أسس الأخلاق


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-12

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 الفهرس

المقدّمة

9

مقدّمة المؤلّف‏

11

تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

15

العلاقة بين الأحكام القيميّة والصفات النفسانية مع الهدف من الحياة.

15

علم الأخلاق‏

19

3 ـ فلسفة الأخلاق‏

20

الواقعيّّة واللاواقعيّة في الأخلاق

33

1 ـ النظرية الواقعيّّة واللاواقعيّة في الأخلاق‏

33

2 ـ لوازم اللاواقعيّة

37

3 ـ لوازم الواقعيّّة

43

4 ـ منزلة الواقعيّّة واللاواقعيّة في فلسفة الأخلاق‏

47

قيمة الأخلاق ولزومها

59

 القيمة وأنواعها

59

 القيمة الأخلاقيّّة وأنواعها

64

  نطاق القيم الأخلاقيّّة

67

 اللزوم وأنواعه‏

68

5ـاللزوم الأخلاقيّّ‏

69


 

 

 

 

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

المفاهيم الأخلاقيّّة

81

1ـالجمل والمفاهيم الأخلاقيّّة

81

2-ـالحكاية الواقعيّّة للجمل الخبرية الأخلاقيّّة

84

3-واقعيّة الجمل الأخلاقيّّة الأمرية أو النهيية

91

4-   النتيجة

92

الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

103

  1-حقيقة الإطلاق والنسبيّة في الأخلاق)تذكير)

104

 2- أنواع أو مراحل النسبيّة الأخلاقيّّة

105

 3- تعارض أصل الحرية مع أصل التساهل والتسامح في بعض الموارد

116

المذاهب الأخلاقيّّة اللاواقعيّة

137

1-  الأمرية

138

2-الانفعالية

141

3-التعاهدية

145

4-تحليل المذاهب اللاواقعيّة

147

الواقعيّّة غير القابلة للاثبات

169

 ما هي الواقعيّّة غير القابلة للاثبات‏؟

170

 أنواع الواقعيّّة غير القابلة للاثبات‏

171

 النتيجة

181

الواقعيّّة القابلة للاثبات

203

 مذهب اللذة الشخصيّة

204

 مذهب الزهد وترك الدنيا

209

 مذهب القوة

211

 مذهب الانسجام العقلاني‏

213

 مذهب العاطفة

215

 النفعية العمومية

218

 

 

 

 

 

 

 

 

 

6


2

الفهرس

 

القيمة الذاتية

255

 مطلوبية الكمال الاختياريّ‏

256

 لزوم الملاك لتشخيص الكمال الاختياريّ‏

257

 ملاك تشخيص الكمال الاختياريّ‏

259

 نطاق الكمال الاختياريّ للإنسان‏

261

 القيمة النهائية

263

 لوازم القيمة النهائية

263

 القيمة النهائية وتأمين الأهداف الذاتية.

265

قيمة ولزوم الأفعال الاختيارية

285

 العاملان المعينان لمقدار القيمة الغيرية:

285

 ملاك أكثر الأفعال الاختيارية قيمة

288

 الدرجات المختلفة لقيم الأفعال الغيرية

289

 القيمة البديلة للأفعال الاختيارية

291

 الأنانية والغيرية

292

 الأنانية أو الإلهية

294

 أسلوب تشخيص قيم الأفعال‏

294

 الحدّ الأقلّ للقيمة واللزوم الأخلاقيّين‏

296

المذهب الأخلاقيّ في الإسلام

309

 المذهب الأخلاقيّ الإسلامي جزء من نطامٍ واحد

310

 معرفة الإنسان في الإسلام‏

311

 القيمة الذاتية والنهائية

312

 القيمة الغيرية

320

 القيمة البديلة

325

 الغيرية والأنانية )النفسية(

326

 الإلهية والأنانية)النفسية(

328

 أساليب تشخيص القيمة

328

 الحدّ الأقل للقيم واللزوم الأخلاقيين­‏

329

 

 

 

 

 

 

 

 

7


3

الفهرس

 

10ـ  الواقعيّّة القابلة للإثبات‏

333

المصادر العربية والفارسية

343

الكتب‏

343

المقالات‏

351

Bobliography

352

 

 

 

 

 

 

 

 

8


4

المقدمة

 المقدمة


الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

إنّ علم الأخلاق من العلوم ذات البُعد العمليّ، والّتي يهدف من خلالها إلى بناء الشخصيّة الإنسانيّة المثاليّة، والّتي لا ترتبط بمجتمع دون آخر، ولا بدين دون دين، وإنّما هي عامّة لكلّ النوع البشريّ، وأمّا الفلسفة, فمن العلوم العقليّة الّتي تهدف لجلاء الشكّ وبروز اليقين، وإلى دحض السفسطة وسطوع الحقّ من خلال العقل والفكر، ومن خلال الدليل والبرهان.

وأمّا فلسفة الأخلاق، فهو العلم الّذي يؤّمن الطرق السليمة في الحياة الإنسانية، ويبيّن ملاكات هذه الطرق ويضيء عليها بنور العقل، وبتعبير آخر هو العلم الّذي يعقلن الأخلاق ويجعل الاختيار الإنسانيّ للسلوك العمليّ معتمداً على أُسس العقل والمعرفة، لتجعله ثابتاً أمام زعزعة العواصف وأمواج الشكّ والانحراف والتحلّل.

وبعد أن لاحظ مركز نون للتأليف والترجمة أهميّة هذا الكتاب، ومكانته العلميّة في بعض الجامعات في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، والركن الّذي ملأه هذا الكتاب في المكتبة الإسلاميّة، قام بنقله إلى اللغة العربيّة، وحاول قدر الإمكان المحافظة على التعابير والاصطلاحات العلميّة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

5

المقدمة

 التخصصيّة، ليبقى الكتاب مالئاً مكانته العلميّة والمعرفيّة عند أهله.


نسأل الله سبحانه أن يتقبّل عمل كلّ من ساهم في إخراج هذا السفر إلى حيّز الوجود، إنّه نِعم المولى ونِعم المجيب.

مزكز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

6

المقدمة

 مقدّمة المؤلّف‏


تُعتبر الأخلاق من العلوم العمليّة، حيث إنّ الإطلاع عليها وتعلّمها يعتبر مقدّمة للعمل. ورغم أنّ الإنسان، وبسبب اختياره التكوينيّ، قد لا يعمل بما يعلم، إلّا أنّ هذا العلم ينفع في الحقيقة أولئك الساعين إلى الحياة السعيدة. ولقد سعى علماء الأخلاق وبشكل دائم إلى هداية الباحثين عن السعادة والكمال، وبالتالي وضعوا لهم هذا العلم لنيل مبتغاهم. وكذلك فقد اعتُبِرَ القادة الدينيّون - الّذين سعوا إلى تحقيق أهمّ أهداف الرسالات الدينيّة السماويّة أيّ هداية الإنسان إلى السعادة الحقيقيّة - من أعظم دعاة الأخلاق.

لقد واجهت هذه الهداية الكثير من العوائق والموانع كالتشكيك والنسبيّة اللّتين أثّرتا في مختلف مجالات الفكر البشريّ. وبطبيعة الحال لم تسلم منهما دائرة القيم الأخلاقيّّة. إلّا أنّه وفي القرون الأخيرة ظهر العديد من الاتجاهات الفكريّة، وبالتالي ظهرت في دائرة الأخلاق قيمٌ جديدة كالنزعة الإنسانية والليبرالية والتساهل والتسامح والإباحيّة. ومن جهة ثانية فإنّ التطور التكنولوجي جذب عامة الناس إلى اللذة وتأمين الرفاه المادي والربح الدنيويّ، ودفع القوى العظمى إلى بسط نفوذها العالمي، وبالتالي فقد اعتبرت هذه الاتجاهات من القضايا الإنسانية المعاصرة، ومن ثمّ ومن جهة أخرى فإنّ البلبلة والفراغ المعنويّ الناتج عن البعد الدنيويّ دفع بالعديد من الفرق إلى المذاهب الوضعيّة البشريّة لتحصيل الاطمئنان، وسدّ الفراغ. ولذا فقد سعت هذه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

7

المقدمة

 الفرق والنحل إلى البحث عن القضايا الأخلاقيّّة والدعوة إليها في خطوة نوعية للابتعاد عن الأمور الدنيويّة.


وحيث إنّ الطبيعة البشريّة تميل نوعاً ما إلى كلّ تلك القضايا، فقد وجدت المذاهب الأخلاقيّّة أتباعاً لها ومريدين وجذبت إليها العديد من طوائف الإنسانية.

وعليه فقد اقترحت هذه المذاهب العديد من الطرق لتحصيل الحياة المطلوبة لأتباعها.

إلّا أنّ تأمين هذه الميول سيكون معقولاً إذا لم يقابل الفهم الصريح والواضح للعقل، ولذا فإنّ الساعين إلى الطرق المعقولة للحياة سيدركون بكل بساطة أنّ إرضاء هذه الميول بشكل غير معقول لن يكون أخلاقيّاً. ومن ثمّ فقد ترافقت هذه الميول، وفي الكثير من الموارد، مع الوساوس الذهنية، والتي أخذت أحياناً طابعاً فلسفياً. وفي هذه الحال فقد تعرضت مباني علم الأخلاق لنوع من الاضطراب والاختلال. وها هنا يسيطر على العقل غبار الأوهام ويضلّ أولئك الساعون في الاهتداء إلى طريق السعادة المنشودة. وبناءً عليه إذا خف نور العقل وامتلأ الفضاء بالغبار والضباب كيف لنا أنّ نهتدي إلى الحقيقة؟

إن هدف "الفلسفة" وبشكل عام هو جلاء غبار السفسطة والأوهام عن العقل. وأما هدف "فلسفة الأخلاق" بشكل خاص فهو جلاء الغبار الّذي يغطّي طريق العلم في مسير هذه الحياة. ولذا يُنتظَر من فلسفة الأخلاق، مضافاً إلى تأمين الطرق السليمة من أجل الحياة المنشودة، أنّ تؤمّن ملاكات اختيار هذه الطرق وأن تضيئها بنور العقل.

وبلا شكٍّ فإنّ وجود المباني المحكمة والاستدلالية في الأخلاق تعتبر خطوة أساسية للانتخاب الصحيح والمعقول من بين المذاهب الأخلاقيّّة.

إن وجود هذه المباني الصحيحة والمعقولة والمتقنة هي الّتي تمكّن الإنسان من الثبات أمام العواصف والأخطار الموجودة، أو الّتي يمكن حصولها، والتي ستهدّد القيم الأخلاقيّّة، وبالتالي ستدعوه إلى السير في الصراط المستقيم بكل عزمٍ واطمئنان.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

8

المقدمة

 إنّ علم الأخلاق مقدّمة لسعادة الإنسان. وإنّ فلسفة الأخلاق تهدي العقل إلى المذهب الأخلاقيّ الّذي يؤمّن هذه السعادة ويبني الإنسان ويربيه.


إنّ هذا الكتاب الماثل بين يديك هدفه المعرفة الإجمالية لموضوع فلسفة الأخلاق وتعيين النطاق الكلّي للمذهب الأخلاقيّ الّذي يُرشد الإنسان إلى سعادته الحقيقيّة.

ومن ثمّ فإنّ المنهج المتّبع في هذه البحوث لأجل إيجاد ملاكات القيم الأخلاقيّّة والتحكيم بين مختلف نظريات المذاهب الأخلاقيّّة المتعدّدة في هذا المجال هو المنهج العقلي. وسوف نتعرّض عند اللزوم إلى توصيف هذه النظريات، إلّا أنّه لما كان توصيف كلّ النظريات الّتي ترتبط بشكل ما بفلسفة الأخلاق لا يتلاءم مع هدف وضع هذا الكتاب بشكل مباشر، فلن نلزم أنفسنا بذلك، ولهذا السبب سوف نعرض كليات هذه المذاهب في ثلاثة فصول وسنشير في الفصل الأخير إلى النطاق الكلي أيضاً للمذهب الأخلاقيّ في الإسلام.

إنّ أسلوب عرض الكتاب علمي وُضع للتدريس في وحدتين من الوحدات الجامعية. وأما المذكّرات الواردة في أواخر الفصول فالغرض منها التوضيح والتذكير والإرجاع إلى المصادر، وكذلك نقد بعض الآراء الواردة في المتن مع الإشارة إليها، وكذلك فإنّ هذه المذكّرات مفيدة للساعين إلى مزيدٍ من بزيادة الاطلاع والمعرفة حول المواضيع المذكورة. كما أنّنا نقترح على الأساتذة المحترمين الراغبين بتدريس هذه الفصول مطالعة الهوامش الملحقة بها مسبقاً.

وكذلك فإنّ قسم "الخلاصة" و"أكمل" قد وضعا بشكلٍ يسهل فيه تدوين الخلاصات وتجميعها نظراً للارتباط المنطقي بينها.

وأمّا "الأسئلة" فالغرض منها أيضاً التذكير بالموضوعات الّتي تم درسها وكذلك الإجابة عنها والاستفادة منها في بعض الأحايين.

وأخيراً فإنّ قسم "للبحث" يطرح موضوعات يمكن بحثها وتحليلها داخل الصف بمعونة الأستاذ، وفي بعض الموارد ربما تشكّل موضوعاً مستقلاً للتحقيق والبحث.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

9

المقدمة

 وأرجو من القراء الكرام أنّ يتفضلوا علينا بإبداء آرائهم المفيدة وانتقاداتهم البنّاءة سواء لجهة الأسلوب والمنهج أو محتوى الكتاب ومضمونه.


وكذلك أقدّم الشكّر لكلّ من ساهم في تهيئة وتدوين هذا الكتاب، وأخصّ بالذكر الأستاذ العلامة آية الله مصباح اليزدي، إذ إنّه مضافاً إلى توجيهاته الكلية فقد قام بمطالعة أغلب ما في هذا الكتاب ونقده، وكذلك أشكر الأساتذة المحترمين حجة الإسلام والمسلمين محمود فتحعلي، وحجة الإسلام والمسلمين محمّد حسين زاده، والأستاذ عبد الرسول عبوديت والذين لهم الحقّ الكبير عليّ لمطالعتهم هذا الأثر وإبداء الملاحظات عليه.

كما وأتقدم بالشكر لفريق فلسفة الأخلاق في "مؤسسة الإمام الخميني (قدس سره) التعليمية والتحقيقية" والذين ساهموا في تهيئة المقالات المرتبطة بموضوع الكتاب ووضعها في اختيارنا.

وأخص بالشكر الكبير أيضاً السيد علي رضا تاجيك، الّذي تقبّل تنظيم هذا الكتاب.

وفي الختام أشكر الله تعالى على كلّ نعمة. وأقدم هذا الأثر المتواضع في محضر مولاي صاحب العصر والزمان بقية الله الأعظم أرواحنا له الفداء راجياً منه دوام عنايته ولطفه.
 
مجتبى مصباح‏ خرداد 1382هـ.ش
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

10

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

 الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

 
ربما يكون مصطلح "فلسفة الأخلاق" غريباً على من لم يطّلع مسبقاً على مسائل هذا العلم رغم معرفته بمصطلح "الفلسفة" ومصطلح "الأخلاق" كلاًّ على حدة.

إنّ مصطلح "الفلسفة" لوحده يشير إلى بيان العلوم النظرية الّتي تبين خصائص الوجود الكلية بالأسلوب العقلي.

وأمّا مصطلح "الأخلاق" فإنّه يحكي الصفات الفاضلة والمذمومة في الإنسان، وكذلك العلم الّذي يتكلم عن الصفات والسلوكيات القبيحة والحسنة.

لكن ما هو المراد من المصطلح التركيبي "فلسفة الأخلاق"؟ جواباً عن ذلك نقول إنّنا في هذا الفصل، ومع توضيح الأحكام القيميّة، وتقديم تصوّرٍ كاملٍ عن علم الأخلاق وأهميّته، سوف نتعرّف إلى فلسفة الأخلاق ومكانة هذا العلم بالمقايسة بعلم الأخلاق، وكذلك ضرورة التعرّض لمثل هذه البحوث.

1 ـ العلاقة بين الأحكام القيميّة والصفات النفسانية مع الهدف من الحياة.

1 - 1. الأحكام القيميّة

لطالما حكمنا وقضينا على سلوكنا وسلوك الآخرين مراراً وتكراراً. ومثالاً على ذلك قلنا: "إنّ ما قمت به بالأمس ليس صحيحاً" و"بدلاً من أن أخاف من توبيخ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

11

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

 صديقي سأقول له الحقيقة". وكذلك من الممكن أنّ نقدّر الشجاع، الغيور، صاحب المروءة والكريم وفي المقابل نوبخ الحاقد، الحسود، والغافل، وغير ذلك الكثير الكثير من الأحكام الّتي نصورها يومياً والتي لها تأثيرٌ كبيرٌ في حياتنا العمليّة, إذ إنّه بناءً على هذه الأحكام نقوم بانتخاب الأصدقاء وتعيين طريقة عيشنا، وبالتالي ندرك أيضاً كيفية تنظيم سلوكنا وتقويمه ومع أيّ جماعة أو طائفة نتعامل دينياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، وفي الواقع إن مثل هذه الأحكام تقع في نطاق "ما يجب" في سلوكنا.


ومع أنّنا نحكم بمثل هذه الأحكام عشرات المرات يومياً أو نتكلم بها مع الآخرين إلّا أنّه لربما لم نفكر دائماً في أهميّتها وفائدتها.

وفي الحقيقة هل يمكننا أنّ نعيش من دون وجود مثل هذه الأحكام؟ وما الّذي يلزمنا أنّ نفكر بها ونبحث حولها؟

لنتصور مجي‏ء ذلك اليوم الّذي تُحذف فيه كلّ هذه الأحكام من حياتنا، أيّ أنّه عندما نريد أنّ نقوم بأي فعل في ذلك اليوم الفرضي لن نعرف "ما يجب" علينا فعله.

مثلاً أنا أقوم الآن كلّ يوم من نومي وأذهب إلى الدراسة أو العمل، وبالتالي سأتصور أني في ذلك اليوم الافتراضي لا أعرف شيئاً عمّا يجب فعله يومياً، بل أكثر من ذلك أنّني لا أحكم عمّا لا يجب عليَّ فعله أيضاً، نعم من الممكن حينها أنّ أفكر في نفسي أنّه هل اللازم عليَّ أنّ أدرس أو أعمل لتنظيم أمور المجتمع أو خدمة الآخرين أو أيّ هدف آخر، لكن لا بد أنّ لا ننسى أنّه في ذلك اليوم الافتراضي لا يوجد أيّ هدفٍ من الأهداف المذكورة بل وحتى أضداد تلك الأهداف قابل للتقسيم في رأيي، أيّ أنني لا أعرف أنّ إدارة أمور المجتمع أو خدمة الآخرين أو أيّ هدف آخر هل هو "حسن" أو "قبيح" أو هل "يجب" أنّ أقوم به أم "لا يجب" عليَّ ذلك.

وبناءً على ذلك فليس لي حينها أيّ هدفٍ مشخص ينبغي عليَّ أو لا ينبغي عليَّ القيام به أو أيّ هدف منها أنتخب. وهذا التحير والحيرة يشمل كلّ الأفعال الّتي ترتبط باختياري في فعلها أو تركها، وفي ذلك اليوم العجيب لن أستطيع أنّ أستفيد وبشكل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

12

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

  مطلوب من إرادتي وكأنني مسلوب الاختيار والإرادة، ولهذا سأكون حينها أشبه بخشبة فاقدة للاختيار ولست بإنسان أصلاً.


وفي الحقيقة فإنّ مثل هذه الأحكام الّتي أشرنا إليها تشير إلى ماهية الأهداف المنظورة في حياتنا وبالتالي توجب علينا أنّ نختار منها ما يتناسب مع أهدافنا القيمة فنقوم بها بمل‏ء إرادتنا.

وبشكل مختصر يمكن القول إنّ هذه الأحكام والقرارات ستصوّب حياتنا باتجاه هدف معيّن ومخصوص، وستؤثر حتماً في تقييم وانتخاب السلوك المناسب مع هذا الهدف. وبناءً على ذلك إذا كان هدف حياتنا مهماً لا بد أنّ يكون مهماً لنا أيضاً أنّ نعرف الأحكام والقرارات القيميّة لكي نوفق بينها وبين أفعالنا الاختيارية، حيث إنّ معرفة ما يجب فعله تعتبر الخطوة الأولى لاختيار العمل المناسب لهدفنا في الحياة.

1 ـ 2. الصفات النفسانية

من المقطوع به وجود عوامل أخرى غير "المعرفة" - والتي هي نوع من العلم - تؤثّر في اختيارنا وقيامنا بالأعمال المفيدة، ويمكن تقسيم هذه العوامل إلى قسمين: داخلية وخارجية.
من جملة العوامل الخارجية يمكن الإشارة إلى الثقافة والآداب والتقاليد الاجتماعية، وكذلك أقوال وسلوك الّذين نعاشرهم غالباً سواء في العائلة أو الأصدقاء والأساتذة ووسائل الإعلام.
ومن جملة العوامل الداخلية يمكن الإشارة إلى بعض الصفات كالعفّة والغيرة والشجاعة أو الحسد والبخل والتكبّر.

ويشترك كلٌّ من العوامل الداخلية والخارجية في بحثنا وتحريكنا للاختيار والقيام بأفعال وسلوكيات خاصّة أو تتناسب معها، ومثالاً على ذلك لو عاشر الإنسان بعض الأفراد المتواضعين سيحرّكه ذلك ويشوّقه إلى التواضع، وكذلك من كان في طبعه الحسد وكانت هذه الصفة فعالة في نفسه فإنّه سيحسد في العادة، إلّا إنّهما يفترقان
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

13

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

  في التأثير المباشر وعدمه، فالعوامل المحركة الخارجية يمكنها التأثير بشكل غير مباشر في اختيارنا وبالتالي تحريكنا ودفعنا للقيام ببعض الأعمال الخاصّة، وأما العوامل الداخلية فإنّها تؤثّر فينا بشكل مباشر لكن يمكن ترويضها والسيطرة عليها بالمعرفة والتمرين وبالتالي إيجاد التغيير فيها وتقويتها أو تضعيفها، وزيادة تأثيرها أو تقليله، وتفعيلها أو تحجيمها [1].


وبناءً عليه إذا استطعنا التعرّف بدقّة إلى الصفات المثبتة والإيجابية من بين الصفات الداخلية فسوف نعمل على تقويتها والتقليل من تأثير الصفات السلبية، وسوف نطمئن على صوابية أعمالنا وسلوكنا في الاتجاه الصحيح.

وفي الواقع فإنّ امتلاك الصفات النفسانية الفاضلة والحسنة عاملٌ محرك للقيام بالأعمال الحسنة وفي النتيجة تحصيل الهدف من حياتنا.

ومضافاً على ذلك وبناءً على الرؤية المعرفية للإنسان في الإسلام فإنّ حقيقة وجود الإنسان هي روحه المجردة والباقية بعد موته وأنّ الإنسان سيحشر مع صفاته النفسية. إذاً بناءً على ذلك فإنّ الصفات النفسية علاوة على تأثيرها في اختيار الأفعال والقيام بها فإنّها تؤثّر أيضاً في تكوين حقيقة وجود الإنسان.

إلّا أنّ السؤال المهم هو كيفية تشخيص الحسَن من القبيح في هذه الصفات، وبأي سلوكٍ يمكن تغييرها وتصحيحها.

وبعبارة أخرى ما هو العلم الّذي نحتاجه في سبيل الوصول إلى الهدف من الحياة المنشودة, أولاً لتعيين ما ينبغي أو لا ينبغي فعله من الأعمال والسلوكيات الحسنة أو القبيحة، وثانياً ليعرف لنا الصفات الداخلية الموجبة والسالبة والّتي من طرفٍ ما تؤثّر في سلوكنا بشكل مباشر ومن طرف آخر تتغير بناءً على ما نقوم به، وبالتالي تُكوِّن حقيقة وجودنا؟ وجواباً على ذلك نقول إنّ العلم المتكفّل بهذا الأمر هو "علم الأخلاق" [2] [3].
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

14

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

 2 ـ علم الأخلاق‏

 
يتكلّم هذا العلم عن السلوك الحسن والقبيح والصفات المقبولة وغير المقبولة وبعبارة أخرى عن الفضائل والرذائل.
 
وكذلك يتحدّث عن الأعمال الّتي ينبغي فعلها أو تركها، وعن الصفات الّتي ينبغي تنميتها أو تحجيمها.
 
إنّ علم الأخلاق يبحث أيضاً عن صفاتٍ كالكرم والبخل والشجاعة والجبن والتي يمكن تحصيلها أو إزالتها باختيارنا وإرادتنا أو الّتي يمكن السيطرة عليها والتحكم بها.
 
وكذلك يتعرّض هذا العلم للسلوك الاختياري الناشى‏ء عن تلك الصفات الداخلية الّتي تحدّد مسيرنا واتجاهنا وبالتالي تقوية هذه الصفات المحرّكة أو تضعيفها.
 
ونتعرّف في هذا العلم إلى قواعد عامّة لتقييم الصفات والسلوكيات الاختيارية والتي على أساسها نقوم بتقدير وتقييم صفاتنا وأعمالنا الاختيارية وكذلك صفات وأعمال الآخرين.
 
أي أنّه وبناءً على هذه الأسس والقواعد الأخلاقيّّة يمكن الحكم على أيّ عملٍ أو صفة بأنه حسن أو قبيح، وكذلك أيهما الصحيح وأيهما الخطأ، وكذلك المقبول منهما وغير المقبول، وما ينبغي فعله منهما وما لا ينبغي كذلك، وكما ترى فإنّ جميع هذه الأمور مفيدة في الوصول إلى الهدف المنشود من الحياة. وبشكل مختصر يمكن القول إنّ علم الأخلاق هو ذلك العلم الّذي يتكلم عن قيمة الصفات والسلوكيات الاختيارية وضرورة1 وجودها عند الإنسان [4].
 
 
 

1-  سوف نتكلّم في الفصل الثالث تفصيلاً عن مفهوم القيمة والضرورة بشكل عام وعن القيمة والضرورة في الأخلاق بشكل خاص. وقبل الوصول إلى تحقيق المراد منهما سوف نكتفي في بحوثنا الحالية بالمفهوم الارتكازي عندنا عن القيمة واللزوم الأخلاقيّين وبقليل من المسامحة نعبر عنهما بالحسن والقبيح وما يجب وما لا يجب.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

15

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

 3 ـ فلسفة الأخلاق‏


1 ـ 3. الأسئلة الأساسية في مجال الأحكام الأخلاقيّّة

تعرفنا حتى الآن إلى علم الأخلاق وأهميّته. لكن في الحقيقة هناك آراء ونظريات متعدّدة حول تعريف القيم والضرورات الأخلاقيّّة والتي تختلف فيما بينها في مجال تقييم الصفات والأفعال الاختيارية وضرورتها ولزومها. وها هنا ومن أجل تحصيل الهدف الهام الّذي نسعى إليه يجب علينا معرفة أيّ واحد نختار من بين هذه المذاهب الأخلاقيّّة:

ومجدّداً نعود إلى أحكامنا القيميّة والّتي قُبلت على أساس القواعد الأخلاقيّّة عندنا والّتي سوف نستفيد فيها من كلمات نظير: "الحسن" "القبيح" "يجب" و"لا يجب".

وهنا نسأل: ما هو معنى هذه الكلمات بالدقّة؟ وأيّ شي‏ء تُخبر؟ وهل الحسن والقبح صفتان واقعيّتان لأفعالنا وصفاتنا؟ وهل يمكن إثبات القواعد الأخلاقيّّة كما نُثبت القوانين الفيزيائية والقواعد الهندسية؟ وهل يمكن على أساسها تشييد مذهب أخلاقيّ قوي يمكن الدفاع عنه؟ وهل يمكن تقييم القواعد الأخلاقيّّة بناءً على ملاكات واقعيّة وثابتة أم أنّ مبنى تقييم هذه القواعد أمور متغيرة لا ثبات لها؟ وهل أنّ الأخلاق مطلقة أم أنها نسبية؟

وفي الحقيقة فإنّ تحقيق هذه الأسئلة والإجابة عنها لا يرتبطان بعلم الأخلاق [5]، لأنّ هذا العلم يفترض مسبقاً أنّنا نعرف معنى الحسَن والقبيح، وكذلك فإنّ هذا العلم يمتلك قواعد أخلاقيّّة خاصّة به ويمكن القبول بها، وإنّما نسعى نحن فقط إلى المعرفة التفصيلية بها.

إنّ علم الأخلاق يقدّم لنا جدولاً من الأفعال والصفات الحسنة والقبيحة، إلّا أنّه لا يأخذ على عاتقه بالضرورة لزوم الدفاع العقلاني عن جداوله، ولو كان هذا الأمر ضرورياً ولازماً فلا بد من الذهاب إلى علم آخر وطلب الإعانة منه [6].
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

16

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

 2 ـ 3. ضرورة الإجابة عن الأسئلة السابقة


ما هي أهميّة وضرورة معرفة الإجابة عن هذه الأسئلة؟ أوليس علم الأخلاق كافياً لنا للقيام بالأعمال الحسنة والابتعاد عن الأعمال القبيحة والسيئة؟ أوليس كافياً لنا لامتلاك الصفات الفاضلة وتهذيب أنفسنا من الصفات الرذيلة؟ لأجل إدراك أهميّة الإجابة عن هذه الأسئلة سوف نتصوّر مرّة أخرى واقعة افتراضية:

في هذه الواقعة ليس لدينا أيّ اطلاع على الإجابة عن أيّ سؤال جديد أيّ أنّنا لا نعرف ما معنى الحسن وما معنى القبيح، ولا نعرف أنّ القواعد الأخلاقيّّة مطلقة أو نسبية، وهل أنّ أحكامنا القيميّة صحيحة أم لا، وكذلك لا نعرف أيّ واحد هو المقبول والمعتبر من بين المذاهب الأخلاقيّّة المختلفة، وأيضاً كما نحتمل أنّ القواعد الأخلاقيّّة تشبه البيانات العلمية بحيث يمكن إثباتها، وأنها مبينة للحقائق العلمية، كذلك نحتمل أنها مجرد بيان لأحاسيسنا الداخلية أو أنها ناشئة عن نوع من التوافق والعقود الاجتماعية - كما نشير إلى توضيحها في الفصول اللاحقة - وفي هذه الصورة لا يمكننا الاطمئنان بدقّة إلى ما نصدره من أحكام وقرارات، وفي النتيجة سوف نتردد فيما نختاره ونقرره وسوف نتهاون في حفظ وحماية قيمنا الّتي قبلناها، ومضافاً إلى ذلك فإنّه في مثل هذه الواقعة لن يكون معقولاً أنّ ندافع عن آرائنا وبالتالي إثبات صحة قراراتنا للآخرين.

إذا لم تكن القيم الأخلاقيّّة ذات ملاكات واقعيّة وثابتة لا تتغير، وكانت مبتنَية على السلائق الفردية أو الجمعية فحينئذٍ لن يكون مفيداً أيّ سعي فكري أو نظري لتحقيق الهدف المنشود من الحياة وتأمين الطرق الموصلة إلى هذا الهدف، وكذلك لن يكون مفيداً أيّ بحث وحوار لإثبات قيمنا المقبولة عندنا وردّ تلك القيم الّتي لا نقبلها.

وكذلك سوف يكون أيّ نوعٍ من الجهاد العملي في سبيل حفظ قيمنا المختارة وتوطيدها في المجتمع ومواجهة الغزو الثقافي والقيم المعارضة والمنحرفة أمراً غير معقول.

ومن ثمّ فإنّ هذه القيم إذا لم تكن ذات ملاكات ثابتة سيؤثر ذلك بشكل مباشر على
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

17

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

 مقدار اطمئناننا في التشخيص الصحيح لهذه الملاكات في ميزان اهتمامنا بحفظ هذه القيم، ونشرها.

 
نعم من المقطوع به أنّ عامة الناس تمتلك مثل هذه القرارات والأحكام القيميّة ولديها إجاباتها عن مثل هذه الأسئلة وبالتالي تحكم بناءً على هذه الإجابات على الرغم من كونها مجملة أحياناً أو أنها لا تستند إلى علم خاص أو معرفة باصطلاحات ذلك العلم، ولذا فإنّنا نراهم يقبلون بتسرّعٍ بعض تلك الأحكام والقرارات أو يرفضونها كذلك.
 
إلّا أنّه ولأجل الاطمئنان والتأكّد من صحّة أحكامنا فإنّنا نحتاج حتماً إلى تحليلها بشكل علمي، وتأكيداً لذلك نقول إنّ عامة الناس يستدلّون لإثبات مراداتهم مع أنّه من الممكن عدم تعلّمهم قواعد الاستدلال في علم المنطق، إلّا أنّه وللاطمئنان على صحة الاستدلال وللحذر من الوقوع في فخ المغالطات لا بد لنا من الاطلاع بشكل علمي على قواعد الاستدلال في علم المنطق.
 
3 ـ3. فلسفة الأخلاق هي الجواب عن الأسئلة المذكورة
 
وكما أشرنا فإنّ علم الأخلاق يبتدى‏ء عمله مع هذا الافتراض المسبق وهو امتلاكنا لإجابات - ورغم كونها إجمالية - عن تلك الأسئلة المذكورة، وهذا يعني أنّ البحوث المرتبطة بالإجابة عنها مقدّمة على بحوث علم الأخلاق، ولذا لو أردنا تقديم تحقيق هذه الإجابات ضمن علم مستقلٍ فإنّ مثل هذا العلم سيكون مقدّمة للدخول إلى علم الأخلاق لأنّه في الحقيقة يبحث عن أصوله ومبانيه وبالاصطلاح عن مبادى‏ء علم الأخلاق.
 
وبناءً عليه فإنّ العلم الّذي يبحث عن مبادى‏ء علم آخر يسمى "فلسفة" ذلك العلم ولذا يسمى العلم الّذي نبحث عنه بـ"فلسفة الأخلاق"1.
 
هذا ومن الواضح أنّ "الحسن" و"القبيح" و"القواعد الأخلاقيّّة" و"الواقعيّّة أو
 
 
 

1-  Ethics or Moral Philosophy.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

18

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

  اللاواقعيّة في القيم والضرورات الأخلاقيّّة" وكذلك "ثبوت أو عدم ثبوت القواعد الأخلاقيّّة" و"الاطلاق والنسبيّة في الأخلاق" وأمثال هذه المفاهيم ليست أموراً حسية يمكن مشاهدتها، ولذا فإنّ المنهج التجريبي لن يكون مؤثّراً بشكل مباشر في حلّ مسائل هذا العلم [7].


وبناءً عليه فإنّ المنهج المتّبع في تحقيق هذا العلم سيكون منهجاً عقلياً.

فلسفة الأخلاق تحقيق فلسفيّ (عقليّ) حول المبادى‏ء التصوريّة والتصديقيّة لعلم الأخلاق.

أي أنّه يبحث في هذا العلم من وجهٍ طرفٍ ما حول مفاهيم "الحسن"، "القبح"، "يجب" و "لا يجب" - والّتي يستفاد منها في التعابير الأخلاقيّّة - وارتباطها مع الواقعيّات، ومن وجهٍ آخر يحقق فيه حول الأصول المؤثّرة في قبول أو عدم قبول الأمور الأخلاقيّّة اللازمة أو في كيفية اختيار المذهب الأخلاقيّ المطلوب، كلّ ذلك بناءً على المنهج العقلي والاستدلالي.

الخلاصة 

1 ـ الأحكام القيميّة موجودة في حياتنا اليومية، وتشير إلى هدفنا في الحياة، وتعتبر من العوامل المساهمة في قيامنا بالأعمال المختلفة وفي تحقيق هدفنا في الحياة.

2 ـ تنقسم العوامل المؤثّرة في قراراتنا للقيام بالأفعال الاختيارية إلى قسمين: العوامل الخارجية - كالثقافة والآداب والتقاليد الاجتماعية، والأصدقاء، والمعلمين ووسائل الإعلام ـ، والعوامل الداخلية نظير الصفات النفسانية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

19

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

 3 ـ تلعب العوامل المحركة الخارجية دور المرشد والمحفّز، وأمّا العوامل المحرّكة الداخلية والّتي تؤثّر في سلوكنا بشكلٍ مباشر فيمكن السيطرة عليها عبر المعرفة والتمرين والرياضة.

 
4 ـ بناءً على الرؤية المعرفية للإنسان في الإسلام فإنّ العوامل المحركة الداخلية (الصفات النفسانية) مضافاً إلى تأثيرها في سلوكنا وأنها تقبل التأثير والتغير أيضاً فإنّها تشكل حقيقة وجود الإنسان.
 
5 ـ إنّ علم الأخلاق الّذي يُتكلَّم فيه عن قيمة الصفات والسلوك الاختياري للإنسان وضرورة وجودها يمكنه أنّ يعيننا، ولأجل نيل الهدف المنشود من الحياة، في أنّ نختار الأفعال الحميدة الّتي لا بدّ منها.
 
6 ـ إنّ فلسفة الأخلاق تحقيقٌ فلسفي (عقلي) حول المبادى‏ء التصورية والتصديقية لعلم الأخلاق ويُبحث فيه عن المفاهيم الأخلاقيّّة وارتباطها بالواقعيّات وكذلك عن الأصول المرتبطة بقبول أو عدم قبول البيانات الأخلاقيّّة.
 
7 ـ حيث إنّ فلسفة الأخلاق هي مبنى علم الأخلاق فإنّ اطمئناننا إلى صحّة أحكامنا الأخلاقيّّة يرتبط بهذا العلم، ومن ثمّ فإنّ ميزان الاطمئنان هذا يؤثّر بدوره في ميزان اهتمامنا بالثبات عليها في مقام العمل والسعي لحفظ وبسط القيم الأخلاقيّّة.
 
الأسئلة 
 
1 ـ أوضح ماهية الارتباط بين الأحكام القيميّة مع الهدف من الحياة، وكيف تؤثّر في نوعية سلوكنا الفردي والاجتماعي.
 
2 ـ ما هي العوامل المحركة الداخلية والخارجية المؤثّرة في طريقة اختيارنا؟ بيّن ماهية العامل المؤثر في طريقة اختيارنا عند كليهما.
 
3 ـ عمَّ يتكلّم علم الأخلاق؟ وكيف يمكن الاستعانة بهذا العلم للوصول إلى الهدف المنشود من الحياة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

20

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

 4 ـ عرّف فلسفة الأخلاق واشرح نموذجين من مسائلها.


5 ـ ما هو السبب في تقديم فلسفة الأخلاق على علم الأخلاق؟ أوضح ذلك.

6 ـ أوضح أهميّة فلسفة الأخلاق من الناحية النظرية والعلمية.

7 ـ لنفترض أنك في مقام النهي عن المنكر أوصيت أحدهم بترك أمرٍ ما لا ينبغي فعله، ولكنه أجابك بالقول "إذا لم يعجبك هذا العمل فيمكنك أنّ لا تقوم به ولكنه حسن في رأيي وأريد القيام به".

أوضح ما يلي: هل أنّ اختلافك معه يرجع إلى علم الأخلاق أو إلى فلسفة الأخلاق؟ ومن أيّ علم تستفيد في مقام إجابته؟

للبحث 

مع الإشارة إلى ما استفدناه وعرفناه حول علم الأخلاق، هل يمكن برأيك تحقيق الهدف من الحياة بمجرد المعرفة بهذا العلم أم بالعمل به؟ وما هو دور علم الأخلاق في تحقيق هذا الهدف؟ وما هي الأشياء الأخرى الّتي نحتاج إليها من أجل الوصول إلى هذا الهدف؟
 
إقرأ 

من الممكن أنّ تتفاوت الصفات النفسانية بادى‏ء ذي بدء عند مختلف الأفراد. وربما يرتبط هذا الضعف الأوّليّ بطبيعة هؤلاء الأفراد وعوامل أخرى متعدّدة تؤثّر في ذلك كالوراثة مثلاً، إلّا أنّه يمكن بعد التعود الاختياري أنّ يقويها بتكرار العمل أو أنّ يضعفها بالتمرن على الترك (راجع، عبد الرزّاق لاهيجي، گوهر مراد، ص 667).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

21

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

 وحتماً فإنّ هذه المراتب من الصفات والتي تُكتسب أو تُحفظ باختيار الإنسان وكذلك الأعمال الصادرة عنه باختياره هي الّتي تقبل التقييم الأخلاقيّ (وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى وأن سعيه سوف يرى) (سورة النجم، الآيتان: 39 ـ 40).


يُطلق على الصفة النفسية الثابتة في قلب الإنسان والتي أصبحت بمثابة الملكة عنده "الخُلُق" لغة، حيث إنّ الإنسان حينها يقوم فوراً بالعمل الّذي يتناسب مع هذه الصفات وبدون أيّ تأمّلٍ وتردّد.

ولكي تتعرّف أكثر إلى تعريف "الخُلُق" راجع قواميس اللغة، وكذلك: محمّد مهدي النراقي، جامع السعادات، تصحيح وتعليق محمّد كلانتر، ص‏22.

- محمّد بن شاه مرتضى الفيض الكاشاني، الحقائق في محاسن الأخلاق وقرة العيون في المعارف والحكم ومصباح الأنظار، تحقيق وتذييل إبراهيم الميانجي ص54.
- عبد الرزاق لاهيجي، گوهر مراد، ص667.

هذا وعلى الرغم من استعمال الخُلُق لغة في الصفة الثابتة والملكة النفسانية، وهذا هو المراد عادة عند استعماله في علم الأخلاق، إلّا أنّ هذا المصطلح قد يُستعمل بمعنى أعمّ فيُطلق حينئذٍ على مجمل الصفات النفسانية الّتي هي منشأ الأفعال الاختيارية - سواء كانت هذه الصفة ثابتة (ملكة) أم غير ثابتة (حال) - وبناءً على هذا المصطلح فإنّ ما يقوم به البخيل أحياناً من عطاءٍ ولو مع التكلّف يُعتبر عملاً أخلاقيّاً إيجابياً.

وفي المصطلح الثالث تطلق الأخلاق فقط على الصفات الحسنة والفاضلة وحينئذٍ فإنّ الأفعال القبيحة وغير المرضية تسمى باللّاأخلاقيّّة.

والجدير قوله أنّ الخُلُق يُستعمل أحياناً في المحاورات العرفية بمعنى الخُلُق الاجتماعي، وبناءً عليه فإنّ من يحسن التصرّف مع الآخرين يسمى بحسن الأخلاق، وفي مقابل ذلك فإنّ من يسي‏ء التصرّف معهم يسمى بسيئ الأخلاق، إلّا أنّه وبناءً على ما ذكرناه من المعنى اللغويّ والاصطلاحي للأخلاق فإنّ الأخلاق لا تختصّ فقط بالأخلاق الاجتماعية.

ربما يمكن اعتبار علم الأخلاق متّحداً مع الأخلاق المعيارية (No rmative Ethics) إلّا أنّ بعضهم اعتبر أنّ هذه الأخيرة قسمان: القسم الأوّل منها يتكلّم عن الملاكات الكلية للأخلاق والآراء المتعدّدة حولها، وفي القسم الثاني يتكلّم عن مصاديق تلك الملاكات الكليّة وقبح الأفعال وحسنها.

وبناءً على هذا التقسيم فإنّنا إذا اعتبرنا إمكانية تحقيق الملاكات الكلية للأخلاق بالبحث والتحقيق العقلي والفلسفي، فإنّ هذا القسم من الأخلاق المعيارية سيشترك مع علم ما بعد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

22

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

  الأخلاق Meta Ethics ( ـ الأخلاق التحليلية Analytic Ethics ـ الأخلاق النقدية (Critical Ethics ـ والذي يُبحث فيه عن الواقع الظاهري للجمل الأخلاقيّّة ومجال عملها وتحليل المفاهيم الأخلاقيّّة في تشكيل فلسفة الأخلاق.


وأمّا لو اعتبرنا أنّ الأخلاق المعيارية تختصّ ببيان الملاك الكلّيّ ومصاديقه فقط، ولا ربط لهذا العلم بالتحقيق العقلي والفلسفي في انتخاب الملاكات، فحينئذٍ يمكن مساواة علم الأخلاق مع علم الأخلاق المعيارية.

وفي هذه الصورة إذا اعتبرنا التحقيق العقلي والفلسفي لانتخاب المعايير والملاكات جزءاً من ما بعد الأخلاق فإنّ فلسفة الأخلاق أيضاً ستكون مساوية لما بعد الأخلاق (يراجع حول هذا الموضوع علي شيرواني، فرا اخلاق، (ما بعد الأخلاق)، ص 15 ـ 20, وصادق لاريجاني، فلسفة أخلاق 1، المجلة التخصصية: كلام اسلامي العدد 11، ص71, وارنوك، فلسفه اخلاق در قرن بيستم ترجمة وحواشي ابو القاسم فنائي، مقدّمة المترجم، ص 32 ـ 35).

بالنسبة لموضوع علم الأخلاق والهدف الأصلي منه يوجد رأيان واتجاهان أساسيان:

أوّلهما: أنّ المتّصف أصالة بالقيم الأخلاقيّّة هي بعض الصفات الداخلية، وبالتالي فإنّ علم الأخلاق يتكفّل ببيان قيمة وضرورة وجود هذه الصفات النفسانية، وكذلك فإنّ هدف علم الأخلاق هو تزيين النفس بالملَكات النفسانية الفاضلة وتخليتها من الصفات الرذيلة والوصول إلى كمال النفس.

وأمّا الأفعال والسلوكيات - ومع أنّه يُبحث عن قيمتها بناءً على هذا الرأي - فإنّها في الواقع وسيلة لتحقّق الصفات الراسخة عند الإنسان، ومن آثار تلك الصفات النفسانية.

وقد اختار علماء الأخلاق المسلمون - بناءً على الرؤية المعرفية للإنسان عندهم - هذا الاتجاه القائل بأنّ حقيقة وجود الإنسان يتقدم بنفسه المجردة وأنّ الكمال والنقص الواقعيّ عند الإنسان يراد منه نفسه وروحه، وبعبارة ثانية فإنّ الكمال والنقص الحاصل للإنسان في هذه الدنيا بسبب أفعاله الاختيارية يبقى متعلقاً بروحه وأنّ الإنسان بعد موته سيحشر معها.

(راجع: محمّد مهدي النراقي، جامع السعادات، الباب الأول، نصير الدين الطوسي، أخلاق ناصري، تصحيح وتوضيح مجتبى مينوي وعلي رضا حيدري، ص48، ابن مسكويه، أحمد بن محمد، تهذيب الأخلاق، ص‏5, ابن مسكويه، أحمد بن محمد، كيمياي سعادت، ترجمة طهارة الأعراق، ترجمة أبو طالب زنجاني ص27). 

الثاني: وهو ما خرج عند علماء الأخلاق في الغرب، حيث يعتبرون أنّ القيم الأخلاقيّّة ناظرة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

23

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

  فقط إلى السلوك الإنساني، وأنّ علم الأخلاق ينظر فقط إلى بيان قيمة السلوك وضرورته، وأنّ الهدف الأصلي لعلم الأخلاق هو تصحيح هذا السلوك ولا يوجد أيّ هدف له ما وراء ذلك، يقول فولكيه: "إنّ علم الأخلاق عبارة عن مجموعة قوانين السلوك الّتي تمكّن الإنسان من خلال العمل بها من الوصول إلى هدفه" (راجع: عبد الرحمن بدوي، الأخلاق النظرية، ص‏10)، ويذكر جكس أيضاً أنّ: "علم الأخلاق عبارة عن تحقيق السلوك الإنساني بالشكل الّذي يجب أنْ يكون عليه" (جكس، فلسفة اخلاق (الحكمة العمليّة)، ترجمة الدكتور أبو القاسم بور حسيني ص9). 


هذا ويذهب الاتجاه الأوّل إلى تسمية الأخلاق بالفضيلة فيقول أخلاق الفضيلة (Ethics of Virtue) وأما الاتجاه الثاني فيسميها بالوظيفة أو العمل ويطلق عليها أخلاق الوظيفة أو العمل (Ethicsof Duty).

وقد اختلف فلاسفة الأخلاق أيضاً حول مصداق هدف علم الأخلاق وتعيين ملاك التقييم للبيانات الأخلاقيّّة، وسوف نتعرض إلى ذلك بالبحث والتحقيق في الفصول الآتية.
لقد طُرحت حول "الأخلاق" أسئلة متنوّعة، وقد تكفّلت علوم متعدّدة الإجابة عنها. وفي هذا المجال وبغضّ النظر عن "علم الأخلاق" و"فلسفة الأخلاق" نشير إلى "الأخلاق العمليّة" والّتي تذكر الأساليب العمليّة للتحلّي بالفضائل والتخلّي عن الرذائل، وكذلك تبيّن طرق السير والسلوك من الناحية الأخلاقيّّة. وقد تعرّض علماء الأخلاق المسلمون إلى ذلك في كتبهم الأخلاقيّّة.

وكذلك نذكر "الأخلاق التوصيفية" Descriptive Ethics والتي تصف أخلاقيّات الأفراد وسيرتهم العمليّة، وتتكلّم عن المجتمعات والأديان والمذاهب.

كما ويمكن أنْ يكون نفس علم الأخلاق موضوعاً للبحث، حيث يبحث عن تاريخ هذا العلم والهدف منه وفائدته وحياة علماء الأخلاق العظام وغيرها من المسائل الّتي تُذكر عادة في مقدّمة علم الأخلاق أو يمكن اعتبارها علماً مستقلّاً بحدّ ذاته.

لقد ظهرت أنواع متعدّدة من العلوم بناءً على الحاجة إليها والتوسع في مسائلها حتى أصبحت علوماً مستقلة بحد ذاتها، وفلسفة الأخلاق من هذا القبيل ولا تُعدّ استثناءً من القاعدة، حيث إنّ مسائل فلسفة الأخلاق كانت متفرقة هنا وهناك أو تُذكر عند الابتلاء أو السؤال، فذُكر بعضها في كتب أصول الفقه (ومن جملتها بحث القبح العقلي للعقاب بلا بيان، والذي هو مبنى البراءة العقلية، وكذلك المستقلّات العقلية)، وذُكر بعضها في كتب الكلام (في بحث الحسن والقبح الذاتي والعقلي، عند الاستدلال العقلي على الحكمة الإلهية والعدل الإلهي)، وفي الفلسفة وعلم المعرفة أيضاً (في بحث المفاهيم الاجتماعية هل هي حقيقية أم اعتبارية، وكذلك ارتباط هذه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

24

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

  المفاهيم والبيانات الأخلاقيّّة بالواقع)، وكذلك ذُكرت في علم الأخلاق (عند بيان الخير والشر الحقيقيّين).

 
من الممكن أنّ يقال إنّنا لمّا كنّا مسلمين فإنّه يمكننا الإجابة عن هذه الأسئلة المتعدّدة بناءً على عقائدنا الدينيّة، وبناءً على ذلك فإنّنا لا نحتاج إلى تحقيقها من الناحية العقليّة.
ومن ثمّ وحيث إنّنا نعتقد بحقانيّة ديننا بالدليل والبرهان سوف ندعو الآخرين، وللتصديق بصحة إجاباتنا عن هذه الأسئلة، إلى التحقيق في أدلّة إثبات حقانية الإسلام، وعندئذٍ وفي ظلّ ذلك سوف يدركون حقانية مذهبه الأخلاقيّ. وبعبارة أخرى يمكن إثبات حقانية دين الإسلام بشكل كلّي بالاستفادة من علم الكلام أو الأصول العقائدية، ومن ثمّ سوف نجد إجابات هذه الأسئلة بالمطالعة التفصيلية من الداخل الديني.
 
ومثالاً على ذلك فإنّه بالاستناد إلى أنّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان من جملة أهداف بعثته المباركة تتميم مكارم الأخلاق1 ، وكذلك إلى أنّ الدين الإسلامي قد اكتمل في زمان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا"2، وإلى أنّ رسالة نبيّ الإسلام عامّة وعالمية "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"5 "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا"3، وإلى أنّ الحلال والحرام المبيَّنينَ في هذا الدين ثابتان إلى يوم القيامة (فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)4، بالاستناد إلى كلّ ذلك يمكن القول إنّ الأخلاق ليست نسبيّة ولا توافقيّة ولا شخصيّة، وإنّ الأخلاق الواقعيّّة لا بدّ من البحث عنها من داخل الدين وتعلّمها والعمل بها.
 
إلا أنّه لا بد من الالتفات ها هنا إلى بعض الملاحظات الهامّة:
 
أوّلاً: لا بدّ لنا أنْ نقبل، وبنفس المقدار الّذي نعتبر فيه ضرورة تحقيق هذه الإجابات من خلال المطالعة الداخلية للدين، بضرورة وجود علم آخر يتكفّل بيان هذه الأمور، وكما هو الحال في علم الفقه وعلم الكلام واللذين هما علمان مستقلّان إلّا أنّهما يتكفّلان ببيان قسمٍ من المعارف الدينيّة. أما البحث 
 
 


1- بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق، بحار الأنوار، ج‏70، الباب 59، الحديث 18.
2- سورة المائدة، الآية: 3.
3- الأنبياء، الآية: 107.
4- الفرقان، الآية: 1.
5- بحار الأنوار، ج‏11، الباب الأول، الحديث 55، وكذلك الجزء 47، الباب 4 الحديث 33.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

25

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

 حول أسلوب التحقيق في فلسفة الأخلاق أيّ أنّه هل يجب أنْ نجيب عن الأسئلة المذكورة بالأسلوب العقلي أو أنّه يمكن الإجابة عنها من خلال الدين فهو مسألة أخرى.


ثانياً: إنّ التحقيق العقلي حول هذه الأسئلة يعطينا فرصة مستقلّة للدفاع العقلاني عن الدين الإسلامي، وإثبات حقانيته، بغضّ النظر عن البحوث الكلامية كالنبوّة والإمامة والعصمة وغيرها. ومن الواضح أنّ مثل هذا الدفاع العقلاني عن أيّ مسألة من مسائل الدين وفروعه - والتي يمكن للعقل البشريّ تحقيقها - لن يكون غير مذموم فحسب بل يمكن اعتباره عاملاً مكملاً لإثبات حقانية الإسلام وكذلك عاملاً مهماً في استقطاب الباحثين عن الحقيقة إلى هذا الدين، بل ربما يمكن القول إنّ هذا الطريق هو أقصر الطرق وأفضلها لإثبات حقانية المذهب الأخلاقيّ في الإسلام في مقابل بقية المذاهب الأخرى.

ثالثاً: سنرى في الفصول الآتية أنّ الحاجة الأساسية للبشر إلى الدين في مجال الأخلاق إنّما هي في موقع عدم استطاعة عقل الإنسان لوحده التشخيص الصحيح لآثار سلوكه، وكذلك فإنّ الأوامر الدينيّة الأخلاقيّّة في الموارد الّتي لا يستقلّ العقل فيها بتشخيص جهات القبح والحسن فيها هي أوامر إرشادية.

وبناءً عليه لو كان لدينا بعض القيم الأخلاقيّّة الّتي يحكم بها العقل ولم يتبيَّن في المتون الدينيّة فلن يُعتبر هذا الأمر نقصاً في الدين ولن يكون بمعنى أنّنا لا نقدر على تشخيص تكليفنا في هذه الموارد، بل لا بدّ لنا حينها من اتباع حكم العقل، لكن ها هنا ما هو ملاك التشخيص الصحيح للعقل هي هذه الموارد؟ وبأي دليلٍ اعتمدنا على حكم العقل فيها؟ وهنا نسأل: ألا يعتبر الأشعري نفسه مسلماً مع أنّه يتعبّد فقط بالأخلاق المنصوصة ولا يقبل حكم العقل بحسن الأفعال وقبحها؟

والأهم من ذلك أنّ القيم الأخلاقيّّة إذا لم يكن لها أيّ ارتباط بالواقعيّات فلماذا يجب علينا إطاعة الأوامر الدينيّة وأوامر الله تعالى؟ ومن هو الّذي أصدر "يجب" الأولى وما هو ملاك صحّتها؟

وكما سنرى عند نقد نظريّة الأشاعرة (الأمر الإلهي) فإنّنا إذا لم نقبل بالحسن والقبح الذاتيّين وحجّيّة العقل في موردهما سيبقى لزوم إطاعة الأوامر الإلهية والمقرّرات الأخلاقيّّة الّتي صُرّح بها في النصوص الدينيّة بلا أيّ دليلٍ.

لنفترض ها هنا أنّه بعدما راجعنا النصوص الدينيّة علمنا أنّ الله ورسوله والإمام قد أمرونا بأنّه يجب القيام بالعمل "أ"، وهنا لو احتملنا أنّ "يجب" هذه كانت مجرّد بيان إحساس أو سليقة الآمر فحينئذٍ ما هو الدليل الملزم لنا بالعمل طبق سليقته؟.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

26

الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها

 وبناءً على ما تقدم فإنّ تحقيق هذه الإجابات من خارج الدين ضروري لإثبات حسن وقبح هذه الأمور الّتي حكم بها العقل ولم يصرح بها في النصوص الدينيّة، وكذلك لإثبات ضرورة إطاعة المقرّرات الأخلاقيّّة المنصوص عليها في المتون الدينيّة.


رابعاً: إنّ تحقيق القواعد الكلية للعقل في مجال حسن الأفعال وقبحها سيعيننا في تشخيص حسن وقبح الأفعال الّتي لم تُطرح في السابق واصطلاحاً الّتي تُسمّى بالمسائل المستحدثة، أو في تشخيص تغيّر قيم الأفعال أو عدم تغيّرها مع طرح الشرائط الجديدة وكذلك أيضاً في موارد تزاحم القيم.

خامساً: كما أنّ العقل القطعي يُعتبر من مصادر معرفة الأحكام كذلك يُعتبر من مصادر معرفة الأخلاق أيضاً، وحينئذٍ عندما يتعارض العقل القطعي مع النقل الظنيّ فإنّ الأوّل حاكمٌ عليه. وحيث إنّ سند بعض المتون الدينيّة أو دلالتها ظنّيّ فإنّ وجود الأحكام القطعية للعقل سوف يعيننا على الفهم الدقيق للقيم الأخلاقيّّة.

ومن جميع ما ذكرناه نستنتج أنّ تحقيق المسائل المذكورة يحتاج إلى علم مستقلٍّ يستخدم أسلوب التحقيق العقلي وهو مقدّم على علم "الأخلاق"، ومثل هذا العلم يسمى بـ "فلسفة الأخلاق".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

27

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 الفصل الثاني:

 
الواقعية1 واللاواقعية في الأخلاق2:
 
يُمكن القول إنّ بحثَي الواقعيّّة واللاواقعيّة من البحوث الأساسية والمحورية من بين البحوث المتعدّدة في فلسفة الأخلاق، حيث إنّ أهمّ مسائل هذا العلم تدور حول هذين البحثين، وكذلك يمكن اعتبارهما كمبنى لتقسيم المذاهب الأخلاقيّّة المتعدّدة. ومن ثمّ فإنّ نتيجة هذا البحث ستكون بمثابة الخطوة الأولى لاتخاذ المذهب الأخلاقيّ المعتبر. وسوف نشير في هذا الفصل ومن خلال توضيح كلٍّ من نظريّتي الواقعيّّة واللاواقعيّة في الأخلاق إلى لوازم كلّ واحدة منهما، وفي الختام سوف نشير إلى موقعية هذا البحث بالمقايسة ببقيّة بحوث فلسفة الأخلاق. 
 
1 ـ النظرية الواقعيّّة واللاواقعيّة 3 في الأخلاق‏
 
تأمّل هذه الجمل:
 
1 ـ (يخاطب القائد جنوده قائلاً): مع الصافرة الأولى انتظموا في الصف، ومع الصافرة الثانية تأهبوا واستعدوا.
 
 


1- Realism.
2- Irrealism.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

28

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 2 ـ الأطعمة الهنديّة لذيذة.

 
3 ـ قرارات هذه الشورى تنفذ بأغلبية الثلثين.
 
4 ـ الحديد يتمدد إثر تعرضه للحرارة.
 
من الممكن ها هنا أنّ تسأل عن علاقة هذه الجمل مع "الأخلاق" أو "فلسفة الأخلاق"، والحقيقة أنّها لا ترتبط بأيّ وجهٍ مع "الأخلاق"، إلّا أنّ فلاسفة الأخلاق مختلفو الرأي في شباهة الجمل الأخلاقيّّة بأي واحدة منها، ومرّة ثانية نمر على هذه الجمل:
 
- الجملة الأولى غير خبرية بل هي مجرد أمرٍ وقرار عسكري أراد القائد من خلالها إظهار ما يريد من جنوده.
 
- الجملة الثانية وإن كانت خبرية إلّا أنّه بالتدقيق في معناها وقبل كونها توصيفاً واقعي4 للأطعمة الهنديّة فإنّها تظهر مذاق وسليقة المتكلّم بها، حيث إنّ الوصف "بكثرة البهارات" يمكن اعتباره وصفاً واقعياً لهذه الأطعمة، وأمّا كونها "لذيذة" فلا يعتبر وصفاً واقعياً لها، أيّ أنّها لا تحكي الواقعيّّة العينية1 للأطعمة الهنديّة.
 
والمعنى الثاني لهذه الجملة أنّ الأطعمة الهنديّة موافقة لذوق قائلها.
 
- الجملة الثالثة بيان لاتفاقٍ خاص يشير إلى أنّ قرارات هذه الشورى مثلاً يمكن تنفيذها إذا حصّلت عدداً معيناً من الآراء. وهذا يرجع إلى التوافق الحاصل بين أعضاء الشورى وبالتالي لا ربط لهذه الجملة بالواقع العيني.
 
- وأخيراً فإنّ الجملة الرابعة هي الّتي تصف فقط الواقع العيني، حيث إنّها تبيّن الرابطة الواقعيّّة 5 بين الحرارة وتمدّد الحديد، ومثل هذه الرابطة خالية من أيّ نوع من الأوامر والانفعالات والذوقيات أو توافق الأفراد واصطلاحاً تسمى الرابطة العينية والواقعيّّة.
 
 
 

1- Objective Reality.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

 


29

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 تعريف:

 
إنّ الجمل الواقعيّّة بياناتٌ تصف الواقع العيني بغضّ النظر عن الأوامر والتوصيات والانفعالات والذوقيات والتوافقات.
 
وبناءً على هذا التعريف فإنّ الجمل الأولى إلى الثالثة "غير واقعيّة" وأمَّا الجملة الرابعة فهي فقط "واقعيّة".
 
وعليه فالسؤال المطروح هنا: هل أنَّ الجمل الأخلاقيّّة تشبه أيّ واحدة من الجمل الأربع المذكورة؟.
 
لقد اختلفت إجابات المذاهب الأخلاقيّّة حول هذا السؤال، فذهب بعضها إلى اعتبار أنّ الجمل الأخلاقيّّة هي مجرّد إنشاء أوامر ونواهٍ وتوصيات1 بالقيام أو عدم القيام ببعض الأعمال، وبرأي بعضها الآخر فإنّ هذه الجمل بيان لسليقة الفرد وإبراز لإحساسه2. وذهب فريق ثالث إلى اعتبارها حصيلة لتوافق الجماعة3، وأمّا الفريق الرابع فقد اعتبر الجمل الأخلاقيّّة حاكية عن الواقعيات العينية. بغض النظر عن الأوامر والنواهي والتوصيات والإحساس والذوق والاتفاقات والمعاهدات.
 
ومثالاً على ذلك لنأخذ هذه الجملة الأخلاقيّّة "الصدق حسن". بناءً على المذاهب الأخلاقيّّة المختلفة فإنّ هذه الجملة تساوي إحدى هذه الجمل الأربعة:
 
أ - قل الصدق.
 
ب - الصدق مقبول.
 
ج - تعاهدنا على أنّ نكون صادقين.
 
د - للصدق وصف واقعيّ تشير كلمة "حسن" إليه.
 
إنّ كافة المذاهب الّتي لا تعتقد بالواقعيّّة العينية للقيم والضرورات الأخلاقيّّة بل
 
 
 

1- الآمرون: imperativists. الموصون: prescriptivist.
2- والانفعاليون:emotivists
3- المتعاهدون: conventionalist .

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

30

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

  تعتقد بأنّ الجمل الأخلاقيّّة شبيهة بالجمل الثلاث الأولى، وأنّ مثال "الصدق حسن" يعادل الجمل "أ" و"ب" و"ج"، تسمّى المذاهب الأخلاقيّّة اللّاواقعيّة. ومن ناحية أخرى فإنّ المذاهب القائلة بالواقعيّّة العينية للقيم والضرورات الأخلاقيّّة وأنَّ الجمل الأخلاقيّّة شبيهة بالجملة الرابعة الآنفة الذكر وإنّها تساوي في المثال السابق ـ"د"، تسمّى المذاهب الأخلاقيّّة الواقعيّّة.



وبناءً عليه يمكن تعريف الواقعيّّة واللاواقعيّة في الأخلاق على هذا النحو:

الواقعيّّة في الأخلاق تعني أنّ القيم والضرورات الأخلاقيّّة لها واقعيّة عينية وأنّ الجمل الأخلاقيّّة حاكية للواقع.

وأمّا اللاواقعيّة فتعني أنّ القيم والضرورات الأخلاقيّّة لا واقعيّة لها وأنّ الجمل الأخلاقيّّة لا تحكي الواقع67.

وبناءً عليه، من هنا فصاعداً سوف نعبِّر باختصار عن الواقعيّّة في الأخلاق "بالواقعيّّة"، وكذلك عن اللاواقعيّة في الأخلاق "باللاواقعيّة".

وقد تعرّفنا حتّى الآن إلى الواقعيّّة واللاواقعيّة. لكنْ أيّهما هي النظريّة الصحيحة؟ وكيف يمكن تشخيص النظرية الصحيحة؟

ربما يكون من المناسب قبل بيان الحلِّ وتوضيحه وإبداء رأينا في هذا المجال أنْ نبين أهميّة هذا البحث وما هي لوازم وآثار واقعيّة القيم واللوازم الأخلاقيّّة ولا واقعيتها، وكذلك مشابهة الجمل الأخلاقيّّة لإحدى الجمل الأربعة السابقة وعدمها، وهل أنّ البحث في معنى الجمل الأخلاقيّّة مجرّد بحثٍ أدبي، وما هو تأثير موقفنا في هذا المجال من مختلف مواقفنا في بقية بحوث فلسفة الأخلاق، بل هل سيؤثر في كلّ مواقفنا الأخلاقيّّة أم لا. ولتوضيح هذا الموضوع لا بدّ لنا من تحقيق وبيان لوازم الواقعيّّة واللاواقعيّة حتى يتبين معنا التفاوت الموجود بين هاتين النظريتين بما لا لبس فيه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

31

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 2 ـ لوازم اللاواقعيّة


لنفترض صحة نظرية اللاواقعيّة، وأنّ الجمل الأخلاقيّّة لا تحكي الواقع. وفي هذه الصورة فإنّ قولنا "الصدق حسن" شبيه بإحدى الجمل من (1) إلى (3) ويعادل إحدى الجمل من (ألف) إلى (ج). وعليه سوف نعالج لوازم هذه النظرية مع الالتفات إلى الجمل الشبيهة والمعادلة لها.

1 ـ 2. عدم قابليّة الصدق والكذب‏

أي واحدة من الجمل (1) إلى (3) صادقة وأيها كاذبة؟ وهل (ألف) و (ب) و(ج) كذلك أم لا؟

إنّ الصدق يعني مطابقة الخبر للواقع. وأمّا الكذب فيعني عدم هذه المطابقة. لكنّ هذه الجمل الثلاث لم يشر أيّ منها إلى الواقعيّّة العينية. وكما أشرنا فإنّ الجمل الأخلاقيّّة بناءً على اللاواقعيّة لا تحكي الواقع، أيّ أنّها لا تحكي الواقعيّّة العينية، وفي النتيجة فإنّ مطابقة أو عدم مطابقة الجمل الأخلاقيّّة للواقع العيني ستكون بلا معنى وبالتالي فإنّ الجمل المذكورة لا قابليّة لها للصدق أو الكذب8.

2 - 2. عدم إمكانية النفي والإثبات‏

"مؤتمر تحقيق لذّة الأطعمة الهنديّة أو عدم لذّتها" أوليس هذا مدعاة للسخرية والاستهزاء؟

ماذا يريدون القول في هذا المؤتمر؟ وما هو الشي‏ء الّذي يريدون إثباته أو نفيه؟

لو تصدّى أحدهم عن طريق البحث والحوار لإثبات صحة ذوقه وإقناع الآخرين به، أو لانتقاد سليقة الآخرين وردّها، فلن يكون هذا العمل معقولاً، لأنّ الإثبات يعني الإشارة إلى صدق القول و "النفي" يعني الإشارة إلى كذبه، والحال أنّ الجُمل الأمريّة والانفعاليّة والتعاهديّة لا تحتمل الصدق والكذب وبالتالي لا إمكانية لإثباتها أو نفيها.

وبناءً على قبول النظريّة اللاواقعيّة فإنّ الجُمل الأخلاقيّّة ستكون من قبيل الجُمل الأمرية والانفعالية أو التعاهدية أيضاً، وفي النتيجة لا يمكن توقّع واحتمال صدق وكذب 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

 


32

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 الجمل الأخلاقيّّة أو إثبات صحة وعدم صحة بعض المذاهب الأخلاقيّّة، ومن غير المعقول أنْ نلجأ إلى الحوار والبحث للدفاع العلميّ عن نظرياتنا الأخلاقيّّة، ولذا وبناءً على هذه النظريّة فإنّ كلّ من يقوم بالبحث والحوار في مجال الأحكام الأخلاقيّّة وكذلك الدفاع عن آرائه لإثباتها أو الإصرار على الترجيح المنطقي لمذهب أخلاقيّّ ما على غيره من المذاهب أو لأيّ سبب آخر - كتربية الآخرين - يصدر أوامره وتوصياته، ومن ثمّ يتوقّع من الآخرين قبولها والاعتقاد بصحتها، لنْ يُعتبر عمله معقولاً وصحيحاً.


3 ـ 2. عدم الرابطة المنطقية بين "يجب" و "موجود"9

تأمل في هاتين الجملتين أيضاً:

5- الأطعمة الهنديّة كثيرة البهارات.‏

إنّ هذه الجملة تشبه الجملة (4) في حكايتها للواقع، وحينئذٍ هل يمكن أنْ نستدل ونستنتج الجملة (2) والواردة أيضاً في خصوص الأطعمة الهنديّة (الأطعمة الهنديّة لذيذة) من الجملة الخامسة؟

من الناحية المنطقيّة هناك طريق وحيد وهو ضمّ الجملة الآتية إلى الجملة الخامسة:

6- الأطعمة المليئة بالبهارات لذيذة.

إلّا أنّ هذه الجملة لما كانت لا تحكي الواقع فهي شبيهة بالجمل(2)، وبناءً عليه نستنتج أنّه لا يمكن ترتيب أيّ استدلال تكون كلّ مقدماته حاكية للواقع للوصول إلى الجملة الثانية.

ولتعميم هذا المطلب يمكن بيانه على شكل قاعدة كلية:

لا يمكن استنتاج الجمل اللاواقعيّة من البيانات الواقعيّّة.

والآن لنفترض أنّ الجمل الأخلاقيّّة لا تحكي الواقع، وفي هذه الصورة وطبقاً للقاعدة الّتي بين أيدينا فإنّه لا يمكن استنتاجها من البيانات الواقعيّّة، وبعبارة أخرى فإنّه بناءً على اللاواقعيّة لا يوجد أيّ ارتباط منطقيّ بين الجمل الأخلاقيّّة والبيانات الواقعيّّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

33

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 تمرين: لاختبار القاعدة السابقة اذكر جملتين يمكن من خلالهما استنتاج (ألف)، وكرّر هذا النحو مع (ب) و(ج).

 
هل يمكن أنْ تكون كلّ الجمل الّتي تختارها واقعيّة؟ ولماذا؟
 
أحياناً وبدل القول إنّه لا يوجد أيّ ارتباط منطقيّ - بناءً على اللاواقعيّة - بين الجمل الأخلاقيّّة والبيانات الواقعيّّة، يقال إنّه وبناءً عليها لا يوجد أيّ ارتباط منطقيّ بين "يجب" و "موجود" أو بين "القيمة" و "الواقع"، أو بين "العمليّ" و "النظريّ".
 
وسوف نشير بالبيان التالي إلى سبب هذه التسميات: ذكرنا في الفصل السابق أنّ الجمل الأخلاقيّّة تبيّن القيم الأخلاقيّّة لصفات الإنسان وسلوكه، ولزومها، وكما سنرى في الفصل الرابع أنّ القيم الأخلاقيّّة سوف تُبيَّن بمصطلحات من قبيل "حسن" و "قبيح"، وأنّ اللزوم الأخلاقيّ أيضاً سوف يبيَّن بمصطلحات من قبيل "ينبغي" و "لا ينبغي"، لكنْ وبغضّ النظر عن تفاوت هذه المصطلحات فيما بينها من حيث المعنى أم لا فإنّه يمكن بيان كلّ الأحكام الأخلاقيّّة بصورة قيمية أو لزوميّة، ومثالاً على ذلك فإنّ هاتين الجملتين "الصدق حسن" و "ينبغي قول الصدق" يمكن استعمالهما بدل كلّ واحدة منهما ولهذا السبب تُعتبر الأخلاق من قبيل "القيم" و "اللزوم والناظرة إلى العمل".
 
وكما هو الحال في بعض العلوم الأخرى كالفيزياء والهندسة والتاريخ حيث إنّها تحكي الواقعيّات، لذا يمكن بيانها كلها بـ "موجود" أو "غير موجود" ولهذا اعتبرت من قبيل "الواقع" و "الموجود" ومرتبطة "بالنظر"1.
 
ومع الالتفات إلى هذا المصطلح يمكن القول بناءً على اللاواقعيّة إنّه لا يوجد أيّ ارتباط منطقيّ بين "القيمة" و"الواقع" و"العمل" و "النظر" وهناك هوة عميقة بين قولنا "ينبغي" و "موجود".
 
 
 

1- في الواقع فإنّ قولنا "ينبغي" و "موجود" يشير إلى نوع هذه الجمل حتى ولو لم نستعمل هاتين الكلمتين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

34

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 4 ـ 2. لزوم تعيين منشأ الأحكام الأخلاقيّّة وطريق الكشف عنها وأدلة اعتبارها


كيف تنشأ الأحكام الأخلاقيّّة؟ وكيف يُكشف عنها؟ ولماذا يجب القبول بها؟

في الحقيقة فإنّ كلّ المذاهب الأخلاقيّّة تواجه مثل هذه الأسئلة. وعليه فإذا قبلنا الواقعيّّة وقلنا إنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة واقعيّة فحينئذٍ يمكننا وبنفس الأسلوب الّذي نحقق ونكشف به سائر الواقعيّات أنْ نكشف عن الواقعيّّة في مورد بحثنا، وبالطبع إذا تطابقت الجمل الأخلاقيّّة مع الواقعيّّة الّتي تحكيها ستقع مورداً للقبول بها.

وأما بناءً على اللاواقعيّة وأنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة لا واقعيّة لها، وبالتالي فإنّ الجمل الأخلاقيّّة لا تحكي الواقع، حينئذٍ سوف نواجه ثلاثة أسئلة محوريّة وهامّة:

1 ـ ما هو منشأ الأحكام الأخلاقيّّة؟ وكيف تظهر مثل هذه الأحكام؟ مثلاً: إذا لم يكن لدينا أيّ واقعيّة تكون منشأً لاعتبار أنّ الصدق حسن، فما هو الشي‏ء الملزم لنا لاعتبار حسن الصدق؟ وهل يمكن إيجاد مثل هذا الحكم عبر أوامر وتوصيات الأفراد، أم أنّ الانفعالات الداخليّة وميول الأشخاص وإرادتهم توجب ذلك أم أنّ التعهد والتوافق هو منشأ هذا الحكم؟

2 ـ بناءً على هذا الفرض، بأي أسلوب يمكن لنا تشخيص ماهية الأحكام الأخلاقيّّة؟ هل هو بالرجوع إلى الأوامر الدينيّة أم أوامر نخب المجتمع أو بالرجوع إلى الثقافة والعادات والتقاليد الاجتماعيّة، أو بالسؤال من آحاد أفراد المجتمع، أو بالمطالعات النفسيّة للأفراد أو المجتمع، أو بالاستناد إلى الآثار التاريخية والاحصاءات والتحقيقات الميدانيّة أو أساليب أخرى الخ؟

3 ـ لماذا يجب علينا في كلّ موردٍ قبول الأحكام الأخلاقيّّة المرتبطة به بعد الكشف عنها أو ظهورها؟

نحن نقبل بأنّ مجموع الزوايا الداخليّة لأيّ مثلّث هي 180 درجة لأنّ الروابط الواقعيّّة الرياضيّة والتي كُشف عنها بمعونة العقل توجب ذلك، ونقبل أيضاً بأنّ المعادن تتمدّد بالحرارة وقد ثبت ذلك بالتجربة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

35

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 وبعبارة أخرى فإنّنا نستنتج البيانات الواقعيّّة من بيانات واقعيّة أخرى، ولكنْ إذا لم يكن لحسن الصدق منشأ واقعيّ ولم نتمكّن من استنتاج الجمل الأخلاقيّّة من البيانات الواقعيّّة، فحينها بأيّ دليل يجب علينا أنْ نقبل بأنْ الصدق حسن؟ وهل يمكن للأوامر والطبائع والتوافق الجمعي أنْ تكون دليلاً مناسباً للقبول بحسن الصدق أم أنّ كلّ الأحكام الأخلاقيّّة لا اعتبار لها؟ وهنا نقول إنّه لا بدّ لكلّ معتقدٍ باللاواقعيّة في الأخلاق أنّ يجيب عن هذه الأسئلة الثلاثة، أيّ لا بدّ له من تعيين المنشأ اللاواقعيّ للأحكام الأخلاقيّّة، وأنْ يشخّص أسلوب كشفها، وفي صورة قبوله بالأحكام الأخلاقيّّة لا بدّ أنْ يبيّن لنا دليل اعتبارها ومقبوليتها.

 
5 ـ 2. التعدديّة الأخلاقيّّّة 1
 
إنّ الشخص الّذي لا يحبّ الأطعمة الهنديّة الحارة يمكنه أنْ يقول إنّ الأطعمة الهنديّة غير لذيذة.
 
وهنا فإنّ هاتين الجملتين: "الأطعمة الهنديّة لذيذة" و"الأطعمة الهنديّة غير لذيذة" متناقضتان في الظاهر فقط، لأنّه لا يمكن القول إنّ إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، فالسلائق والطبائع متفاوتة وبالتالي فإنّ كلّ واحدة من هاتين الجملتين مقبولة بنفس المقدار، وكذلك الحال في الأوامر والتوصيات والتوافقات الصادرة عن الأفراد والجماعات والمتناقضة في الظاهر، وكما أشرنا إليه بالقول فإنّه بناءً على اللاواقعيّة لا قابليّة لأيّ جملة أخلاقيّّة للصدق والكذب الواقعيّ، وفي النتيجة وطبقاً لهذه النظرية فإنّ كلا الجملتين المتناقضتين في الظاهر من الناحية الأخلاقيّّة يمكن قبولها. ولمجرد التمثيل نقول إن هاتين الجملتين "الصدق حسن" و "الصدق غير حسن" لا بدّ من قبولهما بنفس الدرجة والمقدار، وبناءً عليه فإنّ المذاهب الأخلاقيّّة والمتناقضة أخلاقيّّاً في الظاهر لا أفضليّة لأحدها على الآخر بل إنّ جميعها مقبول بنفس المقدار، ومثل هذا القبول بكلّ المذاهب الأخلاقيّّة
 
 
 

1- Ethical Pluralism.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

36

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

  المختلفة يسمّى "التعدديّة الأخلاقيّّة". والقبول بالتعدديّة الأخلاقيّّة يعتبر من لوازم القول باللاواقعيّة.


6 ـ 2. النسبيّة الأخلاقيّّة 1

المراد من النسبيّة الأخلاقيّّة هو أنّ أيّ حكم أخلاقيّ ليس كلّياً ومطلقاً، وبعبارة أخرى فإنّها تعني أنّ للأحكام الأخلاقيّّة شرائط اعتبارٍ، وبالتالي فإنّ هذه الأحكام تكون معتبرة فقط بالنظر إلى هذه الشرائط. وعليه لو حُذفت هذه الشرائط من أيّ جملة أخلاقيّّة فإنّ الجملة الأخلاقيّّة المتناقضة معها يمكن قبولها تحت شرائط أخرى، ومثالاً على ذلك يعتقد بعض القائلين بالنسبيّة الأخلاقيّّة، أنّ الحكم الأخلاقيّّ "الحجاب حسن للنساء" معتبَر فقط في بعض المجتمعات الخاصّة، ولذا يمكن القبول بأن "الحجاب غير حسن للنساء" في مجتمعات أخرى معتبرٌ بنفس المقدار أيضاً.

ومن جهة أخرى فإنّ القائلين باللاواقعيّة لا يقبلون بالمنشأ الواقعيّ للقيم واللزوميات الأخلاقيّّة ولذا فإنّهم يقيّدون أيّ حكم أخلاقيّ كما في الجمل الأولى إلى الثالثة بأمور غير واقعيّة كالأوامر والتوصيات والأحاسيس والانفعالات وكذلك التوافق والتعاهد.

وفي رأيهم أيضاً أنّه لا يمكن إيجاد أيّ حكم أخلاقيّّ يمكن اعتباره من دون هذه الأمور اللاواقعيّة، وعليه لو كان العمل (ألف) حسناً، فإنّ حسنه مشروط ومقيدٌ بأنّ شخصاً ما قد أمر به أو أنّ فاعله شعر بإحساس مقبول نحوه أو أنّ المجتمع قد توافق عليه، وبناءً عليه وطبقاً لرأي القائلين بالواقعيّّة فإنّه لا يوجد أيّ حكم أخلاقيّّ معتبر بلا أيّ قيد أو شرط، وفي النتيجة يمكن القول إنّ النسبيّة الأخلاقيّّة من لوازم القول باللاواقعيّة.

وبناءً على النسبيّة الأخلاقيّّة فإنّ أحكامنا على القيم الأخلاقيّّة ستكون من قبيل هذه الأمثلة.
 
 
 
 
 

1- Ethical Relativism.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

37

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 المثال الأول: من الممكن أنْ ينهانا أحدهم عن ترجيح منفعتنا الشخصيّة على منفعة الآخرين وفي نفس الوقت قد يأمرنا أحدهم بهذا الفعل، ولذا فإنّ ترجيح المنفعة الشخصيّة على منفعة الآخرين ونظراً للقرار الأوّل سيئة لكن نظراً للقرار الثاني حسنة.

 
المثال الثاني: من الممكن أنّ يكون العفو عن الآخرين مُرْضياً عندكم ولكنّه غير مُرْضٍ عند أحدهم، ولذا فإنّ مسامحة الآخرين حسنة عندكم وقبيحة عند ذلك الشخص.
 
المثال الثالث: من الممكن أنْ يكون الناس في مجتمعكم قد توافقوا على ضرورة إعانة المحرومين لكنّهم توافقوا في مجتمع آخر على عدم لزوم ذلك، ولذا فإنّ إعانة المحرومين حسنة في مجتمعكم وقبيحة في ذلك المجتمع.
 
هذا ومن الممكن في مورد هذه الأمثلة الثلاثة أنّ ذلك الشخص ـ الّذي كان ينهى عن تقديم المنفعة الشخصيّة على منفعة الآخرين ـ يأمر هو نفسه بها، ومن الممكن أيضاً أنْ يستبدل رأينا في مورد العفو والتسامح عن الآخرين، وبالتالي يتوافق مجتمعنا على ضرورة عدم إعانة المحرومين، وفي المقابل أيضاً من الممكن أنْ تتبدّل آراء وسلائق وتوافق الطرف الآخر على ما يعاكسها، وحينئذٍ بناءً على النظرية اللاواقعيّة فإنّ كلّ الأحكام الأخلاقيّّة حالها حال هذه الأمثلة الّتي ذكرناها، وبالتالي فإنّها قابلة للتغير والتبدّل، وعليه فلا يوجد أيّ حكم مطلق وثابت في مورده11.
 
3 ـ لوازم الواقعيّّة
 
والآن لنفترض أنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة واقعيّة وأنّ البيانات الأخلاقيّّة حاكية للواقع أيضاً. أيّ أنّ جملة "الصدق حسنٌ" تعادل (د): (للصدق وصف واقعيّ تشير إليه كلمة "حسن") وفي هذه الصورة فإنّ الجمل الأخلاقيّّة يمكن أنّ تكون شبيهة بقولنا في الجملة:
 
(4): "المعادن تتمدّد إثر تعرّضها للحرارة"، وأيضاً بقولنا في الجملتين الآتيتين:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

38

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 (7): "مجموع الزوايا الداخلية لكل مثلّث 180 درجة".


(8): "اجتماع النقيضين محال".

وسوف نحقق ها هنا لوازم هذا الرأي مع الالتفات إلى خصائص الجمل (4) و (7) و(8).

1 ـ 3. قابلية الصدق والكذب‏

إنّ الجملة (4) فيزيائية والجملة (7) هندسية والجملة (8) بديهية عقلية. وكلّ واحدة منها تحكي واقعيّة خاصّة بها، وبالتالي إذا تطابقت هذه الجمل مع الواقعيّات المرتبطة بها ستكون صادقة وإلا ستكون كاذبة.

وبناءً على الواقعيّّة فإنّ الجمل الأخلاقيّّة مثل (د) تحكي أيضاً واقعيّة خاصّة بها، ولهذا فإنّها تقبل الصدق والكذب الواقعيّين أيّ أنّه إذا تطابق تقريرها مع الواقع فهي صادقة والأخرى كاذبة، وبناءً على الواقعيّّة أيضاً سيكون من المعقول تحصيل الأحكام الأخلاقيّّة وكذلك تحصيل المذاهب الأخلاقيّّة الّتي يمكن الاعتماد عليها، وأخيراً، إمكانية البحث والحوار حولها أيضاً.
2 ـ 3. لزوم تعيين واقعيّة الأحكام الأخلاقيّّة، وأسلوب تحقيقها ودليل اعتبارها.

أشرنا إلى أنّ الجمل (4)، (7) و(8) ناظرة إلى واقعيات خاصّة بها وتحكيها، فالرابعة تخبر عن واقعيّة فيزيائية والسابعة عن واقعيّة هندسية، والثامنة عن واقعيّة فلسفية، وبالتالي إذا كان التحقيق حولها لازماً فلا بدّ أنْ يكون أسلوبه معيَّناً على أساس نوع الواقعيّّة المشار إليها، وبالتالي سوف يُعلَم صدق هذه الجمل بهذا الأسلوب:

إنّ الجملة (4) نطاقها عالم الطبيعة ولهذا السبب فإنّ أسلوب التحقيق المناسب لها هو الأسلوب التجريبي.

والجملة (7) نطاقها الروابط العقلية بين الكميات الهندسية ولهذا فإنّ أسلوب التحقيق المناسب لها هو الأسلوب العقلي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

39

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 ومن ثمّ فإنّ التحقيق التجريبي القائم على المشاهدة الحسية وقياس حجم المعادن المختلفة قبل وبعد تعرّضها للحرارة هو دليل اعتبار الجملة (4)، وكذلك فإنّ الاستدلال العقلي بناءً على أساس أصول هندسة إقليدس هو دليل اعتبار الجملة (7)، أما الجملة (8) ورغم كونها ناظرة إلى الواقعيّّة أيضاً إلّا أنها لما كانت بديهية فلا حاجة إلى إثباتها.

ومع القبول بالواقعيّّة تُطرَح ثلاثة أسئلة:

1 ـ ما هو نوع الواقعيّّة في القيم واللزوميات الأخلاقيّّة؟

2 ـ إذا كان التحقيق لازماً في مورد الأحكام الأخلاقيّّة، فما هو أسلوب التحقيق فيها؟

3 ـ إذا كانت الأحكام الأخلاقيّّة بديهية، وتشخيص صدقها ممكناً بلا أيّ دليلٍ، فما هو دليل بداهتها؟ وإذا لم تكن هذه الأحكام بديهية فكيف يتم إثباتها؟

ومثالاً على ذلك فإنّ في مورد الجملة (د) واقعيّة أُشيرَ إليها بكلمة "حسن"، فما هو نوع هذه الواقعيّّة؟ وما هو الأسلوب الممكن للتحقيق حولها؟ وكيف يمكن فهم وإدراك مطابقة أو عدم مطابقة هذه الجملة مع تلك الواقعيّّة؟ وبناءً عليه لا بدّ لأدعياء الواقعيّّة من تعيين الواقعيّّة الّتي تحكيها الأحكام الأخلاقيّّة، وعلى أساسها يُعلم أسلوب التحقيق في المسائل الأخلاقيّّة - عند اللزوم - ويتضح أيضاً دليل اعتبار الأحكام الأخلاقيّّة.

3 - 3. الوحدة الأخلاقيّّة

قلنا إنّ الجمل (4)، و (7)، و(8) تقبل الصدق والكذب واقعاً، وهنا نقول إنّ الجملتين (4) و(7) ورغم أنهما قبل التحقيق وكشف الواقعيّّة فيهما يحتملان الصدق وصدق نقيضهما أيضاً، إلّا أنّه في الواقع إمّا أنْ تكون (4) فقط صادقة أو أنّ نقيضها صادق فقط وكذلك الحال في مورد الجمل (7)، وأما في مورد الجملة (8) ونقيضها أيضاً فإنّ (8) صادقة فقط دون نقيضها.

إذاً بناءً على الواقعيّّة فإنّ القيم المتعارضة في موضوع أخلاقيّ واحدٍ لا يمكن قبولها معاً بل لا بدّ من كون إحداها صحيحة فقط.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

40

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 وكذلك الحال وبشكل أعمّ في المذاهب الأخلاقيّّة المختلفة إذ لا بدّ من كون أحدها صحيحاً فقط، وبالتالي سيكون من غير الممكن القبول بالتعددية الأخلاقيّّة.

 
4 ـ 3. الأخلاق المطلَقة 1
 
ذكرنا فيما سبق2، أنّ المراد من النسبيّة الأخلاقيّّة عدم اعتبار أيّ حكم أخلاقيّّ بلا أيّ قيد وشرط، وفي مقابل ذلك فإنّ الإطلاقية 12الأخلاقيّّة تعني قبولنا ـ وعلى الأقل ـ بوجود بعض الأحكام الأخلاقيّّة المعتبرة بلا أيّ قيد وشرط. فالقائلين بالواقعيّّة ورغم اعتقادهم بوجود المنشأ الواقعيّّ للقيم واللزوميات الأخلاقيّّة يرون عدم ارتباط القيم التالية بأي قيدٍ وشرط:
 
1 ـ الصفات والسلوكيات الاختيارية الموافقة، تحت أيّ شرط، للمنشأ الواقعيّّ للقيم واللزوميات الأخلاقيّّة.
 
2 ـ الصفات والسلوكيات الاختيارية المخالفة لها تحت أيّ شرط.
 
3 ـ الصفات والسلوكيات الاختيارية المقابلة لها تحت أيّ شرط.
 
وفي رأي القائلين بالواقعيّّة، فإنّ"1" حسنة مطلقاً و"2" قبيحة مطلقاً، و"3" فاقدة للحسن والقبح مطلقاً. وبعبارة أخرى وطبقاً للقائلين بالواقعيّّة فإنّ اعتبار بعض الأحكام الأخلاقيّّة - أيّ الأحكام الناظرة إلى الموارد من "1" إلى "3" - غير مقيد بأيّ قيد وشرط.
 
ومثالاً على ذلك نأخذ أحد المذاهب الواقعيّّة المسمى بمذهب النفعية3 أو المنفعة العامة، حيث يرى هذا المذهب الأخلاقيّ أنّ المنشأ الواقعيّ للقيم الأخلاقيّّة هو في النفع الأكبر لأكبر عدد من الأفراد وبالتالي تُقيَّم السلوكيات المختلفة بناءً على هذا المبدأ، ولذا فإنّ هذا المذهب يعتقد بأنّ اعتبار مثل هاتين الجملتين: "القيام بالوظائف العامة حسن" و"الإضرار بعامة الناس قبيح" لا يقيَّد بأيّ قيد وشرط.
 
 
 

1- راجع: 6 ـ 2 من هذا الفصل.
2- Ethical Absolutism.
3- Utalitarianism

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

41

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 نعم من الممكن في رأيهم أنْ يكون إرشاد أحدهم للقيام بعمل ما ضمن ظروفٍ معينة لا يصب في منفعة المجتمع غير حسنٍ بالمطلق من الناحية القيميّة له، لكن في كلّ الظروف والشرائط ما كان حقيقة يصب في خدمة المجتمع وعموم الناس فهو "مطلقاً" حسن، وفي مقابله ما كان حقيقة يوجب الإضرار بعموم الناس فهو "مطلقاً" قبيح.

ويعتقد هذا المذهب أيضاً بأنّ إرشاد الآخرين حسنه مشروط بما ينفع عامة الناس، وبشكل كلّيّ فإنّ ما عدا هذه الأحكام الأخلاقيّّة المعتبرة بلا أيّ قيدٍ وشرطٍ تحتاج لقيود وشرائط، وهذه القيود باعتقادهم قيود واقعيّة ولا ترتبط بأيّ أمر أو توصية أو إحساس أو توافق وتعاهد، وكما هو الحال في اعتبار الجمل (4) (7) و(8) لجهة عدم تقيّدها وارتباطها بأيّ واحد من هذه الأمور.

4 ـ منزلة الواقعيّّة واللاواقعيّة في فلسفة الأخلاق‏

مع الالتفات إلى ما تعلمناه في هذا الفصل يتضح لدينا أنّ العديد من المباحث الّتي تُطرح في فلسفة الأخلاق تُعتبر من لوازم الواقعيّّة واللاواقعيّة. وقبل الدخول في هذه البحوث وإبداء الرأي الصحيح في موردها لا بدّ من جعل محور البحوث هو الواقعيّّة واللاواقعيّة، ولذا يمكننا استنتاج الأمور التالية:

أولاً: يعتبر بحثا الواقعيّّة واللاواقعيّة من أهمّ البحوث المحورية في فلسفة الأخلاق والتي تعيننا في بحوث أخرى من هذا العلم، نظير البحث في قابلية الصدق والكذب والردّ والإثبات في الجمل الأخلاقيّّة وكذلك الارتباط بين القيم والواقع، وتعيين المنشأ، وأسلوب التحقيق وأدلة اعتبار الأحكام الأخلاقيّّة، والوحدة والتعددية الأخلاقيّّة، والاطلاق والنسبيّة في الأخلاق.

ثانياً: إن هاتين المسألتين هما نقطة الاختلاف الأصلية بين المذاهب المتعدّدة، ولذا يمكن تصنيف هذه المذاهب بناءً عليها وهو ما قمنا به في هذا الكتاب.

وكذلك فإنّ البحث حول معاني المصطلحات الأخلاقيّّة والذي يشكّل قسماً من بحوث
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

42

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

  فلسفة الأخلاق يشير في الأساس إلى مقدار ارتباط الجمل الحاوية لها بالواقعيّات.

 


ومثالاً على ذلك فإنّ المعتقدين بمشابهة الجمل الأخلاقيّّة للجملة (2): "الأطعمة الهنديّة لذيذة" في عدم واقعيتها يسعون لإثبات دعواهم بتحليل المصطلحات الأخلاقيّّة واعتبارها إحساسية مثلاً، وكذلك يقوم المعتقدون بمشابهة الجمل الأخلاقيّّة للجملة (4): "المعادن تتمدّد إثر تعرّضها للحرارة" في كونها واقعيّة، بتحليل المصطلحات والمعاني الأخلاقيّّة والإشارة إلى الواقعيّّة فيها لإثبات مدعاهم في نهاية الأمر.

ثالثاً: إنّ تحقيق وتحليل المفاهيم الأخلاقيّّة وتعيين معانيها والذي يشكل جزءاً من بحوث فلسفة الأخلاق أيضاً يعتبر مقدّمة لبحث الواقعيّّة واللاواقعيّة.

إنّ هذه النتائج تشير بوضوح إلى مكانة ومنزلة بحثَي الواقعيّّة واللاواقعيّة في علم فلسفة الأخلاق.

الخلاصة 

1 ـ الجمل الحاكية للواقع بيانات تحكي الواقعيّّة العينية بغضّ النظر عن الأوامر والتوصيات والأحاسيس والانفعالات والتوافق والتعاهدات.

2 ـ الواقعيّّة تعني أنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة لها واقعيّة وأنّ الجمل الأخلاقيّّة تحكي الواقع، وأما اللاواقعيّة فتعني عكس ذلك.

3 ـ إذا لم تكن الجملة مبينة للواقعيّة فلا معنى لمطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع ونتيجة ذلك أنّ إحدى لوازم اللاواقعيّة عدم قابلية الجمل الأخلاقيّّة للصدق والكذب الواقعيّين .

4 ـ الإثبات يعني إظهار صدق المقال والرد يعني إظهار كذبه، وبناءً على ذلك فإنّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

43

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 اللاواقعيّة لا تقبل الإثبات والرّد أيضاً وكذلك فإنّ البحث والحوار لإثباتها أو ردّها غير معقول.


5 ـ بناءً على اللاواقعيّة لا يمكن استنتاج الجمل الأخلاقيّّة من البيانات الواقعيّّة ويسمّى هذا اصطلاحاً بعدم وجود الرابطة المنطقية بين "ما ينبغي" و "ما هو موجود" أو بين "القيمة" و "الواقع" أو بين "العمل" و "النظر".

6 ـ لا بدّ للقائل باللاواقعيّة من تعيين المنشأ اللاواقعي للأحكام الأخلاقيّّة وتشخيص أسلوب الكشف عنها، وبناءً على اعتبار الأحكام الأخلاقيّّة عندهم لا بدّ لهم من بيان دليل اعتبارها

7 ـ التعددية الأخلاقيّّة - بمعنى قبول مختلف المذاهب الأخلاقيّّة - من لوازم اللاواقعيّة.

8 ـ النسبيّة الأخلاقيّّة من لوازم اللاواقعيّة أيضاً، وتعني عدم اعتبار أيّ حكم أخلاقيّّ بشكل مطلَق وبلا أيّ قيد وشرط.

9 ـ بناءً على الواقعيّّة فإنّ البيانات الأخلاقيّّة قابلة للصدق والكذب، وكذلك فإنّ تحصيل الأحكام الأخلاقيّّة الصحيحة والمذهب الأخلاقيّ المقبول معقول.

10 ـ لا بدّ للقائل بالواقعيّّة من تعيين الواقعيّّة الّتي تحكيها الأحكام الأخلاقيّّة، وأنْ يعيَّن على أساسها أسلوب التحقيق في المسائل الأخلاقيّّة - عند اللزوم - وكذلك توضيح دليل اعتبارها.
11 ـ من لوازم الواقعيّّة القول بالوحدة الأخلاقيّّة، بمعنى أنّ هناك مذهباً واحداً فقط صحيح ومقبول من بين كلّ المذاهب الأخلاقيّّة.

12 ـ الإطلاقية الأخلاقيّّة - بمعنى أنّ بعض الأحكام الأخلاقيّّة على الأقل مطلَق ومعتبر بلا أيّ قيد وشرط - من لوازم الواقعيّّة.

13 ـ إنّ بحث الواقعيّّة واللاواقعيّة يعتبر المحور لأهم البحوث في فلسفة الأخلاق والتي تعد من لوازم هذين البحثين، ومضافاً إلى ذلك فإنّه يمكن على أساسهما تصنيف
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

44

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

  المذاهب الأخلاقيّّة المتعدّدة من زاوية نقطة الاختلاف الأصلية بينها، وكذلك فإنّ البحث عن المفاهيم الأخلاقيّّة يعتبر مقدّمة للبحث عن الواقعيّّة واللاواقعيّة.


الأسئلة 

1 ـ بيّنْ الجمل الحاكية للواقع وغير الحاكية للواقع من بين الجمل التالية، وأوضحِ الإجابات بناءً على تعريف الجمل الواقعيّّة واللاواقعيّة:؟

أ ـ تدور الأرض حول الشمس.

ب ـ لا يوجد أيّ لونٍ أفضل من اللون الأبيض.

ج ـ يجب على كلّ الممرضات ارتداء هذا النوع من اللباس.

د ـ قانون العمل الجديد لا يرضي بعض العمال.

هـ ـ يمكن للإنسان السفر إلى كواكب أخرى.

و ـ من الآن فصاعداً لا يمكن للبائعين عرض البضائع الفاقدة للجودة (علامة المواصفات الدولية).

ز ـ لا يمكن استنتاج لذة الأطعمة الكثيرة البهارات منطقياً.

ح ـ الساكنون في المناطق الاستوائية أكثر عرضة من غيرهم للأخطار الناشئة عن الأشعة ما فوق البنفسجية.

ط ـ جرم الأجسام ثابت بناءً على فيزياء نيوتن ونسبيّ بناءً على فيزياء اينشتاين.

ي ـ تُدفَع مستحقات المتعهدين بعد ستة أشهر من استلام المشروع، ولا بد من تتميم النواقص الاحتمالية.

2 ـ بيِّن بالمقايسة لوازم الواقعيّّة ولوازم اللاواقعيّة.

3 ـ أ ـ ما هو المراد من الرابطة بين "ما ينبغي" و "وما هو موجود"؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

45

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 ب ـ إنكار هذه الرابطة هل هو من لوازم الواقعيّّة أم من لوازم اللاواقعيّة؟ ولماذا؟


4 ـ مع قليل من المسامحة أو طبقاً للاصطلاح الرائج يمكن اعتبار "المعرفة" رؤية كلية للوجود، و"الأيديولوجيا" دستوراً عملياً كلياً للحياة، وحينئذٍ هل من الممكن أنْ يكون أحدهم من الناحية المعرفية مسلماً ومن الناحية الأيديولوجية ماركسياً أو علمانياً؟ أجب عن هذا السؤال بناءً على مبنى الواقعيّّة واللاواقعيّة.

5 ـ أوضح ماهية ارتباط الاطلاقية والنسبيّة الأخلاقيّّة بالواقعيّّة واللاواقعيّة في الأخلاق.

6 ـ بيِّن منزلة الواقعيّّة واللاواقعيّة في فلسفة الأخلاق.

7 ـ بيِّن موارد الاختلاف في الرأي في هذه المحاورة واذكر نقطة الاختلاف الأصلية بينهما.

•: إنّ العدالة والإيثار والمروءة ومساعدة المحرومين والأمانة والوفاء بالعهود قيّمة واقعاً، وإنّ الخيانة والسرقة والتهمة وقتل الأبرياء خاطئة واقعاً.

إنّ هذه القيم ثابتة، ولو خالف أحدٌ ما هذا الرأي فإنّه مشتبه. وإذا كان التمييز العنصري والقومي ملاكاً للتفضيل عند أحد المذاهب الأخلاقيّّة بينما يرى غيره أنّ ملاك التقوى والعدالة والإنصاف هو ملاك التفضيل، فإنّ هذا المذهب أفضل من المذهب الأول.

أنا أستطيع إثبات رأيي.

لا يمكن إنكار الواقعيّات.

• •: في رأيي أنك تعمّم قيمك المقبولة عندك بلا أيّ وجه وجيه. نعم يمكنك أنْ تعتبر هذه الأمور الّتي عددتها قيّمة أو غير قيّمة، واتفاقاً من الممكن أنْ أوافقك الرأي في تقييم بعض هذه الأمور، لكنْ لا يمكنك أنْ تعتبر رأيك صحيحاً ورأي من يخالفك غير صحيح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

46

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 لا يمكن أنّ يكون رأيك مطلقاً.


لا تفضيل لأيّ مذهب أخلاقيّّ على بقية المذاهب الأخرى.

القيم الأخلاقيّّة نابعة من أحاسيسنا المتغيرة والمختلفة.

لا يمكنك إدانة إحساسات الآخرين، أو ردّها، بالبحث والحوار حولها.
 

للبحث 

1 ـ ذكر "مَكِيْ" Mackie نظرية خاصّة حول الجمل الأخلاقيّّة سماها نظرية الخطأ (Err or The o ry)، حيث يعتقد وفقها أنّ الجمل الأخلاقيّّة تُبيَّن من أجل حكاية واقعيّة موهومة، ويقول أيضاً أن الأفراد يقبلون القيم الأخلاقيّّة نتيجة العادة أو التوافق، إلّا أنهم عند ذكر الجمل الأخلاقيّّة، ومثلاً عندما يعتبرون أنّ العمل (ألف) حسن أو قبيح، فإنّهم يريدون حكاية القيم الواقعيّّة له مع أنّ القيم الأخلاقيّّة لا واقعيّة عينية لها.

- الآن أعطِ مثالاً لجملة غير أخلاقيّّة يمكن تشبيهها بالجملة الأخلاقيّّة طبقاً لنظرية مَكي.

- طبقاً لنظريته، هل الأخلاق مطلقة أم نسبية؟

- بالنظر إلى تعريف الواقعيّّة هل يُعتبر مَكي من الواقعيّين أم من اللاواقعيين؟

2 ـ في هذا الفصل، بينّا بالاستفادة من مثالٍ واحد عدم إمكانية استنتاج الجمل اللاواقعيّة من البيانات الواقعيّّة، أثبت هذه القاعدة بشكل كلي.

3 ـ حلّل معنى الحياة بناءً على رؤية الواقعيّ واللاواقعي.

4 ـ إبحث موضوع "الغزو الثقافي" من منظار الواقعيّّة واللاواقعيّة.

5 ـ إنكار الرابطة بين "ينبغي" و "موجود" من لوازم اللاواقعيّة، هل أنّ القبول بهذه الرابطة يُعتبر من لوازم الواقعيّّة أيضاً؟ (راجع الفصل السابع من هذا الكتاب).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

47

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 إقرأ 



يُطرح هذا البحث أحياناً تحت عنوان "خبرية أو إنشائية الجمل الأخلاقيّّة"، وليس المراد من هذا البحث تحليل إخبارية أو إنشائية ظاهر هذه الجمل كما هو المنظور في الأدبيات المتعارفة، بل من الممكن بناءً على هذا التصنيف تسمية بعض الجمل بالخبرية - رغم كونها إنشائية في الظاهر كما هو الحال في الأمر والنهي الأخلاقيّين - بشرط أنْ يكون بيانها بناءً على مبنى الواقعيّّة، وكذلك من الممكن تسمية بعض الجمل بالإنشائية، رغم ظاهرها الخبريّ شرط قولنا إنّ لا واقعيّة لها.

وحيث إنّ الخبر والإنشاء لهما معناهما المعروف اصطلاحاً في الأدبيات المتعارفة، وحذراً من وقوع الاشتباه، رجّحنا في هذا الكتاب أنْ نستفيد من مصطلحَيْ الواقعيّّة واللاواقعيّة. وبناءً عليه فالمراد من الإنشاء في هذا الكتاب - والذي من أقسامه ما ذكرناه في الجملة (1) - هو معناه الاصطلاحي المعروف في الأدبيات والناظر إلى ظاهر الجمل فقط.

للمطالعة حول الواقعيّّة واللاواقعيّة الأخلاقيّّة راجع ديفيد مك ناوتن، بصيرت اخلاقي (البصيرة الأخلاقيّّة)، ترجمة محمود فتحعلي.

يُطرح بحث الواقعيّّة واللاواقعيّة في العديد من العلوم، ومن جملتها علم معرفة الوجود، وعلم المعرفة بشكل عام.

في مجال معرفة الوجود فإنّ الواقعيّّة (Realism) تعني وجود موجودات خارج عالم الذهن والإدراك، وفي المقابل فإنّ اللاواقعيّة تعني في موردها أنّه لا وجود لها أو على الأقل يُتردَّد في وجودها. وتشمل اللاواقعيّة أو المثالية (Idealism) ، في هذا المجال من المعرفة، السفسطة (إنكار الواقعيّات)، والشكّيّة (الشكية المطلقة أو الشكية المرتبطة بما هو خارج الذهن).
وفي معرفة الوجود أيضاً قد تؤخذ الواقعيّّة واللاواقعيّة بالنظر إلى موضوع خاص، مثلاً يقال إنّ أفلاطون كان واقعياً في مورد الكلّيّات (إلا أنّه وفي هذا المورد نفسه وبالمعنى الآخر لمصطلح "مثال" يسمَّى مثالياً أيّ من القائلين بالمثالية واللاواقعيّة).

ويقال أيضاً إنّ بعض الأرسطويين قائلون بالوجود الذهنيّ. وفي مجال المعرفة فإنّ الواقعيّّة تعني استقلال الواقعيّات عن الإدراك والوسائل الإدراكية، وأما اللاواقعيّة فتعني أنّ الواقعيّّة ترتبط دائماً 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

48

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 بالوسائل الإدراكية عندنا وأنّه لا يمكن الكلام والتحقيق عن واقعيّة مستقلة عن الإدراك.


في مجال علم الجمال فإنّ الواقعيّّة تعني أنّ الجمال أمرٌ عينيّ مستقلّ لا ربط له برؤية المدرك له وبالاصطلاح فهو أمر موضوعيّ ( objective)، وأما اللاواقعيّة فتعني ها هنا أنّ الحالات الداخلية للفاعل الاستكشافيّ لها دخالة في اعتبار الجمال لأمر ما وفي الاصطلاح فهو أمرٌ ذاتيّ (subjective).

وأمّا في العلوم الأدبية فإنّ الواقعيّّة في موردها تطلَق على سبك من الكلام المستند إلى الظواهر الواقعيّّة والاجتماعية، وأما اللاواقعيّة فتعني تلك المستندة إلى الخيالات الشعرية عند المتكلّم أو الكاتب (راجع: السيد محمّد حسين الطباطبائي، أصول فلسفه وروش رئاليسم أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، المجلد الأول، المقالة الثانية، مقدّمة وتعليق الشهيد مطهري، ص 55 ـ 62, محمّد تقي مصباح، دروس فلسفه اخلاق دروس في فلسفة الأخلاق]‏، ص 34).

In Edward Craig, ed, Routledge "Realism And Antirealism", Edward Craig Encycl o pedia of phil os phy, vol 8, p611.

المراد من الواقع في هذا البحث ما كان موجوداً بغضّ النظر عن الإرادة والإحساس والتعهّد.

ويعتقد الواقعيّون بوجود مثل هذه الواقعيّّة بإزاء القيم واللزوميات والجمل الأخلاقيّّة. وأمّا اللاواقعيون فإنّهم ينفون وجودها. وللتأكيد على أنّ هذه الواقعيّّة واقعيّة مستقلة عن هذه الأمور يُطلَق عليها أحياناً مصطلح الواقعيّّة العينية، ومن المفيد ها هنا أنْ نلتفت إلى هاتين الملاحظتين:

الملاحظة الأولى: رغم أنّ الأوامر والأحاسيس والتوافقات موجودة بنفسها إلّا أنّ المراد من كونها ذهنية وغير عينية هو عدم وجود متعلقاتها مجردة من الأمور الداخلية.

وكذلك فإنّ المراد من لاواقعيّة الجمل الأمرية والانفعالية والتوافقية هو عدم وجود متعلقات هذه الجمل مجردة من إرادة الآمر وانفعال صاحب الانفعال والسليقة وتوافق المتوافقين، ولهذا السبب فإنّنا نعتبرها غير حاكية للواقع.

إنّ تقسيم الواقعيّات إلى عينية ( objective) وذهنية (subjective) وتبعاً لها تقسيم الجمل إلى واقعيّة ولاواقعيّة يمكن تشبيهه بتقسيم الوجود إلى وجود عينيّ ووجود ذهنيّ، حيث إنّ الوجود العينيّ يطلَق على الموجود بصرف النظر عن إدراك الوجود، وكذلك فإنّ المفاهيم الذهنية - ورغم وجودها في حد ذاتها - إنما تسمّى بالوجود الذهنيّ، وبغضّ النظر عن الإدراك - والذي هو أمر داخليّ - لأنّه لا آثار محكية لها.
ومن الممكن أيضاً أنْ تحكي الجمل اللاواقعيّة أموراً داخلية. ورغم أنّ حكاية الأمور الداخلية أيضاً 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

49

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 يعتبر حكاية للواقعيّة فإنّ هذه الجمل إنما سمّيت لاواقعيّة لأنها تحكي أشياء أخرى بغضّ النظر عن الحالات الداخلية.


وبهذا الترتيب فإنّ تلك الطائفة من القائلين بالذهنية والذين يعتبرون الجمل الأخلاقيّّة بياناً وتوصيفاً للحالات الذهنية في الحقيقة من القائلين باللاواقعيّة أيضاً.

الملاحظة الثانية: إنّ الجملة الحاكية واقعيّة عينية هي جملة واقعيّة حتى ولو صدرت عن أحدٍ ما مع الإحساس والانفعال، مثلاً، لو قال أحدهم حالة كونه مضطرباً: "لقد سرقوا محفظتك" فقد قال جملة واقعيّة، وبشكل كلّي فإنّ بيان الجملة بالتوافق مع الحالة الداخلية لا يعتبر مانعاً من كونها واقعيّة، بل إنّ الموجب لاعتبارها غير واقعيّة عدم حكايتها للواقعيّة العينية وبغضّ النظر عن الحالات الداخلية.

في هذا البحث: المراد من وجود الواقعيّّة العينية لمفهوم ما، الأعمّ من كون هذا المفهوم له ما بإزاء عيني مستقل أو له منشأ انتزاع واقعي فيشمل المفاهيم الفلسفية أيضاً، وبناءً على هذا فإنّ الروابط القائمة بين الواقعيّات، وحيث إنها لا ترتبط بأي أمر أو وسيلة أو توافق، تعتبر واقعيّة على الرغم من أنها باللحاظ الفلسفيّ لا وجود مستقلاً لها عدا وجود طرفَيْ الرابطة.
الواقعيّّة واللاواقعيّة لهما جهتان وجودية ومعنائية، من الناحية الوجودية يعتقد القائلون بالواقعيّّة بوجود القيم واللزوميات الأخلاقيّّة بينما ينكر ذلك القائلون باللاواقعيّة، ومن الناحية المعنائية أيضاً فإنّ الطرف الأوّل يعتبر الجمل الأخلاقيّّة حاكية للواقع بينما يرى الطرف الثاني عدم هذه الحكاية.

لكن لإثبات الواقعيّّة، لا بدّ مضافاً إلى إثبات كون القيم واللزوميات الأخلاقيّّة ذات واقعيّة عينية، أنْ نثبت أيضاً حكاية الواقع في الجمل الأخلاقيّّة، لأنّ مدّعى القائلين بالواقعيّّة هو أنّ الأخلاق تحكي القيم واللزوم الواقعيّين وهذا بنفسه يتضمن دعويين:
أولاهما أنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة واقعيّة.
والثانية أنّ الجمل الأخلاقيّّة تحكيها أيضاً.
ولإثبات واقعيّة هاتين الدعويين سوف نتعرض لذلك بالترتيب في الفصل الثالث والرابع.

تسمى المذاهب القائلة بحكاية الجمل الأخلاقيّّة للواقع بالمذاهب التوصيفية (Descriptive) والمعرفية (Congitivist)، وأما تلك القائلة بعدم حكايتها فتسمّى بالمذاهب غير التوصيفية (Non- Descriptive) وغير المعرفية(Non- congitivist).

نعم ربما نعتبر أنّ لمثل هذه الجمل نوعاً من الصدق والكذب وذلك من جهة مطابقة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

50

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

  أو عدم مطابقة الجملة للإرادة، السليقة، والتوافق، مثلاً: إنّ من يقول إنّ هذا الطعام لذيذٌ، يكون كلامه صادقاً إذا كان في الحقيقة ميالاً إلى هذا الطعام وإلا فإنّ كلامه كاذب.


وحيث إنّ الإرادة والسليقة والتوافق ليست أموراً عينية فإنّ صدق وكذب مثل هذه الجمل لا يكون ناظراً أيضاً إلى الواقعيّّة العينية، وأما الصدق والكذب الناظرين إلى الواقعيّّة العينية فقد أسميناهما بالصدق والكذب الواقعيّين. إن اختلاف الواقعيّين واللاواقعيين هو في قابلية الجمل الأخلاقيّّة للصدق والكذب الواقعيّين والمراد من قابلية أو عدم قابلية الصدق والكذب للجمل الأخلاقيّّة في هذا البحث أيضاً هو نفس قابلية أو عدم قابلية الصدق والكذب الواقعيّين لها.

للمطالعة حول مسألة الرابطة بين "ينبغي" و"موجود" راجع: محسن جوادي، مسأله بايد وهست: بحثي در رابط ارزشت وواقع (مسألة ينبغي وموجود: بحث حول الرابطة بين القيمة والواقع), سيد محمّد رضا مدرسي، فلسفه اخلاق، ص 282 ـ303.

تطلق التعددية الأخلاقيّّة بناءً على تفسير آخر لها على هذه النظرية الّتي تقول: إنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة ورغم كونها واقعيّة إلّا أنّه ليس لها منشأ واحد يقبل التبدل إلى أمرٍ قيميّ ولازمٍ، ومن البديهي أنّ التعددية بهذا المعنى لا تتلاءم مع اللاواقعيّة، ولا نبحث فيها ها هنا إلّا أنّه لا يمكن القبول بمثل هذه النظرية (راجع المذكرة السابعة من الفصل التاسع).

من الممكن أنْ يقال إنّ القبول باللاواقعيّة يتنافى مع القبول بإطلاق الأخلاق. لكنْ في بعض الموارد يمكن الجمع بينهما. ومثالاً على ذلك نقول: إذا كانت الأحكام الأخلاقيّّة من قبيل القرارات واعتبرنا أنّ منشأها هو الأمر والنهي الإلهيان - كما يقول الأشاعرة - وقبلنا بأن أوامر الله ونواهيه ثابتة لا تتغير - على الأقل في بعض الموارد - فإنّ العمل بتلك المقررات سيكون أمراً قيمياً ولازماً، ولن نقيد قيمتها ولزومها بأي قيدٍ. وعليه فإنّه في نفس الوقت الّذي قبلنا فيه باللاواقعيّة اعتقدنا بثبات بعض الأحكام الأخلاقيّّة على الأقل أيّ اعتقدنا بإطلاق الأخلاق أيضاً.

وكذلك الحال فيما لو اعتبرنا أنّ الأحكام الأخلاقيّّة ناشئة عن الأحاسيس والميول الإنسانية، لكنْ اعتقدنا كذلك باتحاد الطبائع الإنسانية بنحو توجب فيه هذه الطبيعة الواحدة اشتراك الناس في الحاجات والميول وتكون منشأ على الأقل لبعض الأحاسيس والميول المشتركة عند كلّ أفراد البشر، وقبلنا أنّ قيمها الأخلاقيّّة عند كلّ الأفراد وفي مختلف الظروف ثابتة وبلا أيّ قيد، فإنّنا هنا أيضاً وفي نفس الوقت الّذي قبلنا فيه باللاواقعيّة اعتقدنا بإطلاق الأخلاق أيضاً.

وبناءً على هذا الوضع من الممكن أنْ نقبل بأنّ كلّ الجوامع الإنسانية قد قبلت وتوافقت على 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

51

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 قواعد أخلاقيّّة مشتركة، وفي هذه الحال أيضاً يمكن القبول باللاواقعيّة مع القول بإطلاق الأخلاق، ومضافاً إلى هذا فإنّ "استيفنسون" القائل بالإحساسية، و "هير" القائل بالأمرية صرّحا بعدم اعتقادهما بالنسبيّة.


لكن لا بدّ من الالتفات إلى أنّ المراد من إطلاق الأخلاق لا يراد منه "صرف عدم وقوع التغيير والاختلاف، في بعض الأحكام الأخلاقيّّة" بل هي بمعنى أنّ بعض الأحكام الأخلاقيّّة - على الأقل - غير مقيد، مع أنّه في هذه الأمثلة المذكورة فإنّ كلّ الأحكام الأخلاقيّّة مقيدة.

إذا كان القائل باللاواقعيّة غير قائل بوجود منشأ للقيم ما وراء الأمر والنهي الإلهي فإنّه يقيد حسن الفعل المأمور به من قبل الله بالأمر الإلهي، وفي رأيه هناك "إمكان" للتغيير في كلّ الأوامر والنواهي الإلهية وحينئذٍ إذا قَبِلَ كون الأوامر والنواهي الإلهية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّّة، وأنها في بعض الموارد ثابتة لا تتغير، فيكون قد قَبِلَ الواقعيّّة وإطلاق الأخلاق معاً.

وإذا كان القائل باللاواقعيّة يعتقد بأنّ منشأ القيم هو الإحساس والسليقة الشخصيّة فإنّه يقيد حسن الفعل الّذي شعر الفرد فيه بإحساس الرضا والميل إليه بوجود ذلك الإحساس عند ذلك الشخص على الرغم من وجود هذا الإحساس عند غيره من الأفراد بل هو عامّ الوجود حقيقةً. وعليه إذا أذعن أيضاً بوجود الأحاسيس والميول المشتركة على أساس الإدراك المشترك للواقعيّة - نظير السعادة الحقيقيّة أو الكمال ورفع النقص والحاجة الواقعيّّة - واعتبر فقط تلك الأحاسيس والميول المشتركة المبتنية على الواقعيّّة في التقييم، فقد قبل بالواقعيّّة وإطلاق الأخلاق معاً أيضاً.

وإذا كان القائل باللاواقعيّة يعتقد بأنّ منشأ القيم هو التوافق الجمعيّ فإنّه يقيّد حسن ما توافق الجمع عليه بهذا التوافق، على الرغم من كون هذا التوافق في مورد ما لا يختصّ بمجتمع بعينه.

وحيث إنّه في بعض الأحكام الأخلاقيّّة يقبل بتوافق كلّ الناس عليها بناءً على تحصيل الصلاح والفساد الواقعيّ عندهم، وأنها المعتبرة عنده، فقد قبل الواقعيّّة وإطلاق الأخلاق معاً في هذا المورد أيضاً، وبعبارة أدقّ فإنّ القضايا الأخلاقيّّة بنحو القضايا الحقيقيّة لا القضايا الخارجية، ومثالاً على ذلك فإنّه عندما نقول إنّ الكلام بشرط كونه صادقاً حسن، فإنّه بناءً على هذا الفرض لو اتفق أنّ كلّ الناس كانوا صادقين دائماً في كلامهم فإنّه لا يمكن القول إنّ الكلام مطلقاً حسنٌ بل إنّه في هذه الصورة أيضاً لا بدّ من تقييد حسن الكلام بكونه صادقاً، وبناءً على ذلك فإنّه في صورة عدم تغير الأمر أو السليقة أو التوافق في موردٍ ما، فطبقاً لنظر اللاواقعي والذي لا يقبل بمبنى الواقعيّّة في القيم الأخلاقيّّة، فإنّ اعتبار هذه الأحكام مقيدٌ أيضاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

52

الفصل الثاني: الواقعية واللاواقعية في الأخلاق

 وعليه فإنّ كلّ الأوفياء لللاواقعيّة يقبلون بكون كلّ الأحكام الأخلاقيّّة مقيدة بمناشى‏ء أخلاقيّّة لاواقعيّة ويمكن تبدلها وتغيرها تبعاً لها، وبالتالي لا يوجد أيّ حكم أخلاقيّ يكون اعتباره مطلقاً وبلا أيّ قيد.

وأما في مورد استيفنسون وهير فلا بدّ من القول - وكما أشار إليه بونتينغ Bunting - إنّهما ومع تقديم معنى جديد للنسبية أرادا تبرئة نفسيهما من القول بالنسبيّة فقالا إنّ النسبيّ هو من يعتقد بأنّ المفاهيم الأخلاقيّّة هي مجرّد توصيف لوضعية الشخص الذهنية.

(See: Harry Bunting, "A Single True Morality" Challenge of Realtivism", in (David Archard, ed, philosophy and pluralism, p 28, qu oted in M ohammad A. Sh omali, Ethical Realitivism: An Analysis of the Foundati ons of M orality, p.59).

إنّ بحث الإطلاق أو النسبيّة في الأخلاق لا ينظر إلى الألفاط وبالتالي فإنّه مختلف كلياً عن بحث الإطلاق والتقييد المذكور في مباحث الألفاظ من علم أصول الفقه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58
 

53

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

  الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 
تعرّفنا في الفصل السابق إلى نظريتي الواقعيّّة واللاواقعيّة في الأخلاق ولوازمهما.وسوف نخطو في هذا الفصل الخطوة الأولى لتحصيل النظرية الصحيحة والمقبولة.

ومع الالتفات إلى ما تقدّم بحثه فإنّ حلّ مسألة الواقعيّّة يمهّد الطريق لحلّ الكثير من بحوث فلسفة الأخلاق، لكن كيف يمكن حلّ هذه المسألة؟

مع الالتفات إلى تعريف الواقعيّّة واللاواقعيّة، فإنّ المسألة الأساس تدور حول أنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة هل لها واقعيّة عينية أم لا؟ وهل أنّ الجمل الأخلاقيّّة تحكي عنها أم لا؟

في هذا الفصل وبعد تحليل مصطلحي "القيمة" و "اللزوم"[1] وتحقيق موارد استعمالهما، سوف نتعرّف إلى مورد استعمالهما أيضاً في الأخلاق، وسوف نبحث ها هنا أيضاً واقعيّة أو عدم واقعيّة القيم واللزوميات الأخلاقيّّة. وأما حكاية الجمل الأخلاقيّّة للواقع أو عدم حكايتها له فسوف نبحثه في الفصل القادم.

1 - القيمة وأنواعها

يُستعمل مصطلح "القيمة" في موارد عديدة من قبيل القيمة الاقتصادية، القيمة الفنية، القيمة المعرفية، القيمة المنطقية، القيمة الاجتماعية، القيمة التاريخية،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

54

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

  القيمة السياسية، القيمة القضائية، القيمة الحقوقية والقيمة الأخلاقيّّة.

 


وما يهمنا في هذا البحث هو تعيين واقعيّة أو عدم واقعيّة القيمة الأخلاقيّّة. ولتحقيق هذا المطلب لا بدّ لنا أنْ نرى موارد استعمال القيمة الأخلاقيّّة.

والسؤال المشترك بشكل عام حول "القيم" مفاده:[2] ما هي الخصائص المشتركة والمتشابهة في كلّ الموارد الّتي يُطلقَ عليها مصطلح "القيمة"؟

وللإجابة عن هذا السؤال، نأخذ القيمة الاقتصادية كنموذجٍ ابتداءً.

إنّ تعداد كلّ القيم الاقتصادية لا يهمنا في هذا المقام، بل ما يهمّنا هو ذكر بعض أنواعها والذي يمكن إيجاد ما يشابهه في بقية الموارد وخصوصاً في مورد الأخلاق.

وبناءً على هذا وبنظرة إجمالية إلى القيم الاقتصادية سوف نذكر ثلاثة أنواعٍ من القيم في الاقتصاد وهي: القيمة الذاتية والغيرية والبديلة، ومن ثمّ سوف نقوم بتحليلها في مورد الأخلاق، والبحث عن واقعيتها أو عدم واقعيتها أيضاً.

1 - 1 القيمة الذاتية والغيرية

سوف نذكر فيما يلي بعض الجمل الاقتصادية، ومرادنا من القيمة ها هنا القيمة الاقتصادية:

(1) إنّ 1000 تومان من المال تعادل قيمتها 300 كلغ من القمح وهكتاراً من الأرض.

(2) إنّ إحياء الأرض واستخراج المعادن والمعاملات المربحة أمورٌ قيّمة.

في هذه الجمل أعتبر المال والبضائع وأسلوب كسب الثروة والأموال أموراً قيّمة. وهنا نسأل: ما هو معيار وكيفية التقييم في الاقتصاد؟

إن موضوع الاقتصاد هو الثروة والمال، وها هنا فإنّ المال والبضائع والأرض تعتبر من المسائل المالية، وكذلك فإنّ إحياء الأراضي وزراعتها واستخراج المعادن والمعاملات المربحة تعتبر من وسائل كسب الثروة والأموال أيضاً، وبالتالي فإنّ كلّ هذه الموارد مطلوبة وذات قيمة في الاقتصاد، نعم قد تتفاوت المطلوبية فيما بينها حيث إنّ المطلوب الأصلي في الاقتصاد هو الأموال، والأشياء الّتي ذُكرت في الجملة (1) تعتبر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

55

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

  بعض المطلوب الأصلي (الأموال)، وأما مطلوبية الأشياء المذكورة في الجملة (2) فهي سبب مطلوبيتها المالية (موضوع الاقتصاد)، وكذلك فإنّ مقدار مطلوبيتها في حد ذاتها يرتبط بمقدار مؤثريتها في تحصيل المالية منها.

 
إن المطلوبية المالية في الاقتصاد لا ترتبط بأي شي‏ء آخر، وحينئذٍ يمكن القول إنّ الأموال لها قيمة "ذاتية" اقتصادياً وكذلك فإنّ الأملاك المختلفة لها درجات متعدّدة من القيم الذاتية الاقتصادية.
 
وأما مطلوبية النشاطات الاقتصادية الأخرى فإنّها ترتبط بمطلوبية خارجة عنها هي المطلوبية المالية ويقال حينئذٍ إنّ لها قيمة "غيرية" اقتصادياً. وبناءً عليه يمكن القول من الناحية الاقتصادية إنّ القيمة والتقييم يرتبط، باللحاظ الاقتصادي، بالأمور المطلوبة.
 
وهذه القيمة الاقتصادية "ذاتية" في الناحية المالية و"غيرية" في سائر النشاطات الاقتصادية1. ومع الالتفات إلى مختلف استعمالات القيمة، يمكن تعميم القول على الشكل الآتي: 
 
يُستخدم مفهوم "القيمة" في مورد الأمور المطلوبة 2 [3] في موضوع ما. إذا عُبِّر عنها بالقيمة الذاتية فيراد منها كون القيمة في هذا الموضوع لا ترتبط بأي شي‏ء آخر وأما إذا عُبّرَ عنها بالقيمة "الغيرية" فمعناها أنّ القيمة في ذلك الموضوع ترتبط وتتبع شيئاً آخر 3.
 
 
 

1- تقسم القيمة في الاقتصاد إلى أنواع مختلفة أيضاً فيقال مثلاً القيمة المصرفية للبضائع (Use Value) إنما هو في مطلوبيتها عند المستهلك والقيمة التبادلية للبضائع (Exchange Value) هو في مبادلتها ببضائع أخرى، وحينئذٍ يمكن القول إن المطلوبية هي العنصر المشترك بين هذه القيم، فالقيمة المصرفية عبارة عن مطلوبية السلعة عند المستهلك، والقيمة التبادلية عبارة أيضاً عن مطلوبية السلعة في عرف المبادلة بالمقايسة بالسلع الأخرى.
2- راجع: محمّد تقي مصباح، دروس فلسفة اخلاق، ص 45-52.
3- أمّا الوجه في إطلاق تسمية القيمة الذاتيّة أنّها قائمة بذاتها وغير متعلّقة بالغير. وتعتبر هذه القيمة أصلية باعتبارها منشأ قيم أخرى في الموضوع المبحوث عنه، ومن جهة كون القيمة الذاتيّة ناظرة إلى ذاتها، يُطلق عليها عنوان القيمة الداخليّة (Value Intrinsic). ومن جهة كونها مستقلّة عن القيم الأخرى يطلق عليها القيم المستقلّة. وعلى هذا الأساس، فالقيمة الغيريّة المتعلّقة بغيرها، يطلق عليها القيمة التبعيّة، الخارجيّة (Extrinsic Value)، الفرعيّة أو العرضيّة. وهنا بهدف توحيد التسمية سنستعمل عنواني القيمة الذاتيّة والقيمة الغيريّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

56

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 2 - 1. القيم، اللاقيم، وبلا قيمة، أو ما له قيمة مثبتة، منفية وصفرية.


كما تقدم ذكره فإنّ "القيمة" تستخدم في الأمور المطلوبة، وبناءً على هذا فإنّ الأشياء المطلوبة تُعتبر ذات قيمة، وأما غير المطلوبة فتعتبر غير ذات قيمة، وأما غير المطلوب إذا تنافى مع المطلوب فيوصف باللاقيِّم، وأما إذا لم يتنافَ معه فيوصف فقط بأنه بلا قيمة.

إلا أنّ "القيمة" تُستعمل أحياناً بمعنى أوسع مما تقدم فتُقسم أيضاً إلى المثبتة والمنفية والصفرية. وطبقاً لهذه الاصطلاحات فإنّ القيّم له قيمة مثبتة، واللاقيّم له قيمة منفية، وأما ما كان بلا قيمة فإنّ له قيمة صفرية، وكذلك فإنّ بالإمكان استخدام هذه التعابير في مورد مراتب القيمة الذاتية والغيرية أيضاً.

ومثالاً على ذلك من الناحية الاقتصادية، فإنّ عدم المالية أو تلك المجموعة من النشاطات الاقتصادية الّتي لا تغيير في ماليتها تكون بلا قيمة أو ذات قيمة صفرية.

وكذلك فإنّ المديونية أو تلك النشاطات الّتي تنقص المالية ستوصف باللاقيّمة أو أنها ذات قيمة منفية.

وأما الموارد الّتي لها مطلوبية في كلّ المراتب فبالإمكان أخذ مرتبة صفرية من القيم، ومقايستها بقيمة الأمور المختلفة، وهذا التمثيل شبيه حينئذٍ بأخذ درجة الصفر في الاعتبار لانجماد الماء ومقايسة حرارة الأجسام المختلفة بالنسبة إليها.

3 - 1. القيمة البديلة

(3) في الأوضاع الراهنة من غير المفيد الاستثمار في الماشية، وأما تربية الأسماك فربحها أكثر.

لقد افتُرض في هذه الجملة أنّه باستثمارٍ ما يمكن تنفيذ أحد مشروعين اقتصاديين، وعلى الرغم من كونهما مربحين ولهما قيمة غيرية مثبتة إلّا أنّه سيحل أحدهما مكان الآخر من حيث القيمة لأن ربحه أكثر، وبناءً على هذا يمكن القول إنّه في انتخاب إحدى القيمتين الغيريتين فإنّ ما له قيمة غيرية أكبر تكون له قيمة خاصّة يطلق عليها تسمية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

57

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

  القيمة البديلة، وبنحوٍ كلّيّ يمكن القول إنّ:


"أ ـ1" لها القيمة البديلة مكان "أ ـ2"، فقط وفقط إذا لم يمكن الجمع بين "أ ـ1" و "أ ـ2"، وكانت القيمة الغيرية لـ "أ ـ1" أكثر من القيمة الغيرية ل "أ ـ2".

وأما إذا كانت القيمة الغيرية ل "أ ـ1" متساوية مع القيمة الغيرية ل "أ ـ2" فلن يكون لأيّ منهما قيمة بديلة، ومثالاً على ذلك فيما إذا تساوى ربح الماشية مع ربح الأسماك فلا قيمة بديلة لأي واحدة منهما[4].

نموذج أنواع القيم‏

تمرين: عيّن القيم البديلة في هذا النموذج

 
 
 
ذكرنا فيما تقدّم أنّ القيمة الذاتية والغيرية والبديلة هي أنواع ثلاثة من القيمة، ويستفاد منها في مختلف الموضوعات، والآن لنرَ موارد الاستفادة منها في الأخلاق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

58

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 2 - القيمة الأخلاقيّّة1 [5] وأنواعها

 
لا شك أنّ الأفعال المرتبطة باختيارنا بعضها مطلوب وبعضها الآخر غير مطلوب، إلّا أنّه من الممكن اختلاف الأفراد والمجتمعات المتعدّدة في اعتبار ما هو مطلوب أو غير مطلوب من الأفعال، وعلى الأقل في بعض الموارد، أيّ أنّه من الممكن أنْ يكون أيّ عملٍ مطلوباً في رأي الفرد أو بعض الأفراد وغير مطلوب عند آخرين.
 
وحول بيان منشأ مطلوبية الأمور المختلفة يمكن الإشارة إلى نظريتين:
 
1 - ليس لدينا أيّ خصيصة واقعيّة في مختلف الأمور بحيث توجب مطلوبيتها أو عدم مطلوبيتها، بل إنّ ذلك يتوقف فقط على وجود ملزم خارجي أو رغبات الأفراد أو توافق الجماعات على فعلها أو تركها.
 
2 - مطلوبية الأفعال أو عدمها يتوقف على وجود الخصائص الواقعيّّة العينية فيها. وفي الحقيقة فإنّ اختلاف القائلين بالواقعيّّة واللاواقعيّة يعود إلى هاتين النظريتين، وبعبارة أخرى فإنّ الواقعيّين يجيبون بشكل مثبت على السؤال القائل "هل يمكن إيجاد خصيصة أو خصائص في نفس الأفعال المختلفة توجب مطلوبيتها أو عدم مطلوبيتها؟".
 
وأما اللاواقعيون فإنّهم يجيبون عنه بالنفي.
 
نعم من الممكن أنّ يقبل أنصار الواقعيّّة بوجود الميول والاتجاهات المثبتة والمنفية عند الناس، وبتوافق الجماعات المختلفة حول بعضها أيضاً، بالاستفادة كذلك في مجال تعليم الأحكام الأخلاقيّّة وتربية الآخرين من أسلوب الأوامر والقرارات. غاية الأمر أنّ اختلافهم مع اللاواقعيين في كون هذه الميول الشخصيّة والتوافق الجمعي والأوامر والتوصيات ذات سندٍ واقعي أم لا، وبتعبير آخر هل توجد خصائص معينة في الأمور تبعث على تحريك الميول، وتمتين التوافقات الأخلاقيّّة عليها، وإصدار الأوامر الأخلاقيّّة من أجلها؟ أم أنّ مثل هذه الخصائص غير موجود في ذات الأمور
 
 
 

1-  Moral Value.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

59

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

  والأفعال، وبالتالي لا مفرّ من تحديد منشأ المطلوبية وقيم الأفعال المختلفة بتلك الأمور اللاواقعيّة فقط أيّ مجرد الأحاسيس والسلائق الفردية والتوافقات الجمعية والقرارات والتوصيات.

 
وبالالتفات إلى هذه النكات، يمكن الاستعانة بها في إيجاد النظرية الصحيحة.
 
1 - إنّ كلّ إنسان يتعلق ويميل ذاتاً إلى ما يرتبط به. ومثالاً على ذلك فإنّ اهتمام الأمّ بولدها لا يوجد في مورد أولاد الآخرين، حيث إن الأمّ باهتمامها بولدها ترضي عواطفها الأمية. نعم قد يتجاوز بعض الناس عن مصالحهم الخاصّة فداءً للمجموعة أو الوطن أو الدين ولأهدافٍ لا ترتبط بذواتهم، إلّا أنهم ينادون بها في سبيل العديد من الأمور كالشهرة والعزة والتقرب من الله وأمثال هذه المسائل المفيدة في نظرهم. وعليه فإنّ كلّ إنسان ذاتاً يعتبر وجوده ومصالحه ومنافعه أموراً مطلوبة ويسعى لتأمينها1.
 
2 - إنّ الأعمال الّتي نقوم بها باختيارنا وكبقية الظواهر الأخرى لها نتائج واقعيّة وخاصة بها، أيْ أنّ الارتباط بينها وبين نتائجها واقعيّ. فبالدرس يمكن اكتساب العلم، وبأكل الطعام نرفع الجوع، وبمداواة المريض تستعاد عافيته وسلامته و....
 
3 - لو قايسنا أثر سلوكنا مع أنفسنا، لأمكننا تقسيم السلوكيات إلى ثلاث طوائف: مفيدة وضارة وبلا أثر.
 
4 - حيث إنّ المطلوب عند كلّ إنسان هو نفسه ومنافعه فإنّ الطوائف الثلاثة للسلوك الّتي تقدم ذكرها يمكن ترتيبها وتسميتها وفق الشكل التالي:
 
مطلوبة، لا مطلوبة، ومتوسطة، أو قيّمة، لا قيّمة، وبلا قيمة، أو ذات قيمة مثبتة، منفية وصفرية.
 
وإذا أردنا الكلام بالاستفادة من مصطلحات الفلاسفة لا بدّ أنْ نسمّي المنفعة
 
 
 

1- سوف يأتي البيان الفلسفي لهذه النكتة في الفصل التاسع من هذا الكتاب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

60

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 الوجودية للإنسان بـ"الكمال".

 
فالفلاسفة الّذين يقابلون الوجود والبقاء بالعدم والفناء، والملكية بعدم المملكية فإنّهم يقابلون أيضاً الكمال بالنقص وبناءً عليه فإنّ الأكمل ما كان له مرتبة وجودية أعلى واستفادة وجودية أكبر. وطبقاً لهذا الاصطلاح أيضاً فإنّ كمال الإنسان مطلوب له، وبالتالي فإنّ الأفعال الموجبة لكماله مطلوبة بالتبع أيضاً. وحيث إنّ كمال الإنسان له مراتب في نفسه يمكن القول من حيث مجموع الأمور الاختيارية إنّ كمال الإنسان له قيمة ذاتية وإنّ المراتب المختلفة للكمال الإنساني لها مراتب مختلفة من القيم الذاتية الأخلاقيّّة أيضاً، وبناءً على هذا فإنّ الكمال الاختياري له قيمة ذاتية أخلاقيّّة ، وكذلك فإنّ السلوكيات الاختيارية، وبنسبة تأثيرها في الوصول للكمال الاختياري، لها قيمة غيرية أخلاقيّّة1
 
وكما ذكرنا في الفصل الأوّل فإنّ الصفات النفسانية أيضاً هي المنشأ الداخلي والمباشر للسلوكيات الاختيارية عندنا، وهي تتأثر أيضاً بالسلوكيات الأخرى المختلفة. إنّ قيمة هذه الصفات وبحسب تأثيرها في الكمال الاختياري غيرية[6] أيضاً.
 
لو أراد إنسانٌ ما تقوية بدنه فالمطلوب منه تأمين مادة غذائية مقوية وذات قيمة غذائية كبيرة. وحينئذٍ إذا كان الهدف عند الإنسان هو الكمال الاختياري فالمطلوب منه تأمين السلوك المقرّب بشكل كبير من هذا الكمال وأنْ يكون هذا السلوك ذا قيمة غيرية أخلاقيّّة كبيرة. وإذا لم يكن بإمكانه القيام بعملين مختلفين معاً، فإنّ العمل الحاوي للقيمة الغيرية الأكبر سيكون بمثابة القيمة البديلة أخلاقيّاً.
 
ومع ملاحظة النكات المذكورة يمكن القول إنّ الموجب لمطلوبية أو عدم مطلوبية بعض الصفات والسلوكيات كونها موصلة لنا إلى الكمال أو مبعدة عنه. وبناءً عليه يمكن إيجاد الخصيصة الواقعيّّة في نفس الصفات والسلوكيات الاختيارية - والقيمة في الأخلاق - والموجبة لمطلوبية أو عدم مطلوبية هذه الصفات والسلوكيات، وهذه
 
 
 

1- لمزيد من التوضيح والاطلاع حول القيم الذاتية الأخلاقيّّة، وتعيين ملاكاتها راجع الفصل التاسع من هذا الكتاب.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

61

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

  الخصيصة هي "الرابطة الواقعيّّة لها بالكمال الاختياريّ".


وبنحو مختصر يمكن القول:

للكمال الاختياري قيمة ذاتية أخلاقيّّة.

للصفات والسلوكيات الاختيارية، وبمقدار تأثيرها في الوصول إلى الكمال. قيمة غيرية أخلاقيّّة.

الصفة أو السلوك الّذي يمتلك قيمة غيرية أكبر من القيمة الغيرية لصفة أو سلوك آخرَين، ومع عدم إمكانية الجمع بينهما، تكون له قيمة بديلة أخلاقيّّة.

إنّ الكمال الاختياري للإنسان يطلقَ على مراتب من الوجود بالشكل الّذي يمكن فيه للإنسان باختياره تحصيلها والدخول إليها، وهذه المراتب واقعيّة ولا ربط لها بالقرارات والتوصيات أو السلائق أو التوافقات.

وكذلك فإنّ رابطة صفاتنا وسلوكياتنا بهذه المراتب - كما هو الحال في روابط سائر الظواهر بعضها مع بعض - واقعيّة أيضاً. ومن ثمّ فإنّ القيمة البديلة من توابع القيمة الغيرية.
وبناءً على ذلك فإنّ:

كل أنواع القيم الأخلاقيّّة لها واقعيّة عينية.

ومن الواضح أنّ كون القيم الأخلاقيّّة واقعيّة لا يستلزم إمكانية تشخيصها بشكل صحيح من قبل كلّ الأفراد.

نعم من أجل الوصول إلى الكمال الاختياريّ لا بدّ لنا أنْ نعلم ماهية هذا الكمال والطرق الموصلة إليه.

وسوف نتكلم في الفصلَين التاسع والعاشر من هذا الكتاب عن ماهية القيم الواقعيّّة في الأخلاق وكيفية إمكان تشخيصها.

3 - نطاق القيم الأخلاقيّّة

إذا أردنا معرفة مجموعة الأشياء القابلة للتقييم في الأخلاق لرأينا أنّ هذه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

62

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 المجموعة تشمل كلّ الصفات والسلوكيات الاختيارية عند الإنسان، والخارج فقط عن دائرة هذا التقييم هو الأفعال غير الاختيارية عنده.


وكنموذج، نأخذ من هذه المجموعة السلوكيات الاختيارية عند الإنسان، حيث إنّ هذه المجموعة في حدّ ذاتها أيضاً تشمل كلّ الأعمال الفردية والعائلية والاجتماعية ومختلف النشاطات الاقتصادية والثقافية والسياسية والحقوقية. وبناءً عليه فإنّ كلّ هذه الأعمال والنشاطات إذا كانت مورداً للبحث باللحاظ الأخلاقيّ أيّ من جهة الهدف المراد منها جميعاً تدخل حينئذٍ في دائرة التقييم الأخلاقيّ. إنّ اللوحة الفنية قد يكون لها قيمة فنية وقيمة اقتصادية أيضاً إنْ تفاوتت جهة التقييم بينهما، وكذلك فإنّ السلوك الإنساني قابل للتقييم من جهات مختلفة أيضاً. وبناءً على ما تقدم لا بدّ أنْ نأخذ بالحسبان عند التقييم الأخلاقيّ للنشاطات والأعمال الاقتصادية والثقافية والسياسية والحقوقية، وسائر السلوكيات الاختيارية عند الإنسان جهة تأثيرها في وصول الإنسان، إلى الكمال الاختياري.

إنّ علم الأخلاق يبحث في كلّ الصفات والأفعال الاختيارية عند الإنسان والتي لها تأثير - مثبت أو منفيّ أو صفريّ - في كماله الاختياري، ويقوم بتقييمها أخلاقيّاً.

4 - اللزوم وأنواعه‏

في الجمل الثلاثة الآتية أستفيد من اللزوم واللازم في ثلاثة استعمالات مختلفة:

(4) [رئيس الإدارة]: اللازم على جميع العمال طلب الإجازة كتبياً من الرئاسة.

(5) (طبقاً للاتفاق السابق) اللازم علينا إجراء جلسة على الأقل شهرياً.

(6) أكد المختصون على لزوم جذب السيولة النقدية لوقف التضخّم والحد منه.

مع ملاحظة الجمل المذكورة، عندما نقول "اللازم" من الممكن أن تكون لهذه الجملة معانٍ متفاوتة:

أحياناً مرادنا أنّ أمراً أو توصية قد صدرا للقيام بـ "أ" وحينئذٍ يسمى هذا النوع من اللزوم بـ "الأمري" والمراد منه اللزوم الناشى‏ء عن أمرِ أحدٍ ما، وكذلك فإنّ هذا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

63

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

  اللزوم معتبر لصدور الأمر به عن ذلك الشخص. وبغضّ النظر عن هذا الأمر فلا واقعيّة له في الموضوع المبحوث فيه.


ومن الممكن أيضاً أنْ يكون المراد أنّ "أ" اعتبر لازماً بناءً على التوافق والتعاهد عليه ونريد الآن بيان هذا التوافق. ويسمّى هذا اللزوم بالتوافقيّ أيّ أنّ منشأ لزوم "أ" هو التوافق. وهذا اللزوم أيضاً وبغضّ النظر عن التوافق لا واقعيّة له، ومن الممكن أنْ يكون مرادنابأنّ "أ" بالمقايسة بشي‏ء آخر، ومثلاً للوصول إلى "ب" لازم.

ومثل هذا اللزوم لشي‏ء بالمقايسة بشي‏ء آخر يسمّى اصطلاحاً بـ "اللزوم أو الضرورة بالقياس إلى الغير" أو اختصاراً "اللزوم أو الضرورة بالقياس" [7] وبه نخبر عن وجود الارتباط الواقعيّّ بين هذين الشيئين. ومن الواضح أنّ مثل هذا اللزوم وبغضّ النظر عن أوامر الناس وتوافقاتهم يمتاز بالواقعيّّة، وبالتالي فإنّ الأمر والتوافق لا يوجد أيّ تغيير فيه[8].

ومع الالتفات إلى ما ذُكر حول أنواع اللزوم يتضح أنّ اللزوم الأمريّ والتوافقيّ لا واقعيّة عينية لهما وأما اللزوم بالقياس والذي يحكي الرابطة الواقعيّّة بين شيئين فله واقعيّة عينية.

5 - اللزوم[9] الأخلاقيّّ‏

عندما نقول باللحاظ الأخلاقيّ اللازم فعل أو ترك هذا الأمر، أو اللازم امتلاك أو عدم امتلاك هذه الصفات... فأي معنى نريد منه؟

ذكرنا في بحث القيم الأخلاقيّّة أنّ الصفات والسلوكيات الاختيارية للإنسان قابلة للتقييم في الأخلاق من زاوية تأثيرها في وصوله إلى الكمال الاختياري، وقلنا أيضاً إنّ الكمال الاختياري للإنسان وتأثير هذه الصفات والسلوكيات في تحصيله واقعيان أيضاً، وإنّ تلك الطائفة من الأفعال الاختيارية مطلوبة وقيّمة لجهة تأثيرها في الوصول إلى الكمال الاختياريّ، وبالتالي فهي لازمة أيضاً للوصول إليه. وبناءً عليه فإنّ لزوم بعض
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

64

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

  الصفات والسلوكيات الاختيارية من أجل كسب الكمال الإنسانيّ يُعتبر أيضاً من نوع "اللزوم بالقياس". وحيث إنّ هذا اللزوم يمتاز بالواقعيّّة العينية يمكن استنتاج ما يلي:


اللزوم الأخلاقيّ له واقعيّة عينية.

وقد تبين معنا إلى الآن أنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة لها واقعيّة عينية ولا ارتباط لها بالأوامر والتوصيات أو الأحاسيس والسلائق، أو التوافق والتعاهد. ويُعتبر هذا الاستنتاج الخطوة الأولى في طريق حلِّ مسألة الواقعيّّة. وسوف نرى في الفصل اللاحق كيفية حكاية الجمل الأخلاقيّّة للقيم واللزوميات الأخلاقيّّة، وبالتالي سوف نثبت حكاية هذه الجمل للواقع أيضاً.

أكمل ما يلي:

1 ـ تستعمل القيمة فيما يتعلّق 

2 ـ القيمة الذاتيّة لموضوع تعني القيمة التي 

3 ـ القيمة الغيريّة لموضوع تعني القيمة التي 

4 ـ لو اعتبرنا أنّ للقيمة مبدأ، فقيمة المبدأ هي..........................................، والقيمة الأعلى منها هي..........................................، والقيمة الأدنى منها هي..........................................، وإذا اعتبرنا أنّ القيمة مختصّة بالقيمة الإيجابيّة، فيطلق على المبدأ..........................................، وعلى الأعلى من المبدأ..........................................، وعلى الأدنة من المبدأ..........................................،

5 ـ لو كان لأمرين قيمة غيريّة متفاوتة بحيث لا يُمكن الجمع بينهما، فالذي يمتلك قيمة غيريّة أكبر، يمتلك قيمة..........................................،

6 ـ الاختلاف بين الواقعيّين وغير الواقعيّين في مطلوبيّة الأعمال المتنوّعة هو في..........................................،

7 ـ ..........................................، يمتلك قيمة ذاتيّة أخلاقيّة.
8 ـ الخصائص التي توجب مطلوبيّة صفاتنا وسلوكيّاتنا عبارة عن..........................................،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

65

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 9 ـ يُطلق الكمال الاختياري للإنسان على..........................................، وعليه تكون القيمة الذاتيّة الأخلاقية واقعيّة.


10 ـ العلاقة بين السلوكيّات الاختياريّة ونتائجها عبارة عن..........................................،, وعليه فالقيمة..........................................، الأخلاقية واقعيّة.

11 ـ القيم الأخلاقيّة البديلة واقعيّة بدليل..........................................،

12 ـ إنّ جميع أنواع القيم الأخلاقيّة هي..........................................،

13 ـ ..........................................، تقع في دائرة القيم الأخلاقيّة.

14 ـ ينشأ اللزوم تارة من الأمر وتارة أخرى من العقد وقد يُطلق على الضرورة بالقياس، وعلى هذا الأساس يُطلق على لزوم..........................................،،........................................ و..........................................،

15 ـ لزوم..........................................، و..........................................،، أمور غير واقعيّة, ولكنّ لزوم..........................................، واقعيّ.

16 ـ إنّ اللزوم الأخلاقي الذي يوضح الصفات والسلوكيّات الضروريّة للحصول على الكمال الاختياري للإنسان، هي من النوع..........................................، والواقعيّ.
 
 
 
 
الأسئلة
 
1 - ما هو الرابط بين بحث القيمة واللزوم الأخلاقيّ وبين الواقعيّّة؟

2 - عرّف القيمة الذاتية والغيرية والبديلة. وأعطِ مثالاً على كلّ واحدة منها.

3 - في هذه العبارات، ومع ملاحظة موضوع البحث، عيّن معنى القيمة ونوعها.

أ ـ رئيس المحكمة: يا حضرة المحامي، إنّ الشواهد الّتي قدمتها لا قيمة قضائية لها. إذا كان لديك أيّ دليل قوي فقم بتقديمه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

66

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 ب ـ إنّ ربح هذا العمل لا يقيّم مع ما صُرف فيه.


ج ـ إنّ شراء الأدوية من هذه الشركة ذو قيمة باللحاظ الاقتصادي إلّا أنّه وللأسف فإنّ أدوية هذه الشركة بالمقايسة بمشابهها من شركات الأدوية الأخرى ذات قيمة علاجية أقلّ.

د ـ على الرغم من كون الشِّعر الّذي قرأته لا قيمة له يعتد بها باللحاظ الأدبي إلّا أنّ المهم أنك أنت الّذي نظمته، وفي رأيي فإنّ هذا الشعر قيّم جداً لتنمية مواهبك الأدبية.

4 - ما هي الأمور الّتي توصف بالقيمة الذاتية والغيرية والبديلة في الأخلاق؟ وهل أنّ هذه القيم لها واقعيّة عينية؟

5 - ما هو نطاق القيم الأخلاقيّّة؟

6 - اذكر أنواع اللزوم، وما هو اللزوم الأخلاقيّ.

7 - عيّن معنى اللزوم في الجمل التالية، وأوضح في كلّ مورد دليل إجابتك.

أ ـ اللازم حضور نصف الأعضاء لاعتبار هذا الاجتماع اجتماعاً رسمياً.

ب ـ في رأيي أنّ تنظيم العقد والاتفاق لازم دفعاً لسوء الاستفادة المحتملة.

ج ـ (شرطي المرور يخاطب السائق قائلاً): اللازم عليك حملُ إجازة السوق أثناء القيادة.

د ـ (الجندي مخاطباً القائد): أَمِنَ اللازم علينا أنْ نصبغ أحذيتنا كلّ يوم؟

هـ ـ يعتقد بعض أولياء الأمور بضرورة وجود برنامج معيّن لتنمية أجسام أولادهم إلّا أنهم لا يرون من اللازم وجود برنامج لتربيتهم.

و ـ إذا كان هدف إعانتك لهذا الفقيه مجرَّد حل مشاكله، فما هو الملزم لتعريفه بأنك أنت الّذي أعنته؟

8 - اذكر علة كون اللزوم الأخلاقيّ واقعياً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

67

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 للبحث


1- مع التدقيق في بحوث هذا الفصل، أوضح لنا ما هو الأمر الّذي قمنا بإتمامه من هذين الأمرين "أ" و "ب".

(للاستفادة راجع المذكرة الأولى من هذا الفصل وقم بمباحثتها مع الآخرين).

أ ـ مع الالتفات إلى استعمالات القيمة واللزوم، أثبتنا التأثير الواقعيّ للصفات والسلوكيات الاختيارية للإنسان في تحصيل كماله الاختياري.

ب ـ مع الالتفات إلى استعمالات القيمة واللزوم والتأثير الواقعيّ للصفات والسلوكيات الاختيارية للإنسان في الوصول إلى كماله الاختياري نكون: أولاً: قد أوضحنا سبب تسميتهم لهذه الرابطة الواقعيّّة بالقيمة واللزوم.

وثانياً: منعاً لوقوع المغالطة بالتمسك بمعنى القيم واللزوم لإثبات اللاواقعيّة.

2 - من أجل أنّ نتعرّف إلى القيم الواقعيّّة، ما هي الطرق المؤدية إلى ذلك وما هي الموانع الّتي تعترض طريقنا؟

وهل يمكن الوصول إلى الكمال عند معرفة القيم الواقعيّّة؟ 
 
إقرأ
 
على الرغم من كون كشف الواقعيّات لا يرتبط بتحليل المفاهيم، إلّا أنّه وللإشارة إلى حقيقة القيمة واللزوم قمنا بتحليل مفهومها، وكذلك سوف نقوم في الفصل اللاحق، وللإشارة إلى حقيقة المفاهيم الأخلاقيّّة، بتحليل هذه المفاهيم. وفي اعتقادنا أنّه يمكن الكلام عن القيمة واللزوم والحسن والقبيح، وما ينبغي وما لا ينبغي الأخلاقيّّة بغضّ النظر عن موارد استعمال هذه المصطلحات، وبعبارة أخرى حتى ولو تفاوت معنى القيمة واللزوم في الموارد الأخرى - في غير
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

68

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

  الأخلاق - وكانا يدلان فيها أيضاً على أمور لاواقعيّة إلّا أنّ الكمال الاختياري وتأثير الصفات والسلوكيات الإنسانية فيها - والذي هو مورد بحث الأخلاق - واقعيّ، ومن الممكن البحث فيهما من دون تحليل مفهومَي القيمة واللزوم، إلّا أنّه من دون هذا التحليل لنْ يتّضح وجه تسمية القيمة واللزوم الأخلاقيّين بمجرّد ذكر القيمة واللزوم. وأما الموارد الّتي تُستعمل فيها المصطلحات والكلمات اللغوية المتشابهة فإنّ تحليل المفاهيم فيها سوف يوضح وجه تسمية الألفاظ ووجه حكاية الجمل الواردة فيها، وهذا الأمر لا بدّ منه خاصّة عندما نتكلم في الفصل اللاحق حول الحكاية الواقعيّّة للجمل الأخلاقيّّة، ومن طرف آخر، في موارد خاصّة لإثبات اللاواقعيّة، كان من الضرورة بمكان الإشارة إلى وجه استعمالها في الأخلاق لمنع حصول هذه الاستفادات، ومثالاً على ذلك فإنّه من الممكن أنْ يستدل بعضهم بهذا الشكل فيقول إنّ القيمة لما استُعملت في بعض الموارد المطابقة لميولنا وسلائقنا ولما كانت الميول والسلائق لاواقعيّة عينية لها لذا فإنّ القيم الأخلاقيّّة أيضاً لاواقعيّة عينية لها، أو أنّ يقال إنّ اللزوم في بعض الموارد قد ينشأ عن الأمر والتوافق وهما لا واقعيان لذا فإنّ اللزوميات الأخلاقيّّة لاواقعيّة أيضاً.


وبناء عليه فإنّ معرفة استعمالات القيمة واللزوم تبين لنا أنّ هذين المفهومين يستعملان أيضاً في موردَي المطلوب ذي المنشأ الواقعيّ واللزوم بالقياس أيضاً والحال أنّ القيمة واللزوم الأخلاقيّان من جملة هذين الموردين.

وكذلك فإنّ الصفات والسلوكيات الاختيارية للإنسان وبغضّ النظر عن مطابقتها لميول الأفراد وسلائقهم أو للأوامر والتوافقات لها رابطة واقعيّة بالكمال الاختياري - والذي هو مطلوب بذاته - ونبحثها في علم الأخلاق أيضاً.

وحيث إنّ تعيين المعنى الدقيق للمصطلحات وخصوصاً تفكيك المعاني الحقيقيّة عن المجازية منها ليس بالأمر السهل ولأنه لا ضرورة له فيما نهدف إليه ها هنا، لذا سنكتفي في هذا الفصل واللاحق له ببيان موارد استعمال هذه المصطلحات، وبهذا الطريق نكون قد بّينّا وجه استعمالها في مصاديقها الواقعيّّة في الأخلاق.

البحث حول ماهية القيمة وتحليلها بشكلٍ كلّيّ - وليس فقط في الأخلاق - يتمّ في الفلسفة العمليّة ضمن فرعٍ مستقل يسمّى Axiol ogy (مبحث القيم).
"
يُستعمل مفهوم القيمة أيضاً في مورد القيمة العددية (Numerical Value)، مثلاً، في المعادلة الجبرية فإنّ القيمة العددية لمتغير ما عبارة عن العدد الّذي إذا نُسب إلى ذلك المتغير تتمّ به
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

69

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 المعادلة حينئذٍ، وبالتالي فإنّ المتغير الّذي يقبل أعداداً أكبر يكون ذا قيمة عددية أكبر أيضاً.


إلا أنّ القبول باستعمال القيمة في أمثال هذه الموارد بسبب المطلوبية مشكل، ولربما يمكن إيجاد وجهٍ أعمّ لاستعمال مفهوم القيمة بحيث يشمل القيمة العددية حينئذٍ.

وبناءً على هذا الوجه فإنّ مفهوم القيمة يُطلق فقط على الموضوعات الحاوية لجهتي الكمال والنقص، وبالتالي فإنّ كمال الموضوع يُعبَّر عنه بالقيمة اللاذاتية للموضوع، وأما المؤثر في كمال الموضوع فإنّ له قيمة غيرية - بمقدار تأثيره - مثبتة أو منفية أو صفرية، وكذلك فإنّ القيم البديلة وطبقاً للتعريف فإنّها تعيَّن على أساس القيم الغيرية، وطبقاً لهذا الاحتمال فإنّ القيمة تُستعمل في مورد "الكمال".

وبناءً على هذا الترتيب فإنّ القيم المنطقية والمعرفية والدوائية والغذائية وغيرها لا ضرورة فيهاأيضاً لافتراض مطلوبيتها للإنسان. نعم قد يبحث الإنسان في العادة عن علوم تكون نتائجها مطلوبة له وخاصة في العلوم الإنسانية حيث يكون الموضوع فيها أموراً مطلوبة للإنسان. (إن البحوث العلمية أيضاً من جملة الأفعال الاختيارية للإنسان والتي لا يقوم بها الإنسان إلّا في صورة كونها مطلوبة له) وعليه فمن الممكن اعتبار نحوٍ من المطلوبية الإنسانية لمختلف الموضوعات الّتي تكون مورداً للبحث و - حتى مع تعدد الوسائط - اعتبار نوعٍ من المطلوبية الذاتية لكمال الموضوع المبحوث عنه، وكذلك لمقدماته أيضاً بالتبعية.

وعلى كلّ حال وطبقاً لهذا الاحتمال فإنّ القيمة دائماً تُستخدم في نطاق كمال الموضوع المبحوث عنه، وأيضاً فإنّ القيم الذاتية الأخلاقيّّة إنما سُمّيت ذاتية لكون الكمال في الأمور الاختيارية مرتبطاً بالإنسان، وكذلك فإنّ مقدار القيم الغيرية للصفات والسلوكيات الاختيارية لا بدّ من كونه متناسباً مع مقدار تأثيرها في الوصول إلى الكمال.

والجدير ذكره أنّ المقصود من تحليل مفهوم "القيمة" ليس تعيين المعنى الدقيق لها وليس تفكيك معانيها الحقيقيّة عن المجازية منها، لأنّه من الممكن إطلاق هذا اللفظ على بعض الموارد من باب المجاز أو من باب التوسعة في معنى اللفظ، وبالتالي فإنّ تفكيك هذه الموارد بعضها عن بعض - حتى ولو راجعنا جميع استعمالات هذا اللفظ - مشكل. وما يهمنا في هذا البحث وبناءً على احتمال المطلوبية والكمال هو مصاديق القيمة الأخلاقيّّة للكمال الاختياري للإنسان والأعمال والصفات المؤثّرة في ذلك، وكون هذه القيم واقعيّة. وأما بناءً على كون الوجه في استخدام القيمة هو المطلوبية، فلا بدّ أنْ نوضح أنّ منشأ مطلوبية مجموع الأمور الاختيارية للإنسان هو أمر واقعي، أيّ مطلوبية الكمال الاختياري - وكما أوضحناه في هذا الفصل باختصار وسنبينه بشكل كامل في الفصل التاسع من هذا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

70

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 الكتاب، إلّا أنّه بناءً على الوجه الثاني فإنّ كلّ موارد القيمة في الأساس تُستعمل في نطاق الكمال، ومن الواضح أنّ الكمال الاختياري للإنسان والذي هو هدف الأخلاق يُعتبر أمراً واقعياً - مع أنّ جعل هدف الأخلاق هو الكمال الاختياري للإنسان يحتاج إلى مزيد من التوضيح.


يمكن الجمع بين المراتب المختلفة لإحدى القيم الذاتية، حيث إنّ المرتبة العليا واجدة للمرتبة الأولى منها، وبناءً عليه لا يمكن استخدام القيم البديلة في مورد المراتب المختلفة للقيمة الذاتية.

وكذلك إذا كانت القيمة الذاتية متعدّدة في موضوع واحد فإنّه لا يمكن مقايستها بعضها ببعض. (راجع المذكرة السابعة من الفصل التاسع من هذا الكتاب). وبناءً عليه فإنّ القيم البديلة لا يمكن افتراضها سواء في مقايسة المراتب المختلفة لإحدى القيم الذاتية أو في مقايسة القيم الذاتية المتعدّدة في موضوع واحد، وبالتالي فإنّها تُستخدم فقط في مورد مقايسة القيم الغيرية.

المراد من القيمة الأخلاقيّّة في هذا الكتاب تلك القيمة الناظرة إلى الأخلاق والشاملة للقيمة الذاتية الأخلاقيّّة أيضاً. وأما البيانات الّتي تُنسب فيها القيمة الذاتية الأخلاقيّّة إلى منشأ الأخلاق فليست بيانات أخلاقيّّة ولا يمكن اعتبارها أيضاً من علم الأخلاق لأنّ موضوعها لا يرتبط بالصفات والأفعال الاختيارية للإنسان.

المفاهيم المستخدمة في بيان الصفات الإنسانية على طائفتين: الأولى منها، نظير الحكمة والعدالة والظلم، تبيّن مراتب كمال الإنسان أو نقصه، وإذا كانت اختيارية فتُعتَبَر أيضاً من مراتب القيمة الذاتية الأخلاقيّّة.

والثانية منها نظير كون الإنسان رياضياً أو عاملاً أو رئيساً تبين خصائص قد تؤثّر أحياناً في كمال الإنسان أو نقصه، ومن ثمّ فإنّ قيمتها الأخلاقيّّة ترتبط بمقدار تأثيرها في الكمال أو النقص عند الإنسان. وعليه فإنّ القيمة الأخلاقيّّة لهذه الطائفة من الصفات غيرية. كذلك فإنّ كلّ الصفات الاختيارية، ومن زاوية تأثيرها في السلوك الاختياري، مؤثرة أيضاً في كمال الإنسان أو نقصه، ولا يُستثنى من هذه القاعدة أيضاً صفات الطائفة الأولى لأنّ هذه الصفات تقتضي سلوكيات تتناسب معها وتساهم في تنمية الكمال أو النقص عند الإنسان. ومن هذه الجهة تعتبر هذه الصفات الاختيارية ذات قيمة غيرية، ولذا يمكن القول بنحوٍ كلّيّ إنّ كلّ الصفات الاختيارية المؤثّرة في الكمال الاختياريّ للإنسان لها قيمة غيرية.

اللزوم أو الضرورة بالقياس، بمعنى لزوم أو ضرورة شي‏ء بالمقايسة مع افتراض شي‏ء آخر، يمكن فرضه في مورد العلة بالمقايسة بمعلولها، وفي مورد المعلول بالمقايسة بعلته التامة وفي مورد أحد 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

71

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 معلولي العلة التامة بالمقايسة مع المعلول الآخر لها والضرورة بالقياس في هذا المورد أعم من الضرورة بالغير - أيّ المختصة بتلك الضرورة الّتي يأخذها المعلول من علته - ومضافاً إلى هذا فإنّه في مورد الضرورة بالغير لا بد من وجود المعلول - والذي استفاد ضرورته من وجود علته - ووجود العلة، وأما الضرورة بالقياس فيمكن حصولها ووجودها حتى مع عدم وجود المعلول والعلة. (لمزيد من التفصيل راجع الكتب الفلسفية).


وأما في الأخلاق فإنّ الضرورة بالقياس تُستخدم فقط في مورد ضرورة العلة (فعل أو ترك بعض الأفعال الاختيارية، ووجود أو عدم وجود بعض الصفات الاختيارية) للمعلول (هدف الأخلاق).

لا بدّ من الإشارة إلى ثلاث نكات في مورد الأنواع الثلاثة للزوم واللزوم الأخلاقيّّ.

الأولى: لو افترضنا في مورد اللزوم الواقعيّّ صدور أمرٍ به أو وجود عقد متّفقٍ عليه فإنّ ذلك لا يُخرجه عن الواقعيّّة، لأنّ اللزوم الواقعيَّّ ناظرٌ إلى الرابطة الواقعيّّة بين الفعل ونتيجته المثبتة والقائمة بغضّ النظر عن وجود الأمر والتوافق.

ومثالاً على ذلك: لو هددت السرقة الأمن الاجتماعيّ فإنّ منع السرقة قانونياً ووضع القوانين الحقوقية الّتي تعاقب السارق لا توجب صيرورة لزوم الامتناع عن السرقة لتأمين الأمن الاجتماعي أمراً غير واقعي.

هذا ومن الممكن في موضوع واحد وجود اللزوم الواقعيّّ وأيضاً اللزوم الأمريّ أو اللزوم التوافقيّ في آن واحد، ومع هذا تتفاوت جهة اللزوم فيها، بل من الممكن كون اللزوم الواقعيّ مبنياً على الأمر أو التوافق، ومثالاً على ذلك: لنفترض بناءً على اتفاقٍ ما مقرَّرٍ بين الأعضاء أنّ من يتأخر عن حضور الجلسة يدفع 50 توماناً عن كلّ دقيقة تأخير، وبناءً عليه فإنّ قولنا في هذه الجملة "اللازم على كلّ من تأخر عن هذه الجلسة أنّ يدفع 50 توماناً عن كلّ دقيقة" بيان للّزوم الاتفاقي، وأما قولنا في هذه الجملة "لئلا تؤخذ أموالك بعنوان العقوبة، اللازم عليك أنْ تحضر في بداية الجلسة"، بيان للّزوم الواقعيّ رغم أنّ هذا اللزوم نشأ بناءً على الاتفاق المسبق "واقعاً" (لا بدّ من التدقيق في الكلام. في هذا المثال حيث إنّه يُبيَّن فقط اللزوم الواقعيّ لخسارة المال عند التأخير ولا يبيَّن لزوم التبعية والطاعة للتوافق المذكور، لأنّ لزوم التبعية ناظرٌ إلى أنّ هذا التوافق المسبق قد وُضع واقعاً على أساس نتائج مثبتة واقعيّة وكما هو الحال في المثال الآتي) ومن طرف آخر من الممكن أيضاً كون اللزوم الأمري أو الاتفاقي مبتنياً على الواقعيّّة، ولمجرد التمثيل نقول إنّه عندما توضع بعض المقررات أو تصدر بعض الأوامر، من أجل حفظ النظام، فإنّ نفس هذه اللزومات أمرية وتوافقية، مع أنّ نفس هذا الأمر أو التوافق قد قُرِّر بناءً 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

72

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 على الرابطة الضروية بين إطاعة الأوامر ورعاية المقررات من جهة، وحفظ النظام من جهة أخرى، وهذه الرابطة واقعيّة.


وبناءً على هذا لا بدّ في أيّ مثالٍ من أنْ نعيّن بالدقة ابتداءً مورد اللزوم ومن ثمّ تشخيص نوعه، ولذا في مثال وضع العقوبة على التأخير في حضور الجلسة، إذا كان المراد "لزوم دفع العقوبة المقررة في مقابل مقدار التأخير المعيّن" فإنّ هذا اللزوم توافقيّ، وإذا كان المراد "لزوم الحضور في بداية الجلسة للمنع من خسارة المال"، فإنّ هذا اللزوم واقعيّ.

وفي المثال الثاني أيضاً، إذا كان المراد "لزوم إطاعة الأمر أو القانون المتفق عليه" فإنّ هذا اللزوم أمريّ وتوافقيّ، وإذا كان المقصود منه "لزوم إطاعة الأمر والقانون من أجل حفظ النظام" فإنّ هذا اللزوم واقعيّ.

الثانية: لا يشترط في الجمل المبينة للّزوم الواقعيّّ أنْ تكون صادقة بالضرورة، ومثالاً على ذلك فإنّ هذه الجملة "من أجل غليان الماء لا بدّ من أنّ تصل درجة حرارته إلى 200 درجة مئوية" بيان للّزوم الواقعيّ مع أنها كاذبة.

الثالثة: مع ملاحظة ما تقدم في النكتتين السابقتين والتوضيح المذكور في المتن حول منشأ الميل إلى السلوكيات والصفات الخاصّة، يمكن القول في مجال الجمل اللزومية الأخلاقيّّة إنّ تلك الطائفة من الجمل الأخلاقيّّة المبينة للزوم إنما سُمّيت أخلاقيّّة بسبب بيانها لزوم الصفات أو السلوكيات الخاصّة الموصلة إلى الكمال الاختياري.

وبناءً عليه فإنّ كلّ الجمل الأخلاقيّّة اللزومية - وبغضّ النظر عن كونها صادقة أو كاذبة - إنما تُعتبر جملاً أخلاقيّّة لكونها مبينة للّزوم الواقعيّّ حتى ولو كانت صادرة بأمر الآمر أو بناء على اتفاق سابق، لأنّ جهة الأمرية أو التوافقية لا ربط لها في الأساس بأخلاقيّتها، وبعبارة أخرى فإنّ لزوم بعض الصفات والسلوكيات الاختيارية في الأخلاق إنما تبحث فيه من جهة لزومها بالمقايسة بالوصول إلى الكمال الاختياري للإنسان، ومثل هذا اللزوم يعتبر من النوع الواقعيّّ. ولو فرضنا وجود اللزوم الأمري أو التوافقي في مورد بعض السلوكيات الاختيارية أيضاً فإنّ ذلك لا يخرج لزومها الأخلاقيّ عن الواقعيّّة.

قد يُستفاد أحياناً من كلمة "الإلزام" بدل كلمة "اللزوم" ، وحيث إنّه يُفهم من كلمة الإلزام اللزوم الأمري أو التوافقي رجّحنا في هذا البحث استخدام مصطلح "اللزوم".

وبعبارة أخرى فإنّ المعنى الأصلي للّزوم هو المصاحب واللازم الّذي لا يَنفصل عن غيره.

وهذه المصاحبة في مورد اللزوم بالقياس إنما هي بسبب الرابطة التكوينيّة بين العلة والمعلول والتي 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

73

الفصل الثالث: قيمة الأخلاق ولزومها

 هي رابطة واقعيّة، وأما اللزوم الأمري والتوافقي فهو نوعٌ من الطلب والتوافق من أجل إقامة مثل هذه المصاحبة والملازمة والذي يسمّى عندهم أيضاً بالإلزام بمعنى المصاحبة أو جعله مصاحباً، وعلى الرغم من أنّ مصطلح "الإلزام" قابل للاستعمال في الجعل التكوينيّّ للّزوم - وأن هذا النوع من الإلزام، والذي يعدّ جعلاً تكوينيّ إنما هو لزومٌ بالقياس إلّا أنّ ذلك لا يتنافى مع كون هذا اللزوم واقعياً.

 

 

 

 

 

 

 

 

79


74

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية 

 
تعرّفنا في الفصل الثاني إلى نظريتي الواقعيّّة واللاواقعيّة في الأخلاق ولوازمهما. وقد عُلم ضمناً أنّ تحصيل النظرية الصحيحة يدور مدار تحليل القيم واللزوميات الأخلاقيّّة، وكذلك حلّ مسألة حكاية الجمل الأخلاقيّّة للواقع أو عدم حكايتها له. وقد أثبتنا في الفصل الثالث واقعيّة القيم واللزوميات الأخلاقيّّة، وأما في هذا الفصل فسوف نشير إلى أنّ حل مسألة حكاية الجمل الأخلاقيّّة للواقع يرتبط بتحقيق المفاهيم الأخلاقيّّة ودراستها، ولذا فإنّه بعد تحقيق المفاهيم الأخلاقيّّة سوف نُثبت حكاية الجمل الأخلاقيّّة للواقع وتبعاً لها صحة نظرية الواقعيّّة.

1 - الجمل والمفاهيم الأخلاقيّّة

المسألة الأساسية والفعلية لنا هي في كون الجمل الأخلاقيّّة حاكية للواقع أم غير حاكية له، وابتداءً، من الأفضل لنا تشخيص هذه الجمل بدقّة ومن ثمّ التحقيق في حكايتها أو عدم حكايتها الواقع.

لنأخذ بالاعتبار هذه الجمل:

1 - الطقس جيدٌ.

2 - جهازك الهضميّ يعمل بشكل جيد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

75

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 3 - حفظ أسرار الآخرين يقلّل من الخصومات الاجتماعية.


4 - الحسَن هو الشي‏ء الّذي له قيمة.

5 - الوفاء بالعهد عمل حسن.

ذكرنا في الفصل الأوّل أنّ علم الأخلاق يتكلم عن قيمة ولزوم الصفات والسلوكيات الاختيارية عند الإنسان.

وعلى هذا الأساس يمكن التمييز في هذه الجمل الخمسة بين ما هو أخلاقيّّ منها (ناظرةٌ إلى الأخلاق) وبين ما هو غير أخلاقيّ كذلك (غير ناظرٍ إلى الأخلاق).
إنّ الجملة الأولى لا تتكلم عن قيمة ولزوم صفةٍ ما أو سلوك ما.

والجملة الثانية موردها فعل لا يرتبط حصوله باختيارنا، ولهذا لا ارتباط لها بالأخلاق.

والجملة الثالثة موردها السلوك الاختياري عند الإنسان إلّا أنها لا تتكلم عن قيمته أو لزومه.

وأما الجملة الرابعة فقد قدّمت توضيحاً حول مفهوم "الحسن" نفسه ولم يُقيّم معه أيّ صفة أو سلوك اختياري، وبالتالي فإنّ هذه الجملة ترتبط بفلسفة الأخلاق لا بالأخلاق نفسها. وأخيراً فإنّ الجملة الخامسة تقيم سلوكاً اختيارياً عند الإنسان، ومن بين الجمل الخمسة المذكورة فإنّها الجملة الوحيد الناظرة إلى الأخلاق.

الجمل من (6) إلى (12) أخلاقيّّة أيضاً:

6 - الحرص على مال الدنيا قبيح.

7 - يجب أنّ تكون أميناً.

8 - لا ينبغي للقادرين أنْ يقصّروا في إعانة العاجزين.

9 - مع أنّ ذكر عيبِ أحدٍ ما يمنع الناس من الانخداع به، إلّا أنّ العمل الصحيح هو أنْ نذكّره بعيبه.

10 - الرشوة عمل غير صحيح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

76

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 11 - النهي عن المنكر وظيفة كلّ الناس.


12 - أيها المؤمنون لا يغتب بعضكم بعضاً.

إذاً الجمل الأخلاقيّّة شبيهة بإحدى هذه الجمل، وباستثناء الجملة الأخيرة (12) فإنّ الجمل من(5) إلى (11) جميعها خبرية، وقد استُفيد فيها من هذه المفاهيم: "الحسن" "القبيح" "الصحيح" و"غير الصحيح" و "يجب أو ينبغي" و"لا يجب"، "لا ينبغي" و"الوظيفة" (1). وهنا سنستفيد من اصطلاح المناطقة فنسمّي ذلك الجزء من الجملة الّذي نخبر عنه بـ "الموضوع"، وذلك الجزء الّذي يخبر عن الموضوع بـ "المحمول". وعليه ففي الجمل الخبرية الأخلاقيّّة نعتبر الصفة أو السلوك الاختياري بمثابة الموضوع، ونبين فيها القيمة أو اللزوم الأخلاقيّ بأحد هذه المفاهيم السبعة (أو المفاهيم المشابهة لها).

وكما سيأتي توضيحه سوف نستفيد من المفاهيم الأربعة الأولى لبيان القيمة(2)، ومن المفاهيم الثلاثة الأخيرة لبيان اللزوم.

إنّ مفاهيم "الحسن"، "القبح" "الصحيح" و"غير الصحيح" مفاهيم قيمية، ومفاهيم "يجب"، "لا يجب" و"الوظيفة" مفاهيم لزومية.


يستفاد من المفاهيم القيميّة واللزومية في الجمل الخبرية الأخلاقيّّة لبيان القيم واللزوميات الأخلاقيّّة.

وحيث إنّ المفاهيم القيميّة واللزومية تُستخدم لبيان القيم واللزوميات الأخلاقيّّة سوف نسميها "المفاهيم الأخلاقيّّة".

ومع هذا التوضيح يمكن القول إنّ مفهوم "الحسن" في الجمل (1)و (2) و(4) ليس مفهوماً أخلاقيّاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

77

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 سؤال: مع أنّ موضوع الجملة الآتية يُعتبر من جملة الأعمال الاختيارية عند الإنسان، إلّا أنّ مفهوم "الصحيح" في هذه الجملة ليس أخلاقيّاً، وبالتالي لا يمكن اعتبارها جملة أخلاقيّّة، لماذا؟


"في اللغة الفارسية لا يصحّ استخدام الفاعل بعد الفعل إلّا عند الضرورة كما في الشعر مثلاً".

وبناءً على ما تقدّم من تعريف علم الأخلاق وتعريف المفاهيم القيميّة واللزومية والأخلاقيّّة، يمكن القول إنّ الجمل الخبرية إنما تكون أخلاقيّّة إذا تحقق فيها هذان الأمران:

1 - تعلقها بالصفات والسلوكيات الاختيارية عند الإنسان(3).

2 - الاستفادة فيها من المفاهيم الأخلاقيّّة.

الجملة الثانية عشرة تشير إلى إمكان بيان الجمل الأخلاقيّّة بصورة الأمر أو النهي أيضاً، وفي مثل هذه الجمل فإنّ الأمر والنهي يبينان اللزوم الأخلاقيّ. وبناءً عليه يمكن تشخيص الجمل الأخلاقيّّة من خلال التعريف التالي:

الجمل الّتي موضوعها الصفات والسلوكيات الاختيارية عند الإنسان، ومحمولها أحد المفاهيم الأخلاقيّّة، تسمى "الجمل الخبرية الأخلاقيّّة" وأما الجمل الّتي استفيد فيها من الأمر أو النهي لبيان اللزوم الأخلاقيّّ فإنّها تسمّى بالجمل الأخلاقيّّة الأمرية أو النهيية.

2 - الحكاية الواقعيّّة للجمل الخبرية الأخلاقيّّة

لنرَ أولاً كيفية كون الجمل الخبرية الأخلاقيّّة حاكية للواقع أو غير حاكية له. ربما نجد طريق الحل من خلال ملاحظة الجمل الحاكية للواقع أو غير الحاكية له في غير مورد الأخلاق.
وكنموذج نأخذ بالاعتبار هذه الجمل:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

78

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 13 - الأطعمة الهنديّة لذيذة.


14 - الأطعمة الهنديّة كثيرة البهارات.

15 - "منطقياً" لا يمكن استنتاج لذة الطعام من خلال كونه كثير البهارات.

بناءً على التعريف المتقدم فإنّ (13) غير حاكية للواقع، وأما (14) و(15) فإنّها حاكية عنه، ويبدو أنّ حكاية هذه الجمل أو عدم حكايتها عن الواقع يرتبط بموضوعها ومحمولها.

فمع أنّ الجملتين (13) و(14) تتكلمان عن الأطعمة الهنديّة، والأطعمة الهنديّة لها واقعيّة عينية، إلّا أنّنا اعتبرنا(13) غير حاكية للواقع واعتبرنا (14) حاكية للواقع، فلماذا؟

إن تفاوت هاتين الجملتين في حكاية الواقع يرجع إلى المفاهيم الأخرى المستعملة فيهما، أيّ مفهومي "اللذيذ" و"الكثير البهارات"، حيث يُطلق الأوّل على ما هو مرضيّ عند الذائقة الشخصيّة.

ويُطلق الثاني على الأطعمة الحاوية أكثر من غيرها على البهارات، ولذا فالأول يرتبط بسليقة الشخص وبغض النظر عنها لا يمكن أنّ يشير إلى الواقعيّّة، بينما يشير الثاني إلى وصف واقعي وحينئذٍ يمكن القول إنّ المفهوم الثاني يحكي الواقع.

المفهوم الحاكي للواقع هو ذلك المفهوم الّذي يشير إلى الواقعيّّة العينية بغضّ النظر عن الأمر والتوصية والإحساس والسليقة، والتوافق، والتعاهد.

والآن نقايس (13) بـ (15). ومع أننا استعملنا في كلا الجملتين مفهوماً لا يحكي الواقع "اللذيذ"، إلّا أنّ (13) غير حاكية للواقع وأما (15) فحاكية للواقع لأنّ الأخيرة أعطت خبراً واقعياً عن "اللذيذ"، وعليه يمكن القبول إنّ:

الجمل الخبرية الّتي يحكي محمولها الواقع تكون حاكية له أيضاً وأما تلك الّتي لا يحكي محمولها الواقع فتكون غير حاكية له أيضاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

79

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 وحينئذٍ فإنّه مع التمسّك بهذه القاعدة يتّضح طريق حل حكاية أو عدم حكاية الجمل الخبرية للواقع: "إذا كانت المفاهيم الأخلاقيّّة حاكية للواقع فالجمل الخبرية كذلك أيضاً، وأما إذا كانت هذه المفاهيم غير حاكية للواقع فالجمل الخبرية أيضاً غير حاكية للواقع".


وبناءً على هذا إذا أردنا معرفة كون الجمل الخبرية الأخلاقيّّة حاكية للواقع أم لا فلا بدّ أولاً من تحليل المفاهيم الأخلاقيّّة، ومع التحقيق في معانيها سيتضح كون هذه المفاهيم حاكية للواقع أم لا.

1 - 2. تحليل المفاهيم الأخلاقيّّة

الجدير ذكره أنّه يمكن البحث من جهات متعدّدة حول الموضوعات والمحمولات أو المفاهيم الأخلاقيّّة (الحسن والقبيح، الصواب، الخطأ، ما ينبغي، ما لا ينبغي، والوظيفة)(4).

ولئلا نخرج في بحثنا عن الحددود المنطقية، سوف نقوم ببحث المفاهيم الأخلاقيّّة فقط، وفقط من زاوية إعانتها لنا في حل مسألة حكاية الجمل الأخلاقيّّة للواقع.

1 - 1 - 2. الحسن والقبيح‏

اعتبرنا في هذا الفصل الحسن والقبح من المفاهيم القيميّة وذلك بسبب الاستفادة من هذين المفهومين في الإشارة إلى القيم.

تشير هذه الموارد الثلاثة إلى ثلاثة أمثلة استُعمل فيها مصطلح "الحسن" بالترتيب فيما له قيمة ذاتية وغيرية وبديلة:

16- إنّ تفكيرك الصحيح باللحاظ المنطقي حسنٌ.

17 - إنّ هذا القلم غير حسن في التخطيط.

18 - لقد أصبحت مبتلىً بعقدة التحقير، الأحسن لك بدل التفكير بالنقص أنّ تفكر بقدراتك.

تمرين: مع ملاحظة ما تعلمناه في الفصل السابق حول استعمالات القيمة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

80

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 الأخلاقيّّة، أعطِ ثلاثة أمثلة استُعمل فيها مصطلح "الحسن" في الإشارة إلى القيم الذاتية والغيرية والبديلة في الأخلاق.


ومن جملة الموارد الّتي نستعمل فيها مصطلح "الحسن" هو عندما نريد بيان ما هو مرضيّ عندنا. ومثالاً على ذلك فإنّ الجملة (1) (الطقس حسن) بهذا المعنى أيّ أنّ الطقس لطيف ومطابق لطبعنا وميلنا. إنّ المرضيّ أيضاً نوع من المطلوبية، إلّا أنّ هذه المطلوبية إذا كانت مرتبطة فقط بإحساس الفرد وسليقته ولا تستند إلى الواقعيّّة فإنّ مثل هذه الجمل لن تكون حاكية للواقع، ومع الالتفات إلى ما بُيِّنَ في الفصل السابق حول واقعيّة القيمة الأخلاقيّّة من أنّ مطلوبية الصفات والسلوكيات الاختيارية تنبع من المطلوبية الواقعيّّة لكمال الإنسان ولا ترتبط بالأوامر والتوصيات أو الأحاسيس والسلائق أو التوافقات والمعاهدات، لذا لا بدّ أنّ نلتفت بناءً على ما ذكرناه إلى أنّ "الحسن" بمعنى المرضيّ لا يمكن اعتباره مفهوماً أخلاقيّاً على الرغم من أنّ القيم الأخلاقيّّة - ومن جهة ارتباطها بالكمال الإنساني، وعند الأشخاص الّذين يدركون هذا الارتباط - مرضية أيضاً.

سؤال: أوضح معنى الجملتين (2) و(5). واذكر بأيّ معنى استُعمل فيهما مصطلح "الحسن".

ومع هذه التوضيحات الّتي قدمناها حول مفهوم "الحسن" ستتضح أيضاً استعمالات مصطلح "القبيح".

2 - 1 - 2. الصواب والخطأ

إنّ هذين المفهومين أيضاً من جملة المفاهيم القيميّة ويستعملان عادة للإشارة إلى القيمة الغيرية أو البديلة(5).

في هاتين الجملتين أُطلق مفهوم "الصواب" بالترتيب على ما له قيمة غيرية، وقيمة بديلة:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

81

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 19- لم تسلك الطريق الصائب، إنّ هذا الطريق لن يوصلك إلى مقصودك.


20- لديك مرض في القلب، لذا مع وجود اختصاصي القلب من الخطأ مراجعة الطبيب العادي.

ويستعمل هذان المصطلحان في الإخلاق أيضاً لتقييم الصفات والأفعال الاختيارية أخلاقيّاً.

فالعمل الصائب هو العمل الّذي يتناسب مع هدف الأخلاق، وتبعاً لها يكون مطلوباً بحيث إنّه لا يمكن القيام إلّا بعمل واحد من بين الأعمال المتعدّدة. وكذلك فإنّ العمل الّذي يتناسب بشكل أكبر مع الأخلاق سيكون مطلوباً بشكل أكبر أيضاً.

3 - 1 - 2. ما ينبغي وما لا ينبغي‏

21- (قائد المعسكر مخاطباً جنوده): ينبغي لكم الحضور في التدريب الصباحيّ عند تمام الساعة السادسة.

22- طبقاً للاتفاق، ينبغي دفع 30% من أجورنا مسبقاً.

23- (حارس الغابة مخاطباً الأطفال): لا يمكنكم إشعال النار بهذا الخشب ينبغي أنْ يكون الخشب يابساً.

إنّ هذه الجمل الثلاثة نماذج مختلفة لاستعمال ما "ينبغي". وبالالتفات إلى معاني هذه الجمل فقد استُعمل "ما ينبغي" في الإشارة إلى أنواع اللزوم: فالجملة (21) مبينة للّزوم الأمريّ ويمكن أنّ نستعمل مكانها وبنفس المعنى هذه الجملة:

´21- اللازم عليكم الحضور في التدريب الصباحي في تمام الساعة 6.

والجملة (22) مبينة للزوم والوجوب التوافقيّ العمليّ، ومعنى هذه الجملة ما يلي:

´22- طبقاً للاتفاق، اللازم دفع 30% من الأجر مسبقاً.

وأمّا جملة "ينبغي كون الخشب يابساً" الواردة في (23) فليست أمرية ولا توافقية حيث إنّ الحارس لا يريد من الأطفال أنْ ييبسوا الخشب لإشعال النار، وكذلك ليس مراده طبقاً للتوافق لزوم كون الخشب يابساً، بل مراده من ذلك أنّه:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

82

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 23- لإشعال النار، اللازم كون الخشب يابساً.


وقد استعمل "ما ينبغي" في هذه الجملة بمعنى اللزوم بالقياس(6) كذلك فإنّ كلمة "لا ينبغي" أيّ "ينبغي" المنفية تُستعمل بمعنى لزوم النفي وأيضاً ربما يكون هذا اللزوم أمرياً أو توافقياً أو بالقياس.

سؤال: بأيّ معنى "لا ينبغي" في هذه الجملة؟ احذف كلمة "لا ينبغي" منها واكتب الجملة المطابقة لها في المعنى بعدئذٍ. (الطببيب مخاطباً مريضه: للأسف فإنّ مرضك قد اشتدّ، لقد قلت لك إنّه لا ينبغي لك أكل الأطعمة المقلية).

لقد أشرنا في الفصل السابق إلى أنّ اللّزوم الأخلاقيّّ نوع من اللزوم بالقياس. وبناءً عليه فإنّ هذين المصطلحين "ينبغي" و "لا ينبغي" يستخدمان في الأخلاق لبيان هذا النوع من اللزوم، وكذلك فقد أشرنا إلى أنّ اللزوم بالقياس له واقعيّة عينية، ولذا طبقاً للتعريف الأخلاقيّ فإنّ "ينبغي" و "لا ينبغي" حاكية للواقع.
وبناءً على هذا فإنّ "ينبغي" في الجمل الأخلاقيّّة بيان للزوم التحلي ببعض الصفات، والقيام ببعض الأفعال الاختيارية للوصول إلى هدف الأخلاق أيّ الكمال الاختياريّ للإنسان.
وكذلك فإنّ "لا ينبغي" في الأخلاق بيان للزوم التخلّي عن بعض الصفات وترك بعض الأفعال للوصول إلى هذا الهدف أيضاً. لأنّه عندما نقول في الأخلاق إنّه "ينبغي القيام بالعمل "أ"" فمعناه أنّ القيام به لازم للوصول إلى الكمال الاختياريّ عند الإنسان، وعندما نقول فيها أيضاً إنّه لا ينبغي القيام بالعمل "ب" فمعناه أيضاً لزوم تركه للوصول إلى هذا الهدف. لكن لماذا لا تستخدم هذه العبارة "للوصول إلى الكمال الاختياري للإنسان" في الجمل الأخلاقيّّة بشكل عام؟ دقّق في هذه الجملة:

24- ينبغي تعليم الأطفال المسائل الصحية.

في هذه الجملة استُعملت "ينبغي" بمعنى اللزوم بالقياس. ولكن حُذف من الجملة التعليل "لأجل..."، والمراد منها أنّ تعليم المسائل الصحية للأطفاف لأجل سلامتهم لازمٌ أو أنْ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

83

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 نقول بعبارة أخرى: إذا أردنا بقاء الأطفال سالمين ينبغي لنا تعليمهم المسائل الصحية. لكن من الواضح أنّ سلامة الأطفال هي ما نريده نحن ولذا فلا ضرورة لذكره فيها.


وكذلك الحال في الأخلاق حيث إنّ المفروض وضوح الهدف الكلي منها وهو مطلوب الجميع، ولذا لا ضرورة لذكره في الجمل الأخلاقيّّة، لكن لا بدّ من الالتفات إلى أنّ حذف التعليل "لأجل" من اللزوم بالقياس يجب ألا يوقعنا بالاشتباه بينه وبين اللزوم الأمريّ أو التوافقيّ.

4 - 1 - 2. الوظيفة

المعنى الأصليّ للوظيفة هو إيكال عملٍ ما إلى أحد الأشخاص بناءً على أمر آخر، أو اتفاق جمعٍ ما عليه، لكن في صورة قولنا بوجود نحو من الصلاحية لهذا الآمر أو الجمع لإصدار وتعيين الوظائف.

وبناءً عليه يمكن القول إن "الوظيفة" في الأصل هي للإشارة إلى اللزوم الأمري أو التوافقي، إلّا أنّ هذا المصطلح - وبنحو المجاز أو من باب التوسعة في معنى اللفظ - يُستخدم أيضاً لبيان لزوم عملٍ ما لهدف ما - وهذا اللزوم من نوع اللزوم بالقياس ولا وجود فيه لأي أمر أو توافق - وأحياناً يؤُخذ بالاعتبار في هذه الموارد كون القوة المدركة للزوم (العقل) بمنزلة الآمر وتسمى تلك الوظيفة حينئذٍ بالوظيفة العقلية.

وأحياناً تشخّص أيضاً بحسب الموضوع المبحوث فيه، فيقال الوظيفة السياسية والوظيفة الاجتماعية، والوظيفة الدينيّة أيّ تلك الأمور الّتي يلزم القيام بها سياسياً أو اجتماعياً أو دينياً.

وكذلك الحال في الأخلاق حيث إنّ اللزوم فيها لزوم بالقياس فإنّ الوظيفة تُستعمل بهذا المعنى أيضاً، وبالتالي فإنّ كلّ الأعمال اللازمة لتحصيل الهدف من الأخلاق تسمّى بالوظيفة الأخلاقيّّة. ومثالاً على ذلك القول: إن مساعدة العاجزين وظيفة القادرين، وبناءً عليه فإنّ الوظيفة في الأخلاق تستعمل في مورد لزوم عملٍ ما لتحصيل الهدف من الأخلاق، وهذا اللزوم من نوع اللزوم بالقياس ولا حاجة له لأمر الآمرين أو اتفاق المتفقين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

84

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 2 - 2. النتيجة


لقد أوضح تحليل المفاهيم الأخلاقيّّة أنّ هذه المفاهيم حاكية للواقع(7)، وأنها تُستخدم لبيان القيم واللزوميات الواقعيّّة الأخلاقيّّة. وقد ذكرنا سابقاً أنّ الجملة الخبرية إذا كان محمولها حاكياً للواقع تكون حاكية للواقع، لذا يمكن استنتاج ما يلي:

الجمل الخبرية الأخلاقيّّة حاكية للواقع

3 - واقعيّة الجمل الأخلاقيّّة الأمرية أو النهيية

لا شك أنّ جملتي "كن شجاعاً" و "لا تحسد" ليستا جملتين خبريتين في الظاهر، لأننا استفدنا فيهما من جعل الأمر النهي، وهنا نسأل: هل الجمل الأخلاقيّّة الأمرية أو النهيية حاكية للواقع أم أنها غير حاكية للواقع؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال، لنرَ هل يمكن للجمل الحاوية للأمر والنهي أنّ تحكي الواقع أم لا:

لنلتفت إلى الجمل الآتية:

25- إذا أردت استرجاع عافيتك، لا تأكل الأطعمة المقلية.

26- إما أنّ لا تصادق حارس الفيلة، أو ابنِ بيتاً من أجل الفيل.

27- قم بإحياء الليل لتكن سعيداً.

ورغم أنّ هذه الجمل مشتملة على الأمر أو النهي فإنّها تدلّ وبغضّ النظر عن الأمر والإحساس والتوافق على اللزوم الواقعيّّ (اللزوم بالقياس)، فالجملة الأولى تدل على أنّ عدم أكل الأطعمة المقلية لازم لأجل استرجاع العافية.

والجملة الثانية تقول إن لازم الصداقة مع حارس الفيلة أنّ تبني بيتاً لها.

والجملة الثالثة أيضاً مضافاً إلى توصيتها بإحياء الليل تدل على اللزوم الواقعيّ له من أجل السعادة.

نعم قد تُستخدم الجمل الحاوية للأمر أو النهي في بعض الموارد لمجرد الدلالة على الأوامر وبيان مراد المتكلم كما في قولنا "اعطني الماء" أو لبيان مجرد التوافق والتعاهد كما في قولنا: "بناءً على ما صُوِّب في الجلسة السابقة، عليك أنّ تقدم تقرير
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

85

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

  العمل في آخر الشهر". وبشكل عام فإنّ الأمر والنهي يدلان دائماً على اللزوم، غاية الأمر أنّ هذا اللزوم قد يكون أمرياً أو توافقياً أو بالقياس أيضاً. وطبقاً للتعريف فإنّ تلك الطائفة من الجمل الحاوية للأمر والنهي والمبينة للّزوم بالقياس حاكية للواقع.


وكما أشرنا فإنّ الجمل الأخلاقيّّة الأمرية والنهيية تُستخدم لبيان اللزوم الأخلاقيّّ، وإنّ هذا اللزوم من نوع اللزوم بالقياس. ولذا نستنتج أنّ الجمل الأخلاقيّّة الأمرية أو النهيية حاكية للواقع‏

4 - النتيجة

في هذا الفصل وبالإضافة إلى تعريف الجمل الأخلاقيّّة قمنا بتقسيمها أيضاً إلى قسمين: الجمل الأخلاقيّّة الخبرية، والجمل الأخلاقيّّة الأمرية والنهيية، ومن ثمّ وبعد تحليل المفاهيم الأخلاقيّّة أشرنا إلى أنّ الجمل الخبرية الأخلاقيّّة حاكية للواقع، ثمّ أثبتنا كون الجمل الأمرية والنهيية الأخلاقيّّة حاكية للواقع أيضاً. وبناءً على ما تقدم يمكن القول بشكل كلّي إنّ:

الجمل الأخلاقيّّة حاكية للواقع.‏

ولا بد من الالتفات إلى هذه النكتة وهي أنّ الجمل الأخلاقيّّة لها استعمالات متعدّدة، فيها يمكن لنا إبراز ما نرتضيه وما لا نرتضيه، وكذلك بها يمكن تحريك مشاعر الآخرين وتشويقهم لفعل بعض الأمور أو تركها، أو تحذيرهم كذلك من فعل بعض الأمور أو من تركها، وكذلك يمكن بها - وخاصة في الجمل الحاوية للأمر أو النهي - إصدار الأوامر والتوصيات الأخلاقيّّة والاستفادة منها في تربية الآخرين، كذلك فإنّ بيانات بعض العلوم الأخرى كالطب وعلم النفس لها استعمالات متشابهة. وهذه الاستعمالات لا ارتباط لها بمعاني هذه الجمل من جهة استخدامها في علم الأخلاق أو الطب أو علم النفس، ولا تمنع من حكايتها للواقع أيضاً، لأنّ هذه الجمل وبغضّ النظر عن الأوامر والتوصيات أو الأحاسيس والسلائق، أو التوافقات، تخبر عن الواقعيّّة العينية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

86

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 وخلاصة الكلام أنّه مع الالتفات أولاً إلى أنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة لها واقعيّة عينية (نتيجة البحث في الفصل الثاني)، وثانياً إلى أنّ الجمل الأخلاقيّّة حاكية للواقع (نتيجة البحث في هذا الفصل) نستنتج أنّ:


النظرية الواقعيّّة صحيحة.

وفي ختام هذا البحث، نُذكِّر بأنّ أنصار اللاواقعيّة لديهم استدلالاتهم الخاصّة لتصحيح نظريتهم، وسوف نشير إلى المهمّ منها ونبحثه في الفصل السادس من هذا الكتاب، إلّا أنّ من الواضح أيضاً أنّ قبول إحدى النظريتين لا يتوقف على ردِّ كلّ أدلة النظرية المقابلة، وبناءً عليه، لإثبات الواقعيّّة لا حاجة لنا للبحث التفصيلي في أدلة اللاواقعيّة.

أكمل ما يلي:

1 ـ يُطلق على المفاهيم التالية "حسن"، "سيّئ"، "صحيح" و"غير صحيح".................. ويُطلق على المفاهيم التالية "يجب"، "ولا يجب" و"المسؤوليّة"..............

2 ـ إذا كان بالإمكان استخدام المفاهيم القيميّة واللزوميّة لتوضيح القيمة أو اللزوم الأخلاقي، فيُطلق على هذه المفاهيم عنوان..................

3 ـ الجمل الأخلاقيّة التي يكون موضوعها.................................... ومحمولها............................................... هي جمل خبريّة أخلاقيّة.

4 ـ في الجمل الأخلاقيّة التي تشتمل على الأمر والنهي، فإنّ الأمر والنهي يستخدم لتوضيح.....................................................................................

5 ـ المفهوم الواقعي هو مفهوم........................................

6 ـ الجمل الخبريّة التي يكون فيها............................................. واقعي، هي جمل واقعيّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

87

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 7 ـ بشكل عام يُستعان بـ "الحسن" و"السيّئ" للإشارة إلى........................................


8 ـ ............................................... التي تعني السرور ليس مفهوم أخلاقيّاً.

9 ـ تستعمل مفاهيم "الصحيح" و"الخطأ" في الأخلاق لتوضيح...............................................

10 ـ تُستعمل مفاهيم "يجب" و"لا يجب" في الأخلاق لتوضيح...................................................

11 ـ يستعمل مفهوم "المسؤوليّة" في الأخلاق لتوضيح.......................................................... وهو من نوع.......................................................................... وهو لا يحتاج إلى فرض الآمر أو الواضع.

12 ـ إنّ تلك المجموعة من الجمل المشتملة على الأمر والنهي والتي هي....................................................... هي جمل واقعيّة.

13 ـ بما أنّ المفاهيم الأخلاقيّة والجمل الأخلاقيّة التي تحتوي على الأمر والنهي هي أمور واقعيّة، والجمل الأخلاقيّة هي ............................................ ونظريّة...................................... صحيحة.

14 ـ إنّ الاستعمالات المختلفة للجمل الأخلاقيّة............................................... تمنع واقعيّتها.

الأسئلة
 
1- أجب في مورد الجمل الآتية عن هذين السؤالين:

السؤال الأول: فكّك الجمل الأخلاقيّّة بناءً - على ما عرفناه في هذا الفصل - عن الجمل غير الأخلاقيّّة، واذكر السبب في كلّ مورد منها.

السؤال الثاني: على فرض الاستفادة من المفاهيم القيميّة أو اللزومية في هذه الجمل بيِّن الوجه في استعمالها فيها.

أ ـ الصبر أحد الموضوعات الأخلاقيّّة.

ب ـ تقطيع الكلام صفة قبيحة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

88

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 ج ـ إنّ هذا الغراء غير جيد للخشب.


د ـ إنّ قولنا إنّ "بني إسرائيل كانوا يقتلون أنبياءهم" صحيح.

هـ ـ إنّ الهدف من عقد هذا الاجتماع تقديم طرحٍ مشترك، ولذا فإنّ من الخطأ طرح المسائل الخلافية في هذا الاجتماع.
و ـ لا ينبغي جعل السليقة الشخصيّة كملاكٍ لتقييم أفعال الإنسان أخلاقيّاً.

ز ـ العمل الحسن في الأخلاق يُطلق على العمل الّذي يتناسب مع الهدف المطلوب فيها.
ح ـ يعتبر الإيثار - والذي هو أفضل أنواع الكرم - من الأخلاق الحسنة.

ط ـ ينبغي أنّ تُكثر السفر لإنضاج شخصيتك.

ي ـ التمييز العنصري عمل غير صائب.

2 - كوّن جملاً أخلاقيّّة تُذكر في كلّ واحدة منها أحد المفاهيم الأخلاقيّّة.

3 - أ ـ على ماذا يطلق مفهوم حكاية الواقع؟

ب ـ لماذا تعتبر الجملة الخبرية حاكية للواقع إذا كان محمولها حاكياً للواقع؟

4 ـ أ ـ اذكر المعنى الأصلي للوظيفة.

ب ـ بأيّ معنى يُستعمل هذا المصطلح في الأخلاق؟

5 - بالإضافة إلى بيان الاستعمالات المختلفة للجمل الأخلاقيّّة، أوضح كيفية عدم التنافي بين هذه الاستعمالات وبين كون الجمل الأخلاقيّّة حاكية للواقع؟"

6 - بيِّن في ثلاثة أسطر سير البحث المنطقي لإثبات الواقعيّّة.

للبحث
 
1 - مع الالتفات إلى هاتين الآيتين القرآنيتين، ابحث حول الرابطة بين "الحسن والقبيح" مع "المرضي والمبغوض" (المحبوب والمكروه)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

89

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 - " وعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ" (البقرة: 216).


- " فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا "(النساء: 19).

2 - بالنظر إلى المفهوم الأخلاقيّ "للحسن والقبح" ما هو رأيك - ضمن سطرين - في النظرية الإحساسية (الانفعالية) والتي لخصناها في هذه الفقرة:

إنّ الجمل الأخلاقيّّة تُستخدم لإظهار وبيان الإحساس المُرضي أو اللامرضي عند المتكلم ولتحريك الإحساس المشابه له عند السامع.

3 - قلنا في ختام هذا الفصل: إنّ القبول بإحدى النظريات لا يتوقف على ردّ أدلة النظرية المخالفة لها، وهنا نسأل: هل يكفي ردّ أدلة النظرية المخالفة للقبول بالنظرية المقابلة لها؟
وما هو الفرق بين ردّ أدلة النظرية المخالفة وبرهان الخلف والذي يعتبر كافياً لإثبات النظرية المدعاة؟

4 - بالالتفات إلى ما تعلمته في الفصل الثاني والثالث حول الواقعيّّة، ابحث فيما يلي حول هذه الموارد (لوازم الواقعيّّة):

أ ـ ملاك الصدق أو الكذب في هذه الجملة الأخلاقيّّة "ألف هو عمل حسن" هو المطابقة أو عدم المطابقة مع ماذا؟

ب ـ ما هي واقعيّة القيم واللزوميات الأخلاقيّّة؟

ج ـ هل يمكن المشاهدة الحسية لهذه الواقعيّّة؟ وبأي أسلوبّ يمكن التحقيق حولها؟

د ـ بأي معنى نعتبر هذا الأصل الأخلاقيّ "العدالة حسنة" مطلقاً؟

هـ ـ لماذا نقول بوجود مذهب أخلاقيّ واحد صحيح؟ ما هو الشي‏ء الّذي يضعه هذا المذهب الأخلاقيّ كملاك للتقييم ولتعيين اللزوم الأخلاقيّ؟

5 - اكتب استدلالاً منطقياً تكون كلّ مقدماته من نوع "الموجود" وتكون نتيجته من 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

90

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 نوع "ما ينبغي" الأخلاقيّّة، (إرشاد: ابتداءً ضع كلمة "اللازم" مكان "ينبغي" الأخلاقيّّة.


6 - أثبت كون "السرقة قبيحة" (إرشاد وتشبيه: اعتبر حفظ النظام والأمن الاجتماعيّ شرطاً لازماً لكمال الإنسان الاختياريّ). 
 
 
إقرأ
 
عادة ما يحصر أرباب هذا الفنّ المفاهيم الأخلاقيّّة في هذه المفاهيم السبعة، وأما المفاهيم الأخرى المعادلة أو المشابهة لها باعتقادهم فإنّهم يرجعونها إليها - وبحيث تُستعمل هذه المفاهيم كمحمولات في الجمل الأخلاقيّّة - نظير الخير والشرّ، الحسن والقبيح، الجميل والبشع، الفضيلة والرذيلة، المقبول والمرفوض (المحمود والمذموم)، اللائق وغير اللائق، الجدير وغير الجدير (المناسب وغير المناسب)، الصحيح والغلط، والحق واللاحق (الباطل)، التكليف والمسؤولية... وقد سعى بعض فلاسفة الأخلاق لإرجاع كلّ المفاهيم الأخلاقيّّة إلى مفهومين أساسيين: الجيد والسيئ أو ما ينبغي وما لا ينبغي (يجب أو لا يجب، ينبغي أو لا ينبغي)، وحتماً فإنّ كلّ واحدٍ من المفاهيم الأخرى الّتي ذكرناها لها خصائص معنائية خاصّة بها، وبعضها قد تكون له معانٍ أخرى في غير الأخلاق إلّا أنّه وللتناسب بين معانيها هناك وبين مصاديقها في الأخلاق أوجب استعمال هذه المفاهيم في الجمل الأخلاقيّّة. ومثالاً على ذلك فإنّ الكمال الاختياريّ للإنسان والأفعال المتناسبة معه، مع كونها أموراً واقعيّة - وبغضّ النظر عن السلائق والطبائع - وحيث إنها مطلوبة للإنسان، والميول والطبائع تميل إليها فإنّ مصطلحيَ "الحسن" و"القبح" المستعملين في غير الأخلاق بمعنى المتناسب أو غير المتناسب مع الميل والطبع استُعملا أيضاً في الموضوعات الأخلاقيّّة.

كذلك وحيث إنّ الإنسان بفطرته يدرك التناسب بين كماله الاختياري ومقدماته وبين خلقه أو نظام الخلقة بشكل عام، فإنّ مفاهيم الجميل والبشع والحسن والقبيح - والتي فيها جنبة من المعرفة الجمالية - استُعملت في هذه الموضوعات أيضاً إلّا أنّ عدم التفكيك بين ما هو أخلاقيّّ وما هو غير أخلاقيّّ من هذه المفاهيم، وكذلك عدم إدراك المنشأ الواقعيّّ للقيم واللزوميات الأخلاقيّّة أوجب 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

91

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 وجود بعض المغالطات في اعتبار هذه المفاهيم غير حاكية للواقع.


اعتبر بعض الكتّاب فقط مفهوميَ "الجيد" و"السيئ" من المفاهيم القيميّة. وأما مفهوما "الخطأ والصواب" وكذلك "ما ينبغي" و "ما لا ينبغي" و"الوظيفة" فقد اعتُبرت عندهم من المفاهيم الإلزامية، إلّا أنّ استعمال هذين المصطلحين - الصواب والخطأ - في الأخلاق وغير الأخلاق يبعث على عدم "صواب" هذا الرأي. ويمكن أنّ يكون السبب في اعتبار هذين المفهومين إلزاميين هو ذهاب بعض المفكرين والكتّاب الغربيين إلى اعتبار مصطلحي "right" و "wrong" إلزاميين، وبالتالي ترجم هذين المصطلحين إلى الصواب والخطأ. مع أنّ المحتمل كون "right" و"wrong" أقرب إلى معنى "الحق" و "اللاحق"، وحيث إنّ الحق أقرب إلى التكليف والإلزام اعتُبر عند بعض المؤلفين الغربيين من المفاهيم الإلزامية، هذا وقد اعتبر بعضٌ آخر من هؤلاء الكتاب الغربيين أمثال "تيلور" أنّ: "right" و "wrong" هما من المفاهيم القيميّة كما هو الحال في "good" و "bad".

"محسن إنسان جيد" يمكن أنْ تكون جملة أخلاقيّّة أيضاً، لكن لا بدّ أنْ نلتفت إلى أنّ الموضوع في هذه الجملة مع كونه أحد أفراد الإنسان، إلّا أنّ قيمته الأخلاقيّّة ناظرة إلى صفاته وأفعاله الاختيارية. وبناءً عليه فإنّ ما يقيم في أمثال هذه الجمل أيضاً هو الصفات والأفعال الاختيارية في الواقع.

ومن جهة أخرى فإنّ هذه الجمل: "القول الحسن جيدٌ"، "النية الحسنة جيدة"، "العمل الصائب هو العمل الّذي يستتبع الكثير من الخير"، "إتقان العمل صائب" و"أداء الوظيفة وظيفتنا"، ليست جملاً أخلاقيّّة لأنّه وإنْ كان موضوعها الصفات والأفعال ظاهراً، وإنْ أخذت مفاهيم "الجيد"، "الصواب" و "الوظيفة" في هذا الموضوع قيداً للصفات والأفعال، إلّا أنّ هذه المفاهيم في الواقع هي نفس موضوع هذه الجمل

وليست الصفات أو الأفعال، وبالتالي فإنّ هذه الجمل وأمثالها الّتي تعطي توضيحاً حول المفاهيم الأخلاقيّّة داخلة في فلسفة الأخلاق لا الأخلاق نفسها.

يمكن طرح العديد من البحوث حول المفاهيم المستعملة في الجمل الأخلاقيّّة ومثالاً على ذلك يمكن البحث في ماهية المعنى الدقيق للموضوعات الأخلاقيّّة نظير "العدالة" "التقوى" و"الغيبة"، وكذلك كيفية إيجاد المفاهيم الأخلاقيّّة في الذهن، وهل يمكن إرجاع بعض هذه المفاهيم إلى بعض أم لا؟ وفي هذه الصورة ما هو المفهوم الأساس فيها؟ وكذلك هل أنّ الجمل الحاوية لهذه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

92

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

 المفاهيم خبرية أم إنشائية من الناحية الأدبية؟


إن بعض هذه البحوث يرتبط بفلسفة الأخلاق وبعضها الآخر بالأخلاق أو علم النفس أو الذهن أو الأدب.

وحيث إنّ مثل هذه البحوث لا ارتباط لها بشكل مباشر بمسألة حكاية الجمل الأخلاقيّّة للواقع وبالتالي فإنّه يمكن الإجابة عليها من دون التعرّض لذكرها لذا ورغم ارتباطها بفلسفة الأخلاق فقد أرتأينا صرف النظر عنها وعدم البحث فيها.

وسوف نشير ها هنا فقط إلى أنّ الأفعال الاختيارية - والتي هي موضوع الجمل الأخلاقيّّة - عناوين انتزاعية من الرابطة بين الفعل ونتائجه المطلوبة أو غير المطلوبة في الأخلاق وبالاصطلاح يُعبَّر عنها بالمعقولات الفلسفية الثانية، وبناءً على هذا التصور فإنّ المفاهيم الأخلاقيّّة - ورغم حكايتها الواقع - ليست من نوع المفاهيم الماهوية ولا تشير إلى ماهيات خاصّة أيضاً بل هي من نوع المفاهيم الفلسفية (لمزيد من التوضيح، راجع: محمّد تقي مصباح، دروس فلسفه اخلاق، ص: 13 - 14، وص 24 - 27).
"الصواب والخطأ" يستعملان أحياناً بمعنى المطابقة وعدم المطابقة مع الواقع، وفي توصيف القضايا أيضاً.

والظاهر أنّ المطابقة وعدم المطابقة مطلوب ولا مطلوب منطقي (أو الكمال والنقص)، وبالتالي فإنّ هذا المعنى يُعتبر أيضاً مصداقاً من مصاديق القيمة (القيمة المنطقية)، وكذلك يبدو أنّ مصطلحَي "الصواب والخطأ" ينسبان فقط إلى الوسائط ولا يُستخدمان في مورد القيمة الذاتية.

كما قيل فإنّ كلمة "ينبغي" تُستخدم بمعنى اللزوم بالضرورة والمراد منها ضرورة شي‏ء بالمقايسة مع شي‏ء آخر، وهذه الضرورة يمكن افتراضها في مورد العلة بالقياس إلى معلولها، والمعلول بالقياس إلى علته التامة، وأحد معلولي العلة التامة بالمقايسة مع معلولها الآخر.وبالتالي فإنّ مصطلح "ينبغي" يمكن استعماله في كلّ هذه الموارد. في هذا المثال إشارة إلى نماذج مختلفة لاستعمال "ينبغي" بمعنى الضرورة بالقياس:

"ينبغي" لعرض أخبار التلفزيون أنْ يسلَّطَ نورٌ قويٌّ بشكل مباشر إلى وجه المذيع، لكن مع وجود هذا النور القوي "ينبغي" أنْ تتولد منه حرارة كبيرة، إلّا أنّه يُستفاد داخل الاستديو من وسائل التبريد، لذا ينبغي أنْ يكون هواء الغرفة بارداً.

لكن حيث إنّ "ينبغي" في الأخلاق تُحمل على الصفات والأفعال الاختيارية الخاصّة، والتي هي علة الوصول إلى هدف الأخلاق، لذا فإنّ "ينبغي" الأخلاقيّّة بيان فقط لضرورة العلّة (الصفات والأفعال
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

93

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

  الاختيارية) بالمقايسة بمعلولها (هدف الأخلاق).


اعتبر بعض العلماء المسلمين كالعلّامة الطباطبائي والشهيد مطهّري المفاهيم الأخلاقيّّة نظير "ما ينبغي" و "لا ينبغي" و"الجيد" و"السيئ" أنها اعتبارية وتبعاً لها اعتبروا أنّ الأحكام الأخلاقيّّة أيضاً اعتبارية.

وحيث إنّه من الممكن أنّ يُستفاد من مثل هذا الكلام أنهم قائلون باللاواقعيّة في الأخلاق ولوازمها، والتي من جملتها النسبيّة الأخلاقيّّة، لا بدّ أنْ نقدّم هنا توضيحاً مختصراً حول نظريتهم هذه.

اعتبر العلامة الطباطبائي أنّ معنى "ما ينبغي" و "ما لا ينبغي" الوجوب واللزوم، واعتقد أنّ هذا الوجوب قائمٌ بين القوة الفعالة وآثارها. إلّا أنّ الإنسان الّذي لديه رابطة إمكانية مع أفعاله الإرادية، ولأجل الوصول إلى النتائج المطلوبة عنده يضع الوجوب واللزوم الواقعيّ القائم بين القوة الفعالة وأثرها بينه وبين الصورة العلمية لذلك الأثر المطلوب ويقوم باعتباره ليجد المحرك عنده من أجل تحصيل النتيجة المطلوبة بعد تعيّن الإرادة عنده، وأيضاً، وتبعاً لهذا التعهّد يقوم بنسبة هذه الـ "ينبغي" والوجوب إلى المادة الّتي هي متعلق الفعل ويقول حينئذٍ: ينبغي عليّ القيام بتلك الأعمال الموجبة لحصول تلك النتيجة المطلوبة. (راجع، مرتضى مطهري، مجموعة آثار، ج‏6 ، ص 420 - 427 أصول فلسفه وروش رئاليسم) "أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ للعلامة الطباطبائي".

كذلك فإنّ الحسن والقبح اللذين هما في رأيه،موافقة أو ملاءمة شي‏ء ما مع القوة المُدركة أو عدمهما كذلك معها، إنما يُعتبران بعد اعتبار الوجوب بين الإنسان والصورة العلمية للشي‏ء المطلوب له، (راجع نفس المصدر ص 432).

ورغم أنّ العلامة الطباطبائي يعتقد بأنّ هذه الأحكام الاعتبارية تابعة للإحساسات الداخلية من زاوية الثبات والتغيير والبقاء والزوال (راجع نفس المصدر، ص 428) وأنها نسبية (نفس المصدر، ص 432) وأنه لا يمكن البرهان عليها (نفس المصدر، ص 429)، إلّا أنّه في نفس الوقت يؤكد أنّ هذه الاعتباريات قائمة على الحقيقة (نفس المصدر، ص 393 و453 و455) ولها آثارها الواقعيّّة (نفس المصدر، ص 394) ويصرح بأنّ هذه الإحساسات وليدة لسلسلة من الاحتياجات الوجودية (نفس المصدر، ص 399) وأنّ بعض هذه الاعتباريات عامّ وثابت لا يتغير (نفس المصدر، ص 428 - 429 و 436 - 437) وقد أقام البرهان للإشارة إلى أنّ هذه الاعتبارات على أيّ مبنى من الحاجات الواقعيّّة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

94

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

  يتم اعتبارها (نفس المصدر، ص 402 - 455).


إنّ التدقيق فيما أفاده العلامة الطباطبائي يوضح لنا أنّ مراده من نسبية هذه الأحكام المذكورة أنّه لا توجد حقيقة تحت عنوان "ما ينبغي" و "ما لا ينبغي" و "الجيد" و "السيئ" من دون النظر إلى الميول والحاجات والكمالات الوجودية الخاصّة، (ربما يمكن القول إنّ هذا الكلام شبيه بقولنا إنّ هذه المفاهيم فلسفية تتحصل من خلال المقايسة والمقارنة). ولهذا السبب فإنّ الأحكام الحاوية لهذه المفاهيم متفاوتة ومتغيرة من كائنٍ حيّ كالإنسان مثلاً إلى الكائنات الحية الأخرى، كذلك وحيث إنّ بعض حاجات الإنسان متغيرة فإنّ "ما ينبغي" و "ما لا ينبغي" و "الجيد" و "السيئ" المرتبطة بالإنسان متغيرة أيضاً، بل إنّ إمكانية التغيير والزوال هي الأساس في مثل هذه الأحكام إلّا إذا كانت ناظرة إلى الاحتياجات العامة عند الناس.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ العلامة الطباطبائي لما كان يعتقد بأنّ معنى "ما ينبغي" و "ما لا ينبغي" هو الوجوب المتوسط بين الفاعل ومطلوبه لا الوجوب المتوسط بين الفعل والنتيجة المطلوبة لذا اعتبرها أحكاماً اعتبارية قائمة على الحقيقة.

وأما الشهيد مطهري وضمن تعليقاته على آراء العلامة الطباطبائي فقد التزم بما قاله من اعتبارية هذه المفاهيم وأحكامها المرتبطة بها إلّا أنّه خالفه الرأي في موردين:

أولاً: لم يرتضِ الشهيد تعميم هذه الاعتبارات بحيث تشمل الحيوانات (راجع، مجموعة آثار) (مجموعة آثار الشهيد مطهري، ج‏13، ص 717 - 719).

وبتحليل منشأ ما يطلبه الإنسان - والذي هو الفائدة والنفع كما يقول - فإنّه يعتقد بأنّ منشأ المطلوبيات المشتركة هو النفع النوعي أيّ الكمال النوعيّ للإنسان، والذي هو على نسق واحد عند كلّ أفراده وكلّي ومطلق ويعتقد أيضاً بأنّ القيم الأخلاقيّّة من هذا النوع (نفس المصدر ص 725).

ثانياً: لم يقبل الشهيد المطهري بكفاية الاعتباريات الثابتة - كما قال العلامة - لإثبات "خلود الأخلاق" (نفس المصدر، ص 730 - 731) مع تأكيده على بعدي الحيواني والإنساني في وجود الإنسان وقد سماهما "السفليّ" و "العلويّ"، ومع الالتفات إلى أنّ الأصل في الإنسان هو "العلوي" وأنّ القيم الأخلاقيّّة ناظرة إلى كمالات هذه الدرجة عند الإنسان، فقد اعتبر أنّ هذه الكمالات واقعيّة - وليست توافقية واعتبارية - ومشتركة عند جميع الناس وأنها أساس الأخلاق الخالدة (نفس المصدر،ص 737 - 740).

ومما تجدر الإشارة إليه أنّ المعاني المعطاة في هذه النظرية لمفاهيم "الجيد"، "السيئ"، "ما ينبغي"
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

95

الفصل الرابع: المفاهيم الأخلاقية

  و "ما لا ينبغي" بلحاظ استعمالاتها الأخلاقيّّة قابلة للنقاش والتوضيحات المذكورة حولها في المتن تمهد لحلها.


إلا أنّ النكتة الهامّة والتي لا بدّ من ذكرها ها هنا، أنّ العلامة الطباطبائي والشهيد المطهري يعتقدان بأنّ هذه الاعتباريات ذات ملاكات واقعيّة ومستندة إلى الحقيقة.

ويعتقدان أيضاً في مورد نتائج الأفعال المطلوبة أنّ نفس رابطة الوجوب واللزوم بين العلة والمعلول (أي بين القوة الفعالة وأثرها الخارجي) والتي هي رابطة حقيقية، وبين الإنسان والصورة العلمية لذلك الأثر المطلوب، وتبعاً لها بين الإنسان وما يعتقده موصلاً له إلى تلك النتيجة، اعتبارية، ولذا فإنّ اعتبارية "ما ينبغي" فقط لجهة أنّنا نعتبر تلك الرابطة الواقعيّّة والحقيقيّة بين الفاعل الإرادي والصورة العلمية لها نتيجة مطلوبة أو كانت مقدّمة للوصول إلى تلك النتيجة المطلوبة كما لو توسّطت بين الفاعل وعمل خاص.

إلا أنّ هذا الاعتبار لا يمكن قبوله إلّا إذا أوصلنا هذا العمل واقعاً إلى النتيجة المطلوبة، والمصلحة المتوخاة عندنا.

ومضافاً إلى ذلك فإنهما يعتقدان بأنّ مطلوبية النتيجة ترجع إلى الإحساس الناشى‏ء عن احتياجات القوة الفعالة والتي يرتبط بعضها بنوعية النوع والبناء الطبيعي للإنسان.وبالتالي فإنّ الاعتباريات الناظرة إلى هذه الطائفة من الحاجات ثابتة لا تتغير. وخلاصة القول إنّ الاعتباريات المذكورة إنما تُقبَل فقط في مورد الأفعال الّتي تؤمّن الحاجات الواقعيّّة للإنسان وتوصل الإنسان إلى الكمال.

ومع هذا التوضيح يتبين لنا أنّ المفاهيم والأحكام الأخلاقيّّة عند هذين العلَمَين الكبيرين اعتبارية محض لكنها ذات سند واقعيّ، ولذا لا يمكن اعتبارهما من القائلين باللاواقعيّة والنسبيّة الأخلاقيّّة في الأخلاق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

96

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

  الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 
كان سيدني مورجِنبسر الأستاذ في جامعة كولومبيا يدرّس الفلسفة في صفٍّ يميل طلابه بقوة إلى القول بالنسبيّة. وعند إجراء الامتحانات قام هذا الأستاذ بترسيب كلّ الطلاب، ومع ذلك أوضح لهم أنّ الأغلب قد أجاب بشكل صحيح وممتاز. وعندما اعترضوا على اللاعدالة في المقام أجابهم مورجِنبسر قائلاً: إنني أطبق النظرية الذهنية (النسبيّة الفردية) في تقييم الامتحان وفي هذا المورد فإنّ أصل العدالة لا اعتبار عينياً له1.
 
أشرنا في الفصل الثاني وضمن بيان لوازم الواقعيّّة واللاواقعيّة إلى اختلاف هاتين النظريتين في إطلاق الأخلاق والنسبيّة في الأخلاق.
 
ومع إثبات النظرية الواقعيّّة اتّضح أنّ إطلاق الأخلاق وبالمعنى الّذي أوضحناه في ذلك الفصل هو الصحيح والمقبول، وبالتالي فإنّه لا يمكن القبول بالنسبيّة في الأخلاق بمعناها المقابل للاطلاق لكن ومن أجل توجيه النظرية النسبيّة الأخلاقيّّة فقد استدل بطرق متعدّدة، وذكر لها أنواعاً مختلفة، واستنتج منها نتائج متنوعة. وحيث إنّ بحث إطلاق الأخلاق ونسبية الأخلاق له لوازم نظرية وعملية متعدّدة أفردنا لهما هذا الفصل بشكل مستقلّ، وسوف نتعرض فيه لمختلف البحوث المذكورة.
 
 
 

1- لويس بويمن، "نقدي بر نسبيت اخلاقي"، ترجمة محمود فتحعلي، مجلة نقد ونظر، العدد 13 - 14، ص 329.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

97

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 1 - حقيقة الإطلاق والنسبيّة في الأخلاق (تذكير)


قدّم بعض فلاسفة الأخلاق تعاريف خاصّة حول الاطلاق والنسبيّة في الأخلاق، ومثالاً على ذلك فقد اعتبر بعضهم أنّ مجرد تقيّد الأحكام الأخلاقيّّة ببعض القيود الخاصّة مانع من إطلاقها وإطلاق الأخلاق، واعتبروا أيضاً أنّ القول بإمكان وجود طرق متعدّدة للوصول إلى الهدف هو نوع من القول بالنسبيّة[1].

وسوف نغضّ النظر عن مثل هذه التعريفات للإطلاق والنسبيّة في الأخلاق، وسيكون الملاك عندنا هو التعريف المشهور والمعروف لها في الأخلاق.
بناءً على هذا التعريف -وكما أشرنا إليه في الفصل الثاني- فإنّ المراد من الإطلاق في الأخلاق هو أنّ بعض الأحكام الأخلاقيّّة مطلق وغير مقيد بأيّ قيد، وأما النسبيّة في الأخلاق فمعناها أنّ كلّ الأحكام الأخلاقيّّة لها قيود وشروط.

والجدير ذكره أنّ كلّ فلاسفة [2] الأخلاق متفقون على كون بعض الأحكام الأخلاقيّّة مقيد بقيود وشرائط خاصّة به، إلّا أنّ الاختلاف بينهم يدور حول إمكانية إيجاد حكم من بين الأحكام الأخلاقيّّة معتبرٍ بلا أيّ قيد أو شرط أو عدم إمكانية ذلك[3].

وقد أشرنا في الفصل الثاني إلى أنّه بناءً على رأي القائلين بالإطلاق في الأخلاق فإنّ تلك الطائفة من الأحكام الأخلاقيّّة المقيدة والمشروطة لها قيود وشروط واقعيّة. وفي الحقيقة فإنّ وظيفة قيود وشرائط تلك الأحكام هو الإشارة إلى أنّ هذه الأحكام تحت أيّ واحد من الأحكام غير المقيدة داخلة[4].

ومثالاً على ذلك فإنّ تلك الطائفة من الصفات والأفعال الاختيارية وتحت أيّ شرط متحدة مع المنشأ الواقعيّ للأخلاق - والذي له قيمة ذاتية - لها قيمة مثبتة بدون أيّ قيد وشرط، وأما الأفعال الأخرى فلها قيمة مثبتة شرط اتحادها معها في الجهة، وأما إذا كانت في خلاف جهتها ضمن بعض الشرائط الخاصّة فستكون ذات قيمة منفية.

وأما القائلون بالنسبيّة الأخلاقيّّة فقد قيّدوا الأحكام الأخلاقيّّة بقيود وشرائط لاواقعيّة نظير الأوامر والانفعالات والتوافقات[5].
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

98

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 وإدامة لهذا الفصل سوف نُعرِّف أنواع النسبيّة الأخلاقيّّة مع بيان وتحليل أهمّ دلائلها في كلّ مورد منها.

 
2 - أنواع أو مراحل النسبيّة الأخلاقيّّة
 
عادة ما تُذكر هذه الأنواع الثلاثة للنسبية الأخلاقيّّة. وفي الحقيقة فإنّ هذه الأنواع هي ثلاث مراحل من النسبيّة الأخلاقيّّة. وسوف نقوم بعرض وتحليل مدعى ودليل كلّ واحدٍ منها على حدة:
 
1 - 2. النسبيّة التوصيفية
 
المدعى: إنّ الأفراد والجوامع المختلفة تختلف اختلافاً جوهرياً حول كلّ / بعض1 الأحكام الأخلاقيّّة.
 
إنْ هذا المدعى ذو جنبة توصيفية فقط. وفي هذه المرحلة فإنّ القائل بالنسبيّة لا يحكم بصحة أيّ رأي من الآراء المختلفة بل يقرر ويصف فقط وجود خلاف جوهريّ في الرأي بينها، ونحن عندما نقول إنّ هناك اختلافاً في الرأي حول حكم أخلاقيّ ما بين اثنين من الأفراد أو المجتمعات فمعنى ذلك أنهما لا يقبلان به معاً، ومثالاً على ذلك فإنّ اختلاف الرأي بين اثنين حول كون: "السرقة عملٌ خاطى‏ء" معناه أنّ أحدهما لا يقبل بهذا القول. لكن ما هو المراد من اختلاف الرأي الجوهري بينهم؟ لنرَ هذا المثال:
 
• - لقد أخذت المال الّذي وقع على الطريق لنفسك. إنّ عملك هذا غير صائب.
 
• • - إنّ هذا العمل باعتقادي صوابٌ.
 
في هذه المحاورة لدينا اختلاف في الرأي حول القيمة الأخلاقيّّة لعملٍ خاص (اللقطة)، لكن هل يرجع هذا الاختلاف في الحقيقة إلى الاختلاف في الرؤية الأخلاقيّّة عند هذين الشخصين؟ لنتابع معاً بقية حوارهما:
 
 
 

1- المراد ها هنا كلّ أو بعض, إن هذه العلامة "/" إنما يستفاد منها في مورد وجود رأيين مستقلين في نفس المقام فتوضح بينهما منعاً لتكرار الكلام (المترجم).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

99

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 • - إنّ عملك هذا سرقة: لقد أخذت مالاً هو ملك لغيرك.


• • - ليس كذلك، لأنّ العثور على شيء ضمن شرائط خاصّة يوجب تملكه، والآن هذا المال ملكي. أنا لم أسرقه.

إنّ اختلاف هذين الاثنين في القيمة الأخلاقيّّة لهذا العمل يرجع في الحقيقة إلى أنّ العثور على شي‏ء ما هل يبيح تملكه أم لا؟

إنّ هذين الشخصين لا يختلفان بتاتاً في أنّ السرقة عمل خاطى‏ء ولذا فإنّ اختلافهما في الحكم الأخلاقيّ لهذا العمل يرجع إلى جملة غير أخلاقيّّة مفادها أنّ هذا العمل هل هو سرقة أم لا؟ (والذي هو بدوره ناشى‏ء عن الاختلاف في كيفية حصول الملكية[6].
وبالتالي لو اتّفقا على كون هذا العمل سرقة أم لا، فلن يختلفا في القيمة الأخلاقيّّة لالتقاط ذلك المال، وإنما اختلاف الرأي بينهما حول الحكم الأخلاقيّ في أنّ التقاط المال أمر غير صائب يرجع إلى استعمال الجملة "السرقة خاطئة" في التقاط ذلك المال، وهذا الاختلاف لا يُعتبر اختلافاً جوهرياً[7].

إنّ اختلاف الرأي حول أيّ حكم أخلاقيّ إنما يسمّى جوهرياً فقط وفقط في صورة عدم قابلية هذا الاختلاف للرفع بعد التوافق المسبق حول كيفية استخدام البيانات الأخلاقيّّة.

لقد طرح مدعى النسبيّة التوصيفية ضمن نحوين: إفراطيّ ومعتدل: من الناحية الإفراطية قبلَ بوجود الاختلاف الجوهري في مورد كلّ الأحكام الأخلاقيّّة، وأما من الناحية المعتدلة فقد قيلَ بوجوده في بعضها فقط.

الدليل: عادة ما يشير النسبيون لإثبات هذه الدعوى إلى التفاوت الثقافي بين الأقوام والملل المختلفة أو عند قوم ما مع مرور الزمن. وقد قام هؤلاء بذكر بعض النماذج من هذه الخلافات لتأكيد أقوالهم والتي تستند في أغلبها إلى تقارير علماء الاجتماع والتقارير التاريخية. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

100

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 وإليك بعض النماذج من هذه التقارير:


النموذج 1: ينقل هرودون (485 - 430 ق.م) في تاريخه أنّ إحدى القبائل الهنديّة (كلاتي) كنت تأكل أجساد الأباء الأموات وأنّ اليونانيين كانوا يحرقون أجساد آبائهم الأموات. وفي يومٍ من الأيام قال "داريوش" لبعض اليونانيين عنده: في مقابل أيّ مبلغٍ من المال أنتم حاضرون لأكل أبدان آبائكم الأموات؟

فأجابوه متعجبين: لا يمكن لأي مبلغٍ من المال أنْ يُلجئنا إلى هذا العمل الوحشي. فقال داريوش لبعض أفراد الكلاتي: في مقابل أيّ مبلغ من المال أنتم حاضرون لإحراق أجساد آبائكم الأموات؟ فأجابوه كذلك بأنهم لا يمكنهم بأيّ وجه القيام بهذا العمل البشع.

النموذج 2: يقوم الاسكيمو برمي العجَّز من آبائهم وأمهاتهم حتى يموتوا من الجوع، بينما نعتبر نحن هذا العمل خاطئاً.

النموذج 3: قبل مائة عام كان أغلب سكان الولايات الجنوبية الأمريكية يعتقدون بصوابية الرق والعبودية، لكنهم الآن يعتقدون بعدم صوابية هذا العمل.

النموذج 4: تقوم إحدى القبائل في شرق أفريقيا برمي أولادها الناقصي الخلقة في النهر اعتقاداً منهم بأنّ هؤلاء الأولاد ملك لإله النهر "هيبوبوتاموس"، بينما يعتقد آخرون بعدم مقبولية هذا العمل.

النموذج 5: يوافق بعض الناس على إسقاط الجنين (الإجهاض) ويخالف آخرون ذلك.

التحليل: لا بدّ أنْ نذكر قبل أيّ شي‏ء أنّ هذه النماذج وما يشابهها حتى ولو كانت مشيرة إلى الاختلاف الجوهري في الأخلاق فإنّه لا يمكنها نفي وجود الاتفاق في الرأي حول موارد أخرى. وبناءً على ذلك فإنّه لا يمكن إثبات الناحية الإفراطية في النسبيّة التوصيفية بمجرّد ذكر بعض النماذج.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ العديد من المفكرين وعلماء الاجتماع عدّدوا بعض الخصائص
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

101

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 الثابتة والمشتركة[8] عند كلّ الناس والمجتمعات المختلفة واعتقدوا بأنّ الأصول الكليّة الأخلاقيّّة ناظرة إلى هذه الخصائص المشتركة عند الجميع، وبالتالي أرجعوا الاختلافات الموجودة إلى اختلاف الرأي في استخدام هذه الأصول الكلية. ولذا فقد أوقعوا الصورة الإفراطية - بل والصورة المعتدلة - لهذه النسبيّة التوصيفية في ورطة الترديد الجدي أو الإنكار، ومثالاً على ذلك فقد ذكروا أنّ كلّ الناس والمجتمعات - سواء باللحاظ النظريّ أو العلميّ - متفقو الرأي على حسن العدالة، إلّا أنّهم قد يختلفون في تشخيص وتعيين بعض مصاديقها.

وكذلك فإنّ الجميع يعتبر الاهتمام واحترام الوالدَين بمثابة أصلٍ ثابتٍ إلّا أنّهم يختلفون فقط في كيفية إبراز ذلك. وأيضاً فإنّ الموافقين والمخالفين للإجهاض يقبلون بأنّ قتل الإنسان البري‏ء عمل مذموم ولكن اختلافهم في أنّ السقط إنسان أم لا[9]. بل وحتى في صورة اختلاف الرأي في هذه الموارد، فإنّ هناك أصولاً كلية مقبولة بشكلٍ أكبر عند كلّ الناس - مثلاً في مورد حسن الأفعال الموجبة لكمال الإنسان، وقبح الصفات الموجبة لنقص الإنسان - لأنها ناظرة إلى وجود الإنسان، إلّا أنّ الأفراد والجوامع المختلفة قد يختلفون في كيفية استخدام هذه الأصول.
سؤال: بالنسبة للنموذج الثالث والرابع، ما هي اليقينيات الأخلاقيّّة المشتركة الّتي يمكنك ذكرها من حيث إنّ اختلاف الرأي إنما هو في كيفية استخدامها؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

102

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 2 - 2. نسبية ما وراء الأخلاق1 

 
1 - 2 - 2. المدعى، الأدلة، تحليل الأدلة
 
المدعى: لا يوجد أيّ حكم من بين الأحكام الأخلاقيّّة معتبرٌ بشكل مطلق. في هذه المرحلة - والتي هي أهمّ مراحل النسبيّة - يتعرّض القائل بالنسبيّة إلى الحكم في مورد اعتبار الأحكام الأخلاقيّّة. وفي هذا المجال فإنّ أشهر المذاهب الأخلاقيّّة القائلة بالنسبيّة يعتقد بأنّ اعتبار الأحكام الأخلاقيّّة يرتبط بالإحساس وسليقة الفرد أو التوافق والتعاهد الجمعيّ. وفي نظرهم فإنّ الأحكام الأخلاقيّّة معتبرة فقط عند من يقبل بها من الأفراد والمجتمعات وبالتالي فإنّه لا عمومية ولا إطلاق في اعتبارها، ويسمون اعتبار الأحكام الأخلاقيّّة المرتبطة بالفرد "النسبيّة الفردية"2، وتلك المرتبطة بالمجتمع "النسبيّة الاجتماعية"3 [10]، والثانية أكثر شيوعاً من الأولى.
 
وسوف نتكلم عن هاتين النسبيتين بشكل أوسع بعد بيان وتحليل هذه المرحلة من النسبيّة. وابتداءً لنرَ كيف أثبت النسبيون نسبية ما وراء الأخلاق.
 
الدليل: لإثبات هذا المدعى يُستدل عادة بثلاثة طرق:
 
الأول: بالاستناد إلى النسبيّة العامة في المعرفة، فإنّ القائلين بهذه النظرية يقولون بأنّ اعتبار كلّ المعارف، ومن جملتها المعارف الأخلاقيّّة، نسبي[11].
 
 
 

1- بما أنّه في هذه المرحلة من النسبيّة يحكم على اعتبار الأحكام الأخلاقيّّة وأنّ هذا الحكم يرتبط بشكل مباشر بمباحث ما وراء الأخلاق وفلسفة الأخلاق لذا سُمّيت هذه النسبيّة بنسبية ما وراء الأخلاق، وكذلك حيث إن اعتبار المعرفة يُطرح عادة في علم المعرفة سُمّيت هذه المرحلة من النسبيّة بالنسبيّة المعرفية.
2- Individual Relativism
3-  Social Relativism
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

103

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 تحليل الدليل الأول:

 
تُبحث نظرية النسبيّة العامة المعرفية في علم المعرفة. ومن جملة الانتقادات الواردة على هذه النظرية كونها متناقضة أيّ أنّها تنقض نفسها في كونها نظرية مطلقة، وفي علم المعرفة تعرف المباني اليقينية للمعرفة وطرق تحصيل المعارف اليقينية الأخرى1، ويمكن في الأخلاق أيضاً بالاستناد إلى المباني اليقينية تحصيل المعارف اليقينية والمطلقة2.
 
الثاني: بالاستناد إلى النسبيّة التوصيفية: مع ملاحظة وجود الاختلاف الجوهري في مورد كلّ / بعض الأحكام الأخلاقيّّة، فإنّه لا يوجد أيّ حكم منها معتبر مطلقاً، وإنّ الأحكام الأخلاقيّّة معتبرة فقط عند كلّ فرد / مجتمع يقبل بها.
 
تحليل الدليل الثاني:
 
تمرين: لاختبار صحة الاستدلال المذكور أعلاه، استخدم بدل عبارة "الأحكام الأخلاقيّّة" عبارة "البيانات الهندسية، الفيزيائية أو التاريخية" واذكر سبب عدم صحة هذا الاستدلال.
 
لا يصحّ الاستناد إلى الصورة المعتدلة ولا الصورة الإفراطية من النسبيّة التوصيفية لإثبات نسبية ما وراء الأخلاق عبر هذا الطريق، حيث إنّه استُنتج في هذا الاستدلال عدم اعتبارية الأحكام الأخلاقيّّة مطلقاً من خلال اختلاف الرأي حول الأحكام الأخلاقيّّة وهذا الاستنتاج غير صحيح باللحاظ المنطقي، أيْ أنّه بمجرد افتراض صحة مقدّمة الاستدلال فإنّه لا يمكن من خلالها إثبات المدعى[12]، ومن جهة أخرى فإنّ مقدّمة الاستدلال نفسها (النسبيّة التوصيفية) غير ثابتة ولا يمكن قبولها[13].
 
 
 

1- الجدير ذكره أنّ أنصار اللاواقعيّة قد تصدوا بأساليب متعدّدة لإثبات اللاواقعيّة وسوف نتعرض لأهم أدلتهم في الفصل السادس من هذا الكتاب.
2- راجع، محمّد تقي مصباح، آموزش فلسفة، ج‏1، ص 143 - 70 اللاواقعيّة , محمّد حسين زاده، معرفت شناسي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

104

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 الثالث: بالاستناد إلى اللاواقعيّة.

 
ذكرنا في الفصل الثاني أنّ النسبيّة من لوازم اللاواقعيّة وربّما تكون اللاواقعيّة1 أهمّ دليل يستفاد منه في هذه المرحلة من النسبيّة[14].
 
سؤال: قرّر هذا الدليل مع الاستناد إلى الفرع 6 - 2 من الفصل الثاني.‏
 
تحليل الدليل الثالث:
 
لا أهميّة لهذا الدليل بعد إثبات القول بالواقعيّّة في الفصل الثالث والرابع.
 
2 - 2 - 2. النسبيّة الفردية والاجتماعية
 
لو افترضنا وقبلنا بعدم وجود مبانٍ واقعيّة للقيم واللزوميات الأخلاقيّّة فمن المعقول بالدرجة الأولى القبول بالنسبيّة الفردية، لأنّه في هذ الفرض لا يوجد أيّ مبنى واقعيّ يلزم الفرد بقبول آراء الآخرين الأخلاقيّّة. ومع هذا فقد تقدّم القول إنّ النسبيّة الاجتماعية أكثر شيوعاً وقبولاً - عند منظري النسبيّة - من النسبيّة الفردية، ويعود السبب في ذلك إلى أنّ الأخيرة لها لوازم غير مقبولة بشكل واضح، ومن جملتها:
 
1 - إذا قبلنا بالنسبيّة الفردية فإنّ كلّ الأفراد العاملين بإرادتهم سوف يتساوون في القيمة، وعليه فلا فرق بين هتلر وغاندي.
 
2 - مضافاً إلى ذلك وبناءً على النسبيّة الفردية، فإنّ كلّ سعي لمنع التجاوز والتعدّي من قبل أيّ فرد على الآخرين بل وحتى إصلاح سلوكه وأفعاله لن يكون موجهاً، وعليه فإنّ وضع القوانين الحقوقية وتشكيل الحكومات والقضاء والعقوبات بل وحتى التربية الأخلاقيّّة لن يكون لها توجيهٌ معقول حينئذٍ، إلّا أنّه لا يمكن تجاهل ضرورتها بشكل كلّيّ.
 
لمثل هذه الأسباب ذهب النسبيون إلى الاعتقاد بمقبولية النسبيّة الاجتماعية بشكل أكبر من النسبيّة الفردية، لكن يا ترى هل أنّ مشاكل النسبيّة الاجتماعية أقلّ من
 
 
 

1- سوف نذكر المباني اليقينية للمعارف الأخلاقيّّة في الفصل التاسع والعاشر من هذا الكتاب.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

105

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 النسبيّة الفردية؟


1 - باللحاظ النظري فإنّ التقييم المبتنى على النسبيّة الاجتماعية متناقض في بعض الموارد، انتبه إلى هذا المثال:

سمية ابنة إحدى العائلات غير الملتزمة دينياً بشكل كامل. من طرف ما فإنّ عائلة سمية لا ترتضي لها التزام الحجاب في الشارع، ومن طرف آخر فإنّها فتاة مسلمة والمجتمع الإسلاميّ يرى لزوم رعاية الحجاب والالتزام به.

بناءً على النسبيّة الاجتماعية فإنّ رعاية الحجاب بالنسبة لسمية من الناحية الأخلاقيّّة حسن وقبيح أيضاً.

لذا بناءً على المراد من الجامعة اصطلاحها الاجتماعي - الّذي يطلق على كلّ مجموعة ذات هدف مشترك - فمن الممكن لأيّ فرد أنْ يكون عضواً في أكثر من مجتمع واحد. وبحسب العادة والمتعارف فإنّ كلّ الأفراد أعضاء في جوامع متعدّدة: كالعائلة والدولة والفرق العلمية، والعمل، والتيارات السياسية، والمذاهب الدينيّة والفرق الفنية والرياضية، و... وبشكل كلّي في الموارد الّتي تتعارض فيها القيم بين مجموعتين أو مجتمعين وذات عضوٍ مشترك بين الاثنين فإنّ سلوك هذا العضو سيقيَّم على أنّه متناقض بناءً على نظرية النسبيّة الاجتماعية.
2 - بناءً على النسبيّة الاجتماعية فإنّ أيّ حركة إصلاحية لتغيير التحلل الاجتماعي، ستكون محكومة وغير مقبولة، وعليه فإنّ عمل السارقين والفاسدين - والذين يعملون بناءً على توافق المجموعة - سيكون عملاً صائباً وصحيحاً. وأما الأنبياء والمصلحون الاجتماعيون الّذين يدعون إلى العدالة والأمانة والوفاء، ويكافحون من أجل رفع الظلم والخداع والفساد فسيُعتبرون خاطئين فيما يقومون به، لأنّ ما يجاهدون لأجل رفعه - أيّ الخلل الاجتماعي - هو مورد توافق وعمل عند الناس، ومضافاً إلى هذا ففي نظر النسبيّة الاجتماعية الأساس وجود التوافق الجمعي وبالتالي لا وجود للنظم واللانظم والصلاح والفساد في قاموسها [15].
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

106

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 3 - بناءً على النسبيّة الاجتماعية فإنّ المجرم يكفيه في توجيه عمله أخلاقيّاً أنْ يعرّف لنا أعوانه المتفقين معه في الرأي لأن رأيّ المجموعة يولّد القيمة.

وبغضّ النظر عن مباني وأدلة نسبية ما وراء الأخلاق فإنّ النسبيّة الفردية والنسبيّة الاجتماعية لا يمكن تعقلهما والقبول بهما.
 
3 - 2. النسبيّة القواعدية 1
 
في هذه المرحلة يستنتج[16] القائل بالنسبيّة بعض الأصول الأخلاقيّّة ويؤكد عليها بعنوان أنها قواعد عامة[17]. ومثالاً على ذلك فإنّ هذه الأصول العامة الأخلاقيّّة تسمّى بالنسبيّة القواعدية.
 
المدعى:
 
1 - لا يصح أخلاقيّاً الحكم من الناحية الأخلاقيّّة على أفعال وسلوك الآخرين بناءً على ما تعتقده من النظرية الأخلاقيّّة.
 
2 - لا بدّ لكلّ فردٍ / جامعة أنّ يكون حراً في اختيار ما يريد من النظريات الأخلاقيّّة والعمل بها (أصل الحرية الأخلاقيّّة)2
.
3 - لا بدّ لكلّ فرد / مجتمع أنّ يتحمل الآخرين - ممن اختار وعمل بالنظريات الأخلاقيّّة المخالفة له - وأنْ يحترم قراراتهم (التساهل والتسامح3 الأخلاقيّ).
 
تنبيه: المراد من الآخرين بناءً على النسبيّة الفردية كلّ فرد آخر مخالف في النظرية الأخلاقيّّة، وبناءً على النسبيّة الاجتماعية كلّ جامعة أخرى ذات نظرية أخلاقيّّة مختلفة.
 
والآن لنرَ كيف يثبت القائل بالنسبيّة هذا المدعى.
 
الدليل: لإثبات هذا المدعى هناك نوعان من الأدلة:
 
 
 

1- تعني كلمة "هنجار" القاعدة والقانون، وحيث إن النسبي يطرح في هذه المرحلة قواعد أخلاقيّّة عامة سميت هذه المرحلة النسبيّة القواعدية.
2- Ethical Liberalism
3- Tolerance
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

107

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 الدليل الأول: استناداً إلى النسبيّة التوصيفية: حيث إنّ الأفراد والجوامع المختلفة يختلفون اختلافاً جوهرياً في كلّ / بعض الأحكام الأخلاقيّّة (النسبيّة التوصيفية) فإنّ الحكم على سلوك وأفعال الآخرين بناءً على ما تعتقد من النظرية الأخلاقيّّة لا يصحّ أخلاقيّاً, ولا بدّ أنّ يكون كلّ فرد / جامعة حراً في انتخاب ما يريد من النظريات الأخلاقيّّة المقبولة عنده والعمل بها وأنْ نتحمل الآخرين، ونحترم قراراتهم وأعمالهم.


تحليل الدليل الأول: توجد عدة إشكالات على هذا الدليل:

1 - النسبيّة التوصيفية غير مقبولة (راجع: تحليل النسبيّة التوصيفية).

2 - لا ارتباط منطقياً بين المقدّمة ونتيجة الاستدلال لأنّ مجرد وجود الاختلاف الجوهري في الأحكام الأخلاقيّّة لا يعدّ دليلاً كافياً لأصول النسبيّة القواعدية لأنّه من الممكن منطقي أنْ يقبل بعضهم بمقدّمة هذا الاستدلال وأنْ لا يقبل بنتائجه.

تمرين: اكتب مقدّمة هذا الدليل (النسبيّة التوصيفية) مع نقيض الأصول الثلاثة للنسبية القواعدية، وبيّن إمكانية أنْ يقبل أحدٌ ما منطقياً النسبيّة التوصيفية ونقيض النسبيّة القواعدية.

3 - إنّ النسبيّة التوصيفية من نوع "الوجودات" وأما النسبيّة القواعدية فهي من نوع اللزوميات، وباعتقاد الواقعيّين والنسبيين فإنّه لا يوجد أيّ ربط منطقيّ بين "ما ينبغي" (لازمٌ) وبين ما هو "موجود"، ولذا فإنّهم بناءً على ما يعتقدون به لا يمكن استنتاج النسبيّة القواعدية من النسبيّة التوصيفية.

الدليل الثاني: استناداً إلى نسبية ما وراء الأخلاق‏ حيث لا يوجد أيّ حكم من بين الأحكام الأخلاقيّّة معتبَرٌ مطلقاً بل إنّ هذه الأحكام لها اعتبارها عند كلّ فرد / جامعة يقبل بها (نسبية ما وراء الأخلاق) فإنّ الحكم على سلوك وأفعال الآخرين بناءً على النظرية المقبولة عندك لا يصح أخلاقيّاً ولا بدّ أنّ يكون
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

108

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

  كلّ فردٍ / جامعة حراً في انتخاب ما يريد من النظريات المقبولة عنده والعمل بها ولا بدّ أنْ تتحمّل الآخرين وتحترم قراراتهم وأعمالهم.


تحليل الدليل الثاني: في هذا الاستدلال أيضاً عدّة إشكالات:

1 - لا يمكن القبول بنسبية ما وراء الأخلاق (راجع تحليل نسبية ما وراء الأخلاق).

2 - لنفترض صحة مقدّمة هذا الاستدلال وأنّ الأحكام الأخلاقيّّة لها اعتبارها فقط عند كلّ فرد / جامعة يقبل بها. وحينئذٍ يمكن القول إنّ الحكم الأخلاقيّ على سلوك وأفعال الآخرين بناءً على ما تقبله من النظرية الأخلاقيّّة غير معتبر ولا يمكن القبول به، إلّا أنّ الاستدلال المذكور لا يوضح لنا أنّ مثل هذا الحكم لماذا - باللحاظ الأخلاقيّّ - غير صحيح وغير قيميّ؟

3 - مقدّمة هذا الاستدلال (نسبية ما وراء الأخلاق) لا تتوافق مع نتيجته (النسبيّة القواعدية) لأنّ الأولى تنفي اعتبار الأحكام الأخلاقيّّة بشكل مطلق بينما ترى الثانية أنّ أصولها الأخلاقيّّة الثلاثة مطلقة. وحينئذٍ كيف يمكن أنّ نستنتج من نسبية كلّ القيم إطلاق بعضها؟ إذا لم يرد الفرد / الجماعة الخاصّة القبول بهذه القيم العامة فما هو الدليل الّذي يدل على شمول هذه القيم لها؟

4 - بناءً على نسبية ما وراء الأخلاق ليس لدينا أيّ قيمة مطلقة، و - بغضّ النظر عن قرار الفرد / توافق الجمع - فإنّ "أجيدة" و"أغير جيدة" كلاهما معقولان ومعتبران، لأنّه إذا أمكننا استنتاج أصول مطلقة من نسبية ما وراء الأخلاق فلن يوجد أيّ ترجيح بين الأصول العامة للنسبية القواعدية وبين الأصول المقابلة لها (كون الأحكام الأخلاقيّّة في حق الآخرين قيمية، ولا قيمية الحرية والتساهل والتسامح الأخلاقيّ)، ولذا كيف يمكن للقائل بالنسبيّة أنْ يؤكد على لزوم القبول بالطائفة الأولى فقط؟

5 - كما مر سابقاً فإنّ إشكال الرابطة المنطقية بين "ما ينبغي" وبين "موجود" موجود أيضاً في هذا الاستدلال[19].
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

109

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 2 - 3 - 2. النسبيّة القواعدية، نظرية متناقضة في ذاتها ولا يمكن تطبيقها


حتى الآن. ذكرنا وحللنا الأدلة الّتي أقيمت لإثبات النسبيّة القواعدية ورأينا معاً عدم تمامية أيّ دليل لإثبات المدعى. إلّا أنّه وبغضّ النظر عن هذه الأدلة فإنّ نفس هذه النسبيّة القواعدية عليها اشكالات نظرية وعملية متعدّدة تنسف هذه النظرية من أساسها.

أ) الاشكالات النظرية (تناقض وتعارض أصول النسبيّة القواعدية): لنتصوّر شخصاً ما وقف على مرتفع صارخاً: "أيها الناس هذا مقام الحمقى، وكلّ من يتكلم مع الناس من هذا المكان فهو أحمق".

إنّ هذا الشخص بإصداره هذا الحكم فقد حكم على نفسه قبل أنْ يحكم على الآخرين.

النسبيّة القواعدية هي أحكام عامة أخلاقيّّة نسبية وتشمل أفعال وسلوك الآخرين أيضاً. إلّا أنّ الأصل الأوّل منها يقول إنّ الحكم الأخلاقيّ بالنسبة لأفعال الآخرين وسلوكهم على أساس النظرية المقبولة عندنا غير صحيح أخلاقيّاً، ولذا فالأصل الأوّل من النسبيّة القواعدية ينفي تمام الأصول فيها. وأيضاً فإنّ أصل الحرية المطلقة - باللحاظ النظري - شامل لنفي نفسه، لأنّه يشمل حرية سلب الحرية أيضاً.

وكذلك أصل التساهل والتسامح المطلق فإنّه - باللحاظ النظري - أيضاً يأمر بتحمل عدم التساهل، وباحترام من ينقض التساهل وبعبارة أخرى فإنّ قبول هذه الأصول والدفاع عنها يستلزم القبول بنفي الأصول والدفاع عنها أيضاً، وفي هذه الصورة من غير المعلوم حينئذٍ عمَّ يدافع القائل بالنسبيّة؟[20].

3 - تعارض أصل الحرية مع أصل التساهل والتسامح في بعض الموارد

إنّ المجتمع العنصري الّذي يرى أنّ عرقه وعنصره هو الأفضل ربما يكون في عقيدته وجوب إزالة ومحو كلّ الأعراق والعناصر الأخرى. وفي المقابل ربما يكون هناك مجتمع ما يرى بناءً على نظريته الأخلاقيّّة أنّ العنصرية مذمومة وأنّ وظيفته
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

110

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 الأخلاقيّّة تقتضي مواجهتها. وبناءً عليه فإنّ أصل الحرية عند هذين المجتمعين يجيز لهما الحرب مع الآخر بينما أصل التسامح والتساهل عندهما أيضاً يحذرهما منها ويدعوهما إلى الابتعاد عنها.

 
وبشكل كلّي في كلّ مقام إذا استلزم التعهد بما نعتقده من النظريات الأخلاقيّّة عدم تحمّل أفعال الآخرين وسلوكهم فسيحصل مثل هذا التعارض، حيث إنّ قبول أصل التساهل والتسامح في هذه الموارد معناه الأغماض عن النظرية الأخلاقيّّة المقبولة عندنا وعدم العمل بها، وهذا مما يتعارض مع أصل الحرية عندنا(21).
 
ب) الاشكالات العمليّة (لزوم الهرج والمرج وعدم التزام النسبيين ما يعتقدونه في مقام العمل).
 
بغض النظر عن الاشكالات النظرية الواردة على النسبيّة القواعدية فإنّ افتراض العمل بهذه الأصول يستلزم بعض اللوازم اللامقبولة عملياً:
 
1 - لو بنينا على أنّ كلّ فرد أو مجمتع لديه الحرية الكاملة في أنْ يفعل ما يريد ويشتهي، ولا يحقّ بالتالي لغيره أنّ يمنعه، فإنّ ذلك سيستلزم حدوث الهرج والمرج العظيمين1.
 
لأنّ كون الفرد حراً في قتل الآخر أو تعذيبه لأنّه مسرور بذلك أو أنّ كون مجموعة من الفاسدين أو قطاع الطرق أحراراً سيؤدي إلى المخاطرة بأمن الناس سواء في أموالهم أو أرواحهم.
 
لكن حيث إنّ النسبيّ لا يقبل بأيّ مبنى واقعيّ للقيم الأخلاقيّّة وإنما يقيم السلوك والانفعالات بناءً على آثارها ونتائجها، فإنّه لا يرى أنّ عواقب هذه الأمور اللامطلوبة توجب محدودية الحرية الفردية والاجتماعية.
 
إنّ أيّ مجتمع يقوم على أساس النسبيّة القواعدية سيكون أكثر وحشية من حيوانات الغاب المفترسة.
 
 
 

1- يشير القرآن الكريم إلى هذه الملازمة بقوله تعالى "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ..." (البقرة 1: 251).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

111

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 2 - هل يمكن لنفس القائلين بالنسبيّة التزام أصول النسبيّة القواعدية في مقام العمل؟

 
من البعيد جداً لأيّ قائل بالنسبيّة إذا ما تعرّض الآخرون له في نفسه أنْ يختار طريق التساهل والتسامح وأنْ يقول بحرية أمثال هؤلاء المخالفين ليعملوا طبق ميولهم وسلائقهم أو طبق ما تعاهدوا عليه.
 
ولو ظننتم غير هذا فيمكنكم أنّ تجربوا ذلك وتمتحنوه!
 
إنّ القصة الّتي ذكرناها في بداية هذا الفصل مثال عينيّ على عدم الالتزام العمليّ للنسبيين بنظرياتهم.
 
ومن المهم أنْ تعرف أنَّ القائل بالنسبيّة وطبقاً لنظرياته لا بدّ له ألّا يقابل الظلم في حقه بالانتقام وليس هذا فحسب، بل لا بدّ له أنّ لا يُظهر أو يبدي أيّ مقاومة تجاهه بل وحتى أنْ لا يقبّح هذا الفعل قلبياً أيضاً.
 
سؤال: مع أيّ أصلٍ من أصول النسبيّة القواعدية يتنافى تقبيح الأفعال الظالمة؟
 
3 -3 - 2. قيود النسبيّة القواعدية
 
قلّما نجد نظرية كالنظرية النسبيّة الأخلاقيّّة كانت عرضة لهذا الحدّ من النقد1 والاشكالات. وهنا نسأل ألا يوجد مناص للتخلّص من كلّ هذه الاشكالات؟ ومن الممكن أنّ تسأل أيضاً عن سبب تأكيد القائل بالنسبيّة على إطلاق أصول النسبيّة القواعدية. وهل يمكن من أجل الإجابة وحل هذه الاشكالات أنّ نقيد هذه الأصول؟
 
مما يجدر الالتفات إليه أنّ إطلاق أصول النسبيّة القواعدية يُعتبر من لوازم النظرية النسبيّة ومرحلة من مراحلها. وعليه إذا لم تكن للقيم الأخلاقيّّة واقعيّة، ولم يكن أي
 
 
 

1- ومثالاً على ذلك راجع، لويس بويمن، "نقدي برنسبيت اخلاقي"، (نقد النسبيّة الأخلاقيّّة) ترجمة محمود فتحعلي، مجلة نقد ونظر، العدد 13 - 14، ص 324 - 343, بول روبيجك، "اخلاق نسبي است يا مطلق" (الأخلاق نسبية أم مطلقة) ترجمة سعيد عدالت نزاد، نفس المصدر السابق، ص 300 - 323, Mohammad A. Shomali, Ethical Relativism. An Analysis of the Foundations of Morality.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

112

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 عمل - في الواقع - لا حسن ولا قبيح، فلا دليل على حرية الانتخاب والعمل في بعض الأعمال ولزوم تحمل ذلك من قبل الآخرين ولا دليل على عدم جواز التساهل والحرية في بعض الأعمال الأخرى أيضاً. وبناءً على هذا فإنّ النسبيين وطبقاً لنظريتهم ليس لديهم أيّ توجيه لتقييد أصول النسبيّة القواعدية، لأنّه طبقاً لهذه النظرية أيضاً فإنّ تعيين القيود الأخلاقيّّة كما هو الحال في نفس الأحكام الأخلاقيّّة تابع للسليقة / التوافق ولا يمكن لأيّ شخص في هذا المجال أنْ يعيّن تكليفاً ثابتاً لكل الأفراد / المجتمعات، ومضافاً إلى هذا فإنّنا لو رفعنا اليد عن النسبيّة القواعدية ستبقى الاشكالات على المراحل السابقة من النسبيّة الأخلاقيّّة قائمة، ومع هذا كله فمن الممكن للنسبيين من أجل تفعيل نظريتهم عملياً أنْ يجعلوا بعض القيود على هذه الأصول. وسوف نتابع في هذا المجال مناظرة فرضية بين قائل " بالنسبيّة وبين ناقدٍ.


سؤال: مع التدقيق في هذه المناظرة اذكر ماهية القيود الّتي يمكن افتراضها في مورد النسبيّة القواعدية. وهل يمكن القبول بمثل هذه القيود؟ ولماذا؟

- إنّ أصول نسبيّتك القواعديّة متناقضة في نفسها، ويرد عليها العديد من الاشكالات العمليّة، وبناءً عليه لا يمكن القبول بنظريّة النسبيّة الأخلاقيّّة.

- نحن نعتقد بلزوم تبيعة هذه الأصول حتى الحدّ الممكن منها وليس في كلّ الموارد، وعليه فلا ترد هذه الاشكالات عليها.

- ما هو مرادك بالدقة من قولك "حتى الحد الممكن"؟

- إلى الحدّ الّذي لا يوجب التناقض النظريّ فإنّها تكون قابلة للتطبيق، مثلاً: لو كانت الحرية مطلقة فإنّها تشمل سلب حرية الآخرين أيضاً، وهذا لا يمكن القبول به لأنّه يستلزم نفي نفسها حينئذٍ، لكن لما لم يكن لدينا أصلٌ عامٌ أخلاقيٌّّ - غير أصول النسبيّة القواعدية - يقيدها فإنّنا نقول إنّ هذا الأصل بنفسه يعيّن قيوده بمعنى أنّ الحرية محترمة إلى الحدّ الّذي لا يوجب سلب حرية الآخرين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

113

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 - سأصرف النظر عن كلّ الاشكالات الأخرى، ولنفترض أنّ مثل هذه الأصول تم إثباتها وأنه لا مفرّ لنا إلى الحدّ الممكن من قبولها، والعمل بها، لكن سأفترض لك مورداً ما وسأطلب منك طبقاً لأصول النسبيّة أنْ توضح لنا التكليف فيه:


-  موافق.

-  إفترض أنّ العنصريين صمموا - بناءً على عقائدهم - على تطهير الأرض من لوث الأعراق الأخرى، هل هم أحرارٌ في ذلك؟

-  لا يمكن ذلك بأيّ وجه، وبالدقة فإنّ هذا المورد من الموارد الّتي لا يقبل فيها بأصل الحرية، لأنّه سوف تسلب حرية الآخرين في الحياة، وبالتالي فإنّ حرية هؤلاء العنصريين سوف تتعارض مع حرية الآخرين ولا يمكن القبول بذلك.

-  تعارض الحرية بين هاتين المجموعتين واضح، ولكن رفع هذا التعارض له ثلاثة طرق: إما أنّ تسلب حرية العنصريين وإما أنّ تسلب حرية الآخرين، وإما أنّ تسلب حريتَيْهما معاً.

-  وعليه فبأي دليل رجحت الاحتمال الأول؟.

-  إنّ هذا التعارض يرتفع بسلب حرية أحدهما، ولا حاجة لسلب حرية الاثنين معاً.. وأما سلب حرية الآخرين فيعني تجويز قتلهم بيد العنصريين، هل يمكنك أنت أنْ ترجّح هذا الاحتمال؟

-  نعم، القائلون بإطلاق الأخلاق يقايسون قيمة الأفعال بالهدف الواقعيّّ من الأخلاق، لكننا الآن نبحث ونتكلم عن نظرية النسبيّة، وبناءً على الأصول والمباني الّتي تعتمدها لا يمكنك ترجيح إحدى الحريتين على الأخرى بالاستناد إلى النتائج الواقعيّّة للأفعال، وبالتالي فإنّ النسبيّ ليس لديه أيّ ملاك للاختيار في مثل هذا الموارد, لأنّه لو أردنا النظر إلى نتائج العمل والفعل وبالتالي التقييم على أساسه فلن يبقى أيّ توجيه ومعنى لأصول النسبيّة القواعدية، والآن هل يمكنك أنْ تبيّن لنا ماذا تعني "بكونها قابلة للتطبيق"؟

-  المراد منها أنّ الحرية والتسامح والتساهل إذا لم تكن مقيدة ومشروطة سيلزم 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

114

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 منها أحياناً الفساد والهرج والمرج واقعاً، وستصبح الحياة عملياً غير ممكنة أو صعبة، وسيكون الأمن الاجتماعي عرضة للأخطار و...، لكن إذا لم تحصل مثل هذه المفاسد والمحاذير فإنّ العمل بأصول النسبيّة القواعدية يبقى لازماً.


-  وهذا القيد أيضاً ناظرٌ إلى اللوازم الواقعيّّة لسلوك الأفعال. أنا أقترح عليك لمرة واحدة وأخيرة أنّ تعيّن مرادك ورأيك من الواقعيّّة واللاواقعيّة، لأنّه إذا قبلت باللاواقعيّة فإنّ الاستناد إلى عواقب الأفعال في التقييم سيكون بلا معنى وبالتالي فإنّ الحسن والقبح والصلاح والفساد سيكون لها معنى فقط، وفقط بعد إرادة الفرد / توافق المجموعة وكذلك فإنّها ليست مطلقة، إنّ التعبير بالفاسد الواقعيّ عند اللاواقعيين والنسبيين يشبه التعبير بالخرافة الواقعيّّة.

-  طبعاً ليس مرادي الاستناد في التقييم إلى العواقب الواقعيّّة للأفعال بل إنني أذكر بعض القيود المجمع عليها والمعتبرة عند كلّ الناس، لأن أيّ إنسان لا يقبل بالهرج والمرج وإفساد الحياة.

-  أنا لا أظنّ أنّ هذا الكلام مقبول بكليته، لأنّه ربما يكون القاتل موافقاً على إفساد حياة المقتول، والعنصريون كذلك موافقون على إفساد حياة الآخرين، وكذلك على الرغم من أنّ السارقين يهتمون بحفظ أموالهم إلّا أنّه من الممكن أنْ يتوافقوا أيضاً على سرقة أموال الآخرين، وأيضاً فإنّ المخلين بالأمن والطالبين للهرج والمرج توافقوا على إيجاد الهرج والمرج في النظام، وحينئذٍ من ذا الّذي سيقيّم هذه الأمور بما وراء الإرادة والتوافق؟

-  ما المانع من استنادنا في تقييم مثل هذه الموارد إلى العواقب الواقعيّّة؟

-  الاستناد إلى العواقب الواقعيّّة صحيح في حدّ ذاته، إلّا أنّه إذا كان صحيحاً ها هنا فلا دليل على عدم صحته في سائر الموارد وعليه لا بدّ أنّ نقبل بالواقعيّّة وإطلاق الأخلاق، وحينئذٍ مع الالتفات إلى هدف الأخلاق نُقيّم كلّ الأفعال. وفي هذه الصورة سيكون حال الحرية والتساهل حال بقية الأفعال من ناحية التقييم لا أنّ القيمة مطلقة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

115

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

  في موردهما، إذ إنّه لا يمكن إثبات قيمتهما إلى الحد الّذي يوجب تناقضهما ذاتاً وقبولهما للتطبيق خارجاً. وكما هو الحال في السير حيث أنّه لا قيمة مطلقة له ولا يعدّ كأصل أخلاقيّ تجب رعايته إلى الحد الممكن، كذلك فإنّ أصول النسبيّة القواعدية غير خارجة عن هذا النسيج وبالتالي لا يوجد أيّ دليل للتأكيد عليها والعمل بها لأنّه في الأخلاق الواقعيّّة، ربما يوجد الكثير الكثير من القيم الهامة والأهمّ الّتي يجب أنّ تكون كأصول ثابتة، أما أنت فقد سلكت الطريق الخاطى‏ء منذ البداية.


-  إنّ تأكيدنا على أصول النسبيّة القواعدية يعود إلى الأدلة الّتي تثبت هذه النسبيّة.

-  نعم للأسف إنّ نفس هذه الأدلة غير صحيحة، ومضافاً إلى ذلك لو سلمنا بتمامية هذه الأدلة فإنّها ستثبت هذه الأصول بشكل مطلق، وحينئذٍ لا يمكنك إضافة أيّ قيد عليها لأنّه طبقاً لما تعتقد من تبعية الأحكام الأخلاقيّّة للسليقة / التوافق، فإنّ قيودها كذلك تابعة لها.

ولذا لا يمكنك - بناءً على ما تعتقد - تحميل هذه القيود على الجميع. وربما يريد أحدهم / جماعة الحرية والتساهل بشكل مطلق، إلّا أنّ أصل الإشكال يرجع إلى اللاواقعيّة، وفي رأيي فإنّه لا يمكن لأي إنسان أنّ يعيش من دون القبول بالواقعيّات الأخلاقيّّة بل وحتى مع كونه غافلاً عن هذه الحقيقة، وبالدقة أيضاً فإنّ أيّ إنسان لا يمكنه أنّ يعيش من دون القبول بالمعرفة اليقينية. إنّ النسبيّة الأخلاقيّّة تشابه النسبيّة المعرفية في كونها متناقضة في ذاتها وغير عملية أيضاً، وكما ترجح أنت نفسك البقاء على الانتحار فإنّ هذا دليل بذاته على أنك قايست قيمة الأفعال بعواقبها وبالتالي فإنّ قرارك مبتنى على نتائج الأفعال المطلوبة وغير المطلوبة منها. نعم من الممكن أنّ يكون تشخيص أيّ واحدٍ منا في تعيين المطلوب الأصلي خاطئاً أو أنْ نكون مشتبهين في تحديد طرق الوصول إليه في بعض الموارد، ولكن لهذا السبب فإنّ الأخلاق بحاجة إلى البحث والذي هو من أعظم البحوث وأكثرها قيمة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

116

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 -  ربما يمكن القبول بشي‏ء مشابه لهذا في مقام العمل، أنا أقبل بأنّ الحرية ليست مطلقة في مقام العمل بل إنّه بناءً على النسبيّة الأخلاقيّّة يمكن إثبات قيمة الحرية في العمل والسلوك "إلى الحدّ الممكن". لكن يمكننا على الأقل القبول بقيمة الحرية والتساهل نظرياً.


-  ماذا تعنى بقولك "نظرياً" في مقابل قولك الحرية والتساهل عملياً؟

-  أعني حرية العقيدة والفكر والبيان والقلم.

-  هل تعتقد برأيك أنّ هذه الموارد الّتي سأعددها لك عملية أم نظرية؟ وهل هي حسنة أم قبيحة؟ الكذب، الإشاعة والتشهير، والفحش سواء كانت باللسان أم بالكتابة؟

-  لا لا! إنّ هذه الأعمال قبيحة، ولا أظن أنّ أحداً يقبل بها. لا بدّ من حفظ احترام الآخرين ولذا لا بدّ من اجتناب هذه الأمور.

-  إذاً البيان والقلم يرجعان إلى ناحية العمل، والحرية والتساهل في موردهما ليسا مطلَقَيْن.

-  ربما يمكن القول إنّ الحرية والتساهل نظريتان إلى الحد الّذي يبقى فيه النظريّ بصورة عقيدة فكرية. فالإنسان حرّ في ذاته ويفعل ما يريد، وأما لو اتصف بالناحية العمليّة فإنّ الحرية والتساهل حينئذٍ سيكونان عمليين. وقد بحثنا حول هذا الأمر مسبقاً.

-  إذا كنت تقبل بالنسبيّة فإنّ الاشكالات الواردة على أصل الحرية عملياً واردة ها هنا أيضاً، وبالتالي ليس لديك أيّ طريق لإثبات القيمة المطلقة للحرية والتساهل من الناحية النظرية.

-  أنا أظن أنّه بالإمكان إثبات ذلك وحتى في مورد البيان والقلم بناءً على مبنى الاطلاق، نعم باستثناء الموارد الّتي عددتها كالكذب والفحش، إذا لم يكن الأفراد أحراراً في العقيدة والفكر ولم يتمكنوا من بيانها فلن يستطيعوا تشخيص العقائد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

117

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

  الصحيحة من العقائد الفاسدة بل وربما سيبتلون بالفاسدة منها. وبناءً على الواقعيّّة فإنّ إخفاء العقيدة الفاسدة والعمل على طبقها سيرتب عليها بعض المفاسد أيضاً، لأن من يعتقد بأنه يستطيع الخيانة أو أخذ الرشوة من أجل منفعته الشخصيّة إذا لم يكن جريئاً في إبراز عقيدته والبحث والنقاش حولها فلن يؤمل في تصحيح عقيدته، وهل ترجح أنت مفاسد العمل بالأفكار الفاسدة على حرية البيان؟ من الواضح في رأيي أنّ حرية العقيدة والفكر والبيان والقلم موجبة لرشد المجتمع، لأنّ هذا الرشد مطلوب أيضاً حتى عند القائلين بالواقعيّّة، ولذا ينبغي عليك أيضاً أنّ تقبل بهذا كأصل مسلّم به.


-  إنّ كون الحرية والتساهل في النظر وباستثناء بعض الموارد ذات قيمة بمعنى أنّ قيمتهما ليست مطلقة، لكن لنعرف ما هي الموارد الّتي لها قيمة فيها، فسأجيبك من خلال سؤال أطرحه عليك: ألا تظن أنّه إذا أوصينا مرضى السل بأمر طبي يحذرهم بما هم أحرار بالتواصل والتماس مع الآخرين، أنّ ذلك سيوجب على هؤلاء عدم الذهاب إلى الطبيب وعدم علاجهم في أيّ وقت؟

-  كلا، الحل في رأيي أنّ يتواصل هؤلاء المرضى مع المتخصصين فقط الّذين يعرفون كيفية وقاية أنفسهم من الابتلاء بالسلّ عند معالجة هؤلاء المرضى والارتباط بهم.

-  وأنا أقترح هذا الحل أيضاً على أصحاب العقائد الفاسدة والتي من الممكن أنّ تسبّب فساد وانحراف الآخرين، لذا يجب عليهم مراجعة المختصّين، وإيجاد العقيدة الصحيحة من خلال البحث والحوار معهم، لا أنْ يقوموا بعقد الاجتماعات مع الأفراد العاديين الّذين لا يختصون بهذا المجال أو بنشر أفكارهم في المنشورات العامة. إن وجود مراكز بحث تخصصية وحرية التعبير من أجل تشخيص الرأي الصحيح ومع رعاية شرائطه في هذه المراكز لازم وعظيم وأما إشاعة الأفكار الباطلة الموجبة للفساد والانحراف فهي ضد القيم ولا بد من منعها والوقوف في طريقها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

118

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 -  إنّ هذا القياس غير صحيح (قياس مع الفارق) لأنّ مرض السل قاتلٌ وأما الفكر في حد ذاته فليس له هذا الضرر والخطر، نعم إذا لم يستفد بعضهم منه بشكل صحيح وأدى مثلاً إلى قتل شخص ما فحينئذٍ لا بدّ من ردعه ومنعه من ذلك.


-  بناءً على النسبيّة، فإنّ العواقب والنتائج ليس لها أيّ تأثير في القيمة، لكن عندما نقيّم بناءً على الواقعيّّة والأخلاق لا بدّ ابتداءً من تعيين الملاك الواقعيّ للقيمة، ومن ثمّ تعيين درجة النفع والضرر والصلاح والفساد فيها. إنّ من يعتقد بأنّ الإيمان بالله ويوم القيامة بناءً على كتبه السماويّة شرط للاستقامة يعتقد بأنّ الراحل من هذه الدنيا بلا إيمان سيبتلى بالعذاب الإلهيّ إلى الأبد، ويعتقد أيضاً بأنّ خطر وضرر الأفكار الفاسدة الموجبة لسلب إيمان الفرد أعظم من قتله بمراتب، وأنت لا يمكنك من دون إثبات المادية ونفي وجود الله والمعاد أنّ تعتقد بعدم صحة هذا التقييم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

119

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 أكمل‏.

1- أكمل الجدول التالي:
 

2 - بغض النظر عن الأدلة، اذكر خلاصة الاشكالات على النسبيّة الفردية والاجتماعية والقواعدية.

6 اشكالات النسبيّة الفردية:
1-
2-
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

120

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

  اشكالات النسبيّة الاجتماعية

1 - 
2 -
3 -

اشكالات النسبيّة القواعدية

ألف) النظرية:
1 -
2 -

ب) العمليّة:
1 -
2 -

3 - اذكر قيدين من قيود النسبيّة القواعدية، واكتب في سطرين خلاصة النقد عليهما.

القيد الأول:

النقد:

القيد الثاني:

النقد:

4 - اذكر باختصار وفي سطرين فقط ما هو المراد من الاطلاق والنسبيّة في الأخلاق؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127
 

 


121

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 طبقاً لرأي استيفنسون هل أنّ الاختلاف في الأحكام الأخلاقيّّة جوهريّ أم لا؟



2 - ما هي برأيك الانتقادات الأخرى الواردة على نظرية النسبيّة الأخلاقيّّة؟ ابحث عنها وأضف خلاصتها إلى الفهرس.

3 - ابحث حول لوازم نظرية النسبيّة الأخلاقيّّة بالنسبة إلى الموارد المبينة أدناه وبشكل مستقلّ من ناحيتي النسبيّة الفردية والنسبيّة الاجتماعية:

تهذيب النفس، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الدفاع عن القيم، تصدير القيم، البحث والحوار مع المخالف لنا حول القيم.

4 - برأيك، إنّ من لا يعيّن معنى "الصلاح" و"الفساد" وما هو الصلاح الّذي يريده، بل يوكل تعيين ذلك إلى المجتمع، هل هو من المعتقدين بالقيم الأخلاقيّّة المطلقة أم أنّه من القائلين بالنسبيّة؟ (مع غضّ النظر عن التزامه العمليّ بُعرف المجتمع أو عدم التزامه بذلك).

5 - قم بإجراء مناظرة مع أحد أصدقائك في الصفّ، وبحضور الأستاذ، حول قيمة: الديمقراطية، الاغتيال، العنف، المداراة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، العقوبات الشرعية والقانونية [كالجلد وقطع اليد، والرجم والاعدام).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

122

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 إقرأ

 
1- ومثالاً على ذلك فإنّ "استيفنسون" و"هيركه" يعتقدان بالترتيب أنّ الأحكام الأخلاقيّّة نفي لتحريك إحساسات الطرف المقابل، أو للتوصيات العامة، واعتبرا النسبيّة الأخلاقيّّة بمعنى أنّ المحمولات الأخلاقيّّة هي توصيف للوضع الداخلي لذهن الفرد عندنا، وفي النتيجة فإنهما لا يقولان بالنسبيّة بل إنّ الحكم الأخلاقيّ في نظرهما إنما يكون نسبياً إذا كان مقيّداً فقط بتوصيف الوضعيّة الذهنية عند الفرد وأما سائر القيود - كالتقيد بإحساس القائل أو الأمر والتوصيات أو توافق الجمع عليه - فلا تعدّ مانعة لإطلاق الأخلاق. ويبدو لنا - وكما أشار إليه بونتينج - أنّ مثل هذه التعريفات والآراء إنما قُدّمت لتصون قائلها من اتهامه بالقول بالنسبيّة وليس الغرض مجرد تعريفها.

وبناءً عليه فإنّنا لا نقبل ما اعتُقِدَ من أنّ التعريفات المشتملة على قيود خاصّة مانعة من اطلاق الأخلاق إلّا إذا وجدنا الوجه المشترك للحاظ القيود الخاصّة عند القائلين بالإطلاق. كما لو أنّ كلّ القائلين بالإطلاق ينكرون تقيّد الأحكام الأخلاقيّّة بقيود غير واقعيّة. ومن طرف آخر اعتبر "وانج" أنّ هدف الأخلاق هو تنظيم الروابط الاجتماعية والحدّ من تعارض منافع الشخص أو منافع الأشخاص في المجتمع ويعتقد أيضاً بأنه من الممكن وجود طرق مختلفة لتحقيق هذا الهدف. ويقول أيضاً إنّه لما لا يمكن القول بوجود مذهب أخلاقيّ وحيد مناسب لتحقيق هذاالهدف لا بد حينئذٍ من القبول بالنسبيّة، لكن الأنظمة المقبولة حينئذٍ هي الأنظمة الّتي يمكنها أنّ تؤمن وتحقق هذا الهدف.

بل من الممكن في رأيه أنّ يكون أحد الأنظمة هو الأفضل من بينها والأكثر قبولاً ولكنه لا يمكن القول إن هناك مذهباً واحداً صحيحاً فقط. إلّا أنّه وبغضّ النظر عن الاشتباه الّذي وقع فيه لجهة تعيين هدف الأخلاق من الممكن وجود طرق مختلفة في كلّ مذهب أخلاقيّّ -حتى عند الواقعيّّة والاطلاقية أيضاً - لتأمين بعض الأهداف. ومثالاً على ذلك إنّ القائل بالاطلاق عندما يضع نظاماً أخلاقيّاً فإنّه يعتقد بوجود بعض الأصول المطلقة كقيمة الهدف، والأعمال الّتي تؤدي إلى الهدف مطلقاً ولا يعتقد بانحصار الطريق إلى ذلك الهدف.

لكن لا بد أنّ ننبّه إلى أنّ "وانج" نفسه يشير إلى أنّ مراده من النسبيّة غير النسبيّة المتعارفة حيث إن نظريته هي نموذج عن التعديلات الطارئة في السنوات الأخيرة على نظرية النسبيّة الأخلاقيّّة، وفي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

123

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

  الواقع فإنّ هذه النظريات تنكر فقط نوعاً خاصاً من إطلاق الأخلاق.


2- كما إنّ "كَانْتْ" نفسه والمدافع بقوة عن إطلاق الأخلاق لا يعتقد بأنّ القيم الأخلاقيّّة مقيَّدة بالزمان أو المكان أو الفاعل بل ولا بنتيجة الأفعال أيضاً بل يعتقد بأنّ قيم الأفعال الاختيارية مقيَّدة بنيّة الخير، والقيمة الوحيدة غير المقيدة بأي قيد هي الخير في حد ذاته، فالخير هو نية الخير عنده (راجع نظرية العقل العملي في الفصل السابع من هذا الكتاب).

3- حتماً فإنّ كلّ المذاهب اللاواقعيّة وكلّ القائلين بالنسبيّة مجبورون على طرح بعض الأصول المطلقة باللحاظ النظريّ، وأما باللحاظ العمليّ فهم ملتزمون فعلاً بالكثير من هذه الأصول المطلَقة، بالرغم من منافاة ذلك لمبانيهم. وقد أشرنا عند ذكر الانتقادات على النسبيّة إلى هذه الأصول المطلقة النظرية والعمليّة. وفي الواقع فإنّ هذه الانتقادات ترجع إلى أنّ اللاواقعيين والنسبيين لا يمكنهم - لا نظرياً ولا عملياً - الالتزام بنظرياتهم ونقض مبانيهم، ولذا فإنّ هذا المطلب - ومع أنّ الواقعيّين والنسبيين لا يمكنهم منطقياً القبول بأيّ أصل أخلاقيّ مطلق- لا يتنافى معه بل مؤيد له (دقّق في ذلك).

4- بناءً على هذا يمكن القول إن بعض الأحكام الأخلاقيّّة - والتي يمكن أنْ نسمّيها بالأصول الأخلاقيّّة المطلقة - غير مقيّدة بأيّ قيد. وأما سائر الأحكام الأخلاقيّّة فإنّها ترتبط بقيود مندرجة تحت هذه الأصول المطلقة. ويمكن بيان هذا المطلب منطقياً بالشكل التالي: لا يوجد أيّ حكم أخلاقيّّ مقيَّد بأيّ قيد شرط أنْ يكون المحمولعلى الموضوع ذاتياً أو أوّلياً (كما هو المصطلح في البرهان) (راجع: محمّد تقي مصباح، دروس فلسفه اخلاق، ص 187 - 194).

5- بناءً على هذا يمكن تعريف الاطلاق والنسبيّة في الأخلاق بنحو آخر - مع أنّه من الممكن عدّ هذا التعريف من نوع التعريف بلوازم الإطلاق والنسبيّة الأخلاقيّّة - فيقال: إنّ إطلاق الأخلاق معناه أنّه لا يوجد حكم أخلاقيّّ مقيَّد بقيود وشرائط غير واقعيّة، وأما النسبيّة الأخلاقيّّة فمعناها أنّ كلّ الأحكام الأخلاقيّّة مقيَّدة بقيود وشرائط غير واقعيّة كالأمر والإحساس والتوافق.

6- من الواضح أيضاً أنهما لا بدّ أنْ يتفقا كذلك على تحديد مفهوم السرقة لأنّ الموضوع المختلفَ عليه لا بدّ أنْ يكون واحداً، وقد اخترنا المثال الموجود في المتن بنحوٍ يشير إلى أنّ الاختلاف هو في مصداق السرقة وليس في مفهومها.
 
 
 
 

1- الذاتي في كتاب البرهان: هو المحمول الّذي يؤخذ في حد الموضوع أو الموضوع أو أحد مقوماته يؤخذ في حده. والمراد من الأولي فيه أيضاً هو المحمول لا بتوسط غيره أيّ لا يحتاج إلى واسطة في العروض في حمله على موضوعه (المترجم).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

124

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 7- مع التنبه إلى أنّ موضوع بعض البيانات الأخلاقيّّة أكبر كلية بالمقايسة بموضوعات بعضها الآخر يمكن حينئذٍ افتراض نظام أو عدة أنظمة طولية من البيانات الأخلاقيّّة بنحو تُستنتج فيه الجمل الأخلاقيّّة الأخصّ من الجمل الأخلاقيّّة الأعمّ، وفي مثل هذه الاستنتاجات نحتاج إلى جمل أخرى غير أخلاقيّّة، وهذه الجمل تبيّن أنّ موضوع الجمل الأخلاقيّّة الأخصّ مصداق من مواضيع الجمل الأخلاقيّّة الأعمّ، وبعبارة أخرى تبيِّن استخدام الجمل الأعمّ في مصاديق جديدة.


كذلك فإنّ الاختلاف إنما يكون جوهرياً - في مورد إحدى البيانات الأخلاقيّّة - فقط وفقط مع افتراض التوافق على كلّ البيانات غير الأخلاقيّّة المعينة لمصاديق الموضوعات - أو بعبارة أخرى استعمالات البيانات الأعمّ - ومن ثمّ فإنّ هذا الاختلاف لا يقبل الرفع.

وهذا الجدول يشير إلى أحد الأنظمة الطولية من البيانات الأخلاقيّّة:

إذا اتّفق الرأي على البيانات اللاخلاقية الموجودة في العمود الأول، فإنّ الاختلاف على البيانات التالية "ب حسنة" أو" ج حسنة" لن يكون جوهرياً وأساسياً، وإذا اختلف الرأي حول هذه الجملة "أ حسنة" فإنّ هذا الاختلاف غير القابل للرفع مع وجود الاتفاق حول بيانات العمود الأوّل سيكون اختلافاً جوهرياً وأساسياً.

البيانات غير الأخلاقية (الصغرى)

اليانات الأخلاقية (الكبرى)

ب هي ألف 

أ حسنة

ج هي ب 

ب حسنة

 

   ج حسنة

 

8- راجع: مرتضى مطهري، مجموعة آثار، ح‏2، ص 274، وج 13 ص 685 - 740. وكذلك، فإنّ اي. أو. ويلسون - عالم حياة اجتماعية - قد اكتشف وعرف أكثر من عشرين خصيصة كلية، وأيضاً بيّن كلايد كلاكهان - عالم في الأقوام والملل - بعض الخصائص العامة الثقافية.


(see: Louis p. pojamn, philosop hy: The Quest for truth, p314 -324).


9- نعم توجد لبعض الآداب والرسوم الاجتماعية المتناسبة مع شرائط المحيط والاعتقادات المختلفة - وبغضّ النظر عن كونها صحيحة أم خاطئة - متفق عليها ويُعمل بها. وهي مختلفة باختلاف المجتمعات المتعدّدة. وأما الآداب والرسوم الاجتماعية فإنّها توضع بشكل عام فقط لأجل تأمين نوع من التوافق والانسجام في الحياة الاجتماعية والشيء الحائز للأهميّة فيها هو وحدة الأداء عملياً لا شكلها الخاص، ومن الممكن وجود نوع من التوافق الأخلاقيّ عند عامة الناس على

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

125

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 أصل احترام هذه الآداب والرسوم والتقاليد الاجتماعية، ومضافاً إلى هذا فإنّ الأخلاق تؤخذ على أنهامجموعة الأفعال والصفات الاختيارية عند الإنسان، وهدفها أكبر من مجرد وجود نوع من التوافق الاجتماعي عليها. وبناءً عليه فإنّ رعاية الاحترام لهذه الآداب والتقاليد الاجتماعية - والذي يعدّ من أفعال الإنسان الاختيارية - إنما تقيَّم أخلاقيّاً من زاوية النظر إلى هدف الأخلاق وبعبارة أخرى فإنّ قيمتها مقيَّدة بهذا الهدف.


ويشير "هارمان" إلى أنّ الآداب والتقاليد الاجتماعية - كما في لباس الأفراح لوناً وشكلاً - إنما توضع من أجل إيجاد الوحدة والانسجام، والحد من بروز الاختلاف والخلل، وإنّ هذه التوافقات شبيهة بالتوافقات الكلامية ومقررات السير (قيادة السيارة)، والمهم فيها قبل شكلها هو الانسجام الاجتماعيّ الحاصل منها.

(See: Gilbert Harman. The nature of Morality, p.96).

ويعتقد "راشيلز" أيضاً بإمكانية وجود قواعد أخلاقيّّة مقبولة ومشتركة بين مجتمعين رغم اختلافهما في الآداب والتقاليد الاجتماعية لأنّ هناك الكثير من العوامل الّتي تتفاعل بعضها مع بعض لتنتج هذه الآداب والتقاليد. وتُعتبر قيَم المجتمع إحدى هذه العوامل، ومن جملتها أيضاً مختلف الاعتقادات الناظرة إلى الواقع والمقبولة عند أفراد ذلك المجتمع. وكذلك فإنّ الشرائط الفيزيائية الّتي يعيشها هؤلاء الأفراد لها أهميّتها في هذا المقام، وبناءً عليه فإنّه لا يمكننا ولمجرد وجود الاختلاف بين المجتمعات من جهة الآداب والتقاليد أنْ نستنتج وجود الاختلاف الجوهري بينها في القيم.

(See: James Rachels, The Element of m oral philosophy, p.23, Mohammad A. Shomali, Ethical relati on: An Analysis of the Foundati onof Morality, p 201 - 203).

10- استخدم بويمن "الذهنية" مكان "النسبيّة الفردية" مع أنهما غير متعادلين. نعم قد توجد بعض المصاديق المشتركة بينهما.

واعتبر أنّ (Donaldson) "دونالدسن" و"رث بنيدكت" (Ruth Benedct) يمكن عدّهما من أنصار النسبيّة والقائلين بها.

كذلك استخدم بويمن "التعاهدية" مكان "النسبيّة الاجتماعية". وهنا يمكن اعتبار التعاهدية - والتي هي نظرية أخلاقيّّة تعتبر منشأ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة هو التعاهد والتوافق الاجتماعي - بمثابة مبنى للنسبية الاجتماعية. وأحياناً يعتبر بويمن النسبيّة الثقافية معادلة للنسبية الاجتماعية، مع أنّ النسبيّة الثقافية ناظرة فقط إلى وجود الاختلاف الثقافي أو الأخلاقيّ والذي هو أمر معرفيّ إنسانيّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

126

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 فقط، ومضافاً إلى هذا فمن الممكن لأيّ طَائفة من الأفراد ذات هدف مشترك أنْ تشكّل مجتمعاً خاصاً بها إلّا أنّه ليس من الضرورة بمكان أنّ تكون لها ثقافة مشتركة.

 
(See: Mohammad A. Sh o mali, Ethical relativism: An Analysis of the Foundati o n of morality, p.26-27).
 
11- أول قائل بالنسبيّة هو بروتاغوراس، الّذي يعتبر الإنسان معيار كلّ شي‏ء، وأما من المعاصرين فيمكن ذكر نلسون جودمن (Nels on Goodman) هيلاري بوتنام (Hilary putnam) وريتشارد رورتي (Richard Rorty).
 
12- ذكر راشيلز هذا الدليل وقام بنقده والاشكال عليه‏
 
(See: James Rachels, The Elements of moral philosophy, p. 18 - 19, qu o ted in mohammad A. Sh o mali. Ethical relativism: An Analysis of the foudati on of m o rality, p 74 -75).
 
13- لإثبات "نسبية ما وراء الأخلاق" بالاستناد إلى النسبيّة التوصيفية يمكن الاستدلال أيضاً بما يلي: إنّ وجود الاختلافات الجوهرية في الأحكام الأخلاقيّّة يشير إلى عدم وجود شي‏ء باسم الواقعيّّة الأخلاقيّّة، لأنّ الواقعيّات حالها حال الأصول الرياضية في عدم وقوع الاختلاف الجوهري فيها، وحيث إنّه لا وجود للواقعيات الأخلاقيّّة فلن تكون الأحكام الأخلاقيّّة مطلقة.
 
وقد استُفيد في هذا الاستدلال من النسبيّة التوصيفية لإثبات اللاواقعيّة ومن الأخيرة لإثبات نسبية ما وراء الأخلاق. إلّا أنّ هذا الاستدلال غير تامّ لأنّه:
أولاً: النسبيّة التوصيفية غير مقبولة.
 
ثانياً: اللاواقعيّة أيضاً غير مقبولة.
 
ثالثاً: إنّ وجود الاختلاف ليس دليلاً على لاواقعيّة مورد الاختلاف إذ إنّ الاختلاف في الأحكام الأخلاقيّّة قد يكون لعللٍ أخرى من جملتها:
 
1- مع وجود الاتفاق في الرأي على حسن الكمال والمنفعة والمصلحة وقبح النقص والضرر والمفسدة، إلّا أنّ تعيين المصاديق الواقعيّّة للكمال والنقص أو للمنفعة والضرر أو للمصلحة والمفسدة يرتبط بالرؤية الكونية والمعرفة الإنسانية الصحيحين. إنّ تفاوت رؤى الأفراد والمجتمعات المختلفة في هذه المعتقدات الأساسية تؤثّر في تعيين مبدأ القيم في الأخلاق وتوجب بروز اختلاف النظر في الأحكام الأخلاقيّّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

127

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 2- إنّ كشف الرابطة بين الأفعال والصفات الإنسانية وبين كمال الإنسان أو نقصه معقد وصعبٌ في أكثر الموارد.

 
حيث إنّ أيّ عملٍ ما قد تكون له آثار مختلفة ومتعدّدة بل وفي شرائط مختلفة واقعيّة من الممكن أيضاً أنْ تتفاوت هذه الآثار باختلاف الشرائط. ولذا فإنّ رابطة العمل مع كمال الإنسان أو نقصه لا بدّ من أنْ تكون ناظرة إلى الكمال والنقص الواقعيّّ عنده مع محاسبة نتائج كلّ آثار العمل في مختلف الشرائط الواقعيّّة وتأثيرها بالدقة في هذا الكمال والنقص. وهذا الأمر يتطلب ويستلزم إحاطة علمية بهذه الموارد والتي لا يمكن تحققها عند البشر - باستثناء بعض الموارد الكلية - من دون الاستعانة بالوحي الإلهيّ.
 
وفي مثل هذه الأحكام الأخلاقيّّة لا بدّ من مقايستها بأصعب البحوث النظرية من علم النفس وعلم الاجتماع لا بالأصول البديهية الرياضية بالرغم من أنّ منهج البحث لكشف مبدأ وأصول القيمة في فلسفة الأخلاق عقليٌّ ومبتنىً على البيانات البديهية.
 
3- ن بعض الاختلافات في الأحكام الأخلاقيّّة غير ناشئة عن الاختلاف في الفهم أو الرأي بل تنشأ عن الاختلاف في الالتزام العملي وتوضيح ذلك أنّ الأخلاق لما كانت ناظرة إلى مقام العمل فإنّ الالتزام بأيّ نظرية أخلاقيّّة يستتبع القبول بلوازمها العمليّة أيضاً، والتي تتنافى في الكثير من الموارد مع ميول الإنسان الحيوانية وأهوائه النفسانية (الناظرة إلى المراتب النازلة عند الإنسان).
 
وقد لا يفرق عند أحد الأفراد مثلاً أنْ تكون درجة غليان الماء 100 درجة أو غير ذلك، ولكنه قد يفرق عنده الحال في قبول أنّ الحجاب والعفاف لازم لكماله أم لا.
 
كذلك فإنّ قبول الاشتباه في نظرية فيزيائية - باستثناء الفيزيائيّ الّذي وصل إلى الشهرة عن طريق هذه النظرية الخاطئة ويرى أنّ حيثيته وماء وجهه في خطر - ليس أمراً صعباً، لكنّ القبول بأننا أخطأنا في سلوكنا الأخلاقيّّ صعبٌ جداً.
 
إنّ هذه الموانع النفسية توجب في بعض الموارد على الأفراد أو المجتمعات ورغم قبولهم بهذه الأحكام الأخلاقيّّة والحكم بصحتها بالاستدلال والنظر الاختلاف فيها والامتناع عن قبولها، وتشير هذه الآيات الشريفة إلى إمكان إنكار الحق أو كراهية قبوله في بعض الموارد الّتي لها لوازم عملية:
 

 

﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...1.
 
 
 

1- النحل 27: 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

128

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ1.

 

 

﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ2.
 

 

﴿كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة3.
 

 

﴿...وعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ4.
 
يقرَّر هذا الدليل أحياناً مركَّباً مع النسبيّة التوصيفية فيقال: حيث إن الأخلاق فيها اختلافات رأي جوهرية، وحين إنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة لا تتبع الواقعيّّة بل تتبع السليقة / التوافق، لذا فالأحكام الأخلاقيّّة ليست مطلقة وترتبط باختلاف السليقة / التوافق، وبالتالي تتفاوت أحياناً.
 
يقول لويس بويمن في هذا المجال: "النسبيّة الثقافية (= الاجتماعية) لها نتائج أخرى باعثة على القلق. إنّ هذه النظرية تستلزم كون الإصلاحيين باللحاظ الأخلاقيّ دائماً على خطأ، لأنهم قاموا بمحاربة كلّ اتجاهٍ ملتزم بالملاكات الثقافية. وعليه فإنّ قيام ويليام ويلبرفورس في القرن الثامن عشر ضدّ العبودية كان خطأ، وكذك فإنّ مخالفة إنكلترا للساتي (إحراق المرأة الهنديّة الأرملة مع زوجها المتوفّى) كان خطأ، وأيضاً فإنّ امتناع المسيحيين الأوائل عن الخدمة في جيش روما أو إنّ إبداء التعظيم والاحترام أمام قيصر روما (أي الأعمال الّتي كان يعتقد أكثر أتباع الامبراطورية الرومية بأنها وظيفتهم الأخلاقيّّة) كان خطأ، وكذلك فإنّ عيسى عليه السلام بشفائه للمرضى في يوم السبت، وبمواعظه على الجبل قد داس بقدميه على قانون وقته وقام بعملٍ غير أخلاقيّ، لأن عدداً قليلاً في ذلك الزمان (وأيضاً في زماننا هذا) قد قبلوا بمبادئه!"‏ (راجع: "نقدي برنسبيت اخلاقي" مجلة نقد ونظر، العدد 13 - 14، ص332, (Louis p. pojman, philoso phy: The quest for truth, p 318 - 319).
 
يُعتبر بس (Boas)، وبنديكت (Benedict) وهرسكوفيتس (Herskovits) من علماء الأقوام والملل في القرن العشرين من المدافعين عن النسبيّة القواعدية، ويعتقد وانج (Wong) بأنّ أمثال هؤلاء العلماء لربما دافعوا عن هذه النسبيّة القواعدية كردة فعلٍ على التصور الغربي القائل بحقارة 
 
 
 

1- البقرة 2: 146.
2- القيامة 75: 5. 
3- القيامة 75: 20 - 21.
4- البقرة 2: 216.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

129

الفصل الخامس: الإطلاق أم النسبيّة في الأخلاق‏

 الثقافات الأخرى والتي كان لها دورها في الاستعمار آنذاك. 


(David W ong, (M oral Relativism), in Edward Craig, ed, Routledge Encyclo pedia of philosophy, vol. 6. p. 541).

حيث إنّ النسبيين لا يقبلون بأيّ أصل أخلاقيّّ آخر بشكل مطلق، وحيث إنهم لا يقبلون بأي مبنى واقعي لقبول القيم الأخلاقيّّة وتوصيتها للآخرين، يتضح السبب عند كلامهم الأخلاقيّ مع الآخرين وباصطلاح البعض عند مواعظهم للآخرين - ومع أنّ هذا العمل يتنافى مع مبانيهم - في أنهم لا يذكرون سوى الحرية، تحمُّل المخالف لنا ونفي العنف، وبالتالي من دون أنْ يكون عندهم أيّ كلام آخر في الأخلاق يكررون بشكل دائم هذه القيم الفارغة من المبنى وبشكلٍ باعث على الملل ولا يقدمون بتاتاً أيّ إرشاد هادفٍ وكأنّ هدف الحياة أنْ نكون أحراراً نذهب بلا أيّ هدف في كلّ اتجاه، أو أنْ نجلس ونتحمّل الآخرين فقط!

بالنسبة لكلمة Tolerance من حيث الاشتقاق والمعنى اللغوي والاصطلاحي، وما يعادلها في اللغة الفارسية، وأيضاً لمزيد من التوضيح حول هذا البحث (راجع: محمود فتحعلي، "تساهل وتسامح اخلاقى، دينى، سياسى"، ص 37، نقلاً عن:

(Geoffery Harris on. "Relativism and To lerance", in peter laslet and James Fishkin, eds, philosophy, po litics and society, p. 273 - 290).
بلحاظ هذا التناقض النظري، فإنّ النسبيين - ورغم شعاراتهم الخادعة - لا يريدون ولا يقدرون على أنْ يقولوا بالحرية لمن يخالف مصالحهم، أو أنْ يتساهلوا في تعاطيهم مع المخالفين للنسبية وكأنهم يقولون لمخالفيهم في الرأي لا بدّ لكم - وبناءً على نظرياتنا المقبولة عندنا - أنْ تتساهلوا معنا. وفي نفس الوقت يقولون لأنفسهم - وخلافاً لنظريتهم - لا يجب علينا أنْ نتحمّل الآخرين!

ذكر جف جوردن إشكالاً قريباً مما ذكر (راجع: محمود فتحعلي، نفس المصدر ص 62 - 63، نقلاً عن:

Jeff. Jordan, "Concerning Moral, Tolerance", in Mahdi Amin Razavi and David Ambuel, eds, philosophy, Religion and the question of Intolerance, p.213).

وطرح مك ناوتن هذا الاشكال ببيانين (عدم الملاءمة بين حرية انتخاب الرؤية الأخلاقيّّة مع الاعتقاد بأفضلية التساهل الأخلاقيّ، وأيضاً عدم إمكان التساهل المطلق) (راجع: دايفيد مك ناوتن، بصيرت اخلاقي، ترجمة محمود فتحعلي، ص 32).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

130

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 
"إذا قلت لأحدهم: "لقد قمت بعمل سيئ حيث سرقت ذلك المال" فلم أقل له شيئاً أكثر من قولي هذا "أنت سرقت المال". ومع إضافة القول "قمت بعمل سيئ" لم اعطِ خبراً زائداً على ذلك وفقط أظهرت عدم صوابية هذا الفعل عندي أخلاقيّاً. ومثال هذا بالدقة كما لو تكلمت بلحن خشن محاكٍ للتنفر فقلت "أنت سرقت المال"، أو أنني كتبت هذا الخبر وأضفت إليه علامة التعجب، فإنّ اللحن الخشن أو علامة التعجب لا يضيفان شيئاً إلى المعنى الواقعيّ للجملة، غاية الأمر أنهما يظهران أنّ حكاية الخبر عند المتكلم صاحبه بعض الانفعالات".
 
تعرفنا في الفصل الثاني إلى نظريتي الواقعيّّة واللاواقعيّة في الأخلاق. وبالالتفات إلى لوازمهما أشرنا إلى أنّه بالإمكان أنْ تكون الواقعيّّة واللاواقعيّة مبنى لتقييم المذاهب الأخلاقيّّة من زاوية منشأ اعتبار الأحكام الأخلاقيّّة1.
 
 
 

1- آلفرد جولز آير، "زبان، حقيقت ومنطق"، ترجمة منوچهر بزركمهر ص 145 - 146.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

131

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 وفي الفصل الثالث والرابع قمنا بإثبات الواقعيّّة، وفي الفصل الخامس حلّلنا إحدى اللوازم المهمة للّاواقعيّة.

 
والآن حان الوقت لنتعرف إلى أهمّ المذاهب الواقعيّّة واللاواقعيّة، وهدفنا من ذلك التعرّف إلى أدلتها، وحينئذٍ مع تحليل ميزان القوة والضعف فيها سنرى ما ينبغي لنا قبوله من هذه المذاهب الأخلاقيّّة[1].
 
أشرنا في الفصل الثاني إلى أنّ اللاواقعيين يعتقدون بأنّ منشأ الأحكام الأخلاقيّّة هو الأوامر والتوصيات، أو الإحساس والسلائق، أو التوافق والتعاهد. وفي الواقع فإنّهم بعد عجزهم عن إيجاد المنشأ الواقعيّّ للأخلاق واجهوا هذا السؤال: كيف ظهرت الأحكام الأخلاقيّّة وما هو منشأ اعتبارها؟ وإذا لم تكن هناك أيّ واقعيّة توجب الاعتقاد بحسن أو قبح بعض الأفعال والصفات فما هو الشي‏ء الّذي يوجب الاعتقاد عندنا بأنّ هذا العمل أو الصفة حسن أو قبيح، وفي أيّ صورة تُعتبر هذه الأحكام؟ وفي الإجابة عن هذه التساؤلات عمد بعض اللاواقعيين إلى الاعتقاد بأن منشأ الأخلاق هو الأوامر والتوصيات، وذهب بعض آخر إلى أنّه الإحساس والسلائق، وذهب بعض ثالث منهم إلى أنّه التوافق والتعاهد، وسوف نحلل في هذا الفصل هذه المذاهب:
 
1 - الأمرية 1
 
من الواضح أنّ هاتين الجملتين الأخلاقيّتين "لا تكن حسوداً" و "رجّح الآخرين على نفسك" لهما قالب أمريّ.
 
ويعتقد القائلون بالأمرية أنّ معنى كلّ الجمل الأخلاقيّّة هو أمريّ، مثالاً على ذلك فإنّ هاتين الجملتين "الصدق حسن" و"نقض العهد عمل خاطى‏ء" - واللتين ظاهرهما خبريّ - تبينان أيضاً الطلب من أحدهم الصدق وترك نقض العهد، أيّ أنّ هاتين الجملتين في الواقع أمريّتان.
وفي اعتقادهم أيضاً أنّه عندما نقول "عمل حسن" أو "ينبغي القيام به" فهو بمعنى
 
 
 

1-  Imperativism.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

132

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

  أنّ أحدهم - والذي نعتبر أوامره - طلب القيام بهذا العمل وأصدر أمراً في مورده.

 
إنّ منشأ القيمة واللزوم الأخلاقيّين في النظرية الأمرية هو الأمر وليس الواقعيّّة العينية، وإنّ اعتبار كلّ حكم أخلاقيّّ يرتبط بوجود الأمر في مورده، لكن أمر أيّ آمرٍ يوجب اعتبار هذه الأحكام الأخلاقيّّة؟ وفي حق من تكون هذ الأوامر معتبرة؟
 
أجاب القائلون بالأمرية على هذا السؤال بنوعين من الإجابة أوجبا ظهور نوعين من الأمرية:
 
1 - أمر شخصٍ خاص معتبر للجميع,
 
2 - أمر كلّ شخصٍ معتبر فقط عند من يقبل به.
 
1 - 1. أمرية النوع الأوّل (نظرية الأمر الإلهيّ 1)[2]
 
إنّ من يعتقد بكون الأمر الصادر عن شخص خاص معتبر في حق الجميع، لا بدّ بالطبع أيضاً أنْ يعتقد بأنّ مثل هذا الشخص الخاص لديه بعض الخصائص الّتي أوجبت كون أمره فقط هو المعتبر. وبشكل عام فإنّ من يعتقد بهذا الرأي يعتقد بأنّ هذا الشخص هو الله تعالى فالله هو مالك الجميع ولا أحد أعلى منه في الوجود له لياقة الأمر والنهي بحق الآخرين، وبناءً عليه فإنّ أوامر الله هي المعتبرة فقط وهذه الأوامر معتبرة في حق الجميع وتسمى هذه النظرية "بنظرية الأمر الإلهيّ".
 
إنّ هذه النظرية تقول إنّ منشأ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة هو أوامر الله ونواهيه، أما ما وراء أمره ونهيه، فلا يمكن إيجاد أيّ واقعيّة عينية في أفعالنا وصفاتنا تكون مبنى لأوامر الله ونواهيه. وبعبارة أخرى إذا لم يكن الله موجوداً أو كان موجوداً لكنه لا يأمر ولا ينهى فلن يكون هناك أيّ فرق بين العدل والظلم، والصدق والكذب وحفظ اليتيم وأكل ماله، وبناءً على هذا وطبقاً لهذه النظرية ومع غضّ النظر عن الأمر والنهي الإلهيين فإنّه لا يوجد أيّ شي‏ء حسَن أو قبيح في ذاته، ومن الواضح حينئذٍ أنّه لا يمكن من دون الرجوع إلى أمر الله ونهيه وبالاستفادة من عقولنا في تشخيص حُسن أيّ شي‏ء أو قبحه، وبحسب الاصطلاح والمتعارف يقال إنّ أتباع نظرية الأمر الإلهيّ ينكرون
 
 
 

1-  Divine Command Theory.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

133

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 الحسن والقبح الذاتيين أيّ أنّهم يعتقدون بأنّ الأشياء ليست حسنة أو قبيحة ذاتاً، وتبعاً لذلك أنكروا الحسن والقبح العقليين وبعبارة أخرى فإنّهم يعتقدون بأنّ العقل لا يمكنه إدراك حسن الأشياء أو قبحها.


2-1. أمرية النوع الثاني‏

إنّ من يعتقد بالأمرية في نوعها الثاني (الذي تقدم ذكره) ومع قبوله بأنّ لسان الأخلاق هو لسان الأوامر والتوصيات وأنّ منشأ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة هو الأوامر، ومع ذلك فإنّه لا يقبل بأفضلية أيّ فرد كان على الآخرين، أو بأنّ تكون هذه الأفضلية دليلاً كافياً لاعتبار أوامره في حقهم وعليه فإنّه يعتقد بأنّ كلّ إنسان يمكن أنْ يكون آمراً أو أنْ يقبل أيّ أمر أخلاقيّّ أيضاً.

وقي رأيه أيضاً، عندما يقال "السرقة عمل خاطى‏ء" أو"لا ينبغي أنّ تسرق" فإنّ معنى ذلك "لا تسرق"، لكن لما كانت الاوامر الأخلاقيّّة لا مبنى واقعياً لها فإنّها حينئذٍ غبر معتبرة في حق الجميع، بل يمكن القول فقط إنّ أيّ أمر أخلاقيّ إنما هو معتبر في حق من يقبل به. وطبقاً لهذه النظرية لما كان منشأ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة هو الأوامر، وبغضّ النظر عن إرادتنا القيام بأي عمل أو تركه فإنّ ذلك العمل في حدّ ذاته ليس قبيحاً وليس حسناً.

أكمل:
1 - القائلون بالأمرية يعتقدون:

أ - معنى كافة الجمل الأخلاقية...

ب - منشأ القيم الأخلاقية ولزومها... يعني بغض النظر عن.... أي شي‏ء بلحاظ الأخلاق حسناً أو قبيحاً.

2 - في نظرية الأمر الإلهي، الاعتبار فقط للأوامر.... وهذه الأوامر لـ..... هي معتبرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

134

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 3 - أتباع نظرية الأمر الإلهي ينكرون حسن وقبح..... الأشياء، ويتبعهم في ذلك منكرو الحسن والقبح....

 
4 - في النوع الثاني من أنواع الآمرية... بإمكانه إعطاء الأوامر وكذلك تقبل الأمر الأخلاقي، ولكن كل أمر أخلاقي يكون بالنسبة لـ.... معتبراً.
 
2- الانفعالية1[4]
 
"الأمانة عمل حسن"، ماذا يعني ذلك؟
 
يجيب أصحاب النزعة الانفعالية عن هذا السؤال بإحدى هاتين الصورتين:
 
ألف) الأمانة، اوه اوه !2
 
ب) الأمانة مرضية عندي (وأميل أيضاً لأن تكون مرضية عندك).
 
الانفعالية في الأخلاق تعني أنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة منشؤها الانفعالات الداخلية عند الأفراد لا أنّ منشأها واقعيّ وعينيّ.
 
وحيث إنّ هذه الانفعالات متفاوتة عند الناس وقابلة للتغيير ذهب أنصار هذه النزعة إلى القول بعدم وجود معيارٍ واحدٍ لتقييم البيانات والمضامين الأخلاقيّّة، وأيضاً وبغضّ النظر عن إحساس الفرد فإنّ أيّ عمل لا يتصف بالحسن أو القبح واقعاً وإنّ الأحكام الأخلاقيّّة معتبرة فقط عند من يكون لديه ذلك الانفعال الأخلاقيّ.
 
وطبقاً لهذه النظرية إذا كان شخص ما لا يبالي فسرق أو كذّب أو لم يفِ بوعده، وكان لديه إحساس مرضيّ بذلك فإنّه سوف يعتبر هذه الأعمال حسنة عنده. ولن يكون لدينا أيّ دليل ومعيارٍ لنقول له إنك اشتبهت في حكمك على هذه الأفعال.
 
وحيث إنّ الانفعالية باعثة على الجرأة والتفلت وعدم التقيد بأي قيد أخلاقيّ وحيث 
 
 
 

1-  Emotivism اعتبرت الانفعالية من أكثر النظريات الأخلاقيّّة نفوذاً في منتصف القرن العشرين.
2- ايضاح: عُبّر في المتن بقوله:  الأمانة بَه بَه  وحيث أنّ  بَه كلمة تعبر عن الاستحسان والتعجب ولا مرادف لها في العربية عبرنا في المتن بما يشير إلى المراد منها (المترجم).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

135

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 إنّ الالتزام بها لا يلزم أتباعها برعاية أيّ قاعدة أخلاقيّّة، فإنّ طبع الإنسان المتمرد يميل إليها. وهناك الكثير من الأفراد - ومن دون وجود أيّ دليل عندهم على هذه النظرية - الّذين يلتزمون بها عملياً. وقد سعى بعضهم إلى توجيه هذه النظرية وبنائها على أدلة محكمة والدفاع عنها نظرياً، وسوف نتعرّف ها هنا إلى منهجين في توجيه الانفعالية، لكن لمّا كان مبنى كلّ واحد منهما يتفاوت مع الآخر فإنّ جواب أنصار النزعة الانفعالية عن السؤال السابق في بداية البحث حول معنى الجمل الأخلاقيّّة متفاوت أيضاً.

 
1 - 2. الانفعالية المبتناة على الوضعيّة المنطقية
 
يذهب بعض أنصار الوضعيّة المنطقية إلى وضع معانٍ للجمل الأخلاقيّّة كما هو الحال في الجملة (ألف). ويوضحون ابتداءً أنّ الجمل الأخلاقيّّة في الواقع لا معنى لها ويعتبرونها حينئذٍ نوعاً من إبراز الانفعالات (لاحظ الفقرة المنقولة عن آير في بداية هذا الفصل)، لكن لماذا تكون الجمل الأخلاقيّّة بلا معنى؟ هنا يستعملون مبانيهم المعرفية والمعايير الموضوعة عندهم للمعاني لإثبات هذا المدعى، وفي رأيهم فإنّ الطريق الوحيد المعتبر لمعرفة الواقعيّات هو الحس والتجربة. وهناك نوعان فقط من الجمل الّتي لها معنى:
 
1 - الجمل الحاكية للواقعيات الحسية والتجريبية والتي يمكن إثبات صحتها أو عدم صحتها من خلال التجربة (البيانات التجريبية).
 
2 - الجمل الّتي يندرج مفهوم المحمول في مفهوم الموضوع فيها كما في قولنا "الأب عنده ولدٌ" (الجمل التحليلية أو أنّه من باب تحصيل الحاصل 1)2.
 
وأما الجمل الأخلاقيّّة الخارجة عن كلا الطائفتين فإنّ "حسنها وقبحها" وما ينبغي منها وما لا ينبغي منها، وغير ذلك من المفاهيم الأخلاقيّّة الواردة فيها ليست مرئية
 
 
 

1-  Tautology. والمراد منه تحصيل الحاصل أو اللغو أو أنه نفسه(المترجم).
2-  باعتقاد أنصار الوضعيّة المنطقية فإنّ هذه الجمل صادقة بالضرورة إلّا أنها لا تبين أيّ واقعيّة.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

136

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

  ولا مسموعة ولا تدرَك بأي حاسة من الحواس الأخرى. وبناءً عليه لا يمكن تجربة وجود أو عدم وجود هذه الخصائص في الموضوعات الأخلاقيّّة، ومن جهة أخرى فإنّ هذه المفاهيم الأخلاقيّّة غير مندرجة في موضوعات الجمل الأخلاقيّّة، ومثالاً على ذلك فإنّ "الحسن" ليس جزءاً من معنى "الأمانة". ولذا فقد استنتج هؤلاء أنّ الجمل الأخلاقيّّة إذا لم تكن تجريبية ولا تحليلية فهي بلا عنى. وهنا يُطرح هذا السؤال: إذا كانت هذه الجمل بلا معنى فلماذا تُستخدم؟ وفي أيّ موردٍ يستفاد منها؟


ويجيب هؤلاء بشكل مختصر: لبيان الإحساسات والانفعالات الأخلاقيّّة. ولتوضيح مرادهم نتوجه إلى هذا المثال:

عندما ترون منظراً طبيعياً خلاباً تفرحون لرؤيته، ومن الممكن حينها بيان إحساسكم وانفعالكم بنحو الصراخ مثلاً أو بقول (بعض عبارات التعجب والاستحسان) "الله الله" "اوه اوه"، إنّ "اوه اوه" ليست جملة ذات معنى وهي كالصراخ تعدّ نوعاً من إظهار الانفعال فقط. وهكذا فإنّنا عندما نواجه أمراً ما نحبه ونرتضيه أو لمجرد تصوره نشعر بحس الشوق إليه والعلاقة به، وكذلك عندما نواجه أمراً ما لا نحبه أو لمجرد تصوره نشعر بحسّ التنفّر منه. ومن الممكن في هذه الحالات أنْ نُظهر عكس العمل الطبيعي تجاهه.

إنّ القائل بكون الجمل الأخلاقيّّة لبيان الانفعالات والأحاسيس يعتقد بأنّه عندما يقال إنّ هذا العمل حسن أو قبيح فإنّنا قد أبرزنا شعورنا وإحساسنا حول ذلك العمل بالاستعانة من الألفاظ، ومثالاً على ذلك إذا قلنا "الأمانة حسنة" فهي مجرد بيان نوعٍ من الإحساس الإيجابي بالنسبة للأمانة.

وبالإضافة إلى الحسن والقبح فإنّ سائر المفاهيم الأخلاقيّّة أيضاً تلعب مثل هذا الدور. ولذا لو قلنا أيضاً "ينبغي أنّ تكون أميناً" فهو كذلك إبراز لإحساس إيجابيّ حول الأمانة أيضاً [6].
وبناءً على كلّ هذا فقد استنتج أنصار هذه النظرية أنّ الجمل الأخلاقيّّة مبرزة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

137

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 للإحساسات الأخلاقيّّة في قالب الألفاظ وليست جملاً ذات معنى، بل ومن الممكن أنْ يكون المقصود من إظهارها وإبرازها إيجاد نفس الإحساس والشعور عند المخاطبين بها.


2 - 2. الانفعالية المبتناة على انفعالية المصطلحات الأخلاقيّّة

عندما تأكل طعاماً لذيذاً سوف تشعر بانفعال وإحساس مرضي عندك، ولذا، إذا قلنا هذه الجملة "إن هذا الطعام لذيذ" فلن يكون إخباراً واقعياً عن ذلك الطعام بل هو بيان لإحساسك وشعورك بالنسبة له. بمعنى أنك ارتضيت وأحببت هذا الطعام.

فالجملة المذكورة لا تحكي الواقع بل ومن الممكن بذكرك لها الاعتقاد بأنك تريد أنّ ترغّب شخصاً ما بأكل هذا الطعام.

ويعتقد بعض آخر من الانفعاليين[7] بأنّ الجمل الأخلاقيّّة لها معانٍ إلّا أنّ معانيها متفاوتة عن معاني الجمل المخبرة عن الواقع، ويُرجعون هذا التفاوت إلى تفاوت المصطلحات الأخلاقيّّة عن غيرها من المصطلحات العادية.

وخلاصة قولهم إنّه يمكن تقسيم المصطلحات والكلمات إلى إحساسية وغير إحساسية، بحيث تُستعمل الطائفة الأولى منها لبيان الأحاسيس والانفعالات الداخلية وأما الثانية منها فليست لها هذه الخصوصية، ومثالاً على ذلك فإنّ كلمة "جاء" تشير إلى كلمة واقعيّة عينية ولم يُلحظ فيها شعور وإحساس المتكلم، وأما كلمة "لذيذ" فإنّها كلمة إحساسية وتشير إلى إحساس وشعور مرضي عند المتكلم لطعمٍ خاص مثلاً.

وعليه فالمصطلحات الإحساسية والانفعالية غير حاكية للواقع وأما المصطلحات غير الإحساسية فإنّها تحكي الواقع.

ومن طرف آخر فإنّ أمثال هذه المصطلحات كالحسن والقبح والتي تستخدم لبيان المفاهيم الأخلاقيّّة مصطلحات إحساسية تبيّن إحساس المتكلّم. ولذا فالمصطلحات الأخلاقيّّة لا تحكي الواقع ونتيجة ذلك أيضاً أنّ الجمل الأخلاقيّّة لن تحكي الواقع كذلك.

وبشكل مختصر نقول إنّ هذه الفئة من الانفعاليين تعتقد بأنّ الجمل الأخلاقيّّة لما 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

138

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 كانت مشتملة على المصطلحات الانفعالية كالحسن والقبح فإنّ هذه الجمل لا تحكي الواقع ولا تشير إلى واقعيّة عينية بل إنها تبيّن فقط إحساس المتكلم وشعوره، بل من الممكن استعمالها أيضاً لإيجاد إحساس وشعور مشابه عند المخاطَب بها.

 
وفي اعتقادهم أيضاً فإنّ الجمل الأخلاقيّّة وإن كانت ذات معنى إلّا أنها لا تحتمل الصدق والكذب الواقعيّين.
 
أكمل:
 
1 - الانفعالية تعني....
 
2 - طبقاً لرأي كلتا المجموعتين من الانفعاليين، وبغض النظر عن... فإن أي شي‏ء ليس حسناً ولا سيئاً.
 
3 - برأي الانفعاليين فإن الأحكام الأخلاقية معتبرة لـ.... فقط.
 
4 - الانفعالية المبنية على الوضعية المنطقية لا يرون معنى الجمل الأخلاقية بدليل أن....
 
5 - الانفعالية المبنية على انفعالية المصطلحات الأخلاقية يرون أن الجمل الأخلاقية لا واقع لها (غير واقعية) وذلك بدليل...
 
3 - التعاهدية1 
 
إذا لم يكن هناك أيّ قاعدة وقانون في لعبة كرة القدم، فسوف يقع التعارض والاختلاف والتنازع بين اللاعبين.
 
وكذلك إذا لم يكن توافق البائع والمشتري لازماً في المعاملات الاقتصادية وبالتالي كان كلّ واحد منهما حراً في أخذ ما يريد ويقدر من مال الآخر فسوف يقع التعارض والتنازع بينهما أيضاً.
 
 
 

1-  Contractarianism or conventionalism التعاهدية، التوافقية، التعاقدية.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

139

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 ولذا فإنّ قواعد وقوانين لعبة كرة القدم إنما توضع لرفع التعارض بين فريقي اللاعبين، وكذلك فإنّ قوانين العرض والطلب إنّما توضع لرفع التعارض في المعاملات وتأمين المنافع والمصالح المتقابلة، وعليه فإنّ رعاية العهود والعقود والاتفاقات تعود منفعتها لكل الأفرقاء. وباعتقاد أنصار التعاهدية فإنّ القواعد الأخلاقيّّة ليست مجرد مجموعة من الأوامر والتوصيات أو الانفعالات والميول الفردية بل إنّ هذه القواعد نوعٌ من التوافق العام على السلوكيات الاجتماعية يتعاهد ويُتفق عليها بعد تشكيل المجموعات والمجتمعات بهدف رفع التعارضات العامة الاجتماعية والمجموعية على فرض حصولها.


إنّ هذه العقود والاتفاقات من الممكن حصولها بأي صورة ونحوٍ، وليس لها أيّ مبنى واقعي، ولكن العمل بها يصبّ في مصلحة ومنفعة كلّ أفراد المجتمع.

وفي اعتقادهم أيضاً فإنّ الأحكام الأخلاقيّّة إنّما تكون معتبرة فقط عند المجتمع الّذي تعاقد وتعاهد عليها. وعليه فإنّ أيّ عمل قبل هذا التعاهد الاجتماعي ليس حسناً وليس قبيحاً وإن منشأ اعتبار كلّ الأحكام الأخلاقيّّة هو التعاهد والتوافق.

نعم إنّ التوافقات الأخلاقيّّة تتشكل بشكل طبيعي بالالتفات إلى الثقافة والآداب والرسوم والتقاليد والاعتقادات المشتركة وأمثالها، وهي متفاوتة ومختلفة عن العقود والتوافقات والقوانين الرسمية الّتي تحتاج إلى الإمضاء السندي أو الّتي توضع من قبل الهيئات الخاصّة.

أكمل:

القائلون بالتعاهدية يعتقدون:

1 - لتحقق الأخلاق بعد تشكيل... فقط.

2 - القيم الأخلاقية ولزومها ينشأ من... وبشكل طبيعي، وقيل ذلك فإن أي عمل ليس له صفة الحسن أو القبح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

140

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 3 - التعاهدات الأخلاقية وضعت لأجل....


4 - الأخلاق التعاهدية في كل مجتمع تكون معتبره بالنسبة لـ.....

4 - تحليل المذاهب اللاواقعيّة

1 - 4. التحليل الكليّ‏

1 - أثبتنا في الفصل الثالث والرابع من هذا الكتاب، ومع الإشارة إلى واقعيّة القيم واللزوميات الأخلاقيّّة، أنّ الأحكام الأخلاقيّّة بإمكانها الاستناد إلى المباني الواقعيّّة، وبناءً على ذلك أبطلنا مبنى هذه المذاهب اللاواقعيّة.

2 - الاشكال الآخر المشترك على كلّ هذه المذاهب استلزامها النسبيّة الأخلاقيّّة، وقد تعرضنا في الفصل الخامس من هذا الكتاب أيضاً إلى الكلام تفصيلاً عن هذه النظرية ونقدها والإشكال عليها.

3 - الإشكال الآخر المشترك أيضاً على هذه المذاهب يعود إلى منشأ اعتبار وتوجيه الأحكام الأخلاقيّّة عند المذاهب اللاواقعيّة.

وسوف نعيد ها هنا ذكر الجمل الّتي وضعنا خطاً تحتها في هذا الفصل:

- إنّ أوامر الله هي المعتبرة فقط.

- إنّ أيّ أمر أخلاقيّ إنما هو معتبر في حقّ من يقبل به.

- إنّ الأحكام الأخلاقيّّة معتبرة فقط عند من يكون لديه ذلك الانفعال الأخلاقيّّ.

- إنّ الأحكام الأخلاقيّّة إنما تكون معتبرة فقط عند المجتمع الّذي تعاقد وتعاهد عليها.

إنّ اللاواقعيين يربطون اعتبار كلّ الأحكام الأخلاقيّّة بالأوامر / الانفعالات / التوافقات، ويوجهونها على هذا الأساس، ولذا لا بدّ أنْ تكون نفس تلك الأوامر / الانفعالات / التوافقات معتبرة عندهم، أيّ أنّهم لا بدّ أنْ يقبلوا بإحدى هذه الجمل الآتية:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

141

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 - ينبغي1 على الجميع إطاعة أوامر الله.

 
- ينبغي لكل فردٍ أنّ يتّبع الوظائف الأخلاقيّّة العمليّة المقبولة عنده.
 
- ينبغي لكلّ فرد العمل طبق انفعالاته الأخلاقيّّة.
 
- ينبغي لأفراد كلّ مجتمع العمل طبق التوافقات الأخلاقيّّة عند مجتمعهم.
 
إنّ كلّ واحدة من هذه الجمل تبيّن نوعاً من "الوجوب" الأخلاقيّ، وهذاالوجوب (ينبغي، يلزم) الأخلاقيّ ناظرٌ إلى ذلك "الوجوب" الأصلي، أيّ إنّ اعتبار "الوجوبات" الأخلاقيّّة الأخرى يرتبط بهذا "الوجوب" لكن بأي دليل يعتبر نفسه "الوجوب" الأصلي؟ ولماذا يجب علينا إطاعة أوامر الله؟ ولماذا...؟
 
ولتوجيه "الوجوب" الأصلي يمكن افتراض إحدى هذه الأوامر:
 
1 - إنّه لا يحتاج إلى التوجيه والإثبات."
 
2 - إنّ التوجيه والإثبات موجود معه وفي ذاته.
 
3 - إنّ التوجيه والإثبات يحصل بجملة أخرى.
 
لكن لا بدّ لنا من الالتفات إلى أنّه:
 
1 - طبقاً لنظرية اللاواقعيّة فإنّه لا يمكن لأيّ "ينبغي" أخلاقيّّة أنّ تكون مستقلة عن الأوامر والسلائق والتوافقات.
 
2 - الاستناد إلى نفس "ينبغي" الأصلية (الوجوب الأصلي) من أجل توجيهها يستلزم الدور الباطل.
 
3 - الجملة الّتي سيستند إليها واقعاً لإثبات "الوجوب" إمّا أنْ يكون وجوبها أكثر أصالة[9] وإمّا أنْ تكون من نوع "الموجود". لكن بناءً على الافتراض فلا يوجد "الوجوب" الأكثر أصالة. وطبقاً لرأي اللاواقعي لا يمكن استنتاج "يجب" (ينبغي) من "موجود". وبناءً على هذا لا بدّ عند كلّ المذاهب اللاواقعيّة من
 
 
 

1- في المتن الفارسي عبر بكلمة بايد وقد أشرنا سابقاً إلى أنّها من المفاهيم الأخلاقيّّة بمعنى ما ينبغي، و نبايد  بمعنى لا ينبغي ولكن قد يكون لها أيضاً أحياناً مرادفات أو معانٍ أخرى بحسب وقوعها في الكلام، كالوجوب واللزوم والضرورة، لذا اقتضى التوضيح (المترجم).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

142

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 توجيه كلّ " الوجوبات" الأخلاقيّّة بواسطة الوجوب الأصلي (ينبغي الأصلية)، لكن هذه الأخيرة لا يوجد أيّ توجيه وإثبات لها ولذا فإنّ أيّ "وجوب" أخلاقيّ لن يكون موجهاً وثابتاً.


سؤال: حول كلّ واحد من هذه المذاهب اكتب "حسنٌ" أصليّ. وحينئذٍ هل هذا الإشكال المذكور يرد أيضاً على "الحسن" الأصلي؟


ما لم تترسخ جذور شجرة الأخلاق في أرض الواقعيّّة، فلن تثمر هذه الشجرة في أيّ وقت ولن يظهر أيّ لزوم وقيمة واقعاً.

والآن سوف نقوم بتحليل كلّ واحد من هذه المذاهب اللاواقعيّة على حدةٍ:

2 - 4. تحليل النوع الأوّل من الأمرية (نظرية الأمر الإلهيّ)

يُستند في هذه النظرية لتعيين الإله المعتبرة أوامره ونواهيه في حقّ الجميع إلى الكمالات الإلهية المطلقة. وعلى الرغم من كون هذا الإله المتعالي المالك والقادر على الإطلاق والحاوي لسائر الكمالات الوجودية في حدها الأعلى. وقد ثبت هذا المدعى بالبرهان العقليّ، فقد ذهب أنصار اللاواقعيّة إلى القول بأنه لا يمكن الوصول إلى هذا الوجوب عن طريق هذه الوجودات بحيث يجب إطاعة الأوامر الإلهية، لأنّه بناءً على اللاواقعيّة لا يوجد أيّ ارتباط منطقيّ بين "الوجوب" والموجود. وبناءً على هذا الأساس فإنّ أنصار نظرية الأمر الإلهيّ باستنادهم إلى الكمالات الإلهية لإثبات اعتبار أوامر الله قد نقضوا مبانيهم القائمة على اللاواقعيّة.

2 - لو لم يكن أيّ شي‏ء متّصفاً بالحسن أو القبح قبل أمر الله ونهيه فإنّ العقل لا يمكنه تشخيص حسن وقبح أيّ شي‏ء من دون الرجوع إلى أمر الله ونهيه، لكنْ وبغضّ النظر عن الأمر والنهي الإلهيين فإنّ العقل يمكنه تشخيص القبح والحسن في بعض الموارد، مثالاً على ذلك فإنّ غير المعتقد بالله يدرك أيضاً حسن العدل والصدق والوفاء بالعهد والأمانة وكذلك قبح الظلم والكذب والخيانة ونقض
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

143

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

  العهود، وهذا يشير إلى أنّ الحسن والقبح عقليان، وأنّ الحسن والقبح الذاتيين موجودان أيضاً[10].


3 - لنفترض أنّك أضعت الطريق في سفرك إلى مقصدك، وهنا قال لك شرطيّ الطريق بعدما عرف المقصد الّذي تنوي الذهاب إليه: ينبغي لك أنْ تسلك الطريق الأيمن، وعليه فإنّ اتّباع ارشادات هذا الشرطيّ أمر عقلائيّ، إلّا أنّ هذا لا يعني كون أمر الشرطيّ هو الموجب لكون الطريق الأيمن هو الموصل إلى مقصدك. ومن المحتمل أنّ أنصار نظرية الأمر الإلهيّ قد التفتوا إلى هذه النكتة الصحيحة وهي أنّ أكثر القيم الأخلاقيّّة والأفعال اللازمة لا يمكن كشفها وإدراكها إلّا عن طريق الوحي والبيان الإلهيّ. فالإنسان لا يمكنه ادّعاء المعرفة الصحيحة لما هو مفيد ولازم للوصول إلى هدف الأخلاق وأنه يمكنه تشخيصها بعقله.

وبناءً عليه فإنّ إطاعة أوامر الله ونواهيه عقلانية ولازمة إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ الأمر والنهي الإلهيين موجبان لقيمتها ولزومها الأخلاقيّين وأنّه لا تفاوت قبل وجود الأمر والنهي بين الأمانة والخيانة والعدل والظلم وإعانة المحرومين وقتل الأبرياء.

فالله باطّلاعه الكامل على العواقب الواقعيّّة للأفعال يأمرنا وينهانا من أجل هدايتنا وارشادنا إلى الصراط المستقيم، لا أنّ أوامره ونواهيه تجعل الطرق مستقيمة أو غير مستقيمة.

3 - 4. تحليل النوع الثاني من الأمرية
لمّا كانت الأمرية لا تقبل بوجود المباني الواقعيّّة للقبول بالأحكام الأخلاقيّّة أو ردّها لذا فإنّها لا تستطيع إثبات اعتبار هذه الأحكام لمن لا يقبل بالأوامر الواردة في موردها ولذا أيضاً فإنّهم يؤكدون أنّها معتبرة فقط عند من يقبل بها لا غير. لكن ما هو معنى هذا الاعتبار؟

لننتبه إلى هذا المثال:

لنفترض أنّ هناك دولة افتراضية ورد في قانونها الأساسيّ أنّ كلّ إنسان له الحق في التقنين، وأنّ له الحقّ في القبول بأيّ قانون أو ردِّه، وأنّ كلّ قانون معتبر فقط في حقّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

144

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 من يقبل به.

 
وعليه في مثل هذه الدولة الفرضية من الأفضل أنّ يُصرَّح في قانونها الأساسي بأنه لا قيمة واعتبار لأيّ قانون فيها, وأنْ تسمّى هذه الدولة بدولة اللاقانون!
 
وكذلك فإنّ هاتين العبارتين لهما نفس المؤدّى:
 
- إذا لم ترد أنْ تسرق فحكم "لا تسرق" معتبرٌ في حقّك وعندك، وإذا أردت أنْ تسرق فحكم "اسرقْ" معتبرٌ في حقّك وعندك أيضاً.
 
- إذا أردت فاسرق وإذا لم ترد ذلك فلا تسرق، فإنّ كلا هذين الحكمين غير معتبرين.
 
وبناءً عليه فإنّ القول إنّ الأوامر الأخلاقيّّة معتبرة فقط عند من يقبل بها حالها حال القول إنّ الأوامر الأخلاقيّّة غير معتبرة أساساً.
 
4 - 4. تحليل النظرية الانفعالية
 
1 - إنّ مبنى المعرفة والمعيار المعنائيّ عند الوضعيّة المنطقية لا يمكن القبول بهما بل وعليهما إشكالات كبيرة ومتعدّدة1. حيث إنّ القبول بهذا المبنى والمعيار المقدَّم من قبل الوضعيّة المنطقية سيؤدي إلى اعتبار العلوم غير التجريبية علوماً لا تؤدي إلى المعرفة وعلوماً بلا معنى، بل وستعتبر العديد من بيانات العلوم التجريبية المشتملة على مفاهيم غير محسوسة ومجربة بشكل مباشر بلا معنى، والأعجب من كلّ ذلك فإنّ نفس دعواهم القائلة إنّ "المعتبر هو المعرفة المستندة إلى الحس والتجربة" و"إنّ أمثال هذه القضايا هي الّتي لها معنى فقط" ليست تجريبية ولا تحليلية، وعليه فبناءً على نفس مبناهم فإنّها غير معتبرة وبلا معنى أيضاً.
 
2 - إنّ كلمة "مساعد" بمعنى المعين، إلّا أنّ هذه الكلمة نفسها من الممكن أنْ يكون لها ثقلٌ إحساسيّ وانفعاليّ، وكذلك من الممكن لأجل أنْ تنبّه أصدقاءك من حادثة 
 
 
 

1- راجع: محمّد تقي مصباح، آموزش فلسفه ج‏1، ص 212 - 215, محمّد حسين زاده، معرفت شناسى، ص 115 - 127.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

145

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 خطيرة كاحتراق البيت مثلاً أنْ تقول لهم بحالة من الاضطراب والانفعال "إنّ بيتكم يحترق". وعلى الرغم من كون هذه الجملة ذات ثقلٍ انفعاليّ وقد ذُكرت لتحريك المخاطَب لاتخاذ الموقف المناسب إلّا أنها جملة حاكية للواقع.


وبناءً عليه فإنّ مجرد افتراض كون المصطلحات الأخلاقيّّة وكذلك القضايا الأخلاقيّّة ذات ثقل إحساسيّ وانفعاليّ لا يوجب الاستنتاج بأنها غير واقعيّة. نعم قد تكون لدينا بعض المصطلحات كقولنا "لذيذة" وبعض الجمل الحاوية لها كقولنا "هذا الطعام لذيذ" شاملة لكونها إحساسية وغير حاكية للواقع. إلّا أنّ هذا لا يعني تسرية الحكم على كلّ المصطلحات والجمل بحيث يقال إنّ ما له ثقلٌ إحساسيّ لا بد أنْ لا يكون حاكياً للواقع، لأنّه وطبقاً للتعريف المتقدم فإنّ المفاهيم والجمل إنّما نسميها بالحاكية للواقع لإشارتها إلى واقعيّة عينية بغضّ النظر عن الأوامر والأحاسيس والتوافقات، وقد أشرنا في الفصل الرابع عند تحليل المفاهيم الأخلاقيّّة إلى ثبوت كون هذه المفاهيم والقضايا الأخلاقيّّة حاكية للواقع، ولذا فإنّ التوجيه الثاني للانفعالية لا يمكن القبول به أيضاً.

5 - 4. تحليل النظرية التعاهدية

1 - لو أنّ رجلاً يعيش وحده في مزرعته دون أيّ تواصل وارتباط بالآخرين فحينها ألا يمكن القول في مورده إنّ صلاته أو اهتمامه بصحّته أو قطعه لأشجار مزرعته المثمرة حسنة أو قبيحة؟

إنّ نطاق الأخلاق وأفعال الإنسان الاختيارية لا يحدّان سلوك الإنسان وأفعاله مع الناس الآخرين بل يشملان أيضاً ارتباطه بالله وبنفسه وبالطبيعة.

إلا أنّ أنصار التعاهدية تصوّروا أنّ أفعال الإنسان الاجتماعية وحدها القابلة للتقييم باللحاظ الأخلاقيّ، وعلى هذا الأساس اعتقدوا بأنّ الأخلاق منوطة بتشكيل المجتمعات والمقصود منها رفع التعارضات الاجتماعية على فرض حصولها. وكما ترى فإنّ الأخلاق حتى بالنسبة لأولئك الّذين يعيشون في المجتمعات لا تنحصر في
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

146

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

  الأمور الاجتماعية وحلّ التعارضات والاختلافات فيما بينهم.


2 - يعتقد أنصار التعاهدية بأنّ رعاية القواعد الأخلاقيّّة الّتي تَوافَقَ المجتمع عليها نافعة ومفيدة لرفع التعارض بين أفراد المجتمع. وهنا نسأل هؤلاء هل أنّ رفع التعارض وتأمين المنافع المتقابلة لأفراد المجتمع - باللحاظ الأخلاقيّ - قيّم ولازم بنفسه وذاته أم أنّ ذلك يحتاج إلى وجود توافق آخر عليه؟

وهنا بناءً على الافتراض الأوّل فإنّ القائل بالتعاهدية وخلافاً لمبانيه قد قبل نوعاً ما بالواقعيّّة، وحينئذٍ لا بدّ لنا أنْ نتباحث معه - في موضعه ومكانه - حول هدف الأخلاق والمنشأ الواقعيّ لها هل هو مجرّد رفع التعارض وتأمين المنافع المتقابلة للأفراد أم أنّه شي‏ء آخر. وكذلك حول ماهية ملاك المنفعة عنده أيضاً. وأما لو صرّح بناءً على مبنى اللاواقعيّة بأنّ رفع التعارض الاجتماعي ليس قيّماً ولازماً بذاته وفي حدّ نفسه بل لا بدّ له من توافق آخر عليه فسوف يلزم حينئذٍ التسلسل لأنّ قيمة ولزوم هذا التوافق الثاني أيضاً يحتاج إلى توافق آخر وهكذا...

الخلاصة

الاشكالات على المذاهب اللاواقعيّة

1 - إنّ عدم صحّة اللاواقعيّة والنسبيّة الأخلاقيّّة وعدم التوجيه المناسب للأحكام الأخلاقيّّة بسبب عدم كون الوجوب والحسن الأصليين موجَّهَين تُعتبر من المشاكل المشتركة عند كلّ المذهب اللاواقعيّة.

2 - إنّ أتباع نظرية الأمر الإلهيّ وبسبب اعتقادهم باللاواقعيّة لا يمكنهم منطقياً - من خلال استنتاج "الوجوب" من "الموجود" - التمسك بأفضلية الله لاعتبار أوامره.

3 - إنّ العقل يمكنه في بعض الموارد، وبغضّ النظر عن الأمر والنهي الإلهيين،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

147

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 تشخيص حسن الأشياء وقبحها، ولذا فالحسن والقبح عقليان وتبعاً لهما أيضاً فالحسن والقبح الذاتيان موجودان أيضاً.


4 - وقع الاشتباه في نظرية الأمر الإلهي بين منشأ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة وطرق تشخيص قيمة ولزوم بعض الأمور.

5 - إنّ القول باعتبار الأوامر الأخلاقيّّة في حقّ من يقبل بها فقط يساوي القول بعدم اعتبارها أيضاً.

6 - إنّ مبنى الوضعيّة المنطقية غير صحيح ومن الممكن أنْ تكون المعارف غير الحسية معتبرة وذات معنى أيضاً.

7 - بالتوضيح الّذي ذكرناه حول المفاهيم والقضايا الأخلاقيّّة أثبتنا كونها حاكية للواقع، وأنّ هذه المفاهيم والقضايا حتى ولو كانت ذات ثقل إحساسيّ فإنّ ذلك لا يؤثّر في حكايتها للواقع.

8 - لا ينحصر نطاق الأخلاق بالروابط الاجتماعية وحلّ التعارض بين أفراد المجتمع.

9 - إنّ أنصار التعاهدية لا يمكنهم الاعتقاد بأنّ حلّ التعارض الاجتماعي له قيمة ذاتية، ولا يمكنهم ربط قيمته بتوافق آخر عليه، حيث إنّه بناءً على الصورة الأولى يستلزم نقض مبناهم القائم على اللاواقعيّة وعلى الصورة الثانية سيبتلون بالتسلسل الباطل.

الأسئلة
 
1 - اذكر ثلاثة اشكالات مشتركة ترد على المذاهب اللاواقعيّة؟

2 - اذكر رأيَ القائلين بالأمرية حول معنى القضايا الأخلاقيّّة ومنشأ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة.

أ- كيف يوجّه أتباع نظرية الأمر الإلهيّ اعتبار أوامر الله في حقّ الجميع؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

148

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 ب- هل يتوافق هذا التوجيه مع مبنى هذه النظرية؟ أوضح ذلك.


4 - أ- ما المراد بالحسن والقبح الذاتيين والعقليين؟

ب- لماذا يقال إنّ أتباع نظرية الأمر الإلهيّ ينكرون الحسن والقبح الذاتيين والعقليين؟

ج- لماذا لا يمكن القبول بإنكار الحسن والقبح العقليين؟

5 - كيف حصل الاشتباه في نظرية الأمر الإلهيّ بين تشخيص القيم واللزوميات الأخلاقيّّة وبين منشئهما؟

6 - ذُكر في النوع الثاني من الأمرية أنّ الأوامر الأخلاقيّّة معتبرة فقط في حقّ مَن يقبل بها. أوضح ما يلي:

أ- لماذا لا يرى هؤلاء اعتبار هذه الأمور في حق الآخرين؟

ب- ما هو المراد من كون هذه الأمور معتبرة في حق من يقبل بها؟

7 - عرِّف الانفعالية.

8 - ما هو التوجيه المذكور لإثبات الانفعالية من قبل هذين الفريقين:

أ- الوضعيين المنطقيين‏

ب- المعتقدين بأنّ المصطلحات الأخلاقيّّة إحساسية

9 - لماذا قلنا بعدم مقبولية مبنى الوضعيّة المنطقية القائل بكون المصطلحات والقضايا الأخلاقيّّة بلا معنى؟

10 - هل من الممكن القبول بأنّ المصطلحات الأخلاقيّّة إحساسية ولكنها لا تحكي الواقع؟ أوضح ذلك.

11 - اذكر رأي القائلين بالتعاهدية في هذه الأمور وقم بنقده:

أ- نطاق الأخلاق.

ب- منشأ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة واعتبار الأحكام الأخلاقيّّة.

ج- الهدف من وضع التوافقات الأخلاقيّّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

149

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 12 - أ- صنّف هذه الجمل من حيث الملاءمة مع الواقعيّّة أو اللاواقعيّة؟


ب- بالنسبة للجمل الملائمة مع اللاواقعيّة، اذكر مع أيّ نظرية من النظريات الّتي بُيِّنت في هذا الفصل متلائمة؟

الأولى: إنّ أوامر الله تشير لنا إلى حسن الأفعال أو قبحها واقعاً.

الثانية: الحسن والقبح الأخلاقيّان عبارة عن المرضي وغير المرضي.

الثالثة: كلّ إنسان يحتاج لواعظ من نفسه ليأمر نفسه بفعل الأفعال الحسنة وينهاها كذلك عن الأفعال القبيحة.

الرابعة: الأفعال الّتي يأمر الله بها تصبح حسنة.

الخامسة: يمكن للناس في بعض الموارد أنْ يشخّصوا بدقّة الأعمال الحسنة.

السادسة: العمل الحسن هو ما ألزمنا أنفسنا القيام به.

السابعة: إنّ الله لا يأمر بالقبيح من الأفعال.

الثامنة: بعض الأفراد يشعرون بإحساس حسن عند فعل الأفعال الحسنة ويشعرون بالسوء عند فعل الأفعال القبيحة.

التاسعة: إنّ ما يأمر به الناس هو الحسن ويجب فعله.

العاشرة: يمكن من خلال ذكر الجمل الأخلاقيّّة الحاوية للأوامر والنواهي توصية الآخرين بفعل الأعمال الحسنة وترك السيئة منها.

للبحث
 
تباحث مع أصدقائك حول المواضيع، وأوضح ماهية الفرق بينها وبين مُدّعى المذاهب اللاواقعيّة:

1 - إنّ القضايا الأخلاقيّّة ناظرة إلى صفاتنا وأفعالنا الاختيارية ونتائجها المطلوبة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

150

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 وغير المطلوبة، ونحن عندما نتحادث عادة عن الأعمال الّتي تنتهي إلى مثل هذه النتائج المرغوبة وغير المرغوبة يتولد عندنا انفعال وتحريك داخلي مثبَت أحياناً ومنفيّ أحياناً أخرى، ولذا فإنّ القضايا الأخلاقيّّة مضافاً إلى الجانب العلمي فيها لها جانب تحريكي أيضاً.


2 - توجد أهداف مشتركة بين أفراد المجتمع والجماعات المختلفة، وإذا ما اشتركوا أيضاً حول هذا الهدف الكليّ من الحياة والطرق الموصلة إليه بعقائد متشابهة فعادة ما يكونون قد توافقوا على قواعد أخلاقيّّة مشتركة أيضاً. وهنا يمكن اعتبار بعض أنواع الثقافات والآداب والرسوم والتقاليد وأمثالها من علل تشابه الاعتقادات بين هؤلاء الأفراد.

3 - يمكن للاعتقادات أنْ تؤثّر في القواعد الأخلاقيّّة المقبولة عند الأفراد. ومن الممكن أيضاً أنْ تكون هذه الاعتقادات صحيحة أو غير صحيحة. وبناءً عليه فإنّ إصلاح أو إفساد قيمَ أيّ مجتمع من الممكن أنّ يتم من خلال إصلاح أو إفساد عقائدهم.

4 - رغم أنّ الهدف النهائي للحياة الإنسانية ليس ترك هؤلاء الناس كالذئاب تنهش بعضها بعضاً، فإنّ رفع التعارض والخلافات الاجتماعية يعتبر من جملة شرائط الوصول إلى الكمال الاختياريّ عند الإنسان والذي هو هدف الأخلاق، ولذا يعتبر هذا العمل نوعاً ما ذا قيمة وبناءً عليه إذا استطاع أفراد المجتمع وضع طرقٍ لرفع هذا التعارض بحيث تكون متحدة مع هدف الأخلاق فإنّ العمل بها يعتبر قيماً ولازماً.

5 - من الممكن وجود العديد من هذه الطرق الّتي تؤدي إلى رفع التعارض والتي تتساوى جميعها من ناحية الوصول إلى هدف الأخلاق ولذا إذا استطاع هؤلاء الأفراد تشخيص هذه الطرق بشكل صحيح فمن الممكن التوافق على واحدٍ منها، وحينئذٍ يكون هذا التوافق والعمل على طبقه قيّماً ولازماً أيضاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

151

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 إقرأ

 
لقد طُرح العديد من النظريات حول المسائل النظرية في نطاق فلسفة الأخلاق والتي يمكن تنويعها وتقسيمها إلى طوائف متعدّدة، ونحن لمّا كان لدينا هدف محدد في هذا الكتاب وهو إيجاد المذهب الأخلاقيّ الواجب الإتباع (الصحيح) جعلنا المحور الأساس في هذا المجال مسألة منشأ وإثبات الأحكام الأخلاقيّّة، وعلى هذا الأساس قسمنا ورتبنا النظريات الأخلاقيّّة المرتبطة بها، وهناك أيضاً العديد من المسائل النظرية الأخرى الّتي تبحث في فلسفة الأخلاق تبعاً لهذه المسألة، ومثالاً على ذلك فإنّ اللاواقعيين وكما مر معنا لا يقولون بوجود منشأ واقعي للأخلاق، وفي الحقيقة فإنّهم لم يتمكنوا من إيجاد مثل هذا المنشأ الواقعيّ للأحكام الأخلاقيّّة، وبالتالي تقسيمها إلى الصادقة والكاذبة وبيان وجه الصدق ومقبولية الأحكام الأخلاقيّّة الصادقة، ولهذا ذهب بعض منهم إلى اعتبار القضايا الأخلاقيّّة بلا معنى وسعوا بالتالي إلى تقديم استعمالات لها غير حاكية للواقع. وذهب بعض آخر منهم إلى أنّ معنى القضايا الأخلاقيّّة أمور لا واقعيّة.

ومن طرف آخر فقد اعتقد بعض الواقعيّين الّذين لم يستطيعوا أيضاً أنّ يعرفوا منشأً واضحاً ومشخصاً للقيم الأخلاقيّّة إلى أنّ منشأ الأحكام الأخلاقيّّة يمكن فهمه من دون حاجة إلى البيان والاستدلال، وعليه فلا حاجة إلى البحوث النظرية في هذا المجال. ولذا فقد اختار هؤلاء الواقعيّّة البديهية الّتي لا حاجة لإثباتها.

وفي مقابل هؤلاء اعتقد آخرون بوجود المنشأ الواقعيّّ للأخلاق الّذي يمكن إثباته والاستدلال عليه ولكنهم اختلفوا في تعريفه والاستدلال عليه، ولهذا أيضاً فقد ظهر وتكوّن العديد من المذاهب الأخلاقيّّة. وقد ذهب بعض أتباع المذاهب الأخلاقيّّة إلى عدم إبداء الرأي الصريح والواضح حول الواقعيّّة أو اللاواقعيّة، بل اكتفوا بالتعرّض إلى بعض المسائل الجزئية إلّا أنّه يمكن الحدس من خلال لوازم كلماتهم بما يعتقدونه في هذا المجال (هذا في صورة معرفة لوازم كلامهم أو في صورة عدم وجود التعارض في كلماتهم ومواقفهم).

وبناءً على هذا فإنّ التعرّض لكل واحدة من هذه النظريات على حدة، وسواء في المسائل الأصلية أو الفرعية لفلسفة الأخلاق، خارج عن قابلية هذا الكتاب، وكذلك فإنّ إثبات تعلّق النظرية مثلاً بشخص 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

152

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 ما أو عدم تعلقها به وخاصة إثبات اللوازم غير البيّنة فيها إلى صاحب تلك النظرية مع الأخذ بمجموع كلامه في باب الأخلاق يعتبر عملاً صعباً وشاقاً وطويلاً.


ومضافاً إلى ذلك فإنّ لكل مسألة نظريات غير مذكورة يمكن فرضها في مجالها وموردها.

لكن الأهم من ذلك كله أنّنا ولأجل تأمين هدفنا المذكور لسنا بحاجة لذكر كلّ النظريات البديلة الموجودة والممكن وجودها في كلّ مسألة من مسائل فلسفة الأخلاق. ولهذا انتخبنا أقصر الطرق للتعرف إجمالاً إلى المذاهب الأخلاقيّّة المتناسبة مع هذا الكتاب، وتتبعنا الهدف الأصلي منه من دون التأكد من تحليل كلّ نظريات ما وراء الأخلاق، والأخلاق القواعدية والقانونية، ومن دون استقصاء الأقوال المختلفة والمتعدّدة في هذه المسائل ومن دون التأكيد على إثبات استنادها إلى خصوص بعض أهل الرأي فيها.

وقد سعينا في سبيل الوصول إلى هذا الهدف إلى رفع الموانع الفكريّة الّتي قد تعترض طريقنا، ولهذا فقد أشرنا إلى أصول وكليات بعض المذاهب الأخلاقيّّة المهمة والتي استند بعض أهل الرأي والاختصاص إليها وقمنا بتحليل أدلتها. نعم قمنا بذكر بعض الجزئيات المتعلقة بهذه المذاهب في المذكّرات فقط.

ولا نغفل عن هذا الاحتمال أيضاً وهو إمكانية المناقشة في إسناد بعض الأقوال لأصحابها نظراً إلى مواقف أخرى لهم في غير مكان.

طرحت هذه النظرية ابتداءً عند اليونانيين الأقدمين وفي القرون الوسطى أيضاً، ونسبت عند المسلمين إلى الأشاعرة.

ويُذكر في هذا المجال مناظرة قامت بين سقراط واثيفرون - القائل بنظرية الأمر الإلهيّ - إذ سأله سقراط: "إذا أمر الله بشي‏ء ما، فهل لأنّ الله أمر به أصبح صواباً، أم لأنّه صواب فإنّ الله قد أمر به"؟. وأجابه اثيفرون: "لا حتماً، لأنّه صواب فإنّ الله قد أمر به". وهنا قال سقراط فوراً: "إذا كان ما تقول صحيحاً فلا بد أنْ ترفع اليد عن نظريتك" (ويليام كِى. فرانكنا، فلسفه اخلاق، ترجمة هادي صادقي، ص 75).
وينسب هذا القول أيضاً إلى ويليام اكام (1287 - 1347م) وجان دانس اسكاتوس (1266 - 1308م).) راجع: اسكات مك دونالد "قرون وسطى متأخر" ترجمة محسن جوادي, "تاريخ فلسفه اخلاق غرب" سي لارنس بيكر، ترجمة مجموعة من المترجمين، ص 93 - 94).

ويصرّح أبو الحسن الأشعري (260 - 324 / 339هـ.ق.) رئيس فرقة الأشاعرة إحدى الفرق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

153

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

   الكلامية والمشهورة عند المسلمين - بأن الله إذا عذّب المؤمنين وأدخل الكفار إلى الجنة فلن يعدَّ ذلك قبيحاً منه. وكذلك لو أمر بالكذب فسيكون الكذب حسناً، لكن نحن نعتقد بأنّه سيعاقب الكفار لأنّه نفسه أخبر بذلك، والكذب و إنْ لم يكن قبيحاً منه إلّا أنّه محال في حقه. (راجع: علي بن إسماعيل الأشعري، كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، ص 116 - 117)، والجدير ذكره ها هنا - وبغضّ النظر عن الاشكالات الواردة المشتركة على كلّ المذاهب اللاواقعيّة أو من حيث الاشكالات الخاصّة بها - أنّ هناك بعض الآيات القرآنية الّتي ذُكر فيها وجه بعض الأوامر والنواهي والتي لا تتوافق مع ما ذكره الأشاعرة:

 

 

﴿... اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى1.
 

 

﴿... قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء...2.
 

 

﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً3.
 
وكذلك فإنّ استحالة الكذب على الله حالها حال استحالة تعذيب المؤمنين متأخرة بحسب الرتبة عن عدم الإرادة الإلهية، وعدم الإرادة الإلهية متأخرة رتبة عن قبح الكذب، وكأنّ الأشعري ظاهراً قد تصوّر أنّ استحالة الكذب على الله مقدَّمة على عدم الإرادة الإلهية.
 
نسبت هذه النظرية إلى بعض أنصار الوضعيّة المنطقية أمثال رودولف كارناب (Rudolf Carnab) (1891 ـ 1970م) ومن الممكن اعتبار نظرية التوصيات الكلية (Universal prescriptivism) المنسوبة إلى ريتشارد ميرفن هير (Richard Mervyn Hare) (م1919) أحد الفلاسفة البريطانيين، قريبة من هذه النظرية أيضاً. مع أنّ ميوله النفعية لا تتلاءم مع الأمرية المجرَّدة.
 
وذهب كارناب - مع ملاحظة أنّ الأحكام واصطلاحاً الأخلاقيّّة إنما يستفاد منها في الغالب من أجل هداية الأفعال والتأثير فيها - إلى القول بأنها في الحقيقة أوامر أو نواهٍ، ولذا فإنّ القول "لا ينبغي لك أنّ تسرق" بيان لقولك "لا تسرق" وكذلك فإنّ قولك "الرحمة حسنة" بيان لقولك "كن رحيماً" (ج. وارنوك، فلسفه اخلاق در قرن حاضر. 
ترجمة صادق لاريجاني، ص 26).
واعتقد هير بوجود الفاصلة بين "الوجود" و"اللازم" ،وبعبارة أخرى بين "الواقع" "والقيمة" وفي النتيجة بين "التوصيف" و"التوصية".وفي رأيه فإنّ الدور الأصلي لّلسّان القيميّ هو التوصية لا التوصيف، لكن
 
 
 

1- المائدة 5: 8.
2- الأعراف 7: 28.
3- الإسراء 17: 35.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

154

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

  التفاوت الأصلي بين التوصيات الأخلاقيّّة والأوامر العادية أنّ الأولى لا بدّ أنْ تمتلك قابلية التعميم، وبعبارة أخرى يرى هير أنّ القبول بأيّ حكم أخلاقيّّ يستلزم الالتزام به في كلّ الموارد ذات الشروط المشابهة والقبول بتعاطي وسلوك الآخرين معنا طبقاً له. واعتبر أيضاً أنّ الشرط الوحيد لقبول أيّ حكم أخلاقيّّ كونه ملائماً فقط. وصرّح أيضاً بأنّ لكلّ فردٍ الحقّ بقبول أصول أخلاقيّّة مختلفة عن الأفراد الآخرين من دون أنّ يكون عمل كلّ واحد منهم غير معقول في حدّ ذاته.


إلا أنّ هير أضاف فيما بعد الرؤية النفعية إلى مذهبه ونظرياته وبالتالي ابتعد عن مبانيه اللاواقعيّة حيث إنّ الأخذ بالمنافع الشخصيّة عند اتخاذ التوصيات العامة الأخلاقيّّة يتناسب مع القول بالواقعيّّة وسيطرأ حينئذٍ البحث عن المنافع الواقعيّّة أيضاً. مضافاً إلى أنّه من غير الواضح عندئذٍ لزوم عمومية الحكم الأخلاقيّ مع عدم كون التعميم المتخذ من قبل الآمر به له حكم العمومية، ومن طرف آخر فإنّ التعبير بالشرائط المشابهة - بحيث إنّ الحكم الأخلاقيّ إنما يكون عاماً مع مقايسته بهذه الشرائط - مبهم ومجمل ويقبل التفاسير المتعدّدة، إذ من الممكن لأيّ فرد أنّ يشترط حكمه الأخلاقيّّ بشروط خاصّة به.

وبناءً عليه فلا يوجد أيّ معيار بناءً على اللاواقعيّة لتحديد تلك الشرائط المؤثّرة واقعاً في ذلك الحكم الأخلاقيّّ. (راجع: ج. وارنوك، فلسفه اخلاق در قرن حاضر، ترجمة صادق لاريجاني، ص 39 - 62, آر. اف. اتكينسون، در آمدى به فلسفه اخلاق، ترجمة سهراب علوي نيا، ص 146 - 159,Mophammad A. Shomali. Ethical Relativism: An Analysis of the Foundations of Morality, p. 94 - 97).

حيث إنّ الانفعالية لا تقول بالواقعيّّة العينية للقيم واللزوميات الأخلاقيّّة فقد اعتبرت هذه النظرية نوعاً من "الذاتية"(Subjectivism) وللأخيرة أنواع متعدّدة: منها النوع البسيط والذي يعبَّر عنه بالذاتية البسيطة (Simple Subjectivism) والمراد منه نفس الانفعالية أي كون القضايا الأخلاقيّّة يراد منها إظهار وبيان إحاس الفرد وميوله.

(الوضعيون كأمثال آير يصرحون بأنّ نظريتهم وإنّ كان من الممكن اعتبارها نوعاً من الذاتية إلّا أنها متفاوتة عن الذاتية العادية الّتي تعتبر القضايا الأخلاقيّّة بياناً للإحساسات والانفعال في أنهم لا يعتبرون هذه القضايا إخباراً عن الانفعالات الداخلية بل إنها مجرّد إبراز لتلك الانفعالات والإحساسات (راجع: الف، ج، آير، "زبان، حقيقة منطق" ترجمة منوچهر بزركمهر، ص 148 - 150).

وبناءً عليه يمكن تقسيم الذاتية البسيطة إلى نوعين أيضاً العادية وغير العادية، والنوع الثاني منها
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

155

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

  يراد منه الانفعالية المبتناة على الوضعيّة المنطقية، والنوع العادي منها يراد منه الانفعالية المبتناة على كون المصطلحات الأخلاقيّّة انفعالية).


كما وأنّ النوع الثاني منها أيْ الذاتية غير العادية تُعرف أيضاً بنظرية الخطأ (Error Theory) والتي تعتبر القضايا الأخلاقيّّة قضايا تُستخدم لبيان الواقعيّّة الأخلاقيّّة. وبهذا التصور يقال لها خطأ حيث إنّ هذه الواقعيّّة موجودة مع أنّ ما تشير إليه هذه القضايا باطل لا أساس له، لأنّه وطبقاً لهذه النظرية لا وجود للواقعيّة الأخلاقيّّة. ونظرية الخطأ تقول إنّ الأخلاق قامت على هذا الافتراض المسبق الباطل وهو وجود الواقعيّّة الأخلاقيّّة. ويعتقد مكي - صاحب هذه النظرية الأخلاقيّّة - بأنّ الموجب للاعتقاد بالأحكام الأخلاقيّّة هو الثقافة والتوافق، ويقول آير إنّ بعض القائلين بالذاتية إنما يعتبرون الفعل حسناً إذا كان مورداً للتصويب الأخلاقيّ من قبل بعض الناس (راجع: نفس المصدر السابق، ص 140 - 141).
وربما يمكن القول إنّ الاصطلاح العام للذاتية - في مقبال العينية - يشمل كلّ المذاهب الأخلاقيّّة اللاواقعيّة.

ولمزيد من التوضيح والمراجعة حول الانفعالية والاشكالات عليها، راجع: ج. وارنوك، فلسفه اخلاق در قرن حاضر، ترجمة صادق لاريجاني ص 24 - 38, مرى وارنوك، فلسفه اخلاق در قرن بيستم، ترجمة أبو القاسم فنائي، ص 103 - 138).

الوضعيّة المنطقية أو أصالة التجربة المنطقية من إنتاجات جماعة فيينا (Vienna Circle). وهذه الجماعة اسمٌ لمجموعة من الأعضاء المشاركين فيها من الفلاسفة والعلماء أمثال كارناب، فايكل، غودل هان، نويرات وفايسمان بزعامة موريتس شليك، وقد أُسِّست سنة 1920 في فيينا (راجع: ايان باربور، علم ودين، ترجمة بهاء الدين خرمشاهى، ص 152، الحاشية رقم 9).

يقول آير (1910 - 1989م) أحد فلاسفة الوضعيّة المنطقية البريطانيين في كتابه المعروف "زبان، حقيقت ومنطق" (اللغة، الحقيقة والمنطق) والذي يعدّ من أهمّ الآثار وأدقها حول تعاليم الوضعيّة المنطقية باللغة الإنكليزية، يقول: "إنّ حضور العلائم الأخلاقيّّة في أيّ قضية لا يضيف أيّ شي‏ء لمضمونها الواقعيّّ، مثلاً، إذا قلت لأحدهم: 

"لقد قمت بعمل سيئ حيث سرقت ذلك المال" فلم أقل له شيئاً زائداً على قولي هذا "أنت سرقت المال" ومع إضافة القول "قمت بعمل سيئ" لم اعطِ خبراً زائداً على ذلك، وفقط أظهرت له عدم صوابية هذا الفعل عندي أخلاقيّاً، ومثال هذا بالدقة كما لو تكلمت بلحن خشن حاكٍ للتنفر فقلت "أنت سرقت المال" أو أنني كتبت هذا الخبر وأضفت إليه علامة التعجب فإنّ اللحن الخشن أو علامة التعجب لا يضيفان شيئاً إلى المعنى الواقعيّّ للجملة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

156

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

  غاية الأمر أنهما يظهران أنّ حكاية الخبر عند المتكلم قد صاحبها بعض الانفعالات، ومن ثمّ لو عمّمت خبري السابق وقلت "سرقة المال قبيحة" فقد قلت جملة ليس لها أيّ معنى واقعيّ... فأنا عندما أقول نوع العمل الفلاني صواب أو خطأ لم أعطِ خبراً واقعياً ولم أخبر عمّا يدور في ذهني، وإنما أظهرت فقط بعض العواطف الأخلاقيّّة. والشخص الّذي يعارض ما أقوله فإنّه يبيّن شعوره وإحساسه أيضاً. ولذا فإنّ السؤال عمّن يقول منّا القول الصحيح سؤال بلا معنى لأن أياً منا لم يعنون كلامه كقضية حقيقية (زبان، حقيقت ومنطق، ص 145 - 147). ويضيف قائلاً: "لا بدّ من الالتفات إلى هذه النكتة وهي أنّ الكلمات الأخلاقيّّة لا تُستخدَم فقط لإبراز الإحساسات والانفعالات بل تستخدم أيضاً لتحريك الإحساسات والعمل بها"(نفس المصدر، ص 147).


وقد سُمّيت نظريته بنظرية1 Boo /Hurrah الأخلاقيّّة.

نعم إنّ "آير" يقبل بكون بعض المصطلحات الأخلاقيّّة، مثل "الواجب" و"الوظيفة"، مضافاً لمعناها الانفعالي والإحساسي تتضمّن أيضاً معنى الأمر والتوصية ولكنه لا يقبل بحكاية أيّ منها للواقع (نفس المصدر، ص 147).

تُنسَب هذه النظرية إلى تشارلز لسلي ستيفنسون (1908 - 1979م) (Charles Lestli Stevenso n).

تُطلق التعاهدية أو التوافقية على عدة نظريات منها ما هو حول منشأ مشروعية الحكومة، ومنها ما هو حول تعيين الحق والعدل وأيضاً منها ما هو حول منشأ اعتبار الأحكام الأخلاقيّّة. والمراد من التعاهدية في هذا البحث الأخيرة منها والتي يمكن تسميتها أيضاً بالتعاهدية الأخلاقيّّة أو التوافقية الأخلاقيّّة.

ويمكن إيجاد جذور الكلام حول التعاهدية الأخلاقيّّة في كلام بعض السوفسطائيين أمثال بروتاغوراس ( protogoras) (490 ـ 420ق.م) إلّا أنّ بعض الكلمات المنسوبة إليه تظهر أنّه من القائلين بالنسبيّة الفردية كقوله: "بلا أيّ ترديد، إذا كان أحدهم يعتقد واقعاً بأنّ السرقة حسنة فما دام معتقداً بذلك فالسرقة له حسنة" (دبليو كى. سى. كاترى، تاريخ فلسفه يونان، ج‏11، ترجمة حسن فتحي ص 51 - 52).

لكنّ حاصل بعض كلماته الأخرى المنسوبة إليه تفيد بأنه من القائلين بالنسبيّة الاجتماعية وكذلك بالتوافقية، كقوله: "ما دام أيّ شي‏ء يبدو في نظر المجتمع حسناً وجميلاً، وقد اعتبره ذلك المجتمع
 
 
 
 

1-  Boo بوه كلمة تستعمل للاستهجان. Hurrah هتاف يستعمل للتأييد والفرح. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

157

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

  فعلاً حسناً وجميلاً، فإنّ ذلك الشي‏ء سيكون حسناً لذلك المجتمع وموافقاً للعدل" (افلاطون، الدورة الكاملة لآثار أفلاطون، ترجمة محمّد حسن لطفي، ج‏3، ص 1316 (رسالة ثئاتيتوس 1670)، وقوله: "إنّ القيم الأخلاقيّّة تعيَّن بتوافق الآراء، وما يراه الأفراد من حيث المجموع أنّه الأفيد والأقرب إلى الصلاح في مقام العمل يُعتبر قيّماً. (راجع: علي مراد داوودى، سوفسطائيان" مجلة دانكشده ادبيات وعلوم انسانى، (مجلة الآداب والعلوم الإنسانية) جامعة طهران، العدد 90، ص 30 - 31).


ويعتقد دايفيد اميل دوركايم (David Emile Durheim) ( 1858 ـ 1917م) - عالم اجتماع فرنسي - "بأنّ الأخلاق تبدأ من حيث بداية الارتباط بين المجموعة" ( اميل دوركايم، فلسفه وجامعة سناسى، ترجمة فرحناز خمسة اى، ص 51).

وفي رأيه لا بدّ أنّ يُنظر إلى المجتمع كشخصية تتفاوت كيفاً عن شخصية الأفراد المشكّلين لها (نفس المصدر، ص‏51)، وأنّ المجتمع بمثابة "مقنّن لا بدّ من تعظيمه وإطاعة أوامره" (نفس المصدر ص 116)،وأنّ "الأشياء أنفسنا، ومن أنفسنا، والاعتماد على أنفسنا، لا قيمة لها... هي قيمٌ ناتجة من الاعتقادات الجمعية العامة" (نفس المصدر ص 178)، وبهذا الوصف فإنّ دوركايم يقول بوجود شخصية للمجتمع تتفاوت عن شخصية الأفراد المشكلين له وإنّ منشأ اعتبار الأحكام الأخلاقيّّة هو رأي المجتمع أو الروح الجمعية. وكما ترى فإنّ نظريته قريبة من نظرية القائلين بالتوافقية الأخلاقيّّة، لكن بغضّ النظر عن الاشكالات المشتركة عليه وعلى التوافقيين، فإنّ القبول بوجود عينيّ للمجتمع - من دون وجود الأفراد المشكلين له - مورد للمناقشة والبحث، وعموماً في مثل هذه الموارد عندما يرتبط أثر الأجزاء بعضها مع بعض يتوهم وجود أثر شي‏ء آخر يسمّى أثر الكل وهو السبب في توهّم وجود عينيّ مستقلّ لهذا الكل في الخارج.

ومن المعاصرين يمكن اعتبار دايفيد جاثييه (Davis Gauthier) وجيلبرت هارمن (Gilbert Harman) ودايفيد وانج (David Wo ng) من القائلين بكون الأخلاق تؤمّن المنافع المتقابلة للأفراد أو أنّها ترفع التعارض بين متطلبات الفرد نفسه وبين متطلبات أفراد المجتمع أيضاً، ويعتقد هؤلاء أيضاً بأنّ التوافقات الاجتماعية هي الطريق الّذي يؤمّن هدف الأخلاق.

وفي رأي جاثييه فإنّ الأخلاق تشكّل محدودبات عملية يتوافق الأفراد العقلاء بين بعضهم بعضاً للوصول إلى الحدّ الأكبر من النفع الفرديّ.

Samuel Freeman, Contrctarianism in Edward Craig, Routledge, Encyclo pediaof philosophy. vol 3. p. 66.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

158

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 وأما "هارمن" فيعتقد بأنّ الأخلاق مجموعة من التوافقات الضمنية لتنظيم الروابط الاجتماعية الّتي يُحتاج إليها، ويصرّح بأنّه "قبل وضع العقود والتوافقات لا يمكن اتّصاف أيّ عمل بالصحّة والخطأ، وأنّه لا معنى للحكم على الناس أخلاقيّاً بلزوم فعل أو ترك أيّ عمل.


ولكنْ عندما يتوافق مجموعة من الناس على نظم توافقية خاصّة للعمل بها ولئلا يقع التعارض بينهم فحينئذٍ يمكن الحكم على أعمالهم بالنظر إلى ذلك التوافق الحاصل بينهم، وأما الأفراد الخارجون عن هذه الجماعة المرتبط بعضها ببعض والباقون في وضعهم الطبيعي فلا يمكن الحكم عليهم كما حكمنا على غيرهم".

(Gilbert Harmen, The Nature of Morality. p. 110, quoted in Mohammad A. Shomali, Ethical Relativism: An Analysis of the Foudations of Morality, p.148).

وقد أشرنا فيما سبق إلى نظرية "وانج" (راجع: المذكرة الأولى من الفصل الخامس). ومع أنّه يقول إنّ الأخلاق مخلوق اجتماعي وقد حدد هدفها بتنظيم الروابط الاجتماعية ورفع التعارض بين منافع الفرد أو بين أفراد المجتمع إلّا أنّه اشتبه في تحديد نطاق الأخلاق والهدف منها، إلّا أنّه كان يعتقد بمقبولية بعض النظم الأخلاقيّّة فقط والتي أسماها بالنظم الأخلاقيّّة ذات الصلاحية (Adequate Moral System). واعتقد بأنّ بعض خصائص الإنسان الذاتية والحاجات الاجتماعية المتشابهة عند كلّ الناس تحدد مجال النظم الأخلاقيّّة ذات الصلاحية، وقال أيضاً: "إن النظم الأخلاقيّّة القائمة على أساس تناسب أو عدم تناسب قضايا هؤلاء الناس مع الهدف الكلي قابلة للنقد والتحليل وكذلك هو الحال في القواعد الأخلاقيّّة عندنا في استنادها بشكل صحيح ومحكمٍ على الحقائق المرتبطة بالإنسان ومحيط حياته أم لا"وبناءً عليه فإنّ "وانج" قد قبل نوعاً ما بالواقعيّّة وابتعد شيئاً ما عن التوافقية المجردة.

وبشكل كلّي وبغضّ النظر عن الاشكالات الواردة على صحة أو عدم صحة تعيين الأهداف الأخلاقيّّة وطرق الوصول إليها والتي تقبل الطرح في مثل هذا النوع من التوافقيات، من الواضح أنّ هؤلاء قد أخذوا واقعاً تأمين منافع ومطالب الأفراد أو رفع التعارضات هدفاً للأخلاق. وهنا نقول إذا كان المراد من هذه المنافع والمطالب تلك الأمور الّتي لها واقعيّة بغضّ النظر عن العقيدة والنظر والسليقة عند الأفراد فلا بدّ أنْ تعدّ هذه المذاهب نوعاً ما كمذاهب واقعيّة وليست توافقية محضة، لكن إذا كان المراد مجرد مطالب الأفراد غير المبتناة على الواقعيّّة، أو أنّ مراد الفرد باللحاظ الأخلاقيّ قيمٌ أو بلا قيمة فحينئذٍ وبناءً على الصورة الأولى فإنّ الاشكالات الواردة على الانفعاليين واردة عليهم أيضاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

159

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

  ومضافاً إلى هذا فإنّ نظريتهم توجب المنع والحدّ من تحقق بعض مطالب الأفراد القيّمة، على الرغم من كون هذا الحدّ أحياناً بسبب عدم امكانية التحقق العملي لكل القيم أو للحد من حصول الهرج والمرج أحياناً أخرى. لكن إذا كانت مطالب الفرد باللحاظ الأخلاقيّّ لا قيمة لها فكيف ستكون مطالبه المشتركة والمتوافق مع بقية الأفراد قيّمة أيضاً؟


وكذلك فإنّ جان راولز (John Rawls) (م1921) في كتابيه "نظرية في باب العدالة" (1971) و"الليبرالية السياسية" (1993) وبالاستناد إلى تقرير " الأمر المطلق" لـ"كَانْتْ" - الّذي يعتقد بأنّ معيار القوانين والالزامات الأخلاقيّّة بهذا النحو: "ليكن سلوكك بالشكل الّذي تعتبر فيه البشريّة دائماً سواء في شخصك أو في شخص الآخر بعنوان غاية فقط وليست أبداً بعنوان الوسيلة" (عمانويل كَانْتْ، بنياد ما بعد الطبيعة أخلاق (تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق) ترجمة حميد عنايت وعلي قيصري، ص‏74) - فإنّه يعتقد "أي راولز" بأنّ كلّ الناس إذا ما غضّوا النظر عن كلّ ميولهم ومنافعهم واحساساتهم سيضعون بشكل حياديّ قوانين عامة ومشتركة على أساس حكم العقل فقط. ولهذا السبب سمّيت نظرية راولز التعاهدية الكَانْتية، ولكن ليس مراد راولز أنّ الأفراد ومن أجل تأمين منافعهم سيقومون بنوعٍ من المعاملة والتوافق فيما بينهم، بل مراده أنّ العقل العمليّ عند كلّ الأفراد ومع رعاية الحياد وبغضّ النظر عن المنافع الشخصيّة سيضع بعض القواعد العامة وكأنّ كلّ الأفراد قد توافقوا على مثل هذه القواعد العمليّة. ومن الواضح أنّ نفس التوافق واتفاق الآراء في رأي راولز لا يعدّ منشأ الأحكام الأخلاقيّّة ولا يُستخدَم من أجل ايجاد طرق تأمين المنفعة أو لرفع التعارض بين الأفراد وأمثال هذه الأمور، بل إنّه مشيرٌ فقط إلى وحدة العقل العمليّ عند كلّ الأفراد، وبعبارة أخرى فإنّ راولز يعتقد بأنّ توافق الأفراد ليس له أيّ دور في ايجاد أو كشف حكم العقل وأنّ معنى كون الأحكام الأخلاقيّّة توافقية هو أنّ عقل الإنسان يضع أحكاماً أخلاقيّّة حيادية. والظاهر أنّ اطلاق التوافقية على التعاهدية الكَانْتية - الّتي تعتبر الأحكام الأخلاقيّّة موضوعة من قبل العقل العملي - وغيرها من أنواع التوافقيات الأخلاقيّّة - الّتي تعتبر أنّ اعتبار الأحكام الأخلاقيّّة يعود إلى التوافق بين الأفراد من أجل تأمين الهدف المشترك - إنما هو من باب الاشتراك اللفظيّ فقط.

وما ينبغي قوله إنّ في كلام "راولز" نوعاً من التعقيد والابهام وبالتالي فإنّ كلامه حول اعتبار "الشهود" كمنشأ لكل الأحكام الأخلاقيّّة أو الانسجام أو التوافق المذكور، قابلٌ 
للبحث والنقاش ويتطلب الحكم في مورده محلاً آخر، ومن المحتمل أنّه استعان بالتوافق المذكور و"الأمر المطلق" فقط من أجل تعيين معنى "العدالة".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

160

الفصل السادس: المذاهب الأخلاقية اللاواقعية

 وكذلك فإنّنا سوف نبحث عن نظرية كَانْتْ في "الأمر المطلق" واعتبارها في الفصل القادم من هذا الكتاب.


الاستنتاج المفترض هنا من نوع القياس المنطقي، وفيه نحتاج دائماً إلى مقدّمة تكون أعمّ من النتيجة (كبرى القياس).

التقرير الفني لهذا الاشكال بهذا النحو: إنّ هذه الملازمة إنما تُقبل إذا كانت الأشياء في ذاتها لا حسن ولا قبح لها ولم يكن باستطاعة العقل أيضاً إدراك حسنها وقبحها، وقد اعتقد أتباع هذه النظرية بأنّه من خلال وضع المقدم يستنتج وضع التالي، مع أنّه في الموارد الّتي يمكن للعقل وحده إدراك تأثير الصفات أو الأفعال - كالعدل مثلاً - في الوصول إلى هدف الأخلاق، فإنّه يمكن من خلال رفع التالي استنتاج رفع المقدم. وبالتالي القبول بالحسن والقبح العقليين وتبعاً لها الحسن والقبح الذاتيين.

أحد الاشكالات الواردة على هذه النظرية مفاده أنّ بعض المصطلحات الأخلاقيّّة نظير الصواب والخطأ ليس لها أيّ ثقل إحساسيّ كما وأنّ شرائط بيان العديد من القضايا الأخلاقيّّة لا يتلاءم أيضاً مع تحريك المخاطب بها. (راجع: وارنوك، فلسفة أخلاق در قرن حاضر، ترجمة صادق لاريجاني، ص‏33 - 35).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

161

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

  الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 
لو سُئلت عن "الحُسن": ما هو؟ لقلت في الجواب: الحسن حسن، وهذا غاية ما يمكن قوله، ولو سئلت مجدداً: كيف يجب تعريف الحسن؟ سيكون جوابي بأنّ الحُسن لا يمكن تعريفه، وهذا تمام الكلام الّذي يمكنني قوله فيه1!
 
بعد الاطلاع الاجمالي على أهمّ المذاهب الأخلاقيّّة اللاواقعيّة وتحليلها استنتجنا أنّ أياً من هذه المذاهب لا يمتلك الدليل المقبول والمقنع على ما يدّعيه، ومن جهة أخرى وطبقاً لما قلناه في الفصل الثالث والرابع فإنّ الواقعيّّة صحيحة وصائبة، وإنّ القائلين بها يعتقدون بالواقعيّّة العينية للقيم واللزوميات الأخلاقيّّة، وإنّ الأحكام الأخلاقيّّة تخبر عنها وإنّ هذه الأحكام تقبل الصدق والكذب أيضاً.
 
وقد أشرنا في الفصل الثاني إلى أنّه لا بدّ للواقعيين من توضيح ماهية هذه الواقعيّّة وكيفية تشخيص صدق أو كذب الأحكام الأخلاقيّّة. لكنْ في الأساس هل يمكن تقديم توضيحٍ حول هذه الواقعيّّة وتبعاً لها إثبات قيمة ولزوم الموضوعات الأخلاقيّّة؟ هل يمكن القيام بذلك؟ ذهب بعض الواقعيّين إلى الاعتقاد بأنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة وإنْ كانت واقعيّة إلّا أنّه لا ارتباط لها مع الواقعيّات الأخرى، وبناءً على ذلك لا يمكن
 
 
 

1- G.E. Moore, Principra Ethica, p.6.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 169

162

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

  توضيحها مع الواقعيّات الأخرى, واعتقدوا أيضاً بأنّ الأحكام الأخلاقيّّة لا يمكن اثباتها بناءً على البيانات الواقعيّّة الأخرى كذلك، وسوف نذكر في هذا الفصل بعض هذه المذاهب ونقوم بتحليلها:


1 - ما هي الواقعيّّة غير القابلة للاثبات‏؟

قبلنا فيما سبق نظرية الواقعيّّة، والآن لنفترض مضافاً إلى ذلك بأنّنا نعتقد بعدم وجود الارتباط بين الواقعيّّة الأخلاقيّّة وغيرها من الواقعيّات. وكما عبّرنا عنه في الفصل الثاني وأوضحناه من أنّنا ننكر الرابطة بين "ما ينبغي" وبين "الواقع"، حينئذٍ بناءً على هذه الصورة نكون قد قبلنا بأنّ الأحكام الأخلاقيّّة لا يمكن إثباتها استناداً إلى البيانات الّتي تكون كلها غير أخلاقيّّة، وهذا ما نسمّيه اصطلاحاً عدم قابلية إثبات الأحكام الأخلاقيّّة.
تعريف: الواقعيّّة غير القابلة للإثبات تعني القبول بالواقعيّّة المصاحبة لعدم قابلية إثبات الأحكام الأخلاقيّّة. أيّ أنه:

أوّلاً: القيم واللزوميات الأخلاقيّّة لها واقعيّة عينية وإنّ القضايا الأخلاقيّّة حاكية للواقع.

ثانياً: لا يمكن إثبات الأحكام الأخلاقيّّة على أساس البيانات الّتي تكون كلها غير أخلاقيّّة. 

وبناءً عليه إذا اعتقدنا بعدم قابلية إثبات الأحكام الأخلاقيّّة فكيف يمكن لنا حينئذٍ تمييز الأحكام الأخلاقيّّة الصائبة والصادقة من الأحكام الأخلاقيّّة الخاطئة والكاذبة؟

وهنا نقول إنّه مع القبول بالواقعيّّة غير القابلة للاثبات، إذا أردنا تشخيص الصادق والكاذب من الأحكام الأخلاقيّّة فالطريق الوحيد[1] هو أنّ نقبل بأنّ كلّ حكمٍ أخلاقيّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

163

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 إما أنّه لا يمكن إثباته وبالتالي فإنّه يُدرَك ويُعلَم بالبداهة، وإما أنْ نستفيد من الأحكام الأخلاقيّّة البديهية لاثباته.

 
ولهذا فإنّ القائلين بهذه الواقعيّّة اعتقدوا بوجود بعض الأحكام الأخلاقيّّة البديهية[2]، وإنّ سائر الأحكام الأخلاقيّّة يتمّ اثباته بالاستفادة من هذه الأحكام البديهية[3].
 
2 - أنواع الواقعيّّة غير القابلة للاثبات‏
 
يظهر معنا مما تقدم أنّ المعتقدين بهذه الواقعيّّة لا بدّ لهم لاثبات دعواهم من الاجابة عن أسئلة ثلاث:
 
1 - ما هو سبب صحة الواقعيّّة؟
 
2 - لمَ لا يمكن اثبات الأحكام الأخلاقيّّة من البيانات الّتي لا تكون كلها أخلاقيّّة؟
 
3 - ما هي الأحكام الأخلاقيّّة البديهية؟ وكيف يمكن استنتاج سائر الأحكام الأخلاقيّّة منها؟
 
لم يجب أتباع هذه النظرية عموماً على السؤال الأوّل أيّ إثبات الواقعيّّة ولربما أنها أيضاً لا تقبل الاثبات أو أنها بديهية كذلك. وحيث إننا قد بحثنا في هذا الموضوع سابقاً وقبلنا بالواقعيّّة فسوف نصرف النظر عنها ها هنا. إلّا أنهم اختلفوا في الرأي حول السؤالين الأخيرين وكيفية بيانهما، وسوف نتعرّف ها هنا إلى نوعين من هذه الواقعيّّة الّتي لا يمكن اثباتها أيّ نظرية العقل العمليّ والشهود، وسوف نوضح اجابة كلِّ منهما على السؤالين المذكورين:
 
1 - 2. نظرية العقل العمليّ [4]
 
المراد من هذه النظرية نفس نظرية كَانْتْ1، -الفيلسوف الألماني الشهير[5]- الأخلاقيّّة، حيث كان يعتقد بأنّ أفعال العقل
 
 
 

1-  Immanuel Kant (1724 – 1804.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

164

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

  يمكن تقسيمها إلى قسمين مستقلين: العقل النظريّ والعقل العمليّ[6]، والأول ينظر إلى وظيفة العقل في فهم الواقعيّات الطبيعية والثاني إلى الفهم المؤدّي للعمل والنتائج الحاصلة من هذا الفهم.


ويؤكد كَانْتْ أنّ أسلوب تشكيل المعرفة متفاوت فيهما، ولا ينبغي لنا الخلط بين أحكام كلا المعرفتين لأنّ المعارف المرتبطة بالعقل النظري ترتبط بزمان ومكان ومقولة الفهم بينما لا ترتبط المعارف المرتبطة بالعقل العمليّ بها.

وبناءً على ذلك اعتقد كَانْتْ بأنّه فقط يمكن استنتاج بيانات نظرية أخرى من البيانات المرتبطة بالعقل النظريّ، وطبقاً لتقسيماته فقد اعتبر أنّ المعارف الأخلاقيّّة والتي هي معرفة الواقعيّات الناظرة إلى العمل والتي لا تُحدّ بزمان ومكان محدَّدَين ترتبط بالعقل العمليّ. ولذا بناءً على مبانيه المعرفية لا يمكن استنتاج "ما ينبغي" من "الواقعيّات"[7] أيْ أنّ الأحكام الأخلاقيّّة لا يمكن إثباتها على أساس البيانات الّتي تكون كلها غير أخلاقيّّة. ولهذا لم يكن مفرّ أمام كَانْتْ سوى القبول بالواقعيّّة غير القابلة للاثبات.

وقد قدمنا القول إنّه لا بدّ لأتباع هذه النظرية من الاجابة عن سؤالين، وإنّ أساس جواب كَانْتْ عن السؤال الأوّل أيّ دليله على عدم قابلية اثبات الأحكام الأخلاقيّّة هو أنّ أسلوب تشكيل المعرفة متفاوت عند كلا العقلين النظري والعملي، ولكن كيف أجاب كَانْتْ عن السؤال الثاني؟ لقد اعتبر كَانْتْ وجود حكم أخلاقيّّ واحد بديهيّ[8] وسعى إلى استنتاج كلّ الأحكام الأخلاقيّّة منه. وسوف نتابع ونحلل نظرية كَانْتْ الأخلاقيّّة حول الأحكام الأخلاقيّّة الناظرة إلى القيم واللزوميات الأخلاقيّّة لنثبت من وراء ذلك كيفية إرجاع الأحكام الأخلاقيّّة كلها إلى ذلك الحكم الأخلاقيّ البديهي:

أ - الأحكام الأخلاقيّّة الناظرة إلى اللزوم‏

اعتقد كَانْتْ بوجود أصل كلِّي أخلاقيّّ يُدرَك بواسطة العقل العمليّ. وهذا الأصل هو الّذي شخّص لنا كلّ الوظائف الأخلاقيّّة أيّ كلّ ما يجب علينا فعله أو تركه، وقد سمّى هذا الأصل بالأمر المطلق بالبيان التالي: "الأمر المطلق يأمر كلّ إنسان بأنْ يكون
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
172

165

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

  سلوكه وفقاً للقانون الّذي يريد له أنّ يصبح قانوناً كلياً للطبيعة1"2.

 
ولكي نعرف كيفية تشخيص الوظائف الأخلاقيّّة من خلال هذا الأصل المذكور نذكر مثالين من الأمثلة الّتي ذكرها كَانْتْ3 نفسه:
 
المثال الأول: لنفترض أنك مررت بوضعٍ صعبٍ ومعقدّ، وكنت مضطراً لاقتراض مبلغٍ من المال، إلّا أنك تعلم بأنّك لن تقدر أبداً على سداد هذا الدين، وكان الشرط لإعطائك هذا القرض هو أنْ تعدهم بإرجاعك المال في الوقت المحدد، هنا هل أنّ هذا الالتزام الكاذب من أجل أخذ القرض مطابق للوظيفة الأخلاقيّّة أم أنّه مخالف لها؟
 
يقول كَانْتْ ها هنا إنّه يمكن تشخيص الوظيفة على أساس "الأمر المطلق" ولا نحتاج معه إلى أيّ استدلالٍ آخر، فالأمر المطلق يقول إننا إذا أردنا سيكون هذا العمل كقوانين الطبيعة، وهذا العمل هو وظيفتنا وإذا لم نقدر على ذلك فلن يكون كذلك لأنّ قوانين الطبيعة قوانين عامة وكلية، ومثالاً على ذلك فإنّ في الطبيعة دائماً قوة الفعل وردّ الفعل بعضها في خلاف بعض، ولنفرض أنّنا أردنا أنْ يتحوّل هذا الوعد الكاذب لحلّ مشكلتنا إلى أصل كلي وعامّ كما هو الحال في هذا القانون الطبيعي، وحينئذٍ هل يمكننا أنّ نطلب من كلّ الناس دائماً أنّ يعدوا كاذبين لحلّ مشاكلهم؟ وحينئذٍ لو كان القرار واقعاً بأنْ يكذب كلّ الناس لحلّ مشاكلهم فلن يقبل بعد ذلك أيّ شخص بوعد الآخر له. وفي هذه الصورة لن يتحقق ولن نجد أيّ وعد. ولكن طبقاً للقانون الافتراضي السابق الذكر فإنّ هناك وعداً موجوداً في الظاهر ولكن كلّ شخص مبتلى بأي مشكلة لا يريد العمل به والذي يبدو ظاهراً أنّ هذا الأمر غير ممكن أيّ أنّ هناك تناقضاً في ذلك القانون الفرضي ولا يمكن أنّ يكون مثل هذا القانون قانوناً عاماً كلياً كما هو الحال في قوانين الطبيعة.
 
 
 

1- نفس المصدر السابق، ص 61. قرّر كَانْتْ الأمر المطلق بصور مختلفة لكنها جميعها تؤدي نفس المعنى (راجع: نفس المصدر، ص 27، 60، 61، 74، 81، 82، 83، 86، 87، 88، 89، 90).
2- ترجمنا تعريف الأمر المطلق هنا مع قليل من التصرّف (المترجم).
3- راجع: إيمانويل كَانْتْ، بنياد ما بعد الطبيعة اخلاق (تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق) ترجمة: حميد عنايت، وعلي قيصري، ص 27 - 29 و 62 - 64.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

166

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 المثال الثاني: لنفترض أنّ هناك رجلاً ما لديه العديد من المؤهلات بحيث لو قام بتنميتها وتفعيلها لاستفاد منها في العديد من المجالات لكنه الآن في راحةٍ ولا يريد أنّ يضحّي براحته من أجل تنمية مؤهلاته وحينئذٍ هل أنّ هذا العمل مطابق لوظيفته الأخلاقيّّة أم أنّه مخالفٌ لها؟ طبقاً للأمر المطلق لنفترض أنّنا أردنا أنّ يتحول هذا العمل إلى قانون كلي كما هو حال قوانين الطبيعة، أيّ أنّنا طلبنا من كلّ الناس أنْ لا يقوموا بتنمية مؤهلاتهم. ونحن نعلم بأنّ قوانين الطبيعة كلية، ومضافاً إلى ذلك فإنّ بعضها متلائم مع بعض، لكن هل يمكن أنْ يكون هذا القانون كلياً أيضاً ومتلائماً مع بقية قوانين الطبيعة؟ حيث إننا عقلاء فإنّنا نعلم بأنّ تنمية المؤهلات مفيدة لنا وتعيننا في الوصول إلى أهدافنا، وبناءً عليه فإنّنا وبشكل طبيعي نريد على الأقل تنمية بعض هذه المواهب والمؤهلات، ولذا إذا افترضنا الكلية لهذا القانون الفرضيّ فلن يتلاءم مع هذا الميل الطبيعي عندنا. أيْ أنّ طلب تعميم السلوك المذكور - عدم تنمية المؤهلات - يتناقض مع الميل الطبيعيّ للإنسان لتنمية مؤهلاته، وعليه فالإنسان لا يمكنه وطبقاً لإرادته أنّ يتحول قانون عدم تنمية المؤهلات إلى قانون كليّ وعامّ.

 
وعلى هذا الأساس وطبقاً لنظرية كَانْتْ إذا أردنا أنْ نعلم موافقة أيّ فعلٍ للوظيفة الأخلاقيّّة أم لا يكفينا أنْ نفترض الطلب من كلّ الناس القيام دائماً بهذا الفعل، وحينئذٍ إذا كان هذا القانون الكلّي متناقضاً في نفسه أو كان متناقضاً مع الميل الطبيعي للإنسان فلنْ يكون هذا الفعل موافقاً للوظيفة الأخلاقيّّة، وأما إذا لم يستلزم أياً من هذين التناقضين فسيكون هذا الفعل موافقاً للتكليف والوظيفة الأخلافية1.
 
وفي رأي كَانْتْ وكما أنّ الأمر المطلَق لا يقيَّد بأيّ قيد فإنّ كلّ الوظائف الأخلاقيّّة 
 
 
 

1- نفس المصدر، ص 65.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
174

167

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 المستفادة منه مطلقة أيضاً ونافذة1 على الجميع وفي كلّ الموقعيات ومن دون أيّ استثناء.

 
لكن إذا سألنا كَانْتْ عن الدليل على صحة "الأمر المطلق" سيكون جوابه أنّ نفس الأمر المطلق حكم بديهيّ من أحكام العقل العمليّ، ندركه قبل أيّ تجربة2 ولا يُستنتج من أيّ واقعيّة خارجية3. والعقل العمليّ يُدرِك بوضوح وبشكل بديهي أنّ القواعد الأخلاقيّّة يجب أنّ تكون نافذة دائماً وأبداً وفي حقّ الجميع.
 
ب - الأحكام الأخلاقيّّة الناظرة إلى القيم‏
 
لكن برأي كَانْتْ، كيف يمكن أنْ نعرف أنّ هذا الفعل حسن وأنّ ذلك الفعل قبيحٌ؟
 
يقول كَانْتْ إنّ الفعل الاختياري يكون قيّماً وحسناً أخلاقيّاً إذا تحقّق فيه هذان الشرطان: الأوّل أنْ يكون مطابقاً للوظيفة الأخلاقيّّة، والثاني، أنْ يؤتى به بنية العمل بالوظيفة الأخلاقيّّة، ومع تخلّف أحد هذين الشرطين فيه فلن يكون حسناً باللحاظ الأخلاقيّّ، وفي الواقع، فإنّ القيمة الأخلاقيّّة للفعل الاختياريّ هي في أنّنا نقوم بوظيفتنا من أجل أنها وظيفتنا وليس لشيء آخر أو بنيّة أخرى[9].
 
لكن يجب أنْ يكون الفعل أيضاً مطابقاً لوظيفتنا الأخلاقيّّة، وكما قلنا سابقاً إذا أردنا أنّ نعرف كون هذا الفعل مطابقاً لوظيفتنا أم لا يكفينا أنّ نرجع إلى "الأمر المطلق".
 
وبناءً على ذلك فإنّ كَانْتْ يعتقد أنّ كلّ الأحكام الأخلاقيّّة - القيميّة واللزومية - يمكن تحصيلها بالرجوع إلى أصل أخلاقيّ واحد (الأمر المطلق) والذي يدرك باعتقاده بشكل بديهيّ بحكم العقل العمليّ. وبذلك يتضح جواب كَانْتْ على السؤال الثاني أيضاً.
 
1 - 1 - 2. تحليل نظرية العقل العمليّ‏
 
تمتاز هذه النظرية بوجوه مثبتة وأخرى يمكن المناقشة فيها، ولكننا في هذا البحث نتعرض لها فقط من جهة كونها نوعاً من الواقعيّّة غير القابلة للاثبات، والتي تُبتنى
 
 
 

1- نفس المصدر، ص 38.
2- نفس المصدر، ص 59.
3- نفس المصدر، ص 42 - 45 و 67 - 69.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

168

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

  في هذه النظرية على التفكيك في أسلوب تشكيل المعرفة بين العقل النظريّ والعمليّ، وأيضاً في كون الأمر المطلق بديهياً وفي تحصيل سائر الأحكام الأخلاقيّّة منه.


وفي مجال هاتين المسألتين وبغضّ النظر عن المناقشات الجزئية الّتي يمكن أنّ تطرأ في بعض الأمثلة، لدينا عدة ملاحظات أساسية:

1 - سوف نصرف النظر عن الاشكالات المعرفية على نظرية كَانْتْ حول أسلوب تشكيل المعارف النظرية والعمليّة، ولكنْ وكما رأينا في الفصل الثالث من هذا الكتاب فإنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة إنما تُنتزع بالنظر إلى ارتباط الصفات والأفعال الاختيارية للإنسان بواقعيّة أخرى اسمها كمال الإنسان، ولذا فإنّ التفكيك بين العقل النظريّ والعمليّ من ناحية عدم ارتباط المعارف الناظرة إلى العمل بمعرفة الواقعيّات الأخرى لا يمكن القبول به.

2 - لماذا يجب علينا القبول بامكانية تحصيل القواعد الأخلاقيّّة بشكل عامّ وكلّي ودون أنّ تكون متناقضة مع القوانين الأخرى؟ إنّ البيانات البديهية لا تحتاج إلى الاثبات والسؤال عن دليلها بلا معنى، لكنّ السؤال المذكور حول الأمر المطلق ليس بهذا الشكل، ولذا لا يمكن القبول بأنّ "الأمر المطلق" بديهيّ ولا يحتاج إلى الاثبات، نعم إنّ القول بكون القواعد الأخلاقيّّة "بنحوٍ ما" عامة وكلية و"في النهاية" لا بدّ أنْ يتلاءم بعضها مع بعض كلام صحيح، إلّا أنّه لا بدّ من إثباته[10].

3 - لنفرض أنك ولسببٍ ما - كالعادة مثلاً - تميل إلى شرب الماء من الابريق بدلاً عن الكوب، هل يُعتبر هذا الفعل وظيفة أخلاقيّّة أم لا؟

طبقاً لنظرية "الأمر المطلقَ" لا يوجد أيّ تناقض في أنْ نأمر بتحوّل هذا السلوك إلى قانون عامّ وكلّي، لكن لا يمكن لأيّ شخصٍ أنْ يقبل بكون شرب الماء من الابريق وظيفة أخلاقيّّة، ولذا فإنّ مجرد قدرتنا على طلب أنْ يكون أيّ فعلٍ عاماً وكلياً لا يعتبر دليلاً كافياً لأنْ نعتبر ذلك الفعل وظيفة أخلاقيّّة.

إنّ قوانين العبور والمرور أو الأمر اللساني أيضاً ومع كونها ناظرة إلى بعض السلوكيات
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
176

169

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

  الاختيارية وبالامكان طلب كونها قوانين عامة وبلا أيّ تناقضٍ إلّا أنها ليست أخلاقيّّة.


نعم من الضروري أنْ تكون القواعد الأخلاقيّّة عامّة وأن يكون بعضها متلائم مع بعض، إلّا أنّ هذا الشرط وحده لا يكفي لكون قواعد السلوك أخلاقيّّة[11].

سؤال: مع مراجعة بحث القيمة الأخلاقيّّة الوارد في الفصل الثالث، اذكر ما هو الشي‏ء الموجب لكون قواعد السلوك قواعد أخلاقيّّة؟

وبناءً عليه، وحيث إنّ "الأمر المطلق" لا يُعرّف لنا شرطاً لازماً وكافياً للقواعد الأخلاقيّّة، لذا لا يمكن اعتباره معياراً لتشخيص القواعد الأخلاقيّّة عن غيرها.

4 - اعتقد كَانْتْ بأنّ طلب تعميم أيّ سلوك إذا ما تناقض مع الميل الطبيعي للإنسان فلا يمكن طلب تعميمه وبالتالي لا يمكن قبول ذلك السلوك بعنوان الوظيفة الأخلاقيّّة، إلّا أنّ المبهم في هذا الكلام قوله: "الميل الطبيعيّ للإنسان" ودليل ترجيحه بمنزلة الوظيفة الأخلاقيّّة، إذ على أيّ أساسٍ ومعيار يمكن اعتبار بعض ميول الإنسان ميولاً طبيعية عنده وعلى أيّ أساس يعتبر تأمينها وظيفة أخلاقيّّة وبالتالي عدم اعتبار ما يتناقض معها من الميول وظيفة أخلاقيّّة؟

ففي المثال الّذي ضربه كَانْتْ حول طلب الراحة إذا ما تحولت إلى قانون عامّ فإنّها ستتناقض مع الميل الطبيعي لتنمية الاستعدادات والمؤهلات. وهنا يقول كَانْتْ حول هذا التناقض إنّ الأوّل وظيفة والثاني لا يعتبر وظيفة، وحينئذٍ ما هو دليل هذا التفاوت بينهما؟ من الممكن أنّ يقال إنّ التفاوت بينهما مثلاً في كون الثانية تقع في مسير كمال الإنسان الحقيقيّ ولهذا السبب سميت "طبيعية" وإنّ تأمينها وظيفة أخلاقيّّة وإنّ ما يتناقض معها من الميول ليس وظيفة، ولكن في هذه الصورة لا بدّ أنْ نقبل بأننا بحاجة إلى واقعيات غير أخلاقيّّة أيضاً لإثبات الأحكام الأخلاقيّّة وأنه يمكن تعيين الوظيفة والقيم الأخلاقيّّة بالرجوع إليها لا إلى الأمر المطلق فقط. وأما إذا لم نأخذ بالحسبان - بناءً على مبنى كَانْتْ - الواقعيّات الأخرى ونتائج السلوك فلا دليل على اعتبار بعض
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

170

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

  الميول طبيعية ولا دليل على ترجيحها على بعض الميول الأخرى[12].

 
5 - لنفترض أنّك وعدت شخصاً ما بعدم إفشاء سره، لكن طرأت عليك بعض الأمور الّتي توجب عليك الكذب إذا ما أردت العمل بوعدك وعهدك، وحينئذٍ ما هي وظيفتك في هذا المقام؟
 
في هذا المجال يعتقد كَانْتْ بأنّ لزوم الوفاء بالوعد وأيضاً لزوم اجتناب الكذب حالهما حال بقية القواعد الأخلاقيّّة والقوانين الطبيعية الكلية الّتي لا تقبل الاستثناء، إلّا أنّه لا يقدّم حلاً عند تزاحم الوظائف الأخلاقيّّة وما هو المتعيّن منها.
 
2 - 2. الشهودية1 (الحدسية)
 
المراد من "الشهود" بناءً على أحد التعريفات[14] فهم الأشياء من دون الاستفادة من أيّ تصوّر أو تصديق آخر.
 
والمعرفة الشهودية تعني المعرفة البديهية، ومثالاً على ذلك فإنّ هذه الجملة "الكلّ أكبر من جزئه" تُدرك بلا أيّ استدلال وبشكل بديهيّ واصطلاحاً بشكل شهوديّ.
 
ويعتقد أتباع هذه النظرية - ومن الآن فلاحقاً سوف نسميهم الشهوديين - بأنّ بعض الأحكام والمفاهيم الأخلاقيّّة على الأقلّ بديهية وشهودية. وتختلف آراء الشهوديين حول بعض المسائل، منها: هل أنّ كلّ الأحكام الأخلاقيّّة تُدرك مباشرة وبشكل بديهيّ أم أنّ بعضاً منها فقط كذلك؟ ومنها هل أنها كلها بديهية وشهودية أم أنّ بعضاً منها فقط كذلك؟
 
ومن الممكن للشهودي أيضاً أنّ يعتبر هذين الحكمين: "إن ارجاعك الأمانة إلى صديقك عمل حسنٌ" و"الوفاء بالعهد وظيفتنا" حكمينَ بديهيين[15].
 
والشهوديون عموماً[16] يقولون بالواقعيّّة غير القابلة للاثبات، حيث إنهم مضافاً إلى القول بالواقعيّّة، يعتقدون أيضاً بأنّ الأحكام الأخلاقيّّة لا يمكن اثباتها على أساس البيانات غير الأخلاقيّّة، وكما أشرنا وقلنا فإنّهم يعتقدون بكون بعض الأحكام
 
 
 

1-  Intuitionism.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

171

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

  الأخلاقيّّة على الأقل بديهية، لكن ما هو دليل الشهوديين على عدم قابلية إثبات الأحكام الأخلاقيّّة؟ وما هي الأحكام الأخلاقيّّة الّتي يعتبرونها بديهية؟


قبل بيان الاجابة على ذلك، لنلاحظ هذه الأمثلة:

لماذا نعتبر هذه الأعداد زوجية: 2، 34، 1256؟ لأنها تقبل القسمة على اثنين.

في هذا الاستدلال استفدنا من تعريف "الزوج" لبيان علة زوجية هذه الأعداد. والاستدلال بهذا النحو:

الأعداد 2، 34، 1256 تقبل القسمة على اثنين.

العدد الّذي يقبل القسمة على اثنين نسميه "زوجاً".

ولهذا السبب فإنّ الأعداد المذكورة زوجية.

لكن لنفرض عدم امكانية تعريف "الحسن"، وحينئذٍ إذا سئلنا "لماذا نعتبر مساعدة المحتاجين، الأمانة والوفاء بالعهد أعمالاً حسنة؟" فماذا يمكن أنّ نجيبهم عن ذلك؟ يعتقد عامة الشهوديين بأنه إذا لم يمكن تعريف المفاهيم الأخلاقيّّة فلا يمكن بيان الأحكام الأخلاقيّّة وإثباتها[17]. ومن طرف آخر فإنّهم يعتقدون بأنّ المفاهيم الأخلاقيّّة لا يمكن تعريفها ولهذا قالوا إنّ الأحكام الأخلاقيّّة أيضاً غير قابلة للاثبات.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ عدم قابلية الأحكام الأخلاقيّّة للإثبات معناه أنّ هذه الأحكام لا يمكن اثباتها إذا كانت مستندة إلى بيانات غير أخلاقيّّة، وكذلك الحال أيضاً في عدم قابلية تعريف المفاهيم الأخلاقيّّة حيث إنّه لا يمكن تعريف هذه المفاهيم إذا كانت مستندة إلى مفاهيم غير أخلاقيّّة أيضاً، ومثالاً على ذلك فقد عرّف "مور" (Moore) مفهوم الصواب والوظيفة مستفيداً من مفهوم أخلاقيّّ آخر وهو "الحسن" فقال في تعريفهما: "الصواب أو الوظيفة هو العمل الّذي له المقدار الأكبر من الحسن بالمقايسة بغيره من الأعمال".وكما ترى فإنّ مفهوم "الحسن" اعتُبر غير قابل للتعريف (لاحظ كلام مور نفسه في بداية هذا الفصل) وبناءً عليه فإنّ مور يعتقد بعدم امكانية تعريف المفاهيم الأخلاقيّّة، وأنه لمّا كان لا يمكننا توضيح الحسن على
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

172

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

  أساس المفاهيم الأخرى فإنّه لا يمكننا توضيح سبب كون الأعمال الحسنة حسنة، ويرى مور أنّ الحسن وصفٌ أخلاقيّ وواقعي يُدرك بالشهود مباشرة، وأننا على الأقل ندرك أعمّ الأحكام الأخلاقيّّة[18] الحاوية لمفهوم الحسن بشكل بديهيّ وأما سائر الأحكام الأخلاقيّّة الأخرى فنثبتها بالاستناد إليها، وليس على أساس القضايا والجمل الّتي تكون كلها غير أخلاقيّّة.


ولمجرّد التمثيل نقول إنّه إذا أردنا أنّ نرى ونعرف هل أنّ تحصيل العلم في الوقت الحاضر يعتبر وظيفتنا الأخلاقيّّة ويجب السعي إليه أم لا؟ لا بدّ أنْ نقايس الحسن الحاصل منه مع حسن كلّ الأعمال الأخرى الّتي يمكن القيام بها بدلاً عنه وحينئذٍ نرى هل أنّ نتيجة تحصيل العلم أحسن من نتائج بقية الأعمال أم لا[19].

واعتقد بعض الشهوديين بأنّ كلّ المفاهيم - وأيضاً الأحكام الأخلاقيّّة - شهودية وبديهية من دون تعريف بعض المفاهيم الأخلاقيّّة على أساس المفاهيم الأخرى.

وبناءً على ذلك فإنّ كلّ الشهوديين يعتقدون بأنّ دليل عدم قابلية الأحكام الأخلاقيّّة للإثبات هو عدم امكانية تعريف المفاهيم الأخلاقيّّة، إلّا أنهم اختلفوا فيما هو البديهيّ من هذه الأحكام.

1 - 2 - 2. تحليل الشهودية

1 - عندما نقول إنّ هذه الجملة "لكل أبٍ إبنٌ" بديهية لأنّه منطقياً لا نحتاج في فهم صدقها إلى تصديقٍ آخر، حيث إنّ تحليل مفهوم الموضوع يكفي لتصديق هذه القضية.

وكذلك عندما أكون مسروراً فإنّ جملة "أنا مسرور" بديهية لي لأنني لا أحتاج في تصديقها إلى تصديق آخر لأنني أدرك سروري من داخلي وبلا أيّ واسطة أخرى.

وعلى الرغم من عدم حاجة البيانات البديهية للإثبات إلّا أنّه لا بدّ لنا أنّ نوضح سبب بديهيتها وعدم حاجتها للاثبات، إلّا أنّ الشهوديين لم يوضحوا السبب في كون بعض الأحكام الأخلاقيّّة شهودية وبديهية[20].
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
180

173

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 2 - كما شاهدنا ورأينا فإنّ كلّ الشهوديين يعتقدون بعدم امكانية تعريف المفاهيم الأخلاقيّّة، ولن نتعرض ها هنا إلى ذكر أدلتهم في هذا المجال[21] بل سنفترض تمامية الأدلة المقامة من قبلهم، لكن وبلا شك فإنّ أحد أهداف الشهوديين في عدم امكانية تعريف المفاهيم الأخلاقيّّة هو اثبات عدم قابلية إثبات الأحكام الأخلاقيّّة.

 
لكن لنفترض-وكما ذكره "مور" في المثال السابق1 - أنّ "الحسن" نظير "الاصفرار" مفهوم بسيط ولا يمكن تعريفه، إلّا أنّه بإمكاننا التحقيق في علة اصفرار الأجسام الصفراء وأنْ نثبت من خلال ذلك أنّ هذا الجسم مثلاً والذي لا نراه الآن بشكل مباشر هو أصفر، ومثالاً على ذلك فإنّه يمكننا القول إنّ علة كون بعض الأجسام صفراء سببه النور المنعكس - بأمواج طولية خاصّة - من هذه الأجسام إلى عيوننا ولذا فإنّ الجسم العاكس لهذه الأنوار أصفر، وعليه وكما اعتبر "مور" (Moore) أنّ مفهوم "الأصفر" لا يمكن تعريفه إلّا أنّه بالامكان إثبات اصفرار الأجسام، كذلك الحال في مفهوم الحسن أيضاً حيث إنّه لا يمكن تعريفه إلّا أنّه يمكن إثبات حسن الأعمال الحسنة.
 
وبناءً على هذا لا يمكن استنتاج عدم قابلية إثبات الأحكام الأخلاقيّّة من خلال عدم امكانية تعريف المفاهيم الأخلاقيّّة[22].
 
3 - النتيجة
 
الواقعيّّة تقول لنا إنّ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة لها واقعيّة، أيّ إنّ هناك خصائص واقعيّة في الأفعال والصفات الحسنة وكذلك في القبيحة منها، وإنّ هناك خصائص واقعيّة في الأعمال الّتي ينبغي علينا القيام بها وكذلك في تلك الّتي لا ينبغي علينا القيام بها.
 
ومع قبولنا بالواقعيّّة يُطرح السؤال عن ماهية هذه الخصائص الواقعيّّة. وبعبارة
 
 
 

1- مري وارنوك، فلسفه اخلاق در فرن بيستم، ترجمة أبو القاسم فنائي، ص 52 نقلاً عن:G.E. Moore, Principia Ethica، p.10.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

174

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

  أخرى ما هو الشي‏ء الواقعيّ الّذي يوجب كون بعض الأفعال والصفات حسناً والآخر منها قبيحاً، وكون القيام ببعض الأعمال أو تركها لازماً؟


إنّ هذا السؤال سؤال عن المنشأ الواقعيّ للقيم واللزوميات الأخلاقيّّة وبالتالي إثبات الأحكام الأخلاقيّّة على أساسه.

لكن كَانْتْ بالتفكيك بين العقل النظريّ والعقل العمليّ، وتبعاً له التفكيك بين المعارف الأخلاقيّّة والمعارف النظرية استنتج عدم امكانية الاجابة عن هذا السؤال.

وكذلك الحال عند الشهوديين الّذي اعتقدوا بعدم امكانية تعريف المفاهيم الأخلاقيّّة.

وقد أوضحنا في هذا الفصل عدم مقبولية التفكيك الكامل بين العقل النظريّ والعقل العمليّ، وأنه لا يمكن استنتاج عدم قابلية إثبات الأحكام الأخلاقيّّة من خلال عدم إمكانية تعريف المفاهيم (بعد التسليم بصحة الفرض الأخير).

وبناءً عليه يبقى السؤال المذكور محتاجاً للاجابة[23].

إنّ الأخلاق تعلّمنا "كيف ينبغي أنّ نكون"، وفلسفة الأخلاق تسأل لماذا "كيف ينبغي أنّ نكون"؟ ولذا لا بدّ من إثبات الأحكام الأخلاقيّّة، لكن كيف؟ سنشير في الفصل اللاحق إلى بعض الاجابات عن هذا السؤال، ومن خلال تحليل نقاط القوة والضعف فيها حتى نصل إلى الجواب النهائي.

أكمل ما يلي:

1 - لا تقبل الواقعيّة الإثبات، بمعنى 

2 - الواقعيّة لا تقبل الإثبات بنوعي النظرية................ و................ قابل للإطلاق.

3 - يقول "كَانْتْ" إنّ دليل عدم قبول الواقعيّة الأخلاقيّة هو................

4 - يقول "كَانْتْ" إنّ الحكم الأخلاقيّ بديهيّ ويسميّه................

5 - الأصل المطلق في نظر "كَانْتْ" يُطلق على الأصل الكلّي الذي................

6 - طبقاً لرأي "كَانْتْ" إذا أردنا معرفة موافقة عمل ما للوظيفة الأخلاقيّة يجب................
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

175

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 7 - برأي "كَانْتْ" فإنّ العمل الاختياري له قيمة أخلاقيّة بشرطين................ و................


8 - بالالتفات إلى القيم الأخلاقيّة واللّزوم الأخلاقيّة ينتزع من................ فإنه لا مجال لعدم العلاقة بين المعرفة العمليّة والمعرفة النظريّة.

9 - تشير حقيقة السؤال المنطلق من دليل "الأمر المطلق" إلى................

10 - الأمر المطلق لا يأخذ شرط................ بعين الاعتبار لتعريف القاعدة الأخلاقيّة.

11 - إن تشخيص الطلبات الطبيعيّة وترجيحها يقوم فقط على أساس................ وهو غير متوافق مع رأي "كَانْتْ".

12 - معيار "كَانْتْ" لا يستطيع تعيين................ في مورد التزاحم.

13 - المقصود بالشهود في اصطلاح الشهوديّين ................

14 - أتباع الشهوديّة في الأخلاق يرون................ أمراً بديهيّاً وشهوديّاً.

15 - دليل أتباع الشهوديّة في إثبات عدم قبول الأحكام الأخلاقيّة ................

16 - الشهوديّون أوضحوا لماذا يعتبرون................ بديهيّاً.

17 - يرى "مور" أنّه لا مجال لتعريف مفهوم "الأصفر" بينما نرى أنّ كون الأجسام الصفراء صفراء اللون قابل للإثبات، وعليه فيتحمّل كون المفاهيم الأخلاقيّة غير قابلة للتعريف ومع ذلك فالأحكام الأخلاقيّة.................

18 - بتعليل الواقعيّة غير القابلة للإثبات نصل إلى نتيجة مفادها................
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

176

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 الأسئلة

 
1 - أ - ما هو مرادف "عدم قابلية إثبات الأحكام الأخلاقيّّة" في نظرية الواقعيّّة غير القابلة للإثبات؟

ب - اذكر نوعين من هذه النظرية.

2 - أ - لماذا اعتقد كَانْتْ بعدم قابلية اثبات الأحكام الأخلاقيّّة؟

ب - ما هو إشكالك على أدلته؟

3 - أ - ما هو المراد من "الأمر المطلق" في نظرية العقل العملي عند كَانْتْ؟

ب - لماذا لا يمكن القبول بكون "الأمر المطلق" بديهياً؟

4 - كيف استنتج كَانْتْ كلّ الأحكام اللزومية والقيميّة في الأخلاق من "الأمر المطلق"؟

5 - هل يمكن اعتبار "الأمر المطلق" معياراً لتشخيص القواعد الأخلاقيّّة؟ لماذا؟

6 - مع أيّ مبنى من مباني كَانْتْ الأخلاقيّّة لا يتلائم ترجيح الميول الطبيعية على بقية الميول؟ أوضح ذلك؟

7 - أ - أعطِ مثالاً تتزاحم فيه هذه الوظيفة الأخلاقيّّة "لا ينبغي أنْ تذكر الآخرين بسوء" مع وظيفة أخلاقيّّة أخرى؟

ب - طبقاً لنظرية كَانْتْ, ماذا يجب أنّ نفعل في هذا المقام؟

8 - ما هي شروط القيمة الأخلاقيّّة في رأي كَانْتْ؟ أعطِ مثالين أحدهما يحتوي هذه الشروط والآخر لا يحتويها؟

9 - أ - عرّف "الشهود" باصطلاح الشهوديين؟

ب - ما هي الأمور الّتي يعتبرها أتباع الشهودية في الأخلاق بديهية وشهودية؟

ج - ما هي الأمور الّتي لم يوضح الشهوديون كونها بديهية؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
184

177

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

10 - أ - لماذا اعتقد الشهوديون بعدم قابلية إثبات الأحكام الأخلاقيّّة؟


ب - اذكر الإشكال على دليلهم.

11 - أ - اذكر في سطرين معنى اثبات الأحكام الأخلاقيّّة.

ب - لماذا تحتاج الأحكام الأخلاقيّّة للإثبات؟

للبحث

1 - مع الأخذ بالاعتبار عدم حاجة البديهيات للإثبات، إبحث في صدق أو كذب هذه البيانات:

أ - إنكار الرابطة بين "ما ينبغي" و"الواقع" هو من لوازم القبول بالواقعيّّة غير القابلة للاثبات.

ب - القبول بالواقعيّّة غير القابلة للإثبات من لوازم إنكار الرابطة بين "ما ينبغي" و"الواقع".

ج - القبول ببداهة قضية أخلاقيّّة واحدة على الأقل من لوازم القبول بالواقعيّّة غير القابلة للاثبات.

د - القبول بالواقعيّّة غير القابلة للإثبات من لوازم القبول ببداهة قضية أخلاقيّّة واحدة على الأقل.

2 - اقرأ هذه الفقرة بدقة:

من الممكن لأيْ قضية بديهية لا واسطة لها في الاثبات أنْ يكون لها واسطة في الثبوت، كما في قولك "أنا مسرورٌ" (لأنني وُفِّقت للقيام بعملٍ هام).

وكذلك من الممكن أنْ تكون القضية غير البديهية لها واسطة في الاثبات وليس لها واسطة في الثبوت، كما في قولك "الله موجود" (لكن لم يُوجده شخصٌ ما).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

178

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 وأيضاً من الممكن أنْ لا يكون للقضية لا واسطة في الاثبات ولا واسطة في الثبوت كما في قولك "العدد الزوجيّ هو العدد الّذي يقبل القسمة على اثنين).


وفي مقابل ذلك من الممكن أنْ يكون لها واسطة في الاثبات وواسطة في الثبوت أيضاً كما في قولك "كلّ متحرّك ناقص" (لأنه فاقد للفعلية على أيّ حال).

والآن ابحث حول هذه الأسئلة:

أ - ما المراد من الواسطة في الاثبات والواسطة في الثبوت؟

ب - هل أنّ مراد القائلين بالواقعيّّة غير القابلة للإثبات من أنّ الأحكام الأخلاقيّّة غير قابلة للاثبات، هو أنّ هذه الأحكام لا واسطة لها في الثبوت أم أنّه لا واسطة لها في الاثبات، أم الاثنان معاً؟

إقرأ
 
 هذا إذا قبلنا بوجود قضايا في الأخلاق يمكن تشخيص صدقها وكذبها، وقبلنا أيضاً بأنّ الطريق الوحيد لاثبات المعارف غير البديهية هو إرجاعها - بالاستدلال - إلى المعارف البديهية. ومن الواضح أنّ القائل بالواقعيّّة يقبل بالفرض الأول، وأما الفرض الثاني فإنّه يستلزم اعتبار النظرية المبنائية هي الصحيحة من بين النظريات الناظرة إلى الموجهات في علم المعرفة. وهذا الفرض يتم اثباته في هذا العلم، وهو مقبولٌ عند انصار الواقعيّّة غير القابلة للاثبات.

من الممكن أنْ يعتقد أنصار الواقعيّّة غير القابلة للإثبات ببديهية بعض الأحكام الأخلاقيّّة إلّا أنّهم يعتقدون أيضاً بامكان إثبات كلّ الأحكام الأخلاقيّّة - واحتمالاً حتى الأحكام البديهية - على أساس البيانات غير الأخلاقيّّة، ولكن على كلّ حالٍ فإنّ دعوى البداهة لبعض أو كلّ الأحكام الأخلاقيّّة يحتاج إلى إثباتٍ.ومن المناسب في هذا المقام أنْ نشير إلى ما استدل به بعض أهل الرأي على لزوم وجود بعض الأحكام العامة البديهية في الأخلاق، وباعتقاد هذا القائل أنّه وكما توجد بعض القضايا البديهية الّتي تمنع حصول الدور أو التسلسل في الاستدلال عند استنتاج الأحكام النظرية، كذلك الحال في استنتاج الأحكام العمليّة أيضاً أيّ لا بدّ من وجود مثل هذه 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
186

179

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 القضايا البديهية لعدم حصول الدور أو التسلسل، (راجع: جعفر سبحاني، حسن وقبح عقلى، تقرير علي رباني كلپايكاني، ص‏62 - 64).


إلا أنّ هذا الكلام قابل للمناقشة من جهتين:

الأولى: من الممكن إثبات وجود البيانات المبنائية عن طريق بطلان الدور أو التسلسل، ولكن لا يمكن اثبات بداهتها أيضاً بنفس الطريق، فلو أنكر أحدهم وجود أيّ قضية يقينية في الأخلاق فمن الممكن أنْ يقبل باستنتاج الأحكام الأخلاقيّّة بناءً على بعض القضايا المبنائية، مع اعتقاده بأنّ هذه القضايا المبنائية لا بديهية ولا يقينية، ورغم حاجتنا إلى إثباتها لا يمكننا إثباتها وإنما نقبل بها بنحو الظنّ أو أنّ نفترض مسبقاً صدقها فقط.

الثانية: إنّ مجرد القبول بكون بعض القضايا المبنائية بديهية سوف يسهل إمكانية المعرفة بسائر الأحكام الأخلاقيّّة، وبهذا الدليل المذكور لا يمكن إثبات لزوم كون هذه القضايا المبنائية أخلاقيّّة، لأنّه من الممكن لنا أنْ نستنتج الأحكام الأخلاقيّّة من قضايا مبنائية بديهية في غير الأخلاق، وبعبارة أخرى فإنّ هذا الاستدلال مبتنىً على التفكيك بين الأحكام النظرية والعمليّة وعلى عدم وجود الارتباط بين "ما ينبغي" و"الواقع".إلا أنّ الأحكام الأخلاقيّّة لما كانت مرتبطة بواقعيات أخرى فيكفي حينئذٍ وجود القضايا البديهية في غير الأخلاق للمنع من الدور والتسلسل ولإثبات المعارف الأخلاقيّّة اليقينية.

يعتقد بعض أنصار الواقعيّّة غير القابلة للإثبات بأنّ كلّ الأحكام الأخلاقيّّة - بل حتى الأحكام الشخصيّة والجزئية - لا يمكن إثباتها، وهذا ما يظهر من كلام بريتشار (أحد القائلين بالشهودية).

وذهب بعض آخر منهم إلى أنّ تلك الأحكام الأخلاقيّّة الجزئية أو الكلية المشتملة على مفاهيم خاصّة كمفهوم الحسن مثلاً لا يمكن إثباتها، وأما سائر الأحكام الأخلاقيّّة فيمكن إثباتها بإرجاع المفاهيم الأخلاقيّّة الواردة فيها إلى مفاهيم أخلاقيّّة أخرى. ومن هؤلاء يمكن الاشارة إلى مور الشهوديّ أيضاً.

وذهب قسم ثالث منهم إلى اعتبار أنّ أصلاً كلياً واحداً أخلاقيّاً لا يمكن اثباته - كما هو الحال في الأصل الّذي سماه كَانْتْ بالأمر المطلق -، وأما سائر الأحكام الأخلاقيّّة فيمكن إثباتها بارجاعها إلى ذلك الأصل الكليّ، وأما الواقعيّون الّذين لا يقبلون بأيّ شكل بالواقعيّّة غير القابلة للإثبات فإنّهم يعتقدون بأنّ تمام الأحكام الأخلاقيّّة تثبت في النهاية على أساس القضايا غير الأخلاقيّّة، حيث إنّ الحقائق الأخلاقيّّة غير منفصلةٍ عن الحقائق الأخرى الموجودة في هذا العالم، وكما يستفاد في هذه الحقائق من الوسائل والأساليب المعرفية لفهمها كذلك الحال في فهم الحقائق الأخلاقيّّة والاستدلال عليها.

وبالاستفادة من هذا النموذج الدائريّ يمكن بيان الحدّ الدقيق بين الواقعيّّة غير القابلة للإثبات والواقعيّّة القابلة للاثبات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

180

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 توضيح حول النموذج الدائريّ: مع القبول بالواقعيّّة، نأخذ قضية أخلاقيّّة كالأمر المطلق مثلاً ونسميها القضية(1)، وحينئذٍ إذا اعتقدنا بأنّها غير قابلة للإثبات كما يرى كَانْتْ فنكون قد قبلنا بالواقعيّّة غير القابلة للاثبات.


ومرة ثانية نأخذ هذه القضية "إنّ حفظ هذا المال عمل حسن" ونسميها القضية (1). وحينئذٍ إذا اعتقدنا بأنّها غير قابلة للإثبات فنكون قد قبلنا أيضاً بالواقعيّّة غير القابلة للإثبات في هذه القضية الشخصيّة الأخلاقيّّة، وإذا قلنا إنها قابلة للإثبات وتحتاج إلى الاستدلال فمن الممكن حينئذٍ اثباتها بالبيان التالي (سوف نستفيد في كلّ الاستدلالات من القياس الاقتراني "الشكل الأول"، وسوف نُرجع كلّ الاستدلالات الأخرى إليه، وكذلك فإنّ كلّ الاستدلالات افتراضية بمعنى أنّ ذكرها لا يدلّ لزوماً على صحتها أو مقبوليتها عندنا):
- حفظ هذا المال أمانة.

- الأمانة عملٌ حسنٌ.

- حفظ هذا المال عمل حسن.

وهنا سوف نسمّي الجملة الأولى "حفظ هذا المال أمانة" والتي هي صغرى القياس بالقضية (2)، والجملة الثانية "الأمانة عمل حسن" والتي هي كبرى القياس بالقضية(3).

وحيث إنّ القضية (2) غير أخلاقيّّة نضعها جانباً. وأما القضية (3) فهي أخلاقيّّة، وهنا نكرر السؤال السابق عن قابلية إثباتها أو عدم قابلية ذلك.

أي أنّنا في هذه المرة أيضاً نسمّي هذه القضية "الأمانة عمل حسن" بالقضية رقم (1) ونسأل هل أنّ هذه القضية غير قابلة للإثبات؟ إذا كان جوابنا عن هذا السؤال مثبتاً فقد قبلنا بالواقعيّّة غير القابلة للإثبات في فهم هذه القضية الكلية الأخلاقيّّة، وأما إذا كان الجواب منفياً فمن الممكن حينئذٍ إثبات هذه القضية الكلية على النحو التالي:
- الأمانة وظيفتنا.

- العمل الّذي هو وظيفتنا حسن.

- الأمانة حسنة.

وهنا سوف نسمّي الصغرى والكبرى بـ(2)و(3) على الترتيب، القضية (2) "الأمانة وظيفتنا" أخلاقيّّة.

وفي هذه الصورة في القضية (3) فإنّ المفهوم الأخلاقيّ "حسن" عُرِّف على أساس المفهوم الأخلاقيّ "الوظيفة".

لكن السؤال عن قابلية إثبات أو عدم قابلية الإثبات سيستمر في مورد القضية(2).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
188

181

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 وهنا مجدداً سوف نسمّي هذه القضية "الأمانة وظيفتنا" بالقضية (1) ونكرر السؤال السابق، إذا اعتقدنا بأنّها غير قابلة للإثبات فقد قبلنا بالواقعيّّة غير القابلة للإثبات بإرجاع المفاهيم الأخلاقيّّة إلى بعضها الآخر وإذا اعتقدنا بأنها قابلة للإثبات فمن الممكن إثباتها في نهاية الأمر مع قضية أخلاقيّّة غير قابلة للإثبات مع محمول "الوظيفة" أو مع قضية أخلاقيّّة غير قابلة للإثبات مع أحد المفاهيم الأخلاقيّّة الأخرى نظير "ما ينبغي" وفي كلّ هذه الصور نكون قد قبلنا بالواقعيّّة غير القابلة للإثبات.

 

 

 

 

 

 

 

189


182

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 لكن من الممكن أيضاً إثبات إحدى هذه القضايا، مثلاً القضية:


"الأمانة عمل حسن" بالبيان التالي:

- الأمانة مقدّمة للكمال.

- مقدّمة الكمال حسنة.

- الأمانة حسنة.

وفي هذه الصورة فإنّ كلتا المقدمتين في هذا الاستدلال ليست قضية أخلاقيّّة (إنّ عدم كون المقدّمة الأولى أخلاقيّّة واضح، وأما عدم أخلاقيّّة المقدّمة الثانية فلأن موضوعها ليس فعلاً أو صفة اختيارية بل خصيصة واقعيّة للصفات والأفعال الاختيارية ((الموضوع كونه مقدّمة للكمال أو علة له). نعم إنّ بعض الصفات والأفعال الاختيارية من مصاديق هذا الموضوع كما هو الحال في صغرى هذا القياس). وقد رجعنا إلى غير الأخلاق لإثبات قضية أخلاقيّّة، وحملنا المفاهيم الأخلاقيّّة على حقائق أخرى في الموضوعات الأخلاقيّّة نظير كونها مقدّمة للكمال، وفي هذه الصورة لم نقبل بالواقعيّّة غير القابلة للاثبات.

بالرغم من أنّ "أرسطو" وتبعاً له الفلاسفة وعلماء الأخلاق المسلمون قد استعملوا مصطلح العقل العمليّ في مقابل العقل النظريّ إلّا أنّ مرادهم من ذلك الاصطلاح يختلف عمّا اصطلحه "كَانْتْ" حيث إنّ له مبانيَ معرفية خاصّة به.

فالفارابي والمحقق الطوسي والمحقق الأصفهاني والعلامة الطباطبائي من جملة القائلين بكون العقل النظري هو المدرك للأمور غير الناظرة إلى الأفعال الاختيارية وأما العقل العمليّ عندهم فهو المدرك للأمور الناظرة إليها.

وأما أرسطو وابن سينا وملا صدرا فقد اعتبروا العقل النظريّ هو المدرك لكلّ الكليات (الأعم من كونها ناظرة إلى الفعل الاختياريّ أم لا) وأما العقل العمليّ فهو المدرك للجزئيات الناظرة إلى الأفعال الاختيارية. وهذه الادراكات في رأيهم تؤثّر بشكل مباشر في العمل، وفي اعتقادهم فإنّ العقل مشترك لفظيّ في هذين الموردين.

وأما بهمنيار والملا محمّد مهدي النراقي فقد اعتبرا أنّ العقل النظريّ مدركٌ وأما العقل العمليّ فهو محركٌ وعاملٌ وليس قوة إدراكية في الأساس.

وعلى الرغم من هذا الاختلاف في الاصطلاح - والذي هو مبهمٌ في بعض الموارد - إلّا أنّ الجميع متّفق على أنّ الحكمة - والتي هي المقسم للحكمة النظرية والحكمة العمليّة - هي العلم بالحقائق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

183

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

  الكلية وبناءً عليه فإنّ الفريق الأوّل يعتبر العقل النظريّ مدركاً للحكمة النظرية ويعتبر العقل العمليّ مدركاً للحكمة العمليّة.


وأما الفريقان الثاني والثالث فيعتبران أنّ المدرك لكلا القسمين هو العقل النظريّ أيّ أنّ العقل النظريّ يدرك العلوم الكلية الناظرة إلى العمل والتي تسمّى الحكمة العمليّة، وأيضاً يدرك العلوم الكلية غير الناظرة إلى العمل والتي تسمّى الحكمة النظرية، وكذلك فإنّ الجميع لا ينكرون الرابطة بين "ما ينبغي" و"الواقع" وإمكانية استنتاج الأحكام الأخلاقيّّة من الواقعيّات الأخرى.

وبناءً عليه لا يمكن اعتبار أيٍّ من هؤلاء من اتباع الواقعيّّة غير القابلة للإثبات. ولمزيد من التوضيح راجع: حسن معلمى، مبانى أخلاق در فلسفه غرب وفلسفه إسلامى، ص‏163 - 196، و272 - 282.

للاطلاع على نظرية كَانْتْ الأخلاقيّّة ونقدها وتحليلها راجع: محمّد محمد رضائي، تبيين ونقد فلسفه أخلاق كَانْتْ, ويليام كى، فرانكنا، فلسفه أخلاق، ص‏77 - 83.

يعتبر كَانْتْ العقل قوةً ويقسَم بلحاظ إدراكاته إلى العقل النظريّ والعقل العمليّ. "في نهاية المطاف فإنّ العقل واحد ولكنّ مصاديقه متفاوتة (من حيث النظريّ والعمليّ). (ايمانويل كَانْتْ، بنياد ما بعد الطبيعة أخلاق) تأسيس ميتا فيزيقيا الأخلاق، ترجمة حميد عنايت وعلي قيصري، ص‏9).

وفي رأي كَانْتْ فإنّ ادراكات العقل النظريّ والعمليّ متفاوتة إلى الحدّ الّذي لا يمكن عنده استنتاج ما يدركه أحدهما من الآخر. وإنّ معارف العقل النظريّ محدودة بالزمان والمكان بينما معارف العقل العمليّ مطلقة غير محدودة بالزمان والمكان.

وإنّ معارف العقل النظريّ تُقسَم إلى المتقدّمة والمتأخّرة، ومن أجل تشكيل المعرفة المتأخرة للعقل النظريّ لا بدّ ابتداءً من ورود مادة الاحساس، وعن طريق إحدى الحواس، إلى الذهن ومن ثمّ تُبدّل مع صور الزمان والمكان والتي يسمّيها كَانْتْ متقدمة وذهنية إلى مفهوم حسّيّ، ومن ثمّ فإنّ الذهن وبالاستفادة من المقولات الاثني عشر العاقلة والتي هي أيضاً في رأي كَانْتْ متقدمة وذهنية تُشكل المعرفة المتأخرة من المفاهيم الحسية.

إن هذه المعارف تركيبية دائماً ولا يمكنها أنّ تنبهنا إلى ما هو واقع في نفسه (Noumena).

وأما المعارف المتقدّمة للعقل النظريّ فإنّها تقسَم إلى طائفتين تحليلية وتركيبية، والشهود المحض للزمان والمكان يمكِّن من إدراك القضايا التركيبية المتقدّمة للعقل النظريّ.

وباعتقاد كَانْتْ فإنّ العقل العمليّ ومضافاً إلى الأخلاق فإنّه يشمل أيضاً فهم الإرادة الحرّة للإنسان وخلود النفس والله والتي تُعتبر جميعها من نتائج الأخلاق. ولا يُحدّ أيٌّ منها بالزمان والمكان، وجميعها متقدمة ويقينية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
191

184

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 واعتبر كَانْتْ أنّ اثبات هذه الأمور لا يرتبط بالعقل النظريّ وأنّ الاعتقاد بها ملازمٌ لقبول القواعد الأخلاقيّّة.


وبناءً على هذا فإنّ إثبات الله والإرادة الحرة للإنسان وخلود النفس - بناءً على فلسفة كَانْتْ - لا يمكن عن طريق العقل النظريّ وإنما يمكن إثباتها فقط بعد الأخلاق وعن طريقها لا غير.

ويعتقد كَانْتْ بأنّ كلّ القواعد الأخلاقيّّة تتحصّل من أصل كلّيّ واحد بديهيّ هو الأمر المطلقَ والذي يُعدّ من الأحكام التركيبية المتقدمة للعقل العمليّ، ويمكن ادراكه من خلال مفهوم الحرية ومقولاتها.

وهناك اشكالات متعدّدة - تُطرح في علم المعرفة - بالنسبة لكيفية ادراك الواقعيّات التجريبية بالعقل النظريّ، وأيضاً حول اعتبار الزمان والمكان ذهنيين، وعلى ما سماه كَانْتْ مقولات الفاهمة والظاهر أنّ كَانْتْ كان يسعى بربطه المعارف المتأخرة النظرية بالشهوديات المحضة زماناً ومكاناً وبالمقولات الفاهمة إلى تعيين مكانة هذه الأمور في المعرفة والاجابة على "هيوم".

ومع الالتفات إلى أنّ هذا العمل يستلزم فقدان المعرفة اليقينية بالواقعيّات التجريبية في نفسها فإنّ كَانْتْ سعى من خلال التفكيك بين العقل النظريّ والعمليّ إلى نجاة الأخلاق ويقينية خلود النفس ويقينية وجود الله، لكنّ سعيه في البعد النظريّ للعقل أدّى إلى الشكية والنسبيّة وأيضاً إلى عدم اتقان مباني العقل العمليّ وعرّض الّذين يقبلون هذه المباني إلى مواجهة العديد من الإشكالات والمشكلات في إثبات الأخلاق وتوابعها.

كما أشرنا في المذكرة السابقة فإنّ كَانْتْ اعتبر أنّ بعض "الواقعيّات" كوجود الله وإرادة الإنسان الحرّة وخلود النفس والتي تشبه أحكام الطبيعة وأنها غير محدودة بزمان أو مكان تنتج من "الواجبات" إلّا أنّه وحيث يعتبر أنّ مرجع كلّ أحكام العقل العملي هو الأخلاق فإنّ هذه الواجبات الأخلاقيّّة لا تقبل الاستنتاج باعتقاده لا من الواقعيّات الطبيعية المرتبطة بالعقل النظريّ. ولا من الواقعيّات غير الطبيعية، وعليه فإنّه يعتقد بأنّ الواجبات مطلقاً لا يمكن استنتاجها من الواقعيّات.

بالرغم من أنّ كَانْتْ كان يسعى إلى ابتناء "الأمر المطلق" على مفهوم "الحرية" فإنّه أراد بهذا الطريق وباستنتاج استعلائيّ أنْ يشير إلى إمكانية كون الأمر المطلق بمنزلة قضية تركيبية متقدمة لا إنّه أراد إثبات ذلك بهذا الطريق.

إنّ كَانْتْ من طرفٍ ما يؤكد على كون الأمر المطلق بديهياً ويقينياً وعلى عدم إمكان إثباته من خلال الواقعيّات الخارجة عن الذهن، ومن طرف آخر يعتبر مفهوم الحرية بمنزلة شرط مسبق لازم للأخلاق، 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
192

185

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 ويصرح بأنّ الحرية لا يمكن أنْ تتأتّى أبداً من خلال الفهم والنظر (بنياد ما بعد الطبيعة أخلاق، ترجمة حميد عنايت وعلي قيصري، ص‏130 - 131).


وأما كيف يمكن تحقق نفس هذا الافتراض المسبق، فإنّه لا يمكن بتاتاً وفي أيّ وقتٍ من إدراكه بواسطة أيّ عقل بشريّ، (نفس المصدر، ص‏134).

في رأي كَانْتْ حتى لو كان شكل عمل الفاعل مطابقاً للوظيفة الأخلاقيّّة إلّا أنّ الفاعل لمّا قام به بنية أخرى كتحصيل المنفعة الشخصيّة أو اللذة أو الكمال الحاصل منه فلن يكون لعمله أيّ قيمة أخلاقيّّة. ومثالاً على ذلك فإنّ التاجر الّذي يكون أميناً لأجل منفعته الشخصيّة أو ذلك الّذي يعطف على الآخرين لمجرد ميله لفعل الخير، لن يكون لفعلهما أيّ قيمة واقعيّة أخلاقيّّة (راجع: بنياد ما بعد الطبيعة أخلاق، ترجمة حميد عنايت، وعلي قيصري، ص‏18 - 21).ويمكن اقتباس دليل كَانْتْ على اعتبار شرط النية من خلال كلماته: "إنّ الذكاء والذوق والتمييز والاستعدادات الأخرى للذهن وبأي اسمٍ قرئت وعُبِّر عنها، وكذلك الشجاعة والهمة والمساعدة بعنوان أنها أوصاف الطبع والخلق وبلا أيّ شكّ وترديدٍ ومن جهات مختلفةٍ حسنةٌ ومرضيةٌ. لكن إذا لم تكن نية الاستفادة من هذه الأمور وكذلك الخصال الناتجة عنها حسنة، فإنّ مواهب الطبيعة هذه ستكون قبيحة ومؤذية جداً" (نفس المصدر، ص‏12).
وكذلك "فإنّ الاعتدال في الأحاسيس والعاطفة وضبط النفس والصبر... حسنة من عدة جهات... إلّا أنّها لا تستحقّ أنّ توصَف بالحسن مطلقاً وبلا أيّ قيد أو شرطٍ...، لأنّه إذا أُريدَ الاستفادة من هذه الأصول بلا أيّ نية حسنة فسوف تكون قبيحة جداً. فالمجرم الهادئ الّذي يقتل بدمٍ بارد ليس أخطر من المجرم الغاضب فحسب بل إنّه في نظرنا أدعى للتنفر والاشمئزاز" (نفس المصدر، ص‏.13) والظاهر أنّ كَانْتْ تمسك في اشتراط النية الحسنة لحسن الأفعال بالفهم العرفيّ فقط.

وقد أنكر كَانْتْ ارتباط قيمة العمل بنتائجه: "إنّ مقاصد أعمالنا الّتي نأخذها بالحسبان أو آثارها ونتائجها الّتي تُعتبر بمنزلة الغايات والمحركة لميولنا وإرادتنا، لا يمكنها أنْ تهب أيّ قيمة مطلقة (بلا أيّ شرط) أو أخلاقيّّة لنفس تلك الأعمال"(نفس المصدر، ص‏23). 

"إنّ كلّ الغايات الّتي يقررها أيّ عاقل بإرادته بعنوان أنّها آثار أعماله (أي الغايات المادية) نسبية صرف، لأنّ الرابطة والنسبة بينها وبين الميول والأماني الخاصّة بكل إنسان هي الأساس لقدرها وقيمتها ولهذا السبب لا يمكن أنْ تكون بمثابة أصول عامة وكلية وضرورية لكل إنسان عاقل ولكل الإرادات وبعبارة أخرى لا يمكن أنّ تعطينا قواعد عامة كلية. ولذا كانت هذه الغايات النسبيّة فقط منشأً للزوميات 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

186

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 الافتراضية "أو الشرطية". (نفس المصدر، ص‏72) وبناءً عليه اعتبر كَانْتْ أنّ منشأ قيمة كلّ الأفعال هو نية الخير: "إن هذه القيمة لا يمكن أنْ تتضمن أيّ شي‏ء إلّا مع وجود أصل النية" (نفس المصدر، ص‏24).ومضافاً إلى ذلك اعتبر كَانْتْ أنّ قيمة نية الخير ذاتية وغير مشروطة: "لا يمكن استحضار أيّ شي‏ء في هذا العالم - وحتى خارج هذا العالم - إلى الذهن واعتباره حسناً بلا أيّ قيد وشرط إلّا (النية أو) إرادة الخير" (نفس المصدر، ص‏12).


لكن ما هي نية الخير أو إرادة الخير؟ يجيب كَانْتْ عن ذلك بأنّ "إرادة الخير هي الإرادة الّتي تؤثّر في القيام بالتكليف" (محمد محمّد رضائي، تبيين ونقد فلسفه أخلاق كَانْتْ، ص‏53، نقلاً عن:Immanuel Kant, Ground Word of the Meta phisics of Morals, te.H.Jpaton, in The Moral Law, p62).

وقد تمسك كَانْتْ هنا أيضاً بالفهم العرفيّ والطبيعيّ لإقرار هذه المعادلة، حيث يقول: "والآن سوف نتعرّض لشرح مفهوم الإرادة (والنية) والتي يجب علينا أنّ نقدرها لذاتها، لأنها حسنة بذاتها وبلا أيّ مقايسية مع شي‏ء آخر. إنّ هذا المفهوم مودع في (ذات) كلّ فهم طبيعيّ وسالم ولا يحتاج إلّا إلى ابرازه لا تعلّمه ونحن نفترضه دائماً بشكل مسبق في تقييم أيّ عمل وهو شرط لكلّ الأعمال الأخرى أيضاً، ولذا لو أخذنا مفهوم "الوظيفة" مثلاً فإنّها متضمّنة لمفهوم إرادة الخير في نفسها" (ايمانويل كَانْتْ بنياد ما بعد الطبيعة أخلاق، ترجمة حميد عنايت وعلي قيصري، ص‏18).وبناءً على ما تقدّم فإنّ كَانْتْ استنتج أنّ حسن الأفعال مشروط بالإضافة إلى مطابقة الفعل للوظيفة الأخلاقيّّة أنّ يؤدّى ذلك الفعل بنية القيام بالوظيفة الأخلاقيّّة.

إلا أنّ هذا القسم من كلام كَانْتْ لا يخلو من الاشكال:

أولاً: إنّ اشتراط القيمة الأخلاقيّّة للأفعال بالنية مضافاً لكونها موافقة للفهم العرفيّ - ومثالاً على ذلك فإنّ العرف يفرّق بين من يمتنع عن أكل طعام ما لأجل أنْ يأكله غيره وبين من يمسك عنه لأجل الامتلاء والشبع في تقييم عملٍ كلّ منهما - فإنّه يمكن اثباتها بالدليل العقلي أيضاً، وهذا الشرط من النكات الايجابية في نظرية كَانْتْ الأخلاقيّّة، إلّا أنّه من غير المعلوم وجه اعتبار نية الخير كقيمةٍ ذاتية، حيث إنّ ضرورة كون نية الخير خيراً كضرورة كون فعل الخير خيراً ضرورة شرط المحمول وفي نفسها، لا أنها تتعيّن لجهة كونها خيراً أو لنوع النيّة أيضاً.

وهذا نظير قولنا إنّ الأمانة ذاتاً حسنة، والقول الحسن بذاته حسن والعمل بالوظيفة في ذاته وظيفتنا.

وطبقاً لما ذكرناه حول القيمة الأخلاقيّّة في الفصل الثالث فإنّ الكمال الاختياري للإنسان وحده له 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
194

187

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 قيمة ذاتية وأما قيمة كلّ الصفات والأفعال الاختيارية فغيرية وتتعيّن بالالتفات إلى نتائجها.


فالنية بمنزلة العلّة الغائية أو العلة الفاعلية للفاعل الاختياريّ لها قيمة غيرية أيضاً، وحيث إنّ الفعل الاختياريّ لا يتحقّق من دونها اعتُبرت من عوامل تعيين درجة القيمة الغيرية لذلك الفعل (سيأتي توضيح هذا المطلب في الفصل العاشر من هذا الكتاب).

ثانياً: المتحصّل من كلام كَانْتْ أنّه إنّما أنكر ارتباط قيمة الفعل بنتائجه لأنّه يظن أنّ الرابطة بين الأفعال ونتائجها ترتبط بالميول الخاصّة لكل إنسان ومن أجل ذلك فإنّها مشروطة ونسبية، ولذا لو أخذنا قواعد كلية من هذه الرابطة فلن نستطيع الوصول في الأخلاق إلى أصول عامّة وضرورية.

إلا أنّ هذه الشبهة - أيّ نسبية القواعد الأخلاقيّّة - ترتفع بالالتفات إلى أنّ كلّ الناس مشتركون في إرادتهم وطلبهم لكمال أنفسهم وهذا المطلوب العامّ والمشترك هو المبنى لاستنباط الأصول الأخلاقيّّة.

ثالثاً: تمسّك كَانْتْ بالفهم الطبيعيّ لاعتبار تطابق نية الخير ونية القيام بالوظيفة الأخلاقيّّة في أفعال الإنسان الاختيارية، والذي يبدو لنا أنّ الفهم الطبيعي مخالف لذلك.

والدليل على هذا الأمر أنّ الناس ورغم الاختلاف الطبيعي المتعدد بينهم من حيث العرق واللون واللغة إلّا أنهم مشتركون في منشأ الميول والحاجات والرغبات. إنّ كلّ الناس ملتفتون إلى وجودهم وإمكان وصولهم لكمال أنفسهم وهم يسعون من أجل الوصول إلى هذا الكمال. ولهذا فإنّ القواعد الأخلاقيّّة الّتي تشير إلى طريق وصول هؤلاء إلى هدفهم المشترك - وبغضّ النظر عن القيود المعينة للشرائط الواقعيّّة من أجل تحصيل ذلك الهدف - كلية وعامة.

ومن جهة أخرى فإنّ المقصود من هذه القواعد هو هداية السلوك والصفات الاختيارية باتجاه هذا الهدف. وبناءً عليه ولإمكانية تطبيقها لا بدّ أنْ لا تتعارض فيما بينها ولا مع الواقعيّات الأخرى، أيّ أنّه مع افتراض وجود التزاحم فيما بينها لا بدّ من تعيين التكليف الأخلاقيّّ عند حصوله وأيضاً تعيين درجات القيمة فيها لتعيين القيم البديلة حينئذٍ.

ولهذا لا بدّ من اثبات لزوم هذه القواعد الأخلاقيّّة ونحو العموم فيها وملاءمتها بعضها مع بعض ومع بقية الواقعيّات الأخرى في هذا العالم. ومضافاً إلى هذا فإنّ القول ببداهة "الأمر المطلق" غير مقبولٍ.

إنّ هذا الإشكال شبيه بالإشكال الوارد على نظرية المعرفة من حيث انسجام المعارف في صدق المعرفة والذي يقول: مع أنّ اللازم كون المعارف الصادقة منسجمة ومتلائمة بعضها مع بعض إلّا أنّ ذلك لا يكفي لصدقها ومطابقتها مع الواقع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

188

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 والملفت للنظر اعتقاد كَانْتْ عند تقريره "الأمر المطلق" بأنّ الإنسانية غاية في نفسها ومستقلّة ولها قيمة مطلقَة، وبأنّ قيمة أفعال الإنسان مشروطة بعدم تنافرها مع شخصية الإنسان بل هي مشروطة بملاءمتها معها ومع تقدّم الإنسان وتطوره. (راجع: ايمانويل كانت، بنياد ما بعد الطبيعة أخلاق، ترجمة حميد عنايت، وعلي قيصري، ص‏72 - 77).


إلا أنّه يعتقد بأنّ كون الإنسان أو ذاته العاقلة غاية يتفاوت مع الغايات الأخرى من جهة أنّ هذه الغاية ليست أمراً لا بدّ من تحقق فعليته بل هي موجودة بشكل مستقلّ.

وأيضاً فإنّ المراد من اعتباره غاية هو ألاّ ينظر إلى الإنسان على أنّه وسيلة (راجع، نفس المصدر، ص‏89).

ولكنه وبالاستفادة من نفس هذا التقرير عن "الأمر المطلق"، ولإثبات أنّ التسامح في تنمية الاستعدادات مخالف لوظيفتنا يقول بصراحة: "يمتلك الآدميون مؤهّلات للوصول إلى الكمال، ترتبط بالغاية المأخوذة في نظر الطبيعة بالنسبة للإنسانية (الموجودة) عندنا بعنوان الفرد، وإنّ التقصير في (تنمية) هذه المؤهلات ربما يتطابق مع النظر إلى الإنسانية بعنوان أنها غاية مستقلة، إلا أنّها لا تنسجم مع تطور هذه الغاية". (نفس المصدر، ص‏76 - 77) وبناءً على هذا كأنّ كَانْتْ ولأجل ترجيح إرادة تنمية الاستعدادات والمؤهلات - والتي يعتبرها إرادة طبيعية عند الإنسان لأنّه موجود عاقل - على "كمال الإنسان" أو تطوّره، تمسك - غافلاً - بالإنسانية على أنها غاية طبيعية عند الإنسان. وحينئذٍ فإنّ هذا الكلام يبطل مبانيه القائلة بعدم ارتباط الأحكام الأخلاقيّّة بالواقعيّات الأخرى، وعدم ارتباط قيم الأفعال بنتائجها وأهدافها.
بل إنّ الشرط الوحيد في رأي كَانْتْ للوظيفة الأخلاقيّّة هو إمكان إرادة تعميمها.

وهنا نسأل: هل بالإمكان وجود إرادة التعميم للقواعد الأخلاقيّّة المتزاحمة بعضها مع بعض؟ وهل من الممكن أنّ نطلب تعميم قاعدتين أخلاقيّتين إلّا أنّه مع التعميم لن يمكن العمل بهما معاً في بعض الموارد؟ والظاهر أنّ العديد من الوظائف الأخلاقيّّة الّتي استشهد بها كَانْتْ - كالوفاء بالعهد والأمانة - ليس لها هذه الخصائص بل وبناءً على الأمر المطلقَ لا يمكن اعتبارها أساساً وظائف أخلاقيّّة.

وأيضاً لا بدّ من الالتفات إلى هذه الملاحظة وهي أنّ بعض القوانين الطبيعية قد تقبل الاستثناء أحياناً وفي بعض الموارد الخاصّة فقط، إلّا أنّ هذه القوانين بالنسبة لموضوعاتها الواقعيّّة - أيّ أنّ لها قيوداً وشرائط واقعيّة في ضمن موضوعاتها - كلية لا تقبل الاستثناء، فمثلاً عندما نقول إنّ "الماء يغلي عند درجة 100 مئوية إلّا إذا كان الماء غير خالص أو كان ضغط الهواء أقل من واحد اتمسفر" فإنّ هذا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
196

189

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 معناه أنّ الماء الخالص ضمن ضغط الهواء البالغ واحد اتمسفر يغلي دائماً على درجة 100 سانيتغراد مئوية.


يُطلق الشهود على الأسلوب الّذي يقع في طياته أمر قابل للشهود، وأيضاً على نفس المورد الّذي يقع الشهود عليه. والمراد من العلم الشهودي باصطلاح الشهوديين هو العلم البديهيّ في مقابل العلم النظريّ، وطبقاً لاصطلاح آخر فإنّ الشهود يطلق على العلم الحضوريّ.

الشهودية ترتبط بالأشياء الّتي يمكن دركها بالشهود، كالحسن والوظيفة، والشهود أنواع متفاوتة كلية وانتزاعية أو عينية وجزئية ويعتبر جورج إداورد مور - فيلسوف بريطاني - أنّ مورد الشهود الأخلاقيّّ هو الحسن والقبح.

وأما هارولد آرثور بريتشارد (Harold Arthur prichard) (1871 ـ 1947م) وجوزيف باتلر(Joseph Butler) (1692 ـ 1752م) - فيلسوف في الأخلاق والدين - فذهبا إلى أنّ مورده الوظيفة والإلزامات الأخلاقيّّة.

وذهب ويليام دايفيد روس (Willam David Ross) (1877 ـ 1971م) - فيلسوف أخلاق بريطانيّ - إلى أنّ مورده الوظائف الأخلاقيّّة بالنظرة الأولية ( prima Facie Duty) في مقابل الوظائف الأخلاقيّّة في مقام العمل.

واعتبر البريطاني ريتشارد برايس (Richard price) (1723 ـ 1791م) وهنري سيجيفيك (Henry Sidgwick) ( 1838 ـ 1900م) أنّ موارد الشهود كلية وانتزاعية. وأما بريتشارد وباتلر فذهبا إلى أنها جزئية وعينية.

وعادة فإنّ الّذين يعتبرون الشهود عقلياً - أمثال برايس ومور - يعتقدون بأنّ موارد الشهود كلية وانتزاعية، وأما الّذين يعتبرونه نوعاً من الحسّ الأخلاقيّّ ويشبه الادراك الحسيّ أمثال بريتشارد وتوماس رايد (Thomas Ried) (1710 ـ 1796م) فإنّهم يعتقدون بكونها جزئية وعينية.

In Edward Craig, ed. Routledge "Intuitionism in Ethics", See: Robert L. Fraizer,(Encyclopedia of philosophy v o l.4, p.853 - 856).

وأيضاً لمزيد من التفصيل حول الشهودية وخصوصاً نظرية "مور" الأخلاقيّّة والانتقادات الواردة عليها راجع، ج. وارنوك، فلسفة أخلاق در قرن حاضر، ترجمة صادق لاريجاني، ص‏6 - 23, مرى وارنوك، فلسفة أخلاق در قرن بيستم، ترجمة أبو القاسم فنائي، ص‏45 - 101.

الأكثر اعتدالاً من بين الشهوديين هو روس (Ross) حيث إنّه ومع اعتقاده بكون المفاهيم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

190

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

  الأخلاقيّّة بديهية وشهودية فإنّه يعتقد، أولاً: بأنّ تشخيص الوظيفة الأخلاقيّّة بديهيّ فقط في بعض الموارد، وأيضاً قبل تزاحم الوظائف بعضها مع بعض وبالنظرة الأولية.


ثانياً: مع أنّه يعتقد بأنّ المفاهيم الأخلاقيّّة غير قابلة للتعريف (راجع: مرى وارنوك، فلسفة أخلاق در قرن بيستم، ترجمة أبو القاسم فنائي، ص‏97) فإنّ الظاهر أنّه لا يقطع بعدم قابليتها للتعريف (راجع: نفس المصدر، ص‏100).ومن طرف آخر فإنّه مع تفكيك بداهة هذه المفاهيم وعدم قابليتها للتعريف عن علة ثبوتها، يرى بالامكان التحقيق حول المسألة الثانية. (راجع، ج وارنوك، فلسفة أخلاق در قرن حاضر، ترجمة صادق لاريجاني، ص‏16 و17).

لا بدّ من الالتفات إلى أنّنا في فلسفة الأخلاق وبعد القبول بالواقعيّّة نتلمّس الطريق لفهم صدق أو كذب كلّ الأحكام الأخلاقيّّة.

وإذا لم يكن أيّ حكم أخلاقيّّ بديهياً فإنّ الطريق الوحيد لاثبات مجموع الأحكام الأخلاقيّّة هو البرهان "اللمّي". وبناءً عليه فإنّ مسألة إثبات الأحكام الأخلاقيّّة هي مسألة كشف علة حسن الأفعال والصفات الحسنة، وعلة قبح الأفعال والصفات القبيحة، وعلة لزوم القيام بالأفعال أو تركها، ووجود أو عدم وجود الصفات الخاصّة. وعليه إذا لم نستطع إدراك علة ثبوت المفاهيم الأخلاقيّّة لموضوعاتها فلن ندرك علة ثبوت الأحكام الأخلاقيّّة أيضاً وبالتالي ستكون هذه الأحكام غير قابلة للاثبات.

وكأن الشهوديين ظنوا بأنّ ما يمكن أنّ يكون واسطة في الثبوت لمجموع الأحكام الأخلاقيّّة هو ذاتيات المحمولات فقط (مقومات المفاهيم الأخلاقيّّة). ومع اعتقادهم بعدم قابلية تعريف المفاهيم الأخلاقيّّة (بالذاتيات) أنكروا إمكان كشف علة ثبوت هذه المفاهيم للموضوعات الأخلاقيّّة وبالتالي اعتقدوا بأنّ الأحكام الأخلاقيّّة غير قابلة للإثبات.

إذا كان لدينا حكم أخلاقيّ عام بديهي نظير "مساعدة الآخرين حسنة" فمن الممكن استنتاج مصاديقه منه كقولنا "الانفاق حسن" أو قولنا "إنّ مساعدتك اليوم لجارك عمل حسن".

ولكن من الواضح أنّنا نحتاج في هذا النوع من الاستنتاج إلى القضايا الأخلاقيّّة أيضاً. وقد عدّد "مور" (Moore) بعض القواعد الأخلاقيّّة العامة البديهية في كتابه مباني الأخلاق.

تنبه "مور" نفسه إلى صعوبة هذا العمل، وتردّد بالنسبة لامكان حصول الاطمئنان بماهية وظيفتنا على كلّ حال، حتى أنّه أوصى - في أغلب الموارد - كلّ شخص بمتابعة التوافقات الحاكمة في مجتمعه. (راجع: ج، وارنوك، فلسفة أخلاق در قرن حاضر، ترجمة صادق لاريجاني، ص‏11، نقلاً عن: (G.E. Moore,principia Ethica, p162).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

191

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 إلا أنّ مور في كتابه الأخلاقيّّ مال إلى أنّ الوظيفة وصف قابلٌ لشهود آخر (راجع: مرى، وارنوك، فلسفة أخلاق در قرن بيستم، ترجمة أبو القاسم فنائي، ص‏83 - 84).


يمكن تقرير هذا الإشكال بنحو أكمل بالبيان التالي:

لا بدّ من الالتفات إلى أنّ مجرد كون الأحكام الأخلاقيّّة غير قابلة للإثبات لا يعدّ دليلاً كافياً لبديهية صدقها، ولهذا السبب توسل الشهوديون لإثبات صدق الأحكام الأخلاقيّّة بكون بعضها على الأقل شهودي وبديهي.

(إذا كان المفهوم (= التصور) غير قابلٍ للتعريف فاللازم أنْ يكون بديهياً، وهذا صحيح لأنّ المفهوم الذهنيّ إذا لم يمكن حصوله من المفاهيم الأخرى فسيحصل بشكل مباشر، ولكن إذا كانت القضية بكاملها غير قابلة للإثبات فصدقها غير بديهيّ لزوماً لأنّه من الممكن وجود تصوّر لهذه القضية في الذهن إلّا أنها غير قابلة للتصديق لا بشكل مباشر (أي بشكل بديهيّ) ولا بشكل غير مباشر (عن طريق تصديقات أخرى).

لكن لا بدّ أنّ نسأل الشهوديين عن مرادهم من كون بعض الأحكام الأخلاقيّّة على الأقل شهودية وبديهية، هل مرادهم بداهتها المعرفية أم بداهتها النفسية،؟ فباللحاظ المعرفي فإنّ القضية البديهية لا تحتاج منطقياً لأيّ تصديق آخر من أجل فهم صدقها، واصطلاحاً فإنّها موجهة بنفسها وأما باللحاظ النفسي فإنّ القضية البديهية هي الّتي ندركها لنفسها بشكل واضح ولا نطالب بالدليل عادة في موردها.

وعليه إذا كان مراد الشهوديين بالبداهة البداهة المعرفية فلا بدّ أنْ يوضحوا لنا كيفية كون الأحكام الأخلاقيّّة موجهةبنفسها، والحال أنّهم لم يقوموا بذلك، وأما إذا كان مرادهم منها البداهة النفسية لهذه الأحكام فمضافاً إلى صعوبة إثبات ذلك لن يكون لدينا أيّ دليل حينها على صدق هذه الأحكام.

اختلف استدلال الشهوديين في كيفية كون الأحكام الأخلاقيّّة غير قابلة للاثبات، فذهب بعضهم لإثبات ذلك إلى الاكتفاء بالفهم العرفيّ فقط، ومثالاً على ذلك إنّ الناس عندما يعتقدون بكون أيّ فعل حسناً فلا يستدلون على أنّ هذا الفعل موجب للسعادة أو اللذة أو الكمال أو... الخ إذ إنّ الحُسن ليس بمعنى الواهب للسعادة أو اللذة أو الكمال...

إلا أنّ هذا الدليل غير صحيح لأنّه من الممكن أنْ لا يكون للناس وفي أكثر معارفهم دليل عليها أو تعليل لها وإنما قبلَ بها أكثر الناس لأنها مشهورة عندهم وفيما بينهم.

وقد أتى "مور" بالبرهان المعروف بالسؤال المفتوح ( open question) للاستدلال على عدم قابلية تعريف مفهوم "الحسن".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
199

192

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 وخلاصة هذا الدليل ما يلي:


إذا أمكن تعريف "الحسن" بناءً على وصفٍ آخر نظير "أ" مثلاً فحينها يمكن القول إنّ ما يمتلكه الوصفُ "الف" حسنٌ.

ومن طرف آخر نعلم بأنّ التعاريف لها نفس المؤدّى والسؤال عنها سيكون لغواً وبلا داعٍ.

مثلاً إذا أمكن تعريف "ب" بـ "ج" فإنّ السؤال عن كون "ب" هل هي "ج" بلا داعٍ ولغوٌ.

وأما ما بإزاء كلّ "أ" إذا سئل عن حسن الوصف الموجود في "أ" فسيكون السؤال في مورده وذا معنى، مثلاً إذا افترضنا أنّ "أ" هي السعادة أو اللذة فيمكن السؤال عن حُسن الشي‏ء المتضمن للسعادة أو اللذة.

ولذا فلنْ توجد أيّ "أ" يمكن أنْ تعدّ تعريفاً "للحسن" وبناءً عليه فإنّ "الحسن" غير قابلٍ للتعريف.

وهنا توجد عدة ملاحظات على برهان مور "السؤال المفتوح":

1 - إذا أمكن تعريف "ب" بـ"ج" فالسؤال عن كون "ب" هي "ج" ممن لا يعرف هذا التعريف في محله، مثلاً السؤال عن كون الإنسان هل هو الحيوان الناطق في محله عند من لا يعرف تعريف الإنسان بأنّه حيوان ناطق.

2 - من غير المعلوم كيفية اثبات "مور" لهذه القاعدة الكلية الّتي تقول إنّ السؤال في محله عمّا هو بإزاء كلّ "أ".

حيث إنّ ذكر بعض المصاديق كالسعادة واللذة لا يكفي لاستنتاج هذه القاعدة الكلية.

3 - من الممكن القبول بأنّ لدينا دركاً بسيطاً عن مفهوم "الحسن" إلّا أنّ ذلك لا يعدّ دليلاً على عدم قدرتنا على تفصيله إلى أجزاء مفهومية وتعريفه، مثلاً إنّ وجع الضرس حالة يدركها المبتلى بها بدرك بسيط، ولكنه بامكانه أنْ يفصلها إلى أجزاء مفهومة ويقول في تعريفها هي وجع تشعر به في الضرس.

ومن الواضح أيضاً أنّ لا يتوقع من التعريف الادراك الحضوري للمُعرَفِ.

4 - صحيح أنّ نفس مفهوم الحسن بسيط - وليس ادراكه - لا يقبل التعريف بالذاتيات، إلّا أنّ تعريف المفهوم لا ينحصر بها بل يمكن تعريفه باللوازم أيضاً، أيّ أنّه من الممكن أنْ يقال إنّ "الحسن" حقيقة بسيطة لا يمكن تعريفه بالحد ولكن يمكن تعريفه بالرسم والذي هو من لوازمه.

ومع الالتفات أيضاً إلى أنّ مفهوم "الحسن" مفهوم فلسفيّ وليس مفهوماً ماهوياً فبالامكان تعريفه عن طريق تعريف منشأ انتزاع ذلك المفهوم. وبعبارة أخرى يمكن تعريف "الحسن" بذكر الشرائط اللازمة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
200

193

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 في الشي‏ء الحسن لنتمكن حينها من انتزاع مفهوم "الحسن" منها.


5 - من الممكن القبول بكون المفاهيم الأخلاقيّّة بديهية إلّا أنّ أمثال هذه المفاهيم: "الحسن، الصواب والوظيفة" - وكما ذكّر بذلك العديد من فلاسفة الأخلاق - لها معانٍ متعدّدة وقد استُعملت في الأخلاق بمعنى خاص يختلف عن بقية المعاني.

وعليه إذا كان لمفهومٍ ما معانٍ متعدّدة، فإنّ بداهة أحدها أو كلها لا يغنينا عن توضيح مرادنا ومقصودنا في كلّ مورد من موارد استعمالها. ولذا لا بدّ لفيلسوف الأخلاق أنْ يعيّن المعنى المستعمل في الأخلاق من بين معاني مفهوم "الحسن" حتى ولو كان ذلك المعنى بديهياً، والسؤال هنا: أيّ نوعٍ من الحسن هو حسن الأخلاق؟

6 - الظاهر أنّ برهان السؤال المفتوح الّذي استدلّ به مور على بداهة الأحكام الأخلاقيّّة وعلى فرض تماميته دليلٌ على عكس ما ادّعاه مور أيّ أنّه دليل على عدم بداهتها.

لأنّه إذا كان في محله أنْ نسأل عمّا بإزاء "أ": هل أنّ الشي‏ء المتضمن لوصف "الف" حسنٌ، فإنّ حكم "الف حسن" بإزاء كلّ "أ" ليس بديهياً، لأنّه إذا كان السؤال عن التعاريف في غير محلّه فالسؤال أيضاً عن الأحكام البديهية في غير محلّه ولذا وبنفس هذا البرهان والدليل نستنتج أنّ أيّ حكمٍ أخلاقيّّ مشتمل على "الحسن" ليس بديهياً.

وبعبارة أخرى فإنّ معرفة مفهوم "الحسن" إنما هو لتعيين محلّ النزاع وليس لحلّ النزاع.

ففي فلسفة الأخلاق نريد أنّ نعرف ما هي علة حسن الأشياء الحسنة. وكما هو معروف فإنّ علّة ثبوت المحمول للموضوع لا ينحصر في ذاتيات المحمول.

لنفرض أنّ مفهوم "الحسن" بديهيّ وغير قابلٍ للتعريف أيّ أنّنا لفهم معنى هذا المفهوم لا نحتاج إلى أيّ توضيحٍ بل لا يوجد أيّ توضيح ممكن له. إلّا أنّ السؤال الباقي دائماً هو حول ماهية منشأ الحسن.

وقد تنبه روس (Ross) إلى هذا الاشكال جيداً أيّ أنّ هناك تفاوتاً بين بداهة المفهوم وعدم قابليته للتعريف وبين علّة ثبوته لموضوعه.

ومع أنّه قائل بالشهودية وبداهة المفاهيم الأخلاقيّّة وعدم قابليتها للتعريف إلّا أنّه يقول بإمكان التحقيق حول علّة الأحكام الأخلاقيّّة ولم ينفِ ذلك.

إنّ مثال تعريف "الزوج" لإثبات حكم الزوجية للأعداد 2، 34، 1256 يشير إلى إمكان الاستفادة من تعريف المحمول لأجل كشف علة الحكم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

194

الفصل السابع: الواقعية غير القابلة للإثبات

 وكذلك فإنّ مثال الاستفادة من الواقعيّات الأخرى لكشف علة اصفرار بعض الأجسام يشير أيضاً إلى أنّ كشف علة الحكم غير منوط بتعريف محموله دائماً. وبناءً عليه فإنّ عدم قابلية تعريف المفاهيم الأخلاقيّّة لا يُنتج عدم قابلية إثبات الأحكام الأخلاقيّّة.


ومن الممكن أنْ نقول إنّ علة كون بعض الأفعال حسنة كونها موصلة إلى الكمال وأنها مطلوبة لنا تبعاً لمطلوبية الكمال المطلوب بذاته لنا، أيّ أنّه ورغم عدم قبولنا بكون "الحسن" بمعنى المطلوب فإنّه من الممكن أنْ نقبل بكون مطلوبية الأفعال الحسنة علة حسن هذه الأفعال. 
من المحتوم به أنّ إبطال دليل المدعى لا يثبت نقيضه، وبناءً عليه فإنّ مجرد إبطال أدلة الواقعيّّة غير القابلة للإثبات لا يوجب استنتاج صحة الواقعيّّة القابلة للاثبات، إلّا أنّه لما كانت هذه الأخيرة تشير إلى أسلوب إثبات الأحكام الأخلاقيّّة فلا حاجة بعد ذلك إلى اثبات إمكان ثبوت هذه الأحكام.

ونحن نعتقد هنا أيضاً بالواقعيّّة القابلة للإثبات. ومع اشارتها إلى أسلوب إثبات الأحكام الأخلاقيّّة لا حاجة أيضاً لإثبات إمكانها في حدّ ذاتها ولهذا فقد أشرنا في هذا الفصل فقط إلى أدلة الواقعيّّة غير القابلة للإثبات وقمنا بتحليلها وبينّا عدم تماميتها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
202

195

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 
"نحن نطلب كلّ الأشياء لا لذاتها بل لشي‏ء آخر باستثناء السعادة لأنها الغاية النهائية"1.
 
تعرفنا في الفصلين السابقين إلى الواقعيّّة والواقعيّّة غير القابلة للإثبات وقمنا بتحليلهما. وسوف نقوم في هذا الفصل بشرح وتحليل المذاهب القائلة بالواقعيّّة القابلة للإثبات، أيّ أنّه مضافاً إلى قولها بالواقعيّّة فإنّها تقول بإمكان إثبات الأحكام الأخلاقيّّة.
 
والمهمّ في هذه النظرية هو بيان أسلوب إثبات هذه الأحكام. ولذا كان من الواجب على هذه المذاهب تقديم ملاك واقعي في هذا المجال. أيّ لا بدّ لهم من تعيين الواقعيّّة الّتي هي منشأ القيم واللزوميات الأخلاقيّّة وعلى أساسها تعيّن القيم الغيرية والبديلة للصفات والأفعال الاختيارية ولزوم هذه الصفات والأفعال، وبهذا الأسلوب تثبت الأحكام الأخلاقيّّة.
 
إنّ هذه المذاهب الأخلاقيّّة متفقة عموماً على قيمة "السعادة" الذاتية ولهذا السبب فإنّ كلّ الناس تطلب السعادة وتسعى لتحصيلها لأنها بذاتها مطلوبة لهم جميعاً.
 
 
 

1- أرسطو، اخلاق نيكوماخوس بالفارسية، 1176.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
203

196

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 إلا أنّ الخلاف بين هذه المذاهب هو غالباً في اختلاف الرأي على ماهية السعادة وكيفية الحياة السعيدة.

 
وسوف نتعرّف في هذا الفصل إلى أهمّ هذه المذاهب بغضّ النظر عن ترتيبها التاريخيّ، وسوف نشير إلى أهمّ مشاكلها الخاصّة بكلّ واحد منها.
 
وحيث إننا افترضنا البحث بشكل نظريّ بحت، فسوف نغضّ النظر أيضاً عن النتائج المترتبة على الالتزام بكل واحدٍ من هذه المذاهب عملياً، وأيضاً عن تحديد الأكثر ملاءمة من بينها مع فهم عموم الناس للقواعد الأخلاقيّّة.
إنّ هدفنا الكلي والأساس من طرح هذه المذاهب وتحليلها هو اختيار المذهب الأخلاقيّّ المقبول في نظرنا وبنحو نبتعد فيه بعد معرفة نقاط قوة وضعف هذه المذاهب عن الوقوع في الأخطاء والاشتباهات.
 
1 - مذهب اللذة1 الشخصيّة [1]
 
اللذة مطلوبة عند الجميع وأما العذاب والألم فغير مطلوبَين عند أحد.
 
أحد المذاهب الّتي تقول بوجود واقعيّة معينة كمنشئ للقيم واللزوميات الأخلاقيّّة وعلى أساسها أثبتت الأحكام الأخلاقيّّة المقبولة عندها هو مذهب اللذة الشخصيّة، والذي يقول إنّ التذاذ فاعل العمل الأخلاقيّ له قيمة ذاتية وبعبارة أخرى فإنّ السعادة هي تمتّع الفرد بأكبر مقدارٍ من اللذة، واستدل أتباع هذا المذهب الأخلاقيّ لاثبات القيمة الذاتية للذة بالبيان التالي:
 
إنّ الإنسان بطبعه يميل إلى طلب اللذة والابتعاد عن القهر والآلام حيث إنّ كلّ فردٍ يرى أنّ سعادته ولذته مطلوبة له، وفي المقابل فإنّ كلّ فرد لا يرغب في حصول القهر والألم له. وبناءً عليه فإنّ القيمة الذاتية للّذة ومنشأ مطلوبيتها هو نفس الفرد، ونتيجة ذلك فإنّ الفعل الموجب للذة الفاعل للعمل الأخلاقيّ له قيمة غيرية مثبتة ولا بدّ من القيام به وتحققه، وأما الفعل الموجب لقهره وتألمه فله قيمة غيرية منفية ولا ينبغي القيام به.
 
 
 

1-  Hedonism.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
204

197

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 وأما في صورة تزاحم فعلين عنده بحيث لا يمكن الجمع بينهما فإنّ الفعل الموجب لأكبر قدر من اللذة عنده (في صورة تزاحم الفعلين الموجبين للذة) أو الفعل الموجب لأقل قدر من القهر (في صورة تزاحم الفعلين الموجبين للقهر) ستكون له القيمة البديلة حينئذٍ.


1 - 1. فهمان حول اللذة الشخصيّة

اغتنم الفرص وإلا حاسب نفسك بتعقّل.

أحد هذين الفهمين بسيط جداً [2] حيث يعتبر اللذة الشخصيّة هي اللذة الحاضرة. وبناءً على هذا الفهم فإنّ من يريد أنّ يرى ويعلم قيمة عملٍ ما لا بدّ أنّ يرى أنّ هذا العمل فعلاً هل هو موجب للذته أم لحزنه وألمه؟ وأما اللذة والألم المستتبعان لهذا الفعل مستقبلاً فليس لهما أيّ تأثير في قيمة ولزوم ذلك العمل أخلاقيّاً.

ولكن إذا قبلنا بأنّ الإنسان بطبعه يميل إلى طلب اللذة فلا وجه حينئذٍ لاختصاص اللذة باللذة الحاضرة، لأنّ اللذة إذا كانت مطلوبة لذاتها فإنّ القدر الأكبر منها مطلوب سواء كانت اللذة حاضرة أم حاصلة مستقبلاً إذ كم من لذة طويلة وكبيرة تحصل بعد تحمل قليلٍ من الألم، وكم من لذة قليلة حاضرة وزائلة يعقبها ألم وحزن كبيران ودائمان. كذلك فإنّ الإنسان لتمتعه بخصيصة العقل والتعقل بامكانه أنّ يفكر في لذاته وآلامه المستقبلية وبالتالي أنّ يختار من مجموعها أكثرها ايجاباً للذته وسعادته. ومثالاً على ذلك: فإنّ الكثيرين يأكلون الأطعمة اللذيذة مع استتباعها لألم المرض والعذاب، وأيضاً وفي موارد كثيرة يحصل التزاحم عندهم بين اللذائذ المختلفة مع عدم امكانهم للجمع بينها، مثلاً فإنّ بعضهم قد يتزاحم عنده تأمين لذة بدنه وراحته مع تأمين لذة طلب العلم والمعرفة ولهذا السبب فإنّ أغلب [3] أتباع نظرية اللذة الشخصيّة، ولأجل تعيين القيمة الغيرية لأي عملٍ، يقوم بمحاسبة اللذة والألم الحاصل منه، ولأجل تعيين القيمة البديلة في مورده، فإنّه مضافاً إلى ذلك يقوم بالمقايسة بينها ويوجب تعيين اللذة الأعلى من بينها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

198

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 وقد قدّم هؤلاء بعض المعايير لمحاسبة مقدار اللذة أو الألم الحاصل من الأفعال المختلفة. وادّعى هؤلاء امكان تقييم الأعمال المختلفة بواسطة هذا الأسلوب.


ومن بين هذه المعايير الفعل الحسن، حيث إنّ كلّ فرد ينبغي له القيام بالأعمال الّتي ستزيد ومن حيث المجموع وبالنظر إلى عواقبها الفعلية والمستقبلية من لذة الفاعل الأخلاقيّ، أو أنها على الأقل ومن حيث المجموع أيضاً ستقلل من آلامه [4]، وبالتالي فإنّ العمل المستتبع للذة الأكبر ستكون له قيمة أكبر من غيره.

ومع أنْ بعض اتباع نظرية اللذة يؤكد على القيمة الذاتية للذة إلّا أنهم لا يعتقدون بتساوي اللذائذ من حيث القيمة بل يعتبرون اللذائذ الروحانية [5] كسكون النفس وهدوء البال أعلى وأفضل من اللذائذ الجسمانية والشهوانية.

2 - 1. التحليل‏

1 - يؤكد أنصار هذه النظرية على أنّ اللذة مطلوب طبيعي للإنسان وأنّ لها قيمة طبيعية ولهذا السبب فإنّ لها قيمة ذاتية، ويمكن بيان استدلالهم بالنحو التالي:

- اللذة لها قيمة طبيعية.

- كلّ ما له قيمة طبيعية له قيمة ذاتية.

- اللذة لها قيمة ذاتية

ومرادهم من القيمة الطبيعية تلك القيمة الّتي تقتضيها طبيعة الإنسان، وبعبارة أخرى فإنّهم يعتقدون بأنّ طبيعة الإنسان مجبولة على طلب اللذة وبالتالي لا يوجد أيّ وضعٍ عند الإنسان لا تكون اللذة فيه مرغوباً فيها ومطلوبة ولذا فإنّ لها قيمة طبيعية.

نعم إن مفهوم عامة الناس عن اللذة ينصرف إلى اللذائذ الجسمانية أو الدنيويّة وذلك بسبب ابتلائهم في الغالب بالأمور المادية والدنيويّة، وأما إذا ما أخذنا اللذة بالمعنى الأعمّ والأوسع من ذلك فالظاهر من كلام أنصار مذهب اللذة حول القيمة الطبيعية للذة أنّه يمكن قبوله بهذه الصورة، وهي أنّ اللذة وبصرف النظر عن أيّ شي‏ء آخر ومن دون مقايستها بالعواقب الأخرى تُعدّ إحدى الأمور المطلوبة طبيعياً عند
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
206

199

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 الإنسان ولذا فإنّ قيمتها طبيعية. ومن ثمّ فإنّ الالتفات إلى القيم الطبيعية له أهميّته لجهة أنّ القيم الذاتية الأخلاقيّّة لا ينبغي أنّ تتنافى معها بالكلّية.


إلا أنّ المقدّمة الثانية للاستدلال المتقدّم غير صحيحة، لأنّه من الممكن أنّ يكون لشي‏ء ما قيمة طبيعية ومع هذا وحيث إنّ مطلوبيته ترتبط بمطلوبية شي‏ء آخر لن تكون قيمته ذاتية.

وسوف نشير في الفصل اللاحق إلى أنّ مطلوبية كلّ الأمور الاختيارية ومن جملتها اللذة ترتبط بمطلوبية الكمال الاختياريّ [6].

حاصل الكلام أنّ اللذة وإن كانت ذات قيمة طبيعية إلّا أنّ قيمتها ليست ذاتية.

وعليه فإنّ أنصار اللذة ومن دون إثبات عدم ارتباط مطلوبية اللذة بمطلوبية شي‏ء آخر استنتجوا قيمة اللذة الذاتية من القيمة الطبيعية، وهذا من باب المغالطة - وقد تكررت المغالطات عند بقية المذاهب الأخرى أيضاً وسوف نشير إليها في هذا الفصل - وسوف نسميها: "مغالطة القيمة الطبيعية والذاتية".

وبناءً على ما تقدّم فإنّ استدلال هؤلاء لإثبات القيمة الذاتية للذة غير صحيح.

2 - كما ذكرنا سابقاً فإنّ مذهب اللذة الشخصيّة المعتدل قدّم بعض المعايير لمحاسبة ومقايسة لذائذ الأعمال وآلامها. ورغم وجود بعض الاشكالات عليها [7]، إلّا أنّنا لن نتعرّض لنفس هذه المعايير هنا لكن لا بدّ من القول إنّه ومع افتراض تماميتها وصحتها تبقى هذه الاشكالات موجودة. وسوف نذكر ها هنا معياراً واحداً فقط هو معيار الشدّة والمدّة لنرى امكانية محاسبة ومقايسة اللذة والألم بناءً على هذه المعايير.

وكما تقدّم ذكره لا بدّ لتعيين قيمة ولزوم كلّ فعل اختياريّ من محاسبة وقياس مجموع مقدار اللذة أو الألم الحاصل منه. ولتعيين القيمة البديلة لا بدّ من مقايسة الأفعال المتزاحمة من جهة مجموع اللذة الأكبر المتولد عنها أو مجموع الألم الأقلّ. لكنّ السؤال المطروح هو كيفية تعيين مجموع اللذة الأكبر أو الألم الأقلّ في هذه الأفعال المختلفة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

200

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 ومن الممكن أنّ يكون جواب هذا السؤال بسيطاً فيقال إنّ اللذة والتألم أمران داخليان ندرك مقدارهما في ذات أنفسنا وبالتالي فإنّه بناءً على هذا الاحساس الداخلي يمكن محاسبة مقادير اللذة والتألم المختلفة لمختلف الأفعال ومقايستها بعضها ببعض.


وبعبارة أخرى ومع الأخذ بمدة وشدة اللذة أو الألم فما يكون موجباً للذة يكون حسناً وما يكون موجباً للألم يكون قبيحاً.

وكذلك فإنّ الموجب للألم يكون الأحسن والموجب للتألم الأكبر يكون الأقبح.

لكن مع قليلٍ من التأمل فإنّ هذا الجواب غير كافٍ لمحاسبة ومقايسة اللذة والتألم لأنّ ما يدركه كلّ فرد عنهما في ذاته محدود بتجاربه الشخصيّة فقط.

ولنفترض مع قليلٍ من التسامح أيضاً إضافة تجارب الآخرين إلى تجاربنا الشخصيّة وقلنا حينها إنّ ما يوجب التذاذ الناس يكون حسناً وما يوجب تألمهم يكون قبيحاً واستندنا في محاسبتها وقياسها أيضاً إلى تجارب هؤلاء الناس. إلّا أنّ التنبه إلى هذه الملاحظة ضروريّ وهو أنّنا حتى في تعيين القيمة الغيرية لأيّ فعل لا بدّ من محاسبة تمام لذاته وآلامه الناتجة عنه وبالتالي لا يمكن اعتبار ذلك الفعل حسناً إلّا إذا كان من حيث المجموع موجباً للذة مع أنّه لا يوجد لدينا أيّ دليل على قيام ولو إنسانٍ واحد بإتمام تجربة اللذة والألم لأحد أفعاله حتى نهايتها.

وإذا قلنا بوجود الحياة الخالدة بعد الموت فإنّ هذه التجارب الناقصة عن اللذة والألم الحاصلين من الأفعال ستستمرّ في ذلك الزمان أيضاً. بل ربما تكون اللذائذ والآلام هناك أكبر مما تحملناه واكتسبناه ها هنا.

وبناءً عليه لا بدّ لهذا المذهب من أجل محاسبة القيم الأخلاقيّّة للأفعال وتعيين الوظائف الأخلاقيّّة بناءً على مقدار اللذة أو الألم من سلوك أسلوب آخر غير أسلوب التجربة الشخصيّة أو النوعية لتشخيص تمام اللذائذ والآلام الحاصلة عن الأفعال[8].

ونحن أيضاً لا بدّ لنا - مضافاً إلى تعيين ملاكٍ لتقييم الأفعال - أنْ نعيّن أساليب تشخيص هذه القيم أيضاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

201

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 3 - وكما ذكرنا سابقاً فإنّ بعض اتباع مذهب اللذة ومع أنهم يؤكّدون على القيمة الذاتية للذة فإنّهم يعتبرون بعض اللذائذ أكثر قيمة من بعضها الآخر.


ومثالاً على ذلك فإنّهم ذكروا أنّ اللذائذ الروحانية أكثر قيمة من اللذائذ الجسمانية.

ونحن أيضاً نوافقهم في هذا القول ونعتقد بأنّ القيم الأخلاقيّّة متفاوتة بين مختلف اللذائذ. لكن لا بدّ لنا أنّ نمتلك معياراً آخر لتحديد نوع اللذة الأكثر قيمة.

إنّ القبول باختلاف أنواع اللذائذ من حيث القيمة معناه وجود معيارٍ آخر يرتبط به تقييم اللذائذ، وإنّ مجرد كون الأفعال لذيذة لا يعيّن قيمتها، ونتيجة الكلام هو أنّ اللذة ليس لها قيمة ذاتية.

2 - مذهب الزهد وترك الدنيا

طلب اللذة سيبقيك مضطرباً دائماً. اترك الدنيا لتبقى مرتاح البال.

كما رأينا وتقدم معنا فإنّ أتباع مذهب اللذة مع ذهابهم إلى معادلة السعادة مع اللذة قالوا إنّ اللذائذ ذات قيمة بلا أيّ كيفٍ أو لماذا.

ورغم أنهم بالفهم البسيط لها قد ذهبوا إلى تحديدها وحصرها باللذة الحاضرة إلّا أنّ أكثر القائلين باللذة وبعد تعديل هذه النظرية قاموا بتفكيك أنواع اللذائذ بعضها عن بعض وأكدوا على محاسبة اللذائذ الطويلة الأمد وبعضهم مضافاً إلى عدم انكاره اللذائذ الجسمية الدنيويّة قال بأفضلية اللذائذ الروحانية - كسكون النفس وهدوء البال - على الجسمانية منها.

إلا أنّ بعض المذاهب الأخلاقيّّة [9] وبعد تأصيل هذه الأصول: سكون النفس، هدوء البال، والتخلص من الاضطراب (الاطمئنان) اعتقدت بأنّ تحصيل اللذائذ الدنيويّة والمادية مانع من الوصول إلى هذه الأصول، وبعبارة أخرى إنّ الساعي وراء رغباته ولذائذه الجسمانية لن يكون مرتاحاً وهادئ البال أبداً.

وبناءً عليه اعتبرت هذه المذاهب "طلب الدنيا" ضد القيمة، وذهبت إلى وجوب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

202

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 الاجتناب قدر الامكان عن لذائذها، وذهب هؤلاء رغم اختلافهم في الرؤية الكونية إلى التوصية عموماً بعدم الاهتمام بالدنيا والابتعاد عنها، ودعوا الناس إلى محبة الآخرين والتعاطف معهم والعفو والتسامح.


ولذا فإنّ أتباع هذا المذهب - وبالالتفات إلى الرؤية الكونية الخاصّة بكل واحد منهم - أسسوا مذهبهم الأخلاقيّ على ركيزتين:

أولاهما: اعتبارهم القيمة الذاتية وسعادة الإنسان إنما هي في سكون النفس والاطمئنان.

وثانيهما: إنّ طلب الدنيا والتمتع باللذائذ الدنيويّة مانعة من الوصول إلى هذا الهدف.

وبالتالي اعتبروا أنّ ترك الدنيا والزهد فيها من الأمور القيمة جداً.

1 - 2. التحليل‏

من المقطوع به أنّ الإنسان يسعى لسكون النفس وراحة البال ولكنّ بقية الأمور الأخرى مطلوبة له أيضاً والتي من جملتها التمتّع باللذائذ المادية والدنيويّة.

وكما تقدم معنا فإنّ الرؤية الكونية عند هذا المذهب توجب من طرفٍ ما كون سكون النفس والتخلص من الاضطراب هما المحصلان للسعادة الواقعيّّة وأنهما أعلى وأكمل مطلوبٍ ممكنٍ للإنسان.

ومن طرف آخر فإنّها تعتبر اللذائذ الدنيويّة عامة مانعة من الوصول إلى هذا الهدف وبناءً عليه فإنّ اللذائذ الدنيويّة لها قيمة منفية.

وحيث إنّ هذا المختصر لا مجال فيه لذكر الرؤى الكونية المختلفة لأصحاب هذا المذهب وأتباعه سنغضّ النظر عنها ونكتفي بالاشارة إلى نكتة هامة في هذا المقام، ومفادها أنّ القبول بالواقعيّّة القابلة للإثبات معناه القبول بمنشأ واقعيّ لمطلوبية كلّ أمور الإنسان الاختيارية ونتيجة ذلك أنّ السعي من أجلها يعتبر قيّماً، وحيث إنّ هذا السعي يستلزم الحياة في هذه الدنيا وامتلاك الوسائل اللازمة للانطلاق نحو السعادة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

203

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 لذا لا بدّ لكل مذهب أخلاقيّّ يقبل بالواقعيّّة القابلة للإثبات أنْ يقبل ولو بهذا الحدّ بقيمة الدنيا والتمتع بإمكاناتها ووسائلها، لأنّ الاهتمام بحاجات الجسم الطبيعية، والسعي لإدامة البقاء والحياة والصحة والسلامة واكتساب الوسائل اللازمة في هذه الحياة تعتبر من الشرائط العامة لتأمين السعادة الواقعيّّة. وبناءً عليه لا يمكن القبول بالتضادّ المدّعى بين اللذائذ الدنيويّة وبين سكون النفس والسعادة بشكل كلّيّ.

 
نعم من غير الممكن تعيين ميزان قيمة الدنيا والأفعال الاختيارية المرتبطة بها إلّا بعد تعيين المصداق الواقعيّّ للسعادة فقط.
 
3 - مذهب القوة
 
هل أنّ الحياة الّتي يعلّل فيها الإنسان ضعفه وعجزه وخنوعه أمام ظلم الآخرين له بحجة راحة البال والفرار من المشاكل والآلام هي الحياة المريحة والمطلوبة؟
 
إنّ مذهب القوة الّذي تبنّاه نيتشه1 [10] يُعتبر ردَّ فعلٍ على مذهب ترك الدنيا الّذي يدعو الناس وبشكل إفراطي إلى التسليم في مقابل الحوادث الواقعة وإلى محبة الآخرين والتعاطف والتسامح والتساهل معهم.
 
ويعتبر هذا المذهب أنّ للقوة قيمة ذاتية، ولذا فإنّ نيتشه يعتقد بأنّ أفراد الإنسان بمختلف أنواعهم وأعراقهم حالهم حال الحيوانات يتنازعون فيما بينهم بشكل طبيعيّ من أجل البقاء والحياة والسيطرة فيها. ويقول إنّ الغلبة والانتصار في هذا النزاع بحاجة إلى القوة ولذا فإنّ أساس الحياة يتمحور حول طلب تحصيل القوة وامتلاكها. وبالتالي فإنّ طلب الحياة والبقاء فيها وإبراز الغلبة والتسلّط بحاجة إلى هذه القدرة ولذا فهي قيمة بذاتها بل إنّ نيتشه قد اعتبر أنّ قيمة الفرد هي بمقدار قوته، ومن الطبيعي عندما نقول بالقيمة الذاتية للقدرة والقوة أنّ نجيز كلّ فعل يوجب ازدياد قوة الفرد بل اعتبارها حسنة ولازمة حتى ولو أدّت إلى عذاب الآخرين وتألمهم وأحياناً إلى قتلهم وإبادتهم.
 
 
 

1- (1844 – 1900) Friedrich Nietzche

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

204

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 وكذلك فإنّ كلّ فعل يوجب ضعف هذه القوة قبيح ومرفوض ويجب الاجتناب عنه حتى ولو تنافى مع الفضائل الأخلاقيّّة المتعارفة كالتسامح والتعاطف مع الآخرين وإعانة المحتاجين.


وقد قبلَ نيتشه بهذه اللوازم كلها بل وأكد عليها، وإذا ما أُشكل عليه بأنك في هذه الصورة قد تجاهلتَ حقوق الآخرين فسوف يجيبك قائلاً إنّ أفراد الإنسان لما كانوا مختلفين بشكل طبيعيّ من حيث الامكانات والاستعداد والمؤهلات فهم أساساً لا يتمتعون بحقوق متساوية لتكون رعاية هذه الحقوق أمراً واجباً ولازماً [11].

1 - 3. التحليل‏

1 - لو افترضنا القبول بكون القوة قيمة ولازمة من أجل البقاء والحياة والنفوذ فيها فلن تكون قيمتها قيمة ذاتية لأنّ قيمتها ومطلوبيتها ترتبط بشي‏ء آخر وهو قيمة الحياة الدنيا نفسها ولذا كان على نيتشه في هذا المقام إثبات القيمة الذاتية للحياة الدنيا ومن ثمّ الإشارة إلى القيمة الغيرية للقوة.

2 - لو فرضنا القبول بقيمة الحياة الدنيا، فإنّ إثبات قيمة القوة في نظرية القوة عند نيتشه يُبتنى على القبول بكون التنازع مع الآخرين والغلبة عليهم هو الطريق الوحيد من أجل البقاء والحياة والنفوذ فيها، وهذا المبنى بنفسه أيضاً يُبتنى على افتراض مسبق بوجود التنافي دائماً بين حياة الناس ومنافعهم على اختلاف أنواعهم وأعراقهم، إلّا أنّ نيتشه لم يُثبت هذا الفرض المسبق.

3 - إنّ نيتشه ملتفت إلى أنّ قبولنا بنظريته ورأيه في كون القوة ذات قيمة ذاتية، يستلزم قبولنا بكون الأقوياء مجازون في قمع الآخرين الضعفاء بل وإبادتهم.

ونتيجة هذا القول هي أنّ المِلَل والأقوام والأفراد غير متساوين في الحقوق بل إنّ هؤلاء الأقوياء والمتسلطين لهم أفضلية في الحقوق لامتلاكهم القوة والامكانات.

ولهذا السبب قبلَ نيتشه بعدم تساوي الناس في الحقوق وعلّل ذلك باختلافهم الطبيعيّ من حيث الامكانات والمؤهلات وعدم تساويهم فيها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

205

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 إنّ هذا الكلام يُبتنى على افتراض مسبق مفاده أنّ وجود هذه الامكانات والمؤهلات والتمتّع بها يستلزم حقّ الاستفادة منها مع أنّه لم يُثبت ذلك أيضاً. ومضافاً إلى ذلك فمن الممكن أنْ تقيَّد وتحدَّد حقوق الناس من حيث الاستفادة من إمكاناتهم ومؤهلاتهم. وبعبارة أخرى فإنّ نيتشته لم يوضح الدليل والسبب الّذي يخوّل الإنسان القيام بأيّ عمل يمكنه القيام به.


وبناءً على ما قلناه فإنّ استدلال نيتشه لإثبات القيمة الذاتية للقوة لا يمكن القبول به، نعم بشكل كلّي يمكن عدّ القوة أحد الأمور المطلوبة عند كلّ الناس لأنّ كلّ إنسان لا يرتضي الضعف والعجز له ولا يكره أنّ يكون قوياً وقادراً. إلّا أنّه لا يمكن استنتاج القيمة الذاتية للقوة من هذه القيمة الطبيعية، لأنّه من الممكن أنْ يكون منشأ مطلوبيتها كمالٌ يعود إلى نفس الإنسان.

4 - مذهب الانسجام العقلاني‏

اتّفقت آراء أشهر فلاسفة اليونان أمثال: سقراط، أفلاطون، وأرسطو [12] على الأصول التالية والتي بنوا عليها مذاهبهم الأخلاقيّّة:

1 - القيمة الذاتية للأخلاق من حيث موافقتها مع طبيعة الإنسان.

2 - طبيعة الإنسان مركّبة من جزأين: الروح والبدن.

3 - الميزة الأساسية لروح الإنسان هي التعقّل.

وقد استنتج هؤلاء أنّ السعادة الحقيقيّة وما له القيمة الذاتية هو التوفيق والانسجام بين الروح والبدن على أساس العقل.

واعتقد هؤلاء بأنّ ايجاد الإنسان للانسجام العقلانيّ بين أجزاء وجوده المختلفة سيمكّنه من اكتساب خصائص تتلاءم مع طبيعته وقد أسموها بالفضيلة، وذكروا في أبحاثهم الأخلاقيّّة الفضائل وطرق تحصيلها.

وقد سعى أرسطو لتقديم حكمٍ عقليّ وقاعدة مشخّصة لنيل هذه الفصائل الأخلاقيّّة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

206

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  ولإيجاد الانسجام بين روح الإنسان وبدنه، عُرفت باسم "القاعدة الوسطى الذهبية"1.

 
وبناءً على هذه القاعدة فإنّ الفضيلة دائماً هي الحدّ الأوسط بين حدَّيْ الافراط والتفريط. ولذا فقد اعتقد أرسطو بامكانية تحقيق الانسجام بين أجزاء الإنسان المختلفة على أساس العقّل وبتأمين حاجات ومتطلبات كلّ واحد منها مع رعاية الاعتدال والابتعاد عن الافراط والتفريط.
 
وأيضاً فإنّ هذه الفضائل الناشئة عن رعاية الحدّ الأوسط لا تحتاج إلى حدٍّ وسط فيها بل كلما كانت هذه الفضيلة أكبر كانت مطلوبة بشكلٍ أكبر أيضاً.
 
1 - 4. نقد وتحليل‏
 
1 - إنّ أصحاب هذا المذهب الأخلاقيّّ قد التفتوا واهتموا بأجزاء الإنسان وأبعاده الوجودية واعتبروا الخصيصة الأصلية للإنسان هي ملاك الانسجام بين أجزائه. والظاهر أنّ اهتمامهم ببحث الأبعاد الوجودية للإنسان سببه اعتقادهم بوجوب الفهم الصحيح لحقيقة هذا الإنسان ليتمّ على أساسها تعيين الفضائل والرذائل الإنسانية.
 
وبشكل كلّي يمكن التأكيد على هذه النكتة وهي أنّه لا بدّ من أجل تعيين القيم الأخلاقيّّة أنّ نتعرّف قبل ذلك إلى حقيقة وجود الإنسان ولذا لا بدّ لنا من أجل تعيين هذه القيم الأخلاقيّّة أنْ نستعين بمعرفة الإنسان الفلسفية.
 
2 - بناءً على إمكانية القبول بمباني هذا المذهب الأخلاقيّ، إلّا أنّ المشكل الأساس يبقى في كيفية ايجاد مثل هذا الانسجام بين أبعاد الإنسان الوجودية. إنّ القاعدة الذهبية لأرسطو قد تكون مفيدة في الكثير من الموارد، إلّا أنّه ليس من السهل تعيين الحد الأوسط في كلّ أمور الإنسان مضافاً إلى أنّ أرسطو نفسه لم يثبت هذه القاعدة باستدلال قطعيّ.
 
 
 

1-  Golden Mean Rule.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
214

207

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 5 - مذهب العاطفة

 
إنّ من يرجّح لذته وقوته وراحة نفسه أو الانسجام العقلي لوجوده على أيّ شي‏ء آخر، هو إنسان أنانيّ وليس إنساناً أخلاقيّاً، إذ ينبغي له أنْ يفكر بالآخرين أيضاً.
 
تعريف: 
 
الأنانيّة 1معناها قيام الإنسان بفعلٍ ما من أجل مصلحته الشخصيّة. والغيريّة2(الإيثار) تعني القيام بأفعالٍ من أجل منفعة الغير وخيرهم.
 
اعتقد البعض بأنّ المذاهب الّتي قمنا إلى الآن بدراستها وتحليلها تستلزم الأنانية ولهذا السبب كانت مرفوضة عندهم، وفي المقابل قالوا إنّ الغيرية قيمة، وإنّ القيمة الأخلاقيّّة للأفعال والسلوكيات إنما تنشأ من خلال سعينا من أجل مصلحة الآخرين.
 
واعتقد هؤلاء بأنّ ملاك القيمة في الأخلاق هو العاطفة والغيرية (الايثار). ولذا فإنّ الأعمال الّتي تؤتى بسبب العواطف ودافع الغيرية - نظير الايثار والكرم والرحمة والتعاطف مع البؤساء، والأخذ بيد العاجزين، ومساعدة المحتاجين - قيّمة باللحاظ الأخلاقيّ، وفي مقابل ذلك فإنّ الأعمال الّتي يؤتى بها بدافع الأنانية - نظير الشهوة، الحسد، طلب العافية، البخل وعدم الرحمة - وسواء كانت ضد مصلحة الآخرين أم لا فإنّها ضدّ القيَم أو بلا قيمة.
 
وقد أسمينا هذا المذهب الأخلاقيّّ بالمذهب العاطفيّ أو مذهب العاطفة وبناءً عليه وبشكل مختصر فإنّ العاطفيين ومع قبولهم بأنّ الأنانية تتنافى كلياً مع الغيرية، رجّحوا العاطفة والتي هي مظهر الغيرية على غيرها واعتبروها الملاك للتقييم الأخلاقيّّ.
 
 
 

1- Egoism  الأنانية أو الذاتية.
2-  Altruism الغيرية أو الايثار.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
215

208

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 وحذراً من التطويل لن نتعرّض لذكر الأدلة المستفادة من كلماتهم على قيمة الغيرية ولزوم ترجيحها1

 
1 - 5. التحليل‏
 
1 - يُعتبر هذا المذهب من جملة المذاهب المعدودة2، الّتي تؤكّد وبشكل صحيح على تأثير النية في قيمة الفعل.
 
فالعاطفيون في تقييم الأفعال يلتفتون - وقبل النظر إلى مقدار الخير العائد منها إلى الغير - إلى نية الفاعل والدافع له للقيام بها، ولذا اعتبروا نية الغيرية منشأ القيمة الأخلاقيّّة لتلك الأفعال، إلّا أنّ الظاهر أنّ الأفعال المختلفة - وبغضّ النظر عن نية فاعلها - لها نتائجها المطلوبة أو غير المطلوبة والتي تؤثّر في تقييمها أخلاقيّاً ولم يقدّم هذا المذهب أيّ أسلوب لمحاسبة قيم الأفعال بناءً على النتائج الحاصلة منها.
 
إنّ ميزان تأثير النية ونوع الفعل في التقييم الأخلاقيّ للفعل إنما يمكن بعد تعيين منشأ القيمة الأخلاقيّّة. ولذا يجب علينا نحن أيضاً بعد أنّ نعيّن القيمة الذاتية أنْ نعيّن تأثير كلٍّ من نيّة الفاعل ونوع الفعل في القيمة الغيرية له.
 
2 - على فرض القبول بوجود المنافاة بين الأنانية والغيرية، والقبول بترجيح الثانية أيضاً، فإنّ اتّباع العواطف سيكون فقط ملاكاً لتقييم الأفعال المرتبطة بالغير، إلّا أنّ الأخلاق تشمل أيضاً كلّ الصفات والأفعال الاختيارية عند الإنسان، ومع هذا فإنّ المذهب العاطفيّ لم يقدم لنا معياراً مناسباً لتقييم ولزوم هذه الطائفة من الأفعال الاختيارية الفردية أو الناظرة إلى سلوك الإنسان مع الله تعالى أو مع الطبيعة.
 
وعليه فإنّ "العاطفة" لا يمكنها أنّ تكون معياراً كافياً لتعيين القيمة الأخلاقيّّة.
 
2 - 5. الأنانية والغيرية
 
إنّ أصل وجود هذين الأمرين عند الإنسان مما لا يمكن انكاره إلّا أنّ هناك ثلاث 
 
 
 

1- للاطلاع إجمالاً على أدلة العاطفيين في ترجيح الغيرية، والإشكالات عليها راجع: المذكرة الحادية عشرة من هذا الفصل.
2- لاحظ رأي كَانْتْ حول تأثير النية في تقسيم الأفعال الوارد في الفصل السابع من هذا الكتاب.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
216

209

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 مسائل يمكن بحثها في مسألتي الأنانية والغيرية:


الأولى: على فرض اضطرارنا إلى الاختيار بين الأنانية والغيرية فهل بالامكان ترجيح الغيرية؟ وبعبارة أخرى هل بالامكان أنْ يُؤثِر الإنسان وباختياره مصلحة الآخرين على مصلحته؟
الثانية: هل أنّ الغيرية تتنافى كلياً مع الأنانية بحيث لا يمكن الجمع بينهما بتاتاً، أم أنّه بالامكان وقوع التزاحم بينهما في بعض الموارد، أم أنها متلازمان وموجودان معاً وبشكل دائمٍ وكلي؟

الثالثة: في صورة التنافي أو التزاحم بينهما وإمكان ترجيح الغيرية، أيّهما يرجح على الآخر؟

ذهب القائلون بالأنانية - وكما هو الحال عند أتباع مذهب اللذة الشخصيّة - إلى الاجابة بالنفي عن السؤال الأوّل وقالوا إنّ الإنسان يميل ذاتاً إلى ما هو مصلحته وخيره وبالتالي لا يمكنه أنّ يرجّح خير الآخرين ومصلحتهم على خيره ومصلحته الشخصيّة.

ومن طرف آخر فإنّ القيمة واللزوم الأخلاقيّين لا يشملان إلّا الأفعال الاختيارية للإنسان. ومن المعلوم أنّ القدرة شرط لإمكان القيام بهذه الأفعال، ولذا - بناءً على رأي القائلين بالأنانية - لمّا كان الإنسان غير قادرٍ على ترجيح الغيرية بشكل طبيعيّ فإنّه سيرجّح الأنانية، وأما القائلون بالغيرية - أمثال العاطفيين - فإنّهم يعتقدون عموماً بأنّ إمكان تبعية العواطف علامة وإشارة على إمكانية ترجيح الغيرية[14]، ويعتقدون أيضاً بوجود التنافي الكلي بين الأنانية والغيرية.

ويقول هؤلاء، ومع اعتبار النية في تقييم الفعل والسلوك، إنّ فعل الفاعل الأخلاقيّّ إذا كان لمصلحته لا يمكن أنّ يكون لمصلحة الآخرين أيضاً وإذا كان لمصلحة الآخرين فلا يمكن أنّ يكون لمصلحته أيضاً.

كما أنّ هؤلاء ومع اعتقادهم بالتنافي الكلّي بينهما فإنّهم يعتبرون أنّ ترجيح الغيرية 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

210

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 هو الأكثر قيمة، ولكل واحدٍ منهم دليله على هذا الترجيح. والآن سوف نتعرّض لذكر مذهب أخلاقيّّ آخر يرى عدم وجود التنافي الكلّي بين الأنانية والغيرية، وعدم امكانية حصول أيّ تزاحمٍ بينهما بل يرى أنهما متلازمان وموجودان معاً دائماً.

 
6 - النفعية العمومية
 
إنّ المجتمع الإنساني شركة تعاونية كبيرة جداً لذا تعالوا من أجل مصلحتنا ومنفعتنا نعمل لانتفاع الآخرين أيضاً.
 
إنّ مذهب النفعية العمومية مذهب أخلاقيّّ - وسوف نعبر عنه باختصار بعد الآن بالنفعية1 - يعتبر النفع العام ملاك القيمة الأخلاقيّّة وأنّ المنفعة العامة لها قيمة ذاتية. وباللحاظ الأخلاقيّّ فإنّ الأعمال الّتي تنفع الناس حسنة لا بدّ من القيام بها والتي تضرهم قبيحة لا ينبغي فعلها[15].
 
ومراد النفعيين من المنفعة معناها الأعمّ والذي لا يختص بالمنفعة الاقتصادية لأنّه وبالمقايسة معها قد يكون لدينا منافع أهمّ وأكثر مطلوبية منها، مثلاً: منفعة الحياة المطمئنة المستلزمة للقناعة قد تكون احتمالاً أكبر من منفعة تحصيل الثروة بشكل مفرط والمستلزمة للقلق والاضطراب الدائمين.
 
ولذا فإنّ مرادهم ومقصودهم من النفعية العمومية هو حصول اللذة لعموم الأفراد أو إرضاء ميولهم.
 
كما ويعتقد هؤلاء بأنّ هدف الأخلاق والخير الأخلاقيّّ يتمثّل في السعادة والتي يعرّفونها بأنها تأمين أكبر نفعٍ لأكبر عدد من الأفراد[16].
 
وبناءً عليه فإنّ قيمة الفعل الأخلاقيّّ - عند المذهب النفعي - تعيَّن على أساس النفع الحاصل منه لبقية الأفراد وليس النفع المباشر العائد لمنفعة الفاعل الأخلاقيّّ.
 
وبعبارة أخرى فإنّهم إذا أرادوا محاسبة قيمة الفعل لشخصٍ ما وتعيين الوظيفة الأخلاقيّّة له فإنّهم يأخذون بالاعتبار مجموع النفع والضرر العائد إلى الأفراد - وبشكل
 
 
 

1-  Utilitarianism.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
218

211

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 حياديّ - ومن ثمّ يحاسبون نتائجها الحاصلة منها. ويعتقد النفعيون بأنّ الأنانية والغيرية مضافاً إلى عدم تنافيهما بعضهما مع بعض فإنهما متلازمان لأنّه كلما ازداد النفع العموميّ ازداد نفع الفرد أيضاً وكذلك العكس، وكلما ازداد الضرر العمومي ازداد ضرر الفرد أيضاً وكذلك العكس، وبناءً عليه إذا سألتم هل أنّ وظيفتنا الأخلاقيّّة تقتضي السعي لتأمين ما ينفعنا أو ما ينفع الآخرين، فإنّ النفعيين سيجيبون قائلين اختاروا أياً منهما فإنّ النتيجة واحدة فيهما وقيمة العمل الأخلاقيّّة واحدة أيضاً[17].

 
لكن إذا اعتبرنا ما ينفعنا وما ينفع غيرنا واحداً من حيث القيمة فلماذا يؤكد النفعيون على محاسبة النفع العموميّ وأخذه بعين الاعتبار؟
 
وسيكون جوابهم إنّ الأنانية والغيرية لما كانا متلازمين وكان نفع الفرد يرتبط بنفع العموم بشكل مباشر فلا يمكن عند تعيين نفع الفرد النظر إلى العوائد الراجعة إليه مباشرة فقط بل لا بدّ من أجل محاسبة النفع الواقعيّّ للفرد أنْ نحاسب أيضاً النفع العائد إلى العموم. وكذلك الحال إذا أردنا تعيين نفع الآخرين، فمضافاً إلى احتساب النفع العائد إليهم بشكل مباشر لا بد أنّ نأخذ بالاعتبار نفع الفرد غير المباشر العائد إليهم أيضاً.
وخلاصة الكلام أنّ النفعيين عموماً[18] ومع قبولهم بأنّ كلّ فرد يطلب منفعته الخاصّة به[19]، واستناداً إلى التلازم بين الأنانية والغيرية، ينبهون إلى أنّه لا بدّ من الأخذ بالاعتبار محاسبة النفع الحاصل للآخرين عند محاسبة النفع الدقيق للعمل وتعيين قيمته الواقعيّّة.
 
لكن ما يبقى على عهدة هؤلاء بيانه هو دليلهم على الملازمة بين الأنانية والغيرية، وبتعبيرهم أنفسهم، لماذا هناك ارتباط دائم بين تأمين منفعة الفرد وتأمين منافع الآخرين؟
 
وقد ذكروا هذين الدليلين لإثبات هذه الملازمة والارتباط المباشر1:
 
 
 

1- راجع: فردريك كابلستون، تاريخ فلسفه، ج‏8، ترجمة بهاء الدين خرمشاهى، ص 29، 34، 35، 47 و49.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
219

212

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 الدليل الأول: أنّ إحدى منافع الفرد هي ارضاء عاطفة حبه للآخرين أو بتعبير آخر حسّ إرادة الخير لغيره والتي تعدّ من الحاجات الروحية عند الفرد ولذا فإنّه من خلال ايصاله النفع للغير يقوم بارضاء هذه العاطفة أو الحس عنده وبهذا الأسلوب يكون قد نفع نفسه أيضاً. ولذا فإنّ الشخص الّذي يقوم بفعل الايثار أو الكرم أو الرحمة مع الغير يشعر بنوعٍ من اللذة، وفي مقابل ذلك فإنّ البخيل والحسود والظالم يبتلى بالعذاب والقلق والاضطراب، وعليه فإنّ الفرد إذا أراد أنّ يأخذ منافعه بعين الاعتبار فلا بدّ له من أخذ منفعة الآخرين بعين الاعتبار أيضاً والسعي لتأمينها، وبالتالي يكون قد أرضى عاطفته وميله لحبّ الآخر. ونتيجة الكلام أنّ الغيرية غير ممكنة إلّا مع الأنانية. والأنانية كذلك لن تؤمّن إلّا مع الغيرية. ولذا فإنّ كلّ واحدة منهما مستلزمة للأخرى.


الدليل الثاني: ما قلناه سابقاً يرجع إلى خصوص ارضاء العواطف واشباعها والالتذاذ الحاصل منها، لكن بنحوٍ كلّي نقول إن كلّ منافع الفرد ترتبط بمنافع الجميع ومنافع هؤلاء أيضاً تؤمَّن في ظلّ منافع الفرد أيضاً.

وكما هو الحال عند أعضاء أيّ شركة تعاونية من حيث الربح والخسارة كذلك الحال عند أفراد المجتمع فإنّهم مرتبطون بعضهم ببعض من حيث النفع والضرر أيضاً.

ولذا فإنّ من يتوهّم ايصال النفع لنفسه من خلال الإضرار بالآخرين فيسرق مثلاً أو يكذب أو يخون الأمانة، فإنّه في الواقع يعرّض المجتمع الّذي يعيش هو نفسه فيه للهرج والمرج، وسيسبّب سوء الظنّ به من قبل الآخرين وسيُحرَم الكثير من المنافع الّتي يمكن أنْ تعود عليه من قبل الآخرين.

إنّ هذا الشخص يظنّ أنّه يؤمّن منافعه من خلال الإضرار بغيره مع أنّ هذه الأعمال في مجموعها ستنتهي بضرره، وعلى هذا الأساس إذا أراد اكتساب النفع له فلا بدّ أنْ يأخذ في النظر أيضاً منفعة الجمع لأن نفع أو ضرر أيّ فرد يرتبط بمنفعة وضرر كلّ الأفراد، ومن طرفٍ آخر فإنّ زيادة نفع الفرد موجبة لزيادة نفع المجتمع لأنّ الفرد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
220

213

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 عضو في هذا الجمع وبزيادة ربح أعضاء المجموعة ستزيد أرباح المجموعة نفسها، وبناءً على هذا فإنّ نفع الفرد ونفع المجتمع يرتبطان بشكل مباشر بعضهما مع بعض وعليه فإنّ الأنانية والغيرية متلازمان.

 
1 - 6. تحليل‏
 
لا شكّ أنّ كلّ إنسان وبشكل طبيعيّ يعتبر "النفع" أمراً مطلوباً له، وفي المقابل فإنّ أيّ إنسان لا يريد الضرر لنفسه، وحينئذٍ إذا أمكننا أنْ نأخذ النفع بمعناه الأعمّ بحيث يكون شاملاً لكل مطلوبٍ، ومع الالتفات إلى امكانية افتراض أنواع متعدّدة من النفع وبإمكانية حصول التزاحم بينها، لذا لا بدّ من ايجاد ملاك لتعيين النفع الأفضل وعلى أساس ذلك نقايس بقية الأنواع من النفع به، وتعيين درجات النفع في كلّ واحدٍ منها.
 
وقد طُرح في المذهب النفعيّ العديد من الأسئلة والاشكالات المختلفة حول معنى النفع وملاك تعيين نفعية الأمور المختلفة، إلّا أنّنا لن نتعرض ها هنا لذكر الاشكالات الجزئية[20] بل سنكتفي بتحليل ودراسة الاستدلالين السابقين وبشكل مستقلّ.
 
1 - 1 - 6. تحليل الاستدلال الأول‏
 
1 - كيف يمكن للماسوشيين1 - والذين يلتذّون بايذاء الآخرين - إرضاء عواطفهم من خلال منفعة الآخرين؟
 
إنّ بعض الأفراد ولأيّ سبب كان - نظير التعود على الوحشية وقتل الناس أو أنواع الأذى الأخرى بهم - يميلون بدلاً عن إيصال النفع للآخرين والالتذاذ بذلك إلى تعذيبهم وتسبيب الآلام لهم ويلتذون بذلك أو على الأقل يميلون أكثر إلى أذية الآخرين والالتذاذ بذلك، ومن الممكن أنّ نعتبر مثل هؤلاء الأفراد أناساً غير طبيعيين أو مجانين وأن نعتبر أفعالهم بناءً على فهم عامة الناس من جملة الأفعال القبيحة والسيئة.
 
لكن على فرض وضوح المراد من قولنا إنّ هذا الإنسان "غير طبيعي" أو "مجنون"
 
 
 

1-  Masochistis.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
221

214

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  فإنّ النفعيين لم يُثبتوا أنّ لذائذ وميول مثل هذا الشخص غير معتبرة عندهم، ولم يجعلوا فهم عامة الناس كملاكٍ للتقييم.


وبناءً عليه إذا كان النفع (مجرد اللذة أو إرضاء الميول) ذا قيمة ذاتية عندنا فإنّ التذاذ هؤلاء الأفراد بإيذاء الآخرين أو إرضاء ميولهم من خلال ذلك يعتبر منفعة وبالنسبة لهؤلاء الأفراد فإنّ الأنانية لا تستلزم الغيرية.

2 - على فرض اعتبار العاطفة أو حِسَّ إرادة الخير تجاه الآخرين منفعة في مقابل أذيتهم، فإنّ منفعة العواطف إذا تزاحمت مع سائر منافع الفرد، وكان مقدار هذه المنافع أكبر فلا بدّ بناءً على الأنانية من ترجيح تلك المنافع، وفي هذه الصورة أيضاً فإنّ الأنانية لا تستلزم الغيرية أيضاً.

ومن الممكن أنْ يقال في مواجهة هذين الاشكالين إنّه وبغضّ النظر عن مقدار النفع الحاصل فإنّ كلّ المنافع ليست ذات قيمة متساوية، ومثالاً على ذلك فإنّ العواطف وإرادة الخير تجاه الآخرين لها الأفضلية على المنافع الأخرى[21].

إلا أنّه وكما أشرنا عند تحليل مذهب اللذة الشخصيّة فإنّ القبول بهذا الكلام يستلزم عدم قبولنا بالقيمة الذاتية للنفع، لأنّه إذا اعتبرنا بعض أنواع النفع نظير إرادة الخير للآخرين أكثر قيمة من سائر المنافع فإنّنا نحتاج لتعيين درجة القيمة لأنواع النفع إلى معيارٍ وملاك غير النفع نفسه. وفي هذه الحال لن يكون للنفع قيمة ذاتية. وبناءً على هذا فإنّ التفريق بين أنواع النفع يلزم النفعيين برفع اليد عن مبناهم القائل بأصالة النفع الذاتية، وبالبحث عن القيمة الذاتية للأخلاق في مكان آخر، وبايجادها وتعيينها لا بدّ لهم من إثبات أنّ قيمة العواطف الفردية أفضل من بقية القيم الأخرى ليثبتوا من خلال ذلك الملازمة بين الأنانية والغيرية.

وبناءً على ما تقدّم فإنّ خلاصة الإشكال على الاستدلال الأوّل القائل بالتلازم بين الأنانية والغيرية، مفاده أنّه ومع القبول بمباني النفعية فإنّ الأنانية لا تستلزم إشباع عاطفة الغيرية، لأنّه من الممكن عدم وجود مثل هذه العاطفة عند بعض الأفراد، أو من 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
222

215

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 الممكن في بعض الموارد كون مقدار المنافع الأخرى أكثر منها.


وأما إذا فضّلنا الميل إلى العواطف على سائر أنواع النفع الأخرى فلن يكون تفضيلها بسبب النفع الحاصل منها. ولذا فإنّ النفع ليس له قيمة ذاتية وإنّ مبنى مذهب النفعية غير صحيح.

2 - 1 - 6. تحليل الاستدلال الثاني‏

لقد ذكر النفعيون بعض النماذج لإثبات الرابطة المباشرة بين نفع الفرد ونفع الجميع، والملازمة بين الأنانية والغيرية، وفي المقابل فقد أشار منتقدو هذه النظرية إلى موارد أيضاً تنقض وجود هذه الرابطة المباشرة بين النفعين. ومثلاً على ذلك لو فرضنا أنّ شخصاً ما أراد زيادة مهاراته في الرماية فاستهدف في رميه العاجزين والمرضى والحيوانات، فإنّه هنا مع ازدياد منفعته الشخصيّة لم يزد المنفعة الجمعية.

ومن الممكن للنفعيين أنْ يدافعوا عن نظريتهم قائلين إنّه لم يُحسَب في أمثال هذه الموارد كلّ النفع والضرر الحاصل من الفعل ولذا فإنّ هذه الموارد لا يمكن أنّ تنقض نظريتهم.

وفي رأينا فإنّه لا يمكن لا لأمثلة النفعيين إثبات هذه الرابطة المباشرة في كلّ الموارد، ولا لأمثلة المنتقدين أنّ تكون موارد نقضٍ قطعية ضد هذه النظرية، ولذا فإنّ الحكم القطعيّ حول الرابطة بين نفع الفرد ونفع المجتمع لا بدّ أنّ يُلحظ فيه كلّ النفع والضرر الحاصل من أيّ فعل.

وبشكل كلّي فإنّ إثبات الملازمة بين الأنانية والغيرية لا يمكن أنّ يتمّ إلّا في صورة إثبات الملازمة الدائمة بين الأفعال الشخصيّة والأفعال الغيرية.

وكذلك الحال إذا أردنا إثبات التنافي بينهما لا بدّ من اثبات عدم إمكانية الجمع أصلاً وفي أيّ وقت بين أفعالهما.

وفي غير هذه الصورة لا بدّ بعد أنْ نعيّن القيمة الذاتية والغيرية في الأخلاق أنْ نشير في موارد تزاحم الأنانية مع الغيرية إلى ما له القيمة البديلة منهما، وأن نحلّل أيضاً هذه الرابطة الموجودة بين الأنانية والغيرية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
223

216

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 وحتى الآن ومع الاطّلاع على أهمّ النظريات والمذاهب الأخلاقيّّة حول منشأ وإثبات الأحكام الأخلاقيّّة سنسعى لاكتشاف وايجاد المذهب الأخلاقيّّ الصحيح والمقبول.


الأسئلة
 
1 - أجب عن هذه الأسئلة التالية بناءً على كلّ واحدٍ من هذه المذاهب الأخلاقيّّة: اللذة الشخصيّة، ترك الدنيا، القوة، الانسجام العقلاني، العاطفة والنفعية العمومية:

أ - كيف تنظر هذه المذاهب إلى السعادة؟

ب - كيف تثبت رأيها في السعادة؟

ج - ما هو رأيها في الرابطة بين الأنانية والغيرية؟

2 - أوضح الفهم البسيط والفهم المعتدل عن اللذة الشخصيّة.

3 - أوضح المغالطة بين القيمة الطبيعية والقيمة الذاتية واذكر أحد المذاهب المرتكب لهذه المغالطة.

4 - ما هو المشكل الّذي يواجهه مذهب اللذة الشخصيّة لمحاسبة القيم على أساس مقدار اللذة والألم؟

5 - لمَ يوجد التنافي بين القبول باختلاف أنواع اللذة والنفع من حيث القيمة والقبول بالقيمة الذاتية للنفع أو اللذة؟ 

6- أ - أوضح مبنياً مذهب ترك الدنيا الأخلاقيّ.
ب - هل بإمكان المذهب القائل بالواقعيّّة القابلة للإثبات أنْ يقول بنفي قيمة الدنيا بشكل كامل؟ لماذا؟

7 - أ - كيف وجّه نيتشه قيمة القوة؟

ب - لمَ لا يمكن القبول بهذا التوجيه؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
224

217

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 8 - اعتقد نيتشه بعدم تساوي الناس في الحقوق نظراً لعدم تساويهم من حيث الامكانات والاستعدادات، ما هو إشكالك على خصوص هذا الرأي؟

 
9 - ما المراد بالقاعدة الوسطى الذهبية؟ ولأي شي‏ء جعلها أرسطو كمعيار وملاك؟
 
10 - ما هو تعريف الأنانية والغيرية؟
 
11 - هل أكد المذهب العاطفي على النية أم على نتيجة العمل؟ وعن أيٍّ منهما غفل؟ أوضح ذلك.
 
12 - بغضّ النظر عن صحة أو عدم صحة المعيار الّذي مال إليه العاطفيون لماذا لا يمكن الاكتفاء بهذا المعيار؟
 
13 - بأي دليل رجح الأنانيون الأنانية؟
 
14 - لماذا أكد النفعيون على محاسبة النفع العمومي مع أنهم يقولون بالتلازم بين الأنانية والغيرية؟
 
15 - اذكر الدليلين اللذين ذكرهما النفعيون على الملازمة بين الأنانية والغيرية وقم بتحليلهما.
 
للبحث
 
1 - تأمّل في هذه الاستدلالات الثلاثة:
 
أ - "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللهُ أَطْعَمَهُ..."1.
 
ب - إن الله خلق الإنسان وأعطاه إرادة حرة، ولذا فإنّ كلّ عمل يؤتى به بحرية فهو قيّم. ولا يحقّ لأحدٍ منع الآخرين من الاستفادة من حريتهم.
 
 
 

1- يس (36): 47.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
225

218

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 ج - إن بعض الناس يعيشون بشكل طبيعي تحت شرائط الفقر والمرض أو إنهم قاصرون عن معرفة طريق الحياة الصحيح، ولذا فنحن غير مكلَّفين بتأمين احتياجاتهم ورفع مشاكلهم.


والآن اذكر:

أولاً: ما هو الوجه في عدم صحة هذه الاستدلالات؟

ثانياً: في أيّ موردٍ من هذا الفصل ذكرنا شبيه هذه الاستدلالات؟

ثالثاً: هل تعرف استدلالات أخرى مشابهة لها؟

2 - ابحث حول هذه الأمثلة المذكورة من جهة إمكان عدّها مواردَ نقضٍ على الرابطة المباشرة بين نفع الفرد ونفع المجتمع:

أ - مع معاقبة البري‏ء فإنّ عموم الناس لن يرغبوا في فعل ما يضرهم.

ب - وهب أحدهم كلّ أمواله للآخرين ثمّ مات مباشرة.

ج - القاتل يسلّم نفسه ويقبل بالعقاب لإقامة النظام في المجتمع.

د - إنّ ذوي النفوذ والسلطة وناهبي الأموال والمستعمرين والوحوش الاقتصاديين يصادرون منافع الآخرين من أجل منفعتهم الشخصيّة.

3 - أ - من الممكن أنْ تكون إحدى هذه الموارد كنتيجة لأحد المذاهب الّتي ذكرناها وحللناها في هذا الفصل، اربط بينها:

- الاستبداد والفاشية.
- الرأسمالية.
- تحقير النفس والتقليل من شأنها.
- الانزواء الاجتماعي.
- الاعتدال.
- الفساد أو التشرد.
- الوطنية.

ب - إبحث حول النتائج التربوية الأخرى المترتبة على المذاهب الستة المذكورة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
226

219

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 في هذا الفصل، وقم بالمقايسة بينها. 


(ما هي الخصائص الّتي يمكن أنّ تلحق بالفرد أو المجتمع الّذي يتربّى بناءً على أحد هذه المذاهب الأخلاقيّّة؟).

لا بدّ من الالتفات إلى أنّ اللذة الشخصيّة تختلف عن الانفعالية حيث إنها نوعٌ من الواقعيّّة والغائية وتعتبر أنّ هدفها الأصلي ومطلوبها الذاتيّ هو حصول اللذة. واللذة حالة إدراكية تهب صاحبها نوعاً من الكمال والذي يتأتى من خلال الإتيان ببعض الأفعال أو تحصيل بعض الصفات الخاصّة.
ورغم أنّ بعض الأفراد قد يكون لهم احتياجات خاصّة ضمن شرائط خاصّة أيضاً وبحصولها وتأمينها يلتذون بذلك، فإنّ كلّ الناس أيضاً يلتذون عند حصول الأمور المشابهة لها والدليل على ذلك اشتراكهم من حيث الطبيعة والحاجات الطبيعية أيضاً.

وبعبارة أخرى فإنّ كلّ الناس ضمن بعض الشرائط الواقعيّّة المشابهة يتشاركون ويتشابهون من حيث اللذة أو الألم. وأما الانفعاليون فإنّهم لا يطلبون تحصيل أيّ نتيجة واقعيّة من الأفعال والصفات الأخلاقيّّة ما وراء السلائق الشخصيّة، وهم أيضاً لا يبحثون عن منشأ الاحساسات الفردية ضمن الاحتياجات الواقعيّّة. وبعبارة أخرى فإنّ مذهب اللذة الفردية يعتبر حصول اللذة أو عدم التألم عند الفرد مطلوب وغاية الفعل الأخلاقيّ بينما يرى المذهب الانفعالي أنّ الالتذاذ هو مبدأ الأفعال الأخلاقيّّة لا الغاية المطلوبة منها وأنه لا منشأ واقعياً لمطلوبيتها.

يعتبر آريستيبوس (Aristippus) (435 ـ 355ق.م) وهو مؤسس المدرسة القورينائية (Cyrenaic School)اللذة الشخصيّة الناظرة إلى حال العمل ذات قيمة ذاتية أخلاقيّّة. واحتمل بعضهم أنّ حفيده المسمى أيضاً اريستيبوس هو مؤسس هذه المدرسة.

ويعتبر القورينائيون أنّ اللذة هدفُ الأخلاق ولكنهم يعتقدون عموماً بأنّ الإنسان العاقل الناظر إلى مستقبله يبتعد عن الافراط في اللذة المؤدية إلى التألم أو العقوبة. (راجع: فردريك كابلستون، تاريخ فلسفة، ج‏1، ترجمة سيد جلال الدين مجتبوي، ص‏145).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
227

220

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 ويميل بعضهم أمثال هكزياس (Hegasias) إلى القول باللذة السالبة أيّ فقدان الوجع والألم، والبعض آخر منهم أمثال انيكريس (Anniceris) إلى القول باللذة الموجبة. وقبلَ أريستيبوس ببعض أفكار سقراط وآنتيس تنس القائلة بأنّ هدف الحياة هو السعادة والفرح، واعتبر أنّ مصداقها هو اللذة الجسمانية عند الفرد في الزمن الحاضر، وقيل إنّه كان متأثراً بالسوفسطائي المعروف بروتاغوراس. واعتبر أنّ ملاك العمل هو الاحساس الشخصي مستدلاً على ذلك بعدم امكان المعرفة اليقينية للأشياء في نفسها وباحساس الآخرين وبناءً على ذلك اعتبر أنّ المطلوب الذاتيّ والواقعيّّ الّذي يجب أنّ يكون هدف الأخلاق هو اللذة الشخصيّة (راجع: نفس المصدر، ص‏144 - 145).

من جملة هؤلاء أبيقور (Epicurus ) (341 ـ 271ق.م) - وقد اختلف في شخصيته الأخلاقيّّة، فاعتبره بعضهم فاسد الأخلاق بذي‏ء الكلام وصاحب هوى، بينما اعتبر آخرون أنّه يمتلك روحية القناعة والاحسان إلى الآخرين (راجع: اندريه كرسون، فلاسفه بزرك، ترجمة كاظم عمادى، ج‏1، ص‏310 - 311, اميل بريه، تاريخ فلسفه، ترجمة علي داودى، ج‏2، ص‏93) - الّذي يعتقد بأنّ الإنسان كالحيوانات يطلب اللذة ابتداءً ويبتعد عن الآلام (راجع: اميل بريه، نفس المصدر، ص‏119).

ويقول أبيقور: "نحن نعتقد بأنّ اللذّة هي مبدأ وغاية الحياة السعيدة لأننا نعرفها بعنوان أول "خير" وهي ذاتية لنا وتُخلقَ معنا وبالالتفات إليها نقوم باختيار أيّ شي‏ء أو اجتنابه" (راجع: فردريك كابلستون، تاريخ فلسفه، ج‏1، ترجمة سيد جلال الدين مجتبوى، ص‏467) ولكنه يصرح أيضاً بأنه: "عندما نقول إنّ اللذة هي الغاية فلا نقصد منها اللذة الحاصلة من الفساد واللهو والرغبات" (راجع: اميل بريه، تاريخ فلسفه، ترجمة علي مراد داوودى، ص‏120).

وإنّ الإنسان الحكيم هو الّذي يسعى إلى الخير الأعلى مريداً وموفقاً بين فقدان الألم الجسميّ وفقدان الاضطراب الروحيّ (راجع: اندريه كرسون، فلاسفه بزرك، ترجمة كاظم عمادى، ج‏1، ص‏362).

ومع هذا الحال فقد قبل بعضهم فقط بآرائه أمثال كوسما رايموندي (co sma Riamondi) (أحد أتباع الإنسانية، توفي سنة 1435 ميلادية) وخالفه الكثيرون وخاصة في رأيه حول السعادة القائل إنّ العقل تابع للاحساسات وإنّ الحياة الإنسانية بمنزلة الحياة الحيوانية، (راجع: تاريخ فلسفه أخلاق غرب، جمع لارنس سي بيكر، ترجمة جماعة من المترجمين، ص‏115).

مثالاً على ذلك، فإنّ أبيقور بتقسيمه اللذة إلى طبيعية وغير طبيعية، وإلى ضرورية وغير ضرورية، يقول إنّ الإنسان الحكيم يسعى نحو اللذة الطبيعية الضرورية، ويوصل متطلباته إلى الحدّ الأقل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
228

221

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 (راجع: اميل بريه، تاريخ فلسفه، ترجمة علي مراد داودى، ص‏122 - 123). ويعتبر أيضاً أنّ الخير الأعلى أخلاقيّاً هو اللذة الساكنة (Static pleasure) وبالوصول إليها سيزول الوجع والألم.


(See: Lawrence.C Becker and Charlotte B. Becker, eds Encyclopedia of Ethics, vol 1, p489).

ومع قبول أبيقور بترجيح اللذائذ الروحانية على اللذائذ الجسمانية، اعتقد بأنّ الاستنتاج العقلانيّ في باب اللذة والألم يمكّن الإنسان من تحصيل حياة تكون اللذة الدائمة فيها أكثر من الألم الزائل.

(راجع: تاريخ فلسفه أخلاق غرب، جمع لورنس سي بيكر، ترجمة جماعة من المترجمين، ص‏49).

إلا أنّه ومع ذلك كان مادياً ويعتبر الموت عين الفناء والعدم ولذا سعى لتحصيل الحياة المطمئنة في الدنيا (راجع: نفس المصدر، ص‏150, اندريه كرسون، فلاسفه بزرك، ترجمة كاظم عمادى، ج‏1، ص‏363).

وبناءً على ما تقدم يمكن القول إنّ أبيقور اعتبر كون المعايير طبيعية، ضرورية، ناظرة إلى الروحانية، ودائمة أيضاً في محاسبة ومقايسة اللذائذ بعضها ببعض.

ومثل هذه المعايير استفاد منها لاحقاً بعض النفعيين أمثال بستام وميل لمحاسبة ومقايسة النفعية العمومية (راجع: المذكرة العشرين من هذا الفصل).

رغم أنّ المدرك للذائذ كلّها هي روح الإنسان ولذا فإنّ كلّ اللذائذ تُعتبر روحانية، إلّا أنّ اللذائذ الحاصلة مباشرة عن طريق الجسم وحاجاته تسمّى عادة باللذائذ الجسمانية أو المادية، وفي المقابل فإنّ اللذائذ الراجعة إلى الروح وحاجاتها بشكل مباشر كسكون النفس وهدوء البال تسمّى اللذائذ الروحانية مع أنّ تأمين بعض حاجات الجسم يؤثر بشكل غير مباشر في تحصيل اللذة الروحية أيضاً.

يمكن اعتبار اللذة - والتي اعتبرت ادراك كمال القوة المدركة (راجع: المذكرة الثامنة من هذا الفصل) - كمالاً أو ملازمة للكمال، لكن وحيث إنّه اعتبر أنّ كلّ لذة كقوة خاصّة عند الإنسان يمكنها لوحدها أنّ تكون كمالاً أو ملازمة له، وأنّ كلّ لذة دائماً ومن حيث المجموع لا تزيد في فائدة وجود الإنسان، لذا لا يمكن اعتبار كلّ لذة كمالاً حقيقياً له ونتيجة ذلك أنّ اللذة لا قيمة ذاتية لها.

ومثالاً على ذلك، فإنّ المعايير المستفادة من مجموع كلمات أبيقور إذا أريد القول إنها لمقايسة مقدار اللذة فلن تكون معايير صحيحة لذلك، إذ لا يمكن القبول بأنّ اللذائذ الطبيعية أو الضرورية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
229

222

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  أو الروحانية هي أطول أو أكبر دائماً بالمقايسة باللذائذ غير الطبيعية أو غير الضرورية أو غير الروحانية.


لكن من الممكن أنّ يكون مرادهم ومقصودهم أنّه عند مقايسة ومحاسبة اللذات لا بدّ من الالتفات أيضاً إلى نوعها مضافاً إلى مقدارها، وأنّ بعض أنواع اللذائذ بغضّ النظر عن مقدارها أفضل وأعلى من بعضها الآخر كأفضلية اللذائذ الروحانية على الجسمانية منها.

وفي هذه الحال لا بدّ من تقديم معيارٍ آخر لتعيين درجة قيمة اللذات وعلى أساسه أيضاً تُعيَّن أفضليتها أو رذالتها.

ولكن حينئذٍ لن تكون قيمة اللذة ذاتية بل غيرية لابتناء قيمتها حينئذٍ على معيارٍ آخر وليس من ذاتها. ولذا إذا اعتبرنا أنّ اللذة الروحانية أفضل من غيرها لجهة موافقتها لطبيعة الإنسان وكماله فما له القيمة الذاتية هنا ليس خصوص اللذة بل الأنسب أنّ نقول إنّ الكمال الإنسانيّ هو ما له القيمة الذاتية.

عرف الفلاسفة المسلمون - أمثال ابن سينا وملا صدرا - اللذة والألم بالادراك الملائم والادراك غير الملائم، والمراد من الملاءمة هو الكمال الخاص للقوة المدركة والمراد من عدمها هو نقصها، وعليه فإنّ منشأ اللذة والألم هو كمال ونقص الوجود (راجع: محمّد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج‏4، ص‏117 - 118 نقلاً عن الحكماء وابن سينا, نفس المصدر، ص‏122 - 123 - 135 - 141 - 142 - وج‏9، ص‏122 - 125).

وأيضاً فإنّ تشخيص القيمة والوظيفة الأخلاقيّّة بعد إثبات وجود الله العالم الصادق والحكيم وبعد إثبات وجود الحياة الخالدة الأخروية يرتبط باعتقادهم بأخبار الله عن طريق الوحي، واعتُبر أنّ تبيين طريق الكمال هو السبب والدليل العقلي على لزوم الوحي وبعثة الأنبياء. وسوف نشير في الفصل العاشر من هذا الكتاب إلى دور الوحي في تشخيص قيم الأفعال.

يمكن تقسيم مذهب ترك الدنيا إلى قسمين: الشرقيّ والغربيّ. ومن جملة المذاهب الشرقية في هذا المجال يمكن الاشارة إلى مذهب البوذية الأخلاقيّّ، ومن جملة المذاهب الغربية نذكر المذهب الكلبيّ والرواقيّ. وبناءً على اعتقاد البوذيين فإنّ لأعمال الإنسان ونيته آثاراً ونتائج (كارما) (Karma) تبقى موجودة بعد حياته الفعلية، فالإنسان بعد موته وبالتناسب مع أعماله الحسنة والقبيحة الّتي قام بها في حياته يحيا مرة ثانية.

وتستمر دائرة الحياة والموت (سَمسارَه) (samsara) دائماً حتى يتمكن الإنسان باتّباعه لتعاليم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
230

223

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  المذهب البوذيّ المستلزمة لترك الهوى والهوس والميول والشهوات والإعراض عن الدنيا من تحرير نفسه من هذه الدائرة الأليمة والمفجعة فيصبح حراً (مكشه) (Moksa) ويصل إلى نهاية رحلة الحياة والموت الدائمة (النيرفانا) (nirvana).


ويعتبر بوذا (Buddha - Siddhartha Gautma) (القرن السادس - الخامس ق.م) أنّ الحياة كلها - ولادة ومرضاً وشيخوخة وانتهاء بالموت - ألمٌ ومعاناة.
ويعتقد بأننا جميعاً نعاني في هذه الحياة تارة لعدم وجود ما يرضينا ويلائمنا وتارة أخرى لفقدان ما نرتضيه وما يلائمنا من الآمال والرغبات. وبشكل مختصر فإنّ الاتصال والارتباط بهذا الوجود كله معاناة وألم. ولذا فإنّ الحياة أليمة وقبيحة ولا بدّ من اجتناب الشهوات والآمال والميل إلى هذه الحياة لئلا نرجع إلى هذه المعاناة والآلام (راجع: جان، بى.ناس، تاريخ جامع أديان، ترجمة علي أصغر حكمت، ص‏175 - 203).

وهنا نقول إن ما ذكر من أنّ لأعمال الإنسان ونواياه نتائج لا تنحصر في حياته الفعلية يعتبر كلاماً صحيحاً، لكن طبقاً لتعاليم الأديان السماويّة فإنّ هذه النتائج تعود إلى الإنسان في الحياة الآخرة الأبدية، وليس بالولادة المجددة في هذه الدنيا. وإن جزئيات الأعمال اللازمة من أجل الفوز والفلاح الحقيقيّ والتي من جملتها مقدار الاقبال أو الاعراض عن الدنيا إنما يمكن بيانها من قبل المطّلع على كلّ نتائجها الدنيويّة والأخروية وهذا مما لا يمكن أنّ تضمنه المذاهب والقوانين الموضوعة من قبل البشر أنفسهم.
وأما المذهب الكلبيّ (Cynicism) فيرى أنّ السعادة والفضلية في التحلّل وقطع تعلّق الخواطر بكلّ شي‏ء، ولأجل ذلك لا بدّ أنّ تعيش وتحيا بشكل طبيعي وأنْ تتحلّل من القيود والأعراف الاجتماعية وتترك اللذائذ الدنيويّة لئلا ترتبط بها ويتعلق قلبك بحبائلها. ومؤسس هذا المذهب هو آنتيستينس (Antisthenes) (ما بين 445 - 365ق.م تقريباً) - وهو من تلامذة سقراط - وديوجين السينوبي (Diogenes of Sinope) (412/403 ـ 324/321ق.م).

وذُكر عن آنتيستينس اعتقاده "بالرجوع إلى الطبيعة" ومخالفته للدولة والملكية الخصوصية والزواج والدين، واعتباره الفضيلة كافية للسعادة وحسن الحظّ.

ويعتبر أيضاً أنّ الفضيلة تكون بفقدان الأمل والتحلل من الرغبات وعدم الحاجة، وأنّ عدم الاحتياج هو الخير الحقيقي والكمال المطلوب والهدف في حدّ ذاته ونفسه.
وأما ديوجين فقد كان متأثراً أيضاً بأفكار آنتيستينس، وكان معتقداً بأن ّالفضيلة والحكمة تتأتّى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
231

224

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 من خلال التخلّص من الميول النفسانية. ولذا كان يقول: لا تتعلق باللذائذ المنبعثة من المال فتحرّر نفسك من قيد الخوف والقلق.


وقد احتقر كلّ الآداب والتقاليد وصولاً إلى الدين، وكذلك المنزل والطعام واللباس والنظافة، وقيل إنّه كان يعيش في وعاء أو جرّة تستعمل لدفن الأموات. وكان يقلد في حياته الحيوانات لا سيما الحياة الكلبية ولربما سُمّيَ مذهبهم لذلك بالمذهب الكلبي، (راجع: فردريك كابلستون، تاريخ فلسفه، ج‏1، ترجمة سيد جلال الدين مجتبوي، ص‏141 - 144, برتراند راسل، تاريخ فلسفه غرب، ترجمة نجف دريا بندري، الكتاب الأول، ص‏336 - 339, الموسوعة الفلسفية العربية، رئيس التحرير معن زيادة، ج‏2، ص‏1132 - 1138) ولدينا عدة ملاحظات على هذا المذهب الأخلاقيّ:

أولاً: مع أنّ عدم الحاجة (الاكتفاء) أمر مطلوب للإنسان، فإنّ عدم الاحتياج المطلق مخصوص بالله وهذا غير ممكن في حق الإنسان، لكن حيث إن الكلبيين يريدون من عدم الاحتياج إلى الآخرين تأمين السكون واطمئنان البال، لئلا يغتموا بفقدان ما تعلق به القلب، لا بدّ من القول إنّ التعلق بالله والارتباط به مضافاً إلى عدم تنافيه مع هذا الهدف فإنّه الموجب لحصوله أيضاً (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).

ثانياً: إنما يمكن للإنسان تأمين الحدّ الأكبر من عدم الاحتياج فقط عند الاتكال والتعلق بالمعبود الحقيقيّ وقطع التعلّق بكل ما لا يتوافق معه ("إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك" من مناجاة أمير المؤمنين عليه السلام في شهر شعبان). وهذا لا يعني قطعاً عدم الاستفادة من النعم الإلهية لأنّ ما يوجب تعلّق قلب الإنسان به هو أنّ يجعله هدفه الأصلي الّذي يسعى إليه وحتماً فإنّ المتكل في أموره على الله فقط يستفيد فقط من الأمور والأدوات الّتي يعينها ويشخصها له.
ثالثاً: إنّ للإنسان استعدادات وإمكانات خاصّة به تميزه عن سائر الحيوانات ولذا لا ينبغي لنا أنّ نعيّن للإنسان حياة موافقة للطبيعة وذلك بملاحظة الحياة الطبيعية للحيوانات.

وأما مؤسس المذهب الرواقي (Stoicism) فهو زينون (Zeno) من أهل اكتيوم في قبرص (citium) (234 ـ 262ق.م). قيل إنّه كان يعطي دروسه تحت رواق مغطّى ولذا سُمّيَ وأتباعه بالرواقيين وقد تأثر هؤلاء بالمدرسة الكلبية.

وهناك تفاوت في الآراء بين الرواقيين القدماء (القرن الثالث قبل الميلاد) والرواقيين الأواسط (القرن الثاني قبل الميلاد)، والرواقيين الجدد (القرن الأوّل والثاني بعد الميلاد).

وسوف نشير ها هنا إلى أهمّ الموارد المقبولة عندهم:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
232

225

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 يعتبر الرواقيون أنّ العالم كله موجود واحد، جسمه الطبيعة وروحه هي الله، وباعتقادهم فإنّ الله يدبّر هذا الكلّ الواحد على أحسن وجه، وأنّ نظام العالم خيرٌ محض ولا وجود للشرّ الحقيقي.


ويعتقدون أيضاً بأنّ مصير كلّ أجزاء هذا العالم معينة من قبل الله، ولازم هذا التقدير الإلهي القول بالجبر الطبيعي. وبالتالي لا يمكن لإرادة أيّ شخصٍ أنّ تغيّر شيئاً في أوضاع هذا العالم.

ومع هذا فإنّهم يقولون إنّ الإنسان حرّ في التسلّط على نفسه، وهو إما أنْ يختار ويريد الرضا بما هو موجود في هذا العالم والتسليم له وعدم الاعتناء بالحياة الدنيا، وإما أنْ يختار عدم اعتبار هذا النظام خيراً وأنه خارجٌ عن إرادته وبالتالي سيفقد اطمئنانه وهدوءه وسيصيبه اليأس والقلق.

وباعتقادهم أيضاً أنّ الفضيلة - والتي هي أمر داخلي والجزء الوحيد المشكِّل للسعادة - أمرٌ نادرٌ وحسنٌ في الحقيقة، وهي تقع بشكل كاملٍ تحت اختيار الإنسان وإرادته. والفضيلة عبارة عن الإرادة الموافقة للطبيعة بحيث توجب كمال الإنسان والحياة المطمئنة.

وقد أثّر المذهب الرواقيّ في أخلاق المسيحية المنتشرة حالياً ومن الممكن أنّ تكون الرهبانية الواردة في المسيحية (ورهبانية ابتدعوها) (الحديد: 27) ناشئة عن هذا التأثر، (راجع: فردريك كابلستون، تاريخ فلسفه، ج‏1، ترجمة سيد جلال الدين مجتبوي، ص‏444 - 459, برتراند راسل، تاريخ فلسفه غرب، ترجمة نجف دريا بندري، ص‏365 - 371, تاريخ فلسفه أخلاق غرب، جمع لورنس سي، بيكر، ترجمة جماعة من المترجمين، ص‏47، وص‏51 - 53, اميل بريه، تاريخ فلسفه، ترجمة علي مراد داودي، ج‏2، ص‏75 - 87, جان برن، فلسفه رواقى، ترجمة سيد أبو القاسم پورحسيني، ص‏128 - 176).

ولدينا عدة ملاحظات هنا أيضاً على هذا المذهب الأخلاقيّ:

أوّلاً: إنّ حلول الله كروحٍ في جسم الطبيعة يستلزم حاجته إلى الجسم وهو محالٌ، وعليه فإنّ وحدة الوجود بهذا المعنى لا يمكن القبول بها.

ثانياً: إنّ القول بالتدبير والتقدير الإلهيّ في كلّ شي‏ء المستلزم لكون نظام الوجود بأكمله خيراً وحسناً، وأنّ ذلك من صفات كمال الله مقبول منهم إلّا أنّ ذلك لا يستلزم الجبر كما قالوا، لأنّ مقتضى هذا التدبير والتقدير الإلهيّ أنْ تلك الطائفة من الأمور الّتي ترتبط باختيار الموجودات المختارة تقع تحت اختيارهم، وهذا لا يتنافى لا مع التقدير الإلهي ولا مع اختيار الموجودات المختارة، ولذا فإنّ الرواقيين أخطأوا في استنتاجهم الجبر من قولهم الصحيح بالتقدير الإلهي وضيّقوا جداً دائرة الأفعال الاختيارية. ولو فرضنا أنّ الجبر ملازم للتقدير الإلهي فإنّ استثناء الإرادة الداخلية بلا وجه وجيه، وفي 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
233

226

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 هذه الصورة لن يبقى أيّ مجال للصفات والأفعال الاختيارية ولن يبقى أيّ موضوع للأخلاق حينئذٍ.


ثالثاً: إنّ فضيلة الرضا والتسليم أمام التقدير الإلهيّ والاعتقاد بحسن نظام الوجود وكونه خيراً من أعلى الكمالات والفضائل الإنسانية. وهذا ما أكد عليه بحق المذهب الرواقيّ. إلّا أنّ التمتّع بهذه الفضيلة لا يستلزم أنّ نسعى ضمن امكانياتنا وحدود اختيارنا لتأمين الحد الأكثر من الخير في هذا العالم بل لا بدّ فقط من موافقة أنفسنا مع الطبيعة والاقتداء بحسن التدبير الإلهيّ.

من المؤكد وجود آخرين أكدوا قبله على دور "السلطة"، ومن هؤلاء ماكيافيللي (Nicolo Machiavelli) (1469 ـ 1527م) حيث اعتبر أنّ السلطة والقوة غاية في نفسها، وكان يرى أنّه من المسموح القيام بأي فعلٍ مفيدٍ ولازم من قبل الحاكم لحفظ سلطته وللوصول إلى أهدافه كاستعمال القوة والخداع والتخريب والفساد والظلم بل إنّه اعتبر ذلك نوعاً من الفضيلة (راجع: و.ت. جونز، خداوندان انديشه سياسى، ج‏2، القسم الأول، ترجمة علي رامين، ص‏44).وهو مع ملاحظته وجود التضاد والصراع بين منافع الشعب والطبقات الحاكمة (نفس المصدر، ص‏39 - 40) فقد أكد على أنّ الحاكم إذا أراد أنّ يحافظ على حكمه وسلطته بامكانه أنّ لا يفي بوعوده وتعهداته وأن لا يكون صادقاً في كلامه، ولهذا اعتبر الكذب والغدر والخيانة كلها فضيلة (نفس المصدر، ص‏45).ومن جملة نصائحه: لا بدّ من استخدام القوة بلا أيّ رحمة(نفس المصدر، ص‏48).وقد اعتُبر كلامه بمثابة مرجعٍ في فنّ الحكم (نفس المصدر، ص‏41) ومن ثمّ فقد ذكر في نظريته الأخلاقيّّة موازينه الأخلاقيّّة الخاصّة الّتي يعتقد بها. وعنده تعريف خاص به حول الحياة الحسنة إلّا أنّه لم يسعَ لاثبات حقانية ما يعتقده (نفس المصدر، ص‏24).وحيث إنّه لم يستدل على نظريته الأخلاقيّّة أعرضنا عن ذكره في المتن.

طُرح مذهب نيتشه كرد فعلٍ على الأخلاق المسيحية الرايجة في أوروبا والمتأثرة بأخلاق الرواقيين.

خالف نيتشه المسيحية واعتبرها موجبة للضياع والفساد ومخالفة للحياة (مثالاً على ذلك، راجع: الدجال(ضد المسيح) القطعة 62)ووافق داروين في الاعتقاد بأنّ الحيوانات تسعى بشكل طبيعيّ للحياة والبقاء فيها وأنّ هذا مستلزم للتنازع والصراع بينها (راجع: إرادة القوة، القطعة 369) إلّا أنّه خالف داروين في كون النتيجة الطبيعية لهذا التنازع هو غلبة وانتصار النوع الأفضل والأكمل فلم يوافقه في ذلك، وعلّل ذلك بأنّ النوع الأفضل والذي له تعقيداته الكبيرة ضعيف في مقابل النوع الأدنى الأكبر منه كماً وبالتالي فإنّ الطبيعة الظالمة ستنصر الموجودات الدنيا لا الموجود الأكمل (نفس المصدر، القطع 684 و685).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
234

227

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 كما وأنّه انتقد داروين والذي كبّر - في رأيه - وضخّم تأثير العوامل الخارجية في الانتخاب الطبيعي للنوع الأفضل (نفس المصدر، القطعة 647). وقال نيتشه إنّ الإنسان لا بدّ أنّ يستند إلى إرادته الداخلية لاكتساب القدرة والقوة والأفضلية بل اعتبر في فلسفته أنّ "إرادة القوة" هي أساس الحياة (راجع: الدجال، القطع 6 و17) واعتبر أنّ الفردية شكل من أشكال: "الرغبة والإرادة المستندة إلى القوة". (راجع: إرادة القوة، القطعة 784).


وبتعريفه الإنسان بأنّه حيوان وفوق الحيوان، والإنسان الأعلى بأنه غير الإنسان (ما وراء الإنسان) وفوق الإنسان (راجع: نفس المصدر، القطعة 1027) اعتبر أنّ الهدف هو ما وراء الإنسان وليس نوع الإنسان (راجع: نفس المصدر، القطعة 1001). واعتقد بضرورة إحياء الاستبداد الفرديّ (راجع: نفس المصدر، القطع 958 و1026).
وكذلك قام نيتشه في كتابيه الآخرين "أصالة الأخلاق" و"ما وراء الخير والشر" بعد تقسيمه أفراد الإنسان إلى قسمين السادة والعبيد بالتفكيك بين أخلاق كلا الفريقين. ومثالاً على ذلك اعتبر القدرة والشجاعة من صفات السادة وأما الكذب والرياء والحقارة فهي من أخلاق العبيد، واعتقد بأنّ أخلاق هؤلاء ناشئة عن حقدهم على أسيادهم وإنما وُجدت لترويض أسيادهم أو الانتقام منهم. ومع أنّ نيتشه يرفض الفردية الكاملة في الأخلاق ويعتقد بأنّ أخلاق العبيد بالنسبة لهم معتبرة (راجع: إرادة القوة، القطعة 287) فإنّه ينفي القيمة الحقيقيّة لأخلاق العبيد ويعتقد بقيمة "القوة" الملازمة للّذة والسعادة عنده (راجع: نفس المصدر، القطعة 1023) ويؤكد أنّ الإنسان يُقيَّم أخلاقيّاً بمقدار قوته: (راجع: نفس المصدر، القطعة 382 و855 و858).

وبعبارة أخرى فإنّ أنانية نيتشه تعني اعطاء الأصالة للفرد الأقوى وليس أصالة الفرد نفسه.

واعتبر أنّ الرجل الأقوى والإنسان الأعلى والذي هو من السادة هو من يضع القيم ويوجدها (راجع نفس المصدر، القطعة 999, ما وراء الخير والشر، القطعة 260) ويصرح بأنّ مثل هذا الشخص لا بدّ أنّ يكون شكاكاً بغيره (راجع: إرادة القوة، القطعة 963)، حقيراً سيئاً قاتلاً (نفس المصدر، القطع 967 و1026)، ظالماً معتدياً ومضلاً للآخرين ومستغلاً لهم (نفس المصدر، القطعة 968)، ونفى التساوي بين أفراد الإنسان واعتبرها خرافة (نفس المصدر، القطعة 864)، مدمرة (نفس المصدر، القطعة 871)، ولغواً (نفس المصدر، القطعة 874)، بل اعتقد بأنّ التساوي بين الناس في الحقوق مخالف للطبيعة والأخلاق (نفس المصدر، القطعة 734).

"ولا يمكن أنّ يكون أيّ إضرارٍ أو استغلالٍ أو تدميرٍ في ذاته باطلاً وغير مشروع، لأنّ الحياة في أساسها
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
235

228

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  تقوم على الإضرار والتجاوز والاستغلال والتدمير" (أصالة الأخلاق، البحث الثاني، القطعة11).


ويمكن الاشارة إلى خلاصةٍ لمذهب نيتشه الأخلاقيّ ذكرها بلسانه في كتابه الدجال، القطعة الثانية حيث يقول:

"ما هو الخير؟ هو ما يقويّ حسّ القوة، وإرادة القوّة، ونفس القوّة عند الإنسان، ما هو الشرّ؟ هو العجز الزائد، ما هي السعادة؟ هي الاحساس بازدياد القوّة - الاحساس بالتغلب على الموانع - ليست الفرح بل القوة الكبرى، ليست الصلح بأي وجه بل الحرب، ليست الفضيلة بل الاقتدار والعلو... ولا بدّ من ابادة العجَّز والمعاقين، وهذا أول أصل إنسانيّ عندنا، إذ لا بدّ من اعانة الإنسان في هذا الأمر المهم. ما هو الشي‏ء الأكثر ضرراً من الفساد؟ التعاطف الفعّال مع العجّز والمعاقين أيّ المسيحية".
وقد كان لمذهب نيتشه الأخلاقيّ الأثر الكبير في ظهور الفاشية والنازية. وعلى حد قول "استرن": "إنّ الاقرار والتأكيد على هذه" الأنا "والاحساس العميق والكبير بالأصالة الشخصيّة كان من أهمّ الأصول الاعتقادية عند الفاشية والنازية ولم يقترب أيّ شخص بمقدار ما قام به هتلر من تحقيق "القيم الأنانية" (راجع: جوزيف بيستر استرن، نيتشه، ترجمة عزت الله فولادوند، ص‏97)، وعلى حد قول راسل أيضاً "إذا أخذنا نيتشه على أنّه مجرد مرضٍ، فلا بد من القول بأن هذا المرض قد شاع واستشرى في هذا العصر الجديد" تاريخ فلسفه غرب، ترجمة نجف دريا بندري، ص‏1048).

وعلى الرغم من انتقاد نيتشه لقبول الظلم والحقارة والعجز والضعف والرياضات المخالفة للطبيعة الإنسانية. وهذا في حد نفسه جدير بالاهتمام وقد تعرض آخرون لنقدها أيضاً أمثال هيوم (راجع: دايفد هيوم، تاريخ طبيعى دين، ترجمة حميد عنايت، ص‏84) وكارل ماركس (راجع: اندريه بيتر، ماركس وماركسيسم، ترجمة شجاع الدين ضيائيان، ص‏237). إلّا إنّ تأكيد نيتشه على القوة والسلطة المادية حوّلته إلى مؤيد للظلم وموجّهٍ له، وإنّ استدلاله على نفي الحقوق الإنسانية المتساوية بناءً على قانون الطبيعة هو خلط بين التكوين والتشريع. والنكتة الايجابية في نظريته الأخلاقيّّة - وبغضّ النظر عمّا قام به من التوجيه والبيان - هو اعتقاده بأصل القوة إذ إنها بغضّ النظر عن نوعها تعتبر كمالاً حقيقياً للإنسان وإحدى الأمور المطلوبة له طبيعياً.

حيث إنّ أكثر النظريات والآراء تنسب إلى سقراط، فإنّ النظريات الّتي نقلها أفلاطون على شكل حواراتٍ جرت بين سقراط وغيره، كانت مورد خلاف عند المختصين في هذا المجال حول نسبتها كلها أو بعضها إلى سقراط، أو هل أنّ أفلاطون ذكر نظرياته على لسان سقراط ولم ينسبها إلى نفسه. وربما يمكن اعتبار الآثار الأولى لأفلاطون الّتي نقل فيها عن سقراط أو كان للأخير دور 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
236

229

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 مهم وأصلي فيها منسوبة إلى سقراط. وأما الآراء المذكورة في الآثار المتأخرة لأفلاطون وخاصة تلك الّتي لم يصرح فيها باسم سقراط يمكن اعتبارها من آثار أفلاطون.

 


ومع هذا فإنّ التفكيك الكامل بين نظريات وآراء هذين العلمين صعبٌ جداً.

ومع هذا التذكير سوف نشير باختصارٍ جداً إلى اسم النظرية الأخلاقيّّة عند سقراط وأفلاطون وأرسطو:
- سقراط (s ocrates) (469 - 399ق.م).
مع قبول سقراط بأنّ الخير الأصلي يجب أنّ يكون أكمل الأشياء ومستقلاً عن كلّ شي‏ء (فيلبُس، 20) وأن الروح (النفس) أفضل من الجسم (كريتون، 48) اعتبر أنّ انسجام النفس واعتدالها في الدرجة الأولى من حيث القيمة (فيلبس، 66) وأنّ الفضائل الأخلاقيّّة كالتقوى والعدالة من نتائج اعتدال النفس (غورغياس، 508). وأنّ السعادة حاصل هذه الفضائل (غورغياس، 508) واعتبر الخير في بعض الموارد مساوياً للّذة، والشرَّ مساوياً للألم (بروتاغوراس، 353 و354 و355 و358) ولكنه في موارد أخرى اعتبر بصراحة أنّ اللذة غير الخير وأنّ الألم غير الشرّ (غورغياس 494 إلى 500، و506 و513, فيلبُس 11، 32، 54، 66 و67) والظاهر أنّ مراده من نفي اللذة هو نفي الشهوات الحيوانية (فيلبُس، 67) واعتبر أنّ اللذة غير الحقيقيّة في مقابل اللذة الحقيقيّة، واللذة غير الخالصة في مقابل اللذة الخالصة، وقال إنّ اللذة الحقيقيّة والخالصة ناشئة عن إدراك حسي أو علم ما وأنها مخصوصة بالروح (فيلبس، 51، 52، 66).

إلا أنّه اعتبر أنّ اللذة الخالصة غير كاملة في نفسها (فيليب، 67) بل اعتبر أنها ملازمة للخير وأنّها في المرتبة الخامسة من حيث القيمة (فيلبس، 66). وذهب سقراط إلى أنّ سلامة الروح بل وحتى سلامة الجسم شرط للسعادة (غورغياس، 512 وكريتون، 47 و48), إلّا أنّ الظاهر كون مراده من هذه السعادة الأعمّ من السعادة الأخلاقيّّة الّتي تتحصّل بالاختيار، وأرجع كلّ الفضائل إلى المعرفة الحاصلة بالتعقل، ولذا فإنّ المعرفة حسنة في حدّ ذاتها (أوثودموس، 281 و282، وفيلبس، 11) وأنها كافية لكسب الفضيلة والسعادة (بروتاغوراس 345 و352 و355 و357 و358، ولاخس، 194، ومنون 77 و78، واوثودموس 280)، وقال بوحدة الفضيلة (بروتاغوراس 329 إلى 360). ومع هذا فقد اعتقد بأنّ الفضيلة ليست جزءاً من طبيعتنا وليست اكتسابية بل إنها حلولية في الإنسان بعناية من الله (منون 99 و100).واعتبر أنّ الفضيلة نافعة والنفع شرط للسعادة (اوثودموس، 280) وأنها معادلة للخير (بروتاغوراس 333، وغورغياس 468). ومن بعد سقراط أصبحت مفاهيم "اللذة" و"النفع" و"سلامة الروح" مورد تأكيدٍ عند بعض المفكرين وظهرت كمذاهب أخلاقيّّة مستقلة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
237

230

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 - أفلاطون ( plato ) (427 - 347 ق.م)


بعد أن أكّد أفلاطون على أنّ أفضل الأشياء لكلّ موجود هي الأشياء الّتي تتلاءم مع طبيعته (الجمهورية 586) قام بتشريح وبيان الأجزاء المختلفة لروح الإنسان فقال إنها مركبة من جزء عقلانيّ - يسعى نحو المعرفة - وجزء شهوانيّ - يسعى لارضاء الميول الحيوانية وجلب النفع - وجزء عاطفيّ - يطلب الجاه وهو منشأ الغضب والإرادة - (نفس المصدر، 439 إلى 441، و580 إلى 581) واعتبر أنّ الملاءمة مع طبيعة الإنسان في كون الجزأين الأخيرين من النفس تابعان ومطيعان للجزء العقلي منها (نفس المصدر، 586).

وقسم أفلاطون أيضاً اللذائذ المختلفة وبالتناسب مع أجزاء النفس الثلاثة إلى ثلاثة أقسام، واعتبر أنّ أعلى اللذات أيّ اللذة الصادقة الواقعيّّة والموافقة لطبيعة أجزاء النفس هي في إطاعة الجزء العاطفيّ والجزء الشهوانيّ للجزء العقليّ ( نفس المصدر، 581 إلى 583 و586).

واعتبر أفلاطون الفضيلة في القدرة وسلامة الروح وأنّ الرذيلة في العجز ومرض الروح، واعتقد بأنّ الرذيلة نتيجة عدم عمل كلّ جزءٍ من النفس بوظيفته الخاصّة، وبعبارة أخرى طغيان ذلك الجزء الّذي بمقتضى طبيعته وظيفته الاطاعة (نفس المصدر 444) ويشير أفلاطون إلى أنّ الهدف من اكتساب الفضيلة هو وصول الإنسان إلى آخر حدٍ ممكن من الشباهة بالآلهة (نفس المصدر، 613) واعتبر أيضاً أنّ المعرفة كافية لتحصيل الفضيلة (القوانين، 731 و860، والجمهورية 589)على أساس أنّ المعرفة الحقيقيّة هي معرفة المثل، حيث إنّ معرفة مثال "الخير" يوجب تحصيل كلّ الخيرات باعتقاده (الجمهوية، 505).

- أرسطو

إنّ أرسطو وبملاحظة عدم امكان التسلسل قال بلزوم تلك الغاية المطلوبة لذاتها والتي تطلب كلّ الأشياء الأخرى من أجلها واعتقد بأنّ هذه الغاية هي الخير الأعلى (أخلاق نيكوماخوس، 1094a) وأنها هي السعادة (نفس المصدر،1176b, 1097b).

واعتبر أنّ طريق السعادة يتحقّق بمطابقة الحياة مع الفضيلة (نفس المصدر 1098a و1177a ) وبتصريحه أنّ الخير الحقيقي ناظرٌ إلى النفس (نفس المصدر، 1098b) صرّح بأنّ الفضيلة والسعادة ناظرة إلى النفس أيضاً لا إلى البدن (نفس المصدر 1102a).إلا أنّ أرسطو اشترط بعض الأمور الأخرى للسعادة مضافاً إلى الفضيلة وهي التمتع ببعض الشرائط الخارجية للقيام بالأعمال الحسنة والابتعاد عن الآلام والمصائب، بل إنّه اشترط لها أيضاً - بناءً على فهمه للسعادة - بعض الشرائط غير
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
238

231

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  الاختيارية كالتمتّع بالجمال أو الولادة في عائلة شريفة (نفس المصدر 1095b، 1096a، 1099a، 1099b) وبالتالي اعتبر الفضيلة غير كافية للسعادة، وأنها ليست الغاية النهائية (نفس المصدر، 1095b و1097b) وصرّح في نفس الوقت بأنّ تحمل المصائب والأمور غير الملائمة للإنسان علامة على شرفه (نفس المصدر، 1100b)، وأنّ سلامة البدن والشرائط الخارجية مع الاعتدال والضرورة كافية للسعادة (نفس المصدر، 1179a).


إنّ أرسطو بتعريفه الفضيلة على أنها ملَكة نفسانية (نفس المصدر، 1105b، 1106a) تبعث على التقدير (نفسه، 1103a) وحاكية لحضور القاعدة الصحيحة - الحكمة العمليّة - (نفسه، 1144b) قسم الفضائل إلى فضائل عقلية - الحكمة النظرية، الرأي السديد والحكمة العمليّة - وفضائل أخلاقيّّة - نظير الكرم والتقوى - (نفسه 1102b و1103a) وقال إنّ الفضيلة الأخلاقيّّة الواقعيّّة قابلة للحصول بهداية من العقل (نفسه، 1144b) ولكنه مع هذا لم يقبل كلام سقراط القائل إنّ معرفة الفضيلة تكفي لكون الإنسان فاضلاً (نفسه، 1179b) واعتبر ذلك خلاف العقيدة الرائجة والواقعيّات المجربة (نفسه، 1145b) واعتقد أنّ الفضيلة والرذيلة ملكتان اختياريتان (نفسه، 1113b، 1114a، 1114b و1115a)، وأن الشرَّ أيضاً مطلوب ومعلوم (نفسه، 1113b) وأنّ المعرفة إحدى الشرائط غير الأساسية لحصول الفضيلة، وأنّ الفضيلة تحصل فقط بتكرار العمل والتعود عليه. (نفسه، 1103a و1105b) ومن الممكن إثر ضعف النفس أنّ تتغلّب الميول على النتائج الحاصلة من التأمل (نفسه 1150b و1152a) ولكنه من طرفٍ آخر فإنّه قد شبّه من يتأثر بالعواطف والميول بالشخص المخمور أو النائم، ويصل إلى الاستنتاج أنّ عدم التقوى والتحرّز إنما تنشأ إذا كانت المعرفة مستندة إلى الادراك الحسّي فقط وعدم حضور المعرفة بمعناها الواقعيّّ (نفسه 1146b إلى 1147b و1152a)، ويصرح بأنه في النهاية قد وصل إلى النتيجة الّتي سعى سقراط لإثباتها (نفسه، 1147b). وباعتقاد أرسطو فإنّ من يمتلك الحكمة العمليّة لا يرتكب باختياره أيّ عملٍ قبيحٍ (نفسه، 1146a).

وإنّ العلم الواقعيّّ لا يدرك مع وجود الميول والهيجان والاضطراب والحيرة (نفسه 1147b).

وكذلك فإنّه لا يعتبر الحكمة العمليّة مجرّد علم بل هي علم يتحقق في مقام العمل (نفسه 1152a) حيث إنّ الحكمة العمليّة ظاهراً هي نفس العلم الواقعيّّ وإنما تتحقق بالعمل الموافق لذلك العلم. ويعتبر أرسطو أنّ الفضيلة الأخلاقيّّة تشمل النية والعمل أيضاً (نفسه 1178b) وأنّ كلّ الفضائل مرتبط بعضها ببعض ولا ينفك بعضها عن بعض (نفسه 1144b و1145a).وفي رأي أرسطو فإنّ الفضيلة الأخلاقيّّة تتحصل بالاعتدال وهي الحدّ الأوسط بين الافراط والتفريط (نفسه 1104a و1106b) 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
239

232

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 ويوضح ذلك بأنّ مراده ليس الحدّ الأوسط العينيّ بل العقليّ ومن الممكن تفاوته تناسباً مع مختلف الأفراد (نفسه، 1106a و1106b و1107a) هذا أولاً، وثانياً إنّ الحدّ الوسط المطلوب لا يوجد في كلّ شي‏ء، ومثالاً على ذلك فإنّ الحقد والحسد والزنا والسرقة قبيحة دائماً، وخلاصة الكلام أنّه لا حدّ وسطاً للافراط والتفريط ولا تفريط وإفراط في الحدّ الوسط (نفسه،1107a ). ومع التفاته إلى صعوبة تعيين الحد الأوسط بدقّة اعتبر أنّ أفضل الطرق لتعيينه هو مخالفة الميول والأمور الّتي يظنها الفرد لذيذة (نفسه 1109a و1109b).نعم إنّ أرسطو يقبل بكون الإنسان يسعى نحو اللذة بشكل طبيعيّ كسائر الموجودات الحية (نفسه، 1104b و1157b و1172a) إلّا أنّه بتقسيمه اللذائذ إلى طبيعية وغير طبيعية (عرضية) أو نفسية ونسبية (نفسه 1148a و1148b و1154b) اعتبر أنّ اللذائذ الخالصة والتي لا تجتمع مع الألم والقهر كاللذة العقلية واللذة الناشئة عن الأعمال الموافقة للفضيلة هي لذائذ طبيعية ونفسية (نفسه 1099a، و1153a و1154b) واعتقد بأنّ أمثال هذه اللذائذ بمعناها الحقيقيّ هي المناسبة للوجود الإنسانيّ (نفسه، 1176a) وأنّ اللذات الجسمانية الّتي يطلبها أكثر الناس والأطفال والحيوانات لا يمكن عدها "خيراً" أصيلاً وحقيقياً (نفسه 1113a و1113b و1153a و1177a).


ويعتقد أرسطو بأنّ التربية الصحيحة في أنْ يُعلّم الإنسان بأن يلتذّ في الموضع الّذي يجب فيه أنّ يُلتذ، وأن يحسّ بالألم في الموضع الّذي يجب فيه الاحساس بالألم (نفسه، 1104b و1172a) وهذا العمل يحتاج إلى التعوّد عليه عن طريق القانون (نفسه 1179b إلى 1180b) ولهذا السبب فإنّ أرسطو لا يقبل بأنّ اللذة لها القيمة الأعلى حيث يقول: "لا اللذة هي الخير الأعلى ولا أنّ كلّ لذة مرغوبة ومطلوبة" (نفسه، 1174a) بل إنّ اللذة المصاحبة للعمل الحسن حسنة واللذة المصاحبة للعمل القبيح قبيحة (نفسه، 1175b) إلّا أنّه باعتباره الجهد الناشئ عن الفضيلة لذة (نفسه، 1120a) اعتبر أنّ السعادة تصاحب اللذة (نفسه، 1153b) وأنها ألذّ الأشياء (نفسه، 1099a).

ومن جهة أخرى فإنّ أرسطو استناداً إلى أنّ البعد الحقيقي للإنسان هو عقله وأن أفعال الإنسان من هذه الجهة تشبه أفعال الآلهة استنتج بأن الحياة الموقوفة على العقل والمتطابقة معه هي أفضل وألذّ وأسعد حياة للإنسان، ولهذا فإنّ الفلاسفة هم أسعد الناس (نفسه 1177b و1178a و1178b و1179a).

واعتبر أرسطو أنّ حبّ الذات والأنا أمر طبيعي وأنها منشأ حبّ الأشياء الأخرى (نفسه، 1166a و1168b) واعتقد بأنّ الأنا إذا كانت بمعنى الاختصاص بأكبر قدرٍ من الثروة والافتخار واللذات الجسمانية فهي مذمومة، وأما إذا كانت بمعنى اختيار أشرف الخصائل والفضائل لنفسه بإمرة العقل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
240

233

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  فهي حسنة وموجبة لانتفاع الآخرين أيضاً (نفسه، 1168b و1169a و1169b) "بل إنّ الحياة (الوجود) السعيدة بكاملها مطلوبة في نفسها للإنسان (لأنّ الحياة بالطبع حسنة ولذيذة)" (نفسه، 1170a).


بناءً على ما تقدم يمكن القول إنّ سقراط مع قبوله بالقيمة الذاتية للسعادة وأصالة نفس الإنسان اعتبر أنّ السعادة نوعٌ من الانسجام بين قوى النفس يتمّ عبر طريق المعرفة والعقل.
وأما أفلاطون فإنّه بتشريح أجزاء النفس فصّل كلامه بشكل أكبر واعتبر الجزء العقلانيّ هو الجزء الأصليّ من أجزاء النفس وأفضلها وأعلاها وأنّ حاكمية العقل عن طريق المعرفة بمثل "الخير" موجبة للسعادة.

وكذلك فإنّ أرسطو وبناءً على هذه المباني لكن مع عدم قبوله بالمُثل الأفلاطونية اعتبر أنّ المعرفة النظرية والحكمية العمليّة توصلان إلى السعادة.

ولذا فإنّ المذهب الأخلاقيّّ لهؤلاء الفلاسفة الثلاثة وبناءً على الوجه المشترك بينهم لا بدّ أنّ يسمّى بمذهب "انسجام أجزاء وجود الإنسان بناء على الجزء الأكمل منها". لكن مع الالتفات إلى أنّ هؤلاء الفلاسفة قد اعتبروا العقل الخصيصة الأهمّ في النفس الإنسانية وأنّ النفس هي الجزء الأكمل والأفضل في الوجود الإنساني، ومن أجل رعاية الاختصار وتبسيط الكلام يمكن اختصار تسمية هذا المذهب بقولنا إنّه مذهب "الانسجام العقلاني". وباعتبار أنّ عناوين السعادة والكمال والفضيلة والروح تشمل مذاهب أخلاقيّّة أخرى لم يكن من المناسب تسمية مذهبهم بهذه الأسماء، وبالرغم من إمكان تسمية المذهب الأخلاقيّّ لسقراط وأفلاطون بالمذهب المعرفيّ إلّا أنّ ذلك لا ينطبق على مذهب أرسطو، وكذلك فإنّ عنوانَي اللذة والنفعية بسبب دلالتهما على مذاهب أخرى مشهورة وغير مقبولة عند هؤلاء الفلاسفة لم يكن من المناسب أيضاً تسمية مذهبهم بهذين الاسمين والعنوانين.

ولا بد أنْ نشير ها هنا إلى أنّ العلماء المسلمين تلقوا بالقبول عمدة المطالب الأخلاقيّّة في مذهب هؤلاء الفلاسفة الثلاثة وأخرجوها بشكل أكمل.

ومن جملة هذه الموارد يمكن الاشارة إلى بحث كفاية المعرفة لتحصيل الفضيلة والسعادة والتي دافع عنها سقراط وأفلاطون عموماً فيما خالف أرسطو ذلك حيث إنّه وكما مرّ معنا لم يعتقد بكفاية كلّ نوعٍ من المعرفة بالفضيلة لتحصيل الفضيلة باستثناء المعرفة الحقيقيّة بالفضيلة والتي سماها الحكمة العمليّة.

لكن لا بدّ من القول إن المعرفة الحصولية بالفضيلة ومهما كانت قوتها غير كافية لنيل الفضيلة والشاهد على ذلك - وكما أشار إليه أرسطو نفسه - مخالفة هذا الكلام للواقعيات التجريبية. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك أيضاً في قصة فرعون وقومه حيث أنهم مع تيقنهم بمعجزات النبي موسى عليه السلام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
241

234

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  قاموا بانكارها: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا..."(النمل: 14) وكذلك في مورد بعض أهل الكتاب إذ أنهم مع معرفتهم بنبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم كتموا الحق ولم يعملوا به: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ..."(البقرة: 146).


إنّ كفاية المعرفة لتحصيل الفضيلة والسعادة استندت إلى هذا الاستدلال القائل إنّ الإنسان دائماً يطلب ما هو خيرٌ وكمالٌ له ولا يمكن أنّ يطلب شيئاً يعلم بأنه شرٌّ ونقصٌ له. إلّا أنّ هذا الاستدلال غير تامٍ لأنّه وكما يعتقد هؤلاء الفلاسفة فإنّ للإنسان مراتب وجودية مختلفة لكلٍّ منها كمالها الخاص ومطلوبيتها الخاصّة بها وربما تتزاحم كمالاتها ومطلوبياتها بعضها مع بعض وفي مثل هذه الموارد فإنّ ما يُعدّ كمالاً للإنسان وبالتالي يكون مطلوباً له في مرتبة ما سيكون نقصاً لمرتبة أخرى وبالتالي غير مطلوب له أيضاً.

وبعبارة أخرى فإنّ الإنسان كلما علم بأنّ شيئاً ما هو خيرٌ له وموجبٌ لكماله فإنّه لذلك يسعى نحوه ويريده مع أنّه في أكثر الموارد فإنّ الأعمال الّتي توصل الإنسان إلى خيرٍ وكمالِ ومرتبةٍ من مراتبه الوجودية ستوجب الشرّ والنقص لمرتبة أخرى من تلك المراتب. نعم من الممكن للإنسان أنّ يشخّص سواء بالعقل أو بغيره كالوحي الإلهي الخير الأعلى وأن يحصّل المعرفة به، إلّا أنّ صرف المعرفة العقلانية لا تزيل من البين تأثير الأبعاد الأخرى عند الإنسان لتحصيل كماله، وبناءً عليه فإنّ من يلزم نفسه فقط بتبعية المعرفة الصحيحة ويشحذ همته وعزمه على ذلك سيسير في طلب طريق الخير والكمال الحقيقيّ.

وحتماً إنّ ما ذكرناه يرتبط بالمعرفة الحصولية، وأما المعرفة الحضورية والتي هي عين إدراك الواقع فإنّها تتأتي مصاحبة مع الخير والكمال والفضيلة والسعادة بل هي عينها وليست شرطاً لازماً لنيلها ولا أنها كافية لحصولها.

يعتبر آدم سميث (Adam Smith) (1723 ـ 1790م)، وآرثور شوبنهاور(Arthur Schpop pendauer) (1788 ـ 1860)، وأغوست كونت (Augiste Cooonte) (1798 ـ 1857م) من أنصار المذهب العاطفيّ.

أكد سميث على مسألة العاطفة والمحبة، وقد سعى لبيان إمكان المحبة بناءً على التخيل حيث يقول: "حيث إننا لا نمتلك تجربةً بلا واسطة عن إحساس الآخرين فليس لدينا سوى هذا الطريق التصوري لمعرفة كيفية تأثرهم وهو أنّ نتصور ما هو إحساسنا إذا وضعنا أنفسنا في وضع مشابهٍ لهم". (فردريك كابلستون، تاريخ فلسفه، ج‏5، ترجمة أمير جلال الدين أعلم، ص‏371 نقلاً عن آدم سميث، نظرية الاحساسات الأخلاقيّّة، ص‏2).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
242

235

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  قاموا بانكارها: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...(النمل: 14) وكذلك في مورد بعض أهل الكتاب إذ أنهم مع معرفتهم بنبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم كتموا الحق ولم يعملوا به: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ...(البقرة: 146).


إنّ كفاية المعرفة لتحصيل الفضيلة والسعادة استندت إلى هذا الاستدلال القائل إنّ الإنسان دائماً يطلب ما هو خيرٌ وكمالٌ له ولا يمكن أنّ يطلب شيئاً يعلم بأنه شرٌّ ونقصٌ له. إلّا أنّ هذا الاستدلال غير تامٍ لأنّه وكما يعتقد هؤلاء الفلاسفة فإنّ للإنسان مراتب وجودية مختلفة لكلٍّ منها كمالها الخاص ومطلوبيتها الخاصّة بها وربما تتزاحم كمالاتها ومطلوبياتها بعضها مع بعض وفي مثل هذه الموارد فإنّ ما يُعدّ كمالاً للإنسان وبالتالي يكون مطلوباً له في مرتبة ما سيكون نقصاً لمرتبة أخرى وبالتالي غير مطلوب له أيضاً.

وبعبارة أخرى فإنّ الإنسان كلما علم بأنّ شيئاً ما هو خيرٌ له وموجبٌ لكماله فإنّه لذلك يسعى نحوه ويريده مع أنّه في أكثر الموارد فإنّ الأعمال الّتي توصل الإنسان إلى خيرٍ وكمالِ ومرتبةٍ من مراتبه الوجودية ستوجب الشرّ والنقص لمرتبة أخرى من تلك المراتب. نعم من الممكن للإنسان أنّ يشخّص سواء بالعقل أو بغيره كالوحي الإلهي الخير الأعلى وأن يحصّل المعرفة به، إلّا أنّ صرف المعرفة العقلانية لا تزيل من البين تأثير الأبعاد الأخرى عند الإنسان لتحصيل كماله، وبناءً عليه فإنّ من يلزم نفسه فقط بتبعية المعرفة الصحيحة ويشحذ همته وعزمه على ذلك سيسير في طلب طريق الخير والكمال الحقيقيّ.

وحتماً إنّ ما ذكرناه يرتبط بالمعرفة الحصولية، وأما المعرفة الحضورية والتي هي عين إدراك الواقع فإنّها تتأتي مصاحبة مع الخير والكمال والفضيلة والسعادة بل هي عينها وليست شرطاً لازماً لنيلها ولا أنها كافية لحصولها.

يعتبر آدم سميث (Adam Smith) (1723 ـ 1790م)، وآرثور شوبنهاور(Arthur Schpop pendauer) (1788 ـ 1860)، وأغوست كونت (Augiste Cooonte) (1798 ـ 1857م) من أنصار المذهب العاطفيّ.

أكد سميث على مسألة العاطفة والمحبة، وقد سعى لبيان إمكان المحبة بناءً على التخيل حيث يقول: "حيث إننا لا نمتلك تجربةً بلا واسطة عن إحساس الآخرين فليس لدينا سوى هذا الطريق التصوري لمعرفة كيفية تأثرهم وهو أنّ نتصور ما هو إحساسنا إذا وضعنا أنفسنا في وضع مشابهٍ لهم". (فردريك كابلستون، تاريخ فلسفه، ج‏5، ترجمة أمير جلال الدين أعلم، ص‏371 نقلاً عن آدم سميث، نظرية الاحساسات الأخلاقيّّة، ص‏2).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
243

236

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 واعتبر أنّ العاطفة هي الإحساس الأصلي في الطبيعة الإنسانية، وقد كان معتقداً بعدم امكان أنْ تكون العاطفة ناشئة عقلاً عن النفع الشخصي والمحبة النفسية لأن هذا الاحساس يحصل وينبعث بشكل مباشر بلا واسطة. وحيث إنّ العاطفة عنده متوجهة إلى الخير بشكل طبيعيّ اعتبرها أساس الأخلاق ومبنى التقييم الأخلاقيّ (راجع: نفس المصدر، ص‏371، يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، ص‏160).


إلا أنّ إثبات اختصاص العاطفة بالإنسان أمرٌ مشكلٌ حيث أنّنا نرى مصاديق هذه العاطفة والمحبة بين أنواع الحيوانات الأخرى ولذا فإنّه أقام الدليل فقط على إمكانها ليرجحها على بقية أحاسيس الإنسان الأخرى.

كما وأنّ الانبعاث المباشر للعاطفة قد يكون ناشئاً عن نوع من الإدراك الاجماليّ والغريزيّ للمنافع الشخصيّة وتابعاً لها، وكذلك فإنّ اعتبار كونها خيراً قبل التعيين الدقيق لخير الإنسان لا يمكن إثباته.

وأما شوبنهاور فقد قبل بالتلازم بين الحياة والأنانية واعتقد بأنّ إرادة الحياة سوف تظهرك بمظهر المتكبر المتعجب المغرور المتنفّر والعنيد. واعتبر أنّ الحياة شرّ والأنانية شرّ (راجع فردريك كابلستون: تاريخ فلسفه، ج‏7، أز فيشته تا نيجه، ترجمة داريوش آشوري، ص‏278) وأنّ كلّ المصائب سببها الكثرة العارضة على هذا العالم وتفرّق إرادة الكل في إرادة الجزء ورؤية كلّ فرد لنفسه على أنّه حقيقة ما، وأنّ هذه الأنانية هي المسببة لإرادة الحياة، ولو أنّ كلّ شخصٍ فهم هذه المعنى لأصبح الكل واحداً ولوصلوا إلى الوحدة والعاطفة والمحبة (محمد على فروعنى، سير حكمت در أوروبا، ص‏435).

وباعتقاد شوبنهاور فإنّ الموجود والحياة جريمة في حدّ ذاتهما، وهذا هو أوّل ذنب لنا، وكفارته أنْ نعرّض أنفسنا مجبورين على الألم والموت. وعلى هذا الأساس اعتبر أنّ أكبر خيرٍ معقولٍ وممكن الحصول هو الإيقاف الكامل للحياة، وإذا كانت هناك أخلاق في حدّ الاستطاعة لا بدّ من إمكان إنكار الإرادة. ولكن حيث إنّ الإنسان هو عين ايجاد الإرادة فإنّ انكارها يعني انكار النفس وترويضها وقتلها. نعم إنّ شوبنهاور لا يوصي بالانتحار لأنّه تسليم أمام الإرادة لا انكارها ويعتقد بأنّ إنكار الحياة وتركها لا بدّ أنّ يتم بصورٍ أخرى غير الانتحار. (راجع: فردريك كابلستون، المصدر السابق، ص‏278 - 279).

ورغم تأكيده على قيمة العاطفة إلّا أنّه لا يقبل بتحمّل الآخرين والرأفة الكبيرة بهم ويقول في هذا المجال: "إنّ الناس يشبهون الأطفال في سلوكهم مسالك لا تنفعهم بمجرد انخداعهم بها ولهذا السبب لا بدّ أنْ لا تتحمل أيّ واحد منهم بشكل كبير وأنْ لا تكون كثير الرأفة بهم" (اندريه كرسون، فلاسفه بزرك، ترجمة كاظم عمادي، ج‏3، ص‏179، يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، ص‏291،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
244

237

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 Lawernce. C. Becker of Charlotte. B. Becker، eds، Encylopedia of Ethics، v ol2، p. 752-753).


وكما ترى بالامكان أنْ نقول إن عاطفية شوبنهاور مبتناة على رؤيته التشاؤمية حول الحياة والوجود. وفي الحقيقة فإنّه يعتبر أنّ هدف الأخلاق هو توقف الحياة ونفي الإرادة ونفي الإنسانية. لكن مضافاً إلى عدم كون معرفته الوجودية قائمة على أسس مستدلة محكمة يمكن الدفاع عنها فإنّ أكثرها دعاوى بلا دليل يعتدّ به (راجع: محمّد على فروعني، سير حكمت در اروبا، ص‏437).

ومن غير المعلوم في ذلك العالم الّذي كما يعتقد بأنّ أساسه الإرادة وأنّ الإرادة تعني الميل إلى الوجود وأنّها موجودة في كلّ وقت وحاضرة دائماً وأنّ كلّ حياة الإنسان قائمة على الأنانية (راجع: نفس المصدر، ص‏429) كيف يمكن حينئذٍ اعتبار نفي الإرادة والغيرية أمران قيمان وقابلان للايصاء بهما.

وأما أغوست كونت (المعروف بأبي علم الاجتماع ومن مؤسسي مذهب الوضعيّة والإنسانية (Humanisim)) فقد مال إلى وجود نوعين من الميول في داخل الإنسان: الأنانية والغيرية، وأنّ الثانية ناشئة عن العواطف القلبية وعن الفطرة الإنسانية.

ومع قبوله بأنّ الأنانية في الأصل أقوى من الغيرية اعتقد بأنّ العاطفة تجاه الآخرين تبدأ بالرشد في الحياة الاجتماعية بعد مرحلة الأنانية ومن ثمّ تتغلب عليها وتتحول إلى شكل من أشكال عبادة النوع. وفي هذه الصورة يتحقّق احتياج الإنسان إلى الخلود لأنّه يعتقد حينئذٍ بأنّ امتداد حياته مرتبط ببقاء النوع الإنسانيّ، وفي رأي كونت فإنّ في الإنسان ميلٌ طبيعي لإطاعة الميول الذاتية في مقابل المصلحة النوعية وحينئذٍ يظهر مفهوم الواجب واللازم في الأخلاق ويصبح شعارنا "الحياة من أجل الآخرين" (راجع: محمّد على فروعنى، سير حكمت در اروبا، ص‏457، يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، ص‏324 - 326) وبرأي كونت أيضاً فإنّ أقدس التكاليف وأعلى السعادات هو خدمة الآخر.

إلا أنّ كونت مضافاً إلى عدم إثباته الأفضلية الأخلاقيّّة للغيرية واعتبارها الحدّ الأعلى لميول الإنسان المختلفة، فإنّ قوله إنّ خلود الفرد الإنسانيّ يرتبط ببقاء النوع أشبه بالتمثيل والتشبيه من الاستدلال.

ويعتبر كونت الإنسانية أمراً كلياً وأعضاؤها كلّ الأفراد ماضياً وحاضراً ومستقبلاً وأنها ذات وجود واحد اسمه الموجود الأكبر وأنها معبودة ويرى نفسه أنّه نبيّ هذا الدين.
ومن غير المعلوم وخاصة مع ملاحظة مباني الوضعيّة والتي يُعتبر كونت نفسه أحد مبدعيها - والقائلة بعدم القبول بأي أمرٍ لا يُدرك مباشرة بالحسّ والتجربة وأنه غير علمي - كيفية كون بقاء الغير يرجع إلى بقاء الفرد، وكيفية تأمينها حاجة الفرد للبقاء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
245

238

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 وأما بناءً على المعرفة الإنسانية في الأديان السماويّة فإنّ كلّ فرد من أفراد الإنسان خالدٌ وإنّ الهدف من الأخلاق هو كسب الصفات اللازمة لتحقيق الحياة الفضلى في تلك الحياة الخالدة وليس الهدف من الأخلاق هو تخليد الإنسان نفسه.


وبالالتفات إلى ما ذكرناه فإنّ هناك اختلافاً في استدلال العاطفيين على ترجيح العواطف وجعلها معياراً في الأخلاق ولهذا السبب صرفنا النظر عن ذكرها وتحليلها بالتفصيل في المتن.

اعتقد بعضهم بأنّ الأنانية تستلزم التناقض ولذا فهي غير مقبولة مستدلاً على ذلك بأنّ منافع الأفراد لما كانت متزاحمة بعضها مع بعض فإنّ اعتبار سعي كلّ فردٍ لتأمين منافعه أمراً لازماً وقيّماً يوجب التناقض في هذا اللزوم والقيمة، وبعبارة أخرى فإنّ الأنانية غير قابلة للتعميم، ومثالاً على ذلك حيث إنّ التزاحم موجود بين لذة الفرد ولذات الآخرين فإنّ تقديم اللذة بصورة قاعدة كلية وعامة لكلّ الأفراد يوجب التناقض في هذه القاعدة لأنّه من غير الممكن عملياً أنّ يؤمن الإنسان كلّ لذاته من دون تجاوزٍ للّذات الآخرين.

وبناءً عليه فإنّ قاعدة اللذة الأخلاقيّّة الّتي تحدّد الوظيفة الأخلاقيّّة لكل فردٍ بتأمين لذاته تنقض نفسها من الناحية العمليّة.

إلا أنّه لا بدّ من ملاحظة أنّ المخاطب بهذه القاعدة الأخلاقيّّة - وكما هو الحال في بقية القواعد - هو الفاعل الأخلاقيّّ من حيث إنّه فرد لا من حيث مجموع الأفراد ولذا فإنّه لا تناقض في نفس القاعدة.

ولمزيد من توضيح هذا المطلب نتوجّه إلى هذا المثال: لو أوصينا كلا المتصارَعين في مسابقة المصارعة بأن يكون هو الرابح فيها فإنّ هذه التوصية لهما لا تناقض فيها بالرغم من أنّ فوز أحدهما يعني خسارة الآخر في المقابل، لكن لو أوصيناهما بأنّ كليهما لا بدّ أنّ يربحا معاً فحينئذٍ يصح القول إنّ هذه التوصية متناقضة. وعليه إذا قبلنا بأنّ تأمين لذّة كلّ الأفراد غير ممكن فمع هذا فإنّ توصيات مذهب اللذة الفردية لا تناقض فيها لأنّ هذا المذهب يوصي كلّ فردٍ بأنّ يأخذ اللذة بعين الاعتبار وأنْ يسعى لأجلها وبالتالي فإنّ من يحصّل أكبر قدرٍ من اللذة فإنّ له قيمة أكبر في رأي هذا المذهب.

ومثل هذا الجواب يمكن القبول به أيضاً بالنسبة لسائر المذاهب الأنانية. ونتيجة الكلام أنّه لو قبلنا بوجود التزاحم بين منافع الأفراد فإنّ الإشكال المذكور على الأنانية غير وارد.

ولا بدّ من التذكير بأنّ القائل بوجود التناقض في الأنانية هو "مور" في كتابه "مباني الأخلاق"، وأما سيجفيك فقال بالمعقولية فيها مع أنّه من المعتقدين بالحياد الأخلاقيّ (Ethical Neatralism).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
246

239

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 ذهب بعض القائلين بالنفعية إلى ضرورة محاسبة النفع والضرر لكل عمل بشكل جزئي، ومن جملة هؤلاء نشير إلى جيريمي بنتام وجي جي سي اسمارت (J عليها السلام hn Jamies on Carswell Smart) (1920م)، وجوزيف فليتشر: (Jose ph Fletcher)، ويسمى هؤلاء بالنفعيين العمليين.(Act Utilitarianistis) واعتقد بعض آخر من القائلين بها باعتبار قواعد العمل في المحاسبة ولذا قالوا إنّ القاعدة الكلية إذا عُمل بها وكانت نافعة بشكل كلّي لعموم الناس فهي قاعدة صحيحة ومقبولة حتى ولو كان العمل بها في بعض الموارد الخاصّة غير نافعٍ لهم أو كان موجباً للضرر.


وأما إذا عُمل بها وكانت مضرة بشكل كلّي للعموم فلن تكون قاعدة أخلاقيّّة صحيحة ومقبولاً بها حتى ولو كان العمل بها في بعض الموارد الخاصّة نافعاً لهم وغير موجب للضرر.

ويسمى هؤلاء بالنفعيين على القاعدة (Rule Utilitarianists) ومن جملة هؤلاء جان استيوارت ميل (مع أنّ بعضهم عدّه من القائلين بالنفعية العمليّة)، وهير، وجورج بركلي (George Berkeley) (1685 – 1753) وريتشارد برانت (Richard.B. Brandt).

وذهب قسم ثالث منهم إلى اعتبار أنّ العمل الحسن والذي ينبغي لنا القيام به هو ما كان نافعاً لعموم الناس إذا ما عُمل به، وأنّ العمل القبيح والذي لا ينبغي لنا القيام به هو ما كان ضاراً لعموم الناس إذا ما عُمل به أيضاً، ويسمّى هؤلاء بالنفعيين العامين (General Utilitarianists) (راجع: ويليام كى، فرانكنا، فلسفه اخلاق، ترجمة هادي صادقي، ص‏85 - 103).

واستناداً إلى المبنى الأساس للنفعية فإنّ المنطقي والموجّه من هذه الأقسام هو القول بالنفعية العمليّة، لأنّ قيمة الموضوع الأخلاقيّّ (الفعل الاختياريّ) إنما تعيَّن على أساس النفع الحاصل منه. إلّا أنّ تشخيص عواقب العمل في كلّ موردٍ خاص وكيفية حصولها مشكل في حدّ ذاته، لكن لا ربط له بأصل المذهب، ولكن في صورة الإطلاع عليها فإنّه يمكن تنظيمها كقواعد كلية.

وأما التوجيه الممكن للنفعية القواعدية فيمكن أنْ يقال في مورده إنّ نفع العمل بالقاعدة النافعة وعدم نقضها أهمّ وأكبر من الضرر الّذي قد يحصل منها أحياناً. وكذلك فإنّ ضرر العمل بالقاعدة الضارة أهمّ وأكبر من النفع الّذي قد يحصل أحياناً منها، وبناءً عليه فإنّ العمل بالقواعد أهمّ من ملاحظة العمل في الموارد الخاصّة.

ولكن يمكن الاجابة على ذلك بالقول إنّه بناءً على مبنى النفعية وعلى فرض تمكننا من تشخيص ومحاسبة النفع والضرر لكل فعلٍ في مقام العمل فما هو الملزم حينئذٍ لوجوب أنْ يكون لدينا قواعد أخلاقيّّة عامة أساساً؟ ومضافاً إلى ذلك فإنّه إذا صحّحنا وضع هذه القواعد، ومع ملاحظتها لكل 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
247

240

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 الشرائط، فلن تكون قابلة للاستثناء حينئذٍ، وبعبارة أخرى إذا كانت القاعدة الأخلاقيّّة محدّدة الاطار والنطاق فلن تنقض في أيّ مورد من الموارد، وكذلك فإنّه إذا لزم وضع بعض القواعد العامة الأخلاقيّّة ولكن لم نستطع تحديد اطارها ونطاقها، فلمَ لا يمكننا تقييدها - بناء على أصل النفعية - بقيدِ عمومية "كونها نافعة في مقام العمل"؟


ومضافاً إلى ذلك أيضاً وعلى فرض أنّ بعض القواعد الأخلاقيّّة لا تقبل التقييد بتاتاً فإنّ نفع مراعاتها كنفع مراعاة القوانين الحقوقية واحترام الآداب والرسوم والتقاليد الاجتماعية من جملة منافع نفس العمل والذي لا بدّ من محاسبة كلّ موارده بناءً على النفعية القواعدية أيضاً.

وأما التوجيه الّذي يمكن قوله في مورد النفعية العام فهو الاستناد إلى أصل قابلية تعميم القواعد الأخلاقيّّة، أيّ أنّه بناء على لزوم كون هذه القواعد قابلة للتعميم وكونها عمومية، إذا فرضنا أنّ شخصاً ما قام بعمل نافعٍ، ولكن إذا قام به كلّ الأفراد ولم يكن نافعاً لهم، فلا يمكن جعل هذا العمل كقاعدة عامة بناءً على النفعية، وبالتالي لا يمكن القبول به. لكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّ أصل قابلية التعميم مقيدٌ أيضاً بوجود الشرائط المشابهة فيقال مثلاً إنّ هذا العمل المفيد واللازم لهذا الشخص مفيد ولازم أيضاً لغيره من الأشخاص مع تحقّق الشرائط المشابهة.

وبناءً على النفعية فإنّ هذه الشرائط المشابهة، عبارة عن تلك الشرائط الّتي يكون للعمل في جوِّها منافع عمومية. وبناءً عليه لن يكون موجّهاً اشتراط قيمة العمل النافع ببقاء منافعه مع عمل كلّ الأفراد به، ولنفترض أنّ مدينة ما لا يوجد فيها أيّ مستشفى، فإنّ إحداث مستشفى فيها سيكون خيراً وينفع العموم، لكن لو كان البناء أنّ يقوم الجميع ببناء المستشفيات في هذه المدينة فلن تؤمّن بقية الاحتياجات الأخرى فيها وبالتالي لن ينتفع العموم بذلك. ومن الواضح أيضاً أنّ بناء المستشفيات اللاحقة لن يتم مع تشابه الشروط، لأنّ شرط نفعية بناء المستشفى الأوّل في تلك المدينة كان فقدان وجودها فيها أساساً.

مراد النفعيين من "الأفراد" هو تمام الأفراد المرتبطين بذلك العمل إمّا من حيث المشاركة فيه أو من حيث التأثر بنتائجه. وبالتالي من الممكن أنّ يشمل قولنا "الأفراد" بناءً على النفعية كلّ البشريّة قاطبة بل حتى تمام الموجودات الحساسة كالحيوانات أيضاً.

بناءً على القبول بالرابطة المباشرة بين نفع الفرد ونفع العموم فإنّ التفاوت الوحيد الّذي ربما يحصل بين الأنانية والغيرية يرجع إلى نية الفاعل والمحرك له والذي لم يلتفت إليه في نظرية النفعية، وبناءً عليه فإنّ المذهب النفعيّ مع قبوله بتلك الرابطة وعدم قوله بارتباط قيمة الفعل مع
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
248

241

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  نية الفاعل يساوي بين قيمة السعي للنفع الفردي مع قيمة السعي للنفع العموميّ.


في مقابل ذلك فإنّ هنري سيجفيك (Henry Sidgwick) (1838 - 1900م) بالإضافة إلى عدم قبوله اللذة النفسية - أيّ أنّ كلّ إنسان بطبعه طالبٌ للذة - بمنزلة أصل انحصاري، اعتقد بعدم إمكان استنتاج الأمر الأخلاقيّّ من الأمر النفسيّ.

ومع أنّه من القائلين بالنفعية إلّا أنّه يعتبرها أمراً بديهياً وشهودياً. وحيث إنّه لا يمكن استنتاج القيمة الأخلاقيّّة للنفعية من واقعيّة أخرى بناءً على رأيه فإنّنا لم ندرج رأيه في ضمن المذاهب الواقعيّّة القابلة للإثبات مع أنّه نفعيّ بالمعنى العامّ للكلمة، وكذلك فإنّ "هير" استنتج النفعية بناء على المواءمة بين التوصية وقابلية التعميم، وفي رأيه فإنّ "الواجب" يتضمّن الايصال في حدّه الأكبر وإن قابلية تعميم القواعد الأخلاقيّّة تؤمّن عموميتها أيضاً.

وبناءً على هذا الأساس فإنّه استنتج أنّ العمل الخيّر هو العمل الّذي يوصل النفع العموميّ إلى حدّه الأكبر. وقد ذكرنا من قبل (راجع: المذكرة الثانية من الفصل السادس) أنّ التوصيات مبتناة على اللاواقعيّة ولا يمكن الجمع بينها وبين النفعية منطقياً.

ونضيف الآن قائلين إنّ قابلية التعميم - أيّ أنّه إذا كان الفعل حسناً ولازماً لشخصٍ ما فإنّه حسنٌ ولازم لغيره ضمن الشروط المشابهة - لا يمكن بيانها إلّا بالاستناد إلى الواقعيّّة القابلة للاثبات.

وتوضيح ذلك أنّ الإنسان يستنتج قيمة الفعل ولزومه من خلال الرابطة بينه وبين الهدف المطلوب، وبناءً عليه فإنّه يعلم بأنّ قيمة ولزوم الأفعال يرتبطان بضوابط وقواعد معينة ولا يرتبطان بشخصٍ بعينه. وبالرغم من إمكان مؤثرية بعض شرائط الفاعل كالنية مثلاً في تقييم الفعل فإنّ الكثير من خصائص الفاعل لا تأثير لها بتاتاً في قيمة الفعل هذا ولا بدّ لتعيين المؤثر من هذه الخصائص وغير المؤثر منها في قيمة الفعل الأخلاقيّّ من تعيين القيمة الذاتية للأخلاق وتعيين كيفية ارتباط الأفعال بها. وطبقاً لذلك يستنتج وبغضّ النظر عن خصائص الفاعل المؤثر منها في القيمة الأخلاقيّّة لفعله أيّ في الوصول إلى القيمة الذاتية في الأخلاق.

وأما مع عدم القبول بالواقعيّّة القابلة للإثبات فلا أصل التعميم سيكون واضحاً، ولا "الشرائط المشابهة" أيضاً. ومضافاً إلى ذلك وعلى فرض القبول بأنّ "الواجب" يتضمّن الحدّ الأكبر من الإيصال وأنّ أصل التعميم يتضمن عمومية القواعد الأخلاقيّّة فمن غير المعلوم كيف سيبين قيمة النفع في نظرية هير.

باعتقاد جرمي بنتام (Jeremy Bentham) (1748 - 1832م) فإنّه "لا بدّ من القبول قطعاً بأنّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
249

242

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  المنافع الّتي يعتبرها الإنسان كمعيارٍ للتقييم في كلّ زمان وفي كلّ فرصة هي منافعه الشخصيّة فقط، ومع هذا لن تكون هناك أية فرصة، يمكن للإنسان فيها أنْ يكون لديه دوافع للاهتمام بسعادة الآخرين" (لين. و. لنكستر، خداوندان انديشه سياسى، المجلد الثالث، القسم الأول، ترجمة علي رامين، ص‏124).


وأما جان ستيورات ميل (Joohn Stuart Mill) (1806 - 1873مم) فإنّه يعتقد أيضاً بأنّ: "سعادة كلّ شخص خير وحسنة لذلك الشخص ولذا فإنّ السعادة العامة لمجموع هؤلاء الأشخاص (المجتمع) حسنة" فردريك كابلستون، تاريخ فلسفه، ج‏8، ترجمة بهاء الدين خرمشاهي، ص‏45، نقلاً عن جان ستيورات ميل، أصالة الفائدة، ص‏53) وأنّ "كل شخص يعتقد بإمكان تحصيل سعادته فإنّه يسعى في طلبها" (فردريك كابلستون، نفس المصدر، ص‏49 نقلاً عن: جان ستيورات ميل، نفس المصدر، ص‏53).

بعض هذه الاشكالات يعود إلى التعريف الدقيق للنفع، حيث إنّ بعضهم اعتبر النفع معادلاً للذة، وبعض آخر قال إنّه إرضاء ميل الإنسان ورغباته.

وبناءً على الصورة الأولى يرد الاشكال بأنّ المنافع الأخرى غير اللذة نظير العلم والفضيلة والصداقة مطلوبة للإنسان بشكل مستقلّ وبغضّ النظر عن كونها موجبة للّذة أم لا.

وقد يجاب على ذلك بأنّ اللذة لها معنى وسيع بحيث إنّ كلّ مطلوب يوجب اللذة، لكن يبقى السؤال الّذي مفاده هل كلّ مطلوب لأنّه موجب للذة يكون مطلوباً أم لأنّه مطلوب يكون لذيذاً، وبعبارة أخرى هل اللذة علة المطلوبية أم أنها معلولة لها؟ وحتماً فإنّنا إذا ما قبلنا بكون كلّ مطلوب هو لذيذٌ أيضاً فلا ثمرة يُعتّد بها من هذا البحث.

وبناءً على قبولنا بالقيمة الذاتية للنفع فإنّه على الأقل يمكن اعتبار اللذة بمعناها الوسيع - المصاحب للكمال - علامة القيمة الذاتية.

وأما إذا كان المراد من النفع إرضاء الميول والرغبات عند الإنسان، فهل أنّ - وكما قبل بذلك اتباع هذه النظرية أمثال رشوال - إرضاء كلّ ميل له قيمة ذاتية؟ وهل أنّ هذا بمعنى تعدد القيم الذاتية؟ وهل يمكن في الأساس تعدد القيم الذاتية؟ (بالنسبة لتعدد القيمة الذاتية أو وحدتها راجع المذكرة السابعة من الفصل التاسع من هذا الكتاب).

ومضافاً إلى هذا فإنّنا نسأل عمّا يجب فعله عند تزاحم الميول المختلفة وعما هو الملاك المرجح حينئذٍ.

والاشكال الآخر الّذي يرد ها هنا أيضاً مفاده أنّ الميل والرغبة هل يتولدان عن معرفتنا بنفع شي‏ء
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
250

243

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  ما أم لا؟ وبالتالي هل من الممكن أنّ يتعلّقا بشي‏ء ما وبسبب عدم صحة معرفتنا الابتدائية به قد لا يكون مفيداً لنا واقعاً؟

 
إذا قيل إنّ المراد هو إرضاء الميل الواقعيّ فلا بدّ من توضيح ما المقصود من الميل الواقعيّ.
 
وربما يكون المقصود تلك الطائفة من الميول والرغبات الّتي ترفع النقص والحاجة عنا واقعاً وتجعلنا أكثر كمالاً، وفي هذه الصورة لا بدّ من نظرة جامعة على نفس الإنسان لمعرفة إمكاناته وكمالاته وحاجاته الواقعيّّة. ومن الأفضل في هذه الحال أيضاً أنّ نستعمل بدل المفهوم العرفيّ للنفع مفهوم "الكمال" الفلسفيّ أو أنْ نوضّح أنّ المراد من النفع هو الاستفادة الواقعيّّة لوجود الإنسان وعلى أيّ حال لا بدّ من البحث حول ملاك تشخيصها أيضاً.
 
وهناك طائفة أخرى من الاشكالات ناظرة إلى معايير محاسبة النفع واللذة والتي طرحت لمقايسة ومحاسبة المنافع واللذائذ، ومثالاً على ذلك فإنّ "بنتام" ذكر سبعة معايير هي الشدة، المدة، القطعي أو عدم القطعي (أي اليقيني أو المظنون)، البعد أو القرب (نقداً أو ديناً) المثمرة (أي كونها موجبة لتلذذ الآخرين)، الخلوص (أي درجة عدم اشتمالها على الألم) دائرة الشمول (أي كونها شاملة لأفراد أكثر أم أقل).وأما جان ستيورات ميل فقد أكد على التفاوت الكيفيّ بين اللذات واعتبر أنّه لا بدّ من الالتفات إليها أيضاً مضافاً إلى المعايير السابقة والتي أسماها بالمعايير الكمية.
 
وحول قيمة هذه المعايير ومدى اعتبارها ذكرت العديد من البحوث القابلة للعرض ومن جملتها:
 
أولاً: هل أنّ الشدة والمدة تؤثران بنفس المستوى في مقدار قيمة الفعل؟
 
ومثالاً على ذلك:
 
إذا دفُع مقابل العمل(1) 2000 تومان1 شهرياً لمدة سنة واحدة ومقابل العمل (2) 1000 تومان شهرياً لمدة سنتين. ومع غضّ النظر عن خصائص كلا العملين هل أنّ نفع كلا العملين متساوٍ بالنسبة للعامل؟ من الممكن بالنسبة لعاملٍ يدفع أجرة شهرية (كإيجار المنزل مثلاً) أنْ يكون المطلوب له مقدار المال المأخوذ شهرياً وأما بالنسبة لعامل آخر قد أمّن حاجاته الحياتية الضرورية قد يكون المطلوب له دوام مدة الأخذ.
 
ولذا فإنّ الرابطة بين معياري الشدة والمدة لم تعيَّن في المحاسبة ومن غير المعلوم كون تأثيرهما في قيمة العمل متساوياً في كلّ الموارد أم لا.
 
 
 

1- العملة الإيرانية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
251

244

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 ثانياً: ما هي الرابطة بين معيار القطعي أو عدم القطعي بالمعايير الأخرى والتي من جملتها معيارا الشدة والمدة؟


إذا قطعت بأنّ هذا العمل مثلاً له 10 درجات من النفع وفي المقابل احتملت أنّ له 11 درجة من الضرر، فهل يجب عليّ القيام بهذا العمل لأن نفعه قطعيّ وضرره غير قطعيّ (محتمل)؟

ثالثاً: لماذا يجب اعتبار بُعد النفع أو قربه مؤثّراً في قيمة العمل؟ نعم ربما نعتبر في كثير من الموارد أنّ النفع المؤجل أقلّ قيمة لاحتمال حصول المانع قبل تحققه أو لعدم قدرتنا على الاستفادة منه، أيّ أنّ قطعية النفع الحالي موجبةٌ لكونها أكثر مطلوبية عندنا لكن إذا كان حصول النفع المؤجل والوصول إليه قطعياً فما هو الدليل على أنّ قيمته ومطلوبيته أقلّ من غيره؟

إنّ المتيقنين بوجود الآخرة يقطعون بمنافعها وضررها المؤجّل أكثر من قطعهم بالمنافع والاضرار الدنيويّة الحالية.

رابعاً: من غير الواضح اعتبار الخلوص كمعيارٍ في محاسبة النفع والضرر.

لماذا تكون قيمة عمل لديه 100 درجة من النفع و10 درجات من الضرر أكبر من قيمة عمل لديه 110 درجات من النفع و20 درجة من الضرر؟ وفي هذه الصورة هل أنّ قيمة العمل الأوّل أكبر أم قيمة العمل الّذي لديه فقط 60 درجة من النفع؟ وهذا إنما نقبل به إذا كان بامكان مبنى النفعية مقايسة ومحاسبة كلّ أنواع اللذة والضرر لأنّه قد يذهب بعضهم إلى التفكيك بين أنواع النفع فيعتبر مثلاً أنّ النفع المصاحب للضرر ليس بنفعٍ حقيقة وأنّ النفع الحقيقيّ هو النفع الّذي لا يصاحبه أيّ ضرر، ولكن في هذه الصورة أيضاً لا بدّ من وجود معيارٍ لتعيين النفع الحقيقي، ولذا سنصرف النظر عن اعتبار النفع كمعيارٍ في التقييم الأخلاقيّ.

خامساً: من غير الواضح أيضاً دليل اعتبار "دائرة الشمول" - أكبر قدرٍ من النفع لأكبر عدد من الأفراد - المذكور في تعريف النفعية. إذا كان معيار التقييم هو النفع وكان نفع الفرد في ضمن نفع الجميع أيضاً فإنّ اعتبار أكبر نفعٍ - الأعم من عودته بشكل مباشر إلى الفرد أم إلى الأفراد - كمعيارٍ معقولٌ، لكن ما هو الدليل المعتبر للتقييد "بأكبر عدد من الأفراد"؟

لو فرضنا أنّنا وزّعنا نفع عملٍ مقداره ألف درجة على عشرة أشخاص، ووزعنا نفع عمل مقداره ألف درجة أيضاً على مئة شخصٍ، فبناءً على النفعية لماذا تتفاوت قيمة هذين العملين؟

لقد ظنّ بعضهم أنّ التوزيع على أكبر عددٍ من الأفراد لا بدّ منه رعاية لأصل العدالة. لكن أولاً: بناءً على النفعية لا بدّ أنّ لا يكون أيّ معيار غير معيار النفع دخيلٌ في تعيين قيمة الفعل سواء طابق العدالة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
252

245

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

  أم لا. لأنّه بناءً على هذا المذهب فإنّ قيمة كلّ عملٍ وحتى العدالة نفسها تحاسب على أساس النفع الحاصل منه وبالتالي فإنّ العدالة ليست معياراً مستقلاً في حدّ ذاتها.


وثانياً: ليس مقتضى العدالة استفادة أكبر عدد من الأفراد بل استفادة كلّ الأشخاص المشاركين في ذلك العمل كلٌّ بمقدار مشاركته فيه.

سادساً: إذا قلنا بالتفاوت الكيفيّ بين اللذائذ والمنافع فبأيّ معيارٍ نقيس هذا التفاوت؟ إذا اعتبرنا المعيار في التفضيل بينهما هو البعد الإنساني أو تناسب النفع واللذة مع كمال الإنسان كما ذهب إليه ميل. فلماذا لا نقول بالقيمة الذاتية للكمال الإنسانيّ؟ (لاحظ المذكرة التالية).

قام جيمس ميل (James Mill) (1773 - 1836م)بالتفكيك بين اللذائذ الوضيعة - أيّ اللذائذ الحيوانية باعتقاده - واللذائذ الرفيعة - أيْ اللذائذ المختصة بالإنسان في رأيه - وخصّ سعادة الإنسان باللذائذ الرفيعة، واعتبر أنّ سعادة الإنسان تكمن في بسط القوى الإنسانية - العقل والمنطق وعشق الحقيقة والجمال - إلى أكبر حدٍّ ممكنٍ.

(See. Edward craig.ed. R o utledge Encycl o oedia of philpsophy، v o l.6، p. 359).

واعتقد ابنه - جان ستيورات ميل - بلزوم الالتفات إلى البعد الكيفيّ للذائذ مضافاً إلى الشدة والمدة فيها والتي اعتبرها معايير كمية لمحاسبة اللذات، وعلل ذلك بالقول "إنّ بعض أنواع اللذات أكثر مطلوبية وقيمة من بعض الأنواع الأخرى" (فردريك كابلستون، تاريخ فلسفه، ج‏8، ترجمة بهاء الدين خرمشاهي، ص‏46، نقلاً عن جان ستيورات ميل، أصالة الفائدة، ص‏11 - 12).

وكما أشار كابلستون فإنّه "إذا أردنا أنْ نفتح باب التفاوت الكيفيّ الذاتيّ للذائذ فلا بدّ أنّ نبحث عن معيارٍ آخر غير معيار اللذة نفسها" (كابلستون، نفسه، ص‏46).

والظاهر أنّ ميل الابن التفت كأبيه - ومع ملاحظة طبيعة الإنسان - إلى الكمال الإنسانيّ في تقييم درجات اللذة. فيقول: "أنا أعتبر أنّ الاستفادة هي المنبع الأصليّ لكلّ المسائل الأخلاقيّّة ولكن لا بدّ من أخذ الاستفادة بمعناها الوسيع جداً والمبتنى على مصالح الإنسان الدائمة بعنوان أنّه موجود متطور". (كابلستون، نفسه، ص‏47 - 48 نقلاً عن جان ستيورات ميل، درباره آزادى، بالفارسية، ص‏9) ويقول أيضاً "إنّ غاية الإنسان هي التكامل إلى أقصى حدٍّ وايجاد الانسجام بين قواه المختلفة من أجل نيل كُلِّ متجانس كامل" (كابلستون، نفسه، ص‏48، نقلاً عن نفس المصدر، ص‏50).

و"الأفضل أنّ تكون إنساناً وفاشلاً، من أن تكون خنزيراً وناجحاً، أن تكون محروماً كسقراط أفضل من
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
253

246

الفصل الثامن: الواقعية القابلة للإثبات

 أن تكون كأحمقَ متنعّمٍ" (كابلستون، نفسه، ص‏47، نقلاً عن جان ستيورات ميل، الرسائل والبحوث، ج‏1، ص‏358 - 359).


لكن إذا كان كمال الإنسان معياراً لتقييم اللذائذ وتقسيمها إلى درجات فمن غير المعلوم سبب تقييد هذا المعيار بكونه "موجباً للذة".

وأساساً لماذا يكون الكمال الإنسان ذا قيمة ذاتية ويكون معيار تعيين القيمة الأخلاقيّّة أموراً أخرى؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
254

247

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 
تقدّم معنا في الفصل الثالث البحث حول مفهوم القيمة، القيمة الذاتية والقيمة الذاتية الأخلاقيّّة.

وقلنا هناك إنّ "القيمة" تُستخدم في مجال الأمور المطلوبة في كلّ موضوع، وإنّ ما له القيمة الذاتية هو المطلوب الأصلي أيّ أنّ مطلوبيته لا ترتبط بمطلوبية أمرٍ آخر، ومن ثمّ وبناءً على بعض المقدمات وصلنا إلى هذه النتيجة الاجمالية وهي أنّ الكمال الاختياريّ له قيمة ذاتية أخلاقيّّة.

وسوف نسعى في هذا الفصل وبتبيين فلسفيّ للقيمة الذاتية الأخلاقيّّة إلى تحصيل ملاك لتشخيص "الكمال الاختياريّ" لنتمكن على أساسه في الفصل اللاحق من تعيين القيمة الأخلاقيّّة للصفات والأفعال الاختيارية.

ولكي نتمكن من تشخيص ما له القيمة الذاتية الأخلاقيّّة لا بدّ لنا ابتداءً وبالرجوع إلى طبيعة الإنسان[1] من ايجاد منشأ المطلوبية للأمور الاختيارية ومن ثمّ تبيين ملاكٍ ذي قيمة ذاتية أخلاقيّّة لتشخيص المطلوب الأصليّ الأخلاقيّّ.

إنّ متابعة بحوث هذا الفصل سوف تعيننا في تعيين مكانة القيم عندنا وعند الآخرين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
256

248

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 وحيث إننا لن نتعرّض في هذا البحث لقيم الموضوعات الأخرى لذا ومن أجل رعاية الاختصار سنعبّر دائماً مكان قولنا "القيمة الأخلاقيّّة" بقولنا "القيمة".


1 - مطلوبية الكمال الاختياريّ‏

عندما نقوم بأعمالنا المختلفة فإنّنا نأخذ بالنظر والاعتبار أهدافاً مختلفة، فنأكل لرفع الجوع، ونعمل لتأمين العيش ونحصّل العلوم للاجابة عن تساؤلاتنا و.... إنّ هدف كلّ واحد من هذه الأفعال الاختيارية مطلوبٌ لنا ولهذا السبب فإنّنا نقوم به باختيارنا، نعم من الممكن أنْ تكون مطلوبية هذه الأهداف في حدّ ذاتها أيضاً ناشئة عن مطلوبية أهداف أخرى مثلاً كاللذة أو السلطة أو أيّ شي‏ء آخر، وعليه فإنّ الأهداف المطلوبة للإنسان ومن بين كلّ أهدافه الأخرى إذا لم تكن مطلوبيتها مرتبطة بمطلوبية أيّ شي‏ء آخر بل هي مطلوبة بذاتها فيقال حينئذٍ إن لها قيمة ذاتية[2]. نعم إنّ الالتفات إلى منشأ المطلوبية سوف يعيننا في معرفة منشأ مطلوبية الأمور الاختيارية عند الإنسان.

وبناءً على بحوث معرفة الإنسان الفلسفية[3] فإنّ منشأ المطلوبية هو حب الذات وإنّ منشأ مطلوبية الأمور الاختيارية عنده هو مطلوبية الكمال الاختياريّ.

وتوضيح ذلك أنّ الإنسان وكأيّ موجود آخر يعرف نفسه بنفسه. وفي الاصطلاح فإنّ له علماً حضورياً بنفسه، ويحبّها [4]، وهذا الحب لنفسه أو حبّ الذات بتعبير آخر يشمل محبة كلّ الأشياء الّتي يعتبرها الإنسان جزءاً من وجوده كالجسم والنفس والقوة والعلم وغيرها. وببيان فإنّ حب الذات يوجب محبة الإنسان بكل شي‏ء يعتبره جزءاً من وجوده ولهذا السبب فإنّ الإنسان يحب امتلاك أكبر قدر من العلم والقوة ولذا فإنّ حبّ الذات في حد ذاته يعتبر منشأ لمطلوبية كمال الذات[5].

ومن طرف آخر فإنّ الإنسان يعلم بأنّه موجود مختار [6] وأنه يمتلك كمالاً اختيارياً خلافاً لبعض الموجودات الأخرى الّتي كمالاتها غير اختيارية والتي لا تستطيع تغيير أنماطها الوجودية، أيّ أنّ الإنسان باستطاعته حالة كونه مختاراً القيام بأعمالٍ ترجع نتائجها إليه ولذا فإنّه بإمكانه القيام باختياره بتأمين سلامة جسمه وروحه والسعي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
257

249

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

  لكسب العلم والقوة كما وأنه بامكانه أيضاً وبكامل اختياره أنّ لا يقوم بهذه الأعمال أو أنّ يقوم بايذاء بدنه وروحه، وبعبارة أخرى فإنّ الإنسان يعلم بأنّ للأفعال الاختيارية دوراً هاماً في كماله أو نقصه.


وكما ذكرنا وقلنا الكمال مطلوبٌ للإنسان ولهذا الدليل فإنّ الإنسان وضمن دائرة الأمور الاختيارية يسعى ويطلب كماله ويريد مختاراً من خلال القيام بالأفعال الاختيارية أنْ يزيد من فائدته الوجودية.

وبعبارة أخرى فإنّ الإنسان إذا خُيِّر بين الكمال والنقص فإنّه يسعى نحو الكمال ولا يريد النقص لنفسه. ولهذا فإنّ منشأ المطلوبية في نطاق الأفعال الاختيارية هو مطلوبية الكمال الاختياريّ وطبقاً للتعريف المتقدّم فإنّ للكمال الاختياريّ قيمة ذاتية أخلاقيّّة[7]. وهذه النتيجة هي الّتي استنتجناها في الفصل الثالث وقلنا إنّ المراد منها أنّ كلّ إنسان بطور طبيعيّ ومن خلال مجموع الأمور الواقعة تحت اختياره يسعى لتأمين أكبر قدرٍ من بُعده الوجوديّ لنفسه وأنّ هذه المطلوبية لا ترتبط بمطلوبية أيّ شي‏ءٍ آخر.

2 - لزوم الملاك لتشخيص الكمال الاختياريّ‏

"إنّ وجود الماء مطلوبٌ للإنسان العطشان، وأما السراب فإنّه ليس ماءً واقعاً، وحيث إنّ العطشان يظن أنّ السراب هو ماء واقعي فإنّه يسعى في طلبه. إنّ طلب السراب غير معقول، وكذلك فإنّ العطشان الّذي لا يعلم بوجود نهرٍ من الماء قريبٌ منه لا يسعى في طلبه مع أنّ ماء النهر هو ماء واقعاً، لأنّ مطلوبية واقعيّة الماء له بحاجة إلى فكرة أخرى مفادها: في قربي شي‏ء هو ماء واقعاً.

إنّ العطشان يمكنه باختياره أنْ يسعى نحو الماء لإرواء عطشه في صورة معرفته بمكان وجود الماء الواقعيّّ".

إنّ بحثنا يشير إلى أنّ منشأ المطلوبية - أي القيمة الذاتية - مشترك عند جميع الناس.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
258

250

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 ومن طرفٍ ما فإنّ هناك اختلافاً في الرأي عند هؤلاء في تشخيص وتعيين المطلوب الذاتيّ الّذي له قيمة ذاتية.


وقد تعرفنا في الفصل الثامن إلى بعض المذاهب الأخلاقيّّة الّتي تعتبر أموراً متفاوتة كاللذة والقوة والاطمئنان الروحي ذات قيمة ذاتية وأنّ اختلاف النظر فيما له القيمة الذاتية يوجب الاختلاف أيضاً في كيفية تقييم الأمور الاختيارية والاختلاف في انتخاب أسلوب الحياة[8]. ونحن بالالتفات إلى المباحث السالفة بامكاننا اعتبار الكمال الاختياريّ عند الإنسان ذا قيمة ذاتية، لكن هل يمكن لمثل هذا الكلام أنْ يحل الاختلاف الموجود؟

لنلاحظ هذه الأمثلة:

- إنّ من يظن أنّ اللذائذ الحيوانية هي كماله حقيقة ويظنّ أيضاً أنّه بازدياد حظه في الوجود بالأكل والشرب والشهوة بامكانه أنْ يتجاهل بكل بساطة الايثار والانفاق والتعليم...

- إنّ من يظن أنّ تجميع الثروة هو كماله حقيقة ويظن أنّه عندما يحصّل المال ويصبح مالكاً له قد أضيف شي‏ء ما حقيقة إلى وجوده، فمن الممكن أنّ يصرف همته في جمع المال وأنْ يحذر من صرفه إلّا عند الضرورة وأن يمتنع مثلاً عن أكل الأطعمة اللذيذة وأن يرضى بالبسيط والقليل من الثياب، ولا عجب في أنّ لا نجد عنده أيّ أثر لإنفاق المال وبسط اليد.

- إنّ من يظن أنّ العطف هو كماله حقيقة بامكانه أنّ يوقف حياته على خدمة الآخرين متجاهلاً بذلك راحة نفسه وأمواله من أجل نفع الآخرين.

إنّ هذه الأمثلة تشير إلى أنّ بحثنا حتى الآن حول القيمة الذاتية غير كاف لتقييم الصفات والأفعال الاختيارية ولا بدّ في هذا المجال من البحث عن ملاكٍ لتشخيص الكمال الاختياريّ الإنسانيّ[9].
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
259

251

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 3 - ملاك تشخيص الكمال الاختياريّ‏

 
كما ذكرنا فإنّ التعبير بقولنا "الكمال الاختياريّ" لا يكفي لتشخيص ما هو واقعاً كمال اختياريّ، والذي يبدو في النظر أنّه لا بدّ من أجل تحصيل مثل هذه الملاك الّذي يشخص الكمال الاختياريّ عند الإنسان أنّ نعيّن ابتداءً ماهية حقيقة الإنسان وأنّ الإنسان على أيّ موجود يمكن اطلاقه، ومن ثمّ أنْ نجد ملاكاً يمكننا بمعونته من تشخيص ما هو حقيقة كمال الإنسان من بين الصفات المختلفة لهذا الموجود. وعندئذ نقيد ملاكنا هذا بقيد الاختياري.
 
1 - 3. حقيقة الإنسان‏
 
لمعرفة حقيقة الإنسان لا بدّ لنا مجدداً من أنّ نستعين بالبحوث الفلسفية الناظرة إلى معرفة الإنسان، حيث إن هذه البحوث تشير إلى أنّ حقيقة الإنسان هي الروح[10] وأنّ بدنه بمثابة القالب لها والآلة المسخرة لخدمتها.
 
وكما أنّ حجم الكتاب أو الحذاء أو المنزل لأيّ شخصٍ لا يعتبر من صفاته الحقيقيّة كذلك فإنّ أوصاف بدنه كلون الجلدة أو الطول أو الوزن لا يشير إلى صفاته الحقيقيّة.
 
وكما أنّ الإنسان يستفيد من الوسائل الّتي تقع ضمن اختياره ليقوم بالأعمال الّتي يريدها كذلك فإنّ بدنه واحدٌ من تلك الآلات والوسائل الواقعة تحت اختياره بإمكانه الاستفادة منه للقيام بأعماله. وبناءً عليه فإنّ الأوصاف الحقيقيّة هي أوصاف روح الإنسان ولا بدّ من البحث عن كماله أو نقصه في ضمن هذه الأوصاف أيضاً.
 
2 - 3. ملاك تشخيص الكمال الحقيقيّ والكمال الاختياريّ عند الإنسان 
 
إنّ اللذة والألم والصداقة والعداوة من خصائص وأوصاف روح الإنسان، وحينئذٍ أيّ واحدة منها تعتبر كصفةِ كمالٍ له وأيّ واحدة منها تعتبر كصفة نقصٍ له؟
 
وبالرغم من اعتقاد بعضهم بأنّ كلّ لذة تلازم حصول نوعٍ من الكمال، فإنّ بعض اللذائذ توجب الآلام الكبيرة، ومن حيث المجموع بامكانها أنْ تقلل من البعد الوجوديّ للإنسان1.
 
 
 

1- راجع: محمّد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج‏4، ص 117 و118 نقلاً عن الحكماء وابن سينا، نفس المصدر ص 122، 123، 135، 142، وج 9، ص 122 و 125.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
260

252

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 وربما تكون الصداقة مع الآخرين وفي كثير من الموارد مفيدة لنا وموجبة لكمالنا، إلّا أنّ الأمر ليس كذلك مع صداقة من يضللنا ويلجئنا إلى فعل ما يوجب نقصنا.


ومع ملاحظة هذه الأمثلة يحتمل أنّ بعض صفات الروح الّتي يمكن من جهة ما تلقيها ككمال للإنسان إذا لم تزد دائماً من البعد الوجودي له أو سببت نقصانه في بعض الأحيان فإنّ مثل هذه الصفات لا قيمة ذاتية لها، وأما ما هو حقيقة كمال الإنسان وله القيمة الذاتية فهو ذلك الشي‏ء الّذي يضيف دائماً - لا أحياناً ولا من جهة خاصّة - ومن حيث المجموع في البعد الوجودي للإنسان ومثل هذا الشي‏ء نسميه الكمال الحقيقيّ للإنسان.

تعريف‏

إنّما تكون "أ" كمالاً حقيقياً لـ"ب" فقط وفقط إذا كان كمال "ب" مع "أ" دائماً ومن حيث المجموع أزيد من كمالها من دون "أ".

لكن ما هو الملاك المشخص للكمال الحقيقيّ؟

لنفترض أنّنا نريد ترتيب الألوان المختلفة بناءً على درجة إضاءة اللون (كونه فاتحاً أكثر من غيره) ولكن ترددنا في تحديد درجة الإضاءة للألوان المختلفة فإنّنا نقيسها حينئذٍ إلى أوضح الألوان وأكثرها إضاءة أيّ اللون الأبيض ونقول إنّ ملاك إضاءة اللون هو كونه قريباً من اللون الأبيض، ولذا فإنّ أكثر الألوان اضاءة (غير اللون الأبيض) هو أكثرها قرباً من اللون الأبيض.

وبناءً عليه يمكن القول إنّ ملاك تشخيص الكمال الحقيقيّ للإنسان هو قرب هذا الكمال من الكمال المطلق[12].

وبناءً على بحوث الإلهيات الفلسفية فإنّ الكمال المطلق هو الله تعالى وعلى هذا الأساس يمكن القول إنّ ملاك الكمال الحقيقيّ للإنسان هو قربه [13] من الله تعالى، وبإضافة قيد "الاختياريّ" يمكن استنتاج القاعدة التالية:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
261

253

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 إنّ ملاك تشخيص الكمال الاختباريّ للإنسان هو قربه الاختياريّ من الله تعالى.


سؤال: مع ملاحظة هذا الملاك اذكر الصفات الإنسانية ذات القيمة الذاتية وما هو نوع القيمة في سائر الصفات الأخرى؟

4 - نطاق الكمال الاختياريّ للإنسان‏

إنّ الكمال (البعد الوجوديّ) عند الإنسان ذو مراتب، وبالاصطلاح فإنّه مفهوم مشكّك.

وقد استنتجنا أنّ الإنسان كلّما كان أقرب إلى الله فإنّه يكشف عن تمتعه بمقدار أكبر من الكمال الحقيقيّ.

إلّا أنّنا هنا نريد أنْ نتعرّف إلى ماهية نطاق اختيار الإنسان في قربه من الله، وبعبارة أخرى إلى أيّ حدٍّ يستطيع الإنسان باختياره تحصيل الكمالات الإلهية والاقتراب من الله.
وسوف نقسم هذا السؤال إلى قسمين:

1 - ما هو المقدار الّذي يمكن للإنسان تحصيله من الكمالات الإلهية؟

2 - ما هي حدود امكانية كون هذه الكمالات اختيارية؟

وللاجابة عن القسم الأوّل لا بدّ أولاً أنّ نأخذ بالنظر والاعتبار نطاق إمكانات الإنسان. وهنا نقول إنّ الصفات الكمالية الّتي بإمكان الإنسان أنْ يتحلّى بها كثيرة جداً ومن الصعب حصرها وتعدادها ومن جملتها العلم والقدرة والحياة والجود، والأفضل لنا أنْ نسأل هذا السؤال من الناحية السلبية فنقول: ما هي الكمالات الإلهية الّتي لا يمكن للإنسان حيازتها؟

إنّ الإلهيات الفلسفية تعرّف الله بأنه موجود لا يحتاج في وجوده وكمالاته إلى أيّ موجود آخر واصطلاحاً يقال واجب الوجود أو الغنيّ بالذات. وفي المقابل فإنّ وجود 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
262

254

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 الإنسان ليس من ذاته بل إنّه محتاج في وجوده وكمالاته إلى الله تعالى وبالاصطلاح يعبر عنه بأنّه ممكن الوجود أو فقير بالذات.

ولذا فإنّ الإنسان مهما وصل إلى أيّ مرتبة من مراتب الكمال لن يكون واجب الوجود أو غنياً بالذات، وبعبارة أخرى فإنّ كلّ كمالٍ يحوزه الإنسان فهو من الله وهو دائماً محتاج إليه.

ولذا فإنّ هناك نطاقاً محدداً لإمكانات الإنسان النوعية [14] وهي مثبتة بالدليل والبرهان العقلي [15].

وخلاصة القول: إنّ الإنسان ومن بين المراتب الإلهية لا يمكنه كسب عدم الاحتياج المطلق ولوازمه.

وللاجابة عن القسم الثاني لا بدّ لنا من تحديد نطاقٍ اختياريّ لكمال الإنسان الحقيقيّ.

إنّ الكمال الاختياريّ يتحصّل باختيار الفاعل وإرادته ولذا فإنّ هذا الكمال يبقى اختيارياً ما دام الفاعل طالباً له، لكن ما هو مقدار حدود هذا الطلب؟ وبعبارة أخرى أيّ حدّ من الكمال يريده الإنسان بحيث إنّه عندما يصل إليه يتوقف طلبه للكمال ومن بعده لن يطلب أيّ كمالٍ آخر؟ وفي الجواب عن ذلك يمكن القول إنّ الإنسان ولامتلاكه قوة العقل لا يتصوّر فقط الكمال المحدود بل يتصوّر المفهوم المطلق للكمال، ولهذا فإنّ سعيه وطلبه للكمال لا يُحدّ بمقدار محدود وخاصٍ ولهذا السبب أيضاً فإنّ أيّ إنسان لا يقنع بأي حدٍّ خاصٍّ من الكمال بل يطلب أقصى ما يمكنه طلبه مما يظنه ويعتقده كمالاً له. وبناءً عليه فإنّ الإنسان من ناحية طلبه للكمال لا محدودية له وتمام مراتب الكمال الممكنة مطلوبة له واختيارية أيضاً.

ومن حيث المجموع يمكن استنتاج ما يلي:

حدود الكمال الاختياريّ للإنسان احتياجه إلى الله
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
263

255

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 5 - القيمة النهائية


مع ملاحظة ما أثبتناه من حدود الكمال الاختياريّ للإنسان نصل إلى النتيجة التالية وهي أنّ الإنسان وبما أنّه موجود محتاج بإمكانه أن يكسب باختياره صفات الكمال الإلهية باستثناء الصفات الراجعة إلى غناه المطلَق[16]، وفي هذه الصورة سيصل إلى أعلى مراتب الكمال الاختياريّ والذي نسمّيه "القيمة النهائية"، وبناءً على الملاك الّذي بيّناه لتشخيص الكمال الاختياريّ فإنّ ملاك تشخيص القيمة النهائية عبارة عن: أعلى درجات القرب الاختياريّ من الله.

6 - لوازم[17] القيمة النهائية

حتى الآن ومع معرفتنا بالقيمة النهائية وملاك تشخيصها، سوف نشير أيضاً إلى بعض علاماتها ولوازمها حيث إنّ معرفة هذه اللوازم سيعيننا على التعرّف بأفضل وجه من خلال المقايسة معها إلى مكانتنا القيميّة ومكانة الآخرين أيضاً.

1 - 6. العلم الحضوريّ الكامل عند الإنسان باحتياجه وعدم احتياج الله

بناءً على البحوث الفلسفية المتعلقة بالعلم فإنّ الإنسان عالم بذاته وبوجوده علماً حضورياً أي أنّه يدرك وجوده بلا أيّ واسطة وإنّ علمه الحضوري بنفسه هو عين وجوده، ولذا فإنّ الشدّة والضعف أو الكمال والنقص في علمه الحضوري بنفسه تابع للشدة والضعف أو الكمال والنقص في وجوده، ولذا فإنّ من لديهم النقص في هذه الناحية غافلون حتى عن الكثير من استعداداتهم ومؤهلاتهم. وكذلك فإنّ الاطلاع والعلم عند الكثير من الناس ليس بحده الكامل والذي يؤهلهم لتشخيص حقيقة وجودهم في أنها مادية أم مجردة، أي أنّه وبغضّ النظر عن الاستدلال لا يدركون أنّ حقيقة وجودهم هي الروح المجردة عن المادة وليس بدنهم المادي بل إنّ عامة الناس يستفيدون لمعرفة مثل هذه الخصائص من العلم الحصوليّ ويحتاجون إلى التجربة أو الاستدلال العقليّ في مواردها، لكنّ الإنسان كلما أصبح وجوده أكثر كمالاً فإنّ معرفته وعلمه الحضوريّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
264

256

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 بنفسه والذي هو عين وجوده يصبح أكثر كمالاً أيضاً وبالتالي فإنّه يدرك بوضوح أكثر خصائصه الوجودية بالعلم الحضوريّ ومن جملة هذه الخصائص كيفية الارتباط الوجوديّ للإنسان بالله.

 
ولتوضيح حقيقة هذا الارتباط وادراكه بشكل أفضل نتوجه إلى هذا المثال: تصور1 في ذهنك إنساناً ما، وحينئذٍ بأيّ نحو يرتبط هذا التصور الذهني بنفسك؟ وهل أنّ الإنسان الّذي تصورته في ذهنك لا يحتاج إليك في أيّ شي‏ء يمتلكه؟ وهل يمكن أنّ يكون ارتباط هذا التصور بنفسك كارتباط أيّ شي‏ء مثلاً بحبل يتصل به؟ وهل أنّ هذا الارتباط كارتباط البناء بالبنّاء بحيث إنّ الأوّل لا يحتاج إلى الثاني بعد إتمام البناء؟
 
إنّ هذا التصوّر الذهنيّ المفترض مخلوق من قبل الذهن وكل ما فيه يرتبط بارادتك أيّ أنّه وبمجرّد عدم تصوره سيزول أيضاً ولا معنى حينئذٍ لوجوده من دونك ودون ذهنك، وإنّ افتراض "عدم ارتباطه بذهنك" يساوق بالدقة افتراض "عدم وجوده"، وعليه فإنّ هذا التصور ليس شيئاً مستقلاً قمت أنت بربطه بالذهن بل إنّ نفس التصوّر وما قمت به هو عين الربط والاحتياج في ذهنك أنت. والآن لنفترض أنّ ذلك الإنسان الّذي تصورته أصبح أكثر كمالاً بحيث إنك تدرك وجوده بشكل أوضح، وفي هذه الصورة فإنّ نحو ارتباطه بك يدرك بشكل أوضح وكما أنك تدرك ارتباطه بك فإنّه أيضاً يدرك ارتباطه بك ويدرك استقلالك عنه أيضاً.
 
بناءً على بحوث الإلهيات الفلسفية فإنّ كلّ الموجودات بما فيها الإنسان لها عين الربط بالله تعالى، ولا يوجد أيّ مخلوق مستقلّ عنه في أيّ كمالٍ من كمالاته الوجودية بل إنّ وجوده دائماً وكذلك تمام كمالاته مفاضة من قبل الله، وإنّ الموجود المستقلّ كاملاً والذي لا يحتاج إلى أيّ شي‏ء هو الله فقط.
 
 
 

1- المراد من هذا التصور هو التصور الّذي يخترعه الذهن ويكون فاعلاً له بإعانة من القوة الفاعلة وليس التصور الحسي الّذي يكون معه الذهن منفعلاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
265

257

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 إنّ إحدى علامات الوصول إلى القيمة النهائية هي في إدراك الإنسان نحو ارتباطه الوجودي بالله تعالى بالعلم الحضوري - والذي أثبته الفلاسفة بالدليل العقليّ في مباحث الإلهيات الفلسفية - أيّ أنْ يدرك دائماً ارتباطه بالحضرة الإلهية واحتياجه الدائم إلى الله وأنّ الله هو الموجود المستقلّ بذاته والذي لا يحتاج إلى غيره[18].


2 - 6. المحبّة والرضا الكاملان والمتقابلان بين الله والإنسان

إن الله والذي هو الكمال المطلَق محبٌ لنفسه وكلّما كان الشي‏ء أكثر سنخية مع وجوده الكامل - أيّ كان أكثر قرباً منه - أحبه بشكل أكبر أيضاً.

وبناءً عليه فإنّ الإنسان كلما أصبح أكثر كمالاً فسيكون محبوباً بشكل أكبر من قبل الله تعالى وسيزداد رضا الله عنه بشكل أكبر أيضاً.

ومن طرف مقابلٍ أيضاً فإنّ الإنسان ونتيجة لتكامله ستقوى الصفات الكمالية الإلهية في ذاته، وحيث إنّ هذه الصفات مقتضية للحبّ والرضا ببعض الأمور الخاصّة بها فإنّ الإنسان بتكامله واكتسابه للصفات الإلهية سيحبّ ويرضى بتلك الأمور أيضاً ولذا فإنّه سيحبّ ما يحبه الله وسيرضى بما يريده ويطلبه وبناءً عليه فإنّ مقدار القيمة الذاتية لأي مرتبة من مراتب الكمال الاختياريّ يمكن مساواتها بدرجة الحبّ والرضا المتقابل بين الله والإنسان وإنّ إحدى لوازم القيمة النهائية هي المحبة والرضا الكاملان والمتقابلان بينهما أيضاً.

سؤال: كيف يمكن معرفة مكانتك ومكانة الآخرين القيميّة بناءً على هذه اللوازم؟

7 - القيمة النهائية وتأمين الأهداف الذاتية

كما تقدّم معنا في الفرع (1 - 6) فإنّ شدّة وكمال علم الإنسان الحضوريّ بنفسه تابعٌ لشدّة وكمال وجوده، ونتيجة ذلك أنّ الإنسان الكامل بتحصيله القيمة النهائية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
266

258

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 وأعلى درجات القرب من خلال الكمالات المفاضة عليه من قبل الله فسيكون لديه أيضاً علم حضوري كامل وواضح.


وسيحصّل هذه النتائج أيضاً:

1 - سيدرك ويحصّل أعلى لذة يمكن للإنسان تحصيلها، لأنّ اللذة الحاصلة من إدراك الوصول هي نوعٌ من الكمال أيضاً. والإنسان الكامل سينال أعلى درجات درك الكمال وأعلى مراتب الوصول وبالتالي فإنّ مثل هذا الإنسان سيحصّل أعلى الكمالات الممكنة له وسيدرك كماله النهائيّ بشكل كامل بالعلم الحضوريّ وهذه أعلى درجة من درجات درك الكمال، ومن طرف آخر فإنّ الوصول إلى مثل هذا الكمال يعتبر نوعاً من التعلّق الوجوديّ والذي يعدّ من أكمل أنحاء الارتباط الممكن بين موجودين وأعلى مراتب الوصول إلى الكمال[19].

2 - إنّ الإنسان بتحصيله للكمالات الواقعيّّة وادراك حقيقتها لن تتزاحم عنده مع أيّ أمرٍ آخر. ومع أنّه سيستفيد من الإمكانات الدنيويّة بما يتناسب مع كماله الحقيقيّ فإنّه لن يعتني ولن يرغب بما يتزاحم منها مع هذا الكمال وبالتالي سيصل إلى الاطمئنان الروحيّ الكامل من دون إحساس بالحاجة إليها. ومثالاً على ذلك فإنّه لن يشعر بأي نقصٍ أو ضرر حيال أصحاب البطون الملأى وعبّاد الشهوة والطغاة وأصحاب الشهرة، ولن يغبطهم أبداً على حياتهم.

3 - في ظلّ الوصول إلى الحدّ الممكن من الكمالات الإلهية فإنّ الإنسان سيحصّل أعلى حدّ من القدرة الممكنة له. وبإدراكه هذه القدرة الكاملة المستندة إلى قدرة الله لن يشعر بأيّ ضعف وخوف أمام أيّ قدرة أخرى.

4 - سيؤمّن كلّ احتياجاته الوجودية الملائمة مع كماله الحقيقيّ وقربه من الله. وحيث إنّ هذا الكمال هو مطلوبه الأصلي فإنّ تأمين كلّ حاجاته سيكون مطلوباً له فقط باعتبار أنها مقدّمة لتأمين كماله الحقيقيّ وبالتالي سيبتعد عن الافراط والتفريط في طلب الحاجات الّتي لا تنسجم مع ذلك، وهذا الأسلوب يؤيده العقل ويحكم بصحته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
267

259

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 وفي الواقع، ومع جعل الهدف هو أعلى درجات القرب الاختياريّ (القيمة النهائية) فإنّ أتباع الأنانية سيؤمّنون كلّ أهدافهم وبأعلى حدٍّ ممكن ومن دون أنّ يزاحم بعضها بعضاً. لكن يا ترى هل يؤمّن هذا الهدف أهداف أتباع الغيرية أيضاً؟ سوف نجيب عن هذا السؤال بعد الكلام عن القيمة الغيرية والبديلة في الفصل العاشر.


الخلاصة

1 - إنّ الإنسان - وكأيّ موجود آخر له علم حضوريّ بنفسه - يحب ذاته.

2 - إنّ حبّ الذات منشأ مطلوبية كمالها.

3 - إنّ مطلوبية الكمال في نطاق الأمور الاختيارية يظهر بصورة مطلوبية الكمال الاختياريّ.

4 - إنّ منشأ مطلوبية حبّ الذات ومنشأ المطلوبية للأمور الاختيارية عند الإنسان هو مطلوبية الكمال الاختياريّ.

5 - الكمال الاختياريّ ذا قيمة ذاتية.

6 - إنّ اختلاف الرأي حول ما له القيمة الذاتية يوجب الاختلاف في تقييم الأمور الاختيارية وفي انتخاب أسلوب الحياة أيضاً.

7 - لا بدّ من وجود ملاكٍ لتشخيص الكمال الاختياريّ وتعيين قيمة الأمور الاختيارية.

8 - باعتبار أنّ حقيقة الإنسان تتمثّل في روحه فلا بدّ من البحث عن كماله الحقيقيّ في ضمن أوصافها.

9 - إنّ بعض أوصاف الروح وإنْ كانت من جهة ما موجبة للكمال إلّا أنّها لا تزيد في بعده الوجودي بشكل دائم، ولذا فإنّ مثل هذه الصفات ليست كمالاً حقيقياً ولا قيمة ذاتية لها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
268

260

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 10 - إنّ ملاك تشخيص الكمال الحقيقيّ هو القرب من الكمال المطلق (الله)، وإنّ ملاك تشخيص الكمال الاختياريّ هو القرب الاختياريّ من الله.


11 - إنّ الإنسان الطالب للكمال الاختياريّ ولامتلاكه قوة التعقل فإنّه يتصوّر الكمال المطلَق ويسعى إليه، ولهذا السبب فإنّ سعيه وطلبه للكمال لا يُحدّ بأي حدّ.

12 - إنّ الإنسان محتاج في وجوده وكمالاته إلى الله وإنّ كماله الاختياريّ محدود بهذا الاحتياج.

13 - القيمة النهائية هي أعلى درجات الكمال الاختياريّ، وملاكها هو أعلى درجات القرب الاختياريّ من الله.

14 - مع تكامل وجود الإنسان سيتكامل أيضاً علمه الحضوريّ بارتباطه الوجودي بالله. ولهذا فإنّ العلم الحضوري الكامل عند الإنسان باحتياجه وعدم احتياج الله يعتبر من لوازم القيمة النهائية.

15 - إنّ الله يحب الكمال وإنّ الإنسان الكامل مورد لمحبة الله ورضاه الكامل عنه.

16 - إنّ الإنسان الكامل واجد للصفات الإلهية في حدّها الممكن، وما هو محبوب ومرضي لله محبوب ومرضي عنده أيضاً.

17 - المحبة والرضا الكاملان والمتقابلان بين الله والإنسان هما من لوازم القيمة النهائية.

18 - إنّ القيمة النهائية تؤمّن الملاكات المنظورة عند القائلين بالأنانية - كاللذة والاطمئنان والقدرة والقوة والانسجام العقلاني - في أعلى حدّ ممكنٍ ومن دون أنّ يتزاحم بعضها مع بعض.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
269

261

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 الأسئلة

 
1 - ما هو منشأ المطلوبية؟ أوضح ذلك.

2 - أثبت أنّ منشأ مطلوبية الأمور الاختيارية هو مطلوبية الكمال الاختياريّ.

3 - لماذا نحتاج إلى الملاك لتشخيص الكمال الاختياريّ؟ أوضح ذلك.

4 - أوضح ارتباط البحث عن حقيقة الإنسان مع البحث عن ملاك تشخيص الكمال الاختياريّ.

5 - بالنظر إلى حقيقة الإنسان والكمال المطلق اذكر ووضّح ماهية ملاك تشخيص الكمال الحقيقيّ وملاك تشخيص الكمال الاختياريّ.

6 - أ - بالنظر إلى حدود امكانات الإنسان اذكر ما هو الحدّ الّذي يمكن للإنسان تحصيله من الكمالات الإلهية؟

ب - بالنظر إلى سعي الإنسان للكمال، ما هو حدود كون هذه الكمالات اختيارية؟

7 - التكبّر المطلَق هو أنّ يرى الموجود نفسه أكبر من الآخرين مطلقاً، بالنظر إلى حدود إمكانات الإنسان في كسب الكمالات الإلهية. أوضح سبب كون التكبّر المطلَق صفة كمال لله وصفة نقصٍ للإنسان وأنّها بالنسبة له ذات قيمة منفية أخلاقيّاً.

8 - أ - ما هو المراد من قولنا: "العلم الحضوريّ الكامل للإنسان باحتياجه وعدم احتياج الله"؟

ب - كيف اعتُبر هذا الكمال من لوازم القيمة النهائية؟

9 - أثبت كيفية كون المحبة والرضا الكاملين والمتقابلين بين الله والإنسان من لوازم القيمة النهائية.

10 - كيف تؤمّن القيمة النهائية الملاكات التالية، والتي هي مورد نظر أتباع الأنانية، في أعلى حدّ ممكنٍ ومن دون تزاحم بينها:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
270

262

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 أ - اللذة.

 
ب - الاطمئنان.
 
ج - القدرة.
 
د - الانسجام العقلاني.
 
للبحث
 
1 - مع الالتفات إلى الموارد التالية كيف تفسّر حب الإنسان لذاته؟ ابحث ذلك:
 
- الإيثار: بعض الناس يضحي بماله وروحه من أجل الآخرين.
 
- الانتحار: بعض الناس باختياره يقوم بوضع حدٍّ لحياته.
 
- العشق: بعض الناس يضحى بمصالحه من أجل رضا معشوقهم.
 
2 - يمكن تشبيه الرابطة بين الإنسان والله بنهر ينبع من بحرٍ كبيرٍ لا حدّ له وإن تغيير عرضه وسعته باختيار النهر نفسه.
 
بالاستفادة من هذا التشبيه أوضح كيفية استلزام زيادة الكمال الاختياري عند الإنسان لزيادة احتياجه إلى الله. وابحث معنى كلام الإمام زين العابدين وسيد الساجدين عليه السلام حيث يخاطب الله تعالى قائلاً له: "وأنا أفقر الفقراء إليك"1.
 
3 - بالالتفات إلى البحوث الواردة في هذا الفصل عيّن المباحث الفلسفية الأخرى الّتي يحتاجه إليها البحث الفلسفيّ حول القيمة الذاتية الأخلاقيّّة وعدّد هذه الموارد.
 
4 - بالالتفات إلى بحوث هذا الفصل بيّن ماهية ملاك انسجام القوى المختلفة عند الإنسان وملاك تعيين الحدّ الوسط، وكيف يمكن أنّ تبين نظرية الحد الوسط الذهبية بنحوٍ فلسفي.
 
 
 

1- الصحيفة السجادية، مقطع من الدعاء العاشر.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
271

263

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 5 - هل ينبغي اعتبار نزعة الكمال الأخلاقيّّة من أخلاق الفضيلة أم من أخلاق الوظيفة والعمل؟ (راجع المذكرة 4 من الفصل الأول).


6 - اعتبر بعض العرفاء وعلماء الأخلاق المسلمين أنّ منشأ المراتب العليا من الكمالات والفضائل الأخلاقيّّة هو التوحيد، وأنّ الكفر والشرك هو أساس كلّ النقائص والرذائل الأخلاقيّّة.

كيف يمكن إرجاع مثل هذه الصفات بمراتبها العليا إلى التوحيد: التواضع والمروءة، والإيثار والشجاعة والعفة.

وكذلك كيفية إرجاع الصفات التالية إلى الكفر والشرك: الرياء، الحسد، والبخل والغرور.

اقرأ

إنّ القيمة الذاتية لها مطلوبية ذاتية غير ارتباطية، ولذا لا بدّ لنا عند البحث عمّا له قيمة ذاتية أنْ نبحث عمّا هو مطلوب عند الإنسان ونشخّص المطلوب اللاارتباطيّ منها. وربما يكون هذا الأمر معقداً جداً لأنّه لا يمكن استقصاء واستقراء كلّ مطلوب عند كلّ الناس. وإذا كانت مطلوبية بعض الأمور طولية فإنّ المطلوب الأصليّ يكون ذا قيمة ذاتية فقط. وكذلك الحال فيما إذا أمكن كشفه من بين المطلوبات الطبيعية، فستكون له قيمة ذاتية أيضاً عند كلّ الناس. وإذا ما كانت مطلوبية هذا المطلوب الطبيعيّ منشأ مطلوبية كلّ مطلوب عند الإنسان فلا حاجة إلى مزيدٍ من البحث والتحقيق لأنّ ما له القيمة الذاتية عند كلّ الناس قد تبيَّن وتحصَّل في اليد. ولذا فإنّنا في بحثنا عمّا له القيمة الذاتية نبدأ من هذه النقطة وبايجادنا لها من بين القيم الطبيعية وإثبات كونها منشأ مطلوبية كلّ مطلوب آخر نكون قد حصّلنا القيمة الذاتية الأخلاقيّّة فقط. ونحن في هذا الاستدلال حصّلنا القيمة الذاتية للكمال الاختياري - مع ميزة عدم الارتباط بأيّ قيمة أخرى - من بين القيم الطبيعية وبالتالي استنتجنا قيمته الذاتية من قيمته الطبيعية، وبناءً عليه فإنّ استدلالنا هذا ليس من
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
272

264

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 نوع مغالطة القيمة الطبيعية والقيمة الذاتية الّتي بينّاها في الفصل الثامن.


إنّ حبّ الفعل هو من مبادئ الفعل الاختياريّ وينشأ عند الإنسان من حب غاية الفعل باعتقاد الفاعل (أي حبّ الغاية الّتي يعتقد الفاعل أنها غاية).

وحبّ الغاية هذه والتي هي حقيقة العلة الغائية أو علّة فاعلية الفعل الاختياريّ من الممكن أنّ تكون معلولة لحبّ غاية أخرى أيضاً ولكن حيث إنّ التسلسل والدور في العلل الحقيقيّة محال لا بدّ من أجل تحقق كلّ فعلّ اختياريّ من وجود علة غائية نهائية تكون منشأ محبوبية ومطلوبية هذا الفعل وعليه لا بدّ لتحقّق الأفعال الاختيارية من وجود قيمة ذاتية.

راجع: حسين بن عبد الله بن سينا، الشفاء، الإلهيات، ص‏368 - 369، محمّد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج‏7، ص‏184 - 185، السيد محمّد حسين الطباطبائي، أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، ج‏2، ص‏208، محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه، ج‏2، ص‏108، 112، 456 و461.

بناءً على ما تمّ إثباته في علم النفس الفلسفيّ فإنّ العلم مخصوص بالموجود المجرد. والإنسان بما أنّ له نفساً مجردة فهو عالم أيضاً وإنّ علمه بنفسه بلا واسطة واصطلاحاً فإنّه حضوريّ، ولذا فإنّ العلم الحضوريّ بالذات لازم وجود الذات وليس اكتسابياً كما هو الحال في العلم الحصوليّ.

ومن طرفٍ آخر فإنّ ايجاد كلّ كمالٍ موجود بلا أيّ واسطة يصاحبه الحبّ له، وبعبارة أخرى فإنّ ايجاد كمال الوجود أمر محبوب، وبناءً عليه فإنّ حبّ الذات نتيجة طبيعية للعلم بكمال وجود الذات ولازم كلّ ذات مجردة ومن جملتها الإنسان.

حيث إنّ حب الذات هو منشأ حب البقاء ومطلوبيته كذلك - وحتماً إنّ البقاء من كمالات الإنسان - لذا فإنّ حبّ البقاء مصداق من مصاديق حبّ الكمال.

إنّ وجود الاختيار - والذي هو أمر مسلَّم به في الأخلاق والقبول بهذا الأصل وبغضّ النظر عن حدوده يُحتاج إليه منطقياً للقبول بأيّ مذهبٍ أخلاقيّّ - أمر وجدانيّ وبديهي ومبتنىً على العلم الحضوري.

اينكه كويى اين كنم يا آن كنم‏         خود دليل اختيار است أى صنم‏
قولك أفعل كذا ولا أفعل                دليل على كونك مختاراً أيها الصنم‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
273

265

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 ومن الممكن أيضاً الاجابة عن الشبهات الواردة حول إمكان الاختيار بالأدلة الفلسفية.


إنّ هذا البحث لا يثبت فقط القيمة الذاتية للكمال الاختياريّ عند الإنسان بل يثبت أيضاً - وكما رأينا في الفصل الثالث - الواقعيّّة الأخلاقيّّة، ومضافاً إلى هذا فإنّ هذا البحث يثبت أيضاً عدم وجود قيمة ذاتية أخلاقيّّة أخرى. وبعبارة ثانية فإنّ القيمة الذاتية الأخلاقيّّة واحدة وليست متعدّدة لأنّه لا يمكن ايجاد أيّ أمر اختياريّ آخر عند الإنسان تكون مطلوبيته مستقلّة أو غير مرتبط في النهاية بأمر آخر سوى الكمال الاختياريّ، وبناءً عليه فإنّ التعددية الأخلاقيّّة - بمعنى وجود أصول أخلاقيّّة متعدّدة بعضها في عرض بعض - المستلزمة لوجود قيم ذاتية متعدّدة غير صحيحة.

وبغضّ النظر عن هذا البحث، فإنّه يمكن الكلام عن إمكان أو عدم إمكان تعدّد القيم الذاتية، وعن لوازم القبول بتعدّدها، وسوف نشير إلى ذلك بالبيان التالي:

إنّ مفهوم تعدّد القيم الذاتية لا يستلزم التناقض المنطقيّ، أيّ أنّه بشكل كلّي وبصرف النظر عن خصوص الأخلاق فإنّه يمكن الافتراض منطقياً وجود قيم ذاتية متعدّدة لموضوع واحد بمعنى أنّ تكون لدينا عدة أمورٌ مستقلة مطلوبة بشكل عرضيّ في ذات الوقت ولا تكون مطلوبية بعضها ناشئة عن مطلوبية بعضها الآخر وبشكل طوليّ. 

لكنّ افتراض تعدّد القيمة الذاتية في الأخلاق يستلزم عدم امكان المقايسة المنطقية بين كلّ الأمور الاختيارية، ولكي يكون بامكاننا ايجاد تصوّرٍ واضح حول هذه الملازمة.

لنلاحظ ابتداءً هذين المثلَين: إنّ المتر المربع والمتر المكعب وحدتا قياس مستقلتان يستخدمان بالترتيب لقياس المساحة وحجم الاشكال ذات الأبعاد الثنائية والثلاثية.

وعليه إذا كان المطلوب منا تعيين الشكل الأكبر مثلاً بالاستفادة من هذين الملاكين المستقلين بين مربع مساحته متر مربع ودائرة مساحتها متران مربعان فمن البديهيّ أنّ ننتخب منطقياً (أي على أساس الملاك المذكور) الدائرة.

وكذلك الحال بين مكعب حجمه متر مكعب وكرة حجمها متران مكعبان فإنّنا منطقياً سننتخب الكرة، لكن لا يمكننا باللحاظ المنطقيّ الانتخاب بين المربع والمكعب أو بين الدائرة والكرة بأيّ شكل من الأشكال والسبب في ذلك أنّ ملاكات الانتخاب عندنا مستقل بعضها عن بعض ولا يمكن مقايسة بعضها ببعض.

ولنفرض أيضاً الحجم والثقل كملاكين مستقلّين في انتخاب الأجسام وحينئذٍ وعلى أساس هذين الملاكين أيّ واحد من هذين الأمرين ننتخب منطقياً: قفصٌ حجمه متر مكعب ووزنه كيلوغرامان أم صندوق حجمه متران مكعبان ووزنه كيلو غرام؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
274

266

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 من الممكن أنّ تقول ها هنا وبناءً على الملاكات المذكورة إنّ هذين الجسمين ذوا قيمة ذاتية متساوية لأنّ كلّ واحدٍ منهما يرجح من جهة ما على الآخر، حيث إنّ مقدار ترجيح الأوّل على الثاني على أساس ملاك "الثقل" يعادل مقدار ترجيح الثاني على الأوّل بملاك "الحجم" ،لكن في هذه الصورة فإنك افترضت أنّ الحجم والثقل مؤثران بمقدار واحد في انتخابنا وهذا يعني أنّ أياً منهما لا قيمة ذاتية له بشكل مستقلّ، بل إنّ كليهما وبمقدار واحد له تأثير في القيمة الذاتية، وإنّ ما له هذه القيمة عبارة عن حاصل ضرب الحجم مع الثقل، وأما إذا لم تتساوَ مطلوبية كلا الملاكين المذكورين فإنّ تأثيرهما في القيمة الذاتية لن يكون متساوياً أيضاً.


(ومثالاً على ذلك إذا كان "الحجم‏2 × الوزن" ذا قيمة ذاتية فإنّ مطلوبية الحجم فيه أكبر من مطلوبية الوزن).

وعلى كلّ حال إذا ما تعارض ملاكا المطلوبية المذكوران في مثالنا المفترض حول القفص والصندوق ومع فرض امكانية المقايسة بينهما وتعيّن المطلوب الأفضل فإنّ مطلوبية الملاكات سترتبط حينئذٍ بمطلوبية شي‏ء آخر وبالتالي لن يكون لأيٍّ منهما قيمة ذاتية.

وبشكل كلّي إذا كان لدينا في موارد الانتخاب عدة ملاكات مستقلة فإنّه لا يمكن اعتبارها مستقلة واقعاً وأنها غير مرتبطة بأيّ شي‏ء آخر إلّا إذا فرض تعارضها ولم يكن لدينا أيّ ملاك للمقايسة بينها، والانتخاب المنطقيّ الصحيح كذلك، والنتيجة أنّه إذا كان "أ" و"ب" قيمتين ذاتيتين أخلاقيّتين أيّ أنهما ملاكان مستقلان لتقييم الأمور الاختيارية وافترضنا أنّ بعض الأمور الاختيارية واجدة فقط للملاك "أ" وبعضها الآخر واجدٌ فقط للملاك "ب"، ففي هذه الصورة لن يكون لدينا منطقياً أيّ طريق للانتخاب من بينها وبالتالي لن نتمكن من القول إنّ هذه أفضل من تلك أو إنّه ينبغي القيام بهذا دون ذلك.

وكذلك الحال فيما إذا كان كلا القيمتين الذاتيتين "أ" و"ب" موجودين في بعض الأمور الاختيارية المختلفة فإنّه في مورد تعارض الملاكين لن نتمكن أيضاً من الانتخاب بينهما إلّا إذا اعتبرنا كونهما مؤثرين في القيمة الذاتية فقط لا أنهما القيمة الذاتية نفسها.

وبناءً عليه لنفترض أنّ شخصاً ما يعتقد بأنّ "اللذة" و"القدرة" كلاهما ذو قيمة ذاتية، وفي هذه الصورة إذا كانت الأفعال الموجبة للّذة متباينة بشكل كامل مع الأفعال الموجبة للقدرة فلا إمكان للمقايسة بينهما.

وكذلك الحال أيضاً فيما لو كان بعض الأفعال على الأقلّ له تأثيره - السلبيّ أم الايجابيّ - في اللذة والقدرة معاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
275

267

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 وكذلك أيضاً لا إمكان للمقايسة المنطقية ولا لتعيين القيمة أو اللزوم الأخلاقيّ في الموارد الّتي توجب لذة أكبر وقدرة أقل وأخرى توجب لذة أقل وقدرة أكبر.


وفي النتيجة فإنّه لا يمكن إلّا في صورة واحدة، من المقايسة بين كلّ الأفعال الاختيارية بعضها مع بعض باللحاظ المنطقي، وتعيين قيمتها أو لزومها وذلك فيما إذا كانت ذات قيمة ذاتية واحدة فقط، أو افترضنا انسجام الملاكات مع بعضها دائماً.

وفي هذا الفرض فإنّ ما له القيمة الذاتية حقيقة هو ملاك انسجام الملاكات والذي هو أمر واحدٌ أيضاً. وكما هو الحال في اللذة والقدرة والعلم والتي هي كمالات حقيقية للإنسان والحاصلة من خلال القرب من الله تعالى.

وحيث إن الإنسان يختار بشكلٍ طبيعي من بين الأمور الاختيارية المختلفة، وملاك طبيعية هذا الانتخاب يعود إلى المنتخب نفسه وكانت له شخصية حقيقية واحدة فإنّه بامكانه منطقياً أنْ يعرف ملاكاً واحداً للقيمة الأخلاقيّّة والذي هو حاصل تأثير كلّ الأمور الاختيارية في شخص الفاعل الأخلاقيّّ والذي أسميناه بالكمال الاختياريّ عند الإنسان.

إنّ ما افترضناه حول تعدّد القيم الذاتية يمكن فرضه أيضاً بصورتين:

الأولى: أنّ تكون القيم الذاتية المتعدّدة لجميع الناس على نسقٍ واحدٍ.

الثانية: أنْ تكون كلّ واحدة منها مختصة بفرد أو مجموعة خاصّة بحيث تكون القيمة الذاتية عند بعضهم هي القدرة وعند بعضهم الآخر هي اللذة وهكذا.

إنّ النتيجة الّتي استنتجناها حول القيمة الذاتية لكمال الإنسان الاختياريّ تشير إلى عدم صحة كلا الفرضين المذكورين، حيث إننا بتحليل طبيعة الإنسان أشرنا إلى أنّ حبّ الذات، وحبّ الكمال ومطلوبية الكمال الاختياريّ من لوازم طبيعة الإنسان ونتيجة ذلك أنّه لا يمكن أنْ يوجد أيّ اختلاف من هذه الجهة سواء بين الأفراد أو الجماعات الإنسانية، لكن وبغضّ النظر عن هذا البحث فإنّ القبول بتعدّد القيم الذاتية عند الأفراد أو الجماعات - والذي يمكن افتراضه إما بنفي الطبيعة الواحدة عند كلّ الناس أو نفي كون الطبيعة الواحدة عند هؤلاء لها مقتضى واحد عند الجميع - يستلزم عدم امكان المقايسة القيميّة بين الأفراد / الجماعات، وبالقبول بها أيضاً لن نتمكن باللحاظ الأخلاقيّّ من الحكم على فرد / جماعة بأنه الأفضل أو الأسوأ من فرد / جماعة أخرى، ولن نتمكن من تعيين القيم واللزوميات الاختيارية عند الأفراد / الجماعات الأخرى بناءً على القيم الذاتية عند أفرادنا / جماعاتنا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
276

268

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 ولازم ذلك القول بنسبية القيم الأخلاقيّّة عند مقايسة الأفراد / الجماعات بالرغم من كون القيم الأخلاقيّّة لكل فرد / جماعة ثابتة عنده ومطلقة.

 


إنّ الاختلاف في انتخاب أسلوب الحياة ناشئ عن عدة أمور:

1 - الاختلاف في معرفة المطلوب الأصليّ (أي ما له القيمة الذاتية) بل وحتى ولو عرّفه بعضهم بأنه الكمال الاختياريّ للإنسان من الممكن أنْ يشتبه في تعيين المصداق الواقعيّّ له. وعليه فإنّ الّذي لا يمكنه تشخيص المصداق الواقعيّ للكمال الإنساني، والمعتقد بكون بعض الأمور هي كمال له مع أنها ليست كذلك واقعاً فمن الطبيعي أنّ يسلك مسلكاً خاطئاً في حياته.

2 - الاختلاف في معرفة الطرق الموصلة إلى المطلوب الأصليّ (أي ما لها القيمة الغيرية أو القيمة البديلة) حيث إنّه بعد معرفة المطلوب الأصليّ لا بدّ من المعرفة الصحيحة بقيم الصفات والأفعال المختلفة المتناسبة معه ولذا فإنّ الاشتباه في تعيين القيم الغيرية والبديلة يوجب أيضاً انتخاب الأسلوب الخاطئ في الحياة.

3 - إمكانية الانتخاب العقلاني أم غير العقلاني‏ - من الشروط المهمة لانتخاب أسلوب الحياة الصحيح هو أنّ نعمل بمقتضى معارفنا الصحيحة لأنّ الإنسان لا يسعى فقط إلى كماله الحقيقيّ - أيّ الأمور الّتي تزيد من حيث المجموع في بعده الوجوديّ - بل إنّه يميل إلى كلّ شي‏ء يوجب كماله، ومع أنّه يمتاز بقوة التعقل وبإمكانه انتخاب هدفه من الحياة والأسلوب المعقول فيها من خلال معرفته بكماله الحقيقي فإنّه بامكانه أيضاً أنْ يختار ما هو صرفاً كمالٌ له مع تزاحمه مع كماله الحقيقيّ.

ومثالاً على ذلك، فإنّ سعيه للراحة والتعلّم من جملة الأمور المتزاحمة فيما بينها مع أنّ كلاً منهما من جهة ما يوجب كمال الإنسان، ومع ذلك فإنّه بالامكان انتخاب أيّ واحد منهما وبعبارة أخرى فإنّ انتخاب الإنسان للراحة ومع معرفته بأفضلية العلم وتحصيله ممكن له أيضاً.

وكذلك فإنّ الإنسان يرجّح - مع معرفته بأفضلية الحياة الأخروية الخالدة واللامحدودة - الحياة الدنيويّة بمنافعها المحدودة من جهة البعد الوجوديّ الموجود في حدّ ذاته وبإمكانه أيضاً بالاستناد إلى العقل أنْ يرجح أيضاً البعد الوجوديّ الأفضل والأدوم في الآخرة.

إنّ الانتخاب الأوّل مع أنّه غير معقول إلّا أنّه ممكن ولا يتنافى مع سعي الإنسان للكمال الحقيقي لأنّه عند تزاحم الكمالات فإنّ العوامل غير العقلانية كالغريزة لا تحكم بنفي الكمال الحقيقي ولا هي موجبة لمزيد من النقص عند الإنسان بل إنّها صرفاً تتدخل في تأمين الكمال المتناسب معها.

وأما العقل ونظراً إلى تزاحم الكمالات وقيامه بالمحاسبة بينها فإنّه يأخذ بالنظر الكمال والنقص
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
277

269

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

  الواقعيّّ للإنسان من حيث المجموع ويحكم بتأمين الكمال الحقيقيّ.


وخلاصة الكلام فإنّ الإنسان لما كان لديه نوعان من الانتخاب - العقلانيّ وغير العقلانيّ - وفي الموارد الّتي يتزاحم فيها كمالان له فإنّ اختيار أحد الحكمين المتعارضين يرجع إلى اختيار الإنسان نفسه، وعليه فإنّ اختلاف الناس في الانتخاب العقلاني أو غير العقلاني موجبٌ أيضاً للاختلاف في أسلوب الحياة.

ويستفاد من هذا البحث نكتتان آخريان:

النكتة الأولى: مع أنّ العلتين الأوليين للاختلاف في انتخاب أسلوب الحياة معرفيتان - وبالتالي فإنّ تصحيح المعرفة لا بدّ منه من أجل الانتخاب الصحيح - فإنّ العلة الثالثة للاختلاف ليست معرفية. وعليه فإنّ المعرفة لا تكفي وحدها للوصول إلى هدف الأخلاق والتكامل، بل لا بدّ لكل فرد يسعى إلى ذلك - ومضافاً إلى تحصيله للعلوم المرتبطة به نظير فلسفة الأخلاق وعلم الأخلاق-أنّ يقوّي إرادته والبواعث العقلانية عنده وأن يعمل بمعارفه وعلومه وأن يطيع عقله عملياً.

النكتة الثانية: إنّ الأمور الاختيارية عند الإنسان إنما تقبل التقييم الأخلاقيّ لتأثيرها في تحصيل الكمالات المتزاحمة، وإنّ الإنسان بامكانه أنّ يختار من بينها بشكلٍ عقلانيّ أو غير عقلانيّ.

ولهذا فإنّه يمكن أنْ نتوقع من الإنسان أنْ يختار بواسطة عقله كماله الحقيقيّ ولو قصّر في ذلك سيكون موضعاً للمذمّة والتأنيب باللحاظ الأخلاقيّّ. وفي المقابل فإنّه لو أطاع عقله في هذا الانتخاب فإنّه أخلاقيّاً سيكون ممدوحاً ومقدراً.

وبناءً عليه فإنّ والأمور غير الاختيارية للموجودات والأمور الاختيارية للموجودات الّتي لا تزاحم في كمالاتها، وكذلك فإنّ الأمور الاختيارية للموجودات المتزاحمة في كمالاتها إن لم تستفد من العامل العقلاني أو غير العقلاني لا تقبل جميعها التقييم الأخلاقيّ.

وبإمكان هذا الكلام أنّ يكون مشيراً إلى المبنى الفلسفيّ عندنا في امكان التقييم الأخلاقيّّ لأفعال الموجودات الأخرى.

من الممكن أنْ يقال بعدم ضرورة تحديد ملاكٍ لتشخيص الكمال لتعيين قيمة ولزوم الصفات والأفعال الاختيارية إذ إنّه من الممكن محاسبة القيم الغيرية والبديلة لها وكذلك لزومها الأخلاقيّ من دون حاجة إلى الملاك المذكور، لأنّ كلّ فعل أو صفة اختيارية يزيد في بعد الإنسان الوجوديّ (أي الكمال) فإنّ له قيمة غيرية مثبتة، وإذا ما نقص في بعده الوجودي تكون له قيمة غيرية منفية، وأما إذا كان حاصل تأثيره صفراً فيكون بلا قيمة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
278

270

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 وكذلك عند تزاحم قيمتين غيريتين يكون للفعل أو الصفة قيمة بديلة تزيد في بعد الإنسان الوجوديّ بالمقايسة بالطرف الآخر.


ومن الممكن أيضاً معرفة مقدار البعد الوجودي على أساس الآثار الوجودية ومثالاً على ذلك فإنّ الكمالات الناظرة إلى الروح لها آثار وجودية أكثر من غيرها.

وكذلك فإنّ الأفعال والصفات اللازمة للوصول إلى الكمال الاختياريّ يمكن تعيينها بهذا الشكل:

في موارد عدم تزاحم الأفعال والصفات لا بدّ من إتيان الأفعال واكتساب الصفات الموجبة لزيادة كمال الإنسان بنحوٍ ما.

وأما في موارد تزاحمها أيّ تزاحم فعلين أو تزاحم صفتين فلا بدّ من انتخاب الفعل أو الصفة الّذي يزيد في البعد الوجوديّ أكثر من غيره أو الّذي له آثار وجودية أكثر من غيره.
وبناءً على كلّ ذلك فلا حاجة إلى وجود الملاك المشخص للكمال، إلّا أنّ هذا الكلام غير صحيح، لأنّه:

أولاً: إنّ تشخيص الكمال الأفضل في الكثير من موارد التزاحم بين الكمالين بالرجوع إلى الآثار الوجودية لها صعبٌ جداً، وذلك لعدم تمكننا من ادعاء المعرفة بتمام الآثار الوجودية لكلّ واحدٍ من الأمور الاختيارية، ومثالاً على ذلك لنلاحظ هذين المثالين:

- لنفترض أنّ شخصاً ما بإمكانه إخبارك بالحوادث المستقبلية لكن من المحتمل أنْ تكون نتيجة هذا العلم إصابتك بنوع من الاضطراب والقلق، أو معرفتك كذلك بأنّ مساعدتك لصديقك المريض لن يكون لها أيّ نفعٍ فتتوقف عن إعانته وتُحرم من الكمال العاطفيّ الحاصل من هذا العمل. 

وهنا نسأل: أيّ الأمرين ها هنا له آثار وجودية أكبر: العلم بالحوادث المستقبلية أم راحة البال وتأمين الكمال العاطفي؟

- لنفترض أنّه بقيامك ببعض الأعمال كأعمال أهل الرياضة (الروحية) سيكون بإمكانك اكتساب قدرة روحية هائلة بحيث تستطيع من خلال نظرك فقط ايقاف قطار متحرك فوراً.

لكن يحتمل أيضاً أنك وللوصول إلى هذه القدرة أو بعد وصولك إليها ستحرم من بعض الكمالات الأخرى.

وهنا نسأل أيضاً: أيّ الأمرين له آثار وجودية أكبر: القدرة الروحية على التصرف ببعض الأشياء أم تلك الكمالات المتزاحمة معها؟

ثانياً: إنّ القيمة الغيرية للأمور الاختيارية - وتبعاً لها أيضاً القيمة البديلة ولزومهما- لا يمكن أنْ تتحصّل إلّا بالمقايسة بالقيمة الذاتية. ولذا فإنّه من دون المعرفة الصحيحة بما له القيمة الذاتية واقعاً (الكمال الاختياريّ الحقيقيّ) يبقى 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
279

271

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 الاحتمال دائماً بأنّ ما يزيد في البعد الوجوديّ بنحو ما سوف يقلّل في البعد الوجوديّ ككل ومن حيث المجموع. فلو افترضنا مثلاً وجود تزاحم بين الكون كبطلٍ أو الكون كمرتاضٍ وحتى لو تمكنّا من أنّ نعيّن بشكل دقيقٍ جداً كون الآثار الوجودية للمرتاض من حيث المجموع أكثر من الآثار الوجودية للبطل فليس بإمكاننا أنّ نقول إنّ الكون كمرتاضٍ له قيمة غيرية مثبتة لأنّه من الممكن كون الرياضة من حيث المجموع غير ملائمة مع كمالنا الحقيقيّ، وبعبارة أخرى فإنّه مع عدم امتلاك الملاك المشخص للكمال الحقيقيّ يبقى احتمال تزاحم كلّ أمرٍ اختياريّ معه موجوداً، ومع وجود هذا الاحتمال فإنّه من غير الممكن ولمجرد المقايسة بين الكمالين وتعيين الأفضل من بينهما أنْ نعيّن القيمة البديلة له، بل لا بدّ من أجل تعيين هذه القيمة أنْ نعيّن مسبقاً القيمة الغيرية لكّل واحدٍ منهما بالمقايسة بالقيمة الذاتية، وبناء على ذلك لا بدّ من أجل تعيين قيمة ولزوم الأمور الاختيارية أنْ نمتلك مسبقاً الملاك المشخص للكمال الحقيقيّ الاختياريّ.

 
إنّ مصطلح "الروح الإنسانية" يعادل تقريباً المصطلح الفلسفيّ "النفس الإنسانية".
 
وقد اعتبر الفلاسفة المسلمون "النفس الإنسانية" أمراً غير ماديٍّ وقالوا بتجردها وأقاموا العديد من البراهين والأدلة لإثبات ذلك. ومن جملة هذه البراهين ما هو فلسفيّ محض كبرهان ابن سينا المسمّى بالهواء الطلق (راجع: حسين بن عبد الله ابن سينا، الاشارات والتنبيهات مع الشرح للمحقق الطوسي، ج‏2، النمط الثالث ص‏292 - 293).
 
وحيث إننا في هذا الأسلوب نفترض - ومع تحقق شرائط سكون النفس والخارج من حولنا - صرف انتباهنا عن بدننا وتمام الأشياء الخارجة عنا وغفلنا عنها ولم ندركها، لكن لوجود العلم الحضوري عندنا فإنّنا في نفس هذه الحال ندرك وجود أنفسنا أيضاً. وحيث إنّ ما أدركناه غير ما لم ندركه نستنتج أنّ نفسنا الحقيقيّة مغايرة لبدننا والأشياء المحيطة بنا.
 
ومن البراهين الفلسفية أيضاً لاثبات تجرّد النفس برهان عدم امتلاكها للخصائص المادية نظير عدم قبولها للقسمة مثلاً. وذهب بعضهم إلى اثبات تجردها أيضاً من خلال إثبات تجرّد بعض خصائصها كالإدراك والإرادة وبالتالي يثبت تجرّدها مع الواسطة، وكذلك فإنّ الرؤى الصادقة والمكاشفات العرفانية وإحضار الأرواح والتنويم المغناطيسي وأعمال أهل الرياضات وكرامات أولياء الله وأمثال ذلك من المؤيدات على تجرّد النفس الإنسانية. (راجع: محمّد تقي مصباح، آموزش فلسفه، ج‏2، ص ‏168 - 169)1.
 
 
 

1- الطبعة العربية، المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، ج‏2، ص 176 - 177، مؤسسة النشر الإسلامي، جماعة المدرسين، قم المشرفة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
280

272

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 تعتبر الصفات المبينة للكمالات الواقعيّّة الإنسانية وبسبب امتلاكها للقيمة الذاتية من مصاديق الكمال الحقيقيّ عند الإنسان.


وبعبارة أخرى فإنّ قيمتها الذاتية إنما هي للكمال العائد بسببها إلى الموصوف بهذه الصفات ولذا فإنّ التفاوت والاختلاف بينها لا ربط له بقيمها الذاتية في حدّ نفسها، وعليه فإنّ تعدّد هذه الصفات لا يعني تعدد القيم الذاتية.

وفي الواقع فإنّ هذه الصفات هي الفضائل الأخلاقيّّة عينها والصفات القابلة لها هي الرذائل الأخلاقيّّة أيضاً.

ولذا فإنّنا نعتقد بأنّ الفضائل الأخلاقيّّة متعدّدة ومع ذلك فإنّ ملاك فضيلتها واحدٌ، وكذلك فإنّ الرذائل الأخلاقيّّة متعدّدة ومع ذلك فإنّ ملاك رذالتها واحدٌ أيضاً.
إنّ فلسفة الأخلاق ليس في عهدتها تبيين هذه الصفات بل المتكفّل لذلك هو علم الأخلاق.

وقد صرّح بعض العرفاء وعلماء الأخلاق المسلمين بأنّ الفضائل الأخلاقيّّة كلها أساسها التوحيد وأنّ الكفر والشرك منبع كلّ الرذائل الأخلاقيّّة.

لقد اعتبرنا أنّ القرب الاختياريّ من الكمال المطلق هو ملاك تشخيص الكمال الحقيقيّ عند الإنسان. ولكن قد يشكل على اعتباره ملاكاً بأنّ هذا ممكن في صورة معرفتنا مسبقاً بكمال الله المطلق أيّ صفاته الكمالية قبل معرفتنا بكمال الإنسان الحقيقيّ، مع أنّنا ندرك كمال الصفات الإلهية من خلال كمال الصفات الإنسانية ولذا فإنّ تعيين الكمال الحقيقيّ للإنسان بناءً على الكمال المطلق لله يستلزم الدور.
ونقول في جوابهم إنّ تعيين الكمالات الإلهية أو الكمال المطلق يتم بالدليل العقليّ والنقليّ.

من الناحية العقلية، نأخذ بالنظر مفهوماً مبيناً من جهة ما لبعد وجوديّ كبير أو الكمال، ومن ثمّ نحذف كلّ جهات النقص منه، وحينئذٍ إذا أمكن هذا العمل مع هذا المفهوم فإنّ المرتبة الّتي لا نقص فيها من هذا المفهوم تبيّن إحدى كمالات الله أو الكمال المطلق، ولتوضيح ذلك بالمثال نقول: إنّ البعد الوجوديّ للبصير أكثر من البعد الوجوديّ للأعمى، فالبصر من جهةٍ ما يعدّ كمالاً في حدّ ذاته، إلّا أنّ النظر بالعين يستلزم الحاجة إلى البدن وشرائط الادراك المادية، وأما العلم "بما يبصر" والذي هو معنى لا نقص فيه يمكن أنْ يكون مقصوداً أيضاً من اصطلاح البصر وأنْ يُنسَب إلى الله تعالى.

وفي المقابل فإنّ "الثقل" وإن عُدَّ من جهة ما كمالاً فإنّه ملازم للجسمية ويرجع في الحقيقة إلى نقص الوجود ولذا لا يمكن نسبته إلى الله تعالى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
281

273

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 وأما من الناحية النقلية وبغضّ النظر عن الصفات المثبتة من خلال العقل كالحكمة والصدق فإنّه يمكن الاستناد إلى الوحي - أيّ كلام الله الحكيم والصادق - لمعرفة بقية الصفات الكمالية الأخرى له وبناءً على ذلك فإنّ معرفة صفات الكمال المطلق لا تتوقّف على معرفة الكمال الحقيقيّ لبقية الموجودات بما فيها الإنسان.

 
بل ويكفي من الناحية العقلية معرفة أنّ هذا الشي‏ء كمالٌ من جهة ما. وعليه سيكون من الممكن معرفة الأوصاف الّتي تزيد من حيث المجموع بعد الإنسان الوجودي وكماله الحقيقي من خلال مقايستها بالكمال المطلق.
 
إنّ مفهوم "القرب" والذي يستخدم أيضاً في القرب الزمانيّ أو المكانيّ يراد منه في مورد الله تعالى - غير المقيد بالزمان والمكان - ذلك الارتباط الوجوديّ العميق معه أو تشابه الصفات مع صفات الله تعالى.
 
وعليه فإنّ قرب الإنسان من الله فلسفياً يشير إلى ارتباطه الوجوديّ بالله. وهذا النحو من الارتباط - والذي هو من نوع ارتباط المعلول وجوده مع علّة في نفسه - عُبّر عنه في الحكمة المتعالية بعين الربط والفقر والتبعية وأنه أقرب ارتباط وجوديّ ممكن بين وجودين.
 
والقرآن الكريم يشير إلى مثل هذه الرابطة الوجودية بقوله: "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"5 إلّا أنّ هذا القرب غير مختصّ بالإنسان فقط بل يشمل أيضاً الرابطة الوجودية بين كلّ المخلوقات وخالقها، وكذلك فإنّ هذا القرب اختياريّ وبالتالي فإنّه لا قيمة أخلاقيّّة له، "القرب القيميّ للإنسان من الله" معناه قرب الإنسان الاختياريّ من الله وهذا هو المراد من القرب في بحوثنا الأخلاقيّّة.
 
كذلك يمكن التعبير عن القرب الاختياريّ بتشابه الصفات الاختيارية عند الإنسان مع كمالات الله تعالى. إلّا أنّ هذا التشابه لا يعني أنّ الإنسان بإمكانه نيل الكمالات الوجودية بمرتبة وجودها عند الله تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"1، بل إنّ هذا التشابه ممكن فقط في الكمالات غير المخصوصة بالمراتب الوجودية لله أو للإنسان.
 
ولتوضيح ذلك نقول:
 
إنّ الإنسان لا يمكنه اكتساب علومٍ كعلم الله بكنه ذاته والذي هو مختص بالمراتب الوجودية لله سبحانه وتعالى.
 
 
 

1- ق: 16.
2- الشورى: 11.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
282

274

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 وكذلك لا يمكنه من حيث الإرادة والمشيئة أنّ يكون مستقلاً عن الله تعالى غير محتاجٍ إليه: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ1.

 
وبناءً عليه فإنّ الكمالات اللازمة لمرتبة وجوب الوجود والغنى الذاتيّ لله تعالى نظير العلم والقدرة والإرادة لا يمكن للإنسان الوصول إليها.
 
وكذلك فإنّ الكمالات الملازمة لوصول الإنسان إلى أعلى حدود القرب والتشابه الممكن مع الله نظير درك تعلقه الكامل من حيث الوجود بالله وكذلك العبودية والتسليم المحض أمامه والتقوى والتوحيد في الخوف والرجاء والاستعانة، ورغم عدم وجود ما يشبهها في ذات الله، فإنّها من أعلى الكمالات الإنسانية والقيم الأخلاقيّّة. وفي الختام لا بدّ من التذكير بأنّ مفهوم "القرب" يُستعمل أحياناً نظير استعمال مفهوم الكمال على أنّه مفهوم مشكّك أيّ أنّ له درجات متفاوتة، وأحياناً أخرى يطلق على أعلى مراتبه. 
 
وعادة فإنّنا في هذه البحوث نستخدم المعنى التشكيكي لهذه المفاهيم، وفي طرفٍ آخر فقد اعتبرنا أنّ أعلى مراتب القرب والكمال الاختياريّ لها القيمة النهائية.
 
إنّ الوصول إلى أعلى الكمالات الممكنة للإنسان يحتاج مضافاً إلى الامكانات النوعية عند أفراد الإنسان إلى تحقّق بعض الشروط، حيث إنّ كلّ فرد يتمتع في مجال قربه من الله بامكانات فردية خاصّة به. وكما أنّ وجوب الوجود ليس في اختيار الإنسان وليس له قيمة أو لزوم أخلاقيّ إذ لا يعد عدم امتلاكه نقصاً أخلاقيّاً لأي إنسانٍ ولا يوجب المذمّة والعقاب والندم والحسرة، كذلك فإنّ بعض مراتب القرب الّتي ليست في اختيار بعض الأفراد - لعدم تحقّق الامكانات الفردية عندهم أو شرائط الوصول إليها - ليس لها أيضاً قيمة أو لزوم أخلاقيّّ بالنسبة له ولا يُعدّ عدم تحصيلها نقصاً أخلاقيّاً له، وكذلك لا توجب المذمة والعقاب والندم والحسرة، ولهذا السبب فإنّ الناس عندما يرون حدود إمكاناتهم ومقدار الأعمال الاختيارية عندهم فإنّهم يتحسرون لعدم التحصيل الاختياري للقرب الممكن في حقهم لا أنهم يتحسرون لعدم التحصيل غير الاختياري للقرب غير الممكن في حقهم، وكذلك الحال في العقاب والمذمّة فإنّه لا بدّ أنْ يكونا متناسبين مع كلّ فردٍ من حيث الامكانات والشرائط.
 
ومثالاً على ذلك لنفترض أنَّ لدينا شخصين أحدهما طوله مترٌ واحد والثاني طوله متران، وكان مطلوباً لهما تهيئة اللباس الفاخر لنفسيهما، وعليه إذا ما قصّرا في تهيئة اللباس الفاخر المتناسب مع طولهما
 
 
 

1- التكوير: 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
283

275

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

 صحّ توبيخهما ولكن لا يمكن توبيخهما لعدم تهيئة كلّ منهما اللباس المتناسب مع طول الآخر.

 
إنّ الاستدلال العقلي المذكور يثبت حداً للامكانات النوعية عند الإنسان في القرب من الله، إلّا أنّ تحديد كون هذه الامكانات عند نوع الإنسان من أجل كسب الكمالات الإلهية أقلّ من ذلك أم لا؟
 
وبشكل أدقّ ما هو مقدارها؟
 
إنّ المعرفة الكاملة بحقيقة الإنسان والظاهر أنّه لا يمكن ذلك من دون الاستعانة بالوحي، حيث إنّ الوحي يعرف الإنسان بأنه قادرٌ على كسب مقام الخلافة الإلهية... ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةًويعرّفنا إنساناً استطاع الوصول في مقام القرب من الله إلى حد ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى2، ويعتبر أنّ مثل هذا الإنسان أسوة حسنة لبقية الناس الآخرين ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا3.
 
ونقرأ في أحد أدعية شهر رجب المنسوب إلى الناحية المقدسة لولي العصر أرواحنا فداه ما يعبر فيه عن الأئمّة الطاهرين عليهم السلام بأنّهم معادن كلمات الله وأركان التوحيد وآيات الله... "لا فرق بينك وبينهم، إلّا أنهم عبادك وخلقك...".
 
وبناءً على ذلك ومع ملاحظة الإخبار من قبل خالق هذا الإنسان والعالم بحدود إمكاناته، ومع تصريح الصادقين عليهم السلام الواصلين إلى تلك المقامات، يمكن القول إنّ الحدّ المذكور - والذي هو نتيجة الاستدلال العقلي - هو حدٌّ لنوع الإنسان، وبعبارة أخرى فإنّ المرتبة الوحيدة من الكمال الوجوديّ الّتي لا يمكن للنوع الإنسانيّ الوصول إليها هي مرتبة كمال وجوب الوجود أو الغنى المطلق ولوازمها.
 
بناءً على ملاك تشخيص الكمال الاختياريّ وحدوده، فإنّ طريق تشخيص هذا الكمال الاختياريّ عند الإنسان هو أنّ نأخذ بالنظر صفات الكمال الإلهية، وأن نقيّدها بهذا القيد وهو امتلاك الموجود المحتاج إلى الله لهذه الصفات، ومثل هذه الصفات الّتي يمكن تحصيلها أو الصفات الملازمة لها هي صفات الكمال الحقيقيّ عند الإنسان وهي عين الفضائل الأخلاقيّّة. وإنّ القيمة الأخلاقيّّة للأمور الاختيارية تابع لدرجة ومقدار كسب هذه الصفات.
 
لم نقصد في هذا البحث استقصاء لوازم القيمة النهائية بل أشرنا إلى بعضها فقط، كما سنحتاج
 
 
 

1- البقرة: 30.
2- النجم: 9.
3- الأحزاب: 21.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
284

276

الفصل التاسع: القيمة الذاتية

  إليه في البحوث اللاحقة، وبشكل كلّي فإنّ حصول تمام الفضائل الأخلاقيّّة ونفي تمام الرذائل الأخلاقيّّة يمكن اعتباره من لوازم هذه المرتبة من الكمال الاختياريّ، وحتماً فإنّ بعض الفضائل الأخلاقيّّة يرتبط بمراتب أعلى في الكمال. وبالامكان مع التأكيد عليها وجعلها هدفاً اكتساب سائر الفضائل الأخلاقيّّة، ومثالاً على ذلك فإنّ فضيلة "التوحيد" منشأ كلّ أو أغلب الفضائل الأخلاقيّّة الأخرى. وقد أفاض علماء الأخلاق والعرفان في الكلام عنها وسعوا إلى كسبها وتحصيلها، وحيث إنّ هذه البحوث تبحث في علم الأخلاق وطرق التربية الأخلاقيّّة فلن نخوض في تفصيلها والتوسع فيها.


إنّ الإنسان الكامل مضافاً إلى دركه الحضوريّ لنحو ارتباطه بالله تعالى يدرك أنّ مثل هذا الارتباط غير موجودٍ بأيٍّ من الموجودات الأخرى، وحيث إنّه مدرك لكمالات الله بل إنّه واسطة الفيض بينه وبين سائر الموجودات الأخرى يدرك أيضاً أنّ كلّ الموجودات محتاجة إلى الله وعين الربط به.

للاطلاع على مراتب اللذة والمحبة والعشق، راجع: (محمد تقي مصباح، خودشناسى براى خودسازى، ص‏33 - 36، وله أيضاً، به سوى خودسازى، تعليق كريم سبحاني، ص‏71 - 78).

إنّ القدرة وبغضّ النظر عن جهات النقص الملازمة لبعض أنواعها - نظير القدرة البدنية المستلزمة لتحديدها بالجسم والزمان والمكان - تعدّ إحدى كمالات الوجود، والله سبحانه وتعالى، ومع عدم اتصافه بالقدرة الملازمة للنقص الوجوديّ، يتصف بالقدرة المطلقة ولذا فإنّ القرب من الله يوجب ازدياد القدرة الحقيقيّة عند الإنسان، وهذا المدعى وقبل تعيين مصداق القدرة الأعلى والأكمل ثابتٌ بالاستدلال البرهانيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
285
 

277

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 
تكلمنا في الفصل السابق عن القيمة الذاتية وبعض ما يتعلق بها. ومع تأكيدنا على أنّ الكمال الاختياريّ ذو قيمة ذاتية قلنا إنّ ملاك تشخيصه هو القرب الاختياريّ من الله، وأشرنا أيضاً إلى أنّه بالامكان الاستفادة من هذا الملاك لتعيين القيمة الغيرية للصفات والأفعال الاختيارية. وسوف نسعى في هذا الفصل لبيان كيفية تحصيلها.

إنّ الصفات الاختيارية بامكانها أنْ تكون منشأ الأفعال الاختيارية. ومن هذه الجهة تكون ذات قيمة غيرية. ولذا فإنّ القيمة الغيرية لهذه الصفات تعادل القيمة الغيرية للأفعال الحاصلة منها. ولهذا السبب لن نتعرّض في هذا البحث للكلام عن كلّ منها بشكل مستقلّ بل سنكتفي بتحليل القيمة الغيرية للأفعال الاختيارية.

وفي ختام هذا الفصل أيضاً سوف نبحث بشكل مختصرٍ في الحدّ الأقل للقيمة واللزوم الأخلاقيّين.

1- العاملان المعينان لمقدار القيمة الغيرية:

المثال الأول: لنفترض أنّ الهدف هو كسب اللذة، وقد كنت جائعاً ودعاك أصدقاؤك لتناول الطعام.

في هذا المثال فإنّ الشبع والتغلّب على ألم الجوع يوجب اللذة، ولذا بإمكانك أنْ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
286

278

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 تقبل دعوة أصدقائك وأنّ تأكل الطعام وبالتالي تحصّل هذه اللذة، لكنْ لما كانت اللذة ذات مراتب وأمراً تشكيكياً فإنّك وقبل شبعك كلما أكلت مقداراً من الطعام كلما ازداد مقدار لذة الشبع عندك. ومن الطبيعيّ أنك ونظراً إلى الهدف المذكور ما دمت تأكل الطعام فإنّك تريد تحصيل لذّة الشبع، ومتى ما انصرفت ولأيّ سبب عن هذا الهدف فسوف تحجم عن متابعة الأكل لأن نيّتك وقصدك من أكل هذا الطعام هو كسب اللذة. وفي هذا الفرض فإنّ الفعل الاختياريّ وهو أكل الطعام من أجل كسب اللذة أوصلك إلى مرتبة من اللذة وهي الهدف الغائيّ لك.


ومرادنا من الهدف الغائيّ هو المتعلّق النهائيّ لنية الفاعل أيْ تلك المرتبة من المطلوب الّذي يسعى الفاعل لنيله في نهاية الأمر. وإذا أمكن أيضاً بأكل الطعام تحصيل أنواع أخرى من اللذة فإنّ تأمينها مع هذا الفعل الاختياريّ مشروط بنية وقصد الفاعل، حيث إنّك وفي هذا المثال أيضاً بامكانك أنْ تستجيب لدعوة أصدقائك وأنْ تأكل الطعام وفي نفس الوقت أيضاً ستنمي عاطفة المحبة والصداقة وستقوى علاقتك القلبية بأصدقائك. لكنّ تحصيل هذه اللذة مشروط بالالتفات إليها وإرادتها.

... إنّ المنافق في صداقته لا يمكنه أنّ يحصّل مثل هذه اللذة!

المثال الثاني: لنفترض أنّك تريد تعلّم الرياضيات، وحينئذٍ فإنّ مطالعة الكتب الرياضية وحلّ مسائل هذا العلم يتناسبان مع الهدف المذكور أيْ أنّه بإمكان هذه الأعمال أنْ توصلك إلى هدفك، لكنّ ذلك مشروط بارادتك تعلّم الرياضيات. وكذلك من الممكن أنْ تؤدي هذه الأعمال إلى نتائج مختلفة تبعاً للباعث على فعلها، حيث إنّه يمكن من خلال مطالعة هذه الكتب مثلاً تصحيح أخطائها الانشائية أو الأدبية أو الاشتباهات المحتملة عند المؤلّف في حلّ المسائل الرياضية.

وكذلك من الممكن أنْ يكون الهدف من حلّ المسائل الرياضية هو القيام بالوظائف الصفيّة من خلال مراجعة كتاب حلّ المسائل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
287

279

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 إذاً لتأمين الهدف المنشود أيّ تعلّم الرياضيات فإنّ أهل الفنّ يوصون بالتركيز والتدقيق عند مطالعة المسائل الرياضية والالتفات إلى النكات والدقائق الرياضية، نعم إنّ بعض البواعث يمكن أنْ لا يتنافى مع هدفك المذكور بل من الممكن أنّ يعينك في ذلك.


ومثالاً على ذلك إذا كان مرادك تصحيح اشتباهات المؤلف في حلّ المسائل فإنّ هذا أيضاً سيعينك على هدفك أيّ التعلّم، وأما عدّ الأسطر والتعليقات في كتاب حلّ المسائل فلن يفيدك في شي‏ء. وكذلك فإنّ تأمين الكتاب وتهيئة الوسائل الأخرى بل وحتى مقدماتها من جملة الأعمال المعينة في الوصول إلى الهدف وبالتالي فإنّ قيمة هذه الأعمال تابعة لنيتك في القيام بها.

إنّ النوايا والمقاصد قوى داخلية واختيارية تسوقنا وتهدينا إلى الهدف الّذي نوينا الوصول إليه. وكما أنّ اتجاه الجسم وسرعة حركته تابع لتأثير الطاقة الواردة إليه فإنّ اتجاه وسرعة الحركة في أفعالنا الاختيارية تابع لتأثير المقاصد والنوايا عندنا.

ومع قيامنا بالأعمال المتناسبة مع الهدف فإنّه بامكاننا الوصول إلى تلك المرتبة منه بمقدار تأثير النية في ذلك، ويسمّى ذلك بالهدف الغائيّ للفاعل.

وبعد هذين المثلين نتجه الآن ناحية الأخلاق ولنفترض أنّ الهدف هو كمال الإنسان الاختياريّ.

إذا افترضنا أنّ "أ" مرتبة من الكمال الاختياريّ للفاعل الأخلاقيّّ فبإمكاننا القول إنّ العمل لكي يمتلك قيمة "أ" لا بدّ أنّ يكون واجداً لشرطين: أولهما: أنّ يكون هذا العمل متناسباً مع حصول "أ" والثاني أنّ تكون نية الفاعل في القيام بهذا العمل هو حصول "أ" في منتهى الأمر، وبعبارة أخرى فإنّ القيمة الغيرية للأفعال تابعة لعاملين: أولهما نوع الفعل والثاني هو المتعلّق النهائي للنية أو الهدف الغائيّ للفاعل الباعث له على القيام بهذا الفعل.

ويُستنتج من هذا الكلام أنّ القيمة الغيرية لكلّ فعلٍ اختياريّ تعادل القيمة الذاتية 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
288

280

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 لتلك المرتبة من الكمال الاختياريّ المتناسبة مع ذلك الفعل والهدف الغائيّ للفاعل له[1].


وبناءً على ما ذكرناه في الفصل السابق فإنّ ملاك الكمال الاختياريّ عند الإنسان هو قربه الاختياريّ من الله. وعليه فإنّنا سنستخدم عبارة "القرب الاختياريّ من الله" بدل قولنا الكمال الاختياريّ، ونستنتج النتيجة التالية:

القيمة الغيرية لكلّ فعل اختياريّ تعادل القيمة لتلك المرتبة من القرب الاختياريّ من الله المتناسب مع ذلك الفعل والهدف الغائيّ للفاعل له.

2 - ملاك أكثر الأفعال الاختيارية قيمة
اعتبرنا في الفصل السابق أنّ أعلى درجات القرب الاختياريّ هي ملاك تشخيص القيمة النهائية واستفدنا من لوازمها لتعيين مكانتنا ومكانة الآخرين القيميّة.

وها هنا أيضاً وبالاستفادة منها يمكن القول إنّ ملاك تشخيص أكثر الأفعال قيمة هو مقدار تأثيرها في الوصول إلى أعلى درجات القرب من الله، وبالاستفادة من هذا الملاك ولوازمه سنتعرف بشكل أفضل إلى قيمة الأفعال الاختيارية من خلال المقايسة بهما.

إنّ قيمة الأفعال الاختيارية غيرية وتابعة للكمال الاختياريّ الحاصل منها وبناء عليه فإنّ أكثر الأفعال قيمة هي الموجبة للقيمة النهائية.

ولتتذكر أيضاً ما قلناه في الفصل السابق حول لوازم القيمة النهائية وإنها العلم الحضوريّ الكامل للإنسان باحتياجه وعدم احتياج الله وأيضاً المحبة والرضا الكاملين والمتقابلين بين الله والإنسان، وعلى هذا الأساس يمكن القول إنّ أكثر الأفعال قيمة هي الموجبة للعلم الحضوريّ الكامل للإنسان باحتياجه وعدم احتياج الله والموجبة للمحبة والرضا الكاملين لله من قِبَلِ الإنسان[2].
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
289

281

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 3 - الدرجات المختلفة لقيم الأفعال الغيرية


عرفنا في هذا الفصل أنّ قيمة الأفعال تابعة لعاملين هما نوع العمل والمتعلّق النهائيّ للنية أو الهدف الغائيّ للفاعل الباعث له على القيام بذلك الفعل.

والآن ومع الالتفات إلى ملاك أكثر الأفعال قيمة سوف نحلّل وبشكل مستقلّ مختلف قيم الأفعال من جهة نوع الفعل ومن جهة النية أيضاً:

1 - 3. تقييم الأفعال الاختيارية من جهة نوع الفعل.

مع ملاحظة الملاك المذكور فإنّ الإظهار الكامل للاحتياج إلى الله والعبودية له يعتبران من أكثر الأفعال قيمة.

وكذلك يمكن القول إنّ أحبّ الأعمال إلى الله هو أكثرها قيمة. ومن جهة أخرى وكما قلنا في الفرع: 2 - 6 من الفصل التاسع فإنّ الله والذي هو الكمال المطلق محبّ لنفسه وتبعاً لذلك فإنّه محب لكمال الموجودات الأخرى في هذا الوجود، وبناءً عليه فإنّ الأعمال الموجبة لأعلى الكمالات عند الآخرين تُعتبر أيضاً من جملة أحبّ الأعمال عند الله تعالى ولهذا فإنّ حب الخير لعباد الله وإعانتهم وهدايتهم إلى صراط الحياة الصحيح وبشكل كلّي تهيئة طرق كمال الآخرين يمكن اعتبارها أيضاً من أكثر الأعمال قيمة على مستوى النشاطات الاجتماعية والتي توجب نيل أعلى درجات القرب الاختياريّ من الله لفاعلها والقائم بها.

وبناءً على هذا الملاك أيضاً فإنّ أكثر الأفعال الاختيارية اللاقيمية من جهة نوع العمل هي تلك الأفعال الّتي توجب غفلة الفاعل الأخلاقيّّ عن ارتباطه الوجودي بالله ليس هذا فحسب بل تلك الّتي تجعله مكان الله وتزين له الاستقلالية عنه، أو تلك الّتي تدعو الفاعل من خلال إظهار الاستقلال لبقية الموجودات الأخرى إلى معارضتها مع المعبود الحقّ وكذلك الأعمال الّتي يقام بها في مواجهة ومحاربة خير الآخرين وكمالهم والتي من جملتها الإعراض عن الله والتكبّر عليه والشرك به وعدم الاعتناء بخير الآخرين والسعي لإضلالهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
290

282

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 وبشكل كلّي فإنّه يمكن تقييم الأفعال الاختيارية من جهة نوع العمل بهذا الشكل: القيمة الغيرية لكلّ فعل اختياريّ من جهة نوع العمل ترتبط بمدى تأثير هذا الفعل في تنبيه الفاعل إلى احتياجه إلى الله وزيادة كماله الوجوديّ.


2 - 3. تقييم الأفعال الاختيارية من جهة النية

لا بدّ لنا من أجل الوصول إلى أعلى درجات القرب الاختياريّ من الله - ومضافاً إلى الأفعال المناسبة لهذا الهدف - إرادة الوصول إلى هذه المرتبة في نهاية الأمر.

وأما قصد الأهداف الأخرى الّتي لا توصل إلى الهدف النهائيّ - وبعبارة أخرى أنّ تكون أهدافاً مستقلة في نظر الفاعل - فإنّ ذلك سيمنعه من تحصيل ذلك الهدف بشكل كامل. وبناءً عليه فإنّ أكثر الأفعال قيمة من جهة النية هو أنّ يكون مقصود الفاعل النهائيّ من اتيانه هو التقرب من الله ولوازمه أيّ العبودية والطاعة لله ومحبته ورضاه، وتسمّى هذه النية بالنية الخالصة للقرب[3].

ونتيجة الكلام فإنّ قيمة كلّ فعلٍ اختياريّ من جهة النية يرتبط بمقدار قرب نية الفاعل من النية الخالصة للقرب.

ومن مجموع ما قلناه حول ملاك تقييم الأفعال الاختيارية يتحصّل معنا:

1 - أنّه لتقييم كلّ فعلٍ اختياريّ لا بدّ أنّ نرى مقدار تأثير هذا الفعل في تنبيه الفاعل إلى احتياجه إلى الله وزيادة كماله الوجوديّ، ومقدار قرب نية الفاعل لذلك الفعل من خلوص النية.

2 - أنّ العبودية لله وارشاد الآخرين إلى طريق التكامل بنية التقرب إلى الله وجلب رضاه قيّمة مطلقاً.

وفي المقابل فإنّ الشرك والكفر ومنع الآخرين من التكامل والصدّ عن سبيل الله والعداوة مع الله غير قيّمة مطلقاً، وكما نرى فإنّ قيمة هذه الأمور مطلَقة غير مقيَّدة.

3 - وهناك بعض الأمور قيمتها غير مطلَقة، نظير الإنفاق والإيثار والتعليم والتعلّم والأشغال المختلفة وتأمين حاجات الجسم والروح والسعي لقضاء حوائج الآخرين، حيث إنها ترتبط بنية الفاعل والمحرك له للقيام بها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
291

283

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 ولذا إذا كان الغرض من القيام بها كسب الشهرة والاحترام عند الآخرين أو تأمين اللذائذ الشهوانية أو الراحة الدنيويّة أو المنافع المادية وأمثالها فليس له إلّا ما قصده، وأما لو صاحب هذه النوايا نية التقرب من الله أيضاً فإنّ قيمة العمل ترتبط حينئذٍ بحاصل نواياه، ولربما تكون مثل هذه الأعمال بسبب المحرك والباعث الخاطئ لها بلا قيمة بل ضد القيم أصلاً، وذات نتائج غير مطلوبة للفاعل، وبناءً عليه فإنّ القيمة الغيرية لهذه الأمور مقيّدة.


4 - القيمة البديلة للأفعال الاختيارية

بناءً على تعريف القيمة البديلة فإنّه إذا تزاحم عملٌ ما مع عملٍ آخر[4]، وامتاز أحدهما بقيمة غيرية أكثر من الآخر أيّ كان له تأثير أكبر في كمال الفاعل الحقيقي فإنّ هذا الفعل يكون ذا قيمة بديلة وبالتالي سيكون انتخابه معقولاً.

ومثالاً على ذلك فإنّ الإنفاق السريّ (صدقة السر) مأمون من شائبة الرياء واكتساب المنافع الدنية ويساهم في تقوية الاخلاص عند المنفق ولهذا فإنّ له تأثيراً كبيراً في كماله الحقيقيّ ويعتبر ذا قيمة كبرى.

وفي المقابل فإنّ الانفاق العلنيّ أيضاً (صدقة العلن)، وضمن بعض الشرائط، يوجب تشويق الآخرين على الإنفاق وزيادة الكمال. ومع افتراض خلوص النية ستكون له قيمة أكبر أيضاً.
والآن سنحلّل القيمة البديلة في هذه الأمثلة الآتية:

- اللهو واللعب بالأعمال المأمونة أو القيام بالأعمال الخطرة والضارة أيهما له القيمة البديلة؟

على فرض التزاحم بين هذين العملين فإنّ العمل الأوّل له القيمة البديلة إلّا أنّه لن يكون له ذلك في مورد إمكان نفس الشخص القيام بدلاً عنه بالأعمال المفيدة.

وكذلك فإنّ صاحب الدرجة الأولى في سلّم الكمال والمتحرّك إلى الدرجة الثانية منه له قيمة بديلة في مقابل السكون وعدم التحرك ولكن في المقابل فإنّ صاحب
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
292

284

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

  الدرجة الثالثة منه الساكن في مكانه المحافظ على درجته لسكونه القيمة البديلة بدل الهبوط والانحطاط إلى الدرجة الثانية من الكمال.


5 - الأنانية والغيرية

ذكرنا في الفصل الثامن النزاع القائم بين مذهبين من المذاهب الواقعيّّة وهما مذهب الأنانية ومذهب الغيرية والذي مفاده أنه: أيهما يرجح على الآخر على فرض حصول التزاحم بينهما؟

وسنرى ها هنا وعلى أساس النتائج المتحصلة لقيم الأفعال الغيرية والبديلة الرأي الصحيح في المقام.

ذكرنا فيما سبق أنّ الأنانية معناها قيام الإنسان بما يعود لمصلحته وأنّ الغيرية قيامه بما يعود إلى مصلحة الآخرين.

وقلنا من طرف آخر إنّ منشأ مطلوبية كلّ الأمور الاختيارية هو الكمال الاختياريّ للفاعل.

وعلى هذا الأساس فإنّ الفاعل المختار من الممكن فقط أنْ يقوم بعمل يعود لمصلحة الآخرين إذا اعتبر أنّ هذا العمل يستلزم خيره وكماله، وبعبارة أخرى فإنّ الغيرية ها هنا ممكنة فقط مع اعتقاد استلزامها للأنانية، وأنّ ما يمكن تحققه من الغيرية هو في الواقع نوعٌ من الأنانية.

ومن جهة أخرى فإنّ قيمة كلّ فعل اختياريّ غيرية وإنّ العمل القيّم هو العمل المساعد للفاعل في كماله الحقيقيّ.

وكذلك عند تزاحم الأعمال المختلفة في بعض الموارد فإنّ العمل المساعد بشكل أكبر في كمال الفاعل الحقيقيّ تكون له القيمة البديلة ولا بد أنّ يرجح على المزاحم له.

وبناء عليه فإنّ قيمة الغيرية - والتي هي نفسها نوع من الأنانية - مرتبطة أيضاً بتأثيرها في كمال الفاعل الحقيقيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
293

285

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 كذلك من الممكن أنْ تتزاحم الغيرية مع بعض الموارد الأخرى في الأنانية وبناءً على ما قلناه عن القيمة البديلة في موارد السلوك والأفعال فإنّ في مثل هذه الموارد لا يُعقل إلّا ترجيح العمل ذي القيمة البديلة، أيّ ما له التأثير الأكبر في الكمال الحقيقيّ للفاعل.


والظاهر بناءً على هذا المبنى أنّه إذا تزاحم كلاً من الغيرية والأنانية مع كونهما قيمين معاً، لا يمكن تحصيل قاعدة كلية ومطلقة تثبت ديمومة القيمة البديلة للغيرية أو للأنانية لكن من الممكن القول في مثل هذه الموارد بأن المرجح غالباً هو الغيرية[5]. لأنها عادة ذات نتيجتين مثبتتين للفاعل وأما الأنانية فإنّها ذات نتيجة مثبتة واحدة فقط.
وكذلك فإنّ الفاعل الأخلاقيّ بامكانه أنْ يزيد عن طريق الغيرية كماله الوجوديّ وسيحصّل على فرض خلوص نيته كمالاً ما لنفسه وسيقوّي في ذاته أيضاً صفة الجود وحب الخير وأمثالهما من الصفات الّتي هي من كمالات الله والتي تعدّ كمالاً حقيقياً للإنسان أيضاً.

وأما مع الغيرية المجردة فإنّه لا يمكن إلّا تحصيل النتيجة الأولى فقط، ومثالاً على ذلك فإنّ من ادّخر طعاماً ما بامكانه أنْ يستفيد منه ليتقوى على العبادة وكذلك بامكانه أنّ يتصدّق به على محتاجٍ غيره ليعينه أيضاً على العبادة. وعليه فإنّ كلا العملين متساويان من هذه الجهة أيّ من أجل عبادته أو من أجل عبادة غيره، ومن هذه الجهة فإنّها تساهم في زيادة كمال الوجود والذي هو محبوب لله وموجب لكمال الفاعل أيضاً.

وأما الإنفاق فإنّه يوجب كمالاً آخر للفاعل أيضاً وهو تقوية صفة الجود والعطاء والتي هي من صفات كمال الله وتُعدّ كمالاً حقيقياً للإنسان أيضاً. وعلى هذا الترتيب فإنّ الأنانية الحقيقيّة (أي ما كان هدفها الكمال الحقيقيّ) ستؤمّن أيضاً ملاك القائلين بالغيرية أيضاً.

نعم، وكما تتزاحم مواردُ الأنانية فيما بينها وكذلك مواردُ من الأنانية مع الغيرية فبالامكان أيضاً أنْ تتزاحم موارد الغيرية فيما بينها أيضاً، ومثالاً على ذلك إذا أردنا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
294

286

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

  مساعدة "الآخرين" بامكاناتٍ محدودة فمن نرجح منهم على غيره: العائلة، الجيران، المؤمنين، الناس الآخرين، الحيوانات، النباتات أو.....؟


وكذلك إذا أردنا مساعدة الناس الآخرين فأيهما المرجّح: المساعدات المالية المباشرة أو تأمين العمل لهم؟ المساعدات العلنية أو السرية؟ بناء المساجد أم المدارس؟ و.... وفي كلّ هذه الموارد لا بدّ أنّ نأخذ بالاعتبار تأثير كلّ عملٍ في كمال الفاعل الحقيقيّ وأن نختار من الأعمال ما له القيمة البديلة.

6 - الأنانية أو الإلهية

ذكرنا في الفصل التاسع أنّ ملاك القيمة الذاتية هو القرب الاختياريّ من الله تعالى، وفي هذا الفصل وبالاستفادة من هذا الملاك ربطنا قيمة العمل بمقدار تناسبه مع القرب من الله أيضاً. ولذا إذا كان العمل لله فسوف نسمّيه بـ"الإلهيّ" والسؤال المطروح ها هنا هو: ألا يتزاحم الأنانيّ مع الإلهيّ؟ وفي الجواب على ذلك لا بد أنْ نقول بناءً على ما تقدم إن الأنانية إنما تكون قيمة إذا ساهمت في كمال الفاعل الحقيقيّ. ففي هذا المورد لن يتزاحم الأنانيّ مع الإلهيّ، بل هو عينه[6]، لأنّ العمل لله لا يعني العمل من أجل خير الله وكماله بل إنّه بمعنى العمل الّذي تتقرّب به النفس من الله والذي هو خيرها وكمالها الحقيقيّ.

7 - أسلوب تشخيص قيم الأفعال‏

استطعنا إلى الآن ومن خلال البحوث والاستدلالات العقلية إدراك بعض الخصائص الكلية المرتبطة بتعيين قيم الأفعال.

وبالتالي في كلّ فعلٍ اختياريّ مفترضٍ إذا علمنا تناسبه مع الملاك الموجود بأيدينا أمكننا حينئذٍ احتساب قيمته. ومثالاً على ذلك فإنّ قيمة عبودية الله والقيام بالأعمال الموجبة لمحبته ورضاه يمكن تحصيلها من خلال هذا الأسلوب والطريق، وكذلك من خلال هذا الأسلوب أيضاً ومع وجود نية التقرّب من الله فإنّ هذه الأمور التالية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
295

287

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 - وأيضاً مواجهة موانعها - حسنة مطلقاً: معرفة الله، البحث العلميّ لمعرفة طرق العبودية والأعمال المحبوبة لله، تعليم وترويج القيم الصحيحة وهداية الآخرين إلى هذه القيم.


وعلى أساس هذا الملاك أيضاً فإنّ الانفاق مع المنِّ ليس له قيمة الانفاق بلا مَنٍّ، لأنّه وإن رفع حاجة الطرف الآخر المادية فإنّ ذلك سيشكل ضربة لاستقلال شخصيته (عنفوانه) والذي يعدّ من حاجاته الروحية، وفي المقابل سيقوّي روحية التكبر والاستقلال الكاذب عند الفاعل (المنفق).

إلا أنّ هذا الملاك غير كافٍ لتشخيص مدى تأثير كلّ فعلٍ اختياري خاص وفي الشرائط المختلفة في كمال الفاعل، لنلاحظ الأمثلة التالية:

- هل يجب إظهار العبودية لله في زمان ومكان وشكل خاصٍ؟ وفي هذه الحال ما هي شرائط ذلك؟

هل نذهب إلى الكنيسة يوم السبت أم يوم الأحد؟ وهل نؤدي الصلاة خمس مرات بشرائطها الخاصّة؟ وهل يجب الصوم أم لا؟ و....

- ما هي الحقوق الواجبة علينا تجاه أفراد العائلة، الأقارب، الأصدقاء، الجيران، والآخرين، والتي تُعدّ مراعاتها وظيفتنا الأخلاقيّّة؟

- ما هو نوع اللباس اللازم للرجل والمرأة؟

- ما هي الأعمال الّتي ينبغي لنا القيام بها لمساعدة الآخرين؟

وغيرها وغيرها من نظائر هذه الأسئلة، فإنّه لا يمكننا الاجابة عنها على أساس الملاك المذكور، لأنّه لا بدّ أولاً من معرفة نتائج هذه الأعمال عندنا وفي وجودنا، نعم من الممكن كشف بعض هذه النتائج من خلال التجربة وبالتالي تقييم بعض هذه الأفعال بلحاظ الإثبات أو النفي، ومثالاً على ذلك فإنّ معرفة المصاديق الكثيرة لصحة البدن والروح الّتي يمكن اثباتها من خلال التجربة تعتبر مقدّمة للبقاء وكسب الكمال الحقيقيّ وبالتالي فإنّ رعايتها من أجل ذلك تُعتبر قيمةً ولازمةً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
296

288

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 وكذلك فإنّه بامكان التجربة أنّ تعرّفنا إلى أساليب مؤثرة في تحصيل وتعليم وبسط القيم الأخلاقيّّة وتربية الفرد والمجتمع ولهذا فإنّها قيّمة ولازمة أيضاً.


لكن من الممكن أيضاً أنْ لا تظهر نتائج الكثير من الأفعال في هذه الدنيا وبالتالي لن تكون قابلة للتجربة ولذا لن ينفع في مثل هذه الموارد طريق العقل والتجربة، والطريق الوحيد لمعرفة قيم هذه الأفعال أو - على الأقلّ - ارتباطها بالكمال والنقص عندنا يتم من قبل العارف بها بشكل كامل والصادق في إخباره عنها، ولذا فإنّنا نحتاج لمعرفة الصراط المستقيم في الحياة ونيل الكمالات النفسية إلى هداية الله سبحانه وتعالى المحيط إحاطة علمية كاملة بنتائج أعمالنا، فيعلمنا[7] بالأفعال الفاضلة والأفعال الرذيلة، ويسمّى هذا الطريق بطريق "الوحي"[8]. وبشكل مختصرٍ يمكن القول إننا نحتاج إلى ثلاثة أساليب لتشخيص قيم الأفعال:

1 - العقل: للعقل دور محدود في تعيين الملاكات الكلية لبعض الأفعال وقيمها ومن دونه لا يمكن إثبات قيمة أيّ فعلٍ كقيمة إطاعة الله أو قيمة التحقيق والبحث عن القيم ولزوم البحث عن الطريق المستقيم في الحياة.

2 - التجربة: يمكن من خلال هذا الأسلوب تعيين القيمة المثبتة أو المنفية لبعض الأفعال القابلة لها.

3 - الوحي: إنّ هذا الطريق لا بدّ منه لتعيين قيمة الكثير من الأفعال الّتي لها آثار لا تقبل التجربة.

8 - الحدّ الأقلّ للقيمة واللزوم الأخلاقيّين‏

ذكرنا في الفصل الثالث من هذا الكتاب أنّه إذا أردنا تقييم المراتب المختلفة لموضوع واحد فبإمكاننا أنْ نأخذ بالاعتبار مرتبة الصفر وتقسيم القيمة - بمعناها العام - إلى قيمة صفرية، قيمة مثبتة وقيمة منفية أو بتعبير آخر بلا قيمة، ذي قيمة وضد القيمة.

إنّ مراتب القيمة الذاتية الأخلاقيّّة لا نهاية لها وبعبارة أخرى فإنّ القيمة الأخلاقيّّة لا سقف لها لكن من بين هذه المراتب بإمكاننا أنّ نأخذ قيمة مرتبة ما على أنها الصفر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
297

289

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

  ونعتبرها سطح القيمة وفي هذه الصورة فإنّ الكمالات العليا والأعمال الموجبة لصعود الإنسان إلى تلك المراتب تكون ذات قيمة وأما المراتب الأدنى والأعمال الموجبة لسقوط الإنسان عن الحدّ الأقل من القيم فتكون ضد القيمة.


وكذلك بحثنا في الفصل الثالث حول اللزوم الأخلاقيّّ واعتبرناه من نوع اللزوم بالقياس وقلنا إنّ اللزوم الأخلاقيّ يشير إلى ضرورة القيام أو ترك بعض الأفعال، أو وجود أو عدم وجود بعض الصفات الاختيارية بالمقايسة بهدف الأخلاق والكمال الاختياريّ للإنسان.

ولهذا فإنّ الأعمال ذات القيمة الغيرية لازمة بالقياس بالقيم الذاتية الحاصلة عنها، ولذا إذا اعتبرنا مرتبة ما من القيمة هي سطح القيم والحدّ الأقل منها فلا بدّ من القول بلزوم امتلاك الصفات والقيام بالأعمال الّتي تجعل الإنسان متمتعاً بالحدّ الأقل من القيم، وفي المقابل ضرورة عدم امتلاك الصفات وضرورة ترك الأعمال الّتي تحرم الإنسان من نيل هذه المرتبة على الأقل.

وعليه فإنّ التمتّع بسائر الصفات والقيام بالأعمال الموجبة لحصول قِيَمٍ أكثر يعود نفعها إلى الفرد وإنْ كانت مطلوبة بالمقايسة بالحدّ الأقل من القيمة إلّا أنها ليست لازمة ولا ضرورية.
وكما قلنا فإنّ القيمة الذاتية تقارَن بميزان القرب من الله. وحيث إن القصد والنية لا بد منهما لتحصيل الكمال الاختياريّ فإنّ معرفة الله والاعتقاد بوجوده ضروريان لتحصيل الكثير من مراتب الكمال الحقيقيّ للإنسان. ومن طرف آخر قلنا إنّ أهمّ الطرق لتشخيص قيم الأفعال هو الوحي، إلّا أنّ الاعتماد عليه يستلزم الاعتقاد بالنبيّ ولهذا فمن المناسب أنّ نأخذ حدود الإيمان والكفر على أنها القيمة الصفرية وأن نعتبر الإيمان بالله والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الحد الأقلّ من القيمة الذاتية وأنْ نعتبر الأعمال والصفات الّتي لا بدّ منها لحصول الإيمان لازمة وضرورية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
298

290

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 للخلاصة

 
1 - القيمة الغيرية لكلّ فعلٍ تابعة لنوع الفعل والهدف النهائيّ لفاعله.

2 - القيمة الغيرية لكل عمل اختياريّ تعادل القيمة الذاتية لتلك المرتبة من القرب الاختياريّ من الله المتناسبة مع ذلك العمل والهدف الغائيّ للفاعل.

3 - أكثر الأفعال قيمة ما كان موجباً للوصول إلى القيمة النهائية، وتشمل أيضاً علم الإنسان الحضوريّ الكامل باحتياجه إلى الله ومحبة الله له ورضاه الكامل عنه.

4 - القيمة الغيرية لكلّ فعل اختياريّ من جهة نوع العمل ترتبط بمدى تأثير هذا العمل في تنبيه الإنسان إلى احتياجه إلى الله وزيادته لكمال الوجود.

5 - قيمة كلّ فعل اختياريّ من جهة النية ترتبط بمدى اقتراب نية الفاعل حين القيام بفعله من خلوص النية.

6 - مع تزاحم العلمَين، فإنّ القيمة البديلة تكون لأكثرهما تأثيراً في تحصيل الكمال الحقيقيّ للفاعل وبالتالي سيكون اختياره معقولاً.

7 - إذا تزاحمت الغيرية مع الأنانية في مورد تساويهما من حيث القيمة فإنّ المرجح منهما ما له القيمة الغيرية الأكبر مع أنّ الترجيح غالباً يكون للغيرية.

8 - إذا تزاحمت الموارد المختلفة للغيرية فلا بدّ أنّ نأخذ بالاعتبار تأثير كلّ مورد في الكمال الحقيقيّ للفاعل واختيار ما له القيمة البديلة منها.

9 - العمل لله يراد به عملنا من أجل التقرّب منه لما فيه خيرنا وكمالنا الحقيقيّ، وبناءً عليه فإنّ الأنانية في صورة إعانتها للفاعل في الوصول إلى كماله الحقيقيّ لا تتزاحم مع الإلهية بل هي عينها.

10 - لتشخيص قيم أنواع الأفعال نحتاج إلى ثلاثة أساليب: العقل والتجرية والوحي.

11 - لا بدّ من الاعتقاد بوجود الله في سبيل تحصيل الكثير من مراتب الكمال الحقيقيّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
299

291

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 للإنسان، وكذلك لا بدّ من الرجوع إلى الوحي لتشخيص قيم الكثير من الأفعال.


ولهذا السبب فمن المناسب أنْ نأخذ حدود الإيمان والكفر على أنها القيمة الصفرية وأنّ نعتبر الإيمان بالله ورسوله هو الحدّ الأقل للقيمة الذاتية وأنْ نعتبر تحصيل الصفات والأفعال اللازمة لحصول الإيمان أمراً لازماً. 

الأسئلة
 
1 - ما هو الهدف الغائيّ؟ اذكر مثالاً على ذلك.

2 - اذكر بالمثال كيفية تفاوت النتائج عند الفاعل لفعلٍ واحد لكن مع نيتين.

3 - اذكر العاملَين المؤثرين في القيمة الغيرية لكل فعل اختياريّ وتكلم عنهما باختصار.

4 - مع ملاحظة ملاك القيمة النهائية (أعلى درجات القرب من الله) ولوازمه اذكر كيفية تقييم الأفعال الاختيارية من جهة العمل وكذلك من جهة النية.
5 - ما المراد من النية الخالصة للقرب؟

6 - اذكر مثالين عن القيمة الغيرية المطلقة وكذلك مثالَين عن القيمة الغيرية المقيَّدة.

7 - اذكر بالمثال كيفية كون الفعل الواحد لشخصٍ ما ذا قيمة بديلة ولشخص آخر غير ذي قيمة بديلة.

8 - أوضح لنا ما يجب فعله عند تزاحم الغيرية مع الأنانية.

9 - في أيّ مورد تكون الأنانية غير الإلهية؟ أوضح ذلك.

10- لتشخيص قيم أنواع الأفعال فإنّنا نحتاج إلى ثلاثة أساليب، اذكرها واذكر موارد الاستفادة منها.

11- لماذا اعتبرنا الإيمان بالله ورسوله الحدّ الأقلّ من القيمة واللزوم الأخلاقيّين؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
300

292

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 للبحث

 
1 - ما هو هدفك الغائي من تحصيل العلم؟ ابحث حول قيمته الأخلاقيّّة.

2 - بالالتفات إلى تعريف القيمة البديلة، ابحث في تعريف وقيمة "إتلاف الوقت"، وما هي قيمة "البسط والسرور" في رأيك؟ وما هو الفرق بينها وبين إتلاف الوقت؟

3 - لماذ يرجّح الأفراد عادة من بين المجموعات، مجموعات الأصدقاء والأقارب والدين الواحد على بقية المجموعات الأجنبية والغريبة؟

4- وبناءً على ملاك القيمة البديلة ما هي المجموعة الّتي يجب علينا ترجيحها من بين "الآخرين".
 
إقرأ
  
الهدف الغائيّ في نظر الفاعل للفعل الاختياريّ هو تلك المرتبة من الكمال باعتقاد الفاعل الّتي ينوي الوصول إليها في النهاية. ولها مطلوبية أصلية عنده.

إنّ مطلوبية الهدف الغائيّ هي العلة الغائية لذلك الفعل الاختياريّ ويمكن تسميتها بعلة فاعلية الفاعل الاختياريّ أو علة اختيارية الفعل الاختياريّ ولا بدّ من الانتباه إلى أنّ العلة الغائية بهذا المعنى تختلف عن غاية الفعل أيّ النتائج الحاصلة منه، مع أنّ الكمال الحاصل من الفعل أو الحاصل من بعض نتائجه يعتبر أيضاً من نتائج الفعل، ومع كونها مقصودة عند الفاعل فإنّ مطلوبيتها تكون علة غائية.

وبناءً عليه فإنّ مطلوبية بعض نتائج الفعل يمكن أنّ تكون علّة غائية للفعل أيضاً وعلى هذا الأساس فإنّ تسمية بعض الغايات الخارجة عن الفعل بالأهداف الغائية فيه نوع من المسامحة.

مثلاً: من الممكن أنّ يكون الهدف الغائيّ لقاصد السفر إلى مشهد وزيارة الإمام الرضا عليه السلام 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
301

293

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 كسب الفيض أو لذة زيارة الإمام عليه السلام ، إلّا أنّ نفس مشهد وزيارة الإمم الرضا عليه السلام ليسا هدفين غائيين حقيقيين، لأنّه وكما قلنا فإنّ علة ومنشأ الفعل الاختياريّ عند الإنسان دائماً هو مطلوبية الكمال الاختياريّ له. وعلى أيّ حال فإنّ ما هو ملاك قيمة كلّ فعل اختياريّ هو الكمال والنقص المترتب واقعاً على ذلك الفعل مضافاً إلى كونه مقصوداً عند الفاعل.


ولا بدّ هنا من الالتفات إلى عدة ملاحظات:

أولاً: إنّ الهدف الغائيّ تارة يترتب على الفعل الاختياريّ الداخلي وتارة أخرى على الخارجيّ منه، والمراد من الأوّل هو ذلك الفعل الّذي يتحقق مع تحقق النية (الإرادة) ومن دون حاجة إلى أيّ شرائط أخرى، وبالاصطلاح ليس معلولاً للنية بل هو عينها. وأما الفعل الاختياريّ الخارجيّ فهو ذلك الفعل الّذي يحتاج مضافاً إلى النية إلى شرائط خارجية أخرى، ومثالاً على ذلك فإنّ الرضا بالانفاق على الفقير يعدّ من جملة الأفعال الداخلية والذي هو عين الإنفاق عليه وأما دفع المال إليه المستلزم لوجود المال فيُعتبر من جملة الأفعال الخارجية.

إنّ الفعل الداخليّ والذي هو عين النية له نتائج بلا واسطة عند الفاعل مقصودة ومطلوبة له دائماً. (إنّ من غير الممكن أنْ يكون لشخص ما نية إرادة الخير تجاه الآخر ولكن خيره غير مطلوب له).

إنّ نية إرادة الخير والتي تتحقّق بصورة الرضا عنه والرضا بإتيان الأعمال المتناسبة معه توجب تقوية صفة حبّ الخير عند الفاعل، وأما تحقّق الفعل الخارجيّ فيحتاج إلى حصول شروطه وما لم تتحقّق هذه الشروط فلن يتحقق تبعاً لها أيضاً وبالتالي لن تتحقّق نتائجه كذلك.

نعم عندما تُهيَّأ بعض الشروط غير الاختيارية لتحقق الفعل الخارجيّ فإنّ تحقّقه حينئذٍ بعد النية ضروريّ وحتميّ.

إنّ من من ينوي واقعاً الانفاق على المحتاج سيقوم بهذا العمل حتماً إذا كان متمكناً مالياً، وفي الواقع فإنّ الفعل الخارجيّ انعكاس للنية الداخلية في صورة تحقّق شرائط العمل، وبناءً عليه فإنّ افتراض أنّ شخصاً ما لديه نية فعل الخير ومع وجود شرائطه إلّا أنّه يستنكف عن القيام به ليس افتراضاً صحيحاً لأن ما سُمّي في هذه الموارد بنية حبّ الخير وإرادته ليس في الحقيقة سوى ميل ورغبة عند هذا الفرد وقد قام هو باختياره وإرادته بتقديم الميول والرغبات الأخرى عليها.

ومع الالتفات إلى هذه النكتة فإنّ من يرى محتاجاً ويريد واقعاً أنّ يساعده ويعينه إلّا أنّه ولسبب ما كعدم قدرته المالية مثلاً لم يوفّق إلى هذا العمل فإنّ صفة حبّ الخير وإنفاق المال من أجل إعانة الآخرين ومساعدتهم ستقوى عند هذا الإنسان، ومن هذه الجهة يتساوى مع الإنسان
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
302

294

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

  القادر مالياً والمنفق ماله على الآخرين. وحتماً فإنّ القيام بالإعمال الخارجية مشروط باستمرار النية في طول العمل والتغلّب على الموانع الطارئة والميول المزاحمة كما وإنّ غايات الأفعال مؤثرة أيضاً في كمال الإنسان ونقصه أيضاً ولذا فإنّ الفاعل إذا قام بالأفعال الخارجية سيحصّل نتائج أكثر من الأفعال الداخلية، ومثالاً على ذلك فإنّ نية المشاركة في يوم واحد من الحرب تتفاوت قياساً بالمشاركة الفعلية فيه، حيث إنّ الأمر الثاني يحتاج إلى استمرار النية في طول اليوم والتغلّب على الأفكار المزاحمة فيه، ويتفاوتان أيضاً من حيث تحصيل الكمال والنقص الحاصلين من نتائجه أيضاً، وعليه ففي مثل هذه الموارد فإنّ نتائج الأفعال الخارجية أكثر من نتائج الأفعال الداخلية.


ومن خلال هذه النكتة يمكن استنتاج عدم جعل النية في مقابل العمل كما يقتضي النظر الدقيق، بل إننا نعتبر النية نوعاً من الفعل الاختياريّ.

وطبقاً لهذا الرأي فإنّ بعض الأفعال الاختيارية تكون مقدّمة لبعضها الآخر ولذا فإنّ النية بما أنها نوع من الفعل الاختياريّ فإنّها مقدّمة على كلّ الأفعال الاختيارية وعلّة لها.
إنّ من يريد فعلاً إعانة غيره ومساعدته لا بدّ له ابتداءً من إرادة القيام بهذا الفعل الخارجيّ. وحيث إنّ هذه الإرادة مبتناة على الانتخاب الواعي من قبل الفاعل فهي نوع من الفعل الاختياريّ يتم تقييمها على أساس الكمال الاختياريّ الحاصل منها كتقوية صفة حّب النوع مثلاً (هذا في صورة اعتبار حبّ النوع نوعاً من كمال الإنسان الحقيقيّ)، وعلى فرض تحقّق الشرائط الخارجية فإنّ المساعدة والتي هي فعل خارجيّ ستتحقق في الخارج أيضاً، ومع القيام بهذا العمل ستقوى أيضاً الصفة المذكورة بشكل أكبر عند هذا الإنسان. بل وفي بعض الأحيان تتحقق كمالات أخرى له تبعاً لهذا العمل.

(يقول المرحوم العلامة الفيض الكاشاني في كتابه القيم المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء ج‏8، ص‏136: إنّ الأعمال تأثيرها في القلوب بتأكيد صفاتها).

ثانياً: حيث إنّ القيام بالفعل يستلزم التغلّب المستمرّ على الموانع والأفكار المزاحمة له، فإنّ الفعل كلما كان صعباً ومعقداً ومع ذلك قام الفاعل بإتيانه فإنّ ذلك سيوجب تأكيد الصفة المتناسبة معه وتقويتها بشكل أكبر عنده. وبناءً عليه فإنّ الأعمال الحسنة كلما كانت أصعب وأشدّ فلها نتائجها الأفضل على الفاعل وستكون قيّمة جداً: "أفضل الأعمال أحمزها" (راجع: محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏82، ص 322، محمّد بن حسين المعروف بالشيخ البهائي، مفتاح الفلاح، ص 45).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
303

295

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 ثالثاً: إنّ تحصيل المعرفة بالكمال الحقيقيّ والأفعال المناسبة له ما دامت باختيار الفاعل فإنّها تُعدّ من الأفعال الاختيارية ويتمّ تقييمها أخلاقيّاً على أساس كلّ النتائج المترتبة عليها، وأما الخطأ في المعرفة وفي صورة عدم كونها اختيارية فإنّها تكون ناشئة بشكل صرف عن قصور الفاعل وبالتالي لا يمكن تقييمها أخلاقيّاً على أساس النتائج المترتبة عليها.


وكذلك فإنّ السعي لتحصيل المعرفة الصحيحة بالكمال الحقيقيّ والأفعال المناسبة له ملازم لوجود النية بالوصول إلى الكمال الحقيقيّ - على فرض تحقّق شروطه - ولهذا السبب فإنّه قيّمٌ ووظيفة أخلاقيّّة وأما أصل طلب الكمال وكما ذكرنا مسبقاً فإنّه غير اختياريّ بل إنّه لازم لطبيعة الإنسان.

إنّ درك الرابطة الوجودية بيننا وبين الله والتي هي رابطة المحتاج بغير المحتاج (الفقير بالغنيّ) هي إدراك واحد وبتعبير آخر هما متحدان في الإدراك ولهذا السبب لم نبحث بشكل مستقل في العلم الكامل بعدم احتياج الله تعالى.

وكذلك فإنّ المحبة والرضا ينشآن عن إيجاد التناسب بين الأشياء ووجود الشخص، ولذا فإنّ الإنسان الحقير والوضيع يحبّ الأمور الحقيرة والوضيعة وبالتالي يُسرّ بالوصول إليها، وفي المقابل فإنّ الإنسان الكامل ذا الهمة العالية يُسرّ أيضاً بالوصول إلى الأمور الكاملة والمتعالية. وحيث إنّ وجود الله ثابت غير متغير، فإنّ الطريق الوحيد لوصول الإنسان إلى المحبة والرضا الكاملين بالنسبة لله هو إيجاد التغيير في نفسه بأفعاله واختياره وأن يلائم نفسه مع الكمال المطلق، وأنْ يدرك هذا التلاؤم والتناسب.

ولذا فإنّ محبة الله ورضاه عن الإنسان وكذلك محبة الإنسان لله ورضاه عنه رابطة حقيقية واحدة وتتحصّل بنفس الأسلوب والطريقة ولهذا لم نبحث عن الثانية بشكل مستقلّ.

مهما كان الباعث واحداً على التجرّد سُمّي الفعل الصادر عنه إخلاصاً بالإضافة إلى المنويّ، فمن تصدّق وغرضه محض الرياء فهو مخلص، وإن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص، ولكنّ العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع شوائبه. (راجع: محسن فيض الكاشاني، المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج‏8، ص 128 - 129).

إنّ تشخيص البواعث الحقيقيّة وتصحيحها مشكل جداً ويحتاج إلى التدبّر الباطنيّ والامتحان النفسانيّ والمحاسبة والمراقبة. وقد فصّل علماء الأخلاق المسلمون الكلام حولها، ولمزيد من
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
304

296

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

  المراجعة التفصيلية حول النية وخلوصها وكذلك المراقبة والمحاسبة راجع: (محسن فيض الكاشاني، نفس المصدر، ج‏8، ص 102 - 191، كتاب النية، الصدق، الإخلاص والمراقبة والمحاسبة).


القيمة الغيرية الأخلاقيّّة لصفات الإنسان وأفعاله محدودة بالموارد الّتي يتمكّن الإنسان باختياره ووعيه من ترجيح طرف واحد من بين الميول والبواعث المتزاحمة وبالتالي انتخابه من بينها، وبناءً عليه فإنّ التزاحم موجود دائماً بين الصفات وبين الأفعال والتي هي موضوع الأخلاق وبالتالي فإنّ كلّ القيم الغيرية الأخلاقيّّة قابلة للتقييم أيضاً من زاوية القيم البديلة.

من أجل التحليل الدقيق والكامل للرابطة بين الإلهيّ والأنانيّ (الشخصيّ)، لا بدّ من الالتفات إلى عدّة نكات:

- باعتبار أنّ القيمة الذاتية واحدة ولا تزاحم بين مراتبها، فإنّ أعمّ الأصول الأخلاقيّّة الّتي تبين للقيم واللزوم المطلق أخلاقيّاً للصفات والأفعال الاختيارية، لا يمكن أنّ يتعارض بعضها مع بعض، وبناءً عليه ومن باب المثال إذا تزاحم الغيري مع الأنانيّ فإنّ إحدى القاعدتين - على الأقلّ - الّتي تحكم بالغيرية والأنانية ليست أصلاً أخلاقيّاً ولا اعتبار لها بشكل مطلق.

- إنّ منشأ المطلوبية هو حبّ الذات، ومنشأ مطلوبية الأمور الاختيارية هو حبّ الكمال الاختياريّ لأنفسنا، وبناءً عليه فإنّ السعي من أجل كمالنا الاختياريّ له قيمة ذاتية أخلاقيّّة. ومن هذا الأصل نستنتج أنّ الخير الأخلاقيّّ كمالٌ اختياريّ، وأنّ على كلّ إنسان في أموره الاختيارية أنْ يسعى نحو كماله الحقيقي.وعليه فإنّ هذه الأفعال من الناحية الأخلاقيّّة قيّمة مطلقاً، وبعبارة أخرى فإنّ قيمة الأنانية تُعتبر إحدى الأصول العامّة والمطلَقة أخلاقيّاً.

- من الممكن افتراض الأنانية من دون الغيرية في بعض الموارد، مثلاً لو افترضنا وجود إنسان واحدٍ فقط أو افترضنا وجود إنسان ولبعض الظروف والشرائط لا يتمكن من الارتباط بأحد غيره سوى الارتباط بالله تعالى، فإنّ أياً من أفعاله لن يكون غيرياً (من أجل خير الآخرين) ولكنه بإمكانه الوصول إلى الكمال من خلال عبوديته لله.

- من غير الممكن تحقّق الغيرية من دون الأنانية، حيث إنّه بإمكان الفاعل المختار أنْ يختار الغيرية فقط إذا اعتقد بتأثيرها واستلزامها لنحو من إنحاء الكمال له وللعلاقة بالله (الإلهية.) وفي مثل هذه الموارد فإنّ الغيريّ بقيامه بما ينفع الآخرين فإنّه في الحقيقة والواقع يسعى لما فيه كمال له حتى ولو اعتقد بأنّ تحصيل هذا الكمال مستلزم لفوات كمال آخر له.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
305

297

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 إنّ من يقوم بخدمة الآخرين يشعر بنوع من الرضا لقيامه بهذا العمل أو أنّه يسعى من أجل أهداف أخرى تعود إليه أيضاً. وكذلك إنّ من يؤثر خير الآخرين على خيره الشخصيّ فإنّه يسعى نحو خير آخر كاللذة والرضا الحاصلين من هذه التضحية أو أنْ يسعى لنتائج أخرى تعود إليه أيضاً.


وإذا كان الكمال الّذي يحصّله الفاعل أقلّ من الكمال الّذي يفوته فإنّ ترجيح الغيرية، ممكن وقابل للتحقّق من قبل الفاعل والسبب في ذلك رؤيته للكمال الّذي يحصّله فقط مع أنّ ذلك غير صحيح بحكم العقل.

- من الممكن افتراض تزاحم الأنانية مع الغيرية في تحصيل الكمال الحقيقيّ للفاعل في بعض الموارد، أيّ أنّه بالإمكان افتراض استفادة شخص ما من بعض إمكاناته المحدودة إما من أجل كماله أو من أجل كمال غيره.

ومثالاً على ذلك لو فرضنا أنّ شخصاً ما لديه مقدار محدود من المال إمّا أنْ يستفيد منه فقط في الذهاب إلى الحجّ أو أنّ يستفيد منه في قضاء حاجة إنسان آخر. وفي الواقع فإنّ هذا التزاحم بين تحصيل كمالين من الممكن وقوعه عند الفاعل، وحتماً فإنّ هذا التزاحم إنما يمكن إذا كان تحصيل كلا الكمالين ممكناً للفاعل كلاً على حدة، ولم يكن أحدهما شرطاً لازماً للآخر. ومثالاً على ذلك فإنّ قضاء حاجة الآخر موجب لكمال الفاعل فيما إذا كان الفاعل قد أتى بالحجّ الواجب عليه إذ إن القيمة الغيرية للفعل الأوّل أكثر من الثاني.

إنّ الصعود من الدرجة الثالثة إلى الدرجة الخامسة (في سلّم السلوك) قيمته أكبر من الصعود من الدرجة الثانية إلى الدرجة الثالثة، إلّا أنّ تحصيل الكمال الأوّل لمن هو فعلاً في الدرجة الثانية غير ممكن، وكذلك فإنّ تحصيل هذين الكمالين الحقيقين لا تزاحم بينهما أصلاً.

- بناءً على ملاك زيادة كمال الوجود في القيم البديلة، فإنّه عند تزاحم الأنانية مع الغيرية لا بدّ لنا أنّ نختار ما يوجب من حيث المجموع زيادة كمال الوجود وبالتالي فإنّ هذا العمل سيزيد بشكل أكبر الكمال الحقيقيّ للفاعل.

ولذا لو خُيّرنا بين البقاء واكتساب المزيد من الكمال وبين التضحية بالنفس من أجل بقاء طريق الهداية (الدين) لتكامل الناس الآخرين فإنّ الثاني هو المرجّح. وعلى هذا الأساس ضحّى الحسين بن علي عليهما السلام وخيرة أصحابه في يوم عاشوراء بأنفسهم فداءً من أجل الدين.

ومن الممكن في بعض الموارد أنْ نرجّح الأنانية على الغيريّة ومثالاً على ذلك فإنّ الاحتفاظ ببعض المال لصرفه في قضاء حوائجنا الشخصيّة مرجح على إنفاقه على الآخرين فيما إذا أوجب هذا الإنفاق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
306

298

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

  أنّ يكون الإنسان في حوائجه ذليلاً وعالة على الآخرين: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا1.

 
من الممكن أنْ يقال في مورد الرابطة بين الأناينة والإلهية إنّ التوجّه إلى الذات مانع من التوجّه إلى الله، وحيث إنّ الأنانية مستلزمة التوجّه إلى الذات والإلهية مستلزمة التوجّه إلى الله فإنهما سيتزاحمان أحدهما مع الآخر دائماً، إلّا أنّه لا بدّ من الالتفات إلى أنّ التوجه إلى ذاتنا أو إلى الآخرين أيضاً إنّما يكون مانعاً من التوجّه إلى الله فيما إذا جعلنا ذاتنا أو غيرنا في عرض الله واعتقدنا بالاستقلالية لنا أو لغيرنا في نفس الوقت.
 
إنّ الفاعل الاختياريّ يتوجّه دائماً إلى ذاته بمقدار احتياجه إلى الهدف، مثلاً، فإنّ الشخص الّذي يهدف إلى كسب الثروة يتوجّه إلى نفسه بمقدار احتياجه إلى المال. وكذلك فإنّ مَن هدفه حقيقة هوالتقرب إلى الله يتوجّه إلى نفسه بمقدار احتياجه إلى التقرب من الله.
 
ولذا فإنّ توجّه هذا الشخص إلى نفسه إنما هو في سبيل التوجّه إلى الله ولذا لا تزاحم بينهما، وبناءً عليه فإنّ التوجّه إلى ارتباط أنفسنا بالله وحتى مع أعلى درجات التوجّه إليه ليس فيه أيّ تزاحم بل هو عين التوجّه إليه، وبعبارة أخرى فإنّ التوجّه إلى ربوبية الله ومعبوديته وعدم احتياجه يساوي التوجه إلى مربوبية العبد وعبوديته واحتياجه إليه في نفسه.
 
وفي مقام الفناء (في الله) يصل السالك إلى مرتبة لا يرى فيها أيّ استقلال لنفسه بل يتوجّه فقط إلى الله بعنوان أنّه الموجود المستقلّ فقط، إلّا أنّ هذا التوجه لا يتنافى مع التوجه إلى منتهى الربط واحتياجه في نفسه بل هو عينه.
 
تصور أنّ عاشقاً يقطف وردة لمعشوقه ويركض نحوه فإنّ التوجه الاستقلاليّ فقط للمعشوق وأما توجّهه لنفسه والوردة والركض فكلها تابعة له.
 
وهكذا هو حال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام عليه السلام المكلَّفَيْن بأمر من الله بهداية العباد حيث إنّهما ومع التوجه الكامل إلى نفسيهما والوظائف الفردية الاجتماعية إلّا أنّ التوجّه إلى أيّ من هذه الأمور ليس استقلالياً في حدّ ذاته. وبناءً عليه فإنّ ما ذُكر في هذه الموارد تحت عنوان عدم التوجّه إلى الذات أو إلى الآخرين يراد منه في الحقيقة عدم التوجه الاستقلاليّ إلى الذات أو إلى الآخرين، وحتماً فإنّ الكلام حول هذه الأمور سهل إلّا أنّ العمل بذلك مختصّ بالمخلصين فقط.
 
 
 
 

1- الإسراء 17: 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
307

299

الفصل العاشر: قيمة ولزوم الأفعال الإختيارية

 إنّ عامة الناس يقتدون بالآخرين في أعمالهم ولهذا فإنّ نيل هدف الأخلاق وطيّ مسير الحياة الصحيح يحتاج مضافاً إلى التعليم ومعرفة الطريق إلى القدوة العمليّة أيضاً، والله تعالى بإرساله الأنبياء والذين هم مثال الإنسان الكامل أرشدنا إلى الطريق الصحيح بواسطتهم وبإيجابه طاعتهم هيّأ لنا أفضل الطرق وأكملها لتزكية أنفسنا وتربيتها أخلاقيّاً.


الاستدلال المذكور استدلال عقليّ لإثبات حاجة البشر إلى الدين الإلهيّ والنبوّة.

إنّ الإيمان بالمعاد من لوازم الإيمان بالله والنبوّة وقد كان مورداً لتأكيد الأنبياء دائماً، ومن الممكن أنّ يستند الإنسان إلى الوحي للإيمان بوجود المعاد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
308

300

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
 
"إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرى‏ء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"1.
 
رسمنا في الفصلين السابقين وبالاستناد إلى المنهج العقليّ إطاراً محدّداً للنظام الأخلاقيّّ المقبول، وأما في هذا الفصل الاخير من الكتاب فسوف نتعرض لتوصيف المذهب الأخلاقيّّ الإسلاميّ بالاستناد إلى نصوص دين الإسلام المبين (القرآن والروايات).
 
وبالرغم من اعتبار هذا المذهب الأخلاقيّّ من جملة المذاهب الواقعيّّة القابلة للإثبات إلّا أنّنا سوف نؤجّل البحث في تعريفه إلى بحث مستقل به حتى يكون بإمكاننا بعد الاطّلاع على مسائل فلسفة الأخلاق وبحوثها رؤية المطابقة بين هذا المذهب والنتائج المستفادة من البحوث العقلية لفلسفة الأخلاق.
 
 
 

1- حسين بن محمّد تقي النوري، مستدرك الوسائل، ج‏1، ص 90.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
309

301

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 1 - المذهب الأخلاقيّ الإسلامي جزء من نطامٍ واحد


إنّ دين الإسلام وكغيره من الأديان السماويّة يقوم على ثلاثة أصول اعتقادية: التوحيد، النبوة والمعاد.

وبناءً على أصل التوحيد فإنّ مبدأ كلّ الوجود هو ذات الواحد الأحد.

إنّ الله تعالى واحد وواجد لتمام الكمالات ومنزّه عن كلّ نقصٍ، وليس له نظير في الوجود ولا شريك له.

وبناءً على أصل المعاد فإنّ الدنيا لا تشكّل سوى جزء محدود من حياة الإنسان. وإنّ الإنسان يحيا مرة ثانية بعد الموت لينتقل إلى الحياة الخالدة وليستوفي نتائج أعماله الّتي قام بها في دنياه. وبناءً على أصل النبوة فإنّ الله أرسل الأنبياء إلى عامة الناس ليستأدوهم ميثاق الفطرة المودعة فيهم ويدعوهم إلى دين الله وليعلموهم ما لا يمكن معرفته إلّا بالوحي. وإبلاغهم حقوقهم وتكاليفهم المأمورين بها من قبل الله عبر تعريفهم على أحكام الدين العمليّة، وتبيين طريق السعادة والشقاء للإنسان وتنبيههم إلى نتائج أعمالهم.

وآخر هؤلاء الأنبياء وخاتمهم هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكتابه السماوي (القرآن) وحيٌ إلهي.

إنّ متن القرآن الكريم وكذلك الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه المعصومين عليهم السلام- الّذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى - تشكّل النصوص الدينيّة في الإسلام.

وكذلك فإنّ أحكامه العمليّة سواء كانت ناظرة إلى الفرد نفسه أم إلى ارتباطه بالله أو بالناس أو بالبيئة وحيث إنها تعيّن وظائف الأفراد وتكاليفهم وحقوقهم فإنّها ترتبط بالفقه الإسلامي، إلّا أنّ كلّ هذه الأحكام أيضاً وباعتبار دورها في هداية الفرد إلى السعادة وكماله الحقيقيّ تندرج أيضاً ضمن نطاق الأخلاق الإسلامية.

ولهذا السبب فإنّ المذهب الأخلاقيّ الإسلاميّ يرتبط ارتباطاً وثيقاً ببقية أجزاء دين الإسلام (العقائد والفقه) وبالتالي فإنّه يعتبر جزءاً من نظام واحد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
310

302

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 2 - معرفة الإنسان في الإسلام‏

 
من أجل الفهم الأفضل للملاك الّذي وضعه الإسلام لتقييم الأمور الاختيارية عند الإنسان لا بدّ أنْ نعرف رؤية هذا الدين له. وسوف نكتفي في هذا المقام بذكر نكتتين حول معرفة الإنسان في الإسلام1.
 
1 - 2. حقيقة الإنسان‏
 
يرى الإسلام أنّ حقيقة الإنسان هي روحه والتي لا تفنى بموته.
 
وقد بيّن القرآن الكريم في الكثير من آياته مراحل خلق الإنسان وحقيقة الموت، وقد دلت هذه الآيات على وجود بعد غير جسمانيّ للإنسان يشكل حقيقة وجوده.. ومن جملة هذه الآيات: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ2.
 

 

﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ3.
 

 

﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ..4.
 
وأشارت الروايات الإسلامية أيضاً إلى حقيقة الإنسان وبقائها بعد الموت، ومن جملتها ما ورد عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: "ما خُلقتم للفناء بل خُلقتم للبقاء وإنّما تُنقلون من دار إلى دار"5.
 
2 - 2. تأثير الأعمال في الروح‏
 
يعتبر الإسلام أنّ أعمال الإنسان تؤثّر في روحه، وأنّه مرتهن بأعماله الاختيارية وأنّ نتائج أعماله تعود إليه بشكل كامل، ومثالاً على ذلك، لاحظ هذ الآيات6:
 
 
 

1- لمزيد من البحث والمطالعة التفصيلية حول رؤية الإسلام في مجال المعرفة الإنسانية، راجع: محمّد تقي مصباح، معارف قرآن، خداشناسى، كيهان شناسى، انسان شناسى (معرفة الله، معرفة العالم، معرفة الإنسان)، الجزء الثالث, محمود رجبي، انسان شناسى.
2- السجدة 32: 9, الحجر 15: 29.
3- السجدة 32: 11.
4- الأنعام 6: 93.
5- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏58، ص 78.
6- كذلك راجع: النساء 4: 123, المائدة 5: 105, الأنعام 6: 104 و164, التوبة 9: 95, يونس 10: 52 و 108, الإسراء 17: 7 و15, الحج 22: 77, النحل 27: 40 و92, فاطر 35: 18, الزمر 39: 7, الجاثية 45: 15, المدثر 74: 38.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
311

303

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ1.

 
﴿ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ2.
 
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا3.
 
﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا4.
 
﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ5.
 
3 - القيمة الذاتية والنهائية
 
أشار القرآن الكريم إلى المطلوب الأصليّ والقيمة الذاتية بالاستفادة من العبارات "السعادة"6، "الفلاح"7، و"الفوز"8. والفلاح معناه الظفر والفوز والنجاح ولذا فإنّ من يزيل الموانع المعترضة لطريق سعادته والواصل إلى كماله الحقيقي يسمّى الفالح.
 
ومن طرفٍ ما فقد عبّر القرآن الكريم عن الّذين يزكّون أنفسهم من الرذائل بالمفلحين9.
 
ومن طرف آخر اعتبر الفَلَاح غاية الأعمال الحسنة للإنسان ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون10.
 
وأما الفوز فمعناه تحصيل المطلوب والوصول إليه، وكذلك فقد اعتبر القرآن أنّ غاية الأعمال الحسنة هي السعادة والفلاح والفوز ولم يذكر أيّ غاية أخرى لنفس هذه الأمور.
 
 
 

1- المطففين 83: 14.
2- الطور 52: 21.
3- فصلت 41: 46.
4- النجم 53: 38 - 41.
5- الزلزلة 99: 7 و8.
6- هود 11: 105 - 108.
7- آل عمران 3: 30, الحج 22: 77, المؤمنون 23: 1, الجمعة 62: 10, الأعلى 87: 14, الشمس 91: 9.
8- النساء 4: 13 - 14, المائدة 5: 119, الأنعام 6: 16, التوبة 9: 20 - 21, الأحزاب 33: 71, البروج 85: 11.
9- الأعلى 87: 14, الشمس 91: 9, "قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى".
10- آل عمران 3: 130, الجمعة 62: 10.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
312

304

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 وفي القرآن اعتبرت "التقوى" صفة عامة لكمال الإنسان، وأنّ المتقين لهم الفوز1، الفلاح2، خير الآخرة والعاقبة الحسنة3، الجنة الخالدة4، وجوار الله تعالى5.

 

 

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ6. وعليه فإنّ الإنسان بمقدار ما يكون تقياً يكون قريباً من الله تعالى، ولذا فإنّ أولياء الله في سعيهم لأعلى درجات القرب منه والوصول إليه يعتبرون ذلك أكبر مطلوب لم.
 
وقد عرّف القرآن الكريم النبي الأعظم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه الأسوة الحسنة7 وأنه وصل إلى أعلى مقامات القرب من الله:
 

 

﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى8.
 
ويقول الإمام علي عليه السلام: "واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك، وأقربهم منزلة منك، وأخصهم زلفة لديك"9.
 
وكذلك فإنّ الإمام زين العابدين عليه السلام في مناجاته مع الله يطلب منه أعلى درجات القرب والوصول إليه:
 
"إلهي فاسلك بنا سُبُل الوصول إليك، وسيِّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك.. فأنت لا غيرك مرادي، ولك لا لسواك سهري وسهادي، ولقاؤك قُرَّةُ عيني، ووصلك مُنى نفسي وإليك شوقي، وفي محبتك ولهي، وإلى هواك صبابتي، ورضاك بغيتي، ورؤيتك حاجتي، وجوارك طلبتي، وقربك غاية سؤلي... يا نعيمي وجنتي ويا دنياي وآخرتي"10.
 
 
 
 

1- الزمر 39: 61, النبأ 78: 31.
2- البقرة 2: 5.
3- النساء 4: 77, هود 11: 49.
4- القمر 54: 54, النبأ 78: 31.
5- القمر 54: 55.
6- الحجرات 49: 13.
7- الأحزاب 33: 21.
8- النجم 53: 8 و 9.
9- إبراهيم العاملي، البلد الأمين والدرع الحصين، ص 191. مقتطف من دعاء كميل بن زياد.
10- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏91، ص 147 و148 مقتطف من مناجاة المريدين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
313

305

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 ويقول سلام الله عليه:

 
"إلهي فاجعلني ممن اصطفيته لقربك.. ومنحته بالنظر إلى وجهك، وحبوته برضاك وأعذته من هجرك وقلاك وبوأته مقعد الصدق في جوارك.. واجتبيته لمشاهدتك"1.
 
"وغُلَّتي لا يبرّدها إلّا وصلك ولوعتي لا يُطفئها إلّا لقاؤك وشوقي إليك لا يَبُلُّهُ إلّا النظر إلى وجهك وقراري لا يقرّ دون دنوي منك... وغمّي لا يزيله إلّا قربك"2.
 
"أسألك أنّ تحقق ظني بما أؤمله من جزيل إكرامك وجميل إنعامك في القربى منك والزلفى لديك والتمتع بالنظر إليك"3.
 
1 - 3. لوازم القيمة النهائية
 
يعتبر الإسلام أنّ الإنسان محتاج حقيقة إلى الله4، إلّا أنّ الإنسان الكامل فقط هو الّذي يدرك حقيقة وجوده، وبالتالي فإنّ معرفة حقيقته من علائم الوصول إلى أعلى درجات القيمة.
 
يقول الإمام علي عليه السلام: "نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة الناس"5. ومن طرف آخر فإنّ المدرك لحقيقة وجوده - أيّ ارتباطه بالله - دركاً حضورياً كاملاً سيدرك أيضاً أنّ وجود الله هو الوجود المستقلّ فقط وأنه ربه وخالقه:
 
عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال:
 
"من عرف نفسه فقد عرف ربه"6.
 
إنّ المعرفة الحضورية بالله هي نوع من الرؤية الباطنية لله ومثل هذه المعرفة تختصّ بالإنسان الكامل فقط لأنّ الإنسان إذا ما توجه إلى أيّ شي‏ء توجهاً استقلالياً
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏81، ص 148، مقتطف من مناجاة المحبين.
2- نفس المصدر، ص 150، مقتطف من مناجاة المفتقرين.
3- نفس المصدر، ص 146، مقتطف من مناجاة الراغبين.
4- فاطر 35: 15,"يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" (المترجم).
5- عبد الواحد بن محمّد التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 232، الحديث 4641.
6- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏2، ص 32.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
314

306

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 فلن يكون بإمكانه أنّ يرى ما عداه، ومثالاً على ذلك عندما ندقّق النظر في المرآة - والتي هي من الأجسام الشفافة جداً - وركزنا توجهنا إلى سطحها فلن يكون بإمكاننا أنّ نرى ما وراءها.

 
إنّ الإنسان الكامل بالمشاهدة الحضورية والإدراك الباطنيّ عندما يدرك حقيقة أنّ وجوده عين الربط والتعلّق بالموجود المستقلّ فقط أيّ الله تعالى فلن يرى أيّ استقلالية لأيّ موجود آخر بل إنّه فقط سوف يتوجّه إلى الله توجهاً استقلالياً وبالتالي سترتفع من أمامه كلّ الحجب المانعة له من مشاهدة الله وسيرى أنّ كلّ شي‏ء آية من آيات الحق وأن الله موجود في كلّ شي‏ء.
 

 

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ 1.
 
وعن الإمام السجاد عليه السلام أنّه قال:
 
"ولا تحجب مشتاقيك عن النظر إلى جميل رؤيتك"2.
 
ويطلب الإمام علي عليه السلام مثل هذا المقام أيضاً حيث يقول:
 
"إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حُجُب النور فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك.. وألحقني بنور عزك الأبهج فأكون لك عارفاً وعن سواك منحرفاً"3.
 
وهو نفسه الواصل إلى هذا المقام العظيم يقول:
 
"ما كنت أعبد رباً لم أره"4.
 
وكذلك فإنّ الإمام الحسين عليه السلام سيد الشهداء يظهر مثل هذه المعرفة حيث يقول:
 
"ألغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى
 
 
 

1- القيامة 75: 22 و 23.
2- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏81، ص 144، مقتطف من مناجاة الخائفين.
3- نفس المصدر، ص 99، مقتطف من المناجاة الشعبانية.
4- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏1، ص‏98.
 
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
315

307

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي الّتي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً... ماذا وجد من فقدك وما الّذي فقد من وجدك؟. وأنت الّذي تعرفت إليّ في كلّ شي‏ء فرأيتك ظاهراً في كلّ شي‏ء"1.

 
ومن اللوازم الأخرى للوصول إلى القيمة النهائية وأعلى درجات القرب المحبةُ والرضا بين الله والإنسان، ويشير القرآن الكريم إلى هؤلاء الواصلين إلى هذه المرتبة فيقول:
 

 

﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للهِ2.
 
وأيضاً: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ3.
 
وكذلك: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة4.
 
ويقول الإمام الحسين عليه السلام في هذا المجال:
 
"أنت الّذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحّدوك وأزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك"5.
 
وعن الإمام السجاد عليه السلام أنّه قال: "وقرّت بالنظر إلى محبوبهم أعينهم.. وما أطيب طعم حبك وما أعذب شرب قربك فأعذنا من طردك وإبعادك"6.
 
2 - 3. تأمين ملاكات القائلين بالأنانية
 
1 - 2 - 3. اللذة
 
رغم أنّ القرب من الله هو ملاك القيمة الأخلاقيّّة في المذهب الأخلاقيّّ الإسلاميّ، فإنّ العظماء الواصلين إلى مقام القرب والسعادة الحقيقيّة يتمتعون بلذائذ أكبر أيضاً.
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏95، ص 226 - 227، مقتطف من دعاء عرفة.
2- البقرة 2: 165.
3- المائدة 5: 54.
4- الفجر 89: 27 و 28.
5- محمّد باقر المجلسي، نفس المصدر.
6- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏91، ص 151، مقتطف من مناجاة العارفين.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
316

308

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

  وقد أشارت وبينت الآيات القرآنية أنواعاً كثيرة من اللذائذ والنعم عند أهل الجنة وأكدت على أنها أفضل وأدوم من اللذائذ والنعم الدنيويّة وأن ليس فيها أيّ نصب ولا تعب ولا ألم أيضاً، يقول القرآن الكريم:

 

 

﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى1.
 

 

﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ2.
 
ويقول بلسان أهل الجنة: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ3.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "فيعطيهم الله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولم يخطر على قلب بشر"4.
 
وحتماً فإنّ الواصلين إلى أعلى درجات الكمال ومضافاً إلى تمتعهم باللذائذ المادية في الآخرة فإنّهم أيضاً يتمتعون باللذائذ المعنويّة فيها والتي هي أفضل وأرقى من اللذائذ المادية، يقول الله تعالى ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ5.
 
ونقرأ في حديث المعراج كلام الله لرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
 
"... يا أحمد إنّ في الجنة قصراً... فيها الخواص أنظر إليهم كلّ يوم سبعين مرة وأكلمهم... وإذا تلذذ أهل الجنة بالطعام والشراب تلذذوا بكلامي وذكري وحديثي"6.
 
ويقول الإمام السجاد عليه السلام: "وأستغفرك من كلّ لذة بغير ذِكْرِك، ومن كلّ راحةٍ بغير أنسك ومن كلّ سرورٍ بغير قربك"7.
 
 
 

1- الأعلى 87: 16 و17.
2- الزخرف 43: 71.
3- فاطر 35: 34 و 35.
4- حسين بن محمّد تقي النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل ج‏6، ص 63.
5- التوبة 9: 72.
6- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏74، ص 23.
7- نفس المصدر، ج‏91، ص 151، مقتطف من مناجاة الذاكرين.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
317

309

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 2 - 2 - 3. القدرة

 
بناءً على بعض الروايات، فإنّ الإنسان بطيّه لمسير القرب الّذي عيّنه الله له فإنّه سيحصّل أكبر قوة وقدرة تجيز له التصرّف في الوجود نظير تصرّف الله فيه. ومن جملة هذه الروايات ما ورد في الحديث القدسيّ على لسان الله حيث يقول:
 
"يا ابن آدم أنا غنيُّ لا أفتقر أطعني فيما أمرتك أجعلك غنياً لا تفتقر، يا ابن آدم أنا حيّ لا أموت أطعني فيما أمرتك أجعلك حياً لا تموت، يا ابن آدم أنا أقول للشي‏ء كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشي‏ء كن فيكون"1.
 
3 - 2 - 3. سكون الخاطر
 
إنّ السائرين في طريق القرب إلى الله لهم قلوب مطمئنة:
 
يقول القرآن الكريم: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ2.
 
وباكتسابهم للتأييد الإلهي لا ينالهم أيّ خوفٍ ووحشة وحزنٍ وغمْ ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ3.
 
وفي النهاية فإنّ هذه النفوس المطمئنة هي تلك النفوس الواصلة إلى مقام رضاها عن الله ورضى الله عنها والفائزة بالسعادة الأبدية:
 

 

﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي4.
 
4 - 2 - 3. الدنيا
 
إنّ الإنسان باختياره يمكنه أنّ يختار في هذه الدنيا إمّا سعادته الأبدية أو الشقاوة الأبدية.
والآخرة بالنسبة للإنسان هي ذلك المكان الّذي سيجد فيه نتيجة أعماله. ولذا فإنّ الدنيا وسيلة من وسائل تحصيل الآخرة.
 
 
 

1- نفس  المصدر، ج‏90، ص 376.
2- الرعد 13: 28.
3- يونس 10: 62.
4- الفجر 89: 27 - 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
318

310

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 يقول الإمام الصادق عليه السلام: "نِعَم العون الدنيا على الآخرة"1.

 
وبناءً على الرؤية الكونية للإسلام فإنّه يعتبر الدنيا مرحلة قصيرة جداً في حياة الإنسان وبالتالي فإنّ حبّ الدنيا والركون إليها والتعلّق بها وبعبارة أخرى فإنّ جعلها في حدّ ذاتها هدفاً غائياً يوجب الغفلة عن الكمال الحقيقيّ للإنسان وعن الحياة الأخروية الأبدية، ولهذا فقد كانت مورداً للمذمة في الإسلام واعتُبر أنها منبع كلّ الأعمال الرذيلة، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "رأس كلّ خطيئة حبّ الدنيا"2.
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال:
 
"مَن أبصر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته"3.
 
5 - 2 - 3. الانسجام العقلانيّ ورعاية الحدّ الوسط
 
إنّ للإنسان رغبات وميولاً مختلفة ومتزاحمة فيما بينها وبالتالي فإنّه باختياره منها يمكنه تحصيل الكمالات الأخلاقيّّة والوصول إلى مراتب من كمال الوجود الّتي لا يمكن لغيره من الموجودات الوصول إليها. وللعقل دور مهمّ في الحكم بين هذه الميول المتزاحمة بما يوجب تأمين خير الإنسان وكماله الحقيقيّ، ولذا فإنّ إطاعته وتبعيته في ذلك توجبان تحصيل هذا الكمال.
 
يقول الإمام علي عليه السلام: "إنّ الله ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة وركّب في البهائم شهوة بلا عقل وركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقلُه شهوتَه فهو خير من الملائكة ومن غلب شهوتُه عقلَه فهو شرّ من البهائم"4.
 
ويقول أيضاً: "إنّ أفضل الناس عند الله من أحيا عقله وأمات شهوته"5.
 
ومع الالتفات إلى تزاحم الأمور الاختيارية فإنّ الإفراط أو التقصير في تأمين الحاجات المختلفة عند الإنسان ربما يؤدي إلى الضرر في تأمين المطلب الأصليّ له،
 
 
 

1- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏5. ص 72.
2- نفس المصدر، ج‏2، ص 315.
3- نهج البلاغة، الخطبة 82.
4- محمّد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏15، ص 209 - 210.
5- حسين بن محمّد تقي النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج‏11، ص 61.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
319

311

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

  ولهذا فإنّ المذهب الأخلاقيّّ في الإسلام يوصي برعاية الحدّ الوسط، يقول الإمام عليّ عليه السلام: "خير الأمور النمط الأوسط إليه يرجع الغالي وبه يلحق التالي"1.

 
ولكن بالنسبة لهذه القاعدة فإنّ المذهب الأخلاقيّّ في الإسلام يرى ضرورة الالتفات إلى نكتتين:
 
الأولى: أنّ هذه القاعدة هي قاعدة عملية صرف لتحصيل الكمالات الحقيقيّة والفضائل الأخلاقيّّة، إلّا أنّ الفضائل كلما كانت أكثر كلما كانت مطلوبة بشكل أكبر أيضاً ولهذا السبب فإنّ المذهب الأخلاقيّّ الإسلاميّ يعتبر السعادة والفوز والفلاح والتقوى قيّمة مطلقاً وبالتالي فإنّ أعلى حدٍ ممكن من هذه الأمور والذي هو أعلى مراتب القرب من الله هو المطلوب منها.
 
الثانية: إنّ الحدّ الوسط المطلوب - وأي أفضل الطرق تأثيراً في تحصيل الهدف الأصلي - يتفاوت في الأمور المختلفة ولذا فإنّ الدين الإسلاميّ لم يكتفِ بهذه القاعدة فقط في تحصيل الوظائف الأخلاقيّّة. ومضافاً إلى ذلك فإنّ الأوامر الأخلاقيّّة المختلفة والمبينة في النصوص الدينيّة قد عيّنت الحدّ الوسط المطلوب في مختلف الأمور2.
 
4 - القيمة الغيرية
 
1 - 4. النية والعمل الصالح‏
 
كما تقدم معنا في الفرع الثاني من هذا الفصل (معرفة الإنسان في الإسلام) حيث قلنا إنّ الإنسان مرتهن بأفعاله الاختيارية وإن أعماله تؤثّر في روحه كذلك فإنّ نتائجها تعود إليه في نهاية الأمر، ولهذا السبب فإنّ قيمة الأفعال غير متساوية بل إنها تتفاوت عند الفاعل تبعاً لنتائج نفس الأفعال الحسنة والقبيحة.
 
 
 

1- عبد الواحد بن محمّد التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 104.
2- من جملة مصاديق هذا الكلام ما ورد حول الإسراف والتقتير حيث يقول تعالى مبيناً الحد الوسط في الإنفاق: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا..." ومضافاً إلى ما تقدم فإنّ بعض الأمور لا تحتمل وجود الحد الوسط فيها كما هو الحال في مورد صلة الرحم وقطيعته، وعقوق الوالدين والبر بهما والإيمان والكفر... الخ (المترجم).

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
320

312

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 وعليه فإنّ بعض الأعمال تكون صالحة وحسنة وبعضها الأخرى سيئة وقبيحة، وكذلك فإنّ الطريق الموصل إلى السعادة والكمال الحقيقيّ يسمّى الطريق المستقيم وطريق الحق والهداية وفي مقابل ذلك طرق الباطل والضلالة.

 
كذلك فإنّ طريق الحق لا يعيَّن برأي الفرد أو أكثر الأفراد، بل إنّ مجموع الأحكام العمليّة الدينيّة هي الّتي تعرفنا إلى الصراط المستقيم. ولهذا فإنّ الله أرسل الأنبياء في كلّ زمان لإرشاد الإنسان إلى هذا الطريق ولإعانته على تزكية نفسه من الرذائل.
 
والإنسان المسلم يطلب من الله يومياً في صلاته وعلى الأقلّ عشر مرات في اليوم أنْ يهديه إلى الصراط المستقيم وأنْ يعينه في الوصول إلى الهدف.
 
يقول الله في كتابه الكريم:
 

 

﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَة1.
 

 

﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ..2.
 

 

﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ3.
 

 

﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا4.
 

 

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا5.
 

 

﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ6.
 

 

﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ 
 
 
 

1- فصلت 41: 34.
2- الشورى 42: 52 و 53.
3- محمّد 47: 3.
4- النساء 4: 116.
5- يونس 10: 108.
6- الأنعام 6: 116.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
321

313

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ 1.

 
وعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"2.
 
ويقول القرآن الكريم أيضاً:
 
"وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين"3
 

 

﴿اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ4.
 
وبناءً على ذلك فإنّ الأساليب والأعمال الخاصّة المقبولة في نظر الدين هي المناسبة فقط لسعادة الإنسان الحقيقيّة. ولهذا السبب فإنّ نوع العمل مؤثر في قيمة الأفعال الاختيارية. إلّا أنّ المبدأ للأفعال الاختيارية والعامل الأصليّ لتعيين قيمتها هو نية الفاعل لها ولذا فإنّ كلّ من يقوم بأيّ عمل ليس له من عمله إلّا ما نواه.
 
وفي هذا المجال ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "كل عاملٍ يعمل على نيته"5.
 
وعنه أيضاً: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرى‏ء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"6.
 
وقال أيضاً: "إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته يقول الله عزَّ وجلَّ اجعلوها في سجّين إنّه ليس إياي أراد بها"7.
 
وبناءً عليه فإنّ الإسلام يعتبر العمل قيّماً إذا اشتمل مضافاً إلى الحسن الفعليّ على الحسن الفاعليّ ومثل هذا العمل المشتمل على الحسنين يسمّى عبادة والتي هي الوظيفة الكلية للإنسان:
 
 
 

1- آل عمران 3: 164.
2- حسين بن محمّد تقي النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج‏11، ص 187.
3- آل عمران 3: 85.
4- الفاتحة 1: 6.
5- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏2، ص 84.
6- حسين بن محمّد تقي النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل ج‏1، ص 90.
7- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏2، ص 295 - 294.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
322

314

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 

﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ1.

 

 

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ2.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير العبادة قال: "حسن النية بالطاعة من الوجوه الّتي يُطاع الله منها"3.
 
2 -4. أكثر الأعمال قيمة
 
يوجد عاملان مؤثران في تعيين أفضل الأعمال وأكثرها قيمة أحدها خلوص النية أيّ الإتيان بالعمل فقط من أجل التقرّب إلى الله وكسب رضاه، وثانيهما كون الإتيان بالفعل موجباً لدرك الاحتياج الكامل إلى الله وموجباً لتأمين أعلى درجات الرضا من قبل الله.
 
وبالالتفات إلى درجات النية فقد اعتبر الإسلام أنّ العمل الناشى‏ء عن النية الخالصة القربية هو أفضل الأعمال وأكثرها قيمة.
 
عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: "خير العمل ما صحبه الإخلاص"4.
 
كذلك فإنّ عبادات الناس لها درجات مختلفة من حيث النية فتارة تكون لمجرد التقرب إلى الله وتارة أخرى من أجل الوصول إلى النعم الأخروية أو النجاة من النار والعذاب.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ العباد ثلاثة: قومٌ عبدوا الله عزَّ وجلَّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقومٌ عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقومٌ عبدوا الله عزَّ وجلَّ حبّاً له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة"5.
 
وفي هذا المجال أيضاً يقول الإمام عليّ عليه السلام: "إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك ولا طمعاً في ثوابك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك"6.
 
 
 

1- يس 36: 61.
2- الذاريات 51: 56.
3- محمّد بن يعقوب الكليني، نفس المصدر، ص 83.
4- عبد الواحد بن محمّد التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 155.
5- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏2، ص 84.
6- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏41، ص 14.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
323

315

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 وكذلك فقد ورد التعبير في النصوص الدينيّة عن العديد من الأعمال من حيث شكل العمل بأنّها من أفضل الأعمال، ومن جملتها يمكن الإشارة إلى أنّ أفضل أشكال إظهار العبودية هو هداية الناس إلى الصراط المستقيم والإحسان إلى عباد الله وخدمتهم، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمنٍ تطرد عنه جوعته وتكشف عنه كربته"1.

 
وعن الإمام علي عليه السلام قال: "الله الله في الصلاة فإنّها خير العمل"2.
 
ونقل عنه أيضاً أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له يوم خيبر: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس"3.
 
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال: "أحبّ عباد الله إلى الله جلّ جلاله أنفعهم لعباده وأقومهم بحقه"4.
 
3 - 4. أسوأ الأعمال قيمة
 
إنّ الأعمال الموجبة لإعراض الإنسان وإدباره عن الله والمبارزة معه نظير الشرك والنفاق والتكبّر على الله، وكذلك الزهد بمن هو محتاج إلى محبتنا وعطفنا، وإضلال الناس، تعتبر من أسوأ الأعمال، واعتُبر المرتكب لها بأنّه من أظلم الناس وأبغض العباد إلى الله.
 
يقول الله في قرآنه الكريم: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا5.
 

 

﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا6.
 

 

﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ7.
 
 
 

1- محمّد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏16، ص 353.
2- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏7، ص 52.
3- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏32، ص 448.
4- نفس المصدر، ج 4، ص 154.
5- السجدة 32: 22.
6- النساء 4: 116.
7- النساء 4: 145.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
324

316

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 وعن الإمام الباقر عليه السلام ، قال: "وما أحدٌ أبغض إلى الله عزَّ وجلَّ ممن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده"1.

 
ويقول الله عزَّ وجلَّ أيضاً في قرآنه الكريم:
 

 

﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ 2.
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رجلاً من خثعم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أيّ الأعمال أبغض إلى الله عزَّ وجلَّ؟
 
فقال: الشرك بالله، قال: ثمّ ماذا؟ قال: قطيعة الرحم، قال: ثمّ ماذا؟ قال: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف3.
 
وبناءً على ذلك فإنّ أعمال الإنسان من جهة النية ونوع العمل ذات مراتب مختلفة من القيمة، وكذلك فإنّ للأفراد درجات مختلفة من ناحية القيمة الأخلاقيّّة:
 

 

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ4.
 
5 - القيمة البديلة
 
يعتبر الإسلام أنّ الإنسان المتقدم في عمله والساعي نحو أفضلها مغبوط من قبل الآخرين، وأنّ الإنسان الّذي لا يتقدّم في أعماله ولا يقوم بتطويرها فهو مغبون وخاسر، وأنّ المختار للأفعال السيئة بعيد من رحمة الله تعالى.
 
يقول الإمام الصادق عليه السلام: "من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط ومن كان آخر يوميه شرّهما فهو ملعون"5.
 
ومن الممكن أيضاً أنْ يكون نوع العمل والذي هو من ناحية القيمة الغيرية ليس ضد القيمة بل قد تكون له قيمة مثبتة أيضاً فمن الممكن أنّ يكون بالنسبة لبعض الأفراد
 
 
 

1- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏2، ص 290.
2- الأنعام 6: 144.
3- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏2، ص 290.
4- الأحقاف 46: 19.
5- محمّد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏16، ص 49.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
325

317

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 وبالمقايسة بدرجة كمالهم ذا قيمة بديلة، ومن الممكن أنّ يكون نفس هذا العمل أيضاً وبالنسبة إلى أفراد آخرين وبالمقايسة بدرجة كمالهم ليس ذا قيمة بديلة، وبنحو يوجب هذا العمل سقوط أصحاب الدرجات العليا عن درجتهم نحو الأسفل أو صعود أصحاب الدرجات الدنيا إلى أعلى الدرجات ولهذا السبب قيل (نقل أيضاً عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم): "حسنات الأبرار سيئات المقربين"1.

 
6- الغيرية والأنانية (النفسية)
 
يعتبر الإسلام أنّ خير الآخرين يوازي من حيث الإهمية - على الأقل - الخير العائد إلى أنفسنا.
 
عن الإمام علي عليه السلام: "ارضَ للناس ما ترضى لنفسك وآتِ إلى الناس ما تحب أنّ يؤتى إليك"2.
 
ومضافاً إلى ذلك فإنّ ترجيح خير الآخرين على خيرنا ومصلحتنا ذو قيمة كبرى.
 
ولذا فقد اعتُبر الإيثار ومصاديقه المختلفة كالإنفاق مثلاً من جملة الفضائل الأخلاقيّّة.
 
ويقول القرآن الكريم في مدح طائفة من المؤمنين: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ3.
 
بل وأوصى الإسلام بتقديم الآخرين على أنفسنا حتى في الأمور المعنويّة كالدعاء مثلاً.
 
رويَ عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أنّه قال: "رأيت أمّي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتّضح عمود الصبح, وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتُكثر الدعاء لهم, ولا تدعو لنفسها بشي‏ء،
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏25، ص 205.
2- محمّد بن على بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، ج‏4، ص 382.
3- الحشر 59: 3.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
326

318

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بُنيَّ الجار ثمّ الدار"1.

 
إلا أنّ هذه الغيرية لا تتنافى مع الأنانية الحقيقيّة، لأنّ نتائجها الحسنة ستعود إلى نفس الفاعل أيضاً. ويضيف القرآن الكريم في نفس الآية الّتي يمدح فيها أهل الإيثار قائلاً:
 

 

﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون2.
 
وورد في الروايات الشريفة أنّ الدعاء للمؤمنين وطلب المغفرة لهم يوجب إعطاء الله للداعي مثل ما دعا لهم وأنهم يشفعون له يوم القيامة فيشفع الله له، ويحسن إليه ويمحو عنه السيئات ويزيد له في الدرجات3.
 
نعم قد تتزاحم الغيرية في بعض الموارد مع كمال الإنسان الحقيقيّ ولذا لن تكون في هذه الصورة ذات قيمة بديلة. ولهذا فقد أوصيَ أيضاً برعاية حدّ الوسط والاعتدال في مورد الغيرية.
 
يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
 

 

﴿"وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا4.
 

 

﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا5.
 
بل وفي بعض الموارد قد يرجّح النفسيّ على الغيريّ كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال:
 
"حجَّةٌ خيرٌ من بيتٍ من ذهب يتصدّق به حتى لا يبقى منه شي‏ء"6.
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏43، ص 81 - 82.
2- الحشر 59: 9.
3- محمّد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏7 ص 114 و 115.
4- الفرقان 25: 67.
5- الإسراء 17: 29.
6- محمّد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏11، ص 114.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
327

319

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 7 - الإلهية والأنانية (النفسية)

 
كما تقدم معنا فإنّ الإسلام يعتبر الفوز والفلاح - وبعبارة أخرى السعادة الأبدية للإنسان - ذا قيمة ذاتية وملاكها مقدار التقوى والقرب من الله والذي يتحصّل في ظلّ اختيار الإنسان نفسه وبإرادته، وقد دعا الإسلام إليه وأكد عليه ولذا لا يرى الإسلام أيّ منافاة بين العمل من أجل سعادتنا الحقيقيّة والعمل من أجل الله تعالى.
 
يقول القرآن الكريم: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا"1.
 
بل إنّ القرآن الكريم في الموارد الّتي يدعو فيها إلى الغيرية فإنّه لا يرى وجود أيّ منافاة بينها وبين الإلهية والنفسية، لأنّ نفس العمل أيضاً ينفع الفاعل له وموجب لرضا الله عنه.
 
يقول الله تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ2.
 
8 - أساليب تشخيص القيمة
 
الإسلام يدعو الإنسان إلى التعقّل وبالإجمال فإنّه يعتبر العقل مفيداً ولازماً لتشخيص القيم الأخلاقيّّة.
 
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها الّتي لا يُنتفع بشي‏ء إلّا به العقل، والذي جعله الله زينة لخلقه ونوراً لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم... وعرفوا الحسن من القبيح"3.
 
ومن طرف آخر فإنّ التجربة العمليّة أيضاً مؤثرة في تشخيص بعض نتائج الأفعال وبالتالي لا بدّ من الاستفادة منها:
 
 
 

1- النساء 4: 74.
2- البقرة 2: 272.
3- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏1، ص 29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
328

320

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 عن الإمام عليّ عليه السلام قال: "فإنّ الشقيّ من حُرم نفع ما أُوتي من العقل والتجربة"1.

 
لكن وعلى الرغم من كون العقل وسيلة لإدراك وتشخيص الصواب من الخطأ والحسن من القبيح إلّا أنّه لا يحكم بشكل قطعيّ إلّا في الموارد الّتي توجد فيها بشكل مباشر أو بواسطة مقدمات معلومات قطعية.
 
وكذلك فإنّ التجربة العمليّة عند الإنسان محدودة في نهاية الأمر بالنتائج الدنيويّة. ولذا فإنّ الإسلام لا يعتبر العقل والتجربة كافيين لتشخيص قيم كلّ الأعمال ولزومها، بل يعتقد بأنّ النوع الإنسانيّ يحتاج إلى هداية الوحي السماويّ ليتعرّف من خلاله إلى الأعمال الحسنة والقبيحة والأحكام اللازمة لسعادته.
 
لقد اعتبر القرآن الكريم أنّ بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي منة من الله على العباد وأنه معلم الوحي ومزكّي نفوس المؤمنين والمنقذ لهم من الضلال:
 

 

﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ2.
 
وعن الإمام السجاد عليه السلام: "إنّ دين الله لا يُطلب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة ولا يُصاب إلّا بالتسليم فمن سلَّم لنا سلِم ومن اهتدى بنا هُديَ، ومن دان بالقياس والرأي هلك"3.
 
9 - الحدّ الأقل للقيم واللزوم الاخلاقيين‏
 
مع الالتفات إلى أنّ القسم الأساس والأهمّ من حياة الإنسان يبدأ بعد الموت، وأنّ سعادته أو شقاءه الأبديّين مرتهَن بإيمانه بالله والنبوّة والمعاد، وعليه فالإيمان هو الشرط القيميّ للأعمال الصالحة. وقد أشار العديد من الآيات القرآنية إلى أنّ الكفر بالله والرسول والمعاد والشرك والنفاق يوجب الخسران الأبديّ وحبط الأعمال
 
 
 
 

1- نهج البلاغة، الرسالة 78.
2- آل عمران 3: 164.
3- محمّدباقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏2، ص 303.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
329

321

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 وبطلانها وعذاب جهنم:

 

 

﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ1.
 

 

﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيد2.
 
 

 

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور3.
 

 

﴿"وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ4.
 
وبناءً عليه فإنّ أعمال الكفّار والمشركين وإن كان ظاهرها حسناً وبالرغم من كون نتائجها الدنيويّة مطلوبة لهم أيضاً إلّا أنّ ذلك لن ينقذهم من الشقاء الأبديّ5.
 
ومن ثمّ فإنّ الإيمان فعلٌ اختياريّ واعتقاد باطنيّ ولذا فإنّ النفاق في إظهار الإيمان يساوي من حيث نتيجة الأعمال الكفر، يقول الله في كتابه الكريم:
 

 

﴿إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا6.
 
 
 

1- المائدة 5: 5.
2- إبراهيم 14: 18.
3- النور 24: 39 - 40.
4-الزمر 39: 65.
5- للاطلاع على ما يتعلق بالكفر بالله ورسوله راجع: الفتح 48: 13, وحول تكذيب الآيات راجع: آل عمران 3: 4, النساء 4: 56, المائدة 5: 10 و86, الأنعام 6: 49, الأعراف 7: 36, الحج 22: 57, الزمر 39: 63.
وحول الكفر بالمعاد راجع: الأنعام 6: 27 و29 - 31, الأعراف 7: 47, يونس 10: 7 - 8, الفرقان 25: 11, النمل 27: 4, سبأ 34: 8, الزمر 39: 71.
وحول الكفر بالآيات والمعاد راجع: العنكبوت 29: 23, الروم 30: 16,
وحول الكفر بالله والملائكة والرسل والكتب والمعاد راجع: النساء 4: 136.
وحول الكفر بالإسلام راجع: آل عمران 3: 85.
وحول الشرك راجع النساء 4: 116, التوبة 9: 113, الإسراء 17: 39, الحج 22: 31, الزمر 39: 65.
6- النساء 4: 140.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
330

322

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 

﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا1.

 
وفي رأي الإسلام أيضاً أنّ الإيمان ذو مراتب ودرجات متعدّدة وأنّه يقبل الزيادة أيضاً:
 

 

﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ2.
 

 

﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا3.
 
وفي المقابل فإنّ الشرك مراتب أيضاً وإن أكثر المؤمنين لديهم مرتبةٌ ما منه:
 

 

﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ4.
 
كذلك فإنّ الحدّ الأقلّ من الإيمان اللازم لتحصيل الحدّ الأقل من السعادة الأبدية هو الإيمان بالله الواحد الأحد ولوازمه أيّ الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمعاد والتكاليف الدينيّة وما ورد في الكتاب السماوي كالإيمان بالملائكة والكتب السماويّة والأنبياء السابقين:
 

 

﴿وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا5.
 

 

﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير6.
 
وكما أشرنا فإنّ الإيمان بكلّ هذه الأمور ناشى‏ء عن الإيمان بالله الواحد، ولذا فإنّ أعلى درجات الإيمان هو التوحيد الكامل الشامل لكل أقسامه أيّ التوحيد في الخالقية (لا خالق سوى الله) والتوحيد في العبودية(لا معبود سواه) ، والتوحيد في الربوبية التكوينيّة والتشريعية (لا رب ولا مقنن سوى الله)، والتوحيد في الاستعانة (لا يستعان
 
 
 

1- النساء 4: 145.
2- الفتح 48: 4.
3- الأنفال 8: 2.
4- يوسف 12: 106.
5- النساء 4: 136.
6- البقرة 2: 285.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
331

323

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

  إلّا بالله)، والتوحيد في الخوف والرجاء (لا خوف إلّا منه ولا رجاء إلّا به)، والتوحيد في المحبة والرضا (لا نحب سواه وإننا راضون عنه).

 
وهو (أي التوحيد) منشأ كلّ الأعمال الحسنة وأفضلها.
 
عن محمّد بن سماعة قال: "سأل بعض أصحابنا الصادق عليه السلام فقال له: أخبرني أيّ الأعمال أفضل؟ قال: توحيدك لربّك"1.
 
وبناءً عليه فإنّ للمؤمنين درجات مختلفة أيضاً.2
 

 

﴿أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ3.
 
وكما ترى فإنّ الإيمان شرط لازم لتحصيل السعادة الأخروية إلّا أنّ ذلك مشروط أيضاً بالعمل الصالح لأنّه وكما أنّ النية منشأ العمل الموافق لها فإنّ الإيمان الحقيقيّ يستلزم وجود العمل الصالح أيضاً:
 
عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ولكنّ الإيمان ما خلص في القلب وصدَّقته الأعمال"4.
 
وقد ذكر الله الإيمان مع العمل الصالح في أكثر من خمسين آية من القرآن الكريم واعتبر أنّ التقرّب منه والسعادة الأبدية ناتجة عنهما:
 

 

﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا5.
 

 

﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ6.
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏3، ص 8.
2- أيضاً راجع: النساء 4: 95 - 96، التوبة 9: 20, الحديد 57: 10.
3- الأنفال 8: 4.
4- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏66، ص 72.
5- سبأ 34: 37.
6- البقرة 2: 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
332

324

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 10 - الواقعيّّة القابلة للإثبات‏

 
1 - 10. قابلية إثبات الأحكام الأخلاقيّّة
 
سؤال: مع ملاحظة ما تقدم من توصيف المذهب الأخلاقيّّ الإسلاميّ لماذا يجب عدّ هذا المذهب من جملة المذاهب الواقعيّّة؟
 
كما تقدم معنا قوله فإنّ الأوامر والارشادات العمليّة الدينيّة إنما هي من أجل هداية الإنسان إلى السعادة الحقيقيّة. وقد صرحت الآيات القرآنية بالنتائج الحسنة والعظيمة لإطاعة هذه الأوامر وتأثيرها في سعادة الإنسان الحقيقيّة. وفي الواقع فإنّها بيّنت علل تشريع هذه الأحكام، ومن جملتها:
 

 

﴿اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى1.
 

 

﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً2.
 

 

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ3.
 

 

﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ4.
 

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ5.
 

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون6.
 
 
 

1- المائدة 5: 8.
2- الإسراء 17: 35.
3- العنكبوت 29: 45.
4- البقرة 2: 184.
5- المائدة 5: 90 - 91.
6- الحج 22: 77.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
333

325

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 وكذلك فقد بيّنت الروايات الشريفة الكثير من العلل الواقعيّّة لتشريع الأحكام1.

 
وبناءً عليه فإنّ قيم ولزوم الأمور الاختيارية عند الإنسان وبحسب نتائجها الواقعيّّة المطلوبة أو غير المطلوبة للإنسان قابلة للتبيين والإثبات، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ الإنسان بإمكانه معرفة علل قيمة ولزوم كلّ الأحكام والتشريعات لأنّ من غير الممكن معرفته بتمام النتائج المطلوبة وغير المطلوبة لكلّ أموره الاختيارية بل إنّ المراد من قابلية الأحكام الأخلاقيّّة للإثبات أنّه وبناء على قاعدة واحدة كلية فإنّ قيمة ولزوم أيّ أمر اختياريّ إنما هو بسبب تأثيره الواقعيّّ في كمال الإنسان أو نقصه الحقيقيّ.
 
الأسئلة
 
1 - اذكر رأي الإسلام باختصار حول الموضوعات التالية مؤيداً قولك بالنصوص الدينيّة:
 
- حقيقة الإنسان.
 
- القيمة الذاتية والنهائية.
 
- لوازم القيمة النهائية.
 
- اللذة.
 
- القدرة.
 
- سكون الخاطر والنفس.
 
- مذمة التعلق بالدنيا.
 
- الانسجام العقلاني ورعاية الحد الوسط.
 
 
 

1- قام محمّد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (305 - 380 هـ. ق) في كتابه علل الشرائع بجمع الروايات الواردة حول علل تشريع الأحكام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
334

326

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 - النية والعمل الصالح.

- أكثر الأعمال قيمة.
- أسوأ الأعمال قيمة.
- القيمة البديلة.
- الغيرية والأنانية (النفسية).
- الإلهية والأنانية (النفسية).
- أساليب تشخيص القيمة.
- الحدّ الأقلّ من القيمة واللزوم الأخلاقيّين.
- الواقعيّّة.
- قابلية الأحكام الأخلاقيّّة للإثبات.
 
2 - مع التدقيق في مضمون النصوص التالية اذكر إلى أيّ واحد تشير من الأقسام الأصلية للمذهب الأخلاقيّ الإسلامي:
 
- القرآن الكريم.
 

 

﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ1.

 

﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا2.

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ3.

 

﴿رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ4.

 

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً
 
 
 

1- المؤمنون 23: 99 - 100.
2- الإسراء 17: 7.
3- المائدة 5: 105.
4- المائدة 5: 19, التوبة 9: 100, المجادلة 58: 22, البينة 98: 8.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
335

327

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

  عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا1.

 

 

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ 2.
 

 

﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ3.
 

 

﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ4.
 

 

﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ5.
 

 

﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا6.
 

 

﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ7.
 

 

﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا8.
 

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ9.
 
 
 

1- النساء 4: 66 - 68.
2- محمّد 47: 2.
3- الأنعام 6: 32.
4- هود 11: 15 - 16.
5- آل عمران 3: 163.
6- الإنسان 76: 7 - 10.
7- الروم 30: 38.
8- الفرقان 25: 23.
9- آل عمران 3: 116 - 117.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
336

328

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ1.

 

 

﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا2.
 
ونقل عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الله عزَّ وجلَّ قال له في ليلة المعراج: "... فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح بعسرٍ أم بيسرٍ وإذا كان العبد في حالة الموت يقوم على رأسه ملائكة... فتطير الروح من أيدي الملائكة فتصعد إلى الله تعالى في أسرع من طرفة عينٍ ولا يبقى حجاب ولا ستر بينها وبين الله تعالى والله عزَّ وجلَّ إليها مشتاق... فتقول الروح إلهي عرّفتني نفسك فاستغنيت بها عن جميع خلقك وعزتك وجلالك لو كان رضاك في أنّ أُقطّع إرباً إرباً وأُقتل سبعين قتلة بأشدّ ما يُقتل به الناس لكان رضاك أحب إليَّ... فقال الله عزَّ وجلَّ وعزتي وجلالي لا أحجب بيني وبينك في وقت من الأوقات كذلك أفعل بأحبائي... فمن عمل برضاي ألزمه ثلاث خصال: أعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين فإذا أحبني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي..."3.
 
- وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال:
 
"ما من عبدٍ إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء فإنّ تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يُغطى البياض فإذا غطَّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً وهو قول الله عز وجل ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ 4"5.
 
 
 

1- النساء 4: 136.
2- آل عمران 3: 145.
3- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏74، ص 27 - 28.
4- المطففين 83: 14.
5- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏2، ص 273.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
337

329

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 - عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

 
"لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عزَّ وجلَّ ما مدّوا أعينهم إلى ما متّع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها وكانت دنياهم أقلّ عندهم مما يطؤونه بأرجلهم ولنُعِّموا بمعرفة الله جلَّ وعزَّ وتلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله، إنّ معرفة الله عزَّ وجلَّ آنس من كلّ وحشة وصاحب من كلّ وحدة ونور من كلّ ظلمة وقوة من كلّ ضعف وشفاء من كلّ سقم"1.
 
- قال الإمام الباقر عليه السلام لابنه الإمام الصادق عليه السلام:
 
"عليك بالحسنة بين السيئتين تمحوها. قال: وكيف ذلك يا أبتِ؟ قال: مثل قول الله ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا2، لا تجهر بصلاتك سيئة، ولا تخافت بها سيئة، ﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً3، حسنةٌ. ومثل قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ...4، ومثل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا5، فأسرفوا سيئة وأقتروا سيئة ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا6 7، حسنةٌ فعليك بالحسنة بين السيئتين"8.
 
- عن الإمام موسى بن جعفرعن آبائه عليهم السلام "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أغزى علياً في سرية وأمر المسلمين أنّ ينتدبوا معه في سريته فقال رجلٌ من الأنصار لأخٍ له أُغزُ بنا في سرية علي عليه السلام لعلنا نصيب خادماً أو دابة أو شيئاً نتبلغ به، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلمقوله، فقال: إنما الأعمال بالنيات ولكل امرى‏ء ما نوى فمن غزا ابتغاء ما عند الله عزَّ وجلَّ فقد وقع أجره على الله عزَّ وجلَّ ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً 
 
 
 

1- نفس المصدر، ج‏8، ص 247.
2- الإسراء 17: 110.
3- المصدر السابق.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه: 27.
6- الفرقان 25: 67.
7- المصدر نفسه.
8- محمّد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏8، ص 397 - 398.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
338

330

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 لم يكن له إلّا ما نوى"1.

 
- عن الإمام السجاد عليه السلام ، قال: "... واغرس في أفئدتنا أشجار محبتك وأتمم لنا أنوار معرفتك وأذقنا حلاوة عفوك ولذة مغفرتك وأقرر أعيننا يوم لقائك برؤيتك وأخرج حب الدنيا من قلوبنا كما فعلت بالصالحين من صفوتك والأبرار من خاصتك.."2.
 
- عن الإمام علي عليه السلام قال:
 
"إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار"3.
 
- عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
 
"... من نام عن فريضة أو سنّة أو نافلة فاته بسببها شي‏ء فذلك نوم الغافلين وسيرة الخاسرين وصاحبه مغبون، ومن نام بعد فراغه من أداء الفرائض والسنن والواجبات من الحقوق فذلك نومٌ محمود..."4.
 
- عن الإمام علي عليه السلام في جواب من سأله عن أشقى الخلق. قال: "من باع دينه بدنيا غيره"5.
 
- عن الإمام علي عليه السلام قال: "العقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة وكلاهما يؤدي إلى المنفعة... وليس العاقل من يعرف الخير من الشرّ ولكنّ العاقل من يعرف خير الشرَّيْن"6.
 



1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏67، ص 212.
2- نفس المصدر، ج‏91. ص 152، مقتطف من مناجاة الزاهدين.
3- نهج البلاغة، الحكمة 237.
4- حسين بن محمّد تقي النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج‏5، ص 23.
5- محمّد بن علي بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، ج‏4، ص 383.
6- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج‏75، ص‏6.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
339

331

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 للبحث

 
1 - قم بمراجعة الآيات (103 - 106) من سورة الكهف واذكر على ما تدل من مواضيع هذا الفصل.
 
2 - قم بمراجعة الآيات (261 - 274) من سورة البقرة وابحث عن الصور المختلفة لقيمة الإنفاق والغيرية والرابطة بينها وبين الأنانية (النفسية).
 
3 - عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لضربة علي أفضل من عبادة الثقلين"1.
 
راجع قصة يوم الخندق، ومع الالتفات إلى ملاكات أفضل الأعمال، ابحث حول سبب تفضيل ما قام به أمير المؤمنين عليه السلام على كلّ عبادات الجنّ والإنس.
 
4 - مع ملاحظة الروايات التالية، ابحث حول حقيقة النية وتأثيرها:
 
أ - عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول: يا ربّ ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير فإذا علم الله عزَّ وجلَّ ذلك منه بصدق نية كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله إنّ الله واسع كريم"2.
 
ب - عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنما خُلِّد أهل النار في النار لأنّ نياتهم كانت في الدنيا أنْ لو خلّدوا فيها أنّ يعصوا الله أبداً وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أنّ لو بقوا فيها أنّ يطيعوا الله أبداً، فبالنيات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء، ثمّ تلا قوله تعالى ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ3، قال, كلّ على نيته"4.
 
ج - يقول الإمام الصادق عليه السلام حول قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا5 "ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة، ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ من العمل والعمل الخالص الّذي لا تريد أنّ يحمدك عليه أحدٌ إلّا الله عزَّ وجلَّ والنية أفضل من العمل ألا وإن النية هي العمل، ثمّ تلا قوله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ6، يعني على نيته"7.
 
 
 

1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 39، ص 2.
2- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏2، ص 85.
3- الإسراء 17: 84.
4- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي ، ج‏2، ص 85.
5- هود 11: 7, الملك 67: 2.
6- الإسراء 17: 84.
7- محمّد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏2، ص 16.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
340

332

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 5 - كما قلنا في البحوث الفلسفية فإنّ قيمة الفعل الاختياريّ تابعة لنتيجة العمل الّتي قصدها الفاعل في نهاية الأمر. وقد صرّح أيضاً بعض الآيات القرآنية1 بأنّ جزاء العمل على مقدار العمل الاختياريّ. ومع الالتفات إلى هذا الأصل إبحث2 حول الاختلاف الظاهريّ للموارد التالية مع مضمون هذا الأصل:

 
أ - يشير بعض الآيات القرآنية3، إلى أنّ ثواب بعض الأعمال أو عقابها أكثر من نفس العمل في حدّ ذاته.
 
ب - على الرغم من أنّ الإسلام لا يقول بالشفاعة لكلّ شخصٍ ومن كلّ شخص وقد أكدت ذلك الآيات القرآنية4 إلّا أنّ أصل الشفاعة مسلّمٌ به ضمن بعض الشروط وقد أشار بعض الآيات القرآنية5 إلى ذلك أيضاً.
 
ج - من الأصول المسلّمة في الإسلام تكفير الأعمال السيئة وغفران الذنوب، وقد صرحت بذلك آيات كثيرة6 من القرآن الكريم.
 
 
 
 

1- نظير ما ورد في سورة يونس 10: 52 والنجم 53: 39.
2- راجع تفسير الآيات المذكورة، محمّد تقي مصباح اليزدي، اخلاق در قرآن، ج‏1، ص 40 - 44.
3- نير البقرة 2: 261، الأنعام 6: 160 والنحل 16: 25.
4- راجع: البقرة 2: 48 و 123 و 254.
5- راجع: البقرة 2: 255، الأنعام 6: 51 و70، يونس 10: 3، السجدة 32: 4, مريم 19: 87, طه 20: 109, الأنبياء 21: 28, سبأ 34: 23, الزمر 39: 44, الزخرف 43: 86, النجم 53: 26.
6- وذلك في أكثر من 200 مورد في القرآن الكريم، ومن جملة ما ورد حول تكفير الذنوب، راجع: البقرة 2: 271، النساء 4: 31, الأنفال 8
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
341

333

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 6 - مع التدقيق في كلام العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان1 حول ذيل الآية 66 من سورة النساء، أوضح كيفية استنباطه من هذه الآية حكاية الأحكام للواقع.

 
 
 
 
 

: 29, الفتح 48: 5, التغابن 64: 9, الطلاق 65: 5, التحريم 66: 8.
1- السيد محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج‏4، ص 433 وله أيضاً ترجمة تفسير الميزان، ترجمة السيد محمّد باقر موسوي الهمداني، ج‏4، ص 649.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
342

334

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

  المصادر العربية والفارسية

 
الكتب‏

1- القرآن الكريم‏.

2- نهج البلاغة، الدكتور صبحي الصالح، دار الهجرة، قم.

3- الصحيفة السجادية، اسوه، 1371 ه.ش.

4- هاير Haire، آلفرد جولز، زبان حقيقت ومنطق (اللغة، الحقيقة، والمنطق)، ترجمة منوچهر بزركمهر، دانشكاه صنعتى شريف طهران، 1356 ه.ش.

5- ابن سينا، حسين بن عبد الله، الإشارات والتنبيهات (مع الشرح للمحقق الطوسي)، نشر البلاغة، قم، 1375 هـ.ش.

6- ابن سينا، حسين بن عبد الله، الشفاء، الإلهيات، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم، 1404 هـ.ش.

7- ابن مسكويه، أحمد بن محمد، تهذيب الأخلاق، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1961م.

8- ابن مسكويه، أحمد بن محمد، كيمياى سعادت (كيمياء السعادة)، ترجمة طهارة الأعراق، ترجمة أبو طالب زنجاني، دفتر نشر ميراث مكتوب، طهران، 1375هـ.ش.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
343

335

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 9- اتكينسون، آر، اف، در آمدى به فلسفه اخلاق (المدخل إلى فلسفة الأخلاق) ترجمة سهراب علوى نيا، مركز ترجمة ونشر كتاب، طهران، 1370هـ.ش.


10- أرسطو، اخلاق نيكوماخوس، ترجمة محمّد حسن لطفي تبريزي، طرح نو، طهران، 1378هـ.ش.

11- استرن، جوزف بيتر، نيتشه، ترجمة عزت الله فولادوند، طرح نو، طهران، 1373 هـ.ش.

12- الأشعري، علي بن إسماعيل، كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، المكتبة الأزهرية للتراث.

13- أفلاطون، دوره كامل آثار افلاطون (الدورة الكاملة لآثار أفلاطون)، ترجمة محمّد حسن لطفي، خوارزمي، طهران، 1380هـ.ش.

14- باربور، ايان، علم ودين، ترجمة بهاء الدين خرمشاهي، مركز نشر دانشكاهى (الجامعي)، طهران، 1362هـ.ش.

15- بدوي، عبد الرحمن، الأخلاق النظرية، وكالة المطبوعات، الطبعة الثانية، الكويت، 1976م.

16- برن، جان، فلسفه رواقى، ترجمة سيد أبو القاسم پورحسيني، كتاب هاى سى مرغ، الطبعة الثانية، طهران، 1362هـ.ش.

17- بريه، اميل، تاريخ فلسفه، ترجمة على مراد داودى، مركز نشر دانشكاهي، الطبعة الثانية، طهران، 1374هـ.ش.

18- بيتر، آندريه، ماركس وماركسيسم (ماركس والماركسية) ترجمة شجاع الدين ضيائيان، دانشكاه طهران، الطبعة الثانية، طهران، 1360 ه.ش.

19- تاريخ فلسفه اخلاق غرب، جمعها لارنس، سي بيكر، ترجمة مجموعة من المترجمين، مؤسسة اموزشي وبزوهشي امام خميني قدس سره قم، 1378هـ.ش.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
344

336

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 20- التميمي، الآمدي، عبد الواحد بن محمد، غرر الحكم ودرر الكلم، دفتر تبليغات اسلامى، قم، 1366 هـ.ش.


21- جوادى، محسن مسأله بايد وهست بحثى در رابطه ارزش وواقع (مسألة الواجب والواقع، بحث حول الرابطة بين القيمة والواقع) دفتر تبليغات اسلامى، قم 1375هـ.ش.

22- جونز. و. ت. خداوندوان انديشه سياسى (آلهة الفكر السياسي) ج‏2، القسم الأول، ترجمة على رامين، امير كبير، الطبعة الأولى، طهران، 1358ه.ش.

23- حائري، يزدى مهدى، كاوش هاى عقل عملى (بحوث العقل العملي) (فلسفة الأخلاق)، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگى ، طهران، 1361هـ.ش.

24- حسين زاده، محمد، معرفت شناسى (علم المعرفة)، مؤسسه اموزشى وبزوهشى امام خمينى قدس سره، قم، 1381هـ.ش.

25- دوركايم، اميل، فلسفه وجامعه شناسى (الفلسفة وعلم الاجتماع) ،ترجمة فرحناز خمسه اى، وزارت فرهنك وآموزش عالى، طهران، 1360هـ.ش.

26- راسل، برتراند، تاريخ فلسفه غرب، ترجمة نجف دريابندرى، كتاب برواز، الطبعة السادسة، طهران، 1373هـ.ش.

27- رجبى، محمود، انسان شناسى (معرفة الإنسان)، مؤسسة آموزشى وبزوهشى إمام خمينى قدس سره، قم، 1380هـ.ش.

28- جاكس، فلسفة الأخلاق (الحكمة العمليّة)، ترجمة الدكتور أبو القاسم بور حسيني امير كبير، الطبعة الثانية، طهران، 1362هـ.ش.

29- سبحاني، جعفر، حسن وقبح عقلي (الحسن والقبح العقليان)، تقرير علي رباني گلبايگاني، بزوهشگاه علوم انسانى ومطالعات فرهنگى، الطبعة الثالثة طهران، 1377هـ.ش.

30- الشيخ البهائي، محمّد بن حسين، مفتاح الفلاح، دار الأضواء، بيروت، 1405هـ.ق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
345

337

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 31- الحر العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1409 هـ.ق.


32- ابن بابويه، محمّد بن علي، من لا يحضره الفقيه، انتشارات اسلامى، الطبعة الثالثة، قم، 1413 هـ.ق.

33- شيروانى، على، اخلاق اسلامى ومبانى نظرى آن (الأخلاق الإسلامية ومبانيها النظرية) ،دار الفكر، قم، 1379هـ.ش.

34- شيروانى، على، فرا اخلاق (ما وراء الأخلاق)، بزوهشكاه فرهنك وانديشه اسلامي، طهران، 1376هـ.ش.

35- صانعى، دره بيدي، منوچهر، فلسفه اخلاق در تفكر غرب (فلسفة الأخلاق في الفكر الغربي)، دانشكاه شهيد بهشتى، طهران، 1368هـ.ش.

36- صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة. دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة،بيروت، 1981م.

37- الطباطبائي، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، طهران، 1379هـ.ق.

38- الطباطبائي، محمّد حسين، ترجمة تفسير الميزان، ترجمة السيد محمّد باقر الموسوي الهمداني، دفتر انتشارات اسلامى، قم، 1363هـ.ش.

39- طباطبائي، محمّد حسين، اصول فلسفه وروش رئالسيم (أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ)، صدرا، طهران، قم، 1374هـ.ش.

40- الطوسي، نصير الدين، اخلاق ناصرى، تصحيح وتوضيح مجتبى مينوى وعلي رضا حيدري، خوارزمى، طهران، 1364هـ.ش.

41- العاملي، إبراهيم، البلد الأمين والدرع الحصين، الطبعة الحجرية.

42- فتح علي، محمود، تساهل وتسامح اخلاقي، دينى، سياسى، مؤسسه فرهنگى طه، قم، 1378.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
346

338

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 43- فرانكنا، ويليام كى، فلسفه اخلاق، ترجمة هادى صادقى، مؤسسه فرهنگى طه، قم، 1376هـ.ش.


44- فروغى، محمّد على، سير حكمت در اروپا(مسير الحكمة في أوروبا)، نشر البرز، طهران، 1377 هـ.ش.

45- الفيض الكاشاني، محسن، المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، مكتبة الصدوق، طهران، 1342هـ.ش.

46- الفيض الكاشاني، محمّد بن شاه مرتضى، الحقائق في محاسن الأخلاق وقرة العيون في المعارف والحكم ومصباح الأنظار، تحقيق وتذييل إبراهيم ميانجي، المكتبة الإسلامية، طهران، 1378هـ.ق.

47- كابلستون، فردريك، تاريخ فلسفه، ج‏1: اليونان والروم، ترجمة السيد جلال الدين مجتبوى، انتشارات علمي وفرهنگى ، الطبعة الثانية، طهران، 1368هـ.ش.

48- كابلستون، فردريك، تاريخ فلسفه، ج‏5: الفلاسفة الإنكليز من هوبس إلى هيوم، ترجمة جلال الدين اعلم، انتشارات علمى وفرهنگى وسروش، الطبعة الثانية، طهران، 1370هـ.ش.

49- كابلستون، فردريك، تاريخ فلسفه، ج‏7، من فيخته إلى نيتشه ترجمة داريوش آشورى، انتشارات علمى وفرهنگى وانتشارات سروش، طهران، 1367هـ.ش.

50- كابلستون، فردريك، تاريخ فلسفه، ج‏8، من بنتام إلى راسل، ترجمة بهاء الدين خرمشاهي، انتشارات علمى وفرهنگى وانتشارات سروش، طهران، 1370هـ.ش.

51- كَانْتْ، عمانوييل، بنياد ما بعد الطبيعة اخلاق (تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق)، ترجمة حميد عنايت وعلي قيصرى، خوارزمى، الطبعة الأولى، طهران، 1369هـ.ش.

52- كرسون، آندريه، فلاسفه بزرك (فلاسفة عظماء) ترجمة كاظم عبادي، انتشارات صفى على شاه، الطبعة الرابعة، طهران 1363هـ.ش.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
347

339

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 53- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الحديثة، دار القلم، بيروت.


54- الكليني، محمّد بن يعقوب، الكافي، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة، طهران، 1365هـ.ش.

55- كاترى، دبليو. كى. سى، تاريخ فلسفه يونان، ترجمة حسن فتحي، فكر روز، طهران، 1375 هـ.ش.

56- لاهيجى، عبد الرزاق، گوهر مراد (جوهر المراد)، سازمان چاب وانتشارات وزارت فرهنك وارشاد اسلامى، طهران، 1372هـ.ش.

57- لنكستر، لين و، خداوندان انديشه سياسى (آلهة الفكر السياسي) الجلد الثالث، القسم الأول، ترجمة علي رامين، امير كبير، الطبعة الأولى طهران، 1362 هـ.ش.

58- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1404هـ.ق.

59- النوري، حسين بن محمّد تقي، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1408 هـ.ق.

60- محمد رضايى، محمد، تبيين ونقد فلسفه اخلاق كانت (تبيين ونقد فلسفة الأخلاق عند كَانْتْ) دفتر تبليغات اسلامى، قم، 1379هـ.ش.

61- مدرسى، سيد محمّد رضا، فلسفه اخلاق، سروش، طهران، 1376هـ.ش.

62- مصباح، محمّد تقى، آموزش فلسفه (المنهج الجديد في تعليم الفلسفة) شركت چاب ونشر بين الملل، الطبعة الثانية، طهران، 1379 هـ.ش.

63- مصباح، محمّد تقى، اخلاق در قرآن (الأخلاق في القرآن)، تحقيق وتعليق محمّد حسين اسكندرى، مؤسسة آموزش وبزوهشى إمام خمينى قدس سره، قم، 1376 هـ.ش.

64- مصباح، محمّد تقي، به سوى او (إلى الله) تحقيق وترتيب محمّد مهدى نادرى، مؤسسة آموزشى وبزوهشى إمام خمينى قدس سره، قم، 1382هـ.ش.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
348

340

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 65- مصباح محمّد تقى، به سوى خودسازى (نحو إصلاح الذات)، كريم سبحانى، مؤسسة آموزشى وبزوهشى إمام خمينى قدس سره، قم 1380هـ.ش.


66- مصباح، محمّد تقى، پيش نيازهياى مديريت اسلامى (مقدمات الإدارة الإسلامية)، مؤسسة آموزشى وبزوهشى إمام خمينى قدس سره، قم، 1376هـ.ش.

67- مصباح، محمّد تقى، خودشناسى براى خودسازى (معرفة النفس من أجل إصلاح الذات)، مؤسسة أموزشى وبرزوهشى إمام خمينى قدس سره، الطبعة السابعة، قم، 1381هـ.ش.
68- مصباح، محمّد تقى، دروس فلسفه اخلاق (دروس في فلسفة الأخلاق)، اطلاعات طهران، 1374.

69- مصباح محمّد تقى، فلسفه اخلاق، تحقيق وتدوين أحمد حسين شريفى، چاب ونشر بين الملل، طهران، 1381هـ.ش.

70- مصباح، محمّد تقى، معارف قران: خداشناسى، كيهان شناسى، انسان شناسى (معارف القرآن: معرفة الله، معرفة الوجود، معرفة الإنسان) الطبعة الثانية، مؤسسة آموزشى وبزوهشى إمام خمينى قدس سره، قم، 1378هـ.ش.

71- مطهرى، مرتضى، مجموعه آثار (الأثار الكاملة)، صدرا، طهران، قم.

72- معلمي، حسن، مبانى اخلاق در فلسفه غرب وفلسفه اسلامى (مباني الأخلاق في الفلسفة الغربية والفلسفة الإسلامية)، مؤسسة فرهنگى دانش وانديشه معاصر، طهران، 1380هـ.ش.

73- مغنية، محمّد جواد، فلسفة اخلاق في الإسلام، ترجمة دفتر تحقيات وانتشارات بدر، كوكب، 1361 هـ.ش.

74- مغنية، محمّد جواد، فلسفة الأخلاق في الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1979م.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
349

341

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 75- ماك ناوتن، دايفيد، بصيرت اخلاقي (البصيرة الأخلاقيّّة) ،ترجمة محمود فتحعلى، مؤسسة آموزشى وبزوهشى إمام خمينى قدس سره، قم، 1380هـ.ش.


76- الموسوعة الفلسفية العربية، رئيس التحرير معن زيادة، معهد الإنماء العربي، الطبعة الأولى، 1988م.

77- مور، جورج إداورد، اخلاق، ترجمة إسماعيل سعادت، انتشارات علمى وفرهنگى ، طهران، 1366هـ.ش.

78- ناس جان بى، تاريخ جامع اديان، ترجمة على اصغر حكمت، انتشارات وآموزش انقلاب اسلامى، الطبعة الخامسة، طهران، 1370هـ.ش.

79- النراقى، محمّد مهدى، جامع السعادات، تصحيح وتعليق محمّد كلانتر،إسماعيليان، قم، 1383 هـ.ش.

80- نيتشه، فردريك ويلهلم، تبارشناسى اخلاق (أصول الأخلاق)، ترجمة داريوش آشورى، آكاه، طهران، 1377 هـ.ش.

81- نيتشه، فردريك ويلهلم، خواست واراده معطوف به قدرة (إرادة القوة)، ترجمة رؤيا منعم، مس، طهران، 1378ه.ش.

82- نيتشه، فردريك ويلهلم، الدجال، ترجمة عبد العلي دستغيب، آكاه، طهران، 1352هـ.ش..

83- نيتشه، فردريك ويلهلم، فراسوى نيك وبد (ما وراء الخير والشر)، ترجمة داريوش آشورى، خوارزمى، طهران، 1373 هـ.ش.

84- هيوم، دايفيد، تاريخ طبيعى دين، ترجمة حميد عنايت، خوارزمي، طهران، 1356 هـ.ش.

85- فارنوك، ج، فلسفه اخلاق در قرن حاضر (فلسفة الأخلاق في القرن المعاصر) ترجمة وتعليقات صادق لاريجانى، مركز ترجمة ونشر كتاب، الطبعة الثانية، طهران، 1368 هـ.ش.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
350

342

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 86- فارنوك، مرى، فلسفه اخلاق در قرن بيستم (فلسفة الأخلاق في القرن العشرين)، ترجمة وحواشي أبو القاسم فنائى، دفتر تبليغات اسلامى قم، 1380هـ.ش.


87- يالجن، مقداد، الاتجاه الأخلاقى في الإسلام، مكتبة الخانجي، مصر، 1392هـ.ق.

المقالات‏

1- بويمن، لوئيس "نقدي بر نسبيت اخلاقي" (نقد النسبيّة الأخلاقيّّة)، ترجمة محمود فتحعلى، مجلة نقد ونظر، العدد 14 دفتر تبليغات اسلامى، قم، شتاء 1376 ه.ش. وربيع 1377 ه.ش.

2- داودي، على مراد "سوفسطائيان" (سوفسطائيين)، مجلة دانكشاه ادبيات وعلوم انسانى، طهران، العدد 90.

3- روبيجك، بول، "اخلاق نسبى يا مطلق" (الأخلاق نسبية أم مطلقة) ترجمة سعيد عدالت نجاد، نقد ونظر، العدد 14، دفتر تبليغات اسلامى، قم، شتاء 1376 ه.ش. وربيع 1377 هـ.ش.

4- لاريجانى، صادق، "فلسفة اخلاق 1"، الكلام الإسلامي، العدد 11، مؤسسة تحقيقاتى وتعليماتى مجلة إمام صادق عليه السلام، قم، خريف 1373 هـ.ش.

5- مك دونالد، اسكوت، "قرون وسطاى متأخر" (القرون الوسطى المتأخرة) ترجمة محسن جوادي، تاريخ فلسفه اخلاق در غرب، تدوين سى لارنس بيكر، ترجمة جماعة من المترجمين مؤسسة آموزشى وبوهشى إمام خمينى، قم، 1378 هـ.ش.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
351

343

الفصل الحادي عشر: المذهب الأخلاقي

 Bobliography



Becker, Lawrence C. & Charlote B. Becker, eds, Encyclopedia of Ethics, Routledge. 2nd edition, London and Newyork, 2007.
Bunting, Harry. "A Single True Morality" Challenge of Relativism", in David Archard, ed, Philosophy and Pluralism, Cambridge University Press, 1996.

Craig, Edward, "Realism and Antirealism", in Edward Craig, ed, Routledge Ebcyclopedia of Philosophy, Routledge, London and New York, 1998, vol 8.

Fraizer. Robert L. "INtuitionism in Ethics", in Edward Craig, ed, Routledge Encyclopedia of Philosophy, Routledge, London and New York, 1998, vol 4.

Freeman, Samuel, "Contractarianism", in Edward Craig, ed, Routledge, Encyclopedia of Philosophy Routledge, London and New York, 1998, vol 3.

Harman. Gilbert, The nAture of Morality, Oxford University Press, Oxford, 1977.

Harrison, Geoffery, "Relativism and Tolerance", in Peter Laslet and James Fishkin, eds, Philosophy. Politics and Society, Yale University Press. New Haven 1979.

Jordan. Geff, "Concerning Moral Toleration", in Mehdi Amin Razavi and David Ambuel. eds, Philosophy. Religion and the Question of Intolerance, State University of New York Press, New York, 1979.

Kant, Immanuel, "Ground work of the Meta physic of Morals". tr. H.J. Paton, in the Moral Law, Hutchinson University Library. London. 1972, P 123.

Moore, G. E. principia Ethica, Prometheus Books New York, 1988.

Pojman, Louis P. Philosophy: The Quest for Fruth University of Mississippi, Wad fworth publishing co, 1992.

Pojman, Louis P. "Relativism", in Robert Audi, ed, The Cambridge Dictionary of Philosophy, Cambridge, University Press, New York, 1996.

Rachles, James, The Element of Moral philosophy, McGraw Hill Inc. 2nd Edition, New York, 1993.

Shomali, Mohammad. A. Ethical Relativism: an Analysis of the foundation of Morality. Islamic College for advanced Studies Press. London, 2001.
Wong, David, "Moral Relativism", in Edward Craig. ed, Routledge Encyclopedia of philosophy, Routledge, London and New York, 1988, vol 6














352

344
أسس الأخلاق