو قرن الإسلام. هذا القرن قرن المعنوية. الإسلام يقدّم العقلانية والمعنوية والعدالة مجتمعة هديةً للشعوب. إسلام العقلانية، إسلام التدبّر والتفكر، إسلام المعنوية، إسلام التوجّه إلى الله تعالى والتوكل عليه، إسلام الجهاد، إسلام العمل، إسلام الإقدام والمبادرة. هذه هي تعاليم الله تعالى وتعاليم الإسلام لنا.
التنبّه لمؤامرات العدو
المسألة المهمة اليوم هي أن العدو يعمل على التخطيط والتآمر مقابل الضربة التي تلقاها بدرجات مختلفة في مصر وتونس وليبيا وبقية بلدان المنطقة. يجب التنبّه لمؤامرات الأعداء، يجب الحذر من أن يختطفوا ثورات الشعوب منهم أو أن يحرفوا مساراتها. استفيدوا من تجارب الآخرين. يمارس العدو الكثير من الأعمال لأجل حرف الثورات ولأجل أن يحبط التحركات، ولكي يجهض الجهاد والدماء المبذولة... يجب الحذر واليقظة. أنتم الشباب أساس هذه الحركات, فكونوا يقظين واعين.
لدينا الكثير من التجارب على مدى 32 عاماً. واجهنا ألوانَ العداء طوال 32 عاماً، وقد صمدنا وتغلّبنا على العدوان2. ما من مؤامرة كان بوسع الغرب وأمريكا أن يقوموا بها ضدّ الجمهورية الإسلامية ولم يفعلوها. وأي عمل لم يقوموا به ولم يكن بوسعهم القيام به. وكل ما استطاعوا أن يفعلوه فعلوه، وقد تلقوا الضربات والصفعات وهزموا في
1- ارتفاع نداءات التكبير من قبل حشود الحاضرين.
2- ارتفاع نداءات التكبير، وشعارات "لبيك يا خامنئي" من الحضور.
42
32
في لقاء المشاركين في المؤتمر العالمي للشباب والصحوة الإسلاميّة
المراحل والأطوار كافّة1. وكذلك سيكون الحال بعد الآن أيضاً، سوف يهزمون بعد الآن أيضاً في كل مؤامراتهم ضدّ الجمهورية الإسلامية, هذا هو الوعد الإلهي لنا ولا نرتاب فيه.
إنّنا لا نشك في صدق الوعود الإلهية، إننا لا نسيىء الظن بالله تعالى, الله سبحانه يلوم الذين يسيؤون الظن به: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا2﴾.
وعدُ الله تعالى وعدٌ صادق, لأنّنا في داخل الساحة وفي ميدان الكفاح ـ والشعب الإيراني أخذ إمكاناته وقدراته و طاقاته كلّها إلى الساحة ـ فالنصرة الإلهية أكيدة قاطعة، وكذا الحال في البلدان الأخرى كلّها. ولكن يجب أن نكون يقظين، كلنا يجب أن نكون يقظين، كلنا يجب أن نتنبّه لمكائد الأعداء, يحاول العدو إحباط الحركات والأنشطة وإجهاضها، وزرع الخلافات.
هدفنا هو الإسلام
النهضة الإسلامية في العالم الإسلامي اليوم لا تعرف شيعةً وسنّةً، ولا تعرف شافعياً وحنفياً وجعفرياً ومالكياً وحنبلياً، ولا تعرف عرباً وفرساً، وقوميّات أخرى. فالجميع هم في هذه الساحة العظيمة. فلنسع كي لا يبث العدو التفرقة بيننا. لنشعُر كلنا بالأخوة ولنحدد الهدف. الهدف هو الإسلام. الهدف هو الحكومة القرآنية والإسلامية. طبعاً ثمة مشتركات بين البلدان الإسلامية وثمة فوارق. ما من نموذجٍ واحدٍ لكل البلدان الإسلامية. الظّروف الجغرافية والتاريخية والاجتماعية مختلفة في البلدان المختلفة. ولكن ثمّة أصولٌ مشتركة أيضاً, فكلّنا أعداءٌ للاستكبار، وكلنا نعارض الهيمنة والسيطرة الغربية الخبيثة، وكلنا نعارض وجود الغدة السرطانية الإسرائيلية3.
أينما كان ثمة شعور لدينا بأن عملاً ما يُقام به لصالح إسرائيل ولصالح أمريكا، حينها علينا أن نكون يقظين ونعلم أن هذا التحرك تحرك أجنبي وغريب، وليس تحركاً ذاتياً أصيلاً. وحينما يكون التحرك تحركاً إسلامياً ومناهضاً للصهيونية والاستكبار والاستبداد والفساد فهو تحرك صحيح. هناك سيكون الجميع مع بعضهم ومن بعضهم ولا فرق في أن نكون شيعة أو سنّة أو من هذا البلد أو ذاك. علينا جميعاً أن
1- شعارات الحضور: "الموت لأمريكا".
2- الفتح، 6.
3- شعارات الحضور: "الموت لإسرائيل".
43
33
في لقاء المشاركين في المؤتمر العالمي للشباب والصحوة الإسلاميّة
نفكر بطريقة واحدة. لاحظوا، إنّ جميع الأجهزة الإعلامية في العالم اليوم ـ وهذا مثال بسيط وماثل أمامنا ـ تُحاول عزل الشعب البحريني والحركة في البحرين. فما سبب هذا الذي يقومون به؟ لأنّ القضية قضية شيعة وسنة. يريدون زرع الخلافات ورسم الخطوط والفواصل والفوارق. لا فرق بين المسلمين والمؤمنين من هذا المذهب الإسلامي وذاك المذهب الإسلامي، فالوجه المشترك بينهم جميعاً هو الإسلام. الوجه المشترك بين الجميع هو الأمة الإسلامية. وحدة الأمة الإسلامية1. سر الانتصار واستمرار التحرك هو التوكل على الله، وحسن الظن بالله، والاعتماد عليه تعالى، وحفظ الوحدة والتلاحم.
ضرورة الاستقامة والسير إلى الأمام
يا أعزائي ويا أبنائي، احذروا من أن يوقف العدو حركتكم. يخاطب الله تعالى رسوله في موضعين من القرآن الكريم فيقول: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ2﴾، ﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ3﴾، والاستقامة هي الصمود والمواصلة، ومتابعة الطريق وعدم التوقف. هذا هو سرّ العمل.
يجب أن نسير إلى الأمام. هذه الحركة حركة ناجحة, لأنّ لها آفاقاً مشرقة، الآفاق مشرقة وجليّة، المستقبل مستقبل مشرق جداً. سيأتي اليوم الذي تصل فيه الأمّة الإسلامية بحول الله وقوته إلى ذروة الاقتدار والاستقلال4، وتنضوي الشعوب المسلمة - مع حفظ خصوصياتها وتمايزاتها - تحت مظلة واحدة هي مظلة الدعوة إلى الله وإلى الإسلام، ويكون الجميع متآزرين. وعندئذ سوف تكتسب الأمة الإسلامية عزّتها.
لدينا في بلداننا مصادر جوفية ومناطق استراتيجية وثروات وخيرات طبيعية جمّة ولدينا شخصيات ممتازة وطاقات بشرية متقدمة وموهوبة. يجب أن نعقد الهمم، وسوف يبارك الله تعالى في هذه الهمم.
أقول لكم أيها الشباب إن المستقبل لكم، وسترون أيها الشباب بحول الله وقوته وبإذنه ذلك اليوم، وسوف تسلمون إن شاء الله مفاخركم وأمجادكم للأجيال التي تليكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- هنا علت نداءات التكبير وشعارات: "وحدة وحدة إسلامية".
2- هود، 112.
3- الشورى، 15.
4- شعارات الحضور: "هيهات منّا الذلة".
44
34
في صلاة الجمعة – طهران
خطبتا الإمام الخامنئي دام ظله في صلاة الجمعة – طهران
المناسبة: صلاة الجمعة.
الحضور: حشد من المصلين.
المكان: طهران.
الزمان:3/2/2012م.
45
35
في صلاة الجمعة – طهران
الخطبة الأولى
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وسيد الخلق أجمعين، سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الطيبين، وصحبه المنتجبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
مقدّمة الخطبة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، أحمده وأستعينه وأستغفره وأتوكّل عليه، وأصلي وأسلم على حبيبه ونجيبه وخيرته في خلقه حافظ سرّه ومبلغ رسالاته، بشير رحمته ونذير نقمته، سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الأطيبين الأطهرين، وصحبه المنتجبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وصلّ اللهم على أئمة المسلمين وحماة المستضعفين وهداة المؤمنين، وصلّ على بقية الله في الأرضيين.
الوصيّة بتقوى الله
أوصيكم عباد الله بتقوى الله ونظم أمركم، أوصي جميع الإخوة والأخوات المصلين ونفسي بتقوى الله، فهو أساس مسيرة الإنسان نحو الكمال والتعالي. إذا استطعنا بتوفيق من الله أن نراعي تقوى الله في أعمالنا الفردية والجماعية والسياسية والاجتماعية فسوف تشملنا كل الخيرات وكل الألطاف الإلهية.
ذكرى عشرة الفجر
إنها أيام عشرة الفجر المباركة1. يجب علينا في هذه الأيام توجيه شكرين اثنين:
الأول: شكر الله. نعفّر جبهة الشكر على عتبة الله بكلّ خشوع وتواضع, أن وفّق شعب إيران للقيام بهذه الحركة العظيمة، وهذا العمل الكبير وهذه النهضة التاريخية على يديه وبقيادة الإمام الجليل، حيث تشكل النظام الإسلامي، وانطلقت مسيرة الشعب الإيراني إلى الله، ونحو الأهداف والقيم الإلهية. ما من نعمة أكبر من هذه، وشكر الله على هذه النعمة الكبرى أمرٌ واجب على الدوام، وهو أوجب في أيام عشرة الفجر.
والثاني: هو شكر شعب إيران، الذي أبدى وفاءً ومروءةً وتضحيةً وإيثاراً وشجاعةً
1- الأيام العشرة الأولى التي سبقت إعلان انتصار الثورة الإسلامية في إيران 11/2/1979م.
47
36
في صلاة الجمعة – طهران
وبصيرةً، وحافظ على حضوره الدائم طوال هذه الأعوام الاثنين والثلاثين، بحيث ترسّخت هذه الغرسة يوماً بعد يوم رغم الأخطار والعقبات، وازدادت رونقاً وازدهاراً وطراوة. وهي اليوم كتلك الشجرة الطيبة التي ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء﴾1 قد تجذّرت في أرض الحياة البشرية وباتت تؤتي أُكُلها في كل حين.
لعشرة الفجر في هذا العام - خصوصاً - طعم آخر، فنحن في أجواء الثورات المنتصرة في هذه المنطقة سواء في تونس أو في مصر أو في ليبيا حيث أثمرت التحرّكات الثورية للشعوب، وأُنجزت أعمالٌ كبيرة، وهذه بشارة كبرى لنا نحن الشعب الإيراني، وهي حدث مبارك وطيب. إنّنا وخلال إحيائنا لذكرى عشرة الفجر، والثاني والعشرين من بهمن (شباط) (ذكرى انتصار الثورة الإسلامية) في مثل هذه الأجواء. يجب القول إنّ الشعب الإيراني خرج من غربته بانتصار هذه الثورات بنحو نسبي، وسوف أذكر شيئاً عن هذا اليوم باختصار إن شاء الله.
في هذه الخطبة سوف أطرح على الإخوة والأخوات المصلّين الأعزاء وعلى الشعب الإيراني ثلاثة مواضيع رئيسة، وفي الخطبة الثانية سأتحدّث للإخوة العرب أكثر. أحد هذه الموضوعات الثلاثة حول ثورتنا والطريق الذي قطعناه خلال هذه العقود الثلاثة والمكتسبات التي حقّقناها والمستقبل الذي ينتظرنا. والموضوع الثاني إطلالة على قضايا المنطقة والعالم. والموضوع الثالث بعض النقاط المختصرة حول الانتخابات المقبلة.
حول الموضوع الأول هناك من الكلام ما يعادل كتباً. لكن ما سأذكره كخطوط أساسية لثورتنا جملتان أو ثلاث من هذا الكلام وشرحه طويل ومفصّل جداً.
خصوصيّات الثورة الإسلاميّة
كانت لثورتنا هذه الخصوصيّات:
أ- لقد قضت على نظام مناهض للإسلام وجاءت بنظام إسلامي إلى الحكم.
ب- محقت نظاماً دكتاتورياً مستبدّاً، وأقامت نظام حكم شعبي بدلاً عنه.
ج- محت التبعية التي كانت بلادنا تعاني منها طوال سنين متمادية - حيث وصلت إلى أفجع وأفظع أحوالها في العهد البهلوي- ومنحت الشعب استقلالاً شاملاً.
د- قضت على القمع والتعسّف الرهيبين اللذين كانا مسلّطين على شعبنا، ومنحته
1- إبراهيم، 24.
48
37
في صلاة الجمعة – طهران
الحرية ومكّنت أبناء الشعب من طرح آرائهم وكلامهم بحرية، وأضحت الأجواء أجواء حرية. وأزالت حالة الذلة والمهانة التاريخية التي عانى منها الشعب الإيراني، ومنحته العزّة الوطنية. لقد أُذلّ شعبنا لعشرات الأعوام. أُذلّ هذا الشعب الكبير- مع ما له من السوابق التاريخية وهذه الموروثات الثقافية والعلمية والتاريخية العظيمة - مقابل الحكام المتغطرسين الفاسدين، ومن وراءهم المستعمرين والمهيمنين الدوليين. لقد أزالت ثورتنا هذا الوضع وبدّلته إلى عزّة وطنية. والشعب الإيراني اليوم يشعر بعزته وشخصيته.
هـ- قضت الثورة على الضعف النفسي وعقدة الدونية لدى شعبنا، وأحلت محلها الثقة بالنفس الوطنية. لقد كان لدينا عقدة دونية، وكنا نتصور أننا لا نستطيع القيام بعمل علمي أو سياسي أو عسكري عظيم. كنا نعتقد أننا شعب ضعيف. هذا ما لقّنونا إياه وبثّوه فينا. وقد أخرجت الثورة هذه الحالة من الشعب وبدّلتها إلى ثقة بالذات الوطنية. لدينا حالياً ثقتنا بأنفسنا في كل الميادين، ونعلم أنّنا قادرون ونسير وراء هذه القدرة ونتابعها، ونصل والحمد لله إلى مقاصدنا في كل المجالات.
و- كان شعبنا معزولاً ومُعرِضاً عن الشؤون السياسية ولا يهتم لأحداث البلاد. وقد انتزعت الثورة هذه الحالة من شعبنا وجعلتنا شعباً واعياً وسياسياً. فشبابنا وناشئتنا - أينما كانوا في أقاصي البلاد - لديهم في الوقت الحاضر تحليلاتهم السياسية، وهم يدركون الأحداث السياسية، ويُحلّلون كل مسألة من المسائل. ولم يكن الحال كذلك قبل الثورة. كانت الاتجاهات السياسية ووعي القضايا السياسية حالة مقتصرة على عدد قليل جداً في البلاد. كان الناس - عموماً - بعيدون عن أحداث البلاد، تأتي الحكومات وتذهب، وتبرم المعاهدات الدولية، وتُنجِز أموراً وأعمالاً كبيرة في العالم، والشعب غير مطّلع عليها. هذه هي الخطوط الأصلية لهذه الثورة التي أوجدت هذه الأحداث في هذا البلد. لقد تمأسست هذه الأصول وتكرّست مؤسساتياً وترسّخت. هذه ليست تحوّلات سطحية ومقطعية. شعارات الثورة اليوم هي نفسها شعارات اليوم الأول، وهذا مؤشّر على سلامة الثورة. فالشعارات بمثابة الإصبع الذي يشير إلى الأهداف ويرسمها. حينما تبقى الشعارات في نظام معيّن وثورة معينة وتترسّخ فمعنى ذلك أنّ الأهداف في ذلك النظام لا تزال نفسها الأهداف الأولى ولم تتغير، والمسؤولون والجماهير لم ينحرفوا عن الصراط المستقيم والأهداف الأصلية. إنّ شعارات الشعب الإيراني في الوقت الحاضر هي نفسها شعارات بدايات الثورة.
49
38
في صلاة الجمعة – طهران
معرفة نقاط القوّة ونقاط الضعف
لقد كانت حياتنا خلال هذه المرحلة - الممتدة لنيّف وثلاثين سنة - متأثّرة بهذه الخطوط الأساسية. لقد حقّقنا تقدّماً وكانت لدينا نقاط ضعف ونواقص. يجب أن نعرف حالات التقدّم التي حققناها و كذلك علينا تشخيص مواطن ضعفنا, إذا تكتّمنا على نقاط ضعفنا ولم نعرفها وتجاهلناها فسوف تبقى وتتكرّس وتتجذّر ولن ترتفع. علينا معرفة كلّ نقاط القوة ونقاط الضعف.
توجد نقاط إيجابية ونقاط سلبية كذلك، وهناك صعود وهبوط، لكن المسيرة والحركة كانت مستمرة وهذا هو المهمّ. ليعلم شبابنا الأعزّاء أنّه طوال هذه الأعوام الاثنتي والثلاثين أو الثلاثة والثلاثين كانت هناك محطّات أبدينا فيها ضعفاً، وكان لهذه الحركة صعود وهبوط، ولم تكن دوماً على وتيرة واحدة، فقد كانت أحياناً سريعة وفي أحيان أخرى كانت أقلّ سرعة لكنّها لم تتوقّف أبداً، وقد تقدّمنا في الاتجاه الرئيس للمسيرة نفسه، ونشاهد اليوم ثمار ذلك.
نقاط القوة في الثورة
أذكر بعض نقاط القوة التي لدينا طوال هذه المدّة، وسأذكر أيضاً بعض نقاط الضعف:
أ- الانتصار على التحديّات
نقطة القوّة الأهمّ في هذه السنوات الاثنتي والثلاثين هي الانتصار على التحدّيات، وهذا الشيء على جانب كبير من الأهمية. لم نكن شعباً ننكّس رؤوسنا ونسير في طريقنا ولا أحد يهتم بنا, لا، فمنذ البداية كانت القوى العالمية المهيمنة تتربّص بنا، وعمدت إلى إيذائنا وعرقلة مسيرتنا، وقد فرضوا الحرب علينا، وأطلقوا صدّاماً علينا، وشغلونا لمدة ثمانية أعوام، وبعثوا لنا الإرهابيين، وفرضوا الحظر الاقتصادي. وقد تغلّبنا إلى الآن على كل هذه التحديات، فلم يُخضعنا أيّ تهديد، ولم يبعث شعبنا وثورتنا على الندم والاستسلام. لقد واصلنا طريقنا والحمد لله بهامات مرفوعة. هذه هي نقطة القوّة الأهمّ لدينا.
ب- تنامي الخدمات
ونقطة القوّة التالية التي توفّرت خلال هذه الفترة هي تنامي واتساع الخدمات المقدمة للشعب كمّاً وكيفاً. هذه الخدمات لا تقارن بالماضي القريب قبل الثورة ولا حتى بالماضي البعيد. الخدمات الهائلة التي انتشرت وتنامت في أنحاء البلاد كلّها كانت ذات نوعية وجودة عالية ومن الدرجة الأولى - الخدمات المادية والمعنوية - وكانت كمّيتها وسعتها أيضاً كبيرة جداً. هذه نقطة قوّة مهمّة.
50
39
في صلاة الجمعة – طهران
ج- التقدّم العلمي
ونقطة القوّة الأخرى: التقدّم العلمي. يا أعزائي، لا تستهينوا بهذا التقدّم العلمي, هذا التقدم على جانب كبير من الأهمية. العلم هو أساس التقدم الشامل لأيّ بلد. سبق أن قرأت الحديث القائل: "العلم سلطان"1.. أي العلم اقتدار. كل من يتوفر لديه هذا الاقتدار يستطيع أن يبلغ كل مقاصده. وقد استطاع مستكبرو العالم - بفضل العلم الذي حازوا عليه - فرض قوتهم على كل العالم. ونحن طبعاً لن نميل إلى منطق القوّة أبداً، لكن العلم ضروري لنا بالتأكيد من أجل التقدّم.
تقدّمنا العلمي الذي أحرزناه طوال هذه الأعوام الثلاثين ونيف كان مذهلاً حقاً. والتقنية النووية بالمناسبة هي معروفة وقد جعلتنا محط أنظار الجميع في داخل البلاد وخارجها، لكن الأمر لا يقتصر عليها فقط، فهناك تقنية نووية، وهناك أيضاً علوم الفضاء والطيران، والعلوم الطبية - ولحسن الحظ إنّ بلادنا اليوم تحتل في الطبّ مراتب مهمة جداً وصعبة المنال، وقد أُنجزت أعمالٌ طبية كبيرة في هذا البلد - وهناك تقنيات الأحياء، وتقنيات النانو وهي من العلوم الحديثة في العالم، وهناك تقنيات الخلايا الجذعية وهي من أعظم الأعمال والإنجازات في ميدان العلم، وهناك الاستنساخ، وصناعة الحواسيب العملاقة، وتقنيات الأشكال الجديدة من الطاقة، والأدوية الراديوية والأدوية المضادة للسرطان، والقائمة متواصلة.
ما أذكره ليس من باب الارتجال، إنّما هي شهادات المراكز العلمية المعتبرة في العالم. هم يقولون إنّ أسرع نمو علمي في العالم كله حصل خلال هذه الأعوام كان في إيران. فتقرير عام 2011م يقول "إنّ أسرع نمو علمي في العالم كله حصل في إيران". وحسب التقارير التي أطلقتها المراكز العلمية المعتبرة في العالم، فإنّ إيران تحتل المرتبة العلمية الأولى في المنطقة. وكنّا قد حددنا لأنفسنا سنة 1404 هـ . ش. (2025 م)، كي نصل إلى هذه المرتبة العلمية الأولى، أي لا يزال أمامنا 14 عاماً. في العام الميلادي الماضي قالوا إنّ إيران هي الأولى في المنطقة من حيث المرتبة العلمية، والـ17 في العالم. أي إنّ المرتبة العلمية لبلادنا على مستوى العالم هي السابعة عشرة، وهذا شيء على جانب كبير من الأهمية، فتقدّمنا العلمي إذاً هو من نقاط قوتنا.
د- تأسيس البنى التحتية
من نقاط قوتنا الأخرى، تقدّم البلاد في تأسيس البنى التحتية، الفنية والمعمارية والصناعية, فكلما زارتنا وفود من خارج البلاد وشاهدت هذه الإنجازات،
1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج20، ص 319.
51
40
في صلاة الجمعة – طهران
أثنت عليها. أمّا الأعمال العظيمة التي أُنجزت على مستوى الاتصالات والطرق والمواصلات والبنى التحتية المختلفة الفنية والصناعية والمعمارية وأمثال ذلك، فهذه لها قصة أخرى مستقلة. وأنا في واقع الأمر آسف كثيراً، عندما أرى هذه التقارير الواضحة والوافية، وما ينبغي وما لا ينبغي، ولا يعرض ذلك على الشعب ليسرّ ويفرح، ويعلم أي حدث يجري في البلاد.
هـ- نقل قيم الثورة للأجيال
ومن نقاط قوتنا خلال هذه المدة نقل قيم الثورة للجيلين الثاني والثالث. عندما تنظرون إلى الشباب ترون أنّهم تلقّوا هذه القيم وأدركوها. شهيدنا العزيز الأخير مصطفى أحمدي روشن - الشهيد الذي تركت شهادته لوعة وحرقة في قلوبنا - أو الشهيد الشاب الذي سبقه الشهيد رضائي نجاد الذي استشهد مطلع هذه السنة. كان هذان الشهيدان شابين عالمين في 32 من العمر، لم يدركا زمن الإمام الخميني، ولم يدركا زمن الحرب، ولم يدركا زمن الثورة، لكنّهما كانا يدرسان ويكسبان العلم ويقطعان المراحل والمراتب العلمية تباعاً بكل شجاعة وشهامة، وكانا على علم ووعي بأنّهما مُعرّضان للخطر والتهديد. هذا شيء مهم جداً وهو قيمة من القيم.. هذه هي قيم الثورة في الجيل الثالث. أحمدي روشن ورضائي نجاد وأمثالهما من الجيل الثالث للثورة. الخطوة العظيمة التي قام بها الشباب بعد استشهاد أحمدي روشن حيث أعلنوا عن استعدادهم للعمل خطوة مهمة جداً، ويجب عدم الاستهانة بهذا. من نقاط قوتنا ومن نقاطنا الإيجابية انتقال هذه القيم للجيلين الثاني والثالث. طبعاً كانت هناك بعض حالات التساقط، وكان هناك بعض التائبين من الثورة والنادمين عليها، لكن النماء عندنا كان أكثر من التساقط. القوى المهترئة تتساقط لكن القوى الشابة الطريّة تتصاعد وتنمو.
و- التأثير في القضايا الأساسية
نقطة أخرى من نقاطنا الإيجابية خلال هذه المدة القفزات الواسعة في التأثير في القضايا الأساسية في المنطقة والعالم. فنظام الجمهورية الإسلامية اليوم هو نظام بلد مؤثّر. "النعم" أو "اللا" التي يقولها في قضايا المنطقة وحتى في القضايا العالمية مؤثّرة. وهذا شيء مهم جداً للبلد.
ز- البنية القوية للنظام
من نقاط القوة الأخرى لدينا البنية القوية والمتينة للبلد والنظام في مواجهة الأعداء. نحن لا نضطرب مقابل العداء ولا نقلق ولا تتملّكنا الهموم. وإنّ بنية النظام والبلاد بنية متينة.
52
41
في صلاة الجمعة – طهران
ح- ارتقاء مراكزنا العلمية
من نقاط القوّة الأخرى عندنا الارتقاء الكمّي والكيفي لمراكزنا العلمية، أي جامعاتنا وحوزاتنا العلمية. لقد ارتفع مستوى حوزاتنا العلمية من الناحية الكمّية ومن الناحية النوعية، وكذا الحال بالنسبة لجامعاتنا. هذه من نقاط قوتنا، وكل واحدة من هذه النقاط تتطلب شرحاً مطوّلاً، وثمة إحصائيات تدلّ عليها، وتوجد غيرها الكثير من نقاط القوّة.
تتمة لنقاط القوّة أُذكّر أنّه على الشعب الإيراني أن يتنبّه إلى أنّ كل هذا التقدم العلمي والاجتماعي والتقني تحقّق في ظروف الحظر والمقاطعة، وهذه مسألة على جانب كبير من الأهمية. لقد أغلقوا أبواب العلم وأبواب التقنية بوجهنا، وسدّوا الطرق، ولم يبيعونا المنتجات اللازمة، ومع ذلك تقدّمنا على هذا النحو. لقد حصلت هذه الأمور والتطورات في ظروف الحظر، وهذا ما يضاعف الآمال.
نقاط الضعف
ولدينا طبعاً نقاط ضعف، ويجب التغلّب على نقاط الضعف هذه وإزالتها. وسأعود لقضية الحظر والظروف التي فُرضت وأتطرّق لها بعض الشيء.
أمّا نقاط ضعفنا فهي الأخطار التي تعترض طريقنا، وكانت موجودة خلال هذه المدة وينبغي علينا بعد ذلك أن نتغلّب عليها:
أ- النزوع إلى الدنيا
نقطة ضعفنا الأولى هي النزوع إلى طلب الدنيا، حيث تتمكّن من بعضنا وتسيطر عليه. فطلب الدنيا والماديات أصاب بعضنا - نحن المسؤولين - وشيئاً فشيئاً سقط من قاموسنا قبح الميل للثروة والبذخ والتشريفات والعيش برفاهية والنزعة الارستقراطية. وحينما نصبح هكذا فإنّ هذه الحالة تتسرّب إلى الناس, فالميل للارستقراطية والبذخ وجمع الثروات، والتمتّع بها بشكل غير مشروع وغير مستساغ موجود لدى كثير من الناس بشكل طبيعي. لكن عندما نطلق العنان لأنفسنا ونصاب بهذه الآفات، فسوف تتطرق هذه الأحوال إلى الناس، وتظهر فيهم.
نحن نعاني اليوم، للأسف، من الإسراف والنزعة الاستهلاكية. لقد قلتُ هذا مراراً وأقوله مرّة أخرى، هذا خطر يعترض طريقنا. يجب التقليل من النزعة الاستهلاكية والحرص على الدنيا ومتاع الدنيا. ما إن تنتشر إشاعة بأنّ الشيء الفلاني قد ندر وشحّ حتى يهجم الناس لجمعه وامتلاكه خوفاً من أن يفقدوه، والحال أنّ ذلك الشيء قد لا يكون من الأشياء الضرورية في الحياة. وحتى لو لم تكن تلك البضاعة شحيحة فإنّ
53
42
في صلاة الجمعة – طهران
هجوم الناس عليها سيجعلها شحيحة، ونحن لا نتنبّه لهذه النقطة. هذه من مواضع ضعفنا، ويجب علينا رفع هذا النقص والضعف.
ب- الضعف على مستوى التزكية والأخلاق
من نقاط ضعفنا الأخرى أننا لم نحقق تقدماً أخلاقياً وتزكية أخلاقية ونفسية بموازاة العلم والتقدم العلمي، وهذا نوع من التخلف. طبعاً، الوضع اليوم أفضل بكثير مما كان عليه قبل الثورة -ولا ريب في هذا أبداً- لكن كان يجب علينا أن نتقدم. لقد تقدمنا في العلم وتقدّمنا في السياسة، وكان ينبغي لنا أن نتقدم في المعنوية وتزكية النفس. في القرآن الكريم أين ما ورد ذكر التزكية والتعليم عن لسان الخالق قدّم سبحانه التزكية على التعليم، والتعليم هنا هو تعليم الكتاب والحكمة، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ1﴾ في موضع واحد فقط جرى تقديم التعليم على لسان إبراهيم. وهكذا فقد غفلنا عن التزكية الأخلاقية والنفسية.
ج- العدالة الاجتماعية
وعلى صعيد العدالة الاجتماعية لم نصل بعد إلى المستوى الذي يريده الإسلام وهو ما نطمح إليه بدورنا. هذه أيضاً من نقاط ضعفنا.
واجبات ومسؤوليّات في التغلّب على الضعف
يجب علينا تلافي نقاط الضعف هذه. إنّها مواطن نقص وضعف لا يمكن تخطيها وعدم الاكتراث بها. على المسؤولين وكذلك على أبناء الشعب أن يشعروا أنّ من واجبهم تلافي هذه النواقص والسلبيات. يجب أن نطلب العون من الله تعالى ونتغلّب على هذه النواقص ونرفعها. ورفعها أمر ممكن طبعاً, إنّها سلبيات يمكن التغلّب عليها ومعالجتها.
أ- النظر للمستقبل وتحمّل المسؤولية
أعتقد أنّ الأعمال التي يجب أن نقوم بها للتغلّب على هذه السلبيات والنواقص هي بالدرجة الأولى النظر للمستقبل وتحمّل المسؤولية. علينا جميعاً أن نشعر بالمسؤولية، خصوصاً مسؤولو البلاد وخدمة الشعب يجب أن يشعروا بالمسؤولية، ويجب أن لا نلقي النواقص والتقصيرات على عاتق بعضنا. إذا ظهر نقص في موضع من المواضع يجب أن لا يقول مجلس الشورى إنّ الحكومة مقصّرة وتقول الحكومة إنّ مجلس الشورى مقصّر، ويقول ذاك إنّ السلطة القضائية مقصّرة، لا، الحدود واضحة. الدستور عيّن
1- الجمعة، 2.
54
43
في صلاة الجمعة – طهران
الخطوط والحدود. وواجبات الجميع معلومة. للقيادة مسؤولياتها، وللحكومة مسؤولياتها، ولمجلس الشورى مسؤولياته، وللسلطة القضائية مسؤولياتها، ولقوات الشرطة مسؤولياتها، والأجهزة التنفيذية كل واحد منها له مسؤولياته، فلا نلقي اللوم على بعضنا. إذا ظهر إشكال يختصّ بالقيادة فعلى القيادة أن تتقبل الأمر بتواضع لأنّه يختص بها وتحاول رفعه. هذا من الأعمال والأمور الأساسية.
ب- عدم الغفلة عن القيم الأصولية
المهمّة الأصلية الأخرى هي أننا يجب أن لا نغفل عن القيم الأصولية (الأساسية)، ولا ننشغل بالقضايا الفرعية والهامشية، ونغفل عن الأصول. وهذه النقطة بدورها لها شرحها المفصّل.
ج- الحفاظ على الاتّحاد والتعاطف
ومن واجباتنا أيضاً الحفاظ على الاتحاد والتعاطف. قلنا مراراً إنّه لا بد من توفّر الاتحاد والتعاطف بين المسؤولين. السلطات الثلاث والآخرون يجب أن يكونوا متعاطفين ومتواكبين ومتعاضدين، حتى لو كان بينهم اختلاف في وجهات النظر في بعض المواطن. لا ضير في الاختلاف في وجهات النظر، ولكن يجب أن لا يقفوا ضد بعضهم في توجّهات النظام والبلاد والثورة، بل يشدّوا على أيدي بعضهم بقوة ويتقدّموا إلى الأمام، هذا ما يجب عليهم وعلى أبناء الشعب فيما بينهم وعلى أبناء الشعب في علاقتهم بالمسؤولين. هذا الاتحاد والتعاطف علاج حاسم لكثير من المشكلات الموجودة في البلاد.
د- عدم الانخداع بوعود العدو
من المهام الأصلية التي يجب أن ننهض بها وعلى الجميع التنبّه لها هو أن لا ننخدع بابتسامات العدو والوعود الكاذبة لجبهة الأعداء، ولدينا تجارب خلال هذه الأعوام الثلاثين، فقد ابتسموا لنا أحياناً، وفي البداية صدّقهم بعضنا، وشيئاً فشيئاً أدركنا ما الذي يجري وراء الستار. يجب أن لا ننخدع بابتسامات العدو ووعوده الكاذبة. بسهولة تامة تنكث جبهة القوى المادية المهيمنة على العالم اليوم عهودها. تنكث عهودها وأقوالها دون خجل أو همّ. لا يخجلون من الله، ولا من خلق الله، ولا من الجانب الذي يفاوضونه.. يكذبون بكل سهولة! لدي نماذج حية ليس هنا موضع مناقشتها، وربما أذكرها إذا اقتضت الضرورة ونفس هذه التصريحات التي أطلقها الأمريكان ورئيس جمهورية أمريكا، والرسالة التي كتبها لنا، والجواب الذي بعثناه، ثم رد الفعل والخطوة التي قاموا بها مع مضمون هذه الرسائل. هذه أمور سوف تعرض يوماً ما
55
44
في صلاة الجمعة – طهران
على الرأي العام في العالم - يوم تستدعي الضرورة - وسيرى العالم ما هو حال هؤلاء وواقعهم، وكم هي أهمية كلامهم وقيمته، وكم هي قيمة وعودهم. إذاً، من مهماتنا الأساسية أن لا ننخدع بابتساماتهم ووعودهم الكاذبة.
هـ- اجتناب الكسل
ومن النقاط أيضاً اجتناب الكسل وقلّة العمل. الكسل والخمول وقلّة العمل تدمّر الإنسان، والعائلة، والبلد، والشعب. على الجميع أن يعملوا... يجب أن يعملوا عملاً جهادياً. حينما أعلنا هذا العام عاماً للجهاد الاقتصادي، فمعنى ذلك أن الحركة الاقتصادية يجب أن تكون حركة جهادية. هذا ما يتعلّق بقضايا الثورة والكلام كثير والوقت قليل، ويجب أن نطرح القضايا الأخرى.
نهضة الشعوب وثورات المنطقة
أمّا قضايا المنطقة والعالم. في غضون العام الذي انقضى من عشرة الفجر في السنة الماضية إلى عشرة الفجر في هذه السنة، نجحت شعوب المنطقة في إسقاط أربعة طواغيت، وهذا شيء على جانب كبير من الأهمية. لا بد من جهود كبيرة من أجل أن يُسقط شعبٌ أحد هؤلاء الطواغيت. خلال هذا العام الفاصل بين عشرة الفجر من السنة المنصرمة وعشرة الفجر الآن جرى إسقاط أربعة طواغيت خطيرة وخبيثة في هذه المنطقة. هذا حدث على جانب كبير من الأهمية.
حدث مهم آخر هو أنّ الجماهير في تونس ومصر منحت أصواتها للإسلام. في مصر ذهب إلى صناديق الاقتراع نحو 75% من الشعب وصوّتوا لصالح الجماعات والفئات الإسلامية. والوضع في تونس يشبه ذلك. هذا شيء له أهمية بالغة. فمعناه أنّ كل الجهود والمساعي التي بذلها الأمريكان والغربيون والأجهزة الإعلامية وهوليوود وغيرها وغيرها لمخاصمة الجمهورية الإسلامية طوال هذه الأعوام للتخويف من الإسلام ومن الحكومة الإسلامية ذهبت أدراج الرياح، و الناس منحازون للإسلام.
من آثار هذه التحرّكات ضعف الكيان الصهيوني وعزلته، وهذا شيء على جانب كبير من الأهمية. فالكيان الصهيوني هو بحقّ غدّة سرطانية في هذه المنطقة ويجب استئصالها وسوف تستأصل، وبالتالي فقد أصيب بمزيد من الضعف والعزلة نتيجة هذه التحركات. لقد تضاعفت حيوية الشباب الفلسطينيين وآمالهم بكفاحهم ومستقبلهم. والشعوب أيضاً تُضاعف أملها.
مظلوميّة شعب البحرين
طبعاً، الشعب البحريني هو الأكثر مظلومية بين هذه الشعوب, لأنّه يواجه للأسف صمت الإعلام العالمي ومقاطعته. دعواتهم ليست مرفوضة في أي منطق إنساني وعالمي، إنّما هي مطالب مُحقّة لكنّها تعرّضت للظلم، وقد أخرجوهم تماماً من دائرة الإعلام والضوء، بل راحوا يوجّهون الإعلام ضدهم باستمرار، وهذا لن يؤثر طبعاً، وسينتصر الشعب البحريني أيضاً بتوفيق من الله.
56
45
في صلاة الجمعة – طهران
وأقول هنا بهذه المناسبة إنّ حكام البحرين ادّعوا أنّ إيران تتدخل في قضايا البحرين، وهذا كذب. لا، نحن لا نتدخّل، إنّنا نعلن بصراحة عن المواطن التي نتدخّل فيها. فقد تدخّلنا في الشؤون المناهضة لإسرائيل وكانت النتيجة انتصاراً في حرب الثلاثة والثلاثين يوماً، وحرب الإثنين والعشرين يوماً. وبعد الآن أيضاً إذا كان ثمة شعب أو جماعة تكافح ضد الكيان الصهيوني وتجابهه فسوف نساندها ونساعدها، ولا نتحرّج أبداً من قول ذلك، هذه حقيقة وواقع. أمّا أن يأتي حاكم جزيرة البحرين ويقول إنّ إيران تتدخل في أحداث البحرين، فلا، هذا الكلام غير صحيح وهو خلاف الواقع, لو تدخّلنا في البحرين لأصبحت الأوضاع في البحرين مختلفة.
الغرب في ضعف متزايد
والأوضاع في العالم أيضاً غريبة. أمريكا أصيبت بالضعف - الضعف الاقتصادي والمالي، والضعف السياسي - وهذه بدورها حقيقة واقعة. لقد هُزمت أمريكا في سياستها للشرق الأوسط، فقد فشلت في قضية فلسطين وفي قضية العراق. أراد الأمريكان أن يديروا العراق بأنفسهم مباشرة فلم يستطيعوا، ووقف الشعب العراقي ولم يسمح بذلك. وأرادوا أن يوجدوا حكومة عميلة فلم يستطيعوا. أرادوا البقاء مع وجود حصانة قضائية لهم، فلم تسمح الحكومة والشعب العراقي بذلك. الحكومة في العراق اليوم حكومة شعبية والشعب العراقي شعب حيّ يقظ، وهذا ما جعل الأمريكان يخرجون من العراق بلا أية مكاسب ومن دون أن يتحقّق ما أرادوا. طبعاً لديهم تدخلاتهم النفطية والأمنية هناك، وهذا ما سيعالجه الشعب والحكومة في العراق إن شاء الله في المستقبل.
وأُصيبت أمريكا بالضعف أيضاً في قضاياها الداخلية وهذا ما يحاول الأمريكان إخفاءه والتكتّم عليه. لا يريدون الاعتراف بضعفهم. لم يشر أوباما في كلمته قبل أيام في الكونغرس أدنى إشارة إلى أنّ الشعب الأمريكي يتظاهر في الشوارع منذ أكثر من أربعة أشهر. في هذا الجو البارد وفي كل أنحاء أمريكا، في الولايات المختلفة، يخرج كل
57
46
في صلاة الجمعة – طهران
هؤلاء الناس إلى الشوارع ويصمدون مقابل ضغوط الشرطة وضرباتهم الشديدة، ألم يكن هذا جديراً بالإشارة؟! لكنّه لم يشر له إطلاقاً. يريدون التكتّم على الأمر. فهذه هي حقوق الإنسان لديهم. وكذا الحال بالنسبة لأوروبا. أوروبا أيضاً مصابة بالضعف, إضافة إلى القضايا الاقتصادية والمالية والنقدية - وهي نقاط ضعف عجيبة قد أغضبت الناس - فقد أصيبت أوروبا بالضعف من الناحية السياسية أيضاً.
أضرب لكم مثالاً: الحكومة الفرنسية في عهد رئيس جمهورية فرنسا الجنرال ديغول لم تسمح لبريطانيا بالدخول في الاتحاد الأوروبي. لماذا؟ قالوا إنّ بريطانيا مرتبطة بأمريكا، ونوع العلاقات والارتباط بين بريطانيا وأمريكا يُسقط استقلال الاتحاد الأوربي. لم يسمح ديغول لبريطانيا بالدخول في الاتحاد الأوروبي بسبب الارتباط والاتصال والتبعية لأمريكا. هذا ما يتعلّق بفرنسا ذلك الحين. بينما الرجل الذي يتولى الأمور في فرنسا اليوم يردّد الكلام الأمريكي ويعيد ما يقوله الأمريكان وما يصطنع في داخلهم، فصار تابعاً محضاً لهم! وهذا بالطبع ضعف. وصل الأمر بأوروبا إلى هذا الحد. هذا عن فرنسا، وباقي البلدان الأوروبية هي هكذا أيضاً من باب أولى. هذا ضعف في الأجهزة والمؤسسات.
يعاني الغربيون في الوقت الراهن من ضعف في الشؤون الاقتصادية وفي الشؤون السياسية وفي القرارات الدولية، ومن ذلك قرار الحظر علينا.
الحظر الاقتصادي وتنامي القدرات الداخليّة
لقد أرادوا في الواقع معاقبة الجمهورية الإسلامية والشعب الإيراني بسبب الإسلام. وهدّدوا بأنّ الحظر سيكون باعثاً على الشلل وموجعاً! قالوا وقالوا، وكان الحظر لصالحنا من ناحيتين:
أولاً، حينما نقاطَع سوف نتوجّه للمواهب والإمكانيات الداخلية وننمو من الداخل، وهذا ما حدث طوال هذه الأعوام الثلاثين. لو لم نُقاطَع في المجال التسليحي لما كنّا حقّقنا اليوم هذا التقدّم العجيب. وفي القضية النووية لو كانوا هم الذين بنوا لنا محطة بوشهر للطاقة لما تقدّمنا في مجال التخصيب. ولو لم يغلقوا أبواب العلم بوجهنا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه في الخلايا الجذعية والفضاء والطيران وإطلاق الأقمار الصناعية للسماء. إذن كلما فرضوا علينا مزيداً من الحظر نميل إلي إمكانياتنا وقدراتنا الذاتية، فتزدهر هذه المواهب والإمكانيات يوماً بعد يوم كينبوع متدفق. إذن، هذه المقاطعة والحظر كانا لصالحنا.
الناحية الثانية التي يتحول فيها الحظر لصالحنا هي أنّهم يُكرّرون في إعلامهم باستمرار إننا سنفرض هذا الحظر وذاك الحظر على إيران لنرغمها على التراجع في القضية النووية
58
47
في صلاة الجمعة – طهران
مثلاً. وعندها سيدرك العالم كله أن هذه العقوبات والمقاطعة من أجل الضغط على إيران للتراجع عن ملفها النووي وقضايا أخرى. وحينما لا نتراجع فماذا سيحدث؟ فهذا الحظر من أجل فرض التراجع على إيران وإيران لن تتراجع, فستكون النتيجة انهيار هيبة الغرب وهيبة التهديدات الغربية في أعين شعوب المنطقة الثائرة، وتزايد عزة الشعب الإيراني واقتداره في أعينهم، وهذا لصالحنا. إذن، هذا الحظر لصالحنا ويعدّ بمثابة خدمة لنا، ولكن من هاتين الناحيتين اللتين ذكرتهما.
هذا هو وضع أوروبا. أوروبا تعاني من مشكلات اقتصادية مستعصية. الشعوب الأوروبية غاضبة ومعترضة على الوضع الاقتصادي. وسبق أن قلت إنّ الشعوب الأوروبية يوم تعلم أن هذا الواقع الضعيف الذي تعاني منه إنّما هو بسبب تدخلات أمريكا والشبكة الصهيونية العالمية، سوف تتحول هذه الاعتراضات على الأوضاع الاقتصادية إلى نهضة اجتماعية عظيمة، وعندها يجب توقع ظهور عالم جديد ودنيا جديدة.
التهديد بالحرب مضرّ بأمريكا
وأقول كلمة بخصوص هذه التهديدات الأمريكية. هم يهدّدون باستمرار، يُهدّدون بلغة: أنّ كل الخيارات موجودة على الطاولة! أي حتى خيار الحرب. هذا التهديد بالحرب بهذه اللغة مضرّ لأمريكا. الحرب ذاتها تضرّ أمريكا عشرات الأضعاف. لماذا هذه التهديدات مضرة لأمريكا؟ لأن هذه التهديدات نفسها دليل على عجز أمريكا في المواجهة المنطقية والكلامية. ليس لديهم خطاب مقابل خطاب الجمهورية الإسلامية، ولا يستطيعون تحقيق انتصار في ساحة المواجهة الفكرية والمنطقية، لذلك يضطرون للاستعانة والتشبّث بالقوة. معنى ذلك أن أمريكا ليس لديها من منطق سوى منطق القوة، ولا سبيل عندها للتقدم سوى سفك الدماء، وهذا سوف يبدّد اعتبار أمريكا في أعين شعبها والشعوب الأخرى أكثر مما تبدد إلى الآن. هذا هو الشيء الذي يحدّد مصير الأنظمة. فالنظام الذي يسقط اعتباره في أعين شعبه مصيره معروف, كالنظام السوفيتي السابق. ومن اللافت أنّ بعض أهل الرأي والخبراء الغربيين قالوا قبل أيام إنّ وضع أمريكا والغرب اليوم شبيه بوضع الاتحاد السوفيتي في أواخر عقد الثمانينات الميلادي والذي أدى إلى سقوطه. فأي نظام يسقط في أعين شعبه من حيث الخطاب والمنطق لن يعود هناك أمل في بقائه. لذا كلما هدّدوا رجع ذلك بالضرر عليهم. طبعاً ليعلموا وليعلم غيرهم وهم يعلمون أن لنا مقابل التهديد بالحرب والتهديد بالحظر النفطي تهديداتنا التي سوف تطلق إن شاء الله في الوقت اللازم.
59
48
في صلاة الجمعة – طهران
أهمّيّة المشاركة في الانتخابات النيابيّة
وأشير إلى بعض النقاط بخصوص الانتخابات. أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، أيها الشعب الإيراني العزيز، الانتخابات تصون البلاد. الشيء الذي يحفظ هيبة هذا الشعب ويبسط قدراته المعنوية بوجه الأعداء ويخيفهم ويصدّهم عن التطاول عليه هو التواجد والمشاركة الشعبية، ومن مظاهرها المشاركة في الانتخابات، ومن مظاهرها المشاركة في 22 بهمن الذي هو على الأعتاب أمامكم. كلما تكثّف الحضور وتنوّع كلما قوي اعتبار البلد وقيمته الوطنية. وكذا الحال بالنسبة للانتخابات. كلما كان الزحام على صناديق الاقتراع أشد ومشاركة الشعب أوسع كلما قويت الثقة بالبلاد وتضاعفت مناعته وحصانته. يمكن لمشاركة الجماهير تأمين مستقبل البلاد وضمانه. مجلس الشورى الصالح والنزيه والقوي يستطيع التأثير على أداء كل الأجهزة والمؤسسات في البلاد، فهو يؤثّر على أداء الحكومة وعلى أداء السلطة القضائية، وحتى على أداء القوات المسلحة. والمجلس القوي والصالح والنزيه والسليم له مثل هذا الوضع والدور. فمتى يمكن تشكيل مثل هذا المجلس من دون الشعب؟ هذا ما لا يريده الأعداء. منذ شهرين أو ثلاثة والأبواق الإعلامية للعدو تعمل على بثّ اليأس والقنوط في نفوس الناس كي لا يشاركوا في الانتخابات. وبعض الناس في الداخل دون أن يتفطنوا إلى ما يقومون به يتناغمون معهم للأسف! أولئك مغرضون، وهؤلاء غافلون.
يتوّجب عدم تضخيم القضايا الصغيرة، وعدم الإيحاء بأن هناك أزمة. يحاولون بألف وسيلة إثبات وجود أزمة في إيران. أية أزمة؟ ما هي الأزمة؟ البلد هادئ، والشعب قوي ونشيط وفعّال، كل هذه الأعمال يجري إنجازها من قبل الأجهزة المختلفة ومن قبل أبناء الشعب في هذا البلد. والأمن مستتب تماماً بتوفيق من الله. لتتعاون الأجهزة مع بعضها، فإذا تعاونت فسوف تسير الأمور ووالأعمال بنحو أفضل. وهذا ما لا يريده الأعداء.
التنافس السليم والإجراء النزيه
ما هو ضروري في الانتخابات هو التنافس السليم، التنافس من دون تراشق بالاتهامات والإساءات. يجب أن تكون أجواء الانتخابات سليمة ونزيهة. إذا كان الناس أنفسهم يعرفون المرشحين للانتخابات فليعملوا طبقاً لتشخيصهم، وإذا لم يكونوا يعرفونهم فليستشيروا ذوي البصيرة والمتدينين في من يختارونه. وليعمل من عليهم إدارة العملية الانتخابية بمنتهى الدقة لإجراء انتخابات سليمة. هذه أمور يمكنها أن تحقق للبلاد انتخابات جيدة. كانت الانتخابات الاثنتان والثلاثون أو الثلاثة والثلاثون جميعها
60
49
في صلاة الجمعة – طهران
التي أقيمت منذ بدء الثورة وإلى اليوم ولحسن الحظ نزيهة. طبعاً كان في كل منها من اعترض، وقد توبعت اعتراضاتهم، وكانت هناك مخالفات أحياناً، إلا أنّه لم يكن هناك عدم نزاهة في الانتخابات أبداً. ويجب أن يكون الحال كذلك بعد الآن أيضاً.
أهليّة المرشّحين
وأذكر نقطة أو نقطتين حول مسألة أهلية المرشحين. مجلس صيانة الدستور المحترم يحرز أهلية بعض الأفراد ولا يحرز أهلية بعضهم الآخر. أذكر هنا ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: هي أن من وظائف مجلس صيانة الدستور من الناحية القانونية إحراز الأهليات، فيجب عليه التشخيص والوصول إلى نتيجة أن هذه الأهلية متوفرة. طبعاً كانت توصيتنا الدائمة بعدم رفع سقف الأهلية بحيث لا يشمل إلا عدداً محدوداً من الأفراد. لينظروا بمزيد من المسامحة لسقف الأمور التي تسبّب الأهلية.
النقطة الثانية: هي أنّ هناك من يعترض على إشراف مجلس صيانة الدستور والعاملين على الإشراف. وقد يكون اعتراضه في محله وصحيحاً فعلاً، ولكن ينبغي التنبّه إلى أنّنا يجب أن نسلّم للقرار الذي تتخذه مؤسسة قانونية مسؤولة هي محل ثقة، كلنا يجب أن نتبع ما تقرره، فعلى سبيل المثال يشرع مجلس الشورى الإسلامي قانوناً، وقد أكون معترضاً على هذا القانون وأقول: إنّ هذا القانون فيه عيب وخلل، لكنّه قانون ويجب أن أعمل وفقاً له، حينما تتخذ جهة مسؤولة هي محل ثقة - كمجلس صيانة الدستور - قراراً فيجب التسليم له واتباعه.
النقطة الثالثة: وأعلنها وليعلم الجميع أن الذين تُرفض أهليتهم ليسوا بالضرورة أفراداً غير مؤهّلين. لا يُظن لأن فلاناً رفضت أهليته فهو إذن لا أهلية له إطلاقاً، لا. طبقاً للقانون لا يستطيع المشاركة في الانتخابات كمرشح، ولكن قد يكون أخطأ الموقع الذي رفض أهليته. وقد يكون غير مؤهّل لهذا العمل لكن له أهليات متعددة أخرى. يجب أن لا يكون معنى رفض أهلية شخص أنه فاقد لكل أهلية ولكلّ شيء، لا، هناك أهليات كثيرة أخرى.
النقطة الأخيرة: بشأن الانتخابات هي أنّ المسؤولين يجب أن لا يغفلوا عن مؤامرات الأعداء بخصوص قضية الانتخابات. والذين لا يحصلون على الأصوات اللازمة في الانتخابات ليحذروا من أن يقعوا في الخديعة التي وقع فيها الذين لم يحصلوا على الأصوات في سنة ثمان وثمانين. ليعتبر كل المرشحين وكل أنصارهم أنفسهم
61
50
في صلاة الجمعة – طهران
مسؤولين عن الأمن مقابل مؤامرة الأعداء المحتملة، ولا يتهموا الانتخابات، ولا يسندوا العدو ويعضدوه، ولا يكون هناك في الإعلام إيحاء وترويج لأجواء الخلافات واليأس، حتى تكون لنا انتخابات جيدة إن شاء الله.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾1 .
الخطبة الثانية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين، ولا سيّما بقيّة الله في الأرضين، وصلّ على علي أمير المؤمنين، وفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وصلّ على الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وعلى علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والخلف القائم المهدي، حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك، وصلّ على أئمّة المسلمين، وحماة المستضعفين، وهداة المؤمنين.
أدعو كل الإخوة والأخوات المصلين مرّة أخرى لتقوى الله. ما نقوله في الخطبة الثانية عادة ذكرته لكم أيّها الإخوة والأخوات في الخطبة الأولى. وفي هذه الخطبة أعتذر لكلّ المصلين الأعزّاء وأخاطب إخوتنا العرب الذين يمرّون بفترة حساسة، وألقي الخطبة بالعربية.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبيّنا محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه المنتجبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يا أبناء أمتنا الإسلامية في كل مكان، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله.
أغتنم فرصة شهر ربيع الأول، واقتراب أسبوع المولد النبوي، والذكرى الأولى لربيع الصحوة الإسلامية، ونهضة إخوتنا العرب رجالاً ونساءً من مصر وتونس وليبيا حتى البحرين واليمن، وبعض البقاع الإسلامية الأخري، لأتقدم باسم الشعب الإيراني وجميع المسلمين في العالم بأحرّ التهاني وأطيب التبريك.
1- العصر،1-2-3.
62
51
في صلاة الجمعة – طهران
إرادة الشعوب العربيّة
مرّ عام مفعم بالحوادث، فلأول مرّة في تونس ومصر روعيت حرمة رأي الشعب، وأدلت الجماهير بصوتها للتيار الإسلامي. وسيكون الأمر في ليبيا على هذا النحو أيضاً. وهذا التوجه الإسلامي المتصف برفض الصهيونية والدكتاتورية، وبطلب الاستقلال والحرية والتقدم تحت راية القرآن، سيكون المسير الحتمي والإرادة الحاسمة لجميع الشعوب الإسلامية. هذه الموجة التي فتحت صفحة جديدة في تاريخ إيران الإسلام أيضاً قبل ثلاثة عقود في مثل هذه الأيام (الثاني والعشرين من شهر بهمن المصادف للحادي عشر من شباط) وأنزلت أول ضربة بجبهة أمريكا والناتو والصهيونية، وأطاحت بأكبر دكتاتور علماني عميل في المنطقة.. أصبحت في الأيام نفسها وبالطريقة ذاتها وبالمطاليب عينها تعمّ الشرق الأوسط الإسلامي والعربي بأجمعه و الحمد لله.
إنّ إرادة الله سبحانه شاءت لهذه الشعوب أن تستيقظ. فقد حلّ قرن الإسلام وعصر الشعوب، وسيكون له التأثير على مصير كل البشرية. أما كان تدفّق الشباب والمثقفين في واشنطن ولندن ومدريد وروما وأثِنا بإلهام من ميدان التحرير؟!
لقد عمّت نهضة العودة إلى الإسلام واستعادة العزّة والهويّة والانعتاق أكثر مناطق العالم الإسلامي حساسيّة، وفي كل مكان يرتفع شعار "الله أكبر". الشعوب العربية لم تعد تتحمل الحاكم الدكتاتور وسيطرة العملاء والطواغيت. لقد ضاقت ذرعًا بما تعانيه من فقر وتخلّف وتحقير وعمالة. وجرّبت العلمانية في ظل الاشتراكية والليبرالية والقومية، ورأت أنها جميعاً وصلت إلى طريق مسدود. الشعوب العربية طبعاً ترفض أيضاً التطرف والعنف الطائفي والعودة إلى الوراء، والنعرات المذهبية والسطحية الساذجة المغلَّفة بالإسلام.
انتخابات تونس ومصر، وشعارات وتوجّهات الشعوب في اليمن والبحرين وسائر البلدان العربية تدلّ بوضوح أنهم يريدون أن يكونوا مسلمين معاصرين دونما إفراط متعجرف أو تفريط متغرّب، وبشعار "الله أكبر" يريدون ضمن مشروع إسلامي وبالتأليف بين المعنوية والعدالة والتعقّل وبأسلوب السيادة الشعبية الدينية، أن يتحرّروا من قرن من التحقير والاستبداد والتخلّف والاستعمار والفساد والفقر والتمييز. وهذا هو الطريق الصحيح.
ما هي خصائص الأنظمة العربية التي تعرّضت لغضب شعوبها؟
إنها معارضة التوجه الديني، والخضوع، والاستسلام والعمالة للغرب, أي أمريكا وبريطانيا ونظائرهما، والتعاون مع الصهاينة وخيانة القضية الفلسطينية، والتسلط
63
52
في صلاة الجمعة – طهران
الدكتاتوري الأسَري والوراثي، وفقر العباد وتخلّف البلاد، إلى جانب الثروات الطائلة للعوائل الحاكمة، والتمييز وانعدام العدالة، وفقدان الحرية القانونية والمسائلة القانونية، كل هذه من الخصائص المشتركة لتلك الأنظمة.
حتى التظاهر بالإسلام أو الجمهورية في بعض المواضع لم يستطع أن يخدع الجماهير. هذه أوضح العلامات لمعرفة طبيعة نهضة الشعوب العربية، سواء تلك التي حققت انتصارات كبيرة، أو التي ستحقق ذلك بإذن الله تعالى.
كل ادعاء آخر بشأن طبيعة هذه الثورات التي انطلقت بشعار "الله اكبر" إنما هو تجاهلٌ للواقع من أجل أهداف مبطَّنة وبالتالي لدفع هذه الثورات نحو الانحراف.
هذه الأصول ستكون معياراً لمستقبل هذه الثورات وميزانًا لمدى أصالتها أو انحرافها، فإن الأشياء تُعرف بأضدادها، وتعرف الثورات بضدّيتها للأنظمة التي تزلزلت بفعلها. الثوريون يجب أن يواصلوا حذرهم من افتعال الأهداف الموهومة ومن محاولات تغيير الشعارات.
إنّ الغرب يسعى دون شك إلى أن يبدّل الثورات إلى ثورات مضادّة، ويحاول في النهاية أن يرمّم النظم القديمة بأسلوب جديد، ليُبقي سيطرته على العالم العربي لعشرات أخرى من السنين، وذلك بتفريغ مشاعر الجماهير وبالتقديم والتأخير بين الأصول والفروع، وتغيير صنائعه وإجراء إصلاحات شكلية متصنّعة، والتظاهر بالديمقراطية.
إرادة الغرب وأهدافه
إنّ الغرب خلال عقود اليقظة الإسلامية وخاصة في السنوات الأخيرة، بعد أن مُني بهزائم متلاحقة من إيران وأفغانستان حتى العراق ولبنان وفلسطين، والآن من مصر وتونس وغيرها، سعى بعد فشله في نهج محاربة الإسلام واللجوء إلى العنف العلني، إلى نهج آخر وهو اصطناع البديل الكاذب والنموذج المزيّف، كي يجعل الإرهاب المعادي للإنسانية بدل العمليات الاستشهادية، و يجعل التعصب والتحجّر والعنف بدل التوجه الإسلامي والجهاد، والتعصب القومي والقبلي بدل الشعور بالانتماء الإسلامي والانتماء إلى الأمة الإسلامية، و يجعل التغرّب والتبعية الاقتصادية والثقافية بدل التطور القائم على أساس الاستقلال، والعلمانية بدل العِلميّة، والمداهنة بدل العقلانية، والفساد والفوضى بدل الحرية، والدكتاتورية باسم حفظ الأمن والنظام، والروح الاستهلاكية والالتصاق بالأهداف الدنيوية التافهة والبذخ باسم التنمية والرقي، والفقر والتخلف باسم الزهد والمعنوية.
64
53
في صلاة الجمعة – طهران
إن ما كان عليه العالم من انقسام إلى قطبين متصارعين حول القوة والثروة وهما الرأسمالية والشيوعية قد انتهى، واليوم فإن الاستقطاب بين مستضعفي العالم بقيادة النهضة الإسلامية وبين المستبكرين بقيادة أمريكا والناتو والصهيونية.
لقد برز إلى الساحة معسكران ولا معسكر ثالثاً لهما.
لا أريد في هذه الفرصة القصيرة أن استغرق في استعراض الماضي وفي تثمين يقظة الشعوب العربية. إننا والعالم بأجمعه دون شك نرنو إلى المنطقة، وننظر بعين التقدير لشعوبها الناهضة من الجزيرة العربية وحتى شمال أفريقيا. لكني أريد أن أتحدث عن الحاضر والمستقبل.
الأطراف الحاضرة في الثورات
إنّني في العام الماضي ومن هذا المنبر في صلاة الجمعة تحدثت إلى الشعب المصري النبيل حين كان ظلّ اللامبارك حسني يثقل على رؤوسهم، واليوم قد بدأت مرحلة جديدة والدكتاتور يمثل أمام المحكمة، وكلنا يحدونا الأمل بمستقبل نهضة مصر العزيزة وسائر العرب النشامى.
أطرح أولاً هذا السؤال: ماهي الأطراف المختلفة الحاضرة في ساحة الثورات؟إنها طبعاً أولاً: أمريكا والناتو والنظام الصهيوني ومن لفّ لفهم وانخرط معهم في بعض الأنظمة العربية.
وثانياً: الجماهير عامة والشباب.
وثالثاً: الأحزاب والناشطون السياسيون الإسلاميون وغير الإسلاميين.
وما هي مكانة كل واحد من هذه الأطراف وما هي أهدافه؟
الفريق الأول: هم الخاسرون الأصليون في مصر وتونس وفي سائر البلدان الناهضة.
إنّ مشروعية - وها هي اليوم موجوديّة - القطب الرأسمالي والنموذج الليبرالي الديمقراطي الغربي يتعرض في داخل أوروبا وأمريكا أيضاً لخطر الاضمحلال. وأصبحت بلدان هذا المعسكر في وضع يشبه وضع المعسكر الشرقي في الثمانينات من القرن الماضي. فالانهيارات الأخلاقية والاجتماعية، والأزمات الفريدة الاقتصادية، والهزائم العسكرية الكبرى في العراق وأفغانستان ولبنان وغزّة، وسقوط أو تزلزل أكثر النظم الدكتاتورية العميلة التابعة لهم في البلدان المسلمة والعربية، وخاصة فقدانهم مصر، وتعرض الكيان الصهيوني للخطر من الشمال والغرب ومن داخله بشكل لم يسبق له نظير، وانفضاح طبيعة التبعية والذيلية للمنظمات الدولية، والتعامل
65
54
في صلاة الجمعة – طهران
السياسي والمزدوج مع مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ووقوعهم في المواقف المتناقضة والمضطربة والمزدوجة تجاه مسائل ليبيا ومصر والبحرين واليمن. كل ذلك قد عرّض هذه المجموعة الأولى إلى أزمة ثقة عالمية، وأزمة عميقة في قدرة اتخاذ القرار.
إنّ هدفهم الأكبر اليوم بعد عجزهم عن قمع الشعوب والسيطرة عليها هو السعي للسيطرة على غرفة قيادة الثورات واختراق الأحزاب الفاعلة، وحفظ ما أمكن من هيكل الأنظمة الفاسدة الساقطة والاكتفاء بالإصلاحات السطحية والمسرحية، وإعادة بناء عملائهم في داخل البلدان الثائرة، ثم اللجوء إلى عمليات تطميع وتهديد. وقد يلجأون في المستقبل إلى الاغتيالات أو شراء ذمم بعض الأفراد والجماعات من أجل وقف عجلة الثورات أو دفعها إلى الخلف، وبثّ اليأس في قلوب الجماهير أو إشغالها بصراعات داخلية بإثارة مسائل فرعية، وإضرام نيران العصبيات القومية والقبلية أو الدينية أو الحزبية، واختلاق الشعارات المنحرفة لتغيير الثورات، والتأثير المباشر أو غير المباشر على أذهان الثوريين وألسنتهم، ودفعهم إلى ألاعيب سياسية أو إثارة الفُرقة بينهم ثم توسيع نطاق هذه التفرقة لتشمل فئات الناس، والسعي للمساومة خلف الكواليس مع بعض الخواص بالوعود الكاذبة كالمساعدات المالية وغيرها وغيرها من عشرات الحيل الأخرى مما أشرت إلى نماذج منها من قبل في المؤتمر العالمي للصحوة الإسلامية بطهران.
إنّ بعض الأنظمة التابعة والمحافظة العربية أيضاً تقف إلى جانب أمريكا والناتو، ولو من أجل حفظ كراسيها، وتسعى بكل قواها لإيقاف عجلة الزمن ودفع ثورات المنطقة إلى الوراء أو سوقها نحو طريق مجهول، ورأسمالهم الوحيد في هذه المساعي دولارات النفط، وهدفهم الأساس هزيمة الشعوب في مصر وتونس واليمن والبحرين. وحفظ ثبات الكيان الصهيوني وضمان بقائه وإنزال الضربة بجبهة المقاومة في المنطقة.
وجهة الشعوب الإسلاميّة
أمّا المجموعة الثانية والأصلية فهي الشعوب، أرقام الإحصائيات الأمريكية المكررة في مصر وأكثر البلدان الإسلامية تكشف عن الواقع وتقول لهم: إن ميزان التوجه نحو المساجد والالتزام بالمظاهر الإسلامية ومنها الحجاب والزيّ الإسلامي للمرأة قد ازداد - خلال السنوات الخمس من 2003 إلى 2008م - بنسبة 40 إلى 75% بين الشعوب من مصر والأردن حتى تركيا وماليزيا وغيرها من البلدان الإسلامية.
كما ازداد ميزان السخط والنفور من أمريكا بمعدل خمس وثمانين بالمئة في البلدان العربية والإسلامية، وقد تضاعف الأمل بالنصر والمستقبل بين الشباب خاصة بعد
66
55
في صلاة الجمعة – طهران
مشاهدة انتصارات شباب حزب الله وحماس في حربي الثلاثة والثلاثين يوماً والاثنتين والعشرين يوماً وبعد اندحار وهزيمة أمريكا دونما مكاسب من العراق.
الشخصيات المحبوبة بين شباب مصر، وفق تلك الإحصائيات، هم المجاهدون المسلمون ضد الكيان الصهيوني.
النفرة من الصهيونية، والاهتمامُ بالقضية الفلسطينية والتمسكُ بالعزّة الإسلامية من الخصائص الأصلية للشعوب. 75% من الشعب المصري أدلى بصوته لصالح الشعارات الإسلامية. في تونس أيضاً رفعت الأكثرية هذا اللواء، وفي ليبيا فإن النسبة إن لم تكن أكثر فليست بأقل. والشعوبُ تطلب من مندوبيها ومن الحكومات الجديدة تحقيقَ هذه الأهداف نفسِها أيضاً في المستقبل. الشعب يريد مصرَ عزيزةً كريمة ومحترمة وحرّة، لا يريد مصر كمب ديفيد. لا يريد مصرَ الفقيرةَ والتابعة، لا يريد مصرَ الخاضعةَ لأوامر أمريكا والحليفة لإسرائيل، لا يريد مصرَ متحجرةً ومتطرفةً ولا مصر متغرّبةً وعلمانيةً وتابعة. مصرُ الحرةُ العزيزة والإسلامية والمتطورةُ هي المطلبُ الأساس للشعب والشباب ولا يبغون اصطداماً. جيشُ مصر مع الشعب، وهناك في داخل مصر وخارجها من يريد الوقيعةَ بين الجيش والشعب في المستقبل، على الجميع أن يكونوا على حذر شديد. الجيش المصري سوف لا يتحمّل نفوذ أمريكا وحلفاء إسرائيل.
كذلك فإن الحديث حين يدور حول التوجه الإسلامي في مصر أو تونس أو ليبيا فإنه إسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الإسلام الذي شمل في المدينة المسيحيين واليهود بالرحمة والأمن، وليس الإسلام بمعنى إثارة الحروب الدينية بين عباد الله، ولا بمعنى الحرب المذهبية والطائفية بين المسلمين. مصر هي مصر دار التقريب بين المذاهب الإسلامية والشيخ شلتوت.
مسؤوليّات الجميع تجاه الثورات
على أهلنا في مصر وتونس وليبيا أن يعلموا أن ما حقّقوه هو ثورة لم تكتمل، فهم وإن قطعوا خطوات رحبة، فإنهم في بداية طريق ذات الشوكة. العقبات التي أوجدوها أمامنا بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران ولا تزال مستمرة، وقد فشلت بفضل الله ورحمته الواحدة تلو الأخرى، هذه العقبات فاقت مئات المرات ما كان أمامنا قبل سقوط نظام الشاه. لابدّ من التحلّي باليقظة وبدفع عجلة الثورة خطوة فخطوة حتى آخر المراحل ضمن برنامجٍ متوسطِ الأمد وطويلِ الأمد.
67
56
في صلاة الجمعة – طهران
نظام طواغيت مصر كان أول حكومة عربية خانت القضية الفلسطينية وفتح الطريق أمام التراجع العربي، حتى أن الأنظمة العربية إلا واحداً -هو سوريا- باعوا فلسطين، واتجهوا إلى مصالحة الصهيونية. إن النظام المصري البائد كان أحد نظامين عربيين هما موضع ثقة أمريكا وإسرائيل. والرئيس الأمريكي المرائي الحالي اختار مصر حسني مبارك ليوجّه رسالة الخداع والنفاق إلى المسلمين، لكن الشعب المصري في ثورته أعلن موقفه بوضوح، وأزال الأوهام من أذهان الجميع.
إنّ مصر اليوم يجب أن تستعيد دورها في الخط المقدم للدفاع عن القضية الفلسطينية، وأن تسحق بأقدامها معاهدة كمب ديفيد الخيانية وتحرقها. مصر الثورة لم تعد تستطيع أن تغدق بالطاقة والغاز على الكيان المتدهور الإسرائيلي على حساب قوت الشعب المصري ومعاناته.
أمّا مخاطبنا الثالث فهم الأحزاب والنُخب السياسية في مصر وسائر البلدان الناهضة.
إنّ المفكرين والمناضلين الإسلاميين في شمال أفريقيا من مصر وتونس وحتى الجزائر والمغرب، وخاصة مصر، كانوا يحتلون مكانة الأبوّة الفكرية للصحوة الإسلامية، ولدعاة وحدة الأمة وعزّتها، ثم لتحرير القدس. أنتم اليوم ترثون دماء آلاف الشهداء وعشرات الآلاف ممن عانوا زنزانات السجون والنفي والتعذيب، وما بذله المجاهدون والمناضلون ممن قدموا التضحيات خلال عقود متوالية في انتظار بزوغ فجر مثل هذه الأيام وهذه الانتصارات.
أيها الإخوة والاخوات. حافظوا على هذه الأمانة الكبرى. الغرور والسذاجة آفتان كبيرتان لمرحلة ما بعد الانتصار الأول. أنتم تتحملون المسؤولية الأكبر في ساحة إقامة النظام وصيانة مكتسبات الشعب وحلّ مشاكل النهضة. القوى العالمية والإقليمية التي نزلت بها الضربة تخامر ذهنَها دون شك أفكار شيطانية من التفكير بالحذف والانتقام إلى مشروع ممارسة المكر والتزلزل والإخافة والتطميع بحقكم، وبالنهاية، تفكر في الإطاحة بالثورات وخلق أوضاع أسوأ مما كانت عليه و العياذ بالله.
إن قراراتكم ومواقفكم وإقداماتكم ستكون لها أبعاد تاريخية، وهذه المرحلة هي "ليلة القدر" في تاريخ بلدانكم.
لا تثقوا بأمريكا والناتو. هؤلاء لا يفكرون بمصالحكم ومصالح شعبكم. وكذلك لا ترهبوهم. فهؤلاء واهون ويزدادون ضعفًا بسرعة. حاكميتهم على العالم الإسلامي كانت فقط نتيجة خوفنا وجهلنا خلال مئة وخمسين عاماً. فلا تعقدوا عليهم الآمال، ولا تخافوهم. اعتمدوا فقط على الله سبحانه و ثقوا فقط بشعبكم. هؤلاء انهزموا في العراق وخرجوا بخفّي حنين. وفي أفغانستان لم يكسبوا شيئاً، وفي لبنان انهزموا أمام
68
57
في صلاة الجمعة – طهران
حزب الله، وفي غزّة أمام حماس. وها هم الآن ينزلون من صياصيهم في مصر وتونس بيد الشعب. لم يتحقق أي تقدم في برنامجهم. الصنم الغربي قد انهزم مثل الصنم الشيوعي وانهار جدار خوف الشعوب، فاحذروا أن يعيدوا إليكم الشعور بالخوف في المستقبل.
إحذروا ألاعيبهم، وكذلك احذروا ألاعيب الدولارات النفطية لعملاء الغرب وحلفائه من العرب، إذ سوف لا تخرجون بسلام في المستقبل من هذه الألاعيب. إسرائيل زائلة لا محالة ولا ينبغي أن تبقى وسوف لا تبقى بإذن الله تعالى. بدء الانحراف في الثورات الراهنة هو الرضوخ لبقاء الكيان الصهيوني، ومواصلة محادثات الاستسلام التي وضعت أساسها الأنظمة الساقطة.
المطلب الأساس لشعوبكم العودة إلى الإسلام، وهو لا يعني طبعاً العودة إلى الماضي. لو أن الثورات حافظت بإذن الله على طابعها الحقيقي واستمرت ولم تتعرض للتآمر أو الاستحالة، فإنّ المسألة الأساس لكم هي كيفية إقامة النظام وتدوين الدستور وإدارة شؤون البلاد والثورات. وهذه هي نفسها مسألة إعادة بناء الحضارة الإسلامية في العصر الحديث.
في هذا الجهاد الكبير، مهمتكم الأصلية ستكون جبران ما عاناه بلدكم في حقب التخلف، والاستبداد، والابتعاد عن الدين، والفقر، والتبعية، في أقصر مدّة بإذن الله، وستكون كيفية بناء مجتمعكم بتوجّه إسلامي وبأسلوب حاكمية الشعب مع مراعاة العقلانية والعلم، وتتجاوزوا التهديدات الخارجية واحدة بعد أخرى، وكيف تؤسسون "الحرية والحقوق الاجتماعية" بدون الليبرالية، و"المساواة" بدون "الماركسية"، و"النَّظم والانضباط" بدون "الفاشية الغربية". حافظوا على التزامكم بالشريعة الإسلامية التقدمية دون أن تقعوا في جمود وتحجّر، واعرفوا كيف تكونون مستقلين دون أن تنزووا، وكيف تتطورون دون أن تكونوا تابعين، وكيف تمارسون الإدارة العلمية دون أن تكونوا علمانيين ومحافظين.
تجب إعادة قراءة التعاريف وإصلاحها. الغرب يقترح عليكم نموذجين: "الإسلام التكفيري" و"الإسلام العلماني"، وسوف يواصل التلويح بذلك كي لا يستقوي الإسلام الأصولي المعتدل والعقلاني بين ثورات المنطقة. استعيدوا تعريف الكلمات مرة أخرى وبدقّة.
إذا كانت "الديمقراطية" بمعنى الشعبية والانتخابات الحرة في إطار أصول الثورات فلتكونوا جميعاً ديمقراطيين. وإذا كانت بمعنى السقوط في شراك الليبرالية الديمقراطية التقليدية ومن الدرجة الثانية فلا يكن أحد ديمقراطياً.
69
58
في صلاة الجمعة – طهران
و"السلفية" إذا كانت تعني العودة إلى أصول القرآن والسنة، والتمسك بالقيم الأصيلة، ومكافحة الخرافات والانحرافات، وإحياء الشريعة، ورفض التغرّب فلتكونوا جميعاً سلفيين، وإذا كانت بمعنى التعصّب والتحجّر، والعنف في العلاقة بين الأديان أو المذاهب الإسلامية، فإنّها لا تنسجم مع روح التجديد والسماحة والعقلانية التي هي من أركان الفكر والحضارة الإسلامية، بل ستكون داعية لرواج العلمانية، والتخلّي عن الدين.
كونوا متشائمين من الإسلام الذي تطلبه واشنطن ولندن وباريس، سواء من النوع العلماني المتغرّب، أو من نوعه المتحجّر والعنيف. لا تثقوا بإسلام يتحمّل الكيان الصهيوني لكنه يواجه المذاهب الإسلامية الأخرى دونما رحمة، ويمدّ يد الصلح تجاه أمريكا والناتو، لكنه يعمد في الداخل إلى إشعال الحروب القبلية والمذهبية. وراء هذا الإسلام من هم أشداء على المؤمنين رحماء بالكافرين.
كونوا متشائمين من الإسلام الأمريكي والبريطاني إذ إنّه يدفعكم إلى شَرَك الرأسمالية الغربية والروح الاستهلاكية والانحطاط الأخلاقي.
في العقود الماضية كانت النخب وكذلك الحكام يفخرون بمقدار قوة تبعيتهم لفرنسا وبريطانيا وأمريكا أو الاتحاد السوفيتي السابق، وكانوا يفرون من النموذج الإسلامي، والأمر اليوم على عكس ذلك.
اعلموا أن الغرب سيكون في صدد الانتقام، الانتقام الاقتصادي والعسكري والسياسي والإعلامي.
لو أن شعوب مصر وتونس وليبيا وغيرها من الشعوب واصلت طريقها نحو الله بإذن الله فمن الممكن أن تتعرض لهذه التهديدات.
الاستفادة من تجربة الثورة الإسلاميّة
وأما الكلام الأخير، فهو إعلان استعداد الجمهورية الإسلامية والشعب الإيراني الكبير لخدمتكم والتعاون معكم و خدمة بعضنا بعضا.
الثورة الإسلامية الإيرانية هي التجربة الإسلامية الأكثر نجاحاً في العصر الحديث على صعيد إعادة الثقة بالنفس إلى الجماهير، وإعادة الثقة إلى النخب بالجماهير، وعلى صعيد رفض أسطورة القوة التي لا تقهر للأنظمة الطاغوتية وأربابها، وفي ساحة كسر غرور الشيوعية والرأسمالية، وتقديم نماذج فاعلة للتطورات الكبرى في البلاد، مع حفظ سيادة الشعب والدفاع عن القيم الأساسية.
70
59
في صلاة الجمعة – طهران
أيها الإخوة والأخوات، لسنوات يوجهون إليكم أكاذيب بشأن إخوتهم الإيرانيين، والحقيقة بشأن إيران الإسلام هي هذه التي أبينها لكم:
ثورتنا حقّقت انتصارات في العقود الثلاثة الأخيرة، وكانت لها نقاط ضعف أيضًا. لكن أية نهضة إسلامية في العالم بعد سيطرة الغرب والشرق على المسلمين في القرن الماضي لم تتقدم إلى هذا الحد ولم تتجاوز كل هذه الموانع.
لنا معكم أيها الإخوة حديث طويل في المستقبل إن شاء الله. في الإعلام الرأسمالي وأبواق الصهيونية العالمية "إيران" متهمة بالإرهاب، وما ذلك إلا لأنها رفضت أن تترك الإخوة العرب في فلسطين ولبنان والعراق لوحدهم وأن تعترف بالمحتلين، والحال أننا أكبر ضحية للإرهاب في العالم، وهذا الإرهاب لا يزال مستمرًا بحقنا.
لو أن الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية قد تركت الإخوة المظلومين في أفغانستان والبوسنة ولبنان والعراق وفلسطين لشأنهم كما فعلت سائر الحكومات المتظاهرة بالإسلام، ولو كنا مثل أكثر الأنظمة العربية التي خانت القضية الفلسطينية، قد آثرنا السكوت وطعنّا من الخلف، لما وصمونا بمساندة الإرهاب والتدخل. نحن نفكر بتحرير القدس الشريف وكل الأرض الفلسطينية، هذه هي الجريمة الكبرى التي يرتكبها الشعب الإيراني والجمهورية الإسلامية!!
إنهم يتحدّثون عن التمدد الإيراني والشيعي، بينما لم نعتبر الثورة الإسلامية إطلاقًا شيعية صرفة أو قومية وإيرانية، ولن نعتبرها كذلك أبدًا. خلال العقود الثلاثة ما دفعنا ثمنه وتعرضنا من أجله للتهديد إنما هو توجهنا الإسلامي وانتماؤنا إلى الأمة الإسلامية وشعار الوحدة والتقريب المذهبي والحرية والعزّة للمسلمين جميعًا من شرق آسيا حتى عمق أفريقيا وأوروبا.
إيران الإسلام قطعت خطوات رحبة فريدة في ساحة العلم والتقانة والحقوق الاجتماعية والعدالة الاجتماعية والتنمية والصحة وتأمين كرامة المرأة وحقوق الأقليات الدينية وغيرها من الساحات. ونحن نعرف أيضاً مواضع ضعفنا وبعون الله وقوته نعمل على علاجها إن شاء الله.
معادلة المقاومة في المنطقة قد تغيرت بمساعدة الجمهورية الإسلامية، وارتقاء الحجر في يد الفلسطينيين إلى "صاروخ في جواب الصاروخ" في غزة وسائر فصائل المقاومة الإسلامية أمام المحتلين.
إيران لا تستهدف نشر التوجّه الإيراني أو الشيعي بين المسلمين. إيران تنهج طريق الدفاع عن القرآن والسنة وإحياء الأمة الإسلامية. الثورة الإسلامية تعتقد أن مساعدة المجاهدين من أهل السنّة في منظمات حماس والجهاد، والمجاهدين الشيعة في حزب
71
60
في صلاة الجمعة – طهران
الله وأمل واجبًا شرعيًا وتكليفًا إلهيًا دونما تمييز بين هذا وذاك. وحكومة إيران تعلن بصوت مرتفع قاطع أنها تؤمن بنهضة الشعوب (لا بالإرهاب)، وبوحدة المسلمين (لا بالغلبة والتناحر المذهبي)، وبالاخوّة الإسلامية (لا بالتعالي القومي والعنصري)، وبالجهاد الإسلامي (لا بالعنف تجاه الآخر، وهي ملتزمة بذلك إن شاء الله).
أسأل الله سبحانه أن يمنَّ على كل الشعوب المسلمة بالسعادة والسؤدد، وأن يوفقنا لفهم مسؤولياتنا الثقيلة والنهوض بها، وأن نعلم بيقين أنّ الله غالب على أمره.
عباد الله اتقوا الله وكونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾1.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- النصر،1-2-3.
72
61
في لقاء قادة القوّة الجويّة للجيش
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء قادة القوّة الجويّة للجيش
المناسبة: ذكرى التاسع عشر من شهر بهمن (شباط).
الحضور: قادة القوّة الجويّة للجيش.
المكان: طهران - حسينية الإمام الخميني قدس سره.
الزمان: 8/2/2012م.
73
62
في لقاء قادة القوّة الجويّة للجيش
سْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أرحّب بكم أيّها الأعزّاء والإخوة والشباب، وأهنّئكم بهذه الأيام المباركة المليئة بالذكريات،، سواء العيد الشريـف لمولد النبيّ المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام الصادق عليه السلام، والثاني والعشرين من شهر بهمن، وكذلك التاسع عشر منه، الذي سجّل ذكرى لا تُنسى، ونقطةً ساطعةً على صفحات أيّام الثورة النورانيّة.
إحياء ذكرى التاسع عشر من شهر بهمن (شباط)
إنّ إحياء ذكرى التاسع عشر من شهر بهمن، الذي نصرّ أن يُقام كلّ سنةٍ، وقد كانت لنا لقاءاتٌ وأحاديث متبادلةٌ طيلة هذه السنوات المتمادية، في مثل هذا اليوم مع أعزّائنا في القوّة الجوية، ليس لأجل إحياء ذكرى فحسب ـ وإن كان إحياء الذكريات العزيزة والجليلة يُعدّ قيمةً بحدّ ذاته ـ ولكن ما هو مهمٌّ بالنسبة لنا، مسألتان أخريان:
أ- أخذ الدروس والعِبر من الماضي
الأولى: أخذ الدروس والعبر من الماضي. عندما نمرّ على ذكرى التاسع عشر من بهمن، فإنّنا نستلهم درساً من هذه الحادثة، وهو درس الإقدام والابتكار والصمود والعمل في الوقت المناسب وتأثيره في حركة المجتمع والدولة،، فقد أضحى ذلك عبرةً. صحيحٌ أنّ بنية وجسم الجيش قبل الثورة لم يكن جسماً طاغوتياً، لكنّ رؤساءه وقادته كانوا طاغوتيين، فالجسم كان للشعب، وهو أمرٌ واضح، وكان الأمر بالنسبة لنا منذ البداية واضحاً، وقد اتّضح لشعبنا على مرّ السنوات المتمادية، ولكن ظهور هذا الجانب الشعبيّ، وبروز مثل هذا الدور في ساحة الحركة الشعبية يُعدّ شيئاً آخر. وما كان هذا ليحدث إلا عندما برزت من داخل الجيش حركةٌ اتّسمت بالعظمة ولفت الأنظار،، وقد كان يوم التاسع عشر من بهمن شاهداً على هذاالإنجاز.
اليوم عندما تنظرون إلى حادثة التاسع عشر من بهمن، من المحتمل أن لا تبرز أهمية هذه الحادثة. لكن نحن الذين كنّا في تلك الأيّام، وأنا العبد الذي شهدت تلك الحادثة، وقد كنت في المدرسة العلوية مع جمع الإخوة في القوّة الجوّية، وشاهدت حركتهم الشجاعة، فإنّ شعورَ وإحساسِ من كان مثلي، ممّن عاش تلك الأوضاع كان شعوراً مختلفاً. لقد كانت حادثة التاسع عشر من بهمن تمثّل اقتحاماً عظيماً، واختراقاً كبيراً. أن يأتي ضباط ورتباء ويعلنون بصراحة انضمامهم للثورة، ويُوجّهون أعينهم صوب أعين حرّاس النظام الطاغوتي ويقولون لهم، كلا،، فإنّه لعمل عظيم جداً. وقد كان لمثل هذا الإقدام أثره. إقدام في محلّه، وفي وقته، لأنّ المشاعر المكبُوتة وغير المعلنة لا يمكن أن تؤدّي مثل هذا الدور. وإنّ للإقدام والابتكار في جميع الميادين والمجالات مثل
75
63
في لقاء قادة القوّة الجويّة للجيش
هذا الأثر. لقد كان ميدان ذلك اليوم وساحته هو هذا الميدان،، وكان لمرحلة الحرب ساحاتٌ أخرى. وفي يومنا هذا، تختلف مثل هذه الساحة، وفي كلّ زمانٍ، وفي كل ميدانٍ وساحةٍ، يمكن أن يكون للتواجد في الوقت، والعمل في الوقت، والإقدام في الوقت المناسب، مثل هذا الأثر الكبير،، هذا درسٌ.
ب- استلهام الدروس للمستقبل
الثانية: أن نستلهم من هذه الحادثة درساً للمستقبل ولا نتوقّف عند الماضي. فإنّ من آفات المجتمعات والتجمّعات والشعوب والجماعات، التوقّف والجمود عند أمجاد الماضي. فنستحضر تلك الأمجاد السابقة ونتفاخر بها، لكنّنا لا نتحرّك في زماننا الحالي بما يتناسب معها. وبالطبع، إنّ القوّة الجوّية، وجيشنا اليوم لا يمكن مقارنتهما بما كانا عليه تلك الأيّام،، فقد اختلف الأمر بينهما كالفارق بين الأرض والسماء.
وتمّ إنجاز الأعمال الكبرى، وتحققت إنجازات خالدة، فلا شك في ذلك. لكن انظروا إلى المستقبل، فإنّ المستقبل مستقبلٌ مهم وخطر. ولو أنّ بلداً أراد أن يحصل على عزّته وهويّته ومصالحه وأمنه، فإنّه يحتاج إلى الابتكار والعمل والسعي. فبالقعود والنوم والغفلة عما يجري حوله، لا يمكن الوصول إلى الأهداف العليا. ما ترونه من ابتلاء المجتمع الإسلامي، والدول الإسلامية طيلة القرون الماضية ـ المئتي أو الثلاث مئة سنة ـ بالتخلّف، حيث نعاني اليوم جميعاً من ضربات ذلك التخلّف، فإنّ ذلك كان بسبب كل أنواع الغفلة. وهنا وفي الجهة الغربية لبلدنا، وفي غيرها من المناطق الإسلامية، كان هناك أعمال ظاهرية للحكومات، لكن لم يكن من تحرّكٍ مناسبٍ مع الزمان والمستقبل. فالآخرون، يتعلّمون ويجرّبون ويحصلون على التقنيّات، وقد بدأوا حركتهم لأجل احتلال العالم،، ونحن وقعنا في شباك صيدهم، وأضعنا كلّ ما نملك. ولا أقصد بقول "نحن" إيران فقط، بل إيران ودول المنطقة ودول شمال أفريقيا، والبلاد الواقعة شرقنا، فكلّ المنطقة الإسلامية ابتُليت بالغفلة. فمثل هذه الغفلة والانشغال بالأعمال الظاهرية وعدم التفكير بالتحرّك وبناء المستقبل، سيكون لها مثل هذه الأضرار والخسائر.
وبالطبع، عندما استيقظت الشعوب، فإنّ يقظتهم سيتبعها تحرّكات تلقائية، لكن مثل هذه التحرّكات قد تتّسم بالسّرعة أوالبطء. فمن الممكن أن تكون حركاتٍ سريعة وفعّالة وجيّدة، تتجاوز المعدّل العام لسرعة العالم، ومن الممكن أن تكون حركات بطيئة لا تصل إلى مستوى الآخرين،، لأنّ الآخرين ليسوا عاطلين عن العمل. إنّنا نعمل ونسعى ونبذل الجهد، ونبني. لكن، ألا يفعل الآخرون مثل هذا؟ فالآخرون
76
64
في لقاء قادة القوّة الجويّة للجيش
في الجبهة المواجهة لنا، في طور العمل والهمّة والبناء والسعي. ويجب علينا أن نعمل، بحيث يفوق مجموع مساعينا من حيث السرعة سرعة الجبهة التي تواجهنا، عندها يمكننا أن نأمل بالمستقبل.
لقد كانت هذه وصيّتي الدائمة لكلّ الشباب في هذا البلد، وهي تشملكم اليوم أيّها الأعزّاء في القوّة الجوية، وفي كلّ الجيش، وكلّ القوّات المسلّحة. سواء في التنظيم، أو في صناعة القطع والأجهزة، أو في التعليم والتدريب، أو في التربية الأخلاقية وتقوية ذلك العامل المعنوي الأساسي، فيجب أن تبذلوا جهداً مضاعفاً. يجب على الجميع أن يضاعفوا جهودهم: الحكومة والمسؤولون والقطاعات المختلفة في البلاد، ومنهم القوّات المسلّحة التي تمثّل جسماً كبيراً من أعضاء الدولة المؤثّرة. يجب أن تكون هذه المساعي هادفة ومليئة بالمضمون والمحتوى.
حقّانيّة حركة الجمهوريّة الإسلاميّة
لحسن الحظ، اتّضحت اليوم سلامة حركة الجمهورية الإسلامية وحقانيتها. فأنتم ترون تلك الشعارات التي كان شعب إيران يلهج بها حتى الأمس، فإنّها ذاعت وانتشرت في كلّ هذه المنطقة. فالدول التي كانت من جملة الأذناب، والمحطّات العسكرية المحقّرة لجبهة الاستكبار، أضحت اليوم بفضل شعوبها، من القوى الطالبة للرقيّ إلى جانب شعب إيران،، وها هم اليوم يسلكون تلك الأهداف نفسها، ويطلقون الشعارات نفسها، فهذا هو تقدّمكم. ومعنى ذلك أنّ شعب إيران استطاع وعلى مرّ هذه العقود الثلاثة أن يكسب أنصاراً وأصدقاءً ورفقاءً. نحن لا نقول إنّنا قد أوجدنا هذه الحركات، فهذا ليس كلاماً منطقياً.
لكنّه من غير المنطقيّ أن نقول أنّ نهضة أي شعب بكلّ هذا الصخب العجيب، الذي أوجد هذه الصحوة طيلة هذه العقود الثلاثة، لم يكن له أيّ تأثيرٍ في صحوة الآخرين،، فهذا ليس أمراً منطقياً أيضاً، وهو من الأمور المسلّمة بالكامل. فجميع التحليلات والتفسيرات الموجودة في العالم اليوم، هي هكذا، حيث يُقال إنّ أمّ الصحوة والحركة الإسلامية هي هنا (أي الجمهورية الاسلامية). في تلك الأيام، وفي تحليلات المحلّلين الأجانب التي ظهرت في المنشورات والوسائل الإعلامية والمواقع المختلفة، تنطق بهذا المعنى. فمثل هذا يُظهر أن حركتنا على حق.
إنّ حركة النظام الإسلامي والجمهورية الإسلامية والثورة التي أوجدت هذه الحركة، هي حركةٌ باتّجاه الهوية الواقعية والخالدة والمحكمة والقابلة للاستمرار والمواجهة لكل أنواع الغزو، وهي الهوية الإسلامية، وباتجاه الاعتماد على الله تعالى، والشعور بالعزّة كونك مسلماً، والاعتماد على الطاقات والقوى التي منحنا الله إيّاهاـ سواء
77
65
في لقاء قادة القوّة الجويّة للجيش
تلك القدرات الشخصية لكلّ واحدٍ منّا، أو الطاقات العظيمة الوطنية المجتمعة، أو تلك الطاقات الإنسانية، أو الثروات الطبيعية ـ ودعوة العالم إلى القيم المعنوية.
لم ينل العالم من الاستغراق في المادية أيّة فائدة. ولم تحصل أيّة فائدةٍ من ترويج التحرّر الجنسي. هذه البشرية لم تنتفع بتلك التحرّكات المادية التي وُجدت في أوروبا، سواء الفرار من المعنويات، أو التحرّر من الضوابط الإلهية،، فلا العدالة تحقّقت، ولا الرفاه العام، ولا الأمن، ولا تماسك الأسرة، ولم تتمكّن من تربية الأجيال اللاحقة بشكل صحيح، فقد أضرّت بكل هذه الأمور. نعم، لقد جنى بعض أصحاب الشركات والبنوك وصنّاع الأسلحة على الآلاف والألوف، ولكن الحضارة الغربية والمادية لم يكن لها ثمار إنسانية، ولم يتمكّنوا من إسعاد أنفسهم، ولم يسعدوا تلك المجتمعات التي كانت تنهج طريقهم وتعيش تحت ظلّهم وتقلّدهم.
إنّ رسالة الثورة الإسلامية هي رسالة الانعتاق من هذه الحركة المشؤومة والمهلكة. وإن التوجّه إلى المعنويات والأخلاق الإلهية - هذا في الوقت الذي ننهض فيه بأعباء الحاجات البشرية- هو ما يدعو إليه الإسلام، وهو الحدّ الوسط بين إفراط الكنائس الكاثوليكية والأرثوذوكسية، وكل أنواع التشدّد المغلوط، والتفلّت والتحلّل الذي يُعدّ في مقابل ذلك الإفراط في المجتمعات الغربية، والذي حصل نتيجة حركتهم المادّية. فلا هذا صحيحٌ ولا ذاك. كلاهما خطأٌ بخطأ. إنّ خط الإسلام هو خطّ الاعتدال، وخط العدالة. وللعدالة معنىً واسعٌ وشامل. والعدالة يجب أن تكون ملحوظةً في جميع المجالات، وهي تعني وضع الشيء في موضعه، وهي الخط الوسطي للإنسانية، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ1﴾.
واليوم إنّ شعب إيران يُعدّ من روّاد هذه الحركة. إنّنا نبني مجتمعاً ونظاماً، ولدينا حركة واسعة وشعبية. لقد مرّ ثلاث وثلاثون سنة على الثورة، ولا يوجد أيّ مكانٍ في العالم يتمّ فيه إحياء ذكرى الثورة بهذه الحالة الشعبية. إنّها ثورتنا، هي الوحيدة التي يحتفل الشعب كل سنة في ذكراها. ففي كلّ أنحاء البلاد، يتدفّق الملايين ويتظاهرون ويطلقون الشعارات، فمثل هذا لا يوجد في أيّة ثورة. لقد كان هناك ثوراتٌ كبرى، وقد شهدنا بعضها في زماننا، وبعضها اطلعنا عليه في التاريخ: عندما تأتي الذكرى السنوية لتلك الثورات، يأتي بعض الأشخاص ويقفون لاستعراض العسكر وإلقاء التحية العسكرية. هكذا تُقام احتفالات ذكرى الثورات. يتمّ إقامة احتفال، ويُدعى بعضهم، فيأكلون ويشربون. أمّا إحياء ذكرى الثورة من خلال الشعب، فهو من اختصاص الثورة الإسلامية. في ذكرى 22 بهمن من كل سنة، يأتي الناس إلى الميدان،
1- البقرة، 143.
78
66
في لقاء قادة القوّة الجويّة للجيش
مع قساوة الطقس وهطول الأمطار أو تساقط الثلوج والبرد القارس. وفي عامنا هذا، سترون كيف أنّ الشعب سيأتي مرّة أخرى إلى الميدان، بتوفيق الله وهدايته، وبيد القدرة الإلهية. فهذه الحركة، حركةٌ شعبية، وسوف تستمرّ وبتوفيقٍ من الله. إنّها حركة عامّة شاملة في البلاد، والقوى المسلّحة تمثّل جزءاً أساسياً، من هذه الحركة الشعبية.
وصيّة للقوى المسلّحة والقوّة الجوّية
إنّني أوصي جميع الشباب الأعزّاء في القوى المسلحّة وفي القوّة الجوّية، أن ينهضوا لبناء أنفسهم، وتربيتها معنوياً،، فيرفعون من مستوى التدريبات، والتنظيم، والانضباط، والوعي، والأخوّة والتراحم بين الرّتب المختلفة مهما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. فمثل هذه مؤشّرات وعلائم الجيش الإسلامي والديني. فمع وجود الانضباط، توجد الأخوّة بين مختلف الرتب، ومع وجود الانضباط والتنافس الإيجابي بين الفروع المختلفة، والأقسام المتعدّدة ـ في العمل التقني وفي الدعم وفي القتال ـ توجد روح الأخوّة والتعاون والتكامل والمحبّة، فهذه هي الخصائص التي تتّصف بها أيّة مجموعة عسكرية إسلامية.
والأعلى من ذلك روحية الجهوزية والتضحية،، الشيء المفقود في مختلف جبهات أعدائكم. وقد أظهر شبابنا هذا الأمر عملياً في أيام الحرب، وبعد الحرب، وأينما تطلّب الأمر، فقد ظهر هذا الشيء وبان. فهم مستعدّون لحمل أرواحهم على أكفّهم والنزول إلى الميادين، فمثل هذا الشيء يتمتّع بأهمية فائقة. فاحفظوا روحية الفداء والصمود والمعاملة مع الله، وزيدوا من الطهارة والتقوى المعنوية يوماً بعد يوم، وإن شاء الله، إنّ الله تعالى سيعينكم من جميع الجهات.
نسأل الله تعالى بمشيئته، أن يشمل مسؤولي القوّة الجوّية والعاملين فيها، وعوائلهم المحترمين، وأبناءهم وأزواجهم، بأنواع فضله، ويوفّق العناصر في كلّ قطاعٍ من قطاعات هذه المؤسّسة المهمّة والعظيمة والمحورية، للقيام بوظائفهم على أفضل وأكمل وجه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
79
67
في ذكرى المولد النبوي
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في ذكرى المولد النبوي
المناسبة: ذكرى المولد النبوي الشريف.
الحضور: شخصيّات عربيّة وإسلاميّة، وحشدٌ من مختلف شرائح الشعب.
المكان: طهران.
الزمان: 10/2/2012م.
81
68
في ذكرى المولد النبوي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نبارك الميلاد السعيد للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ومولد الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام، لجميع الحضور المحترمين، والإخوة والأخوات الأعزّاء، وخصوصاً الضيوف المحترمين والأعزّاء الذين يتواجدون ويشاركون في هذا اللقاء من الدول الأخرى. وكذلك نبارك هذه الظاهرة التاريخية الميمونة والعظيمة، لكلّ الأمّة الإسلامية ولكلّ البشرية، وخصوصاً شعب إيران العزيز المتواجد في ساحات البلاد.
مصادفة انتصار الثورة الإسلاميّة مع المولد النبوي الشريف
هذا العام بحمد الله، يشهد اقتران هاتين الحادثتين الكبيرتين ـ المولد السعيد الذي هو أساس الخير ومفتاح الحركة التاريخية الإسلامية العظيمة، وحادثة انتصار الثورة الإسلامية، التي تُعدّ من آثار وثمار تلك الحركة الإسلامية العظيمة في التاريخ. يحتفل شعب إيران اليوم بهذين العيدين،، عيد المولد وعيد ولادة الثورة الإسلامية. فإنّ ولادة هذه الثورة في الواقع، تُعدّ ولادةً جديدة للإسلام،، في ذلك اليوم، الذي كان العالم المادّي، والقوى المادية المتسلّطة، بمساعيها لعشرات السنين، تتصوّر أنّه قد طُوي بساط الدين والمعنويات - وخصوصاً الإسلام - من ساحات الحياة البشرية، في مثل تلك الظروف، صدح هذا النداء العظيم التاريخيّ والخالد في هذه الدولة، فحيّر الأعداء، أعداء الإسلام، وأعداء استقلال الشعوب، وأعداء البشرية، وبعث الأمل في الأصدقاء الواعين ومن هم أهل البصيرة، في كلّ العالم. في ذاك اليوم الذي تحقّقت الثورة الإسلامية في إيران، لم يكن هناك مَن يتصوّر في هذا العالم الكبير، أن تتمكّن راية الإسلام - وبهذه الطريقة، وفي مثل هذه المنطقة، وفي مثل هذا البلد الذي كان حكراً على المتسلّطين - من الخفقان، وأن تستطيع هذه الحركة الإسلامية البقاء والنموّ والمقاومة بوجه الأعداء. ما كان لأحدٍ أن يتصوّر ذلك في كلّ العالم.
كان أعداء نظام الجمهورية الإسلامية يعِدون أنفسهم أنّهم خلال شهرٍ أو شهرين، أو سنةٍ كحدٍّ أقصى، سيتمكّنون من القضاء على الجمهورية الإسلامية، وقد بذلوا كلّ الجهود من أجل هذا الهدف. وفي الواقع، إنّ يوميّات تاريخ ثورتنا هي عبرة. فيوماً بيوم، يمكن أن تكون تلك السنوات المليئة بالنشاط والسعي منذ انطلاقة الثورة الإسلامية في إيران، معلماً ورايةً أمام أعين الشعوب، وتكون منطلقاً للعبرة.
فمع كل تلك المؤامرات، وجميع أنواع الضغوط التي مورست، بمختلف الأشكال، وصمود
83
69
في ذكرى المولد النبوي
شعب إيران بقيادة ذلك الرجل العظيم، الذي هو بلا شك لُمعة ولمحة من الأنوار الطيبة للنبوّات، جعلها الله تعالى فيه. فإمامنا الجليل، هذا الرجل الكبير، مضى على هذا الطريق، وبتلك الكيفية والتحرّك، وقد أظهر شعب إيران الوفاء والصدق والصمود في الساحات، وتحمّل الضغوط، وتغلّب بعزمه وإرادته على مؤامرة الأعداء. لهذا، بقيت هذه الشجرة الطيبة، وتجذّرت ونمت، وبمشيئة الله ستزداد يوماً بعد يوم تكاملاً وثباتاً وقوّةً واقتداراً. كلّ هذه من بركة الإسلام، وجميعها من بركة المولد.
ضرورة التعرّف على شخصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
نحن المسلمون، ولأجل أن نكتشف طريق الهداية، يكفي أن نتعرّف على شخصية النبيّ. فباعتقادنا أنّ على كلّ البشرية الاستفادة من وجود النبيّ، وهم يستفيدون. ولكن من هو أولى بالاستفادة، نحن الأمّة الإسلامية. فهذا الموجود العظيم صاحب الخلق العظيم والشخصية التي أعدّها الله تعالى لأجل أعظم رسالة عبر تاريخ البشرية، حيث يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه، فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب، قال: إنّك لعلى خلقٍ عظيم، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة ليسوس عباده"1، فقد ربّى الله تعالى هذه الشخصية العظيمة وأعدّها ومنحها كل ما يلزم لهذا العمل التاريخيّ العظيم، وأودع ذلك في وجوده المطهّر والمقدّس، ثمّ وضع على عاتقه هذا الحمل الثقيل للرسالة التاريخية. لهذا، فإنّ هذا اليوم، الذي هو يوم 17 ربيع الأوّل، يوم ولادة النبيّ المكرّم، لعلّه يمكن القول إنّه أعظم عيدٍ للبشرية طوال تاريخها، حيث أهدى الله تعالى مثل هذا الإنسان العظيم لها، ولتاريخ البشر، وقام هذا العظيم بمستلزمات هذا العمل.
اليوم، نحن المسلمون، لو ركّزنا على شخصية النبيّ الأكرم، ودقّقنا وأردنا أن نستخلص الدروس، لكان الأمر كافياً لديننا ودنيانا. لأجل استعادة عزّتنا، فإنّ النظر إليه والتعلّم وأخذ الدروس منه يكفينا. فقد كان مظهر العلم، ومظهر الأمانة، والأخلاق، والعدالة، فماذا يحتاج البشر؟ هذه هي احتياجات البشرية. هذه الاحتياجات لم تتغيّر على مرّ تاريخ البشرية. فجميع هذه التحوّلات والتطوّرات في حياة البشر، منذ بداية الخلقة وإلى اليوم ـ حين تغيّرت الأوضاع والأحوال الحياتية، وتعرّضت أنماطها إلى العديد من التغييرات ـ فإنّ مطالب البشر الأساسية لم تتغيّر. فمنذ البداية وإلى يومنا هذا، كان البشر يبحثون عن الأمن، والاستقرار والعدالة والأخلاق الحسنة، والارتباط الوثيق
1- أصول الكافي، ج1، ص266، ح4.
84
70
في ذكرى المولد النبوي
بمبدأ الخلقة. هذه هي الحاجات الأساسية للبشر التي تنبع من فطرتهم. ومظهر جميع هذه الأشياء هو النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. نحن الأمّة الإسلامية اليوم، بحاجة إلى كل هذه الخصائص. فالأمّة الإسلامية اليوم بحاجة إلى التقدّم العلمي، وإلى الثقة، والطمأنينة بالله وإلى العلاقات السليمة والأخلاق الحسنة فيما بيننا، حيث ينبغي أن نتعاطى مع بعضنا بعضا بأخوّة وبالصفح والحلم، والتجاوز. والنبيّ الأكرم هو مظهر جميع هذه الخصائص. فعلمه وحلمه وتجاوزه ورحمته وتودّده للضعفاء، وعدالته بالنسبة لكلّ أفراد المجتمع، كل هذه ظهرت فيه، فلنتعلّم من النبيّ، ونحن بحاجة إليها. إنّنا اليوم بحاجة إلى الاطمئنان بالله تعالى، والثقة به وبمواعيده. فقد وعدنا الله تعالى وقال إنّكم إذا جاهدتم وسعيتم، فإنّه تعالى سيوصلكم إلى الأهداف والمقاصد، في ظلّ الصمود والثبات. ففي مقابل الشهوات الدنيوية، لا ينبغي أن نضعف ونتراجع، وفي مقابل المال والمنصب والوساوس النفسانية المختلفة لا ينبغي أن نشعر بالضعف، بل نصمد. هذه هي الأشياء التي توصل البشر إلى أوج الكمال، وتمنح أي شعب عزّته وأي مجتمعٍ سعادته الواقعية. فنحن بحاجة إلى هذه الأمور، ومظهر هذه الأشياء كلّها هو نبيّنا.
هذه هي حياة النبيّ المكرّم، وتلك هي طفولته وشبابه قبل البعثة. لقد كانت أمانته بحيث إنّ كلّ قريش وكلّ عربيّ كان يعرفه، لقّبه بالأمين. فإنصافه بالنسبة للأشخاص، ونظرته العادلة بالنسبة للأفراد، كانتا بحيث أنّهم إذا أرادوا وضع الحجر الأسود في مكانه، حين تنازعوا فيما بينهم (قبائل العرب وطوائفها)، اختاروه ليحكم بينهم، في حين أنّه كان ما زال شابّاً. فهذا ما يشير إلى إنصافه بالنسبة للجميع، وكان الجميع يعلم ذلك. كانوا يعتبرونه صادقاً وأميناً. هذه هي مرحلة شبابه، ثم جاءت مرحلة البعثة فكانت مرحلة التجاوز والجهاد والصمود، فكلّ الناس في ذلك الزمان واجهوه ووقفوا في مقابله وتحرّكوا ضدّه. كلّ هذا الضغط، طيلة السنوات الـ الثلاثة عشرة في مكّة، أيّ سنواتٍ صعبة كانت؟! وقف النبيّ وكان صموده الذي أوجد المسلمين المقاومين والصامدين ممن لم تؤثّر فيهم كل الضغوط. هذه دروس لنا. ثمّ تمّ تشكيل المجتمع المدنيّ، ولم يحكم أكثر من عشر سنوات. لكنه شيّد بناءً شكّل طوال القرون المتمادية قمّة البشرية في العلم، وفي التمدّن، وفي التقدّم المعنوي، وفي التقدّم الاخلاقي، وفي الثروة، وقد كان هذا المجتمع نفسه،، مجتمعا أسّسه الرسول وأرسا دعائمه.
حسنٌ، المسلمون من بعده تراخوا، ووهنوا،، نحن المسلمون قد تراجعنا بأيدينا. والآن نحن بأيدينا نسعى خلفه من جديد، ونتقدّم. الأمّة الإسلامية اليوم محتاجة إلى الاتحاد، محتاجة إلى التراحم، محتاجة إلى التعارف. اليوم من خلال هذه النهضات التي قامت
85
71
في ذكرى المولد النبوي
في دنيا الإسلام وفي العالم العربي، صحوة الشعوب هذه، هذا الحضور للشعوب في الميادين، هذا التقهقر المتتالي لأمريكا والأجهزة الاستكبارية، هذا الضعف المتزايد يوماً بعد يوم للنظام الصهيوني، هذه جميعاً تُشكّل فرصة لنا نحن المسلمين، إنّها فرصة للأمّة الإسلامية. لنرجع إلى أنفسنا ونتعلّم الدرس، ولا ريب أنّ هذه الحركة بهمّة الأمّة الإسلامية والشخصيات والمثقّفين والنخب العلمية والسياسية والدينية، سوف تستمر، وستبصر دنيا الإسلام يوم عزّتها من جديد إن شاء الله.
أسأل الله المتعالي أن يعجّل هذا الحدث، وهذا اليوم، وأن يوفّقنا لأن نكون شركاء ومساهمين في هذه الحركة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
86
72
في لقاء أهالي إقليم آذربيجان
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء أهالي إقليم آذربيجان
المناسبة: ذكرى انتفاضة أهالي تبريز في 19 بهمن.
الحضور: جمعٌ من علماء وأهالي إقليم آذربيجان.
المكان: طهران - حسينية الإمام الخميني قدس سره.
الزمان: 15/2/2012م.
87
73
في لقاء أهالي إقليم آذربيجان
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أرحّب بجميع الإخوة والأخوات الأعزاء، وقد تجشّمتم عناء السفر وقطعتم هذا الطريق الطويل في هذا الجوّ البارد من تبريز وبعض المدن الأخرى من إقليم آذربيجان، وعطّرتم حسينيتنا بحضوركم اليوم بأجواء معنوية ملكوتية عاطفية، وأشكركم شكراً جزيلاً.
ذكرى التاسع والعشرين من شهر بهمن
يذكّرني الـ 29 من شهر بهمن1 كل سنة بذكرى طيبة ومحبّبة هي أنني ألتقي في هذا المكان المحدود بحشد من الشباب الأعزاء والرجال الأبطال الغيارى من إقليم آذربيجان، فهذا اللقاء طيب ومرغوب عندي كثيراً. أسأل الله تعالى أن يضاعف يوماً بعد يوم من فضله وهدايته ومعوناته عليكم أيها الأهالي الأعزاء، وسترون إن شاء الله مستقبلاً أكثر إشراقاً وحلاوة وازدهاراً في أرض إيران العزيزة.
عزيمة الشعب الإيراني وبصيرته
ما تعلمنا إياه الدروس والعبر المتنوعة للثورة ونظام الجمهورية الإسلامية من مسائل وقضايا خالدة لا تُنسى، تُرشد شعبنا ومسؤولينا وترشدكم أنتم أيها الأعزّاء وخصوصاً الشباب خطوة خطوة نحو القمم السامقة. هذا ما تقوله العبر التي مررنا بها، وتجاربنا ومشاهداتنا، وليس معلوماتنا فقط، بل ما نشاهده بأعيننا يدلنا على هذه الحقيقة. من نماذج ذلك، نموذج، أرى من الضروري أن أذكره هو المظاهرات العارمة للشعب الإيراني في الثاني والعشرين من بهمن هذه السنة. الكل قالوا إنّ الحشود كانت هذا العام أكثر من الأعوام الماضية وأشد حماساً وأكثر حيوية وبهجة. لماذا؟ هذه ليست أخبار شخص وشخصين، فقد كان الأمر كذلك في طهران وفي المدن وفي تبريز وفي إصفهان وفي مشهد وباقي المدن الكبيرة التي وصلتنا الأخبار منها. والسؤال هو لماذا؟ ما الذي حصل هذه السنة حتى شارك الشعب بحرارة أكبر وانجذاب أشد وشوق أكبر وحماس أعظم من السنوات الماضية في هذه الساحة الشعبية العظيمة؟ الإجابة عن هذا السؤال فيه عبرة ودرس لنا. الإجابة هي أن الشعب الإيراني شعر هذا العام أنّ بلاده ونظامه وإسلامه العزيز بحاجة لهذه المشاركة.
1- بهمن 29(هجري شمسي) موافق لـ 19 شباط 1978م: مناسبة تاريخية في الجمهورية الإسلامية، يوم قيام أهالي آذربيجان ضد نظام الشاه، عندما قاموا بإحياء أربعينية شهداء مدينة قم إثر انتفاضة الأهالي 9ك2 1978م.
89
74
في لقاء أهالي إقليم آذربيجان
إنّ جبهة العدو الشرير واللئيم الذي يمتلك كل أجهزة الاتصالات في العالم ويقبض على وسائل الإعلام في العالم، والكثير من الساسة في العالم الغربي هم ممن نصّبتهم هذه الجبهة الشريرة،، أي جبهة الرأسماليين وأصحاب الكارتلات والشركات الكبرى، والرأسماليين مصّاصي الدماء والصهاينة، والشبكة الصهيونية العالمية التي تمتلك معظم وسائل الإعلام في العالم والوسائل الإعلامية الأكثر تطوراً كقنوات التلفزة وفوق كل ذلك شبكات الانترنت، ركّزت إعلامها - منذ عدة شهور - على أنّ الشعب الإيراني قد ضعف ارتباطه بالنظام وبالإسلام والأهداف المعلنة. بثوا هذه الأقاويل في إعلامهم بشكل متواصل ووسعوا الهجمات الإعلامية حتى يقنعوا شعبنا العزيز بهذه الكذبة الكبيرة. فما هو الهدف من كل ذلك؟ الهدف هو إضعاف عزيمة الشعب الإيراني الشجاع المؤمن الذي خرج مرفوع الرأس من الامتحانات الصعبة الكبرى. وإذا ضعف الشعب وتراخى أضحت البلاد هشّة بلا دفاع. وحينما لا يكون الشعب في الساحة سيبقى المسؤولون لوحدهم. ما من مجموعة سياسية في العالم تستطيع أن تعمل وتتقدم من دون مؤازرة شعبها. هذا هو غرضهم. وقد شدّدوا بشكل خاص على الثاني والعشرين من بهمن (ذكرى انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية)، واستخدموا مختلف الحيل الإعلامية عسى أن يستطيعوا إخلاء هذه الساحة وإطفاءها وتقليل رونقها، لكن الشعب أدرك هذا. إنّ ما يدعو الإنسان إلى الإعجاب والدهشة، وما يُشعره بالضعة مقابل عظمة هذا الشعب - فيدرك كم هو شعب عظيم - هو بصيرة الشعب الإيراني ومعرفته بأوضاع عصره وظروفه1.
هذه البصيرة المنقطعة النظير، وهذه المعرفة بالظروف تثير إعجاب الإنسان. وهذا هو الذي يصون الشعب ويحفظه. لقد أدرك الشعب الإيراني أن العدو يحمل اليوم هذا الهدف، فوجه صفعة للعدو من خلال ما قام به عملياً، أي أحبط إعلام العدو بمشاركته وحضوره. الناشئة والشباب والشيوخ والمقعدون والنساء والرجال حضروا في الساحة في كل أنحاء البلاد. حسب التقرير الذي زودوني به - وهو تقرير موثق - فقد خرجت المظاهرات بهذا الشكل الواسع في ما لا يقل عن 850 مدينة في البلاد، والتلفزة غير قادرة على عرض كل هذا. هذا هو الشعب الإيراني وهذه هي بصيرته، وهذه هي معرفته بمكانته ومشاركته وحضوره. لن يهزم هذا الشعب. ومن عليهم أن يتلقوا الرسالة، فها قد وصلتهم. أولئك الذين ينسجون في أدمغتهم المخمورة خيالات واهمة حول الشعب الإيراني أدركوا ما الذي يجري في إيران. طبعاً حاولوا
1- شعارات الحضور باللغة الآذربيجانية: "آذربيجان يقظة، تحامي عن الثورة".
90
75
في لقاء أهالي إقليم آذربيجان
منع انعكاس هذه الحقيقة في الإعلام، لكن من يجب أن يفهم الأمر فقد فهمه. الأجهزة المخابراتية لأعدائنا وواضعو السياسات في البلدان المعارضة للجمهورية الإسلامية قد فهموا أن الشعب الإيراني البطل متواجد في الساحة هكذا. طبعاً حاولوا أن يمنعوا الرأي العام العالمي من الاطلاع على هذه الحقيقة. وهذا بحد ذاته يفضحهم. هؤلاء هم أنفسهم المتشدّقون بحرية الاتصالات والأخبار والمعلومات، ويزعمون أنهم لا يُعتّمون على الخبر ولا يتكتمون عليه ولا يحذفون منه. ولو كانوا لا يحذفون منه لما قالوا عن هذه الحشود التي بلغت عشرات الملايين في المظاهرات في كل أنحاء البلاد بأنها في طهران آلاف الأشخاص! هل هؤلاء آلاف الأشخاص؟! الحشود المليونية المتواجدة في الساحة في الثاني والعشرين من بهمن في طهران هل كانوا آلاف الأشخاص؟! قالوا إن المتظاهرين في كل أنحاء إيران هم مئات الألوف! هل كان هؤلاء مئات الألوف؟! في كل واحدة من المدن الكبرى في البلاد اجتمع مئات الألوف، وحضر عشرات الملايين من الناس في الساحة. هكذا هو الإعلام. ولم تكن قليلة حالات الكذب والغشّ والخداع والتزوير الحقيرة التي شهدناها من الأعداء. كان الوضع هكذا منذ بداية الثورة وإلى اليوم. وسيبقى هكذا، لكن أهدافهم لن تتحقق.
مستقبل العالم
حينما تخرج الرسالة الصادقة لشعب من أعماق قلبه فسوف تفعل فعلها. قلنا مراراً إنّ حسّ الحضور والمشاركة والمشاعر الثورية والإحساس بالمسؤولية والحركة بعزيمة راسخة أشبه بنسيم ربيعي طيب سوف يسري في كل مكان، وسوف ينتفع منه الجميع رويداً رويداً. ونشاهد نموذج ذلك في شمال أفريقيا وفي كل البلدان العربية وفي كل العالم الإسلامي، وفي قلب كل مسلم صاحب فكر ووعي لدى الأقليات - في البلدان التي يُشكّل فيها المسلمون الأقلية - وفي البلدان الإسلامية، حيث تشعر كل القلوب طوال هذه الأعوام المتمادية تدريجياً بالهوية والشخصية. لقد وصل الإسلام في مسيرته العظيمة إلى نقطة حساسة. والأجيال القادمة سوف تشهد الكثير من الأشياء الكبرى والمهمّة، وسوف يتغيّر العالم تغيراً جذرياً. وتضمحلّ تدريجياً السياسات المادية الاستكبارية المهيمنة التي قيدت الشعوب وكبّلتها، وتذوب وتنتهي. هذا هو مستقبل العالم. هذه هي النقطة المركزية، بداية التحرك من هنا، فهذه الأمّة صمدت والأمر المهم هو هذا الثبات وهذه الاستقامة.
91
76
في لقاء أهالي إقليم آذربيجان
فائدة إحياء المناسبات
أعزائي، أيها الشباب، أيها الرجال والنساء الغيارى من تبريز وآذربيجان، النقطة الرئيسة تكمن في هذا الصمود. لماذا نحيي التاسع والعشرين من بهمن كل عام؟ ليست المسألة أننا نريد البقاء على الماضي. الكثير من الحشد الموجود هنا والكثير من شباب آذربيجان ومدينة تبريز لم يشهدوا ذلك اليوم، ولم يكونوا قد ولدوا حينذاك، لكنهم يحيونه. هذا ليس مراوحةً في الماضي، إنّما هو تدليلٌ على المسار الصّحيح للحركة نحو المستقبل.
الدور البارز لأهالي آذربيجان في قضايا البلاد
وأما تبريز وآذربيجان. قلنا مراراً إنّ أهالي آذربيجان وخصوصاً أهالي تبريز والكثير من المدن الأخرى في آذربيجان كانوا منذ أكثر من مئة عام في الخطوط الأمامية لأهم الأحداث والتطورات الإيجابية في البلاد، وقد مارسوا دورهم فيها. من قضية تحريم التنباك حيث نزل إلى الساحة المرحوم الحاج ميرزا جواد مجتهد التبريزي، وإلى الحركة الدستوريّة - سواء نهضة الدستور الأولى، أو الذي حدث بعد الاستبداد الصغير - كانت آذربيجان ومدينة تبريز بؤرة تفجّر المواجهات. وكان الرجال الأبطال المشاهير من تبريز يحملون في جيوبهم رسائل وأحكام كبار العلماء، ويستشهدون بها ويستندون عليها، ويصرحون بها، وهم من أمثال ستار خان وباقر خان. هذا ما عدا العلماء الكبار الذين شاركوا في هذه النهضة. حتى أمثال هؤلاء الأبطال والجنود البسلاء من آذربيجان كانوا يصرّحون أنهم تابعون لعلماء الدين ولأحكام مراجع التقليد. هذا ما تقوله لنا الوثائق والمستندات الموثوقة المتبقية من ذلك العهد. لم تكن تلك الحركة تلقائية دون وجهة محدّدة، بل كانت حركة دينية منبعثة من مشاعر الغيرة والحمية الدينية. الجميع كانوا متدينين في كل أرجاء البلاد، لكن في بعض المناطق برزت هذه الحركة الدينية بشكل أوضح بسبب الخصال المحلية - من غيرة وحمية وشجاعة ورجولة - وهكذا كانت تبريز وآذربيجان.
وهكذا كان الوضع بعد أن انطلقت النهضة الإسلامية في الخامس عشر من خرداد سنة 1342هـ .ش. (5 حزيران 1963م.)،، فقد سُجن علماء الدين آنذاك ونُفوا ونقلوا إلى سجون طهران. كان الوضع على هذه الشاكلة طوال تلك الأعوام. وفي بداية الثورة كان يوم التاسع والعشرون من بهمن يوماً مشهوداً وعلامة في هذا الطريق
92
77
في لقاء أهالي إقليم آذربيجان
العظيم لمسيرة الشعب الإيراني. لقد قلت دوماً ولا أريد التكرار بأنه لولا الـ29 بهمن لم يكن من المعلوم أن يكون للـ19 من شهر دي1 في قم كل هذا التأثير. إنما انتفاضة 29 بهمن لأهالي تبريز هي التي جعلت دماء الشهداء المظلومين في 19 دي في قم تغلي، وهي التي أحيت تلك الدماء وأوصلت رسالتها إلى العالم كله ولجميع أنحاء البلاد. هكذا كان تأثير انتفاضة الشعب في تبريز. ثم في قضايا الثورة وقضايا الحرب.
فأول إمام جمعة شهيد وشهيد محراب كان من تبريز. من بين خمسة شهداء محراب هناك اثنان من تبريز. ومن بين الألوية البارزة ومن بين القادة العسكريين المعروفين كان لواء عاشوراء2 والجنود الآذربيجانيون والتبريزيون والقادة من تلك المحافظة. اللواء مجموعة من الشباب وليس فيه كل الناس، ولكن لو لم يكن كل الناس على هذا الطريق وقلوبهم جميعاً في هذا الاتجاه لما تكوّن لواءٌ بطلٌ شجاعٌ مثل ذلك اللواء. يأتون بجثامين الشهداء ويشيعونها باستمرار فيزداد الناس شوقاً، ويبعث الآباء والأمهات أبناءهم للجبهات أكثر. هذا كله له معنى. هذا هو سرّ نجاح الشعب الإيراني.
بركات مقارعة الظلم والاستكبار العالمي
أعزائي. لقد وجهوا إلينا الإهانة نحن الشعب الإيراني في عهد النظام الشاهي. كانوا يهينوننا ويغتصبون حقنا وينهبون نفطنا ويخنقون مواهب شبابنا، فبقينا متخلفين في العلم وفي التقنية وفي السياسة الدولية وفي التأثير على شعوب العالم. لقد قيدوا الشعب الإيراني وكبّلوه. فتحرك الشعب وغيّر الطريق. وما ينادي به الشعب الإيراني اليوم هو مقارعة الظلم والاستكبار العالمي، وهذا بالطبع له خيراته وبركاته للشعب. حينما يقف الشعب ولا يخاف شبكة الأعداء ذات الهيمنة والضجيج الكبير، فإن علومه سوف تتقدم واقتصاده سوف يتقدم، وشؤونه الاجتماعية سوف تتقدم، وشبابه سيزدادون وعياً، وسوف يؤثر في الشعوب الأخرى، وسوف تعمّ أفكاره ودينه وشعاراته العالم. الشعارات التي كنا نطلقها ذات يوم هاهنا ونحن مظلومين حيث كان الشعب الإيراني
1- 19 دي (هجري شمسي) موافق لـ 9 ك2 من السنة الميلادية.
2- لواء عاشوراء 31: من الألوية الاساسية التي شاركت في الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية، وأوكلت إليه عمليات مهمة منها ، رمضان - مسلم بن عقيل - وتشكيله الأساسي كان من منطقة آذربيجان الإيرانية الشمالية. وكان على رأسه الشهيد مهدي باقري.
93
78
في لقاء أهالي إقليم آذربيجان
وحيداً، تحوّلت إلى شعارات في كل مكان من العالم الإسلامي تقريباً. الشعب يمكن أن يكون مؤثراً ويستطيع أن يكون متماسكاً قوياً. وسوف يستمر هذا التماسك والقوة. سوف نتقدم في العلم إن شاء الله، وسوف نتقدم في الاقتصاد، ونتقدم أيضاً في البناء والعمران. هذا الشعب وهؤلاء الشباب وهذه الهمم وهذا الصمود سوف تبني البلاد وتجعلها كباقة ورود، وستكون إن شاء الله نموذجاً للعالم الإسلامي. ما يجب علينا أن نتابعه هو الخط الصواب والصراط المستقيم صراط الله وسبيل الله ودرب الإسلام وجادة الدين وطريق الشريعة. يجب أن نكون واعين يقظين ونعمل بواجباتنا.
الانتخابات صفعة على وجه العدو
تقام الانتخابات بعد أسبوعين تقريباً (انتخابات مجلس الشورى في الجمهورية الإسلامية). وقد بدأت دمى المسرحيات المعهودة في وسائل الإعلام العالمية تعمل لتقلل من أهمية هذه الانتخابات ورونقها. وأنا أقول، وقد قلت سابقاً وأكرر: مشاركة الشعب في الانتخابات يمكنها أن تتقدم بالبلاد إلى الأمام، وتحفظها وتصونها من شرور الأعداء، وتبثّ الشكوك والتزلزل في مؤامرات العدو، وتفرض عليه التراجع.
الانتخابات الحماسية الملحمية صفعة على وجه العدو.
الله معكم... الله معكم. "من كان لله كان الله له". حينما يسير الشعب في سبيل الله فإن الله سوف يعينه وسوف تعينه السنن الإلهية. قلوب الناس بيد الله. هذه العزائم والإرادات الراسخة صنيعة يد القدرة الإلهية، وسوف يعين الله تعالى بإذنه هذا الشعب في هذه الانتخابات أيضاً. ستقام انتخابات المجلس التاسع إن شاء الله بحماس ومحبة وبصيرة ومشاركة غفيرة من قبل الشعب ليتشكل بتوفيق من الله مجلس جيد للشعب، ويصعد نواب جيدون إن شاء الله بانتخابكم أيها الشعب، فيدخلون ساحة العمل والخدمة. شكراً جزيلاً1.
أسأل الله تعالى لكم التوفيق. وحفظكم الله تعالى وأبقى حيويتكم ونشاطكم وأيّدكم إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- شعارات الحضور باللغة الآذربيجانية: "آذربيجان الفدائية لا تنفصل عن الخامنئي".
94
79
في لقاء مسؤولي المنظّمة الوطنيّة للطاقة النوويّة وعلماء الذرّة في البلاد
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء مسؤولي المنظّمة الوطنيّة للطاقة النوويّة وعلماء الذرّة في البلاد
الحضور: مسؤولو المنظّمة الوطنيّة للطاقة النوويّة وعلماء الذرّة.
المكان: طهر ان.
الزمان: 22/2/2012م.
95
80
في لقاء مسؤولي المنظّمة الوطنيّة للطاقة النوويّة وعلماء الذرّة في البلاد
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أنا سعيد جداً للقائي بكم اليوم هنا أيّها الأعزاء الإخوة والأخوات المحترمون الفاعلون في مجال يبعث على الفخر الوطني والتاريخي. وبالطبع، فقد ذكرناكم بالخير كثيراً في غيابكم، ونحن نحبّكم ونودّكم من أعماق قلوبنا. وهذا اليوم، إنّما هو فرصة لأن نبدي لكم مودّتنا و إخلاصنا شفهياً ووجهاً لوجه. نشكر الله على ذلك. وطبعاً، فهذه النعم من الله. كل النعم هي من عند الله ربّ العالمين. ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّه﴾1.
وإنّ امتلاك طاقات إنسانية كفوءة وواعية وعالمة وذات أفكار جيدة ودوافع قوية هو نعمة من النعم الإلهية. حينما نشكركم فهذا شكر محفوظ في مكانه. إلا أنّنا نشكر الله تعالى كذلك، لأنّه منَّ بكم على هذا الشعب وهذا النظام.
ضرورة إدراك العامل لأهمّيّة عمله
يوجد مسألة هنا، وهي أنّه على كل إنسان أن يعرف قدر الخدمة التي يقدّمها في أي مكان أو مجال يعمل فيه. فإذا عرف هذا العامل الذي يقدّم الخدمات قدر هذه الخدمة، فإنّ هذا العمل وهذه الخدمة سوف تتواصل وتستمر على أحسن وجه. وإذا كان الحال على العكس، أي أنّ الشخص الذي يحرس هذا الخندق أو يقف فوق هذا البرج ويرصد أطراف السور، أو يقف في نقطة معينة وينجز عملاً مهماً، إذا لم يكن عارفاً بأهمية عمله الذي يقوم به، فمن الطبيعي أن يغفل وينام ويترك العمل. إذن، القضية الأولى هي أن ندرك حجم العمل الكبير الذي نقوم به في نطاق مهمتنا ووظيفتنا.
أذكر جملة واحدة فقط،، بالطبع فإنّ لعملكم الكثير من الأبعاد المتنوعة، ومن أبعاده أنّه منح الشعور بالعزّة الوطنية لهذا الشعب ولهذا البلد، و هذا أمر على جانب كبير من الأهمية.
تُبتلى الشعوب حينما تفقد عزّتها، عندما تنسى قيمتها الذاتية سوف تقبل أن تُستعبد من الآخرين وبالمجان. هذه هي عزّة النفس. والشعب المظلوم ينهض ويثور - كما فعلت شعوب شمال أفريقيا وبعض البلدان الأخرى - حينما تشعر أنّ لها عزّة سُحقت على مرّ الزمن. عندئذ ستثور، ولن تتمكن أيّ قوة من إسكاتها، وهذا ما تشاهدونه، وقد حدث بالفعل. هذه هي عزّة النفس. الثورة منحت شعبنا وبلادنا عزّة النفس.
حاوَلوا مراراً وتكراراً أن يغرسوا في أفكار هذا الشعب ومعنوياته ويقولوا له "إنّك شعب عاجز وغير قادر،، أجل، قمتَ بثورة، لكنك لا تستطيع إدارة نفسك
1- النحل،53.
97
81
في لقاء مسؤولي المنظّمة الوطنيّة للطاقة النوويّة وعلماء الذرّة في البلاد
والتقّدم إلى الأمام، ومواكبة العالم". إنّ كل تقدم علمي هو حركة كبيرة وبشارة كبيرة لهذا الشعب بأنّه قادر، وعملكم هذا - في المجال النووي - استطاع أن يمنح الشعب عزّة النفس. هذا أحد أبعاد أهمية العمل الذي تقومون به.
لا يمكن قياس هذه القِيم وفق المعادلات المادية. أجل، إنّ العالم المادي يقيس كل هذه الأشياء بالمال، وكل القيم الإنسانية تنتهي عنده إلى المال. وهذه هي مشكلة العالم المادي، وهذا ما سوف يسقطه ويصرعه أرضاً. لكنّ حقيقة الأمر أنّ هناك أشياء لا يمكن قياسها بالمال أصلاً. وقد يأتي الإنسان في مقام المقارنة ومن باب التسامح على ذكر المال. كنتُ في زيارة لإحدى محافظات البلاد، ومن اللقاءات التي كانت لي هناك لقائي بالجامعيين والطلبة والأساتذة الجامعيين، وكان لقاءً جميلاً وحميماً جداً. أحد الأساتذة ـ وكان عالماً أعرفه ولا يزال هناك ـ ألقى كلمة. تحدث عدة أشخاص، ومنهم هذا الرجل العالم.
ومن أجل أن يسترعي انتباهي أنا العبد، وانتباه باقي الأجهزة والمسؤولين بدأ يعدد امتيازات تلك المحافظة، ويقول إنّ فيها مثلاً هذه الميزة وتلك الميزة، وإن هذا يعادل مثلاً كذا مليار، ومن المناسب أن يُنفَق له كذا وكذا من المبالغ. وكان مضمون كلامي الذي قلته حينها - ولا أستطيع تذكر الألفاظ بدقّة - هو أنّ هذه الأشياء التي ذكرتموها أمور مادية، وأنت نفسك تساوي من المليارات ما هو أكثر من هذا، فهل يمكن أن يُقاس العالِم والأستاذ في مدينة أو في مركز محافظة بالامتيازات المادية لأية محافظة؟! هذا هو الفكر، وهذا هو الإنسان، وهذه هي الشخصية. يجب أن تعلموا أن ما تقومون به مهمّ.
وبالطبع، إنّ أبعاد المسألة ـ كما ذكرتُ ـ متعددة جداً. حاوَلوا ويحاولون في الإعلام أن يُصوّروا أنّ هذا العمل أيديولوجي صرف، أي لا صلة له بمصالح الشعب والبلد، والحال أنّ عملكم متصل مباشرة بالمصالح الوطنية. هكذا هو العمل في الطاقة النووية. له صلة مباشرة بالمصالح الوطنية. في التقرير الذي قدمه الآن الدكتور عباسي ذكر بعض جوانب ارتباط هذا الأمر بالمصالح الوطنية. الطاقة النووية مشروع للشعب والبلاد والمستقبل.
استغلال العلم لاستعباد الشعوب
مستكبرو العالم وأولئك الذين يرون أنّ من حقهم حكم العالم ـ هذه البلدان المستكبرة - يسمّون أنفسهم المجتمع الدولي، والأمر ليس كذلك، المجتمع الدولي هو الشعوب وحكوماتهم. عدد من البلدان تُطلق على نفسها اسم المجتمع الدولي وتُصدر الأحكام وتتحدث وترد وتُعلن التوقّعات! تُبرّر هذه البلدان هيمنتها على العالم باحتكارها للعلم
98
82
في لقاء مسؤولي المنظّمة الوطنيّة للطاقة النوويّة وعلماء الذرّة في البلاد
والتقنية. جزء من هذا الضجيج الذي يُثيرونه هو من أجل أن لا يُكسَر هذا الاحتكار. إذا استطاعت الشعوب التقدّم في القضية النووية وفي مجالات الفضاء والالكترونيات ومختلف القضايا الصناعية والتقنية والعلمية، فلن يبقى مجال لتسلّطهم التعسفي المتغطرس على العالم.
من أكبر الجرائم التي ارتكبت ضد البشرية هي أن العلم أصبح في الثورة الصناعية خلال القرنين أو الثلاثة الماضية وسيلة للتسلّط. البريطانيون وهم من روّاد الثورة الصناعية استخدموا إمكانياتهم هذه للانطلاق إلى أنحاء العالم وأسر الشعوب وتقييدها بالأغلال. تعلمون ما الذي جرى خلال فترة حكم البريطانيين في شبه القارة (الهندية)، في تلك الساحة الكبيرة والثرية؟ ولم يكن الأمر محصوراً بشبه القارة، وإنّما عمّ منطقة شرق آسيا كلها.. كانت لسنوات طويلة - لأكثر من قرن - تحت نعالهم، حيث تسلّطوا على الناس بأدوات العلم التي امتلكوها، وعانى الناس منهم الويلات، فكم من البشر أبيدوا، وكم من الآمال سحقت، وكم من الشعوب تخلّفت، وكم من البلدان خُرّبت. هكذا استخدموا أدوات العلم، وهذه أكبر خيانة للعلم، كما أنّها أكبر خيانة للبشرية. ويُريدون لهذا الاحتكار أن لا يُكسر. أيّ شعب يستطيع الوقوف على أقدامه باستقلاله - لا بفضل بطاقاتهم، وتراخيصهم، وتحت هيمنتهم، وفي قبضتهم - يكون قد وجّه ضربة لهذا الاحتكار،، وهذا ما يحصل اليوم لحسن الحظ في إيران.
يجب أن تتابعوا هذا الحقل المهم وهذا العمل الأساسي الكبير بكل جدّية. توكلوا على الله وسوف يُعينكم الله تعالى. ثمّة مواهب وطاقات بشرية وطاقات طبيعية، ولحسن الحظ فإنّ الإمكانيات السياسية أيضاً متوفرة اليوم بشكل كامل. أحياناً تكون هناك إمكانيات طبيعية وبشرية من دون أن تتوفر الإمكانيات السياسية، فلا تسمح هيمنة العدو لهذا الشعب بأن يتنفس، ولا تسمح لهذه الإمكانيات البشرية والطبيعية بالظهور. جاءت الثورة فأوجدت ووفرت هذه الإمكانيات والفرص السياسية. تستطيعون أن تتقدّموا وعليكم أن تتقدّموا.
امتلاك السلاح النووي لا يُوفّر الاقتدار
الضجيج الذي يثيرونه هدفه إيقافنا وصدّنا عن هذا الطريق. يعلمون أننا لا نسعى للحصول على السلاح النووي، فهذا ما أدركوه وعلموه. أنني لا أشكّ في أنّ أجهزة اتخاذ القرار وصناعة القرار في هذه البلدان التي تقف بوجهنا تعلم وعلى اطلاع بأننا لا نسعى للحصول على سلاح نووي. في الواقع إنّ السلاح النووي لا ينفعنا وغير مجد بالنسبة لنا، مضافاً إلى أنّنا نعتبر هذا الشيء مرفوضاً من الناحية الفكرية والنظرية
99
83
في لقاء مسؤولي المنظّمة الوطنيّة للطاقة النوويّة وعلماء الذرّة في البلاد
والفقهية، ونعتبر التحرك في هذا الاتجاه تحركاً مرفوضاً. إننا نعتبر استخدام هذه الأسلحة ذنباً كبيراً، والاحتفاظ بها عملاً عبثياً كثير الأضرار والمخاطر ولا نسعى له أبداً. وهم يعلمون ذلك لكنهم يضغطون على هذه المسألة ليوقفوا هذه المسيرة.
نريد أن نثبت للعالم أن امتلاك السلاح النووي لا يؤمّن الاقتدار، والدليل على ذلك أنّ القوى التي تمتلك السلاح النووي تعاني اليوم أصعب المشاكل. لقد تسلّطوا على العالم بالتهديد النووي، لكن هذا التهديد لم يعد فعّالاً اليوم. نريد أن نقول إننا لا نسعى لامتلاك السلاح النووي ولا نرى الاقتدار في هذه الأسلحة، ونستطيع كسر الاقتدار القائم على السلاح النووي. وسوف يفعل شعبنا هذا الشيء إن شاء الله.
الضغوط علامة ضعف الأعداء
وطبعاً، أقولها لكم، إنكم تعلمون أنّ هذه الضغوط التي يمارسونها - ضغوط الحظر والتهديد والاغتيالات وما إلى ذلك - هي علامات على ضعفهم، وهي دليل على أنّ كل ما يفعلونه يزيد من قوة شعبنا وصموده ومتانته، وبذلك يعلم الشعب أنه أصاب كبد الحقيقة، ويعلم أنه اختار هدفه بشكل صحيح، ويسير على الدرب بنحو جيد. ولذلك فقد أغضب العدو وأغاظه.
وهذه الحركة ليست مجرد حركة نووية. ذريعتهم اليوم هي الذريعة النووية، يفرضون الحظر بذريعة النشاط النووي. فهل كانت القضية النووية مطروحة في بلادنا قبل سنوات؟ الحظر موجود منذ ثلاثين سنة. لماذا كانوا يفرضون الحظر حينما لم يكن للقضية النووية أي ذكر؟ القضية قضية مواجهة شعب أراد أن يكون مستقلاً وأن لا يخضع للظلم، وأراد أن يفضح الظالم ويقف مقابل ظلمه، وأن يوصل هذه الرسالة لكل العالم، وقد أوصلناها، وسوف نوصلها أكثر إن شاء الله. والحظر والضغوط السياسية وما إلى ذلك لن تؤثر شيئاً. حينما يقرّر الشعب أن يقف، وحينما يؤمن بحماية الله له وبقدراته ومواهبه الذاتية، فلن يستطيع شيء الوقوف بوجهه وصدّه.
وصيتي هي: شدّوا هممكم، وضاعفوا حوافزكم ودوافعكم لمواصلة هذا الطريق في منظمتكم وعلى صعيد جميع الأفراد الذين يتولون هذه المهمة. عملكم عمل كبير ومهم وهو صانع مستقبل لهذا البلد إن شاء الله. ليست القضية هي أننا سنستطيع استخدام الصناعة النووية للمواد الاستهلاكية التي تنفع مصالح الشعب، إنما القضية هي أن هذا التحرك يمنح شباب البلد وعلماء البلد وكل أبناء البلد العزم والتصميم الراسخين ويثبت أقدامهم في هذا الطريق. هذا هو المهم. الحفاظ على الشعب وعلي
100
84
في لقاء مسؤولي المنظّمة الوطنيّة للطاقة النوويّة وعلماء الذرّة في البلاد
أبناء الشعب واقفين مندفعين أهم من المصالح والاستفادات المتاحة لهذه الصناعة. وهذا ما تقومون به،، وسوف يعينكم الله تعالى بإذنه وبمشيئته.
ونحن ندعو لكم، وأين ما اقتضت الحال أن نقدم الدعم وأن أقدم أنا المساعدة فسنقوم بذلك بالتأكيد. ونعتقد أنكم سوف تزيلون من طريقكم العقبات والموانع الواحدة تلو الأخرى - إن شاء الله - وتتقدمون إلى الأمام. وسيكون غدكم أفضل من يومكم بمرات إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
101
85
في لقاء فئات من الشعب وعوائل الشهداء والمضحّين
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء فئات من الشعب وعوائل الشهداء والمضحّين
المناسبة: لقاء عوائل الشهداء والمضحّين.
الحضور: عوائل الشهداء والمضحّون.
المكان: طهران.
الزمان: 29/2/2012م.
103
86
في لقاء فئات من الشعب وعوائل الشهداء والمضحّين
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أهلاً وسهلاً بجميع الإخوة والأخوات الأعزّاء. بحمد الله، إنّ لقاءنا اليوم في الحسينية1 فائضٌ بعطر الشهادة والذكر المبارك للشهداء الأعزّاء، وحضور الجرحى الأعزّاء، وعوائل الشهداء والجرحى.
قيمة مثل هذا المجلس وقدره معروفٌ لدى هذا العبد الحقير. فعند ذكر الشهادة والشهداء وتمجيد عظمة الشهداء، فإنّ كلّ إنسانٍ وكل قلبٍ يشعر بالعظمة، ويشعر بالغنى عن ما سوى الله. ونسأل الله تعالى أن يجعل كلّ أنواع فضله ورحمته وعطاءاته من نصيبكم أيّها الأعزّاء. وأن يحشر الأرواح الطيبة لشهدائنا الأعزّاء، وكذلك إمام الشهداء مع أوليائهم.
ذكرى الإمام العسكري عليه السلام
هذه الأيّام تعود إلى الإمام العسكري عليه السلام الذي يمكن أن يكون قدوةً لجميع المؤمنين، وخصوصاً الشباب. هذا الإمام، الذي اعترف الموالي والشيعي والمخالف وغير المؤمن، اعترفوا جميعاً، وشهدوا بفضله وعلمه وتقواه وطهارته وعصمته، وشجاعته مقابل الأعداء، وبصبره واستقامته في الشدائد. هذا الإنسان العظيم، بشخصيته الفذّة، عندما استُشهد لم يكن قد تجاوز الثامنة والعشرين سنة من العمر. في تاريخ الشيعة المليء بالمفاخر، هذه النماذج ليست قليلة،، فإنّ والد إمام الزمان الذي نعزّه جميعاً، وله من الفضائل والمقامات والكرامات، عندما ارتحل مسموماً بجناية الأعداء، لم يكن قد تجاوز هذا السنّ ( الثامنة والعشرون). وهذا ما يصحّ أن يكون قدوةً، فيشعر الشاب بوجود نموذجٍ رفيع المستوى أمام ناظريه. وإمامنا الجليل، جواد الأئمة عليهم السلام قد استُشهد في سنّ الـ الخامسة والعشرين،، وإمامنا العسكري عليه السلام استُشهد في سن الثامنة والعشرين من العمر، وكلّ هذه الفضائل والمكارم والعظمة والتي لا نقول بها ونترنّم بها نحن فقط، بل إنّ أعداءهم ومخالفيهم، وأولئك الذين لم يعتقدوا بإماماتهم، اعترفوا بذلك جميعاً.
الشهداء قدوة للشعب
وفي زماننا أيضاً، والذي يُعدّ زماناً استثنائياً حقاً وإنصافاً ـ هذه المرحلة التي مرّ بها نظام الجمهورية الإسلامية وإلى اليوم، هو عصرٌ استثنائي في تاريخنا، ومقطعٌ ذهبي ـ فكل هؤلاء الشهداء الذين تعرفونهم، هؤلاء أعزّاؤكم وشبابكم هم جميعهم قدوة. إنّ كلّ شاب، اندفع بالإيمان المقدّس والطهارة، وخرج من بيته، وتخلّى عن راحته
1- حسينية الإمام الخميني قدس سره- طهران.
105
87
في لقاء فئات من الشعب وعوائل الشهداء والمضحّين
وحضن الأب والأم، وآثر تلك الأحداث الدموية المليئة بالاضطراب والأهوال على النسائم الباردة في حرّ الصيف، والأجواء الدافئة في عزّ الشتاء، ووضع جسمه وروحه على كفّه ليجعلها فداءً للتكليف والمسؤولية، هذا يُعدّ نموذجاً وقدوةً. هذه عظمةٌ تجسّمت مقابل أعيننا.
أمثالنا ممّن أصبحوا مسنّين وشيوخاً، يلتذّون لرؤية هؤلاء، التذاذاً قلبياً،، لكنّ الشباب بالإضافة إلى هذه الحظوة الروحية والقلبية، يستلهمون الدروس ويتّخذون الأسوة والقدوة. وشهداؤنا أحياء، كما أخبر الله تعالى عنهم، ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾1، فهم عند الله أحياء، ومشرفون على هذا العالم، ويشاهدون الأحداث، ويرون المصائر، ويطّلعون على أعمالي وأعمالكم. هنالك عندما تعيق الحواجز أقدامنا وعندما نعجز عن توجيه أنفسنا توجيهاً صحيحاً على طريق الهداية والإدارة، أو عندما نسقط أرضاً فإنّهم يقلقون. حينما نفهم ونرى ونخطو بإحكام، ونتحرّك على الطريق المستقيم، ونقترب من الهدف، فإنّهم يشعرون بالسرور. عندما ينتصر شعب إيران في أي ميدان، فإنّ تلك الأرواح الطيّبة تستبشر. وعندما يتأخّر الشعب لا سمح الله، بسبب غفلتنا وتقصيرنا، ويعاني من مشاكل أساسية وعامّة فإنّهم يضطربون. وإنّني أقول لكم، أنّ العدوّ في هذا المقطع الزماني الذي نعيش فيه، قد أنشأ جبهةً واسعةً في مقابلنا، وهو ينهزم يوماً بعد يوم، فإنّ المرء لا يحدس بأنّ شهداءنا الأعزّاء يعيشون السرور والحبور والرضا. فشعبٌ بهذا الانسجام وهذه العظمة، ومع كل هذه المصاعب على الطريق وأثناء التحرّك، ومع كل هذه العداوات الخبيثة واللدودة، عندما يتحرّك بمثل هذا الثبات، ويخطو بمثل هذا الإحكام، ويتّجه نحو الهدف، فإنّهم يستبشرون، وإنّ روح إمامنا المطهّر والأرواح الطيبة للشهداء، تُسرّ وتفرح. لا نريد هنا أن نصوّر الساحة والقضية خلافاً للواقع، بل إنّ ما ذكرناه هو الواقع بعينه.
تآمر الأعداء لم يضعف الشعب
إنّ عالم القوّة والقهر والاستكبار اليوم، وكل هذه الغطرسة والخباثات، وكل أولئك الذين تلوّثت أيديهم بدماء الشعوب إلى المرافق، كلّ هؤلاء الذين يكذبون على شعوبهم، أولئك الذين هم على استعداد أن يُفرغوا جيوب الشعوب من أجل ملء جيوبهم، كلّ هؤلاء قد اصطفّوا مقابل الجمهورية الإسلامية وشكّلوا جبهةً واحدة. لأجل أيّ شيءٍ يفعلون ذلك؟ لأجل أن يهزموا هذا الشعب، ويمنعوا شعب إيران من
1- آل عمران، 169
106
88
في لقاء فئات من الشعب وعوائل الشهداء والمضحّين
سلوك هذا الطريق والاستمرار في هذه الحركة التي بدأها، والتي قد انتهت بصحوة عامّة في عالم الإسلام ـ وهذا أوّل الغيث، وهناك إن شاء الله مستقبلٌ أكثر وضوحاً وسطوعاً. لو أنّ أمريكا والغرب والصهيونية والرأسماليين، وكذا اليهود المتسولين المرتبطين بمنظّمة الصهيونية، استطاعوا أن يمنعوا شعب إيران، أو يركعوه أو يجبروه على التراجع، لأمكنهم أن يقولوا للعالم: انظروا إنّ هؤلاء الذين كانوا شعباً رائداً قد حللنا مكانهم. هذا هو الهدف، وكلّ تلك المساعي من أجل هذا. وفي السابق ما كانوا ليعلنوا ذلك، بل كانوا يخفونه، واليوم يعلنونه ويصرّحون به. إنّهم يقولون إنّنا نريد أن نفرض الحظر، الحظر النفطي، والحظر على البنك المركزي، وكذا وكذا ـ وتصدر القرارات بواسطة مجلس الأمن في الأمم المتّحدة، وهكذا قراراً بعد قرار. فمن أجل أي شيءٍ؟ من أجل إرهاق شعب إيران. هذا عجيبٌ، فإنّ شعب إيران كلّما مرّ الزمان، يصبح أكثر سروراً وحياةً واستقامةً وتصميماً.
هذا العام كانت مشاركتكم في الـ22 من شهر بهمن (شباط) (ذكرى انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية) - بهذا التحرّك الشعبي العظيم دعماً للنظام - صفعةً على وجه الاستكبار. لقد كانت أمانيهم أن يتمكّنوا من إنزال الجماعات إلى الشوارع ضدّ النظام. فالحادثة التي أرادوا أن تحدث لإيران حتى يقوم الشعب ضدّ إيران، وقعت عليهم! انظروا إلى الدول الأوروبية، فالذين ينزلون إلى الشوارع ويرفعون قبضاتهم ويكسرون الزجاج، هم شعوب تلك الأنظمة، فما حلموا به تجاهكم، انقلب وكان تفسيره عليهم، والسهم الذي أطلقوه على شعب إيران والجمهورية الإسلامية في إيران، ارتدّ إلى نحورهم، فهذا هو انتصار شعب إيران.
إنّنا اليوم في جميع الأبعاد، نتحرّك وفق نقطة استراتيجية. ومن الممكن أن يكون هناك تقصيرٌ هنا، أو تقصيرٌ هناك، لكنّ الحركة العظيمة تتقدّم بشكلٍ عام نحو الأمام، وإنّ الشعب لن يسمح للعدوّ المتآمر أن يصبح مسروراً، فالجميع قد شاركوا في العمل: شبابنا استشهدوا في الشوراع، وعلماؤنا استُشهدوا على يد عملائهم القتلة وإرهابييهم،، وها هم يمارسون كلّ أنواع الأعمال السياسية والإعلامية والاقتصادية والأمنية ـ يبعثون الجواسيس ـ بشكلٍ دائمٍ، وينفقون ما ينفقون من أجل أن يرهقوا شعب إيران. انظروا سترون أنّ شعب إيران اليوم أكثر نشاطاً وحيويّةً وعزماً من السابق. إنّ الشاب اليوم، إذا لم يكن أكثر حيويةً ونشاطاً واندفاعاً من الشاب الذي كان قبل عشر سنوات أو عشرين سنة فهو ليس بأقل. وهذا دليلٌ على الحركة التقدّمية لشعب إيران، ودليلٌ على تراجع هؤلاء (الاعداء).
107
89
في لقاء فئات من الشعب وعوائل الشهداء والمضحّين
الانتخابات الحماسيّة مظهر الحياة
وقد دبّر الله تعالى أمراً لهذا الشعب. فهذه الانتخابات والاندفاع نحو صناديق الاقتراع، كل هذا مظهر حضور الشعب واقتداره. لعلّهم شرعوا قبل ستّة أشهر أو أكثر بالهجمات الإعلامية على انتخابات يوم الجمعة ـ بكلّ أنواعها وأقسامها - من أجل أن يجعلوا هذا الشعب غير مبالٍ، ومن أجل أن تخلو صناديق الاقتراع.
في كلّ العالم تكون الانتخابات الحماسية مظهر الحياة والتواجد والمشاركة الحرّة ذات العزم الراسخ لأيّ شعبٍ في الساحات. فأينما جرت انتخابات بمشاركةٍ شعبيةٍ واسعة، دلّ ذلك على أنّ شعب هذه الدولة حيٌّ ويقظٌ وواعٍ ومؤيدٌ للنظام، وهذا ما يريدون سحبه من يد شعب إيران. فكلّ هذه الوسائل الإعلامية التي تبلغ المئات والآلاف ـ وإذا حسبنا تلك الوسائل الجديدة المبتكرة في الإنترنت، لوصلت إلى الملايين ـ كل ذلك من أجل ان يجعلوا شعب إيران شعباً غير مبال وغير مكترثٍ. فأحياناً، يقولون إنّ شعب إيران لن يشارك، وأحياناً يقولون بأنهم سيفرضون الحظر، وأحياناً يقولون هناك تزوير، وكلّ مرّةٍ يقولون كذا وكذا، من أجل التقليل من إقبال الجماهير على صناديق الاقتراع، ولكي تُصاب بالفتور. وما أشعر به من اللطف الإلهي وأحتمله بقوة أنّ شعب إيران سيسدّد يوم الجمعة الآتي صفعةً قوية جداً لوجه الاستكبار.
إنّ يد الله معكم. إنّ هداية قلوبنا وأرواحنا بيد الله. أزمّة الأمور كلّها بيده. عندما يكون قلب الشعب، وقلوب المسؤولين، وقلوب المتحرّقين مع الله، فإنّ الله ييسّر الطريق ويسهّله ويفتحه ويوفّق، وبمشيئته سينال شعب إيران هذا التوفيق.
في الحقيقة إنّ الانتخابات هي صفعة على وجه أعداء هذا الشعب. والمهم هو أن يشارك الناس. وبالطبع، ما هو مهم هو أن ينتخبوا المرشّحين الصالحين، فكلاهما مهم. لكنّ التواجد والمشاركة تقع في الدرجة الأولى. فكلّما زاد حضور الناس، تصبح دعامة مجلس الشورى الإسلامي أقوى، ويتشكّل مجلسٌ أقوى وأشجع وأثبت،، فنداء عموم الشعب يمكن أن يصل إلى أسماع العالم بكلّ قوّة واقتدار. من هنا كان هذا الحضورحضوراً فائق الأهمية، حضوراً فائق العظمة. وإنّني أتصوّر هذه المرّة أنّ هذه الانتخابات ستكون حساسيتها أكثر من الانتخابات السابقة، وذلك لأن السهام الموجودة في جعبة الاستكبار ضدّكم أيها الشعب قد انتهت، فكل ما كانوا يقدرون عليه قد فعلوه وأطلقوه، وكل ما كان بأيديهم ووصلت إليه عقولهم قد استخدموه، فهذه هي آخر سهامهم. ويجب عليكم أن تصمدوا وأن تظهروا للعدوّ إرادتكم وعزمكم بتوفيقٍ من الله وفضله، حتى يفهم أنّه لا يستطيع مقاومة هذا الشعب.
108
90
في لقاء فئات من الشعب وعوائل الشهداء والمضحّين
نسأل الله أن ينزل عليكم الخير. والله تعالى سينزل بمشيئته بركاته على شعب إيران العزيز، وعليكم أيها الشباب الأعزاء.
إنّني مرّةً أخرى أرحّب بكم جميعاً، وأعتزّ بقدومكم وخصوصاً عوائل الشهداء الأعزّاء، وخصوصاً الجرحى الأعزّاء وعوائلهم، نسأل الله بمشيئته أن يشملكم بألطافه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
109
91
في لقاء أعضاء مجلس خبراء القيادة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء أعضاء مجلس خبراء القيادة
المناسبة: لقاء أعضاء مجلس خبراء القيادة الدوري.
الحضور: أعضاء مجلس خبراء القيادة.
المكان:طهران.
الزمان: 8/3/2012م.
111
92
في لقاء أعضاء مجلس خبراء القيادة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أُرحّب بالسادة المحترمين، الخبراء الكرام والأجلّاء لنظام الجمهورية الإسلامية، وأشكرهم على ما أبدوه من مسائل في هذا الملتقى، والتي تدلّ على حساسيّتهم تجاه قضايا البلاد وأحداثها، وعلى شعورهم بالمسؤولية تجاه مستقبل هذا البلد، ونسأل الله أن يمدّنا جميعاً بالعون لكي نقوم بمسؤولياتنا الملقاة على عاتقنا بنيّةٍ خالصة. إنّ تأثير ذلك هو من الله، كما إنّ قبوله مرتبطٌ بكرمه ولطفه تعالى، لكن على كلّ منّا أينما كان أن يسعى ويبذل الهمّة للتقدّم في العمل.
الشكر للشعب على مشاركته في الانتخابات
من الضروري أن نتوجّه ـ قبل ذكر المسألة التي دوّنتها ـ إلى شعبنا العزيز بالشكر والتقدير والإجلال، لأجل مشاركته وحضوره في الوقت المناسب والفائق التأثير في هذه الانتخابات. إنّه لحقّ أنّ شعبنا العزيز قد أدّى ما عليه، واستجلب القدرة، الناشئة من الإيمان والبصيرة، إلى الميدان في مواجهة جبهة المعارضين وأعداء البلد والشعب. إنّ كل من علم بما جرى في الأشهر الماضية من مساعٍ من قبل الأعداء،، من أجل أن يُفقدوا يوم الثاني عشر من شهر إسفند1 بريقه وتألّقه، وكم أنفقوا واستعملوا وخطّطوا واختلقوا من أمورٍ في غرف التفكير من أجل أن ينقلوها إلى أذهان الشعب لتؤثّر في أدائه، سيدرك كم كانت حركة هذا الشعب عظيمةً وجبّارة وعمله كذلك.
على المرء أوّلاً أن يتوجّه بالشكر إلى الله،، لأنّه هو الذي أعطى، ولأنّ كلّ شيءٍ متعلّقٌ به وناشئٌ من إرادته ورحمته وفضله،، عندها يجب على الإنسان أن يشكر هذا الشعب من أعماق وجوده،، لأنّ هذه الرحمة الإلهية لا تتنزّل على أيّ شعبٍ أو إنسانٍ أو أمّةٍ أو بلدٍ من دون سببٍ أو وجه. نحن نقرأ في الدعاء: "اللهمّ إنّي أسألك موجبات رحمتك"، فعلينا أن نؤمّن موجبات الرحمة، وعندها ستهطل على رؤوسنا أمطار رحمة الله وفضله الفيّاضة والهادرة. لقد وفّر شعبنا موجبات رحمة الله. فحضوره في الساحة، وصموده مقابل هجمات الأعداء، وبصيرته،كلّ هذه تُعدّ موجبات للرحمة الإلهية. كما أنّ توفيق نيل هذه الموجبات متعلّق بالله تعالى أيضاً. فنحن شاكرون لله، وله نعفّر جباه الشكر بالتراب، وكذلك نشكر شعبنا العزيز بكلّ وجودنا، ونسأل الله أن يفيض عليه بالثواب الكافي والوافي.
1- اسفند: هو الشهر الأخير في السنة الهجرية الشمسيّة الإيرانية، ويوافق شهر آذار في السنة الميلادية الشمسيّة، وفي 12 اسفند أقيمت الانتخابات البرلمانية الإيرانية للعام 2012م.
113
93
في لقاء أعضاء مجلس خبراء القيادة
الانتخابات ركن النظام المهمّ
ما أريد أن أبيّنه هنا، يدور حول قضية الانتخابات. فالانتخابات ليست حادثةً عابرة، بل هي حادثة تترك بصمات تأثيرها، لهذا يجب أن نتأمّل فيها. فالانتخابات أوّلاً، هي ركن النظام المهم. فنظام السيادة الشعبية الدينية يعتمد على الانتخابات، وبدون الانتخابات لن يكون لنا مثل هذا النظام.
ومعيار الاعتماد على الشعب هو معيارٌ مشهودٌ وملموسٌ، ويمكن قياسه، وهو هذه الانتخابات. لهذا، إنّ كلّ من يعتقد بهذا النظام الإسلامي، ويكون صادقاً في اعتقاده هذا، سيعدّ المشاركة في الانتخابات مسؤوليةً ملقاة على عاتقه،، ولو أنّه يحتمل أن يكون لديه اعتراضٌ على شيءٍ في هذه الانتخابات أو شكلٍ من أشكالها، لكنّه في الوقت الذي يعترض ينزل إلى ميدان الانتخابات، فهذه وظيفةٌ وتكليف. لهذا، فإنّ كلّ من نزل إلى هذا الميدان، وفي جميع أنحاءالبلد، يكون قد أدّى تكليفه،، وقد عبّر عن فهمه الصحيح. وهذا الفهم الصحيح يدلّ على أنّ قضية الانتخابات هي قضية أساسية في النظام. ونحن لا يمكننا أن نغضّ النظر عن هذه القضية لمجرّد أنّنا نعترض على زيد أو عمرو أو على هذا الشيء أو ذاك. فمثل هذه الاعتراضات لا تحول دون هذا الأمر،، وهذه قضية أساسية وأصلية.
الانتخابات صفعة موقظة ومنبِّهة
وأحد الآثار الناجمة عن هذه الانتخابات ـ وللانتخابات في الأغلب مثل هذا الأثر ـ هو القضاء على الأوهام. فالانتخابات تشبه صفعة موقظة ومنبهة لأولئك الذين غاصوا في أوهامهم ويدورون في فلك خيالاتهم، سواء أكان فيما يتعلّق بمستقبل النظام أو أصله،، أو فيما يتعلّق بالشعب والبلد والأعداء. فالانتخابات تخرجهم من هذه الأوهام وتظهر الحقيقة جليّةً أمامهم. لقد سمعنا قبل يومين رئيس أمريكا وهو يقول "إنّنا لا نفكّر بمحاربة إيران". حسنٌ جداً، هذا جيّد، هذا كلامٌ عقلائي وخروجٌ من الوهم،، لكنّه بالإضافة قد قال "إنّنا سنُركِع شعب إيران" بحسب النقل بالمضمون ـ
وهذا وهمٌ. فالخروج من ذلك الوهم في القسم الأوّل جيّد، والبقاء في مثل هذا التوهّم في القسم الثاني سيؤدّي إلى أن يتلقّوا ضربة. فعندما تكون حسابات المرء مبنيّةً على الأوهام، وبعيدةً عن الوقائع، من الواضح أنّه سيخطّط بناءً على هذه الحسابات وسيفشل، وهذا هو بالتأكيد.
حسنٌ، ها قد مرّت سنةٌ على أنواع الحظر التي بحسب قولهم ستشلّ وتفعل ما تفعل - وبالطبع إنّنا تحت حصارٍ وحظرٍ منذ 33 سنة - وقيل إنّ الهدف هو فصل الشعب عن النظام الإسلامي،، لكنّهم رأوا أنّ الشعب قد جاء وأيّد
114
94
في لقاء أعضاء مجلس خبراء القيادة
النظام الإسلامي. إنّ انتخاب أيّ مرشّحٍ والمجيء إلى صناديق الاقتراع هو تأييدٌ وانتخابٌ للنظام الإسلامي، وهذا ما أظهره الشعب. لقد قلنا إنّ الانتخابات صفعةٌ،، ولهذه الصفعة أنواعٌ وأقسام، وأحد هذه الأنواع هو الصفعة الموقظة والمنبّهة. لهذا، فقد كان لانتخاباتنا هذه خاصّيّة توجيه الصفعة أيضاً.
الانتخابات مظهر ثقة الشعب بالنظام
النقطة الثانية التي ذُكرت بالإشارة، هي أنّ الانتخابات مظهر ثقة الشعب بالنظام. فبعد انتخابات عام 2008 م المليئة بالصخب والضجيج، كان بعض الأشخاص يتوقّع أنّ ثقة الشعب بالنظام قد سُلبت، وأنّ الناس لن يأتوا مرّةً أخرى إلى صناديق الاقتراع. وقد كانت هذه الانتخابات رداً حاسماً وقاطعاً على هذا التصوّروالاستنتاج المغلوط، والتخرّص الخاطئ. لقد قام هذا الشعب بتخطئة هذه التخرّصات، وأظهر أنّ الأمر ليس كذلك،، بل أنّه ملتصقٌ بالنظام، ويثق به ويستجيب لندائه حينما يدعوه إلى المجيء إلى صناديق الاقتراع وتقديم برنامجه.
وهكذا، نزل إلى الميدان. وكما ذكرنا، إنّ كلّ صوتٍ هو في الواقع تصويتٌ لنظام الجمهورية الإسلامية. فهذه الأكثرية القاطعة التي جاءت إلى هذا الميدان تُعتبر من أعلى النسب التي سجّلتها انتخاباتنا عبر هذه السنوات الـ 33. فبعد مرور 33 سنة، عندما يأتي الشعب بهذه النسبة، لهو دليلٌ على الثقة الكاملة.
الانتخابات مظهر بصيرة الشعب
والمسألة الأخرى التي كان الإنسان يشاهدها في هذه الانتخابات هي بصيرة الشعب، وسموّه الفكري. فالشعب قد شارك في الانتخابات برؤية تحليلية وأعطى صوته. لقد كنتم تشاهدون ذاك الشاب الذي يصوّت لأوّل مرّة، وحتى الرجل والمرأة العجوز عندما كانوا يُسألون لماذا تصوّتون، فإنّهم كانوا يُقدّمون تحليلاً، ويذكرون دليلاً، ولم يكن الأمر مجرّد انتخابات نشارك فيها. كلا، كانوا يذكرون السبب وراء تصويتهم،، ذلك لأنّ العدوّ يكمن لنا، وتلك الذئاب المتعطّشة نصبت لنا شراكها. وبمشيئة الله، أنا العبد سأقوم بتفصيل هذا الأمر في حديثٍ آخر، وكيف أنّ هؤلاء الأعداء قد كمنوا من أجل الانقضاض والافتراس، متصوّرين أنّ هذه الفريسة تشبه الحمل الوديع الذي يمكن افتراسه، وغير عالمين أنّه أسد، ولا يمكن الاقتراب منه! لقد شاهد الشعب هذه الجبهة، وهؤلاء الأعداء، وأدركوا أهدافهم وجبهتهم المعاندة، لهذا جاؤوا ببصيرةٍ ورؤية تحليلية،، وهذا مهمٌ جداً.
115
95
في لقاء أعضاء مجلس خبراء القيادة
المسؤوليّة الثقيلة على عاتق مجلس الشورى
والنقطة الأخرى التي تترتب على هذه الانتخابات هي المسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتق هذا المجلس المنتخب. لقد كان الأمر كذلك دوماً، فرؤساؤنا المنتخَبون من قِبَل الشعب، وكل مسؤولٍ في أي مستوىً كان - وهو منتخبٌ من قبل الشعب - يكون عبء المسؤولية على عاتقه بمقدار ثقل. ففي مثل هذه الظروف، ومع هذا الصخب الذي يثيره العدوّ، وبمجيء الناس إلى هذا الميدان، فإنّ المجلس الذي سيتشكّل من جرائها هو مجلسٌ يتحمّل مسؤوليات جمّة. ونحن من هنا سنقول للإخوة والأخوات الذين سيأتون إلى هذا المجلس إن شاء الله ـ أولئك الذين انتُخبوا، وأولئك الذين سيُنتخبون في المرحلة الثانية ـ أنّ عليهم أن يعلموا حجم المسؤولية وثقلها الملقى على عاتقهم، فليأتوا ويؤدّوا ما عليهم بحكمةٍ وتدبير.
تنظيم القوانين
أهميّة البلد بتنظيم قوانينه (التشريعات)،، فنحن نحتاج إلى التشريعات التي تشقّ السبل في كلّ القضايا. وعلى نوّاب المجلس أن يتطلّعوا إلى هذه الحقيقة ويتعرّفوا على الاحتياجات، ويقدّموا للمسؤولين ذاك العلاج المناسب لكلّ داء أو شكايةٍ.
فالقانون يجب أن يكون نافذاً، وحلّالاً للمشاكل. إنّ القانون الذي يسدّ الطرق ويزيد المشاكل، أو لا يمكن تنفيذه، أو يؤدي إلى مشاكل كثيرة، أو يكتنف تناقضاً،لا فائدة منه.
نعلم أن القانون هو الذي يكون حلّالاً للمشاكل، وقائماً على التدبير. فلا يكفي أن نجلس ونعدّ القوانين.
تشكيل الحكومة
إنّ تشكيل الحكومات يقع على عاتق المجالس. وعليهم أن يعرفوا في تعييناتهم كيف ينتخبون الشخص، وفق أيّة حاجة، وأيّ مقصد، وأيّة مزايا وخصائص. فليُدقّقوا وليُنصفوا. نحن لا نوصي بالتدقيق حتى لو لم يكن في الأمر إنصاف، حيث قد يحصل هذا الأمر أحياناً، بل ليُدقّقوا بما يتلازم مع الإنصاف،، وليتحرّكوا بوعيٍ مقرون بالإخلاص. فالإخلاص هو أساس كل قضية. وقد أشار السيد مهدوي في كلمته أنّ نفوذ كلمة الإمام وتحقّق ما كان قد خطّط له يعود بالدرجة الأولى إلى إخلاصه. فالواقع هو هذا الأمر. لقد كان رجلاً مخلصاً امتزج وجوده بالإخلاص. لو كنّا نحن
116
96
في لقاء أعضاء مجلس خبراء القيادة
مُخلصين فإنّ أعمالنا ستتقدّم. وسواء كنّا مسؤولين في السلطة التشريعية أو القضائية أو كنّا في المقامات الروحانية (العلمية) أو العسكرية أو في أيّ منصبٍ آخر، فإنّ ما هو ضروريّ هو أن نتعرّف على التكليف ونعمل من أجل تكليفنا، وأن لا نُدخل فيه أيّ شيءٍ آخر.
الشكر للعاملين على الانتخابات
وبالطبع، إنّني أشكّر العاملين على الانتخابات. وقد أشار الشيخ اليزدي إلى أنّ الشكر قد توجّه إلى مجلس الصيانة. والواقع هو هذا الأمر. فعندما يتعرّف الإنسان عن قرب على حجم العمل ودقّته وصعوبته، فإنّ تكريم هؤلاء الأفراد يستقرّ في قلبه. إنّني أقول لجناب الشيخ جنّتي، وبعض السادة، أنّني عندما أتذكّر ما قمتم به من عمل، فإنّ تكريمكم يقع في قلبي. مراراً وتكراراً دَعَوْنا أن يهبهم الله القوّة والقدرة: سواء أكانوا هم أو الحكومة أو وزارة الداخلية أو مسؤولي الحماية والأمن، الذين استطاعوا توفير أمن الانتخابات، وكذلك مسؤولي الإعلام والتلفزيون والإذاعة وغيرهم. لقد قام هؤلاء في الواقع بأعمالٍ عظيمة ومميّزة،، لقد تمكّنوا من أداء ما عليهم من مسؤوليةٍ كبرى وعملٍ عظيم ومشروعٍ ثقيلٍ جداً ومهم وحيوي على أفضل وجهٍ. حسنٌ، هذا هو أنموذجنا: أنموذج السيادة الشعبية الإسلامية.
السيادة الشعبيّة بين النظرة الإسلاميّة والنظرة الغربيّة
في السيادة الشعبية الإسلامية1، إنّ الروح واللب والمادّة الأساسية عبارة عن الإسلام، ولا ينبغي تخطّي هذا الأمر أبداً، وهذا غير موجود، وإن شاء الله لن يكون موجوداً. ففي إعداد التشريعات واختيار الأفراد يكون الإسلام معيارنا. إنّ شكل العمل وقالبه ونهج الإدارة هو السيادة الشعبية. فالناس الذين يدخلون إلى ساحات العمل يحملون عقيدةً راسخةً بالإسلام، ولو كان من الممكن أن يبدو لبعضهم بحسب الظواهر أنّهم ليسوا ملتصقين بالإسلام والنظام الإسلامي، ولكنّهم في الواقع كذلك، وهم يحبّون الإسلام.
1- السيادة الشعبية الإسلامية: (بالفارسية مردم سالاري ديني) مصطلح جديد أطلقته القيادة الإيرانية على هوية نظام الحكم والجمهورية الإسلامية الحالية، وهو منبثق من تعاليم الدين الإسلامي ورؤيته في الحكم والدولة، ويقوم على مبدأ ولاية الفقيه ودور الشعب في اختيار مسؤولية وممثليه باستثناء الولي الفقيه.
117
97
في لقاء أعضاء مجلس خبراء القيادة
إنّ تجربة هذه السنوات الـ 33 تدلّ على أنّ الإسلام يمكنه أن يمنح العزّة لأيّ بلد، ويمكن أن يرفع رأس أي شعب، ويمكن أن يرسم أهدافاً جيدّة، ويمكن أن يُعبِّد الطرق نحو هذه الأهداف، ويمكن أن يوجد حركةً علميّة، ويمكن أن يُحقّق حركةً تقنية وصناعية، ويمكن أن يوجد حركةً تقوائية وأخلاقية، ويُمكِن أن يُبيِّض وجوههم في مقابل الشعوب الأخرى، هذه أحداثٌ جرت في بلدنا، وهذه أعمالٌ كبرى أُنجزت ببركة الإسلام في هذا البلد،، فالإسلام دوماً هو لبّ حركة نظامنا ومحتواه ومادّته الأساسية، أمّا الشكل فهو شكل السيادة الشعبية، وهما أمران لا تفكيك بينهما،، أي إنّ هذه السيادة الشعبية هي أيضاً نابعة من الإسلام. إنّ ما يُقال بأننا اقتبسنا السيادة الشعبية من الغرب هو خطأٌ،، إنّ الصورة بحسب الظاهر واحدة. أمّا سيادتنا الشعبية فلها أصولٌ وجذورٌ تمتدّ في معرفةٍ دينية ورؤية كونية مختلفة،، فماذا يقول هؤلاء؟ إنّنا نؤمن بكرامة الإنسان ونعتقد بأهمية صوته، ونعتقد بأنّ مشاركته أمرٌ ضروري لتحقّق الأهداف الإلهية، ولا يمكن ذلك بدونها.
أمّا الغربيون فإنّهم يعملون بطريقةٍ أخرى - وبالطبع، لدينا أُطر ولديهم أُطرٌ كذلك - إنّ الأُطر التي يتحرّكون وفقها هي أُطرٌ ظالمة،، إذا اعترض أحدٌ في بلدٍ على أسطورة الهولوكوست (المَحْرَقَة) وقال إنّني لا أقبل بذلك، يرمونه في السجن، ويُدينونه على إنكاره لحادثةٍ خياليةٍ تاريخية! وحتى لو قلنا بأنّها ليست خيالية بل واقعية، فلماذا يُعدّ إنكار حادثةٍ تاريخيةٍ واقعيةٍ جُرماً؟! فلو لم يثبت لشخصٍ ما مثل هذا، وأنكره أو شكّك فيه، فإنّهم يرمونه في السجن. الآن، في الدول التي تدّعي الحضارة في أوروبا، هكذا هي القضية: لو اعترض أحدٌ أو شكّك ولم يقبل (بقضية الهولوكوست)، فإنّ المحاكم تحكم عليه، أمّا عندما تتمّ إهانة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بصلافة - هذا الإنسان العظيم على مرّ التاريخ - ويتم إهانة مقدّسات أكثر من مليار ونصف مليار مسلم، لا يحقّ لأحد أن يعترض ويقول لماذا قمتم بهذا العمل؟ فانظروا هذه هي الأُطر الخاطئة والمشينة، هذه هي أُطرهم. لو أنّ واحدةً ظهرت بحجابها ـ سواء أكان في الجامعة أو في مكان العمل ـ تكون مجرمة! هذه أُطرٌ في النهاية، لكنّها أُطرٌ خاطئة ومعوجّة، ومخالفة لفطرة الإنسان ولفهمه الصحيح. أمّا أُطرنا فهي أُطرٌ إلهية،، فنحن نعارض الفساد والفحشاء وجميع أنواع وأقسام الانحرافات البشرية، وذلك وفق ما نتعلّمه من الشريعة والدين. نحن نعتقد بضرورة الوقوف بوجه هذه الانحرافات، وبوجوب استلهام طرق الحياة من الإسلام والقرآن والوحي الإلهي. هذا هو إطارنا، وبهذا تكون السيادة الشعبية الدينية، وهذا هو أنموذجنا.
إنّ تجربة هذه السنوات الـ 33 تدلّ على أنّ الإسلام يمكنه أن يمنح العزّة لأيّ بلد، ويمكن أن يرفع رأس أي شعب، ويمكن أن يرسم أهدافاً جيدّة، ويمكن أن يُعبِّد الطرق نحو هذه الأهداف، ويمكن أن يوجد حركةً علميّة، ويمكن أن يُحقّق حركةً تقنية وصناعية، ويمكن أن يوجد حركةً تقوائية وأخلاقية، ويُمكِن أن يُبيِّض وجوههم في مقابل الشعوب الأخرى، هذه أحداثٌ جرت في بلدنا، وهذه أعمالٌ كبرى أُنجزت ببركة الإسلام في هذا البلد،، فالإسلام دوماً هو لبّ حركة نظامنا ومحتواه ومادّته الأساسية، أمّا الشكل فهو شكل السيادة الشعبية، وهما أمران لا تفكيك بينهما،، أي إنّ هذه السيادة الشعبية هي أيضاً نابعة من الإسلام. إنّ ما يُقال بأننا اقتبسنا السيادة الشعبية من الغرب هو خطأٌ،، إنّ الصورة بحسب الظاهر واحدة. أمّا سيادتنا الشعبية فلها أصولٌ وجذورٌ تمتدّ في معرفةٍ دينية ورؤية كونية مختلفة،، فماذا يقول هؤلاء؟ إنّنا نؤمن بكرامة الإنسان ونعتقد بأهمية صوته، ونعتقد بأنّ مشاركته أمرٌ ضروري لتحقّق الأهداف الإلهية، ولا يمكن ذلك بدونها.
أمّا الغربيون فإنّهم يعملون بطريقةٍ أخرى - وبالطبع، لدينا أُطر ولديهم أُطرٌ كذلك - إنّ الأُطر التي يتحرّكون وفقها هي أُطرٌ ظالمة،، إذا اعترض أحدٌ في بلدٍ على أسطورة الهولوكوست (المَحْرَقَة) وقال إنّني لا أقبل بذلك، يرمونه في السجن، ويُدينونه على إنكاره لحادثةٍ خياليةٍ تاريخية! وحتى لو قلنا بأنّها ليست خيالية بل واقعية، فلماذا يُعدّ إنكار حادثةٍ تاريخيةٍ واقعيةٍ جُرماً؟! فلو لم يثبت لشخصٍ ما مثل هذا، وأنكره أو شكّك فيه، فإنّهم يرمونه في السجن. الآن، في الدول التي تدّعي الحضارة في أوروبا، هكذا هي القضية: لو اعترض أحدٌ أو شكّك ولم يقبل (بقضية الهولوكوست)، فإنّ المحاكم تحكم عليه، أمّا عندما تتمّ إهانة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بصلافة - هذا الإنسان العظيم على مرّ التاريخ - ويتم إهانة مقدّسات أكثر من مليار ونصف مليار مسلم، لا يحقّ لأحد أن يعترض ويقول لماذا قمتم بهذا العمل؟ فانظروا هذه هي الأُطر الخاطئة والمشينة، هذه هي أُطرهم. لو أنّ واحدةً ظهرت بحجابها ـ سواء أكان في الجامعة أو في مكان العمل ـ تكون مجرمة! هذه أُطرٌ في النهاية، لكنّها أُطرٌ خاطئة ومعوجّة، ومخالفة لفطرة الإنسان ولفهمه الصحيح. أمّا أُطرنا فهي أُطرٌ إلهية،، فنحن نعارض الفساد والفحشاء وجميع أنواع وأقسام الانحرافات البشرية، وذلك وفق ما نتعلّمه من الشريعة والدين. نحن نعتقد بضرورة الوقوف بوجه هذه الانحرافات، وبوجوب استلهام طرق الحياة من الإسلام والقرآن والوحي الإلهي. هذا هو إطارنا، وبهذا تكون السيادة الشعبية الدينية، وهذا هو أنموذجنا.
118
98
في لقاء أعضاء مجلس خبراء القيادة
لو أنّ الشعوب المسلمة أرادت أن تعرف ما هو خطاب الجمهورية الإسلامية وادّعاؤها فلتعلم أنّ هذا هو: أنّنا لا نتخلّى عن الإسلام، ونرى وجوب اتباعّ الأحكام الإلهية والشريعة الإلهية التي هي الشريعة الإسلامية في جميع أمور حياتنا، وإنّ سعينا هو لأجل أن نصل إلى هذا الهدف، وإنّ إطارنا وقالبنا من أجل الدخول في هذا الميدان هو السيادة الشعبية الدينية. وعلى الشعب أن يحضر للانتخاب، وعلى المُشرِّع الذي يريد أن يضع تشريعاً أن يتوجّه إلى الناس. فعلى الناس أن يُحدّدوا المنفّذ،، فكلّ شيءٍ هو بانتخاب الشعب وحضوره وبعزّته وكرامته.
نأمل أن يُوفّقنا الله تعالى لكي نستمرّ على هذا الطريق بشكلٍ صحيح، وأن نصون أنفسنا من الانحرافات ونتمكّن بمشيئة الله من الوصول إلى الأهداف العليا، وتشملنا الأدعية الزاكية لبقية الله أرواحنا فداه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
119
99
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
المناسبة: بداية العام الإيراني الجديد 1391هـ .ش.
الحضور: حشودٌ غفيرة من أهالي مشهد المقدّسة، وزوّار الإمام الرضا عليه السلام.
المكان: مشهد المقدّسة.
الزمان: 20/3/2012م.
121
100
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبينّا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين.
أشكر الله المتعال من أعماق القلب أن أتاح لنا الفرصة ووفّقنا مرّة أخرى ولسنة أخرى، للّقاء بكم أيّها الشعب العزيز، الشباب الأعزّاء، سواء أهل مشهد ومجاوريها، أو الزوّار المحترمين من الأخوة والأخوات، في المشهد المقدّس للإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السلام، وللتبرّك في اليوم الأوّل من السنة بالجلوس في ظلّ حرم هذا العظيم ومرقده المبارك.
أبارك لكم عيد النوروز وحلول السنة الجديدة، وأرجو أن تكون هذه السنة التي دخلناها لكلّ الشعب الإيراني سنة خير، ويسر وسعادة، ونشاط وفعالية، وتوفيق في طريق كسب المعارف الحقّة، والتقوى الإلهيّة.
سأتناول في هذا اللقاء ـ أيّها الإخوة والأخوات ـ عدّة مواضيع:
الموضوع الأوّل: إطلالة مختصرة على ما جرى العام الماضي معنا ومع شعبنا وفي بلدنا، وما جرى من أحداث في العالم والمنطقة وهو على علاقة بنا. والسبب في تناولي لمجريات العام 1390هـ.ش. (الموافق للعام 2011م تقريباً) - وخاصّة نجاحات الشعب الإيراني في هذا العام - هو تهويلات الأعداء والمتربّصين بنا.
"نحن قادرون" شعار علّمنا إيّاه الإمام
لقد سعى قادة الاستكبار، المتربّعون على عرش المال والقوّة، وكذا أزلامهم في منطقتنا، بكلّ قواهم ـ الماليّة، الإعلاميّة والدعائيّة، والسياسيّة ـ إلى إرعاب الشعب الإيراني، وبثّ اليأس في نفوس أبنائه.
إنّ المتتبّع للتبليغات الدعائيّة السياسيّة التي يروّجها أعداء الشعب الإيراني يجد أنّ كافّة المساعي العمليّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة، والتهديدات الأمنيّة والعسكريّة، كلّها لمنع هذا الموجود الفعّال، والحيّ، والمفعم بالنشاط والهمّة المقتدرة، أعني شعب إيران الحاضر بشجاعة تامّة في الميدان، والسائر قُدُماً في التطوّر، أن ييئسوه، أن يخوّفوه من التواجد في هذا الميدان. في الحقيقة، يريدون في مقابل شعار "نحن نقدر" الذي علّمنا إيّاه الإمام الخميني العظيم، والذي جعلتنا الثورة نجرؤ على قوله، أن يقنعوا الشعب الإيراني أنّكم "غير قادرين"،، إنّهم يسعون بكلّ ما أوتوا لتحقيق هذا الهدف. كان العام 1390 ذروة فعاليّاتهم. وأنا أريد التركيز على هذه المسألة، فرغم أنوفهم، أثبت الشعب الإيراني في العام 1390 للعالم أجمع - ومن
123
101
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
جملتهم الأعداء - مراراً وتكراراً من خلال أفعاله، وتقدّمه، ومواقفه "نحن قادرون".
إنّنا نركّز على الايجابيّات ونقاط القوّة لإثبات أنّ الشعب الإيراني قد استفاد من هذه القدرات، وأنّ الشعب الإيراني قد أثبت قدرته رغم توق الأعداء إلى إثبات عدمها. لسنا غافلين عن نقاط الضعف، لدينا أيضاً نقاط ضعف،، لكن في التصنيف النهائي، فإنّ نقاط قوّتنا تفوق نقاط ضعفنا بكثير.
مشروع ترشيد الدعم الحكومي1
لقد أعلنّا العام 1390 عام "الجهاد الاقتصادي"،، لذا سأشرع بالمسائل الاقتصاديّة. فالنشاط الاقتصادي لمسؤولي البلاد على امتداد العام الماضي1390 - بمشاركة الشعب الذي يضرب به المثل ويستحقّ الثناء - جدير بالذكر،، من جملة ما يمكن ذكره في هذا المجال، مسألة ترشيد الدعم. لقد اتّفق جميع الخبراء الاقتصاديّين، سواء في الحكومات السابقة، أم في الحكومة الحاليّة، على أنّ ترشيد الدعم يشكّل حاجةً وضرورةً للبلد، وقد أقرّ الجميع بذلك. وعلى الرغم من اتفاق الجميع على هذه الأمر، إلّا إنّ هذا الإجراء اللازم بقي دون تطبيق للصعوبات الكامنة فيه، والتعقيدات المترافقة معه. لقد جدّت الحكومة والمجلس النيابي في العام 1390- عام فرض العقوبات - في ظروف زادت فيها صعوبات هذا الأمر وتعقيداته عن أيّ وقت، وباشرت، وطوت مراحل هامّة من هذا العمل. لم يُنجز العمل بالكامل،، إلّا إنّ ما قام به مسؤولو البلاد إلى الآن ـ سواء في الحكومة أو في المجلس النيابي ـ ودعم الشعب ومؤازرته ومشاركته الذي جعل النجاح قرينهم، هو غاية في الأهمّية ولافت للنظر.
أهداف ترشيد الدعم الحكومي
الأهداف الأساسيّة لهذا القانون، عبارة عن عدّة أمور أساسيّة أشير إليها. وقد سمع بها أفراد شعبنا العزيز، لكن ينبغي لهم التأمّل والتعمّق.
أ-العدالة في التوزيع
هذا العمل "العدالة في التوزيع" عملٌ عظيم، عملٌ هامّ. أحد أهداف هذا القانون التوزيع العادل للدعم الذي يقدّمه النظام والحكومة للشعب. لقد بيّنا في كلام سابق أنّ الدعم كان يُقسّم دائماً بنحو غير متكافئ، وغير عادل بين طبقات الشعب المختلفة،،
1- ترشيد الدعم الحكومي: برنامج اقتصادي ـ اجتماعي، يهدف إلى تأمين وصول الدعم الحكومي إلى مختلف فئات الشعب، وخاصة الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وإلى توجيه دعم الحكومة لإنتاج السلع الأساسية داخلياً كالبنزين والمشتقات النفطية.
124
102
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
وهذه طبيعة الدعم العامّ. في ترشيد الدعم، جرى في الواقع تكافؤ، وتطبيق للعدالة في التقسيم والتوزيع. ولديّ تقارير موثّقة من كافّة أنحاء البلاد تحكي عن الدور المؤثّر لهذا العمل في تحسين أوضاع الطبقات ذات الإمكانيات المحدودة. هذا واحد من الأهداف، والذي هو الهدف الأهمّ لهذا القانون.
ب- إصلاح بنية الإنتاج
هناك هدف آخر هو إصلاح بنية الإنتاج في البلاد وأسس اقتصادها. لقد كانت دورة الإنتاج في البلاد دورةً غير سليمة. ما كنّا نحصل عليه في الدورة الإنتاجية في البلاد، كان يتحصّل عن طريق بذل نفقات ومخارج تفوق بكثير المردودات والأرباح. طبقاً لتشخيص خبراء الاقتصاد ـ وهم متفّقون عليه ـ يمكن لترشيد الدعم إصلاح هذا الأمر،، إيقاف زيادة الإنفاق على المردود، وتكافؤ النفقات والأرباح في عمليّة الإنتاج.
ج- إدارة استهلاك مصادر الطاقة
هدف آخر هو إدارة استهلاك مصادر الطاقة. فحيث إنّ بلدنا بلد زاخر بالنفط، اعتدنا منذ البداية على استهلاك البنزين، والغاز، والغازوئيل، والنفط الأبيض من دون رويّة. لقد كان استهلاكنا لهذه المواد أكثر ـ وربّما فاق بمعنىً ما استهلاك جميع الدول ـ من بلدان كثيرة، وبنحو عشوائيّ. ترشيد الدعم هذا، أدّى إلى ترشيد استهلاك مصادر الطاقة. تشير الدراسات المنتشرة والإحصاءات القائمة المعتبرة، أنّه لو لم يُطبّق قانون ترشيد الدعم إلى اليوم، لبلغ استهلاك البنزين في البلاد ضعفي ما هو مستهلك اليوم. عندما يفوق استهلاك البنزين الإنتاج المحلّي، ماذا سيُحتَّم علينا؟ علينا أن نستورد البنزين،، أي أن نضع يد الشعب الإيراني تحت حدّ سيف المتربّصين بنا والأعداء. لقد تمّ الاقتصاد في المصرف من خلال هذا العمل. وإنّ استهلاك البنزين في البلاد اليوم يساوي الإنتاج المحلّي له تقريباً،، لسنا بحاجة إلى استيراد البنزين،، وهذا امتياز عظيم بالنسبة للبلاد. هذا الأمر أنجز في العام 1390، في الوقت الذي فرض فيه أعداؤنا عقوبات علينا،، من أجل أن يركعوا الشعب،، لكنّ شباب هذا الشعب جدّوا واجتهدوا واستطاعوا بهذه الأعمال إفشال خطّط الأعداء ومؤامراتهم.
العلم والتقانة
ميدان آخر من الميادين الاقتصاديّة الهامّة التي أنجزت في العام 1390 بهمّة هذا الشعب، هو ميدان العلم والتقانة العلم والتقانة ركن من أركان القوّة الاقتصاديّة لشعب ما. إنّ شعباً يمتلك العلم المتطوّر، والتقنيّة المتطوّرة، سوف يصل إلى الثروة، والاستغناء السياسي، كما سينال الاحترام، وسيصبح صاحب يد طولى. ولأنّ مسألة
125
103
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
التطوّر العلمي والتقني مسألة مفصليّة، فإنّي حسّاس جدّاً تجاهها. تصلني بشكل مستمرّ من طرق مختلفة، وقنوات متنوّعة، تقارير مختلفة، ويمكنني الجزم بشكلٍ قاطع، أنّ مستوى تطوّر البلاد هو أكثر بكثير ممّا يعرفه الناس إلى الآن.
التطوّر العلمي السريع
طبقاً لتقارير المراكز العلميّة المعتبرة في العالم ـ هذا التقرير ليس صادراً عن مراكزنا العلميّة ـ إنّ أسرع تطوّر علمي في العالم، يحصل اليوم في إيران. تفيد تقارير المراكز العلميّة المعتبرة أنّ التطوّر والتقدّم العلميين لدى الشعب الإيراني في العام 1390 الذي انقضى منذ حوالي ثلاثة أشهر ـ قد زاد 20 % عن العام السابق، ما معنى هذا؟ هذا ما حقّقه الشعب الإيراني في الظروف التي كان يراهن فيها أعداؤه على سقوطه، ويقولون إنّنا نفرض عقوبات من شأنها أن تشلّ الشعب الإيراني.
إيران الأولى علميّاً في المنطقة
تفيد التقارير ـ وهذه أيضاً تقارير المراكز العلمية المعتبرة في العالم ـ أنّ إيران تقع في المرتبة الأولى في المنطقة على المستوى العلمي، والسابعة عشر على المستوى العالمي. هذا تقرير أشخاص لو أمكنهم تقديم تقارير معاكسة ضدّنا لما امتنعوا،، هكذا يعترفون. في العام 1390 تقدّمنا في مجال التقانة، تقدّمنا في تكنولوجيا النانو، في سبر الفضاء ـ حيث أُطلق القمر الصناعي "نويد" ـ تقدّمنا في الصناعات النوويّة، حيث كان التخصيب بنسبة 20% من إنجازات العام 1390. هذا التخصيب بنسبة 20% هو نفسه الذي كان الأميركيّون والآخرون يضعون الشروط لإنتاجه عام 1389. كان ينبغي علينا توفير الأورانيوم المخصّب بنسبة 20% لمركز طهران الذرّي المخبري الخاصّ بالأدوية الإشعاعيّة،، لأنّ الوقود المخصّب بهذه النسبة قد نفد لدينا. لقد اشترطوا للقيام بهذا الأمر إرسال اليورانيوم الذي أنتجناه إلى الخارج،، ولكنّنا لم نقبل. لقد أرسل الأميركيّون وسطاء للبحث معنا ومقاربة الموضوع،، للتوصّل إلى توافق، فقبلنا. جاء المسؤولون الأتراك والبرازيليّون، جلسوا مع رئيس جمهوريّتنا، وتباحثوا الموضوع، ووقّعوا على إتفاقيّة. وبعد أن أُمضيت تلك الاتفاقيّة تراجع الأميركيّون عن أقوالهم! لم يكونوا يريدون لهذه الاتفاقيّة أن تُقرّ،، كانوا يريدون الحصول على امتيازات كبيرة، أن يمارسوا التهديد والابتزاز. أُحرجت كلّ من البرازيل وتركيّا جرّاء الوعد الذي نكثت به أميركا.هذه كانت قصّة الـ 20 % من اليورانيوم المخصّب.
على الرغم من كلّ هذه المشاكل، وهذه الذرائع، قال شبابنا نحن نتصدّى للمسألة. فأنتجوا في العام 1390 الأورانيوم المخصّب بنسبة 20% لموقع طهران النووي،
126
104
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
وأعلنوه إلى العالم،، بقي أعداؤنا متحيّرين! وعلى الرغم من علمهم أنّ مركز طهران النووي مختص بالأدوية الإشعاعيّة ـ أي هو لسدّ احتياجات مستشفياتنا ومختبراتنا في سائر أنحاء البلاد ـ ومع ذلك لم يعطوا، لم يبيعوا، وكانوا يضعون الشروط، ويمارسون الابتزاز. لقد قام شبابنا بسدّ هذه الحاجة. كان الأمر معقّداً، لكنّهم استطاعوا ذلك، ويتمّ الآن إنتاج أنواع الأدوية الإشعاعيّة في مركز طهران هذا عن طريق الوقود المحلّي. هذا من إنجازات العام 1390.
إنتاج صفائح الطاقة النوويّة
في العام 1390، وفي قطاع إنتاج الطاقة النوويّة نفسها، تمّ إنتاج صفائح (قضبان) الوقود النووي في البلاد،، وإذا أردت شرح الأمر، سيستغرق ذلك الكثير من الوقت. والخلاصة، أنّه في الوقت الذي كان يتمّ الحديث فيه عن تبادل اليورانيوم المنتج محلّيّاً، كانوا يقولون، فلتسلّموا اليورانيوم المخصّب بنسبة 3،5% إلى روسيا، ترفع روسيا من نسبة تخصيبه إلى 20%، تسلّمه إلى فرنسا، تعدّ فرنسا بدورها صفائح الوقود، ومن ثمّ تسلّمه لكم،، أي من هالك إلى مالك! قال شبابنا وعلماؤنا: نحن نصنع صفائح الوقود هذه بأنفسنا،، جدّوا، صنعوا، قدّموا تقريراً، وبيّنوه. وكان هذا من إنجازات العام 1390.
ارتفاع نسبة الأدوية المستحدثة ستّة أضعاف، زيادة صادرات البضائع وخدمات العلوم البنيوية،، هذه جميعاً مرتبطة بالعام 1390. هذا بعض من إنجازات "عام الجهاد الاقتصادي". هذه التطوّرات العلمية، والتطوّرات التكنولوجية، تدلّ على قوّة البلاد العلمية، ولكن لها تأثيراً مباشراً على اقتصاد البلاد، وهذا هو الجهاد الاقتصادي.
الخصائص التي يتميّز بها علماء البلاد
قمت في نهاية العام 1390 ـ الأسبوع الفائت ـ بجولة تفقّديّة على مختبر صناعة النفط. يشاهد المرء هناك أموراً، يرى نظائرها في بعض الجولات التفقّديّة الأخرى، في المختبرات العلميّة المختلفة للبلاد، ويصل إلى النتيجة التالية: أنّ ما رآه ليس استثناءً، إنّه قاعدة. هذه الظواهر الهامّة، إذ لم يكن شعبنا يوماً ليرى هذه التطوّرات حتى في الأحلام، تحقّقت وتحوّلت إلى قاعدة.
أولاً: الروحانية الجهادية
أذكر لكم بعض هذه الخصائص والظواهر التي شاهدتها هناك. في الدرجة الأولى الروحيّة والفكر الجهادي الذي كان حاكماً على المجموعة. تلك المجموعة من العلماء
127
105
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
كانت تعمل بروحيّة جهاديّة، وكأنّهم كانوا يؤدّون فريضة الجهاد، وكأنهّم في ساحة الجهاد في سبيل الله. يختلف الأمر بين أن يعمل المرء من أجل تحصيل المال أو المقام أو الشهرة أو فقط من أجل العلم بحدّ ذاته، وبين أن يعمل بعنوان الجهاد في سبيل الله، ويسعى في سبيل الله. هذه الروحيّة حاكمة على هذه المجموعة ومجموعاتنا العلميّة، وهذا في غاية الأهميّة.
ثانياً: العقوبات فرصة
الخاصيّة الثانية، أنّني وجدت علماءنا هؤلاء يرون في هذه العقوبات المفروضة على شعبنا فرصةً. خلال هذه الجولة التفقّديّة الطويلة، قال لي عدّة أشخاص: الحمد لله أن فرضوا علينا العقوبات،، لقد عدنا إلى رشدنا، راهنّا على أنفسنا، انطلقنا من تلقاء أنفسنا. روحيّة الإحساس بكون عقوبات الأعداء فرصةً غاية في الأهميّة،، لذا، أُخذ الإنتاج الداخلي على محمل الجدّ، أُتيحت الفرص أمام الشباب، وفُتحت الطرق أمام الابتكارات والإبداعات، وهكذا يسير العمل بنحو متّسق، يتدفّق كنبع فوّار.
ثالثاً: الثقة بالنفس
الخاصيّة الثالثة، أنّني وجدت فيهم ثقة عالية بالنفس. بعض أنواع صناعة النفط منحصرة فقط بـ3 أو 4 دول من دول العالم،، إنّهم لا يجيزون لشخص آخر معرفة أسرار هذه الصناعات وتقنيّتها. وكان بلدنا أيضاً على امتداد تلك السنوات الطويلة، في مجال أمثال هذه الأعمال المعقّدة والهامّة، يطلب منهم دوماً، ويأخذ منهم، ويدفع لهم الأموال. رأيتهم يشمّرون عن سواعد الهمّة ويقولون "نحن نقدر"، نحن نقوم بهذا العمل، نحن نصنع. هذه الثقة بالنفس لدى شعب ما، لدى علماء شعب ما، وشباب شعب ما، هامّة جدّاً.
رابعاً: الشباب العلماء
خاصيّة أخرى موجودة هي النزعة الشبابيّة، فالعمل بيد الشباب، والخبرة بالأمور بيد الشباب. الشباب مركز الإبداع، ومركز الخلاقيّة والابتكار.
خامساً: ارتباط الصناعة بالجامعة
خاصيّة أخرى أيضاً، هي ارتباط الصناعة بالجامعة،، والتي هي من الأمنيات القديمة لي. ودائماً كنت أوصي مسؤولي الأقسام المختلفين العاملين في الحكومات السابقة بالسعي لإيجاد الارتباط بين الصناعة والجامعة. ولحسن الحظّ وجدت هنا أنّ الارتباط قد تمّ بين الصناعة والجامعة. بالطبع، ينبغي لهذا الأمر أن يُعمّم، وأن
128
106
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
ترتبط صناعاتنا كافّة بالجامعات، وترجع إليها،، وبهذا يتطوّر علمنا، وكذا صناعتنا. لقد وجدت هذه الخاصّيّة هناك، ولكنّها ليست مختصّة بمركز النفط العلمي والتقنيّ هذا،، شاهدتها في جولات تفقّديّة أخرى. وهذا يدلّ على أنّ القاعدة في هذا البلد تجري على هذا النحو،، الحراك على مثل هذا النحو.
كان هذا الجانب الاقتصادي في العام 1390، العام الذي علت من أوّله إلى آخره أصوات أعداء الشعب الإيراني والمتربّصين به،، أحياناً كانوا يهدّدون، وأحياناً يمارسون الضغوط السياسيّة، وأحياناً يفرضون العقوبات. يسعى موظفو الحكومة الأميركيّة اليوم في كافّة أنحاء العالم لتطبيق هذه العقوبات، ظنّاً منهم أنّهم بذلك يوجّهون ضربةً للشعب الإيراني، ويوجدون شرخاً بين الشعب الإيراني ونظام الجمهوريّة الإسلامية.
الدبلوماسيّة النشطة
في العام 1390 كانت هناك أيضاً إنجازات كبرى أخرى،، من جملتها الدبلوماسيّة النشطة في شؤون المنطقة. فمؤتمر الصحوة الإسلاميّة، ومؤتمر فلسطين، ومؤتمر نزع السلاح، ومؤتمر العالم من دون إرهاب، ومؤتمر شباب الصحوة الإسلاميّة، كانت أنشطة تمّت في طهران،، لقد أصبح نظام الجمهوريّة الإسلاميّة مركز اهتمام عالم الإسلام الذي قد صحا.
الخدمات العامّة
في مجال الخدمات الاقتصاديّة، بُنيت عشرات الآلاف من البيوت ووُضعت في تصرّف الناس. هذه الإحصاءات، إحصاءات كبيرة،، إحصاءات مهمّة. لقد بُنيت المساكن الريفيّة، شُقّت الطرقات، والجادّات والأوتوسترات السريعة. وهذه طليعة الخطّة العشريّة للتطوّر والعدالة. لقد قلنا إنّ هذه العشريّة "عقد التطوّر والعدالة"1 سوف تُنجز، وهذه طليعتها. لقد طوينا ثلاث سنوات من هذه العشريّة. في مواجهة هؤلاء الأعداء، والمتربّصين الحقودين والخبثاء، استطاع هذا الشعب الفعّال والمفعم بالنشاط أن يحدث هذه الانجازات.
1- الخطّة العشريّة للتطور والعدالة التي أطلقت العام 1388هـ.ش.(2009 م).
129
107
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
الانتخابات وسيلة إعلاميّة ضخمة
مثّلث انتخابات الثاني عشر من شهر إسفند جانباً عظيماً من فعاليّات الشعب الإيراني الجديرة بالمدح في العام 1390. أقول هنا طبعاً، أنّ الانتخابات لم تنتهِ بعد،، وعلى شعبنا أيضاً في المرحلة الثانية من الانتخابات أن يظهر - بعونه تعالى - العظمة والجمال نفسيهما. لقد كان لهذه الانتخابات أهميّة كبيرة. أقول لكم، وقد قلت لكم سابقاً، لقد سعى هؤلاء جهدهم منذ حوالي الستة أشهر ليجعلوا الناس تتعامل مع مسألة الانتخابات بتراخٍ،، فحيناً قالوا يحصل التزوير في الانتخابات، وحيناً قالوا إنّ عدم مشاركة الشعب في الانتخابات ستقلّل من عداوة الأعداء، قاموا بمختلف أنواع الدعايات الإعلامية بغية صرف الناس عن مراكز الانتخابات وصناديق الاقتراع. أحياناً، حاولوا تخويف الشعب وجعله متراخياً ويائساً عن طريق اغتيال علمائنا - إذ بأقلّ من ستّة أشهر نفّذوا ثلاثة اغتيالات - في مثل هذه الأجواء أقيمت هذه الانتخابات، لكن بمثل هذه المشاركة! المشاركة بأكثر من 64% هي إنجاز عظيم جدّاً. أقول لكم،، هذا الرقم هو أعلى من متوسّط نسبة المشاركة في انتخابات المجالس في العالم. إنّ متوسّط نسبة المشاركة في انتخابات الكونغرس هو 35%. في السنوات العشر الماضية، لم تبلغ مشاركة الشعب الأميركي في انتخابات الكونغرس ومجلس النوّاب ومجلس الشيوخ نسبة 40%. قارنوا هذا مع مشاركة الشعب الإيراني ـ هذا النشاط، هذه المشاركة، هذا الإظهار للوجود ـ عندها تتضّح أهميّة الأمر. كان هؤلاء يريدون من خلال هذه الضغوطات، ومن خلال الحرب النفسيّة، من خلال هذه التهديدات، أن يجعلوا يوم الثاني عشر من إسفند يوم خيبة للشعب الإيراني ونظام الجمهوريّة الإسلامية،، لكن هذا اليوم أصبح خلافاً لرغباتهم، ورغم أنوفهم يوم فخر للنظام الإسلامي وللشعب الإيراني. لقد عملت هذه الانتخابات كوسيلة إعلاميّة صادقة وقويّة. إنّهم يلفّقون الأخبار عن إيران، يخبرون عن حوادث كاذبة من داخل إيران، يكتمون الأخبار الصحيحة، لكنّهم لم يستطيعوا إنكار هذه الانتخابات،، لقد أصبحت "واقعاً" أمام أعين الجميع. لقد استطاعت هذه الانتخابات وكوسيلة إعلاميّة ضخمة وقويّة، أن تظهر الشعب الإيراني والنظام الإسلامي للعالم.
امتلاك إيران الثروات النفطيّة محور المشكلة مع الغرب
هذه الأحداث كانت في العام 1390، العام الذي وظّف فيه الأعداء الأموال الطائلة من أجل توجيه ضربة للشعب الإيراني وللنظام الإسلامي. هذه بعض إنجازات العام 1390. لماذا يكنّون كلّ هذا العداء؟ أنا أشير إلى هذه المسألة،، حجج الأعداء
130
108
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
تختلف من وقت لآخر. منذ أن طُرح الملفّ النووي، كانت حجّة الأعداء هي الملف النووي. هم حتماً يعلمون ويقرّون بأنّ إيران لا تسعى وراء السلاح النووي. وهذا هو واقع الأمر. إنّنا لقناعاتنا الخاصّة لا نسعى بأيّ وجه وراء السلاح النووي، لم ولن ننتجه، يعلمون هذا، لكنّهم يتّخذونه ذريعةً. في يوم تكون هذه المسألة حجّةً، وفي يوم آخر تكون مسألة حقوق الإنسان هي الحجّة، وفي يوم ثالث تكون القضيّة الفلانيّة الداخليّة هي الحجّة،، لكن كلّ هذه الأمور حجج. ما هي القضيّة الأساسيّة؟ القضيّة الأساسيّة هي الحماية القويّة لثروات النفط والغاز العظيمة في هذا البلد من قبل نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. فاليوم والغد ـ كما الأمس ـ تتوقّف القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة، وتبعاً لها القوّة العلميّة والعسكريّة على الطاقة، وعلى النفط. العالم سيكون محتاجاً إلى النفط والغاز لعشرات السنين الأخرى،، وهذا من المسلّمات. يعلم الاستكبار والقوى المستكبرة أنّ شريانهم الرئيسي مرتبط بالنفط والغاز. في اليوم الذي لا يستطيعون فيه الحصول على النفط بأرخص الأثمان، في اليوم الذي يُجبَرون فيه على تقديم التنازلات مقابل النفط والغاز، وعلى التخلّي عن التهديد، سيكون ذلك اليوم يوماً كارثيّاً بالنسبة لهم.
آبار النفط في الغرب آيلة إلى النفاد
من ناحية أخرى، تواجه الدول الغربيّة مشاكل في مصادر النفط، وسوف تكبر مشكلتهم يوماً فيوماً. آبار النفط في الدول الأوروبيّة وبشكل عام في جميع الدول الغربيّة آيلة إلى النفاد، فبعضها سينفد بعد 4 سنوات، وبعض بعد 6 سنوات، وآخر بعد 9 سنوات، لذا هم مجبرون على الاستفادة من آبار غيرهم. فأميركا التي لديها اليوم حوالي بضع وثلاثين مليار برميل من احتياطي النفط، وطبقاً لحسابات خبرائنا ـ الذين يستندون إلى إحصاءات الأميركيّين أنفسهم ـ سوف ينفد النفط لديها عام 2021م، أي بعد 9 سنوات. إنّ نفط العالم الذي يُستخرج 50% منه من الخليج الفارسي، سوف يعتمد يومئذٍ على ثلاثة مصادر نفطيّة رئيسة في منطقتنا وفي الخليج الفارسي،، حيث تُعتبر إيران بالطبع، واحدة من هذه المصادر الثلاثة، كما سأعرض الآن لذلك.
إيران الأولى في احتياطي النفط والغاز معاً
تعدّ الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران الدولة الأغنى في العالم بإحتياطي النفط والغاز مجموعين إلى بعضهما بعضاً، وهذا لا يرتبط بعد بالخليج الفارسي. بعض الدول مخزون الغاز فيها أكثر من مخزوننا، وبعضهم الآخر مخزون النفط فيها أكثر من مخزوننا. إنّنا نُعدّ الدولة الثانية الأغنى في العالم في مصادر الغاز ـ الدولة الأولى روسيا ونأتي
131
109
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
نحن بعدها بالدرجة الثانية ـ وفي مصادر النفط، نُعدّ نحن الدولة الرابعة في العالم، فهناك ثلاث دول تفوقنا في مصادر النفط، لكنّنا لو أضفنا النفط والغاز إلى بعضهما، لوجدنا أنّ مصادر (النفط والغاز) في الجمهوريّة الإسلاميّة - بلدكم العزيز ـ طبقاً لما اكتُشف إلى اليوم ـ تفوق جميع دول العالم،، هذا أمر لافت جدّاً لمستهلكي النفط في العالم، لأجهزة الاستكبار التي يرتبط شريانها الحيويّ بمصادر الطاقة، بالنفط والغاز. بناءً على هذا، إيران بلد يمتلك مثل هكذا ثروة. هم سينفد نفطهم لأربع سنوات لاحقة، لعشر سنوات، لخمسة عشر سنةً،، أمّا الجمهوريّة الإسلاميّة ـ وطبقاً للمصادر التي اُكتشفت إلى اليوم ـ سوف تستفيد من النفط والغاز للثمانين سنةً القادمة،، وهذا أمر لافت جدّاً. حسناً، ماذا تريد القوى المستكبرة من بلد يتربّع على قمّة ثروات النفط والغاز؟ يريدون أن يكون هذا البلد في يد حكومة، في يد نظام مطواع كالشمع بين أيديهم،، كبعض دول المنطقة. هذه الدول لديها نفط، الكثير منه أيضاً، لكنّها مثل الشمع بين أيدي الأميركيّين: أنتجوا الكميّة الكذائيّة، سمعاً وطاعة،، بيعوا بالسعر الفلاني، كما تشاءون،، بيعوا لهذا، لا تبيعوا لهذا، حاضر. عندما يكون في بلد غنيّ كإيران عائم على حقول النفط والغاز، نظام حاكم يحرس بحميّة هذه الثروة الوطنيّة، لا يسمح بنهب الثروات، ولا بالتطاول، ولا يستسلم لسياسات الأعداء، سوف يعادون هذا البلد. ولهذا السبب كان عداؤهم لإيران الإسلاميّة.
أولئك الذين يظنّون أنّنا إذا تراجعنا في الملفّ النووي، سوف تنتهي عداوة أميركا لنا، غافلون عن هذه الحقيقة. ليست مشكلتهم الملفّ النووي. هناك دول تمتلك السلاح النوويّ، وهم أيضاً في منطقتنا، هؤلاء "بعوضهم لا يلسع!" المسألة ليست مسألة السلاح النووي أو الصناعة النوويّة، ليست مسألة حقوق البشر،، المسألة مسألة الجمهوريّة الإسلاميّة التي تقف بوجههم كالأسد. لو كانت الجمهوريّة الإسلاميّة حاضرةً أمامهم، كبعض أنظمة المنطقة، لخيانة شعبها، والاستسلام أمامهم، لتركوها. ما يهمّ هؤلاء هو التوسّع الاستكباري،، هذا هو سبب العداء للشعب الإيراني.
الأميركيّون حتماً مشتبهون. إذا ظنّوا أنّهم من خلال المخاصمة والعداء والتهديد يمكنهم إجبار الجمهوريّة الإسلاميّة على الانكفاء، أو يمكنهم إقصاءها، فإنّهم يرتكبون خطأً كبيراً وعظيماً،، وسوف يتلقّون صفعةً جرّاء هذا الخطأ. يمكنهم أن يتعاطوا مع الشعب الإيراني باحترام، يمكنهم أن يقنعوا بما لديهم، يمكنهم أن يروا
132
110
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
ويعرفوا الكارثة التي يقبلون عليها. إنّ الدول الغربيّة لا تسمح لشعوبها بالاطلاع على كارثة النفط المستقبليّة. هم لا يريدون لشعوبهم أن تعي ما ينتظرها في مسألة النفط ومصادر الطاقة، لا يريدون إخبار شعوبهم. هؤلاء يظنّون أنّهم من خلال الخصومة مع الشعب الإيراني يمكنهم إنجاح الأمر، لكنّهم لن يقدروا.
أمريكا اليوم في موقع ضعف
اعلموا أيّها الأخوة والأخوات الأعزّاء، يا شعب إيران العزيز، أنّ أميركا بكلّ استعراضات القوّة لديها، بكلّ الضجيج والفوضى اللذين تثيرهما، هي اليوم في موقع ضعف، وموقع متزلزل لا اريد أن أستشهد بما يجري داخل الكواليس، أو بالأشياء الظاهرة،، حساباتنا قائمة على "واحد زائد واحداً يساوي اثنين". أنظروا، لقد وصل رئيس الولايات المتحدة إلى الحكم تحت شعار "التغيير". ما معنى التغيير؟ يعني أنّ وضعنا مزرٍ جدّاً، وقد أتيت لأغيّره. لقد خاض المعترك بهذا الشعار. وقد صوّت له الشعب أيضاً بسبب هذا الشعار،، وإلّا لم يكن الشعب العنصري ليصوّت لرجل من العرق الأسود،، ولكنّهم صوّتوا لصالحه على أمل التغيير. إنّ تأثير شعار "التغيير" على الناس بهذا الحجم، يظهر وخامة الوضع القائم. أي الوضع الذي كان حاكماً على أميركا في فترة ترشّح هذا الرجل لرئاسة الجمهوريّة، لقد كان وضعاً سيّئاً باعتراف الشعب الأميركي، وقد وعد هو بالتغيير. إذاً، من المسلّم به أنّ الوضع سيء. نحن لا نرغب بقول هذا، الشعب الأميركي هو الذي يقرّ بأنّ وضعه سيّئاً. حسناً، الآن وقد انتُخب هذا الرجل، هل أحدث تغييراً؟ هل استطاع أن يغيّر؟ هل أمكنه تبديل هذا الوضع السيئ؟ أميركا اليوم مديونة بـ 15000 مليار دولار. هذا الدين يفوق أو يساوي الناتج الإجمالي المحلّي لهذا البلد،، وهذا يشكّل مصيبةً وكارثةً لأيّ بلد. وهكذا بالنسبة لوضعهم على المستوى السياسي، اضّطُروا للانسحاب من العراق من دون تحقيق أيّ إنجازات. في أفغانستان يسوء وضعهم يوماً فيوماً. في باكستان التي هي واحدة من الدول التي كانت متعاونة معهم، تسوء سمعتهم يوماً فيوماً. في البلدان الإسلاميّة، في مصر، في شمال أفريقيا، في تونس، فقد الأميركيّون هيمنتهم بالكامل. مضافاً إلى ذلك كلّه، انطلقت حركة "احتلّوا وول ستريت" في المدن الأميركيّة نفسها. هل هذا الوضع هو وضع جيّد؟ هذا معادلة واحد زائد واحداً يساوي اثنين، إنّها ليست مسألة معقّدة. الشعب الأميركي هو الذي قبل بالتغيير، وهذا يعني أنّ الوضع الراهن وضع سيّء، وذلك الوضع السيّئ لم يتغيّر إلى الآن. بناءً عليه، أميركا تعيش أزمة.
133
111
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
قوتّنا ليست بامتلاك السلاح النووي
يمكن لأميركا أن تخلق مخاطر للدول الأخرى، يمكن أن ترتكب حماقات. بالطبع، أقول من هذا المكان، إنّنا لا نحوز السلاح النووي، ولن نسعى إلى تصنيعه، لكنّنا في مقابل هجوم الأعداء ـ سواء أميركا أو النظام الصهيوني ـ وفي سبيل الدفاع عن أنفسنا، سوف نهجم على الأعداء بالمستوى نفسه الذي يهجمون به علينا.
لقد بشّرنا القرآن الكريم قائلاً: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾1 لم يرد في أيّ مكان في القرآن أنّكم إذا ابتدأتم بالحرب وهجمتم، ستنتصرون حتماً،، قد تنتصرون وقد تُهزمون ـ كما حدث في معارك صدر الإسلام، عندما شنّ المسلمون الحملات، أحياناً هُزموا وأحياناً انتصروا ـ لكنّه وعد أنّه إذا ابتدأ الأعداء بالهجوم، فإنّ هذا العدوّ حتماً سينهزم. لا ينبغي أن تقولوا أنّ هذا خاصّ بصدر الإسلام،، لا، ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا2﴾،، هذا قانون إلهي. شعب إيران شعب صاحب عزم، نشيط، لا يفكّر بالهجوم والاعتداء،، لكنّه بكلّ كيانه متمسّك بوجوده، بثروته، بهويّته، بإسلامه، بجمهوريّته الإسلاميّة.
شعار "الإنتاج الوطني وحماية العمل"
لقد وضعنا لهذا العام شعار "الإنتاج الوطني"، وقد أُتبع بتوضيح: "حماية العمل ورأس المال الإيراني"،، أي عندما تستهلكون البضاعة الداخليّة، تقدّمون المساعدة للعامل الإيراني، توجدون فرص العمل، تنعشون رأس المال الإيراني، وتساهمون في التنمية والتطوّر. إنّها لثقافة خاطئة ـ تلك المسيطرة على بعضنا ـ عندما نستهلك البضائع الأجنبيّة، هذا يؤدّي إلى الإضرار بدنيانا، وإلى الإضرار بتطوّرنا، وإلى الإضرار بمستقبلنا. المسؤولية تقع على عاتق الجميع، وعلى الحكومة مسؤوليّة أيضاً، بأن تدعم الإنتاج الوطني وتقوّيه.
من حسن الحظّ، لقد صُودق على سياسات "صندوق التنمية الاقتصاديّة"،، وصوّبه مجلس الشورى. يوجد اليوم مخزون احتياطي هامّ بين أيدي المسؤولين، يمكنهم أن يضعوه في خدمة الإنتاج الوطني. ينبغي تسهيل العمل،، على مجلس الشورى أيضاً أن يتعاون، وعلى الحكومة أيضاً أن تجدّ،، ليمكنهم إضفاء رونق على الإنتاج الوطني. كما على الشعب ـ سواء أكانوا من أصحاب رؤوس الأموال، أو ممّن امتلك القدرة
1- الفتح، 22-23.
2- الأحزاب، 62.
134
112
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
على العمل ـ أن يتعاون من خلال تقديم السلع المتقنة الصنع. ينبغي للإنتاج الداخلي أن يكون مطلوباً، وأن يتمّ إنتاجه بجودة بحيث تطول مدّة استهلاكه. ينبغي علينا أن نقلّل قدر الإمكان من قيمة ثمن الكلفة. هذا الأمر يتطلّب تعاون الجميع. على الوزارات المختلفة أن تتعاون في هذا المجال ـ سواء الماليّة، أو الاقتصاديّة ـ كما على مجلس الشورى أن يتعاون حتى يحقّقوا هذه المسألة في بلدنا.
الشعب هو العمدة. ينبغي عليكم أن تطلبوا البضاعة الإيرانية. إنّه ليس مدعاةً للافتخار، إنّه لتفاخر خاطئ أن نرجّح الماركات الأجنبيّة ـ في ملابسنا، في وسائلنا المنزلية، في أثاثنا، في احتياجاتنا اليوميّة، في مأكلنا ـ على الماركات الوطنيّة،، في حال أنّ الإنتاج الداخلي هو أفضل بدرجات في كثير من الموارد. لقد سمعت أنّ الألبسة الوطنيّة التي تُنتَج في بعض المناطق، تؤخذ وتوضع عليها الماركات الأجنبيّة، ومن ثمّ تُعاد! لو بيعت هنا لما وجدت لها مشترين إيرانيّين،، لكن كون ماركة فرنسيّة أُلصقت بها، فإنّ المشتري الإيراني سوف ينتقي ذاك اللباس نفسه، وتلك البزّة نفسها، والقَصَّة نفسها،، وهذا أمر خاطئ.
الإنتاج الداخلي غاية في الأهميّة. أنظروا ماذا أنتج العامل الإيراني، ماذا استثمر المتموّل الإيراني. في مجال الاستهلاك، أساس المسألة في يد الناس،، وهذا جزء من ترشيد الاستهلاك الذي توجّهت به إلى الشعب الإيراني قبل سنتين من هذا المكان، وجزء من الجهاد الاقتصادي الذي عرضته السنة الفائتة. الإنتاج الوطني هامّ جدّاً، ينبغي أن يُجعل هدفاً لنا.
الاتّحاد والوحدة بين فئات الشعب
وعلى الصعيد السياسي، لي أيضاً توصيّة. أيّها الأعزّاء، الأخوة والأخوات، في كافّة أنحاء البلاد، نحن اليوم بحاجة إلى الاتحاد والوحدة. إنّ ذرائع الاختلاف كثيرة، فأحياناً لا يتّفق ذوق اثنين في مسألةٍ ما،، لا ينبغي لهذا الأمر أن يصبح ذريعةً للاختلاف. قد تكون ميول ما موجودة في شخص، وغير موجودة في آخر،، لا ينبغي لهذا أن يصبح مصدراً للاختلاف، إنّ آراء وأفكار الجميع محترمة،، الاختلاف الداخلي، والخصام الداخلي يؤدّي إلى الفشل. يحذّرنا القرآن الكريم بقوله تعالى ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾1 إذا تنازعنا على قضايا مختلفة ـ قضايا سياسيّة، قضايا اقتصادية، قضايا شخصيّة ـ وتعاركنا، يتجرّأ العدوّ. إنّ بعض الجرأة التي أظهرها العدوّ في السنوات السابقة، كانت بسبب الاختلافات. يعلّمنا أمير المؤمنين عليه السلام درساً فيقول: "ليس من
1- الأنفال، 46.
135
113
في لقاء أهالي مشهد المقدّسة وزوّار الإمام الرضا عليه السلام
طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه"1. المعارضون قسمان: معارض يطلب الحق، يتّبع الجمهوريّة الإسلاميّة، ويتّبع الثورة، يتبّع الدين وأوامر الله، لكنّه في النهاية قد أخطأ، لا ينبغي أن نعادي هذا،، هذا يختلف عن المعادي للنظام الإسلامي، الذي يتحرّك من خلال مطلب معاند ضد النظام الإسلامي. ألّفوا بين القلوب، فليكن تعاملكم مع بعضكم بعضاً أكثر عطفاً ومحبّةً.
إنّ الإعلام الالكتروني وشبكات الإنترنت، وللأسف أدّى إلى تناول الأفراد بعضهم بعضاً بكلام خارج عن الأدب، وإلى اغتياب بعضهم الآخر. ينبغي أيضاً على مسؤولي البلاد أن يعالجوا المسألة بنحو ما.
ولكنّ الأساس هو أن نلتزم، نحن الناس، بالأخلاق الإسلاميّة، أن نلتزم بالقانون. لا يُتَّخَذَنَّ الآن كلامي ذريعة فتذهب جماعة لتلوم الشباب الثوري وتشمت بهم، بصفتهم شباباً "حادّي الطباع"،، لا، إنّني أعتبر كافّة شباب الوطن الغيورين، والشباب الثوري المؤمن في البلاد أبنائي، وإنّي أدعمهم، إنّي أدافع عن الشباب الثوري المؤمن والغيور، لكنّي في النهاية أوصي الجميع أن يجسّدوا الأخلاق الإسلاميّة في تصرفّاتهم ويراعوا القانون، على الجميع أن يراعي القانون،، إنّ تجسيد الثورة هو في إتّباع قانون الجمهوريّة الإسلامية.
على مسؤلي البلاد أن يكونوا كذلك،، فالحكومة تحفظ حرمة المجلس، والمجلس يحفظ حرمة الحكومة، وحرمة رئيس الجمهوريّة،، ينبغي أن يكونوا متّحدين ومتآزرين. هذا لا يعني أن يفكّر الجميع بطريقة واحدة، معناه إذا اختلفوا في التفكير أن لا يأخذوا بتلابيب بعضهم،، كلّ خلاف فيما بيننا، كلّ خصومة ونزاع، يطمع فينا الأعداء ويسرّهم.
آمل أن يكون العام 1391هـ.ِش. الذي حلّ اليوم، من الأعوام المفعمة بالنشاط والعمل والمكلّلة بالنجاح والسعادة لشعب إيران.
إلهي، بمحمّد وآل محمّد، ثبّت أقدام شبابنا الأعزّاء، وشعبنا العزيز على الصراط المستقيم.
إلهي، ادحر أعداء هذا الشعب واقهرهم.
إلهي، حقّق الأماني الكبرى لهذا الشعب العزيز والمجاهد والمقاوم. ارضِ عنّا القلب المقدس لوليّ العصر (أرواحنا له الفداء)، واشملنا بدعائه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الخطبة رقم 58.
136
114
في لقاء جمعٍ من قادة القوّة البريّة للجيش
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء جمعٍ من قادة القوّة البريّة للجيش
المناسبة: لقاء قادة القوّة البريّة للجيش.
الحضور: جمعٌ من قادة الوحدات العملياتيّة والقتاليّة في القوّة البريّة.
المكان: مقرّ أركان القوّة البريّة.
الزمان: 22/4/2012م.
137
115
في لقاء جمعٍ من قادة القوّة البريّة للجيش
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنّه ليومٌ جميلٌ ومؤنس لي - أنا العبد - أن أكون بينكم أيها الأعزّاء والإخوة والشباب وطليعة القوّات المسلّحة،، لكي أراكم عن قرب وأتحدّث معكم ببضعة جمل، وأستفيد من مظاهر الاندفاع والحيوية ومن قلوبكم الصافية والنورانية. مباركٌ لكم يوم الجيش. وأملي أن يكون كلّ واحدٍ منكم بمشيئة الله نموذجاً وخندقاً ومظهراً رفيعاً لمستقبل البلد وعزّته ورفعة هذا الشعب واقتداره، وأن يجعل الله تعالى ذلك عنده مقدّراً.
حسناً، إنّ القوّة البرّية للجيش - بحمد الله - قد نمت وتسامت، وهذا مما يشعر به المرء. فقد بدأ هذا التحرّك، وهذا المسار المبارك، منذ بداية انتصار الثورة الإسلامية وتشكيل نظام الجمهورية الإسلامية. ولا يعني ذلك طبعاً، كما يمكن أن يتصوّر بعض الناس، أنّه لم يكن في زمن الطاغوت أفراد مؤمنين أو كانوا قلّة داخل الجيش، كلا لم يكن الأمر كذلك. فإنّني أنا العبد في ذلك الزمان، كنت على علاقة مع بعض المنتسبين للجيش ـ بعضهم كان لنا معهم روابط صداقة، وبعضهم الآخر كان لنا معهم علاقات ثورية وجهادية ـ وكان من بينهم أشخاصٌ مؤمنون ومحبون وحريصون وصادقون، وهؤلاء لم يكونوا قلّة. وكان المرء يرى أمثال هؤلاء في المناسبات المختلفة وفي الأماكن المتعدّدة،، وقد رأيت بعضهم أنا العبد. كان لنا رفقاءٌ آخرون، لديهم معارف في الأجهزة المختلفة والمواقع المتعدّدة. غاية الأمر أنّ توجّهات الأفراد لها معنى، وتوجّهات المنظّمة لها معنىً آخر. فعندما يكون التوجّه العام لأيّ مجتمعٍ أو منظّمةٍ أو جماعةٍ خطأ، فإنّ المساعي الفردية مهما كانت عظيمةً لن تصل إلى مطلوبها، وهكذا كان الأمر في ذلك الزمان.
النظام الإلهي طريق النجاح
لقد نُقل عن الإمام الصادق عليه السلام ـ الظاهر أنّه حديثٌ قدسي يُروى عنه ـ حيث قال: "لأعذّبنّ كلّ رعيّة في الإسلام أطاعت إماماً جائراً ليس من الله عز وجل،، وإن كانت الرعية في أعمالها برّة تقية"1. فمضمون هذا الحديث هو أنّه لو كان زمام أمور أي مجتمع بيد الفاسدين وغير الكفوئين والظالمين والمنحرفين، فإنّ التحرّكات الإيمانية للأفراد في هذا المجتمع لن تصل إلى نتيجة. ففي هذه الحالة إنّ الذين يطيعون هؤلاء الظالمين ويسلّمون لهم سيعذّبهم الله. وهنا في نفس الحديث يوجد عكسه أيضاً: "ولأعفونّ عن
1- بحار الأنوار، ج 27، ص 202.
139
116
في لقاء جمعٍ من قادة القوّة البريّة للجيش
كلّ رعية في الإسلام أطاعت إماماً هادياً من الله عزّ وجلّ، وإن كانت الرعية في أعمالها ظالمةً مسيئة". وهذا ما يحتاج إلى شرحٍ هنا حيث لا ينبغي الاكتفاء بظاهره.
وخلاصة الأمر ولبّ المطلب هو أنّه لو كان النظام والحاكمية في أي نظامٍ أو جماعةٍ أو بلدٍ أو مجتمعٍ هو النظام الإلهي والعادل،، فإن الذين يطيعون هذا النظام سينالون عفو الله ولو كانوا خطّائين. ويمكنكم أن تجعلوا هذا مقياساً لأيّ بلدٍ، وتحاسبوا على أساسه أيّ شعبٍ أو مجتمعٍ،، وفي المعيار المتعلّق بأيّ منظمة كمنظمة الجيش يمكننا أيضاً ملاحظة هذا الأمر وأن نحاسب على أساسه.
عقيدة الجيش وفكره
ذاك اليوم كان الجيش بيد غير أهله، لكن عندما بدأت حركة الشعب فإنّ تلك الفئة المؤمنة والقليلة من ذوي الرتب العالية أدركوا طريقهم ووجدوا موقعيتهم. ومنذ الأيام الأولى للثورة الإسلامية كان هناك أشخاص يأتون ويقدّمون الدعم للعناصر الثورية لعلّهم يتمكّنون من إيجاد لغة مشتركة مع الجيش والبدء بالحوار. حسنٌ، لم يكونوا يعرفون بعضهم بعضاً، فلا المسؤولين ولا الثوريين ولا المجاهدين ولا العلماء ولا الفئات الجامعية كان لها ارتباط أو تواصل مع الجيش، ولهذا لم يكونوا يمتلكون لغةً مشتركة. وبفضل الثورة تمّ إيجاد هذه اللغة المشتركة.
وفي يومنا هذا يُعدّ الجيش من أكثر المؤسسات شعبيّةً في بلدنا. فبين المؤسسات المختلفة التي تشكّل هيكلية الدولة والنظام، عندما تنظرون إلى الجيش تجدونه الأقرب إلى أفراد الشعب ورغباتهم وتوجّهاتهم وأحاسيسهم، والأقرب في تقديم الدعم لحركته العامّة،، ومثل هذا الأمر قيّمٌ جداً ومهم. صحيحٌ أنّ جيوش العالم تتشكّل تحت شعار حفظ المصالح القومية وتعمل على هذا الأساس، لكن هل هذا الأمر واقعاً كذلك؟ فهل كان جيش أمريكا في العراق وفي أفغانستان يحافظ على المصالح القومية لأمريكا؟ وهل أنّ شعب أمريكا استفاد من احتلال أفغانستان؟ وهل هو راضٍ ومسرور من قتل شعب أفغانستان؟ وهل أنّ مصالح أمريكا يتمّ تأمينها من خلال قيام مرتزقتهم بإطلاق الرصاص على الناس، والتمثيل بجثثهم، والتقاط الصور مع أعضاء جثثهم؟ لو أنّ أحداً سأل زعماء الولايات المتحدة ماذا تريدون من كلّ هذا الجيش الكبير وهذه الأجهزة الحديثة وفوق الحديثة لقالوا: من أجل المصالح القومية. لكن هل أنّ جوابه صادقٌ؟ وهكذا الأمر في كل بلاد العالم. وبالتأكيد إنّني لا أدّعي على وجه التحقيق أنّ الأمر كذلك لأنني لست على إطّلاعٍ كامل،، من الممكن أن نجد في بعض الزوايا هنا وهناك ما يمكن أن ينقض كلامنا ـ ولكن ما شاهدناه وعرفناه هو هكذا على الأغلب
140
117
في لقاء جمعٍ من قادة القوّة البريّة للجيش
في كل بلاد العالم،، فالجيوش يتمّ تشكيلها تحت عنوان المصالح القومية، ولكنها ليست في خدمة هذه المصالح، بل إنّها تكون في خدمة طلّاب الزعامة السياسية. وقد كان الأمر هكذا طيلة التاريخ. فأن ينطلقوا من هنا ويسوقوا أكثر من مليون جندي نحو اليونان - ما يُعدّ من المفاخر التاريخية لطاغوتنا (الشاه خشايار)1- ولأجل أن يتمكّن من السيطرة على اليونان وبعد ذلك هزم، وتراجعت سفنه تجرّ أذيال الخيبة. لم يكن هذا من أجل المصالح القومية. وطوال التاريخ كانت جيوش العالم في الأغلب هكذا ـ إلى الحدّ الذي وصلت إليه مطالعاتنا وعرّفنا عليه التاريخ، وما يمكن أن نصل إليه أنا وأنتم ونشاهده اليوم أيضًا في العالم، إمّا أن تكون الجيوش في خدمة المطامع الشخصية أو لحفظ القوى الطاغوتية.
وفي بدايات الثورة، وفي واحدٍ من هذه القصور الملكية حيث وُضع قسم من قوّات الجيش من أجل الحراسة، كان هناك لوحة إعلانات كبيرة، كُتب عليها ما مضمونه: نحن - أي الجيش - قد التحقنا من أجل حفظ حياة هذا الطاغوت! حسنٌ، وهذا بعيدٌ جداً عن المصالح الوطنية. ولو أنّنا وجدنا في هذا العالم جيشاً يحمل نفس اعتقادات الشعب ومشاعره ولا يرى نفسه لخدمة الأفراد،، بل، لخدمة الشعب ومصالحه بالمعنى الحقيقي، فمثل هذا الجيش له أهمية وقيمة عظيمة، وهذا هو جيشكم. وفي الحقيقة ليس عندي موردٌ آخر شبيه. أما بالنسبة لهذه الدول التي شهدت الثورات مؤخّراً، فلنرَ ماذا ستثمر وماذا سيفعلون،، ولكن إلى الآن، فإنّني لا أرى جيشاً مثيلاً،، جيشٌ لا يكون في خدمة طلّاب القدرة الشخصية ولا يفني نفسه من أجل شخص. وهذا ما أريد أن أؤكّد عليه،، فلا الله يرضى، ولا أحكام الإسلام تجوّز أن نقول أن جيشنا أو قوّاتنا المسلّحة أو عناصرنا تفدي نفسها لفلان، كلا. أجل، فليمت الجميع من أجل الإسلام وليمت هذا الفلان من أجل الإسلام. ومن أجل رفع راية استقلال البلاد خفّاقةً - وهي دولة إسلامية - فليكن الجميع مستعدّين للموت في هذا الطريق، وهذا الموت يُدعى شهادة. في هذه الحالة يكون الجيش جيشاً إلهياً ومعنوياً، ويكون حينها إسلامياً، وهذه هي الشجرة الطيبة التي ذكرتها، أنا العبد. فمنذ بداية الثورة وإلى اليوم كان هذا هو الهدف، ولحسن الحظ أصبحنا على مقربة من هذا الهدف أكثر فأكثر، وهذا ما أريد أن أذكره لكم. إنّني أراقب عن قرب هذه الحركة الممتدّة على مدى أكثر من ثلاثين سنة للجيش. وفي المراسم الأولى، في التاسع والعشرين من شهر فروردين (نيسان)،
1- خشايار الأول (بالفارسية، خشايارشاه) يطلق عليه أيضاً أحشويروش ملك فارسي، مع أنه كان صغيراً بين إخوته وقد تم اختياره خلفاً لأبيه داريوشالأول. حكم بين 485 و465 ق.م. الملك الرابع في سلالة الأخمينيين ببلاد فاس.حاول غزو بلاد اليونان وفشل بعد تعرض جيشه لخسارةٍ كبيرةٍ في العدد، وتأخّرٍ في التحرك مع فوزه في النهاية في معركة ترموبيل.
141
118
في لقاء جمعٍ من قادة القوّة البريّة للجيش
كنت - أنا العبد - حاضراً. في ذاك الوقت حينما كان الإمام عام 1358 هـ .ش. (1980م) في المستشفى، قاموا بتجهيز مكانٍ مقابل المستشفى وجاءت جماعات من الجيش وألقوا التحية وهناك تمّ الإعلان عن يوم الجيش بواسطة الإمام. إنّني أرى أوضاع الجيش. فمن بينكم من يحضر هنا ـ أولئك الذين كانوا منذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا في الجيش ـ فلعلّه لا يوجد أي أحد منهم لم أشارك أنا في مراسم تخرّجه. فبالظاهر أنا العبد قد حضرت في جميع مراسم التخرّج والترقية لكلّ واحدٍ منكم، فأنتم الذين انخرطتم في الكلية وأصبحتم ضبّاطاً، ونلتم الرّتب. إنّني أنظر وأرى أنّ جيشنا اليوم قد تقدّم بالنسبة لما قبل خمس عشرة أو عشرين سنة، وقد تقدّم كثيراً مقارنةً ببداية الثورة. وهذه حركةٌ جيدة، ويجب أن تستمرّ. ففي هذه الحركة تكمن سعادة الدنيا والآخرة.
النظام الدولي المعاصر
واليوم يوجد تحرّكٌ في العالم عرفه الجميع وأدركه وهو تحرّكٌ مخالفٌ لنظام التسلّط. إن قضيّتنا ليست مع الأشخاص ـ من أي جهةٍ كانوا وفي أيّ اتجاه، يمين يسار...- القضية هي قضية نظام التسلّط. فماذا يعني هذا النظام؟ إنّه عبارة عن ترتيب لتقسيم دول العالم وشعوبه إلى قسمين، إلى المتسلِّط والقابل بالتسلّط. ولا شكّ أنّ بعض هؤلاء المتسلّطين الخبثاء يكتمون هذا المعنى وهذا المضمون وينكرونه، ولا يأتون على ذكره،، لكن بعضاً منهم وبسبب حماقتهم الذاتية يصرّح به كرئيس أمريكا السابق الذي صرّح قائلاً: إنّ كلّ من لا يكون في قضية أفغانستان وقضية الهجوم على البرجين وأمثالها مع أمريكا فهو ضدّنا! حسنٌ، هذه حماقة، فالمتسلّطون في العالم هكذا يقيمون علاقاتهم مع العالم، وينبغي في المقابل أن يوجد الذي يقبل مثل هذا التسلّط.
الحركة الإسلاميّة في مواجهة المشروع العالمي
إنّ مشكلة الأجهزة المقتدرة المتسلّطة في العالم هي أنّ هناك تحرّكٌ في العالم قد انطلق وهو يعارض هذا الترتيب. وفي مركز هذا التحرّك تقع إيران الإسلامية وأنتم، وقد كان صبر إيران الإسلامية كبيراً. ففي اليوم الأول الذي بدأنا به هذا التحرّك لم يكن هناك في العالم من يستجيب لنا. ونحن كنا نتصوّر أنّ بعض الشعوب ستنضم إلى هذا التحرك بسرعة لكن هذا الأمر لم يحدث. وبعد مضي السنوات وبالتدريج شيئاً فشيئاً استقرّ هذا التفكير في ذهنية الشعوب وبدأ يأخذ موضعه، حتى جاء وقته وتهيّأت ظروفه. وجميع الحركات التاريخية على هذا المنوال. فإنّ التحرّكات التاريخية وإن كانت تبدو للوهلة الأولى دفعيةً، لكنها ليست كذلك بتاتاً، إنّها متدرّجة، لكنّها تنتظر نقطة النضج
142
119
في لقاء جمعٍ من قادة القوّة البريّة للجيش
والتفتّح،، فتقع حادثةٌ أو تحدث قضية، وفجأةً، فإنّ ذلك الاستعداد وتلك القدرة المتراكمة المتجمعة والمتضافرة تبرز بنفسها، وتنفلت من عقالها، فيحدث كما حدث في مصر وبقية الأماكن. ثلاثون سنة مرّت حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. لهذا فإنّ هذه الحركة هي حركة مهمة. المستعمرون والمقتدرون بالمعنى الواقعي للكلمة يخافون من هذه الحركة. وكل هذه الاضطرابات والتهديدات والحظر والحصار والإيثارات وغيرها ناشئة من الخوف. إنّني لا أدّعي أنّهم يخافون الجمهورية الإسلامية بالخصوص كدولةٍ أو كجيشٍ بل يخافون من هذه الحركة، من هذه الظاهرة غير المسبوقة والتي بالنسبة لهم هي مجهولة بالكامل. وهذه الحركة هنا تتفاقم وهنا تُنفخ وهنا تتجدّد يوماً بعد يوم. إنّهم يخافون من شبابنا المؤمنين أولي العزم، ومن مشاعرنا الوطنية المتأججة المصحوبة بالمعرفة الجيدة ـ ولا نقول العالية - ففي يومنا هذا يُعدّ مستوى المعرفة والبصيرة في بلدنا وللإنصاف جيداً.
أهمّيّة القوات المسلّحة
وأنتم جزءٌ من هذه المجموعة الحسّاسة والمهمّة، فالقوّات المسلّحة لها موقعية حسّاسة، ويجب أن تحافظوا على هذا الأمر وأن تستمرّوا عليه. وإنّني الآن وفي جمع القادة المحترمين قد نقلت جملةً من أقوال أحد القادة العسكريين. وقد جاءني في بداية الثورة وقال لي جملةً واحدة، وقد أُعجبت كثيراً بمقولته ـ وهي صحيحة ـ وما زلت أذكرها إلى اليوم، قال: "في المسؤولية يوجد عنصر أو جزء من القيادة". أنتم مسؤولو القوة والجيش المستقبليون، ويجب أن ترفعوا من مستوى القدرة القيادية في أنفسكم. فالمسؤولية تعني افعل ولا تفعل، أو الأمر والنهي، والقيادة تعني التحرّك، والسلوك، وإظهار المعايير والشواخص التي تحل محل افعل ولا تفعل. وبدون افعل ولا تفعل يوجد القائد حركةً، وهذه الحركة تنبع من القلب. وبدل الارتباط بالأجسام يجب الارتباط بالقلوب،، ويجب عليكم أن توجدوا مثل هذا الأمر في أنفسكم وتقوّوه. ولو حصل ذلك فإنّ النصر لبلدنا ولشعبنا سيكون حتمياً. أي في اللحظات الصعبة والشديدة، فإنّ هذا الشعور وتلك الحالة ستأتي إلى إعانة الإنسان. وأنا في هذه الخصوص لديّ نماذج. وهنا كما تعلمون يوجد وجوه معروفة جداً، والكل يعرفها
143
120
في لقاء جمعٍ من قادة القوّة البريّة للجيش
كالشهيد صيّاد الشيرازي والشهيد البابائي1 فهؤلاء كانوا منذ بداية الحرب وإلى آخرها، وقد استُشهدوا. ولكنني قد شاهدت العديد من أمثال هؤلاء في الجسم،، في القوات المسلحة وفي مرحلة الحرب، وكذلك أيضاً في الجبهة نفسها، وفي جلسات القرار والتخطيط خلف الجبهة، فهذه مهمّةٌ جداً.
أغلب التحرّكات التي تُنجز في الصفوف الأمامية تكون ناشئةً من العزائم ومن الإرادات التي تنعقد وتتشكّل خلف الجبهات. فلو كانت هذه الإرادات صادقةً وتمكنت من إيصال نفسها إلى الطبقات الأمامية، حينها تحدث مواقف الشجاعة تلك، حيث يمكن للإنسان حينها أن يشاهدها بصورة بارزة ومميزة. فيجب أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار.
المحافظة على الجمهوريّة في جميع المستويات
على كل حال إنّ القوّة البرية مهمّة،، فإنّها تمثل في مجموع أركان الجيش قسماً غاية في الأهمية. ودائماً ما يُقال أنّ العمود الفقري للجيش هو القوّة البرية. من الممكن في حروب العالم اليوم أنّ احتمال وقوع المعارك الأرضية أصبح أقل ـ وهو كذلك في الواقع، فاليوم ازداد احتمال وقوع المعارك البحرية والجوية وأمثالها ـ لكنّ القوة البرية يجب أن تحافظ على جهوزيتها الحقيقية وتزيدها رقيّا. والاستعداد الحقيقي يعني الإيمان والدافع، والتدريب والتعلّم، والاختصاصات اللازمة والتخصصات المطلوبة والجاهزة للاستخدام، وثبات الشخصية، فالشخصية الأخلاقية والسلوكية يجب أن تتمتع بصلابة لا يمكن أن تؤثر فيها الإغراءات المختلفة وتذلها. فأحياناً، تلك الإغراءات المختلفة في الحياة تذل الناس، ويرى المرء أحياناً كيف أنّ بعض الأشخاص
1- الشهيد صياد شيرازي (1944م): من أبرز القادة العسكريين في إيران، كان له دور مهم خلال الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية، ساهم في تنظيم القوى البحرية في الجيش. عقب انتصار الثورة اطّلع بمهمّة قائد عمليات شمال غرب البلاد، وكان له دور في اخماد اضطرابات تلك المناطق وخاصة كردستان التي افتعلها أعداء الثورة. شغل عدة مناصب عسكرية، أبرزها قائد القوّة البريّة في الجيش، وممثل القائد الأعلى في مجلس الدفاع الأعلى، ونائب رئيس الأركان العامة، ومساعد التفتيش فيها. استشهد عام 1999م على أيدي منافقي خلق أمام منزله، حيث تنكّروا بثياب عمال التنظيفات.
الشهيد بابائي: هو عباس بابائي (4/12/1950م)، من مدينة قزوين، عيّن بدرجة ملازم ثانٍ في قاعدة دزفول الجوية عام 1972م انتخب لقيادة طائرات اف - 14 المتطورة بعد ضمها لسلاح الجو الإيراني. وبعد انتصار الثورة، وإضافة إلى مسؤولياته الأخرى في القوة الجويّة، انتخب مسؤولاً في الاتحاد الاسلامي للقاعدة الجوية الثامنة في أصفهان، ثمّ رقّي إلى درجة مقدّم، وعين قائداً لقاعدة أصفهان الجوية. عُرف بذكائه وكفاحه ونضاله وخدمته المستضعفين والمحرومين. استشهد وهو يؤدّي مهمّة جويّة على مواقع العدو بتاريخ 5/8/1987م
144
121
في لقاء جمعٍ من قادة القوّة البريّة للجيش
يذلّون لأجل المال ولأجل المنصب والدوافع الجنسية، فهذه هي مذلّة الإنسان. وإنّ أعزّ الناس وأكثرهم قدرة هم أولئك الذين لا تخضعهم هذه الإغراءات. وبالتأكيد لا يعني ذلك الإعراض عن ملذات الحياة، بل يعني ذلك أن لا نُذل ونخضع لها. فالإسلام لا يقول بتاتاً أن لا تملكوا المال، أو لا تتولوا المناصب، ولا يقول أن لا تتمتعوا بالملذات، ولكن ينبغي ألّا تكونوا أسرى لها، ولا تُقهروا لها أو تذلّوا، فيجب أن يكون لديكم قدرة المقاومة والثبات، وقدرة الامتناع والرفض، وهذا ما يعدّكم.
عندي كلامٌ كثير معكم أيّها الأصدقاء والإخوة والشباب وأبنائي الأعزّاء، لكن الوقت لا يتسع. نسأل الله تعالى أن يوفّقكم ويؤيّدكم جميعاً.
اللهمّ، أنزل بركاتك على هذا الجمع.
اللهمّ، أنزل بركاتك على شعب إيران، وأنزل بركاتك وفضلك على قوّاتنا المسلّحة وجيش الجمهورية الإسلامية.
اللهمّ، زد من الرحمة والترابط والأخوّة والحميمية بين مؤسّسات القوّات المسلّحة من الجيش والحرس والتعبئة والقوى الأمنية وغيرها.
اللهمّ، بمحمّد وآل محمد اشملنا مع أولئك الذين قلت عنهم "رضي الله عنهم ورضوا عنه".
اللهمّ، اجعلنا من عبادك الذين وعدت الدفاع عنهم.
اللهمّ، اشملنا بدعاء وليّ العصر أرواحنا فداه، واجعل دعاءه مستجاباً فينا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
145
122
في اليوم العالمي للعمّال
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في اليوم العالمي للعمّال
المناسبة: يوم العمّال، وبداية عام "الإنتاج الوطني".
الحضور: حشدٌ من العمّال النموذجيّين من مختلف مناطق البلاد، وجمعٌ من عمّال الوحدات الصناعيّة.
المكان: طهران - مصنع "داروبخش".
الزمان: 29/4/2012م.
147
123
في اليوم العالمي للعمّال
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محّمد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيّما بقّية الله في الأرضين.
تقدير عمل العامل
أبارك أسبوع العامل، لا لشريحة العمّال الأعزّاء فحسب، بل للشعب الإيراني العاملة والأدمغة والمبدعين والطاقات البشرية الماهرة في أيّ مجتمع،، فإنّ ذلك المجتمع سوف يسير في ركب التطوّر. أن يقوم نبيّ الإسلام المكرّم برفع يد العامل وتقبيلها،، فإنّ ذلك لم يكن تقديراً لشخصٍ واحد. بل هو ترسيخ لقيمة ليكون درساً، فهو يقول لنا أنّ يد العامل والمنتج والطاقة الإنسانية لها من القيمة بحيث أنّ شخصاً كالنبيّ المقدّس ـ الذي يُعدّ قطب رحى عالم الخلقة ـ ينحني ويقبّلها،، هذا درسٌ لنا.
إنّ العمل بالمعنى الواسع للكلمة يشمل العمل اليدوي والبدني والفكري والعلمي والإداري وهو في الواقع محور تقدّم وتحرّك المجتمع وحياته المستديمة، وعلينا جميعاً أن نعرف هذا. فلولا العمل، فلن تكون كل الرساميل والموارد والطاقات والمعلومات مفيدةً ونافعةً للإنسان. إنّ العمل يشبه الروح التي تُنفخ في الرساميل والطاقة والمواد الأولية وتبدّلها إلى شيءٍ قابلٍ للاستهلاك لكي يستفيد منها البشر، هذه هي قيمة العمل.
والقضية هنا أنّ الجمهورية الإسلامية لا يوجد فيها مجاملة تجاه العامل.
في مقطعٍ من الزمان، قامت مجموعة بتشكيل دولة عمّالية بالإسم، وشغلوا العالم عشرات السنوات، ولم يصل إلى العمّال منهم خيرٌ ونفع. فمدراء الدول الاشتراكية والشيوعية حصلوا على الكثير من المكاسب من مجتمعاتهم، وبلغوا مراتب الزعامة والسلطة، وعاشوا في حياتهم كغيرهم من طواغيت العالم، كل ذلك باسم العامل. وهذا كذبٌ وخداع.
العلم يهتف بالعمل
وفي عالم الغرب أيضاً فإنّ التأمين على العمل، ودعم العامل وغيرها، كلها في الأساس من أجل أن يعمل العامل حتى ينال ـ بحسب القول المعروف اليوم ـ 1% من اللذة والبهجة. فهم ليسوا صادقين، ولا صريحين مع العامل. أما الإسلام فهو صادقٌ وشفّاف تجاه العامل، ولديه منطق. فإنّ العمل يخلق القيمة وهو قيمة بذاته. فقد ورد
149
124
في اليوم العالمي للعمّال
في رواية: "العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب وإلا ارتحل"1. العلم مرهونٌ بالعمل. ففي هذه الرواية ـ وهي بيان نموذجي ورمزي ـ يقول أنّ العلم يدعو إلى العمل فإن أجاب العمل يبقى العلم ويتّسع ويزداد، وإن لم يجب العمل العمل سيزول العلم. فانظروا ما أجمل هذا البيان،، أي إنّ بدء العلم ووجوده وبقاءه وثباته وتطوّره مرهونٌ بالعمل. كل هذا يدلّ على المنطق وهو يشكّل المباني الفكرية، الإسلام هو هكذا، الإسلام يتعامل مع شريحة العمّال بصدقٍ.
تقدير العمل والرأسمال الوطني
بالطبع، إنّ هذه الأمور يجب أن تُترجم عملياً ويجب أن تظهر في التنفيذ والتخطيط،، لقد بُذل الكثير من الجهد والعمل ويجب بذل المزيد. لهذا قلنا هذه السنة: دعم العمل والرأسمال الإيراني "العمل الإيراني والرأسمال الإيراني". فالرأسمال هو عدل العمل. لو لم يكن هناك رأسمال، فالعمل لا يتحقّق، فهما جناحان يحلّق الإنتاج الوطني بهما. فلرأسمال الإيراني احترامه، وكذلك العمل. وإنّ نتيجة الرأسمال والعمل عبارة عن الإنتاج الوطني، ويجب أن يتحقق.
كل سنة وبمناسبة أسبوع العامل، يأتي العمّال الأعزّاء إلينا في الحسينية وهناك نلتقي ونتحدث ببضع كلمات، وهذا العام لقد جئت إلى خدمة العمّال،، وقد اخترنا هذا المصنع ـ شركة داروبخش ـ كمركز نموذجي. أنتم عمّال هذا المصنع، والعمّال الذين شرّفوا من المصانع الأخرى، التفتوا إلى أنّني هذه السنة ومن أجل أداء الاحترام والشكر للعمل والعمّال الإيرانيين عدّلت برنامج هذه السنة على هذا النحو.
ما لم نحترم العمل والرأسمال الإيراني، فلن يتحقق الإنتاج الوطني. وإذا لم يتحقّق الإنتاج الوطني، فلن يتحقّق استقلال البلد الاقتصادي، وإذا لم يتحقّق الاستقلال الاقتصادي لأيّ مجتمع ـ أي أنّه إذا لم يتمكن في مسألة الاقتصاد من اتّخاذ القرار بنفسه والوقوف على قدميه ـ فلن يتحقق الاستقلال السياسي لهذا البلد. وإذا لم يتحقّق الاستقلال السياسي لأيّ مجتمع فإنّ كلّ كلامٍ آخر لن يكون سوى كلام ليس أكثر، وإنّ أيّ بلدٍ ما لم يتمكن من تقوية اقتصاده والثبات فيه والاعتماد على نفسه والاستقلال فيه، فلن يتمكّن من أن يكون مؤثّراً على الصعيد السياسي والثقافي وغيره.
إنّ بلدنا يحتاج إلى اقتصادٍ قويٍّ وراسخ. وأنا منذ ثلاث أو أربع سنوات، وفي الخطابات التي ألقيتها على التجمعات العامّة الكبرى نبّهت شعبنا وأعزاءنا وشبابنا
1- نهج البلاغة، الحكمة 363.
150
125
في اليوم العالمي للعمّال
ومسؤولينا وقلت: اعلموا أنّ مؤامرة العدوّ تنصبّ اليوم على اقتصادنا. والآن هل تلاحظون ذلك؟ ترون أنّ مؤشّرات هذه المؤامرة الكبرى التي خطّط لها، تظهر واحدة تلو الأخرى.
بالطبع، أنتم يا شعب إيران، بذاك العزم الراسخ الذي عبرتم به كلّ الموانع الأخرى، بمشيئة الله ستجتازون هذا المانع أيضاً. ومثل هذه الهمّة يبذلها العامل وصاحب الرأسمال والمدراء الحكوميّون، ومدراء القطاع الخاص، وأفراد الشعب كلّهم يظهرون عزمهم الراسخ فيما يتعلّق باستهلاك الإنتاج المحلي والوطني.
تطوير الإنتاج والعمل الإداري
يجب القيام بأعمال أساسية، ولحسن الحظ فالعمل على قدم وساق. وكما أطلعنا الأعزّاء المسؤولون المحترمون في الحكومة، فمنذ بداية السنة انصبت اللقاءات وأعمال التخطيط والنقاشات على هذه القضية، وإنّني أؤكّد على هذا الأمر. يجب رفع العوائق. فلأجل أن يبلغ الإنتاج الوطني رونقه، ويحصل الاقتصاد المحلي على المتانة والثبات يجب على الجميع أن يبذلوا الجهود،، وعلى المسؤولين بالدرجة الأولى بذل الجهد سواء في السلطة التنفيذية أو التشريعية أو حتى السلطة القضائية. فأحياناً قد ينتهي الأمر عند هذه السلطة القضائية. إنّ المسار السليم الذي هو محط الإهتمام والدقّة في اقتصاد البلد وفي العمل والإنتاج والاستثمار يحتاج إلى إشراف السلطات مجتمعه.
ويجب إنجاز أعمال متنوعة في الأبعاد المتعدّدة: قضية رفع مستوى المهارات في محل العمل، والأنماط الصحيحة للإدارة، وتأهيل القوى العاملة، وإشاعة الجو الآمن،، سواء بالنسبة للعامل أو بالنسبة للمستثمر ـ أي البرامج والقوانين والأنظمة التي ينبغي تشعر العامل بالأمن والاستقرار وكذلك المستثمر ـ وقضية مواجهة المخالفات الاقتصادية بشكل صحيح، ومنها موضوع التهريب. ومن المخالفات الاقتصادية أنواع الاستغلال للثروات الوطنية،، والثروات المرتبطة بالشعب في مصارف البلد حيث يأتي من يستفيد من التسهيلات في مكان ثمّ ينفقها في مكانٍ آخر، وهذه خيانة وسرقة. ففي بعض الأحيان تكون السرقة أن يؤخذ من جيب فلان، وأحياناً تكون من جيب الشعب وهو أسوأ، ويجب مواجهة هذه المخالفات.
قبل عدّة سنوات، عندما وجهت كتاباً إلى مسؤولي السلطات الثلاث حول الفساد الاقتصادي وأكّدت عليهم، خاف بعضهم وقال من الممكن أن يتراجع المستثمر بسبب هذه التحذيرات. وأنا قلت أن الأمر عكس ذلك،، إنّ المستثمر الذي يريد أن
151
126
في اليوم العالمي للعمّال
يكون له نشاطٌ اقتصادي بالطريق الصحيح في هذا البلد ـ عندما يرى أنّنا نحارب الفساد الاقتصادي والمفسدين الاقتصاديين، فإنّه سوف يسر ويطمئن. يجب علينا أن نتمكّن من إنجاز هذه المواجهة الصحيحة على المستوى القانوني. يجب علينا أن نلتفت إلى إيجاد الميزات التنافسية. نحن نتحدّث عن الإنتاج المحلّي. وبالطبع ولحسن الحظ، فهناك تقدّمٌ ملحوظٌ على صعيد الإنتاج المحلي. وبالتأكيد ذاك المقدار المستقر في الذاكرة العامّة للشعب هو أقل مما أُنجز. وهذا الإنجاز الجديد والمميّز ـ والذي لحسن الحظ قد أُنجز في هذه الشركة وقد شاهدناه ـ له أهمية كبرى،، التأسيس والإيجاد والإطلاق بواسطة الطاقات المحلية وبمدّة قصيرة، التصميم المحلّي والصناعة المحلّية والأدوات المحلية. لكن فيما يتعلّق بتقوية الإنتاج المحلّي فإنّ مسألة النوعية مهمة جداً. حيث يجب على إدارات الإنتاج والعمّال الأعزّاء أن يلتفتوا إلى هذه القضية. فكون الأسعار منافسة مسألة مهمة، ويجب الالتفات إليها، وهذا ما يتطلّب مساعدة الحكومة. هذه أعمالٌ كثيرة يجب إنجازها، وهي لا تنحصر بمسؤولية الحكومة،، فالحكومة ومجلس الشورى الإسلامي والأجهزة الإدارية المختلفة والقطاع الخاص وأبناء الشعب وصنّاع الثقافة في المجتمع ـ أولئك الذين يصنعون بكلماتهم ثقافة الشعب ـ ودعايات الإذاعة والتلفزيون عليها جميعاً أن تكون في خدمة الإنتاج الوطني. وإذا نجحنا في إنجاز هذا العمل نكون قد وجّهنا ضربةً قاصمةً لأعدائنا الناهبين.
إنّ السياسات القائمة على محورية الإنتاج وترسيخ ثقافة استهلاك الإنتاج المحلّي، والارتقاء بنوعية المنتجات المحلّية والتطوير والابتكار في الآلات والمحاصيل والإدارة والصناعة، كلّها أعمالٌ يجب القيام بها، وأملنا بمشيئة الله أن تُنجز.
إنّني أعتذر من الأصدقاء والإخوة والأخوات الذين جلسوا تحت الشمس في هذا الجو الحار.
أملنا بمشيئة الله أن تكون حياتكم حياةً طيبة ومليئة بالنشاط والبهجة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
152
127
في لقاء جمعٍ من معلّمي البلاد
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء جمعٍ من معلّمي البلاد
المناسبة: يوم المعلّم.
الحضور: حشدٌ من معلمي البلاد.
المكان: طهران.
الزمان: 2/5/2012م.
153
128
في لقاء جمعٍ من معلّمي البلاد
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أرحّب بكم كثيراً أيها الإخوة والأخوات الأعزّاء، المعلّمون المحترمون لأبناء هذا الشعب وأجياله الصاعدة. من الضروري في بداية الكلام الإعراب عن تقديرنا العظيم لذكرى شهيدنا الجليل الشهيد مطهري،، لأن هذا العظيم كان معلّماً لكافّة المستويات بأسلوبٍ فعّالٍ لا يمحقه الدهر. وقد مهر صحّة عمله بدمائه. وقد جُعل اسمه على لوح تكريم معلّمي البلد، وإنه لأمرٌ جديرٌ،، رحم الله ذاك الجليل.
إنّ الهدف الأساسي لهذا اللقاء هو التعبير عن محبّتنا لكم أيّها المعلّمون الأعزّاء. ويوجد كلامٌ في مجال التعليم والتربية والتنظيم والتشكيلات والمضمون والشكل وغيرها. وقد ذكرنا الكثير منه في مناسباتٍ مختلفة. لقد جعلنا لقاءنا السنوي ليوم المعلّم من أجل أن نظهر ونثبت ونعلن عن اعتقادنا بمنزلة مقام المعلّم وعلو شأنه.إن حقيقة القضية تكمن في هذا، وهو أمر لائق.
رسالة العلم وأهمّيّة المعلّم
إنّ ما يضفي على المعلّم القيمة هو عدّة أمور،، أحدها المادّة الخام التي هي بيده ويريد إيصالها من خلال عمله وسعيه إلى النتاج النهائي وهذه المادة ليست بلا روحٍ،، إنها الإنسان وهذا أمرٌ مهمٌّ جداً. أحياناً يبدّل الإنسان مادةً جامدة من خلال بذل الجهد والابتكار، والعرق وساعات العمل إلى نتاجٍ مطلوب، وهو أمرٌ قيّمٌ في محلّه. وأحياناً تكون هذه المادّة التي بيدنا موجوداً إنسانياً بما يحمله من استعدادات، وعواطف وأحاسيس، وقابلياتٍ هائلة. فهذا الفتى يمكن أن يصبح في المستقبل مثل إمامنا الجليل، يمكن أن يصبح مصلحاً اجتماعياً، ويمكن أن يكون عالماً فذّاً، ويمكن أن يصبح إنساناً صالحاً وسامياً. إنّ جميع هذه الاستعدادات موجودة في هذه الفئة من الأطفال والأحداث،، والتي توضع في تصرّف المعلّم. ونحن نريد نقل هذه الاستعدادات إلى الفعلية،، فانظروا كم هو مهمٌّ هذا العمل. وإنّ جلّ خطابي إلى عامّة شعبنا وشرائح مجتمعنا المختلفة ليعرفوا قدر المعلّم ومنزلته.
وليعرف معلّمنا العزيز أهمية موقعيته، وعظم مسؤوليته، ومهمّته بشكلٍ صحيح، وليعرف قدر نفسه،، فليعلم أنّه إذا أدّى هذا الدور بهمة صحيحة، ونيّة صافية، وقصدٍ إلهي، وجهدٍ متناسب، فكم سيضفي على هذا المجتمع من معنىً وقيمة. ومثل هذه القيمة المضافة ليست أمراً عادياً،، فهي أمرٌ استثنائي. لعلكم تعلمون أهمية تربية إنسانٍ صالحٍ وعالمٍ ومقتدرٍ. كما أنه من الممكن أن يتبدّل إنسانٌ ما من بين هؤلاء الذين صاروا بين أيادي المعلّمين إلى شخصٍ دنيويٍّ. فمن الممكن لهذا الطفل إذا لم يُربَّ
155
129
في لقاء جمعٍ من معلّمي البلاد
بشكل صحيح أن يصبح مثل هتلر أو جنكيزخان، هذه هي المسألة. إنّ أهمية عمل المعلّم، وسموّ حركته وسعيه وحرصه وتفكيره الصحيح وعمله اللائق، تُعلم من هذه الجهة. كذلك، فإن الخطاب يتوجّه إلى العاملين في مؤسسة التربية والتعليم،، حسناً، فهؤلاء المعلّمون يعملون في هذه المؤسسة، وضمن أنظمتها وبرامجها،، ولهذا فإنّ على عامّة الناس، والمعلّمين أنفسهم، وكذلك هذه المؤسسة الفاعلة أن لا ينسوا موقعية المعلّم. فالمعلّم هو ذاك المنتج والعامل وصاحب الأنامل الماهرة التي تبدّل أفضل محاصيل الخلقة، وأهم المواد الخام إلى أفضل النتاجات النهائية التي يمكن الاستفادة منها.
قيمة العلم
ولهذا، لنا الحق أن نقول هذه السنة أننا اجتمعنا هنا من أجل التعبير عن حبنا للمعلّمين. نريد أن نقول أنّنا نعرف قدر هذه المنزلة الرفيعة والمرتبة العالية التي لكم أيّها المعلّمين. فلو أنّ المعلّم عمل بشكل جيد وصحيح وتدبير وحرص، فسنرى أن جميع مشكلات هذا المجتمع ستُحل. لا أننا نريد أن نقول أنه لا يوجد عوامل مؤثرة في تربية شبابنا خارج محيط المدرسة، فالأسرة مؤثّرة، ووسائل الإعلام كذلك، والبيئة الاجتماعية العامة ـ فلا شك في ذلك أبداً ـ لكنّ الصانع الأساسي واليد الماهرة الأصلية التي يمكن أن تبني بناءً محكماً، لا يمكن أن تؤثّر فيه كل هذه العوامل المختلفة تأثيراً جوهرياً، هي المعلّم، وهذه هي قيمة المعلّم.
أقول لكم أنّ هذه القيمة لها عند الله تعالى الكثير من الحسنات. فأنتم في محلّ التعليم، وفي البيئة التعليمية، حيث تتفاعلون مع هؤلاء الأطفال والأحداث، اعلموا أن الكرام الكاتبين الإلهيين يدوّنون كل لحظةٍ من عملكم حسنة. فكيف يمكن حساب هذا حين يكون عمل الإنسان وحياته وشغله في كلّ لحظةٍ عبادة.
وبالطبع، إلى جانب هذه الأهمية الفائقة التي أشرنا إليها، يوجد نقطة أخرى وهي تظهر أهمية هذا العمل وهي الجهد والتعب الذي يلقيه المعلّم على عاتقه. ففي غرفة الدرس وأجواء التعليم يواجه المعلّمون الأطفال والأحداث بأخلاقهم المختلفة ومشاعرهم المتنوّعة وفورانهم الشبابيّ، وعليهم أن يتحمّلوهم ويصبروا.. وهذا ما يرفع من قيمة هذا العمل. لهذا فإنّ يوم المعلّم هو يومٌ مبارك، وإن شاء الله يكون مباركاً على جميع المعلّمين، وكذلك على الشعب الإيراني.
156
130
في لقاء جمعٍ من معلّمي البلاد
تطوير مؤسّسة التربية والتعليم
ونقطة أخرى تتعلّق بالتعليم والتربية. فإنّ التعليم والتربية منظّمة واسعة الانتشار في هذا البلد. وأحد الفرص التي وُضعت بيد هذا البلد والثورة هي فرصة مؤسسة التعليم والتربية. أنتم المسؤولون وكبراء التربية والتعليم لديكم مؤسسة تضمّ عدّة ملايين، تنتشر كالجهاز العصبي في كل هذا الجسم الواسع،، كعروق الدم التي تتحرّك في بدن الإنسان. فهذه المؤسسة تصل إلى أعماق المدن والقرى. ولحسن الحظ، وخصوصاً بعد الثورة، لعلّه لا يوجد نقطة في هذا البلد لا يكون للتربية والتعليم فيها تواجد. فهذه المؤسسة عظيمة ونحن ليس لدينا مثلها من حيث الحجم والسعة في هذا البلد. فالناس يأتون بأبنائهم برغبة وإرادة وأمنية، ويضعون أبناءهم تحت تصرّف هذه المنظّمة.
هذه المؤسسة مسؤولة عن أعمال كبيرة، ومثل هذه الفرصة السانحة تُعظِم مسؤوليتها. وأنا أريد أن أؤكد على هذه القضية، وهي "مضاعفة المسؤولية". وكما أشار الوزير المحترم مؤخراً، وأنا العبد على اطّلاع، وهناك جهود طيبة تُبذل على مستوى الوزارة من حيث الوقت والسعي، والاجتماعات الكثيرة، وتبادل وجهات النظر وتوحيد الآراء، فكلّ هذه مهمّة جداً، وإنّنا نقدّر هذه المساعي التي تُبذل، غاية الأمر التفتوا إلى أنّ عظمة العمل هي بدرجة مهما بذلنا معها من جهد لا ينبغي أن نرضي أنفسنا ونقول: حسناً لقد أتممنا عملنا.
وثيقة التحوّل البنيوي
لقد ذكرنا بعض المسائل في السابق بشأن التحوّل البنيوي. ولقد كنت دائماً أكرّر في لقاءاتي مع المعلّمين والمسؤولين الثقافيين، والمجلس الأعلى للثورة الثقافية وغيرهم هذا الأمر، ولحسن الحظ، قد وصل إلى نتيجة،، بحيث إنّ "وثيقة التحوّل البنيوي" قد أعدّت وصُوّبت. فاليوم لهذه المؤسسة "وثيقة" مدوّنة تحدّد منهج التحوّل البنيوي في التعليم والتربية. وحسنٌ جداً، لقد تمّ إنجاز قسم من هذا العمل. غاية الأمر أنّ هذه الوثيقة مثل الوصفة الطبّية. فإنّنا إذا ذهبنا إلى الطبيب، وأدّينا حقّ المعاينة، والطبيب قام بالمعاينة أو التشخيص، وكتب لنا وصفةً ووضعناها في جيبنا، ثمّ ذهبنا إلى البيت وظننّا أنّ الأمر قد انتهى، فهل يختلف هذا الأمر عن عدم مراجعة الطبيب بشيء سوى أنّه قد أنفقنا المال وقطعنا مسافة على الطريق، ينبغي تناول الدواء،، ففي هذه الوصفة قد دُوّن اسم الدواء ومقدار ما ينبغي تناوله منه وفي أيّ وقت، ويجب تنفيذ هذا وتطبيقه،، ولو لم نفعل، فالذهاب إلى الطبيب وأخذ الوصفة كأن لم يكن. حسنٌ، لدينا الآن "وثيقة
157
131
في لقاء جمعٍ من معلّمي البلاد
التحوّل البنيوي" في التربية والتعليم، وهذه الوصفة تحتاج إلى تخطيطٍ دقيق فيما يتعلّق بكل بنودها. فإنّ الحديث هو حول التحوّل البنيوي لا الشكلي الظاهري.
كان الشكل الجديد للتربية والتعليم لدينا عبارة عن شيءٍ مزخرف ومستوردٍ وكانت له غايات. حسنٌ، لقد عملنا بهذا الشكل لسنوات. وحتى لو كان ذاتياً ونابعاً من الداخل، فإنّ المرء سيواجه بعد عدّة سنوات إشكالات،، لهذا يجب القيام بالتحديث، ولهذا فإنّ هذا التحوّل البنيوي عملٌ ضروري. لو أردنا تحقيق هذا التحوّل البنيوي في التربية والتعليم، أي إنّ هذه الأموال التي تنفقونها والأوقات التي تقضونها، وكل هؤلاء المعلّمين الذين ترسلونهم إلى مختلف أنحاء البلد، في المدارس ولأجل الطلّاب، لو أردنا أن يكون تأثيرهم مضاعفاً، وأن يُستفاد منهم بالنحو الأمثل فيجب أن يتحقق هذا التحوّل، وهذا التحوّل يحتاج إلى تخطيط،، يجب وضع هذه الوثيقة موضع التخطيط خطوة خطوة.
يجب أن يكون هناك خارطة للطريق. ولا يكون الأمر بحيث إنّ أي مسؤول أو وزير أو مدير في أي قطاع يقوم اليوم باتّخاذ قرارٍ ثم يقوم في اليوم التالي بتغييره بحسب سليقته. فكلّ هذا هو إهدارٌ للأوقات والطاقات. وهذه نقطةٌ أساسية. ويجب أن يكون هناك تخطيطٌ محكمٌ ودقيقٌ لأجل هذا التحوّل البنيوي، يجب أن نضع بين الأيادي خارطةً للطريق، وهذا ما ينبغي أن يقبل به الجميع ويؤيّدوه ويؤمنوا به ويُضمن فيه أنّ التربية والتعليم ستسلك هذا الطريق حتى النهاية وطبق هذا البرنامج.
النشاط الدائم
وهنا يوجد نقطة ثانيةٌ وهي قضية عدم إيقاف العمل، وهي ترتبط بالنقطة السابقة نفسها. فلا ينبغي ترك العمل. فيجب متابعته حتى الوصول إلى النتيجة النهائية،، أمّا إذا بدأنا عملاً ما، وأثرنا حوله الضجيج ففرح أناسٌ وأثنى آخرون وانتقد غيرهم، ثم بعد مدّة خبت نيراننا، وبردت حركتنا، فإنّ النتيجة لن تتحقّق من وراء العمل،، وفي هذه الحالة فإنّ أساس العمل سيتلقّى ضربةً قاصمة. إنّني أذكر هذا للمدراء والمدراء العامّين ومدراء الوزارة ومدراء المحافظات والمدن والمراكز.
حسناً، إنّ قضية الكتاب مهمّة جداً، وكذلك التخطيط والمقرّرات،، وقضية المعلّم أهم من الكل. لو أنّنا أردنا تحسين عمل المعلّمين فإنّ هذا يتطلّب التدريب وإقامة الدورات اللازمة،، فإنّها ضرورية لأنّها من الأعمال الأساسية والأوّلية،، فيجب إقامتها.
158
132
في لقاء جمعٍ من معلّمي البلاد
أهمّيّة التعليم والتربية
ومن بين هذه المطالب أريد أن أستنبط أهمية التعليم والتربية.فلو أن الإنسان في الواقع أراد أن يقسّم أعمال البلد وقطاعاته المختلفة ويضعها بحسب الأهمية، فإنّ التربية والتعليم توضع في أعلى اللائحة وعلى رأسها.
إنّ وضع شبابنا اليوم يرتبط بالتربية والتعليم، وكذلك أخلاقنا. وهناك من يشكو لماذا لم نتقدّم على صعيد الأخلاق، وهذا بالطبع صحيحٌ، ونحن نقول بأنّ علينا أن نتقدّم في المجال الأخلاقي،، غاية الأمر أنّ من شرائطه أن يكون لشبابنا قدوة. فإنّ بعض الأشخاص بسلكوهم وعملهم ومنطقهم، يصبح نموذجاً سيئاً لشبابنا.إن صناعة النموذج القدوة هو من أكثر الأعمال ضرورة.
ونحن لدينا الكثير من هؤلاء. ففي هذا الزمان يوجد لدينا من الشباب الجيدين ومن النماذج النورانية اليوم ـ تخلّد في التاريخ ـ بحيث يكفي، بمقدار تعريف كلٍّ منهم، أن نضع نماذج مميزة وقدوة أمام شبابنا. هؤلاء شباب سبقوا من كان متقدما عليهم،، شبابٌ حضروا درس هذا العبد وأمثاله، لكنّهم سبقونا بمئة خطوة، نحن ذكّرنا وهم عملوا، ولكن نحن لم نعمل. كم من هؤلاء الشباب، وكم من هؤلاء الشهداء من كانوا قد تعلّموا من أمثالنا، ولكنهم أصبحوا أفضل منّا، وتقدّموا علينا، ومنحوا هذا البلد عزّته، ونالوا عند الله المزيد من العزّة،، "فلماذا وعدت أنت، وهو أدّى"، نحن وعدنا وهو عمل. إنّ لدينا كل هؤلاء الشباب،، فاستحضروا كلّ واحدٍ منهم واجعلوه أمام أعين الجيل الحاضر، وعرّفوا هؤلاء الشباب - من الجيل الحالي - على نخوة أولئك وهمّتهم وصدقهم وصفائهم وتضحياتهم ووعيهم المميزّ، وسلوكهم الحسن مع الناس والزملاء والوالدين والأسرة والأصدقاء، كلّ هذا يُعدّ ملهماً.
وعلى كلّ حال يوجد أمامنا أعمالٌ كثيرة، ينتظرنا الكثير من الأعمال، في التربية والتعليم وفي الأجهزة الإعلامية والتبليغية وفي الإذاعة والتلفزيون وفي أجهزة الدولة، وأمثالي المتلبسين بلباس هذا العبد، علينا القيام بالكثير من الأمور. نحن مسؤولون، ويفترض أن تنحني عواتقنا تحت ثقل المسؤولية،، فلنتحمّل المسؤولية ونعمل، يجب على الجميع أن يعملوا.
أهمّيّة الانتخابات النيابيّة
وهناك جملة واحدة تتعلّق بالانتخابات. فواحد من الأعمال ما يتعلّق بالانتخابات التي ستجري بعد غد. لقد أدّى شعب إيران، وطيلة هذه السنوات الـ 33، العمل المطلوب بوعيٍ وذكاء وفي الوقت المناسب. وقبل انتصار الثورة كان الأمر كذلك،
159
133
في لقاء جمعٍ من معلّمي البلاد
وهو ما أدّى في النهاية إلى انتصارها. وهكذا كان الأمر طيلة هذه العقود الثلاثة. وأينما وجد هذا الوعي الزائد والتشخيص اللازم للحظات الحساسة والمصيرية، كان شعب إيران يقطف النتائج الجيدة والمهمة،، ومنها هذه الانتخابات الأخيرة في شهر اسفند الماضي، حيث قام الشعب الإيراني بعملٍ جيّد، فتألّق،، وترك بصماته. ولكن حسن، هناك ما أُنجز وقد بقي عمل. وإنّ شعب إيران وبهذه الخطوة العملاقة التي سيخطوها إن شاء الله في يوم الجمعة، حيث سيُقبل على صناديق الإقتراع، ويتم عمل مجلس الشورى الإسلامي، إن شاء الله سيظهر المزيد من التألّق، ويكون مثار إعجاب العالم.
وعي الشعب
إنّ العالم اليوم هو عالمٌ يجب على الشعوب فيه أن تعبّر عن نفسها. وأيّ شعبٍ لن يصل إلى أيّة نتيجة فيما لو اعتزل وتباطأ وتطلع إلى هنا وهناك. إنّ الشعوب بوعيها ونزولها إلى الميادين وبطاقاتها واستعداداتها يمكنها أن تحقق النجاح،، هكذا هو العالم اليوم، وهكذا كان دائماً، غاية الأمر أنّ هذا الوعي في يومنا هذا قد ازداد بين الشعوب. فأحياناً، نجد شعباً عظيماً بتاريخٍ عريقٍ وأحياناً بتراثٍ علميٍّ عظيم، عندما يغفل عن نفسه ولا ينزل إلى الميدان ولا يبذل الجهود نجده فجأةً يصطف إلى جنب الشعوب المتخلّفة الفاقدة لأي سوابق وتراث وجذور.
إنّ شعب إيران في الساحة جاهز - ولحسن الحظ - هو شعب صاحب بصيرةٍ ومدركٍ لموقعه، وبحمد الله هو يعرف عدوّه. وخلال هذه السنوات الـ 33 عرفنا أعداءنا وعرفنا من هم، وكيف أنّهم في بعض الأحيان يتظاهرون بالصداقة رياءً وكذباً لكنّهم أعداء، ولكي يتمكّن شعب إيران في هذا العالم الكبير- وفي مثل هذه النزاعات التي تجري بين القوى المادية - من الدفاع عن حقّه ومستقبله وأجياله الآتية، عليه أن يكون واعياً حذراً، ومتواجداً في الساحات، ومن نماذج ذلك كله هذه الانتخابات،، وبالطبع يوجد نماذج أخرى كثيرة.
إنّنا نرى الأفق الواضح. إنّني بحمد الله وبسبب اللطف الإلهي لم أشعر في لحظةٍ واحدة أنّ هذا الأفق المشرق بالأمل قد عرض عليه أي رين أو تردد في قلبي. فأنّى نظرت شعرت أنّ المستقبل مشرقٌ، وبحمد الله إنّ ذلك سيتحقق. إنني أقول لكم وبفضل الرب، إن مستقبل إيران الإسلامية، عندما يصبح هؤلاء الشباب أنفسهم في ساحات العمل، سيكون أفضل بدرجات من يومنا هذا. نسأل الله تعالى أن يوفّقكم جميعاً وأن يوفّق شبابنا ويعين الجميع،، وإن شاء الله يتمكّن كل واحد منا وأينما كان من القيام بعمله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
160
134
في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام
المناسبة: ولادة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام.
الحضور: جمعٌ من الشعراء والمدّاحين لأهل البيت عليهم السلام.
المكان: حسينية الإمام الخميني - طهران.
الزمان: 12/5/2012م.
161
135
في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نبارك هذا اليوم العظيم، هذا اليوم التاريخي الذي لا يُنسى في التاريخ، يوم ولادة زهراء الطهر - والذي يصادف بحمد لله ذكرى ولادة قائدنا المحبوب وإمامنا وإسوتنا قدس سره - نباركه لكم جميعاً أيها الإخوة الأعزاء والأخوات العزيزات مدّاحو أهل البيت عليهم السلام، و ذاكرو الفضائل البارزة الناصعة في خيرة خلق الله (عزوجل).
نعمة معرفة أهل البيت عليهم السلام
معرفة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم نعمة كبيرة. لو أنفقنا أعمارنا كلها لشكر هذه النعمة الكبرى بأن لم يجعل الله تعالى أعيننا كليلة عاجزة عن إدراك الحقيقة، واستطعنا أن نبصر هذه الأنوار الطالعة المضيئة بقدر استعداداتنا، وندركها ونعشقها ونحبّها ولا نغفل عنها، لكان ذلك قليلاً، والحقّ يقال.
رحمة الله على الآباء والأمهات والماضين والروّاد والقادة الذين فتحوا لنا هذه النافذة المضيئة نحوالشموس المعنوية، ورتّلوا في أسماعنا ترانيم محبة أهل البيت عليهم السلام منذ بداية حياتنا، وفي فترة طفولتنا، وحين كنا في المهد، وجعلوا أفئدتنا ترتوي من محبة هؤلاء العظماء. اللهم اجعل هذه الشموس المعنوية، المحبّة والمعرفة أعمق وأرسخ في قلوبنا وأرواحنا يوماً بعد يوم، ولا تسلبنا هذه النعمة حتى لحظة واحدة.
عمل المدّاحين نعمة
وإنها لنعمة أخرى أن يصبح المرء من مدّاحيهم والصادحين بالثناء عليهم. أحياناً يرى المرء حقيقة ويعرفها، لكنه أحياناً يعبّر عن هذه المعرفة، وهذه المحبة بقوالب الشعر والنثر وينشرها. هذه نعمة أخرى منّ بها الله على المدّاحين والخطباء في هذا السبيل. عليكم أن تعرفوا قدر هذا. نفس هذا المدح العلني هو مدح للمادح نفسه. يقول الشاعر:
مدّاح الشمس مدّاح لنفسه، فهو يقول إنّ عينيه بصيرتان وليستا كليلتين1.
1- المولوي جلال الدين الرومي، مثنوي معنوي، الدفتر الخامس.
163
136
في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام
حينما يمدح المرء نوراً وجمالاً ويثني عليه، فإنه في الحقيقة يمدح نفسه، لأنه يثبت بأنه عارف بالجمال، وأن له عينين تريان، وأنه يفهم ويدرك. أضف إلى ذلك أن نشر هذه الفضائل والمعنويات بين الناس يساعد على تربيتهم. يمكن للناس - بمعرفة النماذج وبالاستمداد من تبعية هذه النماذج - الارتقاء في المدارج العليا والمقامات السامية. إذا سرتم في هذا الدرب فقد أنجزتم عملاً كبيراً.
اجعلوا النوايا إلهية
هذا هو أساس القضية، إذا كانت نوايانا في هذا المدح والثناء نوايا إلهية وبقصد تنوير القلوب وجلاء الأذهان، وإذا عبّر الإنسان عن هذا وقاله، عندئذ سيكون واحداً من جنود الله. ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾1. أحد جنود الله هو الشخص الذي ينشر هذه الحقائق بلسانه وبيانه وقريحته وذوقه. سيكون جندياً من جنود الله. أما إذا كانت النية شيئاً آخر فلا. أي عمل أرفع من الجهاد؟ يقول: إذا سار المرء للجهاد من أجل هدف مادي، فلا هو مجاهد ولا يكون شهيداً إذا قتل. مع أنه سار إلى ساحة الحرب. إذا خضنا هذه الميادين لأجل أهداف مادية - ناهيك عن أن تكون أهدافنا لا سمح الله وضيعة - فإنها لن تسبب لنا الرفعة والسمو. وليس هذا وحسب بل ستؤدي إلى تسافلنا وسقوطنا. وهذا أمر لا يختص بالمدح. بل كذلك الأمر بالنسبة للتفقه في الدين، وصيرورة الانسان عالماً أو مجتهدا أو مفكراً. النية هي الروح التي في جسد أعمالنا، "إنّما الأعمال بالنيات"2، النوايا هي التي تضفي القيمة على الأعمال.
حسن، إذا تقرر أن تكون النوايا إلهية، إذن يجب أن تنظروا وتروا ما هو البيان والمنقبة والفضيلة التي تؤدي إلى هداية متلقيكم. هذه هي النقطة التي كررتها طوال هذه الأعوام المتمادية التي قد تصل إلى نيف وعشرين عاماً، حيث نجتمع في مثل هذا اليوم مع مدّاحي وبلابل عشق هذه الروضةالمغرّدين. أنظروا ماذا تقرأون للناس وما تقولون ليتنوّر مستمعكم بنور فاطمة الزهراء عليها السلام. ثمّة أشياء لا يؤدي ذكرها وقولها إلى أي فتح، أو فائدة في أذهان مستمعيكم، ولا يفضي إلى أي بهجة في أرواحكم. فلا تقولوها.أذكروا الأشياء التي ترقّق القلوب، وتزيدها خشوعاً، وترّغب في اتباع فاطمة الزهراء عليها السلام اذكروا الأشياء التي يمكنها أن تشجع وتحث مستمعيكم على السير في الدرب الذي سارت تلك السيدة العظيمة. وهذا ما يحتاج إلى تفكير وتعليم، وهو ليس بالأمر السهل الهين.
1- الفتح، 4.
2- التهذيب، ج1، ص83.
164
137
في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام
استخدام الفن في المدح
يشكل مدّاحو أهل البيت عليهم السلام في الوقت الحاضر - لحسن الحظ - جماعة كبيرة في كل أنحاء البلاد. مهمة المدّاح استخدام الفن للتعبير عن الحقيقة. فهذا الوقوف بحد ذاته، وقراءة أشعار بصوت حسن، ولحن جميل - الشعر فن، واللحن فن، والصوت فن - وأن يعبّر الإنسان بعدة فنون عن حقيقة، فهذا ما يمكنه أن يترك تأثيراً مضاعفاً في أذهان المستمعين، والحضور في المجلس والمخاطبين. هذه نعمة كبيرة جداً وفرصة كبيرة جداً.
أهمّيّة المدّاحين وطريقة عملهم
وجماعة مدّاحي أهل البيت عليهم السلام - والحمد لله - تنمو وتزداد يوماً بعد يوم، و الناس يتقبلونهم ويحبّونهم ويندفعون ويرحبون، هكذا تكون كل الأشياء متوفرة. إذا انقضى وقت الجلسة (جلسة المدح والأشعار) بشيء آخر، وإذا أنفقت عدّة فنون - فن الشعر، وفن الصوت، وفن اللحن - في شيء لا فائدة فيه لمستمعكم إطلاقاً، لكان هذا خسراناً،، لذا فمهمّة المدح مهمة صعبة. لا يصحّ أن نقول لأنّ أصواتنا حسنة، ونحفظ بعض الأشعار - والمدّاحون الآن يقرؤن عن الورق والحمد لله، وفي الماضي كان من العيب على المدّاح أن يستخرج من جيبه ورقة ويقرأ عنها، بل كانوا يقرؤون القصائد الطوال من خمسين أو ستين بيتاً عن ظهر قلب، وطبعاً لا ضرورة لهذا اليوم، ولا إشكال في القراءة عن الورقة - ونأخذ شعراً عن أحدهم ونقرؤه بصوت حسن، ليست هذه هي القضية، يجب أن تنظروا وتدققوا وتفحصوا الأمور. هذه مسألة تتعلق بمدّاحي أهل البيت عليهم السلام الأعزاء.
إنكم تعلمون أنّنا نحبّكم يا مدّاحي أهل البيت عليهم السلام وأوفياء لكم، ونعتبر عملكم قيماً، لكنني اشترطت دوماً هذا الشرط الكبير على المدّاحين، وأغلبكم شباب وفي منزلة أبنائنا، وهذه نصيحة أبوية سوف تتابعونها إن شاء الله: عليكم بالأشعار الجيدة والمليئة بالمضامين وطبعاً الجميلة،، فن الشعر نفسه يترك تأثيراته. حينما يكون الشعر جيداً وتكون هيكليته وألفاظه جيدة - الشعر الجيد بالمضامين الجيدة - فإنّ تأثيره سيكون أكبر، مضافاً إلى أنّه سيرفع مستوي ذهنيات الناس وتفكيرهم.
165
138
في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام
الالتفات إلى حاجات المجتمع
أنظروا إلى المجتمع، ولاحظوا ما الذي يحتاج إليه، هذه ليست أموراً خافيةً اليوم على أمثالكم من الشباب، وأنتم متعلّمون ومثقّفون وأصحاب فهم وبصيرة، مستوى التفكير في مجتمعنا حالياً هو مستوى عالٍ - والحمد لله - وشعبنا صاحب بلوغ ونضج فكري، وأنتم جماعة مدّاحي أهل البيت عليهم السلام أيضاً، أنتم تعلمون ما الذي يحتاجه الناس. تحتاج الناس اليوم إلى الدين والأخلاق والإيمان الراسخ والبصيرة، ومعرفة الدنيا ومعرفة الآخرة... كلنا بحاجة لهذا. أن تقولوا إنّ فاطمة الزهراء عليها السلام تدخل المحشر وينبهر المحشر كله بعظمة ابنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فيجب أن نعرف المحشر، ونعرف القيامة، ونعلم هيبة الجلال الإلهي في المحشر، وهذه أمور تحتاج إلى معرفة ووعي. والقرآن الكريم زاخر بالبيانات التي تدلنا على هذه المعاني، وكذا الحال بالنسبة للروايات والأحاديث. عبرّوا عن هذه الأمور بلغة الشعر، وبالفن الذي تحملونه.
تعلمون أن البدء بأيّ عمل أمر صعبة جداً، ولكن بعد أن يبدأ العمل ويسير على سكّته، فإنه سوف يسهل. أن يستخرج الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من مجتمع جاهلٍ متعصّبٍ بعيدٍ عن الأخلاق، أسير لشتى صنوف الفساد، أمثال عمار وأبي ذر، فهل هذه عملية سهلة؟ ما الذي فعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟ ما هي القطعة التي استطاعت تحريك هذه الماكنة؟ أنظروا في الآيات المكية، فيها بالدرجة الأولى ذكر القيامة والعذاب الإلهي، والتخويف من النقمة الإلهية للكافرين والمعرضين والعمي، هذا هو الشيء الذي حرّك الناس الحركة الأولى. يجب أن لا نغفل عن هذه النقطة. الشفاعة محفوظة في محلّها، والمحبّة محفوظة في محلّها، والولاية محفوظة في محلّها، لكن الله تعالى له رحمته وله سخطه. يجب أن نتذكر السخط الإلهي أيضاً. يجب أن نذكر به أنفسنا أولاً ومن ثمّ نذكر به الناس. هذا ما يهزّ قلوبنا وينتشلنا من أعماق الجهل والماديات والمشكلات، هذا مما نحتاجه،، لنعرف الدنيا ولنعرف الآخرة ولنعرف واجباتنا ولنعرف الجهاد.
شعبنا اليوم شعب حديث الولادة في عالم غارق في المصاعب، بخلقة أخرى وهيئة أخرى وشاكلة أخرى وأبعاد وجودية جديدة. في عالم تتضافر فيه كل العوامل وتسعى وتواصل العمل من أجل إبعاد القلوب و الناس عن المعنويات، ولد شعب يتخذ من الإيمان بنية تحتية له، فهل هذا بالشيء القليل؟ إن هذا يتلألأ كالماس، ولا ضرورة لأن نزيد من الزخارف والحلي، فهو شيء يسطع كالشمس. إن لنا مثل هذا الشعب. المعنويات وكذلك المعارف الدنيوية، وجواهر العلم، والمساعي
166
139
في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام
السياسية والعمل الإعلامي الصحيح، والبناء والإعمار وبناء المجتمع، والوصول إلى البنية الاقتصادية المتينة، والوصول إلى البنية الأخلاقية الرصينة... هذه كلها من أعمالنا ومهماتنا. انظروا ما الذي تستطيعون فعله في هذه القطاعات والجوانب المختلفة، وكم تستطيعون أن تعملوا على توعية الآخرين. لينتبه شعراؤنا إلى هذه النقاط، ولينتبه خطباؤنا إليها، وكذلك مدّاحو أهل البيت عليهم السلام، وانظروا عندئذ ماذا سيحدث.
إذا كان لنا ذخائر وعرفناها جيداً واستخدمناها، فسوف يكون شعبنا والمسلمون أغنى خلق الله. هذه الصلاة بحدّ ذاتها من هذه الذخائر. نؤدّي الصلاة ونتجاوزها بغفلة، كإنسان مصاب بفقر الدم، ونقص في الفيتامينات والبروتينات، ويحتاج إلى المواد الضرورية، وتتوفر له علبة مليئة بكل هذه المواد التي يحتاجها، فيشمّها ويضعها جانباً! عليه طبعاً أن يفتحها ويتناول منها، ويرسل الطاقة إلى جسمه، لكنّه يشمّ العلبة ويضعها جانباً! أما الذين لا يأبهون أصلاً فلا كلام عنهم. إنّنا نشمّ الصلاة هكذا، ونضعها جانباً! كلّ كلمة في الصلاة إنّما هي درس، وكلّ كلمة في الصلاة إنّما هي لذّة معنوية لو عرفنا قدرها. وكذا الحال بالنسبة للصيام، وكذا الحال بالنسبة للزكاة، وكذا الحال بالنسبة للجهاد. هكذا هو الأمر بالنسبة لتعاليم الدين. وهكذا هو الحال في ما يخص مدح أهل البيت عليهم السلام.كل كلمة في المدح الذي تقومون به يمكنه أن تشكل غذاء وبوسعها أن تنمّي المستمع وتعمل على تكامله.كان هذا كلاماً حول مدح أهل البيت عليهم السلام.
ألسنتنا قاصرة عن مدح الزهراء عليها السلام
وثمّة كلام عن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام إنني - للحقّ، وليس من باب المجاملة، ولا من باب كلام جرى تكراره آلاف المرات - إنني قاصر، واللسان قاصر، والقلب قاصر، والذهن قاصر إذا أراد مدح وتمجيد هذا المقام الشامخ، هذا الموجود الإنساني، وهذه الفتاة الشابة، وكل هذه الفضائل، وكل هذا التألق، وكل هذا الكبرياء والعظمة، إلى درجة أن شخصاً مثل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عندما كانت تدخل عليه فاطمة الزهراء عليها السلام كان يقوم إليها1، ولا يقوم فقط بل يقوم ويسير إليها. أحياناً يدخل شخص للغرفة فتقوم احتراماً له، وأحياناً يدخل شخص إلى الغرفة فتندفع نحوه، فهل هذا مزاح أو هزل؟ ليست هذه قضيّة أب وابنته. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكرّم فاطمة الزهراء عليها السلام بهذه الصورة، ويعتبر رضاها رضاه، ورضاه
1- فضائل الخمسة، ج3، ص127.
167
140
في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام
رضا الله، وسخطها سخطه، وسخطه سخط الله. ناهيك عن حياتها مع الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام، وتربيتها أولئك الأبناء، فهل يمكن لأمثالنا التحدّث عن هذه الامرأة الجليلة؟ ومع كلّ هذا فإن هذه السيدة الجليلة نموذج وقدوة. مراتبهم ومقاماتهم بلا شك أعلى من الملائكة المقربين، ومع ذلك لم يعيشوا ولم يتحدثوا ولم ينهجوا نهجاً غير ممكن الوصول إليه، كلا، على حدّ تعبير المرحوم العلامة الطبطبائي، إنهم كالذي يقف على قمّة الجبل، ويقول للناس اصعدوا إلى هنا، إليّ وإلى القمة، ويدعوهم لبلوغ الذروة، لا كالشخصيات المصطنعة في العالم المادي، وأصحاب المواهب المعنوية الزائفة، يقبعون في أبراجهم العاجية، وغرفهم الزجاجية ولا يصل إليهم أحد، كلا، بل يقولون لنا تعالوا تعالوا، هذا هو الطريق. علينا أن نسير خلف الأئمة الأطهار فحياتهم نموذج وقدوة لنا. نعم، "ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك"1 لا نستطيع أن نسير مثلهم، وليست لنا لياقة ذلك، ولا طاقة لنا بذلك، لكننا نستطيع أن نجعل الدرب الذي ساروا عليه مساراً لحياتنا، واتجاهاً لنا، ونسير في هذا الاتجاه.
يوم المرأة العالمي
والنقطة الثالثة تتعلق بمناسبة اليوم... يوم المرأة. قال الإمام الخميني قدس سره في إحدى كلماته مخاطباً النساء: "إنكنّ حين رضيتنّ بأن يكون يوم ولادة فاطمة الزهراء عليها السلام يوماً للمرأة، فهذا يرتب على عواتقكنّ مسؤوليات وتكاليف". يومكم، يوم المرأة ويوم الأم، وهو يوم فاطمة الزهراء عليها السلام، فما معنى هذا؟ إنّها خطوة رمزيّة وعمل رمزي (شعائري). ومعناه أنّ المرأة يجب أن تسير على هذا الصراط، والعظمة والجلالة، وعلو المقام والقدر يتحقّق للمرأة في هذا الدرب، الدرب الذي تتوفر فيه التقوى والعفاف، والعلم والخطابة، والصمود في مختلف الميادين التي تحتاج إلى الصمود، وتربية الأبناء، والحياة العائلية، وفيه الفضائل والجواهر المعنوية كلّها. على النساء السير في هذا الاتجاه.
لحسن الحظ، فإن نساء مجتمعنا كنّ هكذا - للحق والإنصاف - لا في الثورة فقط، بل لقد كنّ هكذا في الماضي أيضاً. النساء الإيرانيات المتدينات كنّ من الروّاد في مختلف الميادين، وفي كلّ القضايا. لقد كنّ في الساحة قبل بدء الكفاح الشديد في النهضة الدستورية، وخلال برهة معينة من الزمن خمد كفاح النهضة الدستورية، ثم اشتدّ ودخل فيه الجميع. عندما لم يكن الجميع قد دخلوا في هذا الكفاح، وكان هناك في الواقع عدد من العلماء والخواص يتابعون هذه الأمور قامت النساء وشكّلن اجتماعاً وجئن وسددن طريق الحاكم يوم ذاك، فهرب منهنّ وذهب واختبأ في قصره! فلحقنه
1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 45.
168
141
في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام
وإذ بمأموري الحكومة ينهالون عليهنّ بالضرب، نزلن إلى الساحة يومذاك بالشادور والشاقشور - غالبيتكم بل ربما جميعكم لم يروا "الشاقشور"1 - نزلن إلى الساحة بهذه الحالة. ويظنّ بعضكم أنّ المرأة ما لم تكن سافرة وعديمة الأخلاق، فلن تستطيع الدخول في الميادين الاجتماعية والسياسية المختلفة. في ثورتنا وفي بعض مناطق البلاد شكّلت النساء التجمعات قبل الرجال، وسرن في الشوارع وواجهن السلطة، ولدينا معلومات أكيدة عن هذا. لقد كان الحال هكذا في فترة الثورة، وفي حالات النضال المتنوعة بعد انتصار الثورة، وكذلك في الحرب المفروضة.
لقد قلتها مراراً!. إنني في زياراتي لعوائل الشهداء غالباً ما أجد أمهات الشهداء أشجع وأكثر مقاومة من آباء الشهداء. وهل يمكن مقارنة محبة الأم وعاطفتها بعاطفة الأب؟ فالمشاعر النسوية الرقيقة،،وخصوصاً تجاه فلذة كبدها بعد أن ربّته وكبّرته وأنشأته كباقة ورد، ثم ترضى بأن يتوجّه لساحات الحرب ويستشهد، ثم لا تبكي على جنازته من أجل أن لا يفرح أعداء الجمهورية الإسلامية! وقد قلت - أنا العبد - لعوائل الشهداء مراراً ابكوا! لماذا لا تبكون؟ لا عيب في البكاء. لكنهم لا يبكون، ويقولون نخشى أن يفرح بذلك أعداء الجمهورية الإسلامية.
لا تسمّها امرأة بل سمّها صانعة رجال العصر2...
هؤلاء هنّ نساء إيران، وقد خرجن من الامتحان مرفوعات الرؤوس.
مراقبة النفس
طبعاً الإنسان معرض للزلل، الرجال معرضون للزلل، والنساء معرضات للزلل، والشباب عرضة للزلل، وكذلك الشيوخ، والعالم والجاهل والكل معرضون للزلل... "والمخلصون في خطر عظيم"3. أين المخلص الآن؟ كلنا سيجري علينا هذا المعيار. حتى لو حقّقنا هذا المعيار وكنا من المخلصين، فإن المخصلين في خطر عظيم أيضاً! لذلك علينا أن نراقب، أعداء دنيانا وأعداء آخرتنا وأعداء عزتنا وأعداء نظام الجمهورية الإسلامية يستغلون نقاط ضعفنا: ميلنا للشهوات عندنا، ومشاعر الغضب عندنا، وسعينا للسلطة، وحبّنا للتباهي والتظاهر. يجب أن نراقب أنفسنا. والسيدات العزيزات أيضاً يجب أن يراقبن أنفسهن، والفتيات الشابات أيضاً يجب أن يراقبن.
هذه الحياة تنقضي، ملذاتها وصعابها تنقضي بطرفة عين. إنّكم في فترة الشباب لا
1- الشادور والشاقشور والروبند: أنواع من الحجاب الإسلامي الإيراني المغلق.
2- عمان الساماني، ديوان الأشعار.
3- ذكرها سماحته بالعربيّة في سياق خطبته.
169
142
في لقاء مدّاحي أهل البيت عليهم السلام
تدركون هذا الكلام جيداً. الإنسان في فترة الشباب يتصوّر أنّ الدنيا ثابتة وساكنة، وأنّه هكذا هو الأمر دائماً. حينما تصلون إلى أعمارنا وتلقون نظرة تجدون كم الدنيا سريعة الانقضاء، تنقضي بطرفة عين، وفي ذلك الجانب: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾1، الحياة هناك، ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ﴾2- التي قرئت اليوم في جملة الآيات الكريمة - وهناك البشارات الإلهية. من أجل العالم هناك ومن أجل صيانة عزة البلاد وتقدمها، على النساء أن يراقبن وضع الحجاب والعفاف والضوابط والالتزام، هذا واجب،، فالاستعراض والتمظهر بالزينة لحظة واحدة، وآثاره السيئة على البلاد وعلى المجتمع وعلى الأخلاق، وحتى على السياسة، آثار تخريبية دائمة. والحال أن مراعاة العفاف والحدود الشرعية في سلوك السيدات وتحركاتهن حتى لو كان فيه صعوبة فهي صعوبة قصيرة الأمد لكن آثاره عميقة باقية. السيدات أنفسهن يجب أن يراقبن بدقة قضية الحجاب والعفاف. فهذا من واجبهن وفخر لهن، ويمثّل شخصيتهن.
الحجاب مدعاة لرفعة شخصية المرأة وحريتها، خلافاً للدعايات البلهاء والسطحية للماديين، ليس الحجاب مدعاة لأسر المرأة. المرأة بتركها حجابها وبتعرية الشيء الذي أراد الله تعالى والطبيعة أن تستره، إنمّا تصغر نفسها وتحطّ من قدرها وتهين نفسها. الحجاب وقار ورصانة وقيمة للمرأة، إنّه رجحان كفة سمعتها واحترامها. ينبغي معرفة قدر ذلك حق المعرفة، ويجب تقديم الشكر للإسلام لقضيّة الحجاب هذه، فهذا من النعم الإلهية.
على كلّ حال الكلام في هذا السياق أيضاً كثير. نتمنى أن يوفقكم الله تعالى وإيّانا لنستطيع النهوض بواجباتنا، إن بقينا أحياء للعام القادم واستطعنا المشاركة في اجتماعكم إن شاء الله. نتمنى أن يشعر المدّاحون بأنّهم قطعوا خطوات واسعة بالاتجاه الذي جرى ذكره.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- العنكبوت، 64.
2- الشورى، 23.
170
143
في مراسم تخريج دفعة من الضبّاط والرتباء
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في مراسم تخريج دفعة من الضبّاط والرتباء
المناسبة: ولادة الإمام الباقر عليه السلام، وذكرى تحرير خرّمشهر.
الحضور: جمعٌ من القادة والعسكريين الحرس، ودفعة من الضبّاط والرتباء الخرّيجين.
المكان: جامعة الإمام الحسين عليه السلام للضبّاط الحرس.
الزمان: 23/5/2012م.
171
144
في مراسم تخريج دفعة من الضبّاط والرتباء
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نبارك حلول شهر رجب المبارك، وولادة الإمام الباقر عليه السلام، وسنوية الثالث من خرداد المجيدة1، وكذلك نبارك لكم أيها الشباب الأعزاء نيل الترقيات والرتب في جهاز حرس الثورة.
لقد منّ الله تعالى علينا بنعمة الخدمة في الجمهورية الإسلامية، وهي نعمةٌ كبرى يتوجّب علينا شكرها. إنّ ميدان اليوم الذي كان بحمد الله غنياً بالابتكار والإبداع، وقد هيمنت مشاهد الإستعراض الجميلة الرمزية على كلّ مراسمه وبرامجه، هو نموذجٌ من نداء الثورة الإسلامية المتوجّه إلينا وإلى كلّ الأجيال الآتية. يقول الله تعالى في القرآن:﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾2، فالذين بايعوا رسول الله فقد بايعوا الله في واقع الأمر، وتلك اليد التي علت على أيديهم هي في الواقع يد الله. فالمبايعة للإسلام والدين وتحمّل المسؤولية الإلهية هي مثل هذه البيعة. فالإنسان إنما يبايع الله. ثم يقول تعالى ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾3، فكلّ من ينقض البيعة فإنّه يجلب الضرر لنفسه. ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾4، فالأوفياء بالعهد والثابتون عليه سينالون من الله تعالى الثواب العظيم. ولا ينحصر هذا الثواب بالآخرة ـ وإن كان ثواب الآخرة من العظمة والعمق والمضمون ما لا تقدر على استيعابه أذهاننا المادية والدنيوية ـ بل يشمل الدنيا أيضاً. ثواب أولئك الذين يتحرّكون بهذه البيعة الإلهية على طريق الله ويثبتون هو العزّة والرفعة والحرية والعظمة.
أتعلمون من أيّ مستنقعٍ للذلّ ـ والذي فُرض من قبل سلطة الملوك والسلاطين الظلمة طيلة قرونٍ ـ خرج شعب إيران إلى أوج العزّة اليوم! فاليوم شعب إيران عزيزٌ مقتدرٌ رائدٌ ومتقدّم، يحدوه الأمل والثقة بمستقبله والأفق الآتي يبتسم له. وفي عمق الكيان يشعر أفرادنا وشبابنا وشيوخنا وشرائحنا المتنوعة بالهوية، ويعلمون إلى أين يتّجهون وكيف أنّ مساعيهم ذات معنى. فكلّ هذه ذات قيمة.
1- ذكرى تحرير خرمشهر (أيار).
2- الفتح، 10.
3- الفتح، 10.
4- الفتح، 10.
173
145
في مراسم تخريج دفعة من الضبّاط والرتباء
إنّ الشعوب وعلى أثر الانفصال عن الدين والمعنويات والله تصبح فارغة، وتفقد هويتها، وتُبتلى بالضياع والحيرة. إنّ الشعوب عندما تبتعد عن أحكام الله تسقط في المذلّة، مثلما ابتُليت الأمة الإسلامية وعلى مرّ القرون بالذلّ. إنّها استقامة ووفاء شعب إيران التي وضعت مقابل هذا الشعب هذه الجادّة المحكمة المعبّدة ذات العاقبة الحسنة. ولا شك بأنّ الجادّة المعبّدة لا تعني الجادّة الخالية من المتاعب. فالمصاعب كثيرة لكنّها تحقق وتظهر فضل وعظمة وفتوّة البشر.
نعمة الشباب
شبابنا الأعزّاء، اعرفوا قدر نعمة الشباب، والطاقات الذهنية والجسمانية، ونعمة القلوب الصافية والنورانية التي حباكم الله بها. اسعوا فهذا البلد لكم والمستقبل إليكم، أنتم الذين يجب عليكم أن تتقدموا الأمة الإسلامية وهذه القافلة، فتتحركوا نحو رفعة الأمة الإسلامية بشدّة وسرعة وتصاعد. لقد بدأ السابقون هذا الطريق فجاهدوا وضحّوا.
نشكر الله على أنّ قوّاتنا المسلّحة وقوّات الحرس عندنا، وجيش الجمهورية الإسلامية، وجميع منظّمات القوى المسلّحة، قد ثبتت في هذا الطريق وأصرّت عليه، وتركت تجارب خالدة للذكرى.
إنّ الطريق أمامكم، والعمل عملكم. فاسعوا لكلّ ما يمكنكم في هذا المجال. ها هو شعب إيران يتوجّه نحو العزّة والرفعة المتنامية يوماً بعد يوم. فتطوّرنا ورقيّنا واستقرار العدالة بيننا ـ حيث أن هذا العقد1 قد تعهّد بذلك ـ ستساعد على تطوّر وانتشار العدالة في العالم الإسلامي، وفي النهاية في كلّ العالم.
إنّ جبهة الظلم والاستكبار والتسلّط في العالم آيلة إلى الضعف، وأما صخب ضجيجها الظاهر فهو ليس مظهراً على قدرتها الحقيقية. وأينما انبعث نور المعنويات والإيمان، فإنّ الظلمات ستبهت بشكل طبيعي لتزهق بالتدريج. وهذا ما يجري الآن في العالم. وإنّ أقساماً مهمة من هذا العمل ملقاة على عاتق شبابنا الأعزاء، وإنّ أحد أكثر هذه الأقسام حساسية ملقىً على عاتقكم أنتم أيها الشباب الأعزاء.
نسأل الله تعالى أن يوفقكم وأن يوفّقنا أيضاً لمعرفة قدركم أيها الشباب الأعزاء. وبمشيئة الله نقرأ في وجوهكم النورانية وجباهكم الشامخة مستقبلاً مليئاً بالفخر لشعب إيران والأمة الإسلامية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- أي عقد التطور والعدالة الذي اطلقته الجمهورية الإسلاميّة كبرنامج اصلاحي تنموي لمدّة عشر سنوات.
174
146
نداء الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة حلول رأس السنة الإيرانية
نداء الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة حلول رأس السنة الإيرانية
المناسبة: يوم النوروز، وحلول العام الإيراني الجديد 1391 هـ .ش.
الزمان: 20/3/2012م.
175
147
نداء الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة حلول رأس السنة الإيرانية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يا مقلب القلوب والأبصار، يا مدبّر الليل والنهار، يا محوّل الحول والأحوال، حوّل حالنا إلى أحسن الحال.
اللهم كن لوليّك الحجّة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة، وفي كل ساعة، وليّاً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً، حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً.
اللهم، اعطه في نفسه وذريّته وشيعته ورعيّته وخاصّته وعامّته وعدوّه وجميع أهل الدنيا ما تقرّ به عينه وتسرّ به نفسه.
أبارك عيد النيروز وحلول العام الجديد لكلّ أبناء الوطن العزيز في كل أنحاء البلاد، ولكل الإيرانيين الساكنين في أي مكان من العالم، ولكل الشعوب التي تحيي عيد النيروز، وأبارك خصوصاً لعوائل الشهداء الكريمة، وللمعاقين وعوائلهم، ولكل المضحين، ولكل الناشطين في شتّى المجالات. أتمنى وأدعو الله تعالى أن يقدّر للشعب الإيراني في هذه السنة الجديدة حسن الحال والسرور والنشاط وبهجة القلب، وأن يقدّر لمن يريدون لهذا الشعب السوء الإخفاق في أهدافهم إن شاء الله.
العام الذي مضى، عام 1390هـ .ش. (2011م) كان من الأعوام المليئة بالأحداث على مستوى العالم وفي المنطقة وفي بلادنا. ما يلاحظه المرء على العموم هو أن هذه الأحداث انتهت عموماً لصالح شعب إيران وسارت على سبيل المساعدة في تحقيق أهدافه. الذين تجول في رؤوسهم أهداف سيئة في البلدان الغربية تجاه الشعب الإيراني وإيران والإيرانيين، يعانون من مشكلات متنوعة. وعلى مستوى المنطقة فإن الشعوب التي دعمتها الجمهورية الإسلامية دائماً حقّقت أهدافاً كبيرة، سقط بعض الديكتاتوريين، وجرت في بعض البلدان المصادقة على دساتير قائمة على الإسلام، وتمّت محاصرة العدو الأول للأمة الإسلامية والشعب الإيراني - أي الكيان الصهيوني - وفي داخل البلاد كان عام 1390عام تجلي اقتدار الشعب الإيراني بالمعنى الحقيقي للكلمة. وعلى المستوى السياسي أبدى الشعب الإيراني في هذه السنة سواء في تظاهرات الثاني والعشرين من بهمن أو في إنتخابات الثاني عشر من إسفند، أبدى مشاركة، وسجّل مؤشراً للإقتدار الوطني في تاريخ المنطقة قلّ ما شاهدناا نظيراً له في الماضي.
على الرغم من كل هذه الخصومات، وكل هذه الإعلام، وكل هذه الهجمات العدائية المسيئة، استطاع الشعب الإيراني - طوال هذه الأعوام - وبكل كيانه إظهار وإثبات تواجده في الساحة، وإظهار نشاطه وحيويته، واستعداده في مختلف الميادين العلمية
177
148
نداء الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة حلول رأس السنة الإيرانية
والاجتماعية والسياسية واللاقتصادية. كان والحمد لله عاماً تحقّقت فيه مكتسبات كبيرة على الرغم من كل الصعاب. وكما سبق وقلنا، فإنّ الظروف كانت تشبه ظروف بدر وخيبر، أي ظروف تقبل التحديات والصعاب والانتصار عليها.
وكما أعلن في بداية العام الماضي، فقد كان عام 1390 عام الجهاد الاقتصادي. مع أن الواعين والمطلعين كانوا يعلمون أن هذه التسمية وهذا التوجّه وهذا الشعار كان أمراً ضرورياً لسنة 1390هـ .ش.، لكن مساعي الأعداء في هذه السنة أثبتت بعد ذلك هذا الشيئ ودلّت عليه. بدأ أعداؤنا منذ بداية السنة تحركاتهم العدائية ضد الشعب الإيراني في المضمار الاقتصادي، لكن الشعب الأيراني والمسؤولين وكل أبناء الشعب والأجهزة المختلفة استطاعوا بتدابيرهم الواعية مجابهة هذا الحظر وكل أشكال المقاطعة، واستطاعت مواجهتهم إلى حدّ كبير إحباط هذا الحظر، وإكلال حراب العدو. كانت سنة 1390 سنة النشطة العلمية الكبرى، وسوف اشرح لشعبنا العزيز في فرصة الخطاب إن شاء الله بعض جوانب التقدم العلمي والاقتصادي والجهود المتنوعة. كان عام 1390 مليئاً بالتحديات وعاماً زاخراً بالنشاطات، وعاماً استطاع فيه الشعب الإيراني بفضل من الله الانتصار على التحديات التي واجهته.
أمامنا هذه السنة عاماً آخر، وسوف يستطيع الشعب الإيراني مرة أخرى - على أمل الله وبالتوكل عليه وبجهوده ونشاطاته ومساعيه ووعيه - أن يحقّق لنفسه الكثير من التقدّم في هذه السنة. حسب تشخيصي وطبقاً للتقارير والاستشارات مع الأفراد المطلعين والواعين نصل إلى نتيجة أن ميدان التحدي المهم في هذه السنة الجارية - التي تبدأ اليوم ومن هذه الساعة - هو الميدان الإقتصادي. الجهاد الاقتصادي ليس بالشيء الذي ينتهي. الجهاد الاقتصادي والتواجد الجهادي في الميادين الاقتصادية حالة ضرورية لشعب إيران.
أقسّم هذه السنة القضايا ذات الصلة بالجهاد الاقتصادي، فأقول إن قسماً مهماً من القضايا الاقتصادية يتعلق بقضية الإنتاج الداخلي. إذا استطعنا بتوفيق من الله وبإرادة الشعب وعزيمته الراسخة وبجهود المسؤولين، أن نتقدم في قضية الإنتاج الداخلي، ونحقق فيها الازدهار كما ينبغي لها، فلا مراء أن جانباً مهماً من مساعي العدو سوف يكتب له الإخفاق. إذن، جانب مهم من الجهاد الاقتصادي هو قضية الإنتاج الوطني. إذا استطاع الشعب الإيراني بهمّته وعزيمته ووعيه وذكائه، وبمواكبة المسؤولين ومساعدتهم، وبالبرمجة والتخطيط الصحيح، إذا استطاع معالجة مشكلة
178
149
نداء الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة حلول رأس السنة الإيرانية
الإنتاج الداخلي والتقدم في هذا الميدان، فلا مراء أنه سينتصر انتصاراً تاماً وجاداً على التحديات التي يسبّبها العدو. وإذاً، فقضية الإنتاج الوطني قضية مهمة.
إذا استطعنا إضفاء الرونق والازدهار على الإنتاج الداخلي فسوف تعالج مشكلة التضخم، وسوف تعالج مشكلة فرص العمل، وسوف يتقوّى الاقتصاد الداخلي بالمعنى الحقيقي للكلمة. وهنا سوف ييأس العدو بمشاهدة هذه الحال. وعندما ييأس العدو فسوف تتوقف مساعيه ومؤامراته ومكائده.
لذلك أدعو كل المسؤولين في البلاد وكل المعنيين بالمجال الاقتصادي وكل أبناء شعبنا الأعزاء لجعل هذه السنة سنة ازدهار الإنتاج الداخلي. وهكذا فشعار هذه السنة هو "الإنتاج الداخلي، دعم العمل والرأسمال الإيراني". ينبغي دعم عمل العامل الإيراني، ودعم رساميل أصحاب الرساميل الإيرانيين، وهذا غير ممكن إلا بتعزيز الإنتاج الوطني. نصيب الحكومة في هذه العملية هو دعم الإنتاج الصناعي والزراعي. ونصيب أصحاب الرساميل والعمّال هو تعزيز عجلة الإنتاج، والإتقان في عملية الإنتاج. ونصيب الناس - وأعتقد أنه الأهم من كل هذا - هو استهلاك المنتوجات الداخلية. يجب أن نعوّد أنفسنا ونجعلها ثقافة لنا ونعتبرها فريضة علينا أن تستهلك من الإنتاج الداخلي ونتحاشى بجدّ استهلاك المنتجات الخارجية في ما يخّص أية بضاعة يوجد نظيرها الداخلي ويتركز الإنتاج الداخلي عليها. وذلك في كل المجالات. في مجال الاستهلاك اليومي، وفي المجالات الأهم، وعليه، نتمنى بهذا التوجّه والمنحي أن يستطيع الشعب الإيراني في سنة 1391 أيضاً التغلب على مؤامرة الأعداء، وكيد المسيئين ومكرهم في المجال الاقتصادي.
أسأل الله تعالى أن يوفق الشعب الإيراني ويؤيده في هذا الميدان وفي كل الميادين، وأن يسرّ روح إمامنا الخميني الجليل ويجعلها راضية عنّا، وأن يحشر الأرواح الطيبة لشهدائنا الأبرار مع أوليائهم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
179
150
رسالة الإمام الخامنئي دام ظله إلى مجلس الشورى الإسلامي
رسالة الإمام الخامنئي دام ظله إلى مجلس الشورى الإسلامي
المناسبة: انعقاد الدورة التاسعة لمجلس الشورى الإسلامي.
الحضور: أعضاء المجلس.
الزمان: 27/5/2012م.
181
151
رسالة الإمام الخامنئي دام ظله إلى مجلس الشورى الإسلامي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنّ افتتاح الدورة التشريعية التاسعة في الجمهورية الإسلامية - وبمشيئة الله الحكيم القدير- يمثل رسالة قوية يخاطب بها الشعب الإيراني العالم المعاصر، ويسجّل حقائق خالدة في ذاكرة الرأي العام للشعوب.ومن جملة هذه الحقائق المؤثر والخالدة انتصار العزيمة الوطنية على الكمّ الهائل لحالات العداء، والبنية المتينة الرصينة للنظام المنبثق من الثورة الإسلامية، والدور الفذ والفريد للإيمان والبصيرة في تكوين مسيرة حياة الشعب ومصيره، ومن ثم الصورة الحقيقية لشعب أنزل إلى الساحة ولأول مرة، الحاكمية الشعبية الإسلامية لا بلسانه بل بجهاده الصعب، وأبطل ادعاءه عزلة الدين عن الحياة الاجتماعية. نجاح الشعب الإيراني في بعث هذه الرسالة العميقة المغزى والمنوّرة للرأي العام العالمي هو لطف آخر من الله القدير الرحيم الذي منّ بمعونته وهدايته طوال هذه المسيرة الزاخرة بالتحديات، ولم يترك هذا الشعب المؤمن المجاهد وحيداً. أشكر الله عزّ وجلّ من كل كياني، وأمرّغ جبهة الحمد على عتبة عظمته.كما أجد لزاماً أن أقدم التحيات بقلب مفعم بالتكريم والعرفان للشعب الإيراني الكبير صانع التاريخ، وأشكر تواجده ومشاركته في الوقت المناسب في ساحة هذا الاختبار، والتي عبّرت كما كان الحال دائماً عن بصيرته وثقته بالنفس، ومعرفته الصحيحة للزمن والظروف. كما أجد من واجبي أن أشكر وأقدّر المسؤولين والعاملين على إقامة الانتخابات في وزارة الداخلية، ومجلس صيانة الدستور، والأجهزة والمؤسسات المساعدة في هذه العملية، وخصوصاً مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، وقوات حفظ النظام والأمن، والتيارات والشخصيات الدينية والسياسية التي مارس كل واحد منها دوره في إقامة هذه الملحمة الجماعية.كما أجد من الضروري أن أتقدم بالشكر الصميمي لكل نواب المجلس الثامن ورئيسه المحترم على الخدمات التي وفقوا لها خلال دورة مسؤوليتهم. والآن، في مستهل المجلس التاسع، فإن توصيتي الأهم لنوّابه المحترمين هي أن لا يفكروا في هذا الموقع الخطيرالذي حصلواعليه بأصوات الجماهير بسوى المسؤولية الإلهية وأداء الواجب الثقيل لنيابة الشعب، ولا يشركوا المحفزات والحبّ والبغض الشخصي والفئوي والطائفي والمحلي في عملية التشريع التي تعتبر أهم واجبات مجلس الشورى الإسلامي، وكذلك في عملية الإشراف على تنفيذ القوانين، وطبعاً في اتخاذ المواقف التي تترك تأثيراتها على أجواء البلاد.والقانون هو في صدر
183
152
رسالة الإمام الخامنئي دام ظله إلى مجلس الشورى الإسلامي
كل هذه الأمور. يجب أن يكون كفؤاً وعصرياً وشفافاً ومرتبطاً بالاحتياجات العامة، وضامناً للمصالح الوطنية. في عقد التقدّم والعدالة يجب أن تساعد جميع القوانين على تحقيق هذين المؤشرين العامين، وأن تكون لها وفق نظرة طويلة الأمد، أطول وأوسع ما يمكن من المديات. يجب إحصاء أولويات البلد لتحتل مكانتها المناسبة في عملية التشريع. مجلس الشورى الإسلامي ركن أساسي للبلاد والنظام الإسلامي. كل ما هو بارز وجليّ في النظام الإسلامي يجب أن يتبلور وينعكس في المجلس. الإيمان والشجاعة والريادة والصمود على مباني النظام، والصمود أمام الأعداء، والعصرية والتجديد، والوحدة والانسجام الوطني، والعمل والجدّ التضحوي، واستخدام كل الإمكانيات الفردية والجماعية، علامات يمكن معرفة المجلس الناجح بها. ومن العلامات المهمة الأخرى التعاون الحقيقي والصميمي مع السلطات الأخرى وتحاشى التحديات غير المبررة، وهي علامة ذات نصيب حاسم في الاتحاد الوطني الذي أصرّعليه المخلصون للبلاد دوماً، واعتبروا المصالح العامة ماء وجه الشعب الإيراني في أنظار العالم منوطاً به. وهذا التوصية موجّهة بعينها لسائر السطات في البلاد، ولكل الأشخاص والمؤسسات المسؤولة. الكل يجب أن يعتبروا القانون فصل الخطاب. لقد قدمت للنوّاب المحترمين في الدورات السابقة من المجلس بعض التوصيات، وذكّرت بأداء الواجب الإلهي الذي هو مسؤوليتهم في هذه الدنيا العاجلة الانقضاء، وأمام حضرة العدل الإلهي الذي لا يتغاضى عن شيء في نشأة الآخرة. والآن أيضاً أحيلكم أيها النواب المحترمون إلى تلك التوصيات المخلصة.
وفي الختام، أنهى الكلام بإهداء السلام والتحيات للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام، ولسيدنا ولي الله الأعظم (روحي فداه)، وبالسلام على أرواح الشهداء الطيبة، والروح المطهرة لإمام الشهداء، وأسأل الله التوفيق والهداية والعون لكم جميعاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السيد علي الخامنئي
7 خرداد 1391هـ .ش.
184
153
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
المناسبة: الذكرى 23 لرحيل الإمام الخميني.
الحضور: حشودٌ غفيرة من جماهير الشعب.
المكان: ضريح الإمام الخميني قدس سره - طهران.
الزمان: 3/6/2012م.
185
154
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبينا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، وصحبه المنتجبين المصطفين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وصلّ على بقية الله في الأرضين الذي يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
قال الله الحكيم في كتابه ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ *الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾1.
أحمدُ الله سبحانه وتعالى أن منّ علينا بفرصة الاجتماع ثانية إلى جوار الضريح الطاهر للإمام والقائد والمرشد وزعيم هذه الأمّة الكبير، لنجدّد العهد والبيعة مع هذا الإمام الهمّام عجل الله تعالى فرجه الشريف، ونعيد قراءة سيرته، ونقتبس منها دروساً ـ دروس الثورة الإسلامية ـ من أجل أن تنير طريق مستقبلنا، وتصحّح مسيرتنا.
شخصيّة الإمام الأبويّة
تتصادف هذه الأيّام مع العيد السعيد لمولد أمير المؤمنين عليه السلام، وهو أبو هذه الأمّة. لقد أطلق شعبنا على اليوم الثالث عشر من رجب اسم "يوم الأب". إمامنا الكبير كان له حقّ الأبوّة على هذا الشعب وعلى هذا البلد. أبو الأمّة يعني مظهر الشفقة والرحمة، ومظهر القدرة والصلابة والشخصيّة. قوّة الشخصيّة الأبوية إلى جانب المحبة والرحمة الأبوية. إضافة إلى ذلك، فإنّ الإمام هو أبو النهضة الإسلامية المعاصرة في العالم الإسلامي. أحد المواضيع الرئيسة في سيرة الإمام وسلوكه، والتي سنتطرّق إليه اليوم ونتحدّث عنه، هو نفخ روح العزة الوطنية في هيكل البلد.
العزّة الحقيقيّة
الكلام حول هذه النهضة العظيمة للإمام التي أحيت العزة الوطنية في بلدنا وشعبنا بحث يستند إلى وقائع المجتمع، وليس مجرّد بحث ذهني صرف. ماذا تعني العزة؟ العزّة هي البنية الداخلية المتينة لأيّ فردٍ أو أي مجتمع التي تهبه الاقتدار في مواجهة العدوّ والعقبات، وتجعله يتغلب على التحديات.
1- الشعراء، 217-220.
187
155
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
بدايةً، سأعرض بحثاً قرآنياً مقتضباً. في المنطق القرآني، العزّة الواقعية والكاملة هي لله، ولكلّ من يختار أن يكون في جبهة الحق. وفي المواجهة بين جبهة الحق وجبهة الباطل، بين جبهة الله وجبهة الشيطان، تكون العزّة لأولئك الذين يختارون أن يكونوا في جبهة الله، هذا هو المنطق القرآني ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾1، ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾2، العزّة لله، العزّة للرسول وللمؤمنين، فما لم يدرِك المنافقون والكافرون هذا الأمر، فإنّهم لن يفهموا أين تكمن العزّة، وأين هو قطب العزّة الواقعية. في سورة النساء، يقول القرآن الكريم بشأن أولئك الذين يربطون أنفسهم بمراكز القوى الشيطانية من أجل الحصول على الشأنية والقوة ﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا﴾3، فهل يبتغي العزة من يلجأ إلى أنداد الله وأعدائه، وإلى القوى المادية؟ إنّ العزة عند الله. وفي سورة الشعراء المباركة هناك تقريرٌ عن مجموعة من التحدّيات التي واجهها الأنبياء العظام ـ فيما يخصّ النبي نوحاً والنبي إبراهيم، والنبي هوداً والنبي صالحاً، والنبي شعيباً والنبي موسى ـ يتحدّث بالتفصيل حول التحديات التي واجهها هؤلاء الأنبياء ويقدّم تقريراً إلهياً عن الوحي إلى أسماع الناس. وفي كل مقطع من المقاطع التي واجهها هؤلاء كانت الغلبة لجبهة النبوة على جبهة الكفر، يقول ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾4، أي إنّه بالرغم من أنّ الطرف المقابل كانوا هم الأكثرية، وكانت السلطة والأموال والأسلحة بأيديهم إلا أن جبهة التوحيد هي التي انتصرت عليهم، وهذه هي آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وربك هو العزيز الرحيم. بعد ذلك يكرر القرآن هذا التقرير على مدى هذه السورة المباركة، فإنّه يتوجّه إلى النبي في آخر السورة ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾5 أي توكّل على الربّ العزيز والرحيم، واعتمد عليه، فهو الضامن لغلبة الحقّ على الباطل ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾6، هو الذي يراك في كل الأحوال، في حال القيام والسجود والعبادة والعمل والسعي، هو حاضر وناظر (يراك)، ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾7. إذاً في منطق القرآن، يجب طلب العزّة من الله.
1- فاطر، 10.
2- المنافقون، 8.
3- النساء، 139.
4- الشعراء، 8-9.
5- الشعراء، 217.
6- الشعراء، 218-219.
7- الأنفال، 61.
188
156
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
العزّة حصانة المجتمع
عندما تشمل العزّة حال أي إنسان، فرداً أو مجتمعاً، فإنّها تصبح كالسور والحصن المنيع أمام الأعداء، يصعب النفوذ إليه، ومحاصرته والقضاء عليه، فيحفظ الإنسان من نفوذ وغلبة العدوّ. وكلما رأينا هذه العزة متجذّرة أكثر في وجود الفرد والمجتمع، كانت تأثيرات هذا التماسك والحصانة أكثر، ويصل الأمر بالإنسان إلى أن يبقى مصوناً من غلبة ونفوذ العدوّ السياسي والعدوّ الاقتصادي، ويكون أيضاً محفوظاً من غلبة ونفوذ العدوّ الأكبر والأساسي أي الشيطان. أولئك الذين لديهم العزة الظاهرية، ولا يكون لهذه العزّة وجود في قلوبهم ووجدانهم وفي عمق وجودهم، سيكونون عزّلاً مسلوبي الإرادة أمام الشيطان، وسينفذ إليهم.
عزّة النفس وقهر الأهواء
من المعروف أن الإسكندر المقدوني كان يمر في إحدى الطرق، وكان الناس يعظِّمونه، وكان هناك رجلٌ ورع مؤمن يجلس في إحدى الزوايا، فلم يبدِ احتراماً أو يقف له إجلالاً، فتعجّب الإسكندر وأمر بإحضاره فأحضروه. فقال له: لماذا لم تنحن أمامي؟ قال: لأنك عبدٌ لعبيدي، فلماذا أنكّس رأسي لك؟ فقال الاسكندر: كيف ذلك؟ قال: لأنك أنت عبد شهوتك وغضبك، والشهوة والغضب عبداي، وهما تحت إرادتي، ولي الغلبة عليهما.
بناءً عليه، إذا كانت عزّة النفس نافذة في عمق وجود الإنسان، عندها لن يكون للشيطان ولأهواء النفس تأثير على الإنسان، ولن يتلاعب الغضب والشهوة بهذا الإنسان.
الإمام الخميني أعزَّ الشعب
ونحن عرفنا الإمام قدس سره على هذه الحال. كان الإمام قدس سره طوال حياته المباركة، سواء في ميدان العلم والتدريس، أم في مرحلة النضال العصيبة، أم في ميدان الإدارة والحكم ـ عندما كان على رأس السلطة وممسكاً بزمام المجتمع ـ في كل هذا كان مصداقاً لهذه الآية ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾1. ولهذا غدت الأمور والأعمال الكبيرة، التي كان الجميع يقولون عنها إنها مستحيلة، ممكنة مع بزوغ شمس الإمام، وتحطّمت بحضور الإمام جميع السدود التي قيل إنّها لا تتحطّم. ففضلاً عن أنّه كان نفسه مظهر عزة النفس والقوّة المعنوية، فقد نفخ روح العزة في الشعب أيضاً. هذا، كان هو الإنجاز
1- الشعراء، 217.
189
157
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
الكبير للإمام الجليل. وسأوضح هذه النقطة مرة أخرى. إن شعبنا من خلال الشعور بالعزة الذي تعلّمه من الثورة ومن الإمام، استطاع أن يكتشف نفسه، واكتشف قدراته، وكانت النتيجة أنّنا شاهدنا بأمّ العين تحقّق الكثير من الوعود الإلهية في هذه العقود الأخيرة، فالأشياء التي كنا نقرأ عنها في التاريخ، ونراها في الكتب، إذ بنا نشهدها أمام أعيننا، انتصار المستضعفين على المستكبرين، وكيف أنّ قصور المستكبرين الرائعة بالظاهر بدت مبنية على شفا جرف هار، وغيرها الكثير من الحوادث الأخرى التي شاهدناها في هذه السنوات.
مرحلة ما قبل الثورة
أريد أن أركّز على هذه القضية "العزة الوطنية" حتى أصل إلى النقطة المطلوبة. اليوم هو يوم عظيم، إنّه يوم ذكرى ارتحال مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران. إن ذكرى إمامنا الجليل اليوم أكثر حياةً من أي وقت مضى. إن تراثه المبارك موجود اليوم في هذا البلد، وهو في العالم الإسلامي جلي أمام أعين الجميع. فلنعتمد على بعض أبعاد وجود هذه الحركة.
العزة الوطنية، لقد مررنا نحن الإيرانيين على مدى تاريخنا الطويل بحقب وفترات مختلفة... كان لدينا عزّة، وكان لدينا ذلّة أيضاً، ولكن على مدى الحقبة الطويلة التي امتدت لمائتي عام وانتهت بالثورة، عشنا فترة عصيبة حالكة من الذل. الكثيرون غير مطلعين على التاريخ، وكثيرون قد ينظرون نظرة خاطفة إلى التاريخ. يجب التعمق في التاريخ وأخذ الدروس منه. فنحن في المئتي سنة هذه، غرقنا في فترة مظلمة من الذلة. علامات هذه الذلّة كثيرة. نحن، في تمام هذه المرحلة، كنا شعباً منعزلاً عن الحياة السياسية، لم يكن لدينا أي تأثير بأحداث منطقتنا، فكيف بالأحداث العالمية. في مرحلة المئتي سنة هذه، وُجد الاستعمار، وجاءت الدول المستعمرة إلى منطقتنا من أقصى نقاط العالم، واستولت على بلداننا، وأسرت شعوباً، ونهبت ثروات شعوب. في هذين القرنين، كانت الحكومة الإيرانية والشعب الإيراني غافلين ولا علم لهم بما يجري من أحداث. فحتى أنهم لم يكونوا مطلعين على المجريات، ناهيك عن أن يريدوا التدخل أو التأثير فيها. كان وضعنا في المجال الاقتصادي يتّجه يوماً بعد يوم إلى مزيد من الانحطاط. وفي مجال العلم والتقنيات كنا متخلّفين تماماً، لم نكن نمتلك في مقابل تلك الحركة العلمية العظيمة في العالم، أية علوم مهمة قابلة للحديث عنها. وفي سياستنا الداخلية، كنا نحذوا حذو السياسات الأجنبية. وكان المستعمرون والقوى العالمية المسيطرة يؤثّرون على حكوماتنا، و يجرّونها ذات اليمين وذات الشمال، ويتحكّمون بها، ويستغلونها، ولم يكن يصدر عن حكوماتنا وملوكنا وأصحاب السلطة أيّ ردّ فعل
190
158
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
لائق يفتخر به الإنسان. وحتى فيما يختصّ بالحفاظ على أراضي البلاد كلها، وحفظ سيادة الدولة، شاهدنا وعشنا الضعف المخجل في مرحلة المئتي سنة هذه.
في نفس مرحلة المئتي سنة هذه، التي تمّ فيها توقيع معاهدة تركمنچاي المذلة وقبلها معاهدة كَلستان، حيث تم اقتطاع 17 مدينة من مدن القوقاز عن إيران. في هذه الفترة التي امتدت لقرنين، احتلوا بوشهر، من دون أية مقاومة ولو بسيطة من قبل الدولة أو الحكومات. في تلك الفترة أيضاً جاءت حكومة أجنبية إلى منطقة قزوين وعسكرت فيها وهدّدت الحكومة المركزية في طهران بأنه يجب عليها أن تقوم بكذا وكذا، وأن تبعد الشخص الفلاني، وإلا فإننا سوف نهاجم طهران! أي إنّهم ما إن تقدّموا إلى قزوين حتى هدّدوا طهران، وكانت الحكومة المركزية في طهران ترتعد فرائصها. و لولا بضع شخصيات نادرة آنذاك لاستسلمت الحكومة بالتأكيد لإملاءات تلك الدولة الأجنبية. وفي تلك الفترة أيضا، جاءت الحكومة البريطانية، وأوجدت الحكم البهلوي في إيران، واختاروا رضا خان ورفعوه من مكانه الوضيع إلى أعلى سلطة في البلاد، وجعلوا حكمه الملكي في البلاد بشكل قانون، وسلّموه زمام جميع الأمور، وهو بدوره كان في قبضتهم وتحت إرادتهم. وفي تلك المرحلة أيضاً، عقدت معاهدة 1919م المهينة، فوفقاً لهذا الاتفاق المعاهدة أصبح اقتصاد البلد في أيدي الأجانب، وأصبح تقرير مصير البلد السياسي والاقتصادي بيد أعداء إيران. وفي تلك المرحلة بالذات، جاء رؤساء ثلاثة بلدان - متحالفة في الحرب - إلى طهران من دون حصول على إذن من الحكومة، ومن دون أدنى اكتراث بالحكومة المركزية وعقدوا اجتماعاً. جاء روزفلت وتشرشل وستالين، بملء رغبتهم، إلى طهران وعقدوا الجلسة، ولم يأخذوا إذن أحد، ولم يظهروا أي جواز سفر. كان محمد رضا ملك إيران يومذاك فلم يأبهوا له أبداً، ولم يذهبوا لزيارته، بل ذهب هو للقائهم، وعندما دخل الغرفة لم ينهضوا له ولم يعبؤوا بحضوره! انظروا إلى ذلة هذه الحكومة المركزية التي تُفرض على الشعب إلى أين وصلت؟ هذا هو حضيض المذلة لأية حكومة أو شعب. كان هذا في حقبة القرنين اللذين مرّا علينا.
بالطبع وسط هذا، توجد استثناءات: مثلاً، تولّى أمير كبير العمل لثلاثة أعوام. وأيضاً فتوى الميرزا الكبير الشيرازي التي حسمت قضية التنباك، أو تدخّل العلماء في قضية المشروطة، أو قيام نهضة تأميم النفط في إيران في إحدى المراحل. كل هذه حالات استمرت لفترات قصيرة ومؤقتة ولم يكتب لبعضها النجاح بتاتاً، أمّا الجو العام الداخلي والحركة الكلية، فإنّها كانت حركة ذلّة، فُرضت على إيران العظيمة، وعلى هذا الشعب الكبير الصانع للتاريخ، هذا الشعب صاحب التراث التاريخي العريق.
191
159
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
الإمام أيقظ الاستعدادات
غيّرت الثورة الإسلامية الكبيرة الاتّجاه كلياً، وقلبت الصفحة. إنّ همةّ الإمام - الذي كان قائد هذه الثورة، والممسك بزمام هذه الثورة، وزعيمها - هي التي أحيت روح العزة الوطنية في هذا الشعب، وأعادت له عزّته. إنّ الإمام الجليل لقّن الناس ثقافة "نحن نستطيع"، وثبّتها في قلوبهم، وهذه هي أيضاً الثقافة القرآنية التي تقول: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾1، إن الإيمان يعني العلوّ. إنّ الإيمان وسيلة للعلوّ المادّي، ولكنه لا ينحصر بهذا، فالإيمان منشأ العلوّ، والعزّة، ورشد الشعوب. تقدم الإمام نفسه إلى الأمام وقاد، وعندها استثار الدوافع في الناس، وتفتحت الهمم والاستعدادات، وهنا صار عمل الناس وحضورهم في الساحات سبباً لاستجلاب الرحمة الإلهية. هذه نقطة عظيمة جداً، إن رحمة الله واسعة، ولكن ما لم يهيّئ الإنسان وعاءه فإن أمطار الرحمة لن تنزل. لقد نزل شعبنا إلى الساحة، وجعل نفسه وسط الميادين، فصار ذلك محلاً للرحمة والهداية الإلهية، فشملته الهداية الإلهية، وكذلك الرحمة، وشرع بحركة لا تعرف التوقّف، الحركة نحو العزة والتقدّم وصناعة العزّة، وبالطبع فقد كانت هذه الحركة سريعة أحياناً وبطيئة أحياناً أخرى، لكنها لم تتوقف ولم تتعطل.
عوامل الانتصار
عندما تتأمّلون في أدبيّات ثورة الإمام، تجدون أن الاعتماد الأساسي هو على البنية الداخلية للشعب، وإحياء روح العزة، لا التفاخر، ولا الغرور، ولا التقوقع حول النفس، بل باستحكام البنية الداخلية. ما ينبغي أن نلتفت إليه هو أنّ هذا العمل لم يكن مقطعياً، بل كان عملاً مستمراً متواصلاً، يجب على الشعب أن يواجه عوامل الركود والخمود. ثمّة عوامل تفرض التوقّف على الإنسان السالك سبيل التقدّم، وتفعّل الأمر نفسه مع الأمّة المتقدّمة. بعض هذه العوامل موجودة في داخلنا وبعضها الآخر من فعل العدوّ. فإذا أردنا أن لا نُبتلى بالركود والذلّة والتخلّف، وتلك الوضعية الوخيمة التي كانت قبل الثورة، ينبغي أن لا تتوقّف حركتنا، هنا سنكون أمام مفهوم "التقدّم"، يجب أن نكون دائماً في حالة تقدّم. إنّ هذه العزّة الوطنية وهذا الاستحكام الداخلي، وهذه البنية المحكمة، يجب أن تكون دائماً في حال تقدّم وأن توصلنا إلى التقدّم. إنّ هذا
1- آل عمران، 139.
192
160
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
العقد الزمني قد أُطلق عليه "عقد التقدّم والعدالة"1. والعدالة هي في قلب التقدّم. فالتقدّم لا يكون في المظاهر الماديّة فقط، بل يشمل جميع الأبعاد الوجودية للإنسان. ففي داخله توجد الحرية والعدالة والسموّ الأخلاقي والمعنوي، كلّ هذه ملحوظة في مفهوم التقدّم. وبالطبع، في ذلك أيضاً يوجد تقدّم مادّي، وتقدّم على صعيد مظاهر الحياة، وتقدّم علميّ.
الإمام شقّ جادّة التقدّم
والإمام بحركته قد وضعنا على تلك الجادّة التي ينبغي أن نتقدّم فيها إلى الأمام. وأيّ نوع من التوقّف في هذه الجادّة يوصلنا إلى التخلّف. الشعب الذي يتمتع بحقيقة العزة، والسائر على طريق التقدم إذا كفر هذه النعمة فسيكون مصداقاً للآية الشريفة ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾2. فالدنيا ستعود مرة أخرى إلى وضعية جهنّم، وتتبدّل الحياة إلى حياةٍ مريرة. فالشعوب ما لم تنهض وتتقدّم ستعود مرة أخرى إلى حالة الشدة وستظلّلها عهود الذلة الحالكة تلك.
الغرب الضالّ وآفاق التحدّي (نماذج التقدّم ببركة ثورة الإمام)
النموذج الأول: العزّة الوطنية
إنّنا اليوم نقف مقابل أنموذج حي فيما يتعلّق بالعزة الوطنية والتقدّم الناتج عنها. لقد قلت إنّ بحثنا ليس بحثاً ذهنياً محضاً، فهناك أنموذجٌ حيٌّ أمامنا، وهو هذا الشعب وهذا المجتمع نفسه، إنّه نموذج مجرّب وخارج من الامتحان بنجاح. إنّ شعب إيران قد نزل إلى الميدان بهذا النموذج. وإنّني سأتعرّض هنا لبعض النماذج من تقدّم الشعب الإيراني، ولكلٍّ منها شرحٌ مفصّل ومصاديق متعدّدة. وأحد نماذج تقدّم الشعب الإيراني هو تغلّبه على جميع التحدّيات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية طيلة هذه السنوات الـ 33. لقد كان هدفهم من وراء هذه التحدّيات، القضاء على النظام وإزالته من الوجود. فتعرّضوا لوجود أصل هذا النظام. وقد انتصر هذا الشعب
1- عقد التقدّم والعدالة: برنامج إصلاحي تنموي، اقتصادي اجتماعي، أطلقته الجمهورية الإسلامية مطلع عام 2010 م.
2- إبراهيم، 28-29.
193
161
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
على كلّ هذه التحدّيات. وفي هذا الميدان، عندما كان العالم بيد الشرق والغرب، انتصر شعب إيران على الشرق والغرب، وفي يومنا هذا بحسب الظاهر فإنّ العالم هو بيد الغرب الضال، واستطاع شعب إيران أن ينتصر على هذا الغرب الضال.
النموذج الثاني: القوة السياسية
النموذج الآخر لتقدّم الشعب الإيراني هو أن هذا الشعب اليوم أقوى بكثير مما كان عليه في بداية الثورة، من حيث الاقتدار السياسي، ومن حيث التأثير في أحداث العالم، ومن حيث حضوره في الأحداث الإقليمية، بل وسائر بلدان العالم. ولهذه القضية نماذج متعدّدة وشواهد عديدة. وهذا ما يصرّح به أعداؤنا. ويعترف أحد زعماء النظام الصهيوني المختلق - وهو العدوّ الأول لشعب إيران والثورة الإسلامية - ويقول ـ والكلام بعبارته نفسها ـ "توجد اليوم قوّة مقتدرة تتحرّك خلافاً لتوجّهاتنا، وإيران قد أمسكت بقيادة هذه القوّة"، فهذا السياسي العاجز والمتحيّر يعترف ويقول إنّ الخميني يضرب خيامه خلف حدودنا. وأحد السياسيين الأمريكيين المخضرمين والذي نعرفه جيداً في إحدى الاجتماعات، قارن بين أمريكا في العام 2001م وأمريكا في العام 2011م، ويقول: ـ وكلّ هذا الكلام صادرٌ في الشهرين الأخيرين ـ "أيّ مجنونٍ قد بدّل وضع أمريكا، القوّة العظمى في بداية الألفيّة، إلى تلك الظروف المحزنة التي آلت إليها عام 2011م؟" ثم يقول: "هذه التحوّلات التي وقعت وأفضت إلى هذا الوضع كانت إيران هي المثيرة والمحفّزة لها". ومعنى هذه الكلمات أنّ شعب إيران اليوم قد استطاع بحضوره واستقامته وعزّته وصلابته أن يترك بصمات واضحة وعميقة على أحداث العالم المهمة، وحوادث المنطقة ذات الأهمية. وهذا أحد مؤشّرات التقدّم، والذي كما ذكرت هو أمرٌ واقعي وماثل للعيان.
النموذج الثالث: الثورة الصناعية والعمرانية
المؤشّر الآخر هو ما يتعلّق بحجم الخدمات العمرانية في هذا البلد. بوسعكم اليوم مشاهدة الخدمات العمرانية بالمعنى الوسيع للكلمة في كل أنحاء وجوانب هذا البلد، وهي خدمات تزداد عاماً بعد عام. وهذا من جملة المؤشّرات المهمة لتقدم شعب من الشعوب. فمن مؤشرات التقدّم هو أنّ أعقَد المشاريع والأجهزة الصناعية، والمشاريع الهندسية، ومصانع الفولاذ، ومحطّات الطاقة، والأعمال الكبرى تُنجز في هذا البلد، وتجري بشكل تام على أيدي المتخصّصين الإيرانيين، والشباب الذين صنعتهم هذه الثورة.
194
162
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
إنّنا اليوم في غنى تام عن المتخصصين الأجانب في الكثير من المشاريع والأعمال المهمة التي يجري إنجازها في هذا البلد. هذا البلد الذي كان عندما يريد أن يعبّد طريقاً أو يبني جسراً في شارعٍ ما كان عليه أن يستقدم الأشخاص من الخارج، هو اليوم يقوم بالأعمال الكبرى والمشاريع الهندسية العظيمة والإنجازات المعقّدة. إنّ الذين ينجزون مثل هذه الأمور هم هؤلاء الشباب الذين تربّوا في بيئة الثورة، فتكاملوا وسموا ووضعوا على عواتقهم تلك الأثقال.
النموذج الرابع: الحركة العلمية المتسارعة
المؤشّر الآخر هو الحركة المتسارعة العلمية للبلد ـ والتي أُعلن عنها مراراً وتكراراً ـ تلك الابتكارات التي عُرضت، والمرتبة العلمية للبلاد عام 2011م، تُعدّ كلها مفاخر. وليس هذا حكماً نحن نصدره فإنّ ذلك هو تقييم المراكز العلمية الرسمية في العالم، حيث يقولون إن النموّ العلمي للبلد هو أسرع بـ 11 مرة من المعدّل العام العالمي، وعام 2011م كان قد ازداد هذا النموّ بنسبة 20% عما كان عليه في العام السابق، وهذا ما يقولونه أنفسهم. وفي بعض المجالات، كالمجال النووي والنانو تكنولوجي والخلايا الجذعية والفضاء وتقنيات الأحياء فإن وضعنا متألّقٌ. إن الأعمال التي يتم إنجازها هي أعمال متألقة، نظائرها في العالم معدودة. ومن بين جميع هذه الدول في العالم ـ الدول المتطورة وغيرها ـ فإن بعض هذه الأعمال لا وجود لها إلا في خمس أو عشر أو خمس عشرة دولة، ولم يقدّم لنا أحد أي مساعدة على المستوى العلمي. وقد أغلقوا الأبواب وسدّوا الطرق أمام طلّاب جامعاتنا في المراكز العلمية المتطوّرة في العالم، وكلّ ذلك قد نبع من الداخل. وهنا أقول أيضاً: إنّ مختلف أنواع الحظر التي طبّقوها علينا قدّمت لنا أكبر الخدمات في هذا المجال.
النموذج الخامس: نظام السيادة الشعبية الإسلامية
ومن مظاهر ونماذج ومؤشرات التقدّم هو السيادة الشعبية الإسلامية13 والتي ينبغي التوجّه إليها نظراً لأهميّتها الفائقة. لقد كان لدينا في هذا البلد انتخاباتٌ حماسية، انتخابات رئاسة الجمهورية في العهود المختلفة والتي كان أكثرها ملحمية وحماسةً، (الدورة العاشرة التي جرت قبل ثلاث سنوات)، وكذلك تلك الانتخابات لمجلس الشورى، فقد جرى تسع دورات تشريعية في هذا البلد، وجميع هذه الدورات التسع قد افتُتحت في اليوم السابع من شهر خرداد من دون أي تأخير، فهل هذا أمرٌ بسيط؟ طيلة 33 سنة كان هناك 9 دورات انتخابية للمجلس، وتشكّل مجلس الشورى
1- راجع حاشية الصفحة 117.
195
163
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
الإسلامية تسع مرات بدون أي تأخير ولو ليومٍ واحد. فلا يوجد أية حادثة سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو أي من تهديدات العدوّ استطاع أن يؤخر هذه الانتخابات يوماً واحداً. وفي جميع هذه الدورات كان السابع من شهر خرداد هو يوم تشكيل المجلس الجديد.
النموذج السادس: الشعارات الثورية الحية
المورد الآخر هو الدوافع والشعارات الثورية للناس. انظروا إلى احتفالات ذكرى الثورات في العالم، كيف تجري في تلك الدول، فإنّهم يجرون مراسم رسمية ويجتمع عددٌ من الرجال في مكانٍ ما، وفي بعض الأحيان يتم استعراض القوى المسلّحة. وفي إيران، فإنّ ذكرى انتصار الثورة ـ أي 22 من بهمن ـ يتمّ التعبير عن ذلك بواسطة ملايين الناس في سائر أنحاء البلاد بكامل الشوق والرغبة، وفي كل سنة يتعاظم هذا الشوق وهذا الحماس قياساً إلى السنة السابقة، وتكون المشاركة أكثر حماسة وأهم وأوسع، وهذا دليل على حياة هذا الشعب وتقدّمه على صعيد الأهداف الثورية.
النموذج السابع: التوجّه نحو المعنويات
وفي مجال تهذيب وتطهير الروحية الأمر كذلك، بعض الناس ينظرون إلى بعض المظاهر ويرون أنّ هناك عدداً من النساء والرجال يقومون ببعض الأعمال المخالفة، وفوراً يصدرون أحكاماً عامّة، فهذا خطأٌ. فالناس يهتمون بالمعنويات. اذهبوا في هذه الأيام إلى مساجد الجامعات سترون ماذا يحدث في أيام الاعتكاف، فمن الغد سيتوجّه شبابنا إلى المساجد للاعتكاف. وإنّ مساجد جامعاتنا تُعدّ من أكثر مراكز الاعتكاف ازدحاماً وحماساً ودفئاً، عدا عن المساجد العامة والكبرى التي يشارك فيها الجميع. هذا مؤشّر على حركة الشعب و الناس نحو المعنويات. فبهذه يمكننا أن نشخّص ونحكم على أنّ بلدنا وشعبنا في حال تطوّر. إنّ بلدنا يتقدّم في مختلف الأبعاد، وكلّ ذلك تحت راية الإسلام، وفي ظلّ الدعوة الإلهية لهذا الرجل الجليل والإنسان الشامخ والخليفة بحقّ للأنبياء والأولياء الإلهيين. هذا الرجل العظيم فتح الطريق أمام شعبنا.
الخوف من إيران الإسلاميّة لا النوويّة
المحافل السياسية والإعلام العالمي يتشدّق بخطر إيران النووية، وأن إيران النووية هي خطر! وأنا أقول إن هؤلاء يكذبون ويخادعون. إنّ ما يخشونه، وينبغي أن يخشوه، ليس إيران النووية، بل إيران الإسلامية. إنّ إيران الإسلامية هي التي زلزلت أركان
196
164
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
القدرة الاستكبارية. لقد أثبت شعب إيران أنّه شعبٌ يستطيع أن يصل إلى التقدّم الواقعي بدون الاعتماد على أمريكا أو على القوى المدّعية، بل في ظلّ عداءات أمريكا وتلك القوى. هذا درسٌ، وهم يخافون من هذا الدرس. إنّهم يريدون إقناع الشعوب والنخب السياسية أنّه بدون مساعدة أمريكا وفي خارج فلك نفوذ أمريكا لا يمكن تحقيق التقدّم. لقد أثبت شعب إيران أنه يستطيع الوصول إلى التقدّم بدون أمريكا بل في ظل عداء أمريكا. هذا درسٌ كبير وهم يخافون منه.
حسناً، هنا أصل إلى آخر الكلام في هذا المجال.
مواجهة الدنيا والذات الإنسانيّة
أعزائي، أيها الشباب الأعزاء، أيها الشعب المؤمن، لقد سجّلنا رقماً قياسياً وتقدّمنا، ولكن لو أردنا أن نرضي أنفسنا بما وصلنا إليه فإنّنا سنُهزم، فلو توقّفنا فسنرجع للخلف، ولو أُصبنا بالغرور والعجب فإنّنا سنسقط أرضاً، لو أنّ مسؤولي البلد ـ وبالخصوص ما يتعلق بنا نحن المسؤولين ـ لو أنّهم ابتلوا بمحورية الذات والتكبّر والعجب، فإننا سنُكبّ على مناخرنا. هذا هو العالم وهذه هي السنّة الإلهية. فلا ينبغي أن نكون في سعي للحصول على المحبوبية ومتاع الدنيا، ونيل الحياة الأرستقراطية والحصول على الكماليات. علينا - نحن المسؤولين - أن نصون أنفسنا كما صان هذا الرجل الجليل نفسه. فإذا أخطأنا هنا سنكون مصداقاً لتلك الآية الشريفة ﴿وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾1.
إنّ التوقّف على طريق التقدّم ممنوعٌ، والعجب والانبهار بالذات ممنوع. والغفلة ممنوعة، والنزعة الارستقراطية ممنوعة، والسعي وراء الملذات ممنوع. وكذلك الرغبة في نيل زخارف الدنيا، كل ذلك ممنوعٌ على المسؤولين، فمع هذه الممنوعات يمكننا أن نصل إلى القمم. إننا نسير على السفح ولم نصل إلى القمّة بعد، وتفصلنا عنها مسافة. يوم يصل الشعب الإيراني إلى القمة سوف تنتهي حالات المعارضة والخصام الخبيثة. وأمامنا مسافة حتى ذلك اليوم. يجب مواصلة المسير دون توقّف... إنّني أقول للشباب والمسؤولين والجامعيين والعلماء الأجلّاء ولكلّ من يمتلك القدرة على مخاطبة الناس ولأولئك الذين يؤثّرون على أذهانهم: يجب أن نكمل هذه الحركة نحو التقدّم دون
1- إبراهيم، 28-29.
197
165
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
توقّف، سواء في المجال السياسي أم العلمي والتقني، وبالخصوص في مجال الأخلاق والمعنويات. يجب أن نهذّب أنفسنا ونصلحها ونشخّص عيوبنا ونسعى لرفعها. فلو قمنا بهذا الأمر فإنّ تلك الموانع التي يوجدها أعداؤنا على طريقنا لن يكون لها أي تأثير. لن يكون للحظر أثر ولا يمكن له أن يمنع شعب إيران من التحرّك نحو الأمام. والأثر الوحيد الذي يمكن أن تتركه كل أنواع الحظر التي تُمارس من جانب واحد أو عدة جوانب على شعب إيران هي أنها تعمّق النفور والعداء للغرب في قلوب شعبنا.
الإسلام الأساس الفكري للصحوة الإسلاميّة
حسناً، إن الحديث يجري عن العزّة الوطنية. إنّ هذه النهضات والثورات التي تحدث في المنطقة ـ والتي إذا نظرتم إليها سترون أنّها جميعاً مرتبطةٌ بالعزّة الوطنية ـ من اليمن والبحرين وحتى مصر وليبيا وتونس، وكذلك تلك الدول التي ما زال الجمر فيها تحت الرماد وسوف يشتعل يوماً ما، كلّ هذه ذات دوافع ترتبط بالرجوع إلى العزّة الوطنية والعدالة الاجتماعية والحرية، وكلّ ذلك تحت ظلّ الإسلام. عندما نقول الصحوة الإسلامية فإنّ هذا الكلام له جذورٌ وأصول. فالشعوب المسلمة تريد العدالة والحرية والسيادة الشعبية، واحترام الهوية الإنسانية، وكلّ ذلك يرونه في الإسلام لا في المذاهب الأخرى، لأنّ المذاهب الأخرى قد جرّبت وفشلت. وبدون المباني الفكرية لا يمكن الوصول إلى تلك الأهداف السامية. وذاك المبنى الفكري بحسب إيمان واعتقاد شعوب المنطقة هو عبارة عن الإسلام والصحوة الإسلامية، هذه هي ماهية هذه النهضات. الغربيون والحكومات التابعة للغرب في هذه المنطقة يريدون إظهار القضية بصورةٍ أخرى، ويريدون الإيحاء للرأي العام بشيء آخر، ولكن لا فائدة من ذلك. على الشخصيات المؤثرة أن تحذر وتدقق من الالتفاف عليها. والشعوب أيضاً يجب أن تحذر من الالتفاف عليها. لقد قامت هذه الشعوب بعملٍ كبير.
مصر الثورة وأساليب الغرب الخبيثة
وقد تبدّل المناخ السياسي والاجتماعي للمنطقة تبدلاً أساسياً. وهذا ما يتعلق بالوضع الحالي: في الخطوة الأولى تغيّر المناخ السياسي في المنطقة. ونموذج ذلك أنه في مصر مثلاً حينما وصلت نهضة الشعب إلى نقطة الغليان والذروة حاول الكثير من الغربيين والحكومات المستبدة في المنطقة أن تدعم مبارك وتنقذه وتقمع الجماهير. ولكن بعد أن انتصرت الجماهير، الآن، راحت هذه القوى نفسها- وأشدّها استبداداً ودكتاتورية وذلة أمام الغربيين - تتحدث عن حقوق الشعب والديمقراطية! هذا معناه أن الديمقراطية
198
166
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
تحوّلت اليوم إلى عملة شائعة، وشعار حتمي في المنطقة بحيث اضطر حتى الذين لم يكونوا على استعداد لأن يصل اسم الشعب وحقوقه لأسماع أحد، اضطروا من أجل كسب الرأي العام للتحدث عن الديمقراطية وحقوق الشعب! إنّ مسألة هذه الثورات مهمّة جداً. وأؤكد على مصر، فمصر بلد كبير وشعب عريق ومنطقة أساسية في العالم الإسلامي، لكن الحكّام الفاسدين والمرتزقة والمنحطين والأذلاء أذلوا شعب مصر وحولوا مصر إلى كنز استراتيجي للكيان الصهيوني، وهذا تعبير أحد الزعماء الصهاينة. لقد حوّلوا دولة مصر وشعبها العظيم إلى كنزٍ للنظام الصهيونيّ الغاصب المختلق. فهل يوجد ما هو أذلّ من ذلك؟ وها هو الكنز الآن يسقط. وهو يخرج من أيدي مغتصبي دولة فلسطين. لقد ضمن نظام مبارك أمن إسرائيل طيلة 30 سنة، بل كانوا على استعداد لحبس مليون ونصف المليون من أهالي غزة في سجن كبير. مليون ونصف المليون من أهالي غزة كانوا تحت القصف الخبيث للصهاينة، ومن جهة أخرى أغلقت عليهم كل طرق عبور المؤن الحيوية عبر مصر من قبل نظام حسني مبارك، وهذا شيء لن ينساه التاريخ.
الكيان الصهيوني في حيرة
في أيام حرب الـ 22 يوماً قال أحد المجاهدين الفلسطينيين في حوار معه إنه منذ الأيام التسعة عشر التي مضت على الحرب لم نستطع استيراد حتى 19 كيلوغراماً من القمح والدقيق من مصر! كانوا قد أغلقوا طريق نقل الطعام والأدوية وسائر المستلزمات والإمكانيات في رفح، من أجل أن يجوّعوا ويضغطوا على مليون ونصف المليون إنسان ويحبسوهم في السجن لصالح الكيان الصهيوني! ها هو هذا النظام قد سقط. والنظام الصهيوني يشعر بالحيرة والضياع. وكل هذا الضجيج والصراخ الذي تسمعونه من تصريحات الزعماء الصهاينة، ورفع عقيرة إعلان العمل العسكري والهجوم العسكري يحكي عن خلوّ أيديهم ورعبهم وحيرتهم. يعلمون أنهم في مثل هذه الظروف قد أصبحوا أكثر ضعفاً من أي وقتٍ. فأي خطوة معوجّة يخطونها، وأية حركة غير مناسبة يقومون بها ستنزل على رؤوسهم كالصاعقة.
أمريكا والغرب غارقون في الأزمة
الغربيون والأمريكيون الذين كانوا دوماً يدعمون النظام الغاصب من دون قيد وشرط، أصبحوا اليوم متورطين أكثر من أي وقت مضى. فاليوم صُفع الغرب وصار وجهه بسبب هذه الصفعة محمرّاً. فهم يعانون من المشاكل المالية والاقتصادية والاجتماعية، وهم عاجزون أمام شعوبهم. فقد تهاوت عدة حكومات داعمة
199
167
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
لأمريكا في أوروبا. ولو وجد الناس هناك مجالاً فسيزيلون أي أثر من آثار الاستكبار الأمريكي في أوروبا بحضورهم وقدرتهم. هذا هو وضعهم اليوم، وأمريكا هي أسوأ من الجميع، فالشعوب تكره أمريكا، وأمريكا غارقة في الأزمة. وبالطبع أمريكا تريد نقل هذه الأزمة إلى آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، يريدون التستر على ضعفهم من خلال اختلاق الحوادث في البلاد المختلفة والمناطق الأخرى. ومن جملة الأمور التي يريدون القيام بها تحويل هذه الثورات الشعبية العظيمة إلى ضدها، وإلهاء الناس بالخلافات القومية والمذهبية والطائفية، ونحن علينا أن نكون يقظين.
اليقظة والاستعداد لمخططات أمريكا والغرب
ونحن علينا أن نكون يقظين، ها هم الأمريكيون اليوم يستفيدون من تجربة البريطانيين في إيجاد الخلافات المذهبية بين الشيعة والسنّة. الإنكليز متخصصون في بث العداوات بين الفرق والجماعات بما في ذلك بين الشيعة والسنة في العالم الإسلامي. كان هذا عملهم واختصاصهم منذ مئات السنين. والأمريكان الآن يستفيدون من تجاربهم.. تأتي قضية فلسطين وتحدث قضية مصر، وبمجرّد أن يصبحوا مقابل الشعوب حتى يسارعوا إلى طرح قضية مذهبية بطريقة ما وبخدعة معيّنة. فعلى الجميع أن يكونوا يقظين سنّة وشيعة، وعلماء الدين والنُخب الجامعية عليهم أن يكونوا يقظين، وكذلك كل أبناء الشعب. فليفهموا ماذا يُفعل، وليعرفوا مؤامرة العدوّ وخطّته، ولا يقدّموا العون والمدد للعدو. هذا ما يفعلونه اليوم.
بالطبع، إن الغربيين ومنهم الأمريكيون يتحرّكون بطريقة جنونية. إنّهم يضخّمون الملف النووي من أجل أن يغطّوا على قضاياهم أمام الأنظار. ويجعلون الملفّ النووي الإيراني على رأس قضايا العالم، في حين أن القضية ليست كذلك. وكذباً يأتون على ذكر السلاح النووي، ويضخّمون بأكاذيبهم هذه القضايا في الإعلام وهدفهم هو صرف الأذهان والرأي العام عن الأحداث التي تجري في أمريكا نفسها وفي أوروبا بالذات وحرفها عن ذلك. وبالتأكيد لن ينجحوا في ذلك.
إنّ نظرتنا إلى المنطقة متفائلة. إنّ مصر اليوم مشغولة بقضاياها الداخلية الخاصة وهذا طبيعة الثورات. فتقع أحداثٌ لا بدّ من حلّها، ويصبح الشعب مشغولاً بها.ومثل هذه الأحداث توجد بعض الفراغ فتمنح بعض الدول فرصة للتدخل في قضايا المنطقة بما ينسجم مع رغبة الغرب وأمريكا، فبالنيابة عن أمريكا ينفقون الأموال ويتحرّكون
200
168
في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره
ويسافرون هنا وهناك. ولكن إن شاء الله فإنّ الدول التي حدثت فيها الثورات وخصوصاً بلاد مصر الكبيرة سوف ترجع إلى استقرارها، وتتغلّب على المشاكل والخدع. لقد سقط النظام الدكتاتوري وسوف تُطوى صفحة الأذناب إن شاء الله، وستعود الشعوب إلى القيام بدورها.
مظلوميّة شعب البحرين
هنا بالطبع يلزم أن أقول بصراحة إنّ شعب البحرين في وسط أحداث المنطقة يعاني من مظلومية مضاعفة، فهم في الواقع مظلومون. إن شعب البحرين يتم قمعه بواسطة النظام المستبد والدكتاتوري بدون سببٍ، فيتم الرد على اعتراضاتهم بأعنف الطرق، في حين أنهم ماذا يريدون؟ إنهم يطالبون بأبسط الاحتياجات الإنسانية لأيّ دولةٍ شعبية، لا يريدون شيئاً كثيراً. هناك يطرحون قضية الشيعة والسنة فيُقال أنهم شيعة. إنها ليست قضية الشيعة والسنة، إنها قضية شعب. ويصادف أن هذا الشعب بنسبة 70% من الشيعة، ولو كان 70% من الشعب على مذهبٍ آخر، وكان الحكام من مذهب مخالف تبقى القضية كما هي لا فرق. إنّ شعب البحرين - الذي هو على مذهب التشيّع واتباع أهل البيت عليهم السلام - يواجه حكومة مستبدة، القضية ليس أن هذه الحكومة لها مذهبٌ معين وللشعب مذهبٌ آخر. فالشعب الإيراني واجه نظام الشاه الذي كان في الظاهر مسلماً وشيعياً ويزور حرم الإمام الرضا عليه السلام. لهذا إن القضية ليست قضية الشيعة والسنة. فيأخذون القضية إلى حيز الخلافات المذهبية والطائفية من أجل التغطية على حق الجماهير. ولكن بمشيئة الله سيصل كل هذا الجهاد إلى خاتمة طيبة، ويجب علينا أن نلتفت جيداً حتى لا تشتعل نيران القومية والطائفية والمذهبية. هذه هي رغبتنا وطلبنا وهذه هي نصيحتنا إلى كل أطراف القضية.
نسأل الله تعالى أن يعين، وسوف يعين حتماً وبلا شك. إنّ مستقبل الشعوب المسلمة والإسلام والمسلمين وشعب إيران سيكون أفضل من الماضي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
201
169
في لقاء نوّاب المجلس التاسع
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء نوّاب المجلس التاسع
المناسبة: انتخابات الدورة التاسعة.
الحضور: نوّاب المجلس التاسع.
المكان: طهران.
الزمان: 13/6/2012م.
203
170
في لقاء نوّاب المجلس التاسع
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أرحّب بالإخوة والأخوات الأعزّاء، والنوّاب المحترمين والإخوة المنتخبين من شعب إيران الواعي والمؤمن.
التنظيم والمتابعة
أشكر حضرة السيد لاريجاني على النقاط الجيدة والمفيدة التي ذكرها، سواء فيما يتعلق بتاريخ المؤسسة التشريعية و مجلس الشورى في البلاد خلال تاريخنا القصير، أم على صعيد ما يتوقّع من مجلس الشورى الإسلامي. النقاط التي ذكرها نقاط صحيحة. إذا برمج نواب المجلس المحترمون ونظّموا أعمالهم إن شاء الله - وهناك أمل ورجاء واثق بهذا الشيء - من نفس هذا الموقع، باستقلالية وحريّة فكرية ورعاية لمصالح البلاد وانطلاقاً من روحية الشجاعة مقابل العدوّ والأمل بالمستقبل، ونظّموها وتابعوها، فإنّ البلد سينتفع حتماً، وسوف نتقدّم على هذا الطريق.
هكذا انتصرت الثورة
أداء التكليف وإخلاص النيّة (الإمام الخميني نموذجاً)
توجد نقطةٌ أساسية هنا يجب علينا جميعاً أن نلتفت إليها ـ وأنا العبد أكثر احتياجاً منكم إلى هذا الالتفات وكذلك أنتم جميعاً بحاجةٍ إلى ذلك بما تقتضيه المسؤولية ـ وهي الشعور بالتكليف، الإخلاص في النية والعمل لله. فلو حصل هذا، فإنّ جميع مشاكلنا سوف تُحلّ، وسوف تُفتّح الأبواب والطرق. لو حصل ذلك ستشملنا رحمة الله وعونه، ﴿إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾1ـ نفس هذه الآيات التي تُليت2 ـ فلو حصل ذلك سيزول الوهم الخاطئ للانهزام مقابل العدوّ وتسلّطه. التوكّل على الله والارتباط به ـ الذي ينشأ من النية الخالصة ـ يحلّ جميع المشاكل. هكذا انتصرت الثورة. لو أنّ إمامنا الجليل ـ الذي كان قائداً بكلّ ما للكلمة من معنى ـ لم يكن لديه مثل هذا التوكّل وهذا الإخلاص لما كانت هذه الثورة لتنتصر حتماً. لو أنّ الناس الذين نزلوا إلى الميادين والنّخب التي جرّت الناس إلى وسط الميدان لم تكن تحمل هذا الإخلاص وهذا العمل لله، لما تقدّم العمل. وكان الأمر كذلك في مرحلة الدفاع المقدّس.
1- الأنفال، 29.
2- الآيات التي تليت في افتتاحية اللقاء.
205
171
في لقاء نوّاب المجلس التاسع
الشهادة تجارة خالصة
قيل إنّ عدداً كبيراً منكم كانوا في مرحلة الدفاع المقدّس. حسناً، هؤلاء الذين كانوا يعلمون عن قرب، ماذا كان يحدث وكيف؟ وما هي الوقائع؟. السرّ الأساسي هو: فليكن اهتمامنا بالتكليف والسعي لكسب رضا الله. إذا نظرنا إلى الحياة نظرة تجارية لخلُصنا إلى نفس هذه النتيجة أيضاً. أنا العبد في السنوات السابقة كرّرت قائلاً: إنّ الشهادة في سبيل الله هي موت تجارة، أي إنّه موتٌ يتمحور حول النفع. وفي الواقع هو هكذا. فالذي لا يستشهد في سبيل الله ولا يقدّم هذه النفس التي أودعت في أيدينا كعارية1 في سبيل الله، فهو في النهاية لن يستطيع أن يحتفظ بها وسوف يقدّمها، "ما أجمل أن يكون هذا الزيت المراق قد جُعل نذراً لابن الإمام"2. ما أجمل أن يكون هذا الأمر الذي لا بدّ منه ـ حيث إنّ الموت حادثةٌ لا مفرّ منها بالنسبة لنا ـ وسيلةً لسعادتنا، ووسيلةً لتمتّعنا في الحياة الواقعية باللطف الإلهي. إنّ الشهادة في الواقع هي موتٌ كسبيّ (تجارة رابحة).
ونفس هذه القضية فيما يتعلّق بمساعينا الدنيوية. ولو أنّنا تجاوزنا المال والمتع والمتاع، وكل أنواع الأهواء العبثيّة والمحرمة، فإنّنا نكون قد قمنا بفعل التجّار وربحنا، لأنّ الله تعالى، ولأجل هذا الإيثار، يعطينا من الثواب ما يجعل كل ما يمكن أن نتمتّع به ونحصل عليه من متاع (الدنيا) صفراً وتحت الصفر بل لا شيء، إذا ما قورن به. فالعمل في سبيل الله هو هكذا. وبرأيي إنّ هذا هو أصل قضايانا.
هويّة المجلس الدعوة إلى القيم والمعنويّات
أنتم كركنٍ أساسيّ ـ حيث إن مجلس الشورى الإسلامي هو ركنٌ أساسيّ ـ قد وجدتم أنفسكم في وسط نظام يعيش في عالمٍ مهووسٍ بالماديات، وهو (مجلس الشورى) يطرح في المقابل نداء المعنويات، ولهذا فإنّه يكشف عن خطأ مسار حركة العالم المادّية. حسنٌ، فمن الطبيعي عندها أن يواجه العداوات. ما يذكره بعض الناس من إشكالات ـ بالتلميح والتصريح ـ ويقول يا جماعة لا تجعلوا العالم كلّه يقف مقابلكم، برأيي هذا كلامٌ صادرٌ عن عدم تفكير. فأنتم عندما تكونون دعاة الحكومة المعنوية والدينية، وعندما تعلنون عن السيادة الشعبية الدينية أو الإسلامية، فهذا بحدّ ذاته بدء النزاع. إنّ مشكلة العالم هي مواجهة الدعوة الدينية. وعندما نذكر العالم فمرادنا هو تلك الأجهزة التي تديره،
1- العارية: مصطلح فقهي، من الإعارة أي إعطاء الشيء دون مقابل بهدف الانتفاع منه وإعادته إلى مالكه.
2- مثل شعبي يقال عند حالات البخل وإهدار فرص الخير والبذل.
206
172
في لقاء نوّاب المجلس التاسع
وأولئك الأشخاص الذين تقوم هويّتهم وشخصيّتهم على أساس نهب البشر وتوجيه الضربات للإنسانية والقيم الإنسانية من أجل متعهم المادية. لقد سمعتم عن فراعنة التاريخ ورأيتم. حسناً، فراعنة التاريخ كانوا يقفون بوجه القيم الإنسانية والعالم بأيديهم. وفي مواجهة هؤلاء عندما تتمكّنون من إيجاد جهازٍ إداريّ وحكوميّ، دعوته عبارة عن التوجّه إلى المعنويات والدفاع عن القيم الإنسانية والقيم الإلهية ـ حيث إنّ روح القيم الإنسانية ومعناها هو هذه القيم الإلهية ـ فمن الطبيعيّ أن تُواجهوا باعتراضات ومعارضات ـ حسناً، وفي طريق هذه المعارضة يجب أن تعتمدوا على قدرةٍ، وهذه القدرة ليست السلاح المادّي والقنبلة الذرّية وأمثالها، بل إنّها القدرة المعنوية والاتّكال على الله، هذا هو أساس القضية. أنا وأنتم ـ وأنا العبد أكثر منكم ـ نحتاج إلى أن نجعل نيّاتنا وقلوبنا وأهدافنا إلهية أكثر فأكثر. ولو حصل ذلك ستُحلّ مشاكلنا، ولو حصل هذا فسوف نتقدّم، ولو حصل ذلك فسوف ييأس العدوّ من التغلّب علينا.
العلاقة بالله معيار النجاح
إنّ نقائص العدوّ كثيرة، ولهذا بحثٌ طويلٌ مفصّل ليس مكانه هنا. وأنتم بحمد الله جميعاً تتمتّعون بمستويات رفيعة من حيث الفكر والعلم والثقافة. ويمكنكم أن تدركوا المسائل جيداً وتحلّلوها. وواقع القضية هو هذا، فلو أنّ الإنسان استطاع أن يُحكم علاقته بالله في هذا النظام الإلهي، فإنّه بأي نسبةٍ نتقدّم على هذا الطريق فإنّه ستكثر نجاحاتنا ولا شك في مواجهة العدوّ، سوف ترتفع الموانع، يجب أخذ هذا بعين الاعتبار. وبالتأكيد هناك لكلّ منصبٍ أو عملٍ أو مهمّةٍ متطلباته وللمجلس بالطبع متطلباته، ولو كنتم في الحكومة لكان الأمر كذلك، وهكذا بالنسبة للأجهزة المختلفة أو حتى خارج الأجهزة الحكومية. يجب أن يكون الهدف هو أن نعمل لله. إنّ الكثير من الإشكالات التي تعترضنا اليوم ـ حيث إنّ الكثير منها يرد علينا ـ فإنّنا لو أصلحنا هذه النية وهذا التوجّه فإنّ هذه الإشكالات ستزول بنفسها.
خصائص المجلس
وفيما يتعلّق بمجلس الشورى الإسلامي، فإنّ ما يمكنني أن أعرضه في جملتين تحت عنوان الجمع، هو أنّ على المجلس أن يكون حيّاً وسالماً، فهاتان الخصوصيتان ضروريتان في المجلس.
207
173
في لقاء نوّاب المجلس التاسع
الخصّيصة الأولى: حياة المجلس
أ- القانون الجيد والرقابة الصحيحة
إنّ حياة المجلس هي في إظهاره للنشاط والتحرّك والحيوية النابعة من نفسه. فلو كان المجلس راكداً وخامداً وليس فيه أيّ ناتجٍ صحيحٍ ومناسبٍ في القطاعات المختلفة فهو ناقصٌ. فالتحرّك والنشاط علامة الحياة ودليل الحياة، كيف يمكن تجسيد هذا النشاط والحركية عملياً في الواقع؟ يجب إنجاز الوظائف بشكلٍ صحيح، القانون الجيّد. في ذيل هذه الكلمة "القانون الجيّد" يمكن تحديد 10 أو 15 مؤشراً ومعياراً: أن يكون منسجماً مع الزمان، وأن لا يكون تكرارياً، وأن لا يكون له معارض وغيرها وغيرها، هذه تحدّد القانون الجيّد. الثاني، هو الرقابة الصحيحة. فهاتان هما وظيفتا المجلس الأساسيتان. في الدرجة الأولى التشريع ومباشرةً تأتي قضية الرقابة الصحيحة. فالرقابة الصحيحة يمكن ترجمتها. ولها معايير محدّدة، فقوموا بتحديدها. وليس من الضروري أن أذكرها، فأنتم تعلمونها، وهي من معارفنا الواضحة. فالرقابة التي تنشأ من النوايا السيئة هي رقابة غير صحيحة. فالرقابة المنحازة لهذا أو ضدّ ذاك ليست من الرقابة الصحيحة. والرقابة التي ليس فيها تعمّقٌ ليست صحيحة، لهذا كان للرقابة الصحيحة معايير عليكم أن تحدّدوها.
ب- مؤشّر الحضور الفعّال
والتواجد المفيد في بيئة العمل يُعدّ من علامات الحيوية. وبالتأكيد إنّ ما أذكره هنا يمثّل ما يُتوقّع من جماعة المجلس وهي بذاتها تعتمد على الأفراد. وكلّ واحدٍ بشخصه إذا لم يكن حاضراً أثناء عمل المجلس أو في الجلسات العلنية أو في اللجان، صحيحٌ أنّه سيقول إنّني واحدٌ من مئتين وتسعين لكن لهذا تأثيره، سواء على مستوى قدر الشخص أم تأثيره على الآخرين. أي أنتم الذين لا تحضرون، عدم الحضور في المجلس يكون سهلاً بهذه الدرجة، وغيركم ممن كان متقيداً بالحضور، يتوقّف عن الحضور. وهذه من مصائب المجلس. فاسعوا لإزالة هذه المصيبة من المجلس التاسع. فالحضور المفيد في بيئة العمل من علامات الحيوية.
ج- المجلس والمشاركة السياسية الداخلية والخارجية
المشاركة السياسية في أجواء البلاد والعالم. إنّ المجلس يُعدّ واجهةً للثورة والرأي العام الشعبي والسياسات العامّة للبلد. تلك القضايا التي تحدث في المنطقة وفي العالم، يجب على المجلس أن يبيّن موقفه منها. وبالطبع، ولحسن الحظ، فإنّ المجالس الأخيرة كانت في هذا المجال فعّالة وجيّدة. فانظروا إلى المنطقة اليوم تجدونها مليئة بالاضطرابات. إنّ ما تبثّه وكالات الأخبار صدقاً أو كذباً فيما يتعلّق بالأخبار والمظاهرات الخارجية هو
208
174
في لقاء نوّاب المجلس التاسع
جزءٌ صغير من تلك الحادثة التي تقع الآن في المنطقة. فهذه المنطقة ليست جزءاً عادياً من مناطق العالم، إنّ هذه المنطقة هي قلب العالم، فهي محلّ اتّصال ثلاث قارّات، وهي منطقة نفطية مهمّة، وكذلك على مستوى السياسة الاستعمارية للغرب، مع وجود هذه الحكومة الصهيونية. فهي منطقة عجيبة. ولهذا فإنّ قضايا هذه المنطقة هي قضايا العالم. فليس الأمر كما نقول: إنّه يوجد في زاوية من العالم مشكلةٌ في أربع دول، كلا، هنا قلب العالم. حسنٌ، هنا مسائل تحدث فما هو موقفنا منها؟ فهذه قضايا مهمّة. إنّ حياة المجلس هي أن يكون له رأي ومشاركة في هذه القضايا. ولهذا الكلام تأثيرٌ. فاليوم من الممكن أن يكون لموقفكم تأثير في كلّ بلدٍ من هذه البلدان التي أشير إليها، بلدان المنطقة هذه. لو أنّنا فكّرنا جيداً واخترنا العبارات اختياراً صحيحاً وأطلقناها في الوقت المناسب، فسوف يكون لذلك تأثيرٌ على هذه التحرّكات التي تقع من جهتين في هذه المنطقة، سواء من جهة جهاز الغرب الشيطاني والمهاجم، أم من جانب الناس الذين هم أصحاب الحق. لهذا فإنّ الحياة هي هذه. إنّ المجلس الحيّ هو المجلس الذي يقدّم قانوناً في الوقت المناسب وبشكلٍ صحيح ويراقب ويكون له في قضايا البلد وقضايا المنطقة مشاركةٌ وعمل.
لا ينبغي الغفلة عن هذه اللجان، فهي مهمّةٌ، إنّها غُرف التفكير من أجل إنضاج القضايا في ساحة المجلس، وفيه يتمّ اتّخاذ القرارت التي تمسّ مصير البلد للسنوات الأربع التالية. قد تشرّعون قانوناً ويكون له تأثيرٌ في البلد على مدى عشرين عاماً، ويحدّد مساراً معيّناً.
الخصّيصة الثانية: سلامة المجلس
أ- السلامة السياسية والمالية
وإلى جانب حياة المجلس، فإنّ قضية سلامته مهمّةٌ أيضاً. فيجب أن يكون حيّاً وسالماً. وذلك من جهاتٍ عدّة سياسياً وأخلاقياً ومالياً، فهذه قضايا تتعلّق بكلّ واحدٍ من أصدقائنا الأعزّاء، ونوّابنا المحترمين. فلو ظهر توجّهٌ في المجلس، يتنافى وبعض أسس الثورة ـ بالتأكيد إنّ مثل هذه التوجّهات عموماً، تكون توجّهات صغيرة أو محدودة، ولن تكون توجّهات عامّة وكلّية ـ فهذا دليل عدم السلامة. أو إذا زال هم وهاجس أداء الواجب في المجلس فهذا دليل عدم السلامة. فلو استحكمت حالة اللامبالاة فيما يتعلّق بالقضايا المالية ـ أخذ المال وإعطائه والتبعية والواسطة وغيرها من الأمور الشائعة ـ فهذا مؤشّر عدم الصحة، فهذا مهمٌّ جداً. فالإنفاقات العبثية للمجلس هي عدم صحّة. لقد تحدّثنا في الأمس مع الأستاذ لاريجاني في هذا المجال حديثاً مفصّلاً. فينبغي أن يكون تحّول المجلس إلى قدوة للأجهزة المختلفة في موضوع
209
175
في لقاء نوّاب المجلس التاسع
تقليل الإنفاقات، من أعمال المجلس. المصارفات المتعلّقة بالأسفار التي لا طائل منها أحياناً، والمصارفات التي تتعلّق بالأمور الشخصية للنوّاب، حيث إنّ قسماً مهمّاً من هذا العمل يرتبط بهيئة رئاسة المجلس المحترمة التي عليها أن تشرف على الأمور وتراقب، وكذلك بكلّ النوّاب واحداً واحداً. بالطبع أنا أعلم ـ حيث إنّه لديّ اطّلاعٌ عام واطلاعٌ خاص ـ أنّه يوجد في الواقع بين النوّاب من المحتاطين والملتفتين عددٌ غير قليل. أفرادٌ يشعر الإنسان أنّ قلبه يمدحهم ويفرح بهم ويشكر الله على وجودهم في المجلس، إنّ القضية مهمّة.
ب- السلامة الذاتية والنفسية
لقد ذكرت قبل نحو سنتين في نفس هذا اللقاء مع النوّاب المحترمين، مسائل تتعلّق بالمراقبة الذاتية في المجلس، وقد تمّت المصادقة على قانون في هذا المجال. انظروا هذه الآية التي تُليت هنا: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾1 هو أمرٌ مهمٌّ جداً. فمن الممكن أن يريق البنزين في مبنىً، شخص واحد، ولا يراعي شروط السلامة ويشعل عود ثقاب، لكنّ من يحترق لن ينحصر بهذا الشخص فقط، من الممكن أن يثقب شخصٌ واحد سفينة ما، ولكن من يغرق لن يكون هو وحده. والقرّآن يقول اتّقوا مثل هذه الفتنة التي إذا حصلت لن تشمل فقط أولئك الذين أشعلوها ولن تنحصر بالظالمين، بل ستشمل الأبرياء وأولئك الذين لم يكن لديهم أية دخالة في إيجادها. "واتّقوا" أي اجتنبوا هذه الفتنة وراقبوا. فما هي لوازم هذا الأمر؟ إنها الرقابة الذاتية، أي أن نراقب بعضنا بعضاً، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾2، فتواصوا بشكل دائم إنّ هذه من علامات الصحة والسلامة.
1- الأنفال، 25.
2- العصر، 3.
210
176
في لقاء نوّاب المجلس التاسع
ج- الاختصاص العملي والحوار الفكري
من الأمور التي تدلّ على وجود السلامة في المجلس هو اجتناب التعرّض لسمعة هذا وذاك. حسناً، لقد أصبح لديكم منبرٌ وهو منبرٌ عمومي. فعندما تتحدّثون فإنّكم في الواقع تقفون خلف منبرٍ وطنيّ وهو يصل إلى أسماع الجميع. فلو وُجد في هذه التصريحات التي تصدر عنكم في المجلس أمورٌ تتعرّض لسمعة أيّ إنسان واتّهامه ـ ولو كان بنظركم مذنباً ولكن ذنبه لم يثبت ـ أو تتعرض لأمرٍ وهو قد حدث واقعاً ولكنه ليس من صلاحياتي وصلاحياتكم، كخصوصيات الأفراد، فلماذا ينبغي الإتيان على ذكر هذه الأشياء من على منبر المجلس؟ يجب اجتناب هذه الأمور بشدّة، وإذا تمّ اجتنابها فهذا من علامات السلامة.
لقد ذكرت في السابق هذه النقطة لبعض النوّاب المحترمين، والآن حيث إنّكم جميعاً حاضرون أقول لكم: إن مجلس الشوري هو مكان الحوارات الحكيمة والعقلائية. تقولون كلمتكم وتأتون بأدلتكم وبراهينكم، فيأتي شخص آخر ويقول إن كلامكم خطأ لهذه الأسباب وأدلتكم خاطئة واستدلالكم خاطئ، ثمّ تكون المسألة في النهاية أن تصوّت جماعة لهذا الرأي أو لذاك الرأي، هذا هو الصحيح. أما لو أنّه قام شخصٌ أثناء نطق شخصٍ آخر بمقاطعته والصراخ من أجل أن لا يصل صوته إلى المستمع، فهل هذا عملٌ حكيم؟! فيجب استئصال هذه العادة من المجلس عندما يكون أحد النوّاب أو وزيرٍ أو مسؤولٍ في الحكومة في معرض الحديث وينهض مجموعةٌ أو أربعة أشخاصٍ من زاويةٍ ويصرخون. إنّ هذا أمرٌ سيئٌ جداً، وللأسف إنّ هذا كان في المجلس الثامن، وأنا لا أعلم الآن هل كان ذلك في المجلس السابع أم لا. عندما واجهت هذه القضية في البداية تحيّرت: هل يمكن أن يحدث هذا؟! رأيت أنّه قد حدث في المجلس. ليس المجلس محلّ هذه الأمور. أجل، في التجمّعات العامّة يمكن لعامّة الناس أن يفعلوا ذلك، فيأتي شخصٌ يتحدّث ويصدر شخصٌ آخر أصواتاً. وقد كان هذا دوماً على مرّ التاريخ، ويقول القرآن: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾1. عندما كان النبيّ يتحدّث كان بعض الناس لا يدعون صوته يصل إلى أسماع الآخرين، فيعلو ضجيجهم، ولكن هذا لا يليق بالجمهورية الإسلامية، ولا بمجلس الشورى الإسلامي. إنّ مجلس الشورى هو محلّ الكلام، ولكلٍّ أن يعرض ما يريد إلى النهاية، فإذا لم يكن كلامه صحيحاً أو كان غير منطقيّ فليأتِ (الشخص المعني) ويستدلّ ويعترض وينفي وجود أيّ منطقٍ أو مبنىً فيه ويردّه فلا إشكال في ذلك.
د- استقلالية المجلس
إنني أولي أهمية بالغة لاستقلال مجلس الشورى، واعتقد أن المجلس المستقل هو حقاً من النعم الكبري. بعضهم يتصورون، وبعضهم يطرحون هذا في وسائل الإعلام، ويخالون أن علامة الاستقلال عن الحكومة هي التهجّم على الحكومة. ليس الأمر كذلك. ليس الكلام عن هذه الحكومة أو تلك. في كل الدورات طوال هذه الأعوام - وتعلمون أنه كانت هناك حكومات مختلفة - نبّهت دوماً إلى هذه النقطة. الاستقلال عن الحكومة ليس معناه أن يتهجّم المرء دوماً على الحكومة لسبب أو بدون سبب، ويعارض أعمالها.. الأعمال التي لا ضرورة أصلاً للاعتراض عليها. يمكن أن تسنّوا قانوناً بخلاف الاتجاه الذي تسير فيه الحكومة. علي كل حال هذه أمور لازمة.
1- الأنعام، 26.
211
177
في لقاء نوّاب المجلس التاسع
هـ - الاتّحاد والاختلاف في الرأي
أعتقد أن من الأمور المهمة التي نحتاجها في البلاد راهناً هو الاتحاد. ولا يعني الاتحاد تساوي الأفكار وتطابقها. أنتم جميعاً والحمد لله في مستويات فكرية وعلمية عالية، وهذا ممّا لا يحتاج إلى كلام. إننا نحتاج لمن يذكّرنا حتى نعمل وإلا فإننا نعرف الكثير. اليوم يجب أن يكون الاتّحاد موجوداً. فالشقاق والاختلاف والتفرقة هي مظهر ضعف أي شعب وانحطاطه وانهزامه، فلا تسمحوا لهذا أن يقع. هناك اختلافٌ في وجهات النظر ولا مانع من إظهاره. أجل يمكن أن نختلف حول قضية ما ولكننا في نفس الوقت نضع يداً بيد. فيقول مثلاً أحدهم يجب القيام بهذا العمل، وأنا أقول إنه لا ينبغي. في النهاية، يوجد مرجع محدّد، فالمرجع إما هو القانون، أو الجهاز القضائي، أو مجلس الصيانة، أو أيةٍ جهة أخرى، فهذا المرجع سيحدّد المسؤولية، ولكن يجب أن لا نتنازع ونمسك بتلابيب بعضنا بعضاً. ينبغي أن يوجد هذا الاتّحاد. وفيما يتعلّق بالمصالح العليا للدولة، يجب أن يكون بين الأجهزة انسجامٌ ويجب أن يظهر. وبالتأكيد إنّ الجميع يقولون مثل هذا. وعندما يقوم أحدٌ بالدفاع عن شيءٍ ما بعصبيّةٍ، وينهض شخصٌ ليقول له لماذا تغضب هكذا، فيصرخ بكلّ تلك العصبية والغضب: إنّني لست غاضباً! والآن نجد من الأجنحة من يتحدّث دائماً عن الاتّحاد لكنّه في نفس الوقت يظهر علامات التفرقة ومظاهرها. إنّني أرجو أن تتوجّهوا إلى هذه القضية، سواء داخل المجلس فيما بين أعضائه، أم بين المجلس والسلطات الأخرى ـ التنفيذية والقضائية ـ حافظوا على هذا الاتّحاد وهذا التوافق ـ واعلموا أن هذا الشعب وهذا البلد وهذا النظام وهذا التوجّه مبشِّرٌ بالتوفيق والانتصار. هذا لطف الله، وهذا ما تقتضيه السنن الإلهية.
إنّ شعبنا شعبٌ طيّب ومؤمن، وشبابنا كذلك. إنّ شعبنا ولحسن الحظ هو شعبٌ شاب، والفكر الديني، والتوجّه الديني، والإسلاميّ هو بحمد الله محورٌ أساسيّ لحركة البلد. حسناً، إنّ نوّاب المجلس ومسؤولي الدولة وموظّفي الحكومة ورجال القضاء هم من المعتقدين بمباني الإسلام والثورة وهذه مسألةٌ فائقة الأهمية. الشعب متديّن وكذلك المسؤولون، وبمشيئة الله إنّ التوفيق الإلهي سيشملنا ونحن في حال تقدّم. في هذا العقد الزماني الذي هو عقد التقدّم والعدالة، بتوفيق الله، إن شاء الله، بإذن الله، سوف نحقّق تطوّراً ملموساً، ومع نهاية هذه المدّة إن شاء الله سوف نصل إلى مستوىً بارز من العدالة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
212
178
في لقاء مسؤولي الدولة وسفراء وممثلي البلدان الإسلاميّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء مسؤولي الدولة وسفراء وممثلي البلدان الإسلاميّة
المناسبة: البعثة النبويّة الشريفة.
الحضور: حشدٌ من مسؤولي النظام والمؤسّسات وسفراء وممثلي البلدان الإسلامية، وجمعٌ من عوائل الشهداء.
الزمان: 18/6/2012م.
213
179
في لقاء مسؤولي الدولة وسفراء وممثلي البلدان الإسلاميّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مبارك هذا العيد الكبير لكم أيّها الحضور المحترمون في هذه الجلسة الرائعة، وخصوصاً الضيوف الحضور من بلدان أخرى، وكذلك سفراء البلدان الإسلاميّة المحترمون. كما نهنّئ الشعب الإيراني الكبير الذي جعل البعثة وجهة مسيرته وعمله، وجاهد وتحمّل الصعاب من أجل تحقيق الأهداف الكبرى لبعثة خاتم الأنبياء، وقد شمله الوعد الإلهي والحمد لله، فقد وعد الله تعالى الشعوب السائرة في هذا الدرب بالفتح والتقدّم والسعادة، ووعد الله تعالى لا خلف فيه. كما نهنئ الأمة الإسلامية التي توجّهت اليوم بعد عقود من التجارب نحو الدين المحمدي. بعد أن جرّب رواد الفكر والنخبة وقادة الشعوب المسلمة طوال الأعوام المتمادية المدارس والدعوات والمذاهب والأيديولوجيات الشرقية والغربية، وأدركوا إخفاقها وعقمها، أصبح توجّه الأمّة الإسلامية اليوم وإقبالها على مضمون بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهدافها. اليوم يوم مبارك عليهم، ونتمنّى أن تتمتّع البشرية كلّها ببركات هذه البعثة.
أهم نتائج البعثة
إثارة الفكر وتهذيب النفوس
ما أريد أن أقوله اليوم هو إنّ للبعثة جهاتاً وأبعاداً. حُزم النور التي سطعت على البشريّة من هذا الحدث - البعثة - ليست واحدة أو اثنتين، لكن البشريّة اليوم بأمسّ الحاجة لقضيتين ناجمتين عن البعثة: إحداهما إثارة الأفكار والتفكير، والثانية تهذيب الأخلاق. لو توفرت هاتان المسألتان فسوف تؤمّن المطالب المزمنة للبشرية. سوف تؤمّن العدالة والسعادة والرفاه الدنيوي. المشكلة الأساسية كامنة في هذين الجانبين.
أ- تهذيب النفوس
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"1، وقال القرآن الكريم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾2، وبعد التزكية يقول: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، هذا هدف سامٍ. تزكية النفوس وتطهير القلوب والارتقاء بالأخلاق البشرية وإنقاذ البشر من قمامة المعضلات الأخلاقيّة والضعف الأخلاقي والشهوات النفسية. هذا مقصد وهدف.
1- مجموعة ورّام، ج 1، ص 89.
2- الجمعة،2.
215
180
في لقاء مسؤولي الدولة وسفراء وممثلي البلدان الإسلاميّة
ب- إثارة التفكير
وقضيّة التفكّر أيضاً قضيّة أساسيّة ومهمّة، وهي لا تختصّ بنبيّنا، فكل الأنبياء بعثوا لإحياء القوّة العاقلة وطاقة التفكير لدى البشر. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة في نهج البلاغة: "ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته،... ويثيروا لهم دفائن العقول"3، بعث الأنبياء ليستثيروا دفائن العقول وليستخرجوا كنوزها عند البشر في ذواتهم وبواطنهم.
نحن البشر لدينا موهبة تفكير عظيمة كامنة في داخلنا. حينما لا نتدبّر في الآيات الإلهية، وفي تاريخنا، وفي ماضينا، وفي الأمور والقضايا المختلفة التي حدثت للبشرية، وفي مشكلات الماضي، وفي عوامل الانتصارات الكبرى للشعوب، نبقى محرومين من الكنوز المعنوية التي أودعها الله فينا. "ويذكروهم منسي نعمته،... ويثيروا لهم دفائن العقول"، البشريّة اليوم بحاجة لهذين الأمرين.
الظلم ووجوب الانتفاضة
تحتاج المجتمعات البشرية إلى التفكير والتأمّل في مكمن تعاسة الإنسان، وهل يوجد شك في وجود ظلم، ووجود تمييز، ووجود منطق مزدوج وكيل بمكيالين يسود القوى المهيمنة على العالم؟ الظلم البارز الذي يجري على البشرية في الوقت الراهن مشهود للجميع. الظلم الذي تمارسه القوى المتسلّطة على الشعوب العُزلاء من أدوات الدفاع قائم أمام أنظار الجميع، وأنتم ترونه. تنطلق قوّة وتزحف عن بعد آلاف الكيلومترات وتأتي إلى هنا إلى منطقتنا وتفرض سلطتها وهيمنتها بالقوّة على بلد أعزل لا قدرة له ولا إمكانيات، فتبدّل مواكب الأعراس إلى عزاء، وتصبّ مروحياتهم الموت على رؤوس الناس. تهدم بيوت الناس، وليس بوسع أحد أن يقول لهم شيئاً، ولا يعتذرون عن أفعالهم! هذا هو واقع العالم. وهو كذلك حتى في البلدان المتقدّمة. حين تلاحظون الواقع الاقتصادي اليوم تجدون نفس الحالة. القضية في أوروبا اليوم ليست حلّ مشكلة الناس بل حلّ مشكلة البنوك وأصحاب الرساميل والثروات الطائلة. هذه هي مشكلتهم اليوم. أبناء البشر والجنس البشري ليسوا مهمّين للقوى المهيمنة. هذه حقائق موجودة في العالم. لتفكّر البشرية في مصدر هذه الحالة، في مصدر نظام الهيمنة، ومصدر وجود قطبين أحدهما مهيمن، والثاني خاضع للهيمنة. فما لم يكن هناك إنسان مهيمن فإنّ نظام الهيمنة سيزول، كذلك إذا لم يقبل الخاضع للهيمنة بهيمنة الأعداء والعتاة فنظام الهيمنة سيزول أيضاً. هنا يكون الواجب على عاتق الشعوب. وفي داخل
1- نهج البلاغة، الخطبة1.
216
181
في لقاء مسؤولي الدولة وسفراء وممثلي البلدان الإسلاميّة
الشعوب يقع الواجب على عاتق النخبة السياسية والثقافية. حينما يشاهد الشياطين التابعون لأجهزة الاستكبار تحرّكاً كبيراً وتحرّرياً تقوم به الجماهير في أيّ مكان من العالم - ويكون هذا التحرّك خالصاً وأصيلاً - يركّزون طاقاتهم وقدراتهم كلها على تبديل هذا التحرّك إلى ضدّه أو يبطلون مفعوله. ترون ما يحدث في منطقتنا حالياً. يثور الناس في البلدان للتحرّر من التبعية لأمريكا ومن الذل في مقابل الهيمنة الصهيونية، ولإبداء البغض والكراهية لوجود هذه الغدّة السرطانية في قلب البلدان الإسلاميّة، فتنطلق كل الأجهزة السياسية والمخابراتية والمالية الاستكبارية والتابعة لها لإحباط هذا التحرّك، هذه هي القضية.
الاستفادة من نعم الله لتحقيق النصر
أ- حسن الظن، والتفكير
على الشعوب أن تقف على أقدامها، وعليها الاستفادة من نعم التفكير والعقل التي منّ الله بها عليها. على الشعوب أن تعتمد على نفسها وطاقاتها وربّها. عليها إبداء حسن ظنّها بالله. لقد وعد الله تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾4. هذا تأكيد إلهي. حينما تقف الشعوب وتقاوم وتصمد فسوف تنتصر بلا شك. والنموذج الحي لذلك هو شعبنا. يحاول العدوّ بآلاف الوسائل والأدوات الإعلامية أن يبعد الحقائق عن أنظار الناس في العالم، لكن الواقع هو ما نشاهده. طوال هذه الأعوام الثلاثة والثلاثين، ومنذ اليوم الأول، تعرّضت ثورتنا وشعبنا وبلدنا العزيز للهجمات والمؤامرات.
جاءت سياسات مختلفة واختلفت في مئة قضية لكنها اتفقت على مواجهة الثورة الإسلامية، وتوجيه الضربات للجمهورية الإسلامية، وإقصاء هذا النموذج الحي عن الساحة لكي لا يكون أمام أنظار المسلمين، ومارسوا كل هذا بمختلف الأساليب. وكذا الحال اليوم أيضاً.. تعاضدوا عسى أن يتمكنوا من إقصاء الشعب الإيراني عن الساحة. وأقولها لكم بيقين وضرس قاطع إنهم سيفشلون تماماً في مساعيهم هذه.
ب- النصر موقوفٌ على الجهاد والصبر
طبعاً لا يمكن الانتصار من دون جهاد وتحرّك وتقبّل للأخطار. لم يعِد الله تعالى أحداً بالنصر من دون تحرّك. ولا يكفي لذلك مجرّد أن يكون المرء مؤمناً متديّناً، بل لا بدّ
1- الحج، 40.
217
182
في لقاء مسؤولي الدولة وسفراء وممثلي البلدان الإسلاميّة
من الجهاد والصبر. ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا﴾1، هذا كلام الأنبياء لمعارضيهم... إنّنا نصمد ونقاوم، لقد صمد الأنبياء والرسل عليهم السلام، ومنطق الأنبياء اليوم رغم كل ما تعرّضوا له من القمع هو المنطق الشائع في العالم. لقد انتشر كلام الأنبياء ولم ينتشر منطق الفراعنة. وهذه المسيرة وهذه التوجّهات سوف تزداد يوماً بعد يوم. لا بدّ من الصبر والصمود. لقد أظهر شعبنا من نفسه هذا الصمود والثبات. وأعداؤنا لا يريدون أن يفهموا ويستفيدوا من التجارب الماضية. يجب أن يعلموا أنّ العناد والتكبّر وجنون العظمة مقابل هذا الشعب وتوقّع أمور في غير محلّها منه لن يجدي أيّ نفع. هذا الشعب واقف ثابت وقد عرف الطريق والهدف وعرف نفسه.
القرآن دروس الجهاد والصمود والاتّحاد بين الشعوب الإسلاميّة
الدرس الذي استلهمناه من القرآن ومن الإسلام هو درس الصمود والجهاد والوحدة والاتّحاد. اتّحاد القلوب والأيدي. وهذا الأمر لا يختص بشعبنا، بل هو اتّحاد في العالم الإسلامي. لاحظوا اليوم أنّ من النقاط التي يشدّد عليها أعداؤنا بقوّة، تأجيج الخلافات المذهبية بين الشيعة والسنة. أشخاص لا يؤمنون بالتشيع ولا بالتسنّن، ولا يعترفون بأساس الإسلام، يعملون خدمة لرغبات الأجهزة التجسّسية الأمريكية والإسرائيلية، وتعلو أصواتهم من على المنابر ليبدوا قلقهم من انتشار التشيّع! وهل تفهمون ما هو التشيّع؟! وهل تفهمون ما هو التسنّن؟! إنّكم لا تؤمنون بأصل الدين. تقوم سياسة الاستكبار وسياسة الأجهزة التجسّسيّة في الوقت الحاضر على أن تخيفنا من بعضنا بعضاً، الشيعة من السنّة، والسنّة من الشيعة... وبثّ الخلافات وإشعال النزاعات.
سبل مواجهة الأعداء
سبيل الغلبة على الأعداء هو التفكير والاتحاد وتقريب القلوب وتعاضد الأيدي. وبهذه الطريقة يتحقّق قوله ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾2، وينصر الله تعالى بفضله ولطفه أهداف البعثة ودساتيرها وبرامجها على كل مؤامرات الأعداء. نرجو أن ينزل الله تعالى بركاته عليكم وعلى الشعب الإيراني وعلى الأمّة الإسلامية أكثر فأكثر، ويحشر الروح الطاهرة لإمامنا الخميني الجليل ـ وهو الذي دلّنا على هذا الطريق وفتحه أمامنا ـ مع أوليائه ومع الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- إبراهيم، 12.
2- التوبة،33.
218
183
في لقاء المشاركين في المسابقات الدوليّة للقرآن الكريم
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء المشاركين في المسابقات الدوليّة للقرآن الكريم
المناسبة: إقامة المسابقات الدوليّة للقرآن الكريم.
الحضور: المشاركون في المسابقات.
المكان: مشهد المقدّسة ـ الحرم الرضوي المطهّر.
الزمان: 24/6/2012م.
219
184
في لقاء المشاركين في المسابقات الدوليّة للقرآن الكريم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أرحّب بالضيوف الأعزّاء لهذه المدينة المقدّسة، وبضيوف بلدنا القرآنيين الذين وفدوا من مختلف البلاد. نشكر الله على أنّه أقرّ عشق القرآن في قلوبنا وقلب شعبنا. نشكر الله أنّه منح توفيق دراسة القرآن والأنس به وتلاوته لشعبنا.
التدبّر غاية التلاوة
في زمن الطاغوت كان القرآن في بلدنا مهجوراً، ولم تكن هناك أيّة حركة جماعيّة لترويج القرآن، أيّ شيءٍ كان فإنّه انطلق من مبادرات فرديّة. وفي زمن الجمهوريّة الإسلاميّة وحاكميّة الإسلام، فإنّ من البرامج الأساسية لمسؤولي البلاد ترويج القرآن، فتلاوته والأنس به وفهمه وحفظه من البرامج، والتي تُعدّ هذه المسابقات الدولية من مظاهرها. ولكن تلاوة القرآن والقراءة الحسنة للآيات الإلهية هي مقدّمة من أجل التدبّر في القرآن. نحن لا نريد أن نشغل أنفسنا ونلهيها بالتلاوة، والقراءة القرآنية والألحان القرآنية، كموضوع أساسي، بل هذه مقدّمة وطريق.
إنّ تلاوة القرآن بصوتٍ عذب تؤدّي إلى تليين القلوب وخشوعها وتهيئتها لفهم المعارف القرآنيّة والآيات القرآنيّة، وهذا ما نحتاج إليه.
دروس القرآن واهبة للحياة
يحتاج العالم الإسلامي إلى فهم المعارف الإسلامية. فهو بحاجة اليوم إلى الدرس الذي يقدّمه القرآن للشعوب للاستقامة والصمود والحياة الطيبة والعزّة الإسلامية. فدروس القرآن في هذا المجال هي دروسٌ مانحة وواهبة للحياة ونحن نحتاج إلى هذه الدروس. بمقدار ما تشعّ المفاهيم الأساسية للقرآن في البلاد الإسلامية فإنّكم سترون أنّ التوجّهات العامّة للحركات الشعبية ستصبح إسلامية. ولم يكن الأمر كذلك في السابق، ففي الماضي أينما نشأت حركة اجتماعية في البلدان الإسلامية، فإنّ توجّهاتها كانت يسارية وماركسية واشتراكية. ولكن اليوم أينما وجدنا تحرّكاً فإنّ توجّهه هو توجّه إسلامي. بالطبع، إنّ لهذه التحرّكات أعداءً غدّارين متوحّشين بلا رحمة. إنّ الاستكبار العالمي- هذا العدوّ الدموي - يقف اليوم بجدّية مقابل التحرّكات الإسلامية. فأمريكا تواجه هذه التحرّكات بجدّية وكذلك الصهيونية، وهم يقاومون. ولا شكّ بأنّ العدوّ لا يجلس متفرّجاً على الشعوب الإسلامية التي تطبّق برامج الإسلام ومخطّطه، بل يواجه ذلك. فالكلام هو أنّ القرآن قد علّمنا أنكم إذا صبرتم وصمدتم ولم تبدّلوا تبديلاً، ولم تحوّلوا وجهتكم، فسوف تنتصرون.
221
185
في لقاء المشاركين في المسابقات الدوليّة للقرآن الكريم
هذا هو درس القرآن. يقول لنا القرآن إنّكم إذا مضيتم على هذا الطريق وآمنتم بهذه الأهداف وتحرّكتم على أساس هذا الإيمان فلا شكّ أنّكم منتصرون. هذا هو درس القرآن ويجب أن تتعلّمه الشعوب المسلمة وتؤمن به، لأنها إذا آمنت فإنّها ستنتصر على أعقد الوسائل العسكرية والأمنية للعدوّ، ولو ضعُفت وشعرت بالهزال وضعُف توكّلها على الله، ولو ركَنَت لابتسامة العدوّ ووثقت بخداعه فلا شكّ بأنها ستُهزم.
يحتاج عالمنا الإسلامي اليوم إلى هذه الدروس. ولأجل نشر هذه الدروس فإنّ أفضل وسيلةٍ وأفضل كتابٍ هو القرآن الكريم نفسه. لهذا يجب أن ننشر بقدر استطاعتنا بين الشعوب وبين شعبنا والشعوب المسلمة، هذا الأنس بالقرآن مع التدبّر وأن يكون متلازماً مع الاعتقاد بالوعد الإلهي، وننشر ذلك لنساعد على نهضة الشعوب، فهذا تكليفٌ.
الاهتمام بالقرآن وسيلةٌ للتدبّر
لا ينبغي الاكتفاء بالقراءة والألفاظ والألحان المتعدّدة، بل يجب النظر إليها على أنّها وسيلة. إنّ اللحن الجميل والصوت العذب أمران ضروريان للقرآن، ولكن من أجل أن تخشع القلوب وتلين وتصل إلى المعاني القرآنية. وليس الأمر أن نتصوّر أنّ هذا أمرٌ مستقلٌّ، كلا، إنّها مقدّمات، ويجب أن ننجز المقدّمة من أجل ذي المقدّمة، وبالطبع من دون هذه المقدمة يكون الأمر صعباً. وإصرارنا على حفظ القرآن وتلاوته ونشر الجلسات القرآنية على مستوى البلد، وتعليم العلوم القرآنية والفنون القرآنية ـ من التلاوة والكتابة وبقية القضايا المختلفة التي تدور حول القرآن ـ لأجل أنّ معرفة هذه الأمور وصرف الوقت من أجل هذه الفروع يجعل الأجواء في البلد أجواءً قرآنية. ونحن بحاجة إلى هذه الأجواء وهذا المناخ. فعندما يكون الجوّ قرآنياً، فإنّ الأنس بالقرآن يزداد ويعمّ، والأنس بالقرآن يؤدّي إلى التدبّر فيه وفي معارفه. إنّ عالمنا الإسلامي بحاجة اليوم إلى هذا التدّبر. ونحن شعب إيران بحاجة إلى هذا التدبّر أيضاً.
حاكميّة القرآن والتطوّر العلمي
نفتخر أنّنا أول من رفع راية حاكمية القرآن والإسلام في هذا العالم المادي. وقد ثبتنا على هذه الدعوة الكبرى وتحمّلنا متاعبها وأثبتنا أنّ أيّ شعبٍ إذا صبر وتحمّل واستقام فلن تكون النتيجة هزيمة العدوّ وفشله فحسب، بل التطوّر أيضاً والتقدّم، وهذا ما حصل في بلدنا.
222
186
في لقاء المشاركين في المسابقات الدوليّة للقرآن الكريم
لقد سعوا منذ البداية لإطفاء هذا النور في هذا البلد. وطوال 33 سنة أعملوا كلّ قواهم لكنّ هذا النور ازداد يوماً بعد يوم، وازداد تألّقه، ولم يعجزوا عن إنزال راية حاكميّة الإسلام في هذا البلد فحسب، بل إنّ هذا الشعب ازداد تطوّراً مع الأيام. ففي يومنا هذا يُعتبر معدّل التسارع العلميّ لشعب إيران أكثر من المعدّل العالمي العام بـ 11 مرّة، وهذا طبق الإحصاءات والأرقام التي تنشرها المراكز العلمية الدولية وتعلن عنها. اليوم نجد أنّ بلدنا في حال تطوّر سريع في الأبعاد المختلفة والمجالات المتعدّدة ـ المجالات السياسية والعلمية - والبناء وتطوّر إعادة البناء.
الشباب ذخيرة الثورة
كما أنّ المعنويات في بلدنا بحمد الله في حالة نموّ. إنّ شبابنا هم أهل الذكر والدعاء والقرآن والاعتكاف. إنّ ذاك العدد من الشباب في هذا البلد، الذي لديه توجّهات معنوية إذا قورن بأي مكان آخر لم يجد لهم مثيلاً ولم نسمع عن ذلك. ومن خلال القرائن الموجودة التي نشاهدها لا يوجد مثل هذا العدد من الشباب المؤمن العاشق رغم كل عوامل التخريب والإغواء التي تُمارس على الشباب في كل بلاد العالم اليوم، وبالوسائل الحديثة.
إنّ شبابنا مؤمنون صالحون، وهذه شوكة في عين العدوّ. إنّ العدوّ كان يريد أن يستلب راية حاكمية الإسلام وانتصار الإسلام من يد هذا الشعب، ويرميها أرضاً، ولكن ما حدث أنّه لم يتمكّن، بل إن بلدنا تطوّر - رغم أنفه - باللحاظ المادي والمعنوي وهو أيضاً في حال تطوّرٍ وسوف يتطوّر. إن شاء الله سيأتي اليوم حيث يكون الإسلام والمجتمعات الإسلامية وتجمّعات المسلمين نماذج رفيعة لكلّ العالم من ناحية التطوّر المادي والمعنوي، حيث تتطلّع شعوب العالم إليهم وتقلّدهم ولا شكّ بأنّ هذا اليوم سيأتي وسيكون ذلك ببركة القرآن.
الوصيّة هي أن تعملوا على الأنس بالقرآن مهما استطعتم، واشتغلوا بالقرآن أكثر فأكثر، وتعلّموا منه أكثر، وتدبّروا أكثر، واجعلوه درساً وعبرة لحياتكم وسلوككم.
نسأل الله تعالى أن يوفّقكم ويوفّقنا للحياة على أساس القرآن والموت عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
223
187
في لقاء مسؤولي السلطة القضائيّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء مسؤولي السلطة القضائيّة
المناسبة: يوم السلطة القضائيّة، والذكرى السنويّة لاستشهاد الشهيد بهشتي.
الحضور: مسؤولو السلطة القضائيّة.
المكان: طهران.
الزمان: 27/6/2012م.
225
188
في لقاء مسؤولي السلطة القضائيّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنّ أسبوع السلطة القضائية، وهذا اللقاء السنوي فرصة سانحة للتعبير عن إجلالنا لشهيدنا العظيم والعزيز الشهيد البهشتي، وشهداء السابع من شهر تير (حزيران)، حيث تفتخر سلطتنا القضائية - بحمد الله - بأنّ يومها هو في هذه المناسبة المليئة بالمعنى والمضمون. وكذلك نتشكّر ونقدّر بخالص محبّتنا المساعي الواسعة والمستديمة لأعزّائنا الفاعلين في السلطة القضائية، القضاة المحترمين والعاملين المختلفين والمديرين البارزين وشخص رئيس السلطة القضائية المحترم جناب الشيخ الآملي، الذي هو بحمد الله بلحاظ الفكر والعلم والنشاط والابتكار والكثير من الخصائص المهمّة في المديرين العامّين، بارزٌ. نجلّ ذكرى أعزّائنا، وخصوصاً الشهيد البهشتي الجليل، ونعرب عن احترامنا، فقد كان حقّاً وإنصافاً شخصية عظيمةً بارزة، وفي تلك المدّة المحدودة لإدارته للسلطة القضائية أشاد بنية محكمة وثبّتها، وسوف يبقى هذا باسمه، هو عبرة لنا لأجل أن نسعى بالجدّ والابتكار للاستفادة من الأوقات المحدودة لإنجاز أعمالٍ كبرى ومخلّدة. وكذلك أضيف صوتي وحديثي لحديث الرئيس المحترم للسلطة القضائية، لأتشكّركم أيّها العاملون المحترمون في السلطة، ومديري الرتب العليا والمتوسّطة والقضاة المحترمون والشرفاء على أمل أن تحقّق مساعيكم وهممكم القضية الأساسية للبلد، وهي إقامة العدالة القضائية في مختلف مناطقه.
الارتقاء بالقضاء، والسلطة القضائيّة
لو أردنا أن نختصر في جملة واحدة جميع أمانينا فيما يتعلّق بقضية القضاء في البلد، لكانت عبارة عن الارتقاء بالسلطة القضائية. فيجب علينا أن نرتقي بالسلطة القضائية بشكلٍ دائم. فكلّ هذه التقارير المرضية سواء التي سمعناها اليوم أم التي تصلنا بصورة تقارير مكتوبة أو شفهية، لها محلّها من التقدير والشكر، ولكن ما هو متوقّعٌ هو الارتقاء بالسلطة القضائية بمعنى تحقيق كفاية العدل القضائي في البلد، وهذا لن يكون ممكناً ولن يتحقق إلا عندما يشاهد المرء النتائج. فجميع هذه المقدّمات هي من أجل أن تتحقق في مجتمعنا تلك العدالة القضائية. فإذا تحقّقت، سوف تُقتلع المفاسد وتُقطع أيادي الأشرار من الوصول إلى المراكز الحيوية للمجتمع، ويصل الصلحاء إلى المراكز اللائقة بهم. هذا كلّه مربوطٌ بتمامية السلطة القضائية وكمالها. فلو استطاع النظام الإسلامي أن يصنع سلطة قضائية بحسب الرؤية الإسلامية، وبحسب ما هو مطروحٌ في مصادرنا الدينية والفقهية، وقام بتنظيمها على هذا الأساس، فإنّ أكثر مشاكل مجتمعنا ـ وكلّ مجتمعٍ ـ ستزول. وستزول المشاكل الناشئة من كل أنواع الطغيان والأنانيات والاعتداءات والتعدّيات.
227
189
في لقاء مسؤولي السلطة القضائيّة
لهذا فإنّ الهدف يجب أن يكون عبارة عن الارتقاء بالسلطة القضائية. ولا ينبغي أن نقنع بأي حدٍّ حتى نصل إلى المستوى المطلوب. فيجب أن نصل إلى هذا السقف - وبرأيي - وإن كان الطريق طويلاً، لكن يمكن الوصول إليه. ولا ينبغي أن نقول إننا ندعو أنفسنا والآخرين إلى أمنية غير قابلة للتحقّق، كلا، إنّ ذلك ممكن الوصول إليه. أنتم تقدرون. وفي بلدنا يوجد مثل هذا الاستعداد والإمكان. ويجب طيّ هذا الطريق والتقدّم عليه بالسعي والابتكار، وعدم إظهار التعب، وبإعمال الطاقات والأشخاص والشخصيات الكفوءة، ومن ذوي الاستعداد.
ولأجل مجموع هذا الأمر، توجد أجهزة ودوائر تحتية، قد أشار إلى الكثير منها رئيس السلطة المحترم. وإنّني راضٍ لأنني أرى وجود توجّه إلى هذه النقاط الضرورية، وتوجد مساعٍ تُبذل من أجل القيام بها ـ كما كان مشهوداً في هذا التقرير، وما أحسن أن يُجعل هذا التقرير وأمثاله أمام الرأي العام، ليُعلم أنّ هذه الأعمال يتم إنجازها أو أنها أُنجزت ـ لكنّني أريد أن أؤكّد على نقطتين أو ثلاث.
أساليب تطوير السلطة القضائيّة
أوّلها: الخطة الشاملة والجامعة
إنّ قضية الخطة الشاملة التي أُشير إليها1. فلو لم يكن للسلطة القضائية خطة شاملة وكاملة ودقيقة ومستوعبة لجميع الأبعاد من أجل ارتقائها ووصولها إلى الهدف الذي تقصده، فإنّ سلوك هذا الطريق، إمّا أن يكون غير ممكنٍ أو أنّه سيواجه تناقضات مختلفة، أو أنّه سيكون أمراً صعباً جداً. لهذا من الضروري وجود خطّة شاملة. وهذا عملٌ كبير، ورئيس السلطة المحترم في بداية قبوله لهذه المسؤولية، ذكر هذا الأمر وأعلنه. وبالطبع، في آخر التقرير الذي قُدّم لي، قيل أخيراً إنّه تمّ إعداد برنامج لخمس سنوات (خطّة خمسية)، ولكن الآن سمعنا في كلمته أنّه قد تمّ الاتفاق على إعلانه. ولا ينبغي تأخير هذا العمل، فهو مهمٌّ جداً. فإنّ الخطّة الشاملة (البرنامج الجامع) هي من أكثر الأعمال ضرورةً وأهميّة.
النقطة الأساسية هي أنّ إعداد هذه الخطة الشاملة هو قضية، وأن شق الطرق أمام تطبيقها وإجرائها قضية أخرى. فلا ينبغي أن نشعر بالراحة، بمجرّد أنّ الخطة قد أُعدت وأُعلنت، ونقول حسناً لقد أُنجز هذا العمل الكبير. كلا، إن الخطة الشاملة هي نسخة، ويجب أن يتم تفصيل هذه النسخة وتحديد مسؤولية ووظائف كل أجزائها
1- رئيس السلطة القضائية.
228
190
في لقاء مسؤولي السلطة القضائيّة
بشكل دقيق وعمليّ. وفي الأقسام المختلفة يجب متابعة هذا الأمر لكي يتحقّق هذا البرنامج ويصبح عملياً.
برأيي، يجب المسارعة في جعل هذه الخطة عملياتية، وكذلك كل ما هو متضمنٌ فيها، حيث إنّني سأشير إلى عدّة نقاط فيه. إنّني لا أوصي بالعجلة، فالمسارعة هي غير العجلة، بل أن يكون ذلك بعناية ودقّة ودون تأخير. أي أنّ "عدم التأخير" ينبغي أن يكون أصلاً في الأعمال. ولا ينبغي أن يحصل أي تأخيرٍ. وطبق الاصطلاحات الرائجة في الأخلاقيات الإسلامية لا ينبغي وجود أي تسويف "سوف أفعل، سوف أفعل"، عندما نصل إلى نقطة التشخيص والتحقيق يجب أن نقدم على التنفيذ دون أي توقّف ولا ينبغي أن يحصل فيه أي تأخير.
ثانيها: إتقان الأحكام القضائيّة
نقطة أخرى أذكرها فيما يتعلّق بالارتقاء بالسلطة القضائية ـ وبالطبع، تمّ التأكيد عليها مراراً فيما سبق ولكن لأهميتها نكرّرها ـ وهي قضية إتقان الأحكام. فالأحكام القضائية يجب أن تكون أبعد ما يكون عن التساهل. فأنتم كقضاة محترمين عندما تصدرون حكماً يجب فيما لو عُرض على آراء المتخصّصين في الأمور الفقهية والحقوقية أن لا يكون فيه أية إشكاليات، فلا يكون لديكم أي هاجس من هذا الأمر، وتكونون واثقين تماماً بالحكم الذي أصدرتموه. فالقاضي عندما يتمتّع بالعلم الكافي، ويراقب عمله وحكمه، يجب أن يكون عندما يصدر هذا الحكم مستعداً لعرضه على جميع آراء المتخصّصين والخبراء ويتمكن من الدفاع عنه. هكذا ينبغي إتقان الحكم. فأيّ هزالٍ وضعفٍ في الحكم سيوجّه ضربةً إلى بنية الجهاز القضائي بأسره. لقد ذكرنا فيما مضى أنّ النقض المكرر للأحكام القضائية الابتدائية في محاكم الاستئناف أو في الديوان الأعلى للبلد يدلّ على أنّ في الأحكام القضائية الابتدائية نقصاً، ولا تتمتّع بالإتقان أو أنّها باللحاظ الشكلي ناقصة ولا تُراعى فيها المقرّرات اللازمة. فالتأكيد على هذا المعنى يجب أن ينتشر في كل أنحاء هذه السلطة ليذعن الجميع ويقبلوا ويتابعوا، لأنّ الأحكام ينبغي أن تكون متقنة.
ثالثها: قضيّة السجون، والتوقيف المؤقّت
مسألة أخرى ذات أهمية في قضايا السلطة القضائية هي قضية السجون. فالسجن هو جزاءٌ. وحبس أي إنسان وتقييده، من العقوبات الموجودة في قانوننا الجزائي وموجودة أيضاً في بعض موارده في الفقه الإسلامي، فلا إشكال في ذلك. يجب علينا أن نعمل ليكون هذا الشيء بعنوان عقابٍ ومجازاة للأفراد، وفي غير العقاب لا ينبغي أن يحصل
229
191
في لقاء مسؤولي السلطة القضائيّة
أبداً. بالطبع، في القانون موارد يتمّ فيها الاعتقال المؤقّت في حال توجيه الاتّهامات لوجود دلائل، لكن في هذه الاعتقالات يجب مراعاة كونها مؤقّتة بالمعنى الدقيق للكلمة وبذاك المعنى الموجود في روح القانون. من الممكن أن يقول أحدٌ: حسناً أيّها السيد، خمسة أشهر وستة أشهر هي "مؤقتة". أجل، إنّ عشر سنوات أيضاً تعني مؤقّتاً، لكنّ ذاك القانون الذي قيّد "المؤقّت" بالاعتقال قد أدرج قصر المدّة في ذلك أيضاً، أي إنّه لعلّة الاضطرار الحاصل من هذا الاتّهام ووجودالدلائل المختلفة وراء هذا الكلام يجب الاعتقال والحبس قبل إثبات الجريمة، لكن يجب أن يكون ذلك في أقصر مدّة ومع رعاية الشروط القضائية. فهذه النقطة يجب الالتفات إليها.
وفي الموارد التي تكون المشكلات فيها مالية، ويوجد إعسارٌ ـ وأحد الأبحاث التي أجريناها مع الأصدقاء هي: هل يجب إثبات الإعسار لأجل المجازاة؟ فلهذه القضية مشاكل تتبعها ـ ففي مثل هذه الموارد التي لم يحصل فيها جرمٌ بالمعنى الدقيق للكلمة لا ينبغي أن نستخدم السجن. فاعملوا في مجموع السلطة على أن يكون الاعتقال في السجن بحدّه الأدنى، ومثل هذا يحتاج إلى تدبير. بالطبع، كان هناك تدابير قد اتّخذت بعضها صحيحٌ وبعضها غير صحيح ـ ونحن هنا لا نريد أن ندخل في الجزئيات والقضايا ـ ولكن من حيث المجموع فإنّ السجن هو ظاهرةٌ غير مطلوبة. مشكلات السجن وتبعاته والتبعات التي تقع على عاتق السجين والعوائل، والتبعات التي تلحق ببيئة العمل. لهذا اجعلوا سياسية السلطة القضائية على هذا الأساس وتابعوا الأمر، فكّروا وليكن الأمر علاجياً، أحدها أن تُحل قضية السجن، سواء من ناحية أن لا تتبدّل الجهة أو البعد الجزائي للسجن إلى شيء آخر، والثاني أن تقلّ المجازاة أو عقوبة السجن إلى أقل قدر ممكن أو أن تتبدل إلى عقوبات أخرى لكي لا تصيب تبعات السجن هذا المجتمع.
رابعها: حفظ سمعة الأشخاص
مسألة أخرى مهمة بالنسبة للسلطة القضائية ـ وبالتأكيد ليس المخاطب في هذا الكلام السلطة القضائية فحسب، بل إنّ الأمر متوجّه أكثر إلى الأجهزة الإعلامية ـ وهي قضية سمعة الأشخاص. فيجب الالتفات كثيراً إلى حفظ سمعة الأشخاص. إنّ الشريعة الإسلامية قد جعلت عرض المؤمن إلى جنب نفسه. ولا ينبغي للسلطة القضائية والأجهزة والمحاكم والأجهزة الإدارية للسلطة القضائية أن تقع تحت تأثير ضوضاء الإعلام وتأثيراته. حسناً، للأجهزة الإعلامية مشاكل في هذا المجال، خصوصاً فيما يحدث الآن، في مواقع الإنترنت، حيث إنّ الكثير من الأمور التي يلزم رعايتها لا تتم رعايتها، وحقيقة الأمر هي هذا، وهذه من عيوب حياتنا ونقائص أعمالنا. حسناً، لهذا
230
192
في لقاء مسؤولي السلطة القضائيّة
علاجٌ في محلّه فمعالجة قضية الشائعات والأعمال التي تحصل في الإعلام والمنشورات هي مقولة أخرى، لكن السلطة القضائية لا ينبغي أن تقع تحت تأثير هذه الأمور، وإن كانت جميع المنشورات وكلّ مواقع الإنترنت التي تثير الأجواء وتصنع مناخات وآراء عامّة وتوجّهها نحو جهة خاصة، فإنّ السلطة القضائية سواء في المحكمة الخاصة أم تلك المحكمة المسؤولة عن متابعة أي ملف يجب أن تقوم بعملها دون أن تقع تحت تأثير أي شيء. فهذه القضية مهمّة جداً. فذكر أسماء المتّهمين قبل إثبات الجرم، أو عدم ذكرها، ولكن تبيين الأمر كأنهم ذكروا الاسم، فيه إشكال، فمثل هذه تؤدي إلى حصول خللٍ في ارتقاء السلطة القضائية وأجهزة القضاء في البلد. فهذه مسألةٌ يجب الالتفات إليها حتماً.
خامسها: إعداد الكادر الكفء
مسألةٌ أخرى، موجودة في السلطة القضائية ـ ورأيت أنها مورد اهتمام رئيسها المحترم، لكن ينبغي العمل عليها بشكل أكثر جدّية ـ هي قضية إعداد الكادر المناسب لمواقع الإدارة، والمناصب العليا في السلطة القضائية. إعداد الأفراد المناسبين وخصوصاً للمواقع الإدارية، وإن كان بالنسبة لكل جهاز السلطة أمرٌ مهمٌ جداً، وضروري. يجب الاستفادة من الحوزات والجامعات. فالشخصيات البارزة ليست قليلة بحمد الله، والطاقات المستعدة النابضة في مجتمعنا ليست قليلة. وهذا أمرٌ يجب الالتفات إليه. وإن شاء الله يتم العمل عليه وبذل الرأسمال المناسب والبرامج المطلوبة.
سادسها: التعاون بين السلطات
توجد نقطة هي بنظري أساسية، وإن كانت لا ترتبط بعمل السلطة القضائية، لكنها مع ذلك متعلقة بالحركة العامة للسلطة القضائية ومسيرتها ـ وهي مسألة تعاون السلطات فيما بينها، وهذا ما يحتاح إليه البلد في يومنا هذا.
حضور الجمهوريّة الإسلاميّة على مستوى العالم
إنّني أقول لكم إنّ القوى المتسلّطة في عالم اليوم قد وصلت إلى هذه النتيجة وهي أنّ عليها أن تبذل كلّ قوّتها عسى أن تتمكّن من توجيه ضربة أو خدشة إلى الجمهورية الإسلامية. فقد ركّز الشيطان كلّ قواه من أجل مواجهة هذه الحركة العظيمة التي أحدثها وجود الجمهورية الإسلامية وبقائها وتقدّمها في العالم. هذا وإن لم يقرّوا به ولكن حدّدوه. فهذه الصحوة التي قد وُجدت في العالم الإسلامي وهذا الشوق والتوجّه عند جماهير الشعوب إلى الشعارات الإسلامية والقيم والأهداف الإسلامية
231
193
في لقاء مسؤولي السلطة القضائيّة
يقولون أنّها بسبب حضور الجهورية الإسلامية في الرأي العام للعالم الإسلامي. فأيّ عملٍ علميٍّ مهم تقومون به وأيّ نجاحٍ اجتماعيّ أو سياسيّ تحقّقونه وكلّ حركة اجتماعية عظيمة تحدث داخل هذا البلد ـ من قبيل الانتخابات الحماسية ـ وكلّ صمودٍ ومقاومة تبديها الجمهورية الإسلامية مقابل تسلّط وهيمنة الاستكبار تنعكس في العالم الإسلامي. فإنّ كل عمل من هذه الأعمال الكبرى يُعدّ حافزاً للشعوب التي تسعى للاستقلال على قاعدة الإسلام. لقد أعلن شعب إيران أنّ الإسلام هو راية التقدّم للشعوب، وهذا ما يفهمه الأعداء، لهذا فإنهم يركّزون على أن تفقد هذه القاعدة الأساسية رونقها. وكل هذا الضجيج والصخب الذي تلاحظونه في القضايا المختلفة ـ في قضية حقوق الإنسان وفي الملف النووي وباقي القضايا ـ بسبب هذه المواجهة. بالتأكيد إنّهم يسمّون أنفسهم "المجتمع الدولي"! لكنّهم ليسوا كذلك، بل هم بضع قوى متسلّطة في العالم، أمريكا وبعض القوى التابعة لها هنا وهناك.
الشعب دعامة النظام
إنّهم يبذلون أقصى ما لديهم من أجل مواجهة الجمهورية الإسلامية. والهدف هو سلب هذا النظام المقدّس دعامته الشعبية وهي دعامة عظيمة. فكلّ هذا الحظر وأمثاله ممّا تشاهدونه يهدف إلى هذا الأمر بالدرجة الأساسية. وبالطبع، إنّهم يدّعون كذباً، أنّ الشعب ليس مستهدفاً من كل هذا الحظر، لا نريد أن نوجّه ضربةً للشعب. وهذا مثل باقي ادّعاءاتهم، كذبٌ وخداعٌ. كلا، بل إنّ هدفهم الأساسي هو الناس، وكلّ هذه الضغوطات هي من أجل إخضاع هذا الشعب وإيقاعه في المشاكل حتى يتخلّى عن نظام الجمهورية الإسلامية وتنقطع علاقته المعنوية به. وبالطبع بفضل الله وبحوله وقوّته سيُهزمون في هذا الميدان. فإنّهم لا يعرفون شعبنا ولا يعرفون مسؤولينا. فهذه الخدعة التي يمارسها العدوّ قد أصبحت معلومة لشعبنا، وهو يعلم أنّ الهدف اليوم إتعابه، لذلك تشاهدون وتلاحظون أنّ كل هذا الضغط يزيد حضور الجماهير في الميادين المختلفة حماسةً. والمسؤولون أيضاً مشغولون. وهم للحق والإنصاف يبذلون وسعهم في مواجهة مساعي العدوّ.
الشعب والإمكانات وعامّة الدولة
إنّ أمريكا اليوم تمركز كلّ قوّتها من أجل أن تحاصر الجمهورية الإسلامية بحسب زعمها اقتصادياً، لكنّهم يحاصرون أنفسهم، وهم الذين يعانون من المشكلات، فأوروبا وأمريكا اليوم تعاني من مشاكل أساسية غير ممكنة الحل. فهي في الحقيقة غير قابلة للحل أبداً. إنّ أوضاعهم تختلف عن أوضاعنا، فنحن بحمد الله لدينا كل شيء،
232
194
في لقاء مسؤولي السلطة القضائيّة
لدينا إمكانات وثروة داخلية وشعب طيّب ومصادر مالية، وموارد بشرية، وليس علينا ديوناً خارجية، فإمكانات بلدنا عظيمة جداً. وكلّ الأذى الذي يريده العدوّ ويسعى نحوه هو من أجل أن يتمكّن من الحدّ من وصول الجمهورية الإسلامية إلى مثل هذه الإمكانات. وإنّ سعي مسؤولينا هو لأجل إبطال هذه المؤامرة، وإن شاء الله سينجحون وهم يبذلون جهوداً جيدة أيضاً.
تكاتف السلطات الثلاث
في مثل هذه الظروف ما هو ضروريٌّ لبلدنا ويُعدّ فريضةً وحتماً هو أن تتعاضد جميع الأجهزة المسؤولة في البلد من أجل مواجهة هذا التمركز عند عدوّنا. فهم هنا يركّزون على نقطة الحق. فإنّ أي انفصال بين القوى والسلطات الثلاث سيلحق الضرر بالبلد والنظام. فيجب على الجميع أن يتعاونوا ويتعاضدوا. الحكومة والمجلس والسلطة القضائية كلّهم في جبهةٍ واحدة وهي جبهة الدفاع عن الإسلام، والدفاع عن هذا الشعب العزيز والشريف، والدفاع عن استقلال البلد وهوية الثورة، هذه الثورة، التي أعطت الهوية لشعبنا وأمتنا بل لهذه الأمّة الإسلامية. هذه هي اليوم أهدافنا الكبرى، لهذا يجب التعاون والتكاتف.
إنّ بعض المناوشات وبعض الطعن الذي نوجّهه إلى أعمال بعضنا بعضاً يمكن بالكامل أن نشطبه من صفحة التعاون، فهو ليس بالأمر الأساسي والأصولي، فأغلبه أوهام. فأنتم كسلطة قضائية قوموا بدوركم على أكمل وجه.
أداء التكليف والوظيفة هو الأساس
فلو أنّ كلّ قطاعٍ في هذا البلد أوقف عمله حتى يقوم الطرف الآخر بعمله، فلن يؤدّى أيّ عمل. وأن يقول أحدنا لأنّ الآخر لم يؤدِّ ما عليه فأنا سوف أقلّل وأتراجع، كلا، نحن نؤدّي تكليفنا على أكمل وجه.
هذا، بالإضافة إلى أنّه أداءٌ لتكليفٍ إلهي وحقٍّ ربّاني فإنّه يعين الآخرين على أن يقوموا بعملهم وتكليفهم على أكمل وجه.
هذه وصيّتنا وأملنا إن شاء الله تعالى أن يوفّقكم جميعاً وكلّ المسؤولين لتؤدّوا حقّ هذا الشعب الكبير وحقّ الإسلام العظيم. فاطمئنوا أنّكم سوف تنجحون. لقد وعد الله تعالى وهو لا يخلف الميعاد، وسوف يتحقّق وعده حتماً. إنّ وعد الله هو نصرة الحق وأهله. أولئك الذين يتحرّكون في سبيل الحق، فإنّ الله تعالى سيعينهم ويهديهم ويسدّدهم ويضمن لهم الوصول إلى الهدف. واليوم فإنّ عمل الشعب الإيراني
233
195
في لقاء مسؤولي السلطة القضائيّة
والمسؤولين وهذه الفئة العظيمة للعاملين والمسؤولين في أجهزة النظام في مختلف القطاعات هو هذا. فللإنصاف إنّ نواياهم جيدة جداً، ومساعيهم صادقة، ونسأل الله تعالى أن يبارك ذلك.
نسأل الله تعالى بمشيئته أن يوفّقكم جميعاً وأن يفتح عليكم أبواب الفتوحات الكبرى يوماً بعد يوم لتتمكّنوا بمشيئته من القيام بمسؤولياتكم المهمّة الملقاة على عاتقكم بأفضل وجه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
234
196
في لقاء المشاركات في المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلاميّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء المشاركات في المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلاميّة
المناسبة: المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلاميّة.
الحضور: المشاركات في المؤتمر (من 84 دولة).
المكان: طهران.
الزمان: 11/7/2012م.
235
197
في لقاء المشاركات في المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلاميّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بدايةً، أرحّب بكنّ جميعاً، الأخوات العزيزات، وبناتي العزيزات، والسيّدات النّخب من سائر البلاد الإسلامية. هذا المكان هو بيتكن1. نسأل الله تعالى أن يبارك هذا المؤتمر وهذا اللقاء للأمّة الإسلامية.
هويّة المرأة المسلمة والثقافة الغربيّة
اجتماعكنّ هذا بالنسبة لي يحوز على أهمّية فائقة، إنّ اجتماع النساء النخبة من شرق العالم الإسلامي وغربه له أهميّة تفوق أهميّة أي مؤتمر للصحوة الإسلامية، وهذه الأهمية نابعة من أنّه فرصة لتعرّف النساء النّخب في العالم الإسلامي إلى بعضهنّ بعضاً في هذا المؤتمر. وهذا مهمّ جداً. لقرنٍ من الزمن والثقافة الغربية تسعى مدعومة بالمال والقوّة والسلاح والدبلوماسية من أجل فرض الثقافة الغربية وأسلوب الحياة الغربية على المجتمعات الإسلامية بين النساء. لمئة سنة كان السعي من أجل أن تفقد المرأة المسلمة هوّيتها. فقد استُخدمت جميع العوامل المؤثّرة وعناصر القوّة: المال، والإعلام، والسلاح، والخدع المادية المختلفة، واستخدام الغرائز الجنسية الطبيعية للإنسان، كلّ هذه استُخدمت من أجل إبعاد المرأة المسلمة عن هويتها الإسلامية. واليوم إذا كنتنّ أيتها السيدات النخبة الإسلامية تسعين لاسترجاع هذه الهوية للمرأة المسلمة، فإنّكنّ تقدّمن أكبر خدمة للأمّة الإسلامية وللصحوة الإسلامية، والعزّة والكرامة الإسلامية.
هذا الاجتماع يمكن أن يمثّل خطوة كبيرة ومؤثّرة على هذا الطريق. فلا تكتفينّ بالجلوس معاً، والتباحث لعدّة أيام، بل، اجعلنَ هذا اللقاء مقدّمةً لحركة كبيرةٍ وخالدة، تؤثّر على العالم الإسلامي، ويمكنها ذلك، فصحوة النساء، والشعور بالشخصية والهوية بينهنّ، والوعي والبصيرة في المجتمع النسائي سيكون لذلك كلّه تأثيرٌ مضاعفٌ على الصحوة الإسلامية والعزّة الإسلامية. وهذا هو المطلب الأوّل.
بعض الأخوات اقترحن في كلماتهنّ المفيدة والناضجة والدقيقة اقتراحات ونحن نوافق على متابعتها.
الغرب: المرأة وسيلة لمتعة الرجل
هناك مسألة أساسية فيما يتعلّق بنظرة الإسلام إلى جنس المرأة. حيث إنّ هذه النظرة هي في المقابل تماماً للثقافة الغربية التي تنظر إلى المرأة نظرةً مهينةً. ويضعون لذلك
1- الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
237
198
في لقاء المشاركات في المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلاميّة
عنواناً هو الحرية، لكنّ الواقع ليس كذلك. إنّ الغربيين وطيلة هذه القرون الثلاثة الأخيرة، قد وضعوا لجميع جرائمهم أسماءً جميلة. فعندما كانوا يقتلون ويستعبدون وينهبون الثروات، وعندما كانوا يفتعلون الحروب المفروضة بين الشعوب وغيرها من الجرائم، كانوا يضعون على كلّ واحدةٍ منها أسماءً برّاقة وخدّاعة، كأسماء الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية وأمثالها. إنّ إطلاق اسم الحرية على التوجّه الموجود في الثقافة الغربية للمرأة، هو اسمٌ كاذب، فهذه ليست حرية. إنّ أساس ثقافة الغرب مبني على جعل المرأة بضاعةً لمتعة الرجل في المجتمع. فالترغيب والحثّ على التعرّي يعود إلى هذه الجهة. في الغرب، نجد أنّ عذابات المرأة طيلة القرنين الأخيرين قد ازدادت ولم تقلّ، فالتحرر الجنسي والتحلّل الجنسي في الغرب لم يؤدِّ إلى خمود فوران قدر الشهوة البشرية التي هي غريزية وطبيعية. وكانوا في السابق يعلنون أنّه إذا كان بين المرأة والرجل علاقة حرّة فإنّ الشهوة الجنسية ستضعف، ومن الناحية العملية اتّضح أنّ القضية على العكس من ذلك، فأينما ازدادت حرية العلاقات بين المرأة والرجل في المجتمع بحسب الوضعية التي أوجدوها، فإنّ الميول الشهوانية للبشر تتأجّج أكثر. وفي هذا اليوم فإنّ الغربيين لا يخجلون ويعرضون قضية الشذوذ الجنسي كقيمة. فالإنسان الكريم يندى جبينه من الخجل، أمّا أولئك فلا يخجلون. إنّ نظرة الغرب إلى المرأة هي نظرة منحطة وناقصة ومضلَّلة وخاطئة. أما نظرة الإسلام إلى المرأة فهي نظرةٌ تمنح العزّة والكرامة والتكامل واستقلالية هوية المرأة وشخصيتها، وهذا هو ادّعاؤنا. نحن نستطيع أن نثبت ادّعاءنا بأقوى الأدلّة.
فخر المرأة أن تكون نواة الأسرة
ففي البيئة الإسلامية تتكامل المرأة علمياً ونفسياً وأخلاقياً وسياسياً، وتتقدّم الصفوف في أهمّ القضايا الاجتماعية (في الوقت نفسه) وتبقى امرأة. فأن تكون المرأة امرأةً يُعدّ بالنسبة لها نقطة امتياز وافتخار، وليس فخراً للمرأة أن نبعدها عن المحيط النسائي والخصائص النسائية وأخلاقها. فهؤلاء يعتبرون إدارة المنزل وتربية الأبناء والحياة الزوجية عاراً عليها. لقد فككت الثقافة الغربية الأسرة ودمرتها. وفي زماننا هذا فإنّ من المشاكل الكبرى للعالم الغربي هو انهيار العائلة، وازدياد عدد الأولاد الذين لا هوية لهم. ومثل هذا سوف يخنق الغرب ويمسك بزمامه، فالأحداث الاجتماعية إنّما تظهر مع مرور الزمن. وسوف يتلقّى الغرب من هذه الجهة بالذات أقوى الضربات، وسوف تنهار الحضارة المادية بكلّ زخارفها وزبارجها من هذه الجهة بعينها.
238
199
في لقاء المشاركات في المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلاميّة
المرأة والكرامة الإنسانيّة
إنّ الإسلام ينظر إلى المرأة من زاوية الكرامة. فجميع الخصائص الإنسانية مشتركةٌ بين المرأة والرجل. فالإنسان قبل أن يتّصف بالأنوثة و الذكورة فإنّه متّصفٌ بالإنسان، وفي الإنسانية لا وجود للمرأة والرجل، فالجميع سواسية، هذه هي نظرة الإسلام.
لقد جعل الله سبحانه خصائص جسمانية في كلّ من الجنسين، بحيث يكون لكل منهما دورٌ في استمرار الخلقة وفي تكامل الإنسان ورقيّه وفي حركة التاريخ، وإنّ دور المرأة أهم، فإنّ أهم أعمال الإنسان هو استمرار النسل البشري، يعني الإنجاب، وإنّ دور المرأة في هذا المجال، لا يمكن مقارنته بدور الرجل، ومن هذه الناحية كانت أهمية المنزل، وأهمية الأسرة، وأهمية تقييد إعمال الغرائز الجنسية، ومن هذه الجهة يجب النظر إلى قضايا الإسلام وأحكام الشريعة الإسلامية. أما الغرب الضال، فإنّه يسمّي هذه الأمور تقييداً. أمّا ذلك الأسر المضل فإنّه يسمّيه حرّيةً! فهذا من خُدع الغرب وأحابيله. هذه نقطةٌ مرتبطةٌ بقضية المرأة.
دور المرأة وفق الرؤية الاسلاميّة
أنتنّ أيتها النساء النخبة، والبنات النخب، والشابات النخب، إنّ من أهم مسؤولياتكن اليوم أن تحدّدنَ دور المرأة وفق الرؤية الإسلامية، وأن تبرزنه وتوضحنه. وإنّ التربية الإنسانية للمرأة تُعدّ أكبر الخدمات إلى المجتمعات الإنسانية والإسلامية، ويجب أن تستمرّ هذه الحركة. لا شكّ بأنّها انطلقت، لكن ينبغي أن تشتد وتتّسع وتتقدّم وأنتنّ في هذه الحركة لا شكّ سوف تنتصرن. فأحد الأعمال الأساسية هو هذا. هذا مطلبٌ.
دور المرأة في الحركة الثوريّة والتحوّلات الاجتماعيّة
المطلب الآخر فيما يتعلّق بدور النساء هو في التحوّلات الاجتماعية وفي الثورات في هذه الحركة العظيمة للصحوة الإسلامية. أقول لكنّ لو أنّ النساء لم تشاركن في الحركة الاجتماعية لأيّ شعبٍ فإنّ تلك الحركة لن تصل إلى أيّ مكان ولن تنجح. ولو ساهمت النسوة في أيّة حركة مساهمة جادّة وواعية وعن بصيرة فإنّ تلك الحركة ستتقدّم بنحوٍ مضاعف. وفي هذه الحركة العظيمة للصحوة الإسلامية فإنّ دور النساء هو دورٌ لا بديل عنه، ويجب أن يستمرّ. فالنساء هنّ اللواتي يهيئن أزواجهنّ وأبناءهنّ ويدفعنهم للمشاركة في أخطر الميادين والجبهات. نحن وفي زمن النضال ضدّ الطاغوت في إيران، وكذلك بعد انتصار الثورة وإلى اليوم، كنا نشاهد عظمة الدور النسائي بشكلٍ واضحٍ وملموس. فلو لم يكن لنسائنا في هذا البلد أثناء الحرب، التي فُرضت علينا طيلة
239
200
في لقاء المشاركات في المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلاميّة
ثماني سنوات، حضور في ميادين الحرب وفي الساحات الوطنية العظيمة لما انتصرنا في هذا الاختبار الصعب والمليء بالمحن. فالنساء هنّ اللواتي نصروننا، أمّهات الشهداء وزوجاتهم وزوجات المعوّقين والأسرى والأحرار، فبصبرهنّ أشاعت الأمّهات مناخاً في نطاقٍ محدودٍ كان يدفع بالشباب والرجال للحضور بشوق ورغبة عارمة، وقد انتشر هذا في سائر البلد واتّسع. وكانت النتيجة أنّ الجوّ العام لبلدنا أضحى دفعةً واحدةً مناخ الجهاد والتضحية والإيثار وبذل النفوس وانتصرنا. واليوم الوضع هو كذلك في العالم الإسلامي، في تونس وفي مصر والبحرين وليبيا واليمن وفي كل نقطة أخرى. لو أنّ النساء استطعن تقوية حضورهنّ في الصفوف الأمامية واستمررن على ذلك ستكون الانتصارات المتلاحقة من نصيبهن. ولا شكّ في ذلك.
حركة الصحوة اليوم تؤسّس لعالم جديد
النقطة الأخرى والكلمة الأخرى، تتعلّق بأصل قضية الصحوة الإسلامية. هذه الحادثة الكبرى التي وُجدت في العالم الإسلامي، وقد انطلقت من تونس وتعاظمت في مصر وانتقلت بعدها إلى الدول الأخرى، فهي في الواقع حادثةٌ مدهشة ولا نظير لها. ومهما جال المرء في تاريخنا، فإنّ هذه الحادثة هي حادثةٌ عظيمة وليست عادية. ويمكن لهذه الحادثة أن تغيّر مصير العالم، وتقضي على الهيمنة الظالمة للاستكبار والصهيونية على العالم الإسلامي التي استمرّت لسنواتٍ متمادية، ويمكنها أن تشكّل الأمّة الإسلاميّة وذلك بشرط أن تستمرّ. للتحرّكات الإسلامية نجاحات وهي أيضاً عرضة لخطر الهزائم.
فالآفات تتوجّه إليها، ويجب تحديد هذه الآفات والوقاية منها. في يومنا هذا ولحسن الحظ، الشعوب المسلمة في شمال أفريقيا قد تألّقت جيداً وتحرّرت بشكل جيد. الحركة حركةٌ عظيمة، وكانت إلى الآن بحمد الله موفّقة، لكن التفتوا، فالغرب، وعلى رأسه أمريكا والصهيونية، سوف يأتون بكلّ إمكاناتهم ويتوافدون أكثر، لعلّهم يتمكّنون من السيطرة على هذه الحركة وركوب أمواجها، ويجب على الشعوب أن تكون يقظة. لقد أُخذوا على حين غرّة، وما استطاعوا ترقب ذلك، ولم يتمكّنوا من استشرافه. وهذه الغفلة هي مكرٌ إلهي، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
في موضوع لبنان أيضاً، إنّ انتصار شباب لبنان المقاوم على الجيش الصهيوني المتفوّق بسلاحه كان في غفلةٍ منهم أيضاً. وفي الثورة الإسلامية في إيران وقبل 33 سنة كان ذلك أيضاً حين أُخذوا على حين غرّة. ومثل هذه الغفلات مستمرّةٌ. ففي هذه الأحداث كانوا غافلين ولم يتمكّنوا من توقّعها والاتّقاء منها، لكنّهم الآن بصدد استدراك الأمور. ومن أعمالهم تثبيط همم الناس ومعنوياتهم. فشباب العالم الإسلامي ـ نساءً ورجالاً ونخبةً، وخصوصاً البلاد التي جرت فيها الثورات ـ عليهم أن يعلموا
240
201
في لقاء المشاركات في المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلاميّة
أنّهم لو صمدوا في الميادين وقاوموا فإنّ انتصارهم على كلّ خدع الاستكبار وأحابيله أمرٌ قطعيّ. فجميع وسائل الاقتدار للقوى الاستكبارية واهيةٌ مقابل حضور الناس ومقابل إيمان الشعوب. لديهم المال والسلاح والقنبلة النووية والجيوش المجهّزة والوسائل الدبلوماسية، ولكنّ كلّ هذه عاجزة أمام إيمان الشعوب.
احذروا جيداً من أن يضيع هذا الإيمان بإيجادهم الخلافات، وبإلهاء الشباب بطريقة والشيوخ بطريقة أخرى، والمتدينين بطور وغيرهم بطورٍ آخر. إن اجتماع الناس على أساس الشعارات الدينية والإسلامية هو الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يتقدّم بهذه الشعوب، ولدينا في هذا المجال تجربةٌ طويلةٌ وممتدّة.
نحن أقوى بمئة مرّة
أخواتي العزيزات، وبناتي العزيزات، طيلة 33 سنة ونحن نواجه عداوات الاستكبار. واليوم يتعالى الضجيج العالمي والصخب الإعلامي العالمي من أجل أن يقول إنّنا قد فرضنا حظراً على إيران. هؤلاء لا يفهمون ولا يدركون أنّنا نحن طيلة 33 سنة قد أصبحنا نمتلك المناعة ضدّ الحظر، فنحن طيلة 33 سنة نعيش هذا الحظر، وقد أصبحنا نمتلك المناعة مقابله، فالحظر لا يقصم ظهرنا، وشعب إيران صامدٌ، وهو يقف مقابل مؤامرات العدوّ بروحه وماله وأعزّ أعزّته. ونحن اليوم مقارنةً بما كنّا عليه قبل 30 سنة أصبحنا أقوى بمئة مرّة وأكثر تقدّماً. إنّنا اليوم في ميدان العلم والسياسة وإدارة البلد، وفيما يتعلّق بالبصيرة الشعبية العميقة أكثر تقدّماً بدرجات عمّا كنّا عليه في بدايات الثورة، وقد حصلنا على ذلك من خلال التحدّي الذي واجهنا به عداوات الأعداء ضدّ إيران.
المرأة في إيران موجود شامخ
اليوم إنّ المرأة المسلمة في دولة إيران هي موجودٌ شامخٌ وعزيز. آلاف الوسائل الإعلامية تقصف بالأخبار والدعايات لعلّ هذه الواقعية تظهر على نحوٍ مخالفٍ تماماً. لكنّ الحقيقة هي هذه. فاليوم إنّ أكثر نسائنا إيماناً وثوريةً هنّ نساؤنا المتعلّمات، فاليوم إنّ نساءنا المتعلّمات وشاباتنا لهنّ حضورٌ فعال في أكثر مراكز المختبرات والمراكز العلمية التجريبية والإنسانية تعقيداً. إنّ أكثر نسائنا فعالية في المجال السياسي والعلمي والإدارة الاجتماعية هنّ نساؤنا المؤمنات والثوريات، ولهنّ مستويات علمية جيّدة وعمقٌ فكريّ. إنّ كلّ التطوّر الذي حقّقه شعب إيران إنّما كان بسبب الصمود. ولو أنّ شعباً صمد لله، وفي سبيل الله فإنّ الله سيعينه، هذا وعد الله والله لا يخلف الميعاد.
241
202
في لقاء المشاركات في المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلاميّة
القضيّة المصيريّة فلسطين
إنّ الأجهزة الاستكبارية وسياساتها تسعى بكلّ وجودها من أجل صرف الجمهورية الإسلامية عن دعم فلسطين. إنّنا نصرّ على الالتزام بقضية فلسطين. سعوا من أجل تضخيم القضية المذهبية والطائفية.
الجمهورية الإسلامية تقف إلى جانب الإخوة المسلمين من أيّ مذهبٍ كانوا من الشيعة والسنّة والفرق الإسلامية المختلفة، فأينما كان هناك حركةٌ إسلامية وأينما كان هناك دفاع عن الهوية الإسلامية، وأينما كان هناك دفاع عن المظلوم، فإنّ الجمهورية الإسلامية ستكون هناك موجودة وحاضرة، ولن تتمكّن أمريكا والصهيونية والشبكة السياسية الفاسدة للمستكبرين من التغلّب على الجمهورية الإسلامية. إنّنا بتوفيق الله سنقف إلى جانب شعب فلسطين وإلى جنب الشعوب المسلمة التي نهضت بالثورة وإلى جانب شعب البحرين المظلوم وإلى جانب كل الذين يريدون أن يواجهوا أمريكا والصهيونية. إننا صامدون وسندافع عنهم ولن تأخذنا في ذلك لومة لائم.
إنّ ما منّ به الله تعالى علينا وعلى الشعوب الإسلامية هو لطفٌ إلهي ورحمة ربّانية، ويجب أن نعمل لنبقى لائقين بهذه الرحمة. ونطلب من الله تعالى أن يوفّقنا لنيل موجبات رحمته وفضله، وإن شاء الله سيبقى ذلك دوماً.
اغتنمن هذه الحركة النسوية المسلمة، وهذا اللقاء الذي يجري من جميع أرجاء العالم الإسلامي، واجعلنه قاعدةً لأجل القيام بحركة عظيمة داخل الأمّة الإسلامية والتي ستنتهي إن شاء الله بانتصاراتٍ أكبر.
والسلام عليكنَّ ورحمة الله وبركاته.
242
203
في محفل الأنس بالقرآن الكريم
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في محفل الأنس بالقرآن الكريم
المناسبة: حلول شهر رمضان المبارك 1433هـ.
الحضور: حشدٌ من القرّاء والمدرّسين من مختلف دول العالم.
المكان: طهران.
الزمان: 21/7/2012م.
243
204
في محفل الأنس بالقرآن الكريم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين.
الأنس بالقرآن الكريم
نشكر الله تعالى من أعماق القلب ومن كلّ ثنايا الروح أن وفّقنا ووفق شعبنا وأهلنا للأنس بالقرآن والالتذاذ بتلاوته.
يقيناناً، إنّ لكلّ واحدةٍ من هذه الجلسات، التي تتشكّل حول القرآن وتلاوته وتصدح فيها ألسنة عنادل القرآن1، تأثيرٌ كبير في تعميق الإيمان بالقرآن وعشقه ومحبته في نفوسنا، وإنّ كلّ شيءٍ رهنٌ بهذا. لو أنّ شعباً قرن الاعتقاد بالحقّ والقرآن والمعارف الإسلامية بالمحبّة فإنّ صبغة وأريج وردة المحبّة اللطيفة هي التي يمكنها أن تربّي وتنمّي العقائد العميقة في ميدان حياة الإنسان. لو أنّ هذه العقائد وهذه الالتزامات العقلانية تلازمت مع الحبّ والعواطف وعُجنت بها، هناك سيكون الميدان ميدان العمل القرآني، وستزداد التوفيقات والنجاحات وتتتالى، وهذا ما نسعى نحوه. إذا استطاعت هذه المحافل القرآنية أن تأخذ بقلوبنا إلى ما هو أبعد من الجوانب العقلانية، أي الجوانب العاطفية وعُلقة العشق والمحبة بالقرآن، فإنّ المشاكل التي تقف بوجه المجتمع الإسلامي ستزول، هذا هو اعتقادنا.
بالطبع نحن لا نكتفي بمجرد الأحاسيس والعواطف مطلقاً، لكننا نعدّها من اللوازم. ولحسن الحظ فإنّ هذا المعنى موجودٌ في مجتمعنا وفي المعارف الإسلامية التي أخذناها عن طريق أهل البيت عليهم السلام، فالعقل والعاطفة معاً، أحدهما إلى جانب الآخر.
لحسن الحظ أنّ بلدنا وشعبنا وشبابنا يقدّمون تجربةً جيدة في موضوع الأنس بالقرآن. فهذه المعارف والخبرات والفهم المنتشر حول القرآن، والذي يراه المرء واضحاً في هذه الجلسات، وعبر هذه التلاوات وما نسمعه أو نراه خارجها، كلّ ذلك يختلف تماماً عمّا كانت عليه الأمور في السنوات الفائتة، مع بدايات الثورة في هذا البلد.
1- عنادل جمع عندليب، هو طائر الهزار، ويقال هو البلبل، يصوّت ألواناً.
245
205
في محفل الأنس بالقرآن الكريم
بحمد الله إنّ شبابنا وفتياننا ورجالنا ونساءنا قد تقدّموا في مجال الأنس بالقرآن، فهذه بشارةٌ عظيمة. لقد كنّا ذات يوم محرومين من هذا.
عندما يتحقّق الأنس بالقرآن ينفتح باب التدبّر والتأمّل والتفكّر في معارفه. لا يصحّ الاكتفاء بقراءة القرآن من أوّله إلى آخره والمرور عليه مرور الكرام، فهو بحاجة إلى التدبّر وإلى الوقوف على كلّ كلمةٍ من كلماته وكلّ تركيبٍ كلاميٍّ ولفظي فيه. فكلّما تدبّر الإنسان وتأمّل يزدد أنسه ويكثر نفعه واستفادته، هكذا هو القرآن.
المعارف القرآنيّة: طريق السعادة وحلّ المشاكل
إنّ مشاكل أي مجتمع سوف تُحلّ مع القرآن. فالمشاكل تعالج بالمعارف القرآنية. إنّ القرآن يقدّم طريق حلّ أزمات الحياة البشرية هدية لبني آدم. هذا هو الوعد القرآني، وقد أظهرت تجربة عصر الإسلام هذا الأمر. كلّما كنا أكثر قرباً من القرآن، وكلّما ازداد العمل بالقرآن بيننا ـ سواء في أرواحنا أم في أعمالنا الجسمانية، وسواء كان على مستوى أفرادنا أم مجتمعنا ـ فإنّنا نصبح أكثر قرباً من السعادة، ومن حلّ المشكلات والمعضلات.
العزّة تكون في ظلّ القرآن، وكذلك الرفاه والتقدّم المادي والمعنوي والأخلاق الفاضلة والقدرة والتغلب على الأعداء، كلها في ظل القرآن. لو أنّنا نحن الشعوب المسلمة أدركنا هذه الحقائق جيداً، وسعينا للوصول إلى هذه الأهداف، فباليقين سوف ننال فوائد جمّة.
الحضارة الغربيّة: الأسس، الهويّة، والأساليب
إنّ الشعوب المسلمة اليوم تعاني من مشكلاتٍ كثيرة، لجهة هيمنة وتسلط أصحاب الرؤية المادية والنفعية لعالم الخلقة، هي نظرة منحطّة لمن لم يشمّ رائحة المعنويات. فحضارة اليوم، التي قدّمت للمستكبرين هذه الإمكانات العسكرية، مبنيّة على النظرة المادّية لعالم الخلقة. هذه النظرة هي التي جلبت التعاسة والشقاء إلى العالم، وإلى أصحابها أيضاً. فعندما تكون النظرة مادية ونفعية ومصلحية وبعيدة عن المعنويات والأخلاق فستكون النتيجة أنّ القدرة العسكرية والسياسية والمخابراتية ستستخدم لتكبيل الشعوب بالأغلال. إنّ الحضارة الغربية التي وصلت إلى أوجها في القرون الأخيرة لم يكن لديها سوى هذا الفنّ، وهو استغلال البشرية، وتكبيل الشعوب، وقد
246
206
في محفل الأنس بالقرآن الكريم
استغلّوا علومهم من أجل إبادة حضارات الشعوب الأخرى، والهيمنة عليها وعلى ثقافاتها واقتصاداتها.
لو كنتم قد طالعتم أوضاع وأحوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين ـ ما دوّنه الغربيون أنفسهم وقالوه وليس ما كتبه معارضوهم وأعداؤهم ـ لرأيتم ماذا فعلوا في شرق آسيا وفي الهند والصين، وأفريقيا وأمريكا، وأية مصائب أنزلوها على رؤوس البشر، وأيّ جحيم أدخلوا إليه تلك الشعوب وأحرقوها، كلّ ذلك لأجل الانتفاع والاستغلال فقط. لقد تطوّروا على صعيد العلم والتكنولوجيا وأوصلوا صناعتهم إلى الذروة، لكنّهم استخدموها من أجل شقاء الشعوب، لماذا؟ لأن تلك الحضارة كانت تفتقد إلى الركن المعنوي. فعندما تُفتقد المعنويات لن يكون هناك أخلاق. وادّعاؤهم فيما يتعلّق بالأخلاق كاذبٌ ولا واقعية له، نعم، ثمة أخلاقٌ وصبرٌ وعقل في أفلامهم السينمائية، وفي أعمالهم الهوليوودية، ولكن لا أثر لهذه الكلمات في واقع الحياة. فعندما يحصل البعد عن المعنوية هكذا تكون النتيجة.
مأساة مسلمي بورما (مثالاً)
انظروا هذه الأيام، في دولة في شرق آسيا ـ في ميانمار (بورما) يُقتل آلاف المسلمين، ويُذبحون بسبب العصبية والجهالة ـ إن لم نقل إن هناك أياديَ سياسية في القضية، فلنفرض كما يدّعون أنّ المسألة بسبب العصبيات الدينية والمذهبية ـ فإنّ أدعياء حقوق الإنسان لا يحرّكون ساكناً، هؤلاء أنفسهم الذين يتحرّقون حزناً على الحيوانات، هؤلاء أنفسهم الذين لو وجدوا أبسط الذرائع في المجتمعات المستقلة عنهم وغير التابعة، فإنّهم يضخمونها مئات المرات، هؤلاء يصمتون أمام ذبح الأبرياء من النساء والرجال والأطفال، بل يبرّرون ذلك! هذه هي حقوق الإنسان عندهم، الحقوق المعزولة عن الأخلاق والمعنويات والمنقطعة عن الله. يقولون إنّ هؤلاء ليسوا من أهل بورما، فلنقل إنّهم كذلك فهل ينبغي أن يُذبحوا؟! بالطبع إنّهم يكذبون. فهؤلاء كانوا يعيشون في تلك البقعة منذ نحو 400 سنة، حسب التقارير التي وردتنا، وهذه الحالة كانت تتكرّر طيلة السنين المتمادية في ذلك البلد والبلدان المجاورة من قبل الغربيين وخصوصاً الإنكليز تجاه هؤلاء الناس. لقد أنزلوا أشد الويلات بحق هؤلاء الأهالي، أينما حطت أقدامهم أهلكوا الحرث والنسل كما ذكر الله تعالى في القرآن. نعم، لأجل إيجاد أسواق لمنتوجاتهم فقد خلقوا أسواقاً، وعرّفوا الناس إلى أنواع جديدة من المنتوجات من أجل ازدهار تجارتهم. هذه الحضارة منقطعةً عن المعنويات والقرآن.
247
207
في محفل الأنس بالقرآن الكريم
الحضارة الإسلاميّة
دعوتنا هي إيجاد حضارة تستند إلى المعنويات، وتعتمد على الله وعلى الوحي الإلهي، وعلى التعليم الربّاني والهداية الإلهية. لو استطاعت الشعوب الإسلامية اليوم ـ حيث إن الكثير من هذه الشعوب بحمد الله استيقظ ونهض ـ أن تؤسّس مثل هذه الحضارة، فإنّ البشرية ستصبح سعيدةً. وهذا ما تدعو إليه الجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية. إنّنا بصدد مثل هذه الحضارة. فاحفظوا أيّها الشباب الأعزّاء هذا الأمر واجعلوه معياراً وملاكاً.
الأنس والتدبّر والعمل بالقرآن الكريم
يجب أن تكون أعمالنا قرآنيةً وإلهية. فلا نكتفي بالقول واللسان والادّعاء، بل نخطو ونتحرّك عملياً على هذا الطريق. فحيث أنستم بالقرآن وتلوتموه، أينما وُجد أمرٌ أو هدايةٌ أو نصيحةٌ، فاسعوا بالدرجة الأولى إلى أن ترسّخوها في وجودكم وباطنكم وقلوبكم، وتجعلوها ظاهرة في أعمالكم. فلو أنّ كلّ واحدٍ منّا تعهّد بهذا في عمله فإنّ مجتمعنا سيتقدّم ويصبح قرآنياً.
بحمد الله لقد أضحت نهضة الأنس بالقرآن في مجتمعنا وبلدنا جيدة. وقضية حفظ القرآن هذه، التي أوصينا بها سابقاً، نراها بحمد الله اليوم تنتشر بين شبابنا، ويجب أن يحصل ذلك. ويجب أيضاً أن نتعرّف إلى القرآن ونأنس به. حين تحفظون القرآن يمكنكم أن تفهموا معانيه جيداً.عندما يفهم المرء معنى القرآن يمكنه أن يتدبّره، وعندما يتدبّر يمكنه أن ينال المعارف العالية ويتكامل. فالإنسان يتكامل في باطنه من خلال الأنس بالقرآن.
اللهم، بمحمد وآل محمد لا تفصلنا عن القرآن. اللهم، اجعل مجتمعنا مجتمعاً قرآنياً، واجعل حياتنا مع القرآن، ومماتنا على طريق القرآن. اللهم، بمحمد وآل محمد اجعل القرآن شافعاً لنا يوم القيامة. اللهم، لا تقطع أيدينا عن القرآن وأهل البيت عليهم السلام، الثقلين الكبيرين اللذين هما وديعتا رسولك. اللهم، اجعل القرآن يرضى عنّا، واجعل أهل بيت النبي وولي العصر أرواحنا فداه راضين عنا. اللهمّ، وفّقنا لأداء تكاليفنا، ووفّقنا للعبودية والتضرّع والخشوع والتقرّب إليك في هذا الشهر المبارك، وفي هذه الأيام والليالي المفعمة بالبركة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
248
208
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
المناسبة: حلول شهر رمضان المبارك.
الحضور: رئيس الجمهوريّة وأركان النظام ومسؤولو الدولة.
المكان: طهران.
الزمان: 24/7/2012م.
249
209
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، لا سيّما بقيّة اللّه في الأرضين.
أرحّب بجميع الإخوة والأخوات الأعزّاء، مسؤولي الأجهزة المختلفة للدولة المكرّمين والمحترمين، وأشكر السيد رئيس الجمهورية المحترم على التقرير الجيّد الذي وضعه بين أيدينا جميعاً.
الاستفادة من شهر رمضان المبارك
ما أريد أن أذكره في بداية كلمتي هو الحثّ والتحريض على اغتنام فرصة هذه الأيام والليالي. نحن نحتاج إلى الاستفادة القصوى من هذه الساعات والأيام والليالي المليئة بالبركة، وإلى تقوية علاقتنا القلبية بعالم المعنويات وعالم الغيب والابتهال والتضرّع والخشوع بين يدي ربّ الأرباب، وترسيخ ولايتنا لأهل البيت عليهم السلام، هذه الأسرة المكرّمة، فهذا هو أساس جميع الأعمال الصالحة التي يمكن أن تصدر عن أيّ إنسان مؤمن ساعٍ في طريق الحق.
يوم الحسرة
فما لم نستفد من هذه الساعات، وما لم نغتنم هذه الفرصة، سيأتي يومٌ يكون سبب حسرتنا، ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾1. ففي ظلّ الغفلة وعدم الإيمان تضيع هذه الفرص، وفي ذلك اليوم الذي نحاسَب فيه على كل ساعةٍ، بل على كل دقيقة وكل حركة وكلمة، سوف تكون هذه الغفلة سبب الحسرة. وهناك لا تعويض "إذ قضي الأمر"، فقد تمّ كلّ شيء، هناك حينما نستيقظ ونلتفت.
للمرحوم الميرزا جواد آغا الملكي رضي الله عنه2، في كتابه الشريف "المراقبات"، جملة حول ساعة ليلة القدر دوّنتها بنفسي ـ وبالطبع، إنّ هذا ينسحب على جميع الأوقات لكنّه ذكر هذا الأمر في هذه المناسبة ـ "فاعلم يقيناً، أنّك إن غفلت عن مثل هذه الكرامة وضيّعتها بإهمالك، ورأيت يوم القيامة ما نال منها المجتهدون"، أي إنّ يوم القيامة عندما تحضر أعمال البشر وتكون الصور الملكوتية لأعمالنا حاضرةً هناك، أنتم عندما تنظرون سترون أنّ هذا العمل الذي كنتم تستطيعون إنجازه ولم تفعلوا، وهذه الكلمة
1- مريم، 39.
2- أستاذ الأخلاق والعرفان المشهور في زمانه، وأستاذ الإمام الخميني، كتابه المراقبات أو أعمال السنة، من الكتب المعروفة في الأعمال العبادية.
251
210
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
التي كان يمكنكم أن تتفوّهوا بها لصالح الناس ولم تفعلوا، وهذه الخطوة التي كان يمكنكم أن تخطوها لينتفع بها شخص مستحق ولم تفعلوا، وكيف أنّ شخصاً آخر أو مجموعة قد جدّوا واجتهدوا وقاموا بهذا العمل، وما نالوه من عظيم الثواب من الله تعالى في ذلك اليوم، ونحن حُرمنا منه في ذلك اليوم، فعندما يشاهد المرء أنّ شخصاً آخر قد قام بهذا العمل الصالح أو هذه الخطوة أو ذاك العمل العباديّ وما نال من عظيم الثواب، في ذلك اليوم الذي يكون الكل محتاجين فيه، سيقول، "ابتليت بحسرة يوم الحسرة"، فأية حسرة هذه! هو تمنّى لو أنّه قام بهذا العمل، وخطا تلك الخطوة وذكر تلك الكلمة، أو أنه لم يتفوّه بتلك الكلمة. ثم يقول بعدها إنّ حسرة "يوم الحسرة"، ليست مثل أيّة حسرة أخرى. هناك أعمالٌ في هذه الدنيا، لو قام بها الإنسان تترتّب عليها نتائج ما (ثمرات طيبة)، وإذا لم يقم بها، فإنّه سيتحسّر بعدها ويندم. ولكن أين هذا من ذاك؟ يقول الميرزا: "التي تصغر عندها نار الجحيم والعذاب الأليم"، وبعبارةٍ أخرى تكون تلك الحسرة مثل المعدن المصهور الذي يُصبّ في باطن الإنسان. "فتنادي في ذلك اليوم مع الخاسرين النادمين يا حسرتي على ما فرّطت في جنب الله"، ثم يقول: "ولا ينفعك الندم".
شهر رمضان فرصة عزيزة
أنتم اليوم تتنعّمون بنعمة الحياة، والكثير منكم يتنعّم بنعمة الشباب، وبحمد الله، جميعكم، أو أغلبكم، تتمتّعون بالنشاط والقوّة الجسدية والفكرية، ويمكنكم أن تعملوا، ويمكنكم أن تغتنموا هذه الساعات الجيدة، وهذه الليالي والأدعية والمناجاة وإحياء الليالي وهذه النوافل. أحياناً يكون لبعض الأعمال الصغيرة من الأجر العظيم ما لا يمكن للإنسان أن يتصوّره في هذه النشأة وفي طيّات هذا الإطار الماديّ الذي هو فيه ـ "وهم لا يؤمنون" ـ ولكنّه متحقّق. حسنٌ، هذه فرصةً، هي فرصة شهر رمضان، وهي فرصة للخدمة أيضاً. فأنتم اليوم أصحاب مسؤولية، ولديكم فرصة الخدمة، وأنتم في موقع الإدارة، فيمكنكم أن تعملوا، وينبغي الاستفادة القصوى من هذه الفرصة. فاستفيدوا من الساعات والآنات والإمكانات المختلفة التي وُضعت بين أيديكم. إنّ كلّ حركة، في هذا النظام الإسلامي وفي هذا البلد الإسلامي والإلهي، تكون خدمة في سبيل تطوّره، لها باللحاظ المعنوي واللحاظ المادّي من الأجر والثواب بحيث لو اطّلع الإنسان يوم القيامة أنّ هناك من نالهما وقد حُرم هو منهما، فسوف يعيش تلك الحسرة. هذا هو كلامنا الآن وهو برأيي القسم الأساسي والمهم لما سأتحدّث عنه اليوم. وأنا بنفسي أكثر حاجة منكم للعمل بهذه النصيحة والوصية. وبمشيئة الله المتعال ننال جميعاً هذا التوفيق.
252
211
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
نجاح الشعب الإيراني في ثورته
ما أعددته اليوم للحديث هو أنّ لقدرة شعب إيران واستعداده للحفاظ على الثورة وحمايتها، عظمة وأهمية لعلّه يمكن القول إنها لا تقلّ عن أهمية أساس الثورة نفسها. لقد استطاع شعب إيران وطيلة هذه السنوات الـ 33، الحفاظ على هذا الإنجاز العظيم بصورةٍ رفيعة. فانظروا إلى هذه الثورات التي حدثت في المنطقة خلال هاتين السنتين الأخيرتين. عندما تنظرون إلى الأمر على نحوٍ كلّي يمكنكم أن تحكموا فيما إذا كانت هذه الثورات تسير في الاتّجاه الصحيح أم لا. الأعداء والمستكبرون، وخصوصاً الكيان الصهيوني وحكومة أمريكا والحكومات الغربية، يبذلون مساعيهم من أجل ركوب هذه الثورات وتحريفها. وأنتم تشاهدون كم يواجه هؤلاء من تحدّيات كبيرة.
وبالالتفات إلى هذه التحدّيات، يدرك المرء أيّ عملٍ عظيم قد أُنجز في بلدنا، وحفظ هذه الثورة في الاتّجاه الصحيح نحو أهدافها، فلم تتنكّب عن مسار القيم والأهداف، بل استمرّت في حركتها التقدّمية. هذا في حين أنّ التحدّيات والتهديدات كانت تتصاعد. فمنذ الأيام الأولى، كانت التهديدات التي واجهت الثورة والبلد تزداد تعقيداً ومن دون توقف، وكذا الاغتيالات والحركات القومية الانفصالية، والحرب والحظر والحصار. فكلما تقدّمنا كانت هذه التهديدات تزداد تعقيداً، وكان الأعداء والمخالفون للنظام يطلون برؤوسهم، فأحداث شهر تير1 عام 1378هـ.ش. وأحداث عام 1388هـ.ش.2، كلّها أنواع ونماذج للتهديدات التي واجهت هذه الثورة، وهذا البلد وهذا الشعب. وقد تجاوز هذا الشعب كل هذه التهديدات واستمرّ على مسيره بعزم راسخ. نحتاج اليوم إلى جعل هذه المسائل نصب أعيننا، كما نحتاج إلى ذلك دوماً، فهذا ما سيساعدنا على طيّ الطرق الشاقّة، وعبور المنعطفات الشديدة والمطبّات الصعبة.
1- شهر حزيران.
2- الأول: الحملة الإعلامية المضلّلة التي قادها أعداء إيران بعد فوز خاتمي بالرئاسة، واستغلالهم لحادثة هجوم الپسيج على منامة الطلاب في أحد أقسام جامعة طهران عام 1999م. والثاني: فتنة انتخابات الرئاسة عام 2009م، وادّعاء التزوير، والحملة الغربية التي لاقت عملاء لها في الداخل، حيث روجوا بقوّة للتزوير، وقاموا باضطرابات وأعمال شغب أدت إلى ردّة فعل قويّة ومعاكسة من قبل الشعب، حيث خرج بالملايين في كل إيران وأعلن ولاءه للنظام الإسلامي، ولحاكميّة ولاية الفقيه، وأحبط بذلك أهمّ محاولة للغرب وعملائه للإطاحة بالنظام من الداخل.
253
212
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
القيم والمبادئ والرؤى الواقعيّة
ما يشاهده المرء في هذه الحركة، التي استمرّت طيلة 33 سنة، والدرس الذي قدّمته لنا الثورة وخلّفه لنا الإمام الجليل، هو أن لا تغيب تلك القيم والآمال العظيمة التي يرشدنا إليها الإسلام ويعلّمنا إيّاها عن أعيننا، في نفس الوقت الذي ينبغي الالتفات إلى الوقائع الموجودة في المجتمع والعالم، هذا ما ساعد على استمرار هذه الحركة، وهو مزيج من التوجّه نحو القيم والمبادئ والرؤية الواقعية. وهذا الكلام قد نطقت به الألسن وكُتب حوله وقيل، ويسمع الإنسان من هنا وهناك أنّ الالتفات إلى الوقائع الاجتماعية والعالمية لا ينسجم مع الالتزام بالقيم والمبادئ. وهؤلاء قد خلطوا بين القيم والأحلام. ما نودّ التأكيد والإصرار عليه هو أنّ الواقعية لا تتنافى ولا تتعارض مع التوجّه إلى القيم والمبادئ والسعي نحوها ونحو الآمال الكبرى لشعب إيران بأيّ شكل من الأشكال. فلو استطعنا أن نوفّق بين التوجّه إلى القيم والواقعية فستكون ترجمة ذلك عملياً عبارة عن مزج التدبير بالجهاد، فنجاهد ونتحرّك جهادياً، وتكون هذه الحركة في إطار تدبيريّ، وهذا ما يتطلّب الوعي العام ووعي العاملين وانسجام القلوب والألسن في جميع الميادين.
واقعيّة القيم
يزعم بعضهم أنّ النزوع إلى القيم لا ينسجم مع الرؤية الواقعية، ونحن نرفض هذا بشدّة. فالكثير من أهداف مجتمعنا ومطالبه تُعدّ من وقائعه. فالشعب يريد العزّة الوطنية، والحياة التي تتمحور حول الإيمان والدين، والمشاركة في إدارة البلد -أي السيادة الشعبية -1، التقدّم والاستقلال السياسي والاقتصادي، فهذه مطالبُ عامّة للشعب. هذه المطالب هي وقائع المجتمع، وهي بالدقّة على نفس مسار الحركة القيمية، وهذه ليست قضايا تحليلية أو ذهنية، أو أوهامٌ وأفكار، إنّها وقائعُ موجودةٌ في المجتمع. إنّه مجتمعٌ حيٌّ ومؤمنٌ يسعى نحو هذه الأمور، يريد العزّة الوطنية، ويريد أن يكون مستقلاً ومتطوّراً وعزيزاً بين الشعوب، فهذه المطالب التي ينادي بها الشعب تقع على مسار القيم، وما يطلبه يُعدّ من الوقائع الثابتة في المجتمع، ولهذا يمكن أن تكون الوقائع، مساعدةً ومتوجّهةً إلى القيم. أجل، إنّ ذكر القيم والأهداف دون التوجّه إلى الوقائع، ودون التنبّه إلى الوسائل المعقولة والمنطقية للوصول إلى القيم،
1- راجع حاشية الصفحة 117.
254
213
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
ُعدّ نسجاً من الخيال، وسوف تبقى القيم في إطار الشعارات. ومن أجل أن لا تبقى القيم مجرد شعارات، يجب على المسؤولين والشعب متابعتها بصورة منطقية ورصينة. هنا بالذات محلّ انسجام الوقائع الاجتماعية مع القيم. حسنٌ، هذا أمرٌ أساسيّ وركنٌ جوهريّ لحركة البلد.
فهم المجتمع طريق النجاح
أودّ أن أطرح مجموعةً من وقائع المجتمع. فهناك وقائع إذا لم نلحظها في حساباتنا، فإننا سنخطئ في أحكامنا قطعاً، وسوف نخطئ في اختيار السبل. فيجب ملاحظة هذه الوقائع. وبالتأكيد، هذه الوقائع التي سأذكرها ليست مجّرد تحليل، بل هي وقائع مشهودة أمامنا.
أخطر المنزلقات توهّم الواقعيّة
لقد ذكرت هذا سابقاً، عندما نريد أن نوفق بين التوجّه إلى القيم والنظرة الواقعية ـ أي أن نلاحظ الوقائع ونجعل حركتنا على أساسها ـ علينا أن نلتفت إلى المزلّات (المنزلقات) التي يمكن أن تبرز هنا، لكي لا نسقط فيها. هناك مزلّات، وأحدها ما يمكن أن نعبّر عنه بتوهّم الواقعية، فنتصوّر أشياء على أنّها واقعية وهي ليست كذلك. إنّ الأعداء، الذين يشكّلون جبهةً بوجه بلدنا وشعبنا وثورتنا، يسعون لاختلاق الوقائع، وإظهار مجموعة من الأشياء على أنّها وقائع مسلّمة أمام أنظارنا، في حين أنّها ليست كذلك. علينا أن نحذر من الوقوع في شراك اختلاق الوقائع المخالفة للواقع. افرضوا أنّنا اعتبرنا أنّ قدرتنا هي أكثر من الواقع أو أقل فسوف نقع في الخطأ. كذلك لو حصل ذلك بالنسبة لقدرة العدوّ فسوف نقع في خطأ الحسابات. وهنا بالذات هو ميدان عمل خطط العدوّ. لاحظوا، كيف يتمّ السعي في وسائل إعلام أعدائنا المنتشرة، إلى إظهار الاقتدار المحلّي والوطني على أنّه حقير وصغير، وفي المقابل يتم إظهار اقتدار العدوّ أكثر ممّا هو عليه، فهذه من المزلّات. فلو أنّنا أعطينا للعدّو حجماً أكبر ممّا هو عليه، وخفناه أكثر، فإنّنا قطعاً سوف نُبتلى بالخطأ في الحسابات، وسوف نسلك الطريق البديل، هذه إحدى المزلّات.
ومن هذه المزلّات، عند مشاهدة الواقع، ما يرجع إلى أنفسنا داخلياً. فأحياناً تكون تعلّقاتنا وميولنا مشلّة، وتؤدّي إلى أن نرى أشياء كوقائع بينما هي ليست كذلك، وما يحصل في الواقع أنّ ميلنا إلى الراحة أو إلى المادّيات هو الذي أوقعنا في الخطأ.
255
214
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
لا قيم دون بذل
ومن هذه المزلّات، أن يتصوّر الإنسان أنّ الوصول إلى القيم ممكنٌ بدون بذلٍ وكلفة. لقد كنّا نرى كيف أنّ بعضهم كانوا يقبلون أيّام النضال الثوريّ بأهدافه، لكنّهم كانوا غير مستعدّين للبذل والعطاء والتحرّك. وفي يومنا هذا يوجد من أمثال هؤلاء ويتصوّرون أنّه ينبغي الوصول إلى الأهداف من دون أيّة نفقات، ولهذا فإنّهم يتراجعون عندما يأتي دور الإنفاق والبذل. وهذا التراجع كان يؤدّي في الكثير من الموارد إلى أن يقع الإنسان في الخطأ أثناء تحليله، فلا يسلك الطريق الذي ينبغي أن يتّبعه مقابل العدوّ.
وزلّةٌ أخرى هي أن نرى جانباً من الوقائع ونغفل عن جانب، فهذا يؤدّي إلى الخطأ في التحليل يتبعه خطأ في الحسابات. فيجب التوجّه إلى الوقائع ودراستها.
مكتسبات الثورة: الوقائع والحقائق
وهنا أعرض لمجموعة من هذه الوقائع. ولا ندّعي أنّنا سوف نبيّنها جميعاً، لكنّها يمكن أن تكون مدخلاً لفتح أعيننا على الوقائع المختلفة.
أ- الطريق مفتوح أمام القيم
ففي أيّ وضعٍ نحن الآن؟ وماذا لدينا؟ وماذا نفتقد؟ إنّ الحكم الذي يحمله هذا العبد في نفسه تجاه هذه الوقائع، مليء بالتفاؤل. وعندما نضع الوقائع جانباً أيضاً، فإنّنا سوف نلاحظ هذه الأمور، ونشعر أنّ الطريق الذي يسلكه شعب إيران نحو القيم الرفيعة هو طريقٌ مفتوحٌ. هناك تحدّيات أمام هذا الطريق، لكنّه مفتوح ولا يوجد سدّ أمامه. إنّ هدف الجبهة المخالفة (الأعداء) لهذا النظام الإسلامي والثورة الإسلامية، هو أن يظهروا أنّ هذا الطريق مسدود. وهم أنفسهم يقولون إنّ عليهم القيام بكل هذه الأمور وممارسة كل هذه الضغوط، والقيام بالحصار والحظر من أجل أن يعيد مسؤولو الجمهورية الإسلامية النظر في تحليلاتهم وحساباتهم. إنّني أقول، إنّ متابعة الوقائع لا توجب علينا إعادة النظر في حساباتنا فحسب، بل تجعلنا على ثقةٍ أكبر بالطريق الذي سلكناه بحقٍّ.
ب- التهديد في ظلّ الإعلام
إحدى الوقائع الحالية في البلد ـ والتي تبرز بوجه النظام الإسلامي اليوم أكثر من السنوات الماضية ـ هي وجود الضغوط والتهديدات. فالبلد يواجه استعراضاً للقوّة من قبل بعض القوى والدول المستكبرة.
وكما ذكرنا مراراً، إنّ من يواجهنا ليس
256
215
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
المجتمع الدولي، ولا الحكومات والشعوب بل عدّة حكومات. غاية الأمر أنّ لديها أجهزة إعلامية قوية. ما ينبغي أن نقرّ به أنّ الأمريكيين والغربيين، وللإنصاف، أقوياء في هذه القضية، أي القوّة الإعلامية، والتي تأتي بمعنى الدعاية، البروباغندا، بحسب تعبيرهم. ذاك الشيء الذي نقرّ بأنّهم أقوياء فيه، هو القدرة الإعلامية وقدرتهم على إظهار المسائل كما يريدون. فهم اليوم يبثّون في إعلامهم القويّ ووسائلهم المقتدرة وبشكلٍ حثيث ـ ورغم أنّهم عدّة دول ـ أنّهم عبارة عن المجتمع الدولي، كلّ ذلك كذباً وزوراً.
ج- التهديد استعراض قوّة لا غير
إنّنا نواجه استعراضاً للقوّة من قبل عدّة حكومات وقوى إستكبارية. ولديهم من خلفهم مجموعة من الغوغاء وهم يخالفوننا، لكنّهم ليسوا بشيء، ولا قدرة لديهم. فلو رُفع دعم أمريكا عنهم لأصبحوا صفراً. ففي المعادلات العالمية والدولية لا يُحسب لهم حساب، لكنّهم الآن يتحرّكون كهمجٍ رعاع خلف أمريكا والكيان الصهيوني والشبكة الصهيونية العالمية. فهذه إحدى الوقائع الماثلة أمامنا والتي كانت موجودة منذ بداية الثورة ولم تقلّ بل زادت. وبالطبع، اشترك الجميع في تضخيم هذه الواقعية، وهذا من تلك المزلّات. يسعون لإظهار هذا الواقع مهما أمكنهم أكبر وأشد وأصعب وأمرّ. نحن نذعن بأنّنا نواجه الضغوط والحظر وكل أنواع القوة من اقتصادية وسياسية وأمنية وأمثالها وبالخصوص الوسائل الإعلامية التي تقف خلف هذه التحرّكات.
د- الملف النووي وحقوق الإنسان كذبة
الواقعية الأخرى التي ينبغي ملاحظتها، إلى جانب هذا الواقع، هي أنّه يتمّ إظهار هذا الاستعراض للقوّة على أنّه بسبب الملف النووي أو قضية حقوق الإنسان، وهذا كذب. فكذب هذا الادّعاء يُعدّ من تلك الوقائع. ولا يقتصر هذا المقال علينا، فلا يوجد اليوم في العالم من يعتقد أنّ أمريكا داعية حقوق الإنسان أو تسعى لتأمين حقوق الشعوب، أو أنّ الكيان الصهيوني ـ قاتل الأطفال والأجيال ـ يسعى لإحلال الديمقراطية في دول العالم.
إنّ ملف أمريكا والكيان الصهيوني، وملف هذه القوى التي تقف بوجه الجمهورية الإسلامية، بلحاظ قضية حقوق الإنسان والدفاع عن حقوق الشعوب، هو ملفٌّ شديد السواد. ستون سنة من الإبادة لشعب فلسطين، أليست نقضاً لحقوق الإنسان؟! إعطاء السلاح النووي للحكومة الصهيونية الغاصبة، أليس نقضاً للسلام العالمي؟! هل يمكن لهؤلاء الذين ارتكبوا كلّ تلك الأفعال أن يدّعوا الدفاع عن السلام العالمي؟!
257
216
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
إنّ تزويد شخص كصدّام بالسلاح الكيميائي، ألا يُعدّ نقضاً لحقوق الإنسان؟! الأفعال التي ارتُكبت، من قبيل ما حدث في أبو غريب وغوانتنامو1 وأفغانستان والعراق وبعض المناطق الأخرى من العالم، بواسطة الأمريكيين والغربيين وإنكلترا، هل أبقت مجالاً لادّعاء الدفاع عن حقوق الإنسان؟! لهذا فإنّ قولهم إنّ المواجهة مع الجمهورية الإسلامية هي لأجل حقوق الإنسان، كذب. وقولهم إنّ المواجهة مع الجمهورية الإسلامية هي لأجل السلاح النووي، كذب أيضاً. لقد كنّا نبيّن هذا الأمر في البداية بالحدس، ثمّ اتّضح بعدها لدينا، في المفاوضات والمحادثات الدولية، أنّهم يعلمون أنّ الجمهورية الإسلامية لا تسعى لامتلاك السلاح النووي، فقد أذعنوا لهذا، والواقع هو كذلك، ومع ذلك فإنهم يطرحون قضية الملف النووي. فالادّعاء بأنّ هذه الضغوط والحظر والحصار والعداوات هي من أجل الملف النووي والقدرة النووية هو كذب، وهذا الكذب هو واقع2.
هـ - المخالفة هي لأساس النظام
الواقع هو أنّ مخالفتهم هي لأساس الثورة وأساس تشكيل النظام الإسلامي. لقد كانوا يحكمون هذا المنطقة براحة بال، كانت دولةٌ كإيران، مع كل ما فيها من ثروات هائلة وإمكانات عظيمة في قبضتهم، كانوا يفعلون ما يحلو لهم، ويقرّرون ما يريدون، وكانوا يستغلّون إمكانات هذا البلد بأيّة وسيلة ممكنة، لأجل التقدّم نحو أهدافهم ومقاصدهم. وها هم الآن محرومون من ذلك. ولم ينحصر الأمر في هذا. فهذه الحركة (النهضة) أدّت إلى انبعاث هذه الدعوة وهذا الاندفاع في العالم الإسلامي، حيث نرى علائمه اليوم في شمال أفريقيا وفي الشرق الأوسط وفي جميع الدول ولدى الشعوب، لهذا هم قلقون، فالنقطة المركزية هي الجمهورية الإسلامية. هم يريدون توجيه ضربة إلى الجمهورية الإسلامية ليجعلوها عبرة لغيرها. هذا هو الدافع الواقعي. وهذه واقعية أيضاً.
و- التحدّيات ليست جديدة
يوجد واقعٌ آخر وهو أنّ هذه التحدّيات التي تبرز مقابل الجمهورية الإسلامية ليست جديدة. هذا ليس مجرّد تحليل بل هو واقع. فالجميع يرون ويشاهدون هذا الأمر.
1- أبو غريب: سجن أقامه الأمريكيون في العراق.
غوانتنامو: سجن أعدّه الأمريكيون للسجناء الذين تمّ القبض عليهم في أفغانستان، أو للإسلاميين بشكلٍ عام.
2- حقيقة موجودة في تعامل الغرب.
258
217
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
في يومٍ من الأيام قصفوا سفننا النفطية وغير النفطية في الخليج الفارسي. وقصفوا المنصّات النفطية في"خارك"1. وكانت كلّ مراكزنا الصناعية تحت قصف العدوّ. إنها أمورٌ شاهدناها بأمّ العين. لقد مررنا بتلك الأيّام، وهي ليست جديدة علينا.
وها هم اليوم لا يجرؤون على الاقتراب من الجمهورية الإسلامية ـ وهو ما سأبيّنه ـ هذا جانبٌ آخر من الوقائع. مرّ زمنٌ كانت لديهم هذه الجرأة، حيث يأتون ويقصفون ويهاجمون. لم تكن حرب صدّام ضدّنا، حرب دولة واحدة، بل كانت حرباً عالمية ضدنا. لهذا، إنّ هذه التحدّيات الموجودة ـ التهديد، والأقاويل، والتعداد، والتضخيم ـ ليست جديدة على الجمهورية الإسلامية. فهذه واقعية أيضاً.
ز- صمود النظام ثابتٌ ومستحكم
واقعية أخرى، هي أنّ نظام الجمهورية الإسلامية، قد تخطّى جميع هذه الصعاب والمطبّات الشديدة. ألم نتخطها؟ هل توقّفنا؟ هل استطاعوا أن يوجّهوا ضربةً إلى الجمهورية الإسلامية؟ هل استطاعوا أن يطعنوا بقيم وأصول الجمهورية الإسلامية؟ لم يقدروا. فهذه واقعية أيضاً. يجب أن نبقي هذه الوقائع نصب أعيننا دوماً.
ح- التقدّم والتطوّر رغم التهديد والحظر
إحدى الوقائع الأخرى، هو أنّنا قد تطوّرنا وتقدّمنا في ظلّ ظروف التهديد هذه. على مرّ هذه السنوات، تقدّمنا في جميع المجالات، تطوّرنا في مجال العلوم المعقّدة، وتطوّرنا في مجال التكنولوجيات التي يحتاج إليها البلد، وفي مجال الدواء والمواصلات والشحن والإسكان والمياه، حقّق بلدنا تطوّراً بارزاً. وقد سمعتم اليوم قسماً من الإحصاءات على لسان رئيس الجمهورية. فبالرغم من كل هذه الضغوط كان بلدنا في تقدّم دائم على مرّ السنين، واحتلّ بلدنا مراتب متقدّمة على صعيد بعض العلوم المهمّة، والمحصورة والاستثنائية ـ في الليزر والنانو وفي الخلايا الجذعية، وفي الصناعة النووية. حسنٌ، إنّ هذه تُعدّ نماذج يُحتذى بها في العالم الإسلامي، وهذه واقعية. لم نتوقّف وكنّا في تقدّمٍ دائم. فنظام الجمهورية الإسلامية ورغم كل هذه التهديدات الموجودة ـ من قبيل الحظر وغيره وأنواع التهديدات والأعمال الأمنية والسياسية المتشعّبة والدقيقة وغيرها ـ قد حقّق كل هذا التطوّر. هذه واقعية وليس تحليلاً، وهذه كلها أمورٌ نراها ونلمسها. وأنتم أيها المسؤولون المحترمون تعرفون هذه الأمور أفضل من آحاد الناس.
1- خارج أو خارك: جزيرة في الخليج الفارسي غنيّة بالنفط، وتعدّ أيضاً من النقاط الاستراتيجيّة في الخليج، وكانت عرضة للقصف الدائم إبّان الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية.
259
218
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
ط- قوة البلاد ازدادت أضعافاً مضاعفة
واقعٌ آخر، هو أنّ هذا البلد قد أصبح في مواجهة هذه التحدّيات والتهديدات أقوى بدرجات مقارنةً بالسنوات الأولى للثورة. نحن اليوم وفي مواجهة التهديدات أقوى من الأيام الأولى، فثقتنا بأنفسنا ازدادت، مثلما أنّ توكّلنا على الله - بحمد الله - ليس قليلاً، وكذلك قدراتنا العينية الموجودة والملموسة أضحت أكثر من السابق. القوى تبذل كلّ ما في وسعها، وهم يعترفون بأنّهم لا يستطيعون التقدّم، لم يتمكّنوا من التقدّم بعملهم.
ي- ضعف جبهة الأعداء المتزايد
واقعٌ آخر، هو أنّ الجبهة التي تواجهنا أضحت أضعف على مرّ هذه السنين. فلو أخذنا أمريكا والكيان الصهيوني كمظهرين أساسيين في هذه الجبهة والغرب يتبعهم، فمن الواضح أنّهم أصبحوا أضعف من ذي قبل.
إنّ الكيان الصهيوني اليوم صار أضعف بدرجات ممّا كان عليه قبل عشرين أو ثلاثين سنة. بعد أحداث شمال أفريقيا وقضية مصر، ضعُف الكيان الصهيوني كثيراً، فها هو يعاني من مشاكل داخلية ويواجه من الخارج مشاكل لا حصر لها.
إنّ أمريكا اليوم ليست كأمريكا في عهد ريغن، لقد تراجعوا إلى الوراء بدرجات. هكذا صار وضعهم في العراق، وهكذا كان وضعهم في أفغانستان يزداد وخامةً يوماً بعد يوم، وقد هُزموا في سياساتهم الشرق أوسطية، وفي حرب الـ 33 يوماً هُزم عميلهم الكيان الصهيوني. وفي حرب الـ 22 يوماً لم يتمكّن عميلهم الكيان الصهيوني من تحقيق شيء في مواجهة مليون إنسان أعزل. هذه وقائع مهمة جداً. لهذا، أصبحوا ضعفاء، فهم أضعف بدرجات، قياساً بالعقود السابقة، وهذه واقعية أخرى.
ك- أزمة الدول التابعة للاستكبار
إحدى الوقائع الأخرى، هي أنّ الأنظمة المخالفة لنظام الجمهورية الإسلامية واقعة في أزمة. فهذه الدول الغربية وتوابعها واقعة في أزمة. وبسبب هذه الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأوروبا، فإنّ الاتحاد الأوروبي مهدّد جداً وكذلك اليورو. وأمريكا بنحو آخر، فالعجز في الميزانية هائلٌ جداً، وكذلك القروض والضغوط على الناس، وحركة وول ستريت، التي هي بحسب قولهم حركة الـ 99%، فهذه أحداثٌ مهمة. وبالطبع، إنّ وضع أوروبا أسوأ من أمريكا، حيث إنّ عدّة حكومات فيها قد انهارت. وتوجد فيها عدّة من الدول الأخرى، غير المستقرّة.
260
219
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
إنّ مشاكلهم تختلف عن مشاكلنا. إنّ المشاكل والأزمات الاقتصادية الأوروبية تختلف عن المشكلات الاقتصادية التي نعاني منها أحيانا. إنّ مشاكلنا تشبه مشاكل مجموعة من متسلّقي الجبال الذين يتحرّكون على طريقٍ وعر، فلا شك أنهم سيواجهون مشاكل، أحياناً يحتاجون إلى الماء وأحياناً إلى الغذاء، وأحياناً يواجهون مانعاً لكنّهم يستمرّون بالصعود. هكذا هي مشاكلنا. أما مشاكل الأوروبيين فإنّها تشبه حافلة علقت تحت انهيار ثلجي. وقد كانوا لسنوات يهيّئون مقدّمات هذه المشكلة دون أن يعلموا. فهذه الفجوات الطبقية، وغلبة الأعمال الربوية في القضايا المادية، وتقوية أصحاب النفوذ المادي، والخضوع أمام الصهاينة، عبّاد المال، جعلهم يعانون من كل هذه المشكلات، هذا هو الانهيار الثلجي الذي نزل على رؤوسهم. مشاكلهم هي من هذا القبيل.
الواقعية الأخرى هي هذه التحوّلات التي تحدث في شمال أفريقيا، وضمن مجموع دول هذه المنطقة، وقد أفضت هذه التحوّلات في بعض الأماكن إلى تغيير الأنظمة، وفي بعضها لم يحدث لكنها في ترقّبٌ وانتظار، وسوف أتجاوز هذه الأمور.
ل- التنامي المطّرد لاقتصاد الجمهوريّة الإسلاميّة
والواقعية الأخرى، الاقتدار المتنامي داخل الجمهورية الإسلامية. نحن دولةٌ مقتدرة. ولدينا ثروات، وبلحاظ الثروات الطبيعية فنحن في المنزلة الأولى على مستوى الترتيب العالمي. وفي بعض المصادر نحن الأوائل. ففي مجموع النفط والغاز نحن الدولة الأولى في العالم. من بين جميع الدول النفطية أو التي تمتلك الغاز فإنّ نفطنا وغازنا - معاً - أكثر. ومن حيث الثروات الباطنية والمعادن الأساسية فإنّ بلدنا يحوز على غنىً وافر. ومن حيث الطاقات البشرية لدينا 75 مليون نسمة، ما يشكّل عاملاً فائق الأهمية.
أقول هذا وفي هذا المكان، إنّ المجتمع الشاب والحيوي والمتعلم في بلدنا يُعدّ اليوم من العوامل المهمّة لتطوّر البلد. في هذه الإحصاءات التي قُدّمت تلاحظون دور الشباب المتعلّم والواعي والحيوي والمفعم بالطاقة. يجب علينا أن نعيد النظر بشأن سياسة تحديد النسل. لقد كانت هذه السياسة في زمنٍ ما صحيحة، وقد حُدّدت لها أهداف معيّنة. وبحسب التحقيقات والدراسات والتقارير التي قدّمها المتخصّصون والعلماء والخبراء في هذا المجال، فإنّنا قد وصلنا عام 71 إلى تلك الأهداف التي وُضعت لتحديد النسل. وكان علينا منذ ذلك الوقت أن نغيّر هذه السياسة، أخطأنا ولم نغيّر، واليوم يجب علينا أن نصحح هذا الخطأ. يجب على بلدنا أن لا يضيّع هذه الغلبة للفئة الشبابية ومظهرها الجميل في هذا البلد. وهذا ما سيحدث لو بقينا على هذا المنوال، كما بيّن الخبراء في دراساتهم العلمية والدقيقة. ليست هذه خطباً للمنابر.
فهذه أعمالٌ علميّة ودقيقة صادرة عن خبرة. فلو بقينا على هذا الوضع، فإنّ جيل الشباب عندنا
261
220
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
في السنوات المقبلة سيقل ـ وسوف تغلب الفئة الهرمة ـ مع أنّنا اليوم شعبٌ فتيّ، وبعد مرور عدّة سنوات سينقص عدد سكّاننا لأنّ الهرم يعني نقصان المواليد (لقد حُدّد وقتٌ وقُدّم لي، في ذلك الوقت سينقص عدد سكّاننا عمّا هو عليه حالياً). هذه أمورٌ خطرة ويجب على مسؤولي البلد أن ينظروا فيها بجدّية ويتابعوها. قطعاً، يجب إعادة النظر في سياسة تحديد النسل، ويجب القيام بالعمل الصائب. إنّ قضية زيادة النسل وأمثالها من الأبحاث المهمة التي يجب على جميع مسؤولي الدولة ـ لا الإداريين فحسب ـ والعلماء وأهل المنبر أن يصنعوا ثقافةً بشأنها في المجتمع. يجب الخروج من هذه الحالة الموجودة الآن على صعيد البلد، حيث يكون ولدٌ واحد أو ولدان لكل أسرة. لقد قال إمامنا هذا ـ وهو حق ـ أنّ شعبنا يجب أن يصل إلى 150 أو 200 مليون نسمة.
م- لا فائدة من التراجع أمام العدو
كلّما أظهرنا تراخياً أمام جبهة العدوّ وتراجعنا تحت مبرّرات معيّنة ـ على سبيل المثال، ذات مرّة قلنا فلنسحب الذرائع من يد العدوّ، ومرّة قلنا فلنعمل على إزالة سوء الظن من عقول أعدائنا ـ فإنّ العدوّ اتّخذ مواقف أكثر تشدّداً تجاهنا. في ذلك اليوم الذي تلوّثت أدبيات مسؤولينا بالكلمات والعبارات المتملّقة للغرب والثقافة الغربية، في ذاك الوقت بالتحديد نعتونا بمحور الشر! من الذي فعل ذلك؟ ذاك الذي كان تجسيداً للشرّ ذاته. رئيس أمريكا السابق ـ تجسيد الشر ـ نعت إيران الإسلامية بأنّها محور الشرّ! ومتى كان هذا؟ في ذاك الوقت الذي كنّا نكرّر في أدبياتنا وفي تصريحاتنا تلك الكلمات المتملّقة للغرب ولأمريكا وغيرهما. هكذا هم. في قضيّة الملف النووي هذا، عندما كنّا نتعاون معهم وتراجعنا ـ بالطبع كان هذا بالنسبة لنا تجربةً لكنّه واقعٌ ـ فقد تقدّموا، تقدّموا إلى درجة أنّني قلت في هذه الحسينية1 إنّه لو تقرر أن يستمرّوا على هذا المنوال، فإنّني سوف أتدخل في هذه القضية بنفسي. وقد فعلت ذلك مضطرّاً، هذه الأمور ليست من أعمالنا.
كل هذا التراجع جعلهم أكثر تصلّباً ومطالبةً. ذات يوم كان مسؤولونا مقتنعين بأخذ إجازتهم للحصول على 25 جهاز طارد مركزي2، فقالوا لنا: لن يكون ذلك! فقبل المسؤولون بخمسة طوارد مركزية، فقالوا: لا، لن يصح، ثم رضي مسؤولونا بثلاثة
1- حسينية الإمام الخميني قدس سره في طهران.
2- أجهزة متطوّرة وبالغة التعقيد تحتاجها المفاعلات النوويّة في الإنتاج النووي سواء أكان مدنياً أم عسكرياً.
262
221
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
طوارد، فقالوا أيضاً: لن يصح. والآن أنتم سمعتم التقرير، لدينا 11 ألف طارد مركزي. لو أنّنا استمررنا في التراجع والتراخي لما كان لنا اليوم أيّ خبرٍ عن التطوّر النووي، ولتعرّض هذا النشاط العلميّ الذي وُجد خلال السنوات الأخيرة في بلدنا ـ هذه الحركة العلمية، هؤلاء الشباب، هذه الاختراعات والابتكارات، وأنواع التطوّر المتعدّد في المجالات المختلفة ـ لضربةٍ قاصمة، لأنّه كان من الممكن أن يوجدوا ذرائع لكلّ واحدة من هذه الأمور، وثانياً، إنّ النشاط النووي، والصناعة النووية، هي نموذج تطوّر أيّ بلد، وهذه واقعية أخرى.
ن - تهديدات العدو عابرة لا رجعة لها
الواقعية الأخرى، هي أنّ هذا البلد إذا قاوم بصورةٍ حكيمة مقابل ضغوط العدوّ ـ ومنها هذا الحظر وكل هذه الأشياء ـ فإنه لن يعطل هذا السلاح وحسب، بل لن يكون هناك مجال لتكرار مثل هذه الأشياء في المستقبل، لأن هذا بمثابة معبر، وهو لبرهة من الزمن، وسوف يتجاوز بلدنا هذه البرهة. لا ينتفع من هذه الأشياء - التي يهدّدون بها والحظر الذي يفرضونه - سوى أمريكا والكيان الصهيوني. أما الآخرون فقد أدخلوهم في هذا الميدان بالقوّة والضغط والمجاملة وأمثال ذلك. حسنٌ، من الواضح أنّ كل هذه الأمور لا يمكن أن تستمرّ طويلاً ـ بل هي لبرهة من الزمن ـ والشاهد على ذلك هو أنّهم اضطرّوا إلى استثناء عشرين دولة من أنواع الحظر النفطي وأمثاله! وآخرون لم يتم استثناؤهم، بل هؤلاء لا يميلون إلى ذلك، وهم يسعون إلى إيجاد طريق للحل أكثر ممّا نحن نريد أو بمستواه. لهذا يجب المقاومة. حسنٌ، هذه وقائع ملموسة. لم يكن أيّ شيء ممّا ذكرته تحليلاً أو أمراً ذهنيّاً بل أمور نشهدها جميعاً.
س- ضرورة السعي والجد والنشاط
بالطبع، وإلى جانب هذه الوقائع، يوجد واقعية وهي أنّنا إلى الآن لم نوجد تلك الحالة الإسلامية اللازمة والمتناسبة في ميدان العمل على صعيدنا الخاص، فنحن مبتلون إلى حدٍّ ما بالكسل، فهذا كلّه إرث عهود الاستبداد والتسلّط الدكتاتوري على هذا البلد. فعندما تسود الدكتاتورية في أي بلد، يُبتلى الناس بالكسل. ولا تتفعّل الطاقات والاستعدادات في ميادين التجربة والعمل. هذا إرث عهد الاستبداد الموجود فينا.
يجب تنحية الكسل جانباً. فتلك المخاطرة الضرورية ليست موجودة في جميع قطاعات المجتمع. يجب بالتوكّل على الله تعالى وبالتدبير والدراية اللازمة أن نوجد روح المخاطرة، يجب علينا جميعاً أن نمتلك هذا.
263
222
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
الجمهوريّة الإسلاميّة ومواجهة مخطّطات الأعداء
حسناً، إنّ ما ذكرناه حول وضعية (ظروف) بدرٍ وخيبر هو هذا1. إنّ وضعية بدرٍ وخيبر تعني التهديد والتحدّي لكن لا يوجد طريقٌ مسدود. لقد كانت الإمكانات في بدر قليلة، لكنّ النصر حصل. لقد كانت إمكانات الخصم أكثر بدرجات، لعلّها في بعض القطاعات غير قابلة للمقارنة مع إمكانات جبهة الإسلام. وكان الأمر في خيبر كذلك، فقد ذهبوا إلى هناك لمدّة وبقوا، وكانت مقاومة العدوّ شديدة، لكنّهم انتصروا. التحدّي موجود، ولكن قبال هذا التحدّي يوجد اقتدار واستعداد أيضاً. هذا هو معنى وضعية بدرٍ وخيبر. لو أنّنا جئنا بهذا الاستعداد إلى الميدان وقمنا بالتقليل من نقاط الضعف فسوف نتقدّم.
ما أريد أن أذكره في تتمّة النقاط ـ وهذا ما يتطلّب وقتاً، إلا أنّ الوقت قد انتهى ولا مجال لذلك ـ هو أنّ على الإخوة والأخوات الأعزّاء والمسؤولين المحترمين أن ينظروا إلى قضايا البلد من هذه الزاوية، أن يجعلوا القيم والأهداف نصب أعينهم، وأن تكون الوقائع المحفّزة أمام أنظارنا. وبشأن الوقائع السلبية ـ والتي هي في الواقع في بعض الموارد مختلَقة ومصطَنعة ـ لا ينبغي أن نقع في الخطأ. بالطبع، لا ينبغي أن نقلّل من قدرة العدوّ فنستسهل ونستبسط الأمور. القضية هي قضية أساسية ومهمة. أنتم تشبهون رياضياً يريد أن يحل معضلة رياضية مهمّة، فابذلوا جهدكم حولها وحلّوها. فأنتم رياضيون ذوو استعداد، وهذه قضية رياضية. وهكذا ينبغي أن تتعاملوا مع المسائل المختلفة. لحسن الحظ، إنّ المرء يشاهد هذه الروحية موجودة في الأجهزة المختلفة، ويجب النظر من هذه الزاوية إلى قضية الاقتصاد.
تثبيت الاقتصاد المقاوم
لقد طرحنا منذ عدّة سنوات، الاقتصاد المقاوم2. كلّ الذين كانوا مشرفين على المسائل المختلفة كان بإمكانهم أن يحدسوا أنّ هدف العدوّ هو ممارسة الضغط الاقتصادي على البلد. وكان معلوماً، وقد كانت المشاريع تدلّ على أنّهم يريدون تركيز الجهود على
1- كان سماحة القائد قد ذكر في خطاب سابق عندما طبّقوا العقوبات الاقتصاديّة على إيران، إنّ الجمهورية الاسلامية ليست في موقع ضعف، بل يشبه حالها اليوم حال خيبر وبدر آنذاك.
2- الاقتصاد المقاوم: سياسة اقتصادية اتّبعتها الجمهوريّة الإسلاميّة خلال هذا العام في مواجهة أنواع الحظر والضغوط الاقتصادية، تعتمد بالدرجة الأولى على دعم مختلف الوحدات الانتاجية، وتفضيل السلع والمنتجات المحلية على السلع الأجنبية في كلّ القطاعات، والحدّ من اعتماد الموازنة العامّة على الايرادات النفطية.
264
223
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
اقتصادنا. هذا الاقتصاد الذي يمثّل بالنسبة لهم قضيةً مهمّة. كان هدف العدوّ أن يركّز على الاقتصاد لكي يصيب النموّ الوطني بضربةٍ، ويوجّه لطمة لحالة العمل والعمالة من أجل أن يُصاب الرفاه الوطني بالاختلال والخطر، ويقع الناس في المشاكل، ويضطربون وينفصلون عن النظام الإسلامي. كان هدف الضغط الاقتصادي للعدوّ هو هذا، وكان ملموساً، وبإمكان المرء أن يشاهد هذا الأمر. لقد قلت عام 1986م وفي الصحن المطهّر لعليّ بن موسى الرضا عليه السلام، في خطابي لمطلع العام، إنّهم يلاحقون القضية الاقتصادية، وكان المرء بعدها قادراً على أن يستنتج أنّ هذه الشعارات المتعلّقة بكلّ عام، هي حلقات ضمن سلسلة تهدف إلى إيجاد منظومةٍ كاملة في المجال الاقتصاديّ، أي ترشيد الاستهلاك، وقضية اجتناب الإسراف، وقضية الهمّة المضاعفة والعمل المضاعف، وقضية الجهاد الاقتصادي، وهذه السنة الإنتاج الوطني، ودعم العمل والرأسمال الإيراني. نحن لم نطرح هذه الأمور كشعارات عابرة، بل كانت أموراً بإمكانها أن توجّه وتنظّم الحركة العامّة للبلاد في المجال الاقتصادي، وكان بالإمكان أن تتقدّم بنا، وعلينا أن نكمل هذا الطريق.
الاقتصاد الشعبي لا الاعتماد على النفط
إنّ القضية الاقتصادية مهمّة، وكذلك الاقتصاد المقاوم. بالطبع، إنّ للاقتصاد المقاوم مقتضيات، الاقتصاد الشعبي (جعله شعبياً) يُعدّ من متطلّبات الاقتصاد المقاوم. وهذه السياسات التي تم الإعلان عنها في البند44 1يمكنها أن تحدث تحوّلاً، ويجب القيام بهذا العمل. بالطبع، لقد تمّ إنجاز مجموعة من الأعمال ويجب بذل المزيد من المساعي. يجب تقوية القطاع الخاص، ويجب العمل على تحفيز النشاط الاقتصادي، ويمكن للنظام المصرفي في البلد، والأجهزة الحكومية المختلفة وكذلك تلك الأجهزة ـ كالسلطة التشريعية والسلطة القضائية ـ أن تعين على ذلك، وتحفّز الناس على النزول إلى هذا الميدان. إنّ خفض الاعتماد على النفط يُعدّ من متطلّبات الاقتصاد المقاوم. فهذا الاعتماد هو الإرث المشؤوم للقرن الأخير الذي مرّ علينا. لو أنّنا استطعنا أن نستفيد من هذه الفرصة المتاحة اليوم، وسعينا لنستبدل النفط بالأنشطة الاقتصادية المنتجة الأخرى، لكنا قد أنجزنا أعظم حركة مهمّة في المجال الاقتصادي. في يومنا هذا، إنّ الصناعات المعتمدة على العلم من الأمور التي يمكن أن تملأ هذا الفراغ إلى حدٍّ كبير. هناك الاستعدادات والطاقات المتنوّعة في هذا البلد التي يمكن أن تملأ هذا الفراغ. فلنبذل همّتنا في هذا المجال، ونتّجه نحو التقليل من هذه التبعية مهما أمكن.
1- فقرة في دستور الجمهوريّة الإسلاميّة تحدّد السياسات الاقتصاديّة.
265
224
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
ترشيد الاستهلاك وإدارته
إنّ قضية إدارة الاستهلاك تُعدّ من أركان الاقتصاد المقاوم، أي الاستهلاك المتوازن والبعيد عن الإسراف والتبذير. فالأجهزة الحكومية وغير الحكومية، وكل أفراد هذا الشعب، والعائلات يجب أن يلتفتوا إلى هذه القضية، وهذا بحدّ ذاته جهاد.
إنّ اجتناب الإسراف في هذا اليوم، ورعاية التوازن في الإنفاق هما بلا شك نشاطان جهاديان بوجه الأعداء، يمكن للمرء أن يدّعي أنّ لهذا الأمر أجر الجهاد في سبيل الله.
بعدٌ آخر لهذه المسألة، المتعلّقة بالتوازن في الاستهلاك والإنفاق وقضية إدارة الاستهلاك، هو أن نستفيد من الإنتاج المحلّي، فلتعتني جميع أجهزة الدولة بهذا الأمر ـ الأجهزة الحاكمة المرتبطة بالسلطات الثلاث ـ عليها أن تسعى لكي لا تستهلك أي مُنتج غير إيراني، فليعقدوا العزم على ذلك. وليفضّل أبناء شعبنا استهلاك المنتجات المحلّية على البضائع أو الماركات الأجنبية المعروفة ـ حيث إنّ بعضهم يسعون وراء الماركات الأجنبية فقط لأجل اسمها ولأجل التفاخر والتظاهر في المجالات المختلفة - فليقم شعبنا بسدّ طريق استهلاك البضائع الأجنبية بأنفسهم.
برأينا إنّ مشاريع الاقتصاد المقاوم تقدّم جواباً. وقضية الحصص المتعلّقة بالمحروقات التي أشير إليها1 هي جواب. لو لم يتم اعتماد نظام الحصص في البنزين لكان استهلاكنا لهذه المادّة قد تجاوز أكثر من مئة مليون ليتر في اليوم. لقد تمكّنوا من السيطرة على هذا الأمر وهو اليوم بمستوىً مهم جداً. حتى أنّه يجب العمل بطريقة لا نحتاج معها إلى الخارج. وهو بحمد الله ليس كذلك. لقد وضعوا الحظر على البنزين ضمن برنامجهم، وقد أحبط الاقتصاد المقاوم ذلك. وكذلك فيما يتعلّق بسائر الأمور التي يحتاجها البلد.
توجيه الدعم وتنمية الإنتاج
إنّ توجيه الدعم الحكومي على طريق تشكّل الاقتصاد الوطني يساعد على إضفاء رونقٍ خاص ـ في الإنتاج وفي العمل ـ ويؤدّي أيضاً إلى الرفاهية، فهذه أسس تنمية الإنتاج الوطني والنموّ الاقتصادي للبلد وأساس اقتدار أيّ بلدٍ. فمع تنمية الإنتاج يمكن للبلد أن يحقّق الاقتدار الحقيقيّ والسمعة الحسنة بين الدّول. فيجب القيام بمثل هذا العمل.
1- توضيح: يمكن أن تكون قدّمت في التقرير الذي عرض على سماحة القائد قبل كلامه.
266
225
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
والاستفادة القصوى من الوقت والثروات والإمكانات. يجب الاستفادة القصوى من الوقت. إنّ المشاريع التي كانت تستغرق في السابق سنواتٍ طويلة هي اليوم لحسن الحظ ممّا يُنجز بمدّةٍ أقل، حيث يرى الإنسان أنّ هذا المصنع بدأ عمله في خلال سنتين أو 18 شهراً. يجب تقوية هذا الأمر في هذا البلد.
الخطط البعيدة المدى
إنّ التحرّك وفق برنامج هو من الأعمال الأساسية، فالقرارات التي تكون بنت اللحظة وتتبدّل هي من الضربات التي توجّه صفعة للاقتصاد المقاوم وللمقاومة الشعبية. على الحكومة المحترمة والمجلس المحترم الالتفات إلى هذا الأمر، فلا يسمحوا للسياسات الاقتصادية للبلد أن تُبتلى في أيّ وقتٍ من الأوقات بالتذبذب والتغيرات التي لا طائل منها.
الوحدة والتعاضد بين أبناء الشعب وقضية أخرى هي قضية الوحدة والتعاضد. إنّ الشعب في بلدنا ولحسن الحظ متّحد، وهذا ناتجٌ مهم جداً يجب صيانته، وأن لا نسمح بزواله. هذه الخلافات التي تبرز أحياناً بين المسؤولين والتي تنجرّ إلى ساحة الوسائل الإعلامية دون طائل ولا موردٍ أو فائدة ـ توجّه إلى الوحدة الوطنية ضربةً ـ فيصبح بعضهم أتباع هذا، وبعضهم الآخر أتباع ذاك، فيختلفون ويتّهم بعضهم بعضاً، بعضهم يتّهم السلطة التنفيذية، وبعضهم يتّهم السلطة التشريعية، وآخر يوجّه الاتّهام إلى السلطة القضائية، ويوضع التقصير على عاتق الآخرين. فهذه من الأعمال المضرّة جداً، وليعلم أصدقاؤنا المحترمون والمسؤولون الأعزّاء للبلد أنّ هذا لا يحقق أيّ نوع من العزّة والوجاهة بين الناس، حينما نلقي باللائمة على هذا أو ذاك في المشكلات. كلا، توجد مشكلات ويجب حلّها ويمكننا حلّها، نحن لسنا عاجزين عن حلّ مشاكلنا، وكما ذكرت هذه وقائع البلد التي تظهر أمامنا.
نسأل الله بمشيئته تعالى، وببركة هذا الشهر، وببركة هذه الساعات أن ينزل علينا وعلى شعبنا العزيز، وعلى المسؤولين أيضاً بركاته.
اللهمّ، بمحمّد وآل محمّد، امنح شعب إيران، وأفراد هذا الشعب ومسؤولي الدولة، بركات هذا الشهر بشكل كامل.
267
226
في لقاء أركان الدولة والعاملين في النظام
اللهمّ، بمحمّد وآل محمد، انصر شعب إيران ونظام الجمهورية الإسلامية على أعدائه في جميع الميادين.
اللهمّ، بمحمّد وآل محمّد، أنزل الكبت والهزيمة بكلّ من يريد السوء للجمهورية الإسلامية، والنظام الإسلامي المقدّس، وشعب إيران العزيز.
اللهمّ، طهّر قلوبنا من الدوافع السيّئة والمشاعر الخبيثة.
اللهمّ، اجعل دعاء بقية الله - أرواحنا فداه - شاملاً لأحوالنا، واجعلنا لائقين لدعاء هذا العظيم.
اللهمّ، اجعل كلّ ما قلناه وسمعناه خالصاً لك وفي سبيلك وتقبّله بكرمك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
268
227
في لقاء المبتكرين والباحثين والمسؤولين عن مؤسّسات البحث العلميّ
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء المبتكرين والباحثين والمسؤولين عن مؤسّسات البحث العلميّ
المناسبة: لقاء مع المبتكرين والباحثين
الحضور: حشدٌ من الباحثين والمختصّصين والمبدعين ومسؤولي المؤسّسات البحثية.
المكان: طهران.
الزمان: 29/7/2012م.
269
228
في لقاء المبتكرين والباحثين والمسؤولين عن مؤسّسات البحث العلميّ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أولاً، أرحّب أجمل ترحيب بالأعزّاء الإخوة والأخوات والمسؤولين. أتمنّى أن تستطيع هذه الجلسة والجلسات المماثلة الأخرى أن تساعد على سدّ الحاجة الأساسية التي يعيشها بلدنا اليوم، والتي هي عبارة عن تنمية العلم والبحث العلمي والتقنية، وتخريج المواهب وإعدادها، وزيادة انتشار ثمار المواهب المميّزة لشعبنا في حياة كل أبناء الشعب.
أقيمت جلسة اليوم بهدف تعزيز شركات البحث العلمي، وعموماً من أجل الابتكارات في العلم والتكنولوجيا وتقوية دخول منتجات هذه الشركات إلى الأسواق والاستهلاك. ولقد أدلى الأصدقاء بآراء جيدة جداً. ولحسن الحظ، فإنّ المسؤولين حاضرون في الجلسة، وسمعوا الاقتراحات.
طبعاً، كان لبعض الأعزّاء الذين قدّموا اقتراحاتهم عتاب وأعتقد أنّ الحقّ معهم. كانت المعاتبات والمؤاخذات صحيحة. وسيكون رفعها ومعالجتها على أساس الاقتراحات المطروحة. المسؤولون حاضرون هنا.. المعاون المحترم لرئيس الجمهورية وبعض الوزراء المعنيين بهذه الأمور ومسؤولون آخرون حضروا الجلسة، واستمعوا إلى الآراء.
ما قيل في هذه الجلسة سوف يُجمع ويُلخّص ويُتابع إن شاء الله وبتوفيق من الله تعالى. طبعاً طُرحت بعض التوقّعات من جهاز القيادة، وسوف نتابع كل هذه التوقّعات إن شاء الله، سواء الأمور ذات الصلة بالأجهزة والمؤسّسات الحكومية والتنفيذية ـ والتي يجب أن نشدّد عليها ـ أم الأمور المتّصلة بجهاز القيادة نفسها. سوف نتابعها إن شاء الله. لقد سجّلت طبعاً هنا نماذج من الاقتراحات والتوقّعات التي أثارها الأعزّاء، ويبدو لي أنّ معظمها توقّعات صحيحة، ونتمنّى أن تُتابع إن شاء الله. وسوف أشير إلى بعض الاقتراحات والتوقّعات.
أهمّيّة العلوم وآثارها
ما نصرّ ونؤكد عليه هو أنّ العلم بالنسبة للبلاد رأس مال لا ينفد ولا ينتهي. إذا تحرّكت عجلة إنتاج العلم في بلدٍ ما، وإذا كانت ثمّة موهبة انطلقت وسارت، وإذا بدأت الإمكانيات والقابليات تبرز وتظهر فستكون مصدراً لا ينفد. العلم ظاهرة ذاتية الإثمار، وليس شيئاً يضطرّ المرء من أجله للتبعية. نعم، إذا أردتم أخذ العلم
271
229
في لقاء المبتكرين والباحثين والمسؤولين عن مؤسّسات البحث العلميّ
حاضراً وجاهزاً فستكون فيه تبعية واحتياج للآخرين، ومدّ الأيدي نحوهم، ولكن بعد أن يتكوّن الصرح العلمي في بلد من البلدان، وإذا كانت في ذلك البلد مواهب، فسيكون كالينابيع المتدفقة.
إذا خضنا في متابعة البحث العلمي والعلوم والتعمّق والتحقيق فيها - وإذا توبعت بجدّية - هذه الحالة كما حصل والحمد لله خلال الأعوام الماضية، وبنفس السرعة بل بمحفّزات أكثر واهتمام أكبر - فلا مراء أن البلد سيبلغ قمّة عالية.
بالنظر إلى الوقائع التي نشاهدها، وهي أمام أنظارنا، فإنّ هذا الارتقاء إلى الذرى، والوصول إلى السموّ والتقدّم المنشود ليس محض خيال، بل هو أمرٌ واقعيّ، وهو ما تدلّ عليه تجربة الأعوام الماضية.
في هذه الإحصائيات التي ذُكرت لاحظتم أنّ تقدّم البلاد في القطاعات المهمّة والعلوم الحديثة والمؤثّرة في الحياة كان ملفتاً خلال عدّة أعوام. وهذا مؤشّر على وجود مواهب وإمكانيات واستعداد. علينا أن نأخذ هذه المسألة بجدّية، أي أن نهتم لقضية العلم والاعتماد على العلم في البلاد، ونجعلها أساساً للأمور والمشاريع. هذا هو ما نقوله في هذه الأعوام.
إذا جرى الاهتمام بالعلم في القطاعات والمجالات المختلفة فستستطيع شركات البحث العلمي والتي تعمل وتنتج وتوفّر الثروة على أساس العلم أن تصل باقتصاد البلاد تدريجياً للازدهار الواقعيّ. الحصول على الثروة عن طريق بيع المصادر النافدة مثل النفط ونظائره ليس ازدهاراً ولا تقدّماً، إنّما هو خداع للذات. وقد وقعنا في هذا الفخ، ويجب أن نعترف ونتقبّل أنّ هذا فخّ بالنسبة لشعبنا. لقد ابتلينا ببيع الخام، وهذا واقعٌ وصلنا كتراث من الماضي وجرى تعويد البلاد عليه.
طبعاً جرت محاولات في هذه الأعوام الأخيرة لترك هذا الإدمان المضرّ بالبلاد، لكن هذا لم يحدث بنحو تامّ. يجب أن نعتقد أولاً أن البلد ينبغي أن يصل إلى حيث يستطيع بإرادته، وأنّه متى ما شاء يسد آبار نفطه.. يجب أن نصل إلى هذه العقيدة والقناعة. هذا ما يتعلق بقضية النفط. وبيع الخام في مختلف أنواع المواد الخام والمعادن لا يزال قائماً. وهذه من نقاط ضعفنا ومن مشكلات بلادنا. إذا أردنا أن ننجو من هذا الوضع، ونحقق النمو الاقتصادي الحقيقي، فالسبيل إلى ذلك هو الاعتماد على العلم، وهذا متاح عن طريق تقوية شركات البحث العلمي. علينا السير في هذا الاتّجاه.
طبعاً الأعمال التي تمّ إنجازها أعمال مهمّة. التقرير الذي رفعه المعاون المحترم لرئيس
272
230
في لقاء المبتكرين والباحثين والمسؤولين عن مؤسّسات البحث العلميّ
الجمهورية ـ وأنا طبعاً على اطلاع كامل نسبياً بشأن ما تمّ إنجازه عن طريق التقارير التي وصلتني سابقاً ـ تقريرٌ باعث على كثير من التفاؤل والأمل، ويدل على أنّ أجهزتنا ومؤسّساتنا والحمد لله تبذل جهوداً جيّدة في هذا الميدان، ولكن لننظر ونشخّص نقاط الضعف في القطاعات المختلفة ونحاول رفعها وتلافيها.
إذا استطعنا إن شاء الله التقدّم ببناء الأعمال الاقتصادية على أساس العلم، وتحويل ذلك إلى طابع غالب على اقتصاد البلاد، فإنّ ذلك لن يمنح البلاد قوة اقتصادية وحسب، بل سيمنحها قوة سياسية أيضاً، وقوة ثقافية. حينما يشعر البلد أنّ بوسعه إدارة نفسه وشعبه بعلمه ومعرفته ويقدّم الخدمات لسائر الشعوب، فسوف يشعر بالهوية والشخصية. وهذا بالضبط ما تحتاجه الشعوب المسلمة اليوم.
لقد كان الشعب الإيراني طوال أعوام متمادية قبل الثورة أسيراً لإضعاف روح الثقة بالذات. منذ أن فتح المسؤولون الحكوميون أعينهم أولاً، ثمّ فتح أبناء الشعب تدريجياً أعينهم وبهتوا أمام التقدّم العلمي المذهل للغرب، بدأ ترويج الشعور بالنقص والدونية والاستهانة بالذات في هذا البلد وبين أبناء شعبه، ولحسن الحظّ فإنّ الثورة غيّرت كلّ شيء، بما في ذلك هذه الحالة وهذه الروح. وعليه، فإنّ تأسيس الأعمال والمشاريع الاقتصادية على أساس العلم يؤدّي إلى تعزيز الروحية والشخصية والهوية الوطنية ويزيد كذلك من الاقتدار السياسي. الاستقلال والاعتماد على الذات في بلد ما يورث الاقتدار السياسي فضلاً عن الاقتدار الاقتصادي الذي سيتحقّق بشكل طبيعي.
ما نريد أن يترتّب على هذه الجلسة إن شاء الله هو على العموم شيئان: أحدهما تشجيع النخبة والمتخصصين وأهل العلم والبحث العلمي على التوجّه صوب تأسيس مثل هذه الشركات، وكذلك إيصال منتوجات هذه الشركات والبحوث إلى الأسواق وتوفيرها للناس وإدخالها في العجلة التجارية. هذا هو مقصدنا الأول.
التعاضد والتكامل بين العلم والثورة
طبعاً التعاضد والتكامل بين العلم والثروة هو التعريف الأولي لهذه الشركات. بناءً عليه، فليعقد أهل العلم وأصحاب الرساميل عزمهم ويزيدوا من هذه الشركات. قيل إنّ عشرين ألف شركة ستتأسّس حتى نهاية الخطة، لكنّني أتصوّر أنّنا يجب أن نهتمّ بصورة أكبر بعدد شركات البحث العلمي في البلاد. طبعاً يجب النظر إلى الكمّ والكيف معاً. حيث إنّ قضية النوعية قضية أخرى الآن.
273
231
في لقاء المبتكرين والباحثين والمسؤولين عن مؤسّسات البحث العلميّ
الاهتمام بحلّ المشاكل
الهدف الثاني هو أن تُرفع إن شاء الله مشكلات هذه الشركات. ثمة مشكلات ـ مشكلة السيولة النقدية ومشكلة المساعدات المعنوية المتنوعة، وقد ذكرت في الاقتراحات المطروحة ـ تستطيع الحكومة أن تعالجها. القطاعات المعنية بهذه القضية، سواء المعاونية المحترمة لرئاسة الجمهورية أم وزارات الصناعة والعلوم والصحة والجهاد الزراعي المحترمة، والوزارات المرتبطة بهذه الأمور، بوسعها التعاون وتقسيم المسؤوليات وتعيين حدود واجبات كل قطاع ورفع المشكلات.
التطوير الإداري
من الأمور التي ذُكرت هنا - واعتقد أنّها صحيحة - هو تغيير الأنظمة القديمة والتقليدية لتشخيص الاعتمادات، بما في ذلك البنوك والمراكز المالية، تجاه هذه الشركات. مشكلة السيولة النقدية مشكلة مهمّة من مشاكل هذه الشركات.
ومن جملة الأمور التي ذُكرت ـ ونعتقد أنها صائبة ـ قضية ملاحظة المخاطرة في هذه الشركات، إذ لو لم تكن في هذه الشركات مجازفة ولم يكن هناك استعداد لتقبّل المجازفات والمخاطرات فإنّ الأمور لن تجري ولن تتقدّم إلى الأمام.
طبعاً، ثمّة سبل للحيلولة دون أن تهدّد هذه المخاطر أصل وجود هذه الشركات، من قبيل أنظمة التأمين الخاصّ والمحدّد لمثل هذه الأعمال، وهذا بدوره من مهامّ الأجهزة الحكومية.
الاهتمام بالمخترعين
ومن القضايا المهمّة أن ترصد أجهزتنا الحكومية الاختراعات وبراءاتها، وتتوجّه هي نحو أصحاب الاختراعات والنخب الفكرية وتطالبهم بالتعاون والمساعدة كي يستطيعوا أن يساهموا في تأسيس شركات البحث العلمي وفي أقسام معينة منها. لا تقعد أجهزتنا حتى يأتيها المخترعون ويراجعوها وتقع الأعمال في التلافيف والتعقيدات الإدارية والبيروقراطية وغيرها من المشكلات.. هذه الأمور تضعف بلا شكّ المحفّزات والاستعدادات.
274
232
في لقاء المبتكرين والباحثين والمسؤولين عن مؤسّسات البحث العلميّ
رصد المواهب
حسب التقارير التي لديَّ فإنّ الأجانب يرصدون المواهب الموجودة في بلادنا، وما ينفعهم منها يأتون ويستثمرونه ويأخذونه. المواهب والطاقات الإنسانية أثمن ما يمتلكه البلد. يجب أن لا نسمح ولا ندع هذا يحصل. والشكل المنطقيّ لـ "عدم السماح" هو أن نوفّر الفرص والأرضية، ونشجّع ونأخذ بالأيدي، وندفعهم نحو العمل، ونأخذهم إلى الميدان ليعملوا ويكونوا متفائلين متشوّقين، وعندها سيتوفّر ذلك الينبوع المتدفّق الذي لا ينضب.
تنفيذ المقرّرات الإداريّة
من جملة الأمور التي ذكرت وهي صحيحة قضية تنفيذ قانون دعم شركات البحث العلمي والذي صودق عليه منذ سنتين أو ثلاث. قدّمت الحكومة لائحة وصادق عليها مجلس الشورى. طبعاً، لم يجرِ إلى الآن إقرار النظام الداخلي لتنفيذها والإعلان عنه. وينبغي القيام بهذا الأمر بسرعة. وإن شاء الله يتابع المسؤولون الحكوميون الحاضرون هنا هذه المسألة. وقد رصدوا لهذه المهمة مبلغاً وتمت المصادقة على إيجاد صندوق وتمّت تهيئته. إذا أخذ ذلك القانون مجراه إن شاء الله فسيساعد بالتأكيد على تقدّم شركات البحث العلمي وتنميتها.
المساواة في الإنفاق
النقطة الأخرى التي أشير إليها ـ وقد كانت في ذهني وذُكرت في التقارير التي زوّدونا بها ـ هي أن لا تحصل الشركات الحكومية على نصيب أوفر من المساعدات المالية والدعم فتبقى الشركات غير الحكومية تراوح مكانها. وقد لاحظت أن بعض الأعزّاء أشاروا هنا إلى هذه النقطة، وقد جرى الاهتمام بها في تقاريرنا. لنعمل ما من شأنه أن يساعد القطاع الخاصّ على الوقوف على قدميه وينمو بالمعنى الحقيقي للكلمة في مجال شركات البحث العلمي.
إذا نما القطاع الخاصّ وتطور في هذا المجال نعتقد أن منافع ذلك ستكون كثيرة جداً على البلاد. سيكون للحكومة دورها الداعم والموجّه والمرشد والمساعد، لكن محور الحركة في هذا المجال هو القطاع الخاصّ. هذه أيضاً من النقاط موضع الاهتمام.
275
233
في لقاء المبتكرين والباحثين والمسؤولين عن مؤسّسات البحث العلميّ
بنك المعلومات
ومن الأمور المهمّة في هذا المضمار بنك المعلومات. من فوائد هذه الجلسة أن يأتي بعضهم ويزوّدوا جماعة النخبة والمختصّين والمسؤولين بمجموعة من المعلومات. ينبغي أن تكتسب هذه العملية الطابع العام، ويجب أن يكون هناك بنك معلومات، فنعلم ما نمتلكه وما لا نمتلكه، ونعلم ما نحتاجه. خصوصاً بعض القطاعات الحكومية التي ذكروها هنا - كالنفط والدفاع والزراعة - لها الكثير من الاحتياجات، وإذا اتّضحت هذه الاحتياجات لمؤسسي شركات البحث العلمي، فإنّ المستعدّين من حيث الاستثمارات العلمية واستثمار الأموال بوسعهم التوجّه نحو هذه الاحتياجات لرفعها وتلافيها. إذن، تأسيس بنك معلومات وعرض المعلومات اللازمة على الجميع أمر ضروريّ جداً.
السعة في التخصّص العلمي
ونقطة أخرى هي أنّ شركات البحث العلمي تستطيع العمل في مجالات مختلفة في البلاد، ويجب أن لا يحدّدوا مجالات نشاطهم بدوائر وحدود معينة، لتنطلق المواهب في كل المجالات التي فيها حاجة ويلزم العمل فيها، وستستطيع هذه الشركات إن شاء الله أن تمارس دورها هناك.
معرفة متطلّبات الزمان
ما أريد أن أقوله باختصار في ختام كلمتي هو إنّ على الجامعات والأجهزة الحكومية وكلّ أبناء الشعب - الذين لحسن الحظّ لديهم القدرة والاستعداد لمثل هذا العمل، سواء من الناحية العلمية أم الإمكانات المالية - السعي لمعرفة متطلّبات زمانهم (بلحاظ المسؤولية)، والمقطع التاريخيّ الحسّاس الذين يمرّون فيه والعمل على أساس ذلك.
حينما قلنا الاقتصاد المقاوم فهذا ليس بشعار بل هو واقع. البلد يتقدّم إلى الأمام. إننا نشاهد أمامنا آفاقاً رحبة جداً ومبشّرة. ومن البديهيّ أن تكون المسيرة نحو هذه الآفاق مشوبة ببعض المعارضات والخصومات. بعض هذه المعارضات ذو دوافع اقتصادية، وبعضها سياسي، وبعضها إقليمي، وبعضها دولي. وقد ينتهي بعض هذه المعارضات أحياناً إلى هذه الضغوط المتنوعة التي تلاحظونها. الضغوط السياسية والحظر وغير ذلك، والضغوط الإعلامية. ولكن في ثنايا هذه المشكلات وفي وسط هذه الأشواك ثمّة أيضاً خطوات راسخة وهمم وعزائم تريد العبور وسط هذه الأشواك، وتصل إلى المحطة المنشودة. هكذا هو وضع البلاد حالياً.
276
234
في لقاء المبتكرين والباحثين والمسؤولين عن مؤسّسات البحث العلميّ
المستقبل المنشود
إننا لسنا في طريق مسدود إطلاقاً، ولا نواجه أبداً مشكلات تصرفنا عن قرار مواصلة الطريق. لا توجد مثل هذه المشكلات. نعم، ثمّة مشكلات، لكنّها كلّها أصغر من تصميم هذا الشعب والبلد وإرادته وهدفه ومبادئه. لا نريد النوم على ريش النعام ونتّكئ ونستريح، لا، بل نحن في وسط الميدان، لكنّ هذا الميدان هو ميدان صعب، وفي نفس الوقت محفّزٌ. إنها كساحة الرياضة والمسابقات الرياضية. في ميادين المسابقات الرياضية ثمّة اضطراب لكنّه محفّزٌ أيضاً. ما من رياضيّ يمتنع عن المشاركة في ميدان المسابقات الرياضية، إنّما يشارك فيها بشوق. وفي هذا العمل جهد وصعوبة وضغوط جسمية وعصبية، ومع ذلك يشارك الرياضيون فيها. هكذا هو حالنا.
الميدان ميدان حركة عامة وتاريخية خالدة للشعب. من الناحية التاريخية حركتنا اليوم حركة باقية خالدة. أي إنّ شعبنا يقرّر اليوم مصير إيران ربّما لقرون من الزمن. ومثل هذه الظروف لا تتوفّر دوماً. لا تتوفّر مثل هذه الأوضاع في كل المراحل والأطوار التاريخية، وقد توفّرت في زماننا لحسن الحظّ. لقد وضعت هذه الثورة بلادنا وشعبنا أمام حركة مؤثرة باقية تاريخية طويلة.
حسنٌ، على كلّ واحد منّا أن يعرف دوره ويمارسه. من القطاعات التي أمامنا قطاع الاقتصاد، وميزة الاقتصاد في مثل هذه الظروف هو أنه اقتصاد مقاوم، أي الاقتصاد الذي تلازمه المقاومة، ويقف أمام عرقلات الأعداء وخبثهم. أعتقد أنّ من القطاعات المهمة التي بوسعها تكريس هذا الاقتصاد المقاوم هو ما تقومون به. شركات البحث العلمي هذه هي من أفضل مظاهر الاقتصاد المقاوم وأكثر عناصره تأثيراً. ويجب بالتالي متابعة هذه الأعمال.
المستقبل مستقبل مشرق إن شاء الله. أسأل الله تعالى أن يوفّقكم جميعاً، ويوفّق مسؤولينا المحترمين الأعزّاء ليستطيعوا ممارسة دورهم. وانهضوا أنتم أيضاً بدوركم وستتحقق كل هذه الاقتراحات المطروحة هنا في الخارج إن شاء الله ويُعمل بها. معظم هذه الاقتراحات اقتراحات جيّدة وستُدرس إن شاء الله ويُعمل بها. أسأل الله تعالى التوفيق لكم جميعاً، ونتمنّى أن يكون غد الشعب الإيراني أفضل من يومه وأمسه بكثير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
277
235
في لقاء وفد تجمّع العلماء المسلمين في لبنان
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء وفد تجمّع العلماء المسلمين في لبنان
المناسبة: زيارة الوفد للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة.
الحضور: وفد تجمّع العلماء المسلمين في لبنان.
المكان: طهران.
الزمان: 25/7/2012م.
279
236
في لقاء وفد تجمّع العلماء المسلمين في لبنان
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نرحب بالإخوة الأعزاء في تجمع العلماء المسلمين الذين حققوا عملياً أمنية كانت بعيدة المنال، نحن نرفع شعار الوحدة والتقارب بين السنة والشيعة، لكن هؤلاء الإخوة يجسدونه بهذا العمل، وقد صمدوا واستقاموا ثلاثين سنة في هذا السبيل.
ونحن على علم بأعداء هذا الفكر والعلم، الاستقامة عنصر مهم جداً في سلوك سبيل معين والإصرار على هدف سام أمر صعب جداً.
ولا شك أننا عندما نقوم بممارسة وتحقيق عمل، هذا شيء مهم ولكن الإصرار على القيام وتحقيق الهدف أهم من الأول.
أود أن أقول لكم: اليوم لبنان وسوريا وبلاد الشام أحوج إلى هذا الموقف، وكذلك العالم الإسلامي بأسره والعالم كله بحاجة إلى هذا المسار، هناك دولارات نفطية كثيرة تصرف من أجل بث الفتنة والعراك بين الإخوة في العالم الإسلامي.
إن أعداء العالم الإسلامي المتمثل بأمريكا والصهيونية وجبهة الكفر المتحدة صاروا يستغلون هذه النقطة إلى أبعد مدى.
إننا مكلّفون شرعاً ووجداناً أن نصمد أمام هذا الموقف للأعداء، وهذا التكليف فريضة سياسية أيضاً.
اليوم العالم الإسلامي بأمس الحاجة إلى مثل هذه الوحدة واستقلاليتها واستعادتها حيث كان فترة طويلة محروماً منها.
في بلدكم لبنان وجود بذور المؤامرة والدسيسة توزع بشكلٍ كبير، ومختلف الأطراف السياسية المرتبطة بالاستعمار وجبهة الكفر تحاول أن تستغل هذا الموقف إلى أبعد حدود، نحن على قناعة بأن واجب مختلف الأطراف على الساحة اللبنانية أن تتقارب مع بعضها أكبر قدر ممكن وإلا فإن الأعداء سيأخذون لبنان إلى الأسوأ حتى لا يتنفس، ويضيقون عليه بحيث يصعب الاستمرار والبقاء.
لبنان هذا البلد الذي كان من بين جميع الدول العربية يتميز باستطاعته إنزال أكبر هزيمة بالعدو الإسرائيلي، فإنهم يريدون إسقاطه من هذا المقام بشكل عام في منطقة بلاد الشام، مؤامرة العدو أصبحت في نطاق واسع جداً.
الذي يجري حالياً في الساحة السورية عبارة عن حرب بين جبهة الكفر والاستعمار، وبين جبهة المساندة للمقاومة والنضال، أفراد الشعب هم يتحملون آثار هذه المعركة، بمعنى أن الطرف الذي يتحمل أكبر الخسائر والأضرار هم أنفسهم الذين تزعم الدول الاستعمارية إرادة مساعدتهم وتحريرهم.
281
237
في لقاء وفد تجمّع العلماء المسلمين في لبنان
إنّنا على قناعة راسخة بأن هذه محنة ستزول وستتجاوزها شعوب المنطقة، ولا شكّ أنّ الطرف الذي سيخسر هو جبهة الكفر والاستكبار، ونعتقد أنّه بالإمكان تجاوز هذه المشاكل بالصمود والاستقامة والإصرار.
وعلى كلّ حال لا يسعنا إلا أن نعبّر عن شكرنا القلبي العميق لأفراد تجمّع العلماء المسلمين، ونحمد الله أنّه وفّقكم لهذا، وأنّه سبحانه وتعالى جعل هذه الحقيقة حيّة مستمرة في الساحة اللبنانية.
ويحدونا الأمل باستمرار هذه الروح وبقاء هذه الحركة وانتشارها لتعم العالم الإسلامي والعربي.
ومرّةً أخرى أجدّد ترحيبي بكم جميعاً، وأرجو أن تبلّغوا تحياتي إلى إخواني في التجمّع، وأخصّ الشيخ أحمد الزين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
282
238
في لقاء جمعٍ من الشعراء والأدباء
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء جمعٍ من الشعراء والأدباء
المناسبة: ذكرى ولادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام.
الحضور: جمعٌ من الشعراء وأساتذة اللغة والآداب.
المكان: طهران.
الزمان: 4/8/2012م (15 رمضان 1433هـ.).
283
239
في لقاء جمعٍ من الشعراء والأدباء
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وسيد الخلق أجمعين، سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الطيبين، وصحبه المنتجبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الشعر في خدمة القيم
أعرض لنقطتين أو ثلاث عرضاً مختصراً. إحداها هي أنّ الشعر في بلدنا قد تقدّم تقدّماً جيّداً. غاية الأمر أنّه توجد نقطة أساسيّة هنا، وهي أنّ الشعر ينبغي أن يكون في خدمة القيم. إنّني لا أنكر أنّ الشعر هو مرآة أحاسيس الشاعر، وللشاعر الحقّ في أن يعبّر عن مشاعره وأحاسيسه وإدراكاته الشاعرية، ويصبّها في قالب الأشعار التي وهبه الله قريحة إنشائها، ويعرضها للنّاس، فهذا أقبله كاملاً، غاية الأمر أنّ الشعر كفنٍّ رفيع وسامٍ، وكنعمةٍ إلهيّة كبرى له مسؤولية ووظيفة. وبالإضافة إلى إظهار الأحاسيس هناك مسؤولية ملقاة على الشعر. وبرأيي أنّ تلك المسؤولية هي أن يكون (الشعر) في خدمة الدين والثورة والأخلاق والمعرفة. فلو أنّ الشعر أدّى هذه المسؤولية يكون قد أدّى حقه، أي أنّه يكون قد أدّى عملاً بحقٍّ وبعدلٍ. يجب على شعرائنا أن يسعوا في هذا الاتّجاه لإبداع التركيب، وأن يوجّهوا فوران أذواقهم وبواطنهم بهذا الاتّجاه. بالطبع، وخصوصاً في محفلنا هذا، لم تكن مثل هذه الأمور، ولحسن الحظ قليلة، ولكنّني أصرّ على أن يشاهد المرء في مجموع الحركة الشعريّة في البلد هذه الأمور ويلمسها أكثر.
يجب تشخيص وظيفة الشعر كفنٍّ، ووظيفة الشاعر كفنّان، تجاه الخلق، وتجاه الرّب المتعال، وتجاه الالتزام الإسلامي والثوري والقيام بهذه الوظيفة. وهذه الوظيفة عبارة عن سوق عباد الله إلى الله، واستنهاض الأخلاق والمعرفة، والارتقاء بهما في المجتمع. بالطبع، للشعر وظائف أخرى ولكنّ الأساس هو هذا. يجب أن يتمكّن الشعر من خدمة الناس معرفياً، وخدمة دينهم وأخلاقهم، وخدمة الحركة الثورية لشعبنا، والتي هي ظاهرة فائقة الأهميّة والقيمة ونادرة الحصول. يجب أن تُلاحظ جميع هذه الأمور في الشعر.
285
240
في لقاء جمعٍ من الشعراء والأدباء
خصّصوا بيتين فقط
بالطبع، إنّني أؤكّد على الشعر الغزلي1. أنا لا أطلب نظم القصائد الطوال، ولا يعني هذا طبعاً أنّ القصيدة أو القطعة2 ليست مطلوبة أو غير مقبولة. كلا، لكن لأنّ مثل هذا النوع من الغزل هو أكثر أنواع الشعر تأثيراً، فإنّ من الأفضل أن تكون مثل هذه المفاهيم التي نريد أن ننشرها في المجتمع - من خلال الشعر - في قالب الغزل. من الممكن لأحدٍ ما أن يفكّر بهذه الطريقة ويقول: حسناً، لو أنّنا جئنا وذكرنا الأخلاق من أوّل الغزل إلى آخره، فماذا سيكون حال مثل هذا الغزل؟ وأين ستذهب مشاعرنا؟ إنّني لا أقول: إنّ عليكم أن تذكروا العرفان من أوّل القصيدة - التي تبلغ 12 بيتاً - إلى آخرها، كشعر "بيدل" أو أشعار "صائب" الأخلاقية، التي يكون في كل من قصائده البالغة 10 أبيات مثلاً، ثمانية أبيات مليئة بالمفاهيم الأخلاقية - وبالطبع، إنّ هذا العمل ليس سهلاً أيضاً حيث يمكن لأيّ إنسان القيام به - فإنّني أقول لو أنّكم خصّصتم في قصيدةٍ غزليّةٍ - تبلغ سبعة أو ثمانية أبيات - بيتاً واحداً ذا مضمون ثوريّ أو أخلاقيّ أو عرفانيّ، فإنّ هذا الغزل سيكون غزلاً ثوريّاً، وسيكون أيضاً أخلاقيّاً ويفعل فعله. فافرضوا مثلاً لو أنّ أستاذاً في الرياضيّات يتفرّد أثناء درس الرياضيّات بذكر كلمةً عن التوحيد أو الخلق أو عصمة الأنبياء، فإنّني أتصوّر أنّه في بعض الأحيان سيكون أكثر تأثيراً من حصّةٍ كاملةٍ لأستاذ المعارف الدينية. وإنّني أريد منكم أن تفعلوا مثل هذا في الشعر الغزليّ. فانشدوا قصائدكم الغزليّة، وصبّوا مشاعركم وأحاسيسكم وعواطفكم وكلّ ما لديكم من عشق وحماس في أبياتكم الغزليّة، ولكن في هذه القصائد - التي قد تبلغ سبعة أو ثمانية أبيات- خصّصوا بيتين للمضمون الإسلاميّ الأصيل والثوريّ والأخلاقي، وهذه نقطةٌ مهمّة أيضاً.
الشعر لفظ ومضمون ومشاعر
وتوجد نقطةٌ أخرى، وهي أنّ الغزل يعتمد في الحقيقة على ثلاثة أركان: اللفظ والمضمون3 (المحتوى) والمشاعر. ولا ينبغي أن يُبتلى أيّ واحدٍ منها بالضعف. في
1- هو نوعٌ خاصّ من القوالب الشعرية التي تترواح أبياتها بين 7و14، بحيث ينتهي شطرا البيت الأول منها بنفس القافية (المطلع)، ومن ثم تتكرّر القافية في الشطر الثاني من سائر الأبيات، ومن ناحية المحتوى يكون موضوعه الحب، بما فيه الحب المادي والإلهي، ويختتم بما يعرف التخلّص، وهو اللقب الذي يختاره الشاعر لنفسه، يذكره في البيت الأخير مخاطباً نفسه غالباً بحكمة ما.
1- قالب شعري يبدأ ببيتين فصاعداً، دون أن تتجاوز المئتين، متحدة بالوزن والقافية، ليس فيها بيت مطلع، وهي متسلسلة المعاني.
2- يحتمل أن يكون المقصود من كلام الإمام القائد "التركيب الشعري" أو "المعاني الشعرية"، لكن في النص جاء بكلمة مضمون دون غيرها...
3- يحتمل أن يكون المقصود من كلام الإمام القائد "التركيب الشعري" أو "المعاني الشعرية"، لكن في النص جاء بكلمة مضمون دون غيرها...
286
241
في لقاء جمعٍ من الشعراء والأدباء
هذه الليلة التي تلا فيها السادة والسيدات شعراً غزليّاً، رأيت - لحسن الحظ - أنّ الألفاظ كانت جيّدة أيضاً. فبعض هذه الأشعار التي يُنشدها شبابنا لا يتمتّع - بلحاظ اللفظ - بتلك القدرة والجاذبيّة المطلوبة. أحياناً، يصل إلى أذهانهم مضامين جيّدة، لكنّ اللفظ يكون - بلحاظ قواعد - النحو خطأً من الأساس، لا أنّه ليس ممتازاً أو رفيعاً فحسب، بل إنّه خطأٌ، حيث إنّه لم يتم وضع الفعل في موضعه، فالفعل يجب أن ينطبق مع الموارد المشابهة له، لكنّنا نجده في هذه الحالات غير منطبق. أحياناً توجد مثل هذه الإشكالات، فعليكم أن تجعلوا القصائد الغزليّة والشعر بشكل عام - وإن كان مورد بحثنا الآن هو الغزل ـ بلحاظ اللفظ صحيحاً ومحكماً، وأن يكون نظم الألفاظ محكماً، أي أن يكون له متانة واستحكام، وأن يفيض بالرقة أيضاً. وهذا هو فنٌّ في نهاية المطاف، والتفنّن في الشعر يكمن في هذه الأمور. هذا فيما يتعلّق باللفظ.
المضمون أيضاً مقولةٌ مهمّةٌ. وبرأينا أنّ المضمون لا يمكن أن يتمّ ويكتمل في أيّ وقتٍ، كما قال صائب:
يمكن الحديث عن ذؤابة الحبيب عمراً لا تبقَ في أسره حتى يبقى ما يقال
إنّ المضمون في الواقع أمرٌ لا ينتهي، لأنّ ذهن الإنسان لا حدّ له. نحن أحياناً نكسل ونتمسّك بالمضامين التي قالها الآخرون ونكرّرها بعينها، لكنّ المضمون في الواقع لا ينتهي. وقد يشاهد المرء أحياناً مضامين حديثة جدّاً لا سابقة لها في أشعار هؤلاء الشباب. حسناً، إنّ هذا فائق الأهميّة. لهذا، عليكم أن تأخذوا المضمون على محمل الجدّ، وأن تكونوا ساعين وراء صناعته، كما قال القدماء: "اصطياد المضمون". ومن الممكن إنشاء المضمون من متن الحياة. بالطبع، هناك أشياء كانت موجودة في الماضي ولكنها تبدلت في أيامنا كالشمعة والمصباح، فقد جعل الماضون الشمع محور مئات المضامين، وأنتم يمكنكم بالفكر والتأمّل أن تجعلوا المصباح الكهربائي محور مضامين أخرى، أي أنّ صناعة المضمون يمكن أن تُفهم بالنظر إلى المتعلّقات وما يحيط بها. وبالطبع، إنّ للإلهام الباطني والانبعاث الذهني دوراً مهمّاً جداً.
والآخر هو الإحساس والشعور. ففي الغزل، يكون الإحساس مهمّاً جدّاً. وهنا نجدهم يطلقون عليه اسم الحب، لكنّ الإحساس لا يعني الحب والعشق فقط، بل يشمل مصاديق أخرى كالغضب -على سبيل الفرض- فهو إحساس في النهاية. فالغزل لا يمكن أن يكون دون إحساس. فعليكم رعاية هذه الجهات الثلاث. وعندها ستكون المفاهيم أيضاً ـ كما ذكرنا ـ في خدمة هذه العناصر الأساسيّة الثلاثة، أي الثورة والأخلاق والمعرفة.
287
242
في لقاء جمعٍ من الشعراء والأدباء
خدمة المفاهيم الوطنيّة الحديثة
في بلدنا توجد قضايا مهمّة يمكن للشعر أن يستفيد منها، ويكون بذلك في خدمة هذه المفاهيم. وهنا أعني المفاهيم الوطنية لا الشخصية. على سبيل المثال، إنّهم اليوم يمارسون علينا ظلماً كبيراً في المجال النووي - صحيحٌ أنّهم لا يجزّرون بنا كما يحصل في ميانمار، إنّ أيديهم لا تصل، ولو كانت كذلك لفعلوا ما فعلوا هناك، إنهم عاجزون، لكنّهم يفعلون ما يستطيعون من ظلم هذا الشعب وهذا البلد - إنّه موضوعٌ مهمّ. أو على سبيل المثال، قتلهم لعلمائنا، فمثل هذا ليس بظاهرة بسيطة، إنهم إرهابيون ويريدون اغتيالنا، خسئوا، فليخسؤوا. عندما يسعى إرهابيٌّ لقتل عالمٍ، فإنّ القضيّة تتجاوز ما هو أبعد من مجرّد الاغتيال، فالقضية هي إيجاد جبهةٍ وعداءٍ ضدّ العلم وتكامله في البلد، ويريدون مواجهة عملية إعداد العلماء فيه، فهذه القضيّة تتّخذ أبعاداً واسعة، وهي قضيّةٌ وطنية كبيرة، ويجب أن تنعكس في الشعر. وكما وصلتم إلى أنّه يجب تأليف الشعر لميانمار أو مصر أو الصحوة الإسلامية أو فلسطين أو حرب الـ33 يوماً ـ وقد فعلتم، وهو أمرٌ جيّدٌ ومطلوبٌ ـ توجد قضايا في بلدكم لا يمكنكم أن تتجاوزوها، ويجب أن يتم التعرّض لها في عالم الشعر.
حسنٌ، هناك جماعة لا تُوْلِي من الأساس أيّ اهتمام بقضايا البلد. لقد شاهدت أشخاصاً يدّعون حبّ الوطن وعشق ترابه لكنّهم مع ذلك لا يولون أيّة أهميّة لقضايا هذا التراب. لقد كان في بلدنا حربٌ لثماني سنوات، ولم تفتعل الجمهورية الإسلامية هذه الحرب، بل فُرضت عليها. حسنٌ، هؤلاء الذين يخالفون الجمهورية الإسلامية، ما هو الموقف الذي كان عليهم أن يتّخذوه بالنسبة لهذه الحرب؟ ماذا كان ينبغي أن يفعلوا؟ فالحكومة حكومة الجمهورية الإسلامية، ولكن الشعب هو شعب إيران والمدينة هي مدينة دزفول وخرمشهر وطهران، فلماذا لم يبالوا تجاه هذه؟ لماذا بقي الشعراء المعروفون والفنّانون المعروفون والكتّاب المعروفون والمثقّفون المعروفون غير مبالين تجاه هذه القضية؟ أليس عدم الاكتراث هذا عيباً؟ إنّه أكبر عيب، فإيران هي إيران. ألم يهجم العدوّ على هذا البلد؟ ليس لديهم أيّة وسيلة للدفاع، فأقصى ما يمكن أن يدافعوا به عن أنفسهم هو أن يقولوا إنّنا لا نحب الجمهورية الإسلامية، لكنّ هذا تعصّب لم يسمح لنا أن نقول كلمة واحدة بشأن إيران وطهران وخرمشهر، وبشأن شباب هذا البلد، في أشعارنا أو نثرنا أو رواياتنا. إنّ هذا التبرير والدفاع عن النفس
288
243
في لقاء جمعٍ من الشعراء والأدباء
- وأقصى ما يمكن أن يقولوه هو هذا ـ هو بالنسبة لهم أكبر عارٍ قد جعل مثل هذا التعصّب حاكماً على أذهانهم وأرواحهم وأقلامهم وقلوبهم1.
لا حياديّة في معركة الحقّ والباطل
واليوم، نجد الأمر على المنوال نفسه. ترون اليوم كيف أنّ جبهة الاستكبار قد وقفت بكلّ وجودها وإمكاناتها وإعلامها وقدراتها التنظيمية السياسية بوجه شعب إيران وهي تقوم بأمورٍ - أمّا أنّ هذه الأمور ستؤثّر أم لا، فهو بحثٌ آخر، ففي النهاية إنّ العدوّ يظهر خبثه - وهو لا يقصّر، فإنّه في مواجهة شعب إيران ودولتها يرضي نفسه المنحطّة والخبيثة والملعونة. وهنا نجد الثبات والاستقامة والمقاومة في مقابله. هنا يوجد دفاع، ومثل هذا يُعدّ حادثةً وطنية، فهل يمكنكم أن تبعدوا هذه الحادثة عن أنظاركم؟ يجب أن تنعكس هذه في الشعر. لقد قلت إنّني لا أصرّ على أن تؤلّفوا قصيدةً من خمسين بيتاً بشأن هذه القضية، بل. بينوا هذه القضية في بيت واحد من قصيدتكم التي قد تبلغ سبعة أو ثمانية أبيات أو بيتين كأنموذج متفرّد، هذه أمورٌ ضروريّة. وفي النهاية يجب اتّخاذ موقفٍ في معركة الحقّ والباطل، ولا يصحّ أن يبقى الإنسان حيادياً.
وقضية الأخلاق هي من هذا القبيل، فالالتزام والعبثية قضيّةٌ أخرى، لأنّ هناك من لا يحبّ الالتزام الثوريّ والدينيّ فإنّهم يدعون إلى الهذيان واللامبالاة تجاه القضايا المهمة، في حين أنّهم يريدون رفض الالتزام بالدين والثورة والأخلاق، لا رفض الالتزام بالأجنبيّ. وقد سمعنا هذه المسألة في شعر أميري. فهؤلاء لا يرفضون الالتزام بالأجنبيّ والوفاء لرغباته أبداً، بل إنّهم ملتزمون تجاه العدوّ وتجاه الغريب! فكأنّ الالتزام بالدين والأخلاق والمعرفة وقضايا البلد والثورة يُعدّ نقطةً سلبية يجب أن يفرّوا منها، لهذا فإنّهم توجّهوا إلى العبثيّة، ويدعون إليها. وفي قبال هذا الوضع يجب اتّخاذ الموقف والوقوف مقابل التهديد الموجّه للدين والثقافة والأخلاق الاجتماعية.
وهنا توجد جملةٌ أخرى أذكرها. على شعرائنا الشباب ـ إن شاء الله يحفظكم جميعاً، وإنّني في الواقع أدعو لكم أن تسلكوا الصراط المستقيم وتستمرّوا عليه ـ أن يلتفتوا إلى
1- ينتقد الإمام القائد هنا جماعةً من الكتّاب والشعراء الذين يخجلون من الكتابة عن إيران، وتضحيات الدفاع المقدّس بالخصوص، وهؤلاء يدافعون عن أنفسهم في الإعلام والصحف بحججٍ واهيةٍ غير مقبولة، فقال: إنّ ذلك عارٌ عليهم، لأنّ تلك التضحيات هي تضحيات الشعب وأبنائه، والمدن والقرى خلال الحرب. وهنا تلميح مبطّن من القائد، أنّكم حتى لو لم تؤمنوا بالنظام والثورة ومفرداتها، لكن ما حدث هو تضحيات شعبٍ ووطن لا يمكنكم تجاهلها.
289
244
في لقاء جمعٍ من الشعراء والأدباء
أّلا تستقطبهم المحاور السلبية والمضرّة، فإنّهم اليوم يسعون لأجل ذلك. فبعض هؤلاء العبثيين والمخالفين للالتزام الديني والثوري والوطني ـ والذين هم ليسوا رافضين بتلك الدرجة، بل أقل من ذلك بكثير للالتزام تجاه عدوّ الثورة وعدوّ البلد، بل إنّهم يسعون إليهم ـ من الممكن أن يظهروا داخل هذا البستان الأخضر. لقد شاهدت بيتاً غزليّاً جميلاً من السيّد فاضل نظري العزيز:
يأخذونك من البستان ليحتفوا بك ويجعلوك صنوبرة احتفالاتهم الشتويّة5
وهناك بيتٌ آخر بهذا المضمون:
يا يوسف، لا تفرح عندما تخرج من البئر، فهم سيأخذونك إلى السجن!
على كلّ حال، التفتوا جيداً إلى الخطوط، وحافظوا على الحدود والمقادير، فأنتم تمثّلون جبهةً عظيمة تدافعون فيها عن الحقّ والمعنويّات، وأنتم الذين تسعون من أجل الحقّ والمعنويات وتنفقون في هذا الطريق، وإنفاقكم هو ذخائركم الفنّيّة. وبعضكم يقول: إنّنا مستعدّون أن نبذل النفس في هذا السبيل. فالتفتوا جيّداً إلى أنّ الاستقامة والثبات في هذه الجبهة مهمّةٌ جدّاً، وإن شاء الله ستصلون إلى النتائج. أملنا أن يحفظكم الله تعالى جميعاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- البيت باللغة الفارسيّة: از باغ ميبرند جراغاني ات كنند تاكاج جشن هاي زمستاني ات كنندوالقائد يشرح كلمة (ميبرند)، فتارة تقرأ بالفتح (ميبَرند) فيكون معناها (يأخذونك)، وأخرى تقرأ بالضم (ميبُرند) فيكون معناها (يقطعونك).
290
245
في لقاء الجامعيين
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء الجامعيين
المناسبة: ذكرى ولادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام.
الحضور: حشدٌ من الجامعيين والنخب والمتفوّقين.
المكان: طهران.
الزمان: 6/8/2012م (17رمضان 1433هـ.).
291
246
في لقاء الجامعيين
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أرحّب بكم كثيراً أيّها الإخوة والأخوات والشباب الأعزّاء. لقد كانت جلسةً رائعة. بعد أن أُعلن انتهاء كلمات الجامعيين نهض ما يقارب عشرة أشخاص من بين الحاضرين، ورفعوا أيديهم راغبين بالحديث. حسناً، أنا لست مدير اللقاء، إنّني أحد المشاركين، لهذا لا ينبغي أن تطلبوا منّي وقتاً ثانياً، لو كان من المقرّر أن أعطي فرصة بنفسي لأعطيتها لكلّ واحدٍ من هؤلاء العشرة. أنني لا أصرّ على الحديث، بل أصرّ على أن تُقام هذه الجلسة. ولا شك أنّ هؤلاء العشرة إذا أتمّوا كلماتهم أو أثناء حديثهم سينهض نحو عشرة أشخاص آخرون، ويرفعون أيديهم للحديث! لا مشكلة، لكن أتصوّر أنّ الكثير من الأخوات والإخوان الحاضرين يرغبون أن لا يستمرّ الأمر على هذا المنوال، لهذا أبدأ حديثي الآن.
إنّ ما ذُكر من مطالب كان ممتازاً. وبعض كلمات الإخوة الجامعيين كانت متداخلة، أي إنّ عدّة أشخاص قد أكّدوا على نقطةٍ خاصّة، ممّا يدلّ على انتشار ذلك الرأي أو المطلب، وبعضها كان اختصاصياً وممتازاً. لقد طالبت بأن يقدّموا لي مطالبهم وقد فعلوا، وإن شاء الله أقول إنّ الأمر سيُدرس ويُنظر فيه. والمسؤولون المحترمون الموجودون في اللقاء قد سمعوا الكلمات، وإنّني أرجو أن يأخذوا تصريحات الجامعيين على محمل الجدّ. صحيحٌ أنّ المتحدّث جامعي، لكن ممّا قيل وبما يحمله المرء من اطّلاعٍ على الأجواء الجامعية، فإنّ أغلب الكلمات تتحدّث عن هذا الجوّ لا أنّها كلمات شخصٍ ما، لهذا ينبغي الالتفات إليها، هذا بالإضافة إلى أنّ هناك من بين كلمات الأعزّاء بعض المطالب الافتتاحيّة والنقاط المفيدة.
الجامعيّون وشرح الصدر السياسي
لقد دوّنت بعض النقاط التي قيلت كضرورة شرح الصدر السياسي بين الجامعيين. هذا ليس له ارتباطٌ بمسؤولي الجامعات وعمدائها، بل هو مربوطٌ بالتشكيلات الجامعية نفسها. إنّني أوافق على ضرورة شرح الصدر السياسي، ولا يوجد أي تعارض بين التمسّك العميق بالأصول ورعاية التوجّه الدقيق، وفي الوقت نفسه امتلاك شرح الصدر والتعامل غير الحادّ والعنيف مع أولئك الذين لا ينسجمون فكرياً مع المرء، وخصوصاً في المجالات السياسية.
وممّا ذُكر أيضاً قضية حضور المسؤولين في الجامعات. هذا الإشكال واردٌ تماماً. إنّني أعتقد أنّ على المسؤولين أن يحضروا في الجامعات، رؤساء السلطات الثلاث والمسؤولون المتوسّطون ورئيس الإذاعة والتلفزيون ومسؤولو الحرس والقوّات
293
247
في لقاء الجامعيين
المسلّحة، على هؤلاء أن يذهبوا إلى الجامعات ويعقدوا الجلسات ويستمعوا إلى كلمات الجامعيين الجديرة بالاهتمام. وإنّني أقول لكم إنّ لهؤلاء المسؤولين الكثير من الكلام الذي يخص الجامعيين. ولا يوجد ما يمكن أن يحلّ محلّ مثل هذه المحادثات المباشرة، وكما كان التقليد القديم لنا نحن المشايخ حيث كنا نجلس على منبر ونخاطب الناس وجهاً لوجه، ففي هذا العمل يوجد أثرٌ. وما ذكرته أختنا فيما يتعلّق بالآثار الإلكترومغناطيسية، لا يوجد في هذه اللقاءات تأثيرات الكترومغناطيسية من إنسان إلى آخر، ومن وجهٍ إلى آخر في أي بُعدٍ من الأبعاد. فلهذا العمل أثرٌ، فهم بدورهم يسمعون ويستمعون، والكثير من المطالب والإبهامات والأسئلة التي تدور اليوم في أذهان جيل شبابنا سيُجاب عنها من خلال تصريحات المسؤولين، وسيتمّ كشف المبهمات والمعضلات أيضاً. عندما كان لديّ قدرات جسمانية أكثر كنت أشارك كثيراً في الجامعات، وأنا الآن في الواقع لو أستطيع ويوجد لديّ مجال ووقت فإنّني أحبّ أن أشارك من حينٍ إلى آخر، وضمن أوقات غير متباعدة، في الجامعات، والأمر الآن هو أنّه ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾1، ولا أظنّ أنّ الشباب يتوقّعون ذلك من أمثالي وممّن هم في سنّي ومشاغلي الكثيرة2، وأمّا مسؤولو البلاد فعلى العكس يمكنهم، ويجب عليهم أن يشاركوا. وإنّني من هنا أوصي المسؤولين أن يشاركوا في اللقاءات الجامعية، فليأتوا وليسمعوا من الجامعيين وليتحدّثوا معهم.
الرأي المعارض ليس عداءً
ومن المطالب التي ذُكرت قضية مواقع الإنترنت والتعامل معها في محيط الجامعة. وللصدفة، فإنّني أخيراً قد طالبت بتقريرٍ في هذا المجال وحصلت عليه. وبالطبع، إنّ للسلطة القضائية - بحسب القاعدة - أدلّتها، حيث إنّهم لو جاؤوا إلى هذه الجلسات التي يعقدها الشباب والجامعيون ويستمعون ويتحدّثون فإنّه من المحتمل أن تتمّ الإجابة عن بعض هذه الأسئلة، لكنّني أعتقد بأنّه لا ينبغي إظهار حساسيّةٍ زائدة تجاه إبداء رأيٍ يكون أحياناً حادّاً نوعاً ما من قبل شاب جامعيّ، فهناك فرقٌ بين من يخالف النظام ويعارضه ولديه نيّة العداء والعناد، وبين من يتحدّث انطلاقاً من شعورٍ بأمرٍ ما، وإن كان من الممكن أن يكون غير صحيح، أو أنّه لا تعجبني طريقة إظهاره ـ حيث إنّني إن شاء الله إذا وُجد الوقت سوف أتحدّث في هذه المجالات ـ ولكنّ التعامل مع هؤلاء الشباب برأيي هو هذا، لا ينبغي أن يكون بالعنف والحدّة وأمثالهما.
1- البقرة، 286.
2- مقصوده حسب السياق: لا يتوقّعون حضوري في الجامعة.
294
248
في لقاء الجامعيين
محوريّة العدالة في الاقتصاد
نقطةٌ أخرى كانت في الكلمات، هي مسألة الاعتناء بالقُرى ورؤية الواقع والنظرة الاقتصادية القائمة على العدالة. لقد التفتُّ إلى نقطةٍ هي عبرة لنا جميعاً، لي ولكم. إنّ هذا الشاب المحترم الذي جاء وتحدّث بقضية الرؤية الاقتصادية المتمحورة حول العدالة، وما أشار إليه هو من مجموعة المخيّمات الجهادية، حسنٌ، إنّ القضية اتّضحت، عندما يكون شخصٌ من المخيّمات الجهادية ويذهب إلى المناطق المحرومة ويشاهد الوقائع بعينه، فمن الطبيعيّ أن ينبعث فيه هذا التفكّر بشأن متابعة الاقتصاد المتمحور حول العدالة، هذا بالنسبة لنا جميعاً درسٌ وعبرة، ويجب أن يحصل الارتباط بين جميع شرائح المجتمع حتّى يتمّ تلمّس قضاياهم، فمثل هذا يؤثّر في قراراتنا وفي نظرتنا إلى قضايا البلاد المختلفة.
وبالتأكيد إنّ اعتقادي هو أنّ الرؤية الاقتصادية في البلد ينبغي أن تتمحور حول العدالة، وهذا لا يتنافى مع ما بيّنّاه في سياساتنا في البند 44 1، وهو ما ذكره أحد الأصدقاء هنا. فسياسات هذا البند بحسب ما قلناه وما أردناه وفصّلنا فيه ـ وأنا في هذه الحسينية وفي تلك الأوقات قد تحدّثت بشكلٍ مفصّل في هذا المجال مع المجموعة المعنية بهذا العمل ـ لا تتنافى أبداً مع الاقتصاد المتمحور حول العدالة، أي أنّها لا تنتهي أبداً إلى الرأسمالية بذاك المعنى السيئ.
الرأسماليّة الممدوحة
بالطبع، أقول لكم إنّ ما هو موجودٌ اليوم في العالم تحت عنوان "النظام الرأسمالي"، حقيقته وجوهره هي سيادة المال. إنّ مجرّد امتلاك الرأسمال واستثماره من أجل تطوّر البلد ليس بالأمر السيئ، بل هو ممدوحٌ وليس مذموماً أبداً. المذموم هو أن تكون الرساميل والرأسمالية محور جميع القرارات الكبرى والعامّة لأيّ بلدٍ أو مجتمع، فتجرّ كلّ شيءٍ باتّجاهها، وهذه المصيبة التي ابتُلي بها المعسكر الرأسمالي والغربي والتي يحصد نتائجها اليوم. إنّ تلك الأحداث التي تقع اليوم في أوروبا، وتلك الضغوط الباهظة التي تنزل على رؤوس الناس كلّها ناشئةٌ من نظام سيادة رأس المال هذا، فهذه هي الرأسمالية البشعة والمذمومة. ولكن في المقابل إن كان هناك من يمتلك رأس المال وقد وضعه في خدمة نموّ المجتمع ـ بالطبع فإنّه أيضاً سيربح وهذا العمل جيدٌ وربحه حلالٌ ولا إشكال فيه ـ فإنّ العمل لو أُنجز وفق الضوابط الصحيحة - وحيث إنّ
1- راجع حاشية الصفحة 265..
295
249
في لقاء الجامعيين
نظرة الإسلام المتمحورة حول العدالة متوجّهة إلى هذا المعنى ـ فلا يوجد أي إشكال. بناءً عليه فإنّ كلمة "الرأسمال" وكلمة "الرأسمالي" ليست مذمومة بأيّ شكلٍ من الأشكال.
فلنسعَ إلى أن لا تتغلّب الرؤية الاشتراكية والماركسية على فكرنا الاقتصادي، فهؤلاء لديهم نظرة مختلفة. ففي النظام الاشتراكي يُعدّ الرأسمال بنفسه مداناً، أمّا في النظام الإسلامي فالأمر مختلف، فالرأسمال ليس مداناً، المدان هو استغلاله السيئ. ولا يصحّ أن يُقال إنّ طبيعة من يمتلك الرأسمال هي الاستغلال السيئ، كلا، ليس الأمر كذلك، فإنه يمكن من خلال القوانين الصحيحة والإدارة الجيّدة توجيه الرأسمال توجيهاً صحيحاً وتحريكه. لهذا، إنّ ما عرضناه في سياسات المادّة 44 لا يتنافى أبداً مع الاقتصاد المتمحور حول العدالة، بل هو بوجهٍ من الوجوه مكمّلٌ ومتمّمٌ له.
الاقتصاد المقاوم
وفي مجال القضايا الاقتصادية، أشير إلى "الاقتصاد الهجومي"، وهذا لا عيب فيه. أنا العبد لم أفكّر في هذا الاقتصاد الهجوميّ. ولو كان هناك في الواقع شرحٌ جامعيٌّ وأكّاديميٌّ فيما يتعلّق بالاقتصاد الهجوميّ ـ وبحسب قولهم مكمّلٌ للاقتصاد المقاوم ـ فأيّ عيبٍ في ذلك؟ فلنطرحه. وما وصلنا إليه هو الاقتصاد المقاوم1. وبالطبع إنّ الاقتصاد المقاوم ليس منحصراً بالبعد السلبيّ، فلا يعني ذلك أنّ الاقتصاد المقاوم يكون محاصراً ويقوم بالأعمال الدفاعية، بل إن الاقتصاد المقاوم هو ذلك الاقتصاد الذي يمنح أي شعب الإمكانية، ويسمح له حتى في ظلّ الظروف الضاغطة بالنمو والازدهار. فهذا يُعدّ فكراً ومطلباً عاماً. ها أنتم الجامعيّون والأساتذة وخبراء الاقتصاد، حسنٌ جداً، قوموا بشرح وبيان فكرة الاقتصاد المقاوم هذه باللغة الجامعية، حدّدوا أطره، أي ذاك الاقتصاد الذي يمكنه أن يضمن نموّ وازدهار أيّ بلدٍ في ظلّ ظروف الضغط والحظر والعداوات والخصومات الشديدة.
الانتقاد، وتحقيق مقاصد العدو
أحدُ الأصدقاء الجامعيين الأعزّاء قال: إنّه يُقال لنا أن لا تكملوا بازل العدوّ. وهذا من الكلمات التي كرّرتها كثيراً - أنا العبد -: لا ينبغي إكمال بازل العدوّ. إنّه يقول حسناً، فما هو الانتقاد؟ وماذا يكون في الانتقاد؟ أفلا ينبغي أن ننتقد؟ إنّني لا أعتقد بأنّه لا ينبغي الانتقاد. وقد صادف أنّني في مدوّناتي ـ والتي إن شاء الله لو كان هناك مجال
1- راجع حاشية الصفحة 264.
296
250
في لقاء الجامعيين
سأذكرها ـ أصرّ على أن يحافظ التيّار الجامعي والنهضة الجامعية على مواقفهما النقدية حتماً، وإنّني لا أوصي أبداً أن لا تنتقدوا بأيّ معنىً من المعاني. حسنٌ، فماذا نفعل لكي لا يكون هذا النقد مكمّلاً للعبة العدوّ (البازل)؟ فكّروا في هذا المجال. فلا نقول إنّ هناك تعارضاً بين إكمال لعبة العدوّ الذي هو أمرٌ سلبيّ مع ضرورة النقد الذي هو أمرٌ إيجابيّ، كلا. أنتم أنفسكم ذكرتم وأنا انتقدتُ، وقد تمّ نقله إلى كلّ العالم، لكن لا يوجد أيّ شخصٍ في العالم لا يدّعي أنّ فلاناً يهاجم النظام الإسلامي، أو بحسب الفرض، التشكيلات الإدارية التنفيذية أو التشريعية للبلد. حسنٌ، أنتم هنا تنتقدون بهذه الطريقة، لهذا يمكن للانتقاد أن يحصل بصورةٍ لا تحقّق مقاصد العدوّ بأيّ وجهٍ، وبحسب التعبير الذي استخدمناه لا يكون مكمّلاً لبازل العدوّ.
الآراء الخبرويّة لا تخالف ولاية الفقيه
ذُكر أنّ هناك من يطرح آراءً خبروية وهي تخالف رأي القيادة، فيُقال: إنّ هذا السيّد هو ضدّ الولاية. إنّني أقول لكم إنّه لا يوجد أيّ رأيٍ خبرويٍّ يخالف رأيي -أنا الحقير- هو مخالفٌ للولاية. فهل يوجد ما هو أوضح من هذا؟! إنّ الرأي الخبروي هو رأيٌ خبروي. إنّ العمل الخبرويّ هو عملٌ علميّ ودقيق إلى أيّة نتيجةٍ وصل. ونتيجته بالنسبة لمن قام بهذا العمل العلمي مقبولةٌ ومعتبرة، ولا يمكن أن تخالف ولاية الفقيه أو النظام بأيّ شكلٍ. بالطبع، أحياناً، يكون هذا الحقير (مشيراً إلى نفسه) خبيراً في مجالٍ من المجالات، ففي النهاية نحن في بعض القطاعات لدينا خبرةٌ محدودة، فمن الممكن لهذا الرأي الخبرويّ أن يكون في مقابل رأيٍ خبرويٍّ آخر فيكون لدينا رأيان، ومن يودّ الاختيار فليختار. في المجالات الثقافية والتعليمية ـ في القطاعات المختصّة ـ لدينا خبرةٌ، وقد كان لدينا عملٌ محدّد ولهذا يصبح هذا الرأي خبرويّاً. وفي كلّ الأحوال لا يكون ولا ينبغي أن يُعتبر أيّ نوعٍ من إعلان الرأي العلميّ والخبرويّ كمعارضة ومواجهة ومخالفة وإعلان انفصالٍ عن القيادة والولاية وأمثال هذه الكلمات.
الجامعات بيئة تراكم الطاقات
حسنٌ، إنّنا في اللقاءات الجامعيّة - وبحسب العادة - نعرض لبعض المطالب، فهل هذا يُعدّ مبالغةً في التوقّعات؟ هذا سؤالٌ. لو أنّ شخصاً يجمع جميع المطالب التي ذكرتها في اللقاءات الجامعية سواء في أشهر رمضان أم في الجامعات التي حضرتُ فيها، في المحافظات أو في طهران، لخرج بلائحةٍ طويلة من مطالب هذا الحقير من الفئة الجامعيّة. من الممكن أن يقول أحدٌ: أيّها السيّد، إنّ هذه مبالغات أو توقّعات في غير محلّها. إنّني لا أعتقد أنّها كذلك، لماذا؟ بالالتفات إلى الطاقات المتراكمة في الجامعات ينتفي الظنّ
297
251
في لقاء الجامعيين
بالمبالغة في التوقّع. لو أنّكم كنتم تريدون من شابٍّ رياضيٍّ مفعمٍ بالنشاط وقويٍّ أن ينقل حملاً ثقيلاً من مكانٍ إلى آخر، فإنّ هذا لا يُعدّ بأيّ شكلٍ من الأشكال مبالغة في التوقّع، بالتأكيد لو كان نحيلاً وهرماً وضعيفاً فلا يصحّ أن نتوقّع منه ذلك، ولكن عندما يكون مقتدراً فذلك ممكن.والجامعات هي بيئة تتراكم فيها الطاقات وتتضافر، وهذه الطاقات ناشئةٌ من عنصرين أساسيين، أحدهما الفتوّة والشباب، حيث إنّني أعتقد أنّ الكثير من هؤلاء الشباب أنفسهم لا يقدّرون نعمة الشباب وطاقته، أي أنّهم لم يكتشفوا إلى الآن الطاقات اللامتناهية، والتي لا حدّ لها ولا إحصاء، الموجودة في البيئة الشبابيّة، إنّ الشباب منبعٌ فيّاضٌ لا ينتهي من الطاقات. العنصر الثاني هو قضية العلم والمعرفة والجامعة نفسها. فإنّ كون الإنسان جامعيّاً يمنح له القدرة. فالتوجّه إلى العلم والاعتناء بالمعرفة، هو بحدّ ذاته مانحٌ للقوّة ومضاعفٌ لها. وبالطبع إنّنا نضيف إلى هذين العنصرين تلك الأجواء التي أوجدتها الثورة، ولو أنّنا أردنا أن ننظر بالحدّ الأدنى، فإنّ الثورة قد ضاعفت هذه الأجواء ورفعتها في الأجواء الشبابية والجامعية، هذا بالحدّ الأدنى، أي أنّ حالة النشاط والحيويّة والبعد عن الفتور والثقة بالنفس هي كثيرة في البيئة الجامعية. لهذا إنّ كلّ ما نتوقّعه من الجامعيين والأعمال الصعبة التي نطلبها منهم ونوجّهها إليهم، والتوقّعات التي نعرضها هي ليست مبالغة، ويمكن القيام بالكثير من الأعمال. إنّ لدينا تيّاراً متدفّقاً وطاقاتٍ لم تنقضِ، لو أنّها تحرّرت ووُجّهت توجيهاً صحيحاً لأمكنها أن تُعمر البلد بصورة كاملة.
محوريّة القيم والمبادئ
إنّ من الأمور التي نتوقّعها من الجامعيين ـ وهو موجودٌ بصورة طبيعية في الجامعات وفي البيئة الشبابية، وأنا العبد لديّ إصرارٌ وتأكيد على أن تبقى هذه الحالة حيّة في الجامعات ـ هو قضية التوجّه إلى القيم (محورية القيم والمبادئ). بالطبع، لقد تحدّثت في لقائي مع مسؤولي النظام في بداية هذا الشهر بشأن التوجّه إلى القيم وعلاقتها بالواقعيّة وبحثنا ذلك بمقدارٍ ما، لعلّ بعضكم قد سمعه. فإنّ قضية النظرة الواقعيّة محفوظةٌ في مكانها، وأنا أيضاً سوف أشير فيما بعد إشارةً ما، لكنّ التوجّه إلى القيم سواء أكان في السياسة أم في جميع الميادين الأخرى ـ كالتوجّه إلى القيم في العلم ـ يجب أن يكون مورد اهتمام. إنّ التوجّه إلى القيم في العلم يجب أن يكون في مجال القضايا العلميّة ساعياً إلى القمّة، حيث إنّه ينبغي أن يثمر في جعل توجّهكم إلى الدراسة والدراسة الجيّدة. إنّني أقول لكم إنّ الدراسة اليوم والتعلّم والتحقيق والجدّية في الوظيفة الأساسيّة للجامعيّ هي جهادٌ، وهو ما سيتّضح إن شاء الله في تتمّة كلمتي إذا وُجد المجال. وكذلك في مجال المعنويات والأخلاق يجب أن يكون التوجّه إلى القيم. إنّ البيئة
298
252
في لقاء الجامعيين
الجامعية وبسبب أنّها بيئة شبابية يجب أن تكون بيئةً طاهرةً صافية. هناك من يتصوّر أنّ بيئته الجامعة لا حاجة فيها إلى التقيّد بالدين والتمسّك به وبالأخلاق وأمثالها، وأنّ هذا ليس أمراً مطلوباً، إنّ هذا ناشئٌ من تصوّرٍ خاطئٍ تأسّس في زمن الطاغوت وفي بداية نشوء الجامعة. في تلك الأزمنة، أسّسوا الجامعة بعيداً عن الاعتقاد بأصل الدين والمعنويّات والأخلاق، وكانوا منبهرين بالغرب وأخلاقه. بالطبع، كان هذا الانبهار هو الحالة العامّة، لكن كان هناك بعض من العملاء والأجراء للغرب، وكان من المقرّر أن يضعوا البرامج والمشاريع داخل البلد لكي تزداد هيمنتهم التي كانت في العهد القاجاري1 وأيضاً في العهد البهلوي2، وتصبح أشدّ وأكثر ثباتاً، أي إعداد جيلٍ من المتنوّرين والمتعلّمين وأصحاب الشهادات الذين يفكّرون بطريقةٍ غربية، هم إيرانيّون ولكنّهم يفكرون بطريقة فرنسية وإنكليزية وأمريكية، وأمانيهم لا تعدو أماني أي فردٍ أمريكيّ، وتحرّكاتهم وأعمالهم هي تحرّك أيّ فردٍ أمريكيّ أو إنكليزيّ، هذا وإن كانت جنسيّته إيرانية ويسكن في إيران. كانوا يسعون إلى تربية وإعداد مثل هذا الجيل.
الجامعة محلٌّ للمعنويّات والقيم
إنّني لا أشكّك في أصل الجامعة أبداً، وكذلك لا أشكّك في أصل وجود أساتذة مؤمنين وطاهرين في زمن الطاغوت. حسنٌ، لقد كان هناك أشخاصٌ عرفناهم، أشخاصٌ مميّزون من أصحاب العفّة من بين هؤلاء، وكان الأمر كذلك بين الجامعيين ـ وبالطبع أقلّ ـ لكن ذلك البناء هو الذي قامت عليه الجامعة، لهذا أولئك الأساتذة المؤمنون لم يتمكّنوا من إحداث أيّ أثرٍ إلا في دوائر محدودة جدّاً، أمّا الحركة العامّة للجامعة فقد كانت حركةً خاطئة. وهناك مَن ما زال ينظر إلى تلك الظروف، ويتصوّر أنّ الذهاب إلى الجامعة يتلازم مع التحرّر واللامبالاة فيما يتعلّق بقضايا الدين والأخلاق والحجاب والطهارة والعفّة الدينية والأخلاقية. ليس لهذا الأمر أيّ واقعيّة وهو رأيٌ خاطئٌ تماماً. إنّ الجامعة هي محلّ المعنويّات، لأنّ العلم أمرٌ معنويّ. إن العلم ـ أيّ علمٍ كان ـ له قيمة معنوية وروحية. والبيئة الجامعية هي بيئة شبابية إيمانية. وفي هذا البلد إنّ أكثر الناس تديّناً هم من بين شبابنا، وإنّ أكثر الناس تضحيةً هم من بين شبابنا، وموجودون، لهذا لأيّ سببٍ تكون البيئة الشبابية لأهل العلم من الجامعيين
1- العهد القاجاري: سلالة تركمانية من الملوك حكموا إيران ما بين (1796و 1925م).
2- العهد البهلوي: عصر ما بعد القاجار، حكومة رضا خان بهلوى وابنه، وقد أطاح به الإمام الخميني وانتصرت الثورة.
299
253
في لقاء الجامعيين
بيئة غير دينية؟! كلا، إنّها بيئة دينيّة. وإنّني أتوقّع ممّن ينضمّ إلى الجامعة، فيما لو كان التزامه الدينيّ قبلها ضعيفاً، أن يقوى مع الدخول إلى الجامعة. لهذا فإنّ التوجّه إلى القيم والمعنويات والأخلاق هو أمرٌ معتبرٌ، مثلما أنّه كذلك في السياسة، فهو في العلم وفي جميع أمور الحياة. و التوجه إلى القيم لا يعني الشدّة.
فيما يتعلّق بشأن التوجّه إلى القيم، أعرض باختصار لنقطةٍ أو نقطتين. لا ينبغي أن يشتبه علينا الأمر بين التوجّه إلى القيم وبين الشدّة والعنف. فلا ينبغي أن نتصوّر أنّ كل من كان ذا نزعةٍ قيميَّة ينبغي أن يكون أكثر حدّةً وشجاراً. كلا، من الممكن أن يكون شديد التمسّك والتقيّد بالقيم والأصول في حين أنّه ليس شديداً وعنيفاً، في الآية الشريفة يقول تعالى، ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ﴾1 أشدّاء جمع شديد، والشديد هو الصلب الذي لا يمكن أن يُنفذ إليه، فكلّ جسمٍ يكون شديداً إذا احتكّ بجسمٍ آخر، فإنّه ينفذ فيه ويؤثّر فيه دون أن يتأثّر، فلنكن جميعاً كذلك أشدّاء. لكنّ الشدّة والتأثير ليسا بالضرورة بمعنى المشاجرة والحدّة والشدّة. قد تتغلّب العواطف على الإنسان أحياناً فيريد أن يقوم بعملٍ ما، وهذه المرحلة الشبابية هي مرحلة المشاعر والأحاسيس، ونحن قبل نحو ستين سنة قد تجاوزنا هذه المرحلة، كنّا شباباً في مرحلةٍ ما، شباباً مفعمين بالمشاعر، ونحن نعلم كيف تكون هذه المرحلة، فانظروا، إنّ بعض الأحاسيس والمشاعر تكون أحياناً مما ينبغي السيطرة عليه.
وبالطبع، إنّني هنا أوجّه شكراً إلى التشكيلات الجامعية. لقد توجّهت بالخطاب قبل سنةٍ أو سنتين إلى الجامعيين في هذه الجلسات نفسها، وقلت لماذا لا تتّخذون المواقف في القضايا الاجتماعية؟ ولماذا لا تشاركون فيها؟ وإنّني - لحسن الحظ - أرى أنّه خلال هاتين السنتين الأخيرتين أضحت المواقف في المسائل المختلفة وداخل محيط البيئة الجامعية والشباب الجامعيين بارزةً جداً. حسنٌ، هذا جيّدٌ، يستحق التقدير والشكر، مثلاً افرضوا أنّ قضية غزّة حدثت، وينهض مجموعة من الشباب الجامعيين ويقولون: انظروا ماذا يحدث، وهؤلاء الصهاينة الخبثاء ينهالون بالقصف على أبناء غزّة ويفعلون ويفعلون، فلنذهب ونلقّنهم درساً، فيتحرّكون إلى المطار! حسنٌ، هذه المشاعر هي مشاعر مقدّسة وطاهرة، وهناك من هو مثلي يجلس جانباً ويشاهد. إنّ المرء يريد في هذه الحالة أن يبذل روحه فداءً لهذه المشاعر، فكلّ هذا يُعدّ في الواقع مهماً، وما قاله الإمام: "إنّني أقبّل يد التعبويين وعضدهم"، محلّه هنا. عندما ينظر المرء إلى شابٍّ هنا يوجد في بيته مبرّد وبرّاد في حرّ الصيف وقيظه، أو في برد الشتاء لديه وسيلة للتدفئة فيذهب إلى الجامعة ويدرس وينجح، ثمّ بعدها تأتي قضية غزّة وكأنّها ستوصله إلى
1- الفتح، 29.
300
254
في لقاء الجامعيين
حالة الانفجار، فيقول: أريد أن أذهب إلى هناك. حسناً إنّ هذه المشاعر، مشاعر مهمة وقيّمة، لكنّ الذهاب خطأٌ. المشاعر جيّدة لكن هذه المشاعر لا ينبغي أن تؤدّي إلى أن نذهب مباشرةً إلى غزّة، إنّ الذهاب إلى غزّة لم يكن حينها ممكناً ولا جائزاً، ولو كان ممكناً لم يكن جائزاً. هنا سينشأ في ذهن هذا الشاب نوعٌ من التعارض بين التوجّه إلى القيم وبين الواقعيّة والأمر الذي نُقل الآن عن القيادة أنّه لا ينبغي الذهاب إلى غزةّ. كلا، لا يوجد أيّ تعارض، فذاك الإحساس هو إحساسٌ جيّد، ولكن اتّخاذ القرار على أساس إحساسٍ ما، دون أن يؤخذ فيه أي مطالعة دقيقة ودراسة معمّقة وعلميّة، فإنّه سيكون حتماً قراراً خاطئاً.
الحقيقة لا تتنافى مع المصلحة
لهذا، فإنّ التوجّه إلى القيم ليس بمعنى أن يكون الأمر في جميع المجالات عبارة عن التشتّت والعنف وعدم الالتفات إلى الوقائع الضرورية والمصالح المطلوبة، وقد أصبحت المصلحة لفظاً مبغوضاً. (أيّها السيّد ها هم ينزعون إلى المصلحة) حسناً، في الأساس يجب ملاحظة المصلحة، فلا ينبغي أن يُقال في أيّ وقتٍ من الأوقات إنّ الحقيقة تتنافى مع المصلحة دوماً، كلا، إنّ الحقيقة نفسها هي من المصالح، والمصلحة نفسها هي من الحقائق أيضاً، فيجب رعايتها، فلماذا لا ينبغي ذلك؟ يجب النظر إلى المصالح.
افرضوا أنّه بلحاظ موقف النظام من الحركة السياسية الفلانية للمعسكر الطاغوتيّ مثلاً، والمجموعات الاستبدادية الدكتاتورية، فمن المعلوم أنّنا نحن مخالفون ولا يمكن أن نتماهى أو ننسجم معهم أو نعينهم ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾1، ومن الواضح أنّ موقفنا بالنسبة لبعض الجهات السياسية الموجودة اليوم في العالم أو في المنطقة، هو موقفٌ واضح، أمّا هذا لا يعني بأيّ شكلٍ من الأشكال نفي العمل الدبلوماسي التقليدي المعمول به. فالتفتوا جيّداً إلى هذا الأمر. أي أنّ العمل الدبلوماسي ينبغي أن يُنجز في محلّه. غاية الأمر أنّ التوجّه هو التوجّه، مثلما أنّ أعداءنا يتصرّفون بهذه الطريقة، فأعداؤنا يُعملون عداءهم لكنّهم يمارسون المجاملات الدبلوماسية. وبالطبع، نحن لا ننخدع بمثل هذه المجاملة الدبلوماسية فنعرف ما يقف خلفها. لهذا، يجب الالتفات إلى معنى التوجّه نحو القيم وعمقه. فباختصار إنّ التوجّه إلى القيم والمبادئ يعني التمسّك بالقيم والأصول والمبادئ والحصانة أمام المخالفين والجبهة المعادية.
1- الممتحنة،4.
301
255
في لقاء الجامعيين
الجامعة وضرورة المشاركة المادّيّة والفكريّة
النقطة الثانية: إن الحضور المادّيّ والفكريّ في القضايا العامّة للبلد من جانب الفئة الجامعية يُعدّ ضرورياّ حتماً، فالمشاركة الفكرية ضرورية أيضاً من خلال هذه الوسائل، والتجمّعات الجامعية والتصريحات والمواقف التي تظهرونها هنا وهناك، وبعرض آرائكم على الأجهزة المعنيّة والوزارات ـ فإذا كنتم من أهل الاقتصاد تكون الأجهزة الاقتصادية، وإذا كنتم من أصحاب القضايا الثقافية فاكتبوا الرسائل للأجهزة الثقافية، واقترحوا واعرضوا آراءكم واتّخذوا المواقف ـ وكذلك الحضور والمشاركة المادّية ضرورية. أحياناً، يجب أن تشاركوا في تجمّعٍ ما، إنّني لا أعارض بأيّ شكلٍ من الأشكال ولا أرفض، بل أؤيّد بعض التجمّعات الجامعية التي تكون من أجل القضايا المختلفة، على سبيل المثال قضية البحرين أو غيرها. وبالطبع، إنّني مخالفٌ للتشتّت في هذه الجامعات والحدّيّة وأخالف أيّ عملٍ غير مدروس فيها، ولا أوافق - أنا العبد - على القرارات الخاطئة التي يمكن أن تُتّخذ من قبل بعض الأشخاص، والتي يمكن أن تكون ضمن أجواء المشاعر الجيّاشة مورد دعم جماعةٍ ما فجأةً.
فما هو سبيل ذلك؟ وكيف يمكن العمل؟ إنّني أظنّ لو أنّ للفئات الجامعيّة مراكز للقرارات والتحرّك بشأن القضايا الفكرية لكانت تلك التحرّكات مدروسةً أكثر. فافرضوا مثلاً بشأن القضية الفلانية التي ضربتُ عدّة أمثلة عليها الآن، ماذا يفعل الجامعيّون؟ حسنٌ، فلتجلس مجموعة من النخب وليفكّروا فيها بطريقة كجماعة نخبوية مسؤولة وفيما بعد يتّضح ويُحدّد بصورة متوافقة بين الفئة الجامعية، فلو قام شخصٌ بالإفراط والتعدّي عمّا اتُّخذ من قرار فإنّه لن يكون على علاقة بقرار الجامعيين والتيّار الجامعيّ.
حسنٌ، أنا العبد قد دوّنت هنا أنّه لا يوجد أي تعارض بين القيام بالواجبات التي يمليها عنفوان الشباب والتوجّه للقيم عند الإنسان وبين رعاية المصالح الإدارية للبلد والقانون ورعاية التدبير والدراية الإدارية هنا، فمن الممكن أن يكون قيميّاً (متوجّهاً إلى القيم) وملبّياً لعنفوان الشباب ويعمل طبق مقتضياتهما، وفي الوقت نفسه لا يكون هناك أي تعارض مع مصالح البلد والمصلحة الإدارية فيه. لهذا، برأيي أن ما يُنتظر ويُتوقّع من الفئة الجامعية ليس كثيراً، يمكن أن يكون هذا التوقّع من الجامعيين.
ولا تقفُ ما ليس لك به علم
حسنٌ، في قضية الأخلاق، أعرض لهذه النقطة ـ أردت أن أعرضها فيما بعد ولكن لأنّني خفت أن ينقضي الوقت قدّمتها، لأنّها من أكثر المسائل الأساسية ـ اجتناب القول من غير علم، واجتناب الغيبة والتّهمة. إنّني أرجو منكم أيّها الشباب الأعزّاء أن تولوا هذه القضية اهتماماً، كما أنّه في المجالات المختلفة لديكم اهتمامٌ بالطهارة العملية ـ
302
256
في لقاء الجامعيين
تهتمّون بالصلاة والصيام واجتناب الأخطاء الجنسية ـ فاهتمّوا بهذه القضية أيضاً. فلو أنّنا نسبنا إلى شخصٍ ما شيئاً ليس فيه فإنّ هذا يُعد تهمةً (بهتاناً)، لو أنّنا قلنا شيئاً عن غير علم - على سبيل المثال إشاعة ما، كأن ينقل أحدٌ عن شخصٍ ما كلاماً ونحن نقوم بنقله مرّةً أخرى ـ فهذا يُعدّ إعانة على الشائعة، وهي إشاعةٌ وقولٌ بغير علم، والكلام بغير علم يُعدّ بحدّ ذاته مشكلة، وكذلك العمل به فيه إشكال، ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾1، "ولا تقفُ" أي لا تتّبع ما ليس لك به علم، فالاتّباع يكون في مجال العمل وفي مجال القول. عندما تقولون شيئاً ليس لكم به علم فإنّ هذا يُعدّ اقتفاء أمرٍ ليس للإنسان به علم، لهذا يقول مباشرةً ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾2.
التنافس على المناصب أكبر المنزلقات
التنافس على المناصب والمواقع. حسنٌ، في عهدٍ ما كان الجامعيّون في التشكيلات الإسلامية والقيمية منعزلين، ولم تكن قضايا المناصب والمواقع وما فيها من لذائذ ومُتع مطروحةً، لكنّها الآن من الممكن أن تكون معروضة، لهذا التفتوا وانتبهوا، فإنّ من أكبر المزلّات التي نقع فيها نحن البشر هو التنافس على المناصب والمواقع والشأنية وأمثالها، والتي يمكن أن تصرع حتى الأشخاص المتمرّسين. بالطبع، إنّ عقيدتي هي أنّكم أيّها الشباب مثلما تتفوّقون في الطاقات الجسمانية علينا نحن الشيوخ، فأنتم أفضل منّا أيضاً في قوّة الإرادة والقدرة على ضبط النفس. لو أنّ الشابّ بذل الهمّة وكان لديه الدافع وأراد أن يعمل فإنّه يكون في المجالات المعنوية والروحية ومجاهدة النفس أفضل من الشيوخ والكهول والعجّز أمثالنا، وأكثر اقتداراً، فإذاً يمكنكم.
الجامعيّون في ميدان الحرب الناعمة
حسنٌ، إنّني الآن سأذكر جملةً فيما يتعلّق بقضية الحرب الناعمة. لقد دوّنت هنا شيئاً ما، لكنّني أرى أنّ الأذان قد اقترب ولا أريد أن يمرّ الوقت. لقد ذكرنا الضبّاط الشباب للحرب الناعمة. وعقيدتي هي ـ دون أيّة مجاملة ـ أنّكم في هذا الميدان ضبّاط، ولستم جنوداً من الصفر. أنتم شباب، وميدان جهادكم هو ميدان الحرب الناعمة. إنّنا اليوم - لحسن الحظ - لسنا في حربٍ عسكرية، ولو جاء وقتها فإنّ من يكون في الخطوط الأماميّة متقدّماً على غيره هم الشباب. وما هو مطروحٌ الآن هو الحرب الناعمة، وليس اليوم فقط، ولكن منذ ثلاثين سنة. ففي الحرب الناعمة ما ينبغي
1- الإسراء، 36.
2- الإسراء، 36.
303
257
في لقاء الجامعيين
الالتفات إليه هو أنّ هدف العدوّ في الحرب الناعمة وفي الحرب النفسية، حيث إنّ الحرب النفسية هي من فروع الحرب الناعمة، هو أن يبدّل حسابات الخصم. ليست الحرب الناعمة كالحرب العسكرية، ففي الحرب العسكرية يكون هدف العدوّ أن يأتي لإبادة وتدمير مواقع الطرف المقابل أو البلد الذي يهاجمه أو أن يحتلّ أرضه. وفي الحرب الاقتصادية يكون الهدف هو القضاء على البُنى الاقتصادية التحتية. وفي الحرب الناعمة لا يكون الهدف مثل هذه الأمور، تكون هذه الأشياء أحياناً وسيلةً من أجل تحقيق هدف الحرب الناعمة. في الحرب الناعمة يكون الهدف هو الشيء الموجود في قلوبكم وفي أذهانكم وفي عقولكم أي إرادتكم، أي إنّ العدوّ يريد تبديل إرادتكم.
هدف العدو تغيير حساباتنا
بالطبع، إنّ هذه ليست أسراراً مخفيّة. في البداية لم يكونوا يصرّحون بهذه الأمور، ولكنّ أعداءنا ومنذ مدّة ينطقون بهذه ويعلنونها. يقولون نريد أن يغيّر شعب إيران حساباته، هم يقولون المسؤولين، ولكن في الواقع نظرهم هو إلى شعب إيران. لقد اخترنا طريقاً من خلال حساباتٍ ما. فقد حدثت الثورة الإسلامية وأوجدت تحوّلات أساسيّة في هذا البلد وبدّلت الملكية إلى السيادة الشعبية، وبدّلت التبعية إلى الاستقلال، والتخلّف التاريخي المزمن إلى التطوّر، الذي تشاهدونه، والاستحقار إلى الثقة بالنفس والشعور بالعزّة، كانت هذه إنجازات الثورة. إنّ أعداءنا، أي ذلك الجهاز المادي المقتدر والذي كان إلى حين الثورة، مهيمناً على اقتصاد هذا البلد وسياسته وثقافته وثرواته وقرارات مسؤوليه أضحى منزعجاً، ويريد تبديل هذا الأمر، فماذا يفعل؟ بالنسبة له الطريق الوحيد ينحصر في أن يصل شعب إيران ومسؤولوه في النهاية إلى حسابات يشعرون معها أنّ الاستمرار على هذا الطريق لا ينفعهم. العدوّ يريد فرض هذه الحسابات على أذهانكم، يريد - لي ولكم - أن نصل إلى هذه النتيجة. ليس من المصلحة أن نصمد بقوّة ونقاوم مقابل أمريكا والاستكبار والأجهزة السياسية التابعة للكارتيلات الاقتصادية المتعدّدة، وأن نتخلّى عن بعض هذه الكلمات (المواقف) - كما قالوا - وكفى. في مرحلةٍ ما، هناك من قال دعوا قضية إسرائيل والقضية الفلسطينية، وقضية العدالة على المستوى العالمي، ودعم الشعوب التي تطالب بالعدالة، وتخلّوا عن كلّ هذه الكلمات، فلماذا تتعبون أنفسكم وتصرّون على ذلك؟ هذه هي عملية تغيير الحسابات، وهذا ما يريده العدوّ. وفي مقابل هذا إنّ ضبّاط الحرب الناعمة عليهم أن يقاوموا، فكيف يكون ذلك؟
304
258
في لقاء الجامعيين
المقاومة في الحرب الناعمة
أوّلاً، ارفعوا من مستوى معارفكم. أعزّائي، لا تجعلوا سقف معارفكم هو المواقع السياسية على الشبكة العنكبوتية، وأوراق الجرائد، والاستطلاعات في مواقع الإنترنت المختلفة، فليس هذا هو سقف معرفتكم. بالطبع، إنّني اليوم قد ابتهجت في الحقيقة من هذه الكلمات التي قيلت، هي كلماتٌ صحيحة وناضجة وتعابير في محلّها وترتيب الجمل صحيح، فهذا سارٌّ. وأريد أن أقول إنّه مهما أمكنكم اعملوا في هذا المجال، وارفعوا مستوى معارفكم. بالقرآن ومن خلال آثار المرحوم الشهيد مطهّري، وآثار الفضلاء الكبار الذين هم لحسن الحظ موجودون الآن في الحوزات العلمية. يوجد اليوم في الحوزات العلمية فضلاء شباب يمكنهم في هذا المجال أن يعينوا الفئات الشبابية الجامعية كما إنّهم يقومون بأعمالٍ جيّدة الآن. فارفعوا من مستوى معارفكم الدينية، فهذا من الأمور الضرورية حتماً، وبرأيي، إنّ العمل الذي من المهم إنجازه هو المطالعات والدراسات الإسلامية.
رعاية الإنصاف في النقد
الإشراف والتوجّه إلى أوضاع البلد. النظرة الفاحصة ومتابعة الواقعيات متلازمةً مع النقد. لقد قلتُ سابقاً لا إشكال في الانتقاد، فالنظرة الناقدة لا إشكال فيها، غاية الأمر أن تكون صحيحة ولا تخرج عن الإنصاف. يرى المرء أحياناً أنّ بعض الناس في انتقاداتهم يخرجون عن الإنصاف. حسنٌ، أنتم الآن في مرحلة الشباب، ومتشدّدون قليلاً، والمرء لا يتوقّع الكثير هنا، ولكن أولئك الذين ابيضّت لحاهم، يراهم المرء أحياناً يخرجون عن الإنصاف، وهم في بيانهم وحديثهم فيما يتعلّق بهذا أو ذاك لا يراعون، فالتفتوا إلى أن لا تقعوا في عدم الإنصاف، لهذا فإنّ النقد المستمر والإشراف الدائم والمتوازن على أوضاع البلاد وعلى الإدارات يُعدّ من الأعمال المطلوبة جدّاً. بالطبع، يجب أن يكون ذلك متلازماً مع العقلانية والمداراة دون إفراطٍ ودون حدّة وتشدّد ولكن بنظرةٍ نقّادة. وبرأيي إنّ هذا عملٌ ضروريٌّ آخر.
إنّ التواصل مع التشكيلات الجامعية في العالم الإسلاميّ يُعدّ أمراً مطلوباً، وقد اقترحه أحد الأصدقاء هنا، وأنا العبد أؤيّده. ويوجد اليوم في العالم الإسلامي وعلى هامش الصحوة الإسلامية مجموعات جامعية ـ بمعزلٍ عن كيفية تشكّلها وتنوّعها ـ وهي فعّالة ونشطة وكان هذا قبل ذلك أيضاً. وقد أدّى بعضهم في هذه الحركات أدواراً أساسية، وبرأيي تواصلوا وأقيموا العلاقات معها. ويجب على الأجهزة المختلفة في البلد أن تعينكم في هذا المجال، وبالطبع، إنّني سأوصي بذلك أيضاً. أحد الأصدقاء
305
259
في لقاء الجامعيين
ذكر أنّه قد مرّ نحو خمسة أشهر إلا أنّ المجلس الأعلى السايبري لم يقم بأي شيء. وأنا أقول إنّ هذه القضية ليست قضية أربعة أو خمسة أشهر، إنّ هذه القضية هي قضية سنوات، وهذا العمل الذي بدأنا به فإنّ ما أتوقّعه -أنا العبد- أنّنا سنرى نتائجه بعد نحو خمس سنوات، إن شاء الله. إنّ ما تتوقّعونه أن يرى المرء بعد خمسة أشهر أنّ قضايا السايبر (الإنترنت) في البلاد قد تمّ إصلاحها، ووُجدت شبكة الإنترنت الوطنية وغيرها، كلا، لا يمكن أن تؤتي أكلها بهذه السرعة، غاية الأمر أنّه يجب الاستفادة من هذه الإمكانات الموجودة.
أعزّائي، إنّ القضية العمدة هي الأمل. إنّني أقول لكم إنّ من أشدّ الأعمال التي تُطبّق علينا أنا وأنتم هي أن يميتوا فينا الأمل، فاسعوا إلى الحفاظ على حياة الأمل فيكم، ومهما أمكنكم احفظوا شعلة الأمل في قلوبكم وقلوب مخاطبيكم، فبالأمل يمكن التقدّم. والأمل هنا ليس في غير محلّه، إنّه الأمل الذي تمنحنا إيّاه الوقائع بشكل تام وصحيح.
اللهمّ، بمحمّد وآل محمد هبنا هدايتك وتفضّلاتك ولطفك وعونك نحن هذا الجمع، وجميع الجامعيين وكلّ الشعب الإيراني.
اللهمّ، اجعل كل ما ذكرناه وسمعناه لك وفي سبيلك، وبارك لنا في ذلك، واجعل حياتنا حياةً مرضيّةً عند وليّ العصر أرواحنا فداه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
306
260
في لقاء أساتذة الجامعات وعوائل شهداء الطاقة النوويّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء أساتذة الجامعات وعوائل شهداء الطاقة النوويّة
المناسبة: ذكرى شهادة أمير المؤمنين عليه السلام.
الحضور: أساتذة الجامعات، وعوائل شهداء الطاقة النوويّة.
المكان: طهران.
الزمان: 12/8/2012م (23 رمضان 1433هـ.).
307
261
في لقاء أساتذة الجامعات وعوائل شهداء الطاقة النوويّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نرحّب بكم كثيراً أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء. إنّ اجتماعنا مفيدٌ جداّ ومرضٍ. كما أنّ الجوّ عابقٌ بالمعنويات. ليلة أمس كانت آخر ليالي القدر، ارتفعت أيادي الاحتياج وجرّت الدموع ولانت القلوب وإن شاء الله حصل هذا البلد وشعبه المؤمن، وأنتم الأعزّاء الحاضرون هنا، على حظٍّ وافرٍ من الذخائر المعنوية.
أرى من اللازم أن أظهر احترامي لكم أيّها الأساتذة المحترمون لمقامكم العلميّ ولدوركم الذي تؤدّونه اليوم كأساتذة أعزّاء لنا في تطوّر البلد. ولقاؤنا هذا هو بالدرجة الأولى لقاءٌ رمزيّ لإظهار الاحترام لمقام العلم والعالم والأستاذ. بالطبع، سنستفيد حتماً من كلمات الأعزّاء وما قالوه، ونأمل أن يساهم في دفع عجلة اتّخاذ القرارات في هذا البلد، ويُستفاد منه ويُطبّق. النقاط التي ذُكرت كانت مبيّنة جداً، ولهذا أقدّم شكري، ولكن بالدرجة الأولى هدفنا هو احترام العلم واحترام العالم.
لقاؤنا اليوم أيضاً يشهد حضور عوائل شهداء العلم الأعزّاء، شهداء الطاقة النووية الذين أرحّب بهم، العوائل المحترمة للشهيد علي محمّدي والشهيد شهرياري، والشهيد رضائي نجاد، والشهيد أحمدي روشن، الذين لن تُمحى ذكراهم أبداً من ذاكرة هذا الشعب وذاكرة تاريخنا.
هواجسنا: العلم والصناعة والعلاقة بينهما
لقد كان في الكلمات التي أوردها الأعزّاء، إخوة وأخوات، نقاط جيدة جداً وقد دوّنت بعضها. والأساس الذي شاهدت الأصدقاء يشيرون إليه ويؤكّدون عليه هو بالدقّة ما يمثّل هواجسنا. وإنّني راضٍ، لأنّني أرى التيّار الفكري في جامعات البلد يتّجه نحو الهواجس الأساسية والأصولية. إنّ قضية التخطيط والإنفاق في مجال البحث والأعمال الأساسية والبنيوية، سواء في العلوم الإنسانية أم العلوم التجريبية، والتي أشار إليها عددٌ من الأصدقاء هنا، هي من هواجسنا ويجب أن تتحقّق. إنّ قضية الارتباط بين الصناعة والجامعة هي من توصياتنا. وقد ذُكرت نقاط جيّدة في هذا المجال. ومن الواضح أنّ هناك أعمالاً جيّدة قد أنجزت، فتشكيل مجموعة الصناعات الأساسية هذه، وتبيين قيمة العمل بما هو عمل، والتي بيّنها بعض الأصدقاء واقترحوها، هي نقاطٌ مطلوبة. ومن المطالب التي ذُكرت قضية المقالات العلمية وقضية مرجعية الـ1 (ISI) التي هي من أقوالنا ومن هواجسنا، وينبغي حتماً
1- (ISI): معهد المعلومات العلمية، ويتضمّن قائمة بأبرز الدوريات في المجلات العلميّة والفكريّة المحكّمة والمرموقة في العالم، وتتمتّع أبحاثها بمستوى من الشروط المعيارية بحيث يصطلح عليها "المقالات المحكّمة".
309
262
في لقاء أساتذة الجامعات وعوائل شهداء الطاقة النوويّة
أن يجلس المدراء والمخطّطون الأساسيّون للقضايا العلمية للبلد ويفكّروا حول هذه القضيّة ويجدوا طرقاً صحيحة ـ قد ذُكر بعضها هنا... وإنّ ضرورة المشاريع الإجرائية للأفكار الكبرى هي من جملة الأشياء التي أعتمد عليها أنا العبد. وما ذُكر هي أفكارٌ ممتازة، لكنّها في الغالب تحتاج إلى عرض مشاريع تنفيذيّة. ومن الأعمال التي ينبغي أن تُنجز في الجامعات هو هذا الأمر. فافرضوا مثلاً الاقتصاد الأخلاقي الذي تحدّث عنه أحد الأصدقاء ها هنا، إنّه ممتاز وهذا الفكر جيّدٌ جداً، وصحيحٌ للغاية، ولكن ما هي طرق تنفيذه وتطبيقه؟ أو على سبيل المثال، في مجال الارتباط بين الجامعة والصناعة والتي أعدّ حولها طيلة هذه السنوات أبحاثٌ متعدّدة، ولحسن الحظ أنّه في هذا المورد بالخصوص هناك إجراءات اتُّخذت، إلا أنّه في نفس الوقت يوجد نقائص. حسنٌ، ما هي الوسائل الإجرائية من أجل رفع هذه النقائص؟ هذا من جملة احتياجاتنا. إنّني أرجو من الأساتذة المحترمين وأصحاب الفكر أن يعملوا في هذا المجال.
على كلّ حال إنّني شاكرٌ للمطالب التي بيّنها الأصدقاء. وأشكر من أعماق قلبي إدارة الدكتور رهبر ـ والتي هي بحسب العادة إدارة قديرة ـ فقد أتعب نفسه. وإنّني أطلب من أصدقائنا، سواء في المكتب أم في الوزارات، أي وزارة العلوم ووزارة الصحّة، وكذلك وزارة المعاونية المحترمة لرئيس الجمهورية، وكذلك من أصدقائنا في الممثلية أن يعملوا على هذه المطالب التي بيّنها الأساتذة المحترمون هنا، وأن يجلسوا ويفكّروا ويبوّبوا كي تتمّ الاستفادة من هذا اللقاء، على صعيد التحرّك التقدّمي، استفادةً كاملة.
العالم في طور التحوّل
ما أريد أن أذكره هنا ـ بالطبع إن كان هناك فرصة إن شاء الله لأتمكّن من ذكر كل ما هو في بالي ـ هو أنّه لا يمكن لأحدٍ اليوم أن ينكر أنّ العالم في طور العبور إلى مرحلةٍ جديدة، وهذا ما تشاهدونه اليوم، وسوف أبيّن صورة مختصرة، وأطرح بعدها سؤالاً، لأذكر من ثمّ ثلاث توصيات فيما يتعلّق بالجامعات.
إنّ العالم اليوم في طور التحوّل، فأوضاع العالم في حالة تبدُّل إلى شكل جديد وهندسة جديدة. لو أردنا أن نجد نظيراً لأوضاع العالم اليوم في الماضي القريب ـ أي منذ نحو قرنين ـ لوجدنا أنّها تشبه أوضاع العالم بعد الحرب العالمية الأولى، إلا أنّها هنا في الاتّجاه المعاكس لها. ففي ذلك الوقت، كانت الهندسة السياسية والاقتصادية للعالم قد تبدّلت تبدّلاً أساسيّاً وبنيويّاً، أو قبل ذلك، أي في العصر الذي بدأ فيه الأوروبيون عصر الاستعمار، لقد عاش العالم وضعاً جديداً وتبدّل الوضع العام للعالم، والتحوّلات
310
263
في لقاء أساتذة الجامعات وعوائل شهداء الطاقة النوويّة
التي تُشاهد اليوم هي من قبيل تغيير الوضع العام للعالم، إلا أنّه بالطبع في الاتّجاه المعاكس للمثالين الذين ذكرتهما، في اتّجاه تبادل القدرة والإمكانات العامّة بين الشرق والغرب، أو بين قسمٍ من شعوب العالم مع قسمٍ آخر، فمن الواضح أنّنا نتّجه نحو تحوّلاتٍ جديدة، فما هي الأمور التي تشكّل شواهد وعلائم على هذا التحوّل؟ إنّني سأعرض لعدّة أمثلة.
مؤشِّرات التحوّل
أ- الصحوة الإسلاميّة
أحدها: الصحوة الإسلامية. نحن طوال تاريخنا لم يكن لنا هذا الوضع في الدول الإسلامية، فالشعور بالهوية والصحوة الذي ينشأ من الإسلام لم يكن لنا في الماضي أبداً، ليس في شعبٍ واحد، بل في العديد من الدول الإسلامية، فإنّ هذا من مختصّات يومنا، وهذا مؤشّرٌ للتحوّل. ولأنّ المسلمين يمثّلون مليار ونصف المليار من سكّان العالم وهناك عشرات الدول التي فيها الأكثرية المسلمة، وهي دولٌ تقع في مناطق حسّاسة، فإنّ هذه الصحوة ليست أمراً عادياً، بل هي مؤشّرٌ على تحوّلٍ في البناء والخريطة، وهي هندسة جديدة للعالم.
ب- وثبة الغرب الفاشلة
ومؤشّرٌ آخر هو التوثّب الفاشل للغرب بقيادة أمريكا ـ الذي لم يكن وثبة ـ من أجل الهيمنة مهما أمكن على منطقتنا. لقد قاموا بوثبة ولم تكن موفّقة، لم تكن قضية العراق أو قضية أفغانستان قضايا دفعية، ولم تكن أحداثاً وقعت نتيجة قرارٍ دفعيٍّ فوريّ، بل كان يُخطّط لها تخطيطاً كاملاً، وكان الهدف هو الهيمنة التامّة للغرب، بقيادة أمريكا، على المنطقة كلّها.
وبالطبع، إنّني أصرّ على أن أطلق على هذه المنطقة "غرب آسيا"، لا "الشرق الأوسط"، فمصطلح "الشرق الأقصى" و"الشرق الأدنى" و"الشرق الأوسط"، كلّها مصطلحات غير صحيحة، فبعيدٌ عن ماذا؟ عن أوروبا، وقريبٌ من ماذا؟ من أوروبا، أي إنّ مركز العالم هو أوروبا. وكلّ ما كان بعيداً عن أوروبا يسمّونه "الشرق الأقصى"، وكلّ ما كان قريباً يسمّونه "الشرق الأدنى"، وكل ما كان في الوسط يسمّونه "الشرق الأوسط"! إنّ هذه التعريفات وضعها الأوروبيون أنفسهم، كلا، نحن لا نقبل بهذا، فآسيا هي قارّة لها شرقٌ وغربٌ ووسط، ونحن واقعون في غرب آسيا. لهذا، فإنّ منطقتنا تُدعى منطقة غرب آسيا، لا منطقة الشرق الأوسط.
311
264
في لقاء أساتذة الجامعات وعوائل شهداء الطاقة النوويّة
ج- المنطقة الحسّاسة وفقدان السيطرة
المؤشّر الآخر هو الهيمنة الكاملة على هذه المنطقة الحسّاسة. لماذا هي منطقة حسّاسة؟ أوّلاً، لأنّه يوجد في هذه المنطقة مصادر غنيّة جداً وثروات، وهي ثروات يحتاجها الغرب، وهي بالدرجة الأولى ثروات أو مصادر الطاقة. ثانياً، يوجد هنا أمواجٌ إسلاميّة هي في حالة ترقّبٍ دائم ومتوقّعة خصوصاً بعد انبعاث الثورة الإسلامية ونظام الجمهورية الإسلامية، لقد كانوا ينتظرون دوماً وفي الخفاء كي يسيطروا على هذه الموجة، لهذا فإنّ الهيمنة المتزامنة على الثروات الغنية والموجة الإسلامية، جعلتهم يقومون بهذه الوثبة والحركة كي يسيطروا على هذه المنطقة، لكنّهم علقوا في وسط الطريق، كالذي يقفز من أجل أن يعبر قناةً ما، لكنّ قدرته لا توصله فيقع في الوسط، وقد حدث مثل هذا، وهذا بنفسه من علامات التحوّل.
د- حوادث أوروبا ومستقبلها الغامض
ومن المؤشرات الأخرى، حوادث أوروبا اليوم، هذا المستقبل الغامض، الذي يلقي بظلاله على بلدان أوروبا الغنية، دول غرب أوروبا، هي حوادث بالغة الأهمية. وهذه القضايا الاقتصادية لا ربط لها أيضاً بالأخطاء التكتيكية والاستراتيجية لنقول: "إنّ تكتيك الشخص الفلاني خاطئ في المكان الفلاني، فوقعوا في هذه المخمصة، أو إنّ الشخص الفلاني رؤيته غير صائبة، فابتلوا بهذه الشدة"، لا، ليست القضية على هذا النحو، فالقضية بنائية، هناك أخطاء بنيوية، وما يحدث اليوم ناشئ من الخطأ في الرؤية الفلسفية والبنيوية ونظرة الغرب إلى الإنسان والعالم، إنه خطأ في الرؤية الكونية. من الطبيعي، فإن هكذا أخطاء ليست كالأخطاء التكتيكية التي تظهر تأثيراتها بسرعة، وليست كالأخطاء الاستراتيجية. تأثيرها متوسط المدى، آثار هذه الأخطاء بعيدة المدى، وتظهر نفسها بعد قرنين أو ثلاثة، واعلموا أنها سترديها أرضاً.
هـ- أفول نجم أمريكا
ومن المؤشّرات الأخرى لِهذا التحوّل الأساسي الذي يشعر به المرء على مستوى خريطة العالم هو أفول نجم أمريكا. فقد عاشت أمريكا ولعدّة عقود هذه الأبّهة كقوّة أولى في الثروة والعلم والتكنولوجيا والعسكر في العالم، وكانت هذه الأبّهة سبباً لحصولها على النفوذ، وقد بلغت هذه الأبّهة أوجها في العقود الأولى للنصف الثاني من القرن العشرين، وقد كان الأمر هكذا في إيراننا. فحكومة وطنية كحكومة مصدّق كانت تفرّ
312
265
في لقاء أساتذة الجامعات وعوائل شهداء الطاقة النوويّة
من تحت هيمنة الإنكليز إلى أمريكا، كان هذا عبارة عن هيبة، وقد كان الأمر كذلك في كلّ العالم. إنّ هذه الهيبة قد زالت اليوم زوالاً كاملاً، أي أنّ أمريكا اليوم تُعتبر متّهمة على مستوى العالم، وليس لدولة أمريكا في أيّ بلدٍ وبين أيّ شعبٍ حالة الأبّهة العامّة، وإنّ "الموت لأمريكا" لم يعد من الشعارات الخاصّة بشعب إيران، وإنّما أصبح يرتفع في العديد من الدول. وقد صار نصرة الظلم والحرب وترسانة الأسلحة والهيمنة على الشعوب والتسلّط والتدخّل في كلّ مكان عنواناً لها، فهذا من العلائم، لهذا فإنّ التحوّل على مستوى العالم هو أمرٌ قطعيّ.
ويوجد علائم أخرى أيضاً، أكتفي الآن بهذا المقدار الذي ذُكر. هذه نقطةٌ.
موقعيّة إيران الاستثنائيّة
النقطة الثانية، هي أنّه لا يمكن أن نجد منكِراً للتحوّل الذي يجري في بلدنا، ولهذا الحدث، ولهذه القصة الطويلة موقعها الخاص. فنحن في هذه القضية لسنا متفرّجين ولسنا عنصراً هامشياً، بل لبلدنا موقعية استثنائية. فما هو منشأ هذه الموقعية الاستثنائية؟
إيران مهد الصحوة
أولاً، لأن الصحوة الإسلامية قد بدأت من هنا. فالكلّ يقولون هذا، والجميع يدرك ويعلم. إنّ ما نطلق عليه اليوم عنوان الصحوة الإسلامية قد بدأ في هذا البلد منذ أكثر من ثلاثين سنة، وقد حمل معه تضحياته وجهاده ووصل إلى مقاصده وأهدافه السامية، وهو تشكيل النظام الإسلامي.
أركان النظام محكمة
ثانياً، إنّ نظام الجمهورية الإسلامية في بلدنا قد بُني على أساسٍ محكمٍ، أركانه عبارة عن الاعتقاد والإيمان والعقل والعاطفة. ففي بنية هذا النظام المحكم، فإنّ لعقائد وإيمان الشعب والمسؤولين حصّة، وكذلك للعقلانية ـ إذا وُجدت الفرصة إن شاء الله سأشير إلى بعض جوانب هذه العقلانية والعواطف. لقد وُجد مثل هذا البناء المحكم الذي لا أرى نظيراً له الآن على مستوى العالم، نظامٌ يعتمد على إيمان الشعب في الوقت الذي يعتمد فيه أيضاً على المباني الاعتقادية والعقلانية والعواطف الشديدة.
313
266
في لقاء أساتذة الجامعات وعوائل شهداء الطاقة النوويّة
غنى النظام والثورة (مادّيّاً وبشريّاً)
ثالثاً، إنّ قسماً كبيراً من هذه الثروة، التي قلت إنّ الغرب يتطلّع إليها، وهو يعيش عليها منذ مئة عام ـ أي الطاقة والنفط والغاز ـ موجودٌ في أرضنا. لقد ذكرت في وقتٍ ما قبل عدّة سنوات وفي لقاءٍ مفصّل، في هذه الحسينية، بالإحصاءات والجزئيات أنّنا نمثّل تقريباً الـ 1% من سكّان العالم، ولكننا نمتلك أكثر من 1% من الثروات الطبيعية الأساسية التي تمثّل حاجة حالية لحياة البشر اليوم. لندع النفط جانباً، ففي مجال المعادن الأساسية لدينا 2% و3% و5% و7%، بالإضافة إلى هذا فإنّ ذخائر الطاقات البشرية عندنا والإمكانات هي أكثر من هذا. في بلدنا يوجد استعدادٌ عال، وهو أعلى من المعدّل العام في العالم. إذاً نحن بلدٌ لديه هذه الثروة الطبيعية والبشرية وهي أيضاً مورد احتياج الغرب. أنتم ترون الآن أنّهم يبحثون عن شبابنا أصحاب الاستعدادات ويسعون نحو نخبنا، إنّهم يلاحقون كلّ واحدٍ من أساتذتنا وجامعيينا ونخبنا، يتعرّفون إليهم ويسعون للحصول عليهم. إنّنا مبتلون بنقاط ضعفٍ، وهم يستغلّون هذه النقاط وينجحون. على كلّ حال، هذا دليلٌ على وجود هذه الثروة هنا، وأيضاً دليل من جهة أخرى، على حساسية وخصوصية موقع بلدنا في هذه التحوّلات العالمية.
رسالة الثورة: الحياة الممتزجة بالدين والمعنويّات
رابعاً، في مقابل عقم الغرب في استخراج وتوليد الأفكار الجديدة ـ حيث إنّه بعد النزعة الإنسانية، والمدارس التي نشأت منها والفلسفات الوليدة، والناشئة من النّزعة الإنسانية الغربية، لم يقدّم الغرب أيّ إنتاجٍ فكري أو فكرٍ جديد للبشرية والحياة الإنسانية ـ فإنّ الجمهورية الإسلامية لديها إنتاجٌ فكريّ، إنّ لدينا كلاماً جديداً فيما يتعلّق بالقضايا الروحية للإنسان وقضاياه الاجتماعية وقضايا الحكومة، إلا أنّ الكلام الجديد إذا قيل، لا يعني أنّه سيقبل به كل العالم، بل معناه أنّه يوجد تيّارٌ جديدٌ وسط هذه البحيرة الفكرية البشرية العظيمة يلقي بأمواجه. نحن اليوم على صعيد القضايا السياسية نقدّم السيادة الشعبية الدينية1، وعلى صعيد القضايا الاجتماعية العامّة نعرض ابتناء الحضارة على المعنويات، وفي المجالات المختلفة نعرض كرامة الإنسان وامتزاج الدين والحياة، فهذه كلماتٌ جديدة ولم تكن في العالم من قبل، حتى قبل عصر المادّيّة والنزعة الإنسانية الغربية وهيمنة الأفكار العلمانيّة، لم يكن الأمر بحيث يكون الدين متوائماً ومتلازماً مع الحياة أبداً، أجل، كان لرجال الدين في بعض مناطق العالم حكومة هي حكومة الكنيسة، وكانت هناك حربٌ بين أجهزة الكنيسة والحكومات
1- راجع حاشية الصفحة 117.
314
267
في لقاء أساتذة الجامعات وعوائل شهداء الطاقة النوويّة
مع هذا التاريخ المعقّد والطويل لأوروبا، ولكن على كلّ حال كان لأجهزة الكنيسة حكومة، لكنّ هذا لا يعني أنّ حياة الناس كانت ممتزجة بالدين، وأنّ الدين كان منشأ المقرّرات والقوانين بالنسبة لحياة الناس، فلم يحدث مثل هذا الأمر أبداً في الغرب، وكذلك لم يحدث مثل هذا الأمر في البلاد الإسلامية أبداً إلا في صدر الإسلام. إنّ هذا كلامٌ جديد، إنّنا اليوم نعرض ونقول: إنّ الدين والحياة أمرٌ واحد، فما هي الحياة؟ الحياة هي السياسة والفعالية والتجارة والاقتصاد وكل شيء، إنّ هذا كلامٌ جديدٌ يُعرض الآن.
رفض أساليب الغرب القبيحة
خامساً، بشأن تمتّع البلد بموقعيّة خاصّة، وتمرّده على الأساليب والمناهج المعتمدة في الغرب على مستوى التقدّم بعمله. فطيلة هذا العصر الذي تسلّط الغرب فيه سياسياً على العالم طُبّقت أساليب متداولة، ولقد لاحظتم هذه المناهج عدّة مرّات، يهدّدون، ويُشعلون الحروب ويستخدمون الإرهاب والمجازر والإغراء والتفرقة، فهذه هي الأساليب المعروفة للغرب، طيلة عصر سيادة المئتي سنة عنده. إنّ دولة إيران ونظام الجمهورية الإسلامية وشعب إيران ونخبها قد رفضوا بشدّة هذه الأساليب، فلم يؤثّر فيهم التهديد ولا التفرقة ـ وهي قضية في غاية الأهمية ـ ولم يتمكّنوا من التغلّب على الحركة العامّة لشعب إيران. حسنٌ، إنّ هذه موقعية خاصّة لدولتنا.
إيران في قلب التحوّل الجديد
لهذا، إنّ وضع العالم في حال تحوّل لا يمكن إنكاره، كما أنّ الموقعية الاستثنائية للبلد غير قابلة للإنكار. هنا يُطرح سؤال، والسؤال هو هل أنّ جامعات البلد ـ وبالطبع الحوزة العلمية أيضاً ـ يقع على عاتقها مسؤولية ما، قبال هذه الأحداث التي تجري في العالم، أم لا؟ إنّني أريد أن تلتفوا أيّها الأساتذة المحترمون والعلماء المحترمون والنخبة الكبيرة لهذا البلد إلى هذا الأمر، فهل يمكن في ظروف في مثل هذه الأهمية والحساسية أن لا تكتشف الجامعة أو الحوزة مسؤوليتها وتحدّدها، وتكتفي بالتفرّج؟! فماذا لو أرادت -لا سمح الله- أن تؤدّي دور دعم الجبهة المقابلة لجبهة الحق؟!
الحوزة والجامعة مسؤوليّة ثقيلة
إنّ ما يبدو لي ضرورياً هو أنّ على جامعات البلد وحوزاته العلمية في مثل هذه الظروف مسؤولية ثقيلة. وإنّ أساس نجاح شعب إيران ودولتها في هذا المقطع الحسّاس جداً والتاريخيّ للغاية، يقع على عاتق العلماء بالدرجة الأولى، وإذا لم نقل بالدرجة الأولى، فباليقين، إنّ من عناصر الدرجة الأولى والصفّ الأول في التأثير في هذه التحوّلات،
315
268
في لقاء أساتذة الجامعات وعوائل شهداء الطاقة النوويّة
هي الجامعات، فالجامعة يمكنها أن تقوم بعملٍ يجعل دولتنا وشعبنا وتاريخنا فائزاً في هذا التحوّل، ويمكن - لا سمح الله - أن تقوم بعملٍ يؤدّي إلى العكس. برأيي، يقع على عاتق الجامعة في هذا المجال مسؤولية حسّاسة جداً وكبيرة.
لقد بيّن الأصدقاء اليوم، في خطبهم وكلماتهم، أعمالاً مهمّة جدّاً وضروريّة. وبالطبع، كان هناك تطوّرات مهمّة. وقد ذكر الأصدقاء نقاطاً إيجابية وكان هناك نقاط سلبيّة، لم يُبحث فيها، وقد اكتفت الكلمات بالإشارة إليها في الأغلب.
دور الجامعة الكبير
لدينا سلبيّات، سواء على مستوى الإدارات العلميّة أم في مجال التخطيط المتنوع على أساس العلم والمعرفة التي تنتجها الجامعة على مستوى البلد وعلى مستوى المجتمع، فيجب إزالة هذه السلبيات. إنّ المرجع في هذا العمل هو الجامعة نفسها، الجامعة نفسها من يمكنه أن يؤثّر هنا.
إنّ مسؤولي البلد اليوم وزراءً ومسؤولين تنفيذيين، والكثير من المسؤولين غير التنفيذيين في مجال التشريع والقضاء، هم خرّيجو الجامعات، وأعضاؤها وأعضاء الهيئات العلمية فيها، فالعلاقات الذكية والموجّهة والهادفة يمكنها أن تساهم في جعل الذخيرة العلمية المتخصّصة في البلد في خدمة تصحيح وتصويب الأعمال وإزالة المشكلات، هذا هو تكليف الجامعات من جهة، وتكليف المسؤولين والمدراء من جهة أخرى، وأنا هنا في محضركم أنتم الجامعيين، وللمدراء محضرٌ آخر، وسوف أتطرّق إلى حصّتهم ودورهم حينها، وإن شاء الله يكون لذلك أثر.
مغالطة حياديّة العلم
من الممكن هنا أن تنشأ شبهة ـ قد تُطرح بعض الشبهات والمغالطات ـ هي مغالطة حيادية العلم، فيُقال: أيّها السادة، لا تخلطوا بين العلم والسياسة، فالعلم! في مرحلة كشف الحقائق حياديّ، إنّ العلم عندما يريد أن يكتشف حقيقةً من حقائق عالم الوجود - سواء أكانت مادّية أم غير مادّية -، فإنّه لا يمكنه أن يفعل ذلك بالأحكام المسبقة، بل عليه أن يذهب ويكشف، وهنا يكون العلم حيادياً. ولكن عندما يُراد للعلم أن يكون في خدمة توجّهٍ ما، لا يمكن أن يكون حيادياً بأي شكل من الأشكال. وفي يومنا هذا، الأمر في العالم ليس كذلك. أولئك الذين قد يصيحون بوجه الجمهورية الإسلامية والفئة المتديّنة في الجامعات، قائلين إنّكم سيّستم العلم، ووجّهتموه، هؤلاء هم الذين جعلوا العلم لمصلحة الاستعمار، وفي خدمة الهيمنة على الشعوب، وفي خدمة تكبيل
316
269
في لقاء أساتذة الجامعات وعوائل شهداء الطاقة النوويّة
الدول، لقد حصل الاستعمار بواسطة العلم، ولو لم يكن هناك علم لما استطاعوا أن يستعمروا كل هذه الدول، ولما استطاعوا أن يشكّلوا تلك الترسانة الكبيرة من الأسلحة، كلّ هذا العدد الكبير من الحروب التي افتعلها الغربيون والأوروبيون ومن بعدهم أمريكا في هذا العالم وفرضوها على الشعوب، وكل هؤلاء البشر الذين قُتلوا في هذا المسار، بدءاً من المناطق البعيدة في آسيا، مروراً بأفريقيا وحتى أمريكا اللاتينية ـ ما كان ذنب هؤلاء؟ ـ قد ارتُكبت بواسطة العلم. لقد جعلوا العلم في خدمة الظلم وفي خدمة الاستكبار وفي خدمة التسلّط والهيمنة، فلماذا لم يجعلوه في خدمة العدالة؟ ولماذا لم يجعلوه في خدمة القيم؟ ولماذا لا يكون في خدمة نشر رسالة الإسلام التي هي رسالة حرّية البشر وسعادتهم؟
مغالطة التقسيم الحكومي وغيره
مغالطة أخرى ـ وأنا لا أريد الآن أن أفصّل كثيراً ـ هي تقسيم الجهاز العلمي للبلد إلى حكوميّ وغير حكوميّ، فيكون التشكيل الحكوميّ والجامعيّ الحكوميّ والأستاذ الحكوميّ مورداً للذم! يرى المرء كيف يطرح الآخرون مثل هذا الأمر وكيف ينعكس في الداخل أيضاً. إنّني أعتقد أنّ هذا ليس ذماً بل فخر، إنّ الجامعيّ الذي يدافع عن حكومته ونظامه ـ الذي هو نظامٌ إلهي وإسلامي ـ والتشكيلات التي تساعد هذا النظام، والأستاذ الذي يقدّم العون كركيزة فكرية لهذا النظام الإسلامي، يجب أن يفتخر. إنّ ما هو ذمٌّ في الواقع هو أن يصبح أستاذنا وطالبنا الجامعي في خدمة أمريكا وفي خدمة الصهيونية، هذا هو العار. أجل، لو اتُّهم أحدٌ بأنّه في خدمة أمريكا والصهيونية ومخالفي استقلال البلد وعزّته فهذا في الواقع عارٌ وهو ذمٌّ. أن يُقال إنّ فلاناً الجامعيّ حكومي، وفلاناً الأستاذ حكوميّ، والتشكيل الفلاني حكوميّ، ليس ذمّاً بأي شكل وليس سيئاً أبداً، بل ينبغي أن يُفتخر به. حكومي يعني أنه مرتبطٌ بالنظام.
توسعة ثقافة المعنويّات
يجب توسعة ثقافة السعي والجهاد من أجل جبهة الحق في الجامعات، فمن المطالب التي ذكرها الإخوة هذا الأمر. إنّ ثقافة المعنويات والأخلاق - أو ما بيّنه أحد السادة - الفنّ بمعنى الحرّية والعزّة والقيم، هو صحيحٌ تماماً. يجب توسعة هذه الثقافة في الجامعة. وفي هذا المجال، إنّ دور الأساتذة دورٌ عظيمٌ جدّاً، وهذه هي قيادة الحرب الناعمة التي عرضتها تكراراً، وقلت: إنّ أساتذتنا هم قادة الحرب الناعمة.
317
270
في لقاء أساتذة الجامعات وعوائل شهداء الطاقة النوويّة
نظام الابتكار الوطني
وصيّتي الأخيرة ـ يظهر أنه قد مرّ وقتٌ كثير ـ هي وصيّة إلى نظام الابتكار الوطني. يوجد الآن فراغٌ ـ وهذا الفراغ أدّى إلى أن لا تتحوّل الخطّة العلمية الجامعة إلى المنحى التنفيذي كما ينبغي ـ فراغ في نظام الابتكار الوطني، الذي هو عبارة عن شبكة من الأنشطة والروابط والمعاملات المتسلسلة في المستويات العامّة والمتوسّطة والجزئية بين الأجهزة العلمية للبلد، سواء في داخل محيط البيئة العلمية أم في خارجها. يجب إيجاد مثل هذه العلاقات والروابط والمعاملات، بحيث يُعرف ذلك بعنوان نظام الابتكار الوطني، وعمله عبارة عن إدارة تيّار العلم والابتكار والرصد والتقييم والتوجيه. إنّ هذا أمرٌ مطلوبٌ اليوم، وبرأيي على المسؤولين والمدراء أن يفكّروا بشأن هذه القضية.
اللهمّ، اجعل كل ما سمعناه وقلناه لك وفي سبيلك.
اللهمّ، أعن كلّ واحدٍ منّا بحسب قدرته وموقعيتّه ودوره الذي يمكن أن يؤدّيه لنصرة جبهة الحق على جبهة الباطل.
اللهمّ، ارضِ عنّا قلب وليّ العصر المقدّس وروح خاتم الأنبياء المطهّر عن شعبنا وأمّتنا وعلمائنا ومجاهدينا في هذا الطريق.
اللهمّ، احشر الأرواح المطهّرة لشهدائنا الأعزّاء، شهداء العلم وشهداء الطاقة النووية، مع أوليائك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
318
271
في لقاء جمعٍ من الأسرى المحرّرين
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء جمعٍ من الأسرى المحرّرين
المناسبة: لقاء الأسرى المحرّرين.
الحضور: جمعٌ من الأسرى المحرّرين.
المكان: طهران.
الزمان: 15/8/2012م.
319
272
في لقاء جمعٍ من الأسرى المحرّرين
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أرحّب بكم أيّها الإخوة الأعزّاء، يا من كنتم جواهر مسترجعة من ذخيرة الإيمان في الجمهورية الإسلامية. على مرّ القرون يتبدّل عنصرٌ جامدٌ لا قيمة له إلى الألماس، وهذا إن كان فيه هذا الاستعداد إلى التحوّل. إنّ مرحلة الأسر هي تقصير للقرون التي تبدّل كلّ إنسانٍ مستعدّ إلى الماسات البرّاقة: الأسرى المحرّرين.
إنّني مسرورٌ من لقاء اليوم، وآسف لقلّة التوفيق لملاقاتكم أيّها الأعزّاء الأسرى المحرّرون في لقاءاتٍ مشابهة. وإنّني أودّ أن أنقل سلامي عبركم في هذه الجلسة المعنوية والحميمة والأخويّة إلى جميع المحرّرين في هذا البلد والذين يبلغ عددهم ما يقارب 40 ألفاً من المحرّرين ذوي الشأن، والذين عبروا جسر الآلام وتربّوا في مرحلة المحنة.
إنّ قضية الأسر يمكن النظر إليها من أبعادٍ مختلفة. أحد هذه الأبعاد هو تلك الذكريات القيّمة التي بيّنتموها أيّها الأصدقاء. بالطبع، أنا العبد طالعت عدداً من الكتب المتعلّقة بذكريات الأسرى المحرّرين، وكذلك ما يرتبط بسيّدنا العزيز الجليل، سيّد المحرّرين المرحوم أبو ترابي، ويمكن أن يتفطن الإنسان من خلال ما كُتب وأُلّف حول مرحلة الأسر، أنّ ذلك يُعدّ فصلاً صغيراً من قصّةٍ طويلة، ونحن لا نزال بحاجة لسماع هذه القصّة الطويلة.
معنويّات لا مثيل لها
إنّني أقول هنا، وللإنصاف، إنّ طيلة هذه السنوات الـ 22، منذ رجوع أسرانا الأعزّاء ومحرّرينا الشامخين، أُنجز القليل من العمل، وكان علينا أن نعدّ من الكتب ما يعادل عدّة مرّات ما كُتب إلى الآن في هذا الخصوص، ويجب أن يكون لدينا أفلام فنّية راقية حول وضع محرّرينا في المخيّمات والسجون، أنتم ترون كم أنتج الغربيون ومؤسسات الإنتاج السينمائي الكبرى من أفلامٍ حول أحداث الأسر التي وقعت في الحرب العالمية الثانية أو الأولى، أفلامٌ جيّدة وراقية، في حين أنّ ما هو موجودٌ في تلك الأفلام يبيّن الروحيّة المادّية لأولئك الأسرى الذين اعتُقلوا والتي تظهر في حياتهم ويوميّاتهم وكلماتهم ومعاملاتهم.
كذلك، كنت قد سمعت أنّ وكيل الصليب الأحمر كان يقول لأسرانا في تلك الحالة إنّنا عندما نذهب إلى مخيّمات أسرى الحرب في البلاد الأخرى
321
273
في لقاء جمعٍ من الأسرى المحرّرين
نشاهد اليأس والإحباط والكآبة والانتحار وأمثالها، فلماذا لا يوجد عندكم مثل هذه الأمور؟ كان عليه أن يطرح هذا السؤال. وجوابه معلومٌ: عندما لا يكون القلب مرتبطاً بالمعنويات وبالله تعالى تكون نتيجته هي تلك الأمور، وعندما يرتبط القلب بالله، ويشعر بهذه الرابطة وبالثقة ولا يرى نفسه وحيداً، وعندما يشاهد نفسه داخل السجون الضيّقة والمهولة الجنّة المعنويّة ـ كما جاء ذلك في كلمات هؤلاء الأعزّاء وفي مذكراتهم التي كتبوها ـ فلا مكان هنا للإحباط واليأس والانتحار. وهذا جانبٌ من القضية التي يجب علينا أن نطّلع على كلّ ذرّة من بحرها العميق والواسع ـ والذي هو عبارة عن حياة الأسرى ـ ونحن لسنا مطّلعين.
الكتابة وصناعة السينما في قضيّة الأسرى
يجب إنتاج أفلامٍ جيّدة، ويجب أن تؤلّف الكتب الجيّدة، ويجب أن تُحكى الذكريات، هذه الذكريات نفسها التي قيلت اليوم فيها عالمٌ من الكلام، وكم هو جميلٌ أن تُذاع وتُنشر. برأيي هو أن تُذاع هذه الذكريات - التي قيلت اليوم - كما هي في الإذاعة والتلفزيون لكي يستمع الناس، فهذه ذخائرنا وكنوزنا، هي تلك الثروات نفسها التي حفظت الإسلام والشيعة، وأوصلت الجمهورية الإسلامية إلى القدرة والعزّة، وجعلت شعب إيران مرفوع الرأس، عزيزاً في العالم، هذا أحد أبعاد القضية.
البعد الآخر للقضيّة هو مسألة العبرة والسنّة الإلهية. ففي النهاية، نحن سنقضي مرحلة عمرنا القصير في هذه الدنيا، وهي عبارة عن عدّة سنوات نعيشها ونحن نواجه التحدّيات بشكلٍ دائم، وليس التحدّي دائماً مع الاستكبار وأمريكا، بل هناك تحدّيات مختلفة، ولكن في وضع الثورة الإسلامية فإنّ التحدّيات الداخلية وتحدّي الشيطان والنفس الأمّارة والمتسلّطين والمحتكرين والمترفين والمستكبرين كلّ ذلك موجودٌ أيضاً، نحن بحاجة إلى الاعتبار والتأمّل والتعمّق في هذه السنّة الإلهية. لعلّه في ذلك الحين عندما كان أسير الحرب المفروضة عبارة عن شاب مسلم يرزح في ذلك المعسكر أو في ذلك الوضع، أو في تلك الزنزانة مع كل أنواع التعذيب، فإنّه بحسب الظاهر لم تكن أيةّ كوّة أملٍ مفتوحة أمامه، لعلّه كان يتصوّر أنّ مثل هذا الوضع يمكن أن يمتدّ لسنوات طويلة أو أنّه سينتهي إلى موته وقتله. انظروا اليوم إلى الوقائع، لتروا ماذا يحدث، فأين هم الآن وأين أنتم؟ إنّ هذه عبرةٌ وهي علامةٌ ومؤشّرٌ على صدق الوعد الإلهيّ.
322
274
في لقاء جمعٍ من الأسرى المحرّرين
صدق الوعد الإلهي
فلنؤمن بالوعد الإلهيّ، ولنعمّق اعتقادنا بحقّانية وصدق الوعود الإلهية، إذا قال الله تعالى ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾1، فلندرك معنى هذا، ففي تلك الأيّام كنتم تواجهون الذي يقوم بتعذيبكم أو رئيس السجن أو ذلك البعثيّ مع كلّ ذلك الضغط الذي كانوا يمارسونه، واليوم فإنّ شعب إيران يواجه أمريكا وسط تلك التحدّيات. إنها نفس تلك القضية ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، فَوَعدُ الله حقٌّ وصدق. فأولئك الذين لا يؤمنون بوعد الله، فإنّ الله تعالى يطردهم ويلعنهم ويخرجهم من ساحة رحمته، إنّ وعدَ الله حقّ. واليوم القضية هي نفسها بالنسبة لشعب إيران. لو أنّنا نلتزم بالشروط التي ذكرها الله تعالى. كما التزمتم بهذه الشروط في مرحلة أسركم ـ فإنّ النصر سيكون أمراً حتميّاً لشعب إيران، إنّ هذه عبرة.
أولئك الذين كانوا يقولون لكم إنّه عليكم أن تبقوا في هذا السجن إلى الأبد، أو كانوا يقولون لكم سوف نعدمكم، هؤلاء صاروا في مزابل التاريخ، وهم أنفسهم الذين أُعدموا أو أُبيدوا، وأنتم اليوم - بحمد الله - في الجمهورية الإسلامية، تحيون أعزّاء شامخي الرؤوس، فهذا درسٌ، وقد كان لنا مثل هذا الدرس في الماضي أيضاً. بعضنا ما كان ليصدّق، كانت الضغوط كثيرة في مرحلة القمع وفي زمن الطاغوت، وهناك من كان يقول العين لا تقاوم المخرز، وأنتم عبثاً تناضلون وتقاومون - كانت هناك جماعة تقول: كلا، ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ﴾2، فلقد أجرى الله تعالى حادثةً ما كان أحدٌ في العالم ليتصوّرها، لا في إيران فحسب، بل في العالم كلّه، ما كان أحدٌ ليصدّق أنّ ما يعتبره الأمريكيون جزيرة من الاستقرار يتحوّل هكذا ليصبح إعصاراً يؤدّي في النهاية إلى عزلة أمريكا والاستكبار وإنكلترا وعملائهم. الأمر اليوم هو هذا.
العالم إلى وضع جديد
انظروا اليوم إلى العالم، فالعلامات ظاهرة. لقد ذكرنا مراراً أنّ العالم يمرّ بمرحلة انتقال إلى وضعٍ جديدٍ وأحداثٍ جديدة. إنّ سلوكنا ونوايانا وأعمالنا لها دورٌ مصيريّ في تعيين تشكّل هذه الوضعية الجديدة. ولأجل أن تكون قلوبنا ثابتة وقوية ولا نضلّ الطريق، فإنّ حياتكم - أيّها المحرّرون - يمكن أن تكون بالنسبة لنا نجماً هادياً.
1- الحجّ، 40.
2- الأحزاب، 23.
323
275
في لقاء جمعٍ من الأسرى المحرّرين
إنتاج أعمال فنيّة راقيّة
إنّني أعتقد وأؤكّد على ضرورة أن تُنقل أحداث الأسر وتُكتب وتُصوّر ويُنتج عنها أعمالٌ فنّية فاخرة، وليس هذا بمعنى حماية فئة محدّدة أو حادثةٍ معيّنة، بل إنّه عبارة عن إمضاء وثيقة انتصار شعب إيران وتثبيتها وترسيخها، ويجب أن يُنجز هذا العمل. إنّني أطلب من فنّاني بلدنا ومسؤولي الوسائل الإعلامية أن ينهضوا بهذا العمل وعليكم أن تساعدوهم، ولحسن الحظ هذا ما يظهر من كلمات أعزّائنا.
ولست -أنا العبد- بمعزل عن هذه الأمور، توجد وثائقٌ كثيرة، هذا بالإضافة إلى أنّكم أنتم وثائق حيّة، فاستعينوا بالذكريات دون زيادةٍ أو نقصان ودون إفراطٍ أو تفريط، واذكروا ما حدث، وعندما يتلازم هذا مع البيان الفنّي فإنّه سوف يحدث انقلاباً عجيباً في القلوب والرّوحيّات. فهذا بُعدٌ آخر لقضية أسركم وتحريركم.
في السجلّ الإلهي
بُعدٌ آخر أيضاً، يتعلّق بالثواب الإلهي. في ذلك اليوم الذي رجع محرّرونا الأعزاء إلى هذا البلد في الدفعة الأولى وجاء قسمٌ منهم ـ لعلّه بضعة آلاف ـ إلى هذه الحسينية والتقينا بهم، وألقى سيّدنا العزيز الجليل المرحوم أبو ترابي خطبته، اضطرب قلبي كثيراً من رؤية هذا المشهد وهؤلاء الشباب واسترجاع هذه القيم الكبرى التي عادت إلينا، قلت: اعلموا أنّ كل لحظة من عمركم محفوظة في السجلّ الإلهي، وأنا الآن ما زلت على هذه العقيدة: إنّ كل لحظة من تلك اللحظات محفوظة عند الله تعالى، وهي لحظات لا يمكن وصفها أو توضيح عمقها بأيّ بيان، وأنتم قد قضيتم لسنوات مثل هذه الساعات واللحظات، كلّ حبّةٍ من مجاهداتكم، وكلّ لحظةٍ من تلك اللحظات المريرة لن تعزب عن السجلّ الإلهي ولن تُفقدَ. نحن ننسى وأنتم تنسون، لكنّ الكرام الكاتبين عند الله لن ينسوا، فتلك المجاهدات محفوظة، غاية الأمر اسعوا لحفظها، وهذا أيضاً نصيحةٌ لنا ونصيحة لكم أيّها الأعزّاء.
إنّ ثواب المحرّرين في جهةٍ، وثواب عائلاتهم ـ أزواجهم، وأبنائهم، وأمهاتهم، وأقاربهم ـ في جهة. أحياناً، عندما نوفّق للقاء آباء وأمّهات الشهداء في بيتٍ ما، أو ملاقاة أحد الأسرى، يفهم المرء أيّة أحوالٍ مرّت على عائلات الأسرى، وما هي أحاسيسهم، وكيف كانت مشاعرهم، لقد كانت مشاعرهم أمرّ وأصعب من مشاعر عائلات الشهداء. قال لي أخُ أسيرٌ مفقود الأثر: "هل رأيتم أحوال أُسر عائلات الشباب الذين يكونون في الجبهة ليلة العمليات؟" لقد قال حقّاً، فعندما تحين ليلة العمليات، والكلّ يعلمون أنّ هذه الليلة هي ليلة العمليات، فإنّ قلوب عائلات الشباب الموجودين في الجبهات
324
276
في لقاء جمعٍ من الأسرى المحرّرين
تصبح في اضطرابٍ كبير. فهذا الأخ لذلك الأسير المفقود الأثر، كان يقول لي: إنّ كلّ ليلةٍ عندنا هي ليلة العمليات، وكلّ ليلةٍ تكون قلوبنا في اضطراب، وتتساءل حوله وحول وضعه وماذا سيحدث له اليوم. بسبب هذه المحن والمصاعب التي تحمّلتها العائلات، فإنّ ثوابهم عظيمٌ جداً ورفيعٌ.
إنّ هذا أحد فصول الأحداث التي مرّت على حياة شعب إيران وقد ربح فيها شعب إيران. إنّ كلّ شعبٍ ترتبط عزّته وقدرته وصدارته في التاريخ بجهاد أبنائه، وقد يكون هذا الجهاد في الجبهة، وقد يكون في ميدان الأسر، بهذه البطولات التي أظهرتموها في ميادين الأسر وهذه الاستقامة والثبات. هناك أشخاصٌ أيضاً استُشهدوا في هذه المرحلة نفسها، الشهيد تندكويان والكثير من الشهداء الآخرين الذين لم يرجعوا من الأسر، والأكثرية رجعوا أعزّاء وشامخي الرؤوس. أسأل الله تعالى أن يحفظ أجركم، وأن يمنح كل أولئك الذين كان لهم في هذه المرحلة التأثير والنفوذ والخدمة وهداية الآخرين، وعلى رأسهم جميعاً سيدنا الجليل العزيز المرحوم أبو ترابي، رفيع الدرجات إن شاء الله.
قضيّة القدس في صلب الثورة
إنّنا اليوم أمام قضية أساسية في العالم الإسلامي وهي قضية القدس. لماذا نقول إنّها قضية أساسية؟ لأنّ عملية التقسيم الخاطئ والهندسة المغلوطة للشرق الأوسط ـ هذه المنطقة التي نعيش فيها وبلداننا ـ قد قامت على أساس مؤامرة إسكان الصهاينة هنا، لو لم تحصل هذه المؤامرة لعلّ وضع هذه المنطقة اليوم كان مختلفاً. فهذه الانشقاقات وهذه الحروب التي تحدث في هذه المنطقة، وهذه التدخّلات السافرة للقوى المتسلّطة والمهيمنة في هذه المنطقة، كلّها كانت ناشئة من هذه القضيّة التي لها قصّةٌ طويلةٌ ومفصّلة. إنّ سعيهم أن يجعلوا هذه القضية اليوم هامشيّة، وعلى العالم الإسلامي أن لا يسمح بذلك. على مرّ السنين المتمادية سعوا لأن يجعلوا قضية فلسطين في طيّ النسيان، وقد نجحوا إلى حدٍّ ما، إنّ حادثة كامب دايفيد وتداعياتها، والتي تُعتبر من النقاط المظلمة لتاريخنا المعاصر، إنّما كانت من أجل أن ينسى أهالي هذه المنطقة وجود بلاد باسم فلسطين، والذي وجّه إلى أفواههم تلك الضربة هو الثورة الإسلامية وإمامنا الجليل، فمنذ اليوم الأوّل لانتصار هذه الثورة بل وما قبلها، ومنذ بدايات النهضة، كانت قضية فلسطين من القضايا الأساسية فيها. وأحد عوامل اهتمام العالم الإسلامي بهذه الثورة هو هذه القضية، وإن كان هناك جهاتٌ أخرى أيضاً. إنّ سعيهم اليوم هو أن يحبطوا هذا، وعلى العالم الإسلامي أن لا يسمح بذلك.
325
277
في لقاء جمعٍ من الأسرى المحرّرين
القضيّة الفلسطينيّة أمر بنيوي
لقد شغلوا العالم الإسلامي بالقضايا الهامشية، ظهر شخص وأثار قضية السنة والشيعة، وتحدث عن هلال شيعي. بالقرب منكم وعلى أسماعكم يضطهد الصهاينة عدة ملايين من الفلسطينيين لستين عاماً ولا ترون ذلك، ويعرّف حكومة الجمهورية الإسلامية التي رفعت هذه الراية، وأعادت هذه الملحمة إلى الحياة بأنها خطرٌ؟! أيوجد خيانة أعظم من هذه؟ إنّ شعب إيران لم ولن يسمح بذلك، إنّ شعب إيران اليوم وبتوفيقٍ من الله وبإرادته ومشيئته سوف يتحرّك في يوم القدس بحيث يسدّد ضربةً إلى أعداء الإسلام وأعداء فلسطين.
إنّ قضية فلسطين بالنسبة للجمهورية الإسلامية ليست أمراً تكتيكياً، بل هي أمرٌ بنيويٌّ أساسيّ ناشئٌ من الاعتقاد الإسلاميّ. إن تكليفنا أن نحرّر هذا البلد الإسلاميّ من سلطة وقبضة القوّة الغاصبة وحُماتها الدوليين، ونرجعها إلى شعب فلسطين، إنّ هذا تكليفٌ دينيّ وواجب على جميع المسلمين، وعلى جميع الشعوب الإسلامية والحكومات الإسلامية أن يقوموا بهذا العمل، إنّ هذه مسؤوليةٌ وتكليفٌ إسلامي. إنّنا ننظر بهذه العين إلى قضية فلسطين، وعلى الآخرين أن ينظروا بنفس هذا المنظار، فلا ينبغي أن تصبح هذه القضية ضمن الألاعيب السياسية والمبادلات السياسية والتنازلات السياسية، وفي بعض الأحيان الخيانية، فالقضية قضية دينية واعتقادية، وينبغي متابعتها.
وإنّني أقول لكم كما أنّ نجم صبح الأمل قد سطع مرّة في الثورة الإسلامية، ومرّة في الحرب المفروضة، ومرّة في حياتكم أيّها المحرّرون، فإنّ شفق الأمل سيسطع حتماً وستعود فلسطين حتماً إلى شعبها، وتلك الزائدة المختلقة والمصطنعة ستُمحى من ساحة الجغرافيا، لا شكّ في ذلك أبداً.
إنّ القضية المؤلمة في أيّامنا هذه هي قضية الزلزال - التي أرى من اللازم أن أذكّر بشأنها وأؤكّد - لا شكّ أنّ كل شعب إيران في هذه الحادثة حزينٌ ومتألّم، لأنّ جمعاً من أعزّائنا وأبناء وطننا نزلت بهم مصيبة، وهي حادثةٌ مريرة أيضاً، وقد حدثت في أيّام شهر رمضان. نسأل الله تعالى بمشيئته، وبعنايته وألطافه أن يعين مسؤولي الدولة وشعبنا العزيز ليتمكّنوا من تخفيف آلام أهالي أذربيجان، وإن شاء الله يعينونهم في التقدّم في عملهم، إن شاء الله يمنحهم الصبر ويطمئن قلوبهم، نسأل الله تعالى أن ينزل بركاته على شعبنا العزيز ويجعل شهر رمضان شهراً مباركاً بالمعنى الحقيقيّ على شعبنا والجمهورية الإسلامية.
326
278
في لقاء جمعٍ من الأسرى المحرّرين
اللهمّ، اجعل هؤلاء المصابين في طريقك مشمولين برحمتك وبركتك.
اللهمّ، أثب كلّ أولئك الذي يتحرّكون على طريق إعلاء كلمة الحق، وآجرهم.
اللهمّ، احشر إمامنا الجليل الذي فتح هذا الطريق أمامنا مع أوليائك.
اللهمّ، احشر شهداء مرحلة الأسر ومن توفّي منهم والمرحوم المغفور له أبو ترابي هذا العالم المجاهد والصبور والمدبّر والعبد الصالح مع أوليائك، واحشر والده الجليل أيضاً مع أوليائك.
اللهمّ، وفّقنا لخدمة أولئك الذين يستحقّون خدمتنا الصادقة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
327
279
في لقاء أهالي القرى التي أصابها الزلزال في أنحاء آذربايجان الشرقية
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء أهالي القرى التي أصابها الزلزال في أنحاء آذربايجان الشرقية
المناسبة: زيارة المناطق المنكوبة في الشمال.
الحضور: أهالي القرى التي أصابها الزلزال.
المكان: القرى المنكوبة في المنطقة.
الزمان: 16/8/2012م.
329
280
في لقاء أهالي القرى التي أصابها الزلزال في أنحاء آذربايجان الشرقية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديّين المعصومين، لا سيّما بقيّة اللّه في الأرضين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سلام اولسونسيزهقارداشلار، باجيلار، عزيز جوانلار.(تحية باللغة التركية)
وفّقكم الله جميعاً ومنحكم الصبر. لقد آلمت حادثة الهزّة المريرة، في هذه المنطقة جميع القلوب، والجميع كانوا في مصيبة. نسأل الله تعالى أن يلهم المصابين الصبر، ونطلب منه عزّ وجل أن يوفّق أهالي آذربايجان الأعزّاء. وأقول لكم جميعاً ـ وخصوصاً جوانلار ـ إنّ هذه الحادثة يمكن أن تكون بالنسبة لكم منطلقاً إلى الأمام، وبصبركم واستقامتكم وسعيكم وتعاونكم وتآزركم وتآسيكم يمكنكم - إن شاء الله - أن تصنعوا من هذه الحادثة منطلقاً.
بالطبع، على المسؤولين مسؤوليّات كبيرة، وقد أُنجزت إلى الآن أعمالٌ جيّدة، والأعمال الأساسيّة ستكون بعد هذا، إعادة البناء والعمل على تثبيت القواعد وبناء الأبنية المضادّة للهزّات، يجب أن تتمكّن من تبديل وجه هذه المنطقة بعد هذه الهزّة. نسأل الله تعالى أن يوفّق المسؤولين لهذا الأمر، وأنتم ينبغي أن تساعدوا وتشاركوا، فليتعاون أفراد الشعب مع المسؤولين. وإنّ شعبنا في كلّ أنحاء البلد يواسيكم كما اطّلعت وتوقّعت وشاهدت، فليس الأمر أنّ بقعةً من هذا البلد قد نزلت بها مصيبة وبقي الآخرون لا مبالين، كلّا، فإنّ الكلّ يواسون. بحمد الله إنّ شعبنا هو شعبٌ متّحد وبسبب هذا الاتّحاد هو قويّ، فالقدرة الموجودة اليوم في إيران وهذه العزّة ترجع بالدرجة الأساسيّة إلى هذا الاتّحاد الموجود بين شرائح هذا الشعب المتعدّدة وفي مختلف المناطق.
لقد كان هدفي من هذا السفر - بالدرجة الأولى - أن أقدّم المواساة والعزاء لأبناء هذه المنطقة الأعزّاء ـ منطقة آهر، ورزقان، هريس، والقرى والمناطق المحيطة بهذه المدن الثلاث ـ مواساة من فقدوا الأعزّاء والأبناء - نسأل الله تعالى أن ينزل بهم الصبر - هذا هو هدفنا الأساسيّ. وبالدرجة الثانية أن أطّلع عن قرب على الأعمال المنجزة، لقد سألت بعض الذين تعرّضوا لهذه الهزّة، فقالوا إنّ الخدمات التي أنجزت إلى الآن هي خدمات جيّدة، وبمشيئة الله ستبقى هذه الخدمات على هذا المنوال. وبالطبع إنّ أنواع الخدمات تختلف ففيما بعد ستكون الأعمال أكثر ثقلاً وتأسيساً على أمل أن يتمكّن المسؤولون من أداء هذه الوظائف بتوفيق من الله. أستودعكم الله جميعاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
331
281
في لقاء جمعٍ من مسؤولي محافظة آذربايجان الشرقيّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء جمعٍ من مسؤولي محافظة آذربايجان الشرقيّة
المناسبة: زيارة المناطق المتضرّرة بالزلزال في آذربايجان الشرقيّة.
الحضور: جمعٌ من مسؤولي محافظة آذربايجان الشرقيّة.
المكان: تبريز.
الزمان: 16/8/2012م.
333
282
في لقاء جمعٍ من مسؤولي محافظة آذربايجان الشرقيّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نشكر الله تعالى على جميع نعمه، هذه البلاءات هي نعمةٌ. كلّ بلاءٍ إن كان منك هو نعمة، كلّ ألمٍ إذا كان منك هو راحة.
عبدك إذا وضعته في الظلام الدّامس فلكي يرى النّور الساطع
كلّ ضربةٍ على عروقي وأورادي هي من أجل أن اتّصل برحمتك وعطفك1
بهذه العين يجب النظر إلى هذه البلاءات الطبيعية وغير الطبيعيّة، يمكن صنعُ سلّمٍ للعروج من هذه البلاءات التي تنزل، معراج إلى الله، منصّة للتحليق. نشكر الله أن وفّقنا للمجيء إلى هنا ومشاهدة المنطقة عن قرب، وإن كانت هذه الساعات الخمس التي أمضيناها في الجولة غير كافية ولم نتمكّن من مشاهدة سوى عدّة أماكن، فلو كان هناك وقتٌ ومجالٌ وفرصة، فرغبتنا كانت لأكثر من ذلك.
الحمد لله، إنّ سفرنا إلى تبريز قد حصل بهذه الشاكلة. لقد قال لنا السيد شبستري في لقائنا مع الإخوة والأخوات الآذربايجانيين، في الـ 29 من شهر بهمن، تعالوا إلى تبريز. حسنٌ، "آقا بايورن أولدي" (تركي) لقد حصل ما ذكره، فجئنا إلى تبريز، ونسأل الله تعالى أن يهيّئ الأمور لنتمكّن من المجيء مرّةً أخرى إلى تبريز. إنّ أنسي ومحبّتي لتبريز وآذربايجان، هي محبّةٌ ذاتية. قبل الثورة جئت مرّتين إلى تبريز، وذهبت إلى خامنه وشبستر، وبعد الثورة أيضاً، جئنا عدّة مرّات أيضاً إلى خامنه وإلى شبستر2. لقد شاهدنا تلك الأماكن عن قرب، لقد رأيت أهالي تبريز مختلفين عن جميع الأماكن. في سفري الأوّل بعد الثورة إلى تبريز، وعندما رجعت إلى طهران، قلت للإمام إنّ أهالي هذه المنطقة يختلفون عن سائر المناطق، نحن إلى أيّ مكانٍ ذهبنا كان الناس يظهرون محبّتهم وتعلّقهم بالثورة، لكنّ تبريز كانت شيئاً آخر. هذه هي محبّتنا، ونودّ أن يتحقّق ذلك، "المجيء مرّةً أخرى"، إن شاء الله، فلنرَ كيف يحدث ذلك.
الأعمال التي أنجزت كانت جيّدة. إنّ لي شخصيّاً تجربة تتعلّق بأعمال الإغاثة في الزلازل والسيول. في السنوات الغابرة كان لنا قبل الثورة أيضاً مشاركة في كوارث الزلازل، وقد شكّلنا مجموعات الإغاثة، في ذلك الزمن الذي لم يكن هناك تدخّل
1- بروين اعتصامي: شاعرة إيرانية معروفة.
2- قرى ومدن في محافظة آذربيجان.
334
283
في لقاء جمعٍ من مسؤولي محافظة آذربايجان الشرقيّة
للحكومة، فالأسد والشمس1 في ذلك الزمان كان لا شيء، في زلزال فردوس حيث تمّ تسوية هذه المدينة بالأرض كلّياً، وطيلة شهرين فإنّ الأسد والشمس أرسل إعانات عينيّة وغذائية لمرّتين فقط، أمّا على صعيد الخيم والأغطية وأمثالها، فلا شيء. فقد كانت مثل تلك الأمور قليلة جداً جداً ولا تُذكر! ولقد صعدتُ المنبر في ذلك الوقت، وألقيتُ خطبةً في الناس عمّا فعله لكم "الأسد والشمس"، ويبدو لي أنّهم قالوا إنّه طيلة هذين الشهرين أعطونا مئة غرام من السكّر! ويبدو أنّهم أعطوهم من المساعدات العينيّة بنفس هذا المقدار، ولم يقدّموا لهم ما يلزم لأمور حياتهم.
لقد ذهبنا إلى هناك واطّلعنا وبدأنا العمل. وعندما كنت منفيّاً في إيرانشهر، حدثت سيول وقد أزالت حوالي 90% من المدينة، فسوّت أغلب البيوت بالأرض ودُمّرت بساتين النخيل، ونحن هناك أيضاً قمنا بأعمال الإغاثة مع أولئك المنفيين. لهذا، فإنّني مطّلعٌ على مشاكل هذا العمل، إنّ العمل الذي أُنجز هذه المرّة في آذربايجان لا نظير له، سواء بلحاظ فرق البحث والاستقصاء، أم بلحاظ أعمال الإغاثة الأوّلية ونصب الخيم. بالنسبة للمنكوبين فإنّ الخيم هي من اللوازم التي تقع بالدرجة الأولى، فإذا وُجدت الخيمة فإنّ ذاك الذي دُمّر بيته يشعر أنّه في ملجأ، هذا الأمر نفسه مؤثّرٌ جدّاً في الحفاظ على الأمان النفسيّ.
الحمد لله، لقد شاهدنا الكثير من الخيم قد نُصبت، وتقديم السّكن المؤقّت، والأعمال اللاحقة أيضاً، يجب أن تتقدّم على نفس الوتيرة، إن شاء الله.
ما هو مطلوبٌ الآن في هذه المنطقة، هو أجهزة التدفئة. لقد قال السادة الآن، إنّه خلال شهرين ـ أقل أو أكثر، بيد الله ـ سيتمّ بناء المساكن لضحايا الزلزال. لكن ما هو مطلوبٌ - قبل هذا - هو الأغطية وأجهزة التدفئة والوسائل الصحّيّة والحمّامات، فمثل هذه الأشياء مطلوبة جدّاً وهي واجبات فوريّة. ومن الأشياء التي يجب أن توضع بأيدي الناس بالدرجة الأولى قطعاً، الحمّامات واللوازم الصحّية، فهذه مطلوبةٌ جدّاً. توجد مياه للشفة في بعض الأماكن، ولكن قد لا تكون مؤمّنة في مناطق أخرى، ويجب تأمين المياه سريعاً لهم، فهذه أشياء ضروريّة، ولا ينبغي الاكتفاء بإحضار قوارير المياه. هذا وإن كانت جيّدة جدّاً، ولكن هذا الأمر يختلف بالنسبة لعائلة تريد أن تستيقظ صباحاً وتتمكّن من الوضوء تحت حنفية المياه، وغسل الأيدي والوجوه، فمثل هذه الأمور لها آثارٌ كبيرة واستثنائية من الناحية النفسيّة. نحن الذين نجلس خارجاً، قد لا تبدو مهمّة بالنسبة لنا، لكن عندما يعيش المرء في مناطق الزلازل أو السيول يدرك مدى أهميّة هذه الأمور.
1- عندما يقول الإمام القائد "الأسد والشمس" يقصد نظام الشاه السابق. "الأسد والشمس" هو شعار العلم الإيراني قبل الثورة وبعدها تم حذفه واستُبدل بكلمة "الله".
335
284
في لقاء جمعٍ من مسؤولي محافظة آذربايجان الشرقيّة
الحمد لله، إنّ السيّد المحافظ نشيطٌ وفعّال، وكل الأجهزة الأخرى تتعاون، أسأل الله بمشيئته أن يحفظ الجميع. وإنّني أرجو أن تُتابع هذه الأمور على المنوال نفسه. الآن، إنّ أدوات ووسائل التدفئة ضروريّة هنا. على الظاهر في منطقة ورزقان نفسها، حيث قال لي أحد أبناء تلك القرى إنّ البرد سوف يحلّ خلال 16 يوماً تقريباً، إنّ المنطقة هنا منطقة باردة. في هذه الأيّام تابعت أحوال الطقس، فقيل لي إنّ بعض الأماكن تصل فيها الحرارة إلى 10 درجات، وفي هذا الفصل إنّ عشر درجات في الليل هي طقسٌ بارد، فهذا ما يتطلّب وسائل التدفئة، فهؤلاء ليس لديهم أغطية أو لحف أو أسرّة، فكلّ شيءٍ أصبح تحت الرّدم. وإلى حين استنقاذها وإخراجها وتمكنّهم من استعمالها سيطول الأمر، فهل سيحصل هذا أم لا؟ هذا ما يُلزم تقديم العون لأهالي المنطقة.
الآن، حين مجيئنا، سمعت من راديو السيّارة أنّ الهلال الأحمر أعلن طالباً عدم إرسال المساعدات العينيّة والاكتفاء بتقديم الأموال. حسنٌ جداً، إنّ هذا جيد ولا عيب فيه، أي من الممكن أن يكون في إرسال الألبسة وأمثالها شيءٌ من الإهانة، وليس الأمر جيّداً ـ وإن كان لا يوجد عيب في هذا الأمر للوهلة الأولى ـ لكن ما هو العيب في إرسال الحرامات؟ فأن يرسل الناس الأغطية أو الملاحف أو أكياس النّوم، فما المانع في ذلك؟ فافرضوا مثلاً أنّ هناك من يمكنه أن يؤمّن مئة كيس للنّوم من السوق ويرسلها إلى هنا، فما هو العيب في ذلك؟ إنّ هذا أمرٌ جيّد، أو افرضوا مثلاً، أنّ هناك من يستطيع أن يؤمّن 500 لحاف ويرسلها، هناك من لديهم المال ويرغبون بالمساعدة، فيشترون الحرامات من السوق ويعطونكم إياها ليرفعوا عن كاهلكم التعب، لهذا، أوصوا بأن لا يتمّ إظهار الاستغناء عن الناس بهذه الطريقة، هناك بعض الأشياء فيما لو قام الناس بشرائها من الأسواق بأنفسهم وأرسلوها لكم فإنّهم يسهّلون عملكم، في الوقت الذي يشعرون معه بالشعور الجيّد، أن يذهب أحدهم لشراء اللحاف ويعطيكم إيّاه وأنتم تقدّمونه هنا، فهذا أفضل من إيداع مليون تومان أو 500 ألف تومان، في حساب الهلال الأحمر. فالتفتوا إلى دقائق الأمور النفسيّة.
على كلّ حال، نسأل الله تعالى أن يعينكم أنتم الذين تخدمون وتتعبون، وكذلك أبناء شعبنا العزيز، الذين قدّموا المساعدات من مختلف المناطق وأرسلوا الهدايا أو الأموال، أو سوف يفعلون. وإن شاء الله يهدي القلوب لتستمرّ في هذا العمل، وكذلك ليعين على وجه الخصوص المؤمنين والأعزّاء الذين يعيشون في هذه المنطقة. إنّ منطقة أرسباران هي منطقة الشجاعة، ولعلّ هذا بالنسبة لمن يعرفون التاريخ معلومٌ، إن أرسباران من المناطق التي يُعرف أهلها بالنخوة، فلها مثل هذه الخصوصية. بالطبع إنّ كل
336
285
في لقاء جمعٍ من مسؤولي محافظة آذربايجان الشرقيّة
آذربايجان هي على هذه النحو، فالغيرة الآذربايجانية والهمّة الآذربايجانية التي ظهرت طيلة الدفاع المقدس كانت ظاهرة قبلها في الثورة وإلى يومنا هذا، وحقّها محفوظٌ لكن لمنطقة أرسباران خصوصية من هذه الناحية، وأبناء هذه المنطقة الأعزّاء ابتُلوا بهذه الحادثة، ومثل هذه الأحداث موجودة دائماً.
ويقول الشاعر المرحوم شهريار: (يتلو القائد شعراً باللغة التركية).
انظروا إنّها كثيرة (اوغولسوزدور تشخ دي، يئتيم، دير، تشخ دي) إنّ الدنيا كلّها مليئة بهذه الأحداث، على كلّ حال هذه الأمور تحدث عادة. نسأل الله تعالى بمشيئته أن ينزل الصبر والاستقامة على الجميع، ويتمكّنوا بمشيئته من المضيّ في مسير الحياة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
337
286
في صلاة عيد الفطر
خطبة الإمام الخامنئي دام ظله في صلاة عيد الفطر
المناسبة: خطبتا صلاة عيد الفطر.
الحضور: حشدٌ من المسؤولين وعامّة الشعب.
المكان: طهران.
الزمان: 19/8/2012م (1 شوال 1433 هـ.).
339
287
في صلاة عيد الفطر
الخطبة الأولى
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والحمد للّه ربّ العالمين. أحمده وأستعينه وأستغفره وأتوكّل عليه، وأصلّي وأسلّم على حبيبه ونجيبه وخيرته في خلقه وحافظ سرّه ومبلّغ رسالاته بشير رحمته ونذير نقمته سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديّين، ولا سيّما بقيّة اللّه في الأرضين، وصلّ على أئمّة المسلمين وهداة المستضعفين وحماة المؤمنين.
أدعو جميع الإخوة والأخوات الأعزّاء برعاية التقوى الإلهيّة، وأبارك للمؤمنين والصالحين وللّذين يؤدّون عملاً لله وفي سبيل الله، ويتحرّكون ويقرّبون قلوبهم إلى الله الرحيم والغفور. هذا عيد الفطر السعيد الذي هو يوم الرحمة ويوم المغفرة ويوم الأجر والثواب. أشكر الله أنّه جعل شهر رمضانٍ آخر وعيد فطرٍ آخر من نصيبنا، يجب أن نقدّر هذه النّعمة الإلهية.
بحمد الله، إنّ شهر رمضان هذه السّنة -كما كان المرء يسمع الأخبار من هنا وهناك ويشاهدها- كان شهراً مباركاً، والقلوب المتوجّهة إلى الله، والمتوجّهة إلى الحقيقة والمعنويّات والأطياف المختلفة لشعبنا في التجمّعات الدينية، وفي تلاوة القرآن، وفي ليالي القدر المباركة والمليئة بالخير والبركة، وبالتوسّل والدعاء أوجدت جوّاً معنويّاً مؤثّراً وباقياً في البلد، يجب أن نغتنم هذا، وأن نشكر الله تعالى على توفيقه.
يوم القدس البعد الآخر للقضيّة
وكذلك أظهر هذا الشعب من نفسه في بُعدٍ آخر للقضية، وهو التوجّه إلى قضايا العالم الإسلامي وقضايا الأمّة الإسلاميّة، حركةً ظاهرةً وساطعة، وهي حركة يوم القدس. لقد عظّموا ذكر الإمام الكبير، ودعموا في مشاركتهم في المظاهرات شعب فلسطين المظلوم، ودعموا قضيّةً أساسيّة ومهمّة للعالم الإسلامي في الطقس الحارّ وبالأفواه الصائمة، وهو موضع شكر، إنّنا نشكر كلّ الشعب الإيرانيّ على هذه الحركة التي كانت في محلّها وفي الوقت المناسب، والتي سيكون لها تأثيرٌ كبير على العالم الإسلامي، ولا شكّ إن شاء الله.
وفي عامنا هذا، هناك شعوبٌ أخرى أيضاً، تناغمت معنا، وشاركت شعب إيران نداءه أكثر من السنوات السابقة. ففي بعض الدّول التي كان تسلّط وهيمنة بقايا الأنظمة الطاغوتيّة مانعاً من أن يظهر الناس مشاعرهم بشأن فلسطين، فإنّهم استطاعوا هذه السنة في تلك الدول أيضاً، بحمد الله، أن ينزلوا إلى الميدان، وهذا التيّار سوف يستمرّ
341
288
في صلاة عيد الفطر
بمشيئة الله. يجب أن نسأل الله تعالى أن يمنح عبادات هذا الشعب العزيز في هذا الشهر قبوله ولطفه الخاص وقيمته واعتباره، كما جاء في دعاء الصحيفة السجّادية: "يا من يجتبي صغير ما يُتحف به، ويشكر صغير ما يُعمل له"... "يا من يدنو إلى من دنا منه، ومن يدعو إلى نفسه من أدبر عنه"1، هذا الدعاء الذي كان يتلوه الإمام السجّاد عليه السلام في مثل هذا اليوم ـ يوم عيد الفطرـ ويعوّد الناس على قراءته.
فلتتقدّموا خطوةً نحو الله، فيقرّبكم الله تعالى إليه. أولئك الذين أعرضوا عن الحقيقة والمعنويّات وعن الله وعن الدين، فإنّ الله تعالى من سعة رأفته ورحمته يدعوهم إليه، وهذا هو اللطف والرحمة الإلهيان. وشبابنا الأعزّاء الذين نالوا في هذا الشهر تلك النّورانيّة سيحفظونها إن شاء الله لأنفسهم، فليحفظوا هذا الذخر إلى آخر أعمارهم، أو على الأقلّ لهذه السنة حتى يأتي عيد الفطر المقبل وشهر رمضان الآتي، فلنحفظ الأنس بالقرآن، والتوجّه إلى الله والذكر والمشاركة في الميادين والساحات التي يحبّها الله تعالى لعباده، ـ سواء تلك الساحات المرتبطة بباطننا، أم المرتبطة بسعة العالم الإسلامي ومجتمعنا والأمّة الإسلاميّة ـ والله تعالى سوف يبارك.
اللهمّ، أنزل رحمتك وبركتك على هذا الشعب، وكل الأمّة الإسلاميّة.
اللهم، انصر هذا الشعب العزيز وكذلك الأمّة الإسلاميّة على أعدائهم.
اللهمّ، زد ارتباطنا المعنويّ والقلبيّ بالمعنويّات والروحانيّة الحقيقيّة يوماً بعد يوم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾
1- الصحيفة السجادية، ص204، من دعائه عليه السلام في يوم الفطر.
342
289
في صلاة عيد الفطر
الخطبة الثانية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين والصّلاة، والسّلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطّاهرين، وصلّ اللهمّ على أمير المؤمنين والصّدّيقة الطّاهرة سيّدة نساء العالمين والحسن والحسين سبطي الرّحمة وإمامي الهدى وعلي بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعليّ بن موسى، ومحمّد بن عليّ، وعليّ بن محمّد، والحسن بن عليّ، والخلف القائم المهديّ، صلواتك عليهم أجمعين، وصلّ على أئمّة المسلمين وحماة المستضعفين وهداة المؤمنين. أوصيكم -عباد الله- بتقوى الله.
أدعو جميع الإخوة والأخوات المصلّين في هذا التجمّع العظيم لرعاية التقوى والورع. ما أريد أن أذكره في هذه الخطبة: مسألتان ترتبطان ببلدنا ومجتمعنا، أو المرتبطة بالأمّة الإسلاميّة.
كلمة حول زلزال آذربايجان الشرقيّة
ما يتعلّق بنا، بالدرجة الأولى، تلك الحادثة المرّة ومصيبة الزلزال الذي حدث لجماعة من أبناء وطننا الأعزّاء. ولئن كان هذا الحادث قد وقع في نقطةٍ من بلدنا، ولجماعةٍ من شعبنا، لكن الحزن شمل جميع أبناء هذا البلد. يعلم الإنسان ويشعر، وكذلك فإنّ التجارب تدلّ أنّ شعبنا لم يكن أبداً غير مبالٍ تجاه مثل هذه الأحداث في أيّ زاويةٍ من البلد، وقد تدخّل شعبنا في هذه الحادثة بحمد الله، ويجب أن يستمرّ على ذلك. كانت الحادثة مريرة، والدّمار كبيراً، ويوجد خسائر أيضاً، قد تحدّث عنها وذكر أرقامها المسؤولون. إنّ ما هو مُلقىً على عاتق المسؤولين وعلى عاتق أبناء هذا الشعب، هو المساعدة على المسؤوليات الملقاة على عاتقنا.
بحمد الله، لقد تمّ إنجاز أعمال مهمّة، عندما يشاهد المرء عن قرب، يدرك هذا الأمر، وعندما يُسأل أولئك الذين تعرّضوا لهذه الحادثة، يعلم أنّ هناك أعمالاً مهمّة قد أُنجزت، ولكن للعمل استمرار، والمسؤوليات ثقيلة وكبيرة في هذا الطريق. يجب -بمشيئة الله- أن يتمكّن المسؤولون من إزالة آثار هذه الحادثة إزالةً كاملة، بالإضافة إلى هذا، عليهم أن يبدّلوا هذا إلى وسيلةٍ من أجل أن تتمكّن هذه المنطقة من بدء صفحةٍ جديدة وناصعة في حياتها، إن شاء الله. وينبغي للعمران الذي سوف يحدث هناك، بفضل سعي الناس أنفسهم وهمّة المسؤولين وتعاونهم فيما بينهم، أن يزيل الذكريات المؤلمة لهذه المنطقة إزالة كاملة، إن شاء الله.
343
290
في صلاة عيد الفطر
يوم القدس حركة عميقة المعنى
قضيةٌ أخرى هي قضيّة يوم القدس، هذه الحركة التي بدأها إمامنا الجليل، وبحمد الله، تصبح يوماً بعد يوم أفضل، وسنةٍ بعد سنة أكثر حماسةً. هي حركة عميقةٌ جدّاً ومليئة بالمعنى، فهي ليست مجرّد مظاهرات، بل هي دمٌ يجري في عروق الأمّة الإسلاميّة، رغم أنف أولئك الذين يريدون إيداع قضيّة فلسطين وشعبها في طيّ النسيان، إنّ هذه القضيّة تصبح يوماً بعد يوم أكثر حياةً وسوف تكون كذلك.
توجد مسؤوليات كبيرة على عاتق مسؤولي الدّول الإسلاميّة. أسأل الله أن يهدي الجميع للعمل بمسؤوليّاتهم ويعينهم ليتمكّنوا من أدائها.
العالم الإسلامي يشهد وضعاً جديداً
إنّ قضايا العالم الإسلامي في هذا المقطع من الزمان، هي قضايا لا نظير لها. إنّ هذه التحوّلات التي تحدث في العالم الإسلامي هي تحوّلاتٌ مدهشة ومزلزلة ومصيريّة بالنسبة للأمّة الإسلامية في المستقبل.
نسأل الله بمشيئته مثلما أنّه تمكّنت شعوب هذه المنطقة من القيام بأعمال كبيرة، وقام المسؤولون بأعمالٍ لائقة، أن تستمرّ وتيرة هذا السلوك وأن لا يتمكّن أعداء الأمّة الإسلامية ـ الذين يتشعّبون في أساليبهم يوماً بعد يوم والذين يأتون بكلّ قوّتهم من جميع الجهات إلى هذا الميدان ـ من التغلّب على همّة الأمّة الإسلاميّة، وبالطبع، إن شاء الله لن يتمكّنوا من ذلك. لقد بدأ عصرٌ جديد، ويتحقّق ظرفٌ جديد، ويشهد العالم الإسلامي (اليوم) وضعاً جديداً، وهذا الوضع سوف يؤثّر بالتدريج على حياة جميع شعوب العالم، ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾1، إن شاء الله.
أمريكا والصهيونيّة عدوا الأمّة الإسلاميّة
فلنسعَ في تحليلنا وفي تعرّفنا إلى الأحداث، وأن لا نقع في الاشتباه والخطأ، فلنعلم أنّ أمريكا والصهيونيّة هما عدوا الأمّة الإسلاميّة، وأنّ زعماء الأنظمة المتجبّرة هم أعداء الأمّة الإسلامية. فلو شاهدناهم في أيّ مكانٍ، في جهةٍ ما، فلنعلم أنّ تلك الجّهة هي جهة الباطل والخطأ، فلا نخطىء في التحليل. إنّ هؤلاء لم يتحرّقوا يوماً للشعوب الإسلاميّة، بل إنّهم يسعون بكلّ ما أمكنهم أن يخرّبوا ويحدثوا الخلل في توجهاتها.
1- هود، 81.
344
291
في صلاة عيد الفطر
واليوم (تشهدون) تلك الضوضاء التي أحدثوها بأنفسهم، وإن كان يتكرّر صداها على ألسن بعض الغافلين، كالخلافات المذهبية والقومية والعرقية واللغوية، يضخّمونها في حين أنّها ليست من الإسلام، ففي الإسلام ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾1، فالجميع سواسية والكلّ إخوة. يجب علينا جميعاً أن نستيقظ ونتبصّر ونفتح أعيننا كي لا نقع في الخطأ أثناء التحليل.
اللهمّ، بمحمّد وآل محمّد، اجعل هذه الحركة العظيمة للأمّة الإسلاميّة خيراً وسعادةً عامّة.
اللهمّ، أذلّ أعداء الأمّة الإسلامية.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾2
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- الحجرات، 13.
2- العصر، 1-2-3.
345
292
في لقاء مسؤولي النظام وسفراء الدول الإسلاميّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء مسؤولي النظام وسفراء الدول الإسلاميّة
المناسبة: عيد الفطر السعيد.
الحضور: مسؤولو النظام وسفراء الدول الإسلاميّة.
المكان: طهران.
الزمان: 19/8/2012م.
347
293
في لقاء مسؤولي النظام وسفراء الدول الإسلاميّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أبارك هذا العيد الكبير لجميع الحاضرين المحترمين والضيوف الأعزّاء وسفراء الدول الإسلامية، ولكلّ الشعب الإيراني الكبير والمؤمن، ولجميع أبناء الأمّة الإسلامية في كلّ الدول المسلمة وفي كلّ العالم.
عيد الفطر منشأ العزّة والشرف والكرامة
المهم هو أن نعرف قدر هذه اللحظات، فالله تعالى جعل عيد الفطر السّعيد منشأ العزّة والذخر والشرف والكرامة للأمّة الإسلاميّة، وللنبيّ المعظّم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذخراً وشرفاً وكرامةً ومزيداً، أساس ازدياد العزّة والشرف للأمّة الإسلامية، وللنبيّ المعظّم. وهذا يرتبط بكيفية تعاملنا نحن المسلمين مع هذه اللحظات والمناسبات. يمكن للشعوب المسلمة أن تجعل شهر رمضان وعيد الفطر وسيلةً للعزّة وسلّماً للتوجّه نحو الارتقاء المعنويّ والماديّ وعزّة الدنيا والآخرة، يجب علينا أن نكون متيقّظين، وعلينا أن نستفيد من هذه اللحظات.
حروب القوى المستكبرة وتبعاتها
لقد كانت الشعوب المسلمة، وطوال عشرات السنين، رازحةً تحت سلطة مستكبري العالم وظلمهم. إنّ الحروب العالمية التي حدثت بين القوى المستكبرة في العالم بدأت من أوروبا، وقد تصارع مستعمرو هذا العالم، لكنّ الشعوب المسلمة وشعوب هذه المنطقة قد وقعوا في تبعات ومشاكل هذه الحروب، وتبعاً لهذه الحروب، كان إيجاد هذه الزائدة الصهيونية الخطرة والمهلكة في منطقتنا الحسّاسة، وبين الدول الإسلامية، وفي قلب العالم الإسلاميّ، وتبعاً لهذه الحروب، كان البناء الخاطئ والهندسة المعيوبة لمنظّمة الأمم المتّحدة ومجلس الأمن والدّول التي تمتلك حقّ النقض (الفيتو)، أي إنّ تلك الأيادي الملوّثة بالدماء، التي أحدثت تلك الحروب المهلكة، أرادت تبعاً لذلك أن تمسك بزمام العالم، وتجعل هذه المنطقة الحسّاسة والمهمّة والغنيّة بالنعم والموقع (المركز) المُفترض لاتّحاد العالم الإسلامي تحت سيطرتها، وقد فعلوا ذلك. لقد كنّا غافلين، وكانت الشعوب المسلمة في سُبات، فهوجمت، واختلط مصيرها بتلك المشاكل المعقّدة والهائلة التي ما زالت ترزح تحتها، لقد غفلنا، لقد غفل زعماء الدول الإسلاميّة في ذلك الزمن، وانطلت عليهم خُدع الدّول الكبرى.
349
294
في لقاء مسؤولي النظام وسفراء الدول الإسلاميّة
اغتنموا الفرصة
يُستشعر اليوم ويُلاحظ أنّ هذا الستار من الغفلة الذي يسدّ أذهان دُول المنطقة والشعوب المسلمة في طور الزوال، ويجب علينا أن نغتنم هذه الفرصة. إنّ منطقتنا الحسّاسة وشمال أفريقيا ومنطقة غرب آسيا -والتي أطلق عليها الأوروبّيّون بحسب رغباتهم اسم الشرق الأوسط- والمركز الحسّاس لقلب العالم هي اليوم ببركة الصحوة الإسلامية في وضع تحديد المصير المستقبلي لهذه المنطقة. يجب علينا أن ندرك هذا المقطع الزمانيّ ونقدّره، ولا نسمح بضياع هذه اللحظة الحسّاسة والمهمّة من أيدينا. إنّ قضيّة القدس الشريف وفلسطين المظلومة هي في صلب هذه القضايا وفي قلب أحداث الشرق الأوسط.
إنّ الكثير من قضايا منطقتنا الحسّاسة ومشكلاتها هي بسبب وجود هذه الغدّة السرطانية الصهيونيّة، والتي تريد أيادي القوى العظمى الملوّثة بالدماء أن تحافظ عليها بكلّ ما استطاعت من قوةّ، الأمريكيّون يصرّحون، وكذلك القوى الأخرى المتسلّطة المهيمنة على العالم، تظهر بصراحة أنّ مصيرهم مرتبط بمصير النظام الصهيوني، وسيلحق بهم الضرر.
فلسطين القضيّة الأساس
إنّ قضية فلسطين اليوم، وببركة الصحوة الإسلاميّة، تحوّلت مرّة أخرى إلى قضيّة أساسيّة للعالم الإسلامي، ولا ينبغي أن تسمحوا بضياع هذا الامتياز واختفائه تحت مؤامرات وخُدع أعداء المسلمين وأعداء الأمّة الإسلاميّة، إنّ قضية فلسطين هي قضيّة أساسيّة. وعلى مرّ الزمان كانت الشعوب تختبر حكوماتها بحسب مواقفها من قضيّة فلسطين. بالطبع، إنّ ضغط الاستبداد والاستكبار والقمع والتسلّط ما كان ليسمح بظهور وبروز إرادة الشعوب. هذا العام، استطاعت الشعوب أن ترغم أنف الصهاينة في قضايا يوم القدس ومظاهرات أبناء هذه المنطقة، وأن تعلن مواقفها في هذه القضيّة، وبمشيئة الله ستزداد يوماً بعد يوم وتصبح أكثر حيويّةً.
سياسة العدو: فرّق تسد
إنّ العدوّ لا يجلس ساكناً، ولم يفعل ذلك من قبل، فإنّ مؤامرات العدوّ أصبحت أكثر تشعّباً، ومسؤولو الدّول الإسلاميّة وحكومات هذه الدّول المسلمة ونخبها، سواء النّخب السياسيّة أم الثقافيّة أم المتنوّرين أم علماء الدين، يتحمّلون مسؤولية توضيح
350
295
في لقاء مسؤولي النظام وسفراء الدول الإسلاميّة
الحقيقة للشعوب. وقد استخدموا اليوم وسيلةً قديمةً، كانت دوماً أداة القوى المستكبرة والمستبدّة للتغلّب على الشعوب، هذه القضيّة هي بذر الخلافات، الخلافات بين زعماء الدّول والحكومات والشعوب، وبمبرّراتٍ عديدة. لقد كانت خطّة الاستكبار الدائمة والمستمرّة هي إيجاد التفرقة، أو إحياء المشاعر القوميّة، هذه الفوارق التي توجد بنحوٍ طبيعيّ على صعيد الأعراق واللغات والألوان والمذاهب، يقومون بتضخيمها. هذا هو عمل الاستكبار، وقد كان عمله هكذا، وقد كان يفعل هذا دائماً. ومنذ القديم قيل: فرّق تسُد. وها هم اليوم يتّبعون نفس هذه الخطّة. يجب أن نرجع إلى أنفسنا وأن نكون متيقّظين، حكومات وشعوباً.
الصهيونيّة خطرٌ على كلّ العالم
وخلافاً للواقع، هم يخفون ذاك الشيء الذي يمثّل خطراً أساسيّاً وتهديداً جدّيّاً للمنطقة، بل لكلّ البشرية ـ أي الصهيونيّة ـ فالصهيونيّة هي خطرٌ على كلّ العالم. وفي يومنا هذا، فإنّ الحكومات الغربيّة هي ألعوبة لممارسات الصهاينة، وها هم اليوم يتلقّون الضربات من مراكز الثروة والقدرة والسلطة هذه. إنّه واضحٌ لشعوب هذه المنطقة من أين تجرّعت هذه الغصص على يد الصهاينة، فكلّ هذه الاغتيالات هي من أعمالهم، وكل هذه الخلافات بين الشعوب تحدث بأيديهم وباستخدامهم للأدوات المختلفة، فيجب علينا أن نكون واعين. إنّهم يخفون هذا الخطر الذي هو خطرٌ أساسيّ على هذه المنطقة ويحاولون أن يقلبوا الواقع، فيضخّمون كذباً تلك الأخطار غير الموجودة، ويزرعون الشقاق بين المسلمين. يجب علينا أن نكون متيقّظين عرباً وعجماً، شيعةً وسنّةً، بمختلف المذاهب. لا ينبغي أن يكون اختلاف ألواننا سبباً لخلافاتنا، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾1، فهذا التشعّب وهذا الاختلاف القبلي والعرقي ليس سبباً للخلافات، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾2 فالمحور هو شيءٌ آخر، والمعيار هو شيءٌ آخر. إنّه التسابق بين الشعوب المسلمة في العمل بالإسلام وفي تحقيق الأخوّة وفي السعي للتمرّد على إرادة القوى الكبرى وعلى رأسها أمريكا. يجب على الشعوب المسلمة أن تنظر أين تقوم السياسات الأمريكية والصهيونيّة بزرع الخلافات لتعلم أنّ هذه الخلافات مضرّة، ولا ينخدعوا بها.
1- الحجرات، 13.
2- الحجرات، 13.
351
296
في لقاء مسؤولي النظام وسفراء الدول الإسلاميّة
الحفاظ على الصحوة أمرٌ واجب
إنّ قضايا منطقتنا هي قضايا مهمّة والشعوب قد استيقظت. إنّ عدّة دول مسلمة وشعوب مسلمة تمكّنت على أثر هذه الصحوة أن تتغلّب على الوضع الذي كان محلّ رغبة الاستكبار. لقد أبطلت الشعوب عشرات السنين من الإنفاق والسعي الأمريكي في مصر وفي تونس وفي بعض المناطق الأخرى، فأحرقتها وأزالتها من الوجود، هذه هي الصحوة ويجب الحفاظ عليها. يجب أن يكون هذا هو المعيار، أي أن ننظر إلى مواقف أعداء الإسلام والمسلمين الواضحة والصريحة، لأنّ الباطل هناك، والنقطة المقابلة له هي نقطة الحقّ، هذا هو المعيار الذي يجب أن نأخذه بعين الاعتبار. وبرأينا إنّ أوضح المصاديق هو قضيّة اتّحاد وتوافق الشعوب، إنّهم يريدون زرع الشقاق بين الشعوب المسلمة وعلينا أن نعلم أنّ هذا الخلاف باطل، ومنهيٌّ عنه في الآيات القرآنية، إنّ التفرّق والخلاف والشجار فيما بين الشعوب المسلمة هو سمٌّ مهلك ويجب اجتنابه.
نسأل الله تعالى العون. إنّ فرصة شهر رمضان، هي فرصةٌ مهمّة جداً، وبمشيئة الله تستفيد منها الشعوب المسلمة. فرصة عيد الفطر هي فرصةٌ عظيمة، والفرص تمرّ مرّ السحاب ويجب اغتنامها.
اللهمّ، وفّق الشعوب المسلمة للاستفادة من هذه الفرص المتاحة لها.
اللهمّ، بوحدة الأمّة الإسلامية وتوافقها مُنّ على هذه الأمّة المظلومة.
اللهمّ، وفّقنا لأداء مسؤولياتنا في هذا الطريق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
352
297
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
المناسبة: بداية أسبوع الحكومة.
الحضور: رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة.
المكان: طهران.
الزمان: 23/8/2012م.
353
298
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لم يبقَ وقتٌ كثير، يجب عليّ أن أختصر المطالب التي كنت أريد أن أذكرها شاكرين للتوضيحات التي قدّمها الأصدقاء. ونسأل الله بمشيئته أن يحقّق في الخارج كل ما ترومونه وعقدتم العزم من أجله ووضعتموه في البرامج، من خلال المتابعة. إن شاء الله سيكون الأمر هكذا أيضاً.
إنّ هذه المناسبة تتلازم وتمتزج بذكر شهدائنا الأعزّاء الشهيد رجائي، والشهيد باهُنر، وكذلك الشهيد عراقي، حيث كان كلّ واحدٍ منهم وجهاً ساطعاً ومتألّقاً. إنّ إحياء ذكر هؤلاء الشهداء هو في الواقع إبقاءٌ لحياة مقولة الثورة وقيمة الشهادة. كما إنّ هذه المناسبة تُعدّ فرصةً لنوجّه شكرنا على الخدمات التي تقوم بها السلطة التنفيذيّة، سواء ما يقوم به المديرون العامّون في الأجهزة أم ما يُبذل من مساعٍ في جسم الأجهزة حتى أدناها، لحسن الحظ يوجد اليوم سعيٌ جماعيّ. إنّ فرصة أسبوع الحكومة تمنحنا فرصة توجيه الشكر لهؤلاء أيضاً، وكذلك بالنسبة لكم أيضاً هي فرصة في الواقع، ليست فرصة فقط لعرض التقارير والأعمال التي أُنجزت ليطّلع الناس على الحقائق ـ وهو بالطبع أمرٌ مطلوب ـ بل بالإضافة إلى هذا هي فرصةٌ للتقييم الذاتي من قبل السلطة التنفيذية. ستتم في الواقع دراسة نقاط القوّة والضعف، ويتم تقييم وتحديد ما كان أساس تقدّمهم فيعزّزونه وما كان سبب تراجعهم وضعفهم، والذي هو مشهودٌ في المجتمع وفي حياة الناس، فيزيلونه، فاعتبروا أسبوع الحكومة فرصة لكم، وخصوصاً هذه السنة التي هي آخر سنوات هذه الحكومة.
السنة الواحدة فرصة كبيرة
ما زلت أذكر تماماً، في اللقاء الذي كان لنا في أوّل مناسبة أسبوع الدولة مع هؤلاء الأصدقاء الذين يحضر معظمهم الآن، أنّنا قلنا إنّ الفرص تمرّ مرّ السحاب (كالبرق والريح). وها أنتم الآن تلاحظون أنّ القسم الأعظم من هذه الفرصة الطويلة والجيّدة قد انقضى وبقي منها سنةٌ واحدة، وبالطبع إنّ السنة الواحدة هي فرصة كبيرة أيضاً. لا ينبغي أن يُقال ماذا يمكن أن نفعل في هذه السنة التي بقيت لنا؟ كلا، توجد في هذه السنة المتبقّية أعمال كثيرة جداً وفي غاية الأهمية يمكنكم القيام بها. إنّ هذه السنة الأخيرة لحكومتكم هي سنةٌ مهمّة أيضاً، سواء من الناحية الدولية والظروف الموجودة، فهي سنة مهمّة جداً ـ أي أنّكم في حال مواجهة مع استعراض القوى المستكبرة الذين يبذلون كلّ قواهم، لعلّهم يتمكّنون من إجباركم على التراجع وقبول الهزيمة، يجب عليكم أيضاً أن تستعملوا كلّ قواكم حتى تتمكّنوا من القضاء على هذا التوهّم الباطل في ذهن العدوّ ـ وكذلك من ناحية أنّها الأخيرة. في الواقع، أنتم في
355
299
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
السنة الأخيرة تريدون أن تختموا هذا الكتاب الطويل والضخم لخدمات الحكومة، وتعدّوه وتسلّموه، أي أنّ العمل في هذه السنة في الواقع، إذا لم نقل إنّه ينبغي أن يكون أكثر جدّية ممّا مضى -فلا شكّ أنّه يجب أن يكون في هذه السنة الأخيرة خالياً تماماً من أي تقصيرٍ ووهن.
لحسن الحظ أنّ البلد في حال تقدّم ـ بغض النظر عن الأرقام والإحصاءات التي نقدّمها نحن ـ فالراصدون في العالم يقولون هذا أيضاً، وهم يؤيّدون أنّ هذا البلد هو في حال تقدّم من جهاتٍ عدّة. بالطبع، هناك من يحمل أوهاماً والأوهام ليست صحيحة، فإنّها لا تنشأ من التقييم الصحيح.
حسنٌ، ها هم أعداؤنا يتّخذون مواقف وإجراءات جديدة وهي تتطلّب تدابير وأساليب جديدة، ويجب الالتفات دوماً إلى هذا الأمر. أشار بعض الأصدقاء إلى أنّ الأعداء يتّخذون قراراً ونحن في مواجهته فعّالون ونتّخذ الإجراءات، إنّ هذا العمل جيدٌ جداً. غاية الأمر، أنّ الأفضل هو أنّه قبل أن يتّخذ الطرف المقابل مثل هذا القرار أن تتفطّنوا إلى ما سوف يقوم به. فافرضوا أنّكم كنتم متفطّنين إلى مشكلة نقل المصادر المالية والناشئة من بيع النفط وكنتم تقولون ذلك، أو كنّا قبلها نتفطّن إلى المشكلة التي أوجدوها في بيع وشراء النفط وانتقاله والتأمين وأمثاله، فهيّأتم الوسائل قبل ذلك. والآن أيضاً، الشيء نفسه، فلا يُتصوّر أنّ العدوّ سيرفع يده عن الاستمرار في عداواته. كلا، إنّهم يبحثون عن أسلوب ووسيلة، لأنّ ما قاموا به لم يصل إلى نتيجة، لذلك سوف يستمرّون في البحث عن أساليب أخرى ـ وهي بالتأكيد لن تصل إلى أية نتيجة ـ فعليكم أنتم أن تستشرفوا هذه الوسائل وتعدّوا أنفسكم قبل ذلك.
المركزيّة في اتّخاذ القرارات الإداريّة
هنا، قيل كلامٌ، وقد ذُكر لي قبل هذا، وهو أنّ المطلوب هو المركزية في اتّخاذ القرارات الاقتصادية للسلطة التنفيذية. بالطبع، إنّني أوافق تماماً، أي أنّه لا شكّ بضرورة المركزية لاتّخاذ القرارات الكبرى في القضايا الأساسيّة ـ والتي أهمّها الآن القضايا الاقتصادية وخصوصاً ما يرتبط بمعيشة الناس والضغوط التي يمارسها العدوّ على الشعب. غاية الأمر أنه عليكم أن تلتفتوا إلى أنّ هذه المركزية في القرارات، تعني مركزية القرار في الحكومة، أي إنّ على جميع العناصر الذين يعاونون السيّد رئيس الجمهورية في القطاعات المختلفة للحكومة، أن يشعروا بالمسؤولية المشتركة، أي أن يتعاونوا وينسّقوا في الحكومة، وأن يتّخذوا القرارات معاً، في هذا المجال يجب على الحكومة أن تأخذ قضية المسؤولية المشتركة بجدّيّة. وكلّ عملٍ تنجزه أيّة وزارة، يجب
356
300
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
على جميع الوزراء والمسؤولين الذين يلتقون حول طاولة هيئة الحكومة أن يشعروا أنّهم شركاء ومساهمون في هذه القرارات أو الإجراءات. لو حصل هذا، فإنّ الأعمال ستتقدّم من خلال التعاون والتنسيق، فلن يقع أيّ اختلافٍ في التنفيذ أو فهم القضايا أو الإحصاءات والأرقام.
توسعة الإمكانات والاستفادة من الطاقات
يجب إحضار كلّ الطاقات إلى الميدان والساحة، إنّ للبلد استعدادات وإمكانات جيّدة، سواء داخل الحكومة، فهناك إمكانات عالية، أم خارجها. إنّني أرى أحياناً أنّ بعض مسؤولي القطاعات يستعينون فكريّاً بأشخاصٍ من خارج تشكيلات الحكومة، إنّ هذا العمل جيّد، فوسّعوه واستفيدوا من هذه الإمكانيّات. إنّ هناك أشخاصاً مستعدّون بكلّ حرصٍ ومحبّةٍ وشوق أن يكونوا إلى جانب الحكومة وأن يعينوها، فلتتمّ الاستفادة من طاقاتهم، إنّ هؤلاء من إمكانات هذا البلد. وفي داخل الحكومة أيضاً، ولحسن الحظ، فإنّ الاستعدادات والإمكانات كثيرة.
توجد نقاط قوّةٍ، وتوجد نقاط ضعف أيضاً. عند استخلاص نقاط القوّة ونقاط الضعف، عندما ننظر، نرجّح نقاط القوة. لكنّ هذا لا يعني أنه لا ينبغي التخلّص من نقاط الضعف. طيلة هذه السنوات الأخيرة، أُنجز الكثير من الأعمال العمرانية الواسعة، وخصوصاً في المناطق النائية، في القطاعات المختلفة، إنّ هذه في الواقع أعمالٌ مهمّة. لقد كان هذا أداءً مهماً جداً في حركة الحكومة، بدءاً من هذه القضية وصولاً إلى كل التطوّر البارز الذي تحقّق في مجال العلم والتكنولوجيا، فكل هذا التطوّر الذي حصل في هذه السنوات في مجال العلم والتكنولوجيا يستحق الوقوف عنده كثيراً.
وكذا الأمر في مجال ارتقاء موقعية البلد في ساحة السياسة الخارجية والقضايا الدولية. في يومنا هذا، إنّ ثقل البلد ووزنه على صعيد السياسة الخارجية يختلف عمّا كان عليه قبل عدّة سنوات، إنّنا في القضايا مؤثّرون، وهذه أمورٌ مهمّة. في الأحداث التي جرت كنّا مؤثّرين ـ ولهذا قصّةٌ مستقلّة ـ وبرأينا فإنّ هذا أيضاً مهمٌّ جداً.
إبراز قيم الثورة
يوجد قسمٌ آخر من نقاط القوّة هذه، برأيي يجب التركيز عليه، هو قضية إبراز قيم الثورة. في هذه السنوات التي جاءت فيها الحكومة التاسعة والحكومة العاشرة على رأس الأمور، وإلى يومنا هذا، فإنّ مقولة الثورة وقيمها وتلك الأمور التي كان الإمام يوصي بها، ونحن تعلّمناها من الثورة، أضحت بارزةً جداً لحسن الحظ: قضية بساطة
357
301
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
عيش المسؤولين، ورفض الاستكبار، والافتخار بالثوريّة. لقد مرّ علينا عهدٌ أصبح اسم الثورة والثورية وأمثالها فيه في عزلةٍ واستبعاد، قد كان هناك سعي لأن تُذكر هذه الأمور كقيم سلبية أو مضادّة للقيم، فكانوا يكتبون المقالات ويتحدّثون. اليوم لحسن الحظ، الأمر ليس كذلك بل على العكس. إنّ الاتّجاه العام للشعب ومسؤولي الدولة هو نحو الحركة الثورية والتوجّهات والقيم والمباني الثورية، فالتفتوا إلى هذا الأمر، وهو أنّ من عوامل إقبال الناس على الحكومة هو هذه الأمور، أي إنّ الناس يولون أهميةً لهذه القيم، قضيّة الدعوة إلى العدالة وبساطة العيش وابتعاد المسؤولين عن الترف، كل هذه أمورٌ مهمّة جداً.
التواصل الشفّاف مع الناس
إنّ سعي الحكومة على صعيد التواصل مع الناس هو سعيٌ استثنائيّ، وعملٌ - لحسن الحظ - يشاهَد في الحكومة، إنّ هذه الأمور جيّدة. وبالطبع، التفتوا إلى أنّ كلّ هذا السعي الكبير الذي تقومون به ينبغي أن يكون متلازماً مع الكيفية الجيّدة، ركّزوا على هذا. بالطبع، من الطبيعيّ أنّكم تريدون أن تقدروا على القيام بما تقولونه ـ فلا شكّ في ذلك ـ لكن بالإضافة إلى ذلك، اهتمّوا بأن يتحقّق كلّ وعدٍ تقدّمونه، وأن يراه الناس يتحقّق في الموعد المحدّد. فلو أنّ 90% من الأعمال التي تتحدّثون عنها قد أُنجز، فإنّ الـ 10% منها التي لم تُنجز، ستؤدّي إلى إحداث اضطراب في أذهان الناس، فما يحتمله الإنسان أنّه لن يتحقّق، فليذكره بصورة الاحتمال لا بصورة القطع واليقين. برأيي، إنّ هذا أمرٌ مهمٌّ جداً.
عوامل استعداء الجمهوريّة الإسلاميّة
حسنٌ، إنّ كلّ ناظرٍ يشعر ويرى أنّ سعي الأعداء في مواجهة الجمهورية الإسلامية في هذه السنوات الأخيرة، لا سيّما في السنوات التي مضت، وبالأخص في السنتين الأخيرتين، قد تضاعف. برأيي، يوجد عاملان أو ثلاثة مؤثّرة. لو أنّنا نعلم من أين تنشأ دوافع العدوّ، لكنّا أدركنا مسؤوليتنا في التخطيط بنحوٍ أفضل. برأيي، إنّ من أسباب هذه العداوات هو كلّ هذا التطوّر منكم، أي إنّهم يريدون إبطاء كل هذا التطوّر. إنّ الجمهورية الإسلامية بادّعائها للإسلام والسيادة الشعبية الإسلامية، ورفض الليبرالية الديمقراطية بصورةٍ استدلالية تمثّل خطراً بالنسبة للتشكيلات الاستكبارية في العالم، وكلّما تقدّمتم يزداد هذا الخطر بالنسبة لهم، وهم يريدون الوقوف في وجهه.
العامل الثاني لهذه العداوات هو إحياء شعارات الثورة. عندما تخبو شعارات الثورة
358
302
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
وتغيب فإنّ هذا بالطبع سيعجبهم أكثر، وسيظهرون وجهاً أكثر مواءمةً، وكلّما جعلتم شعارات الثورة أكثر رونقاً فإنّ وجوههم ستزداد عبوساً وعداءً، وهذا أمرٌ طبيعي.
العامل الآخر، هو أحداث المنطقة فهذه الصحوة الإسلامية وما يحدث في منطقتنا هو أمرٌ مهمٌّ للغاية. برأيي أنّه، وإلى الآن، لم تُعرف الأبعاد العظيمة لهذه الحادثة التي حصلت في شمال أفريقيا ومنطقتنا الإسلامية بالنسبة للكثيرين، إنّ أمراً عظيماً جداً قد حصل، وإنّ يد القدرة الإلهية تقف وراء هذه القضية.
إنّه من البديهيّ والطبيعيّ، في مثل هذه الظروف، عندما يكون هناك إيران مطمئنة وادعة وبهذه الشعارات الموجودة، وهذه الأعمال التي تُنجز، وهذا التطوّر الملموس، وعندما يأتون من تلك الدول ويشاهدون المصانع والجامعات ومراكز التحقيق ووضع المعيشة للناس، والأسواق المليئة بالبضائع والحكومة المطمئنة، أن يقول هؤلاء إنّ النموذج والقدوة الجيدة هو هذا، إنهم يريدون أن لا يكون هذا.
يريدون أن لا تشكّل الجمهورية الإسلامية هذه القدوة، أي أنّهم يريدون إيجاد مشاكل وأزمات للجمهوريّة الإسلاميّة حتى لا تكون قدوةً لتلك الدول التي حصلت فيها هذه التحوّلات ودخلت في مرحلةٍ جديدة من أجل إكمال المسير.
بالطبع، إنّ بعضهم ينشرون في الجرائد والمواقع والمحافل المختلفة أموراً وهو أنّه لماذا اختلقنا مثل هذه العداوات في العالم، بحيث إنّهم يعادوننا إلى هذا الحدّ! برأيي، إنّ هذه الأمور هي ترّهات، عندما كان الإمام الجليل، كانت العداوات كثيرة وذلك بسبب مواقفه القاطعة. كلّما ضعفت مواقفنا تراجعنا، وهم - بالطبع - سيظهرون وجوهاً أكثر تبسّماً بالظاهر، وطبعاً سيتقدّمون، أي إنّهم سيظهرون البسمات من أجل أن يتمكّنوا من التقدّم واحتلال المناطق ومنعنا من التقدّم نحو أهدافنا، وكلّما كنّا في حركتنا أكثر جدّيةً وعزماً فإنّهم ينزعجون ويعبسون.إنّهم إلى الآن، وطيلة هذه السنوات الـ 33 1 لم يتمكّنوا من إيقافنا، ولن يتمكّنوا بعد هذا، إن شاء الله، لهذا، ولحسن الحظ وضع البلد هو هكذا. بالطبع، هناك ابتلاءات ونقاط ضعف ومشاكل يجب علينا أن نلتفت إليها، لكن في المجموع عندما ينظر المرء فإنّ حركة البلد هي حركة تقدّمية.
1- استشهد محمد علي رجائي (رئيس الجمهوريّة بعد عزل بني صدر)، والشهيد محمد جواد باهر (رئيس الوزراء) عام 1981م على يد أعداء الثورة. والشهيد رجائي كان محبوباً من الشعب متواضعاً ومخلصاً للثورة.
استشهد الحاج مهدي العراقي عام 1979م بعيد انتصار الثورة على أيدي منظمة الفرقان المنحرفة.
359
303
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
الشرائح الضعيفة والمشاكل الاقتصاديّة
برأيي، إنّ أساس المشاكل هو ذاك الشيء الذي يرتبط بمعيشة الطبقات المتوسّطة والضعيفة في المجتمع، ومن أين ينشأ هذا؟ إنّني هنا لا أريد أن أحلّل. توجد نقاط ضعف حتماً، وينبغي أن تُطرح مع المديرين أنفسهم. ولا توجد أيّة ضرورة أن تُعدّد على المنابر والميكروفونات، لأنّ ذكرها في الأجواء العامّة لا يحلّ المشكلة، فإذا كانت موجودة يجب أن تُقال لمن يعاني منها، لكن آثار ونتائج نقاط الضعف تلك هي أمرٌ مشهودٌ وواضح ويمكن للإنسان أن يذكره.
وما هو مهمٌّ بنظري، هو أنّه توجد مشاكل اقتصادية عند الشرائح الضعيفة، فيجب عليكم أن تزيلوها. وهنا، إنّ قسماً من هذه المشاكل ناشئ من التضخّم. نحن ولحسن الحظ، ليس لدينا نقص في البضائع في البلد. توجد في البلد البضائع المختلفة التي يحتاج إليها الناس، لكن قضية الغلاء وضعف القوّة الشرائية موجودان، ويجب عليكم أن تعالجوهما، وهذا الأمر هو بعهدة الأقسام الاقتصادية المختلفة، أي الأقسام المركزية وكذلك الأقسام العملياتية كوزارة الصناعة والمناجم والتجارة ووزارة الجهاد الزراعي والأقسام الأخرى، والتي ينبغي أن تتابع الأمر إن شاء الله بشكل جدّي.
الإنتاج ومعضلة التضخّم والسيولة
أصحاب الرأي في المجال الاقتصادي، سواء أكانوا من داخل الحكومة أم من خارجها، يقولون لهذا العبد إنّ القضية مرتبطة بازدياد السيولة، ويعتبرونه أهم عامل، وهذا لا نسمعه فقط من خارج الحكومة، بل عندما نسأل من هم داخل الحكومة يقولون لنا ذلك ويقدّمون التقارير، يجب أن تجدوا طريقاً لضبط عملية السيولة المتزايدة. حسنٌ، هذا واضحٌ، فلو كان هناك إنتاجٌ وبضائع مقابل السيولة ولا يوجد نقص، لما كان هناك مشكلة، لكن لو لم يكن الأمر كذلك بحيث تفوق السيولة إنتاج البضائع المحلية أو الاستيراد بشكل صحيح، فبالطبع ستحصل مشكلة.
إنّ عوامل السيولة كثيرة، فالدعم المالي الذي يُقدّم ـ والذي كان بالنسبة للطّبقات عملاً مفيداً ـ فإنّه يزيد من السيولة. وكلّ هذه الاعمال العمرانية التي تقومون بها ـ والتي يكون مردودها مؤجلاً بلا شك مما يوجد زيادة في السيولة، وقضية الإسكان (مسكن مهر)1 التي جرى الحديث عنها أو تلك المشاريع التي لم تكتمل والتي تزيدونها، وهذا العمل الذي يجري في الحكومة ـ وهو عملٌ جيد ومطلوب أيضاً ـ فهذه مما يزيد من
1- مشروع بناء مساكن بقروض ميسّرة للطبقات الفقيرة وذوي الدخل المحدود.
360
304
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
السيولة، فبالنسبة لهذه القضية يجب إيجاد الحلول. أنتم أشخاصٌ أصحاب علم وتجربة ومنخرطون في العمل، فاكتشفوا طرق الحلّ لأجل تلك الأمور، وجّهوا هذه السيولة المتزايدة نحو مراكز يمكن أن تساعد على حلّ مشاكل الناس كالإنتاج.
الاقتصاد المقاوم1، ودور القطاع الخاصّ
ويجب على القطاع الخاص أن يساعد. نحن عندما نطرح الاقتصاد المقاوم، فإنّ لهذا الاقتصاد شروطاً وأركاناً، وأحدها هو الاعتماد على الناس، فهذه السياسات الموضوعة في البند 44 2 يجب أن تُتابع بكلّ تأكيدٍ واهتمامٍ ودقّةٍ وتوجّس مهما أمكن، فهذا يُعدّ من أعمالكم الأساسية. في بعض الموارد أسمع من مسؤولي الدولة أنفسهم أنّ القطاع الخاص لا يتقدّم بسبب ضعف قدرته. حسنٌ، يجب أن تفكّروا بأن يصبح القطاع الخاص مقتدراً، سواء عن طريق البنوك أم القوانين المطلوبة والمقرّرات اللازمة، فاعملوا على أن يصبح هذا القطاع الخاص والشعبيّ فعّالاً من أي طريق يلزم. في النهاية، إنّ الاقتصاد المقاوم يعني أن يكون لدينا اقتصاد يحفظ مسيرة النموّ الاقتصادي في البلد، وكذلك تتناقص آفاته، أي أن يكون الوضع الاقتصادي للبلد والنظام الاقتصادي بحيث تقلّ أضراره وخسائره مقابل حيل الأعداء التي ستبقى دوماً وبأشكال مختلفة، وفي الوقت نفسه يكون اضطرابه أقل. من شرائط هذا، الاستفادة من جميع الإمكانات الحكومية والشعبية فاستفيدوا من أفكار وآراء وأساليب أصحاب الرأي، ولتتم الاستفادة من الرساميل.
ثقة الناس، ومواجهة المفاسد الاقتصاديّة
يجب أن يُفتح المجال أمام الناس في الواقع. وقد أشير بالطبع، في كلمات الأصدقاء، إلى بعض هذه الحوادث الناشئة عن ملاحقة المفسدين والمفاسد الاقتصادية. ففي الواقع لا يمكن أن يكون لدينا عملٌ اقتصاديٌّ صحيحٌ وقويّ دون أن نحارب المفاسد الاقتصاديّة، فهذا غير ممكن. لقد بحثت قبل سنوات عدّة بشأن هذه القضيّة وذكرت بعض المطالب لمسؤولي الدولة، وأشرت إلى هذه النقطة، وهي أنّه لا ينبغي أن نتخيّل أنّنا نستطيع أن نحصل على الرأسمال الشعبي والمشاركة الشعبية الصحيّة من دون محاربة المفاسد الاقتصادية، وأنه لا ينبغي أن يُظن أن محاربة المفاسد الاقتصادية تؤدّي إلى التقليل من مشاركة الناس ورساميلهم، لأنّ أكثر الذين يريدون أن يدخلوا إلى
1- راجع حاشية الصفحة 264.
2- راجع حاشية الصفحة 265.
361
305
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
وبرأيي، إنّ تعاون السلطة التنفيذية والسلطة القضائية في هذا المجال هو أمرٌ ضروريٌّ جدّا.
دعم الإنتاج الوطني ركن الاقتصاد المقاوم
وهناك ركنٌ آخر للاقتصاد المقاوم وهو عبارة عن دعم الإنتاج الوطني والصناعة والزراعة. فإنّ الإحصاءات التي قدّمها السادة هنا هي إحصاءاتٌ جيّدة، لكن من جانبٍ آخر، ومن داخل الحكومة، المسؤولون أنفسهم يخبروننا أنّ بعض المصانع واقعة في مشاكل واضطرابات وهناك أماكن تتعطّل فيها الصناعات ـ تصلنا تقارير مختلفة، ومنها ما يصلنا عبركم، أي أنّني أحصل على تقارير من مكانٍ آخر، لكنّ اعتمادي ليس على تقارير الآخرين، فإنّ التقارير التي تصلني منكم أيضاً موجودة. يجب معالجة هذا. وبالطبع، كل هذه تُوجِد مشاكل. ولو لم يكن ذاك القسم الثاني من القضية ـ أي الجزء الفارغ من الكوب موجوداً، لكنتم اليوم تقدّمون وضعاً أفضل بلحاظ الرونق والازدهار الاقتصادي في البلد، ولكان هناك المزيد من المساعدات للناس. في النهاية، دعم الإنتاج الوطني، الذي ينبع من رحم اقتصادنا والذي كان ينبغي التركيز عليه.
الاقتصاد المقاوم، تفعيل الوحدات الإنتاجيّة
فعّلوا الوحدات الصغيرة والمتوسطة. لحسن الحظ، إنّ الوحدات الكبرى عندنا ناشطة وجيّدة وأرباحها جيّدة أيضاً، أعمالها جيّدة، وتشغيلها جيّدٌ أيضاً. إنّ أساس وحداتنا الكبرى هو بهذا الوضع، لهذا، وكما ذكرتم إنّ نتاج الإسمنت عندنا والفولاذ والمنتجات الأساسية عندنا هي هكذا من حيث الجودة، لكن ينبغي أن تهتمّوا بالوحدات المتوسّطة والصغرى، فإنّها مهمّة جدّاً ولها آثارٌ مباشرة على حياتنا.
إنّ قضية المصادر المالية (العملة الصعبة) هي قضيّة مهمّة أيضاً، وهي مورد توجّه السّادة حاليّاً. راعوا الدقّة في هذه القضيّة، ويجب القيام بعمل كثير. في الواقع، ينبغي إدارة هذه المصادر بشكل صحيح.
وهنا قد أشير إلى العملة الأساسية في هذا المجال، صدرت تصريحات مختلفة من الحكومة، أي أنّه في الصحف ذُكر قولٌ لمسؤولٍ بطريقة،
362
306
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
وفي اليوم الثاني أو ما بعده قيل شيءٌ آخر، فلا تسمحوا بحدوث هذا الأمر. فليُتّخذ قرارٌ حاسم، وليتم التركيز عليه ومتابعة القضية. على كلّ حال، يجب إدارة هذه المصادر المالية بدقّة.
الاقتصاد المقاوم، إدارة الاستهلاك
هناك قضية أخرى في الاقتصاد المقاوم وهي إدارة الاستهلاك. فإنّ مسألة الإسراف هي مسألة مهمّة في البلد، فكيف ينبغي الحؤول دون الإسراف؟ إنّ هذا ما يتطلّب بناء الثقافة، والإجراءات العملية.
والبناء الثقافي فيه، بمعظمه يقع على عاتق الوسائل الإعلامية. في الواقع، إنّ المسؤولية في هذا المجال تقع بالدرجة الأولى على الإذاعة والتلفزيون أكثر من الجميع -وإن كان على الأجهزة الأخرى مسؤوليات- يجب عليكم القيام بالبناء الثقافي. إنّنا شعبٌ مسلمٌ نحبّ المفاهيم الإسلامية، ولقد اهتمّ الإسلام بمحاربة الإسراف إلى درجةٍ كبيرة، ونحن وللأسف مسرفون في حياتنا. أمّا القسم الإجرائي فيه، وبرأيي، ينبغي أن يبدأ من الحكومة نفسها. لقد قرأت في تقاريركم وهنا أيضاً، بيّن بعض الأصدقاء أنّ الحكومة بصدد ترشيد الاستهلاك وتريد أن تقتصد. حسنٌ جداً، إنّ هذا مطلوبٌ فخذوه على محمل الجدّ.
إنّ الحكومة نفسها هي مستهلكٌ كبيرٌ جداً، بدءاً من البنزين وحتى الوسائل المختلفة فإنّ الحكومة هي مستهلكٌ كبير. فاقتصدوا في الاستهلاك، لأنّه أمرٌ ضروريٌّ جداً ومهم.
اهتمّوا باستهلاك المنتجات المحلّية. ففي أجهزتكم ووزاراتكم، لو أردتم القيام بعملٍ جديد أو أردتم شراء شيء جديد، لو أردتم تأمين تلك السلع اليوميّة التي تحتاجها الوزارة، فاسعوا أن تكون كلّها محليّة وأكّدوا على ذلك، فإنّ هذا بذاته يُعدّ حجماً ضخماً جداً. وفي الأساس امنعوا وقولوا لا يحقّ لأحد في هذه الوزارة أن يستهلك بضائع أجنبية. وبرأيي يمكن لهذه الأمور أن تساعد.
الاقتصاد المقاوم، المرتكز على العلم
مسألةٌ أخرى في عناوين الاقتصاد المقاوم وهي الاقتصاد المعتمد على العلم. إنّ بعض العاملين في الشركات التي تقوم على أساس الخدمات العلمية نشطاء، جاؤونا في شهر رمضان وتحدّثوا. لحسن الحظ، يرى المرء أنّهم قد قاموا بأعمالٍ جيّدة. إنّ هذا القسم من الشركات ونشاطاتها الاقتصادية يشقّ طرقاً جديدة ويبعث على التفاؤل، وطبعاً، إنّ لهؤلاء شكاوى. وبرأيي، إنّ أصدقاءنا المسؤولين في الحكومة الذين ترتبط أعمالهم بهذا القطاع، سواء وزارة الصناعة والمناجم والتجارة أم وزارة العلوم، عليهم أن يهتمّوا
363
307
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
بهذه القضية المتعلّقة بالشركات التي تقوم على أساس الخدمات العلميّة ويستمعوا إلى شكاواهم ويعملوا على إزالتها، إنّ الأرضية ممتازة. لدينا استعدادات وقابليات مميّزة يمكن أن تقدّم العون في هذا المورد.
إنّ قضية الوحدة والانسجام الوطني هي برأيي أمرٌ مهمٌّ جداً. ونحن هنا قد كرّرنا هذه القضية إلى درجة كأنّ الألفاظ فيها باتت تفقد خاصّياتها في إفادة المعنى، إنّ علينا جميعاً أن نتحدّث. المسؤولون يجب أن يجعلوا التوجّهات دقيقةً ومتطابقة، إنّ هذا يقع على عاتقكم جميعاً. ينبغي أن لا يحمّل أحدنا مسؤولية التقصير للآخر. أن نقول أيّها السيّد إنّنا نريد أن نقوم بهذا العمل ولا يسمحون لنا، أو إنّنا قمنا بهذا العمل وحالوا بيننا وبينه، أو اتّخذنا هذا القرار لكنّهم لم يطبّقوا أو يفعلوا ـ وهذا ما يُقال من قبل السلطات المختلفة والقطاعات المتعدّدة ـ هذا لا يقبل به أحد. في النهاية، إنّ دوائر المسؤولية مشخّصة، وهناك من عليه التشريع، وهناك من عليه التنفيذ، وهناك من يجب عليه تنظيم السياسات، وهناك من يتابع الإجراءات، يجب على الجميع أن يتعاونوا فيما بينهم. لا ينبغي أن نقلّل من شأن التعاون والتعامل فيما بين السلطات. وبالطبع، إنّ المخاطب بهذا الكلام ليس السلطة التنفيذية فحسب، بل يشمل السلطة القضائية والسلطة التشريعية، ولا تنحصر الأجهزة التنفيذية المختلفة بالحكومة ـ مثل القوّات المسلّحة وغيرها ـ فهم مشمولون بهذا الخطاب، يجب على الجميع أن يلتفتوا إلى هذ المعنى. بالطبع، للوسائل الإعلاميّة وأصحاب المنابر دورٌ. للوسائل الإعلامية دورٌ كبير في إيجاد الوحدة أو الاختلاف، واليوم مع اتّساع المراكز والمواقع الخبرية والإعلامية والإنترنتية، فإنّه ما من كلام يخرج من لسانٍ أو حنجرة إلا ويصل إلى أسماع الجميع، والكثيرون لا يلتفتون ولا يراعون هذا. فالمسؤولون، سواء في الحكومة أم خارجها، يجب أن يهتمّوا كثيراً، لأنّه يمكن لهذه الحرية الموجودة في النظام الإسلامي لبيان الحقائق، أن تُستخدم في الجهة الصحيحة، في جهة إيجاد النشاط في العمل والأمل والمودّة والتعاضد.
في المجال الثقافي لم تُتح الفرصة ليقدّم السادة تقريرهم. وهنا أذكر جملةً واحدة: لا ينبغي الاكتفاء بالأعمال السطحية، فالتفتوا إلى الأعمال الأعمق والأكثر بنيوية والأعمال التي يصدر وينشأ من الواحد منها عشرات الأعمال. إنّني عندما قدّمت نسخةً عن هذه الأعمال العميقة المطلوبة إلى السيّد رئيس الجمهورية، فهذه ما ينبغي متابعتها وكان يجب أن تُتابع. في مجال الثقافة، يجب أن نراقب بشدّة لكي لا نقدّم العون للثقافة الغازية، فالثقافة الغازية خطرة. لو أنّنا لم نتمكّن من صيانة الثقافة العامّة في
364
308
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
البلد والثقافة التي توجّه النخب العامّة والشرائح المختلفة نحو هدفٍ واحد، سيصل الأمر بنا إلى الكثير من المشاكل، وكلّ ما تقرّرونه سيأتون ويخرّبونه، لينعكس بطريقةٍ مختلفة.
للفضاء الافتراضي(cyber) أهمّية. وهنا لم يعد من مجال الآن لنذكر بعض المطالب. إنّ قضية دبلوماسية الثورة مهمّة جداً. وهنا أيضاً لا يوجد مجال للحديث المفصّل بشأنها، فبرأيي هناك في هذا المجال، أنشطة جيّدة في طور الإنجاز. دبلوماسيتنا يجب أن تتلازم مع روحية الثورة ـ أي الإسلام الثوريّ ـ فهذا ما يمنحنا المخالب. إنّ شعوب المنطقة اليوم، معجبة بالجمهورية الإسلاميّة بسبب موقفها الإسلاميّ المستقل والشجاع، فيجب الحفاظ على هذا. وفي مناطق مختلفة من العالم يزداد إعجاب الناس أكثر بمسؤولي الجمهورية الإسلامية بسبب هذه الشجاعة وهذا الاستقلال وعدم الخوف الذي يبرزونه، وهذا علامةٌ على أنّ الطريق هو هذا. على دبلوماسيتنا أن تكون في هذا الاتّجاه. وهنا ولحسن الحظ، الأصدقاء يبذلون جهوداً كثيرة.
يجب الاستفادة القصوى من أحداث المنطقة أيضاً لصالح أهداف الثورة. إنّ حوادث المنطقة هذه ـ كما أشرت ـ هي أحداثٌ مهمّة جدّاً وكانت ضربةً قوّية ضدّ توجّهات الاستكبار في هذه المنطقة. وأنتم لا شكّ تعلمون أنّ أمريكا والصهيونية ـ وليس فقط الكيان الصهيوني - بل التشكيلات القوية والفعّالة والنافذة للصهيونية في العالم، كلّ هؤلاء لن يتمكّنوا من أن ينجوا بأنفسهم من الأضرار التي نجمت عن هذه الحركة العظيمة. لقد أُخذ هؤلاء بهذه الحوادث على حين غرّة بالمعنى الواقعي للكلمة، إنّهم يسعون للتغلّب وركوب هذه الأمواج، ومن الممكن أن يستطيعوا في بعض الزوايا، لكنّهم بالإجمال لن يتمكّنوا ولا يمكنهم، إنّ هذه فرصةٌ مهمّة جداً للجمهورية الإسلامية لكي نستفيد منها ومن هذه الأجواء.
نسأل الله تعالى بمشيئته أن يعينكم. اعلموا أنّ كلّ خطوة تخطونها، وكلّ ذرّة في عملكم، وكلّ حرقة تشعرون بها، وكلّ سعي تبذلونه، محفوظ كلّه عند الله تعالى. وأنا هنا سواء عرفت الواحد منكم بشخصه أم بنوعه، شكرته أم لم أشكره، فإنّ ما تقومون به من حسنة وخيرٍ وبنيّة حسنة، هو محفوظٌ عند ربّ العالم، يقول القرآن: ﴿فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾1.
هنا من الممكن لمن هو مثلي - أنا العبد - أن لا يعلم مثلاً كم أمضيتم من وقتٍ إضافيّ زائد عن مسؤوليتكم في محلّ عملكم أو مكتبكم، وكم أتلفتم من أعصابٍ وبذلتم من
1- البقرة، 158.
365
309
في لقاء رئيس الجمهوريّة وأعضاء هيئة الحكومة
جهدٍ، وبالطبع، عندما لا نعلم لن نشكر، لكن دقائق لحظاتكم مدوّنة ومسجّلة عند الكرام الكاتبين، حيث "إنّا كنّا نستنسخ" أي أن كلّ ذرّة بذرّة لها نسخة، ولا تخفى.
آجركم الله تعالى، وإن شاء الله تذهبون إلى الأعمال وتتابعونها بجدّية. لقد عُرفت الحكومة التاسعة والحكومة العاشرة بكثرة العمل والنشاط والسعي وعدم التعب، فاسعوا للحفاظ على هذه الحالة وهذه السّمعة الجيّدة حتى آخر اللحظات. إن شاء الله سيعينكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
366
310
في مراسم افتتاح قمّة دول عدم الانحياز
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في مراسم افتتاح قمّة دول عدم الانحياز
المناسبة: افتتاح قمّة دول عدم الانحياز.
الحضور: رؤساء ووفود ممثّلة لبلدان حركة عدم الانحياز.
المكان: طهران.
الزمان: 30/8/2012م.
367
311
في مراسم افتتاح قمّة دول عدم الانحياز
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأعظم الأمين وعلى آله الطاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
نرحّب بكم أيّها الضيوف الأعزاء الرؤساء والوفود الممثّلة لبلدان حركة عدم الانحياز، وسائر المشاركين في هذا المؤتمر الدولي الكبير.
لقد اجتمعنا هنا لنواصل بعون الله وهدايته، وحسب مقتضيات العالم الراهن واحتياجاته، المسيرة والتيار الذي تأسّس قبل نحو ستة عقود بفضل وعي وشجاعة عدد من القادة السياسيين المخلصين ذوي الشعور بالمسؤولية وتشخيصهم للظروف، بل ونبثّ فيه روحاً وحركة جديدتين.
وحدة الحاجة تجمع الدول
لقد اجتمع ضيوفنا هنا من مناطق بعيدة وقريبة جغرافياً، وهم ينتمون لشعوب وأعراق متنوعة وذات ميول عقيدية وثقافية وتاريخية وتراثية شتى، ولكن كما قال "أحمد سوكارنو" - أحد مؤسسي هذه الحركة - في مؤتمر "باندونغ" المعروف سنة 1955م، إن أساس تشكيل عدم الانحياز ليس الوحدة الجغرافية ولا العرقية ولا الدينية، بل وحدة الحاجة. في ذلك اليوم كانت البلدان الأعضاء في حركة عدم الانحياز بحاجة إلى أواصر تستطيع أن تحميها من هيمنة الشبكات المقتدرة والمستكبرة والجشعة، واليوم فإن هذه الحاجة لا تزال قائمة مع تطوّر أدوات الهيمنة واتساعها.
الفطرة الواحدة، الحقيقة المشتركة
وأريد أن أثير حقيقة أخرى...
لقد علّمنا الإسلام أن للبشر رغم تنوّعهم العرقي واللغوي والثقافي فطرةً واحدة تدعوهم للطهر والعدالة والإحسان والتعاطف والتعاون. وهذه الطبيعة المشتركة هي التي إن أفلتت بسلام من الدوافع المُضلّلة فستهدي البشر إلى التوحيد ومعرفة ذات الله تعالى.
إن هذه الحقيقة الساطعة لها القدرة على أن تكون رصيداً وسنداً لتأسيس مجتمعات حرّة شامخة تتمتّع بالتقدّم والعدالة إلى جانب بعضها بعضاً، وتنشر إشعاعات الروح المعنوية على كل الأنشطة المادية والدنيوية للبشر، وتوفّر لهم جنّة دنيوية قبل الجنّة الأخروية الموعودة في الأديان الإلهية. وهذه الحقيقة المشتركة العامة نفسها هي التي
369
312
في مراسم افتتاح قمّة دول عدم الانحياز
يمكنها أن تُرسي دعائم حالات من التعاون الأخوي بين شعوب لا شبه فيما بينها من حيث الشكل الظاهري والسوابق التاريخية والإقليمية الجغرافية.
متى ما قام التعاون الدولي على مثل هذا الأساس فسوف تشيد الدول العلاقات فيما بينها لا على ركائز الخوف والتهديد، أو الجشع والمصالح الأحادية الجانب، أو سمسرة الخونة والبائعين لأنفسهم، بل على أساس المصالح السليمة والمشتركة، وفوق ذلك المصالح الإنسانية، ويريحوا بذلك ضمائرهم اليقظة وبالَ شعوبهم من الهموم.
هذا النظام المبدئي يقف على الضدّ من نظام الهيمنة الذي أطلقته القوى الغربية المتسلّطة في القرون الأخيرة، وروّجت له وكانت السبّاقة إليه، وتفعل ذلك في الوقت الحاضر الحكومة الأمريكية المعتدية المتعسّفة.
عدم الالتزام لأقطاب القوّة
أيّها الضيوف الأعزاء...
لا تزال المبادئ والأهداف الأصلية لحركة عدم الانحياز اليوم قائمة حية رغم مرور ستة عقود... مبادئ مثل مكافحة الاستعمار، والاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، وعدم الالتزام لأقطاب القوة في العالم، ورفع مستوى التضامن والتعاون بين البلدان الأعضاء. والواقع في العالم اليوم ليس بالقريب من هذه المبادئ والأهداف، لكن الإرادة الجمعية والمساعي الشاملة لتجاوز هذا الواقع والوصول إلى المبادئ والأهداف تبعث على الأمل والنتائج الإيجابية رغم ما يحفّها من التحديات.
لقد شهدنا في الماضي القريب انهيار سياسات فترة الحرب الباردة، وما تلا ذلك من الأحادية القطبية. والعالم باستلهامه العبر من هذه التجربة التاريخية يمرّ بفترة انتقالية إلى نظام دولي جديد، وبمقدور حركة عدم الانحياز ويجب عليها أن تمارس دوراً جديداً. ينبغي أن يقوم هذا النظام على أساس المشاركة العامة والمساواة في الحقوق بين الشعوب، وتضامننا نحن البلدان الأعضاء في هذه الحركة من الضروريات البارزة في الوقت الراهن لأجل انبثاق هذا النظام الجديد.
العالم الجديد، انبثاق قوى جديدة
لحسن الحظ، إن أفق التطورات العالمية يبشّر بنظام متعدِّد الوجوه، تترك فيه أقطاب القوة التقليدية مكانها لمجموعة من البلدان والثقافات والحضارات المتنوعة ذات المنابت الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المختلفة. الأحداث المذهلة التي شهدناها طوال العقود الثلاثة الأخيرة تشير بوضوح إلى أن انبثاق القوى الجديدة كان مصحوباً
370
313
في مراسم افتتاح قمّة دول عدم الانحياز
بضعف القوى القديمة، وهذا التغير التدريجي في القوة يمنح بلدان عدم الانحياز الفرصة لتتولى دوراً مؤثّراً ومناسباً في الساحة العالمية، وتوفّر الأرضية لإدارة عادلة ومشتركة حقاً للعالم. لقد استطعنا نحن البلدان الأعضاء في هذه الحركة الحفاظ على تضامننا وأواصرنا في إطار المبادئ والأهداف المشتركة لفترة طويلة من الزمن مع تنوّع الميول والتصوّرات، وهذا ليس بالمكسب الصغير أو البسيط. هذه الأواصر بوسعها أن تكون الرصيد للانتقال إلى نظام إنساني عادل.
الظروف الراهنة في العالم فرصة قد لا تتكرّر لحركة عدم الانحياز. ما نقوله هو أن غرفة عمليات العالم يجب أن لا تُدار بدكتاتورية عدة بلدان غربية، ينبغي التمكّن من تشكيل وتأمين مشاركة ديمقراطية عالمية على صعيد الإدارة الدولية. هذه هي حاجة كل البلدان التي تضرّرت وتتضرّر بشكل مباشر وغير مباشر من تطاول عدة بلدان تسلطية متعسّفة.
مجلس الأمن، ديكتاتوريّة مقنّعة
مجلس الأمن الدولي ذو بنية وآليات غير منطقية وغير عادلة وغير ديمقراطية بالمرّة. هذه دكتاتورية علنية ووضع قديم منسوخ انقضى تاريخ استهلاكه، وقد استغلت أمريكا وأعوانها هذه الآليات المغلوطة، فاستطاعت فرض تعسّفها على العالم بلبوس المفاهيم النبيلة، إنهم يقولون "حقوق الإنسان" ويقصدون المصالح الغربية، ويقولون "الديمقراطية" ويضعون محلّها التدخل العسكري في البلدان، ويقولون "محاربة الإرهاب" ويستهدفون بقنابلهم وأسلحتهم الناس العزّل في القرى والمدن. البشر من وجهة نظرهم ينقسمون إلى مواطنين من الدرجة الأولى والثانية والثالثة، أرواح البشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية رخيصة، وفي أمريكا وغرب أوروبا غالية، والأمن الأمريكي والأوربي مهم، وأمن باقي البشر لا أهمية له. والتعذيب والاغتيالات إذا جاءت على يد الأميركيين والصهاينة وعملائهم فهي جائزة وممكن غضّ الطرف عنها تماماً، ولا تؤلم ضمائرهم سجونهم السرية التي تشهد في مناطق متعددة من العالم في شتى القارات أقبحَ وأبشعَ السلوكيات مع السجناء العزّل الذين لا محاميَ لهم ولا محاكمات. الحسن والسيئ أمور انتقائية تماماً وذات تعاريف أحادية الجانب. يفرضون مصالحهم على الشعوب باسم القوانين الدولية، وكلامَهم التعسّفي غير القانوني باسم المجتمع العالمي، ويستخدمون شبكاتهم الإعلامية الاحتكارية المنظمة ليظهروا أكاذيبهم حقيقة، وباطلهم حقاً، وظلمهم عدالة، وفي المقابل يسمّون أي كلام حق يفضح مخادعاتهم كذباً، وأية مطالب حقة تمرداً.
371
314
في مراسم افتتاح قمّة دول عدم الانحياز
أيها الأصدقاء.. هذا الواقع المعيب البالغ الأضرار مما لا يمكن مواصلته، الكلّ تعبوا من هذه الهندسة الدولية الخاطئة. نهضة التسعة والتسعين بالمئة في أمريكا المناهضة لمراكز الثروة والقوة في ذلك البلد، والاعتراضات العامة في بلدان أوروبا الغربية على السياسات الاقتصادية لحكوماتهم تدلّ على نفاد صبر الشعوب من هذا الوضع، يجب معالجة هذا الوضع غير المعقول.
الأواصر المتينة والمنطقية والشاملة للبلدان الأعضاء في حركة عدم الانحياز يمكنها أن تترك تأثيرات عميقة في العثور على طريق العلاج والسير فيه.
السلاح النووي، لا أمن ولا سلطة
أيّها الحضور المحترمون...
السلام والأمن الدوليان من القضايا المُحرجة في عالمنا اليوم، ونزع أسلحة الدمار الشامل المُفجعة ضرورة فورية ومطلب عام، الأمن في عالم اليوم ظاهرة مشتركة لا يمكن التمييز فيها. الذين يخزنون الأسلحة اللاإنسانية في ترساناتهم لا يحقّ لهم أن يعتبروا أنفسهم حملة رايات الأمن العالمي، فهذا لن يستطيع بلا شك توفير الأمن حتى لهم. يلاحظ اليوم للأسف الشديد أن البلدان المالكة لأكثر مقدار من الأسلحة النووية لا تحمل إرادة جادّة وحقيقية لإلغاء هذه الأدوات الإبادية من مبادئها العسكرية، ولا تزال تعتبرها عاملاً لصدّ التهديدات ومؤشراً مهماً في تعريف مكانتها السياسية والدولية، وهذه رؤية مرفوضة تماماً.
السلاح النووي لا يضمن الأمن ولا يحقِّق تكريس السلطة السياسية، إنما هو تهديد لكلا هذين الأمرين. لقد أثبتت أحداث عقد التسعينات من القرن العشرين أن امتلاك هذه الأسلحة لا يمكنه صيانة نظام مثل النظام السوفياتي السابق. واليوم أيضاً نعرف بلداناً تمتلك القنبلة الذرية وتتعرّض لأعنف العواصف الأمنية.
استخدام السلاح النووي ذنبٌ لا يغتفر
الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعتبر استخدام الأسلحة النووية والكيمياوية وأمثالها ذنباً كبيراً لا يغتفر، لقد أطلقنا شعار "شرق أوسط خالٍ من السلاح النووي" ونلتزم بهذا الشعار، وهذا لا يعني غضّ الطرف عن حق الاستفادة السلمية من الطاقة النووية وإنتاج الوقود النووي، الاستخدام السلمي لهذه الطاقة حقّ لكل البلدان حسب القوانين الدولية. يجب أن يستطيع الجميع استخدام هذه الطاقة السليمة في شتى
372
315
في مراسم افتتاح قمّة دول عدم الانحياز
مجالات الحياة لبلدانهم وشعوبهم، ولا يكونوا تابعين للآخرين في تمتّعهم بهذا الحق، لكن بعض البلدان الغربية التي تمتلك هي السلاح النووي وترتكب هذا العمل غير القانوني ترغب في أن تحتكر القدرة على إنتاج الوقود النووي. ثمة تحرّك غامض مُريب راح يتكوّن لتكريس واستمرار احتكار إنتاج وبيع الوقود النووي داخل مراكز تُسمّى دولية، لكنها في الواقع في قبضة بضعة بلدان غربية.
والسخرية المرّة في عصرنا، هي أن الحكومة الأمريكية التي تمتلك أكبر مقدار من الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل وأكثرها فتكاً، وهي الوحيدة التي ارتكبت جريمة استخدام هذه الأسلحة، تريد اليوم أن تكون حاملة راية معارضة الانتشار النووي! هم وشركاؤهم الغربيون زوّدوا الكيان الصهيوني الغاصب بالأسلحة النووية، وخلقوا تهديداً كبيراً لهذه المنطقة الحسّاسة، لكن هذه الجماعة المخادعة نفسها لا تطيق الاستخدام السلمي للطاقة النووية من قبل البلدان المستقلة، بل ويعارضون بكل قدراتهم إنتاج الوقود النووي لغرض الأدوية وسائر الاستهلاكات السلمية الإنسانية، وذريعتهم الكاذبة الخوف من إنتاج سلاح نووي. وبخصوص الجمهورية الإسلامية الإيرانية فهم أنفسهم يعلمون أنهم يكذبون، لكن الممارسات السياسية حينما لا يكون فيها أدنى أثر للمعنوية، تُجيز الكذب أيضاً. والذي لا يستحيي في القرن الحادي والعشرين من إطلاق لسانه بالتهديدات النووية هل تراه يتحاشى ويستحيي من الكذب؟!
الطاقة النوويّة السلميّة للجميع
إنّني أؤكّد أنّ الجمهورية الإسلامية لا تسعى أبداً للتسلح النووي، كما لن تغضّ الطرف أبداً عن حق شعبها في الاستخدام السلمي للطاقة النووية. شعارنا هو "الطاقة النووية للجميع، والسلاح النووي ممنوع على الجميع"، وسوف نصرّ على هذين القولين، ونعلم أن كسر احتكار عدة بلدان غربية لإنتاج الطاقة النووية في إطار معاهدة حظر الانتشار هو لصالح كل البلدان المستقلة بما في ذلك البلدان الأعضاء في حركة عدم الانحياز.
تجربة ثلاثة عقود من الصمود الناجح حيال التعسّفات والضغوط الشاملة لأمريكا وحلفائها أوصلت الجمهورية الإسلامية إلى قناعة حاسمة فحواها أن مقاومة شعب متّحد وذي عزيمة راسخة بوسعها التغلب على كل الهجمات المخاصمة المعاندة، وفتح طريق الفخر نحو الأهداف العليا. التقدم الشامل لبلادنا في غضون العقدين الأخيرين
373
316
في مراسم افتتاح قمّة دول عدم الانحياز
حقيقة تنتصب أمام أعين الجميع، وقد اعترف بها المراقبون الرسميون الدوليون مراراً، وقد حصل كل هذا في ظروف الحظر والضغوط الاقتصادية والهجمات الإعلامية للشبكات التابعة لأمريكا والصهيونية. حالات الحظر التي سمّاها الهاذرون باعثة على الشلل لم تبعث على شللنا ولن تبعث عليه، ليس هذا فحسب بل رسّخت خُطانا، وعلّت من هممنا، وعمّقت ثقتنا بصحة تحليلاتنا وبالقدرات الداخلية لشعبنا. لقد رأينا بأعيننا مرّات ومرّات معونة الله على هذه التحدّيات.
فلسطين، القضيّة الأم
أيّها الضيوف الأعزاء...
أرى من الضروري هنا التطرّق إلى قضية مهمة جداً. ومع أنها قضية تتعلق بمنطقتنا لكن أبعادها الواسعة تجاوزت هذه المنطقة وتركت تأثيراتها على السياسات العالمية طوال عدة عقود، ألا وهي قضية فلسطين المؤلمة. خلاصة هذه القضية هي أن بلداً مستقلاً ذا هوية تاريخية واضحة اسمه فلسطين اغتصب من شعبه في إطار مؤامرة غربية مُرعبة بزعامة بريطانيا في عقد الأربعينيات من القرن العشرين، ومُنِح بقوة السلاح والمذابح والمخادعات لجماعةٍ هُجّر معظمهم من البلدان الأوروبية. هذا الاغتصاب الكبير الذي رافقته في بداياته عمليات تقتيل جماعية للناس العزّل في المدن والقرى، وتهجيرهم من بيوتهم وديارهم إلى البلدان المجاورة، تواصل طوال أكثر من ستة عقود على الوتيرة نفسها من الجرائم، ولا يزال مستمراً اليوم أيضاً، هذه إحدى أهم قضايا المجتمع الإنساني. ولم يتورّع الزعماء السياسيون والعسكريون للكيان الصهيوني الغاصب طوال هذه الفترة عن ارتكاب أية جريمة بدءاً من تقتيل الناس وهدم بيوتهم وتدمير مزارعهم، واعتقال وتعذيب رجالهم ونسائهم وحتى أطفالهم، إلى الإهانات والإذلال الذي مارسوه ضد كرامة هذا الشعب، والسعي لسحقه وهضمه في معدة الكيان الصهيوني المولعة بالحرام، وإلى الهجوم علي مخيماتهم التي تضمّ ملايين المشرّدين في فلسطين نفسها والبلدان المجاورة، أسماء مثل "صبرا" و"شاتيلا" و"قانا" و"دير ياسين" مسجّلة في تاريخ منطقتنا بدماء الشعب الفلسطيني المظلوم. والآن أيضاً، وبعد مرور خمسة وستين عاماً، تتواصل هذه الجرائم نفسها في سلوكيات الذئاب الصهيونية الضارية بالبقاء في الأراضي المحتلة. إنهم يرتكبون الجرائم الجديدة تباعاً ويخلقون أزمات جديدة للمنطقة. قلّما يمرّ يوم لا تبث فيه أنباء عن قتل وإصابة وسجن الشباب الناهضين للدفاع عن وطنهم وكرامتهم والمعترضين
374
317
في مراسم افتتاح قمّة دول عدم الانحياز
على تدمير مزارعهم وبيوتهم. الكيان الصهيوني الذي أطلق الحروب الكارثية، وقتل الناس، واحتلّ الأراضي العربية، ونظّم إرهاب الدولة في المنطقة والعالم، وراح يمارس الإرهاب والاغتيالات والحروب والشرور لعشرات الأعوام، يسمّي أبناء الشعب الفلسطيني الثائر المناضل من أجل إحقاق حقوقه إرهابيين، والشبكات الإعلامية التابعة للصهيونية والكثير من وسائل الإعلام الغربية والمرتزقة تكرّر هذه الكذبة الكبرى، ساحقة بذلك التزامها الأخلاقي والإعلامي. والزعماء السياسيون المتشدّقون بحقوق الإنسان يغضّون الأنظار عن كل هذه الجرائم، ويدعمون دون خوف أو خجل ذلك الكيان الصانع للكوارث، ويظهرون في هيئة المحامي المدافع عنه.
الحلّ العادل للقضيّة الفلسطينيّة
ما نقوله هو إن فلسطين للفلسطينيين، والاستمرار في احتلالها ظلم كبير لا يطاق، وخطر أساسي على السلام والأمن العالميين. كل السبل التي اقترحها وسار فيها الغربيون وأتباعهم لـ "حلّ القضية الفلسطينية" خاطئة وغير ناجحة، وكذلك سيكون الأمر في المستقبل أيضاً. وقد اقترحنا سبيل حلّ عادل وديمقراطي تماماً، يضمّ كل الفلسطينيين، من مسلمين ومسيحيين ويهود، سواء الذين يسكنون حالياً في فلسطين، أم الذين شرّدوا إلى بلدان أخرى واحتفظوا بهويتهم الفلسطينية، ويشاركون في استفتاء عام بإشراف دقيق وموثوق، وينتخبون البنية السياسية لهذا البلد، ويعود كل الفلسطينيين الذين تحمّلوا لسنوات طويلة آلام التشرّد إلى بلدهم ليشاركوا في هذا الاستفتاء، ثم يصار إلى تدوين الدستور والانتخابات، وعندها سيعمّ السلام.
وأودّ هنا أن أقدّم نصيحة خيّرة للساسة الأميركيين - دوماً كمدافعين عن الكيان الصهيوني وداعمين له - لقد سبّب لكم هذا الكيان إلى الآن الكثير من المتاعب، وجعلكم وجهاً كريهاً بين شعوب المنطقة، وشريكاً لجرائم الصهاينة الغاصبين في أعين هذه الشعوب، والتكاليف المادية والمعنوية التي فرضت على الحكومة والشعب في أمريكا طوال هذه الأعوام المتمادية تكاليف باهظة، وإذا استمر هذا النهج في المستقبل فمن المحتمل أن تكون التكاليف التي تتحمّلونها أكبر، فتعالوا وفكّروا في اقتراح الجمهورية الإسلامية بشأن الاستفتاء، واتخذوا قراراً شجاعاً تنقذون به أنفسكم من هذه العقدة المستعصية، ولا شك أن شعوب المنطقة وكل الأحرار في العالم سيرحّبون بهذه الخطوة.
375
318
في مراسم افتتاح قمّة دول عدم الانحياز
دول عدم الانحياز، ورسم المستقبل
أيّها الضيوف المحترمون...
أعود إلى كلامي الأول فأقول: إن ظروف العالم حسّاسة، والعالم يمرّ بمنعطف تاريخي مهم جداً، ومن المتوقّع أن يكون ثمة نظام جديد في طريقه إلى الولادة والظهور، ومجموعة بلدان عدم الانحياز تضمّ نحو ثلثي أعضاء المجتمع العالمي، وبوسعها ممارسة دور كبير في صياغة المستقبل ورسمه، وتشكيل هذا المؤتمر الكبير في طهران له بدوره معنى عميق ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار في الحسابات. نحن أعضاء هذه الحركة نستطيع عبر تظافر إمكانياتنا وطاقاتنا الواسعة ممارسة دور تاريخي باقٍ من أجل إنقاذ العالم من الحروب والهيمنة وانعدام الأمن.
وهذا الهدف لا يتحقّق إلا بالتعاون الشامل فيما بيننا. البلدان الثرية جداً والبلدان ذات النفوذ الدولي ليست قليلة بيننا، ومعالجة المشكلات بالتعاون الاقتصادي والإعلامي وتبادل التجارب التقدمية أمور متاحة تماماً. يجب أن نرسّخ عزيمتنا ونكون أوفياء للأهداف، ولا نخشى سخط القوى العاتية، ولا نفرح ونطمئن لابتساماتها، ويجب أن نعتبر الإرادة الإلهية وقوانين الخلقة دعامة لنا، وننظر بعين العِبرة لانهيار تجربة المعسكر الشيوعي قبل عقدين، وانهيار سياسات ما يسمّى بالليبرالية الديمقراطية الغربية في الوقت الحاضر، والذي يرى الجميع مؤشراته في شوارع البلدان الغربية والأمريكية والعقد المستعصية في اقتصاد هذه البلدان. وبالتالي لنعتبر سقوط المستبدين التابعين لأمريكا والمتعاونين مع الكيان الصهيوني في شمال أفريقيا، والصحوة الإسلامية في بلدان المنطقة، لنعتبرها فرصة كبيرة. بإمكاننا أن نفكّر برفع مستوى الفائدة السياسية لحركة عدم الانحياز في إدارة العالم، وبمقدورنا إعداد وثيقة تاريخية لإيجاد تحوّل في هذه الإدارة، وتوفير الأدوات التنفيذية لها.. بوسعنا التخطيط لحالات تعاون اقتصادي، وإيضاح نماذج التواصل الثقافي بيننا. ولا ريب أنّ تأسيس أمانة عامة ناشطة ومتحفزة لهذه المنظومة سيستطيع المساعدة على تحقيق هذه الأهداف بصورة كبيرة ومؤثّرة. وشكراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
376
319
في لقاء طلّاب الكلّيّات الحربيّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء طلّاب الكلّيّات الحربيّة
المناسبة: مراسم القسم، وترقية طلّاب الكليّات الحربيّة.
الحضور: طلّاب الكليّات الحربيّة.
المكان: جامعة الإمام الخميني للعلوم البحريّة - نوشهر.
الزمان: 17/9/2012م.
377
320
في لقاء طلّاب الكلّيّات الحربيّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أبارك لكم هذا التخرّج أيّها الشباب الأعزّاء والضبّاط المتوثبون والمتحفّزون في القوّات المسلّحة في جيش جمهورية إيران الإسلامية، وكذلك بداية العام الدراسي في الكليات الحربية. أبارك لهؤلاء الشباب الذين بدؤوا اليوم هذا الطريق. إنّ طريقكم زاخر بالمفاخر، وهو طريقٌ لا ينظر إليه إنسانٍ حرّ بوعي إلا وأثنى عليه في قلبه، إنّه طريق الدفاع عن المبادئ الإسلامية السامية التي تُعدّ حاجةً أساسيّة وضروريّة وحياتية لكلّ البشرية. لقد سلكتم هذا الطريق، وأخذتم منه الجانب الحسّاس والمليء بالمخاطر.
القوّات المسلّحة، رأس الحربة
إنّ القوّات المسلّحة هي رأس حربة النظام الإسلاميّ والإلهيّ والحضارة الإلهية والإسلامية في مواجهة الأعداء والأشرار والحاقدين. إنّ شبابنا الأعزّاء يعبرون هذا الميدان بحماسٍ وعشقٍ ومحبّة وبوعيٍ وبصيرةٍ ويحوزون بذلك الفخر في الدنيا، والأجر في الآخرة وعند الله. أعزّائي، إنّ الطريق نورانيٌّ مليءٌ بالبركات، فاعرفوا قدره. وعندما تبدؤون نشاطكم وخدمتكم في أيّ قطاعٍ من قطاعات القوّات المسلّحة ومن جيش جمهورية إيران الإسلامية، اعتبروا هذا العمل حسنة، وسيثيبكم الله تعالى عليه ويجعله سبباً لنورانية وجوهكم في الدنيا والآخرة.
القوّات المسلّحة، حصون الرعيّة
كذلك من الضروريّ أن أهنّئ مسؤولي جيش الجمهورية الإسلامية المحترمين، ومسؤولي هذه الجامعة لِما بذلوه من جهودٍ في سبيل تربيتكم أيّها الشباب، وما تحمّلوه في هذا المجال، وأقول لهم: عافاكم الله.
ولقد كانت برامج هذا الميدان اليوم مصحوبة بالجمال والابتكار. وإن شاء الله أنتم موفّقون، ويمكنكم بكلّ خطوة تخطونها أن تتقدّموا بهذا البلد وهذا الشعب العزيز الذي يدعمكم. إنّنا نرى اليوم كيف يَموج الحبّ الشديد للتطوّر والرغبة بالتحرّك والابتكار والإبداع في بلدنا في القطاعات المختلفة ـ سواء العلمية والتكنولوجيّة أم الاختراعات والقضايا السياسية والمسائل الاجتماعية ـ فالجميع مشغولون في عملية إيجاد طرق مبتكرة وجديدة، ومثل هذا الميدان مفتوحٌ أمامكم ـ أيّها الطلّاب الأعزّاء والضبّاط الشباب في جيش الجمهورية الإسلامية وفي سائر القوّات المسلّحة، أنتم شبابٌ تتمتّعون بموهبة نشاط الشباب، وكذلك تعملون في مجال العلم، ولديكم افتخار العمل في القوّات المسلّحة التي هي بقول أمير المؤمنين عليه السلام "حصون الرعيّة" وهي القلاع الحصينة للبلد وللشعب، وكذلك أنتم في حالة القيام بالتكليف.
379
321
في لقاء طلّاب الكلّيّات الحربيّة
إهانة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عِبرة باقية
كلّما مرّ الوقت تزداد وضوحاً أهمية وقيمة السعي في بناء الجمهورية الإسلامية وترسيخ أركانها. يشعر أعداء الجمهورية اليوم بالتراجع في مواجهتهم لهذه الحركة الكبرى المتدفقة، لذلك يعمدون إلى القيام بأعمال جنونية، فالحدث الأخير1 المتمثل بإهانة الوجه المنوّر لخاتم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم هو من العِبر والدروس في تاريخنا وسيبقى عِبرة. ففي الوقت الذي لا يدين زعماء الأنظمة الاستكبارية هذا العمل ولا يقومون بواجبهم تجاه هذه الجريمة الكبرى، يسعون إلى تبرئة أنفسهم منها، فيزعمون أن لا دخل لهم بها. ونحن لا نصرّ على إثبات الجريمة على أشخاص أو مسؤولين أو عاملين، لكنّ سلوك زعماء الاستكبار وسياسيّي أمريكا وبعض الدول الأوروبية وأسلوبهم أدّى إلى أن تتّجه أصابع الاتّهام من الشعوب إليهم. يجب عليهم أن يبرّئوا أنفسهم ويثبتوا أنّهم ليسوا شركاء في هذه الجريمة الكبرى، والإثبات لا يحصل بالكلام، بل ينبغي أن يثبتوا ذلك عمليّاً وأن يمنعوا مثل هذه الاعتداءات، وبالطبع لن يفعلوا ذلك. ودليل ذلك واضحٌ، فالدافع موجودٌ في الأجهزة الاستكبارية من أجل إهانة الإسلام ومقدّساته. إنّ ما يحملهم على القيام بهذا العمل الجنونيّ ومثل هذه الأعمال هو الحركة العظيمة للصحوة الإسلامية. وعندها يتذرّعون بأنّهم لا يستطيعون أن يمنعوا مثل هذه الذنوب الكبرى التي تصدر عن بعض الأفراد بسبب احترام الحرية. من الذي يصدّق مثل هذا الكلام في العالم؟ من الذي يصدّق أنّه في تلك الدول التي يوجد فيها خطوطٌ حمر لعدم المساس بمبادئهم الاستكبارية ـ حيث يراعون هذه الخطوط الحمر بشدّة وحدّة تامّة ويتوسّلون بكلّ قوّة وشدّة لمنع تجاوزها ـ أنّهم ملتزمون بحرية التعبير عن الرأي في مجال إهانة مقدّسات الإسلام؟
أمريكا، خرّجت الديكتاتوريّين
لا يجرؤ أحد في يومنا هذا على أن يشكّك في واقعة الهولوكوست الغامضة في العديد من الدول الغربية. وبحسب ما أُطلعنا، فإنّ أي شخصٍ في أمريكا يريد أن يكتب شيئاً وينشره ضدّ الشذوذ الجنسيّ، اعتماداً على قواعد علم النفس وعلم الاجتماع، فإنّه لن يكون قادراً على ذلك، فإنّهم يمنعونه، فكيف يكون هؤلاء ملتزمين بالحرية؟! هناك حيث تتدخّل السياسات الصهيونية الخبيثة من أجل إفساد أخلاق الشعوب والأجيال الشابّة لا يوجد أي معنى للحرية ولا يجرؤ أحد ولا يحقّ له أن ينشر أيّ شيء ضدّ هذه السياسات الخبيثة والرذيلة، أو ضدّ قضية كالهولوكوست، لكنّ ذلك مضمونٌ إذا كان
1- الفيلم المسيء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم "براءة المسلمين" الذي وضعه أحد الأمريكيين من أصل يهودي.
380
322
في لقاء طلّاب الكلّيّات الحربيّة
في سبيل إهانة المقدّسات الإسلامية وتسخيف هذه المقدّسات في أعين شباب الدول الإسلامية بحسب زعمهم! لا يوجد من يصدّقهم. لا أحد يصدّق أنّ النظام الأمريكي الذي كان يدعم بجدّ شخصاً كحسني مبارك طيلة هذه السنوات الثلاثين، ويدعم محمد رضا البهلوي في إيران طيلة 35 سنة مع كل الجرائم التي ارتكبها، هو نظامٌ مؤيّد للديمقراطية، ولا أحد يصدّق أنّ هجومهم على العراق وعلى صدّام حسين كان لأجل محاربة الديكتاتورية، إنّهم هم الذين يربّون المستبدّين. فكلّ دكتاتور في منطقتنا الإسلامية وعلى مرّ الأزمنة المختلفة استطاع في الماضي وكذلك اليوم - بالاعتماد عليهم - أن يقمع شعبه ويظلمه ويجعله شيعاً.
كيف يتبجّح هؤلاء بمناصرة الديمقراطية؟
في يومنا هذا، إنّ الرأي العام للشعوب في العالم مناهضٌ للسياسات الأمريكية والصهيونية. أجل، إنّ الحكومات ولأجل المداهنات لا تتفوّه بشيء لكنّ قلوب الشعوب قد طفحت بالألم، وعندما يظهر مخرجٌ ما ويحصل أمرٌ ـ مثلما حدث ـ تشاهدون كيف أنّ الشعب يهجم على المراكز السياسية والاجتماعية الأمريكية في الدول المختلفة، إنّهم مبغوضون.
لقد طلعت الشمس
ولا شكّ بأنّ مواجهة مستكبري زماننا للإسلام ولطلوع هذه الشمس الساطعة هي مواجهةٌ ستنتهي بانتصار الإسلام. ويتحمّل نظام الجمهورية الإسلامية مسؤولية كبرى في هذا المجال، وأنتم أيّها الشباب الأعزّاء الذين اجتمعتم في هذا الميدان وفي كلّ القوّات المسلّحة تتحمّلون قسماً حسّاساً من هذه المسؤولية. وأملنا أنّ الله تعالى يوفّقكم جميعاً وأن ينوّر وجوه الشهداء الأعزّاء الذين قدّموا أنفسهم طيلة هذه السنوات الـ 32 على هذا الطريق، وأن يحشر أرواحهم مع أوليائهم، وأن يحشر إمامنا العزيز الذي فتح علينا هذا الطريق مع أوليائه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
381
323
في لقاء جمعٍ من القوّات المسلّحة لمنطقة الشمال وعوائلهم
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء جمعٍ من القوّات المسلّحة لمنطقة الشمال وعوائلهم
الحضور: جمعٌ من القوّات المسلّحة وعوائلهم.
المكان: كلّية الإمام الخميني للعلوم البحريّة - نوشهر.
الزمان: 19/9/2012م.
383
324
في لقاء جمعٍ من القوّات المسلّحة لمنطقة الشمال وعوائلهم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في محضركم أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، ينبعث لدى المرء شعور بالاستعداد لإنجاز الأعمال الكبرى. إنّ جمعكم أيّها الشباب والعاملون المجدّون والمثابرون في القوّات المسلّحة، وأزواجهم وأبناءهم، هو نموذجٌ منتقى بعناية من شعب إيران، تموج في مشاعركم وقلوبكم وأفكاركم تلك التطلّعات السامية والأهداف العليا. وإنّه لسرورٌ لي أنّ الله تعالى منحني في هذه الليلة توفيق الحضور بينكم، وأسأله تعالى أن يشملكم جميعاً برحمته وبركاته وعافيته.
ولقد كانت المراسم1 التي أجراها شبابنا الأعزّاء، وطلّاب هذه الكلّية أو الجامعة، مراسم جيّدة، الآيات القرآنية (التي تُلِيَت) باعثة على الأمل، وتؤكّد على أنّ مع كلّ عسرٍ يسرا. ومثل ذلك فكرٌ عظيمٌ وبنّاءٌ بالنسبة لجميع المجتمعات، والذي سأعرض له بصورةٍ مختصرة.
ربّان السفينة، ونوح الأمّة
أقول لكم وأقول للجميع أيضاً وقد قلته وأكرّره2: فلنحذر من أن ننزّل تلك الصفات والخصال والمناقب، التي تتناسب مع وجود وليّ العصر أرواحنا فداه، إلى مستوى أشخاصٍ صغارٍ وناقصين مثلي أنا الحقير وأمثالي، ذاك الذي يُقال إنّ الذين يركبون هذه السفينة لا يخشون الطوفان:
ما يهمّ الأمّة إذا كان لها مثلك سند وهل يخشى الموج من كان نوحٌ ربان سفينته3
ونوحٌ هنا هو إمام الزمان (في عصره)، لكن عندما ننظر نظرةً عامةّ على مرّ تاريخ الإسلام ـ حيث إنّ سعدي صاحب هذا الشعر يعبّر عن هذه الرؤية بهذين البيتين ـ فإنّ وجود خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم المقدّس هو نوح ربّان سفينة هذه الأمّة. أجل، لقد كان لهذه الأمّة على مرّ تاريخها صعود وهبوط، فأحياناً كانت تتمرّغ بالوحول وأخرى تُبتلى بالمذلّة، وأحياناً تواجه مشكلات لا توصف، كلّ ذلك كان ناشئاً من أنّها لم تركب سفينة، فإذا تمسّكنا في الواقع وتوسّلنا بسفينة نجاة الإسلام وتابعنا النبيّ لكان النصر
1- العروضات العسكرية وتخريج دفعات من الضبّاط التي سبقت إلقاء الكلمة.
2- بيت من ديوان الشاعر سعدي.
3- يظهر أنّ سماحة الإمام القائد حفظه الله تحدث عن السفينة وربانها هنا تعليقاً على الشعارات والجداريات المرسومة حول سفينة النجاة في هذا العصر وربَّانها...
385
325
في لقاء جمعٍ من القوّات المسلّحة لمنطقة الشمال وعوائلهم
من نصيبنا حتماً. إنّ للبحر طوفاناً ولا شكّ، وفيه صعابٌ ومشكلات وأحياناً تجتاحه أهوال كبرى، لكن عندما يكون ربّان السفينة عبداً اصطفاه الله ومعصوماً فلا خوف عندئذٍ. هذه هي النقطة المختصرة التي أردتُ ذكرها. فاعتبروا هذه الصفات مختصّةً بأولئك العظماء. إنّ نوح هذه السفينة هو (الإمام المهدي)، إنّه سند هذه الأمّة، إنّ واسطة الفيض الإلهيّ إلى كلّ واحدٍ منّا وإلى قلوبنا وأرواحنا وأذهاننا وأجسامنا، وإلى حياتنا الفردية والاجتماعية، هي الوجود المقدّس لخاتم الأوصياء، وفي المرتبة السابقة الوجود المقدّس لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم.
إيران، وزمن الكفاح الصعب
الكلام الأساسيّ سيكون بمناسبة أنّكم، من الذين اصطفّوا فرداً فرداً في الخطوط الأمامية لحركة شعب إيران الاجتماعية، فالعوائل بنحوٍ، والأفراد بنحوٍ آخر. والكلام الأساسي هو إنّ بلادنا وشعبنا، وببركة الصحوة الإسلامية التي تحقّقت له قبل الشعوب الأخرى، يتحرّك على طريقٍ ملؤه الفخر وحسن العاقبة، وكل من يتنكّر لهذا إنّما يتنكّر للبديهيّات والواضحات.
لقد كنّا شعباً يُعدّ من الشعوب المتخلّفة في العالم، والفاقدة للتأثير في جميع التحوّلات العالمية، ومتأثّراً بإرادة القوى الدولية المتدخّلة، رغم امتلاكه للقابليات الجيّدة والماضي التاريخيّ المجيد، والإمكانات والثروات الطبيعية الهائلة. لقد كانت قوّاتنا المسلّحة وعلومنا وقضايانا الاجتماعية وسياسيّونا وحكوماتنا طوال سنوات متمادية في وضعٍ مؤسفٍ، ترزح تحت تأثير تدخّلات أعداء الشعب والحاقدين على مبادئه وتطلّعاته. وبالطبع، كان هناك شراراتٌ تنبعث على مرّ هذا التاريخ، ومشاعل تُضاء، وخصوصاً في العصور الأخيرة، لكنّ الأجواء كانت حالكة إلى درجة أنّ تلك الشعلات لم تكن قادرة على إضاءة الطريق للناس، إلى أن انطلقت الثورة الإسلامية وبدأت حركة النضال والجهاد الإسلامية. لقد كانت مرحلة الكفاح مرحلة صعبة، وكان الأمل في انتصار هذه المواجهات صفراً بالنسبة لبعض الناس، وأعلى من الصفر بقليل بالنسبة لبعضهم الآخر، فلم يكن هناك أملٌ كبير. وقد استطاع إمامنا الجليل أن يستمرّ على هذا الطريق، بشخصيّته الإلهيّة الاستثنائية في زمننا، فأكمل هذا الطريق بأنفاسه الدائمة وحكمته وإخلاصه وتديّنه وإيمانه بربّه. كان الذين يسلكون هذا الطريق يتعرّضون للتردّد مئات المرّات ويتزلزلون، ولكن عندما كانت تصلهم الأنفاس الدافئة لهذا الرجل الإلهي كان كل شيء ينبعث من جديد ويتفتّح، كان الله يعينه، وقد كانت
386
326
في لقاء جمعٍ من القوّات المسلّحة لمنطقة الشمال وعوائلهم
الأرضية مهيّأة في وجوده وشخصيّته، وكان الله تعالى يثيبه ويلهمه ويهديه ويأخذ بيده ويعينه حتى وصل إلى مقطع الثورة الإسلامية، ومع عدم تصديق كلّ العالم، انتصرت هذه الثورة.
الثورة دخلت كلّ قرية وكلّ بيت
وأنا أقول لكم، إنّ الصحوة الإسلامية تنبعث في عددٍ من دول العالم الإسلاميّ، وهو أمرٌ مباركٌ جدّاً وقد رحّبنا به منذ البداية، ولكنّ الفروقات كثيرة. لعلّه لم يكن هناك قريةٌ واحدة أو مدينة صغيرة، في ثورتنا، وفي حركة شعبنا العامّة، وفي جميع أرجاء هذا البلد الكبير، خلت من بارقة من هذه الشعلة المقدّسة التي تخلب الأبصار. فقد سيطر شعارٌ واحد ومطالبة واحدة وهمّة واحدة على جميع القلوب والأذهان، في جميع أرجاء البلد وفي كلّ مكان. لقد حمل هذا الشعب هذا الحمل الثقيل بكلّ ما للكلمة من معنى، بالأجسام والأرواح والقلوب. وواجه الناس ذاك الطاغوت بأجسامهم في الشوارع، وهذا ممّا لم يحدث في العالم من قبل.
جاء أحد الزعماء المعروفين في العالم، ولا أذكر اسمه، إلى إيران، وقد فصّلت له كيف انتصرت الثورة الإسلامية، فما من انقلابٍ عسكريّ، وما من ضبّاط شباب يُسقطون نظام الطاغوت بالحضور في الميدان كما هو معروفٌ في العالم، وما من أحزاب تستطيع أن تمارس نشاطاتها السياسية، وما من نخبة ذات دور مهم. كان الدور دورَ جماهير الشعب ومن دون سلاح طبعاً. إذا نظرتم اليوم إلى بعض هذه الدول تجدون جماهير الناس يحملون السلاح من أجل التقدّم بأمورهم، ولم يكن من سلاح في يد الشعب الإيرانيّ، فبالأيدي الخالية وبالأجسام نزلوا إلى الميادين، وحملوا قلوبهم ودماءهم على أكفّهم ونزلوا.
وبالطبع، إنّ هذا ما كان ليحصل من دون الإيمان، هذا الإيمان العميق، فعندما انتشر هذا الإيمان العميق بين الناس نزلوا إلى الميادين وانتصر الدم على السيف. وهذه طبيعة جميع الأماكن، وهذا حال كلّ مكانٍ. فأينما تكون الشعوب حاضرةً للتضحية والفداء وتقديم النفوس والأرواح، لن تقدر أيّة قوّة على مقاومتها والوقوف بوجهها. فعندما تأتي الشعوب إلى الميادين، الدم ينتصر على السيف دوماً. عندما شرحت لذلك الزعيم الإفريقي انتصار الثورة الإسلامية، كان الأمر بالنسبة له ملفتاً جدّاً وجديداً، فذهب، وبعد مدّة قليلة رأيت أنّ حركةً شعبيّةً قد انبعثت في بلده وشعرتُ أنّها كانت مستلهمةً من سلوك إمامنا الجليل وسلوك شعب إيران، وقد انتصر أيضاً، لقد استطاع أن ينتصر على إحدى القوى العظمى الخبيثة المتسلّطة على العالم وخلّص بلده.
387
327
في لقاء جمعٍ من القوّات المسلّحة لمنطقة الشمال وعوائلهم
إيران متحرّرة من أيّة ضغوط
لقد كان هذا هو حال شعب إيران، فالجميع نزلوا إلى الميادين، ولهذا لم يشعر مسؤولو البلد من اليوم الأوّل أنّهم مجبرون على قبول الكلام الكثير والتوقّعات الكثيرة للقوى العظمى. ولا ينبغي أنّ تتصوّروا أنّ ما يحدث في بعض البلدان، التي ثارت مؤخّراً من ممارسة الضغوطات الأمريكية والغربية التي تحمل مسؤوليها على اتّخاذ مواقف محدّدة، أنّ هذا لم يكن في إيران، كلا، لقد كان أيضاً، فتلك الضغوطات كانت موجودةً هنا، لكن ما كان أحدٌ ليبالي بهذه الضغوطات، لأنه لم يكن بحاجة إلى ذلك. لقد كان مسؤولو البلد يعتمدون على إرادة الشعب وإيمانه وكانوا مطمئنين إلى أنّ هذا الميدان مليءٌ بأصحاب العزم والإرادة المتلازمة مع الإحساس الكامل. هكذا كان، لم يكن هناك حاجة لذلك، والأمر هكذا إلى يومنا هذا. ففي يومنا هذا لا يرى نظام الجمهورية الإسلامية -بحول الله وقوّته - أنّه مجبرٌ على الإذعان لأيّة قوّة عظمى ومطالب أية قوّة متسلّطة ومتدخّلة. فهذا النظام يقبل كلّ ما هو في مصلحته ويعمل به، وما لم يكن في مصلحته يرميه جانباً ولو غضبت جميع قوى العالم واستاءت. فالسياسة هي هذه، كلّ ذلك بسبب الاعتماد على إيمان الشعب1...
تجذّر الثورة، تؤتي أُكُلُها كلّ حين
جيد، منذ اليوم الأوّل للثورة وإلى يومنا هذا، كانت أهداف الثورة وتطلّعاتها تزداد وضوحاً لكلّ أبناء شعبنا. في ذاك اليوم قلنا الجمهورية الإسلامية وقلنا التقدّم الإسلاميّ، وشيئاً فشيئاً وعلى مرّ هذه السنوات، اتّضحت لنا معاني هذه الكلمات. كلّنا يعلم ماذا تعني الجمهورية الإسلامية، وماذا تعني السيادة الشعبية الإسلامية، وكذلك اعتماد النظام على آراء الشعب، وانتخاب الشعب، وإرادة الشعب. نعلم ماذا تعني مقولة الاستقلال والحرية والجمهورية الإسلامية، وما هو الاستقلال. لقد كانت هذه الألفاظ بالنسبة لنا مطروحةً بصورةٍ مغلقةٍ كأهداف. وعلى مرّ الزمان، اتّضحت لشعبنا ونخبنا وسياسيينا وشبابنا مختلف أبعاد الاستقلال. نحن نعلم ما هو الاستقلال ومخاطره وامتيازاته وكيفية نيله وكيف يتمّ عبور المخاطر، وتقدّمنا، وهذا هو أهمّ أنواع التقدّم. إنّ للتقدّم علامة واضحة، إنّه التقدّم في تجذّر نظام الجمهورية الإسلامية واستحكامه. فالشجرة المنيعة والصامدة، إذا نظرتم إلى جذورها وجذعها واختبرتموها فإنّها لن تكون في حال خواء ووهن، ولو مرّ عليها خمسون سنة. بعض الأشجار تكون حيوية ونشطة وذات بهجة، وبعد أن يمرّ عليها عشر سنوات أو عشرون
1- انطلاق الهتافات: الله أكبر، والموت لأمريكا، الموت لإسرائيل.
388
328
في لقاء جمعٍ من القوّات المسلّحة لمنطقة الشمال وعوائلهم
سنة أو ثلاثون سنة، تصبح خاوية، وإذا أصبحت كذلك، فلا حاجة لمن يأتي ويقتلعها، ستسقطها أيّ ريحٍ عاصفةٍ وتكسرها من جذعها، لكنّ الشجرة التي تمتلك قابلية البقاء لو مرّ عليها قرنان أو ثلاثة ستزداد اخضراراً بالمقارنة مع أوّل يومٍ أورقت فيه ولن تقل، وإنّ نشاطها في الربيع سيجعل الأشجار الأخرى تحت تأثيرها أيضاً، ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾1. وإنّ من علامات تطوّر أيّ نظامٍ أنّه كلّما مرّ الزمان تصبح جذوره أكثر رسوخاً، وتنتشر فروعه وغصونه ويقوى جذعه. وفي يومنا هذا، إنّ جسم نظام الجمهورية الإسلامية أكثر قوّةً واستحكاماً من السنوات الأولى من عمره، سنوات 59 و60 و61(هـ ش)2 وتلك السنوات. في ذلك اليوم، كان احتمال أعدائنا أن يتمكّنوا من إسقاط النّظام أكبر، وفي يومنا هذا صارت آمالهم أضعف بدرجات، وفي الكثير من الموارد تبدّلت هذه الآمال إلى يأسٍ، فهذا ما يشير إلى استحكام النظام. وهناك بحثٌ آخر حول نشوء هذا الاستحكام ونشوء هذا التجذّر المتواصل، فهل هو ناشئٌ من كل هذا الإيمان العميق؟ هل هو ناشئٌ من هذه المعرفة العميقة؟ هل هو ناشئٌ من نفوذ الإيمان في القلوب؟ هل هو ناشئ من صحّة الشعارات؟ هل هو ناشئٌ من أنفاس ذلك الباني العظيم، بالمعنى الحقيقي لكلمة العظمة، أي إمامنا الجليل؟ فمن أين نشأ؟ مثل هذه أبحاثٌ مهمّة درسها شبابنا الأعزّاء وطلّابنا في الحوزات والجامعات، وهم يدرسونها ويجب عليهم أيضاً أن يستمرّوا في ذلك. لن أتعرّض لهذه الأبحاث، وما هو موجودٌ هو أنّ هذه الحركة تسير نحو التقدّم، وقد تحقّق هذا التقدّم، وهذا هو أساس المسألة، وعندما تقتربون من الغصون سترون أيضاً مؤشّرات التقدّم. ففي العلم مثلاً تقدّمنا، كما تقدّمنا على صعيد التكنولوجيا النابعة من العلم. لقد جئت إلى هذه الجامعة قبل 24 سنة و25 سنة، وتجوّلت فيها، وأيضاً زرتها مرّات عدّة في المدّة المتّصلة. لقد شاهدت هذه الجامعة وقتذاك، وها أنا أشاهد حاضرها الآن، ولا يمكن المقارنة بينهما. فتكامل الدوافع، التي بتبعها يأتي تكامل الحركة العلميّة، يُعدّ ظاهرةً محيّرة تجعل المرء في حال من الرضا العميق في الحقيقة. المطّلع يصبح متحيّراً. وبالطبع، إنّ هذا هو حال جميع الأماكن، في جامعات البلد، وفي مراكز الأبحاث، وفي المراكز العلميّة، التي لم تكن ثمّ بُنيت، قد تحقّق أيضاً كلّ هذا، وهذا هو حال أمل علمائنا. فما كان علماء الأجيال الماضية عندنا ـ والذين نحترم وجودهم كثيراً، ونحن الذين نقدّر ونحترم كلّ من جاهد في طريق العلم، لأنّهم ينتمون لوضع آخرـ ليصدّقوا كل هذا التطوّر العلمي الذي أحرزه هذا الجيل الشاب في مجال قضية تطوّر
1- إبراهيم، 25.
2- سنوات 1979، 1980، 1981م.
389
329
في لقاء جمعٍ من القوّات المسلّحة لمنطقة الشمال وعوائلهم
الصناعة النووية. ولعلّني ذكرت هذا الأمر مرّةً أو مرّتين، عندما كانت تحصل هذه التطوّرات، فإنّ عدّة علماء بارزين عندنا، وأنا أعرفهم، وهم بارزون على المستوى العلمي وكانوا من أصحاب النوايا الصادقة، كتبوا لي رسالةً قالوا فيها أيّها السيّد لا تصدّق، فما يقولونه لا يمكن أن يتحقّق وغير قابلٍ للتحقّق، سواء أكان ذلك التطوّر النووي أم كان ذلك التطوّر المرتبط بالخلايا الجذعيّة، الذي هو من أبرز إنجازات هذه الحركة العلمية في السنوات الأخيرة. لم يكونوا ليصدّقوا، لكنّه حصل وكان. فمرور الزمان أثبت أكثر أنّ الأمر واقع، وأنّ هذه التطوّرات حاصلة، أي إنّ الحركة العلمية هي حركة لم تكن قابلة للتصديق بالنسبة لذاك الجيل الماضي عندنا، والذي تحدثت عنه، إنّ علماءه كانوا خيّرين وكنّا نعلم صدق نواياهم. وإنّني اليوم أقول لكم، إنّ شبابنا هؤلاء لديهم أعمالٌ في المجالات العلمية والتطوّرات العلمية والاكتشافات والإنجازات العلمية التي لعلّها غير قابلةٍ للتصديق بالنسبة لبعض أجيالنا الوسطيّة، وإن كان الجميع قد بدؤوا يصدّقون شيئاً فشيئاً هذا التطوّر.
إيران المتقدّمة ستكون في المرتبة الأولى عالمياً
إنّ المراكز العالمية تعلن في بعض الإحصاءات المختلفة أنّ التكامل العلميّ لإيران يكون أحياناً 11 ضعفاً، وأحياناً 13 ضعفاً إذا قارنّاه بالمعدّل العام للتكامل العلميّ في العالم. وبالطبع، لا يعني ذلك أنّنا متقدّمون من الناحية العلمية على جميع مراكز العالم، بل إنّ تخلّفنا كثير وتكاملنا سريع. ولو أنّنا استمرينا على هذا التكامل وبهذه السّرعة من الممكن في السنوات المقبلة، وبعد عشر سنوات أو خمس عشرة سنة أخرى، أن نصبح في المرتبة العالمية الأولى في جميع قطاعات العلم والتكنولوجيا. اليوم لسنا كذلك، فنحن نتحرّك في منتصف الطريق. هذا بشأن القطاع العلميّ.
والأمر عينه في المجالات السياسية والحضور الدّولي والمؤسّسات الاجتماعية والقطاعات المختلفة. لدينا تطوّر متعدّد وفي مستويات مختلفة، حيث إنّها في أماكن أبرز من أماكن أخرى، إنّ الدولة في حال تقدّم، وبالطبع، يجب أن يستمرّ هذا التطوّر. فكلامي هو:
إنّ كلّ من يشارك في بناء إيران الجديدة التي تتحرّك تحت راية الإسلام وتقترب من الأهداف، وجوده ذو قيمة. فإنّ كلّ من تكون حصّته أكثر تأثيراً أو أكثر مخاطرةً من روّاد هذه القافلة فإنّ حصّته من هذه المفاخر وهذا الشموخ أكثر من الآخرين، ولا
390
330
في لقاء جمعٍ من القوّات المسلّحة لمنطقة الشمال وعوائلهم
ينبغي أن نتعب في أيّ وقتٍ. لقد سمعتم آية القرآن: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾1. عندما تنتهي من العمل فارفع هامتك، أي ابدأ بعملٍ لاحق، فلا معنى للتوقّف. ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾2 فكلّ حركةٍ صالحةٍ تتحرّكونها نحو الأهداف المقبولة والمعلنة للإسلام هي رغبةٌ إلى الله. وبالطبع، إنّ للروحانية والارتباط القلبي بالله الدور الأساسي. يجب على الجميع أن يعرفوا هذا.
زوجات العسكريّين شريكاتٌ في العمل والأجر
حسنٌ، نصل الآن إلى العوائل. فلتعلم أُسر مجاهدينا العزيزة وزوجاتهم، سواء أكانوا عناصر الجيش أم من الحرس أم من التعبئة أم من القوّات الأمنية أم من العاملين في وزارة الدفاع، هؤلاء الذين ذكر القائد المحترم أسماءهم، من يعينون ومن هو شريك حياتهم؟ إنّ شريك حياتكم هو من الذين لهم دورٌ حسّاسٌ في هذا البناء الرفيع والشامخ، فهذا هو حال القوّات المسلّحة. وبتعبير أمير المؤمنين عليه السلام "حصون الرعيّة"، إنهم حصون الأمة، الحصون المعنويّة للبلد. ووجود القوّات المسلّحة المستقلّة الواعية المبتكرة الشجاعة المضحيّة هو أمانٌ لأيّ بلدٍ ولو لم يطلقوا رصاصة واحدة، فإنّهم يوقفون الأعداء في أماكنهم، فالقوات المسلّحة هي بمثل هذه الأهمية. وأنتنّ زوجاتهم، أجل، لقد نقل القائد المحترم عنّي ـ ولعلّني ذكرت هذا عشر مرّات إلى الآن أو أكثر ـ أنّ كل فضيلة يمكنكم أن تحصلوا عليها أيّها الرجال في ميدان الجهاد العام والكبير، فإنّ نصفها هو لهذه السيدة التي تشارككم الحياة وهي تعيش معكم. فإذا لم تكن زوجة من يدخل في هذا الميدان ـ ميدان الجهاد والعمل والسعي ـ مصاحبة له، تتذمّر أو تتعبه أو تصعّب عليه الحياة أو لا تصاحبه فيها ـ فإنّه لن يتمكّن من العمل. فإذا كنتم تقومون بأعمالكم جيداً فهذا ناشئٌ من بركات وجود هذه الزوجة الطيبة والعطوفة. فاعرفوا أيّها الأزواج أنفسكم هذا أوّلاً، وأنتنّ اعرفن قدر هذا الزوج الذي يتعب ويجعل نصف أجره لكنَّ، اعرفن قدر هذا الرجل الذي يساهم في هذا البناء الرفيع لنظام الجمهورية الإسلامية والنظام الإسلامي الجديد الذي هو إن شاء الله أرضية بناء الحضارة الإسلامية الجديدة. هذا الرجل الذي هو زوجك فليُعرف بهذه الهوية عندك. والأمر كذلك بالنسبة للأبناء يجب على أبناء العاملين في القوّات المسلّحة أن يفتخروا بآبائهم.
1- الشرح، 7.
2- الشرح، 7-8.
391
331
في لقاء جمعٍ من القوّات المسلّحة لمنطقة الشمال وعوائلهم
عوائل الشهداء قمّة العطاء
وهنا أجد من الضروريّ أن أقدّم احترامي وسلامي لعوائل الشهداء الأعزّاء، وأرسل الصلوات على أرواحهم المطهّرة، الشهيد الذي جعل كلّ وجوده، أي رأسماله الأساسيّ، في سبيل الله وأنفقه في هذا الطريق وقد قبل الله تعالى منه ذلك. وبالطبع، هناك الكثير ممّن ذهب ليقدّم ولم يُقبل. ولعلّ هذا لأسبابٍ عديدة، فبعضهم لم يعتبره الله تعالى مؤهّلاً، وبعضهم الآخر حفظه تعالى لمسؤوليات وأعمالٍ ضرورية أخرى. وها هنا نقول إنّ أولئك الذين كانوا مؤهّلين ورحلوا، فإنّ قيمتهم عالية جداً جداً. إنّ الشهداء في الحقيقة هم الأنوار الساطعة التي تضيء المجتمع والمستقبل والتاريخ. وقد صبرت عوائلهم، صبرت على جهادهم وعلى رحيلهم وعلى التحاقهم وإقبالهم على ميادين الأخطار. قد يسهل القول إنّ المرأة التي تشاهد زوجها يذهب إلى ميدانٍ خطِر وتصبر، فإنّ عمله ذو قيمة عظيمة وكذلك عملها هي أيضاً مليءٌ بالقيمة، وعندما يستشهد تصبر على شهادته. وأنا أقول: لو لم يكن صبر عوائل الشهداء، لما كان ظهور تيّار الشهادة في مجتمعنا وتقبّله بهذه العظمة والنشاط. إنّ عوائل الشهداء هم الذين لهم المنّة الكبرى على مجتمعنا بحيث إنّ الشهادة تبدو بمثل هذه الحلاوة في الأعين. على كلّ حال، ننشر احترامنا وسلامنا وتكريمنا لهم، أبناءَهم كانوا أم أبناءَكم أيّها العاملون. ويجب على أبنائهم وأبنائكم أيّها العاملون أن يفتخروا بأنّ آباءَهم يسيرون على هذا الدرب.
ثالوث الشر، أمريكا وانكلترا والصهيونيّة
وأيضاً أقول هذا وهو: إنّ الأفق واضحٌ. بالطبع، لا يُتوقّع من ذاك التلفزيون العميل لتلك الدولة المستكبرة أن يأتي ويظهّر هذه الحقائق لي ولكم، بل إنّهم يظهرون الأجواء قاتمة. هم يعلمون أنّ أحد سبل إيقاف هذا الشعب هو أن يُسحب منه الأمل، لهذا تراهم يظهرون الظلام والسواد1... (حفظكم الله اسمحوا لي أن أكمل كلمتي) ها أنتم أتيتم على ذكر مثلّث الشرّ والفساد، نحن لم نذكره ولكنّكم ذكرتموه، أمريكا والصهيونية وإنكلترا الخبيثة وفي الواقع هم كذلك. فأجهزتهم الإعلامية تسعى في الليل والنهار للتأثير على أذهان شعب إيران، ومثلما قلت منذ مدّة من أجل تبديل حسابات الناس وحسابات النخب، والذي (أي سعيهم) بحمد الله يبقى عديم النفع رغم كلّ مساعيهم، فالمستقبل مستقبلٌ واضحٌ، والأفق جيّدٌ، غاية الأمر أنّ هذا لا يعني أن نضع رؤوسنا على وسادة من حرير وننام، بل يجب العمل ويجب السعي،
1- تعلو الشعارات: الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، الموت للإنكليز.
392
332
في لقاء جمعٍ من القوّات المسلّحة لمنطقة الشمال وعوائلهم
والسعي لا يعرف الوقت ولا يعترف بحدّ، ولا يعرف التقاعد، ففي جميع مراحل حياة الإنسان يبقى المجال للسعي ويجب علينا أن نتعرّف إلى هذا المجال فنتحرّك بعزمٍ وهمّةٍ وجدّية، "قوّ على خدمتك جوارحي، واشدد على العزيمة جوانحي"، هذا ما يطلبه أمير المؤمنين خ من الله تعالى في دعاء كميل ويعلّمنا إيّاه، ثمّ يتبعه قائلاً: "وهب لي الجدّ في خشيتك". فلنعلم أنّ الله حاضرٌ وناظر وليكن مثل هذا الشعور جدّياً وليس مجرّد لقلقة لسان، "والدوام في الاتّصال بخدمتك"، فلا نقطّع أوقات الخدمة، بل نوصلها ببعضها بعضاً. وإن شاء الله سيمنحنا شبابنا نحن الشيوخ القوّة والنشاط ويعلّموننا كيف نتحرّك ـ هؤلاء الشباب الذين يدرسون في هذه الجامعة وغيرهم من التعبويين الاعزّاء والشباب المؤمنين والمضحّين وطلّاب الجامعات الأخرى، فتية وفتيات، في جميع القطاعات الجامعية وطلّابنا الشباب الأعزّاء والشباب في الشرائح المختلفة، من خلال حركتهم وعملهم وسعيهم.
اللهمّ، أنزل بركاتك ورحمتك على هذا الجمع وعلى شعب إيران.
انصر الشعوب المسلمة في كلّ نقاط العالم على أعدائهم.
وعافنا في الدين والدنيا بلطفك ورحمتك. وارضِ القلب المقدّس لوليّ العصر عنّا، واشملنا بدعواته.
واحشر روح إمامنا الجليل المطهّرة وشهداءنا الأعزّاء مع أوليائهم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
393
333
في لقاء القيّمين على شؤون الحجّ
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء القيّمين على شؤون الحجّ
المناسبة: موسم الحج.
الحضور: القيّمون على شؤون الحجّ.
المكان: طهران.
الزمان: 24/9/2012م.
395
334
في لقاء القيّمين على شؤون الحجّ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نسأل الله المتعال بتضرّع وخشوع أن يقبل في حضرته حجّ الحجيج وزوّار بيته، ليكون حجّهم سبباً لرضاه، ومنشأً لنزول البركات الإلهيّة على المجتمعات الإسلاميّة. لا بدّ أن أتقدّم بالشكر من أعماق القلب للعاملين في الحجّ والزيارة، سواء أكان في مجموعة البعثة أم في منظّمة الحج والزيارة، وكذلك الأجهزة التي تنسّق معهم وتساعد في أساس العمل ومتعلّقاته، وأطلب الأجر من الله لكلّ واحدٍ من هؤلاء المثابرين والعاملين المحترمين.
إنّ النّكات التي ذُكرت ـ سواء أكانت من قبل السيد قاضي عسكر، أم من رئيس المنظّمة المحترم ـ والإجراءات التي اتُّخذت أو هي في طور الإنجاز كانت جميعاً إجراءات جيّدة ومطلوبة. فلتنصبّ المساعي والجهود على تحقيق كل ما يتمناه هؤلاء المديرون الحريصون مع الإشراف الكامل، كي نستطيع تقريب الحجّ الذي أراده الله منّا بلحاظ الشكل والقالب والمعنى والمحتوى، ولنتمكّن من أداء هذا الواجب العظيم وهذه الفريضة المصيريّة، التي لها من الخصائص ما لا يوجد في أيّة فريضة إسلاميّة أخرى، ناظرة إلى الأمّة وإلى العالم، كما أراد الله تعالى منّا ومنكم إن شاء الله.
إهانة النبي، قضيّة لها وجهات
الوجه الأول: محور الصراع وجود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
إنّ الظروف تختلف، وفي هذا العام للحجّ ظرفٌ خاصّ، فإنّ تجلي وظهور عظمة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم في أعين الأصدقاء والمحبّين، وكذلك في أعين الأعداء سيكون من خصوصيّات حجّ هذا العامّ. وما ارتكبته الأيادي المجرمة للأعداء فيما يتعلّق بإهانة محضر هذا العظيم المقدّس في أمريكا، قضية لها جانبان ووجهان: فمن جهةٍ تظهر عمق البغض والحقد الذي يكنّه الأعداء والمستكبرون وعملاؤهم لنبيّ الرحمة والعزّة والكرامة، والحامل لأسمى وأعلى المحامد الإنسانيّة والبشرية على مرّ تاريخها وفي كلّ عالم الوجود. إنّ ذلك يظهر مدى عمق وتجذّر عدائهم للنبيّ، فهم من جانب يرتكبون هذه الإهانات، ومن جانبٍ آخر يتّخذ ساستهم بشأن هذه القضيّة موقفاً لا يختلف بتاتاً عن موقف الأعداء! فهذا أحد وجوه القضيّة، وهو أمرٌ مفيدٌ جداً للعالم الإسلامي، فحتى أصعب الناس والجماعات والمجموعات تصديقاً وأكثرهم
397
335
في لقاء القيّمين على شؤون الحجّ
تشكيكاً، أدركوا ما هي حقيقة الاصطفاف ومن هم أطرافه، وما هي النّزاعات التي تدور بين جبهة الحق والباطل، وعلى أيّ محور، فقد تبيّن أنّ الصراع يدور حول محور أساس الإسلام وأساس وجود خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم. لقد كانت هذه حادثةً جرت على أيدي العدوّ لكنّ العالم الإسلاميّ استفاد منها، لأنّه عرف العدوّ وسبب عدائه ومحور الاختلاف بين الحقّ والباطل. اليوم، نجد أنّ النّزاعات هي هذه، أمّا باقي الكلام الذي يصدره مستكبرو العالم ضدّ الشعوب المسلمة، فهو كلام فرعيّ وكاذب وليس سوى مبرّرات، لقد اتّضح ما هو أساس القضيّة. هذا هو أحد وجوه القضية.
الوجه الثاني: غليان العالم الإسلامي
الوجه الآخر للقضيّة هو هذه الحركة العظيمة للمسلمين. انظروا اليوم إلى ما يجري في العالم الإسلامي، وأيّ حمية وانتفاضة أظهرتها الشعوب المسلمة. فأكثرهم لم يشاهد هذا الفيلم، بل علموا فقط بصدور مثل تلك الإهانة. انظروا أيّ غليانٍ حدث في العالم الإسلامي. فالدّول الإسلامية وشعوبها ودون أن يطلب منها أحد، أو يحرّكها أحد تتحرّك وتأتي وتصرخ من أعماق وجودها وقلوبها لتعبّر عن حبّها لنبيّها، فلهذا أهميّة فائقة. لقد حدثت واقعةٌ مدهشة، ففي الدول الغربيّة نفسها، وهناك حيث تتربّع الأصنام الكبرى والمستكبرون والطغاة ويخطّطون ضدّ الإسلام والأمّة الإسلامية بنحوٍ متواصل، في أوروبا وفي أمريكا وفي الدّول غير الإسلامية المختلفة، نزل المسلمون إلى السّاحات وأحياناً غيرهم أيضاً، فهذا أيضاً وجهٌ آخر للقضيّة. إنّ هذه قضيّةٌ مهمة جداً، وهذا ما يظهر مدى استعداد العالم الإسلاميّ للتحرّك.
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم محور اتّحاد المسلمين
لقد قلنا سابقاً إنّ ملتقى المسلمين هو وجود النبيّ المبارك. وإذا كان هناك حقيقة يقرّ بها المسلمون ويذعنون لها ويجتمعون حولها بفرقهم ومذاهبهم وعقائدهم المختلفة، فإنّ هذه الحقيقة هي الوجود المقدّس لخاتم الأنبياء. فهنا لا يبقى معنى للفوارق السنّية والشيعية والفرق المختلفة والاعتدال والتوسّط والتطرف وأمثالها، فالجميع متّفقون ومتّحدون بقلوبهم وأرواحهم بشأن هذا المركز وهذا المحور وهذا القطب العقائديّ والإلهيّ والإسلاميّ. في يومنا هذا، نجد هذا الأمر وقد ظهر في العالم الإسلاميّ ويجب اغتنام هذه الفرصة.
398
336
في لقاء القيّمين على شؤون الحجّ
البراءة من المشركين
هنا بالذات تظهر أهميّة البراءة من المشركين في الحجّ، فالحجّ مكانٌ يجتمع فيه المسلمون من جميع أطراف العالم الإسلاميّ، بمختلف ثقافاتهم وأعراقهم وألسنتهم ولغاتهم ولهجاتهم ويتّفقون، حسب تعبير الإمام الحسين عليه السلام في دعاء عرفة المبارك1. وهذه الوحدة التي نرى صورتها الجسمانية والمادية في تجمّعات الحجّ الكبرى يجب أن تزداد عمقاً وأن يشعر الجميع أنّهم يواجهون خطراً واحداً وعدوّاً واحداً، فيتبرؤون جميعاً من أعماق وجودهم من هذا العدوّ. هنا في الحجّ يظهر معنى البراءة من المشركين.
مقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قاصر عنه الوصف
إنّ مقام ومرتبة الوجود المقدّس للنبيّ الأكرم ليس بالأمر الذي يمكننا - نحن البشر- أن نصوّره بألسنتنا القاصرة والناقصة وبأذهاننا المحدودة. نحن نكتفي بالعشق وإظهار الإخلاص والمتربة (التخضّع)، وليس بوسعنا أن نفعل ما هو أكثر من ذلك، إنّ النبيّ هو إنسانٌ قال الله تعالى عنه ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾2. فإذا كان الله تعالى يصلّي عليه وكذلك ملائكته سبحانه فمن نحن لنقدر على أن نفهم هذا المقام ونعرفه؟ لكنّنا نحبّه ونعشقه ونؤمن بحديثه. فيجب أن يكون هذا الأمر أصلاً محفوظاً بالنسبة لنا، يجب علينا أن نقف عند عتبة كلمات نبيّنا، وهذا الكلام هو كلام التوحيد وكلام الإسلام والقرآن، ويجب أن يكون الحجّ مظهراً لهذا.
إلقاء الخلاف عمل العدوّ الدائم
إنّ من مؤامرات العدوّ الكبرى ـ وبالطبع، تمّ إحباط الكثير منها في هذه القضية بحمد الله لكن يجب علينا جميعاً أن نكون حذرين ـ إلقاء الخلافات داخل هذه السّاحة العظيمة والمنسجمة. إنّنا جميعاً متّفقون ومجتمعون حول نقطة واحدة على صعيد المباني والأصول وفي أكثر قضايا الإسلام أصالةً، ويريدون لنا أن نصطدم ببعضنا بعضاً من أجل بعض الاختلافات النظرية والعقائدية والعمليّة. أجل، إنّ الفرق والنّحل الإسلامية مختلفةٌ في العديد من القضايا، لكنّنا نقول: إنّنا جميعاً متّفقون ومتحّدون في مواجهتكم يا أعداء الإسلام ويا من أسأتم بهذه الطريقة إلى وجود نبيّنا المقدّس. فليعلم أعداء الدين والمستكبرون ومديرو الجبهة المعادية للإسلام، أنّ الأمّة الإسلامية
1- من دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة "... فإليك عجّت الأصوات بصنون اللغات...".
2- الأحزاب، 56.
399
337
في لقاء القيّمين على شؤون الحجّ
متّحدةٌ ومتوافقةٌ في مقابلهم. فليبعدوا عن أنفسهم فكرة إيجاد الخلاف ولييأسوا من أن يتمكّنوا من إيجاد الخلاف فيما بيننا. يجب علينا جميعاً، مبلّغين وأفراد الشعب ومسؤولين وأتباع المذاهب المختلفة من السنّة والشيعة، أن نكون حذرين ومتيّقظين، لكي لا نسمح للعدوّ بأن ينجو من مواجهة غضب الأمّة الإسلامية، فنصبّ غضبنا فيما بيننا وننشغل ببعضنا بعضاً، فسيكون هذا خطأ كبيراً. إنّ هذه نكتة في باب الحجّ وبالخصوص حجّ هذه السنة.
الحجّ مشاعرٌ معنويّة زاخرة
هناك نقطةٌ أخرى تمّ التأكيد عليها مرّات عدّة، ومن الضروريّ أن أذكرها، وهي أنّ الحجّ، وإن كان واجباً سياسيّاً واجتماعيّاً، ومظهراً للوحدة ولتجمّع المسلمين ولإعلان البراءة. فلا شكّ في هذه كلّها، لكنّه في نفس الوقت عبارة عن مجموعة مليئة بالمشاعر المعنوية، فلا ينبغي أن ننسى هذا. فمنذ بداية مراسم الحجّ، من ذاك الإحرام الذي تقومون به للعمرة في الميقات وإلى آخر مناسكه وفرائضه، فإنّ ذكر الله يَموج موجاً، فعلينا أن نستحضر هذا ونتذكّره. إنّ ذكر الله تعالى يطهّرنا ويمسح عن قلوبنا الأدران وصدأ الغفلة ويضعّف فينا حبّ الدنيا والتمسّك بزخارفها المادية والإقبال على مالها ومناصبها وشهواتها الجنسية وغير الجنسية. إنّنا اليوم ودوماً بحاجة إلى هذه الأمور. فلكي يتمكّن الإنسان من طيّ الطريق وعدم الانحراف عن صراط الحقّ المستقيم فإنّه بحاجة أن ينمّي ذكر الله في قلبه دوماً، ويُعدّ الحجّ من أفضل الفرص في هذا الاتّجاه، ولا نظير له من عدّة جهات. إنّني أرجو أن تلتفتوا جيّداً في كلّ عملٍ وفريضة ومنسكٍ تؤدّونه وفي التلبية مع البدايات إلى ما تقومون به ومع من تتكلّمون. ولنعلم في الطواف والسعي والميقات وفي أماكن الوقوف وفي كلّ عمل من أعمال الحجّ أنّنا نكلّم الله ونتعامل معه ونسعى إليه، فلا ينبغي أن نفصل هذا الذكر والخشوع والتضرّع عن أنفسنا لحظةً واحدة، فهذا من الأعمال المهمّة. وعلى العلماء المحترمين ومسؤولي القوافل والذين يتواصلون مع الحجيج أن يلتفتوا إلى هذه القضية.
الحجّ أواصر المحبة والتلاقي
النقطة الأخرى أيضاً، ضرورة إحياء الروابط والتواصل مع الإخوة المسلمين في العالم الإسلاميّ في هذا المركز المهمّ. فهذه العلاقات ليست علاقات الحكومات. فالعلاقات بين الحكومات هي علاقات رسميّة وكلاميّة ولأجل قضايا أخرى، أمّا الروابط بين أبناء الأمّة الإسلامية فهي أواصر وروابط قلبية وهي تحصل من خلال هذا التواصل
400
338
في لقاء القيّمين على شؤون الحجّ
بين أبناء الشعوب. فعلى الذين يعرفون لغة الإخوة المسلمين الذين يأتون من الدول المختلفة ويمكنهم أن يتحدّثوا معهم، أن يظهروا لهم المحبّة والمجاملة ويركّزوا على نقاط الاشتراك عند لقائهم، والذين لا يعرفون لغتهم فليفسحوا لهم بالعمل والمودّة والمحبّة وليتحمّلوا بعض المصاعب والخشونة، فمن الممكن لأحدٍ ما أن يدفع بكم، وعليكم أن تقابلوه بالابتسامة. فاسعوا من الناحية العملية إلى أن تحقّقوا هذه الرابطة، وليس لأجل حفظ سمعة إيران وشعبها وعزّته فحسب ـ حيث إنّ هذا أمرٌ مهمٌّ جداً في محلّه، وما أجمل أن يتمكّن شعبٌ ما من إظهار كرمه وقيمه وتمسّكه بالآداب والأخلاق الإنسانية والإسلامية ـ بل من أجل ترسيخ هذه الرابطة القلبية. إنّ أهل أيّ عرق أو لغة أو مذهبٍ هم مسلمون وقد أتوا مثلكم إلى الكعبة عشقاً وحبّاً للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهم يمشون ممشاكم ويخاطبون الرّبّ المتعال مثلكم. فاسعوا مهما أمكنكم أن تظهروا هذا الوجه المشترك لكي يدركوا أنّه موجودٌ، فعندما يشعر المسلم في أقصى مناطق العالم أنّ له في الدول الأخرى وبين الشعوب الأخرى إخوة فإنّه يقوى معنويّاً وينال الثقة بالنفس ويخلّص نفسه من الضعف الذي فرضته عليه أيادي المستكبرين الخبيثة. يجب العمل على تقوية هذه الحالة.
أسأل الله تعالى أن ينزل بركاته على حجّاجنا وعلى جميع حجّاج العالم الإسلاميّ. وإن شاء الله تكونون جميعاً مشمولين بأدعية بقية الله أرواحنا فداه الزاكية. وإن شاء الله نتمكّن جميعاً بالاستمداد من أرواح الأولياء المطهّرة، وأرواح الشهداء المطهّرة، وروح إمامنا الجليل المطهّر، أن نتحرّك على طريق يؤدّي إلى رضا ربّ العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
401
339
في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
المناسبة: المؤتمر الوطني السادس للنّخب الشباب.
الحضور: جمعٌ غفيرٌ من الشباب النخب في إيران وأصحاب المواهب.
المكان: طهران.
الزمان: 3/10/2012م.
403
340
في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بداية، يجب عليّ أن أبارك لكم جميعاً أيّها الأعزاء، أنتم أبناء هذا الشعب، ونور عيوننا، لوجودكم ضمن مجموعة النخبة في البلاد.
بالطبع، إنّ هذا التبريك يشبه تبريك أعياد الميلاد، حيث يقال في عيد ميلاد المرء "مبارك لكم"، رغم أنه لا دور له أبداً في تعيين زمان ولادته وأصل ولادته وتاريخها. ومعنى هذا أنّ الله تعالى منحكم فرصة، وقد كان التوفيق حليفكم إلى الآن في الاستفادة من هذه الفرصة، فصرتم جزءاً من جماعة النخبة في البلاد، فمبارك لكم هذا، بيد أن هذه الموهبة والمقدرة والفعل الذي كان لكم لحدّ اليوم، إنما هو بداية السير على الطريق. هذا ما ينبغي لكل النّخب الشباب الأعزاء أن يأخذوه بنظر الاعتبار.
إننا لسنا قانعين، ولا تكونوا أنتم أيضاً قانعين، بأن استطاع شبابنا الموهوب والمميّز إثبات نخبويّته في مجال معيّن أو في اختبار كبير من الاختبارات. لستُ قانعاً بهذا المقدار، ولا تكونوا أنتم أيضاً قانعين.
يجب أن يكون توقّعي وتوقّعكم تبديل هذه البذرة إلى ثمرة يانعة وإلى غرسة باسقة، ومن ثمّ إلى شجرة طيبة ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾1. كونوا أشجاراً مثمرة تستطيع أن تؤتي ثمارها الحلوة الطيبة في كلّ الأزمنة، والظروف لهذا البلد، ولهذا الشعب وللتاريخ، وبالتالي لكل البشرية. ينبغي أن يكون هذا هدفكم.
أمّا بخصوص جلسة اليوم، فقد استمعت بدقّة للآراء والكلمات التي ألقاها الأعزاء هنا. واعتقد أنها آراءٌ مدروسة وجيدة، لا بمعنى أنّ بوسع المرء تأييد وتصديق كلّ هذه الاقتراحات من ناحية خبروية علمية - فهذا بحاجة إلى دراسة وتمحيص - ولكن من حيث إنّ هذا الآراء والاقتراحات طرحت عن دراسة وتفكير وتدقيق، فهذا شيء مهم وقيّم جداً بالنسبة لي.
المسؤولون المحترمون حاضرون في الجلسة - عدد من الوزراء المحترمين ورئيسة مؤسسة النخبة المحترمة2 - وما أتوقّعه هو أن تؤخذ الآراء والنظرات التي أعرب عنها هؤلاء الشباب الأعزاء بعين الاهتمام، ويجري العمل عليها
1- إبراهيم، 25.
2- مؤسسة النخبة: تُعنى برعاية المتميّزين وأصحاب الإبداعات والمتفوّقين في مختلف المؤسسات والهيئات التعليمية والتربوية والرياضية، والمهن والصنائع و...، وهي تعمل على رصد وتنمية ومتابعة شؤون النخب، واستقطاب كفاءات موهوبة جديدة، وقد تمت المصادقة (قبل 3 سنوات) على وثيقة النخب الاستراتيجية من قبل الشورى العليا للثورة الثقافية بناءً لدعوة الإمام القائد، وتتضمن هذه الوثيقة بالإضافة إلى رعاية وحماية النخب، استثمار طاقاتهم وإبداعاتهم في مختلف المجالات ذات الصلة.
405
341
في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
ودراستها. فكم من شرارات تفضي إلى أنوار كبيرة، ومشاعل وضّاءة تنير الأجواء. وليكن هناك تنبّه إلى أنّ هذه الآراء صادرة عن قلوب صادقة، فهذا الأمر على جانب كبير من الأهميّة. يلاحظ المرء هذه النقطة في كلّ الآراء والأفكار التي طرحها الأصدقاء الأعزاء هنا. وقد سجّلت رؤوس نقاطها، فهي آراء نابعة عن صدق ونقاء، ومشاعر جميلة تعتمل في أذهان الشباب وقلوبهم، وهم شباب يشعرون بالمسؤولية ويتحدّثون بأمل وحيوية. هذه من الأمور التي تلطّف الأجواء وتجعلها محبّبة. حينما يتحدّث الشّباب بمثل هذا التفاؤل والأمل والحيويّة والمعنويات تصبح الأجواء مفعمة بالنشاط والحيوية. غالباً ما تكون هذه المقترحات على هذا النحو. وبالطبع، فإنّها أفكار وآراء ومقترحات ناضجة ومدروسة. أي إنّ ما قاله الأعزاء لا يبدو مجرد اقتراحات أوّلية وبسيطة.
فتح الفتوح تربية الشباب
والمحور الأساس للتقدّم هو هذا. في إحدى وقائع الحرب المهمّة - والكثيرون منكم ربما لم يكونوا حتّى قد ولدوا في ذلك الحين - أصدر الإمام الخمينيّ الجليل بياناً بمناسبة إحدى العمليات التي حقّق فيها الجنود انتصاراً، وقد جاء في ذلك البيان أنّ فتح فتوح الثورة الإسلامية هو تربية وتخريج هؤلاء الشباب. الكلّ كانوا يتوقّعون أن يقول الإمام إنّ هذا الانتصار الذي حققتموه هو فتح الفتوح، وأن يمدح هذا الانتصار، لكنه شكر المقاتلين، وقال: إنّ فتح الفتوح في الحقيقة هو إعداد وتخريج مثل هؤلاء الشباب الذين استطاعوا في تلك الظروف الصّعبة التي وقف فيها العالم كلّه ضدّنا بوجه عبوس، وبأسلحة جاهزة للإطلاق، أن يحقّقوا مثل هذا الانتصار الكبير. كانت عمليات طريق القدس. وأنا أكرر هذه المقولة: هؤلاء الشباب هم فتح فتوح الثورة. التقدّم الحقيقيّ هو أن يشعر شبابنا ونخبنا بالمسؤولية تجاه المستقبل، ويطرحوا تصوراتهم ورؤاهم، ويرسموا مستقبل البلاد ويجسّدوه، ويشعروا به ويعبّروا عن هذا الشعور، ويكونوا على استعداد للسعي والجهد من أجل الوصول إلى هذا المستقبل. هذا هو الأمر الموجود اليوم، وينبغي تعزيزه والتقدّم به إلى الأمام. يجب تعزيز هذا الشعور وهذه الروح الحيوية في مجتمعنا يوماً بعد يوم. فلو حصل هذا، عندئذ يتحوّل ما لديكم على الصعيد الفرديّ - وهو موهبتكم ونخبويتكم التي تعدّ ملكاً شخصياً لكم - إلى ذخيرة وطنية، فلاحظوا كم هذا حسن. شخص يحوّل رصيده الشخصيّ إلى ذهب وعملة صعبة ويخفيه في صندوقه الخاصّ. أين هذا من شخص يحوّل رصيده إلى
406
342
في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
صناعة ومعمل وعمل إنتاجيّ له قيمته، ويتقدم بالبلاد إلى الأمام؟ إنكم بسيركم في طريق هذه الأهداف إنّما تمارسون هذه العملية الثانية، أي تبدّلون رصيدكم الشخصيّ إلى رصيد وطنيّ للشعب الإيرانيّ كلّه. هذا شيء قيّم جداً.
الانتباه من الغفلة (لا تسمحوا بتوقّف هذه المسيرة)
ولحسن الحظّ، فإنّ المناخ الخطابيّ السائد في البلاد يسير لصالح تقدّم العلم. هذا ما جري تكريسه وتثبيته والحمد لله. المسيرة العلمية في البلاد مسيرة متسارعة - وهذا ما تدلّ عليه الإحصائيات والأرقام العالمية -، لكن ما يقلقني هو أن يعرض علينا الشعور بالرضا لهذه المكانة والوضع الذي حقّقناه ويجعلنا غير مبالين، ويقلل من عزائمنا وهممنا. وهنا نعود إلى كلامنا الأول وهو، يا أعزائي، اعلموا أنكم في بداية الطريق، والبلد أيضاً في بداية الطريق. لاحظوا أنّنا بسبب خبث وتقاعس واستبداد وتبعية الحكومات المختلفة التي حكمتنا طوال العصور الأخيرة1 تأخرنا عن قافلة العلم في العالم. لعلَّه يمكن القول إنّنا متأخرون ثلاثة قرون على وجه التقريب. لقد أصابتنا الغفلة.
كان زعماء البلاد وحكّامه غارقين في حياة اللهو والعبث واحتياجاتهم الشخصية، والتكبّر والاستكبار على الشعب، وغافلين عن أوضاع العالم وأحواله، فتضرّرنا من الناحية السياسية، وكانت الخسارة الأكبر على صعيد التقدّم العلميّ. في مضمار السباق هذا الذي كنّا فيه خلال القرون السابقة متقدّمين على الآخرين، وبعد أن كان العالم كلّه تقريباً يسير بوتيرة واحدة، استطاعت بعض الشعوب حيازة واسطة نقل أسرع فتقدّمت علينا، لذلك ازدادت المسافة بيننا وبينهم بنحو كبير. لأنّهم كانوا متقدّمين علينا، وحصلوا على واسطة نقل أسرع، لذلك ازدادت المسافة الفاصلة بيننا وبينهم - وهذا مجرّد تشبيه - بل لقد كنا متوقّفين، وفي أحسن الأحوال، كنا نكتفي بمخلّفات أعمال الآخرين ومصنوعاتهم، وهكذا ازداد البون أكثر فأكثر بيننا وبين العالم الذي راح يكتشف كلّ يوم ساحات ومجالات جديدة. وجاءت الثورة الإسلامية فأيقظتنا جميعاً، وأثارت الهمم، وأنزلت المواهب والطاقات إلى الساحة. والتسارع الذي حصلنا عليه اليوم يزيد بعشرة أو ثلاثة عشر ضعفاً عن معدّل التسارع العامّ في المجال العلميّ في العالم.
وهذا أمرٌ ممتاز. لكنّ المسافة التي تفصلنا عنهم ما زالت كبيرة. فلو أنّنا أكملنا هذا التسارع الذي حصلنا عليه اليوم لمدّة عشرين سنة ـ وأنا عندما
1- أي العهود التي تلت حكم الصّفويين ما بين (1736 ـ 1979م)، أي حكم سلالات الأفشاريد والزنديين والقاجار وصولاً إلى الحكم البهلوي الذي أطاحت به الثورة الإسلامية عام1979م.
407
343
في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
أقول عشرين سنة لا أقول ذلك على أساس حسابات دقيقة، وإنّما من باب التخمين ـ فإنّنا سنصل إلى تلك الموقعيّة التي تتناسب مع شعب إيران وتاريخه وماضينا، وتراثنا العلميّ، وأهميّتنا.
وعليه يجب أن لا نسمح لهذه الحركة والمسيرة بالتوقّف، إذ لو توقّفت هذه المسيرة فإن استئنافها وإعادة تشكيلها سيكون صعباً. وهذه مهمتكم أيّها الشباب. على الشباب أن يضاعفوا هممهم. أُشعروا أنكم في بداية طريق طويل ومهمّ، وبلادكم أيضاً في بداية طريق طويل ومهمّ.
الاستعمار واستغلال ثروات الشعوب
بالطبع، لا أوصي أبداً بأن تشعروا بالانهزام والخوف من التقدّم الغربيّ - إطلاقاً - فذلك التقدّم مردّه إلى أنهم سبقوا (الآخرين) في ل مرحلة معينة، وإلى الظلم والاستكبار والاستعمار. لو لم يستعمر البريطانيون الهند وبورما والمنطقة الثرية في آسيا، ولم يغتصبوها، ولم ينهبوا ثرواتها - وقد استطاع الهنود أنفسهم أن يصوّروا هذا الحال تصويراً ممتازاً في مرحلة تاريخية معيّنة - فمن المسلَّم به أنّه لما استطاعوا الوصول إلى ما وصلوا إليه. كانوا يمتصّون دماء الآخرين ويسمنون وينتفخون1، ونحن لا نريد أن نفعل هذا. إنّنا لا نسعى إطلاقاً لامتصاص الآخرين، إنّما نؤمن بالتفتّق والإبداع الداخليّ، والتدفق الذاتي، ونعزّز هذا المنحى، وسوف نتقدّم إن شاء الله. هذه هي النقطة الأولى: لا تسمحوا بتوقّف هذه الحركة.
الهمّة العالية وتحمّل المسؤوليّة
النقطة الثانية هي أن المسؤولين ومديري الأجهزة ذات الصلة بالمسيرة العلمية تقع عليهم مسؤوليات، كما تقع على عاتق النّخب أنفسهم مسؤوليات. لقد سُرِرتُ، لأنّ عدداً من شبابنا الأعزّاء صرّحوا هنا بأنّ النّخب لا يجدون أنفسهم دائنين للنظام وللشعب - هذا مضمون ما قيل - إنما يرون أنفسهم أشخاصاً يستطيعون تقديم الخدمة للشعب، ومن واجبهم النهوض بهذه الخدمة. هذه معنويات وروح جيدة جداً. وفي الوقت نفسه هناك مسؤوليات.
بالطبع، المسؤولون قاموا بعمل جيد. لقد درستُ المسألة وتلقّيتُ تقارير عن قرب. تعلمون أنني لا أكتفي عادة بالتقارير التي يقدّمها لي الأعزّاء والمديرون. التقارير التي
1- يشبّه الإمام القائد هؤلاء بالعلقة التي تمتص الآخرين وتسمن نفسها.
408
344
في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
تعلن بشكل رسميّ غالباً ما تكون إيجابية وجميلة ومصطبغة بالحسن، وبوسع المرء أن يكتشف الأمور من خلال قنوات أخرى. مضافاً إلى أنّ التقارير التي رفعها المديرون كانت جيدة، وكذلك ما قالته السيدة رئيسة المؤسسة اليوم، فقد حققتُ من طرق أخرى ووجدتُ أن العمل في مؤسسة النخبة يجري بطريقة جيدة للإنصاف، والجهود المبذولة هناك جهود جيدة جداً.
التجديد والإبداع والابتكار في العلوم الإنسانيّة
هناك نقطة أيضاً، أنّ المعايير ليست واحدة في مجالي العلوم التقنية والعلوم الإنسانية. وهنا بالطبع قد ميَّز أحد الشباب الأعزاء حتّى داخل العلوم التقنية نفسها، بين العلوم المحضة والعلوم الصناعية والتقنية، وهذه بدورها نقطة جديرة بالعناية والملاحظة. وعلى كلّ حال ثمّة مائز بين معايير النخبوية في العلوم التقنية والعلوم الإنسانية. ليست المقاييس والمعايير في هذين الحيّزين واحدة، هذه نقطة ينبغي ملاحظتها.
إنّنا بحاجة إلى التجديد والإبداع والابتكار في مجال العلوم الإنسانية والتي تُعتبر اليوم حاجة أساسيّة جدّاً في بلدنا. فهذا هو المفتاح الأساسيّ للتطوّر النهائيّ والبنيويّ والجذريّ في البلد. لهذا، ينبغي اختيار المعايير بشكل صحيح.
توفير الأجواء العلميّة المناسبة
النقطة الأخرى، هي أنّ دعم النّخب يعني بالدرجة الأولى توفير فرص البحث والدراسة والتحصيل العلميّ والتطوّر لهم. وأنا بالطبع لا أعارض أبداً الدعم الماليّ والماديّ وما إلى ذلك، بل هو ضروري ولازم، لكنّ الأهم منه أن تشعر النّخب أنّهم يتنفسون، في أجواء علمية. الشيء الذي يُنقل لنا دوماً هو أنّ النّخب والمتفوقين يرغبون في وجود ساحات واسعة يمكنهم التحرّك فيها حسب مقتضيات نخبويتهم وموهبتهم. هذا ما ينبغي توفيره. ولهذا الشيء طبعاً طرق وأساليب متعددة. وليس من اختصاصنا تشخيص السبل وتقديم الاقتراحات والتأشير إلى المسالك، إنّما هو من اختصاص الخبراء ذوي الشأن.
وبالطبع، فإنّ للشباب أنفسهم اليوم آراءهم في هذا المجال. ينبغي تأمين وتوفير هذه الأجواء لتشعر النّخب أنّ هناك ساحات وميادين متوفرة أمامهم.
409
345
في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
تطوير النخب وحفظها النقطة الأخرى هي أن نحوّل رعاية النّخب والنظر إليهم إلى منظومة متشابكة. نتعرّف إلى النّخب ونشخّصهم وننتخبهم ونساعدهم، ونوفر لهم الثبات والاستقرار في مسيرتهم النّخبوية، ولكنّ هذا لا يكفي.
ينبغي وجود مسيرة شبكية بنّاءة ودورة تبدأ من تربية النّخب وإعدادهم. وجذور ذلك موجودة في مؤسسة التربية والتعليم، كما قال أحد الشباب. علينا تشخيص مواهب النّخب وإعدادهم وتربيتهم، ثمّ نقوم بالانتخاب والانتقاء من بين هؤلاء، أي انتخاب الأفضل فالأفضل لأنّ بعض النّخب أكثر نخبوية وبعض المواهب أشدّ. أي اختيار الأفضل. ثم تأتي مرحلة الحفظ والرعاية ورفع المستوى. وهنا لسنا أمام الحفظ فقط بل الحفظ المصحوب بالارتقاء ورفع المستوي والتقدم. فإذا كان هذا الفرد "النخبة" اليوم في المرتبة العاشرة، فساعدوه على أن يرتقي في المستقبل غير البعيد إلى المرتبة الأولى. ثمّ يدخل هذا الفرد نفسه في دورة صناعة النّخبة - أي الحالة الشبكية - فيتحوّل إلى صانع مميّزين ومخرّج للنُّخَب. وفي هذه الحالة تتحقّق ظاهرة الإنتاج، ووضعية التوليد الذاتيّ، وتتضاعف الحركة. لو انتهجنا مثل هذا الأسلوب فيبدو أنّ العمل والأمور سوف تتقدّم إلى الأمام.
الميثاق الاستراتيجيّ للنخب
ونقطة أخرى تتعلّق بالمسؤولين المحترمين والميثاق الاستراتيجي للنّخب، وقد عُرض كمقترح. ولحسن الحظّ، فقد تمّ إعداد شيء جيد، لم أطّلع بنفسي عليه لكن الأصدقاء درسوه ونظروا فيه، وكان تقييمهم أنّ هذا الميثاق الاستراتيجيّ تمّ إعداده بصورة جيدة وشاملة. وقد تمّت المصادقة عليه في المجلس الأعلى للثورة الثقافية1 كمرحلة من المراحل، ولكن ينبغي أن يصادق عليه بصورة نهائية ويجري إبلاغه بسرعة. حينما يجري إبلاغه فسوف تتعاون وتتكامل كلّ الأجهزة والمؤسسات في تنفيذه. إذا تمّت المصادقة على الميثاق الاستراتيجيّ للنخبة - بشكله الذي وصفوه لي - وتمّ إبلاغه فسوف يرتفع الكثير من هذه الأسئلة والنقاط الغامضة تلقائياً.
5- المجلس الأعلى للثورة الثقافية: من المؤسسات المهمّة والأساسية في إيران، شُكِّل بعد انتصار الثورة بأمر من الإمام الخميني، يرأسه رئيس البلاد ويضم مسؤولي المؤسسات والوزارات والهيئات ذات الطابع الثقافي والدينيى والاجتماعي، من مهامه تقوية البنيان الثقافي والديني لدى مختلف فئات وشرائح الشعب، ومؤسسات الثورة والدولة، والقضاء على الآثار والترسبات اللادينية التي أدخلها نظام الشاه السابق إلى المجتمع، ويعتمد على الأصول الإسلامية، أي الإسلام المحمدي الأصيل المتمثّل بمجموع المنظومة العقائدية والشرعية والعملية التي قدّمها؛ الإسلام لإدارة المجتمع ورعاية شؤون الناس.
410
346
في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
مسؤوليّات النخبة
أولاً: المحافظة على التطوّر المستمر
أمّا بخصوص مسؤولياتكم أيّها النّخب الأعزّاء، فقد قلنا إنكم يجب أن تعتبروا أنفسكم في بداية الطريق. حاولوا أن تبقوا في مستوى النّخبة. إنّكم اليوم نخبة لكنّكم في سباق، وقد يرتفع المستوي العلميّ للبلاد إلى حدّ لا يكون معه هذا المستوي نصاباً كافياً للنّخبوية. وقد تستدعي الضرورة أن يرتقي المرء لمستويات أعلى. لقد أدرجنا في ميثاق الأفق العشريني1 أنّنا سنصل في سنة 1404هـ .ش. (2025م) إلى المرتبة الأولى في المنطقة من الناحية العلمية. ويقول بعض المسؤولين إنكم قلتم نصل لهذا المستوى في سنة 1404هـ .ش.، لكننا الآن ونحن في سنة 1391هـ.ش. (2021م) نحتلّ المرتبة العلمية الأولى في المنطقة. هذا كلام صحيح، لكنه ليس ذلك الكلام نفسه. لسنا الآن في نهاية الطريق، بل في وسط الطريق، وفي بداية المسير.
ينبغي لكم أن تحافظوا على هذه المرتبة الأولى من الآن - ونحن في سنة 1391 - إلى سنة 1404، وتكتشفوا أدوات ومقتضيات المحافظة على هذه المرتبة. وهذا يحتاج إلى الكثير من العمل. عقدتم العزم وانطلقتم في قفزة نوعية، وهذا جيد، ووصلتم إلى المرتبة الأولى، لكن الآخرين لن يبقوا عاطلين، مكتوفي الأيدي. ثمة آخرون يريدون الوصول للمرتبة الأولى في المنطقة ويكونوا متفوقين، وهم أيضاً يبذلون جهودهم. إذن، يتوجّب أن تحافظوا على هذه النّخبوية. وهذا ما يصدق تماماً عليكم كأشخاص. ينبغي أن تكونوا مؤثّرين. كما ذكرنا، يتعيّن عليكم في شبكة النّخبة هذه أن تستطيعوا دفع الأجواء المحيطة بكم نحو النّخبوية. هذه عملية مهمّة جداً، وهي من واجبات النّخبة.
ثانياً: الاهتمام باحتياجات الوطن
وهناك مسؤولية أخرى من المسؤوليات التي دوّنتها، وهي أن تصبّوا جهودكم واهتماماتكم على احتياجات البلد. وطبعاً هذه نقطة موجودة في كلمات الأعزاء، ويتكرّر ذكرها في كلماتهم خلال اللقاءات التي تجمعني بالجامعيين والطلبة الجامعيين
1- وثيقة ترسم آفاق التنمية في إيران في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويتمّ تطبيقها منذ العام 2005م ولمدّة 20 سنة على أربع مراحل.
411
347
في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
في شهر رمضان وغير شهر رمضان. لكن هذا شيء يجب أن يتحقّق ويجد طريقه إلى التنفيذ العملي. تفيد بعض التقارير التي تصلني إلى أنّ 70% من البحوث والدراسات العلمية الآن لا تُعنى باحتياجات البلاد. لا أدري كم هذه الإحصائيات دقيقة، لكنها تقارير تصلني. تبذلون كلّ هذه الجهود وتنتجون البحوث العلمية فيكون 30% منها فقط مختصاً باحتياجات البلاد و70% لا صلة له باحتياجات بلادنا! يشعر المرء بالخسارة طبعاً. ينبغي أن يكون العمل العلمي والجهود العلمية وإنتاج الدراسات العلمية منصبّاً على احتياجاتكم 100%. تعاونوا مع الـ 1 ISI على هذا الأساس. حين يكون البحث المقبول لدى الـ ISI ممّا يمكن الاستفادة منه في داخل البلاد، تابعوا هذا البحث وطوّروه. لدينا معيار أساسيّ. ومعيارنا هو أنّ بلادنا فيها مئات الثغرات والنواقص والمشاكل، ونريد ردم هذه الثغرات. هذه بدورها نقطة أساسية مهمة جداً. وطبعاً هذا ما يحتاج أكثر من أي شيء آخر إلى ذلك المنهج المنظّم الذي أشار له الأعزاء، وإلى المساعي التي ينبغي لمؤسسة النخبة أن تبذلها.
المراقبة
أولاً: تهذيب النفس
وصيّتي الأخرى لكم أيّها الأعزّاء هو أن تراقبوا أنفسكم وتهتمّوا بها. وليس المراد من المراقبة هنا المراقبة (المادية) الفيزيائية، إنّما المراقبة المعنوية وتهذيب النفس، فهذا ما يساعدكم. ينبغي أن نوفّر لأنفسنا وجهاً مقبولاً عند الله. أنتم شباب، وقلوبكم طاهرة وأرواحكم شفافة. ربما أمكن القول إنّ الارتقاء إلى المراتب والمقامات المعنوية والروحية في أعماركم أسهل بعشر مرات منه بالنسبة للذين هم في أعمارنا. يمكنكم أن تتوجّهوا إلى الله وتتوسّلوا به وتستأنسوا به، وتبعدوا أنفسكم عن الذنوب. هذه من خصوصيات الشابّ. لاحظوا مثلاً جسم لاعب (الجمباز): شابّ في حركاته المتنوّعة، كم هو مرن، وقارنوا ذلك بإنسان كبير السنّ مثلي ممّن لا يستطيع أن يحقّق لنفسه من تلك المرونة البدنية حتّى 1%. ومثل هذا الشيء بالضبط يحصل في روحه وفي قلبه. بوسعكم أن تتوجّهوا نحو المعاني الراقية العالية. فلا تهملوا هذا الجانب واهتموا به.
ثانياً: الاهتمام بالصلاة والأنس بالقرآن
الاهتمام بالصلاة والاعتناء بها له أثر كبير. فأداء الصلاة بتوجّه وفي أوّل الوقت ومع حضور القلب وتركيز أمرٌ مؤثّر جداً جداً. والأنس بالقرآن جيّد جداً. اقرأوا
1- راجع حاشية الصفحة 309.
412
348
في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
شيئاً من القرآن الكريم كلّ يوم، وإن كان نصف صفحة، ودقّقوا أن لا تتركوا هذا الشيء. افتحوا القرآن واقرأوا نصف صفحة أو آيتين بتوجّه وتركيز. وواظبوا على ذلك. هذه هي المراقبة المعنوية وتهذيب النفس. اجعلوا النّخب العلمية - التي ستبلغ يوماً ما ذروة القمم العلمية إن شاء الله - تغرق في المعنوية بحيث تستطيع أن تعمل بإخلاص ولصالح الإنسانية مئة بالمئة. حينما تكون قلوبكم مع الله، فلن تستخدم علومكم لصالح القنابل الذرية أو الأسلحة السامّة أو الأساليب الاقتصادية المدمّرة لثروات الشعوب. فعلماء الاقتصاد في العالم، وعلماء الذّرة في العالم، وعلماء الأحياء في العالم، يستخدم الكثير من منتجات علومهم لإهلاك البشرية وتدمير أجسام البشر أو أرواحهم. العلم هو الذي يستطيع أن يوجد المخدّرات القاتلة من قبيل ما يوجد في العالم اليوم. هذه أيضاً أنتجت بالعلم، وهي خيانات كبيرة قام بها أصحاب العلم، بسبب القلوب الغافلة، والأعين الحريصة على المال والمادّيات والحياة الدّنيا، والتي أنستهم الروحانيّات تمام النسيان. حينما تكونوا مهذّبين تنتهي علومكم لصالح البشرية مئة بالمئة. هذه هي المراقبة الأولى.
ثلثاً: المراقبة في التفكير
المراقبة الثانية، هي المراقبة في التفكير (الفكر). قالوا إنّ التفكّر هو أكبر عبادة. التفكّر في الخلقة والتفكّر في وظائف الإنسان وواجباته، والتفكّر في الحياة الدّنيا، والتفكّر في الآخرة، والتفكّر في الأوضاع السياسية في العالم، والتفكّر في القضايا الأساسية والأصولية في حياة الإنسان. لدينا تطوّر في العلوم، ويجب أن يوازيه تطوّر في التفكير أيضاً. الفكر هو الذي يرسم خطوط واتجاهات المساعي العلمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات. هذه هي المراقبة الثانية.
رابعاً: الوعي السياسيّ
ثمّ هناك المراقبة الخاصة بوضع بلادكم، والنظرة الصائبة الدقيقة لقضايا بلادكم وتحليلها. بوسع النخب الإيرانيين في الوقت الراهن، القيام بأعمال جيّدة وكثيرة في هذه المجالات. نقف اليوم في ساحة واسعة مقابل جبهة الأعداء. وتلك الجبهة ليست بالجبهة الضعيفة أو الفقيرة، فلها أموالها وإعلامها وعلومها وسياستها وقدراتها السياسية، لكن الشعب الإيرانيّ ونظام الجمهورية الإسلامية يقف مقابل كلّ هذه الضغوط، وهم يمارسون الضغوط بكلّ أشكالها، من الضغوط الأمنية والعسكرية والاغتيالات وافتعال الاضطرابات، وغير ذلك إلى الضغوط السياسية والاقتصادية،
413
349
في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
وفرض الحظر، وممارسات من هذا القبيل. والشعب واقف مقابل كلّ هذا ويتقدّم إلى الأمام. هذه الضغوط تمارس منذ ثلاثة وثلاثين عاماً، والشعب الإيرانيّ والثورة الإسلامية ونظام الجمهورية الإسلامية يقف أمامها بكل شجاعة، وقد أحبط الضغوط، وازداد قوّة وصلابة.
يجب أن لا نفقد موقعيتنا وموقع الشعب الإيرانيّ ونظام الجمهورية الإسلامية في الخارطة العالمية الحالية التي ترسم مواقف ومواقع القوى السياسية في العالم، والجغرافيا السياسية العالمية. أين نقع نحن؟ وما هو وضعنا؟ لاحظوا استعراض القوى والضغوط وإخفاقات العدوّ. وبالطبع فإنّ الضغوط شديدة جداً ومن أنحاء مختلفة، ولكن أن نتصوّر أنّنا بقرارنا الفلانيّ وتدبيرنا وعملنا الفلانيّ تسبّبنا في تأجيج العداء علينا فهذا خطأ وغير صحيح.
إنّ شعب إيران وبسبب موقعيّته المستقلّة، وعدم استسلامه لنظام الهيمنة الدّولي أصبح في معرض كلّ هذه الهجمات. فلأنّ الشعب لم يستسلم لهذا النظام المهيمن، يضغطون عليه حتّى يستسلم. فهؤلاء لم يعجزوا عن إخضاعه وحسب، بل أصبح هذا الشعب من موقعيّته أكثر تصميماً، وازدادت قدرته وإمكاناته. ومثل هذا يستفز الأعداء ويغضبهم، فيتصرّفون باضطراب، ويجعلهم يرتكبون كلّ هذه الأخطاء، حيث بوسع المرء أن يستفيد أيضاً من هذه الأخطاء. لهذا، فلتتعرّف نخبنا العزيزة إلى موقعية نظام الجمهورية الإسلامية.
الوصول إلى القمّة، تحمّل الصعاب، تجاوز المحن وأقولها لكم: بفضل ثروات الطاقات البشرية المتوفّرة في بلادنا حالياً - والحمد لله - سنستطيع اجتياز كلّ هذه المنعطفات الصعبة. لكنّ الوصول إلى القمة دون اجتياز المنعطفات خيال باطل. تارة تقعدون في بيوتكم - وقد سقت هذا المثل مراراً - وتنظرون من النافذة، فترون جبال البرز يرتقيها الناس أيام الجمعة أو غير أيام الجمعة. ويتصوّر المرء من داخل غرفته أنّه مع هؤلاء المتسلقين وفي القمّة، والحال أنّه ليس في القمة. إذا أردتم الوصول إلى القمة فعليكم أن تذهبوا إلى الجبل، وتبدأوا من أسفله وتتحرّكوا وتتحمّلوا الصعاب، وتريقوا عرقكم، وتتعبوا وتتحمّلوا مشكلات عديدة في الطريق إلى أن تصلوا أخيراً إلى القمّة. والوصول إلى القمّة في مثال تسلّق الجبال مجرّد رياضة بدنية، ووصول إلى الهواء الطلق وشعور بالرضا والبهجة، ولكن في مسيرة الشعب فإنّ الوصول إلى القمة يعني الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة، وإلى الهدوء
414
350
في لقاء المشاركين في المؤتمر الوطني السادس للنخب الشباب
والسكينة، وكلّ مصاديق السعادة التي يمكن لشعب أن يرسمها لنفسه. بهذه الثروة التي يتمتّع بها شعبنا - الثروة الإنسانية والثروة الطبيعية - سوف يتجاوز شعب إيران - بتوفيق من الله - كلّ هذه المعابر الخطرة، والمنعطفات والمرتفعات الصعبة، ويصل إن شاء الله إلى القمة.
أتمنى أن يحفظكم الله تعالي جميعاً، ويوفّق مسؤولينا للقيام بواجباتهم الملقاة على عواتقهم. وسنراكم إن شاء الله تقطعون مراحل التقدّم والرقيّ باستمرار، وسيُخرج الله تعالى بلادنا وشعبنا من كلّ هذه الميادين شامخاً مرفوع الرأس إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
415
351
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
المناسبة: زيارة محافظة خرسان الشمالية.
الحضور: أهالي محافظة خراسان الشمالية.
الزمان: 10/10/2012م.
417
352
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا وحبيبنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين وصحبه المنتجبين، والسلام على عباد اللّه الصالحين.
اللّهمّ صلّ على عليّ بن موسى المرتضى الإمام التقي النقيّ وحجّتك على من فوق الأرض ومن تحت الثرى الصدّيق الشهيد صلاة كثيرة تامّة ناميةً زاكية متواصلة مترادفة، كأفضل ما صلّيت على أحد من عبادك وأوليائك.
محافظة خراسان الشمالية
الشكر لله ـ أقولها من صميم القلب ـ على اللقاء بكم يا أهالي محافظة خراسان الشمالية الأعزّاء، حيث إنّ مدينتكم ومحافظتكم معروفٌة بأنها "باب الرضا" ولأنّه حصل في يوم الزيارة الخاصّة بالإمام الرّضا عليه السلام، هذا وإن لم نوفّق اليوم لنكون في حرم الإمام الثامن المطهّر عن قرب، لكنّنا سلّمنا ونسلّم من هذه المنطقة التابعة لحضرته.
تُعرف هذه المنطقة اليوم باسم خراسان الشمالية، وهي من مناطق خراسان المهمّة، سواء من ناحية موقعها الجغرافيّ والطبيعيّ أو من ناحية الخصائص السكّانية والبشرية والثقافية والأخلاقية والسلوكية. فهذه الخصائص قد عرفناها منذ القدم في أهالي هذه المنطقة المهمّة والحسّاسة. إنّ هذه المحافظة بطبيعتها الجميلة ومصادرها الطبيعية الغنية والمتنوّعة، وعمقها وغناها الثقافيّ البارز والمميّز جدّاً، وإمكاناتها الزراعيّة الوفيرة، بالإضافة إلى ما للأنشطة المرتبطة بها من جاذبية، غير معروفة للأسف، حيث إنّ الكثير من أبناء هذا البلد لم يتعرّفوا جيّداً إلى الجاذبيات السياحية لهذه المنطقة إلى الآن. ومن أبرز الخصائص التردّد السنويّ لملايين الناس المسافرين المشتاقين لعتبات عليّ بن موسى الرضا عليه آلاف التحيّة والسلام.
وبهذه الخصائص الجغرافية والإقليمية تُعتبر منطقة خراسان الشمالية ذات موقعيّة مهمة. لكنّ الأهم منها هو الخصائص السكّانية. فلقد عرفنا أهالي هذه المنطقة - ومنذ القدم - بنشاطهم وحيويّتهم في جميع الميادين. ففي جميع الميادين التي يحضر فيها الناس بشكل بارز، فإنّ أهالي محافظة خراسان الشمالية وأهالي بجنورد وغيرها من مناطق هذه المحافظة، عُرفوا بحيويّتهم ونشاطهم واستعدادهم، وقد أثبتوا ذلك في جميع المواطن.
419
353
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
الحضور والنشاط الفعّال
وإنّني من هنا أوجّه الشكر لحضوركم اليوم في الشوارع حيث استشعرنا هذا النشاط والحيوية والحضور والاستعداد في حركة أبناء هذه المنطقة في الساعة والنصف هذه التي كنا فيها في الشارع - وقد عهدنا مثل هذا الأمر منذ القدم في أهل هذه المنطقة ـ فأقدم الشكر وكذلك أقدّم الاعتذار. فالشباب الأعزّاء الذين كانوا في الشوارع قد تزاحموا إلى درجة أنّني كنت في الحقيقة قلقاً وأنا في سيّارتي من شدّة الزّحام الذي كان يعاني منه الناس. ففي النّهاية، إنّنا شاكرون ونقدّم الاعتذار.
هذا النشاط والحيويّة مشهودان في جميع ميادين حياة هذا الشعب. في الثامن والعشرين من شهر صفر، الذي يتوافد فيه الناس من جميع أنحاء المحافظة إلى مرقد عليّ بن موسى الرضا عليه السلام فإنّ زوّار بجنورد وسيّاراتهم هم الأكثر بين جميع الأقضية. وهذا ما يعرفه المشهديّون، وأنا العبد المشهديّ أعرف ذلك أيضاً. ففي الزيارة نستشعر هذا النشاط والحضور والاستعداد.
خمسون مسؤولاً وآلاف الشهداء والجرحى
وقد شوهد هذا الأمر ذاته في ميدان الدفاع المقدّس سابقاً. فقد كان هناك خمسون مسؤولاً مميّزاً للفيالق المتعلّقة بخراسان، ولفرقة جواد الأئمّة عليهم السلام التابعة لخراسان الشمالية. 2772 شهيداً من هذه المنطقة قد قدّموا أنفسهم في سبيل الله. لهذه المحافظة أكثر من 6000 جريحاً، وكذلك الكثير من الأسرى المحرّرين والمجاهدين والمضحّين. إنّ هذه هي روحيّة الحضور والجهوزية والحيوية والنشاط.
لقد كان أهالي هذه المحافظة على هذا المنوال في جميع الأمور. كذلك عندما يصل الأمر إلى "المصارعة الحرة"1 المحلِّية، يقف عشرات آلاف المشاهدين هنا وهناك ليشاهدوا المصارعة. فهذه من الخصائص المهمّة. وكذا فإنّ الحرص على الثغور في هذه المنطقة مرتبط بهذه الخصائص أيضاً. وبالطبع ليس الأمر منحصراً بهذا، فمميزات هذه المحافظة أكثر ممّا ذُكر.
استعداد وامتداد علميّ
في هذه المحافظة استعدادات مشرقة. وكما أُطلعت فإنّ هذه المحافظة هي من المحافظات العشر الأول في البلد بلحاظ الاستعداد والاقتدار العلميّ. وفي الأولمبيادات العلمية
1- نوعٌ من الفنون الرياضيّة الرائجة في تللك المنطقة، تعتمد لباساً خاصاً، ويعبرّ عنها بـ "كشتى چوخة".
420
354
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
فإنّها تُعتبر من الأوائل. إنّ هذه هي الاستعدادات والقابليات. وبالطبع، أنا العبد قد شاهدت بنفسي ـ أيّام دراستي في مشهد ـ نماذج من هذه الاستعدادات المميّزة والساطعة، حيث إنّ ذكرها هنا ليس ضروريّا، وبمشيئة الله سوف أذكرها في اجتماع العلماء والطلّاب. يتمتّع أهالي هذه المنطقة بالغيرة والتديّن وحفظ الثغور والحيويّة والنشاط والشجاعة، ومثل هذه الخصائص تُعدّ خصائص بارزة.
لماذا نذكر هذه الأمور؟
من أجل أن يعرف أهالي المناطق المختلفة في بلدنا ما يتمتّعون به من خصوصيّات فيفخروا بها. هكذا يفتخر شباب بجنورد بأنّهم من هذه المدينة. فشباب المحافظة، من أيّ قومٍ كانوا، يفتخرون عندها بأنّهم من هذه المحافظة، ومن أبناء هذه المنطقة، ومن هؤلاء الأهالي. إنّ من المميّزات الأخرى لهذه المحافظة التآلف والتعايش الرحيم والأخويّ بين القوميات المختلفة من الكرد والفرس والترك والتات والتركمان ـ حيث يعيشون بسلامٍ ومحبّةٍ وأخوّة جنباً إلى جنب، وهو أمرٌ مشهودٌ بشكل كامل في هذه المنطقة، ومثل هذا ينبغي تقديره كثيراً.
تحديد الأهداف مفتاح النجاح
حسنٌ، من هنا أدخل إلى أصل الموضوع الذي أعددته. أعزّائي، أيها الإخوة والأخوات، لقد سمعتم هذه المميّزات والخصائص. فمثل هذا النشاط والحيوية والجهوزيّة موجود منذ الثورة وإلى يومنا هذا في جميع أنحاء البلد، وهو موهبةٌ كبرى لشعب يتحرّك نحو الأمام، ويصبو إلى الرقيّ، ويسعى إلى الحياة الطيّبة. إنّ هذه الحالة من الجهوزيّة والنشاط والحيويّة والفعاليّة هي نعمةٌ كبرى ولكنّها غير كافية، فلأجل الذهاب إلى القمم توجد شروط أخرى. ففي البداية يجب أن يكون هناك خريطة للطريق حتى تُعلم هدفية الحركة وآفاقها، فيُرسم خطّ سيرها، ثمّ هناك الوعي المستمر والصحيح والرّصد الدائم لهذه الحركة. فمثل هذا هو أمرٌ ضروريٌّ لأيّ شعب، وهو يُعدّ اليوم من القضايا الأساسيّة عندنا.
إنّني أصرّ على شبابنا الأعزّاء، بالخصوص نخبنا، أن يهتمّوا بالقضايا الأساسية لعصرنا، فإنّنا اليوم نعدّها ضروريّة. لقد تمّ تحديد أهداف هذا التحرّك منذ بداية الثورة. وقد ظهرت خارطة الطريق في شعارات الناس، وكذلك في كلمات الإمام چ بصورةٍ إجماليّة، وقد تمّ تدوين هذه الخارطة على مرّ الأيّام وطيلة هذه الأعوام الثلاثين، ونضُجت واكتملت، وها هو شعب إيران اليوم يعلم ماذا يريد ونحو أيّ شيء يسعى.
421
355
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
أبعاد وغايات التقدّم
لو أردنا أن نختصر أهداف شعب إيران في مفهومٍ واحد يمكن أن يبيّن إلى حدّ كبير المطالب العامّة للبلد وللشعب ويعبّر عنها، فإنّ ذلك المفهوم المفتاحيّ هو عبارة عن مفهوم التقدّم، التقدّم وفق منظار إسلاميٍّ. والتقدّم في منطق الإسلام يختلف عن التقدّم في منطق الحضارة الغربية المادّية. فهؤلاء يرون بعداً واحداً، وينظرون إلى التقدّم من جهةٍ واحدة هي الجهة المادّية. فالتقدّم بنظرهم هو بالدرجة الأولى وبالعنوان الأبرز عبارة عن التقدّم في الثروة والعلم والعسكر والتكنولوجيا. هذا هو التقدّم في المنطق الغربيّ، أما في المنطق الإسلاميّ فله أبعادٌ أكثر: التقدّم في العلم والأخلاق، والعدالة وسعة العيش، والاقتصاد والعزّة والشأنيّة الدولية، وفي الاستقلال السياسيّ ـ وكلّ هذه قد أُدغمت في مفهوم التقدّم بحسب الرؤية الإسلامية ـ والتقدّم في العبودية والتقرّب إلى الله تعالى، أي البعد المعنويّ والإلهيّ، فهذا أيضاً من التقدّم الموجود في الإسلام، وهو الذي يُعدّ في ثورتنا هدفاً نهائياً لنا: التقرّب إلى الله. وفي هذا التقدّم والتطوّر تمّ أخذ الدنيا بعين الاعتبار وكذلك الآخرة. لقد علّمنا الإسلام أنّه "ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه"1. فلا ينبغي ترك الدنيا لأجل الآخرة، كما إنّه لا ينبغي التضحية بالآخرة لأجل الدنيا. وفي رواية أخرى يقول: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً"2، أي لا تخطّط للدنيا على أنّك ستعيش فيها عدّة أيّام، بل ليكن تخطيطك لخمسين سنة. ويجب على مسؤولي البلد ومسؤولي البرامج العامّة للنّاس أن يتوجّهوا جيّداً إلى هذا الأمر. فلا نقول: أنّه ليس معلوماً أنّنا سنعيش لخمسين سنة أخرى، فلماذا نخطّط؟ كلا، بل يجب أن تخطّط كأنّك ستبقى حيّاً إلى آخر الدنيا، كما أنّك إذا أردت أن تخطّط لمصلحتك ونفعك، فبأيّ جدّيّة ودقّة تفعل ذلك، فقم بالتخطيط نفسه للأجيال القادمة التي ستأتي من بعدك، "اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً"، والنقطة المقابلة أيضاً: "واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً"، فعليك إذاً أن تعمل بدقّة تامّة لأجل الدنيا، وكذلك لأجل الآخرة. إنّ التقدّم الإسلاميّ والتطوّر في منطق الثورة هو هذا، أي أنّه شاملٌ لجميع الأبعاد.
دور النخب في تحقيق التطوّر والتقدّم
إنّ الهدف هو التطوّر والتقدّم. غاية الأمر أنّ رصد المراحل مرحلة فمرحلة هو أمرٌ ضروريّ، وهذا هو عمل النّخب. فما هي ظروفنا اليوم وما هي الموانع التي تقف
1- من لا يحضره الفقيه، ج3، ص 156.
2- م.ن، ص 156، وإكمال نصّ الرواية سيأتي في كلام القائد.
422
356
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
أمامنا؟ وما هي نقاط قوّتنا وضعفنا؟ وما هي الفرص المتاحة أمامنا؟ وما هي التهديدات التي تحيط بنا؟ وماذا ينبغي أن نفعل؟ وكيف يجب أن نخطّط من أجل الاستفادة من الفرص المتاحة، والوقوف بوجه خطر التهديدات؟ كلّ هذه أعمالٌ يجب أن تنجزها النّخب في كلّ مرحلةٍ، فيضعوها في خططهم ويطلعوا الناس عليها، لأنّ الناس يريدون أن يتحرّكوا بأعينٍ مفتوحة وببصيرة، ويعرفوا ماذا يفعلون وإلى أين يتّجهون، فعندما يتحقّق هذا الأمر فإنّ الناس سوف ينزلون إلى الميادين الصعبة بكلّ وجودهم.
حسنٌ، لو أردت الآن أن أحكم بشأن هذا الهدف الذي ذُكر فإنّ حكمي سيكون إيجابياً. فطيلة عهد الثلاثين سنة للثورة، كنّا نتقدّم تقدّماً متواصلاً. وبالطبع، كان هناك صعودٌ وهبوط، وبطءٌ وتسارع، وضعفٌ وقوّة، لكنّ التوقّف لم يحصل أبداً على صعيد تقدّم البلد والشعب نحو القمّة المقصودة. كان هناك ضعف، ويجب على الشعب والمسؤولين والنّخب السياسية والعلمية والعلمائيّة أن يعزموا على إزالة كل هذا الضعف.
فلنسرّع من تطوّر البلد. ما هي الأشياء التي تنجحنا اليوم؟ وما هي الأشياء التي يمكن أن توجد لنا المشاكل؟ سوف أضرب مثلاً: لو أخذتم مجموعة من متسلّقي الجبال بعين الاعتبار وهم يريدون أن يصلوا إلى القمّة الرفيعة لهذا الجبل من أجل منافع ومفاخر. فإنّ همّهم بالدرجة الأولى سيكون التقدّم والسعي والعمل. بالطبع، من الممكن أن تبرز مشاكل ومخاطر على الطريق. فما هو ضروريٌّ بالنسبة لهم بالدرجة الأولى هو السعي والفعالية والتحرّك والعزم الرّاسخ، وعدم اليأس وعدم فقدان الأمل من الوصول إلى الأهداف، وعليهم أن يصبروا ويخطّطوا ويتمتّعوا بالنّباهة والاستعداد لأجل مواجهة المشكلات.
العزم الراسخ والأمل
من الممكن في كلّ طريقٍ أن تقع مشاكل ومخاطر. وسوف أشير إلى ما حدث طيلة هذه السنوات الثلاثين للثورة من أمورٍ، في نضال شعبنا العزيز، وكيف قام شعبنا بتجاوز هذه المشكلات؟ فالوسيلة والأداة الأساسية لهذه الحركة العظيمة والكبرى هي عبارة عن هذا العزم الرّاسخ وهذا الأمل، وهذا السعي والعمل المتواصل، وهذا التخطيط وهذه الجهوزية وهذه اليقظة. فلو وُجد مثل هذا الذخر والوسيلة الأساسية، ولو وجدت هذه الأركان الأساسيّة، فإنّ هذه المجموعة التي هي في حال التحرّك
423
357
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
ـ في مثالنا هم متسلّقو الجبال، وفي الواقع هي شعب إيران ـ ستتغلب على جميع المشكلات، وسيمكنها أن تخضع جميع أعدائها. فهذا هو الأساس. فلو وُجدت هذه الإمكانات، فلن يكون هناك أيّة مشكلة بالمعنى الواقعي التام، ولن يكون هناك خطرٌ. فما هو الخطر الواقعيّ؟ الخطر الواقعيّ هو عبارة عن أن يضيّع الشعب هذا الذخر الأساس، أي روحية العمل والسعي، وأن يبتلى بالكسل ويفقد روحية الأمل، ويقع في اليأس ويفقد الصبر والمقاومة، ويبتلى بالاستعجال والتهوّر، ونسيان التخطيط والعبثيّة والتحيّر، فهذا هو الخطر. فلو استطاع أيّ شعبٍ أن يحافظ على هذه الروحية المميّزة فيه- والتي هي مزيج الأمل والعزم والإيمان والسعي والحركة - فلن يكون هناك أيّة مشكلة حقيقية مقابله.
الاستفادة من الطاقات والقدرات العالية
والآن، لنرجع إلى ساحة إيران العزيزة وشعبها العظيم وننظر إليهما. إنّني أرغب في أن أطبّق كل ما أقوله وأفكّر فيه على المنطق. لا أريد أن يكون كلامي مجرّد شعار. فأنا العبد لا أوافق أبداً على الكلام الجُزاف فيما يتعلّق بالقضايا المختلفة وخصوصاً قضايا الثورة. فلننظر إلى المنطق ما هو، وما هي الوقائع.
إنّ لشعب إيران ساحة مواجهة مع مجموعة من الأعداء، وقد بدأوا العداء بأنفسهم. وتقع الشبكة الصهيونية الخبيثة والخطرة على رأس هؤلاء الأعداء. وللأسف، إنّ بعض الدول الغربية، وخصوصاً أمريكا، واقع تحت تأثير هذه الشبكة. لقد بدأوا معارضتهم للثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية منذ بداية الثورة، وقد حقدوا على هذا الشعب الذي ثار وهم الآن كذلك.
حسنٌ، في ساحة المواجهة هذه، يقف شعب إيران في جهة، وبعض القوى الحاقدة عليه والتي تكنّ له العداء، في جهة أخرى. عندما ننظر إلى الساحة ونلقي نظرة على شعبنا العزيز نجد أنّه شعب ذو عزمٍ وأمل واستعدادٍ أعلى، وفيه جيلٌ شابٌّ مليءٌ بالدوافع والحماس والسّعي. فهذا الحضور لجيل الشباب يظهر في جميع الميادين: في ميدان العلم، والذي أقرّ به العالم اليوم، وفي ميدان التكنولوجيا، وفي الميادين الاجتماعية المختلفة، وعندما حدث ما حدث في الدّفاع المقدّس كان كذلك، وهو الآن كذلك من ناحية الاستعدادات المختلفة.
424
358
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
يمتلك شعب إيران اليوم "ميثاق الأفق العشرينيّ"1، والأدوات الضروريّة للتحرّك نحو الأمام، والثروات الطبيعيّة والمعادن النفيسة.
إنّ ما نمتلكه من الثروات الطبيعية الأساسية في بلدنا يفوق المعدّل العالميّ العام. لقد قلت مراراً: إنّنا نمثّل 1% من سكّان العالم تقريباً، وبلدنا يشكّل 1% من مساحة العالم، لكنّ الثروات الأساسية التي نمتلكها هي أكثر من 1%. فبالنسبة لبعض الثروات الطبيعية نحن الأوائل بلحاظ جميع دول العالم، كما في مصادر الطاقة ـ النفط والغاز ـ حيث إنّنا اليوم على رأس قائمة دُول العالم. هذه خصائصنا.
إنّ إقليمنا متنوّع وبلدنا مترامي الأطراف. فكلّ ما يتناسب مع حاجاتنا موجودٌ. لدينا طبيعة جيّدة، ومعادن جيّدة وشعبٌ جيّد، واستعدادات مهمّة، كذلك لدينا مسؤولون شعبيّون حريصون على رأس السلطات الثلاث، ولدينا قوّات مسلّحة في جهوزيّة تامّة ويتمتّعون بالشجاعة، ولدينا علماء حريصون ومحبّون، وجامعات ومدارس مكتظّة ـ لدينا أربعة ملايين جامعيّ، وملايين التلامذة ـ كلّ هذا من إمكاناتنا واستعداداتنا، ويوجد العزم والإرادة والأمل لدى شعبنا.
حركتنا في مسار صعوديّ
لقد كانت حركتنا منذ بداية الثورة وإلى يومنا هذا في مسارٍ صعوديّ. وإنّ نتيجة هذه الحركة الصعودية هي التطوّر الذي تحقق وما زال حتّى يومنا هذا. وما حصلنا عليه على مدى هذه السنوات، وبملاحظة حالات العداء التي مورست ضدّنا، كان مميزاً وحالات التقدم ماثلة الجميع. كما أنّ بلدنا قد تقدّم على مستوى البنية التحتية، وكذا على مستوى الخدمات العامّة، وعلى صعيد الروحانية والمعنويات، وفي العلم والتكنولوجيا. وإنّ البُنى التحتيّة التي أصبحنا مميّزين بها وبارزين هي بالدرجة الأولى عبارة عن الثبات السياسيّ للبلد. لقد توالت حكومات مختلفة على إدارة الأمور، وبالرغم من وجود الخلافات في وجهات النظر والسلائق السياسية، إلا أنّ بلدنا قد حافظ على ثباته منذ بداية الثورة وإلى يومنا هذا، وكان يتحرّك نحو الأهداف. فلم تتمكّن النزاعات الحزبيّة والسياسيّة من زعزعة ثباته السياسيّ. ومثل هذا يُعدّ من أهم البُنى التحتية للبلد.
1- راجع حاشية الصفحة 411.
425
359
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
وبالطبع، توجد بُنى تحتية اقتصادية فائقة الأهميّة سواء أكان من الناحية القانونية أم من الناحية الواقعية والعملية. فسياسات المادة 44 1 تُعد من البُنى التحتية التشريعية. وتوجد بُنى تحتيّة في المواصلات وفي الشحن وفي الطرقات والأوتوسترادات وخطوط القطار والخطوط الجوّيّة والألياف البصرية2، ومحطات الطاقة والسدود. مثل هذه الأعمال كانت تُنجز منذ بداية الثورة وما زالت إلى يومنا هذا. ويمكن القول إنّ الأغلبية الساحقة منها قد تحقّقت على أيدي شبابنا، ونخبنا والمميّزين على الصعيد العلميّ في بلدنا، فهذه الأمور ليست من الأشياء البسيطة، لقد حقّقنا هذه الأمور بأنفسنا.
الشباب المتعلّم أهمّ ذخائرنا
إنّ من أهمّ ذخائرنا القيّمة هو هذا الجيل الشاب المتعلّم. وهذا الجيل هو جيلٌ شجاعٌ ومفعمٌ بالأمل والنشاط والحركة. وهنا أقول بين قوسين، إنّ من الأخطاء التي ارتكبناها - وأنا العبد شريكٌ في هذا الخطأ - قضية تحديد النسل، وذلك منذ أواسط عقد السبعينات (هجري شمسيّ) حيث كان ينبغي أن تتوقّف منذ ذلك الحين. بالطبع، كانت سياسة تحديد النسل في البداية جيّدة وضروريّة، لكن كان ينبغي أن تتوقّف منذ أواسط عقد السبعينات، ونحن لم نوقف هذا الأمر، وقد كان خطأً. لقد قلت إنّ مسؤولي هذا البلد كانوا شركاء في هذه الخطأ، وأنا العبد الحقير أيضاً شريكٌ فيه. من اللازم أن نسامَح على هذا من الله تعالى والتاريخ. يجب الحفاظ على الجيل الشابّ. فوفق هذا المسار الحاليّ، كلّما تقدّم بنا الزمن ـ وقد ذكرت هذا قبل مدّة في شهر رمضان ـ فإنّ بلدنا سوف يشيخ. فعلى العوائل أن يكثروا من الولادات وأن يزيدوا من النسل. فتحديد المواليد في العوائل والبيوتات وعلى هذا الشكل الموجود الآن هو خطأ. فإذا ما استطعنا أن نحافظ على الجيل الشابّ الذي لدينا اليوم، للسنوات العشر الآتية ولما بعدها من حقَب ومراحل، فَستُحلّ كل مشاكل البلد، ومع كلّ هذا الاستعداد والنشاط والشوق الموجود في الجيل الشابّ، والإمكانات والطاقات الموجودة لدى الإيرانيين. فنحن إذاً لا نواجه معضلة أساسية أمام التقدّم.
1- راجع حاشية الصفحة 265..
2- fiber optics
426
360
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
مواجهة المشكلات وطرق علاجها
بالطبع، توجد مشاكل على مستوى البلد ـ سوف أشير إليها ـ وتعاني منطقتكم منها، وعلى رأسها قضية ارتفاع الأسعار، وقضية فرص العمل، فهذه من المعضلات التي يعاني منها الناس، وليست منحصرة بهذه المنطقة، فهي موجودة في كلّ أرجاء البلد. وقد قام أصدقاؤنا، وقبل سفري، بإجراء استفتاءات وسألوا الناس، ورأينا أنّ ما يجري هنا هو عين ما يجري في المناطق الأخرى. فإنّ قضية ارتفاع الأسعار وقضية فرص العمل والبطالة من الهواجس الأساسية. هذه المشاكل موجودة، لكنّ المشاكل الأساسية والمعضلات التي تعاني منها البلدان والتي يعجز الشعب والمسؤولون عن حلّها، ليست موجودة.
مخاطر كثيرة تخلّصنا منها
لقد وقعت مخاطر أكبر من هذه بكثير طيلة السنوات الثلاث والثلاثين من عمر الثورة. وقد تمكّن هذا البلد من تجاوز هذه الأخطار وإزالتها. لقد أرادوا إشعال النيران لكنّهم لم يصلوا إلى مقاصدهم. في الدرجة الأولى، كان ما جرى في الأشهر الأولى التي تلت انتصار الثورة، من قضية تحريك القوميات في جميع أرجاء البلد.
حسنٌ، إنّ بلدنا هو بلدٌ متعدّد القوميّات، وقد جهدوا لإشعال النّزاعات بين هذه القوميّات. وفي منطقتكم هذه، سعت مجموعة من الشيوعيين الملحدين الذين لا يؤمنون بالدين ولا الوطن أن يجعلوا مجموعة من المؤمنين والطيّبين التركمان مخالفين للثورة. فمن الذي وقف مقابلهم؟ لقد كانت، بالدرجة الأولى، العناصر التركمانية المؤمنة نفسها. وقد وقف العلماء التركمان النافذون ـ الذين ارتحل بعضهم عن هذه الدنيا، وبعضهم الآخر بحمد الله ما زال حيّاً ـ بوجههم. واتّجهت مجموعة من الشباب من سائر مناطق البلاد، من هذه المنطقة ومن غيرها، ووقفوا بوجههم. لقد كانوا يحرّضون ويشعلون النيران ويصبّون الزيت عليها، ويسعون بطرق مختلفة لتوسيع نطاق النيران. لكنّ هذه النيران أُخمدت بواسطة شعب إيران، وفي الأساس بواسطة نفس الذين أرادوا لهم أن يكونوا في مواجهة الثورة الإسلامية. ففي منطقة كردستان جرى الأمر على يد الأكراد أنفسهم. فالاستشهاديون المسلمون الأكراد، والعلماء المؤمنون الأكراد كانوا في الطليعة. وقد جرى الأمر على هذا المنوال في المناطق الأخرى. كانت هذه هي المشكلة الأولى التي افتعلوها، ثم جاءت الحرب المفروضة وكانت لثماني سنوات، فهل في ذلك مزاح؟! لقد أرادوا اقتلاع هذه الثورة من جذورها وإركاعها! ولم يتمكّنوا،... لقد عبر الشعب هذه المرحلة.
427
361
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
مواجهة سياسة الحظر
ومن ثمّ طبّقوا سياسة الحظر. أعداؤنا اليوم يضخّمون هذه القضية في الإذاعات، وبعضهم أيضاً يعينُهُم باللسان. إنّ الحظر ليس وليد اليوم والأمس، بل كان موجوداً منذ البداية. نعم لقد تمّت مضاعفته ولكن لم يؤثّر، ثمّ بعدها فكّروا بإجراء آخر، لكنّه لم يؤثّر. لقد كان الحظر منذ البداية. وفي يومنا هذا، أعداؤنا ـ سواء أكانت حكومة أمريكا أم بعض الحكومات الأوروبية ـ يربطون الحظر بملفّ الطاقة النووية. إنّهم يكذبون. وفي ذلك اليوم الذي أقاموا فيه كلّ هذا الحظر، لم يكن من طاقة نووية في البلد، ولم يكن هناك أيّ حديث عنها. إنّ ما يغضبهم من شعب إيران ويحملهم على مثل هذه القرارات هو شموخ شعب إيران، وعنفوانه. فروحيّة الاستقلال هذه، وروحيّة تقدير الذات، وروحية عدم الاستسلام التي تحقّقت ببركة الإسلام والقرآن في شعب إيران، هي ما يغضبهم، ولأجل هذا الإسلام يسوؤهم، ولأجل هذا يهينون نبيّ الإسلام. إنّهم يعلمون أنّه عندما يرسخ الإسلام في أيّة دولة، فإنّه يوجِد فيها روحيّة الاستقلال بحيث لا يمكن أن تتنازل أو تخضع لهم. إنّهم يأتون بالضعفاء والجبناء على رأس الدول أو ينصّبونهم ليكونوا مطيعين لهم. وعندما يكون هناك مكانٌ كبلدنا، يعيّن الشعب فيه المسؤولين، ويكون للشعب حضورٌ ومشاركة في جميع الساحات، فماذا يمكنهم أن يفعلوا؟ فالشعب الذي يؤمن بالمبادئ الإسلامية ويستلهم الروحيّة ببركة الإسلام لن يتنازل لهم، لهذا هم غاضبون. وها هم اليوم يطلقون عليها اسم الطاقة النوويّة! ويتظاهرون بأنّه لو انصرف شعب إيران عن الطاقة النووية فإنّ الحظر سيرتفع. إنّهم يكذبون. إنّهم يفرضون أنواع الحظر، انطلاقاً من البغض والحقد الموجود فيهم. كلّ هذا الحظر الذي إذا نظر إليه جميع العقلاء والمنصفون في العالم لرأوا أنّها أعمالٌ غير منطقيّة وفي الواقع وحشية، هو عبارة عن حرب ضدّ شعبٍ. وبالطبع، إنّ شعب إيران سوف ينتصر بتوفيق الله في هذه الحرب.
معاناة الغرب وتصرّفاته
بالطبع، سوف يوجدون المشاكل، وبعضهم يزيد من هذه المشاكل بسبب افتقاده للتدبيرـ وهؤلاء موجودون ـ ولكنّ هذا ليس بالأمر الذي لا يمكن للجمهورية الإسلامية حلّه. وبتوفيق الله سيتجاوز شعب إيران جميع هذه المشكلات. لقد استطاع شعب إيران ومسؤولو البلد أن يحلّوا ما هو أكبر وأصعب من هذه الأمور، وإنّ هذه ليست بشيء يُذكر. وعندما يحدث أدنى مشكلة فإنّهم يظهرون الفرح. وفي هذه الأيّام
428
362
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
الأخيرة التي اضطربت فيها أسعار العملة الصعبة والرّيال، تصدّر هذا الخبر وكالاتهم الإعلاميّة وقد عبّروا عن فرحهم بصراحة. فلم يراعوا الأصول والوقار الدبلوماسيّ، بل عبّروا عن فرحهم بطريقة صبيانية وطفوليّة بأنّهم ولّدوا لشعب إيران مشكلةً وكذلك للجمهورية الإسلامية، وقد صرّحوا بذلك. لقد نزل مجموعة من الناس لمدّة ساعتين أو ثلاث في شارع طهران، وأحرقوا بعض مستوعبات القمامة، أمّا هم، فمن ذلك الجانب من العالم، أظهروا فرحهم بأنّ هناك شغب، هناك شغب! فهل أنّ وضعنا أسوأ أم وضعكم (أيها الأوروبيون)؟ ها قد مرّ نحو سنة وشوارع الدول الأوروبية الأساسية مليئة بالمظاهرات ليلاً ونهاراً، ففي فرنسا توجد مظاهرات وفي إيطاليا وإسبانيا وإنكلترا وفي اليونان. إنّ مشكلتكم أشدّ تعقيداً بدرجات من مشكلتنا. إنّ اقتصادكم قد وصل إلى طريقٍ مسدود، وأنتم تفرحون لأنّ اقتصاد إيران صار ضعيفاً؟ أنتم تعساء، وتتّجهون نحو الركود والتلاشي والانهيار. إنّ الجمهورية الإسلامية لن تتداعى مع هذه المشكلات. إنّ المشاكل الأساسية اليوم تحيق بالغربيين أنفسهم. والآن نجد أنّ من القضايا التي تُطرح بالدرجة الأولى في انتخابات الرئاسة الأمريكية، هي المشكلات الاقتصادية، ف الناس هناك في معاناة ولا حيلة لهم، والطبقات الضعيفة عندهم تُسحق. وتلك الانتفاضة المسمّاة بانتفاضة الـ 99%1 هي واقع. بالطبع، هم يعمدون إلى القمع، فمن يعاني اقتصادياً هو دولهم، وعندما يحدث هنا ما هو أقلّ من ذلك وأصغر يظهرون الفرح!
قوّة الشعب ووعيه طريق الحلّ (معرفة الزمان)
فليعلموا أنّ الجمهورية الإسلامية، بفضل الله وحوله وقوّته، سوف تتغلّب على هذه المشكلات. وهم سوف يذوقون الحسرة والندامة مرّة أخرى، بسبب الهزيمة التي سيلحقها بهم شعب إيران. إنّ المشكلات ستزول بحول الله وقوّته وبوعي الشعب وتدبير المسؤولين. هناك وظيفة ومسؤولية، فالشعب يتحمّل مسؤوليات وكذلك المسؤولون، وعلينا جميعاً أن نعمل بتكليفنا. فعندما نؤدّي تكليفنا سوف تنطلق الأعمال. إنّ لوعي الشعب دوره، فانظروا إلى طهران، عندما نزلت مجموعة
1- حركة 99%، أطلقت على الحركات الاحتجاجية التي قامت في الولايات المتحدة الأميركية ضدّ التمييز والثراء الفاحش على حساب غالبية الشعب الساحقة، واتخذت شعاراً لها "احتلوا دول سترتيب"، أي البورصة. ولها دلالة رمزية حيث يقتلك 1% من الأثرياء 36% من الثروات. وتمثّل هذه الحركة 99% من الشعب، وقد امتدّت إلى البلدان أخرى متشابهة، وأصبحت حركة عالميّة.
429
363
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
من الناس باسم البازاريين إلى الشوارع وتسبّبوا بالشغب، كيف أصدر البازاريون المحترمون العارفون بالزمان بياناً مباشرةً، وأعلنوا فيه أنّ أولئك يكذبون وهم ليسوا منّا، هذا هو العمل الصحيح. فلو أن الناس بشرائحهم المختلفة تُظهر الوعي واليقظة في الوقت المناسب (التنبه للموقعية الزمانية) وإدراك حساسية اللحظة، فهذا عمل له قيمة كبيرة، كان هذا العمل الذي أنجز ذا أهميّة. لقد كان كلامي في فتنة الـ 88 1 هو هذا. ففي تلك الفتنة جاءت مجموعة من الناس بعد عدّة أيّام من الانتخابات العظيمة وأعلنوا معارضتهم، فاستغلّ بعض الناس هذه الفرصة، وحملوا السلاح وجرّوا الأمور إلى الفتن والاضطرابات، وأطلقوا النيران على مركز التعبئة. وكان كلامنا هو: إنّ على الذين تمّت تلك الأعمال باسمهم أن يصدروا بياناً، وفي نفس الوقت يعلنوا فيه أسفهم، فقد كان عليهم أن يقولوا إنّ هؤلاء ليسوا منّا ولكنّهم لم يفعلوا. فلو فعلوا ذلك لكانت الفتنة قد اجتُثّت بصورةٍ أسرع، ولما جرت تلك القضايا اللاحقة. إنّ هذا الوعي والحساب الدقيق للوقت والالتفات إلى اللحظات الحسّاسة، من الخصائص المميّزة والمهمّة التي على شعبنا أن يلتفت إليها في جميع الموارد. فيجب على كلّ واحد أن يظهر حساسيّته في الوقت اللازم، أينما استشعر العداء والتآمر من الأعداء. هذا من جانب الشعب.
التخطيط والتعاضد والوحدة
أمّا من جانب مسؤولي الدولة، فإنّ عليهم أن يحقّقوا الوحدة المطلوبة والتعاضد والتلاحم والتخطيط، وتحمّل المسؤولية وتشخيصها وعدم التلاوم، والحفاظ على الحدود الدستورية فيما بينهم. فلا يوجد في دستورنا نقصٌ. فدور المجلس معروفٌ، وكذلك الحكومة ورئيس الجمهورية والسلطة القضائية، فلكلٍّ وظائفه وعليه أن يعمل بها. يجب أن يتواسوا ويتعاونوا وأن تكون كلمتهم واحدة، "إنّ لسان المواساة القلبية أمرٌ آخر، فالمواساة أفضل من أن يكون لسانكم لساناً واحداً"2.
ونحن بحمد الله لا نعاني من مشكلة في هذا المجال، فمسؤولو الدولة حريصون. نحن جميعاً بشر، ونخطئ وتصدر عنّا الأخطاء، لكنّ جميع الأخطاء قابلة للجبران.
1- راجع حاشية الصفحة 253.
2- بيت من الشعر لمولوي.
430
364
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
لحسن الحظ، إنّ المسؤولين حريصون، فهذا الحرص والعناية لدى رؤساء السلطات وفي هيكلياتها ليس قليلاً، والحرص الشديد على مصير النظام ليس قليلا أيضاً، فجميعهم حريصون ومحبّون وسوف يتقدّم العمل إن شاء الله، وها هم الآن مشغولون ببذل المساعي.
مسارنا قد يغيِّر مسار العالم
إنّ وصيّتي هي أن لا ننسى أنّ العمل والسعي والأمل والصبر والتخطيط من لوازم الحركة على هذه المسارات المهمّة. إنّ المسار الذي نتحرّك عليه هو مسارٌ مهمّ، وهي مسيرة يمكن أن تغيّر مصير العالم، مثلما أنّها تغيّر تاريخ المنطقة. وها أنتم تشهدون. فمن الذي كان يتصوّر وقوع مثل هذه الأحداث المهمّة في هذه المنطقة المهمّة والحسّاسّة من شمال أفريقيا وغرب آسيا ـ هذه المنطقة التي يحبّ الأوروبّيّون أن يسمّوها بالشرق الأوسط ـ لقد حدثت، ولم تنتهِ فصولها. والأحداث التي تجري هي مضرّة للغرب، وخصوصاً أمريكا، وهي تهدّد الكيان الصهيونيّ. أما الترّهات التي يصدرها مسؤولو الكيان الصهيونيّ فليست ذات أهمية حتّى نردّ عليها. فهم يتحدّثون بمقدار، والغربيّون كذلك، وفي الأساس إنّهم الأمريكيون وأذنابهم، وليس للأوروبيين دوافع بهذه الدرجة. إنّ اتّباع الأوروبيين لأمريكا في هذه القضيّة ليس عاقلاً وحكيماً، فهم يقدّمون أنفسهم ضحيةً وقرباناً لأمريكا ويرتكبون الحماقة. ليس لدى شعبنا ذكرى سيّئة عن كثير من الدول الأوروبّية. نحن ليس لدينا ذكريات سيّئة عن فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. ولكن بالنسبة لإنكلترا، نعم، لدينا الكثير من الذكريات السيّئة، فنحن نسمّي إنكلترا، إنكلترا الخبيثة. لكنّ هذا الأمر لا ينطبق على الدول الأوروبية الأخرى. وبهذا العمل الذي يقومون به ـ التبعيّة لأمريكا ـ والذي بنظرنا ليس فيه أي حكمة أبداً، فإنّهم يستجلبون عداء شعب إيران، فيجعلون أنفسهم مبغوضين ومرفوضين في أعين الشعب الإيرانيّ.
تجاوز العقبات، والعمل بالتكليف
إنّنا سنتجاوز هذه العقبات. وإنّ شعبنا هو أشجع وأقدر من أن يعثَر على هذه الطرق. إنّنا منذ 33 سنة ونحن ماضون على هذه الطريق بالرغم من هذه المشكلات، وكلّ يومٍ تزداد عضلاتنا قوّةً، وتزداد جهوزيّتنا، وتصبح تجربتنا أكثر قيمةً. فلسنا نحن من
431
365
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
يقع بل أنتم. فأنتم من خلال استجلاب نفور الشعب الإيرانيّ، توجدون لأنفسكم المشاكل. إنّهم يخطئون. فإنّ شعب إيران سوف يتجاوز هذه الأمور. بالطبع إنّ شرط ذلك هو: ثبات أفراد الشعب على اختلاف شرائحهم وآحادهم، وجهوزيتهم وصمودهم ووعيهم ومعرفتهم بالزمان، كما كان الأمر في جميع مراحل ما بعد الثورة وإلى يومنا هذا. وعلى المسؤولين أن يعملوا بتكليفهم. وكونوا على ثقة بأنّ القضايا سوف تتقدّم وفق أمنية الشعب، وسوف تزول المشاكل الاقتصادية.
الإنتاج الوطني
بالطبع إنّ أساس القضية اليوم هو عبارة عن الإنتاج الوطنيّ. إنّ العلاج الأساسيّ والبنيويّ هو عبارة عن الإنتاج الوطنيّ. ذاك الشيء الذي طرحناه في شعار السنة: الإنتاج الوطنيّ والعمل والرأسمال الإيرانيّ. فهذا ما يقضي على الغلاء، وهذا ما يزيد الإنتاجيّة، ويوجد فرص العمل، ويقضي على البطالة ويشغّل الرساميل الوطنية، ويقوّي روحية استغناء الشعب الإيرانيّ. فعلى مسؤولي الدولة، بمختلف المستويات، أن يولوا قضية الإنتاج الوطنيّ العناية اللازمة مهما أمكنهم. بالطبع، إنّ خطابنا يتوجّه بالدرجة الأولى إلى المسؤولين الأساسيين في المستويات العليا للدولة، سواء في المجلس أم الحكومة، لكن على الجميع (في المستويات الأدنى وعلى مستوى المحافظات) أن يلتفتوا أيضاً.
في هذه المحافظة، وكغيرها من المحافظات، يجب أن يكون توجّه المسؤولين فيها ـ سواء نوّاب المجلس أم ممثّلي الحكومة ـ نحو رفع المشكلات، والذي يتمركّز بالدرجة الأولى حول قضية الإنتاج وتوظيف الإمكانات المحلّية. ولا شكّ بأنّ هذه المحافظة مع وجود المياه والأرض الخصبة والطبيعة المتناسبة مع الزراعة والدواجن والثروة الحيوانية، يمكنها أن ترفع الكثير من الاحتياجات خارج هذه المحافظة أيضاً، ومع وجود الصناعات التي تستوعب الكثير من الأيدي العاملة ـ الصناعات الكبرى في هذه المحافظة موجودة ويمكنها أن تلعب دوراً مهمّاً بشأن اليد العاملة ـ سوف تزداد فرص العمل والإنتاجية والحماس والنشاط الشعبيّ. إنّ هذه أمور يجب أن تحوز على اهتمام مسؤولي هذه المحافظة.
لقد طال حديثنا وما كنت أرغب أن أعطّلكم إلى هذا الحدّ تحت هذه الشمس، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء. بالطبع، الكلام كثير، وهو لم ينتهِ، لكن في الأيّام الآتية وفي المناطق المختلفة لضيافتكم يا أهالي هذه المحافظة الأعزّاء، سوف أتعرّض له.
432
366
في لقاء أهالي محافظة خراسان الشمالية (بجنورد)
سوف أذكر ما أراه مفيداً لكم من القضايا الكثيرة أثناء اللقاء بالشباب والعلماء والمسؤولين في مختلف الميادين، في الثقافة والعلوم والتعبئة، ومع الشرائح المختلفة وفي بعض المدن. نسأل الله تعالى أن ينزل عليكم بركاته.
اللهمّ، بمحمّد وآل محمّد أنزل بركاتك ورحمتك وفضلك وعافيتك على أهالي هذه المحافظة.
اللهمّ، احفظ الشباب.
اللهمّ، اقطع أيدي الأعداء.
اللهمّ، بمحمّد وآل محمّد ثبّت أقدامنا على الطريق الذي ترضاه ويرضى عنه أولياؤك.
اللهمّ، احشر أرواح شهدائنا الأعزّاء، والروح المطهّرة لإمام الشهداء مع أوليائك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
433
367
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
الحضور: العلماء وطلّاب الحوزات.
المكان: مصلّى الإمام الخميني - بجنورد.
الزمان: 10/10/2012م.
435
368
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديّين، لا سيّما بقيّة اللّه في الأرضين.
اللقاءات الجميلة والمؤنسة
من اللقاءات التي تُعدّ بالنسبة لي - أنا العبد - جميلة ومؤنسة في أسفاري، هو لقاء العلماء والفضلاء والطلّاب الشباب. وأسباب هذا الشعور جليّة بالنسبة لي، وهي ليست لسببٍ أو سببين. فلو أدرك المرء فلسفة العلمائية، وحضر وعاش في قلب الحوزات مع هؤلاء الطلّاب الشباب، لعرف جيّداً لماذا يستلهم شخصٌ مثلي - أنا العبد - في العقد السابع من عمره، الروحيّة من الطلاب الشباب، الذين بدأوا هذا الطريق، ولماذا يشعر بالنّشاط. لحسن الحظ، فإنّ طلّاب الحوزة ما بعد الثورة، انضمت إليهم شريحة الأخوات أيضاً. فالفتيات الجامعيّات، والشباب الجامعيّون، وطلّاب العلوم الدينيّة، يُعدّون أنفسهم من أجل الحضور في النقاط الحسّاسة للجبهات الأماميّة والنقاط الدينية الحسّاسة. هذه هي العلمائيّة.
في ليلتنا هذه سوف أذكر لكم أيضاً، مجموعة من المطالب - بالقدر الذي يسمح لي به الحال والقدرة - مع الأمل الكبير بأن تؤثّر هذه الكلمات - إن شاء الله - في قلوبكم الطاهرة والنّورانيّة، وأن يتحقّق ذاك التحرّك والتحوّل والاستمرارية الذي يحتاجه هذا المسير، بهمّتكم وإرادتكم، وإرادة المسؤولين المحترمين للحوزات.
علماء بجنورد
بداية، أقول إنّ منطقة بجنورد هذه، التي تُسمّى اليوم بخراسان الشمالية ـ من "فاروج" وإلى مشارف حدود "كلستان" وغابتها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، هي - كما هو معلوم - منطقةٌ مليئةٌ بالطاقات الكامنة. ولا نريد أن نبالغ بلحاظ كثرة عدد العلماء الذين انبعثوا من هذه المنطقة، ونقارنهم ببعض المدن التي تحتضن علماء كُثر، لكنّنا نريد أن نقول أنّ الكثير من علماء هذه المنطقة، الذين عرفناهم، هم من أصحاب الاستعدادات المميّزة.
437
369
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
الميرزا حسن البجنوردي
وأحد هؤلاء العلماء، الذين التقيتهم وشاركت في دروسهم، هو المرحوم الآغا الميرزا حسن البجنوردي، وكان الإمام الجليل چ قد أصرّ عليه أن يبقى في قم، عندما قدِم من النّجف إلى إيران لزيارة مشهد وقم عام 1940 أو 1941هـ.ش. أي إنّ شخصيّته العلميّة كانت بحيث إنّ الإمام الجليل مع روحيّته المتشدّدة في مجال العلم والعلميَّة، وتلازم العلم مع المعنويات والأخلاق، فوافق على ذلك، وقرّر افتتاح درس له، ولكنه وللأسف أصيب بسكتةٍ قلبية ومرض في اليوم الذي تقرّر فيه أن يشرع بدرسه في المدرسة الفيضية، فاضطرّ للرّجوع إلى النجف. وبالتأكيد، حضرت بعض دروسه في النّجف. كان المرحوم الآغا الميرزا حسن البجنوردي يدرّس في مسجد الطّوسي، وكان يشارك في درسه عددٌ من الفضلاء الأصيلين. فقد كان مجمعاً للمواهب والذوق والذاكرة القوية. وقد شاهدنا هذا التميّز بأنفسنا. فهو أحد هؤلاء الأشخاص الذين برزوا من هذه المنطقة.
الميرزا أحمد البجنوردي
وكان المرحوم الآغا الحاج الميرزا أحمد البجنوردي المرتضوي، رفيقه وزميله في الدراسة. وكان كلٌّ منهما على الظاهر، من أهالي خراشاه، وقد جاءا في بداية دراستهما من بجنورد إلى مشهد، وشاركا في دروس المرحوم الآغا زاده، والمرحوم الآغا الحاج حسين القمّي. في ذاك الوقت، كان والدي من فضلاء مشهد، وكان يعرفهما، وعلى علاقة بهما، وكان يمتدحهما كثيراً. بعد ذلك، انتقلا إلى النّجف. وكان المرحوم الوالد قد انتقل إلى النّجف كذلك، فاستمرّت علاقته بهما هناك. وبعد عدّة سنوات، عاد الآغا الحاج الميرزا أحمد إلى بجنورد. وفي بجنورد، كان عالماً نافذاً ومقتدراً وشعبيّاً على امتداد المنطقة. وبالرّغم من أنّ الحكومة في ذلك الزمان كانت تسيء للعلماء، وتسعى للحدّ من نفوذ العالم المتنفِّذ بكلّ قوّتها ـ إمّا باستقطابه إليها، وإمّا بتقليم أظافر نفوذه وتأثيره وقصّها ـ إلّا إنّها لم تتمكّن من فعل ذلك مع المرحوم الحاج الميرزا أحمد. هنا، كان العالم، وكان رجلاً محترماً جدّاً. عندما كان يأتي إلى مشهد ـ وكنّا في ذلك الوقت من طلّاب مشهد ـ كان علماؤها يجلّونه ويذهبون لزيارته، وتقديم الاحترام له.
الشيخ محمد تقي البجنوردي
وقبلهما، كان المرحوم الشيخ محمد تقي، المعروف بالبجنوردي. كان إمام الجماعة المعتبر والوجيه لمسجد كوهرشاد، وكان معروفاً بالعبادة والزهد والعلم، كلّ ذلك مجتمعاً. وبالطبع، لقد عاش في القرن السابق على قرننا، فقد توفّي منذ حوالي المئة سنة.
438
370
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
إلّا إنّ بيت الشيخ محمد تقي كان منذ ذلك الوقت، وإلى ما قبل عدّة سنوات ملتقى الناس، حيث يقع في أعلى شارع مشهد، وفي الزقاق الذي عُرف باسمه: زقاق الشيخ ـ وأهالي مشهد يعرفون زقاق الشيخ ومنزله جيّداً ـ لقد كانت أهم مجالس العزاء في عشرة عاشوراء تُقام في منزله، وكان الناس يجلبون النذورات الكثيرة ويقدّمونها. ثم أكمل ولده المرحوم الشيخ مرتضى - وهو من علماء مشهد - طريقه. وخلفه أيضاً ولده المرحوم الشيخ رضا، وقد التقينا به. وكان هناك أيضاً المرحوم الآغا الحاج الميرزا حسن علي مرواريد صهر الشيخ رضا. أنظروا، فهؤلاء من شخصيّات هذه المنطقة المتميّزين. صحيح أنّهم لم يكونوا بلحاظ الكم كُثراً، لكنّهم كانوا من النّخب والمتميّزين.
الشيخ حسين كُرد
لقد شاهدنا، أيّام دراستنا، هذا الاستعداد بأنفسنا. وكنت قد قلت للأصدقاء، إنّنا عندما كنّا نشارك في درس الكفاية والمكاسب للمرحوم الشيخ هاشم قزويني، كان هناك أحد الطلبة البارزين، الذي كان استعداده يفوق استعداد جميع طلّاب ذاك الدرس، الذين زاد عددهم على المئتين تقريباً - وهو رقم كان يعدّ كبيراً ومهمّاً في ذلك الوقت، أمّا اليوم، فإنّ هذا العدد ليس بشيء نظراً لاتّساع الحوزات - لقد كان يشكِل في درس الكفاية، ويحمل الحاج الشيخ على البحث. هو من أهالي هذه المنطقة ـ لعلّه من أبناء منطقة آشخانه، واسمه الشيخ حسين كُرد، أي أنّه كان من أكراد هذه المنطقة. وللأسف، فإنّ مثل هذه الاستعدادات ما كانت لتُشخّص في تلك الأيّام، وإذا ما شُخّصت وعُرفت، لم يكن يُستفاد منها. فما كان أحد يسأل أين ذهب استعداد فلان، وماذا حصل، وإلى أي مستوى درس، وكم استطاع أن يكون مؤثّراً في تقدّم العلم. هكذا كان الأمر في ذلك الزمان، ولا ينبغي أن يكون اليوم كذلك، وهو ليس كذلك.
الشيخ قاسم صادقي الغرمئي،والمرحوم الطيّي
ومن بين هؤلاء الشهداء العلماء، كانت لي معرفة باثنين عن قرب. بالطبع، لقد كان هناك طلّابٌ شباب التحقوا بالجبهة وجاهدوا ووصلوا إلى الشهادة. لقد رأيت أسماءهم، ولكنّني لم أوفّق للتعرّف إليهم عن قرب، أمّا هذان العالمان فقد كانت لي معرفة بهما عن قرب: المرحوم الشيخ قاسم صادقي الغرمئي ـ من أهالي غرمه ـ والمرحوم الطيّي. فالمرحوم الحاج الشيخ قاسم صادقي، كان يباحثني - أنا العبد - لعدّة سنوات. كنّا نتباحث معاً حول شرح اللّمعة والمكاسب. وكان آيةً في الاستعداد، ولو أنّه استمرّ في الدرس على هذا المنوال لكان يقيناً عالماً مميّزاً، لكنْ في ذلك الوقت لم
439
371
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
تجرِ العادة أن يُسأل الطالب: من أنت؟ وماذا أنت؟ وماذا تريد أن تفعل؟ فيرشدونه ويأخذون بيده، ويقدّمون له الإعانة الدراسية ويوفّرون له متطلّبات الدراسة. مثل هذه المفردات لم تكن موجودة في تلك الأزمنة. لهذا، فقد انصرف إلى أمورٍ أخرى. وبالطبع زمن الثورة، أصبح هو والمرحوم الطيّبي نوّاباً في المجلس، وكانا بين الـ 72 شهيداً الذي استشهدوا من حزب الجمهورية الإسلامية1.
بجنورد مركز الطاقات (علماء آخرون)
أنظروا لتروا أنّ هذا المكان هو مركزٌ للاستعدادات. فبدءاً من بجنورد نفسها، وصولاً إلى هذه المناطق المشرفة ـ اسفراين، شيروان، فاروج ـ وإلى هذا الجانب، حيث الأقضية الأخرى، سواء تلك المنطقة التي يوجد فيها إخواننا السنّة أم ذاك الجانب الذي يوجد فيه الشيعة.
ولإخواننا السنّة حقٌّ. فعلماء التركمان السنّة أنفسهم ـ كما ذكرت في الصباح2ـ كان لهم دورٌ أساسيٌّ في إخماد الفتنة التي أراد لها الشيوعيّون أن تشتعل في هذه المنطقة باسم التركمان. لقد كنت أعرف، عن قرب، علماء لديهم الدافع والفكر والإقدام، وقد كان لهم دورٌ أساسيٌّ هنا.
هذا المكان يمكن أن يؤمّن حوزةً علميّةً كاملة، بمستويات دراسية عالية، وبجودة مميّزة. على الأساتذة أن يأتوا إلى هنا. فهذه المنطقة ليست من المناطق التي يتحتّم فيها على الطالب أن يهاجر في المراحل الأولى للدراسة، ويذهب إلى الحوزات الكبرى، فلا يعود بعدها. هذا ليس صحيحاً. فقد كان لدينا علماء كبار في الأقضية المحاذية لخراسان الكبرى. وأنا كنت قد ذهبت إلى الكثير من تلك المدن، والتي يقيم فيها مجتهدون من الدرجة الأولى. ففي بيرجند، كان هناك اثنان من المجتهدين، لو كانا في النّجف، لكان من المحتمل جدّاً أن يصبحا من مراجع التقليد، هما: المرحوم التّهامي، والمرحوم الحاج محمد حسن آيتي. لقد بقيا في بيرجند وتعلّقا بأهلها. وفي قوتشان، حيث يأتي عالم كالمرحوم الآغا النّجفي القوتشاني، وهو من التلامذة المميّزين للمرحوم الآخوند الخراساني، ليسكن فيها. وفي بجنورد، كان هناك المرحوم الحاج الميرزا أحمد المرتضوي. وكذلك في الأقضية الأخرى، كان هناك علماء كبار، علماء مميّزون.
1- كانت حادثة تفجير مقر "حزب الجمهورية الإسلامية" من قبل منظمة المنافقين(مجاهدي خلق) في حزيران 1981م، واستشهد على أثره 75 من الحاضرين من بينهم: 27 نائباً من ممثلي الشعب و4 وزراء و12 معاون وزير. وعلى رأس هؤلاء الشهداء آية الله محمد حسن بهشتي رئيس القضاء الأعلى في البلاد.
2- خلال كلمته التي ألقاها في الحشود الكبيرة التي حضرت لاستقباله في مدينة بجنورد (مركز المحافظة).
440
372
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
بعضهم يقول حسناً أيّها السيّد، لم تكن المواصلات بين المدن الكبرى والصّغرى ميسّرة، فكان العلماء مضطرّين أن يبقوا في أماكنهم. لكن مثل هذا الاستدلال يعطي نتيجة معاكسة. فاليوم، حيث المواصلات السّهلة، يمكنكم أن تأخذوا حاسوباً وتجلسوا أمامه، وتستفيدوا من أفضل دروس الحوزات الكبرى بصورة مباشرة. لهذا، فإنّه ليس من الضّروريّ اليوم أن تذهبوا إلى الحوزات الكبرى، ولا في ذاك الزمان أيضاً. فلو عرضت عليكم شبهة علميّة، بإمكانكم ان تستقلّوا سيارة وتصلوا إلى مشهد بعد ساعتين، حيث تذهبون إلى أحد علماء الدّين وترفعون تلك الشّبهة ثمّ ترجعون. اليوم، ومع تحقّق مثل هذه الإمكانيات الكبيرة يجب أن تتألّق حوزات الأقضية، وأن تتّسع كمّاً ونوعاً.
مشروع هجرة العلماء
إنّ مشروع الهجرة الذي عرضته - أنا العبد - قبل عدّة سنوات، أدّى إلى الانتشار الفعّال للعلماء في جميع مناطق البلد. يجب الانتقال من الحوزات الكبرى والذهاب إلى الأقضية والبقاء فيها، سواء كان المرء من أهل تلك المنطقة أم لا. بعض العلماء ليسوا من أبناء هذه المنطقة. فها هو المرحوم المحقّق السبزواري ـ صاحب الذخيرة وصاحب الكفاية، وهو المّلا المعروف، وشيخ الإسلام الأكبر في أصفهان في العصر الصفوي - ينهض ويأتي من أصفهان ليسكن مشهد. وقد كانت أصفهان في ذاك الوقت أكبر مدن إيران، وكانت مشهد مدينةً صغيرة أشبه بقرية كبيرة. وكان هو من بنى المدرسة الباقريّة في مشهد التي شهدها طلّاب مشهد القدامى، وهي اليوم خرِبة. فقد كان يأتي ويبقى، مع أنّ المدينة لم تكن مدينته. وكذلك المرحوم الميرزا مهدي الشهيد، الأصفهانيّ الأصل، الذي كان من الطلّاب الأربعة البارزين للمرحوم الوحيد البهبهاني ـ وكان هؤلاء الأربعة قد سمُّوا بـ"مهديّ"، وقد عُرفوا بالمهادي الأربعة ـ كان يأتي إلى مشهد، بقي فيها ليستشهد أيضاً هناك. وطيلة هذه السّنوات كان هناك وجود لعلماءٍ كبار من ذرّيته. فما هو الإشكال في أن لا يكون الشخص من أبناء هذه المنطقة، ويأتي إليهما؟ فكيف إذا كان من أهل هذه المنطقة؟ فإذا كان من أبنائها فليأتِ إذاً!
أيّها الطلبة، اصنعوا الطرف المقابل
فليجلس فضلاء بجنورد المشهديّة، وفضلاء قم، وليختاروا من بينهم عشرة أشخاص ويرسلوهم إلى هذه المنطقة. وعلى الحوزة هنا أن تؤمّن لهم الإمكانات اللازمة، فيأتون إليها ويدرّسون فيها. ويُقال إنّه يدرَّس فيها الآن لغاية المستوى العاشر. فليكن فيها
441
373
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
دروس أعلى وصولاً إلى درس الخارج. أجل، لا مانع من أن يذهب الطّالب الذي درس هنا بحث الخارج وصار قريباً من الاجتهاد، إلى حوزة أخرى، لسنتين أو خمس سنوات ـ كحوزة قم أو حوزة مشهد ـ ويحضر هناك ويرجع فيما بعد إلى هنا، فهذا أمرٌ جيّد. فهل تعلمون ماذا سيحدث لو أنّه وُجد مثل هذا العالِم الملّا المتعلّم العميق في هذا الزمان ـ الذي هو زمان الفكر والثقافة واتّساع الأفكار الجديدة على مستوى العالم الإسلاميّ كلّه ـ وأتى إلى مثل هذه المدينة؟
اليوم، يوجد في هذه المدينة أو هذه المحافظة 40000 طالب جامعيّ، فمن بين هؤلاء الأربعين ألفاً كم هو عدد الذين يرتبطون بكم أيّها الطلبة؟ ومع من منهم تجلسون وتتحدّثون؟ لعلّ بعضاً منكم يُدعى إلى بعض محافلهم، حيث يوجد خمسون أو مئة شخص لتخطبوا فيهم. ليست القضيّة على هذا النحو. يجب أن يكون هناك حديثٌ مباشر، وأن تصنعوا الطرف المقابل. وهذا يتطلّب الوقت والعمل والعلم الكافي، ويتطلّب ملاحظة الاحتياجات الفكريّة والثقافيّة، ويتطلّب المحبّة، وهذا العمل يجب أن يتحقّق.
المطالعات الجانبيّة
حسنٌ، أنتم بحمد الله تشكّلون مجموعة كبيرة ـ سواء من السيّدات أم السّادة ـ وهذا ما يشاهده المرء هنا. يجب عليكم أن تدرسوا جيّداً وتصبحوا من العلماء، وأن تصبحوا أقوياء، وتتمكّنوا من تحليل الأفكار الجديدة. وليكن لكم مطالعات جانبيّة. ويمكن أن تكون بعض الدّروس التي أضحت معروفةً في الحوزات، سواء في قم أم طهران، مورد استفادة من جهة المطالعات الجانبيّة، كالأدب الفارسي والأخلاق وبعض الدّروس الأخرى ـ وبالطبع إنّ الأدب العربي مطلوبٌ، وهو من أدوات ووسائل عملنا ـ وليس من الضروريّ أن تكون جزءاً من البرامج الدارسيّة. بالطبّع، أنا لا أتدخّل هنا، إنّما أدلي برأيي، وعلى المخطّطين أن يجلسوا ويفكّروا بذلك.
المطالعة في مرحلة الشباب
لا ينبغي للطالب أن يدع الكتاب جانباً، فليقرأ، وليطالع في مرحلة الشباب، وليكن حاله هكذا دائماً. إملؤوا وعاء الذاكرة هذا، الذي ليس له حدٌّ قدر المستطاع في مرحلة الشباب. فكلّ ما أودعناه في ذاكرتنا في مرحلة الشباب، ما زال موجوداً اليوم، وكلّ ما نحصل عليه في مرحلة الشيخوخة ـ حيث إنّني أنا العبد الآن في هذه الأيّام مع كلّ
442
374
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
ابتلاءاتي أطالع أكثر من الشباب ـ فإنّه لا يبقى. أنتم الآن شبابٌ، فادّخروا ما أمكنكم من المعلومات القيّمة والمفيدة والضروريّة في المجالات المختلفة التي تحتاجونها للتبليغ، فسوف تستفيدون منها.
الثورة فرصة نادرة للحوزة
ما ينبغي أن أذكره ـ وهو أهم من جميع هذه المسائل ـ هو العلاقة ما بين الحوزات العلميّة والثورة والنظام الإسلاميّ. لا يمكن لأيّ شخصٍ في عالم العلمائية أن يعزل نفسه عن النّظام الإسلاميّ، فيما لو جعل الإنصاف والعقل ميزاناً له. لقد أمّن النّظام الإسلاميّ إمكانات عظيمة للدّعاة إلى الله ولمبلّغي الإسلام. فمتى كان مثل هذا الشيء بمتناولكم؟ في يومنا هذا، يأتي طالبٌ فاضل إلى التلفزيون ويتحدّث لنصف ساعة ويستمع إلى كلماته عشرة ملايين، أو عشرون مليون مشاهد برغبةٍ وشوق. فمتى كان مثل هذا الشيء متحقّقاً لي ولكم، ومنذ تاريخ العلماء من بداية الإسلام وإلى يومنا هذا؟ ومتى كانت مثل هذه الاجتماعات الكبرى تعقد؟ ومتى وُجدت مثل هذه الجُمعات (صلاة الجمعة)؟ ومتى وُجد أمثال هؤلاء الشباب الرّاغبين والمتعطّشين للمعارف؟ في يومنا هذا، فإنّ هؤلاء الجامعيّين وغيرهم من الذين تشاهدونهم ـ وأنا الآن أقول الجامعيين ـ هم جميعاً تقريباً وتغليباً مشتاقون للتعرُّف إلى المفاهيم، والمعارف الإسلامية ليدركوا نواحيَ منها ويتفقّهوا. يجب علينا - أنا وأنتم - أن نهيّئ الأرضية كي نتمكّن من تلبيتهم. فمتى تحقّقت مثل هذه الفرصة للعلماء منذ البداية وحتى يومنا الحاضر؟ هذا بالإضافة إلى تلك الوسائل الميسّرة كالكمبيوترات، وشبكات الإنترنت، والفضاء الافتراضيّ، والسايبريّ الذي هو تحت أيديكم اليوم. لو تمكّنتم من تعلّم هذه الأمور يمكنكم أن توصلوا كلّ كلمةٍ صحيحةٍ تنطقون بها إلى آلاف المستمعين الذين لا يعرفونكم شخصيّاً. هذه فرصةٌ استثنائية، حذار من أن تضيع، ولو ضاعت فسوف يسألنا الله تعالى - أنا وأنتم - يوم القيامة: ماذا فعلتم بهذه الفرصة حيث كل هؤلاء الشباب، وكل هذا الاستبصار والميل والرغبة والتعلّم من أجل ترويج المعارف الإسلاميّة؟ إنّ النّظام الإسلاميّ قد قدّم مثل هذه الخدمة لنا نحن المعمّمين والعلماء. فهل يمكننا أن نعزل أنفسنا؟
الحوزة لخدمة النظام
فليس مدعاةً أن للفخر يأتي شخصٌ من إحدى الزوايا يلملم عباءته، ويقول لا دخل لي بأعمال الدولة والنّظام، إنما هو عارٌ. يجب على العالم أن يرحّب بكلّ وجوده بمثل هذا النظام الذي رايته الإسلام وقانونه الفقه الإسلاميّ. وقد أخبرني مراجع التقليد
443
375
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
الحاليون تكراراً: إنّنا قطعاً نحرّم إضعاف هذا النّظام بأيّ نحوٍ كان1. والكثير منهم بدافع الذوق قالوا إنّنا ندعو لكم دائماً. وهذا مؤشّر على تقدير النّظام الإسلاميّ. وإذا بنا نجد معمّماً يعزل نفسه عن النّظام بحجّة أنّ لديه انتقاداً. حسنٌ جدّاً، فليكن لديه مئة انتقاد، فمئات الانتقادات تتوجّه إلينا نحن المعمّمين، ألا يتوجّه إلينا نحن مثل هذا الانتقاد؟ فهل أنّ وجود انتقاد وعيب في فئةٍ ما يستوجب أن يغفل المرء عن كلّ تلك الحسنات ونقاط القوّة ولا يراها في تلك الفئة؟ فالأمر هو كذلك بالنسبة للعلماء، العيوب هي إلى ما شاء الله. وأنا العبد من هؤلاء، وأعتبر نفسي طالباً، وقد كنت طالباً من قبل سنّ البلوغ، وما زلت إلى الآن، فتعالوا لأكتب لكم الآن لائحة عن ظهر قلب، يوجد مئة إشكالٍ فينا! لكن هل إنّ هذه الإشكالات المئة تستوجب أن نعرض عن العلماء (العلمائية)؟ أبداً، ففي مقابل هذه الإشكالات المئة يوجد ألف نقطة حسنة. يمكن للمرء، بعد الحصيلة النهائيّة للمصالح والمفاسد، أن يدرك الخطّ المستقيم.
يجب على الحوزات العلميّة أن تعتبر نفسها من جنود النّظام، وأن تعمل للنظّام وأن يحترق قلبها عليه، وتتحرّك من أجل تقويته. وهذا بالتّحديد هو عكس ما تعمل عليه سياسات الأجهزة الأمنية لإنكلترا وأمريكا وإسرائيل وغيرهم وغيرهم. أولئك يسعون عساهم يتمكّنون من العثور على منفذٍ. فها هم يضخّمون كلام شيخٍ يجلس في زاويةٍ ويتحدّث بما هو، في الظاهر خلاف إرادة النّظام وفهمه وعقيدته العامّة. ولو كان هذا الرّجل صغير الحجم، فإنّهم يصنعون منه صورة كبيرة من أجل أن يكبّروا المسافة بين النّظام والعلماء، وتراهم يشيعون وجود مثل هذه المسافة. لهذا لا يمكن للحوزات العلميّة أن تكون علمانيّةً! فالقول إنّ لا دخل لنا بقضايا النّظام والحكومة هو العلمانيّة بعينها.
حصِّلوا ذخيرة العلم واعملوا
ولا يعني كلامي هذا أنّ على الجميع أن يعملوا أو يتدخّلوا في قضايا النّظام منذ البداية، كلا، يجب أن تدرسوا أوّلاً. أنا العبد كنت في أتون المواجهة منذ بدايتها. وكنت أدرّس المكاسب والكفاية في مشهد. وكان الكثير من تلامذتنا يشاركون في النّضال. وعندما كان يحمى وطيس المواجهات كانوا يتساءلون عن فائدة كلّ هذه الكلمات الموجودة في المكاسب واستدلالات الكفاية. وكنت أنا العبد دائماً أقول لهم: يا أعزائي، المرء
1- انطلاق هتافات التكبير...
444
376
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
دون ذخيرة يكون هشّاً، عليكم أن تحصلوا على الذخيرة. فلو حصلتم عليها لأمكنكم عندها القيام بمثل هذه الحركة العظيمة من تلك الموقعيّة نفسها التي كانت للإمام الخميني قدس سره الجليل.
النظام منبثق من العلماء
إنّ النّظام مرتبطٌ ومتّصلٌ ومتوّلدٌ من العلماء. فاعلموا أنّه لولا وجود العلماء لما كان هذا النّظام ليتشكّل، وما كانت هذه الثورة لتنتصر. أنا العبد، ومنذ ما قبل الثورة، كنت أحضر في محافل المثقّفين، وكان لي روابط قريبة مع الجماعات السياسيّة، وكنت أعرفهم جميعاً، وكان لي مباحثات وجدالات مع الكثير منهم، وأنا أقول هذا عن اعتقاد واستدلال: لولا العلماء لما انتصرت هذه الثورة ولو بعد مئة سنة. فمفكّرونا السياسيون الذين كان بعضهم من الأشخاص الجيّدين، والحريصين ـ إذ لم يكن الجميع من الأشخاص الضالّين والمنحرفين ـ ما كانوا بقادرين على ذلك، فهم لم يتمتّعوا بالمقبولية أو النفوذ والتأثير بين الناس، ولم يكن بإمكانهم أن يسيطروا على قلوب الشعب. فالذين كانوا يقدرون أولاً، على استيعاب البلد من حيث الانتشار، وثانياً على النفاذ إلى أعماق القلوب من حيث العمق والتأثير، هم العلماء الذين كانوا حاضرين في كلّ مكان. أنا العبد، حين قرأت يوماً ما، في بدايات الثورة هذه الآية الشريفة من سورة النحل: أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ﴾1 قلت أجل، إنّ هؤلاء الطلّاب الشباب كالنّحل، وقد كانوا يذهبون ليتغذّوا من رحيق أزهار المعرفة التي كانت تنمو من بيانات الإمام، ثمّ يسلكون فيما بعد إلى كلّ أنحاء البلاد، ويقدّمون العسل للنّاس ويلسعون الأعداء، ففيهم العسل وفيهم اللّسع معاً. وما كان لأيّ فئةٍ أو حزبٍ أو جماعةٍ أخرى غير العلماء أن تقوم بمثل هذا العمل، ولو لم يحصل هذا لما حدثت هذه الثورة الاجتماعيّة، في هذه الثورة، عندما كان يُطلق شعارٌ في طهران، في اليوم العاشر من أيّام عاشوراء، كان يُطلق الشعار ذاته، وفي نفس الوقت في "مظاهر"، القريةِ الصغيرةِ النائية الموجودة في محافظةٍ بعيدة، نفس الشعار، نفس الكلام، ونفس المطالب. هذا ما يُسمّى بالثورة الاجتماعيّة التي كانت نتيجتها سقوط مثل ذلك الحكم، وتشكيل مثل هذا النّظام. لقد كانت استقامة ورسوخ وتجذّر هذا النّظام بحيث يبقى ويستمر بتوفيق الله حتّى قرونٍ مقبلة.
1- النحل، 68-69.
445
377
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
الشهيد مطهّري، والأصول الفكريّة المستحكمة
أمّا المباني (الأصول) الفكريّة، فقد أعدّها العلماء أنفسهم، كأمثال الشهيد مطهّري، وأمثال العلّامة الطباطبائي، وعظماء آخرون من هذا القبيل، الذين أعدّوا المباني الفكريّة المستحكمة. إنّ هذه هي البُنى التحتيّة الفكريّة التي يمكن على أساسها أن يجلس الناس ويفكّروا ويفرّعوا ويوسّعوا ويؤمّنوا الحاجات الفكريّة لشباب اليوم. إنّ الكلمات القاطعة التي تمكّنت من استئصال الفكر الماركسيّ في بلدنا، بأن ضربتها ورمتها في الهواء كما يفعل المنجّد، هي نفس كلمات المرحوم مطهّري ـ الذي كان تلميذ العلّامة الطبطبائي ـ وتلامذة آخرين للمرحوم العلّامة الطبطبائي. لقد نشأ هذا النّظام وترعرع في مثل هذا الحضن.
العلماء، والمسؤوليّة الثقيلة
لهذا، فإنّ المسؤولية ثقيلة والعمل كثير. إنّ مسؤولياتكم كثيرة جدّاً. فعليكم أن تعدّوا أنفسكم من الناحية المعنويّة، ومن الناحيّة الأخلاقيّة، ومن ناحية التهذيب والتديّن، ومن ناحية التمسّك والالتزام بالفرائض والنوافل وتلاوة القرآن. وما أجمل تلاوة طالبنا العزيز هذا للقرآن1، وما أجمل هذه الآيات التي تلاها: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾2، فلو كنّا ممّن يرجو الله واليوم الآخر فأسوتنا هو النبيّ، لا أن نقوم بما قام به ـ فهذا محال ـ لكن علينا أن نكمل طريقه. حينها، يتّضح حال المؤمنين بهذا النبيّ في الآية اللاحقة: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾3. ففي معركة الأحزاب، حصل الهجوم من جميع الجّهات. بينما كانوا في معركة بدر مجموعة واحدة، وكذلك في معركة أُحد، وفي الحروب الأخرى، كانوا مجرّد قبائل صغيرة. لكن في معركة الأحزاب، جاءت كل القبائل المشركة من مكّة وغيرها، ومن ثقيف وغيرها واتّحدوا واستطاعوا أن يجيّشوا عشرة آلاف نفر. وقد ارتكب اليهود ـ الذين كانوا جيران النبيّ وأُعطوا الآمان من قبله ـ الخيانة، واتّحدوا معهم، وأعانوهم. لو أردنا أن نقارن هذا بيومنا، لوجدنا كيف أنّ أمريكا تعتدي، وإنكلترا تعتدي، والكيان الصهيوني يعتدي، والنّظام الفلانيّ النفطيّ الرجعيّ يعتدي. لقد جمعوا أموالهم، وحشدوا قواهم، وأوجدوا معركة أحزاب أرعبت القلوب. وفي بدايات هذه السورة يقول: ﴿وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا
1- الآيات القرآنية التي تليت عند افتتاح اللقاء.
2- الأحزاب، 21.
3- الأحزاب، 22.
446
378
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾1 لإخافة الناس، واليوم الوضع كذلك. فهم جماعةٌ يخيفون الناس، ويقولون لهم: هل تظنون أنّ المواجهة مع أمريكا مزاحٌ؟ لسوف يقضون عليكم، فها هي حربهم العسكريّة وحظرهم، وها هي أنشطتهم الإعلاميّة والسياسيّة. وفي آخر هذه السورة نجده يقول: ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾2 ها هم المرجفون. وفي مثل هذه الظروف، فإنّ وضع المؤمن هو هذا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾3، فنحن لا نتفاجأ، فقد أخبرنا الله ورسوله أنّكم لو تمسّكتم بالتوحيد والإيمان بالله ورسوله، فسيكون لكم أعداء وسيأتون إليكم. أجل، لقد قيل هذا، وها هو الآن يتحقّق. لقد شاهدنا كيف أنّهم جاؤوا. ﴿وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾4. فالمنافقون وضعفاء الإيمان والذين في قلوبهم مرض ـ وهم فئات مختلفة ـ يهتزّون عندما يرون العدوّ، كشجرة الصفصاف، ويبدأون بمعاتبة وأذيّة المؤمنين بالله، والمجاهدين في سبيله والضغط عليهم: لماذا تفعلون هذا؟ ولماذا لا تتنازلون؟ ولماذا لا تتّخذون مثل هذه السياسات، ويقومون بما يريده العدوّ؟ أمّا المؤمنون الصّادقون فيقولون في المقابل: إنّنا لا نتفاجأ، فلا بدّ لهؤلاء أن يعادوا، هذا ما وعدنا الله ورسوله.
وفي موضعٍ آخر يقول: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾5. فما لم ترضخ لهم وتتّبعهم وتسلّم لهم، فسيبقى الكرّ والفرّ. قوِّ نفسك حتّى لا تلتفّ عليك حبالهم، وتحرّك قليلاً فسوف تتمزّق هذه الحبال. قوِّ نفسك! لماذا تُضعف نفسك حتّى تسلّم لهم، وتصبح ذليلاً صريع الأرض ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾6، كونوا هكذا أعزّائي وأبنائي، أيّها الطلبة الشباب، ادرسوا بنيّة صادقة من أجل أن تكونوا في الصفوف الأماميّة، ومن قادة ورواد هذا الميدان العظيم.
عليكم بالمساجد
إنّني أوصي المراكز الثقافيّة الفنّية أن لا تنسى المساجد، وذلك طبعاً بالتعاون مع التعبئة. إنّه لأمر سيّئ أن يكون هناك اختلافٌ بين إمام المسجد وتعبئة المسجد. كلّا، فبتعاون التعبئة اجعلوا هذه المراكز الثقافية الفنّيّة تؤثّر في المساجد، واعملوا لأجل
1- الأحزاب، 13.
2- الأحزاب، 60.
3- الأحزاب، 22.
4- الأحزاب، 22.
5- البقرة، 120.
6- الأحزاب، 22.
447
379
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
ذلك. أجلسوا وفكّروا وادرسوا وأمّنوا الخطاب المتناسب مع حاجة الشابّ الذي يوجد هناك. أدرسوا، فالكتب التي يمكن الاستفادة منها موجودة. اذهبوا واسألوا وحقّقوا حول أولئك الذين هم أهلٌ لذلك. جهّزوا أنفسكم وتسلّحوا بسلاح المعرفة، واستدلّوا، وبعدها التحقوا بهذه المراكز الثقافيّة الفنّية، وكونوا مضيفي الشباب، ولتكن ضيافتكم بالبسمة والبشاشة والسماحة والمداراة؛ قيل: "وسنّةٌ من نبيّه"1، حيث إنّها بحسب الظاهر عبارة عن مداراة الناس.
كلٌّ له نقائصه
من الممكن أن يكون الظاهر2 منفّراً، فليكن. بعض اللواتي كنّ في استقبال اليوم3، وأنتم ـ سواء السيد مهمان نواز4 أم بقية السّادة ـ الذين كنتم تمدحوهنّ من على هذا المنبر، هنّ سيّدات، يُقال لهنّ بالعرف السائد سيّئات الحجاب، كنّ يذرفن الدموع، فماذا نفعل هل نردّهنّ؟ هل في ذلك مصلحة؟ وهل هو حقّ؟ كلّا، إنّ قلوبهنّ مرتبطة بهذه الجبهة، وأرواحهنّ عاشقة لهذه الأهداف والقيم، لكن فيهن نقصٌ. أليس فيّ نقصٌ؟ إنّ نقصهنّ ظاهرٌ، ونقائصي - أنا الحقير- باطنةٌ، ولا تُرى. قال (بيت شعر):
نعم يا شيخ كلّ ما تقوله هو فيّ، فهل كلّ ما يظهر منك هو أنت؟5
نحن لدينا نقصٌ، وهنّ لديهنّ نقص، فتعاملوا بهذه النظرة وبهذه الرّوحيّة. بالطبع، إنّ الإنسان ينهى عن المنكر، والنهي عن المنكر يكون باللسان الطيّب لا بإيجاد النّفور. لهذا، عليكم أن توجدوا رابطة مع شريحة الجامعيين.
لباس العلماء والحمل الثقيل
لقد ذكّر السيّد فرجام6 بطريقة جميلة بشأن لباس العلماء (المشيخة). أولئك الذين
1- الحديث مرويٌ عن الإمام الرضا عليه السلام: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى تكون فيه ثلاث خصال ، سنّة من ربه، وسنّة من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وسنّة من وليّه عليه السلام. فأما السنّة من ربه فكتمان السّر، وأما السنّة من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فمداراة الناس، وأمّا السنّة من وليه عليه السلام، فالصبر في البأساء والضراء". الكافي، ج2، ص 241، باب المؤمن وعلاماته.
2- المظهر الخارجي لبعضهم، والمقصود بعض الناس غير الملتزمين.
3- في مراسم الاستقبال الشعبي عند وصول القائد إلى مركز المحافظة، وقد حضرت فيه حشود غفيرة من مختلف شرائح الناس ومن بينهم النساء غير الملتزمات بالحجاب الكامل، ويقال لهنّ بالفارسية "زنان بد حجاب".
4- آية الله مهمان نواز، ممثل محافظة خراسان الشمالية في مجلس الخبراء.
5- مثل يضرب لمن ينتقد غيره ولا يلتفت إلى نفسه: گفتا شيخا هر آنچه گوئى هستم/ آيا تو چنان كه مينمائى هستى؟
6- حجة الإسلام والمسلمين فرجام، المدير التنفيذي للحوزة العلمية في خراسان.
448
380
في لقاء العلماء وطلّاب الحوزات في محافظة خراسان
تقدّموا بدراستهم بمستوىً معيّن؛ فليضعوا لباس المشيخة، لكن فليعلموا أنّ هذا اللباس يمثّل حملاً ثقيلاً. إنّ هذه العمامة التي تبلغ عدّة أذرع، وتضعونها على رؤوسكم هي ثقيلةٌ جدّاً، بمجرّد أن يروكم أصحاب عمائم يبدأ سيلٌ من الأسئلة والإشكالات وأمثالها. فإذا كنت لا تعلم، تقول لا أعلم، ثمّ تذهب وتحقّق وتعلم، ثمّ بعد ذلك تأتي إليه وتجيبه. حسناً، هذا جيّدٌ، أمّا إذا لم تكن، تعلم وقدّمت جواباً خاطئاً، أو لأنّك لا تعلم غضبت لأنّه سألك هذا السؤال، إنّ هذا ليس بالأمر الجيّد. فإذا كان من المقرّر أن يكون الإنسان هكذا، فالأفضل أن لا يضع العمامة.
احترام أئمّة المساجد
احترموا أئمّة الجماعة في المساجد، وعدّوه أمراً مهمّاً. فمن لديهم لياقة عليهم أن يعلموا أنّ إمامة المساجد مهمّة جدّاً. فعند كلّ صلاة، أو على الأقل كلّ يوم وليلة، في صلاة واحدة، تحدّثوا مع الناس وافتحوا عالم الأفكار، نوّروا القلوب بذكر حقائق الدين ومناقب الأئمّة عليهم السلام، فالقلوب تتنوّر.
حسنٌ، لقد أضحى حديثنا طويلاً نسبيّاً. وإن شاء الله، الله بمشيئته يحفظ بركات وجود السيد الآغا مهمان نواز لهذه المنطقة. ففي اللقاءات التي جمعتنا، كان يتحدّث مراراً بشأن مجيئنا إلى بجنورد. وكنا نقول على عيني، "الأمور مرهونة بأوقاتها". ها قد جاء وقتها. لقد استقرّ في بجنورد، وقام بعملٍ ممتاز. إنّه بركة لهذه المدينة، وتقع عليه مهمّات. إنه إمام جمعة محترم يشعر الإنسان ولله الحمد أنّه صاحب بيان عذب وفكر جيّد وقدرة على العمل، وإن شاء الله سيؤدي وظيفة إمامة الجمعة على أفضل وجهٍ. إنّ هذا من تلك الموارد التي كنت - أنا العبد - أتمنّاها: أن لا نفقد شيئاً بل نحصل على شيء. وها هي بجنورد، ولله الحمد، لم تخسر مهمان نواز وبركات وجوده، ومراجعته التي هي كالسابق، وقد حصلنا على أمرٍ إضافيّ وهو أنّه إمام الجمعة المحترم.
اللهمّ، اجعل كل ما نسمعه ونقوله وننويه، لك وفي سبيلك، وتقبّل ذلك منّا بكرمك وفضلك.
اللهمّ، ارضِ القلب المقدّس لوليّ العصر عنّا، واشملنا بدعاء هذا العظيم.
اللهمّ، اجعل هذا الجمع الحاضر وغيرهم من الطلّاب والفضلاء والعلماء الموجودين، والذين يعملون في هذه المنطقة الكبيرة جميعاً، جنوداً حقيقيين للإسلام والقرآن.
اللهمّ، زد من هذه الإلفة والأنس المتحقّق بين الشيعة والسنّة يوماً بعد يوم.
اللهمّ، اهدهم جميعاً إلى طريق الخير والصلاح وهداية الأمّة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
449
381
في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
المناسبة: زيارة المحافظة.
الحضور: المعلّمون وأساتذة الجامعات.
المكان: مصلّى الإمام الخميني - بجنورد.
الزمان: 11/10/2012م.
451
382
في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنّه لقاءٌ مليء بالعظمة والروعة، سواء أكان من ناحية الظاهر أم من ناحية المعنى. إنّ العدد الكبير لمعلّمي هذه المحافظة ـ معلّمي التربية والتعليم، وأساتذة الجامعات ـ يقرّ العين ويسرّ القلب. الكثير من الكلمات التي ألقيت هنا، موزونة واحترافيّة وخبرويّة بالكامل. إنّ الإنسان ليستمتع بمشاهدة كلّ هذا الفكر الرائع والنيّر، والكلام الموزون والخبرويّ في هذه المحافظة ـ التي هي يقيناً من المحافظات الفقيرة في البلد مادياً ومن ناحية الإمكانات، لكنها غنية جدّاً من ناحية الاستعداد والطبيعة. ثقوا أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أنّ هذا اللقاء، كان بالنسبة لي - أنا الحقير- هديّةً إلهيّة، وأنا العبد، أشكر الله تعالى كثيراً، أنّني التقيت بكم، وسمعت هذه الكلمات الطيّبة.
إنّ من بين اقتراحات الأعزّاء ما يرتبط بالأجهزة التنفيذيّة، ومسؤولي القطاعات المختلفة. وقد جرت عادتنا أن ننقل هذه الاقتراحات إلى الأجهزة والمؤسسات ذات الصلة ولا نقوم - من جانبنا - بأيّ إجراءٍ بشأنها، لكنّ بعض هذه الاقتراحات بنيويّ تأسيسيّ. وما ذكرته السيّدة المعلّمة1 صحيحٌ جداً، وموزونٌ للغاية ومنطقيّ. وكذلك بعض الاقتراحات الأخرى التي ذُكرت هنا ـ وقد دوَّنتها ـ وجميعها جديرة بالبحث والتفكير والتطوير. نسأل الله تعالى أن يمنحنا توفيق القدرة على الاستفادة من نتاجاتكم الفكرية إن شاء الله، واستخدامها ـ بقدر ما يمنحنا الله من قوّة وتوفيق ـ في جانب أو حيِّزٍ من إدارة المجتمع الذي يقع على عاتقنا الآن، إن شاء الله.
أشير هنا إلى نقطةٍ تتعلّق بالنشيد الجميل الذي قدّم بلحن جيّد، وحوى مسائل مفيدة2. وهي نقطة لا أخصّ بها هذا اللقاء فحسب، بل أرغب في أن تنتشر على مستوى الوطن والمجتمع.
إظهار المودّة والمحبّة
حسنٌ، إنّ إظهار الودّ بين المسؤولين والشعب وخصوصاً النّخب، هو أمرٌ جيّد. وأن تظهر مجموعة من النّخب والمثقفين والأساتذة والمعلّمين محبّتها لخادمٍ يتحمّل مسؤوليةً، هو أمرٌ مستحسنٌ جداً، وهو لحسن الحظّ موجودٌ في بلدنا، خلافاً للعديد من مناطق العالم، وهذا من بركات الإسلام والتديّن، وهو ذو طرفين. لقد قيل: "إنّ سرّ قلّة
1- إحدى المسؤولات في السلك التربوي والتعليمي، وقد ألقت كلمة بداية اللقاء، إذ عادة ما يتمّ خلال لقاءات الإمام القائد بالمسؤولين أو النخب أو الأساتذة أو أي شريحة أخرى أن يتحدث في البداية عدد منهم عن مواضيع ذات صلة بأعمالهم...
2- إحدى الحاضرات التي تحدثت في بداية اللقاء.
453
383
في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
كلامي لك، أنّني أكثر عشقاً لك"! فالحبّ بين المسؤولين أو النخب و الناس ليس من طرفٍ واحد، فالمحبّة لا يمكن، في الأساس، أن تكون من جانبٍ واحد. إذ لو لم يكن هناك انجذاب من الطّرفين، فإنّ المحبّة من جانبٍ واحد سرعان ما تنقضي وتزول. لهذا فإنّ كلّ محبّةٍ هي ذات طرفين. ما أريد ذكره هو أنه لا ينبغي أن يؤدّي إظهار هذا الحبّ إلى قول أمور واستخدام عبارات فيها مبالغة ظاهرة للجميع. بالطبع، الشعر هو محلّ المبالغة، لكنّ استخدام عباراتٍ مختصّة بعظماء عالم الخلقة والمعصومين والأنبياء والأولياء عليهم السلام لفردٍ مثلي ـ أنا الصغير والناقص والحقير ـ ليس بالأمر الجيّد. لا ينبغي أن ننشر مثل هذه الثقافة في المجتمع. وإنّ حذف مثل هذه العبارات لا يتنافى أبداً مع الحبّ من الطرفين.
الصيرورة والتحوّل العميق في النفوس
حسنٌ، من بين المواضيع التي عرضها الأعزّاء ـ سواء أكانوا مِن الجامعة، أم من التربية والتعليم ـ توجد نُكات ممتازة ودقيقة. ونحن في الحقيقة بحاجة إلى أن نجعل مجال التعليم والتربية في بلدنا أكثر تألّقاً. ما كانت قضية الثورة الإسلاميّة ونظام الجمهورية الإسلاميّة هي في السابق، وليست الآن، قضية بلد يريد منافسة البلدان الأخرى، من ناحية التطوّر والتقدّم المادّيّ والعلميّ والعسكري والسياسيّ وحسب، كما هو دأب زعماء الدّول. إنّ قضيّة الإسلام وتشكّل الحكومة في الإسلام هما قضية صيرورة وتحوّل في عمق الإنسان. ففي أعماقنا توجد عناصر ملكوتية وتوجد عناصر سبعيّة، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾1 ففيه الاستعداد والإمكان للعلوّ والرقيّ والتسامي، وفيه الاستعداد للتسافل والسقوط. ولعلّه يمكن أن يُقال: إنّ ذلك موجود فينا نحن أبناء البشر بلا حدود. إنّ فلسفة خلق الإنسان هي في تغلّب تلك الاستعدادات المميّزة والمفيدة والممتازة من ناحية القيم الإلهيّة، على تلك الخصال الحيوانية والسبعيّة، وباختيار الإنسان نفسه، وبمجاهدته، التي إذا ما تغلّبت عليها فستتحرّك تلك الاستعدادات الحيوانيّة بالاتّجاه الصحيح أيضاً. فلو جُعلت روحيّة التجاوز والتطاول في خدمة التقوى، فإنّها ستمنع من التعدِّي على الحرمات المقدّسة ـ الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية ـ وسوف تُستخدم في الاتّجاه الصحيح. لقد أُمر بالقتال في القرآن والإسلام، والقتال يعني القتل، ومواجهة القتل، وهو استخدامٌ لائقٌ لتلك الروحيّة المودعة في الإنسان من أجل الخدمة في هداية البشر، وبناء عالمٍ عامرٍ وحرٍّ ومتسام. فهذا القتال في الواقع هو بمعنى القضاء على حجب وموانع وصول
1- التين، 4-5.
454
384
في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
الإنسان إلى القمم الرفيعة للكرامة البشريّة والإنسانيّة. فلو تمّ ترجيح هذه الخصال والأخلاق والاستعدادات الكريمة والأسمى، فإنّ العالم سيكون عالماً جيّداً وسعيداً. ففي ذلك العالم لن يكون هناك اعتداء وتعدٍّ، ولا انحطاطٌ ودناءة، ولن تتعطّل الاستعدادات البشريّة أو تنحرف، ولن يكون فيه فقرٌ وتمييز. فانظروا أيّ عالمٍ جميلٍ سيكون هذا. ففي ذلك العالم سيتمكّن الإنسان من استعمال جميع الطاقات المودعة فيه. وهذه الطّاقات الموجودة فينا هي ليست مما وصل إليه علم الإنسان وتجاربه حتّى اليوم، بل إنّ هذه الطاقات هي أكثر بكثير من ذلك. إنّنا مبتلون بضيق الأفق في نظرتنا إلى إمكاناتنا الجسمانيّة، نحن لم نتعرّف إلى تلك الإمكانات جيّداً.
أضرب هذا المثال مراراً وأقول: لو أنّكم نظرتم إلى لاعب جمباز فهل يخطر على بال شخصٍ غير رياضيٍّ وغير مرتاض أنّه يمكن لجسم الإنسان أن يتحرّك بهذه الطريقة؟ ولكن بالتمرين يمكن لأيّ إنسانٍ ـ وإن لم يكن استثنائياً أو خارقاً أو يختلف عن غيره من الناس ـ أن يؤدّي هذه الحركات بنفسه. قيسوا على هذا جميع الطاقات الإنسانية، والتي هي بالآلاف لتروا ماذا سيحصل وأيّة قدراتٍ عظيمة ستتحقّق. إنّ كلّ هذه الأمور ستتحقّق، وتحدث في ذلك العالم الذي تتغلّب فيه الخصال الإلهيّة والإنسانيّة على الخصال المنحطّة. هذه هي الرسالة، وهذا هو الهدف. فإذا كان هذا هو الهدف، ينبغي إذاً بذل السعي الكثير.
إنّنا ما زلنا في بدايات خطواتنا على هذا الطريق، وإن كنّا قد تقدّمنا. ليست القضية أنّنا لا نولي مثل هذا التقدّم العلميّ أهميّةً. حسنٌ، فأنتم ترون كم نفخر به، فلدينا تطوّر علميّ وتقنيّ وسياسيّ وعمرانيّ ووطنيّ، ولدينا عزّةٌ عامّة، وهي كلّها أمور مهمّةٌ جدّاً، لكنّها جميعاً خطواتٌ أولى على الطريق.
قدر المعلِّم ودور التربية والتعليم
عندما ينظر المرء إلى رسالة الوطن، والرّسالة الإسلاميّة للشعب بهذا المنظار ـ والتي هي صيرورةٌ شاملة جامعة للبلاد ـ يتّضح عندها دور التربية والتعليم، ودور البيئة التعليميّة، ودور التعليم العالي في بلدنا.
إنّني أقول لكم: إنّ ما هو أهمّ بكثير من التحدّث بكلمة أو كلمتين في هذا المجال أو الاستماع للأصدقاء ـ وهو أمرٌ مفيدٌ حتماً ـ هو أن يصبح احترام وتقدير وإجلال المعلّم والأستاذ في الجامعة أمراً متجذّراً، فهذا ما نحتاج إليه، وهو الغرض من إقامة هذه اللقاءات سواء مع الأساتذة أم الجامعيين ـ وخصوصاً الأساتذة أو المعلّمين ـ هنا وفي طهران. إنّنا نريد أن يُعرف قدر المعلّم، سواء أكان معلّم التربية والتعليم أم
455
385
في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
أستاذ الجامعة. وحين يُعرف قدر المعلِّم، ففي الدرجة الأولى ينبغي على المعلّم نفسه أن يثمِّن هذا القدر قبل الجميع، ويستخدم كل طاقاته في التعليم وفي التربية، ويضاعفها باستمرار. لذا، فإنّ هدفنا الأساسيّ في هذا اللقاء هو أن نظهر احترامنا لمجموع معلّمي هذه المحافظة حديثة النشأة (المستحدثة)، حيث يرى المرء بحمد الله مدى عظمة هذا الأمر باللحاظ الكمّيّ والنوعيّ، سواء على أكان مستوى معلّمي التربية والتعليم أم أساتذة الجامعات.
تشكُّل البعد الروحيّ للأطفال
توجد نقطةٌ في مطاوي كلمات أعزّائنا، تخطر في ذهني دوماً، وهي أن نهتمّ بالدرجة الأولى في بناء وتشكيل البُعد الرّوحيّ لأطفالنا. فلو استطعنا أن نشكّل الهويّة الإنسانيّة لهذا الطفل منذ نعومة أظافره، ونوجد فيه تلك الأخلاق، فإنّ ذلك سيكون على الدوام نافعاً جدّاً. هنالك عوارض (تعقيدات) تلقي بظلالها وتؤثّر على الأخلاق، إلا أنّه لو تمّ بناء وتشكيل شخصيّة الطفل منذ البداية، فإنّ تأثيرها سيتضاءل، وسيكون أيضاً للعوامل المساعدة دورها خلال ذلك.
لقد أشارت هذه السيّدة1 إلى مصطلح "فلسفة الإنسان"، وهذا التعبير صحيحٌ جدّاً. في يومنا هذا، نجد أنّ من الأعمال الأساسية والفروع المهمّة في الدول المتطوّرة مادّياً في العالم هو تدريس الفلسفة للأطفال. إنّ الكثيرين في مجتمعنا لا يخطر ببالهم من الأساس، أنّ الفلسفة هي أمرٌ مهمٌّ للطفل. فبعض الأشخاص يتصوّرون أنّ الفلسفة هي نوع من الهذر، وبعضهم يلتفت إليها في آخر عمره، لكنّ الأمر ليس كذلك. إنّ الفلسفة عبارة عن تشكيل الفكر وتعليم الفهم، وتعويد الذهن على التفكّر والتفهّم، وهذا الأمر ينبغي أن يكون منذ البداية. القالب والشكل مهمٌّ. ولئن كان المحتوى والمضمون في فلسفة الأطفال (جعلهم متفلسفين) مهمّاً، لكنّ الأساس هو الأسلوب، أي أن يعتاد الطفل منذ بداية طفولته على التفكّر، وعلى التعقُّل. وهذا الأمر مهمٌّ جداً. وقد سُررت لأنّني رأيت تذكيراً بهذا الأمر من خلال هذه الكلمات.
تعزيز الثقة بالنفس عند الأطفال
النقطة الثانية هي الثقة بالنفس. يجب أن ننشّئ الطفل منذ البداية على أن يكون لديه ثقة بالنفس واعتقاد بهويّته. وبالطبع، إنّ هذا الأمر لا يختصّ بأطفال المرحلة الابتدائيّة. ينبغي أن يكون هذا الأمر في الثانويّات وفي الجامعات أيضاً. لقد تمّ في الماضي وللأسف تأسيس ثقافة منحرفة بالكامل في بلدنا، وما تزال آثارها باقية ـ رُغم كل هذا الإعلام
1- إحدى المسؤولات في السلك التربوي والتعليمي، وقد ألقت كلمة بداية اللقاء.
456
386
في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
الذي مارسناه منذ بداية الثورة وحتّى اليوم ـ وهي النّظر إلى الغرب بعين الاحتياج، وتضخيم الغرب، وتصغير النفس في مقابله. فهذه الثقافة ما زالت موجودة وللأسف، ولم يتم اجتثاثها. كلّ ذلك لغياب الثّقة بالنفس (الاعتقاد بالنفس). إنّ ما ترونه من زيادة الطلب على البضاعة الفلانية ذات الماركة الأجنبية التي تُعرض بسعرٍ أعلى في نفس الوقت، بين طبقةٍ اجتماعيّةٍ خاصّة، في حين يوجد بضاعة وطنيّة مشابهة لها وتكون أحياناً أفضل جودة، هو بسبب تلك النظرة، وهذا يُعدّ مرضاً وآفةً. ولو قيل إنّ فلاناً المتخصّص، قد تخصّص في الداخل ولم يسافر إلى الخارج، فإنّ هذا يؤدّي للوهلة الأولى إلى النظر إليه بصورة سلبيّة. أجل، لو أنّ هذا المتخصّص المحلّيّ، الذي درس في وطنه، استطاع بأعماله المميّزة أن يزيل هذا الاعتقاد ـ حيث إنّ هذا الأمر قد تحقّق بكثرة في السنوات الأخيرة ـ فتلك قضية أخرى. لكن ما دام يُقال إنّ ذاك قد تخصّص في الخارج، وهذا قد تخصّص في الداخل، فإنّ النظرة إليه ستكون نظرة فوقية. هذا عيبٌ.
الثقة بالنفس مقابل الثقة بالغرب
لعلّه كثيراً ما سمعتم منّي- أنا العبد - أنّني لا أعارض أبداً اكتساب العلوم من الأجانب. لقد قلت مراراً إنّه ليس من العار أن نتتلمذ على يد أحد ونتعلّم منه، لكنّ عارنا هو أن نتطلّع باستجداء وأملٍ وشعورٍ بالحقارة الذاتيّة إلى ما في أيدي الآخرين وفكرهم وأعمالهم. هذا هو الأمر السيئ الذي يجب اجتثاثه. يشاهد المرء أنّنا أحياناً عندما نريد أن نبذر خلقاً جيّداً في المجتمع، فإن المثال الذي نأتي به لتمجيد ذلك الخلق الجيّد يجب أن يكون حتماً من الدول الغربيّة، فما ضرورة ذلك؟ ولماذا نقوّي من هذه الروحيّة في مخاطبينا، بحيث إنّهم يحتاجون للتطلّع إلى الغرب من أجل تشخيص وتمييز الحسن من القبيح، والمميَّز من غيره؟ هذا هو الأمر الذي ذكره الآن بعض الأعزّاء تحت عنوان الثّقة بالغرب. والثقة بالنفس تأتي في مقابل هذا. هذا لا يعني العداء لأيّ أحد، وكذلك لا يعني التعصّب ضدّ منطقةٍ جغرافيّة أو سياسيّة، بل يعني أنّه عندما يُعرض شعب ما عن إمكاناته واستعداداته ونتاجاته ولا يؤمن بها، فإنّ مصيره سيكون مصير تلك الدّول التّابعة ـ وهو ما حصل عندنا في العهد البهلوي1 أو ما يحصل مع الدّول الأخرى التي نشاهدها.
1- العهد البهلوي: الحكم الملكي الذي أعقب حقبة القاجار ولم يدم طويلاً (1925 ـ 1979م) حتى أطاحت به الثورة الإسلامية، وكان تابعاً للغرب، مطيعاً لإملاءاته. وشكّل سقوط هذا النظام وانتصار الثورة على يد الإمام الخميني وبمؤازرة الشعب، حلقة مفصلية ألقت بظلالها على وضع المنطقة والعالم وما زالت (كما عبَّر الإمام القائد في مناسبات عديدة).
457
387
في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
يجب علينا تقوية الثقة بالنفس عند شبابنا وأطفالنا. إنّني أشاهد، وأحياناً تصلني التقارير، أنّ المعلّم الفلاني في الصفّ، أو الأستاذ الفلانيّ في الجامعة يشكّك بالتطوّر العلميّ المسلَّم به. افرضوا أنّ إنجازاً قد تحقّق في مجال الخلايا الجذعيّة، أو النانو التكنولوجي، أو المجالات العلميّة المختلفة ـ حيث إنّ تطوّر البلد في المجالات العلمية المختلفة، ولحسن الحظ، أصبح كبيراً جدّاً ـ فمثل هذا الإنجاز هو حقيقيٌّ ولا شكّ فيه، وواضحٌ للعيان، وهو أمرٌ ملموس. لكنّ هذا الشخص يبدأ بالتشكيك في صفّه الجامعيّ أو الثانويّ، ويقول: كلا، إنّ الأمر ليس كذلك، وهو غير معلوم! فما هو الدّافع لهذا الأمر؟ فلو كان عند أحدنا شكٌّ بتحقّق هذا التطوّر، فما الذي يدعونا لأن نلقيه في أذهان الشباب الذين نخاطبهم؟ حسنٌ، فلنذهب ولنتحقّق حتّى يتّضح لنا هل أنّه حصل أم لا. إنّ تعزيز الثقة بالنفس وإيجادها يُعدّ من الأعمال الأساسيّة.
الصبر والحلم في التعامل
النقطة اللاحقة هي الصبر. فإنّ ما نحتاج إليه في علاقاتنا الاجتماعية هو روحيّة الصبر والحلم. وكلّ هذا الذكر للحلم في الإسلام وفي الأخلاق الإسلاميّة هو من أجل هذا. فإنّ عدم وجود الصبر يوجد الكثير من المشاكل على كافّة المستويات المتدنّية والفردية والاجتماعيّة. فلو أنّ جماعاتنا السياسية تعاطت مع بعضها بعضاً بالحلم لكان الأمر أفضل. لو أنّ أتباع هذا وذاك تعاملوا فيما بينهم بالحلم لكانت الأوضاع أفضل بكثير. إنّ التعامل بالحلم لا يعني غضّ النظر عن المساوئ والقبائح، ولا يعني عدم الاكتراث بالأصول والقيم التي نؤمن بها، بل إنّه يرتبط بكيفيّة التعاطي، ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾1، فالجدال مع الآخر حول اعتقادٍ معيّن أو قضيّة مهمّة يكون بالتي هي أحسن.
التحقيق والتفحّص
القضيّة الأخرى، هي قضيّة التحقيق والتفحّص، والتي مرّت في كلمات أعزّائنا، أي حالة الاستفسار والاستفهام والتتبّع.
1- النحل، 125.
458
388
في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
التعاضد والهمّة العالية
والنقطة الأخرى هي العمل الجماعيّ والتعامل والتعاضد والهمّة العالية. فلنجعل الأطفال وكذلك الشباب يعتادون، منذ البداية، على النّظر إلى الأمور بهمّة عالية. يوجد العديد من القضايا التي يجب الاطّلاع عليها على مستوى العالم كلّه، والنظر إليها بهذا المستوى لا بالمستوى الإقليميّ، فما بالك بالذي ينظر إليها فقط على مستوى البلد أو الولاية والمحافظة؟ هنالك قضايا يجب النّظر إليها بأفق المئة سنة1، والمئة وخمسين سنة، لا من دائرة محدودة بخمس أو عشر سنوات أو أقل. وكل هذا يستلزم وجود همّة عالية، والنّظر بمثل هذه الهمّة الرّفيعة إلى القضايا المختلفة. إنّ هذا التلميذ أو الطالب الجامعيّ الذي تقومون بتربيته اليوم سيصبح بعد عدّة صباحات (بعد فترة) أستاذاَ أو مديراً فعّالاً، أو خبيراً مميّزاً، ويكون عنصراً مؤثّراً في الحركة السياسية للمجتمع. لن تنقضي صباحات قليلة حتى يصبح عنصراً مؤثّراً في المجتمع. فقوموا بتربيته حتّى يكون في النّهاية صاحب همّة عالية.
التفاني في العمل (عليكم بالتعّود على المطالعة)
النقطة التالية هي التفاني في العمل. إحدى مشكلاتنا هي الكسل، فقضيّة المطالعة هي قضيّةٌ مهمّةٌ، إنّ إهمال الكتاب موجودٌ في مجتمعنا. يشاهد المرء أحياناً في التلفاز سؤالاً يوجّه إلى هذا أو ذاك: كم ساعة تقرأ في اليوم؟ أو كم تعطي للمطالعة من وقت؟ فواحدٌ يقول خمس دقائق وآخر يقول نصف ساعة! يتعجّب الإنسان! يجب علينا أن نعوّد الشباب على المطالعة، وكذلك الأطفال بحيث ترافقهم إلى آخر العمر. إنّ تأثير المطالعة في مثل سنّي - أنا العبد - وأنا العبد أقرأ من الكتب ما هو أضعاف ما يقرؤه الشباب ـ هو في الأغلب أقلّ بدرجات من المطالعة في سنيّ الشباب، أو في عمركم أيّها الأعزّاء الموجودون هنا. إنّ ما يبقى للإنسان دوماً هو المطالعة في السنوات الأولى. فليطالع تلامذتكم من الشباب والأطفال ما أمكن، وليتعلّموا كلّ ما يمكنهم في مختلف الحقول، وبالطرق والأساليب المختلفة. بالطبع، يجب اجتناب الاستهتار في بيئة الكتاب، وإن كانت هذه القضيّة لاحقة. إنّما القضية الأولى هي أن يتعلّموا ويعتادوا على الرجوع إلى الكتاب من الأساس والنظر فيه. وبالطبع يجب على الأجهزة أن تراقب وكذلك الأشخاص، ويتولوا التوجيه نحو الكتاب الجيّد، حتّى لا يضيع العمر بالكتب السيّئة.
1- أي أن يصبح لدى الشباب الهمّة وبعد النظر، بحيث ينظرون إلى قضايا المنطقة بمنظار استراتيجي بعيد المدى، ولا يقتصر على النظر القريب أو من زاوية محلّية إقليمية، بل على مستوى العالم.
459
389
في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
مؤسّسات البحث الأسريّ
النقطة الأخرى التي ذكرتها هنا إحدى السيّدات وقد دوّنتها، هي نقطة مهمّة جدّاً: إنّ الخصائص التي نريد أن نوجدها في أطفالنا ـ لعلّها ذكرت ذلك بشأن التربية والتعليم ـ لا تتحقّق بصورة طبيعيّة، بل يجب العمل عليها، فمن الذي يعمل هنا؟ إنّهم المعلّمون سواء في مجال التربية والتعليم أم على مستوى الجامعات. يجب على المعلّمين أن يهيّئوا مقدّمات هذا العمل وأن يكونوا أصحاب خبرة في هذا المجال، ومثل هذا يحتاج إلى جهازٍ أعلى يحقّق هذه التربية. أجل، فهذا منطقيٌّ. ها هو الوزير المحترم للتربية والتعليم هنا، فاطرحوا هذا الأمر على الحكومة، وأنتم بأنفسكم انظروا ماذا يمكنكم أن تفعلوا على مستوى التربية والتعليم. حقّاً يقولون، نحن لو أردنا أن نوجد هذه الخصائص الجيّدة في مخاطبينا، في الصفوف الدّراسيّة، فإنّنا نحتاج لأن يكون معلّمنا عارفاً بما يقوم به. فليس الجميع على اطّلاع، بل يجب أن يتعلّموا. ينبغي إيجاد المراكز المناسبة لهذا الأمر، مثلما قيل، مؤسّسة تحقيقات ثقافية متعلّقة بالأُسَر (العوائل) أو ثقافة الأُسَر، فإنّ هذه من الاقتراحات التي قدّمها بعضهم وهي ممتازة وصحيحة تماماً. يجب العمل على هذه القضايا أكثر. وبالطبع إنّ هذه الأمور كانت ناظرة إلى الأمن الأخلاقيّ للأسرة، ولكنّها جميعاً متعلقة بالمدارس والجامعات.
أربعة ملايين طالب جامعيّ
إنّ تقدّمنا في هذه المجالات التي نحبّها وفي مجمل الشريحة الثقافية والعلميّة للبلد هو، وللإنصاف، تقدّمٌ استثنائيٌّ، فلا ينبغي أن نشكّ أبداً بقدراتنا. إنّ هذا ظاهرٌ للعيان. لقد كان لدينا مع بداية الثورة، نحو 170000 طالب جامعيّ، ولدينا اليوم أكثر من 4 ملايين. لقد كان لدينا في ذاك الزمان 5000 عضو في الهيئة التعليميّة. وما زلت أذكر- أنا العبد - كم كان رقم خمسة آلاف يتكرّر حينها. وكانوا يدعون بعض الأعضاء يذهبون، وهم معدودون، وكان يُقال: أيّها السيّد لقد نقصنا واحد أو عشرة! أما اليوم فإنّ أعضاء هيئتنا التعليميّة أكثر بكثير من ذلك. لحسن الحظّ، لدينا اليوم عشرات الآلاف من أعضاء الهيئة التعليميّة. لدينا اليوم 200 جامعة في جميع أنحاء البلد، و2000 كلّيّة ومركز للتعليم العالي على مستوى البلد. وهذه الأمور ليست بالشيء القليل. لقد حقّقنا ذلك كلّه في ظروفٍ عسيرة. فذاك الحظر الذي يُقال اليوم إنّه سيشتدّ أو إنّه سيتشدِّد بنحو مستمرّ، كان موجوداً منذ البداية. نحن بالإضافة إلى الحظر، كانت لدينا حرب. وبالإضافة إلى الحظر، كان لدينا في المراحل المختلفة انخفاض في أسعار النفط، كما أنّ الكثير من المشاكل الداخلية
460
390
في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
فُرضت علينا. وقد كان لدينا فائض سكّانيّ ـ إذ كان عدد سكّاننا مع بداية الثورة 35 مليوناً، والآن ازداد ضعفين ـ ولكن بحمد الله في الوقت الذي كانت جميع هذه القضايا قائمة حقّقنا هذا التقدّم.
الاستعداد والإبداع
وإنّني أقول لكم: إنّ كلّ هذا التطوّر في المجالات العلميّة لم يتحقّق بسعيٍ جماعيّ شامل في نقطة خاصّة. كلّا، ففي العديد من القطاعات التي تقدّمنا فيها، وُجدت مجموعة حريصة ذات استعدادات، حصلت على قدر من الدعم من جهةٍ ما، وفجأة وصلت إلى الذروة. قبل سنواتٍ، جاء مسؤولو إحدى الدول الصديقة ـ لا أريد ذكر اسمها ـ إلى هنا، وقالوا لنا إنّنا قد وضعنا ميزانيّةً محدّدة لموضوع خاصّ ـ مثلاً للتكنولوجيا الحيّة ـ وقد جنّدنا البلد كلّه لهذه القضيّة. نحن لم نقم بمثل هذا الأمر، وإنَّ ما حدث كان نتيجة الاستعداد والاندفاع والرغبة الموجودة عند مجموعات مختلفة، فأكثر هذه الأمور قد ظهر ونما كالورود في أحواضها، ولم يحدث أن تجنّدت الدولة بكاملها لنحصل على الخلايا الجذعية على سبيل المثال. كلّا، كان هناك مجموعة من الشباب من أصحاب الاستعدادات والاهتمام تابعوا قضيّة الخلايا الجذعيّة، وحصلوا على دعمٍ محدود من زاوية ما، وفجأة لاحظتم كيف أصبحوا من المميّزين في العالم. وهذا ما جرى فيما يتعلّق بتقنية النانو، وغيرها من الأبحاث المختلفة. فكلّ هذه الأبحاث المتعلّقة بالصواريخ، سواء الصواريخ الفضائية أم الأقمار الاصطناعيّة أم الصواريخ العسكرية، كلّ هذه الأعمال قد بدأت انطلاقاً من الشوق والميل والرّغبة من قبل مجموعة، وبعد ذلك شاهد الجميع نتائجها. أريد القول إنّ الاستعداد والاقتدار على مستوى البلد لا نهاية له. ونحن نستطيع أن نتقدّم أكثر من ذلك بكثير.
المرتبة السادسة عشر عالمياً
أمّا على مستوى العالم اليوم، فإنّ إيران قد حلّت في المرتبة الـ 16 علميّاً، فهل هناك من يصدّق ذلك؟ هذا ما تعلنه المراكز الإحصائيّة المعتبرة على مستوى العالم. وفي نفس الوقت، يتوقّع أحد المراكز أن تصل إيران عام 2018م. إلى المرتبة الرابعة علميّاً على مستوى العالم. هكذا هي إمكانات البلد وقدراته. إنّ حصّة إيران في إنتاج العلم اليوم هي 2% على مستوى العالم، أي ضعفا ما يمكن لإيران أن تحقّقه في الأيام الطبيعية، وما يجب عليها أن تحوزه من حصّة في مجال هذا الإنتاج العلميّ. إنّ كل هذه أمورٌ مميّزة ومهمّة.
461
391
في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
مضاعفة الأمل والعمل
بناءً عليه، يجب علينا أن نضاعف الأمل. هذا ما أريد أن أقوله. إنّ علينا القيام بالكثير من الأعمال على مستوى الحكومة، وعلى مستوى المسؤولين رفيعي المستوى. ولكن أساس القضيّة هو أن تقوموا أنتم بتنمية الأمل بالتحرّك عند الشباب، والذين يستمعون إليكم في الصفوف الدّراسيّة، سواء على مستوى التربية والتعليم أم في الجامعات. فهذا سيكون كالرصاصة وسوف يتقدّم. فلو حصل مثل هذا الأمر، ستكون استفادة البلاد منه قصوى. فلنسعَ لإيجاد النشاط والأمل والتفاؤل. توجد مخاطر على طريق الشباب، وأحدها اليأس الذي يجب اجتنابه بشدّة.
بالطبع، توجد في هذه المحافظة مشاكل على مستوى التربية والتعليم من ناحية الإمكانات، وكذلك فيما يتعلّق بالجامعات. وقد قُدّمت لي التقارير أيضاً، وبيّن أعزّاؤنا في لقائنا هذا جانباً منها. وأملنا إن شاء الله أن تزول هذه المشكلات. بالطبع، نحن سننقل هذا الأمر إلى المسؤولين. فالأعمال الإجرائية وأمثالها ترتبط بالمسؤوليات الخاصّة ولا ينبغي إحداث أيّ نوع من التداخل فيما بينها. بالطبع، نحن سنؤكّد ونؤيّد وننقل ونطلب منهم أن ينجزوا هذه الأمور بالمقدار الذي تسمح لهم به إمكاناتهم.
تجنّبوا العرفان الكاذب
راقبوا في هذا السياق أيضاً ما يتداول من أنواع العرفان الكاذب في بيئة الشباب، فمثل هؤلاء يتسلّلون إلى الجامعات خصوصاً. إنّ أحد البرامج هو أن يتسلّل كلّ هذا العرفان الكاذب إلى داخل الجامعات، وهو من الأشياء التي تتسبّب بالشلل. فلو أنّ شخصاً أصبح أسيراً وابتُلي بهذه المنسوجات الفاقدة للأصل والأساس من هذا العرفان الكاذب ـ والتي تأتي في الأغلب من مناطق خارج البلد ـ فإنّها في الواقع ستشلّه. إنّ المعيار الذي نتبعه في حركتنا نحو السموّ المعنويّ، والتقرّب إلى الله هو التقوى والنّزاهة والورع. فشبابنا ـ سواء بناتنا أم أبناؤنا ـ لو كانوا منزّهين وأتقياء وسعوا للابتعاد عن المعصية، وأدّوا الصلاة بتوجّهٍ واهتمام وفي وقتها، ولم يقطعوا أنسهم بالقرآن، فإنّهم لن يصبحوا أسرى هذا العرفان الكاذب.
القرآن مبعث الفتوحات المعنويّة
إنّني أوصي شبابنا في الغالب بشأن القرآن. فاسعوا أن لا تقطعوا رابطتكم بالقرآن، اقرأوا كلّ يوم ولو نصف صفحة. فكلّ ذلك مقرّبٌ للإنسان ويوجد الصفاء الرّوحيّ والفتوحات المعنويّة. وتلك الطمأنينة والصبر والسكينة التي يحتاجها الإنسان ـ
462
392
في لقاء المعلّمين وأساتذة جامعات خراسان الشمالية
حيث ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾1. إنّ هذه النّعمة التي يفتحها الله تعالى على المؤمنين، إنّما تحصل بما ذكرنا، فيجب السعي بالدرجة الأولى لأجل الابتعاد عن المعاصي.
البداية، تجنّب المعاصي
وعندما نقول الابتعاد عن المعاصي، لا يعني أنّ علينا في البداية أن نترك جميع المعاصي بشكل تامّ حتّى نتمكّن من الانتقال إلى المرحلة الثانية، كلّا، فإنّ هذه الأمور متلازمة فيما بينها. يجب أن نبذل الهمم والمساعي حتّى لا تصدر عنّا المعاصي، والتقوى هي بهذا المعنى. الالتزام بالتوجّه في الصلاة وفي تلاوة القرآن وأمثالها، هي الأمور التي تمنحنا المعنويات والروحانيّات وصفاء الروح، هي التي تمنحنا الطمأنينة والسكينة المطلوبة. ولا حاجة للذّهاب إلى بيوت العرفان الكاذب والماديّ والمتوهّم والتخيّلي الذي لا يوجد وراءه أيّة واقعيّة. فليلتفت الجامعيّون وشباب الثانويّات إلى هذه الأبعاد للدين والتديّن، واجعلوا التديّن عنصراً أساسيّاً لمخاطبيكم، واعلموا إن شاء الله أنّ الله تعالى سيعينكم.
حسنٌ، لقد انتهى الوقت. أملنا بإذن الله تعالى هو أن يجعل كلّ ما قلنا وسمعنا مفيداً لنا، ويشملنا بتوفيقاته وإيّاكم لنتمكّن إن شاء الله من العمل بتكليفنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- الفتح، 26.
463
393
في لقاء مسؤولي وعناصر الوحدات العسكريّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء مسؤولي وعناصر الوحدات العسكريّة
المناسبة: زيارة مقرّ القوّات المسلّحة في محافظة خراسان الشمالية.
الحضور: مسؤولو وعناصر الوحدات العسكريّة في المحافظة.
الزمان: 12/10/2012م.
465
394
في لقاء مسؤولي وعناصر الوحدات العسكريّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والحمد الله ربّ العالمين، والصلاة على رسول الله وعلى آله الأطيبين الأطهار.
لقد قدّمتم برنامجاً معنوياً رائعاً جدّاً أيّها الشّباب الأعزّاء. عندما تحضر قلوب الشباب الطاهرة والمبهجة في أيّ مجالٍ من المجالات ـ سواء المعنوية أم الدنيويّة ـ فإنّها تملأ الأجواء بالمعنويّات والحماس والزخم المعنويّ. وقد كانت تلاوة عزيزنا الشاب ممتازة أيضاً1. إنّنا نشكر الله على الحضور بينكم أيّها الأعزّاء والشباب من الجيش والحرس والقوّة الأمنية والتعبئة في هذه المنطقة المهمّة والحسّاسة لبلدنا.
أساس المنعة والأمن
إنّ مسؤولية القوّات المسلّحة في هذه المنطقة، كما في سائر مناطق البلد، هي مسؤولية خطرة ومصيريّة. إنّ القوّات المسلّحة المقتدرة والمنظّمة والمدرّبة، في كلّ بلدٍ، وبين أيّ شعبٍ، هي أساس شعور ذاك الشعب بالأمن، من جهة، وأساس المنعة والأمن مقابل أيّ أجنبيّ، يحمله هوسه العدوانيّ على التطاول على هذا وذاك، من جهة أخرى. عندما يبرز أيّ شعبٍ قبضاته الفولاذيّة، وأذرعه المقتدرة بوجه الآخرين، في لباس القوّات المسلّحة، فإنّ وهم وتصوّر التطاول على مثل هذا البلد يضعف، ويدفع العدوّ لإعادة حساباته.
مصانع الأسلحة
أيّها الشباب الأعزّاء، اعلموا، وأنتم تعلمون، أنّ عمل ومصلحة المتسلّطين والمعتدين في هذا العالم هو في إشعال الحروب. إنّ إشعال الحروب هو من الأعمال التي عُرفت على مرّ التاريخ، واعتُمدت من قبل المقتدرين والمتسلّطين والمعتدين على حدود الشعوب الأخرى. وفي عصرنا هذا ـ وهو عصر تقدّم الحضارة المادّية المعاصرة ـ ولأجل بيع الأسلحة وازدهار الصّناعات التابعة للرأسماليين، ازداد هذا الدافع وقوي. فالمقتدرون - سواء أكانو سياسين أو رأسماليين - الذين يديرون مصانع الأسلحة في العالم، يفكّرون بافتعال الحروب والاضطرابات، وفرض الأزمات على
1- إشارة إلى الآيات القرآنية الافتتاحية التي تلاها أحد المجاهدين المشاركين في المراسم.
467
395
في لقاء مسؤولي وعناصر الوحدات العسكريّة
الشعوب والدّول. والشيء الذي يمكن أن يُضعف أو يزيل هذا الدافع قبل ظهوره وبروزه، هو جهوزيّة الشعوب، حيث إنّ هذه الجهوزيّة تتأمّن على نحو الاستعداد العام للشعب، وأيضاً في إطار القوّات المسلّحة.
يشعر شعبنا العزيز اليوم، ولله الحمد، في كلّ أنحاء البلاد، من الشباب وغيرهم، بالجهوزيّة للدفاع عن بلدهم. إنّهم يشعرون بالجهوزيّة من أجل تقدّم البلد. إنّ قوّاتنا المسلّحة أيضاً، والتي تقف في الصفوف الأماميّة للدفاع، هي اليوم وبحمد الله أكثر استعداداً واقتداراً من كلّ العصور الماضية.
الروحيّة والاقتدار العسكريّ
أعزّائي، إنّ أمير المؤمنين عليه السلام، قد عدّ القوّات المسلّحة حصون الرّعية، أي القلاع والحصون التي تمنح الطمأنينة للشعوب، لكنّه قال: "الجنود بإذن الله حصون الرّعية"1، بإذن الله.
إنّ ما هو مصيريٌّ وحاسم في النتيجة هو الإرادة الإلهيّة. فكلّما ازدادت نفوس القوّات المسلّحة وقلوبها وأرواحها الطاهرة أنساً بذكر الله والمعنويّات، تزداد قدراتها، وكذلك قوّة ردعها. انظروا في الحروب الأخيرة في هذه المنطقة، في حرب الـ 33 يوماً، وفي حرب الـ 20 يوماً في غزّة، كيف انتصرت جماعات صغيرة على جيوشٍ هي بالظاهر مقتدرة، كانت تنعت نفسها بالقدرة جزافاً وتبجحاً، فهؤلاء لم يكونوا يعرفون الله، وكانوا محض ماديّين. أمّا أولئك، فقد كانوا روحانيين مرتبطين بالله. إنّ جبهاتنا أيضاً كانت أفضل شاهدٍ على أفضليّة التوجّهات المعنويّة عند الشباب. ففي خنادقنا وفي خطوطنا الدّفاعيّة، وفي ليالي عمليّات الهجوم وحملاتنا العسكريّة، كانت حالات المناجاة عند المجاهدين من القضايا التي لم يكن لها نظيرٌ في تاريخنا، وسوف تبقى على مرّ التاريخ. فليصنع المسؤولون المحترمون للقوّات المسلّحة من هؤلاء الشباب الأعزّاء جنوداً مستعدّين للعمل، ومهيّئين للدفاع عن كرامة الشعب وهويّته الوطنيّة وحدود بلده، وحدوده الاعتقاديّة. إنّ شعب إيران اليوم يشعر بالقدرة في مواجهة أعدائه. وهذا الشعور بالقدرة ليس شعوراً كاذباً، بل هو شعورٌ واقعيّ يستند إلى الوقائع. وهذا ما يعرفه أعداؤنا.
1- نهج البلاغة، رسالة 53.
468
396
في لقاء مسؤولي وعناصر الوحدات العسكريّة
لن نتراجع، ولن نعتدي
إنّنا باتّباع تعاليم الإسلام، لسنا من أهل العدوان والتعرّض لهذا وذاك، ولكنّنا لسنا ممّن يتنازل ويتراجع أمام أيّ معتدٍ. إنّ ما لدى شعب إيران والقوّات المسلّحة من الجهوزيّة يمنع وهم الأعداء وخيالهم أن يسرح إلى التفكير بالاعتداء، فباستعدادهما وبروحيّة الحضور المستمرّ والجهوزيّة التامّة حقّقوا ما حقّقوا من الهيبة في قلب العدوّ، بحيث ترون أنّ ما يصدر من تصريحاتعن هذا العدوّ في العالم اليوم يُحمل على الجُزاف والاعتباطية. يجب الحفاظ على هذه الجهوزيّة وتقويتها يوماً بعد يوم. إن كلّ حركةٍ من حركاتكم من أجل كسب القدرة والمعنويّات والانتظام في القوّات المسلّحة هي حسنةٌ عند الله تعالى.
إنّ هذه المنطقة هي منطقة الرجال الأبطال، الذين ما زالت ذكراهم حيّةً في ذاكرة الرّجال المقاتلين، من ذوي السوابق في ميادين القتال.
أسأل الله تعالى لكم أيّها الأعزّاء النجاحات من مقام العظمة والكرم الإلهيّ، ونطلب لكم توفيق الخدمة والعاقبة الحسنة من الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
469
397
في لقاء عوائل الشهداء والمضحّين في محافظة خراسان الشماليّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء عوائل الشهداء والمضحّين في محافظة خراسان الشماليّة
المناسبة: زيارة محافظة خراسان الشماليّة.
الحضور: عوائل الشهداء والجرحى والمضحّون.
المكان: بجنورد - خراسان الشمالية.
الزمان: 13/10/2012م.
471
398
في لقاء عوائل الشهداء والمضحّين في محافظة خراسان الشماليّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين.
إنّ مجلسنا اليوم هو مجلسٌ عابقٌ بالنورانيّة والمعنويّات. وإلى جانب ما يبثّه هذا الجمع العزيز لعوائل الشهداء، من الآباء والأمّهات والزوجات والأبناء وأقارب الشهداء الآخرين - كلّما اجتمع - من روحيّة الثورة ونشاط الجهاد والصمود في الأجواء، وهو ما يحصل في جميع الاجتماعات التي نلتقي فيها بعوائل الشهداء الأعزّاء، فإنّ لقاءنا هذا اليوم، وحتّى هذه اللحظة كان لقاءً مليئاً بالمغزى والمضمون. فالكلمات التي أُلقيت، والأشعار التي تُليت كانت ذات نُكاتٍ عميقة ومهمّة. وقد استمعت - أنا العبد - بدقّة، ووجدت فيما ذكره الأعزاء من منظارٍ ناقد مطالب مهمّة جدّاً، استحوذ بعضها على ذهني وقلبي - أنا الحقير- وأسرهما.
شهيد الوحدة
بدايةً، نذكر جملةً بشأن شهداء هذه المحافظة الأعزّاء. لقد كان لي - أنا العبد - معرفةٌ عن قرب ببعض هؤلاء الشهداء، وقد تعرّفت إلى الكثيرين منهم من خلال سيرة حياتهم والرّوايات التي ذُكرت حولها. فمحافظتكم من هذه الجهة، هي من المحافظات المميّزة. فرغم المسافة البعيدة التي تفصل هذه المحافظة عن منطقة الحرب والقتال، إلا أنّ شبابها، ومنذ الأيّام الأولى لانتصار الثورة، التحقوا بميادين الجهاد في سبيل الله. وبعد عصر الاستشهاد1، لم يتوقّف مسلسل الجهاد في سبيل الله الذي ينتهي إلى الشهادة في سبيله. فالشهيد العزيز الأخير في هذه المنطقة، أي الشهيد رجب علي محمد زاده2، قد نال من الله تعالى أجر الجهاد أيّام الدفاع المقدّس، والصمود في الميادين الصعبة في السنوات اللاحقة، وختم الله تعالى ملفّ حياته، فكان شهيد الخدمة وشهيد الوحدة3. إنّ هذه هي قيَم منطقةٍ يقطنها أناسٌ مؤمنون، إنّ هذه هي قيم محافظةٍ ومدينة.
1- المقصود هنا: توقف الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية عام 1988م، وعدم توفق كثيرين للشهادة في سبيل الله، ممن التحقوا بركب الجهاد، وولوّا وجوههم شطر الجبهة.
2- قائد الحرس في منطقة سيستان وبلوشستان، استشهد عام 2009 م. على يد التكفيرين بهجوم انتحاري في منطقة "بيشين" أثناء حضوره جلسة وجهاء ومشايخ المنطقة ذات الغالبية السنية. وأدّى التفجير إلى استشهاد وجرح العشرات من الحاضرين، ومنهم عدد من المسؤولين.
3- أطلق القائد على الشهيد رجب علي "شهيد الخدمة" لخدماته الكثيرة في الجبهة، "وشهيد الوحدة" لجهوده الكبيرة في التأليف والتقريب بين أهل تلك المنطقة المتعددة المذاهب.
473
399
في لقاء عوائل الشهداء والمضحّين في محافظة خراسان الشماليّة
محبّتي لعوائل الشهداء والجرحى
يجب تقديم الاحترام لمجموع العوائل المضحّية في هذه المحافظة، وعوائل الشهداء، وأعزّائنا الجرحى الذين لم يفقدوا عزمهم وصمودهم وإيمانهم الرّاسخ، وتحمّلوا مشاكل الإعاقة طيلة هذه السنوات المتمادية وصمدوا وما زالوا صامدين. أنا العبد، أرى من الضروريّ، بالإضافة إلى الإعراب عن محبّتي ووفائي لآباء وأمّهات وزوجات وأبناء الشهداء الأعزّاء، أن أعرب عن محبّتي للعوائل العزيزة للجرحى وزوجاتهم اللاتي يتحمّلن كل أعبائهم. وهذه التضحيات هي في ديوان القيم الإلهية من أفضلها وأعلاها. إنّها تحفظ حياة أيّ مجتمعٍ أو أيّ شعبٍ في أعلى مستوى وتجعلها مهيئة لبناء الذات.
نحن على مائدة الشهداء
إخواني وأعزائي، فيما يتعلق بعالم شهدائنا الأعزاء لديّ - أنا العبد الحقير- اعتقاد قويّ وعميق بمسألة، وهي أنّنا اليوم جميعاً نجلس على مائدة الشهداء. فبقاء هذه الثورة، إنّما كان بدماء الشهداء. وهذه من النقاط التي استند إليها أعزّاؤنا الذين تحدّثوا وأنشدوا الشعر هنا. أجل، هذا صحيحٌ. الشهادة هي التي توقِّع على ثبات وبقاء واستمرار القيم. إنّ أعظم أجرٍ يُعطى للشهيد في هذا العالم هو بقاء ورسوخ تلك الحقيقة التي ضحّى هذا الشهيد بنفسه من أجلها، والله تعالى يحفظ هذه الحقيقة ببركة دمه. والآلية المنطقية والعقلائية لهذا الأمر واضحة أيضاً. فعندما يبذل أيّ مجتمع من روحه ووجوده وراحته من أجل قيمةٍ وحقيقة ما، فإنّه يثبت حقّانيّتها في العالم. وحقانيتها أنّها تبقى، فالحقّ هو الذي يبقى، هذه هي السنّة الإلهيّة.
الخالصون من علائق الدنيا
إنّ شهداءنا الأعزّاء وجرحانا هم أشخاصٌ قطعوا علاقتهم القلبيّة بكلّ رغباتهم الشخصيّة. إنّ هذا أمرٌ سهلٌ على اللسان. ولم يكن هذا القطع للعلاقة بالمال فقط، بل بالعواطف أيضاً. فالشهيد ينقطع بقلبه عن عاطفة الأمّ وظلّ الأب، وضحكة الطفل، وعشق الزوجة، ويتحرّك نحو أداء التكليف. وهؤلاء المعوّقون هم شهداء أيضاً، والمضحّون1 في أيّ جمعٍ من جموع المضحّين، كانوا قد وضعوا أقدامهم في وادي الشهادة. وقد اختار الله تعالى مجموعة فرحلت، ومجموعة بقيت للامتحانات اللاحقة، لكنّ رتبة الشهيد ومرتبة الشهادة موجودةٌ عند المضحّين. وأضيف نقطة
1- مصطلح يطلق على كل من ذهب إلى الجبهة قاصداً الدفاع عن الإسلام وجاهد ولم يستشهد.
474
400
في لقاء عوائل الشهداء والمضحّين في محافظة خراسان الشماليّة
أخرى أيضاً، على ما بيّنه أعزّاؤنا هنا، قيل: "إنّ أولئك الذين التحقوا بميادين جبهات الجنوب والغرب في عصر الجهاد المقدّس، والدفاع المقدّس، وحملوا أرواحهم على أكفّهم، وقد انتهت تلك المرحلة، ينقسمون إلى ثلاث فئات، منهم من ندم على ماضيه، ومنهم من أصبح غير مبالٍ، ومنهم من بقي على عهده. والذين بقوا على العهد، يجب أن يموتوا بحسرتهم". وأنا لا أؤيّد الجملة الأخيرة. فالذين بقوا على العهد سوف يشهدون إثمار هذه الغرسة واستحكام هذه الشجرة، فإنّ هذا البناء العظيم والشامخ، وهذه الحركة العظيمة لن يهتزّا بتراجع بعض الأشخاص، فهذه القافلة لن تتوقّف أبداً، ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾1، وهذا ما قاله الله تعالى في القرآن لمسلمي صدر الإسلام، لأولئك الذين جاهدوا وقاتلوا في ركاب النبيّ وضحّوا بأنفسهم، فالقرآن يبيّن لهم هذه الحقيقة في الواقع.
حفظ القلوب من التزلزل
يجب حفظ القلوب، فبعض القلوب يتزلزل ويزلّ، ولا يستطيع أن يحفظ نفسه على تلك الحافة العالية ومواصلة المسير، لهذا فهو يسقط. لذلك يعبّر القرآن عنهم بقوله، ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾2. والارتداد لا يعني دائماً التّراجع عن الدّين والإعراض عنه، بل يعني التّراجع عن ذاك الطريق الذي كانوا يسيرون عليه في الماضي. أجل، كان هناك جماعة في ثورتنا، وكان هناك جماعة في صدر الإسلام، ولم يستمرّوا على الطريق الذي سلكوه مع النبيّ، ولكن هل توقّف الطريق؟! وهل يتوقّف؟ وهل تقف القافلة في مكانها؟ إنّ القافلة تتحرّك، ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾3. وهناك أناسٌ يبعثون الإيناع والاخضرار (في شجرة الثورة) وأحد هذه البراعم والنماءات هو أنتم أيّها الشباب، أنتم الذين لم تشهدوا الحرب ولم تشاركوا فيها، ولم تشاهدوا الإمام. لكن اليوم، كلّ دولتنا الإسلاميّة والثوريّة طافحة بروحيّة الصمود والثبات، والافتخار والشعور بالعزّة.
في يومٍ من الأيّام كانت الفرق العسكرية من منطقتكم ـ خراسان الشمالية ـ تخترق الخطوط في الجبهات، وأنتم اليوم تقتحمون الخطوط. إنّ صمودكم اليوم بوجه جشع واعتداء القوى المتسلّطة في العالم هو اقتحامٌ للخطوط. إنّ شعب إيران اليوم اقتحم الخطوط. إذا ما قارنتم الثورات التي انتصرت في هذه المنطقة في إطار الصحوة
1- المائدة، 54.
2- المائدة، 54.
3- المائدة، 54.
475
401
في لقاء عوائل الشهداء والمضحّين في محافظة خراسان الشماليّة
الإسلاميّة ـ ونحن بالطبع نقدّر ونحترم كلّ هذه الثورات ـ مع الجمهوريّة الإسلاميّة والنظام الإسلاميّ، والثورة الإسلامية، فهل تجدون مثل صمود واقتدار الشعب الإيرانيّ وثقته بنفسه في أيّ مكان آخر؟ هذا هو اقتحام الخطوط (السدود).
لقد اعتاد مقتدرو العالم والمتسلّطون فيه، على أن يتحدّثوا نيابةً عن جميع شعوب العالم من أجل تأمين مصالحهم الحقيرة، مصالح رأسمالييهم، واعتادوا أن يتدخّلوا في جميع شؤون الدّول، من أجل إرضاء جشعهم واستكبارهم. قد تئنّ الشعوب أو تصرخ، ولكن من الذي يمكنه أن يقف بوجه ترهيب القوى؟ فأيّ شعبٍ، غير شعب إيران، يمكن أن يظهر بالمنطق والاستدلال المحكمين أنّه يقف مقابل جشع الاستكبار؟ ومهما فعل الآخرون فهم أقلّ رتبة من شعب إيران. وليتقدّموا بإذن الله علينا ـ فلا اعتراض لدينا ـ فما أجمل أن تتقدّم الشعوب المسلمة والشعوب الأخرى علينا، لكنّ هذا ليس واقع القضيّة. إنّ شعب إيران اليوم هو في الطليعة، وهو يقتحم الخطوط.
الشباب بشارة اليوم
إنّ شبابنا لم يكونوا موجودين في ذلك اليوم، ولكنّهم موجودون اليوم، وهذه بشارة. فليعتمد أهل الفكر وأهل النظر والرأي على هذه الظاهرة المذهلة. ففي نظام الجمهورية الإسلاميّة، وبالرّغم من كل هذه الانحرافات التي تظهر هنا وهناك، فإنّ هذا الوعي وهذا الصمود وهذا العزم الرّاسخ بين شبابنا، إذا لم يكن أكثر منه أيّام الدّفاع المقدّس، فإنّه حتماً ليس بأقلّ.
شجرة تورق أكثر ممّا تُسقِط
كيف يمكن لشجرة أيّ شعب أن تورق أكثر ممّا تٌسقِط؟ توجد سقطات، هناك من يتراجع عن الطريق، هناك من يشعر بالتّعب، هناك من يشكّ بماضيه، هناك من يخرج عن الطريق ببسمة الأعداء وخداع المكّارين، لكن في المقابل، في مجتمعنا هناك رجالٌ ونساء شجعان، وأهل بصيرة ومعرفة بحقائق الزّمان، ويشرفون على الكثير من القضايا السياسيّة المختلفة التي لم تكن مطروحةً أو موجودة في ذلك الزمان. وكلّ هؤلاء ثمار وبراعم جديدة. هكذا هو وضعنا اليوم، هناك مجموعة تنظر إلى الظواهر وتحكم بصورة خاطئة. يتصوّرون أنّ الشباب قد ارتدّوا عن الدين. كلّا، إنّ الشباب
476
402
في لقاء عوائل الشهداء والمضحّين في محافظة خراسان الشماليّة
يحبّون هذا الطريق، ويحبّون الشيء الراسخ في القلوب، وهذا حال أكثر شباب هذا البلد وهو بفضل بركة دماء الشهداء، وببركة تضحيات أعزّائكم وشبابكم1.
لقد ربّيتم شبابكم وتعبتم وقدّمتموهم باقة من الورود لهذا المجتمع، وها قد رحلوا وصاروا شهداء في سبيل الله. يجب على كلّ شعب إيران أن يكون شاكراً لكم، على الجميع أن يعظّموا ذكر الشهداء. يجب على أبناء الشهداء أن يفتخروا بآبائهم. يجب على أبناء الشهداء أن يسلِّموا طريق آبائهم وتراثهم إلى الأجيال اللاحقة. إنّ شعب إيران يفتخر بشهدائه. إنّنا بكلّ محبّة ووفاء نفتخر بعوائل الشهداء، ونعتقد أنّ الشهداء ساروا على الخطّ الأماميّ، وخلفهم مباشرةً سار آباؤهم وأمّهاتهم وزوجاتهم، الذين صمدوا وضحّوا. واليوم صارت حركة شعبنا الثوريّة العظيمة ببركة هذا الفداء ثابتة، وإن شاء الله ستزداد ثباتاً واستحكاماً يوماً بعد يوم.
نسأل الله تعالى أن ينزل رحمته وبركاته وفضله على شهدائنا الأعزّاء وعوائلهم، وعلى جرحانا الأعزّاء وعوائلهم، وعلى الأسرى المحرّرين وكلّ المضحّين، وأن يرضي عنكم القلب المقدّس لوليّ العصر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- انطلاق صيحات التكبير والدعاء لحفظ القائد.
477
403
في لقاء أهالي أسفراين
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء أهالي أسفراين
المناسبة: زيارة مدينة أسفراين.
الحضور: حشود من أهالي المدينة.
الزمان: 13/10/2012 م.
479
404
في لقاء أهالي أسفراين
ِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد الله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديّين المعصومين المكرّمين، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين.
إنّني مسرورٌ جدّاً لهذا التوفيق للقائي بكم في هذا السّفر، أيّها الأعزّاء، يا أهالي مدينة أسفراين1 العريقة. جوهر القضيّة هو اللقاء بكم، والإعراب عن المحبّة والوفاء لكم، والتّقدير لحضوركم الحماسيّ طيلة سنوات الثورة. بالطبع، ينبغي لهذه اللقاءات والأسفار أن تتمكّن، بحول الله وقوّته، من القضاء على بعض المشكلات الأساسيّة في هذه المناطق بهمّة المسؤولين. هناك مشاكل، وبتوفيق الله توجد أيضا همّةٌ وإرادةٌ للإصلاح. فالاستعداد للتقدّم والإصلاح بحمد الله موجودٌ.
دار القرآن
فيما يتعلّق بهذه المدينة التاريخيّة والعريقة، من الجيّد أن يحضر في أذهاننا، وبالأخصّ في أذهان شباب هذه المدينة الأعزاء، أنّ هذه المدينة كانت وعلى مرّ التاريخ منبتاً عظيماً للعلم والثقافة والسياسة المتنوّعة. فعلى امتداد التاريخ، خرج من هذه المدينة، أدباءٌ وشعراء وفقهاء وأصحاب فكرٍ، واسم الأسفرايني يتكرّر بين عظماء تاريخنا. واليوم، فإنّ مدينة أسفراين، بما تمتلكه من إمكانات طبيعيّة وبشرية، يمكنها أن تكون مهد العظماء والمفكّرين الذين تفخر بهم البلاد، ويكون مستقبلها بيد تدبيرهم وفكرهم. أنتم يا شباب هذه المدينة الأعزّاء - فتية وفتيات، وفي أيّ مجالٍ من مجالات العمل أو الدّراسة كنتم - يجب أن تنظروا إلى المستقبل وتتفاءلوا به، وبهذه الذخيرة الإنسانيّة وبهذا الميراث العريق، فإنّ هذا المستقبل هو مستقبلٌ ممكنٌ ومتاح لهذه المدينة.
لقد عُرف أهالي قضاء أسفراين بالشجاعة والنجابة. وإنّها لمفخرة أخرى، أن تُعرف هذه المدينة اليوم بأنّها مهد تربية حملة القرآن، فقد أدّت الجلسات القرآنية، وتعليم القرآن، وانتشار الفكر القرآني ببركة الجلسات القرآنية في هذه المدينة، إلى أن يطلق أهالي المدينة على هذا المكان اسم "دار القرآن"، وهذه مفخرة كبيرة.
1- تقع مدينة أسفراين جنوب شرق محافظة خراسان الشمالية، بين مدينتي بجنورد وسبزوار، وهي مركز قضاء في المحافظة.
481
405
في لقاء أهالي أسفراين
أسفراين ومواردها الطبيعيّة
بالطبع، لا يمكن مقارنة أسفراين اليوم بأسفراين ما قبل الثورة. كنت قد مكثت في مدينتكم لمدة قصيرة قبل الثورة. وفي العام 1347هـ.ش. (1968م)، حدث زلزال في هذه المنطقة المسمّاة بـ "دهنه اوجاق".
فذهبنا من مشهد إلى "دهنه أوجاق" لإسعاف أهلها، ومررنا على أسفراين. لقد كانت أسفراين حينها عبارة عن قرية كبيرة، لا يمكن مقارنتها بما هي عليه اليوم من عدّة جهات، بالرّغم من أنّ الإمكانات الطبيعيّة في هذا القضاء كانت في تلك الأيّام كما هي عليه اليوم. فهذه المنطقة الزّراعيّة الواعدة، والمياه الوفيرة، والسهول الخصبة على سفوح جبال "شاه جهان" العالية، والمزارع والمراعي الواسعة المعروفة في هذه المنطقة ـ ليس في أسفراين فحسب، بل في المناطق المحيطة أيضاً ـ من بجنورد إلى سبزوار ـ حتى أنّ اسم زيت جبل "شاه جهان" قد ورد في الأمثال الشعبيّة التي لا شك أنّكّم تعرفونها ـ كلّ هذه الإمكانات، كانت في تلك الأيام بيد مجموعة قليلة من أتباع البلاط والأجهزة الملكيّة، وكان الناس في القرى وفي المدينة يرزحون تحت أوضاع مؤسفة.
لا نريد أن نقول إنّ هذه المنطقة اليوم قد تطوّرت بمقدار ما تستحقُّه ـ فإنّ حقّ هذه المنطقة أكبر من هذا بالطبع ـ إلا أنّها تطوّرت بمقدار لافت وملحوظ. فبالإضافة إلى الإمكانات الزراعيّة والحيوانيّة، فقد دخلت الصناعة إلى هذه المنطقة، حيث يوجد فيها مصنعان كبيران من مصانع البلاد المهمّة، وثمَّة مصانع أخرى في أطرافها ومحيطها، وهذا الأمر يبشّر بتقدّم المحافظة وتقدّم هذه المنطقة وهذا القضاء، وإن شاء الله سيكون لها مستقبلٌ أفضل من الناحية المادّية.
ثمّة مشاكل في المجال الزراعي وفيما يتعلّق بالمصانع، إلا أنّ هذه المشكلات يجب أن تُحلّ، إن شاء الله، بهمّة المسؤولين، بالنظر لما تستدعيه هذه الزيارة من اهتمام مسؤولي الدّولة بهذه المنطقة بمختلف مستوياتهم. لا شكّ أنّ المساعي اللازمة سوف تتحقّق في هذا المجال.
سابقاً، لم يكن هناك حتّى تصوّر وأمل بوجود مؤسسات جامعية ومراكز للتعليم العالي في هذه المنطقة. لكن اليوم بحمد الله توجد مراكز جامعيّة. وأنا أقول لكم، إنّ أمر تشييد مراكز للعلوم الجامعيّة لم يكن متصوّراً في الكثير من مناطق البلد، إذ لم يكن الأمر مقتصراً على أسفراين. ولحسن الحظ، لقد تأسّست جامعاتٌ عديدة بمختلف الحقول والفروع العلميّة، وهو ما سأشير إليه أيضاً في النّقاط التي سأعرضها.
482
406
في لقاء أهالي أسفراين
المهم هو الالتفات إلى قضايا البلاد الأساسيّة، الّتي يمكنها أن ترسم توجهات أبناء هذا الشعب والمسؤولين في المستويات المختلفة، وهي التي سترشدنا في أيّ اتّجاه نحن سائرون، وكيف سيكون غدنا، وما ينبغي أن نفعله اليوم حتّى نصل إلى ذلك الغد الأفضل.
لقد ذكرت أمرين لأهالينا الأعزّاء في بجنورد، سوف أفصّل بعض الشيء بشأنهما، وسوف أوسّع البحث لكم يا أهالي هذه المنطقة الأعزّاء. إحدي النقطتين هي ما قلناه من أننا عرفنا محافظة خراسان الشمالية بالحماس والحيوية والنشاط. وقد عرفنا هذه الخاصّيّة لهذه المنطقة منذ القدم، فقد عُرف أهالي هذه المنطقة، التي أطلق عليها اليوم اسم "خراسان الشماليّة"، بحماسهم ونشاطهم وحيوتهم، وبما لديهم من الاستعدادات الروحيّة والجسميّة. إنّ هذا يُعدّ رأسمالاً عظيماً. فخمول أيّ شعبٍ هو العامل الأكبر لتخلّفه. إنّ الحماس والنّشاط والحيويّة في أيّ شعب تشكِّل الأرضيّة الأساسيّة لتقدّمه في جميع المجالات، وهذا الشرط الأساس متوفّر هنا.
هدف العدوّ
هناك نقطتان أو ثلاث يجب أن نتعرّض لها بالنسبة لحيوية الشباب العامّة.
النقطة الأولى تتعلّق بضرورة الحفاظ على هذه الحيوية والنّشاط، فلا ينبغي أن ندع أو نسمح للعوامل والمؤثّرات المختلفة أن تُضعف من هذا النشاط والحماس، أو أن تقضي عليه. ولا شكّ بأنّ الهدف الذي يتطلّع إليه أعداء تقدّم هذا البلد، هو أن يجعلوا شعبنا في حالةٍ من الخمول، أي أن يُطفئوا حماسه ونشاطه، وأن يخمدوا فيه هذه الشّعلة. فلا يجوز الاستسلام لهذه الرغبة المغرضة للأعداء. إنّ هذا السعي الدائم الذي تشاهدونه من قبل مئات المراكز الإذاعيّة والتلفزيونيّة، ومئات مواقع الإنترنت والفضاء الافتراضيّ في مختلف أنحاء العالم، لإلقاء رسالة اليأس والإحباط في أذهان شعبنا، هو من أجل هذا.
فعندما يحلّ اليأس والإحباط يزول النشاط ويخمد الحماس والتحرّك. وإنّ من أهمّ أدوات الدعاية السياسية المختلفة لإمبراطوريّة الإعلام العالميّة الحؤول دون سعي شبابنا وتحرّكه الناشئ من الحيوية، والتطلّعات الهادفة فيه. وفي المقابل، علينا نحن أن نسعى للحفاظ عليها. وباعتقادي - أنا العبد - أنّ ما يمكن أن يزيد من نشاط وحيوية شبابنا هو تعظيم وإحياء ذكرى القادة والشهداء والمجاهدين والجيل السابق من الشباب ـ من أمثالكم ـ الذين جاهدوا بكلّ حماسٍ ونشاط في مختلف الميادين، وفي أعقدها وأكثرها صعوبة.
483
407
في لقاء أهالي أسفراين
مواجهة خطر المخدّرات
إنّ من الأمور الأساسيّة التي يمكن أن تعمل اليوم بشكل مضادّ لهذا التحرّك، والتي للأسف تزداد اتّساعاً بواسطة العصابات السرّيّة، المخدّرات. أعتقد أنّه يجب على الشّباب أنفسهم أن يحاربوا المخدّرات بنفس ذاك الحماس والنشاط اللذين أشرنا إليهما. إنّهم يريدون أن يأسِروا شبابنا، وأن يفرضوا عليهم حالة الخَدَر واللامبالاة والسقوط. فالذي ينبغي أن يقف مقابل هذه المؤامرة بالدرجة الأولى بثباتٍ واستحكام هم الشباب أنفسهم. بالطّبع، هناك مسؤولية على عاتق مسؤولي الدولة والأجهزة المعنيّة، ولكن لا يوجد أيّ عاملٍ يرقى إلى مستوى العامل الداخليّ الذاتيّ لدى الناس في مواجهة ومقاومة مثل هذه الانحرافات، هذه نقطةٌ. وبالتأكيد إنّ حالة الصّمود عند شبابنا في هذه المحافظة يمكن لها أن تحبط مساعي العصابات المهلكة والمضرّة. هذه نقطةٌ ترتبط بهذا النّشاط والحماس. ومع الحفاظ عليها، يجب الالتفات إلى أنّ العدوّ يروم سلب شبابنا شُعلة النّشاط والتحرّك والحيويّة هذه. النقطة الأخرى هي أنّه تجب الاستفادة من هذه الروحيّة لمواجهة هذه القضيّة المهمّة ـ أي الخطر الكبير للمخدّرات ـ فبتلك الروحيّة يجب التصدّي لظاهرة المخدّرات.
التقدّم مسير وهدف
الأمر الآخر، الذي ذكرناه عند لقاء أهالي بجنورد، وقد وصل إلى مسامعكم، هو قضيّة التقدّم. لقد قلنا إنّ الهدف هو التقدّم. والتقدّم يعني الحراك الدّائم. لو دقّقنا لوجدنا أنّ التقدّم طريقٌ ومسير وهدفٌ أيضاً.
نحن نقول إنّ الهدف هو التقدّم، في حين أنّ التقدّم هو عبارة عن التحرّك إلى الأمام. فكيف يمكن أن تكون الحركة نحو الأمام هدفاً؟ وتوضيح ذلك هو أنّ تطوّر الإنسان لا يمكن أن يتوقّف. أي أنّ الله تعالى خلق الإنسان بحيث لا تقف حركته إلى الأمام عند أيّ حدٍّ في الميادين المختلفة. فلا شكّ أنّ التوقّف في أية مرحلة بلغتموها ـ سواء في المراحل المادّيّة أم المعنويّة ـ لا معنى له بالنسبة للإنسان الراغب في التقدُّم. لهذا، فإنّ التقدّم هو طريقٌ وهو هدفٌ أيضاً. ولهذا، ينبغي مواصلة التحرّك والسير دائماً إلى الأمام.
إنّ شعب إيران يمتلك من الاستعداد ما يمكّنه من التطوّر إلى الدّرجة التي يصبح فيها أنموذجاً وقدوةً للعالم، وفي الأبعاد المختلفة. فلماذا نسيء الظنّ بأنفسنا؟ لماذا ننظر نظرة تحقيرٍ إلى أنفسنا وإلى شعبنا وإلى مستقبلنا؟ إنّ العدوّ يريد أن يلقّن شعبنا هذه الأمور، وقد فعل ذلك على مدى سنين طويلة. لقد عملوا على ترسيخ الاعتقاد بأنّ العنصر الغربيّ هو التقدّميّ ويجب أن نتحرّك خلفه. كلّا، لقد كان تاريخنا في يومٍ من
484
408
في لقاء أهالي أسفراين
الأيّام يظهر عكس ذلك. لقد كنّا نحن المتقدّمين في العالم على صعيد العلم والصّناعة والحضارة والثّقافة، وكان الآخرون يتعلّمون منّا، فلماذا لا يصبح الأمر اليوم كذلك؟ يجب أن تصبح همّة شبابنا ونظرتهم إلى قضيّة التطوّر على هذا النحو، بحيث نتطلّع إلى ذاك المستقبل.
مقولة التقدّم
لقد ذكرت قبل مدّة هذه القضية للشباب الجامعيين وللنّخب: يجب أن تنصبّ هممكم على أن نصل في العالم إلى مستويً لو أراد شخص الاطّلاع على الجديد العلميّ لاضطر إلى إتقان اللغة الفارسية. فليأخذ شبابنا هذا المستقبل على أنّه مستقبل حتميّ وقطعيّ، وليسعوا وليعملوا من أجله. وعلى نخبنا، السياسيّين منهم والعلميين والثقافيين، أن يتحرّكوا بهذه النظرة إلى المستقبل، وأن يعملوا ويخطّطوا، وأن لا يكتفوا بأيّ حدّ. هذه هي مقولة التقدّم.
مؤشّر الثقة بالنفس
حسنٌ، للتقدّم مؤشّرات وخصائص. وأحدها، بالنسبة لأيّ شعبٍ، هو العزّة الوطنيّة والثقة بالذات الوطنيّة. ما أدَّعيه هو أنّ شعبنا بلحاظ هذا المؤشِّر قد حقّق الكثير من التقدّم. إنّ شعبنا اليوم يتمتّع بالثقة بالنفس في ميدان السياسة الدولية. وعندما تلاحظون مسؤولي الدولة يتحدّثون بكامل الثقة بالنفس في مواجهة القضايا العالميّة، فإنّ هذا ناشئٌ من شعور شعبنا بالعزّة والثقة بالنّفس. لقد منحنا الإسلام هذه الثقة بالنّفس. وكلّما ازدادت معرفتنا بالإسلام وأحكام القرآن ومعارفه كلّما زادت الثقة بالنفس هذه.
إنّ مقولة العزّة الوطنيّة والثقة بالنفس الوطنيّة ملموسة بشكل كامل. أصبح لإيران اليوم كلمتها في الميادين العالميّة، سواء أكان في المسابقات العلميّة الدوليّة أم في المنافسات السياسيّة الدولية، ومسؤولو البلاد يقفون في الميادين العالميّة والساحات الدوليّة، ويتقدّمون بمشاريعهم ويطرحون مواقفهم اعتماداً على صمود الشعب. هذا أحد المؤشرات.
مؤشّر العدالة
المؤشّر الآخر للتطوّر هو العدالة. فإذا ما تقدَّم بلد في العلم والتكنولوجيا والمظاهر المادّيّة الأخرى، وبقي مفتقراً للعدالة الاجتماعيّة، فهذا، برأينا وحسب منطق الإسلام، ليس بتقدّم. في الوقت الراهن، ثمّة تقدّم علميّ في الكثير من البلدان،
485
409
في لقاء أهالي أسفراين
الصناعة متطوّرة، وأساليب الحياة المختلفة متطوّرة، لكنّ الهوّة الطبقيّة ازدادت عمقاً واتّساعاً، فهذا ليس تقدُّماً، إنّه تطوّر سطحيٌّ وظاهريٌّ عابر1. عندما تستأثر جماعة محدودة بأكثر الامتيازات المادّيّة في دولةٍ ما، ويموت الناس في الشوارع في هذه الدولة نفسها من البرد أو الحرّ، يتبيّن كم أنّ العدالة فيها غير واضحة وغير عمليّة. نقرأ في الأخبار العالميّة أنّ هناك أشخاصاً يموتون من حرّ الصيف في مدن الولايات المختلفة في أمريكا! حسنٌ، لماذا يموت الشخص من الحرّ؟ أليس هذا لأنّه لا ملجأ له ولا بيت ولا مكان؟ وأمريكا هي تلك الدولة التي يعيش فيها أكثر الناس ثراءً في العالم وفيها أقوى الشركات والكارتلات ومؤسّسات الإئتمان في العالم، وأكثر الأرباح التجاريّة لبيع الأسلحة تتحقّق فيها أيضاً. إلا أنه في هذه الدولة نفسها التي تبلغ الثروات فيها حدّاً خيالياً، يموت فيها بعضهم في الصّيف من الحرّ وفي الشتاء من البرد! هذا يعني عدم وجود العدالة. نعم، قد يعرضون في الأفلام السينمائية والروايات والأساطير أشكالاً من العدالة، لكنّها بعيدةً كلّ البعد عن الواقع. ففي تلك الدول التي تُدار وفق منهج الاقتصاد الرأسماليّ، وتطلق على نفسها عنوان الليبرالية ـ التحرّر ـ توجد مثل هذه المآسي والمحن. هذا هو واقع الحياة هناك.
إذا أردنا أن نتقدّم، فإنّ أحد المؤشرات المهمّة التي تأتي في الدرجة الأولى هو العدالة. ما أدَّعيه - أنا العبد - هو أنّنا تقدّمنا في هذا المجال، بالطبع، ليس بالمقدار الذي نريد. لو قارنّا أنفسنا مع الوضع السّابق للثورة، فإنّنا نكون قد تطوّرنا وتقدّمنا. لو قارنّا أنفسنا مع الكثير من الدّول التي تعيش وفق أنظمةٍ مختلفة، نعم لقد تطوّرنا، أمّا إذا قارنّا أنفسنا مع ما قاله لنا الإسلام وطلبه منّا، لكان الجواب: لا، ما زالت تفصلنا مسافة بعيدة عن ذلك، ويجب علينا السعي، فعلى عاتق من يقع هذا السّعي؟ على المسؤولين والشعب معاً.
التقدّم في توزيع الموارد
أجل، لقد تقدّمنا على مستوى توزيع الموارد العامّة على كلّ مناطق البلد. ذات يوم، كان أكثر ثروات البلاد يُستهلك في مناطق خاصّة، يستأثر بها المقتدرون والبلاط في ذاك الزمن. لم يكن كثير من المحافظات والمدن يستفيد من أيّ من هذه الموارد العامّة، ولم يكن لها نصيب منها. قبل الثورة، كان في إحدى المحافظات الكبيرة لهذا البلد ـ وأنا هنا بالطبع لا أريد أن أذكر اسمها، فقد ذكرت ذلك سابقاً ـ خمسة مطارات خاصّة، في خمس مناطقَ من تلك المحافظة، وكانت كلّها ملكاً لأتباع البلاط الملكيّ، لكن لم
1- استخدم القائد كلمة (بالوني).
486
410
في لقاء أهالي أسفراين
يكن فيها أيّ مطارٍ عامّ! أي إنّه لم يكن الناس قادرين على الاستفادة من المطار والطّائرة والملاحة الجوّية، في الوقت الذي كان يوجد خمسة مطارات لأشخاصٍ محدَّدين، هذه هي اللاعدالة. واليوم، عندما ننظر نجد أنّ الكلّ يستفيدون من جميع أنواع الخدمات والمواصلات والطرقات والأوتوسترادات والشوارع المريحة. وتتوفّر في كلّ أنحاء البلاد إمكانيات الدراسة والتحصيل العلميّ. وكما أشرتُ فقد كان الكثير من مناطق البلاد في ذلك الحين - وحتى المدن - تعاني من قلّة المدارس الثانوية. وعندما كنت مبعداً إلى محافظتي بلوشستان وسيستان آنذاك1، شاهدتُ تلك الأوضاع هناك، فقد كان أكثر مدن تلك المحافظة يعاني من نقص في الثانويّات. وكان هناك في كلّ تلك المحافظة مركزٌ جامعيّ صغيرٌ مستضعفٌ، من الدرجة الثالثة أو الرابعة. وأنتم اليوم، عندما تلقون نظرة على تلك المحافظة، وبقيّة المحافظات، ستلاحظون أنّ الجامعات منتشرة في جميع المدن، وهو ما يزيد من فرص الدراسة. حسنٌ، هذه هي العدالة، ومعناها هو أنّ إمكانيات التحصيل العلميّ موزّعة على مختلف مناطق البلاد، وكذا توزيع الإمكانات المادّيّة والثروات الماليّة، والعلم، وهذا أمرٌ ممتاز. في الماضي، لم يكن متاحاً للنخب في المدن النائية وأصحاب الاستعدادات المميّزة أن يظهروا ما لديهم، أمّا اليوم، فلم يعد الأمر كذلك، ففي أسفراين وغيرها من المناطق، عندما يبرز إنسانٌ مميّز قادر على إظهار نخبويّته وتميّزه، فإنّ أجهزة البلاد المختلفة ترحّب به وتجلّه وتستفيد من قدراته. لم يكن الأمر كذلك في الماضي. لهذا، لا شكّ بأنّ هذا المؤشر للتقدّم ـ الذي هو مؤشّر العدالة ـ أصبح مميّزاً مقارنة بالماضي. لكنّنا ما زلنا متخلّفين إلى الآن مقارنةً مع ما نفهمه من الإسلام ونعرفه. يجب علينا أن نسعى ونعمل. ما أريد أن أخلص إليه من مجموع النقاط التي ذكرت لكم يا أبنائي الأعزّاء، وخصوصاً الشباب الأعزّاء ـ من النساء والرجال والفتية والفتيات ـ هو أنّ بلدنا وشعبنا يوجد في ساحةِ مواجهة كبرى فيها موانع وعقبات، وفي هذه الساحة لا يشعر بلدنا بالضعف. لا نشعر بالهوان، وإنّما بالاقتدار والقوّة، ونعلم أنّنا نستطيع إزالة جميع هذه العقبات بالسعي المتواصل. بعض هذه الموانع هو موانع طبيعية، وينبغي التعامل معها بنحو، ومكافحتها، وبعضها مفروضٌ علينا، موانع سياسيّة، مشكلات أوجدها أعداء تقدّم البلد في طريق هذا الشعب على شكل مانع، وهذه ينبغي التعامل معها بنحوٍ آخر.
1- قبل انتصار الثورة، كان لسماحة القائد دور محوري وأساسي في مواجهة نظام الشاه البائد، وذلك منذ عام 1962م، وقد سُجن وعُذّب عدّة مرات بين عامي ( 63 و77)، وفي العام 1977 تم إبعاده إلى منطقة ايرانشهر، وهناك كان له دور مهم في تحضير الناس وتوجيههم لمؤازرة الثورة، والتوحيد بين المذاهب والقوميات المختلفة، وخاصة السنّة والشيعة.
487
411
في لقاء أهالي أسفراين
وضوح الرؤية
إنّ ما يمكن أن يكون مصيريّاً وحاسماً في هذه الساحة من المواجهة، وهذه المنازلة البشريّة، وحرب الإرادات، هو العزم والإرادة والبصيرة ووضوح الرؤية عندكم أيّها الشعب العزيز. فوحدة شعب إيران، واتّحاد كلمة مسؤولي البلد، وتعاون جميع الأجهزة على اختلافها، وأن يعرف كلُّ واحد من أبناء الشعب واجباته ومسؤولياته، يمكن أن يوصلنا إلى المزيد من التقدّم، ويحقّق لنا تلك الصورة، وذاك الوجه اللائق بهذا البلد، وهذا الشعب العزيز والموهوب.
إنّ أعداءنا يخطّطون ويتصوّرون أنّ بإمكانهم إيجاد مانعٍ ورادعٍ في طريق هذا الشعب الكبير والعازم، كي لا يتحقّق هذا التقدّم. لكن فليطمئنّوا وليعلموا - وكما أظهرت تجربتنا منذ بداية الثورة وإلى اليوم، كذلك في المستقبل - أنّهم (أعداؤنا) سينهزمون في كلّ مؤامراتهم ومكرهم وكيدهم. لقد جاء الكثير من الساسة، في الدول التي تعارضنا، ورحلوا ـ في أمريكا وفي إنكلترا وفي بعض الدول الأخرى ـ جاء كلّ واحدٍ منهم بقلبٍ مليءٍ بالحقد والبغض للحركة الإسلاميّة، والثورة الإسلاميّة ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة، فخطّطوا وبرمجوا، وبذلوا كلّ ما أمكنهم، وسعوا لتحقيق إنجازات، وتصوّروا أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة وشعب إيران سوف يركعان. فهؤلاء رحلوا، وقد نُسيت حتّى أسماؤهم، لكنّ شعب إيران ما زال حاضراً في الساحة مرفوع الرأس وشامخاً بحمد الله، ويمضي في طريقه بإرادة أقوى وعزمٍ أكثر رسوخاً من اليوم الأوّل. إنّ هذا يُظهر قوّة مستقبل نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، وهذا الشعب العظيم، الذي اختار هذا النظام ودعمه.
حذارِ الغفلة والغرور
بالطّبع، يجب أن لا نُصاب بالغرور. فإلى جانب الحديث عن كلّ هذه الملاحم يجب أن أذكر هذا أيضاً: علينا أن لا نغترّ بأنفسنا ونغفل عن كيد العدوّ ومكره، لأنّ ذلك من شأنه أن يستتبع مخاطر كثيرة. لا ينبغي الغرور. إنّني - أنا العبد - أوصي المسؤولين دوماً، وأقول لهم كونوا أقوياء، لكن لا تحسبوا العدوّ ضعيفاً، فلا ينبغي الغفلة عن العدوّ. فإنّ العدوّ يتسلّل من طرقٍ مختلفة، يوماً يتحدّث عن الحظر، ويوماً يتحدّث عن الاعتداء العسكريّ، ويوماً آخر يتحدّث عن الحرب الناعمة، وآخر عن الغزو الثقافيّ، وآخر عن الناتو الثقافيّ للغرب1، فالعدوّ يتسلّل من طرق متعدّدة، ويجب الحذر منه.
1- الناتو الثقافي: اصطلاح جديد أطلقه قائد الثورة الإسلامية على طبيعة الغزو الثقافي والإعلامي الحالي في شباط 2012 أثناء كلمة ألقاها على حشد من المفكرين والعلماء في منطقة سمنان. وهو تعبير آخر عن الحرب الناعمة والمواجهة الثقافية التي يقوم بها الغرب بعد فشله في الهيمنة والسيطرة العسكرية المباشرة، وذلك لتشابه هذا المشروع الجديد لجهة السيطرة على العالم الإسلامي باستخدام الإعلام والثقافة والدعاية، بحلف الناتو العسكري.
488
412
في لقاء أهالي أسفراين
إنّ هذا التقدّم الذي تحدّثنا عنه، وهذا المستقبل المشرق الذي رسمناه، وهذا الأفق الجميل والجذّاب الذي يتراءى أمامنا، إنّما يتحقّق فقط عندما نكون حذرين يقظين، ملتفتين غير غافلين. علينا ألّا نتصوّر أنّ كلّ شيء على ما يرام، فننصرف براحة بال إلى أعمالنا الشخصيّة، ونغفل عن النظر إلى مستقبل البلد.
إنّ من الخصائص التي لفتت نظري - أنا العبد - بشأن أسفراين المشاركة الواسعة لأهالي هذه المنطقة الأعزّاء في الانتخابات المختلفة. وهذا أمرٌ مهمٌّ جدّاً. فمحافظة خراسان الشمالية تحوز على المراتب الأولى، من حيث المشاركة في الانتخابات. فيما تُعدّ أسفراين المدينة الأولى في هذا المضمار على مستوى المحافظة. فالمشاركة في الانتخابات، والوعي، والبصيرة، والمشاركة في صناديق الاقتراع ليس عملاً ناشئاً من البطالة، بل هو عملٌ صالح. وسوف أتحدّث عن الانتخابات إن شاء الله في هذا السفر، في اللقاءات الأخرى مع الناس، إذ لديّ ما أقوله ـ لكن الآن لن أدخل في هذا البحث - لكن مجرد أن يشعر الناس أو سكّان أيّة مدينة أو محافظة، وفي كلّ البلاد، بالواجب والمسؤولية تجاه المستقبل وتجاه إدارة البلاد، ويريدون على أساسه المشاركة والنزول إلى الساحة، هو أمرٌ له قيمته وأهميته، وهو يقابل تلك الغفلة التي يريد العدوّ أن يفرضها علينا. يجب الحفاظ على هذه الروحيّة، روحيّة الحضور والمشاركة والتعاون بشأن القضايا الاقتصاديّة، وروحيّة استهلاك المنتجات المحلّية مقابل المنتجات الأجنبية. هذه من المقولات والقضايا المهمّة التي لن أتناولها الآن.
دعم الإنتاج المحلّي
لكن سأذكر جملةً واحدة. لقد أكّدنا على الإنتاج المحلّيّ، سواء أكان مع بداية العام وفي شعار هذه السنة أم في الأحاديث التي صدرت طيلة هذه الأشهر، منذ بداية السنة. حسنٌ، إنّ الإنتاج المحلّي يحتاج إلى الاستهلاك المحلّيّ وهذا الأمر يقع على عاتق الشّعب. يجب أن نختار سلعنا الاستهلاكيّة ممّا ننتجه نحن. وإنّه لمن الخطأ أن يكون سعي الناس باتّجاه الماركات التجارية والأجنبية والأسماء الخارجيّة. فهذا ليس سوى استجابة لهوس شخصيّ، لكنّه ضربة تُوجّه إلى المشروع العام والأساسيّ. إنّ الاستهلاك المحلّيّ يزيد من الإنتاج المحليّ، الذي بدوره يحلّ كلّ تلك المشاكل التي أشار إليها إمام الجمعة
489
413
في لقاء أهالي أسفراين
المحترم ويقضي على البطالة. فعندما يتألّق الإنتاج يقلّ التضخّم ويقلّ الغلاء وتزيد فُرص العمل، فكلّ هذه الأمور متّصلة ببعضها بعضاً. وأحد أطراف القضيّة بأيدينا نحن الناس، ويكمن في كيفيّة اختيارنا لسلعنا الاستهلاكيّة.
على كلّ حال المسؤوليّات كثيرة، لكنّ التوفيقات الإلهيّة أيضاً كثيرة جدّاً. أسأل الله تعالى بمشيئته أن يزيد من هذه التوفيقات ويبقي هذا التفضّل على شعب إيران مثلما فعل من قبل. وجعلكم الله مشمولين بالألطاف الإلهيّة والأدعية الزّاكية لحضرة بقيّة الله، أرواحنا فداه.
إنّني أجدّد شكري لكم أيّها الأهالي الأعزّاء لمنطقة أسفراين لحضوركم الحارّ والحميم والحماسيّ والدافئ في جميع مناسبات الثورة ومراسمها، وقضايا الدولة المهمّة، وأظهر حبي ووفائي لشهدائكم الأعزّاء وكباركم ومن رحل منكم، وأسأل الله تعالى أن ينزل رحمته وتفضّله عليكم جميعاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
490
414
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
المناسبة: زيارة المحافظة.
الحضور: حشدٌ من الشباب والطلاب.
المكان: مصلّى الإمام الخميني - بجنورد.
الزمان: 14/10/2012م.
491
415
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والحمد الله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين.
إنّ اجتماعنا هو اجتماعٌ شبابيّ بالكامل مع كلّ الخصائص الإيجابيّة للشباب. والأمل معقودٌ عليكم أيّها الشباب اليوم، وبصورة أكبر في المستقبل. لقد أصغيت بتأمّل للمطالب التي عرضها هؤلاء الشباب الأعزّاء هنا. وحكمي على هذه الكلمات أنّها كانت ممتازة. وهذا ما يؤيّد رأيي السابق، بشأن الارتقاء بالمستوى الفكري في هذه المحافظة. في هذه الأيّام القليلة، أينما عرض أبناء هذه المحافظة ـ من الشباب وعوائل الشهداء، من المعلّمين والأساتذة ـ كلماتهم هنا، كانت تدخل عليّ السرور والرضا، لحظةً بلحظة. وهذا إنّما يدلّ على أنّ مدينة بجنورد ومحافظة خراسان الشماليّة، بحمد الله، تتمتّعان بمستوىً فكريّ وثقافيّ راق، فيجب عليكم أن تحافظوا على هذا وأن تزيدوه ارتقاءً يوماً بعد يوم. وبالتأكيد، نحن ـ سواء أنا العبد أم سائر المسؤولين ـ نتحمّل مسؤولية توظيف هذه النعمة الإلهيّة الكبرى في مصلحة الثورة والنّظام توظيفاً صحيحاً، على أمل أن يكون هذا التوفيق من نصيبنا.
مفهوم التقدّم
إنّ البحث الذي أريد أن أعرضه عليكم، أيّها الشباب الأعزّاء، يصبّ في توضيح وتبيين القضيّة التي أتيت على ذكرها في اليوم الأوّل: قضيّة التقدّم. إنّه موضوعٌ مهمٌّ جدّاً يجب أن نتعرّض له. نحن حتماً لا نقنع أنفسنا بأنّ القضيّة قد انتهت بمجرّد عرض هذه الموضوعات، إنّما هذه تُعدّ البداية. لقد ذكرنا أنّ ذاك المفهوم الذي يمكنه أن يجمع إلى حدٍّ كبير أهداف النظام الإسلاميّ ويبيّنه لنا، هو مفهوم التقدّم والتطوّر. وقد تعرّضنا فيما بعد لتوضيح أنّ التقدّم هو الذي يستدعي التحرّك على الطريق. فكيف نقول إنّ التقدّم هو الهدف؟ لقد ذكرنا أنّ علّة ذلك هي أنّ التقدّم لا يمكن أن يتوقّف. أجل، إنّ التقدّم هو حركةٌ وطريقٌ وصيرورة، لكنّه لا يمكن أن يتوقّف ويستمرّ على هذا المنوال، لأنّ للإنسان استمراريّة، ولأنّ الاستعدادات الإنسانيّة لا تعرف حدّاً. لقد قلنا إنّ للتقدّم أبعاداً، وإنّ التقدّم والتطوّر في المفهوم الإسلامي يختلف عن التطوّر ذي البعد الواحد أو البعدين في الثقافة الغربيّة، فهو ذو أبعادٍ متعدّدة.
493
416
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
عناصر وأبعاد التقدّم
ومن أبعاد التقدّم في المفهوم الإسلامي ما يتعلّق بنمط الحياة والسلوك الاجتماعي وأسلوب العيش ـ وكلّ هذه تسميات لأمرٍ واحد ـ فهذا هو أحد الأبعاد المهمّة. ونحن نريد اليوم أن نبحث هذا الموضوع بمقدارٍ ما. فلو نظرنا من زاوية المعنويّات ـ حيث إنّ هدف الإنسان هو الفوز والفلاح والنجاح ـ فينبغي أن نولي نمط الحياة أهميّةً. ولو لم يكن لدينا اعتقادٌ بالمعنويّات (الروحانيّات) والفلاح المعنويّ الاعتقاديّ، فإنّ تناول نمط الحياة هو أمرٌ مهمٌّ لمن يريد العيش الهنيء والحياة المليئة بالأمن النفسيّ والأخلاقيّ. لهذا، فإنّ القضيّة أساسيّة ومهمّة. فلنبحث بشأن ما ينبغي أو يمكن أن يُقال في مجال نمط العيش. لقد قلنا إنّ هذه هي بداية وانطلاقة البحث.
بناء الحضارة الإسلاميّة
لو أخذنا التقدّم من جميع الأبعاد بمعنى بناء الحضارة الإسلاميّة الجديدة ـ ففي النهاية يوجد مصداقٌ عينيّ وخارجيّ للتقدّم وفق المفهوم الإسلاميّ ـ هنا سنقول إنّ هدف شعب إيران، وهدف الثّورة الإسلاميّة، هو عبارة عن إيجاد حضارة إسلاميّة جديدة. فهذه حسابات صحيحة، فلهذه الحضارة الجديدة قسمان: القسم الأوّل ما يتعلّق بالأداة، والقسم الآخر ما يرتبط بالمضمون والأساس والأصل. ويجب تناول كلا القسمين.
فما هو ذاك القسم المتعلّق بالأداة والوسيلة؟ إنّه عبارة عن تلك القيم التي نطرحها اليوم تحت عنوان تطوّر البلد: العلم، والاختراع، والصّناعة، والسياسة، والاقتصاد، والاقتدار السياسيّ والعسكريّ، والشأنيّة الدولية، والإعلام وأدواته، فكلّ ذلك هو من قسم أداة الحضارة ووسيلتها. وبالطّبع لقد تطوّرنا جيّداً في هذا القسم على صعيد البلد. لقد أُنجزت أعمالٌ كثيرة وجيّدة، سواء في المجال السياسيّ أم العلميّ أم القضايا الاجتماعيّة، وكذلك أيضاً في مجال الاختراعات ـ حيث شاهدتم الآن نموذجاً عنها، وقد قام هذا الشاب العزيز1 بشرح الأمر لنا ـ وما شابه إلى ما شاء الله على مستوى البلد ككل. ففي هذا القسم المتعلّق بالأداة والوسيلة، حصل تطوّرٌ جيّدٌ في البلاد بالرغم من كلّ الضغوط والحظر وأمثاله.
1- أحد الحاضرين الذين ألقوا كلماتهم خلال اللقاء.
494
417
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
العقل المعاش
أمّا القسم الحقيقيّ فهو تلك الأمور التي تشكّل مضمون حياتنا، وهو نمط الحياة الّتي تحدّثنا عنه. فهذا هو القسم الحقيقيّ والأساسيّ للحضارة، كقضيّة الأسرة، ونمط الزواج، ونوع المسكن واللباس ونمط الاستهلاك، ونوعيّة الغذاء والطبخ والترفيه، ومسألة الخطّ، واللغة، وقضيّة التكسّب والعمل، وسلوكنا في محلّ العمل والجامعة وفي المدرسة، وفي النشاط السياسيّ وفي الرياضة، وفي الإعلام الخاضع لإرادتنا، وفي سلوكنا مع الأب والأم، ومع الزوج والأبناء ومع الرئيس والمرؤوس والشرطة والعامل الحكوميّ، وفي أسفارنا ونظافتنا وطهارتنا وسلوكنا مع الصديق والعدوّ والأجنبيّ، فكلّ هذه ترتبط بالقسم الأساسيّ للحضارة التي تمثّل صلب حياة الإنسان.
إنّ الحضارة الإسلاميّة الجديدة ـ ذاك الشيء الذي نريد التطرّق إليه ـ في قسمها الأساسيّ تتشكّل من هذه الأمور. فهذه هي المضامين الأساسيّة للحياة، وهذا هو الشيء الذي يُعبّر عنه في المصطلح الإسلاميّ بالعقل المُعاش. فالعقل المُعاش1 لا ينحصر بتحصيل المال وإنفاقه وكيفيّة تأمينه وصرفه، كلّا، فكلّ هذه السّاحة الواسعة التي ذُكرت تُعدّ من العقل المُعاش. توجد في كتبنا الروائيّة الأصيلة والمهمّة أبوابٌ تحت عنوان "كتاب العِشرة"2، فكتاب العشرة يتناول هذه الأمور. وفي القرآن الكريم نفسه توجد آياتٌ كثيرة ناظرةٌ إلى هذه الأمور.
التقدّم في الأدوات والبرمجيات
حسنٌ، يمكن عدّ هذا القسم بمنزلة قسم برمجيّات3 (software) الحضارة، وذاك القسم الأوّل يرتبط بالأجهزة والأدوات5 (hardware). فلو أنّنا لم نتقدّم في هذا
1- وردت في الكتب والمصنفات الروائية عبارات من قبيل عقل المعاش وعقل المعاد، يقصد من الأول: حسن التدبير وإتقان العمل والحكمة في ابتغاء الوسيلة والتصرّف وفق مقتضيات العقل والحكمة، ورد في نهج البلاغة: أوحى الله إلى داود "إذا رأيت عاقلاً فكن له خادماً".
2- كتاب العِشرة: أحد أبواب كتاب "الكافي". يعدُّ الكافي أحد الكتب الروائية الأربعة المشهورة عند الشيعة، حيث يعتمد عليها الفقهاء في الاستدلال على الأحكام الفقهية واستنباطها. والعشرة معناها الخلطة والصحبة من المعاشرة، ويتضمن الكتاب مجموعة الروايات المتصلة بأصول العلاقات والاختلاط والتعامل مع الناس، وما فيها من آداب وسنن ومستحبات.
3- المقصود من البرمجيات: نمط الحياة ومضمونها وجوهرها، وما يتصّل بالتدبير والتخطيط والتقدير وأنماط السلوك والمعاملة...
4- الأدوات: وسائل العيش والحياة، والأدوات العلمية والتكنولوجية وما ينتج عنها من تطور في وسائل العيش، أي: العلم، والاختراع، والصّناعة، والسياسة، والاقتصاد، والاقتدار السياسي والعسكري، والشأنيّة الدولية، والإعلام وأدواته، كلّ ذلك هو من قسم أداة الحضارة ووسيلتها، حسب ما ورد في الخطاب.
495
418
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
القسم المتعلّق بمتن الحياة، فإنّ كلّ أنواع التطوّر التي حقّقناها في القسم الأوّل لا يمكنها أن تنقذنا، ولا يمكنها أن تمنحنا الأمن والطمأنينة النفسيّة، كما لاحظتم كيف أنّها لم تتمكّن من ذلك في الغرب. فهناك توجد الكآبة واليأس والإحباط والدمار الداخليّ وانعدام أمن الناس في المجتمع وفي الأسرة، واللاهدفيّة والعبثيّة بالرغم من وجود الثروة والقنبلة النوويّة والأنواع المختلفة للتطوّر العلميّ، والقوّة العسكريّة. فأساس القضيّة هو أن نتمكّن من إصلاح الحياة في جوهرها ومضمونها، وإصلاح هذا القسم الأساسيّ للحضارة. وبالتأكيد، لم يكن تطوّرنا في الثورة في هذا المجال تطوّراً ملحوظاً. فلم يكن تحرّكنا في هذا المجال مشابهاً للتحرّك الّذي حصل في القسم الأوّل، فلم نتطوّر. حسنٌ، يجب علينا أن نحدّد الآفّات، فلماذا لم نتطوّر في هذا القسم؟
ضرورة معالجة الآفات
وبعد كشف العلل والأسباب ننهض لتناول كيفيّة معالجة هذه الأمور. فعلى من تقع هذه المهامّ؟ إنّها تقع على عاتق النخب ـ النخب الفكريّة والسياسيّة ـ وعلى عاتقكم وعلى عاتق الشباب. فلو وُجد في بيئتنا الاجتماعيّة الخطاب الناظر إلى رفع الآفات في هذا المجال، يمكن الاطمئنان إلى أنّنا سنحقّق تقدّماً جيّداً في هذا القسم، بالنظر إلى النّشاط الموجود في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة وفي شعب إيران، والاستعداد الحاصل. حينها سيصبح تألّق شعب إيران وانتشار الفكر الإسلاميّ لشعب إيران والثورة الإسلاميّة الإيرانيّة في العالم أسهل. يجب علينا أن نحدّد الآفات وبعدها نقوم بالعلاج.
النخب مسؤولون، وكذلك الحوزة والجامعة والوسائل الإعلاميّة والمنابر المختلفة ومديرو الكثير من الأجهزة، وخصوصاً الأجهزة العاملة في المجال الثقافيّ والتربية والتعليم. وأولئك الذين يخطّطون للجامعات أو المدارس في المجال التعليميّ هم مسؤولون في هذا المجال. والذين يحدّدون المناهج التعليميّة ومخططات الكتب الدراسيّة، هم أيضاً مسؤولون. فكلّ هذه تمثّل مسؤوليةً واحدةً ملقاة على عاتق الجّميع. يجب علينا أن نستنفر جميعاً ونعلي الصوت. في هذا المجال يجب علينا أن نعمل وأن نتحرّك.
لهذا يجب تحديد الآفات، أي الالتفات إلى الآفات الموجودة في هذا المجال، والبحث عن أسبابها.
496
419
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
نماذج من الآفات
حتماً، نحن لا نريد هنا أن نصوّر القضيّة على أنّها تامّة من جميع الجهات، بل نعرض فهرساً: فلماذا نجد ثقافة العمل الجماعيّ في مجتمعنا ضعيفة؟ هذه آفة. مع أنّ الغربيين نسبوا العمل الجماعيّ إلى أنفسهم وثبّتوه، لكنّ الإسلام تعرّض له قبلهم بكثير: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾1، أو ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا﴾2 أي أنّ الاعتصام بحبل الله نفسه، يجب أن يكون جماعيّاً، ﴿وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾3. فلماذا نجد الطلاق شائعاً في بعض مناطق بلدنا؟ لماذا نجد كثرة إقبال الشباب في بعض مناطق بلدنا على المخدّرات؟ ولماذا لا تُراعى الضوابط المطلوبة في العلاقات بين الجيران؟ لماذا نجد صلة الرحم فيما بيننا ضعيفةً؟ ولماذا لسنا شعباً منضبطاً انضباطاً تامّاً في مجال ثقافة قيادة السيّارات في الشّوارع؟ إنّ هذه آفة. المرور والتردّد الدائم في الشوارع هو من قضايانا، وهي ليست قضيّة هامشيّة، وإنّما قضيّة أساسيّة. وإلى أي مدى تكون السُّكنى في الشقق ضروريّةً لنا؟ وكم هي صحيحة؟ وما هي مقتضياتها التي ينبغي أن تُراعى؟ وكم نراعي تلك المقتضيات والمستلزمات؟ وما هو أنموذج الترفيه السليم؟ وما هو نوع الهندسة المعماريّة في مجتمعنا؟ فانظروا كم أنّ هذه القضايا المتنوّعة والشاملة في كلّ مجالات الحياة داخلةً في هذه المقولة المتعلّقة بنمط الحياة، أي في هذا القسم الأساسيّ والحقيقيّ والواقعيّ للحضارة، الذي يرتبط بسلوكيّاتنا. إلى أيّ مدى يتناسب نوع العمارة الحاليّة عندنا مع احتياجاتنا؟ وكم هو عقلانيٌّ ومنطقيّ؟ وماذا عن تصميم الألبسة لدينا؟ وقضيّة الزينة بين الرجال والنساء كيف تكون؟ وإلى أيّ مدى هي صحيحة؟ وكم هي مفيدة؟ وهل أنّنا نعتمد الصدق دائماً في السوق والإدارات والمعاشرات اليوميّة؟ وكم يروّج الكذب فيما بيننا؟ ولماذا نستغيب بعضنا بعضاً؟ ولماذا يهرب بعضهم من العمل بالرّغم من قدرتهم عليه؟ فما هي علّة هذا التهرّب؟ إنّ بعضهم يظهر الكثير من الحدّة دون سبب في البيئة الاجتماعيّة، فما هي أسباب هذه الحدّة، وانعدام الصبر والتحمّل الموجود عند بعضنا؟ وكم ينبغي أن نراعي حقوق الأفراد؟ وما مدى مراعاتها في الوسائل الإعلاميّة؟ وكم أنّ هذه الحقوق تُراعى في الإنترنت كذلك؟ إلى أيّ مدى نحترم القانون؟ وما هو سبب التهرّب من القانون ـ الذي هو مرضٌ خطرٌ - عند بعض أفراد شعبنا؟ إلى أي مدى الوجدان المهنيّ حاضرٌ في المجتمع؟ وإلى أي مدى يتحقّق الانضباط الاجتماعيّ في المجتمع؟ وإلى أيّ
1- المائدة، 2.
2- آل عمران، 103.
3- آل عمران، 103.
497
420
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
مدى الإتقان موجودٌ في الإنتاجيّة؟ وإلى أي مدى يتمّ الالتفات إلى الإنتاج النوعيّ في القطاعات المختلفة والاهتمام به؟ لماذا تبقى بعض الكلمات والآراء والأطروحات الجيّدة في حدود النظر والكلام؟ وهو ما لاحظتم الإشارة إليه. لماذا يُقال لنا إنّ ساعات الإنتاج في عمل الأجهزة الإداريّة عندنا قليلة؟ إنّ ثماني ساعات من العمل ينبغي إن تكون إنتاجيّتها بمقدار ثماني ساعات، فلماذا تكون بمقدار ساعة أو نصف ساعة أو ساعتين؟ أين هي المشكلة؟ لماذا يُروّج لنزعة الاستهلاك بين الكثير من أبناء شعبنا؟ هل أنّ الاستهلاك فخرٌ؟ الاستهلاك يعني أن ننفق كل ما نحصّله على أمورٍ ليست من ضروريّات الحياة. ماذا نفعل لاقتلاع جذور الربا من المجتمع؟ وماذا نفعل من أجل أن تُراعى حقوق الزوج والزوجة وحقوق الأبناء؟ ماذا نفعل لكي لا ينتشر الطلاق والتفكّك الأسريّ عندنا كما هو حاصلٌ في الغرب؟ وكذلك الأمر فيما يتعلّق بتفكّك الأسرة؟ ماذا نفعل لكي تُحفظ كرامة المرأة في مجتمعنا وتبقى عزّة أسرتها وكرامة محفوظةً، وتتمكّن من القيام بمسؤولياتّها الاجتماعيّة وتُحفظ حقوقها الاجتماعيّة والأسريّة أيضاً؟ ماذا نفعل كي لا تضطرّ المرأة لاختيار أحد الأمور المذكورة (فقط)؟ إنّ هذه من قضايانا الأساسيّة. ما هو مستوى تحديد النسل في مجتمعنا؟ لقد اتّخذنا قراراً كان له علاقة بزمنٍ محدّد، وله حاجة في مقطعٍ محدّد، لكن نسينا بعدها إنّ هذا المقطع الزمنيّ قد ولّى! فافرضوا مثلاً أنّ يُقال لكم افتحوا هذه الحنفيّة لمدّة ساعة، فتفتحونها وتذهبون! لقد ذهبنا وغفلنا، لقد مرّت عشر سنوات، وخمس عشرة سنة. ثمّ يُنقل لنا في التقارير الآن أنّ مجتمعنا في المستقبل غير البعيد سوف يصبح مجتمعاً هرماً، وأنّ هذه الصورة الشبابيّة التي يتمتّع بها المجتمع الإيرانيّ اليوم سوف تزول عنه. إلى أي مدى يمكن تحديد النسل؟ لماذا يوجد في بعض المدن الكبرى بيوت للعزّاب؟ كيف تسلّل هذا المرض الغربيّ إلى مجتمعنا؟ وما هي نزعة الترف؟ هل هي سيّئة؟ هل هي جيّدة؟ إلى أي مدى هي سيّئة؟ إلى أيّ مدى هي جيّدة؟ ماذا نفعل لكي لا نتعدّى الحدّ الجيّد ونقع في الحدّ السيّئ؟ هذه أقسامٌ مختلفة من قضايا نمط الحياة، وتوجد عشرات المسائل الأخرى من هذا القبيل، حيث إنّ بعضها أهمّ من بعضها الآخر. هذا عبارة عن فهرسة لتلك الأمور التي تشكّل عُمدة الحضارة ومتنها. والحكم على أيّة حضارة مبنيٌّ على هذه الأمور.
لا يصحّ أن نحكم على أيّة حضارة بمجرّد أنّ فيها سيّارات وصناعات وثروات ونمتدحها، في حين أنّها تعاني مشاكل داخليّة كثيرة تعمّ المجتمع وحياة الناس. هذا هو الأصل وتلك هي الأدوات التي تؤمّن هذا القسم من أجل أن يشعر الناس بالطمأنينة والأمل بالحياة والأمن المعيشيّ، وأن يتقدّموا ويتحرّكوا ويبلغوا الرقيّ الإنسانيّ المطلوب.
498
421
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
مقولة ثقافة الحياة
توجد مقولةٌ مطروحةٌ هنا وتملأ الذهن بعنوان مقولة ثقافة الحياة. علينا أن نسعى لتبيين ثقافة الحياة وتدوينها وأن نعمل على تطبيقها بالصّورة التي يريدها الإسلام. بالطبع، إنّ الإسلام قد حدّد لنا أسس وجذور مثل هذه الثقافة. وهذه الأسس والجذور هي عبارة عن التعقّل والأخلاق والحقوق، فهذه الأمور قد جعلها الإسلام في أيدينا. ولو لم نتناول هذه المقولات بصورة جادّة فإنّ التطوّر الإسلاميّ لن يتحقّق، ولن تتشكّل الحضارة الإسلاميّة الجديدة. فمهما بلغنا في الصناعة، ومهما بلغت اكتشافاتنا واختراعاتنا، فما لم نصلح هذا القسم1 فإنّنا لا نكون قد حقّقنا التطوّر والتقدّم الإسلاميّ بمعناه الحقيقيّ. يجب علينا أن نعمل كثيراً.
لا تقدّم من دون إيمان
توجد نقطتان أو ثلاث بشأن إيجاد هذا الوضع، ولوازم يوجدها سعينا وراء هذه الثقافة، يجب الالتفات إليها. النقطة الأولى هي أنّ السلوك الاجتماعيّ ونمط العيش يتبع تفسيرنا للحياة: فما هو هدف الحياة؟ فكلّ هدفٍ نضعه للحياة أو نرسمه لأنفسنا، يعرض أمامنا بشكل طبيعيّ نمط حياة متناسب معه. وهنا توجد نقطة أساسيّة وهي الإيمان. يجب علينا أن نحدّد هدفاً للحياة وأن نؤمن به. دون الإيمان لا يمكن تحقيق التقدّم في هذه الأقسام، ولا يمكن القيام بالعمل الصحيح. وهنا سواء كان ما نؤمن به هو الليبراليّة أم الرأسماليّة أم الشيوعيّة أم الفاشيّة، أم التوحيد الأصيل، ففي النّهاية يجب أن نؤمن بشيءٍ ما ونعتقد به ونسعى باتّجاه هذا الإيمان والاعتقاد. قضيّة الإيمان مهمّة. فالإيمان بأصلٍ ما، والإيمان بمرساة حقيقية للاعتقاد، يجب أن يتحقّق. وعلى أساس هذا الإيمان يتمّ اختيار نمط الحياة.
مغالطة اجتناب الأيديولوجيّا
توجد هنا مغالطةٌ أبيّنها لكم أيّها الشباب: هناك بعض المتفلسفين الغربييّن يطرحون عنوان اجتناب الأيديولوجيّة2. ترون أحياناً في بعض هذه المقالات الثقافيّة أنّه يُطرح عنوان "اجتناب الأيديولوجيا": أيّها السيّد، لا يمكن إدارة المجتمع بالأيديولوجيّة. لقد ذكر هذا الأمر بعض الفلاسفة أو المتظاهرين بالفلسفة الغربيين، وهنا أيضاً هناك من كرّر هذا الأمر ويكرّره بطريقةً ببّغائيّة من دون أن يدرك عمق هذا الكلام وأبعاده.
1- أي المضمون.
2- أو التبرؤ من أي رؤية كونية، بمعنى الانخلاع من تبنيّ واتّباع رؤية عقائديّة لنظام الحياة.
499
422
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
لا يوجد أيّ شعبٍ يدعو إلى بناء حضارة، يمكنه أن يتحرّك من دون أيديولوجيّا. ولم يحدث مثل هذا سابقاً. لا يوجد أيّ شعبٍ يمكن أن يكون صانعاً للحضارة من دون أن يكون ممتلكاً لأيّ فكرٍ أو أيديولوجيّا أو مذهب. تلك الأمور التي تشاهدونها اليوم، والتي أوجدت الحضارة المادّية في العالم، إنّما تحقّقت من خلال الأيديولوجيّا، وقد صرّحوا بذلك وقالوا نحن شيوعيّون، وقالوا نحن رأسماليّون، وقالوا نحن نعتقد بالاقتصاد الرأسماليّ، وطرحوه واعتقدوا به وسعوا نحوه. بالطبع لقد تحمّلوا المتاعب ودفعوا الأثمان. فدون امتلاك مذهب أو فكر أو إيمان، وبدون السعي من أجله والإنفاق عليه، لا يمكن صناعة الحضارة.
التقدّم يتنافى مع التقليد المذلّ
بالطّبع، بعض الدّول مقلّدة، إذ أخذ من الغرب ومن صنّاع الحضارة المادّيّة شيئاً وشكّل حياته على أساسه. أجل، إنّ هؤلاء من الممكن أن يصلوا إلى بعض أنواع التقدّم، وإلى تقدّمٍ شكليّ وسطحيّ، ولكنّهم مقلّدون وليسوا صنّاع حضارة، فهم فاقدون للجذور وعرضةً للآفات. فلو حصل إعصارٌ ما فإنّهم سيزولون لأنّهم فاقدون للجذور. وبالإضافة إلى أنّهم بنوا أعمالهم على التقليد، والتقليد سيطيح بهم، فهم سينالون، بعض منافع الحضارة المادّيّة الغربيّة دون أن يكون الكثير منها من نصيبهم، لكنّ جميع آفاتها وأضرارها ستكون من نصيبهم. أنا لا أريد أن آتي على ذكر أسماء الدول. هناك بعض الدول التي يطرحها بعض مثقّفينا كنماذج تُحتذى في النموّ الاقتصاديّ في كلماتهم وكتاباتهم. أجل، من الممكن أنّهم قد حصلوا على صناعة، وحقّقوا تقدّما في مجالٍ ماديّ أو في مجالٍ علميٍّ وصناعيّ، لكنّهم مقلّدون أوّلاً، وقد وُسمت جباههم بمذلّة التقليد وشينه. وبالإضافة إلى هذا، فإنّهم يعانون من جميع آفات الحضارة الماديّة للغرب، ولكنّهم فاقدون لأكثر منافعها. واليوم نرى الحضارة الماديّة الغربيّة تظهر ما أوجدته من مشاكل للبشريّة ولأتباعها.
لا حضارة من دون رؤية وإيمان
إذاً، لا يمكن تحقيق أيّة حضارة من دون المذهب، ومن دون الأيديولوجيّا، فالحاجة هي إلى الإيمان. إنّ هذا التمدّن يجب أن يكون متمتّعاً بالعلم والصناعة والتقدّم. وهذا المذهب سيكون هادياً ومديراً لكلّ هذه الأمور. فذاك الذي يجعل مذهب التوحيد أساساً لعمله، والمجتمع الذي يتحرّك باتّجاه التوحيد، سوف ينال جميع هذه الخيرات التي تتوقّف على بناء الحضارة، وسوف يصنع حضارة عميقة وكبيرة ومتجذّرة وينشر
500
423
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
فكره وثقافته في العالم. بناءً عليه، إنّ الأمر الأوّل هو الحاجة إلى الإيمان. إنّ سوق المجتمع نحو اللاإيمان هو من تلك المؤامرات التي سعى إليها أعداء صناعة الحضارة الإسلاميّة، وهم الآن يتابعون هذا ويسعون من أجله بشدّة.
في يومنا هذا وفي البيئات الثقافيّة، يوجد أشخاصٌ يحذّروننا من الشعارات الدينيّة بأشكالٍ وطرق مختلفة، ويشكّكون بمرحلة ذروة الشعارات الدينيّة التي حصلت في السنوات العشر التي تلت الثورة، وهم اليوم يوهمون أنفسهم بشأن تكرار الشعارات الدينيّة والشّعارات الثوريّة والإسلاميّة، ويريدون أن يلقوا هذه الأوهام في قلوب الآخرين ويقولون: أيّها السيّد إنّ هذا مكلفٌ وموجعٌ للرأس، ويستتبع الحظر والتهديدات. وإذا أحسنا الظّنّ بهم، نقول إنّهم لم يطالعوا التاريخ - وبالطبع لدى بعضهم سوء ظنّ أيضاً - فلو كانوا قد قرأوا التّاريخ، واطّلعوا على ما جرى وما بدأت به الحضارات وانطلقت منه، ومنها هذه الحضارة الماديّة الغربيّة التي تريد اليوم أن تسيطر على العالم، لما قالوا مثل هذه الكلام. يجب أن نقول إنّهم غير مطّلعين ولم يطالعوا التاريخ.
العنصر الأهمّ في بناء الحضارة
إنّ المجتمع دون مبادئ ودون مذهب ودون إيمان يمكن أن يصل إلى الثروة والقدرة، لكنّه عندما يبلغهما فإنّه يصبح حيواناً شبعانَ ومقتدراً. وإنّ قيمة الإنسان الجائع هي أهمّ من الحيوان الشبعان. فالإسلام لا يريد هذا. فالإسلام يؤيّد الإنسان الذي يحوز على أمور وهو مقتدر وهو شاكرٌ وعبدٌ لله، فيمرّغ جبهة العبوديّة بالتراب. الإنسانيّة والاقتدار والعبوديّة لله، هذا ما يريده الإسلام. يريد أن يصنع إنساناً، ويوجد أنموذجاً لصناعة الإنسان.
فبالدرجة الأولى إذاً، يحتاج بناء الحضارة الإسلاميّة الجديدة إلى الإيمان. وقد وجدنا هذا الإيمان ـ نحن المعتقدين بالإسلام. إيماننا هو الإيمان بالإسلام. ويمكننا أن نجد في أخلاقيّات الإسلام وأدبيات الحياة الإسلاميّة كلّ ما نحتاج إليه اليوم. ويجب علينا أن نجعل كلّ هذه الأمور محور أبحاثنا وتحقيقاتنا. لقد قمنا بالكثير من الأعمال في الفقه الإسلاميّ والحقوق الإسلاميّة، فيجب علينا أن نقوم بعملٍ عظيمٍ ونوعيّ فيما يتعلّق بالأخلاق الإسلاميّة والعقل الإسلاميّ العمليّ ـ وهي مسؤولية تتحمّلها الحوزات والعلماء والمحقّقون والباحثون والجامعة ـ وأن نجعلها (تلك الأمور) أساس تخطيطنا وأن ندخلها في مناهجنا التعليميّة. هذا ما نحتاج إليه اليوم ويجب أن
501
424
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
نسعى نحوه. هذا هو الأمر الأوّل والنقطة الأولى فيما يتعلّق ببناء الحضارة الإسلاميّة الجديدة وبشأن الحصول والوصول إلى هذا القسم الأساسيّ من الحضارة الذي يرتبط بالسّلوك العمليّ.
لا يمكنكم أن تجدوا أيّا من هذه الأمور التي عنونتها وذكرتها إلّا وقد تناولها الإسلام بصورة خاصّة أو تحت عنوانٍ عام. إنّ أنواع سلوك الإنسان مع الأفراد الذي يكون على علاقة بهم، وأنواع سلوكيّاتنا، وأصناف الأشياء التي توجد في حياة الإنسان الاجتماعيّة، كلّها موجودة في الإسلام. فيما يتعلّق بالسّفر وفي مورد الذهاب والإياب، وفي مورد الركوب والترجّل، وفي مورد الأب والأمّ، وفي مورد التعامل، وفي مجال السلوك مع الصّديق والعدوّ، وفي جميع الأمور، إمّا أن تكون مذكورةً في مصادرنا الإسلاميّة بشكل خاصّ، أو تحت عنوانٍ كلّيّ، حيث يمكن لأهل الاستنباط والرأي أن يستخرجوا ما يحتاجون إليه منها، ويجدوها.
اجتناب التقليد
توجد نقطة أخرى هنا أيضاً، وهي أنّ علينا أن نجتنب التقليد بشدّة من أجل بناء هذا القسم من الحضارة الإسلاميّة الجديدة، تقليد أولئك الذين يسعون لفرض أساليب العيش، وأنماط السلوك على الشعوب. وفي يومنا هذا، فإنّ المظهر الكامل والوحيد لهذا الإكراه والإلزام، هو الحضارة الغربيّة. ونحن لا ننطلق من عدائنا للغرب ومواجهتنا له ـ فهذا الكلام ناشئٌ من الدّراسة ـ فإنّ المواجهة والعداوة ليست عاطفيّة1. إنّ بعض الناس وبمجرّد أن يأتي ذكر الغرب وحضارته وأساليبه ومؤامراته وعداواته يحمل ذلك على العداء للغرب ويقولون إنّكم أعداءٌ له. كلّا، نحن ليس لدينا مثل هذا العداء والثأر مع الغرب ـ بالطبع، لدينا ثأر ـ لكنّنا لسنا مغرضين، بل إنّ هذا الكلام مدروسٌ.
ثقافة الغرب هجوميّة
إنّ تقليد الغرب بالنّسبة للدّول التي استحسنت هذا التقليد لنفسها وعملت به، لم يعد عليها إلّا بالضرر والفاجعة، بما في ذلك الدّول التي وصلت بحسب الظاهر إلى الصناعات والاختراعات والثروة لكنّها كانت مقلّدة. والسبب هو أنّ ثقافة الغرب هي ثقافة هجوميّة. هذه الثقافة هي ثقافةٌ لإبادة الثقافات. فأينما جاء الغربيّون أبادوا
1- لا تنطلق من مشاعر عدوانية.
502
425
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
الثقافات المحلّيّة، واجتثّوا الأسس الاجتماعيّة، وغيّروا تاريخ الشعوب ولغاتها وحروفها (خطوطها) ما استطاعوا. أينما حلّ الإنكليز بدّلوا لغة الناس المحليّة إلى الإنكليزيّة، وإذا وُجدت اللغة المناسبة، فإنّهم كانوا يجتثّونها من الجذور. ففي شبه القارّة الهنديّة كانت اللغة الفارسيّة هي اللغة الرسميّة لعدّة قرون، فكلّ المكاتبات والمراسلات الحكوميّة ومكاتبات الناس والعلماء والمدارس الأساسيّة والشخصيّات الرئيسيّة كانت تجري باللغة الفارسيّة. جاء الإنكليز ومنعوا اللغة الفارسيّة بالقوّة في الهند، وروّجوا للغة الإنكليزية. لقد كانت شبه القارّة الهنديّة من المراكز الأساسيّة للغة الفارسيّة، واليوم اللغة الفارسيّة هناك غريبة، أمّا اللغة الإنكليزية فهي لغة الديوان ولغة المراسلات الحكوميّة مع إنكلترا، وإنّ المحادثات الأساسيّة للنخب هي باللغة الإنكليزيّة ـ فينبغي أن يتحدّثوا باللغة الإنكليزية ـ وهذا ما فُرض عليهم. ولقد حدث هذا في جميع الدول التي وُجد فيها الإنكليز في عصر الاستعمار، فُرضت فرضاً. أمّا نحن فلم نفرض اللغة الفارسيّة على أحد. كانت اللغة الفارسيّة رائجةً في الهند، وقد رحّب بها الهنود أنفسهم، وكانت الشخصيّات الهنديّة تنشد الشعر وتؤلّفه باللغة الفارسيّة. فمنذ القرن السابع والثامن الهجريين وإلى هذا الزمن الأخير قبل مجيء الإنكليز، كان هناك شعراء كثر في الهند، يؤلّفون الشعر بالفارسيّة، مثل أمير خسرو دهلوي1 وبيديل الدهلوي ـ اللذين كانا من أهل دهلي ـ وكثير من الشعراء الآخرين. إقبال اللاهوري2 كان من أهل لاهور، لكنّ شعره الفارسيّ أكثر شهرةً من شعره في اللغات الأخرى. لم نفعل ما فعله الإنكليز في ترويج اللغة الإنكليزية في الهند، بل راجت اللغة الفارسيّة برغبة الناس، وإقبال الشعراء والعارفين، والعلماء وأمثالهم بشكل طبيعيّ، لكنّ الإنكليز جاؤوا وأجبروا الناس على أن لا يتحدّثوا باللغة الفارسيّة، وقد حدّدوا عقوبات معيّنة لكلّ من يتحدّث أو يكتب باللغة الفارسيّة.
1- أمير خسرو دهلوي (1325م) من أكبر شعراء الهند، عاش أكثر حياته في دلهي العاصمة، أبوه تركي الأصل. له خمسة دواوين شعرية، وله مخمسات شعرية أيضاً، ورواية مفتاح الفتوح، ومجموعة من القصائد الغزلية والتاريخية، وله أعمال نثرية منها، خزائن الفتوح، وكتاب في البلاغة باسم إعجاز خسروي، أكثر كتبه ما تزال مخطوطة.
2- إقبال اللاهوري (ولد عام 1873م)، من رواد الإصلاح المعروفين في أوائل القرن التاسع عشر في شبه القارة الهندية، شاعر ومجدد درس الفلسفة وعلوم القرآن، ودرّس الآداب والفلسفة. دعا إلى الوحدة بين المسلمين، وإلى التقدم العلمي في بلادهم. كانت له نشاطات سياسية في عصر هيمنة الغرب على شبه القارة الهندية. حضر أول مؤتمر إسلامي حول فلسطين ببيت المقدس، مع مولوي شوكت ممثلاً مسلمي الهند، وحضر حينها العلماء: كاشف الغطاء من العراق، والطباطبائي من إيران، وأمين الحسيني من فلسطين... أنشد أشعاراً عديدة بالأردية والفارسية والانكليزية، من مؤلفاته " إحياء الفكر الديني" بالإضافة إلى ديوانه الشعري " أسرار الذات".
503
426
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
خصائص الثقافة الغربيّة
وقد فرض الفرنسيّون أيضاً اللغة الفرنسيّة في كلّ الدول التي كانت تحت استعمارهم. ذات مرّة، جاء أحد الرؤساء في شمالي أفريقيا - التي كانت فرنسا تهيمن عليها وتسيطر لسنوات - ليلتقي بي حينما كنت رئيساً للجمهوريّة. كان يتحدّث معي باللغة العربية، وبعدها أراد أن يقول جملةً فلم يتذكّر الكلمة العربيّة المناسبة ولم يعرفها، سأل معاونه أو وزيره فقال له باللغة الفرنسيّة ماذا تصبح هذه الجملة باللغة العربيّة؟ فقال له حسناً، هكذا تصبح الجملة باللغة العربيّة. أي أنّ هذا العربيّ لم يتمكّن من أداء مقصوده باللغة العربيّة، واضطرّ أن يسأل رفيقه بالفرنسيّة ليقول له إنّ هذا هو المطلوب! أي إنّهم قد أُبعدوا عن لغتهم الأساسيّة إلى هذا الحدّ، وقد تمّ فرض هذا الأمر عليهم لسنوات. وهكذا فعل البرتغاليّون والهولنديّون والإسبانيّون، فأينما ذهبوا فرضوا لغاتهم، وهذا ما يمكن تسميته بالثقافة الهجوميّة. لهذا، فإنّ ثقافة الغرب هجوميّة، أينما استطاعوا، اجتثّوا أسس الثقافات والعقائد.
إيران والثقافة الغربية
وفي بلدنا، حيث لم يكن الاستعمار المباشر موجوداً، فببركة جهاد عدّة من العظماء لم يتمكّن الإنكليز من الدخول بصورة مباشرة، فاستعملوا أفراداً نيابةً عنهم. ولو أنّ معاهدة 1299هـ .ش. أي 1919 ميلاديّة المعروفة بمعاهدة "وثوق الدولة" لم تتم مواجهتها في إيران بمقاومة أمثال المرحوم المدرّس1، وبعض طلّاب الحريّة الآخرين، ولو نُفّذت هذه المعاهدة لكان استعمار إيران حتميّاً مثل الهند ـ لكنّ رجالنا لم يسمحوا بحصول هذا الأمر. لكنّهم فرضوا علينا ثقافتهم بواسطة عملائهم، وبتنصيب رضا خان البهلوي وتقويته، وبتعيين المثقّفين التابعين للغرب إلى جانبه، حيث إنّه ليس من الضروريّ الآن أن آتي على ذكر الأسماء ولا أحبّ ذلك. وقد كان بعض الوزراء والنخب السياسيّة من ذوي الثقافة التابعين للبلاط البهلوي، عملاء للغرب، وقاموا بكل ما استطاعوا من أجل تغيير ثقافة بلدنا، وكان من مقولاتهم قضيّة نزع الحجاب، أو قضيّة الضغط على العلماء أو القضاء على حضورهم في البلد، ومقولات كثيرة أخرى كانوا يسعون إليها في عهد رضا خان البلهوي. إنّ الثقافة الغربيّة هي ثقافة
1- العلامة السيد حسن المدرّس (ولد1870م)، عالم ومفكر، أحد أقطاب الحركة الدستورية (1903م)، معروف بزهده ونبوغه ومواجهته لمخططات الغرب والانكليز في إيران، ساهم - مع بقية العلماء والقوى الوطنية آنذاك - في الدفع لإسقاط حكومة "وثوق الدولة" رئيس حكومة القاجار الذي أبرم معاهدة بين إيران والانكليز عام 1919م، وبالتالي سقوط المعاهدة المذلّة.
504
427
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
هجوميّة، وأينما جاءت اجتثّت الهويات، وقضت على هوية الشعوب. فالثقافة الغربية تجعل الأذهان والأفكار مادّيّة، وتنمّي النزعة المادّية، وتجعل المال والثروة هدف الحياة، وتجتث المبادئ السامية والقيم المعنويّة والرقيّ الروحيّ من الأذهان. هذه هي خصوصيّة الثقافة الغربيّة.
جعل المعصية أمراً عادياً
ومن خصائص الثقافة الغربيّة جعل المعصيّة أمراً عاديّاً، وكذلك الآثام الجنسيّة. وقد جلب هذا الوضع في يومنا هذا العار للغرب. في البداية، كان الأمر في إنكلترا، ثمّ انتقل إلى بعض الدّول الأخرى وأمريكا. فأصبحت هذه المعصية الكبرى المتعلّقة بالشذوذ الجنسيّ قيمةً، ويتمّ الاعتراض على السياسيّ الفلانيّ لأنّه يخالف الشذوذ أو يعارض الشاذّين! انظروا إلى أين يصل الانحطاط الأخلاقيّ، هذه هي الثقافة الغربيّة. كذلك هناك تفكّك الأسرة وانتشار المشروبات الكحوليّة والمخدّرات.
في السنوات الماضية ـ في العقد الثلاثينيّ والأربعينيّ ـ رأيت في مناطق جنوب خراسان كباراً وأفراداً من أصحاب الفكر والشيوخ يتذكّرون كيف روّج الإنكليز للأفيون1 بأساليب خاصّة بين الناس، فالناس لم يكونوا يعرفون ما معنى تعاطي الأفيون، ولم تكن مثل هذه الأمور موجودةً. يتذكّر هؤلاء الأشخاص ويذكرون خصوصيّاتها. فبمثل هذه الأساليب كانوا يروّجون للمخدّرات بشكل تدريجيّ داخل البلد. هكذا هي الثقافة الغربيّة.
ليست الثقافة الغربيّة مجرّد طائرة ووسائل الراحة في العيش أو وسائل السّرعة والسهولة، فهذه ظواهر الثقافة الغربيّة التي لا تُعتبر أمراً مصيريّاً. إنّ باطن الثقافة الغربيّة عبارة عن ذاك النمط من الحياة الماديّة الملوّثة بالشهوات والآثام والمعادية للهويّات والمعنويّات. وشرط الوصول إلى الحضارة الإسلاميّة الجديدة يكون بالدرجة الأولى في اجتناب تقليد الغرب. ونحن للأسف وطيلة هذه السّنوات المتمادية اعتدنا على أشياء وقلّدناها.
أنا العبد لا أؤيّد قيام حركة جمعيّة وعامّة بشأن اللباس والمسكن وسائر الأشياء الأخرى دفعةً واحدة. كلّا، يجب أن تحصل هذه الأمور بالتدريج، وهي لا تفرض بالقانون (بإلزام القانون)، بل إنّها تتطلّب عملية بناء ثقافيّ. مثلما قلت إنّه عمل النخب، وعمل بناة الثقافة. ويجب عليكم أيّها الشباب أن تجهّزوا أنفسكم لأجل هذا، فهذه هي الرسالة الأساسيّة.
1- الترياك بالاصطلاح الإيراني.
505
428
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
إصلاح نمط العيش والسلوك
إنّنا نروّج العلم والصّناعة والاختراع والإبداع، ونجلّ ونحترم كلّ مبتكرٍ وكل ابتكار ـ فهذا محفوظ في مكانه ـ ولكن كما قلنا، إنّ أصل القضيّة في مكانٍ آخر. إنّ أساس القضيّة هو إصلاح نمط العيش والسلوك الاجتماعيّ، والأخلاق العامّة، وثقافة الحياة. يجب علينا أن نتقدّم في هذا المجال وأن نسعى. فالحضارة الإسلامية الجديدة التي ندّعيها ونسعى إليها، والثورة الإسلاميّة تريد تحقيقها، لن تتحقّق بمعزل عن هذا القسم. فلو تحقّقت هذه الحضارة، عندها سيكون شعب إيران في أوج العزّة وستتبعها الثروة والرّفاهية والأمن والعزّة الدوليّة وكلّ شيءٍ سيتلازم مع المعنويّات.
عنصر الفنّ أداة قويّة لثقافة الغرب
ومن النقاط التي ينبغي الالتفات إليها في مواجهة عالم الغرب بشكل كامل، هو عنصر الفنّ وأداته التي يستخدمها الغربيّون. لقد استفادوا من الفنّ إلى أقصى الحدود من أجل ترويج هذه الثقافة الخاطئة والمنحطّة والماحقة للهويّات، ولا سيّما الفنون المسرحية (الأدائية)، وخاصّة الاستفادة من السينما وبأقصى ما يمكن. فهؤلاء يجعلون أيّ شعبٍ تحت الدراسة على شكل مشروعٍ ما، فيكتشفون نقاط ضعفه ويستفيدون من علماء النفس وعلماء الاجتماع والمؤرّخين والفنّانين وأمثالهم، ليكتشفوا طرق الهيمنة على هذا الشعب. ثمّ بعد ذلك، يوصون منتجاً سينمائيّاً أو مؤسّسة فنّيّة في هوليوود لكي تصنع فيلماً. فالكثير من الأفلام التي ينتجونها لنا وللدول هو من هذا القبيل. ليس لديّ اطّلاعٌ على الأفلام المتعلّقة بالدّاخل الأمريكيّ، لكنّ ما ينتجونه للشعوب فيه بعدٌ هجوميّ. قبل عدّة سنوات، نُشر في الأخبار أنّ بعض الدول الأوروبيّة الكبرى قرّرت أن تواجه الأفلام الأمريكية. هؤلاء ليسوا مسلمين، لكنّهم يستشعرون هذا الخطر، خطر الهجوم. وبالطبع، إنّ الدول الإسلاميّة، وبلدنا الثوريّ بشكل أخصّ، يستشعرون هذا الأمر أكثر. فهم ينظرون ويقيسون الخصائص، ويزنون الأوضاع، وينتجون الأفلام، ويعدّون الأخبار على هذا الأساس، وكذا الإعلام فإنّهم يشكّلونه ويبثّونه وفقاً لذلك. يجب الالتفات إلى هذه الأشياء. إنّهم يصنعون السلائق ويبنون الثقافات، وبعد تبديل السلائق والأذواق، يبدأون بالدولارات وبإرسال القوّات العسكرية والجنرالات، إذا ما احتاجوا إلى القوّة والهيمنة. هذا هو أسلوب حركة الغربيين ويجب الالتفات إليهم. يجب على الجميع أن يشعروا أنّ مسؤولية إيجاد الحضارة الإسلاميّة الجديدة هو على عاتقهم، وأحد حدود وثغور هذا العمل هو مواجهة الحضارة الغربيّة، بحيث لا يكون فيها التقليد.
506
429
في لقاء حشدٍ كبيرٍ من الشباب والطلّاب في محافظة خراسان الشماليّة
حذارِ النزعة السطحيّة والتحجّر
في النهاية أضيف نقطةً: إنّ ما عرضناه اليوم هو بداية البحث وسوف نعود ونتحدّث في هذه المجالات. ونتوقّع من أهل الفكر والرأي في المراكز التي تستطيع وتتمتّع بالكفاءة والأهليّة لهذا العمل، أن يعملوا ويفكّروا ويطالعوا في هذا المجال من أجل أن نتمكّن من التقدّم. فلنحذر لئلّا نُبتلى بالسطحيّة والنّزعة الشكلية والظاهرية والتحجّر ـ هذا جانبٌ من القضيّة ـ والعلمانيّة الخفيّة. في بعض الأحيان يكون الإعلام (والتوجهات الإعلامية)، ظاهره دينيّاً والكلام كلام الدين، والشعار شعار الدين، أمّا في الباطن فيكون علمانيّا، أي يدعو لفصل الدين عن الحياة. إنّ ما يجري على اللسان لا دخالة له في التخطيط وفي العمل، ندّعي، نتحدّث، نطلق الشعارات، لكن عندما يأتي دور العمل لا يبقى خبرٌ عمّا أطلقناه من شعارات.
إنّ الثورة الإسلاميّة مقتدرة. إنّ القدرة والسعة والطاقة المتراكمة موجودة في الثورة الإسلاميّة، ولديها القدرة على إزالة جميع هذه الموانع التي ذكرتها، والكثير مما لم أذكره، وعلى تقديم تلك الحضارة المميّزة والسامية والراقية بعظمتها وأبّهتها الإسلامية أمام أنظار كلّ العالمين، وسوف يتحقّق ذلك في زمانكم، وإن شاء الله يكون على أيديكم وبهممكم. فهيّئوا أنفسكم بكلّ ما تستطيعونه من ناحية العلم والعمل والتزكية وتقوية الرّوح وتقوية الجسم ـ كما ذُكر مراراً ـ لتحملوا هذا الحمل الثقيل على عاتقكم، إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
507
430
في لقاء أهالي شيروان
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء أهالي شيروان
المناسبة: زيارة مدينة شيروان (خراسان الشماليّة).
الحضور: أهالي المدينة والجوار.
الزمان: 15/10/2012م.
509
431
في لقاء أهالي شيروان
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والحمد للّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديّين المعصومين المكرّمين، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين.
أشكر الله تعالى على عناية توفيقه لهذا العبد الحقير، أن تمكّن من اللقاء بكم أيّها المؤمنون والأعزّاء من أهالي شيروان1، أهل اللطف والمحبّة في هذا الجمع الحماسيّ والحميم.
شيروان، تضحيات وتعايش أخوي
إنّ ذكرياتنا عن مدينتكم وأهاليكم هي ذكريات طيّبة. ففي مرحلة الامتحانات الصّعبة والكبيرة كانت مدينة شيروان من المناطق التي نجحت في امتحانها، وثبّتت اسمها الطيّب في ديوان الذكرى. فبالإضافة إلى مئات الشّهداء والجرحى المعوّقين في مرحلة الدّفاع المقدّس ـ الذين قدّمهم الأهالي الأعزّاء لشيروان وضواحيها ـ يوجد فيها أسماء لسبعة قادة من بين شهداء هذه الدّيار. فإعداد القادة وإرسالهم لإدارة الميادين الصّعبة، ومن ثمّ شهادتهم، ليست بالحوادث التي يمكن أن تُنسى على مرّ التّاريخ. واليوم أيضاً يوجد في هذه المدينة وهذه المحافظة عدّة آلاف من التعبويين، والهيئات الدينيّة الفعّالة، بالإضافة إلى النّخب الثقافيّة والرياضيّة. كلّ ذلك يشير إلى هويّة كلّ منطقة من مناطق البلاد. على شبابنا الأعزّاء ـ سواء أكانو في هذا القضاء أم في سائر أقضية هذه المحافظة ـ أن يفخروا بأنفسهم لهذه النجّاحات، وأن يعدّوها للقيام بالأعمال الكبرى في المستقبل.
إنّ من مآثر هذه المدينة وهذه المحافظة ـ وهو أمرٌ ملموس تماماً في قضاء شيروان هذا ـ هو هذا التعايش الأخويّ والإسلاميّ بين القوميّات المختلفة من الكرد والترك والفرس والتات. وإن شاء الله يتمكّن شبابكم، من النّساء والرّجال، مستقبلاً، من تقديم المزيد من الوجوه الساطعة، وبأعداد أكبر لهذا المجتمع في بلدهم العزيز ومن أجل رفعة ثورتهم، وهو أملٌ ليس بعيد المنال.
الاستقرار الأمنيّ والثبات السياسيّ فرصة
ما أرغب بذكره لكم أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء الشيروانيون، هو أنّ جدّ شعبنا العزيز ونباهة ووعي وبصيرة أهالينا الأعزّاء في هذه المحافظة وفي كلّ هذا البلد، قد أدّى إلى أن يتمتّع بلدنا بثباتٍ سياسيٍّ مستديم، وهذه نعمةٌ كُبرى. إنّ من أسلحة
1- إحدى مدن محافظة خراسان الشمالية وهي مركز أحد الأقضية، وتقع غرب مدينة بجنورد.
511
432
في لقاء أهالي شيروان
المتسلّطين المستبدّين والعدوانيين أن يوجدوا عدم الاستقرار في البلدان المختلفة. وقد شاهدتم نموذجاً منه بأنفسكم، سواء في منطقتنا أم في سائر المناطق المختلفة من هذا العالم الكبير. فأنتم ترون كيف أنّ هؤلاء المتسلّطين، أينما استطاعوا وبأيّة دولة طمعوا، ومن أجل أن يثبّتوا سلطتهم في تلك الدول وفي تلك المناطق، كيف أنّهم يوجدون عدم الاستقرار بين أهالي تلك الدولة، أو بين الدولة نفسها والدول المجاورة، فيختلقون الخلافات والنزاعات من أجل الوصول إلى عدم الاستقرار في الأنظمة. وهكذا تستفيد من عدم الاستقرار هذا مصانع الأسلحة، والكارتيلات وشركات الائتمان والسماسرة الاقتصاديون الكبار الحاكمون على الأجهزة السياسيّة للغرب.
إنّ إيجاد عدم الاستقرار هو اليوم من سياسات الأجهزة الاستكبارية. وقد استطاع نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، في هذا الزّمن، وفي مثل هذه الظّروف، وببركة إيمانكم أيّها الناس، وببركة البصيرة التي وُجدت في شعبنا بفضل الله، أن يحقّق دولةً ثابتةً مستقرّةً رغم أنوف الأعداء.
إنّ كلّ واحدٍ من أبناء هذا الشعب هو دعامة الثبات والاستقرار الذي تحقّق في البلد، وبالطبع، في المقابل، فإنّ أكثر الفوائد الناجمة عن هذا الثبات والاستقرار في هذا النظام السياسيّ للبلد، يعود على الناس أنفسهم. فالشّعب الّذي يحصل على الأمن والثبات السياسيّ واستقرار الأجهزة الحاكمة في النظام، سيجد الفرصة للنزول إلى الميادين المختلفة والمشاركة في مضامير السباق الإنسانيّ ليحقّق الريادة والتفوّق. إنّ الأمن والاستقرار بالنسبة لأيّة دولةٍ يُعدّ أحد أهم المطالب وأكثرها إنتاجيّةً لأيّ شعبٍ.
السكينة الإلهيّة نعمة كبرى
يقول الله تعالى في سورة الفتح من القرآن الكريم ـ حيث يعرّف الفتح الذي حقّقه المسلمون كنعمة كبرى للنبيّ و الناس: ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾1. هكذا يعدّ نزول السكينة الإلهيّة على المجتمع الإسلاميّ نعمةً كبرى، فالسكينة هي الهدوء والطمأنينة. قد يقع الاضطّراب وسط شعبٍ ما، ويفقد الطمأنينة، ويصبح الجّميع سيّئي الظنّ ببعضهم بعضاً، ويواجهون بعضهم بعضاً بالعداء والنّزاع، وتصبح الأجهزة الحاكمة في مواجهة الناس، و الناس في مقابل هذه الأجهزة الحاكمة، فمثل هذه الدّولة الفاقدة للأمن لا يمكنها أن تتقدّم على صعيد العلم والاقتصاد والصّناعة والعزّة الوطنيّة. لكن عندما
1- الفتح،26.
512
433
في لقاء أهالي شيروان
يكون هناك استقرارٌ وأمنٌ وثباتٌ في أيّة دولة، فإنّ شعبها سيجد الفرصة لإظهار استعداداته وطاقاته الكامنة. وهكذا ترون أنّه بالرغم من تهديد الأعداء وحظرهم وحصارهم وخبثهم، استطاع شعب إيران وشبابنا الأعزّاء أن يبرزوا في الميادين المختلفة، وأن يظهروا للعالم عظمتهم وطاقاتهم واستعداداتهم في مختلف المجالات، كلّ هذا ببركة الثبات.
لقد سعى أعداؤنا مرّاتٍ ومرّات للقضاء على هذا الثبات السياسيّ بالأساليب المختلفة. ففي بداية الثّورة، سعوا لئلّا تصل الثّورة الإسلاميّة إلى الاستقرار، ولئلّا تخرج الدّولة من مخاض الثّورة، وذلك من خلال إيجاد النّزاعات القوميّة في شرقيّ البلد وغربيّه وفي الشمال والجنوب، لكنّهم لم يفلحوا. بعد ذلك سعوا للقضاء على أمن البلد من خلال هجوم جارٍ مجنون ـ فقد كان صدّام وحشيّاً ومجنوناً ومنفلت العقال وخطراً بكل ما للكلمة من معنى ـ أعانته جماعات من الداخل، تلك الجماعات التي التجأت إلى أحضانه فيما بعد1. ولعلكم شاهدتم كيف أنّ الأمور التي أرادوها انتهت خلافاً لرغبتهم بـ 180 درجة. فالحرب المفروضة وهجوم العدوّ لا أنّه لم يقضِ على ثبات واستقرار البلد فحسب، بل زاد من اتّحاد الشعب.
سلب الاستقرار هدف العدوّ
لقد شاهدتم في مناطقكم هذه، في منطقة شمال خراسان، التي تُسمّى اليوم بمحافظة خراسان الشماليّة، وبالرغم من المسافة الكبيرة التي تفصلها عن ميدان الحرب، فأين منطقتا الجنوب والشمال الغربيّ في البلد، من محافظة خراسان الشماليّة وشيروان وبجنورد؟ كيف أنّ أهالي هذه المنطقة اتّحدوا في ميدان المواجهة ضدّ العدوّ، وكيف أنّ قضيّة الترك والفرس والكرد والكرمانج والتركمان وبقيّة القوميّات لم تعد مطروحةً، وكذلك قضيّة الشيعة والسنّة، بل اتّحد الجميع فيما بينهم، ووقفوا في مواجهة العدوّ، وقدّموا شبابهم وبعثوا برجالهم2. وفي بعض الأحيان كانت العائلة الواحدة ترسل أربعةً من شبابها إلى ميدان الحرب. وكان والد الشباب الأربعة يقول: فليبقَ أحدكم لإدارة المنزل، كي أذهب إلى الحرب بنفسي. فأين يمكن أن نجد مثل هذا التسابق في تقديم الأنفس؟
1- المقصود: جماعة بني صدر الرئيس السابق للجمهورية الذي عزله الشعب بعد خيانته، وجماعة من أتباعه الذين تعاملوا مع أعداء إيران، فحدثت مجازر واغتيالات وإخفاقات في الحرب المفروضة نتيجة تواطئهم مع الغرب ونظام صدام. وكذلك منظمة (منافقي خلق) وغيرهم الذين آذوا الثورة من الداخل. وبعد انكشافهم لجؤوا علنا إلى فرنسا والعراق.
2- إلى ساحات الدفاع المقدس في الطرف الغربي والجنوبي إبان الحرب المفروضة في ثمانينيات القرن الماضي.
513
434
في لقاء أهالي شيروان
لقد أراد العدوّ أن يقضي على استقرار البلد وثباته، وأن يسلب شعب إيران هذا الاستقرار، لكنّ الله تعالى وفي مقابل كيد الأعداء هذا، كان له تقديرٌ معاكس تماماً، ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾1. وتقدّم الشعب ببركة الدفاع المقدّس من حيث كان، وازدادت استعداداته. وهكذا لم تؤثّر في شعب إيران مؤامرة الأعداء المستكبرين والذئاب التي تقتات على الدماء.
ثمّ سعوا فيما بعد للقضاء على هذا الثبات من الداخل. وأنا هنا أشير فقط ولا أريد أن أدخل إلى التفاصيل. كانت خطّة العدوّ ومؤامرته على هذا المنوال، سواء أكان عام 1978 أم عام 1988هـ .ش (1998م و2009م)2 مع فارق عشر سنوات، ففي الحالتين كان سعيهم لسلب البلد الثبات السياسيّ، وإيجاد الاضطراب فيه، وسلب الشعب هذا الاستقرار العام.
اعرفوا قيمة الاستقرار والثبات
يجب علينا أن نعرف قدر هذا الثبات والاستقرار. وليعرف هذا الشعب قدر هذا الأمر. وأنا في حديثي معكم، واقعاً، أتوجّه بخطابي لأولئك الذين لا يريدون لقيمة الثبات والاستقرار أن تُقدّر. هؤلاء الذين يسعون من خلال حركاتهم وأعمالهم القبيحة وتحريفاتهم، للقضاء على هذا الثّبات والاستقرار وهذه الطمأنينة الموجودة في البلد. بالطبع، إنّ المسؤولين في البلد يقِظون من خلال التدبير والإدارة. وإنّني أيضاً أؤكّد على مسؤولي السّلطة التنفيذيّة، أو مسؤولي السلطة التشريعيّة، أو السلطة القضائيّة، أن يكونوا يقظين لكي لا يتمكّن الأشرار والأعداء، بتآمرهم، من القضاء على هذا الاستقرار الموجود على مستوى البلاد الذي هو أفضل علامة على اقتداره، والذي يمكنه أن يجلب لهم جميع الخيرات.
أّيّها المسؤولون كونوا يقظين
ها نحن على مشارف الانتخابات، بعد عدّة أشهر من الآن3. ويجب إلى ما قبل الانتخابات وأثناءها، أن تتركّز همّة جميع المسؤولين على الحفاظ على هذا الاستقرار السياسيّ للبلد، وأن يحولوا دون تحوّل الجوّ السياسيّ فيه إلى جوٍّ مليءٍ بالاضطرابات والهرج والمرج، وهذا الأمر إنّما يتحقّق بوعي مسؤولي البلاد إن شاء الله.
1- آل عمران،54.
2- راجع حاشية الصفحة 253.
3- انتخابات رئاسة الجمهورية في الربيع القادم (2013م.).
514
435
في لقاء أهالي شيروان
بالطبع، إن الشعب في الواقع يقظٌ وبصير. فماذا يقول المرء عن هذا الوعي والبصيرة؟ ف الناس بعمومهم تنظر دوماً إلى مصالح البلد نظرةً صحيحة. هذه هي تجربتنا. فطيلة هذه العقود الثلاثة1، استطاع هذا الشعب أن يتحمّل أي مسؤوليّةٍ أُنيطت به على أفضل وجه. لقد أراد الأعداء إخراج الشعب من الميادين التي عليه الحضور فيها، لكنّهم لن يتمكّنوا. وأرادوا أن يُبتلى الناس بالتشتّت والاختلاف والتنازع فيما بينهم، وأن يغفلوا عن مصالح بلدهم وتطوّره، لكنّهم لم يتمكّنوا. فقد كشف أداء الناس عن وجود البصيرة لديهم. إنّ بصيرة الشعب، بحقٍّ وإنصاف، هي مضرب مثل، وهذا أيضاً هو فعل الله. فالقلوب بيد الله، وكلّ الإرادات مقهورةٌ لإرادته. فالناس مؤمنون ويتوجّهون إلى الحقائق، وأكثر توصياتنا موجّهة إلى المسؤولين، وإلى السياسيين، وإلى المديرين المختلفين، كونوا يقظين دوماً لئلّا يتمكّن العدوّ من القضاء على هذا الثبات والاستقرار والطمأنينة التي تحقّقت في هذه البلاد بفضل الله، حيث إنّ العدوّ قد سعى دوماً لذلك، إلا أنّه أخفق. فليسعَ المسؤولون لحفظ هذا الثبات والاستقرار، وليمنعوا حصول مثل هذا التّنازع. فأحياناً، كلمةٌ واحدة أو عملٌ غير موزون أو إقدامٌ في غير محلّه يؤدّي إلى حصول مثل هذا التنازع ضمن البيئة السياسيّة، فعليهم أن يلتفتوا جيّداً.
خدمة الشعب والثقة بالمسؤولين
بالطّبع، إنّ هذا الشعب العزيز يستحقّ حقيقةً أن يصرف المسؤولون كلّ وقتهم وسعيهم من أجل التقدّم بشؤونه. إنّني أنظر إلى قضايا محافظة خراسان الشماليّة ـ قضايا بجنورد وشيروان وأسفراين وباقي الأقضية والقطاعات في هذه المحافظة ـ وأرى الكثير من الأعمال، وهذا يقع على عاتق المسؤولين، سواء أكانوا ممثّلي السلطة التشريعيّة أم السلطة التنفيذية، فالكلّ مكلّفٌ بالعمل للناس، وتقديم الخدمات. وفي قضاء شيروان، يوجد الكثير من الأعمال التي ينبغي أن تُنجز.
بالطبع، أقول لكم أيّها الناس أن تثقوا بمسؤوليكم. المسؤولون يريدون العمل، ويرغبون بالسعي، فالنوايا جيّدة. يوجد اليوم توجّه لخدمة الناس. بالطبع، توجد في بعض الأوقات سلائق وأساليب غير صحيحة، وأحياناً لا تكون الإمكانات متوفّرة بتمامها، فعلى الجميع أن يسعوا ويتعاضدوا من أجل القضاء على المشاكل الموجودة سواء في المجالات الاقتصاديّة أم الثقافيّة.
1- مرت ثلاثة عقود على الثورة منذ العام 1979م.
515
436
في لقاء أهالي شيروان
حلّ مشكلة البطالة
إنّ المشكلة الأساسيّة والمهمّة في هذا القضاء، كما في باقي أقضية هذه المحافظة، وبعض المحافظات الأخرى في البلد، هي مشكلة البطالة، وهذا ما يتطلّب السعي لإيجاد فرص عمل إن شاء الله. والمشكلة الأخرى هي قضيّة الإدمان الموجودة في هذه المحافظة وفي هذا القسم. لقد حذّرت في هذا السفر وطلبت من الشباب أنفسهم، قلت: أيها الشباب الأعزّاء، إنّنا نعتبركم متحمّسين وأصحاب عزم واستقامة، هكذا نراكم. فالواقع هو هكذا. إنّ شباب هذه المحافظة يُعدّون بلحاظ المستوى الثقافيّ، والفهم والنباهة من المتقدّمين. يرى الإنسان شباباً في هذه المحافظة هم في الطليعة. فعلى هؤلاء الشباب الشجعان والروّاد أن يكونوا أيضاً من الروّاد في مواجهة ومحاربة الخطر المهلك للإدمان والتلوّث بالمخدّرات. يجب أن يقاوموا بأنفسهم، ويجب أن يحاربوا بأنفسهم. فهذه مواجهة تقع بشكل مشترك ومتلازم على عاتق المسؤولين و الناس أنفسهم. أنا العبد متفائلٌ جدّاً من الشباب، وأعتقد أنّ شبابنا الأعزّاء إذا أرادوا لتمكنّوا من مواجهة ومحاربة الأخطار الكبرى، ومنها خطر المخدّرات في هذه المحافظة.
شعب إيران في الساحة دوماً
إن الناس في جميع أرجاء البلاد، هم بحمد الله مفعمون بالبهجة والنشاط. فليرَ أعداؤنا هذا الأمر وليكونوا على علم به. فأولئك الذين كانوا يريدون أن يجعلوا الناس محبطين ويائسين بواسطة الحظر، وأن يجعلوهم متعبين، فليروا تحرّك الناس هذا، وهذه التجّمعات العظيمة، وهذه الحركة الفوّارة والحماسيّة لأهالي هذه المحافظة، كبقيّة المحافظات الأخرى. فليروا كم للناس من حضور في الساحات، وكم أنّ عزمهم وإرادتهم راسخة في الدّفاع عن النظام. فكلّ هذا مليءٌ بالعبر. هؤلاء يقولون شعب إيران1. وعلى ما يبدو فإنّ أولئك الذين يأتون على ذكر شعب إيران ـ من زعماء أمريكا وغيرها ـ لا يعتبرونكم شعب إيران! فشعب إيران بنظرهم هو موجودٌ موهومٌ، وتصوّرٌ وهميّ، يتحدّثون عنه حيث يقولون إنّ هذا الشعب مخالفٌ للنّظام، ومخالفٌ للإسلام. إنّ شعب إيران هو الذي شاهدتموه ماذا يفعل في هذه الساحات العظيمة. في هذه الأيّام القليلة أظهر أهالي بجنورد وأسفراين وسائر مناطق هذه المحافظة،
1- الأطراف الدوليّة المعادية للثورة التي تخاطب الشعب الإيراني من الخارج بلغة لا تنطبق على هويته وحقيقته في الواقع.
516
437
في لقاء أهالي شيروان
ملحمةً لجميع شعوب العالم. بالطبع، إنّهم يسعون في وكالات أنبائهم وفي وسائلهم الإعلاميّة لأن يقلّلوا من وهج الأخبار وأن لا يظهروا حضور الناس، لكنّهم يدركون هذا الواقع ويرونه.
النظرة العلميّة، والتخطيط والثبات
إنّ ما نوصي به مسؤولي الدولة المحترمين في المجال الاقتصاديّ ـ وهو ما يرتبط بالقضايا الأساسيّة، والتي يركز العدوّ عليها أيضاً ـ هو أن يلتفتوا إلى هذه العناصر الثلاثة في التقدّم الاقتصاديّ:
أولاً، في الشأن الاقتصاديّ، يجب النظر إلى القضايا نظرةً علميّة كما في غيره من القضايا. ثانياً، إنّ التخطيط الناشئ عن تدبير وتأنٍّ والذي لا تراخِيَ فيه أو تقصير يُعدّ ضروريّاً. وهذا ينطبق على جميع القضايا الحساسة، ومنها القضايا الاقتصاديّة. ثالثاً، يتطلّب الأمر الثّبات والاستمراريّة في السياسات. فلو أخذ المسؤولون إن شاء الله هذه العناصر الثلاثة بعين الاعتبار في مورد التطوّر الاقتصاديّ للبلد - وهو كذلك، إذ يوجد من بين المسؤولين أشخاصٌ مميّزون وبارزون جدّاً من النّاحية العلميّة، وكذا من ناحية الحرص والاهتمام والتدبير - فبتوفيق الله وبحوله وقوّته لن يتمكّن أعداؤنا من ارتكاب أيّة حماقة في هذه المواجهة الاقتصاديّة مع هذا الشعب، كما لم يقدروا أن يفعلوا شيئاً في القطاعات الأخرى.
العدوّ مُتعَب يائس
إنّ شعب إيران بحمد الله ولطفه هو شعبٌ حيٌّ مبتهجٌ ونشيطٌ وحاضرٌ في الساحات، وحضوره متلازمٌ مع البصيرة ومتوائمٌ مع العزم والإرادة الراسخة. إنّ الأعداء يسعون لإظهار شعب إيران متعباً ويائساً. وها هم الناس بتحرّكاتهم يظهرون كذب العدوّ وأنّه مغرضٌ في حكمه. بالتأكيد، إنّ بعض الأبواق المحليّة وللأسف، تنطق وفق ميل العدوّ ـ لا نقول عمداً، ولكن غفلةً ـ وبعض هؤلاء هم أنفسهم متعبون، ويقولون إنّ الشعب قد تعب. إنّ الناس ليسوا متعبين، بل هم في الميدان وفي الساحات ومستعدّون للعمل. فيجب تجهيز الميدان للناس وفتحه، عندها سترون بأيّة دوافع واهتمام وبأي عزم راسخ سينزلون إلى الميادين، كلّما شعروا بوجود تكليفٍ، مثلما فعلوا اليوم.
517
438
في لقاء أهالي شيروان
نسأل الله تعالى أن ينزل فضله ورحمته وخيره وبركاته عليكم يا أهل قضاء شيروان الأعزّاء. وإن شاء الله يشمل شبابكم الأعزّاء بألطافه وتوفيقاته ويمنحهم حسن العاقبة. وإن شاء الله تكونون يوماً بعد يوم أفضل وأكثر بهجةً ومصحوبين بالمزيد من النجاح، ونسأله تعالى أن يحشر أرواح الشهداء المطهّرة وروح إمام الشهداء مع أوليائهم. إنّني أتوجّه بالشكر العميق لتجمّعكم العزيز والحماسيّ ولإظهار محبّتكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
518
439
في لقاء تعبويّي محافظة خراسان الشمالية
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء تعبويّي محافظة خراسان الشمالية
المناسبة: زيارة محافظة خراسان الشماليّة.
الحضور: تعبويّو المحافظة.
المكان: مصلّى الإمام الخميني - بجنورد.
الزمان: 15/10/2012م.
519
440
في لقاء تعبويّي محافظة خراسان الشمالية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، الهداة المهديّين، المعصومين المكرّمين، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين.
إنّ أبناء التعبئة الأعزّاء للمحافظة ينيرون أجواء لقائنا الحميم هذا بوجوههم النورانيّة التعبويّة، وقلوبهم التي هي أكثر نورانيّةً إن شاء الله. الأجواء هي أجواء المعنويّات والمحبّة والخلوص كسائر المجموعات والأنشطة التعبويّة.
إنّ البرامج التي نُفّذت كانت ممتازة. وهذا البرنامج الرياضيّ المحلّي1 هو يقيناً مرجّحٌ على الكثير من الأعمال التقليديّة، فهذه الرياضة هي رياضة الأبطال، وهي غنيّة بالتقاليد الإيرانيّة والإسلاميّة. ينبغي لهذه النّقاط أن تبقى في الذّاكرة دائماً، وهي أنّ ما هو لنا ومنّا قد امتزج بعقائدنا وإيماننا، ولو أردنا أن نعطي لكلّ ما نستورده الشكل الإيمانيّ والإسلاميّ والإيرانيّ، فيجب أن نحقن فيه هذه العناصر. ما هو مرتبطٌ بنا، هو بشكل طبيعيّ في بنيته، دينيٌّ وإيمانيّ. وجمعُ "حلقات الصّالحين"2 الذي استُعرض شيءٌ منه هنا، هو عملٌ ممتاز. وقد كان النّشيد، الذي أنشده الإخوة الأعزّاء، ممتازاً أيضاً، سواء أكان من ناحية المضمون أم الأداء. وبالطبع، التفتوا، وأنا أيضاً أؤكّد على أنّكم عندما تقولون: "يا سيّدي، يا مولاي" فليكن مقصودكم الوجود المقدّس لإمام الزمان سلام الله عليه.
خصائص التعبئة
لقد قيل الكثير بشأن التعبئة. وعندما ندقّق فيها ونتأمّل، فإنّ ما نكتشفه من نقاط بشأنها لن يكون فيه مبالغة. كذلك الأمر في ميدان العمل، فإنّ كلّ عملٍ أو تركيزٍ نقوم به من أجل ترسيخ التعبئة وتعميق الخصائص المتعلّقة والمختصّةٌ بها فإنّنا لا نكون أيضا قد بالغنا بالعمل. لماذا؟ لأنّ البلد له تجربةٌ جيّدة من ناحية مشاركة التعبئة في الميادين المختلفة، سواء في عصر الدّفاع المقدّس أم ما قبله، أم ما بعده، وإلى يومنا هذا، حيث إنّكم تعلمون تفاصيله وقد تناهى إلى مسامعكم، وأنا العبد سوف أشير إليه. أينما استشعرنا حضور التعبئة وحركتها، في أيّ ميدان كان، كان هنالك تقدّم، فهذه تجربةٌ
1- نوع من الألعاب الرياضية المعروفة عند أهل المنطقة بمصارعة "جوخه" قريبة من المصارعة الحرة.
2- حلقات الصّالحين: إحدى التشكيلات الموجودة في التعبئة من فئة الناشئة، تعتمد برامج مختلفة (علمية وتوجيهية وترفيهية ولياقات بدنية، وأنشطة صالحة، أي ضمن عمل الصالحين الذين وصفهم القرآن الكريم، كتقديم خدمات للناس في الأماكن العامة والمناسبات الدينية والوطنية وخدمة المصلين ومجالس العزاء...) تهدف إلى تقوية البناء الثقافي والديني والعلمي، والأهم بناء الروحية التطوعية لدى المنتسبين.
521
441
في لقاء تعبويّي محافظة خراسان الشمالية
مهمّة. في المستقبل سيكون للبلد قضايا أهم - لا أقول مشكلات أهم - ومن الممكن أن تقلّ المشاكل يوماً بعد يوم، لكنّ القضايا ستكون أهم والأعمال أكبر. نحن، كشعب، لا نريد أن نضرب سوراً حول أنفسنا، ولو فعلنا ذلك أيضاً1، فإنّ الرّشد لن يتوقف. لكنّ رؤيتنا هي رؤية واسعة، وعلى مرّ التّاريخ وفي عرض العالم، فإنّ هذه النّظرة واسعة. فشعبٌ بمثل هذه التطلّعات والآمال، وبمثل هذه الهمّة العالية وبمثل هذا الأفق البعيد، لديه الكثير من القضايا أمامه. وهذه القضايا تحتاج إلى خصائص موجودةٍ في مجموع التعبئة. لهذا، فإنّ كلّ ما يُقال حول التعبئة ويُدقّق به ويستند ويركّز على الخصائص ويتعمّق فيها، ليس كثيراً.
أ- التعبئة توأم الثورة
أوّلاً، إنّ التعبئة هي توأم الثّورة. ولعلّه يمكن القول، بمعنىً من المعاني، إنّ الحضور التعبويّ للنّاس هو الذي أدّى إلى انتصار الثّورة، أو إلى ظهور الثّورة وبروزها. وقد كان حضور الشباب المتطوّعين والحريصين الذين نزلوا قبل الثورة إلى السّاحات وفي جميع الأماكن وصمدوا - وفي مدينة بجنورد هذه التي أنا على معرفة بها - حضوراً مؤثراً. لقد تراكمت هذه المساعي من سائر أنحاء البلد وأصبحت حركةً ثوريّة عظيمة للشعب الإيرانيّ. بهذا المعنى، فإنّ ولادة التعبئة كانت قبل ولادة الثّورة، لكنّ التعبئة، بشكلها الحاليّ، ولدت بانتصار الثّورة، وسوف أتحدّث عن خصائص هذه الظّاهرة المحيّرة الفريدة من نوعها. لهذا، يمكن تعريف التعبئة على أنّها توأم الثّورة.
ب- ظاهرة فريدة من نوعها
حسنٌ، إنّ هذه الظاهرة لا نظير لها، (ولكن قد يسأل سائل) ألم يكن للشعوب والثّورات الأخرى مشاركة شعبيّة بحيث تقولون إنّ مشاركة التعبئة وحضورها هو ظاهرة لا نظير لها؟ كيف لا؟ نعم، في الثّورات الأخرى، والأحداث الكبرى التي وقعت في دُول العالم، كان لجماهير الشعب حضوره، ولكن مع فارق عميق جدّاً ومؤثّر (لجهة الفعالية). لو تأمّلتم في التّاريخ، لرأيتم أنّه في القرنين أو الثلاثة الأخيرة كان هناك في العالم ثورتان معروفتان بمستوى ثورتنا، إحداهما الثورة الفرنسيّة الكبرى، والأخرى الثورة الشيوعيّة في روسيا. وفي كلتا الثّورتين ـ اللتين كانتا كبيرتين وهائلتين ـ كان هناك حضور للنّاس، إلا أنّ مشاركتهم فيهما تختلف عن مشاركة التعبئة في ثورتنا. وأنا هنا سوف أذكر بعضاً من خصائص مشاركة التعبئة وحضورها.
1- أي حتى لو وُجد السور أو ضربناه حول أنفسنا.
522
442
في لقاء تعبويّي محافظة خراسان الشمالية
ج- تشكيل منظّم، مؤمن، عامل بالتكليف
أوّلاً، لقد كان لهذه المجموعة الشعبيّة الجماهيرية، ومنذ البداية، تنظيم، وهذه الخاصّيّة لم تكن لغيرها. فقد ساعد هذا التّنظيم في ألّا تضلّ هذه الحركة الشعبيّة طريقها. ففي هذا التّنظيم، كانت توجد الهداية والبصيرة والمركزيّة في اتّخاذ القرارات، والإرادة الشعبيّة، وكان يُمنع التشدّد والإفراط والانحراف وصدور الأخطاء الفاحشة.
والأهمّ من ذلك خصوصيّة الإيمان، والانطلاق من الشّعور بالتكليف الشرعيّ. فأحياناً، تحرّك العواطف المحضة إنساناً أو مجموعةً أو جمعيّة أو شعباً باتّجاه ما. هذا ممكنٌ، وهو موجودٌ في العديد من الأماكن. لكنّ الذي يتحرّك بالعواطف لا تكون هدايته وزمام نفسه وحركته بيد عاملٍ معنويٍّ وداخليّ وقلبيّ، وسيتجاوز الحدّ في الكثير من الأوقات، ويرتكب المجازر والقتل حيث لا ينبغي، ويظلم حيث لا ينبغي. لهذا، أنتم ترون أنّ ما كتبه التاريخ ـ تاريخهم هم، لا ما نقوله نحن ـ بشأن هاتين الثورتين اللتين ذكرتهما، هو سجلٌّ مليءٌ وطافحٌ بهذه الأخطاء والانحرافات والنّزاعات، حيث كانت المجموعات المختلفة تتصارع. أجل، يوجد في المؤمن مشاعر وعواطف أيضاً، فنحن لا نتحرّك دون هذه المشاعر، ولدينا أحاسيس وعواطف وغضب، لكنّ هذه المشاعر تُضبط بإيماننا. فقد كان الشاب التعبويّ يضحّي بنفسه عندما كان يتعامل مع المرأة الأجنبيّة التي تنتمي إلى العناصر المنافقة، من أجل أن لا يمسّ بدن تلك المرأة المشبوهة1. مثل هذه الأحداث كانت موجودة، وقد وقعت مراراً. كان التعبويّ يتمكّن بدقّة نظره أن يكشف نفاق المنافق في الكثير من الحالات. وفي بعض هذه الحالات كان الطرف الآخر امرأة، ولم يكن هذا الشاب التعبويّ مستعدّاً لتخطّي الحدود الإيمانيّة. لاحظوا، فهذا يحكي عن حضور الإيمان في هذا التعبويّ، وهذا مهمٌّ جداً. كان يؤدّي ذلك في بعض الأماكن إلى استشهاد أربعة تعبويين، لكن عندما ننظر بالنظرة الكليّة، فإنّ ذلك يعكس لنا هذا المعنى السّامي والمهمّ بشكلٍ كبير. بناءً عليه، إنّ الحركة العموميّة والجماهيريّة والمنظّمة للنّاس تتقدّم من خلال هداية الإيمان وتدخّله، فهذا من خصائص التعبئة.
1- استخدم المنافقون وأعداء الثورة العنصر النسائي في السنوات التي أعقبت انتصارها، ليسهل عليهم تنفيذ مخططاتهم التخريبية في بعض المحافظات المتعددة القوميات وفي طهران نفسها، وكان عناصر التعبئة - بادئ الأمر - يحتاطون في التعامل معهن، مراعاة للضوابط الشرعية. فيما بعد تشكلت مجموعات التعبئة النسائية لمواجهة هذا العنصر والتعامل معه.
523
443
في لقاء تعبويّي محافظة خراسان الشمالية
د- شموليّة التعبئة للشرائح كلّها
والخاصّيّة الأخرى هي أنّ جميع الشرائح مشاركة في التعبئة، فهناك ابن المدينة وابن القرية، والشاب الفتيّ، والشيخ الكبير. وكم ذكرت الإذاعات الأجنبيّة والإعلاميون المعاندون والمغرضون أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة كانت ترسل الأطفال غير البالغين إلى الحرب. أجل، كان الأطفال غير البالغين يذهبون، لكن لم يكن أحدٌ يرسلهم، لقد كانوا يأتون باكين نائحين وبهويّة مزوّرة، بعد أن حصلوا على رضا الأبّ والأمّ بشدّة البكاء، ومن خلال التسلّل بين المجاهدين والاندماج بهم أوصلوا أنفسهم إلى الجّبهة. هذا واقعٌ، فقد كان الشّابّ والكبير، والمتعلّم وغيره حاضرين ومشاركين في التعبئة. وكذلك المثقّفون، لم يعزلوا أنفسهم. أمّا في بعض تلك التجمّعات الكبرى التي حصلت في تلك الثّورات، فإنّ جماعة المثقّفين لم يحضروا بين الناس. لقد نقلت ذات يوم، عن مسرحيّةٍ لمثقّف، أنّ رجلاً كان ينظر من أعلى الشّرفة إلى حركة الناس، لكنّه لم يشارك بنفسه أو يحضر بينهم. أمّا هنا فالأمر لم يكن كذلك، فقد كان العامل والمزارع والطّالب الجامعيّ والتلميذ والطبيب والكاتب المشهور والشّاعر المميّز والمتخصّص والمخترع، منتمين إلى التعبئة. اذهبوا وانظروا في تشكيلات التعبئة، وانظروا في مدينتكم، فالأمر هو كذلك في جميع الأمكنة. جاء أحد الشباب المخترعين بالأمس إلى هنا، وعرّف نفسه على أنّه من تعبئة المخترعين. فمثل هؤلاء لا يوجد لهم نظيرٌ في العالم، تعبئة المخترعين، تعبئة أساتذة الجّامعات، تعبئة الكتّاب، تعبئة الشّعراء. فالفئات المثقّفة تشارك في هذه المجموعة العظيمة المليئة بالأسرار، التي نسمّيها نحن التعبئة، بأشكال مختلفة. الشّاب والشيخ والمرأة والرّجل والمتخصّص في الأعمال الصّناعيّة والمتخصّص في الأعمال النفسيّة حاضرون، فهذه المجموعة تضمّ جميع أنواع البشر.
هـ- الجهوريّة والمواكبة
الخاصّيّة الأخرى هي الجهوزيّة والمواكبة. حسنٌ، عزيزي، ها قد مرّت ثلاث وثلاثون سنة على الثّورة. إنّ الحضور الجماهيريّ في الثّورات المختلفة كان لا يتجاوز الشهر أو الشهرين، أو السنّة الواحدة كحدٍّ أقصى، ثمّ ينتهي بعد ذلك. وهنا، كان الذين يريدون تنظيم الحياة والجمهوريّة الإسلاميّة انطلاقاً من التوجيهات والإرشادات الغربيّة يوصون بهذا أيضاً. كانوا في بدايات الثّورة يقولون: حسنٌ جدّاً، لقد انتهت الثّورة فليرجع الناس إلى بيوتهم. في الثّورات الأخرى رجع الناس إلى بيوتهم، لكن مرّ ثلاث وثلاثون سنة على ثورتنا، والتعبئة ما زالت في السّاحة وفي الميدان وبكامل الجهوزّية. أفراد ذاك الجيل الّذي انتسب إلى التعبئة في ذلك اليوم، قد أصبحوا اليوم من متوسّطي الأعمار والمسنّين، وأضحت لحاهم بيضاء، ولهم أحفادٌ وأصهرة وزوجات
524
444
في لقاء تعبويّي محافظة خراسان الشمالية
أبناء، لكنّهم تعبويّون. لقد أضحوا شيوخاً، لكن هل أصبح وجه التعبئة شيخاً؟ كلّا، أبداً. إنّ وجه التعبئة هو وجهٌ شبابيّ، فماذا يعني هذا؟ إنّه يعني أنّ الأجيال الحديثة والمتعاقبة لم تضيّع هذا الحضور الشّعبيّ، ولم تَنْسَه. كان هناك من يقول في ذاك اليوم: حسنٌ جدّاً، إنّ الشّابّ هو من أهل الحماس، والحرب أيضاً حادثةٌ مليئةٌ بالحماس، فإنّ ما يجرّه إلى الحرب هو الحماس. واليوم، حيث لا يوجد حرب، ولا يوجد حماس الحرب، لماذا يأتي الشّباب إلى الميدان؟! هذه هي قضايا التعبئة. انظروا، فهذه من النّقاط الدّقيقة التي إذا وضعناها إلى جنب النّقاط الأخرى، فإنّنا سنصل إلى نتيجة وهي أنّ التعبئة عبارة عن ظاهرة مذهلة مليئة بالأسرار والخفايا، وهي ظاهرةٌ استثنائيّة في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. إنّ هذه المجموعة قد حلّت الكثير من العُقد وكان لها حضور ومشاركة في الكثير من السّاحات، وكان لحضورها تأثيرٌ أساسيّ ومصيريّ، لذلك إنّنا بحاجة لمثل هذا الحضور في المستقبل.
و- المفتاح الذهبيّ لحلّ المعضلات
ليتفطّن أهل التأمّل والتدبّر، لماذا نجد أنّ الشعار ضدّ التعبئة1 هو الشعار الأوّل للذين يستلهمون كلماتهم وأنفاسهم وتحرّكاتهم من إذاعة إسرائيل؟ فهل أنّ هؤلاء أنفسهم يدركون لماذا يطلقون الشّعارات المعادية للتعبئة أم لا؟ أنا لا أستطيع أن أحكم على هذا، لكنّ هذه هي حقيقة الأمر. إنّ هذا المفتاح الذّهبيّ لحلّ الكثير من مشكلات المستقبل، هو مبغوض من أولئك الذين لا يريدون أن يكون المستقبل مستقبلاً جيّداً وشامخاً وناجحاً بالنسبة لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة. لهذا يريدون أن يحطّموا هذا المفتاح الذهبيّ، وبالحدّ الأدنى أن يحقّروه ويصغّروه في عيني وأعينكم. وبالطبع لن يتمكّنوا، وهذا واضحٌ. حسنٌ، هذا بشأن خصائص التعبئة، وفي هذا المجال يوجد الكثير من الكلام. لقد ذكرت أنّه كلّما دقّقنا النّظر فإنّنا سوف نستخرج النّقاط، ولو أننا دقّقنا فيها ونشرناها وروّجنا لها لتصبح فكر المجتمع وثقافته فهذا لن يكون بالأمر الكثير. إنّ إمعان النّظر بالتعبئة - هذه الظاهرة المدهشة التي حبا الله تعالى نظام الجمهوريّة الإسلامية - هي قضيّةٌ مهمّة. حسنٌ، أنتم من التعبئة. وعلى الجميع أن يفخروا أنّهم من هذه المجموعة التعبويّة. إنّ الذي ينتسب إلى هذه المجموعة لديه امتيازات ينبغي إظهارها والحفاظ عليها. إن ما أقوله لكم - وأنتم أبنائي وشبابي - هو إنّ عليكم أن تحافظوا على هذه الخصائص، ولا تكتفوا بذلك أيضاً، بل اعملوا على تقويتها.
1- أي الشعارات والبيانات المناهضة للتعبئة.
525
445
في لقاء تعبويّي محافظة خراسان الشمالية
ز- تربية النفوس
من الخصائص الأخرى بناء الذات. يجب علينا أن نربّي أنفسنا. أنا الشيخ المسنّ أيضاً عليّ تربية نفسي وترويضها والمحافظة عليها. إنّ حركة الشّابّ واتّخاذه للقرارات وإقدامه أسرع، لهذا، تكون المراقبة والمحافظة على النفس وبناء الذات أكثر حساسيّةً. إنّ بناء الذات هو من السّهل الممتنع، هو سهلٌ وكذلك صعبٌ. فلو كنّا موجودين في بيئةٍ مناسبةٍ مساعدةٍ فإنّه يصبح سهلاً. فأنتم مثلاً أصحاب التوجّه والدّعاء والتضرّع والبكاء. أحياناً، يوجد المرء في بيئةٍ تكون بيئة التضرّع والبكاء والتوجّه، وكلّ القلوب فيها متوجّهةٌ إلى الله، وكلّ العيون تذرف الدموع، فمثل هذه البيئة تسهّل على المرء الحصول على حالة التضرّع. مثل هذه البيئة مساعدة لبناء الذات. ومن البيئات التي كانت مساعدة، الدفاع المقدّس بكافة أحواله. لكنّ البيئة المساعدة هي التعبئة نفسها، وأنتم ضمن هذه المجموعة، وفي جوٍّ مساعدٍ لبناء الذات في الواقع. فالتقوى ومخالفة النفس واجتناب المعاصي، وأداء الفرائض، والصّلاة كفرصة للأنس بالله تعالى، والتوجّه إلى معاني الصّلاة وحضور القلب، والتركيز في حال الصّلاة، هذه كلّها أدواتٌ لبناء الذات. عندما تحضرون في بيئةٍ مساعدة فإنّ وسائل بناء الذات هذه تعينكم بنحوٍ أفضل وأكثر. وعندما يصبح الأمر كذلك، فإنّ قدراتكم الرّوحيّة سوف تزداد وكذلك استقامتكم وصمودكم وصبركم وإبداعكم وفورانكم الباطنيّ، كلّ هذه معاً. ونحن عندما لا ننزل إلى ميدانٍ ما ونشعر بالخوف والرّعب، فإنّ ما لدينا من استعداد سيبقى كامناً، لكن عندما تحطّمون هذا الرّعب وتخاطرون وتنزلون إلى الميدان فإنّ هذه الاستعدادات تبدأ بالتفتّح، هكذا يصبح كلّ مستحيلٍ ممكناً. مثلما قال اللواء نقدي1 الآن هنا، الشّابّ الفتيّ يذهب مع مجموعة معدودة أسماها هو فرقة - فهل أنّ مئة شخصٍ يشكّلون فرقة، أو هل أنّ مئة وخمسين نفراً هم فرقة؟ لكنّه يقول عنها إنّها فرقة!- يذهب إلى غرب البلد أو جنوبه مع هذه الفرقة المؤمنة أو المخلصة ليحارب جبهة العدوّ ضمن وحدة قتالية مجهّزة، وقائدٍ ذو سابقةٍ وتجارب. فهو لا يمتلك من الأدوات والوسائل سوى البدائيّ منها لكنّه يصبح مجهّزاً بأفضلها، وهو لا يمتلك التجربة القياديّة لكنّه يكون قد قاد بمقدار عمر ذاك (القائد). ويقف هؤلاء
1- رئيس مؤسسة تعبئة المستضعفين في إيران، والتي تضم أعداداً هائلة جدا من مجموعات التعبئة، في مختلف شرائح المجتمع والمؤسسات الأهلية والحكومية.
526
446
في لقاء تعبويّي محافظة خراسان الشمالية
ويتواجهون (مع العدوّ)، فيغلب هذا الشّابّ ويصادر الدبّابّة والوسائل الأخرى وينتصر. وهذا كلّه إنّما يتحقّق ببناء الذات. فلا يمكن النزول إلى هذه الميادين دون بناء الذات.
مشاركة التعبئة باعثة على الأمل
كان بعضهم يخاف، كانوا يحكمون مسبقاً أنّه لا يجوز - في الأساس كانوا يقولون لا يجوز - وكانوا كلّما شاهدوا حضوراً للتعبئة يخالفون ويعترضون. لقد كنت أشاهد رجالاً مؤمنين مميّزين في جيشنا المنظّم يرحّبون بوجود أفراد من التعبئة معهم، هذا ما شاهدته بنفسي مراراً في مرحلة الحرب، في معسكر أبي ذر، وفي الجنوب، وفي شمال الغرب. فالقائد في الجيش نفسه كان يصرّ على أن يكون معه مجموعة من التعبئة، كان يحبّ ذلك، ويرحّب به. وهنا في طهران كانت هناك مجموعة تجلس وتتذمّر من ذهاب هؤلاء: ولماذا يذهبون من دون إجازة؟ لماذا يقدمون على مثل هذا العمل؟ كانوا ينزعجون من حضور التعبئة. وذلك لأنّه لم يكن لديهم أمل، بل وقعوا في اليأس، وكانوا يقولون إنّه لا يمكن القيام بأيّ عمل، لكن عندما نزلوا إلى الميدان وجدوا أنّ تلك المشاركة باعثةٌ على الأمل، وهي التي تفتّح كلّ هذه المواهب والقابليات.
نورانيّة حضور التعبويّ
إنّ نفس حضور التعبويّ في ميدان القتال يمنحه نورانيّة. كان من المعروف في أيّام الدّفاع المقدّس القول إنّ نور فلان قد تلألأ (أو يشعّ نوراً)، أي إنّه سيستشهد بسرعة. هكذا كانت نورانيّة حضور التعبويّ. هذا ما شاهدته بنفسي، وليس مرّة أو مرّتين. إحدى هذه الحالات لها ارتباط بمحافظتكم هذه، لا بأس أن أذكرها. كان هناك رائد في الجيش، وقد أدركنا فيما بعد أنّه من أهل الآشخانة1، هو الرائد رستمي2ـ جاء طوع إرادته بصورة تعبويّ للمشاركة في كتيبة الشهيد شمران. وقد رأيته عدّة مرّات، يأتي ويذهب. وفي إحدى الليالي كنّا جالسين مع المرحوم شمران نتحدّث بشأن قضايا الجبهة والأعمال التي سنقوم بها في اليوم التّالي، ففُتح الباب ودخل الشّهيد رستمي. وكانت قد مرّت عدّة أيّام على رؤيتي له، فرأيته وقد غطّاه الوحل من رأسه إلى أخمص قدميه. كان حذاؤه موحلاً وكذلك بدنه، وكان وجهه تعباً، وشعره كثيفاً. لكن عندما نظرت إلى وجهه شاهدته كالقمر يسطع بالنّور. وما كنت قد شاهدت هذه الحالة عليه قبل أيّام. كان قد ذهب إلى إحدى مناطق العمليّات وكانت له مشاركات كثيرة، ثم
1- مدينة في محافظة خراسان الشمالية، وهي مركز قضاء "مانه وسملقان".
2- الشهيد إيرج رستمي: مساعد الشهيد شمران، وقائد ميداني في منطقة عمليات "دهلاويه - سوسنكرد".
527
447
في لقاء تعبويّي محافظة خراسان الشمالية
عاد ليقدّم تقريراً، واستُشهد فيما بعد. فقد كان من الجيش لكنّه جاء بصورة التعبويّ إلى الميدان وكان ناشطاً ويجاهد وله حضورٌ مليءٌ بالتضحية والإيثار - في مجموعة التعبئة التابعة للشهيد شمران - وبعدها استُشهد. لقد شاهد الكثيرون هذه النّورانيّة ونحن شاهدناها، والآخرون شاهدوا ذلك أكثر منّا. إنّ هذا ناشئٌ من ذاك الحضور الاستثنائيّ.
التعبئة قمّة الإيثار
هناك قضيّة موجودة في التعبئة أيضاً وهي الإيثار. والإيثار في اللغة هو الأمر المقابل تماماً للاستئثار. فالاستئثار يعني أن نطلب كلّ ما هو مرغوبٌ لأنفسنا. وفي بعض أدعية الأئمّة عليهم السّلام هناك شكاية من المستأثرين، فهم الذين يريدون كلّ شيء لأنفسهم ويسعون لجلب المصالح الشخصيّة والحصول على متعلّقات الآخرين. أمّا الإيثار فهو النقطة المقابلة له، ففيه يتجاوز الإنسان عن حصّته وحقّه من أجل الآخرين، ويتغاضى عن حقّه لمصلحتهم. فهذه الخصوصيّة موجودةٌ في قمم التعبئة. وأنا أقول لكم أيّها الشباب الأعزّاء اسعوا لتقوية هذه الخاصّيّة في أنفسكم. فنحن البشر نتحرّك بشكل دائم إلى جانب المزلّات، وتجذبنا كلّ الإغراءات نحوها، ونتحرّك نحو مصالحنا الشخصية التي تجذبنا. وأحياناً نكون مستعدّين لسحق حقوق الآخرين من أجل مصالحنا. يجب علينا أن نراقب أنفسنا. ومن خصائص إعداد الذات في التعبئة أن يتمكّن الإنسان من تقوية هذه الروحيّة في نفسه وتربيتها لتصبح مؤثرة، كما في تلك القمم التعبويّة التي تحدّثنا عنها. هؤلاء الذين حملوا أرواحهم على أكفّهم وذهبوا من أجل الدّفاع عن الإسلام والثّورة والإمام والبلد ومن أجل حفظ ثغوره وقاتلوا، فهل يوجد إيثارٌ أعلى من ذلك وأكثر؟ هذه هي قمّة الإيثار.
وأدنى من ذلك، غضّ النّظر (التغاضي) عن المصالح المادّيّة القصيرة الأجل وتجاوزها، وهي المصالح التي نراها لأنفسنا. علينا أن نسعى لصرف النّظر عن مصالحنا الشخصيّة من أجل المصالح العامّة ومصلحة الإسلام والأهداف العليا. ولا يعني ذلك أن ندير ظهورنا للدنيا، كلّا، فإنّ الدنيا هي محلّ السعي والنّشاط سواء أكان على مستوى الحياة الشخصيّة أم الحياة العامّة، سواء أكان على مستوى المادّيّات أم المعنويّات. لكن حيث نرى أنّ الوصول إلى أيّ حقٍّ شخصيّ يعني تجاوز حقوق الآخرين والتعدّي على القانون وتجاوز الإنصاف، فعلينا أن نمسك بزمام أنفسنا وأن نصرف النّظر عن كلّ ما يمكننا الحصول عليه من أجل مصلحة الآخرين، هذا ما يُسمّى إيثاراً.
528
448
في لقاء تعبويّي محافظة خراسان الشمالية
البصيرة وتشخيص خطّ المواجهة
وبالطبع، من القضايا المهمّة البصيرة. أنا أقول لكم إنّ البصيرة في هذه المرحلة وفي جميع المراحل تعني أن تشخّصوا خطّ المواجهة مع العدوّ، فأين توجد مواجهة مع العدوّ؟ بعض الأشخاص يشتبه عليهم تحديد مكان المواجهة، فتجدهم يطلقون قذائف مدافعهم باتّجاه نقطة لا يوجد العدوّ فيها، بل الصّديق. بعضهم يعدّ منافسه في الانتخابات "شيطاناً أكبر"، إنّ الشيطان الأكبر هو أمريكا والصهيونيّة، أمّا منافسكم من التيّار الآخر فليس شيطاناً أكبر. فأنا مؤيّد لزيد وأنت مؤيّد لعمرو، فهل أعتبرك من أجل ذلك شيطاناً؟ لماذا؟ وبناءً على أيّ شيء؟ في حين أنّ كلّاً من زيد وعمرو يدّعي الثّورة والإسلام وخدمة الإسلام والثّورة. فلنشخّص خطّ المواجهة مع العدّو! أحياناً هناك من يكون في لباس الخواصّ، لكنّ حنجرته تكرّر حديث الأعداء! حسنٌ، يجب نصحه، وإذا لم يعمل بالنّصيحة فيجب على الإنسان أن يشخّص له الحدود والخطّ الفاصل، وليكن الانفصال. فلو كان المقرّر أن تقفوا بوجه الجمهوريّة الإسلاميّة وتتحدّثوا بتلك المشاعر (العدائية) التي يكنّها الكيان الصهيونيّ للجمهورية الإسلاميّة - ولو بلحن ولغة مختلفة -، حسنٌ، فماذا تختلفون عن الكيان الصهيونيّ؟ لو أردتم أن تتعاملوا مع الجمهوريّة الإسلاميّة بذاك المنطق الذي تتعامل به أمريكا مع الجمهوريّة الإسلاميّة فماذا تختلفون عن أمريكا؟ هذه هي قضيّة الفصل. ولكن أحياناً لا يكون الأمر كذلك. من الممكن أن تكون الخلافات عميقة وكبيرة لكن لا ينبغي للإنسان أن يخلط بين العدوّ وغيره، فللعدوّ حسابٌ ولغيره حسابٌ آخر. يجب رسم خطّ المواجهة مع العدوّ وتشخيصه وهذا ما يتطلّب البصيرة. البصيرة التي تحدّثنا عنها هي هذه. هناك جماعةٌ يأتون من هذه الجّهة، وجماعة يأتون من تلك الجّهة. هناك جماعة تعامل العدوّ معاملة الصّديق ولا تعرف نداء العدوّ لأنّه ينبعث من حجرةٍ أخرى، وجماعة من طرف آخر، تعامل أيّ شخصٍ يختلف معها في السليقة - ولو أدنى اختلاف - معاملة العدوّ. البصيرة هي ذاك الخطّ الوسط والخطّ الصحيح.
أساس الانتخابات حضور الناس والاختبار الجيّد
لقد جئنا على ذكر المنافس الانتخابيّ، والانتخابات قادمة، لكنها بالطبع ليست قريبة. وقد بدأ بعضهم منذ الآن بفتح باب الميدان الانتخابيّ، كلّا، نحن لا نؤيّد مثل هذا من الأساس، فلكلّ شيء وقته ومكانه، لكن مطلبنا وفكرنا وأمنيتنا في الانتخابات هو ما يلي:
الأوّل، أن تكون مشاركة الناس في الانتخابات مشاركة عظيمة، فهذا هو الصّائن والضّامن، فعلى جميع العاملين أن يشحذوا كلّ هممهم اليوم وغداً ويوم الانتخابات وأثناء المقدّمات والمؤخّرات ليكون حضور الناس ومشاركتهم واسعة.
529
449
في لقاء تعبويّي محافظة خراسان الشمالية
الأمر الآخر (الثاني) هو أن نطلب من الله، وأن نفتح عيوننا أيضاً لنعمل بحيث ينتج عن الانتخابات الاختيار الجيّد المتوافق مع صلاح الثّورة والبلد ومنفعتهما. ولا يعني ذلك أنّنا إذا لم نُعجب بفلان، نتعامل معه بسوء الخلق والشدّة والقسوة ونخطئ بحقّه، كلا. أولئك الذين يرون أنفسهم مؤهّلين ومناسبين فلينزلوا إلى الميدان. نحن نريد أن ننتخب، فلننظر ونقيّم على أساس المعايير التي نؤمن بها والتي تمثّل القواسم المشتركة بيننا جميعاً. لعلّه يمكننا القول أنّ هذه المعايير، هي تقريباً مشتركة بين جميع الإيرانيين المؤمنين بالثّورة. وفي أي شخص نشاهد هذه المعايير، فلنسعَ ولنعمل بشكل سليم ـ كي تتوجّه الانتخابات نحو اختيار هذا الشخص.
النقطة الأساسيّة الثالثة - وسوف أكتفي اليوم بهذا المقدار، ومن الممكن أن يأتي كلامٌ كثير فيما بعد بشأن الانتخابات - هي أنّ الانتخابات تمثّل ماء الوجه بالنسبة للبلد وأساس الفخر. فليلتفت الجميع حتّى لا تكون الانتخابات سبباً لسقوط سمعة هذا البلد كما حصل في العام 1388 هـ. ش. (2009م)9، عندما سعت مجموعة لإظهار الانتخابات بمظهر الاختلافات وتحويل الضوضاء السياسيّ الطبيعيّ للانتخابات إلى فتنة، حيث وقف شعب إيران بالطّبع مقابلها. وكلّما حصل أمر مشابه فإنّ هذا الشعب سوف يتصدّى له.
بالطّبع، إنّ سلامة الانتخابات هي قضيّة أساسيّة ومهمّة. غاية الأمر أنّنا نفترض أن يشارك مسؤولو البلد بالوجدان الإسلاميّ والإلهيّ وتكون انتخاباتنا سليمة. في الماضي أيضاً، كنّا نفرض أن تكون الانتخابات سليمة عندما كانت تُجرى في الحكومات المتعاقبة، سواء أكانت انتخابات رئاسة الجمهوريّة أم المجلس أم غيرها. وبالطبع، من الضروريّ أن تجري المراقبة والرعاية المختلفة من جهات متعدّدة، نسأل الله تعالى أن يبارك لشعبنا العزيز مثل هذه التجربة.
اللهمّ، أنزل رحمتك وفضلك على هؤلاء الشباب الأعزّاء.
اللهمّ، زد من قوّة سواعد النّظام المقتدرة وهُمُ التعبئة، يوماً بعد يوم.
اللهمّ، عظّم ذكرك والخشوع لك في قلوبنا.
اللهمّ، اجعل وفاتنا في سبيلك ولأجلك.
اللهمّ، ارضِ عنّا القلب المقدّس لوليّ العصر.
اللهمّ، ارضِ عنّا أرواح الشّهداء المطهّرة وروح إمامهم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- راجع حاشية الصفحة 253.
530
450
في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة
المناسبة: زيارة محافظة خراسان الشماليّة.
الحضور: جمعٌ من النُخَب والمسؤولين.
المكان: مصلّى الإمام الخميني - بجنورد.
الزمان: 15/10/2012م.
531
451
في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أشكر الله تعالى أن منحنا هذا التوفيق ليكون لنا طيلة هذه الأيّام لقاءات عابقة بالمحبة واللطف والصفّاء والمحبّة مع الشرائح المختلفة لأهالي المحافظة المليئة بالخير والبركة.
لقاؤنا اليوم هو مع مجموعة من خدّام أهالي هذه المنطقة الأعزّاء، وكذلك مع ممثّلين ناشطين وفاعلين عن الشرائح المختلفة في هذه المحافظة. لهذا، إنّ اجتماعنا هو اجتماعٌ مفيدٌ جدّاً. وكلّ واحدة من المسائل التي عرضها الأعزّاء هنا، هي ملفتة وتستحقّ أن تؤخذ بعين الاعتبار من جهة ما. ما نريد أن نذكره هو نقطتان أو ثلاث ذات تأثير، فلو التفتنا جميعاً إليها سيكون ذلك في خير ومصلحة مستقبل المحافظة إن شاء الله.
خدمة الناس نعمة إلهيّة
النقطة الأولى هي أنّ خدمة الناس بحدّ ذاتها هي نعمةٌ إلهيّة وموهبة، سواء أكانت هذه الموهبة ضمن الأطر الرسميّة ـ كالمسؤوليات الملقاة على عاتق الأعزّاء والإخوة والمدراء في هذه المحافظة ـ أم كانت في خدمة دين الناس وثقافتهم وتقدّمهم العلميّ وتقسيم وتوزيع الأرزاق (المحاصيل) بشكلٍ صحيح بينهم، وتأمين حاجاتهم المختلفة بأيّ شكلٍ كان. لهذا، إنّ توفيق الخدمة نفسه هو نعمةٌ يجب شكرها.
إنّني - أنا العبد - أقول من أعماق القلب وبضرسٍ قاطع: أن يكون الإنسان خادماً للنّاس هو فخرٌ، وليس مجرّد شعار. عظماء أهل العرفان عندنا، كانوا دائماً يوصون تلامذتهم، ومن يتربّى على أيديهم، بأن يخدموا الناس إلى جانب الذكر والعبادة والخشوع والتوسّل والتذكّر، وكانوا في بعض الأحيان يرجّحون هذه الخدمة على العبادات الفرديّة، وهذا مقرّبٌ إلى الله. فالعمل الصالح الذي تقدّمه لشخصٍ ما يُعدّ حسنة وهذا ما يقرّبك إلى الله، وله أجرٌ وثوابٌ إلهيّ وأخرويّ، فكيف إذا كانت خدمتكم هذه موجّهة لمجموعة كبيرة من الناس، لأهل محافظة أو مدينة أو ناحية1. فأساس القضيّة، إذاً، هو إنّنا إذا وُفّقنا للخدمة فلنشكر ربّنا عليها، ولنعدّها نعمةً من الله. والأثر الحاصل من اعتبار هذه الخدمة نعمة، هو أن لا نمنّ بها على أحد، فهذه هي درجتها الأولى. إنّ الله تعالى وفّقنا، وهذا التوفيق هو لطفٌ إلهيّ، يستلزم شكراً. فلو وُفّقنا للخدمة، ينبغي أن يكون ذلك بعيداً عن المنّة. هذه نقطةٌ.
1- التقسيم الإداري المتبع في إيران: محافظة - قضاء أو مقاطعة - منطقة أو ناحية.
533
452
في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة
لا تمييز في خدمة الناس
النقطة الأخرى هي أنه في الخدمة لا مكان للتمييز، فالمسؤولية في أيّ ناحية من النواحي هي عبارة عن خدمة أفراد الناس. فكون هذا صديقاً لنا وذاك غريباً عنّا، وهذا عدوّنا وهذا ميوله السياسيّة كذا، وميوله الدينيّة كذا، هو أمر لا ينبغي أن يكون له أيّ تأثير. يجب أن تكون الخدمة عامّة للجميع، ولهذا الأمر تأثير على عمل المنخرطين في خدمة المجموعات الكبيرة، كالمحافظة أو القضاء. فالأقسام (النواحي) المختلفة للأقضية فيها مجموعات متنوّعة من الناس، لهذا يجب أن تكون النظرة إلى الجميع متساوية. الخدمة للجميع ومتعلّقة بالجميع، فيجب علينا أن نكون أمناء وأن نجعل ما في أيدينا كلّه لخدمة الجميع.
علوّ الهمّة والعمل المضاعف
نقطةٌ أخرى هي قضية علوّ الهمّة في تقديم الخدمات. فهذه المحافظة، كما ذكر أعزّاؤنا ـ وأنا فهمت ذلك من التقارير ـ تُعدّ من ناحية التقدّم المادّيّ من المحافظات التي تقع في أسفل السلّم. وهذا يعود بدرجةٍ ما إلى أنّ هذه المحافظة حديثة النشأة، ولعلّه يوجد عوامل أخرى أيضاً. لذا، يجب على مسؤولي هذه المحافظة أن يبذلوا الهمم من أجل رفع مرتبة هذه المحافظة، من ناحية التطوّر ونيل الخصائص الحياتيّة المهمّة، في غضون مدّةٍ معيّنة، وأن يصلوا بها مثلاً إلى مرتبة المحافظات العشر الأوائل. عندما يكون هذا هو همّنا ـ وهو معنى الهمّة المضاعفة ـ فإنّ ذلك سيتطلّب عملاً مضاعفاً. ليس المقصود بالعمل المضاعف حجم العمل فحسب، بل المقصود الكيفية والنوعية أكثر منه كميّة العمل وحجمه، أي العمل الدقيق والنابع من الخبرة، والمقرون بالاستشارة، العمل المستمرّ والمتلاحق، العمل المدوّن والقائم على التخطيط، بحيث لو استُبدل المسؤولون، لا يتوقّف. لقد ذُكر خبرٌ جيّدٌ حيث قيل إنّ وثيقة تنمية المحافظة قد دوّنت، فهذا ممتازٌ. فعندما تُدوّن الوثيقة فلن يكون لتبديل المسؤولين والمديرين تأثيرٌ كبير، بل سيستمرّ العمل. المهم هو أن تكون خارطة الطريق واضحة.
حسنٌ، عندما نقول إنّ على هذه المحافظة أن تضاهي المحافظات العشر الأوائل في البلد، فهل هذا أمرٌ عمليّ؟ إنّ ما يراه المرء من استعدادات وإمكانات هذه المحافظة يفيد الإيجاب، فالأمر قابلٌ للتطبيق بنحو كامل. توجد إمكانات واستعدادات ممتازة في هذه المحافظة، وأحد هذه الإمكانات المهمّة هو الطاقات البشريّة. وأنا قد أدركت هذا الأمر بالحسّ والعيان، وذلك عند لقائي بالجامعيين والطلّاب والمعلّمين والأساتذة ـ في اللقاءات المختلفة ـ وفي التقارير التي عرضها هؤلاء الأعزّاء، وكذلك من خلال
534
453
في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة
مجموع التقارير التي وصلتنا. يوجد في هذه المحافظة طاقات بشريّة لائقة بحمد الله، وهذه هي الإمكانات الأساسيّة. هذا إلى جانب الإمكانات الطبيعيّة، والقضايا المتعلّقة بالأرض والإقليم والموقعيّة الجغرافيّة وغيرها من القضايا التي تؤثّر في تقدّم المحافظة. لهذا، فالإمكانات موجودة، ويمكن واقعاً التقدّم بهذه المحافظة والارتقاء بها، وعمارة حياة الناس.
هؤلاء الناس، في الحقيقة، هم ممّن يستحقّ الخدمة، مع كل هذا الإيمان، والصدق، وهذا الحضور المميّز في الساحات المختلفة، والمشاركة في المنطقة الحدوديّة، هذه المنطقة الجغرافيّة الحسّاسة. وفي الحقيقة، إنّه لمن الجدير أن نقدّم لأهالي هذه المنطقة الأعزّاء خدمات مميّزة، وأن تتطوّر هذه المحافظة.
المشاريع الاقتصاديّة في سلّم الأوّليّات
لقد ركّز الأعزّاء الذين تحدّثوا هنا على مطلبين أو ثلاثة، وكنت أصغي إلى هذه المطالب ودوّنتها، وأنا سوف أؤكّد عليها هنا. إنّ هذا العرض الذي قدّمه السيّد المحافظ المحترم كان كاملاً، وفيه مجموعة كاملة من الأعمال والأنشطة. وفي الواقع لو يتمّ تنفيذ مثل هذا الحجم الكبير من الأعمال في مقطعٍ زمانيٍّ محدّد ومشخّص، فإنّ وجه هذه المحافظة وعمقها سيظهران ـ وليس في هذا شكّ ـ لكنّ المهمّ أن تُتابع هذه الأعمال من أجل أن تصل إلى الفعليّة.
والنقطة المهمّة الأخرى هي أن توضع هذه الأنشطة ضمن سلّم أولويّات. وذلك بالالتفات الجيّد إلى إمكانات البلد، والإمكانات الماليّة والميزانيّات، وما لدى الحكومة من إمكانات تضعها في خدمة النواحي والقطاعات المختلفة، وكذا بالنسبة إلى قضيّة المردود السريع للمشاريع المختلفة، فبعض المشاريع مفيدٌ وضروريّ، لكنّه بعيد المنال، وبعضه بمتناول اليد وقريبٌ. فكلّ هذا يحدّد الأولويّة التي علينا أن نراعيها وأن نتقدّم وفقها. من الأولويّات، بنظري - أنا العبد - هي قضيّة الزراعة، والتي تكرّرت في كلمات الأعزّاء، فالإمكانات الزّراعيّة متاحة هنا، والعقول والأدمغة المناسبة لتقدّم الزراعة موجودةٌ ـ حيث أشير إلى الأبحاث الزراعيّة - وفي بعض هذه اللقاءات، ذُكرت مطالب ومسائل تتعلّق بحركةٍ جديدة بشأن الريّ، مفيدةٍ للعمل الزراعي. توجد استعدادات وافرة، وتوجد أرضٌ وماءٌ وطاقات بشريّة وطقسٌ مناسب، كما أنّ الدخل الأساسيّ لأهالي هذه المنطقة خلال السنة يأتي عن طريق الزّراعة والدواجن.
بالتأكيد، ممّا لا شكّ فيه أنّه توالى على (هذه المنطقة) قحطٌ وجفاف مستمرّان. وكما قيل لي في بعض التقارير، إنّ من الأمور التي وجّهت ضربةً إلى زراعة هذه المحافظة وتطوّرها
535
454
في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة
وأدّت إلى وجود مشاكل أيضاً، هو صغر مساحة الأراضي التي تنتج المداخيل ـ أي الأراضي التي قُسّمت ـ فإنّها أراضٍ ذات قطع صغيرة. من المشاريع المهمّة التي كانت مورد اهتمام الحكومات السّابقة، وكنت - أنا العبد - أؤكّد عليها، هو التمكّن من دمج هذه المساحات الزراعيّة (الصغيرة)، فهذا يساعد على أنّ تكون الزراعة صناعيّة ومتطوّرة وتُستخدم فيها الآلات الحديثة، وهذا من الأمور المهمّة. فمثل هذه الضربات قد نزلت بالزراعة، إلى جانب عوامل مختلفة أخرى. يجب إيلاء الزراعة الأولوية، لكن لا بمعنى أن نتناسى الصناعة في هذه المحافظة. كلا، فللمحافظة صناعات يمكن من خلال الاهتمام بها والالتفات إليها، إيجاد فرص عمل وتحقيق الأرباح الكثيرة للمحافظة. لكن تبقى قضيّة الزراعة في المرتبة الأولى، التي إذا ما استطعنا إحياءها في ظلّ الظروف الموجودة، فإنّها ستساهم في قضيّة فرص العمل وستزيل البطالة وآثارها المختلفة ـ مثل الانزواء والإدمان وأمثالهما ـ أو تضعف جذورها.
المحاور الثلاثة للاقتصاد (في خراسان)
1-التصنيع الزراعي.
2-الصناعات التحويلية.
3- السياحة.
هناك ثلاثة محاور أساسيّة بالنسبة للاقتصاد: الأولى، التصنيع الزّراعيّ، فلنحدّث الزّراعة ونجعلها صناعيّة. والأخرى، قضيّة الصّناعات التحويليّة والتكميليّة والبرّادات وأمثالها. فلو كان في متناول يد البستانيّ صناعات تحويليّة هنا، لاختلف حاله كلّيّاً، فينبغي أن يكون هناك برّادات. وسوف أُلفت نظر مسؤولي الحكومة، في لقائنا غداً إن شاء الله إلى هذا الأمر وأؤكّد عليه ـ حيث نجد أنه يُعمل بالاقتراحات والآراء التي تنبثق عن أغلب هذه الاجتماعات من قبل مسؤولي الحكومة ـ فمثل هذه القضايا يجب طرحها هناك. أنا أتحدّث، من أجل أن يتّضح أفق تطوّر المحافظة. الأفق واضحٌ وهو يشمل قضيّة الصّناعات التحويليّة، ووضع مخطّط للتوزيع والتسويق ـ والذي تضمّنه عرض أحد السّادة هنا ـ وجودة سوق المنتجات والمعاملات والتجارة المحليّة، ومن ثم قضيّة الصّادرات والتجارة الخارجيّة. يجب إيجاد منظومة عقلائيّة ومدبّرة، فهذا الذي سيساعد على تقدّم المحافظة. لهذا، فإنّ من أولويّات هذه المحافظة قضيّة الزّراعة، مع هذه الأبعاد والمسائل الإضافيّة المختلفة.
536
455
في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة
مسألة أخرى وصلت إليّ، في التقارير التي جاءتني قبل سفري، لفتت نظري وقد طالعتها بدقّة، ثمّ وجدتها تتكرّر فيما عرضه المسؤولون والأعزّاء والنّخب في المحافظة، هي قضيّة السّياحة. فالمناطق السّياحيّة الجذّابة في هذه المحافظة كثيرة، منها ما هو طبيعيّ ومنها ما هو تاريخيّ. ففي هذه المنطقة، طبيعةٌ خلّابة ومعالم تاريخيّة، وكما قيل لي في التقارير ـ ولم أوفّق الآن لرؤية هذه الأشياء ـ هناك قلعة مجاورة لأسفراين1، شبيهة بالبناء المعروف بـ "أرغ بم"2، يأتي إليه الناس من خارج البلاد لمشاهدته. فلماذا لا يأتي أحدٌ إلى هنا؟، ولماذا لا يعرفونه؟ في حين أنّ إمكانية الوصول إليه هنا أكبر، هناك الملايين الذين يعبرون هذا المسير كلّ سنة ـ الأرقام هنا تختلف، فبعضهم يقول عشرين مليوناً، وبعضهم يقول خمسة عشر مليوناً ـ وهم زوّار مشهد، ويعبرون من هنا. حسنٌ، لو وجدت الوسائل المناسبة، وتوقّف، لن نقول جميعهم، بل بعضٌ منهم ليومٍ واحدٍ في هذه المحافظة، لاحظوا كم سيكون لذلك من أثر عظيم على وضع المحافظة. فهنا، أنتم لا تحتاجون أن تستقطبوا المسافرين والسيّاح من مركز المدينة، أو من أطراف البلد إلى نقطةٍ نائية. فهذه ليست نقطة نائية، بل إنّها محلّ عبور ومرور قوافل الزوّار، فالناس يأتون ويذهبون. فلو بقي بعض المسافرين، وليس كلّهم، يوماً أو ليلةً في هذه المدينة وذهبوا لمشاهدة المناطق الطبيعيّة والمواقع التاريخيّة، انظروا أيّ تحوّل في حياة وتجارة هذه المنطقة سيتحقق. بناءً عليه، هذه أولويّةٌ.
حصيلة العمل البحثي
وقضيّة التحقيقات التي أشير إليها هنا هي صحيحة، وهي في الحقيقة أولويّة. إنّ حصيلة العمل البحثيّ لا تظهر للعيان، لكنّ الناتج في الحقيقة هو من قبيل ما أشير إليه في القرآن الكريم: ﴿أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ﴾3، فالحبّة الواحدة التي تبذرونها سوف ترجع عليكم بسبعمئة حبّة. إنّ عمل الأبحاث هو من هذا القبيل. فعندما تنثرون بذرة سليمة، أو تجرون تحقيقاً حول الأسلوب الجيّد للزّراعة، أو بشأن مادّة مؤثّرة في الصناعة، أو الزّراعة، أو الخدمات وغيرها، فإنّ هذا يؤدّي فجأةً
1- مركز قضاء في محافظة خراسان الشمالية.
2- أرك بم: قلعة تقع في شمالي شرقي مدينة بم في محافظة كرمان في إيران. من القلاع التاريخية العظيمة المبنية من اللبن، تعود أولى لبنات تأسيسها حسب بعض الدراسات التاريخية إلى ما قبل 6000 سنة. وهي قد تضاهي من حيث الجمال والعظمة سور الصين، لكن وللأسف، فقد تضررت أكثر هياكل هذا المعلم الذي لا نظير له نتيجة الهزة الأرضية التي ضربت منطقة بم عام 2004م.
3- البقرة، 261.
537
456
في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة
إلى تحقّق ربحٍ كبير وشامل للبلد بعد مدّة من الصّبر والتحمّل، وهذا لا شكّ من الأولويّات. لهذا، فالعمل كثير وأرضيّته هائلة، و الناس هنا طيّبون. إنّ البلد اليوم بحاجة إلى العمل والسّعي. أعزّائي، مسؤولي القطاعات المختلفة، ممثّلي الشرائح، يجب عليكم أن تنقلوا هذا الأمر إلى كل من يستمع إليكم أو يعمل تحت إدارتكم قولاً وعملاً: إنّ البلد بحاجة إلى العمل. يجب أن نعمل وبشدّة، وأن نعمل العمل المخطّط والمنظّم والمرتّب والجيّد.
أعداؤنا لا ينامون عنّا
كلّما شعرنا بالضّعف، فإنّ أعداءنا، الذين توعّدونا، ترتفع معنويّاتهم. كما أنّنا كلّما شاهدنا حركة مؤثّرة على مستوى البلد من أجل تحريك الناس وتشجيعهم وزيادة بصيرتهم، نرى من جانب العدوّ سعياً فوريّاً من أجل إحباط ذلك. أولئك الذين يرصدون القضايا الدّوليّة والمسائل السياسيّة والإعلاميّة والسلوكيّات المختلفة بين الدّول، يدركون هذا الأمر جيّداً. فكلّما جرى عملٌ مهمٌّ في البلد ـ على سبيل الفرض، مظاهرة كبرى، أو انتخابات عظيمة، أو نجاحٌ علميّ أو صناعيّ كبير، أو إجراءٌ مهمٌّ ومؤثّر في الحكومة ـ فإنّهم يسعون مباشرةً لتسليط الضوء على هذا العمل واختلاق الإشاعات حوله. كما أنّنا كلّما أظهرنا الضّعف والتّعب تلاحظون مباشرةً ردّة فعل العالم وهي: نفخ الرّوح في أعداء النّظام الإسلامي وأعداء الإسلام وارتفاع معنويّاتهم وفرحهم وكأنّهم حصلوا على نفسٍ جديد من أجل البدء بالهجوم. يجب الالتفات إلى هذه الأمور. إنّ هذا يعلّمنا أوّلاً أن لا ندع العمل والسّعي أبداً، وثانياً، أن نسعى لحقن وتقوية روحيّة العمل والسعي والأمل في الذين يستمعون إلينا ويعملون في دائرتنا، فهذا تكليفٌ. إنّ كلّ حديثٍ يظهر اليأس والتّعب والإحباط والملل والاختلاف هو ممّا لا شكّ فيه، مضرّ بمصالح البلد وتطوّرها، ومضرٌ بالعزّة الوطنيّة.
ثورتنا تؤتي أكلها كلّ حين
إنّ أيدينا مليئة في مواجهة الأعداء. إنّ قدراتنا عالية، وهذا ليس ادعاءً ـ لا نريد أن نرتجز1ـ بل هذه كلّها وقائع. والشّاهد الأهمّ على هذا الواقع هو أنّه طيلة الـ 33 سنة كانوا يطعنون ويرمون الحجارة ويوجّهون الضربات. فلو كنّا ضعفاء لكان من اللازم
1- المقصود: لا نريد إنشاد الشعر.
538
457
في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة
لهذه الشجرة أن تكون قد يبست وهوت أرضاً، فلماذا إذاً نمت عشرة أضعاف؟ لماذا أضحت تؤتي أُكُلها كلّ حين بإذن ربّها؟
إنّ البلد اليوم مقارنةً مع ما قبل عشر أو عشرين سنة، قد تطوّر كثيراً بلحاظ الموقعيّة العلميّة والصّناعيّة والاجتماعيّة وروحيّة الناس. وقد أصبح النّظام أكثر استحكاماً بكثير. حسنٌ، علامَ يدلّ هذا؟ إنّه يدلّ على وجود قوّة داخليّة بنّاءة حقيقيّة في هذا البلد تتغلّب على جميع الخُدع والمؤامرات والمشاكل التي يوجدها العدوّ، وهذا أمرٌ واضحٌ. إذاً، إنّ أيدينا مليئة، ولدينا قدرات. ولكن يمكن لنا أن نقضي على هذه القدرات الذاتيّة بأيدينا. فلو قمنا بإضعاف هذه الرّوحيّة وأضعفنا هذا الأمل، وأضعنا هذه الفرص، ولو أظلمّ الأفق أمام أعين شبابنا، الذين هم أملنا، نكون بذلك قد أضعنا أنفسنا بأنفسنا. لا يجوز القيام بهذا الفعل. إنّ هذا بأيدينا. الكلّ مسؤولون، غاية الأمر أنّ المدراء ومسؤولي القطاعات المختلفة يقع على عاتقهم مسؤوليّة أكبر.
تطوير أدبيّات التعامل مع العامل
ولحسن الحظ، إنّ البلد قد حقّق تطوّراً كبيراً في مجال أدبيّات التعامل مع العالم المهيمن المستكبر والغربيّ. عندما يتحدّث مسؤولو دولتنا اليوم على المنابر المختلفة أو طاولات المحادثات يصدر عنهم كلامٌ ناضجٌ جامعٌ ملفتٌ وصحيحٌ. إنّ من أقسام وميادين وساحات المواجهة ساحة التخاطب الدّوليّ. إنّ أغلب وسائل الإعلام الأوروبّيّة، هي صهيونيّة، لعلّكم تعلمون ذلك، واعلموه. إنّ أغلب هذه الوسائل التي نسمع أسماءها في العالم، كان الرأسماليّون الصهاينة، ومنذ سنواتٍ، يفكّرون في الإمساك بها من أجل اختلاق الأخبار وتوجيه الرأي العام. هذه الوسائل هي نفسها التي تلقّن السياسيين "ماذا يفعلون". فهذه هي القضيّة المهمّة. ولنضع ما عند سياسيّي الغرب من خبثٍ ذاتيٍّ ودهاء جانباً، فهذه الوسائل الإعلاميّة أيضاً تلقّنهم ذلك. ومن الكلام الرّائج هو: أنّنا نضغط على إيران من أجل أن ترجع إلى طاولة المباحثات. فما هي هذه الطّاولة؟ متى تركت إيران المباحثات بشأن القضايا العالميّة المختلفة ومنها الملف النووي، حتى تعود إليها؟! إنّ هذه خدعةٌ إعلاميّة. (يقولون): نحن نسعى أن نرجع إيران إلى طاولة المباحثات! إنّ هذه خدعة إعلاميّة وغشّ. ها هم يكرّرون هذا الأمر في العالم، ويقولون هذا، ويقولون ذاك. برأيي، إنّ هذه العبارات تُكرّر إلى درجة أنّ السياسيين الغربيين أنفسهم يعتقدون أنّها واقعٌ، في حين أنّ الذي اخترع هذا الشّكل وهذا الكلام وهذه المعادلة كان له مقصدٌ آخر. فهو لا يريد لإيران أن ترجع
539
458
في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة
إلى طاولة المباحثات بل إنّه يريد لإيران أن تستسلم أثناء المباحثات لكلّ الهيمنات الغربيّة. حسنٌ، الجواب من جانب إيران هو: كلا، فأنتم أصغر من أن تتمكّنوا من إركاع شعبٍ ثوريٍّ بصيرٍ واعٍ أمام مراميكم ومطامعكم. فمشكلة كل هذه الهيمنات السياسيّة الغربيّة ليست في أنّ إيران لا تريد المباحثات بشأن الملف النووي أو القضايا الأخرى، كلاّ، مشكلتهم هي أنّ إيران لا تخضع لكلامهم. وبالطبع، من المعلوم أنّ هذه المشكلة ستبقى.
أيها الإنكليز، لسنا في القرن التاسع عشر
الطّريف هنا أنّ الأوروبيين يتحدّثون بلهجة القرن التاسع عشر، حيث كانت السفينة الإنكليزيّة في ذاك الزمن تأتي إلى الخليج الفارسيّ، ويرسل القائد الإنكليزيّ أوامره من داخلها إلى مشايخ الخليج للقيام بالعمل الفلاني، وترك العمل الفلاني، أمّا هؤلاء فكانوا كالعبيد ينحنون ويقولون: "على رأسي"1! يتصوّر الأوروبيّون أنّ اليوم هو القرن التاسع عشر. ولم تكن الحكومات التي حكمت بلادنا، حكوماتٍ شريفة كي تتمكّن من إظهار هويّة الشعب الإيراني وأصالته في تصرّفاتها ومعاملاتها، وإنّما كانت منفعلة ومسحوقة. لقد استطاع أولئك أن يؤثّروا في سياستهم وثقافتهم، ولقد هزموهم في الباطن. انظروا، إنّ أيّ شخصيّة أو فردٍ أو شعبٍ ـ لا فرق ـ عندما تُهزم في باطنها وفي نفسها، فإنّها ستُهزم أمام الملأ. أولئك كانوا معتدين، وهؤلاء كانوا عبّاد دنيا ومادّيّات ويسعون للسلطة والرئاسة ويهتمّون بجمع المال والملك والتّجارة، ولم يكونوا يسعون لتحقيق الآمال الكبرى، وإنّما كانوا يسعون نحو الأطماع البشريّة الحقيرة، لهذا غلبوهم وهزموهم. واليوم يتصوّرون أنّ الأمر هو على ذاك النحو. إنّ القضيّة اليوم هي الخطاب الجديد الذي تعرضه الجمهوريّة الإسلاميّة في العالم، وتجعل مستكبري العالم حيارى. إنّ مستكبري العالم اليوم ليسوا في موقع من يريد أن يتحدّث مع الثّورة الإسلاميّة بلغةٍ هجوميّة. فقد استطاعت الثّورة الإسلاميّة اليوم أن تنشر فكرها في العالم، بالرّغم من كل تلك الرّقابة التي فرضوها، وبالرّغم من كل الضغوط التي مارسوها، فاليوم أصبح هذا الفكر رائجاً، فكر السّيادة الشعبيّة وفكر حاكميّة الرّوحانيّة والدين، وفكر مشاركة الناس في السّاحات، وفكر مواجهة كل تلك الهيمنات التي تمارسها القوى والمعسكرات العالميّة المقتدرة. إنّ هذا الفكر أصبح رائجاً اليوم. أنتم ترون كيف أنّ كل هذه الأفكار قد صارت رائجة في العالم. وإن لم
1- بالفارسية "تشجم"، كأن يقال باللغة العامية "من عيني".
540
459
في لقاء النخب والمسؤولين في محافظة خراسان الشماليّة
تكن باسم إيران، فليكن. فنحن لا نصرّ على أن يكون ذلك باسم إيران، ولكن لا يوجد أيّ إنسانٍ في العالم ينكر تأثير الثّورة الإسلامية، وصمود شعب إيران في هذه الأحداث. هذه هي القضيّة اليوم.
الفعاليّة والعمل الصحيح والاتّحاد
لهذا فإنّ العمل يسير بنحوٍ صحيح. نحن نحتاج إلى السّعي والفعاليّة والتفكير والعمل الصّحيح والاتّحاد فيما بيننا وأن نجعل الأجواء، أجواء سعي وعمل وإخلاص وروحانيّة وبعيداً عن التظاهر يوجد اليوم مثل هذا الميدان. أنتم أيّها الأعزّاء الذين تتحمّلون المسؤوليات في القطاعات المختلفة ـ من المستويات العليا في المحافظة إلى المستويات المتوسّطة وغيرها ـ كلّ واحدٍ منكم يمكنه أن يؤدّي دوراً. لقد قلنا سواء أكانت هذه المسؤوليات رسميّةً ومقدّرة ومقرّرة في القانون، أم كانت مسؤوليات اجتماعيّة كعمل العلماء والمثقّفين والأساتذة وأهل العلم والناشطين الاجتماعيين بكافّة المستويات، فالكلّ له تأثيره، والكلّ يتحمّل مسؤولية، وإن لم يكن لمسؤوليّتهم عنوانٌ حكوميّ. فكلّنا مسؤولون. نسأل الله تعالى أن يعين كي نتمكّن من القيام بأعمالنا إن شاء الله. أستودعكم الله جميعاً أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء. وإن شاء الله يشملكم الحقّ جميعاً بتوفيقاته.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
541
460
نداء الإمام الخامنئي دام ظله لحجّاج بيت الله الحرام عام 1433هـ . ق .
نداء الإمام الخامنئي دام ظله لحجّاج بيت الله الحرام عام 1433هـ . ق .
المناسبة: حلول موسم الحج.
الزمان: 25/10/2012م.
543
461
نداء الإمام الخامنئي دام ظله لحجّاج بيت الله الحرام عام 1433هـ . ق .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على الرسول الأعظم الأمين، وعلى آله المطهّرين المنتجبين، وصحبه الميامين.
حلّ موسم الحج زاخراً بالرحمة والبركة، وغمر بالفيض الإلهي مرةً أخرى السعداء الذين تشرّفوا بالحضور في هذا الميعاد النورانيّ. الزمان والمكان هنا يدعوان كل واحد منكم يا حجّاج بيت الله الحرام للارتقاء المعنوي والمادي. الرجال والنساء المسلمون هنا يلبّون بقلوبهم وألسنتهم دعوة الله العظيم للصلاح والفلاح. هنا يجد الجميعُ الفرصة للتمرّن على الأخوّة والتجانس والورع. هنا مخيّم للتربية وللتعليم، ومعرض لوحدة الأمة الإسلامية وعظمتها وتنوّعها، مخيّم مكافحة الشيطان والطاغوت. جعل الله الحكيم القدير هذا المكان ليشهد المؤمنون فيه منافع لهم. عندما نفتح عيون العقل والعبرة يشمل هذا الوعد السماوي كل مديات الحياة الفردية والاجتماعية.
طواف الأبدان والقلوب
تمتاز شعائر الحج بخصوصية امتزاج الدنيا والآخرة، وتلاحم الفرد والمجتمع. الكعبة العظيمة البسيطة، وطواف الأجسام والقلوب حول محور ثابت أبدي، والسعي والجهد المستمر المنظم بين مبدأ ومنتهى، والهجرة الجماعية إلى ساحات البعث في عرفات والمشعر، والأشواق والانفعالات التي تزيد القلوب في هذا المحشر العظيم صفاء ورقّة، والهجوم العام لمواجهة رمز الشيطان، ثمّ السعي العام من الجميع من كل مكان ولون ونوع في كل هذه المراسم الزاخرة بالرموز والأسرار، والمفعمة بالمعاني وآيات الهداية. هي الخصائص الفريدة لهذه الفريضة الطافحة بالمعاني والمضامين.
إصلاح الذات وإصلاح الأمّة
مثل هذه المراسم هي التي تربط القلوب بذكر الله، وتنير خلوة أفئدة البشر بنور التقوى والإيمان، وتُخرج الفرد من قلعة الذات لتذيبه في الجمع المتنوّع للأمة الإسلامية، وتلبسه ثياب الورع التي تحمي روحه من سهام المعاصي المسمومة، وتثير فيه روح مهاجمة الشياطين والطواغيت. هنا يشاهد الحاج بعينه نموذجاً من المديات الواسعة للأمة الإسلامية، ويكتشف إمكانياتها وقدراتها، ويعقد الآمال على المستقبل، ويشعر كذلك بالجاهزية لأداء دوره في ذلك المستقبل، وإذا حظي بتوفيق الله وعونه يبايع الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ثانية، ويعقد ميثاقاً قوياً مع الإسلام العزيز، ويوجِد في داخله عزماً راسخاً لإصلاح ذاته وإصلاح الأمّة وإعلاء كلمة الإسلام.
545
462
نداء الإمام الخامنئي دام ظله لحجّاج بيت الله الحرام عام 1433هـ . ق .
وهذان الإثنان، أي إصلاح الذات وإصلاح الأمّة فريضتان لا تتعطلان. وسُبُلهما لن تكون صعبةً على أهل التدبّر والتأمّل، بفضل التعمّق في الواجبات الدينية والاستلهام من التعقّل والبصيرة.
إصلاح الذات يبدأ بمكافحة الأهواء الشيطانية والسعي لاجتناب الذنوب، وإصلاح الأمة ينتظم بمعرفة العدو ومخططاته، والمجاهدة لإحباط ضرباته وخدعه وعداواته، ثمّ بتعاضد القلوب والأيدي والألسنة بين كل المسلمين والشعوب الإسلامية.
قضايا الأمّة ومساعي العدو
من أهم القضايا في العالم الإسلامي خلال هذه الفترة الزمنية، هي قضية ارتبطت بمصير الأمة الإسلامية، الأحداث الثوريّة في شمال أفريقيا والمنطقة، والتي أفضت إلى الآن إلى إسقاط عدة أنظمة فاسدة مطيعة لأمريكا ومتعاونة مع الصهيونية، وزلزلت أركان عدة أنظمة أخرى من هذا القبيل. إذا فوّت المسلمون هذه الفرصة العظيمة، ولم ينتفعوا منها في سبيل إصلاح الأمة الإسلامية، فقد خسروا خسراناً كبيراً. لقد بدأت الآن كل مساعي الاستكبار المعتدي المتدخّل الرامية إلى حرف هذه التحركات الإسلامية العظيمة.
في هذه النهضات الكبرى انتفض الرجال والنساء المسلمون ضد استبداد الحكام وسيطرة أمريكا التي أدت إلى تحقير الشعوب وإذلالها والتحالف مع الكيان الصهيوني الإجرامي. واعتبرت الجماهيرُ الإسلامَ وتعاليمه وشعاراته المنقذة العامل المخلّص لها في هذا الكفاح المصيري، وأعلنت عن ذلك بصوت عال. وجعلت الدفاع عن الشعب الفلسطيني المظلوم ومكافحة الكيان الغاصب على رأس مطالبها، ومدّت يد الصداقة للشعوب المسلمة وطالبت باتّحاد الأمّة الإسلامية.
الحريّة والإصلاح
هذه هي أسس النهضات الشعبية في البلدان التي رفعت خلال العامين الأخيرين راية الحرية والإصلاح، وتواجدت بأجسامها وأرواحها في سوح الثورة، وهذا ما يمكنه ترسيخ الدعائم الأساسية لإصلاح الأمة الإسلامية الكبيرة. الثبات على هذه الأصول الأساسية شرط لازم لانتصار الثورات الجماهيرية في هذه البلدان انتصاراً نهائياً.
يسعى العدو لزعزعة هذه الأركان الأساسية. وتستغل الأيدي الفاسدة لأمريكا والناتو والصهيونية بعض حالات الغفلة والتسطيح لحرف المسيرة العارمة للشباب المسلم وإشعال اشتباكات بينهم باسم الإسلام، وتبديل الجهاد المناهض للاستعمار
546
463
نداء الإمام الخامنئي دام ظله لحجّاج بيت الله الحرام عام 1433هـ . ق .
والصهيونية إلى إرهاب أعمى في أزقة العالم الإسلامي وشوارعه، حتى تراق دماء المسلمين على أيدي بعضهم، ويتخلص أعداء الإسلام من الطريق المسدود، ويشتهر الإسلام والمجاهدون في سبيله بسوء الصيت والوجه المشوّه.
إثارة الفتن وسيلة العدو اليائس
وبعد يأسهم من إلغاء الإسلام والشعارات الإسلامية، عمدوا الآن إلى إثارة الفتن بين الفرق الإسلامية، وراحوا يضعون العقبات والعراقيل في طريق اتحاد الأمّة الإسلامية بمؤامرات التخويف من الشيعة والتخويف من السنّة.
إنهم يخلقون الأزمات في سورية بمساعدة عملائهم في المنطقة ليصرفوا أذهان الشعوب عن قضايا بلدانها المهمّة والأخطار التي تحدّق بهم، إلى الأحداث الدامية التي ساهموا إسهاماً أساسياً في خلقها. إنّ الحرب الداخلية في سورية ومقتل الشباب المسلمين على أيدي بعضهم بعضاً جريمة بدأت وتمّ تأجيجها من قبل أمريكا والصهيونية والحكومات المطيعة لهما. من يمكنه أن يصدّق أن الحكومات التي دعمت الدكتاتوريات السوداء في مصر وتونس وليبيا تحمي الآن مطالبة الشعب السوري بالديمقراطية؟ قضية سورية قضية الانتقام من حكومة وقفت لوحدها طوال ثلاثة عقود أمام الصهاينة الغاصبين، ودافعت عن فصائل المقاومة في فلسطين ولبنان.
إننا نناصر الشعب السوري ونعارض أي تحريض وتدخّل خارجي في سورية. أي إصلاح في هذا البلد يجب أن يتمّ على يد الشعب وبأساليب وطنية تماماً. أن يختلق طلاب الهيمنة الدوليون بمساعدة حكومات المنطقة المطيعة لهم أزمةً في بلد بذريعة من الذرائع، ثمّ يتذرّعوا بوجود تلك الأزمة للسماح لأنفسهم بارتكاب أية جريمة في ذلك البلد، فهذا خطر جدّيّ إذا لم تعالجه حكومات المنطقة فعليها أن تنتظر دورها في هذه الخدعة الاستكبارية.
الحج فرصة للتأمّل في قضايا العالم الإسلامي
أيها الإخوة والأخوات، موسم الحج فرصة للتأمّل والتعمّق في قضايا العالم الإسلامي المهمة. ومن هذه القضايا مصير ثورات المنطقة والمساعي التي تبذلها القوى المتضرّرة من هذه الثورات لتحريفها. المخططات الخيانية لبثّ الخلافات والفرقة بين المسلمين، وإشاعة سوء الظن وعدم الثّقة بين البلدان الثائرة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقضية فلسطين والمساعي الرامية لعزل المناضلين وإطفاء جذوة الجهاد الفلسطيني، والأداء الإعلامي للحكومات الغربية المعادي للإسلام، ودعمهم لمن أهانوا المنزلة
547
464
نداء الإمام الخامنئي دام ظله لحجّاج بيت الله الحرام عام 1433هـ . ق .
المقدسة للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، والتمهيد لحروب داخلية وتقسيم بعض البلدان المسلمة، وإخافة "الحكومات والشعوب الثائرة" من معارضة "طلاب الهيمنة الغربيين"، والترويج لوهم أن مستقبلهم رهن بالاستسلام أمام المعتدين... وغير ذلك من مثل هذه القضايا المهمّة والحيوية، هي في عداد القضايا المهمّة التي يجب أن يجري التأمّل والتعمّق فيها خلال فرصة الحج، وفي ظل التعاطف والتقارب بينكم أيها الحجاج.
لا شكّ أن الهداية والإرشاد الإلهيين سوف يدلّان المؤمنين على سبل الأمن والسلامة.. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾1.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السيد علي الخامنئي 30 مهر 1391 هـ . ش.
الموافق للخامس من ذي الحجة 1433 هـ . ق.
1- العنكبوت، 69.
548
465
في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
المناسبة: أعتاب 13 آبان (مقارعة الاستكبار).
الحضور: جمعٌ من طلّاب المدارس والجامعات.
المكان: طهران.
الزمان: 31/10/2012م.
549
466
في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نتمنّى أن يشملكم الله تعالى أيّها الشباب الأعزّاء والغرسات اليانعة بأدعية سيّدنا الإمام المهدي المنتظر (سلام الله عليه وعجّل الله فرجه). النشيد والشعر كانا جميلين، وكذلك الألحان كانت جميلة وزاخرة بالمضامين ومتناسبة مع ما يجب أن يحمله الشّباب المسلم اليوم في قلوبهم وأرواحهم بكلّ عزيمة وإرادة إيرانية. موفّقون إن شاء الله.
الإمامة والولاية أهمّ ركن في تشييد النظام الإسلامي
أوّلاً، مبارك لكم عيد الغدير السعيد، وولادة الإمام الهادي عليه السلام، ويوم الثالث عشر من آبان الذي يعدّ مظهر الوجه القويّ والحازم لشعب إيران للوصول إلى الأهداف والصمود بوجه الأعداء. الغدير حدثٌ مهمٌّ وأصوليّ يرتبط باهتمام الإسلام بأهمّ ركن في تشكيل النّظام الإسلامي والمجتمع الإسلامي، ألا وهو قضيّة الإمامة والولاية. وإحياء الغدير بمعنى من المعاني هو إحياء للإسلام. القضية ليست فقط قضيّة الشيعة والمؤمنين بولاية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. نحن الشيعة والذين ندّعي اتّباع الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لو شرحنا حقيقة الغدير بصورة صحيحة، وأدركناها ووعيناها، وعرّفنا الآخرين إليها، فإنّ قضية الغدير يمكنها أن تكون من بواعث الوحدة. إنّ قضية العقيدة القلبية وارتباط نحلة دينية ومذهبية بمبدأ عقيديّ هي بحثٌ، ومعرفة القضية هي بحثٌ آخر.
لقد قام الإسلام بإظهار أرفع قضيّة في مورد تشكيل المجتمع الإسلاميّ والنّظام الإسلاميّ والعالم الإسلاميّ في قضية الغدير. أملنا أن نكون بصدد الوصول إلى المفهوم والمضمون والمعنى الحقيقيّ للغدير والولاية بكلّ ما تعنيه الكلمة في الواقع. فاجعلوا أيّها الشّباب هذا الأمر في أذهانكم دوماً واسعوا من أجله طيلة حياتكم إن شاء الله.
بخصوص قضية الثالث عشر من آبان1 التي سمّيت في أدبيات نظامنا الإسلاميّ
1- 13 آبان (4 تشرين الثاني) وهو يوم الطالب في الجمهورية الإسلامية. توافق هذا اليوم ثلاث مناسبات، أولها: 13 آبان (عام 1964م) يوم أبعد الشاه الإمام الخميني إلى تركيا، والمناسبة الثانية: 13 آبان (1978م) يوم خرج الطلاب واعتصموا في جامعة طهران للاعتراض على نظام الشاه، حينها قام النظام بارتكاب مجزرة بحقهم استشهد وجرح الكثير منهم، والثالثة: 13 آبان (1979م) يوم سيطر الطلاب على السفارة الأمريكية في طهران بعد انتصار الثورة في أقل من سنة، وقبضوا على العاملين فيها وضبطوا الكثير من الوثائق السرية والأدلة التي تفضح مخططاتهم ومؤامراتهم وعمليات الجاسوسية التي يقومون بها، وقال الإمام الخميني في ذلك اليوم كلمته المشهورة، "اليوم انتصرت الثورة".
551
467
في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
باسم مقارعة الاستكبار، هناك الكثير من الكلام الجدير بالقول. القضية ليست مجرد أنّنا نروم إحياء ذكرى تاريخية أو نتفاخر بها، ثمّة مضامين لهذه القضية. تعلمون أنّ ثلاثة أحداث تاريخية وقعت في الثالث عشر من آبان، نفي الإمام في عام 1964م، ومذبحة طلبة المدارس اليافعين عام1978م، وأخيراً السيطرة على وكر التجسّس عام 1979م. وفي كلّ هذه الأحداث الثلاثة كانت مشاعر الجماهير ومظهر النّضال - أي الإمام الخمينيّ الجليل والشعب الإيراني - في جانب، والحكومة الأمريكية المستكبرة في الجانب الآخر. إذاً، ثمّة مواجهة كانت بين نظام الجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية وشعب إيران بما له من عقيدة من جهة، وبين السّاسة الأمريكيين والحكومة الأمريكية المستكبرة من جهة أخرى.
فمتى بدأت هذه المواجهة؟ عليكم أيّها الشّباب أن تتأمّلوا في هذه المسألة بنظرة تاريخية لقضايا البلاد. ثمّة نقطتان أساسيّتان هنا تجب دراستهما: إحداهما، من أين بدأت هذه المواجهة، وما هي المراحل التي مرّت بها وإلى أين وصلت؟ والنقطة الثانية، ماذا كانت نتيجة هذه المواجهة؟
الأمريكيّون أسقطوا مصدّق1 وجاؤوا بالشاه
حين تقع المواجهة والصّراع بين جماعتين أو فئتين أو شخصين، فإنّ أحدهما سينتصر والآخر سيخسر، في هذه المواجهة الطويلة، ماذا كانت النتيجة؟ من الذي انتصر، ومن الذي خسر؟
بخصوص السؤال الأول وهو: من أين بدأت هذه المواجهة؟ إنّ هذه المواجهة قد بدأت منذ ما قبل سنة 1964م، أي في سنة 1953م. بانقلاب الثامن والعشرين من مرداد الذي نفّذه الأمريكيون في إيران، وأسقطوا من خلاله حكومة الدكتور مصدّق. الوكلاء الأمريكيون، المعروفة أسماؤهم ووجوههم وخصوصيّاتهم وهوياتهم تماماً، والكلّ يعرفونهم، وهناك كتب صدرت بهذا الخصوص، جاؤوا رسميّاً إلى إيران بحقائب مليئة بالدولارات، فطمّعوا الأوباش والأشقياء والأراذل وبعض السّاسة الذين باعوا أنفسهم، ونفّذوا هنا انقلاب الثامن والعشرين من مرداد (19آب1953م.) وأسقطوا حكومة مصدّق. والطّريف، الذي من المناسب أن تعلموه، هو أنّ حكومة مصدّق، التي سقطت بواسطة الأمريكيين، لم يكن لديها أيّة خصومة معهم، (فإنّ مصّدق)
1- رئيس حكومة إيران عام 1951م، جاء بانتخاب البرلمان، قام بتأميم النفط ما اغضب البريطانيين. تمت الإطاحة به عام1953م بانقلاب مدبّر بعملية مخابراتية بين الأمريكيين والبريطانيين سمّوها "أجاكس"، عمادها الإغراءات المالية، أعادوا بنتيجتها تنصيب الشاه، واعتقل مصدق بعدها وسجن 3 سنوات.
552
468
في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
كان قد وقف لمواجهة البريطانيين بالاعتماد على الأمريكيين ووثق بهم، وكان يأمل أن يساعدوه، لذا كانت له معهم علاقة صداقة، وكان يظهر لهم محبّته، ولربّما كان يبدي بعض التصاغر أمامهم، والأمريكيون هم الذين فعلوا ذلك بتلك الحكومة. لم تكن الحكومة في طهران معادية لأمريكا، لا، إنّما كانت صديقة لها، إلا أنّ المصالح الاستكبارية اقتضت تحالف الأمريكيين والبريطانيين، فحملوا الأموال إلى هنا وفعلوا ما فعلوا. فالعنصر الأصليّ للانقلاب في طهران كان شخصاً أمريكياً اسمه معروف وشخصيّته معلومة، وأنا العبد على علم تام بذلك، وكتبوا ذلك في الكتب. وبعد أن أوصلوا الانقلاب إلى غايته وثمرته وأعادوا الشاه إلى هنا، بعد أن كان قد فرّ وهرب، صار الأمريكيون هم "الكلّ بالكلّ" في البلاد، أي إنّهم أمسكوا بزمام الأمور.
15 خرداد شرارة الثورة
وبعد مرور قرابة عشرة أعوام على هذا الحدث، وقعت حادثة انتفاضة الشعب في الخامس عشر من خرداد1 والثورة الإسلامية والنّضال الإسلاميّ والنهضة الإسلامية، أي إنّهم ولعشرة أعوام، مارسوا الضغوط وعذّبوا وضربوا وسجنوا وأعدموا وفعلوا كل ما يحلو لهم في هذا البلد، إلى أن وقع الانفجار في قضية خرداد سنة 1963م. بعد عشرة أعوام.
هنا أيضاً، ومع أن الحكومة البهلوية الطاغوتية والظالمة كانت أحد طرفيّ القضية، إلا أن الأمريكان كانوا وراء تلك الحكومة وسنداً لها، وهم الذين زادوا من قوّتها وتسلّطوا بواسطتها على كل شؤون بلادنا. واستمرّ هذا النّضال إلى سنة 1964م، فاضّطر الأمريكيون إلى التدخّل المباشر، فقاموا بنفي الإمام الخمينيّ الجليل سنة 1964م. خارج البلاد. وهنا أيضاً استطاعوا أن يحقّقوا مراميهم بالظاهر، وأن يتغلّبوا حسب ظنّهم على شعب إيران، لكنّ الشعب الإيراني لم يُغلب.
وبعد عام 1964م، ارتكبت حكومة محمّد رضا بهلوي، المبسوطة اليد وبدعمٍ من الأمريكيين، الآلاف من الفجائع في بلادنا. وقد مارس الأمريكيون النهب والسلب والتوسّع والعدوان على إيران ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وكان لهم في إيران عشرات الآلاف من المستشارين الذين قبضوا الأموال ودُرّبوا على التعذيب وارتكبوا آلاف الجرائم، إلى أن انطلقت - سنة 1978م. وتبعتها سنة 1979- هذه الحركة العظيمة
1- 5 حزيران 1963م. تاريخ انطلاق شرارة الثورة الإسلامية. حين اصدر الإمام الخميني بياناً فضح فيه الشاه وبين حجم المؤامرة والخيانة التي يرتكبها بحق الشعب، ودعا الناس والعلماء إلى تحمل مسؤولياتهم، قام جلاوزة الشاه على أثرها باعتقال الإمام، وخرجت تظاهرات واعتصامات في العديد من المدن،حيث تم إخمادها بالقوة فذهب ضحيتها ألاف الشهداء والجرحى.
553
469
في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
للشعب الإيرانيّ بقيادة الإمام الجليل، ولم يكن للعدّو في هذه المواجهة أمل في الانتصار هذه المرّة، لقد وقف الشعب وقاوم وضحّى وقُتل رجاله ونساؤه، حتّى تلامذة المدارس في الشوارع، لكن الشعب الإيرانيّ انتصر أخيراً سنة 1979م. أي إنّ الذي انتصر أخيراً في هذه المواجهة الطويلة، التي امتدّت خمس وعشرون سنة، من سنة 1953م. وإلى سنة 1979م، هو الشعب الإيراني. لقد انتصرت الثورة الإسلامية، وسقطت حكومة تابعة لأمريكا، وقضي على الحكومة الملكية الاستبدادية الخبيثة الفاسدة التابعة الطويلة الأمد، واستلمت حكومة الشّعب الإيراني، حكومة الثورة والنظام الإسلامي، زمام الأمور.
وكر الجاسوسيّة والانتصار الحقيقي للثورة
وقد بدأ الأمريكيون بالمعارضة منذ اليوم الأول، وأحدثوا خللاً، وكان وكر التجسّس، أي السفارة الأمريكية في طهران، هو مركز (صناعة) الاضطرابات وكل المؤامرات، حيث كانوا يرتبطون بذا وذاك، ويهدّدون ويطمّعون ويعقدون الاتفاقات ويعطون الوعود، ويجتذبون الشخصيات الضعيفة، عسى أن يستطيعوا فعل شيء. إلا أنّ الطلبة الجامعيين، وفي الثالث عشر من آبان من سنة 1979م، باعتبارهم زبدة شرائح الشعب الإيرانيّ المناضلة، بادروا للسيطرة على وكر التجسس هذا. وهنا أخفقت أمريكا بمؤامراتها ضدّ الشعب الإيراني، مرّة أخرى.
واستمرّ مسلسل الهزائم الأمريكية. بقيت أمريكا طيلة هذه الأعوام الثلاثة والثلاثين أو الأربعة والثلاثين ـ أي منذ سنة 1979م وإلى اليوم ـ توجد الاضطرابات من أجل تلافي هزيمة سنة 1979م. ولم تكن هذه الهزيمة، هزيمةً لأمريكا في إيران فحسب، حتى نقول بأنّ نظاماً تابعاً لأمريكا في إيران قد سقط وأُخرج من إيران وقُطعت أيديهم عن هذا البلد، إنّما كانت هزيمة لأمريكا في المنطقة. والشعب يرى اليوم هذه الهزيمة من خلال أحداث مصر، وأحداث تونس، وأحداث شمال أفريقيا، وأحداث هذه المنطقة العربية العظيمة، والنفور والكراهية التي تبديها الشعوب تجاه الأمريكيين. لم يكن بوسع كلّ أبناء الشعب يومذاك أن يلاحظوا هذا الشيء بدقّة، لكن المنظّرين السياسيين الأمريكيين كانوا يفهمون أنّه إذا ما قُيّض لهذه الثّورة البقاء والتجذّر والإثمار والازدهار، فإنّ هذه الأحداث ستقع. لذلك استخدموا كل ما في وسعهم ضدّ هذه الثورة، وإلى اليوم.
554
470
في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
الثورة من نصر إلى نصر
حسنٌ، من الذي انتصر بعد هذه الفترة من المواجهة؟ هذه قضيّة على جانبٍ كبير من الأهميّة. منذ سنة 1953م وإلى الآن ونحن على مشارف سنة 2013م ـ أي ما يقارب الستين سنة ـ كانت هناك مواجهة وصراع بين شعب إيران من جانب، والحكومة الأمريكية المستكبرة من جانب آخر. هذا ليس بالشيء الهامشيّ القليل، بل هو حدث مهمّ جداً. فمن الذي كان إلى اليوم المنتصر في هذا الميدان؟ هذا شيءٌ جدير بالتأمّل. حين ندرك أنّ المنتصر هنا هو إرادة وتصميم شعب مؤمن ومتوكّل على الله، فسيكون هذا درساً لكلّ الشعوب، وسيكون هذا مبدأ لكل تطوّرات التاريخ، وفلسفة جديدة للتاريخ تبتني على الأصول الإسلامية، وتخرج إلى النور وتدوّن ويقبل بها الجميع. هذا واقع قد حدث، أي إنّ الشعب الإيراني، كان طوال هذه المدّة وإلى اليوم، هو المنتصر في هذا الميدان العظيم. بأيّ دليل؟ انظروا إلى إيران، الدليل هو أنّهم أرادوا القضاء على هذه الثورة، لكنّ الثورة بقيت، بل قويت يوماً بعد يوم. إنّ جيل إيران الشاب حالياً، هو جيل لم يشهد الثورة ولم يشهد فترة الحرب المفروضة ولم يرَ الإمام الخميني، إلا أنّه يدرس ويعمل ويعيش ويتنفس بنفس المحفزّات والعزيمة والتصميم الذي كان لجيل الثورة والجيل الذي أوجد الثورة. هذه دلائل ساطعة على حياة الثورة وحيويتها.
بالإضافة إلى كلّ هذا، لاحظوا النظام الإسلامي الآن، إنّه نظام اكتسب المتانة والقوّة والثبات، وقال للعالم كلمته، وفرض على الشعوب الاعتراف بعظمته، وصار عظيماً وكبيراً في أعين الشعوب المسلمة وغير المسلمة. فإمامنا الجليل هو شخصية عظيمة ورفيعة حتى في أعين أعدائه. عُرف الشعب الإيراني في العالم كشعب فولاذيّ مقاوم مؤمن ذي بصيرة، واستطاع النظام الإسلامي تطوير البلاد في الداخل.
إيران اليوم أقوى وأكثر ثباتاً وازدهاراً
إنّ إيران التي ترونها اليوم ليست إيران ما قبل الثورة. إنّ إيران ما قبل الثورة كانت بلداً متخلّفاً منسيّاً لا يمتلك الإبداع. على الرغم من كل هذه المواهب والإرث التاريخي والثقافة الغنية، لم يكن لهذا الشعب أي دور أو ظهور في الميادين العلميّة أو السياسيّة أو التقنيّة في العالم، ولم يكن له شيء جديد يطرحه على العالم، ولا ابتكارات في مجال قضايا المنطقة والعالم، بل كان محض تابع. في الداخل، وباستثناء مناطق محدودة يهتم بها المسؤولون وساسة النظام البهلوي، كانت مناطق البلاد خرائب غير معمورة. واليوم إذا سُمعت أخبار عن إشكالات في زاوية من زوايا البلاد يتحسّس الجميع. في ذلك الحين كانت معظم مناطق البلاد على هذا الشكل، أي غير معمورة، وحياة الناس
555
471
في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
فيها صعبة، بلا ماء ولا كهرباء ولا طرق، خالية من أسباب الحياة ولوازمها. الذين علموا بذلك، كانوا ينظرون بحسرة، والكثيرون لم يكونوا يعلمون بذلك أصلاً. كان الناس يعيشون حياةً منكوبة. اليوم، حققت إيران كل هذا التقدّم، وأنجزت كل هذه الأعمال والمشاريع والإبداعات، وسجّل الشباب كل هذه النجاحات في ميادين العلم والبناء وفي كل القطاعات والمجالات الأخرى. لم يكن هنالك شيء من هذا في ذلك الحين. لقد تقدّم البلد وهذا انتصار. بقيت الثورة حية وازداد النظام ازدهاراً وإثماراً وتجذراً يوماً بعد يوم، واستمر وعي الشعب بالازدياد. إن المقدار الذي تفهمونه اليوم يا شباب الثانويات من قضايا العالم وتحلّلونه لم يكن مهيّأً يومذاك للكثير من المثقفين، ولم يكونوا قادرين على فهمه. لقد عمّت اليوم البصيرة والوعي والتحليل السياسي والتعمّق في القضايا. لقد تقدّمنا في المجالات المادية وفي الشؤون والاهتمامات المعنوية والمشاركة في المراسم والمجالات المعنوية. لاحظتم في الأسبوع الماضي ما الذي حدث في كل البلاد في مراسم دعاء عرفة. من هم الذين شاركوا في مراسم دعاء عرفة؟ كلّهم شباب. وكذا الحال في أيام الاعتكاف، وفي شهر رمضان، وفي أيام محرّم، وفي أيّام العزاء، وفي أيّام الفرح، ذاك عن ميدان العلم، وهذا عن ميدان الدين، وذاك عن ساحات السياسة والبصيرة.
رغماً عن الأعداء، تقدّم البلد في كل الأبعاد والميادين وشهد حالات إعمار. البلد الذي اعتاد لقرون طويلة على الحكم الفردي الاستبدادي ظهرت فيه إحدى أرقى مظاهر السيادة شعبيّة، وذلك من خلال المشاركة في الانتخابات وفي المساهمة في القضايا العامّة. هذه هي نفس الثّورة التي أراد لها الأمريكيون أن تُمحق وتزول وتُصاب بالضّعف والخور، وكانوا يمنّون أنفسهم بأنها ستسقط بعد أشهر. كان الأمريكيون يطمئنون عبيدهم المستبدّين في المنطقة بأن يصبروا لبعض الوقت وبأن الثورة سوف تزول وتُمحق وتسقط! وقد نمت الثورة والحمد لله يوماً بعد يوم. هذا ما يتعلّق بهذا الجانب من القضيّة.
سقوط أمريكا في الفكر والمنطق والشعارات
أمّا الجانب الآخر من القضيّة فيتمثّل بزعماء أمريكا والحكومة الأمريكية المستكبرة. ما من أحد في العالم يشك في أنّ أمريكا سقطت خلال هذه الأعوام الثلاثين أكثر من ثلاثين درجة من حيث الاقتدار والشأنيّة العالميّة. الكلّ يشاهد ذلك ويعلمه. والأمريكيون أنفسهم يعترفون به. الساسة الأمريكيون السابقون المخضرمون يهزؤون بالسّاسة الحاليين ـ والأفضل أن يقال عنهم رجال الحكومة ومدمّري الدولة الحالية
556
472
في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
ـ ويقولون لهم إنّكم أوصلتم أمريكا إلى هذا المستوى. وهم على حق، لقد سقطت أمريكا. ما من حكومة في العالم اليوم مكروهة بقدر الحكومة الأمريكية. لو تجرّأت حكومات منطقتنا اليوم والحكومات الأخرى وأعلنت أحد الأيّام يوماً للبراءة من الحكومة الأمريكية، وقالوا للناس اخرجوا في مظاهرات في هذا اليوم، لكانت أكبر مظاهرات في تاريخ العالم. هذا عن مكانة سمعة أمريكا.
أمّا من حيث الموقف المنطقي والفكري لأمريكا، فهناك حكومة وشعب يعتمدان على هذا الفكر والمنطق الذي يطرحانه. الشعوب لا تكتسب المكانة والاعتبار بالمال فحسب، ولا بد من فكر ومنطق. كان الأمريكيون يقولون إن لنا أصولاً ومبادئ أو على حدّ تعبيرهم قيماً... القيم الأمريكية. وكانوا يثيرون الضجيج في العالم من أجل هذه المبادئ والقيم. انظروا اليوم لتروا أين وصل الحال بالقيم الأمريكية.
يزعمون أنهم يعارضون الإرهاب، وهم يتحالفون اليوم في منطقتنا وفي الكثير من أنحاء العالم مع الإرهابيين ويجتمعون معهم ويتوافقون ويتعاهدون ويعطون المال والسلاح ليمارس الإرهابيون أعمالهم الإرهابية! يحيطون جماعة المنافقين - الذين يعترفون هم أنفسهم باغتيالهم لآلاف الأشخاص داخل البلاد - بمظلة دعمهم ويخرجونها، بحسب تعبيرهم من قائمتهم السوداء!
ويزعمون أنّهم يناصرون الديمقراطية. يقولون إنّنا نسعى للسيادة الشعبية والديمقراطية وحقوق الشعوب في التصويت والانتخاب. لكنّهم يدعمون أسوأ المستبدين والدكتاتوريين في العالم والمنطقة بكل ّكيانهم وقدراتهم! هذا ما يشاهده الجميع، وهو ليس بالشيء الخفيّ. هذا هو سقوط القيم. حكومة تزعم أنّها مناصرة لحقوق الإنسان والديمقراطية وفي الوقت نفسه تقدّم أكبر الدعم وأكثره لحكومات لم تشم رائحة الديمقراطية!
يزعمون أنّهم يناصرون حقوق الإنسان ـ وهذه إحدى القيم الأمريكية التي يثيرون كثيراً من الضجيج حولها ـ ويرفعون راية حقوق الإنسان. لكن أسوأ الممارسات المضادّة لحقوق الإنسان تتمّ تحت مظلة الدعم الأمريكي، ولا يمتنع الأمريكان عن مواجهتها فحسب، بل ويدعمونها! منذ خمسة وستين عاماً وحقوق الشعب الفلسطيني تُنتهك وتُسحق علناً من قبل الصهاينة الأشقياء الأراذل في فلسطين المحتلّة، ولا يهتزّ للأمريكيين جفن، بل ويدعمون هذه الانتهاكات ويقدّمون لها المساعدات!
يدّعون أنّهم يناصرون الشعوب، ولكن أينما تطلق الشعوب تحرّكاً تحررياً إصلاحياً ثورياً ضدّ الشرور يقفون في الصف المناهض للشعوب!
557
473
في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
يدّعون أنهم أثرى شعب وحكومة في العالم ـ وأمريكا بالطبع بلد ثريّ ولديه إمكانيّات طبيعيّة وجوفيّة وسطحيّة وكل شيء ـ لكنّهم أوصلوا أمر الشعب الأمريكي إلى أن تكون الحكومة الأمريكية اليوم الأكثر مديونية في العالم، فقروضها وديونها تعادل إنتاجها الإجمالي الوطني! ما من فضيحة أكبر وأشنع من هذه لبلد ما.
يزعمون أنّهم أنصار الحريّة، ولكن ما من بلد في العالم مثل أمريكا من حيث عدد السجناء! عدد سكّانهم قرابة ثلاثمئة مليون نسمة، لكن نسبة سجنائهم إلى عدد سكّانهم أكثر منها في أيّ بلد آخر في العالم. وإلى جانب هذا، هناك محاكم صوريّة وزائفة. طبعاً في الأفلام السينمائية والتلفزيونية والاستعراضات المتنوّعة ثمّة محاكم ذات آداب وتشريفات، هذه بالتالي نتاجات هوليوود وتمثيل النجوم والفنّانين، والواقع غير ذلك.
الحكومة الأمريكيّة أضلّت شعبها
يزعمون أنّ شعبهم شعب عزيز شامخ. والحكومات الأمريكية اليوم أذلّت شعبها وضلّلته، كما قال القرآن الكريم عن فرعون: ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾1 أضلّت الحكومات الأمريكية شعبها، ولم يُسمح له بالاطلاع على الحقائق. حركة الـ 99 بالمئة والنهضة المعارضة لـ "وول ستريت" في أمريكا جرت، والشعب الأمريكي غير مطّلع على الكثير من الحقائق، ولو اطّلع ربما لاشتدّت هذه التحرّكات عشرة أضعاف. وضعوا شعبهم في أسر الصهاينة. أليس من العار على حكومة أن يتحدّث المرشح فيها لرئاسة الجمهورية خلال معركته ومناظراته الانتخابية بما يدخل السرور على قلوب الصهاينة، ويثبت خدمته وطاعته لهم؟! عندما ترون في هذه المناظرات الانتخابية في أمريكا، أنّ كلّ واحدٍ من المرشّحَين الحاليَّين يحاول إبداء الطاعة للمجتمع الصهيوني في فلسطين، وللمجتمع الصهيوني والرأسمالي الإسرائيلي، فذلك لأنّهم أسرى الصهاينة. إنّ ساسة مثل هذا البلد الكبير وبمثل هذا التقدّم العلمي جعلوا شعبهم أسيراً لحفنة من الصهاينة!
لاحظوا أنّ كلّ هذا هو حالات تراجع إلى الوراء. فما هي نتيجة كل هذا التراجع؟ إنّ نتيجته هي انهيار سمعتهم وذهاب ماء وجههم في العالم. فدائرة نفوذهم في العالم تتقلّص يوماً بعد يوم، وينهزمون في الحروب المهمّة. ففي العراق، لم يصل الأمريكيون
1- طه، 79.
558
474
في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
إلى أهدافهم وهزموا، وكذلك في أفغانستان، وكذا الحال في حربهم ـ التي شنّها الصهاينة المرتبطون بهم ـ ضدّ المقاومة في لبنان، وكذا الحال في مواجهتهم لشعوب شمال أفريقيا، هزموا في كل هذه المواقع والنزالات.
طبعاً الكلام كثير في هذا الصدد. ولو أراد المرء ذكر كل جوانب القضية لطال المقام ربّما لساعات. ولكن ربّما يمكن الاستنتاج، بجملة مختصرة، ان الذي هزم في هذا الصراع والمواجهة الطويلة التي خاضتها أمريكا باقتدارها وحكومتها واستكبارها ضد الشعب الإيراني ـ والتي استمرّت اثنتين وثلاثين سنة ـ حيث إنّنا الآن في سنة 1391هـ .ش. (2012م)، هو الحكومة الأمريكية المستكبرة المتكبّرة المزهوّة بنفسها. والذي انتصر هو الشعب الإيراني الشامخ المصمّم العازم.
استخلاص الدروس والعبر
حسنٌ، وما النتيجة؟ لا نريد أن نطلق الأراجيز والملاحم، إنما نريد أن نتعلّم ونستلهم الدروس وأن نجد طريقنا بين حقائق العالم وواقعياته ببركة الهداية الإسلامية. الدرس هو أنّ الشعب إذا صمد وقاوم بعزم وتصميم وتفجّرت طاقاته الذاتية الداخلية واتّكل على الله العظيم، ولم يبخل في ساحة المواجهة بروحه وأمواله وسمعته، حتّى لو لم يكن له من الأموال والسلاح والتقدّم العلمي ما للخصم، وكان سكّانه أقل عدداً من الخصم، وحتّى لو لم يكن له واحد بالمئة من وسائل إعلام الخصم، فإنّه سينتصر في أعظم وأصعب المواجهات والمعارك.
لم تنتهِ تحديّاتنا مع العالم الاستكباري، ولن تنتهي ولا ضير في ذلك. فالتحديات والمواجهات بالنسبة للشعب هي بمثابة الرياضة التي تقوّيه يوماً بعد يوم. إنّنا نقوى بهذه التحدّيات، ولكن يجب أخذ الحيطة والحذر، وأن ندرك ما هي التحديات، وماذا يريد الخصم أن يفعل، وما هي طرق مواجهته. فما لم ندرك هذه الأمور أو أسأنا الفهم، وركنّا إلى الراحة والدّعة، وغفلنا عن البيّنات والواضحات فسوف نُهزم. ليس لله صلة قرابة مع أحد. إذا صمدتم ـ كما صمدتم إلى اليوم ـ وتوكّلتم على الله، ودين الله فسوف تنتصرون حتماً. أمّا إذا لم نصمد ولم نقاوم ولم نتفطن للشروط اللازمة لنضال بهذه العظمة، فمن الواضح أن الله تعالى لا يكترث للشعوب الكسولة والمشغولة بالأمور التافهة. لطف الله وعنايته وعونه تعمّ الشعوب التي تصمد وتفهم وتتحلّى بالبصيرة والحركة والقدرة على التشخيص.
559
475
في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
الحفاظ على الإرادة والعزيمة
إنّ من أعمالنا ومهمّاتنا الأساسية الحفاظ على هذه الإرادة والعزيمة المعطوفة على طاعة ربّ العالمين. هذا هو الشرط الأوّل. ومنها أيضاً اتّحادنا، ومنها مساعينا وجهودنا. فبعضهم يجب أن يدرس، و بعضهم الآخر يجب أن يسعى ويبذل الجهود في مجالات البحث العلمي والتحقيق، وبعضهم يجب أن يبذل الجهود في ميدان البناء والعمران، وبعضهم يجب أن يسعى في المجال الإداري، وبعضهم يجب أن يبذل جهوداً تجارية، وبعضهم ينبغي أن يسعى ويجدّ دوماً ليجد سبلاً لتقدّم البلاد المستمر. لكلّ جماعة نوع من المساعي والجهود. الكل يجب أن يسعى ويجدّ. إذا عمل الجميع وجدّوا وسعوا فسوف يكون الازدهار أسرع والتقدم أكبر والانتصار مضموناً أكثر.
الشقاق ممنوع
ومن السبل والطرائق إيجاد الوحدة، فالاختلافات بين المسؤولين مضرّة، والأسوأ من ذلك جرّ الاختلافات إلى أوساط الشعب، فهذا أكثر ضرراً. هذا ما أحذّر المسؤولين ورؤساء السلطات المحترمين منه. إنني أدعم رؤساء السلطات وسأدعمهم في المستقبل أيضاً، فهم مسؤولون ويجب مساعدتهم، لكنّني أحذّرهم وأقول لهم يجب أن يحذروا ويحترسوا، ليكتبوا مئة رسالة، ويعملوا عملهم، ولكن لا يجرّوا الاختلافات إلى أوساط الناس، ولا يجعلوا سفاسف الأمور سبباً للضجيج والصخب ولاستغلال العدوّ إعلامياً، فتكون مادة إعلامية للإذاعات والتلفزيونات الأجنبية. ليكتبوا مئة رسالة، فالرسالة لا أهمية لها، المهم هو أن نعلم جميعاً أن علينا مسؤوليات. كلّنا يجب أن نعلم أنّ موقعنا وظروفنا حساسة.
التقدّم العلمي يغضب العدو
إنّ العدوّ اليوم منزعج وغاضب بسبب أحداث شمال أفريقيا وبسبب تقدّم إيران العلمي، وهم بالتأكيد يقولون التقدّم النووي، لكنّهم يكذبون، فمشكلتهم الأساسية هي التقدّم العلمي الذي تحقّقونه، وبسبب التأثير الذي يتركه الشعب الإيراني على سائر الشعوب، وبسبب الصحوة الإسلامية التي ظهرت. العدوّ يشعر بالهزيمة والاندحار والإخفاق، لذا فهو منزعج. طبعاً الموقف والظاهر الذي يتّخذه الساسة الأمريكيون هو ظاهر الإنسان المنتصر، ليقولوا: نعم، فعلنا كذا وكذا، لكنهم يعلمون ويعلم الآخرون وتعلم المحافل السياسية والأوساط الإعلامية في العالم حقيقة القضية. هم
560
476
في لقاء جمعٍ من طلّاب المدارس والجامعات
يعلمون أن الحكومة الأمريكية قد هُزمت في هذه المعركة، وفي هذا النّضال الكبير، وهذه الأحداث، لذا فهم منزعجون.
وهم يسعون لفعل شيء. من أفعالهم وممارساتهم المهمّة أن يبثّوا الاختلافات بيننا بأساليب مؤذية وشبيهة بحركة الزواحف، هذه من أعمالهم التي اعتادوا على ممارستها منذ القدم. وبالطبع فإنّ المتبحّر والخبير الكامل في هذه العملية هم البريطانيون الخبثاء. هم الأكثر خبرة من سواهم في بثّ الاختلافات، والأمريكيون يتتلمذون على أيديهم ويتعلّمون منهم! بثّ الاختلافات من خلال طرق النفوذ، والعمل كما تعمل الفئران السارقة والأرضة المتغلغلة المندسّة الزاحفة. هذه من أعمالهم الدارجة. يجب أن نكون حذرين متفطّنين، ونقلل الاختلافات إلى أدنى المستويات.
طبعاً، الاختلافات في وجهات النظر كثيرة، ولا إشكال فيها أبداً ـ شخصان مسؤولان وصديقان وبينهما اختلاف في وجهات النظر، وقد كان هذا سائداً دوماً ـ لكن اختلاف وجهات النظر يجب أن لا يؤدّي إلى اختلاف في العمل وحالات التعامل المتنوّعة والاختلافات العلنية والإمساك بتلابيب بعضنا وتعقّب العثرات أمام أنظار الناس. لأن تلك الاختلافات ليست لها مثل هذه الأهمية. مرة تكون الأمور والأشياء مهمّة فيجب أن يطلع الناس، لكن هذه الاختلافات التي يراها المرء بين هؤلاء السادة ليست بالأمور ذات الأهمّية الكبيرة حتى نضخّمها بالادعاءات المختلفة ونعرضها أمام أنظار الناس ونضفي عليها أهمية كبيرة، إنها غير مهمّة. يجب عدم الإفصاح عن الاختلافات وجرّها إلى أوساط الشعب والجماهير. ينبغي عدم تحريض مشاعر الجماهير باتّجاه الاختلاف. من اليوم إلى يوم الانتخابات، كل من يستخدم مشاعر الجماهير لإيجاد الاختلافات يكون قد خان البلاد بالتأكيد.
لحسن الحظ، فإنّ مسؤولي البلاد مجدّون ومثابرون ومخلصون، ويريدون العمل للبلاد. طبعاً قد تصدر بعض حالات الغفلة، لكن النوايا منصبّة على العمل إن شاء الله.
نتمنّى أن يثيب الله تعالى الجميع على هذه النوايا الحسنة، ويوفّق الشعب الإيراني في كلّ الساحات والميادين، وسوف يوفّقه قطعاً إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
561
477
في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم الفقيه المتألّه السيد علي القاضي
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم الفقيه المتألّه السيد علي القاضي
المناسبة: تكريم السيد القاضي.
الحضور: أعضاء لجنة المؤتمر.
المكان: تبريز.
الزمان: 5/11/2012م.
563
478
في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم الفقيه المتألّه السيد علي القاضي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ1
الحمد للّه ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، لا سيّما بقيّة اللّه في الأرضين.
العلامة القاضي2، إحدى حسنات الدهر
إنّ تكريم المرحوم الميرزا السيّد علي القاضي هو عملٌ مناسبٌ جداً، وذو فائدة كبيرة -إن شاء الله تعالى - وهو عمل كبير. لقد كان السيد القاضي - الميرزا علي - إحدى حسنات الدهر، وكان بحقّ من الشخصيات العلمية والعملية نادرة النظير، إن لم نقل منقطعة النظير.
فهو مضافاً لمقاماته المعنوية والعرفانية، قام بتربية مجموعة كبيرة من الطلّاب، وهذا أمرٌ على مستوىً كبير من الأهمية... لقد كان طلاّبه من الشخصيات الكبيرة، وكنت قد التقيتُ ببعضهم، كالمرحوم السيد الطباطبائي، والمرحوم السيد محمد حسن إلهي ـ شقيق المرحوم الطباطبائي ـ والمرحوم الميرزا إبراهيم شريفي ـ صهر المرحوم السيد القاضي ـ الذي كان في مدينة زابل ـ وهو أحد أبرز طلاّبه ـ والمرحوم الحاج الشيخ عباس قوشاني، وفي المدّة الأخيرة هذه المرحوم الشيخ بهجت، وآخرين من الأكابر كالمرحوم الحاج الشيخ محمد تقي آملي، والمرحوم الحاج الشيخ علي محمد بروجردي، والعديد من الشخصيات الأخرى.
علماءٌ قدوة للجميع
إنّ أهم مسألة في موضوعنا هي أنّه لدينا داخل هذه السلسلة العلمية والفقهية والحكمية الموجودة عندنا في الحوزات العلمية ـ في هذا الصراط المستقيم ـ معبر وتيّار خاصّ الخاص، يمكن أن يكون قدوة للجميع، سواء للعلماء ـ كبارهم وصغارهم ـ أو لعموم
1- ألقيت هذه الكلمة يوم الاثنين 16/07/2012م خلال لقائه أعضاء لجنة مؤتمر تكريم ذكرى الفقيه المتألّه آية الله السيّد علي القاضي، الذي أقيم في تبريز بتاريخ 05/11/2012م.
2- هو قدوة العرفاء السيد علي القاضي، المشهور بالميرزا علي القاضي التبريزي، وهو أستاذ نخبة من العلماء البارعين المتقدّمين، وفي مقدّمتهم السيد الطبطبائي قدس سره، صاحب كتاب الميزان. من مواليد تبريز عام 1282هـ . توفي (رضوان الله تعالى عليه) عام 1366 هـ .، ودفن في وادي السلام بجنب قبر والده السيد حسين القاضي، وكان يوم وفاته وتشييعه يوماً عظيماً وحزيناً على النجف الأشرف وحوزتها.
565
479
في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم الفقيه المتألّه السيد علي القاضي
أفراد المجتمع، وللشباب أيضاً. هؤلاء أشخاص لم يكتفوا بالتمسّك بالظواهر، فسعوا وجاهدوا، وعملوا في طريق العرفان، وطريق السلوك وطريق التوحيد ووصلوا إلى المقامات العالية. والمهم أنّ هذه الحركة السلوكية العظيمة والرياضة لم تحصل بطرق الاستنباطات الشخصية والتخيّلات ـ مثل بعض السلاسل والدكاكين الصوفية والعرفانية وأمثالها ـ بل هي عن طريق الشرع المقدّس فقط، وبخبرة عالية أيضاً.
أساتذة مجتهدون فقهاء
لقد كان جميع أتباع هذه الطريقة التي ينتمي إليها السيد علي القاضي، والتي تبدأ بالمرحوم السيد علي الشوشتري، مجتهدين من الطراز الأول. فالسيد علي الشوشتري الذي تتلمذ على يد الشيخ الأنصاري في الفقه والأصول، وكان في الوقت نفسه أستاذ الشيخ الأنصاري في الأخلاق والسير والسلوك ـ أي كان تلميذ الشيخ الأنصاري في الفقه والأصول، وأستاذ الشيخ الأنصاري في السلوك والأخلاق ـ فكان الأنصاري يستفيد منه في هذه المجالات ـ بقي حياً (بعد وفاة أستاذه الشيخ الأنصاري) لمدة قليلة، ويقول من حضر درس السيد علي الشوشتري: "لم نرَ فرقاً بين درسه ودرس الشيخ". لقد بلغ مستواه العلمي والفقهي إلى هذه الدرجة. التلميذ المهم الآخر للشيخ الأنصاري هو المرحوم الآخوند الملا حسين قلي الهمداني، والذي كان في القمة1 من حيث العرفان والروحانية والسلوك - وعظمة مقامه فاقت الوصف - وكان باللحاظ العلمي التقليدي من خيرة تلامذة الشيخ الأنصاري في الفقه والأصول، إلا أنّه غلب عليه طابع العرفان والسلوك والتوحيد، لأنّه سار في هذا الطريق. تلامذة العلامة قلي الهمداني، وهم أساتذة المرحوم السيد القاضي، كالمرحوم الحاج السيد أحمد الكربلائي، والمرحوم الحاج الشيخ محمد البهاري، وغيرهما من هذا القبيل كانوا جميعاً من حيث الفقاهة في المرتبة العليا. فالمرحوم الحاج السيد أحمد الكربلائي كان على درجة بحيث إنّ الميرزا محمد تقي الشيرازي كان يُرجع في احتياطاته إليه، وكان بمستوى المرجعية قطعاً، لكنه امتنع عنها، وعاتب من أرجعوا احتياطاتهم إليه، وبقي هائماً في عوالم المعنوية. يقول المرحوم جدّنا السيد هاشم نجف آبادي الذي كان قد عاصر السيد أحمد الكربلائي والتقاه: عندما كنّا في طريقنا من وإلى مسجد السهلة في الليالي والأسحار، كنا نسمع صوت بكاء المرحوم السيد أحمد يخرج من بيته الذي كان على الطريق، هكذا كانت الحالات التي تعتريه.
1- عبر القائد بكلمة: (العرش).
566
480
في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم الفقيه المتألّه السيد علي القاضي
تعلّمت منه كيف أصلي
حسناً، المرحوم السيد القاضي كان تلميذاً لهؤلاء. بالطبع، كان أيضاً تلميذاً لوالده السيد حسين، وبعد مجيئه إلى النجف صار تلميذاً للمرحوم السيد أحمد. وكان تلميذاً للمرحوم السيد مرتضى الكشميري لمدة عشرة أو اثني عشر عاماً، لكن السيد محمد حسن ابن المرحوم القاضي كتب في كتاب له يقول: "إنه لم يدرس عند السيد مرتضى الكشميري، لكنه استفاد من مجالسته والحديث معه"، إلا أنّه في ذاك الكتاب أو في كتابات المرحوم السيد محمد حسين الطهراني - لا أتذكر على وجه التحديد - وجدت أنّ المرحوم القاضي يقول: لقد تعلمت من المرحوم السيد مرتضى الكشميري كيف أصلّي. لاحظوا كم هي عميقة معاني هذه الكلمات. كلنا نصلي ونتصوّر أننا نصلي على الوجه الأتم. لكن هذا العارف الكبير الذي تربّى وتكامل طوال سنين في كنف والده في تبريز، حين انتقل إلى النجف ليبقى عشرة أعوام متتلمذاً على يد السيد الكشميري، يقول إني تعلمت الصلاة منه. هذا في حين ينقل تلامذة المرحوم الميرزا السيد علي القاضي إنّه رغم كثرة مشاكله المعيشية وثقل مسؤوليات عائلته الكبيرة والفقر والفاقة، مع ذلك كان إذا صلى يغفل عن الدنيا كلها، أي إنّه لشدة خشوعه وتوسله وذكره في الصلاة ينقطع عن العالم. حسن، هذا معبر استثنائي ممتاز وهو معبر خاص الخاص. وهي من هذه الجهة حجة علينا جميعاً لكي نفهم أنّ هذا المعبر موجود، وهذه المقامات والمسيرة والسلوك والإخلاص في سبيل الله حالات موجودة.
لم يكن من أهل إظهار المكاشفات وأمثالها على الإطلاق. ولقد نُقل الكثير عنه، وهي منقولات موثّقة وكثيرة تعدّت الحالة والحالتين في حياته المليئة بالعجائب، إلى درجة حصول اليقين بصحة طرقها، لكن هذه الأمور لا أهمية لها ولا دور في حياة هؤلاء العظماء. وكان يقول لطلابه: "إذا انتابتكم حالة من المكاشفة فلا تعتنوا بها... أكملوا أعمالكم وأذكاركم وحافظوا على خشوعكم"، أي إن مقامات هؤلاء هي هذا. على كل حال، من المهم جدّاً إحياء هذه الشخصيات بهذه الطريقة، فيُعرفوا ويعرّف بهم، لكن بشرط أن يجري التعريف من قبل أهل الخبرة، فالذي يريد التعريف بهذه الشخصيات لا بدّ له أن يستطيع إيضاح مقاماتهم المعنوية لنا لكي نستفيد ونغتنم، أما صرف بيان مقاماتهم العلمية والفقهية ـ التي كانوا في الحدّ الأعلى منها ـ فهذا لا يكفي لتعريف شخصيات من قبيل المرحوم السيد علي القاضي.
567
481
في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم الفقيه المتألّه السيد علي القاضي
رسائل العلّامة القاضي
وقد كان عمره طويلاً والحمد لله، وكانت له الكثير من التوفيقات والنجاحات، وخرّج الكثير من الطلاب. كما كان من حيث معاني السلوك والعرفان وما إلى ذلك من النوادر القلائل كما ذكرنا. عموماً كان بحق من الشخصيات المبرّزة. في الكتاب الذي كتبه ولده المرحوم السيد محمد حسن، والذي اطلعت عليه قبل سنوات، وراجعته مراراً، توجد مجموعة من رسائله. وفي هذا الكتاب ثمة حاشية مختلطة بالمتن إلى درجة لا يميز معها المرء الحاشية من المتن. إذا استطعتم الحصول على نصوص هذه الكتابات، وهي موجودة بالتأكيد لدى ورثة هذين المرحومين - ثمّة أربع أو خمس رسائل، إحداها باحتمال قوي موجّهة للسيد الطباطبائي، وهي بلا عنوان طبعاً، لكن يمكن الحدس من نصّها أنها موجّهة للسيد الطباطبائي. وإحداها موجّهة احتمالاً للسيد محمد حسن الإلهي، ورسالة أو رسالتان موجّهتان لصهره المرحوم الشيخ إبراهيم شريفي زابلي. وإحداها موجّهة لعموم تلامذته بمناسبة حلول شهر رجب أو شهر ذي القعدة، يقول فيها: "إنّ الشهر الحرام قد حلّ"، ويتحدث عن أهمية الأشهر الحرم، وربما كانت بعض الرسائل الأخرى لآخرين - وإذا نشرتم هذه الرسائل مستقلة، فاعتقد أن ذلك سيكون ذكرى حسنة جداً. على أي حال أتقدم لكم بالشكر، متمنياً لكم أداء عملكم على أفضل وجه إن شاء الله تعالى...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
568
482
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
المناسبة: الملتقى الرابع للأفكار الاستراتيجية.
الحضور: جمعٌ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد.
المكان: طهران.
الزمان: 13/11/2012م.
569
483
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أوّلاً، إنّني مسرورٌ جدّاً، وفي الحقيقة شاكرٌ كثيراً لكلّ واحدٍ من الحضور، خصوصاً الإخوة والأخوات الذين كانوا قد أتعبوا أنفسهم وحقّقوا وأعدّوا المقالات وبعدها سعوا لتلخيصها، فمن الواضح أنّ المقالات قد تمّ اختصارها بشكل وافٍ، حيث ينبغي لنا أن ننال توفيق الله لنتمكّن من أن نجد وقتاً للاطّلاع على أصول هذه المقالات التي طُبعت ووُضعت بين الأيادي. وبينما أستبعد - أنا العبد - أن أحصل على الفرصة المناسبة لمثل هذا الوقت، لكن على الأعزّاء، أن يرجعوا إلى أصل المقالات ويتأمّلوا فيها لأنّ لدينا عملاً مع هذه المقولة. كذلك أشكّر المدير المحترم والعزيز الدكتور واعظ زاده الذي ـ وبحسب العادة ـ استطاع أن يبيّن الكثير من المطالب بمختصر الكلام، وأن يزيل بقليل من التظاهر العقبات الكثيرة من أمام الأعمال التي ينجزها في شتّى المجالات. حقّاً، لقد بذل جهداً كبيراً هو ومعاونوه.
من الضروريّ أيضاً أن أوجّه شكراً خاصّاً لجميع العاملين. حسنٌ، أنتم تشاهدون هذه الأيّام نتيجةً لهذه المطبّات التي أوجدها الاستكبار العالمي، الذي هو في الواقع العدوّ رقم واحد للحريّة، ولبلدنا وللجمهوريّة الإسلاميّة، فيما يتعلّق بالقضايا الاقتصاديّة وتأثيرها على عمل مجموع الحكومة وفي حياة الناس ـ هواجس عامّة في الأجواء السياسية للبلد، فما من أحد منّا فارغ البال من مثل هذه القضايا، ومع ذلك، فإن ّهذا العمل الأساسيّ والطويل الأمد لم يتوقّف أو يتعطّل، أي إنّ هذا الاجتماع والمؤتمر قد أقيم في وقته، بشكل دقيق وكما كان مخطّطاً له. إنّ هذا يسرّني - أنا العبد - لذلك أشكر جميع العاملين عليه.
أهداف الملتقى الاستراتيجي للفكر
إنّ للجمهوريّة الإسلاميّة عدّة أهداف أساسيّة من وراء إقامة ملتقيات الأفكار الاستراتيجيّة، والتي لا ينبغي لنا أن ننساها أو ندعها تغيب عن أعيننا. أحدها أنّ البلد بحاجة ماسّة، في مجال المقولات المتعلّقة بالبنية التحتيّة إلى الفكر والتفكير. يوجد الكثير من المقولات الأساسيّة، وها نحن نلتقي لبحث المقولة الرابعة1، ونرى أنّنا
1- يقوم ملتقى الأفكار الاستراتيجيّة ببحث مجموعةٍ من المقولات الفكريّة، وقد عُقِدت سابقاً ثلاث جلسات ٍ بُحث فيها العناوين الآتية:
1- النموذج الإيراني الإسلامي للتقدّم.
2- العدالة.
3- المرأة والأسرة.
وقد انعقد الملتقى الرابع لبحث مقولة "الحريّة".
571
484
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
بحاجة للتفكير بشأنها ونعمل الفكر حولها. أنا العبد، وفي لقاء شهر رمضان، في هذه الحسينيّة، مع مجموعة من الجامعيين ـ لا أذكر ما إذا كانوا أساتذة أو طلبة ـ أشرت إلى كلام أحد الحاضرين وإلى الكلمات التي أُلقيت في العام السابق لذلك اللقاء، حيث كان قد وُجّه إليّ أنّه منذ عدّة سنوات وأنتم تتحدّثون عن قضيّة العلم، والتفتّح العلمي، قوموا بالتركيز على الفكر. لقد فكّرت في ذلك، ووجدتُ أنّ هذا الكلام مهمٌّ جدّاً. حسنٌ، وهنا قلنا فلنتحرّك نحو التفكير بالفكر، وتفعيل الأفكار. بالطبع، إنّ لهذه القضيّة ظروفها ومجالاتها وإمكاناتها، ونحن نمتلك بعضاً منها، ونفتقد لبعضها، ويمكننا أن نحصّل بعضها الآخر. إنّ هذا من التحدّيات الأساسيّة لأي شعب، إنّ شعباً مثل شعبنا لا يبقى في مكانه كالمستنقع، بل يتحرّك بشكل دائم كنهرٍ جارٍ. فنحن هكذا، في حالٍ دائمٍ من الجريان والتقدّم. يوجد تصادم ومواجهة مع الموانع لكنّ التقدّم لا يتوقّف. نحن شعبٌ هو هكذا، لذا نحتاج أن نفكّر بهذه القضيّة. وعليه، فإنّ الحاجة الماسّة إلى الفكر في بلدنا، وخصوصاً في المقولات المتعلّقة بالبنية التحتيّة، يُعدّ من أهداف هذه اللقاءات.
هناك هدفٌ آخر، وهو أهميّة التواصل المباشر مع النخب. يمكنني أن آخذ كتابكم وأقرأه، ولكن هذا يختلف عن استماعي لحديثكم منكم مباشرةً، وإن كان بصورةٍ مختصرة. وإنّ هذا الحكم يصدق على جميع الحاضرين الذين شرّفونا هنا. فليستمعوا إلى كلمات وأحاديث بعضهم بعضاً من دون واسطة. هذه قضيّة مهمّة أيضاً.
إيجاد الأرضيّة العلميّة
النقطة الثالثة ـ وهي في غاية الأهميّة ـ ترتبط بإيجاد الأرضيّة العلميّة لتحصيل الأجوبة على الأسئلة المهمّة في المقولات البنيوية والتأسيسيّة. ومثلما أشار بعض أعزّائنا، فإنّنا نواجه أسئلةً وعلينا أن نجد لها الأجوبة. هذه الأسئلة ليست مثيرة للشكوك، أو مبيّنة للشبهات والعقد الذهنيّة فحسب، وإنّما تطرح قضايا أساسيّة لحياتنا الاجتماعيّة. وبادّعائنا، إنّنا جمهوريّة إسلاميّة ونظام إسلامي، تُعدّ هذه طروحات لقضايا أساسيّة. فيجب أن تُطرح ويجب أن يجاب عليها. فهل حُلّت هذه القضيّة؟ وهل لها جوابٌ واضحٌ أم لا؟ إنّنا بحاجة في هذا المجال إلى العمل، فهذا من أهداف هذا اللقاء.
بالطبع، لم تكن أيّ من هذه اللقاءات، وهذا اللقاء الذي نقيمه هذه الليلة واللقاءات الثلاثة السابقة، بهدف الحسم والكلام الأخير، فلا أنتم تطرحون آخر الكلام، ولا - أنا العبد - أطرح آخر الكلام، بل إنّنا هنا نقوم بتهيئة الأرضيّة. إنّنا نريد لهذه الحركة أن تنطلق، ومثل هذا الجريان يُعدّ بمثابة عين فوّارة انبجست هنا من أجل أن تجري
572
485
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
سيّالةً فيما بعد. إنّ العمل الأساس يجب أن يبدأ بعد هذا اللقاء، وهو بالطبع ما يحصل على أيدي المحقّقين والأساتذة ذوي الاندفاع والفكر الثاقب، سواء أكان في الحوزة أم في الجامعة. حسنٌ، لقد تمّ إنجاز أعمال بعد اللقاء الأوّل، والذي كان حول النموذج الإيراني الإسلامي للتقدّم ـ لقد بيّن جناب الدكتور واعظ زاده ذلك ـ فهناك أعمالٌ جيّدة قد أُنجزت وهي أعمال أساسيّة. واللقاء اللاحق كان حول العدالة وقد أودع بيد ذاك المركز أيضاً. اللقاء الثالث كان حول الأسرة. وقد جرى القيام بأعمال مهمّة في هذا المجال، سواء أكان في المركز نفسه أم في بعض المؤسّسات التحقيقيّة والمراكز البحثيّة. لقد كان من مطالبي - أنا العبد - أن لا يكون هناك جدولٌ لهذا العمل. فنحن منذ البداية، لم نرغب بأن يكون هناك جدول لهذا العمل. نحن نريد أن يُنجز العمل، فيتّضح الجدول. وقد قلت مؤخّراً للأعزّاء إنّه من أجل أن يتحقّق مبدأ الجريان والاستمرار في الخارج، وخصوصاً بالنسبة لمقولة تتّصف بالتّحدّي كالحريّة، طلبنا من السادة أن يتّبعوا سياسة إعلاميّة منظّمة من أجل أن يتمكّن أصحاب الرأي، والمهتمّون، وبعض الأشخاص الذين قد يصابون بنوع من الخمود أحياناً في هذه المجالات، أو يكونون باحثين عن أيّ ذريعة للاندفاع في هذا العمل، أن يتمكّنوا من الاستفادة من لقائنا في هذه الليلة ويدخلوا في هذا الخضم. لكن من غير المقرّر عندنا أن تكون "الإعلاميات" بالمعنى المتعارف.
قضيّة الحريّة
أمّا فيما يتعلّق بموضوع لقائنا الليلة ـ أي قضيّة الحريّة ـ فهناك عدّة نقاط. إنّ الكلمات التي ألقاها أعزّاؤنا هي كلماتٌ ممتازة. في الواقع، إنّ المرء عندما يستمع - وأنا العبد أُعتبر مستمعاً جيّداً وأنصت بالدّقة إلى الكلمات - يستفيد. ولقد استفدنا واقعاً من جميع الكلمات التي ألقاها الأعزّاء ـ من بعضها أكثر ومن بعضها الآخر أقل ـ وهناك نقاطٌ ملفتة. وبالتأكيد، أقول هذا دون مجاملة. ولقد فهمنا أيضاً من مجموع كلمات السادة كم إنّنا نعاني من فراغٍ في هذا المجال. فكلماتكم وأبحاثكم أكّدت على ما كنت - أنا العبد - أحمله من تصوّر، حيث أدركنا كم أنّنا نعاني من نقصٍ في هذه القضيّة. وسوف أشير هنا إلى ما نعانيه من نقص.
مسار الحريّة عند الغربيّين
حسنٌ، الحقيقة هي أنّ بحث الحريّة، بين الغربيين وفي هذه القرون الثلاثة أو الأربعة المصاحبة لعصر النهضة وما بعده، قد شهد تفتّحاً وتبرعماً لا نظير له. والقليل من الموضوعات، كقضيّة الحريّة في الغرب، سواء أكان في مجال العلوم الفلسفية أم في مجال
573
486
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
العلوم الاجتماعية أم في مجال الفنّ والأدب، قد طرح في هذه القرون الأربعة، ولهذا علّةٌ وسببٌ أساسيّ عام، وتوجد له أسبابٌ محيطة أيضاً. العلّة العامّة هي أنّ الأبحاث البنيويّة الأصوليّة من أجل أن تنطلق تحتاج إلى حادثة باعثة، أي إنّه في الأغلب يكون هناك إعصارٌ يحرّك هذه الأبحاث الأساسيّة. فالأبحاث العميقة والمهمّة والتي لديها طابع التحدّي، حول هذه المقولات الأساسيّة، لا تنطلق في الأوضاع العاديّة. ينبغي أن تقع حادثة ما لتشكّل أرضية لها. كنّا قد ذكرنا إنّ هذا إشارة إلى العامل الأساسيّ ـ ونحن هنا نذكر هذا العامل الأساسيّ ـ ويوجد أيضاً عوامل جانبيّة. تلك الواقعة كانت واقعة عصر النهضة بالدرجة الأولى ـ النهضة على صعيد مجموع الدول الأوروبية، بدءاً من إيطاليا التي كانت هي المنشأ، وبعدها إنكلترا وفرنسا ومناطق أخرى ـ ثمّ بعد ذلك كانت قضيّة الثورة الصناعيّة التي حدثت في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر في إنكلترا. لقد كانت الثورة الصّناعيّة بحدّ ذاتها أشبه بالانفجار الذي يفرض على البشر أن يفكّروا وعلى العلماء أن يبحثوا. وبعدها، وفي منتصف القرن الثامن عشر، تحقّقت مقدّمات الثورة الفرنسيّة الكبرى ـ التي كانت أرضيّة اجتماعيّة لتحقّق ثورة عظيمة ـ في منطقةٍ لم يكن فيها مثل تلك الثورات. بالطّبع، كان لها نظيرٌ في إنكلترا قبل مئة أو مئتي عام بنحوٍ مقتضب، إلّا أنّه غير قابل للمقارنة مع ما حدث في الثّورة الفرنسيّة.
كانت مقدّمات الثورة الفرنسيّة عبارة عن الإرهاصات التي تتحرّك تحت الرماد، ذاك الشيء الذي يكون موجوداً تحت سطح المجتمع ويرصده المفكّرون. لم تستفد وقائع وأحداث المجتمع الفرنسيّ من أفكار أمثال مونتسكيو أو روسّو، كما استفاد هؤلاء من وقائع هذا المجتمع في عملية استنباط الأفكار. وكلّ من ينظر سيلحظ هذا الأمر. أنتم تعلمون أنّ مونتسكيو كان خارج فرنسا من الأساس، كان هناك وقائع، وقبل أن يحصل الانفجار الكبير عام 1789م. حسناً، لقد كان انفجاراً عظيماً، ولَكَم تسبّب بالخراب والخسائر. تحت سطح المجتمع والمدينة والبلد، كان هناك الكثير من الحوادث التي تشير إلى وجود مثل هذا التيّار.
بخصوص الحريّة، طرحوا قضيّة العقل. كلا، أقول لكم إنّه ربّما كان هناك أربعة مثقّفين في الثورة الفرنسيّة يتحدّثون بهذه الطريقة، أمّا في ميدان العمل وعلى الأرض فما لم يكن يُطرح هو قضية العقل والعقلانية والتوجّه إلى العقل. كلا، لم يكن هناك سوى قضية الحريّة، وتحديداً التحرّر من قيد الملكيّة والحكومة المستبدّة المهيمنة لعدّة قرون، أي حكومة الأسرة البوربونية1 التي كانت مهيمنة على جميع أركان حياة
1- إحدى أهم السلالات التي حكمت في أوروبا، وينتمي إليها حاليّاً ملكا إسبانيا والسويد، وأول حاكم من هذه العائلة كان فيليب الخامس (1746م)، حاكم إسبانيا (1700م - 1746م).
574
487
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
الناس. لم يكن الأمر منحصراً بجهاز البلاط فحسب، بل كان كل واحد من أشراف ونبلاء فرنسا ملكاً. وما سمعتموه عن سجن الباستيل وسجنائه لم يقتصر على عدّة أيّام، بل لعلّه بقي على حاله لعدّة قرون، أي إنّ الوضع كان مزرياً. حسنٌ، لقد كان هناك أشخاصٌ أصحاب فكر مثل فولتير ومونتسكيو وروسّو يشاهدون هذه الأحوال، وكان لديهم الاستعداد للتفكّر والتأمّل، ووصلوا إلى هذه الحالات وتحدّثوا، إلا أنّه لم يكن لكلماتهم أيّ وقع على صعيد وقائع المجتمع وفي مجال العمل داخل فرنسا من الأساس. حسنٌ، انظروا، وستجدون أنّ أياً من الخطب التي كانت تُلقى من قبل الخطباء الكبار ـ كميرابو وغيره ـ لم تكن ناظرة إلى كلمات مونتسكيو وفولتير وأمثالهما، بل كانت كلّها ناظرة إلى فساد الجهاز الحاكم واستبداده وأمثال ذلك. هذه هي واقعيّة الثورة الفرنسيّة.
الثورة الفرنسيّة وفجائع الأباطرة
إنّ الثورة الفرنسيّة الكبرى كانت، بأحد المعاني، ثورة فاشلة، فلم يمضِ على الثورة إحدى عشر أو اثنتا عشرة سنة، حتى جاء إمبراطورٌ مقتدر كنابليون، ليصبح ملكاً مطلق الصلاحيّات لم يتمتّع بسلطته حتّى الملوك الذين كانوا قبل لويس السادس عشر المقتول في الثورة! عندما أراد نابليون أن يتوّج نفسه ملكاً جاؤوا بالبابا لكي يضع التاج على رأسه، لكنّ نابليون لم يسمح للبابا بذلك بل أخذ منه التاج ووضعه على رأسه بنفسه! وهنا نضع هذه الأمور كلّها بين قوسين. بالمقارنة مع ثورتنا، لا بأس أن يُتوجّه إلى هذه النقطة: إنّ ما لم يسمح بوقوع مثل هذه الأحداث والفجائع ولو بنحو قليل ولو بنسبة ضئيلة في ثورتنا هو وجود الإمام الخميني، ذاك القائد المتّبَع والنافذ والمُطاع عند الكلّ، هو الذي لم يسمح بذلك، وإلّا فثقوا تماماً أنّه لو لم تقع تلك الأحداث، لحدث ما يشبهها هنا. ففي المدّة الفاصلة ما بين الثورة وظهور نابليون وإمساكه بالسلطة ـ تلك السنوات الاثنتا عشرة ـ جاءت ثلاث جماعات على رأس الحكم، وكانت كل جماعة تأتي إلى الحكم تبيد الجماعة السابقة وتصفّيها، ثمّ تأتي الجماعة اللاحقة وتفعل نفس فعلتها مع من سبقها. وكانت النتيجة أن رزح الناس تحت حياة التّعاسة والشّقاء والفوضى، هكذا كانت الثورة الفرنسية الكبرى. وبالنسبة لثورة أكتوبر الرّوسيّة كان الوضع مشابهاً من عدّة جهات ـ أي إنّها كانت تشبه الثّورة الفرنسيّة الكبرى ـ غاية الأمر إنّه في (ثورة أكتوبر) وُجد وضعٌ خاص وعوامل مختلفة أخرى كانت توجّه الناس بشكل ما وتسيطر عليهم، لا بأس أن يتمّ الالتفات إليها.
575
488
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
وفي المحافل التي كنت - أنا العبد - أحضر فيها - سواء أكان في المحافل التاريخيّة أم في المحافل الجامعيّة ـ لم أكن أرى، وللأسف، توجّهاً إلى هذه القضايا الموجودة في هذه الثورات.
بالطبع، أنتم تعلمون أنّه قد وقعت عدّة ثورات في فرنسا. الثورة الفرنسية الكبرى وقعت في نهاية القرن الثامن عشر، وبعدها بنحو أربعين سنة حدثت ثورة أخرى، وكذلك بعدها بعشرين سنة، وقعت ثورة أخرى وكانت ثورة شيوعيّة. فأوّل ثورة شيوعيّة في العالم حدثت في فرنسا، حيث تمّ تشكيل الكيانات الاشتراكيّة.
بناءً عليه، إنّ عوامل نموّ هذه الحركة الفكريّة كانت على الشكل الآتي: بالدرجة الأولى كان عصر النّهضة. بالتأكيد، إنّ واقعة عصر النّهضة لم تكن واقعة دفعيّة، لقد وقعت أحداثٌ كثيرة على مدى مئتي سنة من بدايات عصر النّهضة، وإحداها كانت قضيّة الثّورة الصّناعيّة، ومنها أيضاً قضيّة الثورة الفرنسيّة الكبرى. كلّ هذه أدّت إلى طرح قضيّة الحريّة، ولهذا تمّ العمل عليها. كتب الكثير من الفلاسفة آلاف الأبحاث والمقالات والكتب. وكُتبت مئات التّصانيف في باب الحريّة في جميع هذه البلدان الغربيّة. بعدها، انتقل هذا الفكر إلى أمريكا وهناك أيضاً عملوا على نفس المنوال.
الحركة الدستوريّة
(أمّا بالنسبة لنا)، فإلى ما قبل المشروطة(الحركة الدستوريّة) لم يكن لدينا تلك الوضعية من قبيل إيجاد تيّار فكريّ حتى ننشغل بالتفكّر بمقولة كالحريّة. وكانت المشروطة فرصةً ممتازة، حيث مثّلت حادثة كبرى ترتبط مباشرةً بقضيّة الحريّة. لهذا، شكّلت فرصة مناسبة لتحريك واستثارة هذا الحوض الرّاكد لفكرنا العلميّ، سواء أكان في الحوزات الدينيّة أم في غيرها، إعصارٌ ينبعث وتُنجز الأعمال، وهذا ما فعلته. ثمّ طُرحت الأفكار المتعلّقة بالحريّة، غاية الأمر أنّها كانت تعتريها نقيصة كُبرى لم تسمح لنا بأن نتحرّك على الطريق الصحيح لهذا الفكر أو نتقدّم عليه. وتلك النقيصة هي عبارة عن نفوذ الأفكار الغربيّة تدريجياً إلى داخل أذهان مجموعة من المثقّفين، قبل عدّة سنوات من المشروطة ـ لعلّه لعقدين أو ثلاثة قبلها ـ بواسطة العناصر الأرستقراطيّة، والأمراء وعمّال البلاط. نحن عندما نقول مثقّفين، كان ذلك في العصر الأوّلي مساويّاً للأرستقراطيّة، أي إنّه لم يكن لدينا مثقّف غير أرستقراطي، فالمثقّفون عندنا كانوا بالدّرجة الأولى من رجال البلاط والتّابعين والمريدين لهم، فهؤلاء كانوا قد ارتبطوا منذ البداية بالفكر الغربيّ في مجال الحريّة. لهذا، عندما تتناولون مقولة الحريّة في المشروطة ـ وهي مقولةٌ حافلةٌ بالصّخب والضّجيج ـ ترون تلك النّزعة المعاديّة للكنيسة في الغرب كشاخص
576
489
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
مهم للحريّة، بيد أنّها طُرحت هنا تحت عنوان المسجد وعالم الدّين والدّين. حسنٌ، هذا كان قياساً مع الفارق، فنزعة عصر النّهضة، في الأساس، كانت نزعة معادية للدين وللكنيسة لهذا تأسّست وأقيمت على قاعدة النّزعة الإنسانيّة (الهيومانيزم). وبعدها قامت جميع الحركات الغربيّة على أساس هذه النّزعة الإنسانيّة واستمرّت إلى يومنا هذا على هذا المنوال. ومع كل الاختلافات التي طرأت، كان الأساس هو النّزعة الإنسانيّة، أي كان الأساس هو الكفر والشرك ـ ولو وُجد مجال لاحقاً فسوف أشير إلى هذا ـ وهذا الأساس بعينه هو الذي وفد إلى بلادنا. أنتم تلاحظون أنّه عندما كان كتّاب المقالات من المثقّفين، والسياسيين، ومن أضرابهم، حتى ذاك المعمّم الذي لبس لبوس المثقّفين، عندما كانوا يكتبون مقالة أو كتاباً بشأن المشروطة كانوا يكرّرون عين الكلمات الغربيّة ولا أكثر. لهذا لم يكن هناك أيّ نوع من التجدّد والتوليد (الخلّاقيّة).
استيراد المنظومات الفكريّة
لاحظوا، هذا من خصائص الفكر المقلّد. فأنتم عندما تأخذون هذه الوصفة من طرفٍ ما من أجل أن تقرؤوها وتعملوا بها، عندها لن يكون هناك أيّ معنىً للتجدّد والتوليد. فلو أنّكم أخذتم منه العلم أو الدّافع أو الفكر أو المُثل، وأنزلتموها إلى ميدان العمل والتطبيق سيكون هناك توليد (خلّاقيّة). لكنّ هذا لم يحصل، لهذا لم يتحقّق التوليد فيما بعد. لهذا، لم يطرأ أيّ كلامٍ جديد أو مُثل جديدة أو أي منظومة فكريّة جديدة في مجال العمل المرتبط بالحرّيّة، كما في تلك المنظومات الفكريّة التي للغرب. الكثير من أصحاب الفكر في الغرب لديهم منظومة فكريّة بخصوص الحريّة. فقد كان لكلّ من الأعمال النقديّة التي دارت حول الليبراليّة القديمة، وتلك التي أُوردت على النّسخ الجديدة لليبرالية والليبرالية الديمقراطيّة وعلى تلك الأشياء ما بعد الليبراليّة، التي تعود مثلاً إلى القرن السابع عشر أو السادس عشر، كان لكلٍّ منها منظومتها الفكريّة، لها بداية، ونهاية، وتجيب عن أسئلة كثيرة. ونحن لم نوجد حبّة واحدة منها في بلدنا، مع أنّ مصادرنا كثيرة، فنحن لسنا فقراء بالمصادر ـ كما أشار الأعزّاء ـ أي إنّنا في الواقع نستطيع أن نؤمّن مجموعة فكريّة مدوّنة ومنظومة فكريّة كاملة في مجال الحريّة، تجيب على جميع الأسئلة الدّقيقة والعريضة للحريّة. بالطّبع هذا ليس عملاً سهلاً، فهو يحتاج إلى همّة. نحن لم نقم بهذا العمل. ففي الوقت الذي لدينا مصادر، قمنا باستيراد منظوماتهم الفكريّة، وهنا كان لكلّ واحد روابطه، فبعضهم كانت لديه روابط مع النّمسا فيأتي بكلام العالم النمساوي، وآخر لديه معرفة باللغة الفرنسيّة فإنّه يأخذ من فرنسا، وآخر مع إنكلترا أو ألمانيا فيقلّد بحسب اللغة الإنكليزية أو ما جاء باللغة الألمانية، فصار الأمر تقليداً. والمعارضون، الذين اعتُبروا معارضين للحريّة لمّا وجدوا
577
490
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
هذه الكلمات معادية للدين والمسائل الدينيّة قاموا بمواجهتها، وفي الواقع، دخلوا في هذه المعمعة نفسها، فكلٌّ من هاتين الفئتين علق في هذه القناة الضيّقة.
لدينا اليوم نقصٌ وثغرات وتصدّعات كثيرة. ومع أنّنا نمتلك المصادر فليس لدينا منظومة فكريّة. وفي اجتماعنا اليوم، برأيي إنّ الدكتور بزرغر ـ ما لم أكن مخطئاً ـ هو العزيز الوحيد الذي عرض منظومةً. من الممكن أن تعتبروا أنّ تلك المنظومة ناقصة، فلا اعتراض، لكن علينا أن نتّجه نحو بناء المنظومة، أي أن نضع القطع المختلفة لهذه الأحجية في مكانها، ونصنع لوحةً كاملة، فنحن بحاجة إلى هذا الأمر. ومثل هذا العمل ليس عمل ذرّة أو ذرّتين، أو جلسة أو جلستين، إنّه عملٌ جمعيّ ويحتاج إلى تسلّط ضروريّ، سواء أكان على المصادر الإسلاميّة أم على المصادر الغربيّة، وسوف أذكر هذا أيضاً.
موضوع الحريّة
أذكر هنا نقطتين أو ثلاثاً. المسألة الأولى تتعلّق بتبيين الموضوع. انظروا، لقد أشار الأعزّاء هنا إلى الحريّة المعنويّة بذاك المعنى الذي جاء في بعض رواياتنا، والتي كان قد أشار إليها بعض مفكّرينا كالمرحوم الشهيد مطهّري، وهي أعلى أنواع الفضائل الإنسانية ـ فلا شكّ في هذا ـ غاية الأمر أنّها ليست محل بحثنا. ففي الأساس، إنّ بحثنا ليس بشأن الحريّة المعنويّة التي تعني السلوك إلى الله والقرب من الله والسير في وادي التوحيد، الذي كان من نتاجاته أمثال الملّا حسين قلّي الهمداني3 أو المرحوم السيّد ميرزا القاضي أو المرحوم العلّامة الطبطبائي4، وإنّما بحثنا يتعلّق بالحريّات الاجتماعيّة والسياسيّة، والحريّات الفرديّة والاجتماعيّة، فالقضيّة اليوم في العالم هي هذه.
3- هو العارف الجليل الشيخ حسين بن قلّي الهمداني، ينتهي نسبه الى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري. ولد عام 1239هـ . في قرية "شوند" من قرى مدينة همدان.
قال السيد محسن الأمين في كتابه "أعيان الشيعة": "كان فقيهاً أصولياً متكلماً أخلاقياً إلهياً من الحكماء العارفين السالكين..."
توفي في الثامن والعشرين من شعبان سنة 1311هـ .، ودفن في الصحن الحسيني في كربلاء المقدسة.
1- هو العلامة محمد حسين الطبطبائي، يرجع نسبه إلى الإمام الحسن بن علي عليه السلام. ولد في التاسع والعشرين من ذي الحجة 1321هـ (1904م.) في مدينة تبريز في إيران. نشأ وترعرع في أسرةٍ عريقة بالعلم والثقافة، درس على أيدي أكابر العلماء، كان فيلسوفاً وحكيماً، وكان أستاذاً موهوباً، كرّس معظم حياته لتعليم المعارف الإسلامية الحقّة، تخرج من تحت يده العلماء والأساتذة والمفكرون، منهم الشهيد الشيخ وطهري، والشهيد السيد مصطفى الخميني، والسيد موسى الصدر. كتب في مجال الفلسفة والتفسير وتاريخ الشيعة، ومن أبرز كتبه وأهم أعماله "الميزان في تفسير القرآن" في عشرين مجلداً. توفي العلامة قدس سره في الثامن والعشرين من محرم الحرام سنة1402هـ.(1981م.) ودفن بجوار مرقد السيدة المعصومة عليها السلام.
578
491
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
حسنٌ جداً، من الممكن أن يكون لدينا مئة مسألةٍ أخرى لا يعرف الغرب عنها شيئاً ـ مثال ذاك السلوك المعنويّ وأمثاله فلنبحث ذلك في محلّه. ما نحن بصدده الآن هو الحريّة بهذا المعنى المتداول والرّائج في المحافل الجامعية والسياسية والثقافية لعالم اليوم التي تبحث بشأن الحريّة. نحن نريد أن نبحث فيما يرتبط بهذا (الجانب). إنّ الحريّة المعنويّة بذاك المعنى المتعلّق بالسلوك إلى الله، والقرب من الله، والنّظر إلى الله، وحبّ الله وأمثاله سيكون موضوعاً آخراً في محلّه. هناك حرّيّة أخرى يمكن عدّها بأحد المعاني حريّة معنويّة وهي التحرّر من مخالب العوامل الدّاخليّة المانعة من عملنا الحرّ في المجتمع، أو مانعة من فكرنا الحرّ في المجتمع، كالخوف من الموت والخوف من الجوع، والخوف من الفقر. وقد أشير في القرآن إلى هذه المخاوف: ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾1، ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾2، وفي خطابه النبيّ: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾3. أو الخوف من سلب الامتيازات، فافرضوا أنّ لنا في هذا الجهاز امتيازاً معيّناً، فإنّنا لو قلنا كلاماً وأعملنا مثل هذه الحريّة وأمرنا بالمعروف فإنّنا نسقط. أو الطّمع الذي يؤدّي إلى أن لا أذكر عيبكم، وأن لا أتعامل معكم بحريّة ـ أنتم أصحاب القدرة والسّلطة ـ لأجل أنّني طامعٌ بكم. أو الحسد أو العصبيّات الخاطئة والتي لا محلّ لها، أو التحجّر، فإنّ هذه كلّها أنواعٌ من الموانع الدّاخليّة، والتي يُعدّ التحرّر منها حريّة معنويّة. لهذا لدينا اصطلاحان بشأن الحريّة المعنويّة: أحدهما، ذاك الاصطلاح الأوّل الذي هو عبارة عن العروج إلى الله والقرب من الله وحبّ الله وأمثاله. وهذا لا يدخل في بحثنا أساساً، فله مقولة أخرى. والآخر هو الحريّة المعنويّة بمعنى التحرّر من القيود والأغلال الدّاخليّة التي تمنعني من الذهاب إلى الجهاد، ومن الذهاب إلى المواجهة، ومن أن أتكلّم بصراحة، ومن أن أعلن مواقفي علانيّةً، وتجعلني أبتلى بالنّفاق وأكون ذا وجهين. (فقضية) مواجهة موانع الحريّة قابلة لأن تُطرح للبحث.
نطاق الحريّة في الإسلام
النقطة اللاحقة هي أنّنا نريد أن نتعرّف إلى رأي الإسلام، نحن الذين لا نجامل أحداً. لو أردنا تتبّع الآراء غير الإسلاميّة ـ كل ما تنضجه أذهاننا وتنشئه ـ فإنّنا سنُبتلى بتلك الاضطرابات التي ابتُلي بها المفكرّون الغربيّون في المجالات المختلفة، سواء أكانت في
1- المائدة،44.
2- آل عمران،175.
3- الأحزاب،37.
579
492
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
الفلسفة أم في الأدب والفنّ أم في المسائل الاجتماعيّة، أي بالآراء المتضاربة والمتنوّعة والمتضادّة والتي لا يكون لها في الأغلب استمرار وامتدادٌ عمليّ. كلاّ، إننا نسعى للتعرّف على رأي الإسلام وموقفه.
فانظروا، إنّنا نصنع لأنفسنا في بحث الحريّة أوّل نطاق1، فما هو هذا النّطاق؟ إنّه عبارة عن أننا نريد رأي الإسلام فنحدّ أنفسنا بنظر الإسلام والإطار الإسلامي، هذا هو أوّل نطاق. ففي بحث الحريّة لا نخشى النّطاق، لأنّه عندما يُقال الحريّة فإنّها في معناها الأوّليّ ـ الذي هو بالحمل الأوّلي الذاتي ـ التحرّر، وأيّ شيء يكون له أدنى منافاة مع هذا التحرّر يصبح ثقيلاً على ذاك الذي يريد أن يبحث بشأن الحريّة، فيسعى نحو الاستثناء، والقاعدة هي عبارة عن التحرّر المطلق. إنّه يسعى نحو هذا الذي يُعبّر عنه "إلّا ما خرج بالدليل"، فيقول: حسنٌ، في هذه المجالات لا يوجد حريّة، وفي تلك المجالات لا يوجد حريّة، وإذا تجاوزنا هذه المجالات يوجد حريّة. هذا هو الخطأ الذي يمكن أن يقع فيه الإنسان في تعامله مع بحث الحريّة. وأنا أقول إنّ الأمر ليس كذلك، فمنذ البداية لا يوجد فرضيّة مسبقة تريد أن تمنحنا الحريّة المطلقة ـ حيث سأذكر هنا ما هو منشأ الحريّة في الإسلام من الأساس ـ، فليس لدينا منذ البداية مثل هذا الفرض المسبق بأنّ الحريّة المطلقة هي حقّ الإنسان ومرتبطة به وأنّها قيمة له، وهنا ننظر لنرى ما هي هذه الاستثناءات، فأيّ منها تحت عنوان "ما خرج بالدّليل"، كلّا، القضيّة ليست كذلك، إنّنا لا نخشى التحديد والنّطاق، فمثلما قلت إنّ أوّل نطاقٍ وضعناه بشأن أبحاث الحريّة في الإسلام هو أن نقول في "الإسلام"، أي إنّنا نضع لها منذ البداية إطاراً ونحدّد لها نطاقاً من الخطوة الأولى. فما هي الحريّة في الإسلام وما هو معناها؟ فمثل هذا صار نطاقاً. كلّا، إنّ بحثنا في الأساس هو هذا.
في الآية المعروفة من سورة الأعراف المباركة يقول: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾2، إنّ هذه أوضح آية في القرآن حول الحريّة، حيث تضع الإصر. والإصر هو تلك الحبال التي تُربط بها الخيمة من أجل أن لا تطيح بها الرّياح، وهي التي تُربط بإحكام بالأرض، ولكنّه أخلد إلى الأرض، هذا هو الإخلاد إلى الأرض. فأواصرنا هي تلك الأمور التي تربطنا بالأرض وتمنعنا من التحليق. والغلّ هو تلك
1- النطاق بمعنى الإطار والحد، وقد استخدم القائد كلمة " محدوديت" أي القيد والحد.
2- الأعراف، 157.
580
493
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
السلسلة المعدنية التي جاء النبيّ من أجل رفعها. في هذه الآية، وقبل أن يقول: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾، يقول: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ﴾1 فماذا يعني الحلال والحرام؟ الحلال والحرام يعني وضع الحدود والمنع، وهما متلازمان مع الممنوعيّة. فمن الأساس، لا ينبغي أن نأبى وجود الحدود والمنع في أذهاننا أثناء البحث حول الحريّة.
الحريّة في منطق الغرب
بعض السّادة قالوا بوجود اختلافات جوهريّة بين الإسلام والغرب في النّظر إلى الحرّية ونظرية الحريّة. ففي الغرب، طُرحت الليبراليّة بالخصوص، وبالطبع، يوجد مذاهب أخرى، لكنّها جميعاً مشتركة بهذه الجّهة. أجل، صحيحٌ أنّ هذه الاختلافات التي ذكرها السّادة موجودة، لكنّ الاختلاف الأهم هو أنّ منشأ الحريّة في الليبرالية تحت عنوان الحقّ أو القيمة هو عبارة عن النّزعة الإنسانية، لأنّ محور عالم الوجود والاختيار في عالم الكون هو هذا الإنسان، وذلك لا يكون ذا معنى من دون الاختيار، لهذا يجب أن يكون حاصلاً على الاختيار والحريّة. وبالطبع إنّ هذا الاختيار غير الاختيار في "الجبر والاختيار". لقد طرح بعض السّادة "الجبر والاختيار". إنّ بحث الاختيار في "الجبر والاختيار" هو أنّ الإنسان لديه قدرة الاختيار ـ القدرة الذاتية والطبيعية ـ لكن هنا إنّ الحديث عن الاختيار يقول حقّ الاختيار، فلا يوجد تلازم قطعيّ بين القدرة على الاختيار وحقّ الاختيار. بالطبع، يمكن أن نفرض مجموعة من اللوازم لكن ليس معلوماً أنّها ستكون مقنعة هكذا. لهذا فإنّ ما يقولونه هو هذا، إنهم يقولون إنّ الإنسان هو المحور، أي أنّ ربّ عالم الوجود في الواقع هو الإنسان، ولا يمكن أن يكون موجوداً من دون قدرة الاختيار والإرادة. أي إنّه من دون إعمال الإرادة ـ والتي هي المعنى الآخر للحريّة ـ لا يوجد إمكان أن نفرض أنّ الإنسان هو صاحب الاختيار في عالم الوجود. هذا هو أساس بحث الحريّة. وهذا هو مبنى الفكر الإنسانيّ بشأن الحريّة (الهيومانيزم).
الحريّة في منطق الإسلام
أمّا في الإسلام فالقضيّة منفصلة تماماً عن هذا الأمر. ففي الإسلام المبنى الأساسيّ للإنسان هو التوحيد. بالطبع، لقد ذكر الأعزّاء بعض الموارد الأخرى أيضاً ـ وهي أيضاً صحيحة ـ، لكنّ النقطة المركزية هي التوحيد.والتوحيد ليس منحصراً بالاعتقاد
1- الأعراف، 157.
581
494
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
بالله، بل هو عبارة عن الاعتقاد بالله والكفر بالطاغوت والعبودية لله وعدم العبودية لغير الله: ﴿تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾1، لا يقول ولا نشرك به أحداً، بالطبع، هناك موردٌ جاء فيه كلمة أحدا، لكنّه هنا بمعنىً أعم، حيث يقول لا نشرك به شيئاً. فلا نجعل أي شيء شريكاً لله، أي إنّكم إذا اتّبعتم العادات دون دليل فهذا خلاف التوحيد، وإذا اتّبعتم البشر يكون كذلك، وهكذا في مورد الأنظمة الاجتماعية ـ فكل ما لا ينتهي إلى الإرادة الإلهية ـ يكون في الواقع شركاً بالله، والتوحيد هو عبارة عن الإعراض عن هذا الشرك: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ﴾2، يوجد الكفر بالطاغوت وبعده الإيمان بالله، حسنٌ، هذا معناه تلك الحرية، فأنتم أحرارٌ من جميع القيود غير العبودية لله.
أنا العبد، وقبل سنوات في صلاة الجمعة في طهران، تحدّثت عن بحث الحريّة في عشرة أو خمس عشرة جلسة، وقد أشرت هناك إلى مسألة وقلت: نحن في الإسلام نعتبر أنفسنا عبيداً لله، لكن في بعض الأديان الناس هم أبناء الله. قلت ذاك مجاملة، إنّهم أبناء الله وعبيدٌ لآلاف البشر، عبيدٌ لآلاف الأشياء والأشخاص! الإسلام لا يقول هذا، بل يقول كن ابناً لمن تشاء ولكن كن عبداً لله فقط. لا ينبغي أن تكون عبداً لغير الله. فأساس المعارف الإسلامية في مورد الحرية ناظرٌ إلى هذه النقطة.
هذه اللّماظة لأهلها (الحرُّ بترك الصغائر)
ذاك الحديث المنقول عن أمير المؤمنين، وبالظاهر عن الإمام السجّاد خ، يقول: "أوَلا حرٌّ يدع هذه اللُّماظة لأهلها"3، هذه هي الحريّة ـ ألا يوجد حرٌّ يترك هذا المتاع الحقير ـ اللُماظة هي سوائل الأنف أو تلك التي تخرج من فم الحيوان الوضيع ـ، ليتركها لأهلها؟ إلى هنا لا يُفهم شيء. من الواضح أنّ الحرّ هو الذي يترك هذا الأمر لأهله ولا يسعى نحوه. فيقول بعد ذلك، "فليس لأنفسكم ثمنٌ إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها". من المعلوم أنّهم يريدون أن يجعلوا لتلك اللماظة قيمة وثمناً، أي إنّهم كانوا يقدّمون تلك اللُماظة ليبادلوا بها أنفسهم ووجودهم وهويّتهم وشخصيّتهم، فالقضيّة أنّ هناك معاملة تجري وهو ينهى عنها. فإذا أردتم أن تقوموا بهذه المعاملة فلماذا تبيعون أنفسكم لقاء هذه اللُماظة؟ بل اجعلوا ذلك فقط مقابل الجنّة والعبودية لله. لهذا، فإنّ
1- آل عمران، 64.
2- البقرة، 256.
3- تحف العقول، ص390. وقد وردت في نهج البلاغة، ج4، ص105، بصيغة: ألا حرٌّ يدع هذه.
582
495
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
النقطة المركزية هي هذه. بالطبع يوجد نقطة مركزية أخرى هي عبارة عن الكرامة الإنسانيّة، والتي تشير إليها "وليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة"، حيث ندخل الآن في هذا البحث.
مصادرنا سبقت الأوروبيّن
ويوجد نقطةٌ أخرى وهي أنّنا في تمسّكنا بالمصادر الإسلامية ـ مثلما أشار بعض السّادة يوجد مصادر قرآنية وغير قرآنية وحديثية كثيرة وكثيرة، حيث كنت، أنا العبد، قد وجدت فرصة ومجالاً للبحث في تلك السلسلة من الخطب في ذلك الوقت، ووجدت عدّة من تلك المصادر وقرأتها في صلاة الجمعة تلك. لا ينبغي أن نكون بصدد هذا الأمر فقط وهو أن نثبت أنّه لم يكن الغرب ولا أوروبّا من أهدانا بحث الحريّة، لأنّه في بعض الأحيان نستخدم هذا مقابل من يقول: لماذا إنّ بعض المتغرّبين يقولون إنّ هذه المفاهيم قد علّمنا إيّاها الأوروبيون، كلا، إنّ عظماء الإسلام قد ذكروا ذلك قبل ظهور هذه الأبحاث في أوروبا بقرون. حسنٌ جداً، هذه فائدة، لكن الأمر لا ينبغي أن يكون هكذا فقط. يجب علينا أن نرجع إلى المصادر كي نتمكّن من استنباط تلك المنظومة الفكرية المتعلّقة بالحريّة من مجموع تلك المصادر.
زوايا البحث في الحريّة
النقطة الأخرى هي أنّه يمكننا أن نبحث بشأن الحريّة من أربع زوايا نظر: إحداها من منظار الحقّ بالاصطلاح القرآني، لا بالاصطلاح الفقهي والحقوقي، وسوف أشير إلى هذا بشكل مختصر موضّحاً. وإحداها من منظار الحقّ بالاصطلاح الفقهي والحقوقي، الحقّ والملك، والحقّ في قبال الملك، وإحداها من منظار التكليف. وإحداها أيضاً من منظار النظام القيمي.
الحقّ بالاصطلاح القرآني
وبرأيي، البحث الأوّل هو الأهم، أي أن نعمل على الحرّية من منظار الحقّ بالاصطلاح القرآني، فالحقّ في الاصطلاح القرآني ـ والذي لعلّه تكرّر في القرآن كمصطلح الحقّ أو عبارة الحقّ أكثر من مئتي مرّة، وهو أمرٌ عجيبٌ جدّاً. والحقّ في القرآن له معنىً عميق ووسيع، حيث إنّه يمكن بشكل مختصر ومجمل التعبير عنه بكلمتين بمعنى سطحيّ وبمعنى جهاز منظّم وهادف. فالله تعالى في آيات عديدة من القرآن يقول إنّ كل عالم الوجود
583
496
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
قد خُلق على أساس الحقّ: ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾1، ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾2، أي إنّ نظام أو جهاز عالم الوجود وجهاز الخلقة ـ من جملتها وجود الإنسان الطبيعي بمعزلٍ عن قضية الاختيار والإرادة في الإنسان ـ هو جهازٌ مصنوعٌ ومُعدّ، ومترابط ومتّصل ببعضه بعضاً، وله نظامٌ وهدف. فيما بعد يبيّن هذه المسألة نفسها بشأن التشريع - لقد أشرت في مورد التكوين إلى بعض الآيات - وفي مورد التشريع يقول: ﴿نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾3، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾4، ﴿لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾5، فهذا الحقّ وذاك الحقّ، هذا في عالم التكوين وذاك في عالم التشريع. ويعني ذلك أنّ عالم التشريع متطابق مئة بالمئة مع عالم التكوين بحسب الحكمة الإلهيّة. ويمكن لإرادة الإنسان أن تخرّب بعض زواياه.، لأنّه متطابق مع عالم التكوين، والجهة هي جهة الحقّ ـ أي إنّ كلّ ما ينبغي أن يكون، تقتضيه الحكمة الإلهية ـ لهذا، فإنّ تلك الحركة العامّة والكلّية ستتغلّب في النهاية على جميع هذه الأعمال الجزئية التي تتعدّى هذا الطريق وتتخلّى عنه وتنحرف. لكن، من الممكن أن تحصل أنواعٌ من المخالفات، هذا هو عالم التكوين وهذا هو عالم التشريع. ومن موادّ هذا العالم إرادة الإنسان، ومن موادّ هذا التشريع حريّة الإنسان، فهذا هو الحقّ إذاً. وبهذه النّظرة نتطلّع إلى قضية الحريّة وهي حريّة الحقّ مقابل الباطل.
الحقّ بالاصطلاح الحقوقي
وبمنظارٍ آخر يكون بلحاظ الحقّ بالاصطلاح الحقوقيّ حيث قلنا إنّه يُعطى قدرة المطالبة ـ أي لديه خصوصيّة تمكنّه أن يطالب بشيءٍ ـ وهو أمرٌ يختلف مع بحث الاختيار في حقّ الاختيار في "الجبر والاختيار".
ومنها قضية التكليف حيث ينبغي أن ننظر إلى الحرّية من منظار تكليفٍ ما. فليس من الصحيح أن نقول: حسنٌ جداً إنّ الحريّة أمرٌ جيّد لكنّني لا أريد هذا الشيء الجيّد، كلّا، لا يصحّ ذلك، يجب على الإنسان أن يسعى إلى الحرّيّة، سواء أكانت حريّته أو حرّيّة الآخرين. فلا ينبغي أن يسمح لأحدٍ أن يبقى في الاستضعاف والمذلّة والمحكوميّة.
1- الدخان، 39.
2- الجاثية، 22.
3- البقرة، 176.
4- البقرة، 119.
5- الأعراف، 43.
584
497
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً"1. ويقول القرآن أيضاً: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾2، أي إنّكم مكلّفون بتحقيق حريّة الآخرين ولو بالقتال، حيث إنّ هذا أيضاً يرتبط بأبحاثٍ متنوّعة.
النقطة الرابعة هي القيم. حيث إنّ هذا الأمر بحسب نظام القيم الإسلامية يُعدّ من عناصر الدّرجة الأولى. بالطبع، هو تلك الحرية الموجودة.
حسنٌ، سوف أختم كلامي حول مقارنة ما عندنا مع الآراء الغربية، نحن الذين نريد أن نبحث بشأن قضية الحرية ونحقّق ونتقدّم، فهذه نقطة أساسية. حسنٌ، إنّ الأبحاث التي قام بها السادة والسيدات كلّها تشير إلى وجود هوّة عميقة بين نظرة الإسلام ونظرة الغرب، وهذا أمرٌ صحيح. هذا هو الأمر. إنّ المنشأ الأساس ـ كما ذكرنا ـ هو أنّ مِلاك الحرية ومعيارها هناك هو بحث سيادة الإنسان، وهنا بحث سيادة الربّ، العبودية لله والتوحيد الإلهي، وهذا محفوظٌ في مكانه. تارة ننظر إلى الآراء الغربيّة ونرى أنّها لا تمتلك نتاجات جيّدة وواقع القضية هو هذا ليس غير. وهنا كلّ هؤلاء المفكّرين البارزين والعظماء كانوا قد تحدّثوا حول الحرّية وبحثوا، فأين هم الآن؟ أين هو عالم الغرب بلحاظ العمل والسّلوك، بلحاظ تلك الأمور التي ذكروها وأرادوها؟ وتلك الأطر التي تمّت رعايتها وملاحظتها ليس لها وجود. فلو فرضنا أنّ ما نراه اليوم في واقع الغرب هو ترجمة عمليّة لها تماماً (أي لتلك الأطر) فإنّ وضعهم عندئذٍ سيكون سيّئاً جدّاً، وذلك لأنّ حال الغرب اليوم بلحاظ الحريّة هو حالٌ مؤسفٌ وسيّئ، أي إنّه لا يمكن أن يستحقّ أي دفاع.
الحريّة الاقتصاديّة
نجد الحرّية الاقتصادية اليوم في الغرب على تلك الشاكلة التي أشار إليها السّادة. في الدائرة الاقتصادية: توارث المناصب الاقتصادية بواسطة أشخاص معدودين. فلو استطاع أيّ إنسانٍ أن يوصل نفسه بالاحتيال أو التزوير أو أي شكل آخر، إلى ملعب المتسلّطين الاقتصاديين، فإنّ كل شيء يصبح له. بالطبع، لا ينظرون في أمريكا إلى السوابق الأرستقراطية، خلافاً لأوروبا والتقاليد الأوروبية حيث تولى هذه القضايا مقداراً من الأهميّة، وكان ذلك في الماضي أكثر واليوم قد تضاءل. وفي أمريكا لا يوجد مثل هذه السوابق الأرستقراطية والأسرية وأمثالها. فهناك يمكن لأيّ شخصٍ ـ ولو كان حمّالاً ـ أن يستفيد من منصبٍ ما وأن يوصل نفسه إلى تلك النقطة العالية
1- نهج البلاغة، رسالة 31.
2- النساء، 75.
585
498
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
للرأسمالية، ويصبح في مصاف الرأسماليين ويتمتّع بالامتيازات التي هي من مختصّاتهم. في ذاك الميثاق الذي أعدّه الأمريكيون، فإنّ أحد الكبار والروّاد وبناة أمريكا اليوم ـ الذي عاش قبل قرنين، ولا أذكره الآن، وعلى وجه التقريب بعد الثورة الفرنسية الكبرى بمدّة قليلة، حيث وقعت تلك الأحداث في أمريكا وتشكّلت تلك الدّولة ـ يقول إنّ إدارة أمريكا يجب أن تكون بأيدي أولئك الذين يتمتّعون بثروتها. إنّ هذا أصلٌ عام ولا يستنكفون عنه أبداً. فثروة البلاد بيد هذه الجّماعة ويجب عليهم أن يديروا البلاد بأنفسهم، وهي النقطة المقابلة تماماً لما أراده أخونا العزيز أن يحصل من خلال (الجمعيات) التعاونيّة التي يحقّ فيها للجميع أن يكون لهم الإدارة ولو بحصّة ما. حسنٌ، هذه هي حريّتهم الاقتصادية.
الحريّة السياسيّة
وفي المجال السياسي أنتم ترون لعبة التنافس هذه بين الحزبين، التي يحتكرون الساحة السياسية من خلالها، ولا شك بأنّ عدد الأشخاص الذين يتّبعون هذين الحزبين هو أقلَ بكثير من 1%. أساساً، إنّ هذه الأحزاب ليس لها امتداد حقيقيّ وواقعيّ في عمق المجتمع، فهي في الواقع ملاعب لتجمّع جماعة. أولئك الذين يأتون ويصوّتون، فإمّا إنّهم يقعون تحت خدع الشّعارات، أو تحت تأثير سلطة الإعلام الذي هو في الغرب غنيٌّ جدّاً ومتطوّر، وخصوصاً في أمريكا التي هي بلحاظ القدرات الإعلاميّة وقلب الوقائع متقدّمة علينا، بمسافة هي ما بين الأرض والسماء ـ فهم يقلبون الأسود إلى أبيض والأبيض إلى أسود ـ وأصبحوا متطوّرين وفعّالين في هذه المجالات بشكل خارق. فهم يقودون الناس بمثل هذه الوسائل.
الحريّة في القضايا الاخلاقيّة
وفي مجال القضايا الأخلاقية، ها هي قضية الشذوذ الجنسيّ التي ذكرتها أختنا العزيزة، فتلك المفاسد الموجودة. لا شكّ أنّه يوجد بعض القيود الى الآن، وهذه القيود كما يستشرف الإنسان ستزول بسرعة أيضاً، أي في منطقهم لا ينبغي أن يكون هناك أي مانع من الزّواج من المحارم، والزنا بالمحارم. فلو كان على سبيل الفرض، الملاك وجواز الشذوذ الجنسي والحياة المشتركة من دون زواج هو ميل الإنسان، حسناً، فلو أنّ شخصاً رغب على سبيل الفرض بأن يفجر بأحد محارمه، فلماذا ينبغي أن يكون هناك مانع؟ فبذاك المنطق لا يوجد مثل هذا المانع. وبحسب القاعدة هذه سوف تزول هذه الموانع وسوف تُسحب منهم.
586
499
في لقاء جمعٍ من المفكّرين والأساتذة والعلماء والنخب في البلاد
بناءً عليه، إنّ وقائع المجتمع الغربي سيّئة جداً ومرّة وبشعة، وبعضها يبعث على النّفور، فلا وجود للعدالة ولا لأيّ شيء من هذا القبيل، بل هناك التمييز العنصري والاستبداد، وفي مجال القضايا العالمية إشعال الحروب. فإنّهم، ومن أجل أن تحصل مصانع الأسلحة على المال، وأن لا يفلس ذلك المصنع، يشعلون الحروب بين شعبين! يأتون إلى بلدان الخليج الفارسي ويخوّفونها من إيران ومن الجمهوريّة الإسلاميّة من أجل أن يبيعوها الفانتوم والميراج! ومثل هذه الأعمال يقومون بها على نحو دائم.
أمّا تعاملهم مع المقولات الشريفة ـ كحقوق الإنسان والسيادة الشعبية ـ فإنّه تعاملٌ انتقائيّ. إنّ تعاملهم سيّئٌ جداً وغير أخلاقيّ مع هذه المقولات. لهذا، فإنّ حال الوقائع الحالية للحياة في الغرب، ذاك الغرب الذي تحدّث فلاسفته بهذا المقدار عن الحرية فيه، هو حالٌ سيّئٌ في الواقع.
إنّ المرء عندما ينظر إلى هذه النّظريّات يرفضها فيما بعد، هذا هو نحوٌ من النّظر. أنا العبد أعتقد أنّه لا ينبغي اعتماد هذا النظر بشكل مطلق. أجل، إنّ هذه الوقائع وإلى حدٍّ كبير تشير إلى أنّ أولئك المفكّرين الذين ابتعدوا عن الله واستغنوا عن هدايته واعتمدوا فقط على أنفسهم، ابتلوا بالضلالة، وأضلّوا أنفسهم وقومهم وجعلوا أنفسهم جهنّميين وكذلك أقوامهم، فلا شكّ في ذلك. غاية الأمر، إنّني أفكّر بهذه الطريقة: إنّ مراجعتنا لآراء المفكّرين الغربيين وتضارب الآراء الموجودة عندهم، ومع هذه الريادة في المجال المتعلّق بتنظيم الأفكار وسبك المنظومات وترتيب الموضوعات، سيكون مفيداً لمفكّرينا، بشرطٍ واحد وهو عدم التقليد، لأنّ التقليد هو ضدّ الحريّة. لا ينبغي أن يحصل التقليد، لكنّ نوع عملهم يمكن أن يكون مساعداً لكم.
لقد كتبنا هنا كلمات أخرى لكنّ الوقت تأخّر كثيراً، خصوصاً بالنسبة لي أنا العبد، لا أبقى بحسب العادة مستيقظاً إلى هذا الوقت. إنّ حضور السّادة المحترمين والأخوات والأعزاء يبعث نشاطاً في الإنسان يبعد عنه النوم، قيل: "عندما تصل إلى الحبيب فإنّك تفقد النّوم والأكل". نومه الآن في هذه الليلة قد تأخّر لكنّ أكله سيكون في خدمة السّادة إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
587
500
في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم الميرزا كوجك خان جنكلي
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم الميرزا كوجك خان جنكلي
المناسبة: تكريم الميرزا كوجك خان جنكلي.
الحضور: أعضاء لجنة المؤتمر.
المكان: طهران.
الزمان: 19/11/2012م.
589
501
في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم الميرزا كوجك خان جنكلي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن قضيّة المرحوم الميرزا كوجك خان جنكلي قضيةٌ خاصّة، فقد حصلت أحداثٌ متعّددةٌ في الفترة الفاصلة بين الحركة الدستوريّة ومجيء رضا خان. وبالتزامن مع ثورة الغابة حصلت أعمال كبيرة عديدة في أطراف البلد، حيث قام أمثال المرحوم الشيخ محمد الخياباني في تبريز أو الكولونيل محمد تقي خان بيسان في مشهد بأعمال كبيرة وعديدة في أطراف البلاد، ومع ذلك فقضية الغابة قضيّةٌ خاصّة. نحن نعرف الكثير حول قضايا تبريز وحضور المرحوم الشيخ محمد الخياباني، والتاريخ قد كتب ذلك، ونمتلك معلوماتٍ كثيرةً حول القضايا الخاصة، إلا أنّ تلك الصبغة الشعبيّة والنجابة الموجودة في عمل المرحوم الميرزا كوجك خان جنكلي قد لا نجدها في أيّ من هذين العملين أو الثلاثة أعمال الأخرى التي تزامنت مع تلك المسألة. وكما أشرنا، فالميرزا كوجك خان هو عالم دينٍ وطالب علم، وقد سمعت ما نُقل لنا قبل سنوات من أنّه أدرك المرحوم الميرزا الشيرازي، إلا أن ّذلك لا يمكن التصديق به، وقد نقل ذلك المرحوم والدي عن المرحوم الأغا السيد علي أكبر المرعشي- وهو زوج عمتي، أي عديل المرحوم الشيخ محمد الخياباني، وهو من كبار العلماء الذين اختاروا العزلة في طهران- يقول إنّ الميرزا كوجك أدرك درس الميرزا، أعتقد أنّه لا يمكن التصديق بذلك، لأنّ عمر الميرزا كوجك لم يتجاوز الرابعة عشر أو الخامسة عشر عندما ارتحل الميرزا الشيرازي عن الدنيا، فمن البعيد أن يكون قد تمكّن من أدراك المرحوم الميرزا الشيرازي، طبعاً لا يوجد شكّ وترديد في كونه طالب علمٍ وفي كونه عالم دين، ولا شكّ أنّه كان في حوزة مدينة رشت نفسها عظماء وكان بإمكانه الاستفادة منهم، ومن هنا فإنّ منشأ حركة الميرزا كوجك خان هو منشأٌ دينيٌّ اعتقاديٌّ مئة بالمئة.
إنّ سلوكه هو سلوك دينّي واعتقاديُّ أيضاً، فالإنسان يشاهد وجود مخالفين له داخل تنظيمه وقد خالفته بعض الطبقات الخاصّة أيضاً، إلا أنّ المرحوم الميرزا كوجك كان يراعي الحدود الشرعيّة في التعامل معهم، فلم يكن من أصحاب الخلافات الداخليّة، كان بعض الأشخاص - على سبيل المثال - يخالفه اعتقاديّاً، وكان بعض المفرطين المؤيّدين له يرغبون بالتعرّض لأولئك بالضرب والقمع، إلا أنّ الميرزا كان يمنعهم ويحول دون حصول ذلك فكان سلوكه دينيّاً.
إنّ حركته هي حركة إسلاميّة وإيرانيّة مئة بالمئة، وأنتم تعلمون أوضاع ذاك الزمان، حيث كان صخب الحركة الماركسّية وتأسيس الاتحّاد السوفياتيّ وما أدّى إليه من ضجيج في الدنيا ويبن الأمم، فانجذبت إليه بعض الشعوب، وجمع إليه بعض الأشخاص ومن جملتهم بعض المحيطين بالميرزا، إلا أنّ هذا الرجل لم ينجذب للفكر الماركسيّ ورفض تلك النظرية بشكل صريح وقاطع، مع العلم أنّ بعض
591
502
في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم الميرزا كوجك خان جنكلي
المقرّبين الأوائل إليه قد اتّجهوا إليها - طبعاً، هؤلاء ارتحلوا عن الدنيا خاسرين ولم ينالوا من هذه الدنيا أيّ خير، ولم يشاهدوا من تلك الحركة البلشفية أي مروءة، فعارضهم وعارض الأجنبي، لأنّ السياسة كان يضعها الأجنبيّ، مع أنّها كانت هذه السياسات مقابل الأجهزة الحاكمة أمثال البريطانين والروس القزاق وأمثالهم - ومع ذلك لم ينجذب إليهم، فحافظ على الاستقلال، وكان الميرزا كوجك خان نموذجاً بارزاً جداً، رفع الله درجاته.
إنّ عملكم - وهو عملٌ ممتاز - مع هذه الأهداف التي ذكرتموها، ومع هذا الترتيب الذي أوضحتموه، طبعاً.
طُبع الكثير من الكتب حول الميرزا كوجك، ولحسن الحظّ، فإنّ إخلاص هذا الرجل أدىّ إلى تداول اسمه، وذلك خلافاً للأشخاص الآخرين الذين دخلوا طريق النضال فأصبح الجميع يعرفه، مع العلم أن الناس لا يعرفون الكثير عن الأشخاص الذين أشرت إليهم، ولم يسمع بعضهم بأسمائهم، أما هو فمعروفٌ بين الناس، وقد كُتب عنه، حاولوا تقديم كتاب جامعٍ يتضمن النقاط الأساسيّة حول حياته، لتُعرف شخصيّته - إن شاء الله - أكثر ممّا مضى بين أفراد شعبنا وبين شبابنا.
لقد قُدِّمت صورةٌ عن النظام الإسلاميّ والجمهوريّة الإسلاميّة في رشت وفي منطقته كيلان. أشكر الأصدقاء الذين يعملون في هذا المجال، وأطلب من موظفي الدولة ومسؤولي الإعلام وأمثالهم التعاون معكم، ساعدوا ليخرج هذا العمل - إن شاء الله - بأفضل صورة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
592
503
في لقاء مجموعة من التعبويّين والناشطين في "مشروع الصالحين"
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء مجموعة من التعبويّين والناشطين في "مشروع الصالحين"
الحضور: مجموعة من التعبويّين والناشطين في مشروع الصالحين.
المكان: طهران.
الزمان: 21/11/2012م.
593
504
في لقاء مجموعة من التعبويّين والناشطين في "مشروع الصالحين"
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ1
نشكر الله أنّه وُجد في زماننا هذا، أنموذجٌ ممّا شُوهِد في واقعة عاشوراء الكبرى ونُقل إلينا، رجالٌ ونساءٌ وشبابٌ توجّهوا إلى الهدف وغضّوا النّظر عن النّفس والمال ومتعلّقات الحياة، هذا ما شاهدناه في زمان الدفاع المقدّس بأمّ العين، وها نحن نشاهد اليوم استمراريّته وبركاته.
نفس لا تقارن بأيِّ نفس، ومصيبة لا نظير لها
إنّ اقتران هذه الأيّام مع واقعة عاشوراء العظيمة يمثّل درساً وعبرةً، لا ينبغي للأمّة الإسلاميّة والمجتمع الإسلاميّ أن يبعد عن أعينه واقعة عاشوراء التي تمثّل درساً وعبرةً ورايةً للهداية. ولا شكّ بأنّ الإسلام حيٌّ بعاشوراء وبالحسين بن عليّ عليه السلام. وكما قيل: "وأنا من حسين"2، وبناءً على هذا المعنى، فإنّ ديني واستمرار طريقي كان بواسطة الحسين عليه السلام. لو لم تكن واقعة عاشوراء، ولو لم يتحقّق هذا الفداء العظيم في تاريخ الإسلام لما قُدّمت هذه التجربة وهذا الدّرس العمليّ للأمّة الإسلاميّة، ولابتُلي الإسلام يقيناً بالانحراف، كما ابتُليت الأديان قبل الإسلام، ولما بقي من حقيقة الإسلام ومن نورانيّته شيء. إنّ عظمة عاشوراء كامنة في هذا الأمر. بالطبع، إنّ المصيبة في عاشوراء كبيرة جدّاً والخسارة عظيمة، إنّ نفس الحسين بن عليّ عليه السلام، التي توازي السماوات والأرض كلها، وإنّ نفوس أولئك الأصحاب وأولئك الشباب وأهل بيته الأطهار والطيبين الطاهرين لا يمكن مقارنتها بنفس أي شخصٍ آخر. لقد صُرِع هؤلاء في الميادين وضحّوا وفدوا وسُبيت حُرم النبيّ وأمير المؤمنين المعزّزة3، فتلك الأحداث ثقيلة جداً ومرّة للغاية وصعبة تماماً، لكن ما ترتّب على تحمّل هذه الأحداث المرّة والصعبة عظيمٌ وخالدٌ إلى درجة يجعل تحمّل هذه الأحداث الصعبة على شخص كالحسين بن عليّ عليه السلام وأصحابه وأسرته سهلاً. لقد نقل العظماء هذا الأمر، ويؤكّد المرحوم الحاج الميرزا جواد الملكي چ في كتاب المراقبات4 ـ حيث إنّ كلامه سندٌ وحجّةٌ ـ على أنّه في يوم عاشوراء كلّما اشتدّت المصائب كان وجه الحسين بن عليّ عليه السلام يزداد سطوعاً ويتنوّر أكثر فأكثر. هذه الحقائق المليئة بالمعاني والأسرار والرموز يجب أن تبقى دائماً أمام أعيننا.
1- راجع حاشية الصفحة 521.
2- حديث متواتر ومشهور، ومروي في كتب عدة، منها، كامل الزيارات، ص 116، أحمد بن حنبل،ج4، ص172.
3- بدا التأثّر واضحاً على الحضور عند حديث القائد هنا، حيث ساد جوّ من الحزن وسُمع أصوات البكاء و ...
4- الميرزا جواد الملكي المعروف بالتبريزي، أستاذ الإمام الخميني قدس سره، له كتاب المراقبات وهو من المصنفات المهمة جداً في آداب العلاقة مع الله تعالى، مرتب ترتيبا زمانياً..
595
505
في لقاء مجموعة من التعبويّين والناشطين في "مشروع الصالحين"
الإخلاص في حركة التعبئة
لقد شاهدنا في زماننا نماذجَ من هذه التضحيات، وتجلّت أمام أعيننا نماذج ممّا قرأناه في التّاريخ، حيث كان أهمّها وأعظمها وأبرز مظاهرها هذه الشجرة الطيّبة للتعبئة، سواء أكانت قبل شروع الحرب المفروضة أم أثناء وقائع الدّفاع المقدّس ـ والتي كانت تجربةً صعبةً جداً وثقيلةً على البلد ـ وكذلك بعد الدّفاع المقدّس وإلى يومنا هذا، إنّ قضيّة التعبئة وتجربتها تتمتّع ببركات عظيمة جدّاً وإن شاء الله تستمّر هذه البركات وسوف تستمر. هناك نقطة، وهي أنّه ما شوهد في زمن الدّفاع المقدّس، في حركة التعبئة بالنسبة لمعيار الإخلاص كان بمستوىً عالٍ جدّاً، وهو الأمر الذي ينبغي الحفاظ عليه اليوم في حركة التعبئة. إنّ الميدان في أيّامنا هذه، ميدانٌ أكثر تعقيداً. إنّ الالتحاق بميادين الحرب والقتال والجهاد وتحمّل هذه المسؤولية، ثمّ الاستشهاد أو الجرح أو الرّجوع بسلامة، كلّ ذلك الحضور في الميدان هو عملٌ فيه مخاطرة، لكنّه ليس معقّداً. إنّ الحضور في زمننا هذا في الميدان، في مواجهة مؤامرات العدوّ وهجماته، واصطفاف هذين الصفيّن والجبهتين المميّزتين فيه تعقيدات، من الممكن أنّه لا ينطوي على مخاطر تلك الأيّام، لكنّه يواجه تعقيدات أكبر. كان الفارق في تلك السّاحة هو أنّ من كان يلتحق بها كان يظهر إخلاصاً واضحاً في نفسه. فالدّخول في ذاك الميدان هو نزولٌ إلى ميدان الموت والحياة، لا مزاح في ذلك، فهذا ما كان يحتاج إلى الشّجاعة والتضحية والإيمان والتوكّل على الله، وكانوا يلتحقون ويصبحون شهداء. وفي يومنا هذا، فإنّ الميادين المختلفة تتطلّب ذاك الإيمان وتلك الشجاعة، لكن من دون وجود هذه العناصر1، من الممكن أن يتظاهر بعض الناس بلباس التعبئة، وهذا ما ينبغي مراقبته. يجب علينا بالدرجة الأولى أن نراقب أنفسنا، وأن نراقب بيئة التعبئة بالدّرجة اللاحقة، فمثل هذا الأمر هو مسؤولية كل فرد من أفراد التعبئة. يجب الارتقاء بمستوى روحية التعبئة في كلّ هذه المجموعة ومنها "مجموعات الصالحين" التي تتحمّلون مسؤوليتها وتديرونها، يجب تحقيق النقاء والخلوص2 وعليكم فعل ذلك في كلّ مجموعات العمل. ومثل هذا الأمر صعبٌ إلى حدٍّ ما. إنّ من أسباب تسمية الجهاد في ميدان مواجهة النفس والمسائل المعنويّة بـ "الأكبر" هو أنّه أصعب من النّاحية العمليّة. ففي مواجهة العدوّ ـ الحرب العسكرية ـ يمكن للمرء بسهولة أن يقيس ميزان خلوصه وميزان إخلاص الآخرين أمّا هنا فالأمر ليس كذلك، فمن الممكن للإنسان في هذا المجال أن يقع في الاشتباه مثلما يخطئ الآخرون في معرفة الإنسان.
1- أي الإيمان والشجاعة ...
2- استخدم القائد كلمة "خلوص" أي رفع درجة النقاء والارتقاء الروحي والمعنوي حسب سياق الكلام.
596
506
في لقاء مجموعة من التعبويّين والناشطين في "مشروع الصالحين"
آفاتٌ مهلكة
ويجب أن نجنّب أنفسنا الآفات، آفة الغرور والعجب والرياء، فهذه الآفات مهلكةٌ. فلو أنّنا وُفّقنا لأمر ما ونجحنا فيه، فعلينا أن نكون شاكرين لله وأن نعلم أنّه من الله، وأن نستمدّ منه العون للاستمرار، والدّوام، فهنا توجد قضية مهمة وأساسية وهي أن لا نُبتلى بالعجب والاعتماد كثيراً على النفس، واعتبار ذلك من أنفسنا، بل أن نتوكّل على الله تعالى. حقيقة القضية هي هذه، ولا حول ولا قوّة إلا ما كان بيد الخالق ذي الجلال، فالعمل عمله، إنّ نجاحنا واختيارنا وقدراتنا وشوقنا وإيماننا والعشق الموجود في قلوبنا كلّها من صنع يد الرّب، فلنعلم ذلك ولنكن شاكرين ولنطلب الازدياد منه تعالى.
آفة السطحيّة في الاعتقاد والفهم
توجد نقطة أساسية، شاهدت اليوم، ولحسن الحظ، أنّها كانت مورد التفات في كلمات المحترمين الذين تحدّثوا هنا، تتعلّق بنوعيّة هذه المجموعات وعمقها التي تشكّل جسم التعبئة وأركانها الأساسية. إنّ ما يمثّل ضرراً ويوجّه ضربةً هو السطحية في الاعتقاد وفي الفهم وفي انتقاء المنطق والمبنى. إنّ السّطحيّة هي التي تقصم الظهر، كالشيء المحمول والموضّب إذا وضعناه على مجموعة من الأحمال الموضبة، فإنّ أيّ ريحٍ عاصف أو هزّة شديدة ستسقطه أرضاً. يجب إضفاء العمق، يجب تجذير الاعتقادات، هذه أمورٌ قد صارت بحمد الله مورد اهتمامكم. إنّ أساس تشكيل "مجموعات الصالحين" كان على أساس هذه الرؤية وذلك من أجل إضفاء العمق باللحاظ التربويّ والمعنويّ والتعليميّ، على فكر الشباب التعبويّين وروحيّتهم عندنا في مختلف القطاعات.
التعبئة ابتكار إمامنا الجليل
عندما ننظر في المجموع نرى أنّ وجود التعبئة هو من معجزات الثّورة، وابتكار إمامنا الجليل. هذا يدلّ على وعيه وحكمته واتّصال قلبه النورانيّ بالإرادة الإلهية والحكمة الربّانية. إنّ التعبئة قد صارت ركناً محكماً للثورة. انظروا اليوم كيف أصبحت التعبئة ناشطة وفعّالة في كلّ القطاعات، في مجال العلم والتجربة والتقنيّة والمجالات المعنويّة والخدمات الاجتماعيّة، وفي مجال التنظير1 في القطاعات المختلفة للحياة الاجتماعية، وفي مجال التربية والتعليم. وإذا جاء اليوم، وحصلت تجربة، واضطرّ الشعب لمواجهة
1- التنظير: مصطلح عصري متداول، المقصود منه طرح الرؤى والأفكار والمشاريع ...
597
507
في لقاء مجموعة من التعبويّين والناشطين في "مشروع الصالحين"
العدوّ بالسلاح والدّفاع العسكريّ فإنّ هذه المجموعة نفسها من الشباب، هؤلاء التعبويين، هؤلاء الشباب الشجعان لدى شعبنا العزيز سيظهرون للعدّو شجاعة شعب إيران وخلوده واقتداره واستحالة هزيمته1. وسوف تتّبع المجموعات الأخرى والدّول الأخرى هذه التجربة إذا أرادت أن تتقدّم على هذا الطريق النورانيّ للإسلام . إنّ هذه التجربة هي تجربة موفّقة وناجحة. يجب علينا أن نظهر أداءً جيّداً. سوف يرسخ هذا النّهج العمليّ للتعبئة في العالم الإسلاميّ وبين الدّول الإسلاميّة والشعوب الإسلاميّة كنهجٍ حيٍّ قابلٍ للاتّباع والتطبيق، وهو قد حصل في يومنا هذا إلى حدٍّ كبير وهو يُطبّق، لهذا فإنّ تقوية التعبئة وإضفاء الإخلاص عليها مهما أمكن وإضفاء الجوّ المعنويّ على عناصرها وتوسعة نشاطاتها في كلّ مناطق الحياة يُعدّ من الأعمال الأساسيّة التي يجب على كلّ شريحة العاملين في التعبئة والمرتبطين بها والنّاشطين فيها أن يتابعوها. فالبداية من أنفسنا فإرشاد الإسلام هو لكلّ واحدٍ منّا. يجب علينا جميعاً وفي كلّ المستويات أن نبدأ من أنفسنا أوّلاً "من نصّب نفسه للنّاس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره"2، يجب أن يكون الأمر هكذا في كلّ المستويات، فلنبدأ من أنفسنا هذا ما يجعلنا من التعبئة.
ارتقاء التعبئة في الكمّ والنوع
إنّ هذا البحث المتعلّق بنمط العيش وأسلوب الحياة بحسب رأي الإسلام يمكن أن يكون، في التعبئة، معياراً لمعرفة النّفس. ليس البحث في أن تأتي أجهزةٌ أعلى وأفضل لتقيسنا وفق معيارٍ ما وترى كيف يجري الأمر، بل البحث هو أن نكون نحن أنفسنا معياراً لأنفسنا3. فكيف هو سلوكنا في محيط العمل وبيئته؟ كيف هو سلوكنا مع الزّوجة والأبناء؟ كيف هو سلوكنا في البيئة الاجتماعيّة ومحلّ العيش؟ كيف هو سلوكنا مع العاملين تحت أيدينا؟ كيف نتصرّف مع من هم فوقنا(مسؤولينا)، كيف هو سلوكنا مع الصّديق ومع العدوّ؟ فلكلٍّ من هذه الأمور معيارٌ ومقياسٌ في الإسلام، فلنقس أنفسنا. هذا ما يصبح معياراً لقياس أنفسنا ولمعرفة أنفسنا بشكلٍ صحيح. لو أنّنا بدأنا من هنا فإنّ بنيان حياتنا وعملنا في كلّ القطاعات وخصوصاً في التعبئة التي هي الآن محلّ بحثنا، سوف يقوى.
1- انطلاق هتافات التكبير والدعاء ...
2- نهج البلاغة، الحكمة 71.
3- أو أن نقيس ونراقب أنفسنا بأنفسنا .
598
508
في لقاء مجموعة من التعبويّين والناشطين في "مشروع الصالحين"
على كلّ حال إنّ بلدنا وشعبنا وتاريخنا بحاجة إلى التعبئة، والتعبئة نفسها بحاجة إلى أن تزداد وترتقي يوماً بعد يوم من ناحية الكيفية والنّوعيّة، وإنّ هذا العمل الذي تقومون به أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أيّها "الصّالحون"، وهذه الفئات والمستويات المتعلّقة بـ "الصّالحين" هو من الأعمال الممتازة، وهو على طريق تكميل التعبئة الذي سيكون إن شاء الله يوماً بعد يوم أكمل وأكمل. يجب أن نرتقي بالكيفيّات. بالطّبع، إنّ الكيفية مرجّحة على الكمّية، لكن الكمّية مع النوعية لها أهميّة، أي إنّه يجب الالتفات إلى التوسّع في العرض والأفق معاً، المتلازم مع العمق. إنّ عالم الإسلام اليوم بحاجة إلى هذه الحركة التعبويّة.
العدو ليس عاطلاً عن العمل
إنّ هذه الوحشيّة التي حصلت في هذا الأسبوع الأخير في غزّة، حيث إنّ الإنسان يتحيّر في المدى الذي وصلت إليه سبعية ووحشية الكيان الصهيونيّ، كلّ هذه يجب أن تهزّ وجدان العالم الإسلامي وأن تمنح هذه الحركة الشعبيّة في العالم الإسلاميّ روحاً جديدة. إنّ العدوّ ليس عاطلاً عن العمل ولهذه الحركة أبعادٌ متعدّدة: أوّلاً، سبعيّة ووحشيّة زعماء الكيان الصهيونيّ. كم أنّ هؤلاء متوحّشون وبعيدون عن الوجدان البشري! يهجمون على الأبرياء والمدنيين بهذه الطريقة، يتحيّر الإنسان في الواقع ويُذهل كيف أنّ هؤلاء ليس لديهم شيء من الإنسانيّة. هؤلاء يقفون مقابل العالم الإسلامي وبوجه نظام الجمهوريّة الإسلاميّة ويدّعون على الجمهوريّة الإسلامية في المحافل العالمية، هؤلاء البشر الذين ليس لهم رائحة من الإنسانيّة. إنّ هذا هو أحد أبعاد القضيّة. وهو أمرٌ مهم جداً.
الحرب على غزّة وقاحة الغرب
البعد الآخر للقضيّة هو أنّ زعماء النّظام الاستكباري يتعاملون مع هذه القضيّة بوقاحة إلى الدّرجة التي تحيّر الإنسان. لم يهتزّ لهم جفنٌ ولم يمنعوا هذا الكيان المتحجّر والوحشيّ من عمله بل راحوا يقوّونه ويشجّعونه ويدعمونه! لقد دعمته أمريكا علانيّةً، وكذلك إنكلترا وفرنسا. هؤلاء هم زعماء العالم الاستكباري. هؤلاء هم الذين ليس للشعوب المسلمة عدوٌ أشدّ عنفاً وكراهيّةً منهم في أعماق القلوب. هؤلاء هم الذين دعموا الكيان علانيّةً. ويمكن للإنسان أن يدرك مقدار التوجّه إلى الأخلاق والمعنويّات في العالم الاستكباري من خلال هذه الحادثة. كم هم بعيدون عن الإنسانية! ها هم
599
509
في لقاء مجموعة من التعبويّين والناشطين في "مشروع الصالحين"
يدعمون سياسيّاً من أجل أغراضهم السياسيّة الفاسدة، فلماذا إذاً يطبّلون بحقوق الإنسان؟! فهل يبقى لأمريكا حقٌّ في أن تتحدّث عن حقوق الإنسان وهي التي لن تتّخذ أيّ موقف مقابل هذه الحركة العنيفة والوحشيّة بل تدعمها؟ هل يحقّ لهم أن يحاكموا الشعوب والدّول؟ ليس هذا إلّا وقاحة مضاعفة. هكذا هي فرنسا وهكذا هي إنكلترا. إنّ سوابقهم في مجال التعامل مع العالم الإسلامي والجرائم التي ارتكبوها والفظائع والمجازر التي افتعلوها والضغوط التي صبّوها على رؤوس الشعوب المسلمة كلّ هذه لا تُمحى من ذاكرة الشعوب المسلمة، وها هم اليوم يدافعون عن كيانٍ سبعيّ وحشي كالكيان الصهيونيّ. هذا أيضاً أحد أبعاد هذه القضيّة.
سلوك الدول العربيّة والإسلاميّة
البعد الآخر للقضية هو سلوك الدول العربية والإسلامية والذي لم يكن سلوكاً مناسباً، فمنهم من اكتفى بالكلام وبعضهم لم يتكلّم ولم يدِن! أولئك الذين يدّعون الإسلام ويطلقون الدعوة إلى وحدة المسلمين وهداية العالم الإسلامي كان ينبغي في مثل هذا الموقف أن يظهروا أنفسهم. في القضايا المختلفة التي تؤمّن أغراضهم السياسية فإنّهم يتدخّلون بكلّ سخاء، ولكن لأنّ الطّرف هنا هو أمريكا وإنكلترا فإنّهم ليسوا مستعدّين حتّى ليصدروا إدانة، أو أنّهم يكتفون بالدّعم الكلامي الذي ليس له أيّة قيمة، وهو عملٌ قليل الأثر. يجب على العالم الإسلاميّ اليوم وخصوصاً مجموعة الدّول العربيّة أن يمدّوا يد الاتّحاد إلى بعضهم ويدافعوا عن هذا الشعب ويرفعوا الحصار ويسعوا لتقديم العون لأهالي غزّة المظلومين.
الاقتدار المعنوي والماديّ معاً
بالطبع، إنّ الله تعالى منح أهالي غزّة هذا التوفيق ليقفوا باستقامةٍ وصمود مقابل هذا العدوّ العنيف والمتوحّش وقد نالوا نتيجة صمودهم هذا، وكان عبارة عن عزّة أهالي غزّة. لقد أظهروا أنّهم بالصمود والمقاومة والسعي الحثيث يمكنهم أن يتغلّبوا رغم حجمهم الصغير على الحجم الكبير المعقّد و المسلّح والمدعوم من قبل القوى الكبرى. إنّ الصهاينة المحتلّين لفلسطين في يومنا هذا هم أكثر تحيّراً من أهالي غزّة ومسؤوليها من أجل وقف إطلاق النّار. لقد ارتكبوا الجريمة وصدر عنهم ذاك اللؤم والوحشيّة لكن ها هم يتلقّون الضربة الأكبر بسبب صمود هذه المجموعة الصغيرة المسلمة لأهالي غزّة وشبابها، ولا يوجد طريقٌ غير هذا. إنّ هذا هو نداءٌ لكلّ العالم الإسلامي لأنّه إذا أراد أن يبقى مصوناً في مقابل هجمات الأعداء وعداواتهم ومؤامراتهم ولؤمهم وتعسّفهم يجب أن يدافع عن نفسه بكلّ اقتدار. يجب أن يحقّق الاقتدار في
600
510
في لقاء مجموعة من التعبويّين والناشطين في "مشروع الصالحين"
نفسه، سواء الاقتدار المعنوي الذي هو عبارة عن قدرة الإيمان والعزم والإرادة أو الاقتدار المادّي. إنّ التطوّر العلمي هو قدرة ماديّة وكذلك التجربة والتكنولوجيا، إنّ القدرة على صناعة وسائل العيش وأسبابه، أهمّ من السلاح وغيره، هو اقتدارٌ مادّيّ. يجب عليهم أن يؤمّنوا مثل هذه الأمور للعالم الإسلامي ومجتمعاته. فمن يكن هناك بصغر حجم غزّة يتحمّل الصّعاب ويقدّم الشهداء لكنّه يفعل بالعدوّ كما ذكرنا بحيث إنّ هذا العدوّ يصبح أكثر تحيّراً في البحث عن وقف إطلاق النار في غزّة من مسؤولي غزّة أنفسهم وأهاليها. ومثل هذا درسٌ للعالم الإسلامي ونحن بالطبع تعلّمنا هذا الدرس من مرحلة الدفاع المقدّس. بحمد الله إنّ شعبنا وشبابنا وعلماءنا وأهل الخبرة فينا قد تقدّموا في هذا المجال. فقد تقدّمنا من الناحية العلمية وكذلك تطوّرنا بلحاظ التجارب والخبرات، لقد أدركنا هذه الحقيقة وهي أنّه ينبغي أن نقف على أقدامنا، وهذا بذاته من عوامل الصمود.
وصّيتنا: الاتّحاد ووحدة الكلمة
والاتّحاد الاتّحاد، قضية الاتحاد هذه ووحدة الكلمة بين المسلمين والأمة الإسلامية من جهة، وبين الشعوب المسلمة في كل بلد، الاتّحاد فيما بين الشعب نفسه بكل شرائحه، كل هذا أمرٌ مهم. وهذا الأمر يصدق علينا أيضاً، ما ذكرناه مراراً للأجنحة السياسية والمسؤولين المحترمين حول حفظ الوحدة ولأولئك الذين لديهم منابر سواء الجرائد أو مواقع الإنترنت أو المنابر المختلفة للأجهزة التنفيذية وغيرها، وصيّتنا دائماً للأعزاء والأخوة والمسؤولين وأصحاب القلم وأصحاب البيان حول قضية الوحدة هو أنّ هذه الوحدة عنصر عظيم وقد حفظ الاتّحاد الذي كان موجوداً لحسن الحظ عند شعبنا ـ حيث إنّ هذه الاختلافات المتعدّدة لم تتمكّن - لحسن الحظ - من تقسيم الشعب ـ وقد كان هذا الانسجام محفوظاً في مستوىً عال.
يوجد اختلافٌ بين المسؤولين في السلائق، لكن ما لم ينتهِ هذا الاختلاف إلى النّزاعات فلا إشكال فيه. إنّ هذا الاتّحاد والتعاضد هو الذي تمكّن من حفظ هذا البلد كبلدٍ مقتدرٍ أمام أعين الأعداء. والآن الأمر كذلك. قبل مدّة أوصيت بالاتّحاد والوحدة، ولحسن الحظّ تجاوب المسؤولون المحترمون للسّلطات الثلاث، وكان الأمر مهمّاً جدّاً، ينبغي أن نشكرهم. استجاب مسؤولو السّلطات الثلاث ورؤساؤها وأكّدوا على الاتّحاد فيما بينهم في المجالات المختلفة رغم وجود الاختلاف في السلائق والاختلاف النظري، وإنّ هذا الاتحاد سوف يبقى. وإنّنا نتقبّل هذا الأمر من الإخوة الأعزّاء وهؤلاء المسؤولين المحترمين كحركة إيجابية، ونعتقد أنّ عملهم هذا هو حركة جيّدة وعليهم الآن أيضاً أن يراقبوا تصريحاتهم وكلماتهم.
601
511
في لقاء مجموعة من التعبويّين والناشطين في "مشروع الصالحين"
المساءلة بمسؤوليّة والإجابة بثقة
إنّ هذا العمل الموجود الآن في المجلس الإسلامي المحترم للشورى هو أيضاً من تلك القضايا التي فيها جانبٌ يُمتدح ويُعظّم، وأقول هذا، إنّكم أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، ويا شعبنا العزيز، التفتوا إلى أنّ مساءلة مسؤولي البلد سواء أكان رئيس الجمهورية أو سائر المسؤولين التنفيذيين، هو عملٌ إيجابيّ من جانبين: الأوّل: أنّه يشير إلى أنّ ممثّلي الشعب في السلطة التشريعيّة يشعرون بالمسؤولية ويتحمّلونها تجاه قضايا البلد وهذا أمرٌ إيجابيّ. الجانب الآخر: هو أنّ مسؤولي البلد وبثقة بالنّفس وشجاعة معتبرة يقولون إنّنا مستعدّون لنأتي ونوضّح وأن نجيب عن الأسئلة، فهذا أمرٌ إيجابيّ أيضاً. فمسؤولو السلطة التشريعيّة عندنا يعملون بتكليفهم، ويظهر مسؤولو السّلطة التنفيذيّة ثقتهم واطمئنانهم إلى صحّة عملهم وصدقهم. فماذا يريد المرء أكثر من ذلك؟ وأيّ شيء هو أفضل من هذا؟ والآن قد حصل هذا الأمر حيث يقول المجلس إنّه يريد المساءلة فإنّه يشعر بالمسؤولية، وجهاز الحكومة يقول إنّه يريد الإجابة بكامل الثّقة وأن يخرج من عهدة الجواب ـ وهذا ما قيل لنا ـ فإنّه أمرٌ ممدوحٌ، فكلا الأمرين جيّد، لكنّ هاتين النقطتين الإيجابيّتين اللتين حصلتا إلى الآن لا ينبغي أن تستمرّا أكثر من ذلك. فلينهوا هذا الأمر وهذه القضية هنا.
الحكمة والرويّة في تحمّل المسؤوليّة
لقد نجح المجلس في امتحانه وكذلك المسؤولون التنفيذيّون، إنّ هذا كان امتحاناً ناجحاً. و الناس أصحاب بصيرة ويفهمون ويشخّصون. والاستمرار في هذا العمل هو ذلك الشيء الذي يريده الأعداء. فالأعداء يحبّون أن تكون هاتان السلطتان في حالة مواجهة، فيستخدمون جماعة من هذه الجهة تحت تأثير العواطف وجماعة من طرفٍ آخر، وجماعةٌ الأقلام والوسائل الإعلاميّة، لإثارة الضوضاء في الجرائد وفي مواقع الإنترنت وغيرها. كلا، إنّ البلد يحتاج إلى الهدوء، يحتاج جميع المسؤولين سواء أكانوا في التشريع أو القضاء أو التنفيذ - ومن أجل القيام بأعمالهم - إلى الهدوء، و الناس يحبّون الهدوء. وما كان على المجلس من مسؤولية قد أدّاها، وقد أظهرت الحكومة أمام المجلس ثقةً بالنفس، وكان الأمر من الجهتين مرضياً. ومن هنا أطلب من الإخوة ومن مجموعة اللجان التي تشكّلت من بضع عشرات الأفراد في المجلس وبدأت بهذا العمل، أطلب منهم أن ينهوا القضيّة ويظهروا عمليّاً أنّ مسؤولي الحكومة وكذلك مسؤولي السلطة التشريعية والسلطة القضائية يحترمون وحدة هذا الشعب
602
512
في لقاء مجموعة من التعبويّين والناشطين في "مشروع الصالحين"
وهدوء البلد أكثر من الجميع. إنّني أشكرُ كلّ الإخوة والأخوات في دائرة عمل التعبئة. وإن شاء الله يمنحكم الله تعالى جميعاً التوفيق. وأتشكّر الإخوة والأخوات جميعاً الذين تحدّثوا، وأملي إن شاء الله أن يجازي الله تعالى الجميع بالخير. وأشكر هذا الأخ العزيز الذي أهدانا ميداليّته. وإنّني أتقبّل هذه الميدالية منه ولكن في الوقت نفسه أرجع وأهديها إليه. فالأفضل أن تبقى بيده لتبقى ذكرى بطولته وتبقى أيضاً منّا إليه. وإن شاء الله موفّقون جميعاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
603
513
في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم العلّامة قطب الدين الشيرازي
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم العلّامة قطب الدين الشيرازي
المناسبة: تكريم العلّامة قطب الدين الشيرازي.
الحضور: أعضاء لجنة المؤتمر.
المكان: طهران.
الزمان: 3/12/2012م.
605
514
في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم العلّامة قطب الدين الشيرازي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنّ تكريم أشخاصٍ مثل قطب الدين الشيرازي، عملٌ مفيدٌ جدّاً. في ذهني أنّ الأطبّاء قد تذاكوا وأخذوا قطب الشيرازي إلى عالم الطبّ، هو في الدرجة الأولى فيلسوف وتلميذ الخواجه نصير الدين وشارح شرح حكمة الأشراف، طبعاً، هو طبيبٌ أيضاً، وطبيبٌ بارز، وبالإضافة إلى ذلك هو فلكيٌ، وكان له نصيبٌ في بناء مرصد مراغة1 المشهور، أي إنّه إنسانٌ كبير. أمّا كلام السيد الدكتور لنكراني فهو كلامٌ جيّد، أي أن نلتفت إلى علمائنا الكبار في مختلف القرون الإسلاميّة، وإلى أنّهم كانوا متبحّرين في مختلف الفروع، وليس صحيحاً أنّهم كانوا يجمعون لقمةً من هنا ولقمةً من هناك، لا، فهو كان إنساناً بارزاً في عالم الطب، وهو من أهمّ شارحي قانون ابن سينا كما أُشير إلى ذلك، وفي الفلسفة، فهو فيلسوف بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، وفي النجوم والهيئة، هو إنسانُ متخصّص وعالم، وهو أديبٌ وشاعر، في اللغتين العربيّة والفارسيّة، ولعلّه كان عارفاً بعلوم أخرى. هذا يعني أن نلتفت إلى مسألة وهي أنّ التخصّص ليس اختصاراً لذهن الإنسان وفكره بمسألةٍ خاصة، فالتخصّصات تفتح آفاق بعضها بعضاً والتخصّص الصغير تكون دائرته أكثر محدوديّة، وهذا أمرٌ جيّد في مجال تتبّع وضع الإنسان الحياتيّ، إلا أنّه بمعنىً آخر عبارةٌ عن إيجاد نوعٍ من الحدود للإنسان، لأن ظرفيّة ذهن الإنسان واسعةٌ جداً، ويمكن أن يكون له رأيٌ في كافّة هذه الأمور. ليس صحيحاً أنّ الطبيب مثلاً يكون عاميّاً في مجال العلوم الدينّية أو الفلسفّية، كم هو جميلٌ أن يكون الطبيب صاحب معرفةٍ في العلوم الأخرى، العلوم العقلّية والعلوم الدقيقة ذات العلاقة بمسائل الطبيعة المتنوّعة، وهذا ما يمكننا أن نتقدّم به نحن في بلدنا، طبعاً هذا لا يعني إيقاف التخصّصات، بل يعني استعانة أذهان المتخصصين بالبيئة الأخرى التي هي وراء حدود تخصّصهم.
طبعاً شيراز، مركزٌ هامٌّ نشأ فيه عظماء، وهذا بحدّ ذاته مسألةٌ في مختلف مناطقنا الإسلاميّة، وهذا ما أشرت إليه خلال سفري إلى شيراز قبل عدة سنوات، فشيراز هي واحدةٌ من أرض بلادنا التي تمتلك إمكاناتٍ غير محدودة، وإن نظر الإنسان إلى أيّ جزءٍ منها سيرى أنّ منطقة فارس وشيراز ـ طبعاً عندما نقول شيراز فمقصودنا فارس كلّها، كما إنّ قطب الشيرازي هو الكازروني ـ منطقةٌ خصبة على مستوى تربية الاستعدادات الإنسانيّة البارزة، فقد نهض من هذه المنطقة عظماءٌ في مختلف الفروع،
1- مرصد فلكي أسسه الخواجة نصير الدين الطوسي (1259م)، وهو من أكبر المراصد في ذلك الوقت، يقع غرب مدينة مراغة الواقعة ضمن محافظة أذربيجان الغربية شمال إيران.
607
515
في لقاء أعضاء لجنة مؤتمر تكريم العلّامة قطب الدين الشيرازي
فكان هناك الشاعر والأديب والفيلسوف والعالم بالمعنى المصطلح عليه اليوم، وهذا في الحقيقة هوية هذه المنطقة، وعلى الأشخاص الذين يعملون في هذه المنطقة في مجال التعليم والتربية وتنمية الأفكار والاستعداد أن يلتفتوا إلى هذه المسألة، وهي أن الإسلام يعتقد بوجود استعدادٍ غير متناهٍ، فالقطب الشيرازي هو العلامة الشيرازي، أي أن يُعْرَف بعنوان العلّامة، لأنه كان متخصصاً في مختلف الفنون. على كلّ الأحوال، عليهم العمل على تقديم هذه الشخصيّات البارزة على أنّها نماذج لأجيالنا الشابّة، ليعلم الشاب اليوم أنّ ذاك الشخص يمكن أن يكون قدوته. ليس من الضروري أن نأتي بشخصيّة من أعماق ظلمات القرون الوسطى الأوروبيّة لنقدمّه على أنّه شخصيّة قدوة.
ثانياً، عليهم الالتفات إلى أنّ الحركة العلميّة في بلدنا كانت مزدهرة عندما لم يكن في أوروبا وفي الغرب أيّ أثر للعلم، ماذا كان في أوروبا في القرن السابع الهجري؟ إنّه من علماء القرن السابع، والظاهر أنّه توفي أوائل القرن الثامن، فهو من جملة علماء القرن السابع، أي القرن الثالث عشر والرابع عشر الميلادي. من هم الأشخاص الموجودون آنذاك؟ في الوقت الذي لم يكن نور العلم قد وصل إلى أوروبا، كان عندنا شخصّيات بارزة من أمثال الخواجة نصير، والكاتبي وهو من أساتذته، والكاتبي القزويني أحد الفلاسفة الكبار، وكان أيضاً القطب الشيرازي.
أسأل الله لكم العون، لتؤدّوا هذا العمل بشكلٍ جّيد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
608
516
في لقاء المشاركين بالمؤتمر العالمي لأساتذة الجامعات في العالم الإسلامي والصحوة الإسلاميّة
كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء المشاركين بالمؤتمر العالمي لأساتذة الجامعات في العالم الإسلامي والصحوة الإسلاميّة
المناسبة: المؤتمر العالمي لأساتذة الجامعات في العالم الإسلامي والصحوة الإسلاميّة.
الحضور: المشاركون في المؤتمر.
المكان: طهران.
الزمان: 11/12/2012م.
609
517
في لقاء المشاركين بالمؤتمر العالمي لأساتذة الجامعات في العالم الإسلامي والصحوة الإسلاميّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أرحّب بكم أولاً أيّها الضيوف الأعزاء من مختلف البلدان، وكذلك الأساتذة الأعزاء المحترمين من جامعات بلادنا.
أقيمت - منذ نحو عام وإلى الآن - لقاءاتٌ ومؤتمراتٌ وملتقياتٌ عديدةٌ حول الصحوة الإسلاميّة في طهران، ولكن يظهر لي أنّ مؤتمر أو ملتقى الأساتذة يتمتّع بأهميّةٍ خاصّة، إذ إنّ إيجاد الأفكار والخطابات والتيّارات الفكريّة في المجتمع يحصل على أيدي خواصّ المجتمع ومفكّريه، هم الذين يستطيعون توجيه وإرشاد أفكار الشعوب نحو جهةٍ معيّنة تنقذ تلك الشعوب، كما يمكنهم - لا سمح الله - أن يوجّهوا الأفكار نحو جهةٍ تتسبّب في تعاسة الشعوب وبؤسها ووقوعها في الأسر. وهذه الثانية حصلت طوال الأعوام السبعين أو الثمانين الأخيرة في بعض البلدان، ومنها بلدنا.
صلاح الأمّة بخواصّها
هناك حديث عن رسول الإسلام المكرّم سيّدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه: "لا تصلح عوامّ هذه الأمة إلا بخواصّها" قيل: يا رسول الله، ومن خواصّها؟ قال: "العلماء"1. ذكر العلماء أوّلاً، ثمّ ذكر عدّة فئاتٍ أخرى، وعليه فإنّ أساتذة الجامعات وأصحاب الوعي والفكر والنخب العلميّة في أيّ بلدٍ بإمكانهم الإمساك بزمام تحرّك الشعب وقيادته، شريطة الإخلاص والشجاعة وعدم الخوف من الأعداء، إذا كان ثمّة خوفٌ أو طمعٌ أو غفلةٌ أو كسلٌ فإنّ الأمور سوف تفسد وتتعرقل، أمّا إذا اتخذت هذه الأشياء وتوفّرت عناصر الوعي واليقظة فإنّ الأمور سوف تصلح وتتقدّم إلى الأمام.
أتخافون من أمريكا؟
في بدايات الثورة، أي قبل نحو إحدى وثلاثين سنة، توجّهت أنا وشخصان آخران - كنّا يومها أعضاء في شورى الثورة - من طهران إلى قم للقاء الإمام الخمينيّ، وكان الإمام الخمينيّ حينها لا يزال في قم، ولم يأتِ للسكن في طهران - لنسأله عن رأيه حول قضيّةٍ وخطوة مهمّتين، وحين شرحنا له القضيّة التفت إلينا وقال: هل تخافون من أمريكا؟ فقلنا له: لا، فقال: إذاً، اذهبوا وافعلوا كذا وكذا، فعدنا وفعلنا كما أوصانا ونجحنا. إذا كان ثمّة خوفٌ وهلع، وإذا كان هناك طمعٌ أو غفلةٌ أو توجّهاتٌ منحرفةٌ فإنّ الأمور والأعمال سوف تتعقّد وتفسد.
1- المواعظ العددية، ص125.
611
518
في لقاء المشاركين بالمؤتمر العالمي لأساتذة الجامعات في العالم الإسلامي والصحوة الإسلاميّة
الصحوة بداية الطريق
يواجه العالم اليوم حدثاً عظيماً، ألا وهو الصحوة الإسلاميّة، وهذه حقيقة. لقد استيقظت الشعوب والأمّة الإسلاميّة تدريجياً، ولم يعد التسلّط على الشعوب المسلمة بالسهولة التي كان الأمر عليها بعد الحرب العالميّة الأولى أو في فترة القرنين التاسع عشر والعشرين. إذا أراد مستكبرو العالم في الوقت الحاضر السيطرة على الشعوب المسلمة فسيكونون أمام مهمّة عسيرة، لقد تغلغلت الصحوة في الأمّة الإسلاميّة ونفذت وترسّخت فيها، وفي بعض البلدان تحوّلت هذه الصحوة إلى ثورةٍ غيّرت الأنظمة الفاسدة العميلة، لكن هذا جزء من الصحوة الإسلاميّة وليس كلّها، الصحوة الإسلاميّة واسعةٌ وعميقة.
إسلام العمل والجماهير والمبادرة
بالطبع، الأعداء يخافون من كلمة "الصحوة الإسلاميّة"، ويحاولون أن لا تُسْتَخدم عبارة "الصحوة الإسلامية" لهذه الحركة العظيمة، لماذا؟ لأنّ الإسلام حينما يظهر في هيئته الحقيقيّة وأبعاده الواقعيّة فإنّ فرائصهم ترتعد. إنّهم لا يخافون الإسلام المستعبَد للدولار، ولا يخافون من الإسلام الغارق في المفاسد والارستقراطيّة، ولا يخافون من الإسلام الذي ليس له امتداداتٌ ونهاياتٌ في ممارسات الجماهير وأعمالهم، لكنّهم يخافون إسلام العمل والفعل، إسلام المبادرة، إسلام كتل الجماهير، إسلام التوكّل على الله، إسلام حسن الظنّ بالوعود الإلهيّة، حيث قال تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾1. حينما يذكر اسم هذا الإسلام، وتظهر له علاماتٌ ومؤشراتٌ فإنّ مستكبري العالم يرتعدون ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾2، لذلك لا يريدون عنوان "الصحوة الإسلاميّة" أن يكون. أمّا نحن فنعتقد أنّها صحوةٌ إسلاميةٌ ويقظةٌ حقيقّيةٌ قد ترسّخت وامتدّت، ولا يستطيع الأعداء تحريفها عن طريقها بسهولة.
آفات وأخطار تهدّد الصحوة
طبعاً، ينبغي دراسة الآفات والأخطار التي تهدّد هذه الصحوة، وهذه هي النقطة الأولي التي أروم ذكرها لكم. ادرسوا الآفات والأخطار التي تهدّد هذه التحركات التي عمّت العالم الإسلاميّ، وهذه الثورات التي حدثت في مصر وتونس وليبيا وأمثالها
1- الحج، 40.
2- المدثر،50- 51.
612
519
في لقاء المشاركين بالمؤتمر العالمي لأساتذة الجامعات في العالم الإسلامي والصحوة الإسلاميّة
وانتصرت، ما هي الأخطار التي تهدّدها؟ وما هي المشكلات التي تواجهها؟ لماذا نقول إنّ ما حدث هو إسلاميٌّ بلا شكّ؟ لاحظوا شعارات الجماهير ودور المؤمنين بالإسلام في إسقاط الأنظمة الفاسدة طوال هذه الفترة، لولا المؤمنون بالإسلام والمجموعات والحشود الهائلة ذات المكانة الممتازة بين الناس والمعتقدة بالإسلام اعتقاداً راسخاً وعميقاً لما تكوّنت هذه التجمّعات العظيمة في مصر وتونس. الضغوط التي أعملتها تحرّكَات الجماهير، ومشاركتها في الساحة هدمّت الصروح المتهرئة لأمثال حسني مبارك وابن علي. الجماهير الإسلاميّة هي التي وُجدت في الساحة بشعارات إسلاميّة. دور الإسلامييّن في عمليّات إسقاط الأنظمة هو بحدّ ذاته أقوى شاهدٍ على أنّ هذه الحركة حركةٌ إسلاميّة. وبعد ذلك ما إن حان دور التصويت حتى قامت الجماهير بالتصويت للإسلاميّين وعزّزوهم ورجّحوهم. وأقولها لكم: إذا أقيمت انتخاباتٌ جيّدةٌ حرّةٌ في أيّ مكانٍ من العالم الإسلاميّ - وقد تكون لذلك بعض الاستثناءات القليلة - ويشارك القادة والسياسيّون الإسلاميون فيها فإنّ الشعوب ستمنحهم أصواتها. هكذا هو الحال في كلّ مكان. إذاً، التحرّك هو تحرّكٌ إسلاميٌّ بلا ريب.
تبيين الأهداف
قلنا ينبغي أن تدرسوا الآفات والمخاطر. وإلى جانب ذلك لا بدّ من تبيين الأهداف وشرحها، إذا لم تتّضح الأهداف فستكون هناك حيرة واضطراب، ينبغي تبيين الأهداف. من أهمّ أهداف هذه الصحوة التحرّر من شرور هيمنة الاستكبار العالمي، ينبغي ذكر ذلك بصراحة. من الخطأ التصوّر أنّ الاستكبار العالمي بزعامة أمريكا يمكن أن يتصالح مع الحركات الإسلاميّة، إذا كان ثمّة إسلامٌ وإسلاميّةٌ وإسلاميّون فإن أمريكا ستحاول بكلّ ما أوتيت من قوّة أن تقضي عليهم، بالطبع، ستبدي لهم ابتساماتها في ظاهر الأمر. ليس أمام الحركات الإسلاميّة من طريقٍ سوى رسم حدودها الفاصلة. لا نقول يجب أن يسيروا لمحاربة أمريكا، بل نقول ينبغي أن يعلموا ما هي مواقف أمريكا والاستكبار الغربيّ منهم، يجب أن يشخّصوا ذلك بدقّة، وإذا لم يحصل هذا التشخيص فسوف يقعون في شرك خداعهم وحيلهم بالتأكيد.
الاستكبار العالمي، فراغ الرؤية
الاستكبار العالمي يحكم في العالم اليوم بأدوات المال والسلاح والعلم، لكنّه يعاني من فراغ فكريٍّ وتوجيهيّ، يعاني الاستكبار العالمي اليوم من هذه المشكلة الكبرى، إذ ليست لديه أفكارٌ للبشرية، ليست لديه أيّة فكرة لعرضها على عموم الشعوب وإرشادهم إليها، كما ليست لديه أفكارٌ للخواصّ والمثقّفين منهم. أمّا أنتم فلديكم
613
520
في لقاء المشاركين بالمؤتمر العالمي لأساتذة الجامعات في العالم الإسلامي والصحوة الإسلاميّة
أفكارٌ، لأنّ لديكم الإسلام. حينما يكون لنا فكرنا وخارطة طريقنا، نستطيع أن نرسم أهدافنا ونصمد، وفي هذه الحالة فإنّ أسلحتهم وعلومهم وأموالهم لن يعود لها التأثيرات نفسها التي كانت في الماضي. وهي طبعاً ليست عديمة التأثير، إنما ينبغي لنا أن نفكر بما يحبطها - وسوف نتناول هذا الجانب إن كان ثمة وقتٌ - لكن المهم بالدرجة الأولى هو أن تكون لنا أفكارنا وخارطة طريقنا وإيديولوجيتنا، ونعلم ما الذي نريد أن نفعله، يتعيّن رسم الأهداف.
أهدافنا الإسلاميّة
أ- محوريّة الإسلام
من الأهداف المهمّة التي يتوجّب الاهتمام بها في هذه الثورات هو عدم خروج الإسلام عن المحوريّة، يجب أن يكون المحور هو الإسلام، الفكر الإسلاميّ والشريعة الإسلاميّة يجب أن يكونا محوراً. هم حاولوا أن يوحوا بأنّ الشريعة الإسلاميّة لا تتناغم مع التقدّم والتطوّر والتحضّر، وما إلى ذلك، هذا كلام العدو. كلا، الإسلام ينسجم تماماً مع التقدّم، ليسوا قلائل في العالم الإسلاميّ أولئك الذين استطاعوا بروح التحجّر والرجعيّة والجمود وعدم القدرة على الاجتهاد أن يكرّسوا ويثبّتوا كلام العدو هذا بشكل من الأشكال، إنّهم مسلمون، ولكن في خدمة الأعداء. لدينا من هذا القبيل في أطرافنا في بعض البلدان الإسلاميّة، واسمهم مسلمون، لكنّ المرء لا يشاهد فيهم ذرّةً من الفكر الجديد والفهم الجديد للمعارف الإسلاميّة. الإسلام للعالم وللدنيا إلى الأبد ولكل القرون، ولكلّ فترات التقدمّ البشري، إنّه يلبّي احتياجات البشر في كلّ هذه العصور. ينبغي أن نجد الفكر الذي يكوّن ردّ الإسلام وجوابه على هذه الاحتياجات. بعض الأفراد لا يحملون هذا الفكر، ولا يحسنون سوى تكفير هذا وتفسيق ذاك، ويسمّون أنفسهم مسلمين، وفي النهاية يلاحظ المرء أحياناً أنّهم يتحالفون مع مرتزقة العدو! لنجعل الشريعة الإسلاميّة والفكر الإسلاميّ محور نشاطاتنا، هذا أحد الأهداف.
ب- بناء النظام وفق رؤية
ومن الأهداف الأخرى بناء النظام. إذا لم يجر بناء نظامٍ في هذه البلدان التي ثارت، فإنّ الأخطار ستحدق بها. ثمّة تجربةٌ في بلدان شمال أفريقيا تعود إلى ما قبل ستيّن أو سبعين عاماً، أي في أواسط القرن العشرين. حصلت ثورةٌ ونهضةٌ في تونس نفسها، وتولّى الأمور بعض الأشخاص، وحصلت في مصر ثورةٌ وانقلابٌ ونهضة، وتولّى الأمور أشخاص - وكذا الحال في أماكن أخرى - لكنّهم لم يستطيعوا بناء أنظمة، وحين لم
614
521
في لقاء المشاركين بالمؤتمر العالمي لأساتذة الجامعات في العالم الإسلامي والصحوة الإسلاميّة
يبنوا أنظمةً فقد أدّى هذا لا إلى زوال تلك الثورات وحسب، بل وحتى الذين تولّوا الأمور باسم الثورات تبدّلوا وتغيّروا رأساً على عقب، حدث هذا في تونس وحدث في مصر وحدث في السودان يومذاك في حدود عام 1343 أو 1344 أو 1345هـ .ش. (1964 أو 1965 أو 1966م ) كنت مع بعض الأصدقاء في مدينة مشهد نستمع لإذاعة صوت العرب - و صوت العرب إذاعةٌ مصريّة تبثّ من القاهرة - وكانت تبثّ خطابات جمال عبد الناصر ومعمّر القذافي وجعفر النميري الذين اجتمعوا في مكانٍ واحد، كنّا نُسحق في مدينة مشهد تحت ضغوط الاستبداد والدكتاتورّية، ويتملّكنا الحماس والغبطة والهياج من هذه الكلمات الملتهبة الشديدة، وحينما فارق عبد الناصر الحياة رأيتم ماذا فعل خلفاؤه، وشاهدتم ما الذي آل إليه القذّافي، والنميري أيضاً واضح ما آل إليه. وقد تغيّرت هذه الثورات نفسها، إذ كان يعوزها الفكر ولم تستطع بناء أنظمة. يجب بناء أنظمةٍ في هذه البلدان التي ثارت، يتحتّم تشييد أرضيّةٍ قويّة، هذه من المسائل والقضايا المهمّة.
ج- الحفاظ على الجماهير
من القضايا المهمّة الأخرى الحفاظ على دعم الجماهير ومساندتهم، يجب عدم الانقطاع عن الناس. لدى الناس توقّعاتهم ومطالبهم واحتياجاتهم. والقوّة الحقيقّية هي بيد الجماهير والشعوب، حيث يجتمع الناس ويتآلفون، ويكونون قلباً وتوجّهاً واحداً خلف المسؤولين وقادة البلد، هناك لن تستطيع أمريكا ولا الأكبر من أمريكا أن ترتكب أيّة حماقة. يجب الحفاظ على الشعب وحضوره ومساندته، وهذا ما تستطيعونه أنتم.. ما يستطيعه المثقّفون والكتّاب والشعراء وعلماء الدين. والأكثر تأثيراً هم علماء الدين الذين يتحمّلون واجباتٍ جسيمة. ينبغي أن يبيّنوا للناس ويشرحوا لهم ويوضّحوا ما الذي يريدون، وفي أيّة مرحلةٍ في هذا الطريق يسيرون، وما هي الموانع والعقبات، ومن هو العدوّ، ويجب أن يحافظوا على وعي الجماهير وبصيرتهم، وعندها لن تنزل أيّة نازلةٍ ولن تصاب المسيرة بأية أضرار.
د- التربية العلمية للشباب
وقضيّة أخرى هي التربية العلميّة للشباب. يجب على البلدان الإسلاميّة أن تتقدّم من النواحي العلمّية والتقنّية. ذكرت أنّ الغرب وأمريكا استطاعوا بفضل العلم السيطرة على بلدان العالم، وكان العلم من أدواتهم في ذلك، وقد اكتسبوا الثروة عن طريق العلم، وطبعاً فقد اكتسبوا بعض الثروات عن طريق الخداع والخبث والسياسة، لكن العلم كان مؤثراً أيضاً، يجب اكتساب العلم، هناك رواية تقول: "العلم سلطان من
615
522
في لقاء المشاركين بالمؤتمر العالمي لأساتذة الجامعات في العالم الإسلامي والصحوة الإسلاميّة
وجده صال، ومن لم يجده صيل عليه"1، يجب اكتساب العلم. حين تكسبون العلم ستتمتّعون بقبضاتٍ قوّية، وحين تفقدون العلم فإنّ أصحاب القبضات القويّة سيلوون أيديكم. شجّعوا شبابكم على العلم، هذه عمليّة ممكنة، وقد قمنا بها نحن في إيران. كنّا قبل الثورة في المراتب العلمية الأخيرة في العالم، ولا أحد ينظر لنا لكن في الوقت الحاضر- وببركة الثورة والإسلام والشريعة الإسلاميّة - يقول المختصّون بالتقييمات العلمّية في العالم وينشرون إنّ إيران حالياً تحتلّ المرتبة العلمّية السادسة عشرة في العالم، هذه إحصائيّات تعود إلى ما قبل أشهرٍ مضت. وقد خمّنت هذه المراكز العلمّية نفسها وقالت إنّ إيران بعد عدّة أعوام - وقد حدّدوا عدد الأعوام فقالوا عشرة أعوام أو اثني عشر عاماً مثلاً - ستصل إيران إلى مرتبةٍ من رقمٍ واحد، قالوا إنّها ستتبّوأ المرتبة الرابعة في العالم، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ سرعة التقدّم العلميّ في إيران عاليةٌ جداً. وبالطبع، لا نزال متأخرين عن العالم كثيراً، سرعتنا أكثر من متوسّط السرعة العالميّة بأضعاف، لكنّنا لا نزال متأخرين، ولو واصلنا هذه السرعة فسوف نصل إلى المراتب المتقدّمة. يجب أن تتواصل هذه الحركة في العالم الإسلاميّ، البلدان الإسلاميّة ذات مواهب وقدرات، وهناك شبابٌ صالحون يمّثلون مواهب جيّدة. ذات يومٍ من أيام التاريخ كان العلم في العالم بأيدي المسلمين، فلماذا لا يكون اليوم أيضاً؟ لماذا لا نتوقّع ونرجو أن يكون العالم الإسلاميّ بعد ثلاثين عاماً مرجعاً علمّياً في العالم، يراجعه الجميع لاكتساب العلوم؟ هذا مستقبلٌ ممكنٌ يتطلّب منا الهمم والجهود. هذا كله يحصل ببركة الإسلام والثورة. لقد أثبت النظام الديني أنّ بوسعه أن يحوز على سرعةٍ أكبر.
الوحدة ونبذ الاختلاف
قضيّة أساسيّة أخرى هي قضيّة الوحدة. أقولها لكم اليوم، أيّها الإخوة والأخوات... الأداة التي يمكنها أن تكون فعّالة بيد أعدائنا فيستغلونها أقصى استغلالٍ هي الاختلافات، اختلافات الشيعة والسنّة، والاختلافات القومّية، والاختلافات الوطنيّة، وحالات التباهي الخاطئة. إنّهم يضخّمون قضّية الشيعة والسنّة، ويحاولون أن يخلقوا الخلافات. تلاحظون أنّهم يبثّون الخلافات في البلدان الإسلاميّة وفي هذه البلدان الثائرة نفسها، ويخلقون الخلافات في مناطق أخرى من العالم الإسلامي. الكلّ يجب أن يتحلى باليقظة والوعي، الغرب وأمريكا أعداء العالم الإسلامي، ويجب
1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 20، ص 319 .
616
523
في لقاء المشاركين بالمؤتمر العالمي لأساتذة الجامعات في العالم الإسلامي والصحوة الإسلاميّة
النظر لتحركاتهم بهذه العين. إنهم يحرّضون، ومنظّماتهم التجسسيّة تعمل وتنشط، ويمارسون التخريب أينما استطاعوا، مارسوا العرقلة في قضيّة فلسطين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وقد فشلوا طبعاً. إننّا نتقدّم إلى الأمام، والعالم الإسلامي يتقدّم إلى الأمام.
فلسطين القضيّة
قضّية فلسطين الأخيرة، هذه قضيّة على جانب كبير من الأهميّة. وقعت لمدّة ثمانية أيام حربٌ بين غزّة وبين الدولة الصهيونيّة التي تدّعي أنّ لها أقوى جيشٍ في المنطقة، وحينما أرادوا وقف إطلاق النار كان الفلسطينيون هم الطرف الذي وضع الشروط لوقف إطلاق النار، هل هذا شيءٌ يصدّق؟ لو قيل لكم هذا قبل عشرة أعوام، من كان سيصدّق أنّه ستحدث ذات يومٍ حربٌ بين الفلسطينيّين - وليس جميع الفلسطينيين، بل جزءٌ من الفلسطينيّين هم أهالي غزّة - وبين الكيان الصهيوني، يضع فيها الجانب الفلسطيني الشروط لوقف إطلاق النار؟ بارك الله في الفلسطينيين، بارك الله فيهم، بارك الله في حماس والجهاد والكتائب المجاهدة التي قاتلت في فلسطين وفي غزّة، وأبدت عن نفسها الشجاعة، هذه هي الشجاعة. إنّني من جانبي أشكر كلّ المجاهدين الفلسطينيين للتضحيات التي أبدوها والجهود التي بذلوها والصبر الذي أبدوه، ورأيتم ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾1. إذا صبرنا فإنّ صبرنا يجعل الله يمنّ بالفرج علينا. صبروا وقاوموا ومنّ الله تعالى بالفرج، هذا درس، هذا درس لهم ودرس للآخرين. لا تستهينوا بالوحدة بين المسلمين، هذه قضيّة على جانبٍ كبيٍر من الأهمّية.
ثورة البحرين، الصمت المريب
النقطة التي أشار لها إخوةٌ من البحرين هنا - صمت العالم الإسلاميّ حيال البحرين - نقطةٌ حقيقّيةٌ. ما يجعل بعضهم يصمت في هذا الإطار هو للأسف هذه القضايا المذهبّية الطائفيّة، أي إنّ الشعب إن ثار على حكومة فاسدة فيجب الدفاع عن ذلك الشعب، إلاّ إذا كان ذلك الشعب شيعيّاً - مثل البحرين - فيجب عدم الدفاع عنه! هذا منطق يحمله بعض الأشخاص، يجب ترك هذه الأمور والاعتبارات جانباً.
يجب معرفة العدو، ويجب معرفة أدواته وحيله، ومن أين يدخل؟ وقد اتّخذنا موقفنا
1- الشرح، 6.
617
524
في لقاء المشاركين بالمؤتمر العالمي لأساتذة الجامعات في العالم الإسلامي والصحوة الإسلاميّة
في سورية من هذه الزاوية. إننّا لا نوافق على سفك قطرة دمٍ واحدةٍ من أنف أيّ إنسانٍ مسلم، ويؤلمنا ذلك، إنّما نقول إنّ الذين يجرّون سورية للحرب الداخليّة هم المذنبون، المذنبون هم الذين جرّوا ويجرّون سورية نحو الخراب والحرب الأهليّة. مطالب الشعوب يجب أن تعالج كلّها بالطرق المتعارف عليها والعاديّة، ومن دون مثل هذا العنف.
نرجو أن يهدينا الله تعالى جميعاً، وأن يبارك في تحرّكاتكم، ويأخذ تعالى هذه الصحوات العظيمة في العالم الإسلاميّ إلي مستقبلٍ مشرقٍ نيّرٍ مباركٍ للأمّة الإسلاميّة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
618
525