المقدمة
المقدمة
ظلّت الحوزات العلميَّة الدِّينيَّة، طوال تاريخها المجيد، قادرةً على الذَّود عن حياض عقائد المجتمعات الإسلاميَّة ـ الشيعيَّة ببصيرة نافذة. وقد اعتمدت، في سبيل النَّجاح في ذلك، سلاح العمق العلميّ والدِّراية، واستشعار المعاناة، والالتزام، والإيمان الرَّاسخ بهذا النَّهج طوال جهادها المرير الشَّاقّ، الّذي لا يعرف معنى للتَّعب ولا للكلل والملل.
ولا بدَّ من أن تنهض حوزتنا العلميَّة المعاصرة بمسؤوليَّتها الخطيرة المتمثِّلة في الذَّود عن حياض العقيدة, لأنّ أمواج مناهضة الدِّين، وتناقض الأفكار، وإساءة الفهم، وضعف الإيمان، أصبحت تلقي بظلالها على مختلف المجتمعات. ولا شكَّ في أنّ انتصار الثورة الإسلاميَّة الإيرانيَّة المباركة، ضاعف من مسؤوليَّة الحوزات العلميَّة، حيث كشف للجميع تَوْأمة الدِّين والسِّياسة، والتزام الحكومة بالدِّين وتعاليمه، وضرورة بيان التَّعاليم الدِّينيَّة وإيضاحها، في المجالات الاقتصاديَّة والسِّياسيِّة والثَّقافيَّة والحقوقيَّة.
فلا ينبغي أن يقتصر دور الحوزة، في الوقت الراهن، على صدِّ الغزو المتمثِّل بالشُّكوك والشُّبهات فحسب، بل لا بدَّ أن تسعى إلى تدوين المباحث الإسلاميَّة ـ الاجتماعيَّة الخطيرة، وترشد إلى هذا الدِّين الحنيف بما يتناسب ومقتضيات الزَّمان والمكان. وبالطَّبع، فإنّ أداء هذه الوظيفة الخطيرة يستلزم، من طلبة العلوم الدِّينيَّة، الانفتاح على المباحث الفكريَّة المعاصرة، علاوة على تحصيل الدروس الحوزويَّة الرسميَّة. ولعلّ أهمَّ خطوة اتّخذتها بعض الحوزات العلميَّة الدِّينيَّة، في هذا الخصوص، هي
11
7
المقدمة
إدراجها دروس الفكر السِّياسيّ الإسلاميّ، في المنهج الرسميّ لطلبة العلوم الدِّينيَّة، كما ويسدَّ ثغرة كبيرة أمام روّاد المعرفة الإسلامية الفكريّة والعميقة، حيث إنّ هذا الكتاب يتناسب أيضاً مع مستوى المثقّفين والمفكّرين في الساحة الثقافيّة.
يهدف الكتاب الّذي بين يديك، عزيزي القارئ، إلى تحقيق هذا الأمر، وقد سعينا قدر المستطاع إلى تسهيل مواضيعه، مع الحفاظ على عمق المطلوب، واستخدام الأسلوب الممنهج والسهل في إيصال الفكرة.
يشتمل الكتاب على اثنين وثلاثين درساً توزّعت على أربعة فصول، تضمّنت بيان الجوانب المختلفة للفكر السِّياسيّ الإسلاميّ، والإجابة والردّ ـ في هكذا نوع من الأبحاث ـ على الشُّكوك والشُّبهات السائدة. وفي خاتمة كلّ فصل منها، ومن أجل مزيد من المعلومات الّتي تغني المطالعة، أشرنا إلى المصادر المهمة الخاصَّة بذلك الفصل.
ويشكر مركز نون في جمعية المعارف الإسلاميّة سماحة الشيخ أحمد الواعظيّ حفظه الله الّذي قام بتأليف هذا الكتاب كما يشكر مركز الغدير للدراسات الإسلامية على الجهد الّذي بذله في ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربيّة، والعمل على تصحيحه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبّل من جميع الّذين ساهموا في إخراج هذا السِفر القيّم إلى الوجود، ويوفّقهم للمزيد، إنّه نعم المولى، ونعم المجيب.
مركز نون للتأليف والترجمة
12
8
الدين والسياسة
الدين والسياسة
الدَّرس 1: السِّياسة وقضاياها الأساس
الدَّرس 2: الإسلام والسِّياسة
الدَّرس 3: الحكومة الدِّينيَّة
الدَّرس 4: حدود مرجعيَّة الدِّين في السِّياسة
الدَّرس 5: منكرو الحكومة الدِّينيَّة
الدَّرس 6: العلمانيَّة وإنكار الحكومة الدِّينيَّة
الدَّرس 7: أدلَّة العلمانيّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة(1)
الدَّرس 8: أدلَّة العلمانيّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة(2)
13
9
الدين والسياسة
تمهيد
إنّ علاقة الدِّين بالسِّياسة من أهمّ المباحث الفكريَّة للمجتمعات الإسلاميَّة في العقود الأخيرة. وقد وسَّع انتصار الثَّورة الإسلاميَّة في إيران، وتشكيل نظام الجمهوريَّة الإسلاميَّة جوانب هذا البحث، ولفت أنظار العديد من الكتّاب والمفكِّرين إلى مقولة الحكومة الدِّينيَّة.
يتكفَّل هذا الفصل من الكتاب بإيضاح مختلف قضايا مبحث علاقة الدِّين بالسِّياسة، ويعرض صورة ناطقة لمفهوم الحكومة الدِّينيَّة. والجدير ذكره أنّ أُطروحة الحكومة الدِّينيَّة جوبهت بمعارضة عنيفة من قبل طائفة من المنظّرين السياسيين, الأمر الّذي جعلنا نسلّط الضوء، في هذا الفصل، على منكري الحكومة الدِّينيَّة، ونورد الرُّدود على أدلّة بعضٍ منهم ضمن تصنيف تلك المعارضة.
15
10
الدرس الأول: السِّياسة وقضاياها الأساس
الدرس الأول: السِّياسة وقضاياها الأساس
السِّياسة: ضرورتها وتعريفها
إنّ الإنسان كائن اجتماعيّ، تسوقه متطلَّباته العاطفيَّة والاقتصاديَّة والثَّقافيَّة باتّجاه تشكيل المجتمع وعيش الحياة الجماعيَّة.
فالأُسرة والعشيرة والقبيلة والنَّاحية والمدينة والبلد والأُمّة جميعها مظاهر متنوِّعة ومختلفة للحياة الجماعيَّة للإنسان، ودافعة لممارسة الحياة الاجتماعيَّة... وهنالك تشابك وارتباط لمصالح أبناء المجتمع ومتطلّباتهم في ظلّ الحياة الاجتماعيَّة. وبناءً على ما تقدّم، فإنّ هنالك بعض القضايا الّتي تطرأ، وتكون لها صلة بجميع أبناء المجتمع، ولا يسع أيّ فرد بمفرده أن يتَّخذ قراراً بشأنها.
فلو أخذنا، على سبيل المثال، القبيلة، فرغم أنّ كلّ فرد يمكنه أن يقرّر بنفسه في شأن بعض المسائل، فيعمل في ضوء تشخيصه وتحديده للموقف, فإنَّ بعض الأُمور الأُخرى، من قبيل: قتال قبيلة أُخرى أو الصُّلح معها، ممَّا لا يمكنه أن يتَّخذ قراراً فردياً في شأنه, ذلك لأنّ القتال والصُّلح مقولة متعلِّقة بالجماعة كلِّها، وليست من قبيل الأُمور الشخصيَّة والفرديَّة، بحيث ينبري كلّ فرد من أبناء المجتمع ليتَّخذ ما يراه مناسباً من قرار بصورة مستقلَّة، ويعمل وفاقاً لرؤيته الشَّخصيَّة.
17
11
الدرس الأول: السِّياسة وقضاياها الأساس
إنّ هذه الحقيقة الّتي تفيد بوجود سلسلة من القضايا والمعضلات الجماعيَّة، في كلّ مجتمع، صغيراً كان أم كبيراً، والّتي تتطلّب حسماً كلّياً وقرارات نهائيَّة، حثَّت الإنسان ودفعته لاستيعاب مقولة "الرئاسة". وحيثما كان مجتمع كان عنصر الرئاسة جزءاً يأبى الانفصال عنه طوال التاريخ البشريّ، وقد تعامل كلّ مجتمع، مهما كان شكله وتركيبه، مع فرد (أو أفراد)، بوصفه الرئيس، الحاكم، الأمير، الوالي، أو السلطان وأمثال ذلك، بغية إدارة شؤونه الاجتماعيَّة. ففي كلّ مجتمع هنالك فرد، أو عدد من الأفراد، من ذوي "الاقتدار السِّياسيّ"، الّذين يسعهم النهوض بمسؤوليَّة إدارة مختلف شؤون حياة ذلك المجتمع الاجتماعيَّة وتدبيرها.
ونخلص من هذا إلى أنّه يمكن تعريف "السِّياسة"1 كالآتي: إنّ السِّياسة عبارة عن الإدارة والتدبير، واتّخاذ القرار في شأن القضايا المهمَّة للمجتمع وما يتعرَّض له من أحداث. وتشمل هذه الإدارة والتدبير حلّ المعضلات والصِّعاب، وتنظيم شؤون المجتمع، والتَّخطيط والتَّنفيذ.
طبعاً، هناك تعريفات ومعانٍ أُخرى للسِّياسة، فعلى سبيل المثال، لو ركّزنا على الجوانب العمليَّة، لأمكننا تعريف السِّياسة بأنَّها بذل الجهود والمساعي، بغية الظَّفر بالقدرة السِّياسيَّة وحفظها، والعمل على تقويتها وترسيخها. أمّا لو اتّجهنا إلى الجوانب النَّظريَّة، فلنا أن نعرّف السِّياسة بأنَّّها البحث في شأن القدرة والسلطة السِّياسيَّة وبناء هيكليَّة الدَّولة، وإيجاد آليَّة للعلاقات المختلفة بين الدَّوائر والمؤسَّسات الحكوميَّة.
على كلّ حال، فقد حظيت السِّياسة والأبحاث المتعلِّقة بالسُّلطة السِّياسيَّة وإدارة شؤون المجتمع باهتمام المفكرين والمعنيِّين قديماً وحديثاً.
1- السِّياسة مأخوذة من مادة "سوس"، وتعني لغوياً الرئاسة والتربية والجزاء والعقاب والتصدّي لشؤون الرَّعية.
قال ابن منظور: "السوس: الرياسة، يقال: ساسوهم سوساً ... وساس الأمر سياسة: قام به...". لسان العرب 6: 108 مادة "سوس".
وقال الفيروزآبادي: "سست الرعية سياسة: أمرتها ونهيتها.... سوس فلان أمر الناس...صُيِّر ملكاً". القاموس المحيط: 710 مادة "سوس".
كما وردت للسياسة عدّة معانٍ اصطلاحية في معاجم السِّياسة، نشير هنا إلى بعضها:
السِّياسة: فنّ حكومة المجتمعات البشرية؛ وهي اتّخاذ القرار في شأن مختلف القضايا السِّياسيَّة؛ وهي سلسلة التدابير الّتي تتّخذها الحكومة لإدارة شؤون البلاد؛ وهي علم السلطة الّتي تمارسها الدَّولة لضمان النِّظام الاجتماعيّ.
18
12
الدرس الأول: السِّياسة وقضاياها الأساس
وكتاب "الجمهوريَّة" لأفلاطون، و"السِّياسة" لأرسطو، و"المدينة الفاضلة" لأبي نصر الفارابيّ، شهادة حيّة على أنّ مقولة السِّياسة كانت هاجساً جدِّياً لدى كبار العظماء والمفكِّرين منذ قديم الزمان. وبالتأكيد، فإنّ التعقيد المطَّرد للمجتمعات البشريَّة، والتَّداخل الواسع بين مختلف الأواصر الاجتماعيَّة، وسعة حجم العلاقات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والثَّقافيَّة للمجتمعات البشريَّة، بعضها مع بعضها الآخر، أسبغ أهميَّة بالغة على الدِّراسات والأبحاث السِّياسيَّة، وضاعف من مداها ودائرتها وشموليَّة مباحثها.
علم السِّياسة والفلسفة السِّياسيَّة
هناك العديد من القضايا المنضوية تحت عنوان السِّياسة. وتشير كلّ مفردة من المفردات، من قبيل: "علم السِّياسة"، و"الفلسفة السِّياسيَّة"، و"الإيديولوجيَّة السِّياسيَّة"، و"التحليل السِّياسي" وأمثالها، إلى فرع من الدِّراسات والأبحاث في المجالات والصعد المتعلِّقة بالسِّياسة. ويختصّ بعض هذه الدراسات بالمباحث الملموسة والعمليَّة، بينما ينطوي بعضها الآخر على جوانب نظريَّة ومبانٍ أُصوليَّة. وسرُّ هذا التنوُّع والتشعُّب يكمن في قضيَّة مهمَّة، وهي أنّ التساؤلات والهواجس السِّياسيَّة غاية في التنوُّع والاختلاف، ولا يستطيع فرع من العلوم السِّياسيَّة تلبية جميع متطلّباتها والردّ على جميع الأسئلة المطروحة في شأنها. فالبعد العملي هو الغالب على بعض الاستفسارات والهواجس السِّياسيَّة.
على سبيل المثال: لو أراد عالم في العلوم السِّياسيّة، أو أحد السَّاسة، أو زعيم سياسيّ، أن يعرّف الموقف الّذي ينبغي أن يتَّخذه في علاقاته السِّياسيَّة مع بلدان الجوار وساسة بلد معيّن، فماذا عليه أن يفعل؟ وكيف ينظِّم علاقاته الدَّوليَّة على الصَّعيد العالميّ؟
لتحقيق هذا الغرض، عليه أن يمتلك رؤية جامعة واضحة لأقطاب القوى السِّياسيَّة على الصَّعيدين: الدَّوليّ والعالميّ، كما ينبغي أن يكون لديه تقييم واقعيّ لمدى فاعليَّة
19
13
الدرس الأول: السِّياسة وقضاياها الأساس
القوى السِّياسيَّة على الصَّعيد الإقليميّ. وما إن يتعرَّف إلى الأوضاع الدَّوليَّة والإقليميَّة السَّائدة حتى ينفتح على أهدافه السِّياسيَّة ومصالحه القوميَّة، ويحدِّد بمنتهى الدِّقة ما ينشده من أهداف سياسيَّة على المديين القريب والبعيد.
وهنا يأتي دور المرحلة التَّالية المتمثِّلة بالوصول إلى الأهداف السِّياسيّة من طريق التَّنظير والتَّخطيط السِّياسيَّين الشَّاملين، ومن ثمَّ تنفيذ المشاريع والخطط السِّياسيَّة بدقَّة وإمعان. ولهذه الدراسات السِّياسيَّة، ذات الجانب العمليّ، صلةٌ وطيدة ببعض الاختصاصات والفروع، مثل: "علم السِّياسة"، و"التَّحليل السِّياسيّ" و"الدِّراسات الاستراتيجيَّة". وإجادة هذه الفنون والفروع من شأنها الإجابة عن تلك التساؤلات والهواجس المشار إليها.
ولطائفة أُخرى من تساؤلاتنا السِّياسيَّة بُعد نظريّ أُصوليّ، ذلك أنَّها تعدُّ أعمق أساساً وأكثر أصالة، مقارنة بالهواجس العمليَّة لعالم السِّياسة.
ونشير، هنا، إلى نماذج من هذه التَّساؤلات: تُرى ما الحاجة أساساً إلى الدَّولة والحكومة؟ من هم الّذين يحقّ لهم إدارة الدَّولة؟ لم تجب طاعة الحكَّام وأصحاب النفوذ والسُّلطة السِّياسيّة؟ ما هي وظائف الحكَّام إزاء الشَّعب والمواطنين؟ ما هي الأهداف الّتي ينبغي أن تسعى الحكومة إلى تحقيقها؟ إلامَ يستند حقّ الدَّولة والحكومة في تحديد حرِّيَّات الأفراد؟ هل على الحكومة وحدها أن تقوم بأعباء أمن الشعب ورفاهه المادي أو أن هناك مسؤولين آخرين عن سعادة المجتمع وخيره؟ ما تعريف خير المجتمع وسعادته؟ وما هي المعايير المعتمدة لتحديدهما؟ ما مدى أهميَّة العدالة الاجتماعيَّة في اتّخاذ القرارات وإدارة شؤون المجتمع؟ لو تعارضت العدالة الاجتماعيَّة مع الحرِّيات الاقتصاديَّة والفرديَّة، فأيّهما تتقدَّم على الأُخرى؟
هذا النَّوع من التَّساؤلات الأساس والجذريَّة، يتمُّ بحثه في "الفلسفة السِّياسيَّة". والمذاهب السِّياسيَّة المختلفة الّتي نعبِّر عنها بـ "الإيديولوجيات السِّياسيَّة" إنّما تتبلور في ضوء ما تقدِّمه من إجابة عن هذه الأسئلة. بعبارة أُخرى: كلّ نزعة، أو إيديولوجيَّة
20
14
الدرس الأول: السِّياسة وقضاياها الأساس
سياسيَّة، تقوم على أساس فلسفتها السِّياسيَّة الخاصّة بها. على سبيل المثال: إنّ "اللِّيبراليَّة"، بوصفها مذهباً وإيديولوجيَّة سياسيَّة، لها إجاباتها الخاصّة بها عن هذه الأسئلة، والّتي تختلف تماماً في بعض الجوانب مع المذهب السِّياسيّ الآخر المعروف بـ "الاشتراكيَّة".
فاللِّيبراليَّة تتبنَّى الفرديَّة والحرِّيات الاقتصاديَّة والثَّقافيَّة، وتدافع عنها، وتؤمن بضرورة عدم الحدِّ من الحرِّيات الاقتصاديَّة وعدم تقييد الملكيَّة الفرديَّة، تحت طائلة العدالة الاجتماعيَّة، كما تتبنَّى ضرورة محدوديَّة صلاحيَّات الدَّولة، وترى أنَّه لا بدَّ لهذه الدَّولة من أن تقتصر في مَهمَّاتها على إشاعة الرفاهيَّة، وبسط الأمن والاستقرار، وحماية الأُطر الأساس لحقوق الإنسان، وتفويض بعض المقولات من قبيل: السعادة والخير والأُمور المعنويَّة والأخلاق، للحياة الفرديَّة للناس، ولا يمكن استيعابها ضمن إطار مهمَّات الدَّولة والحكومة.
وفي المقابل، هناك المدرسة الاشتراكيَّة الّتي تولي العدالة الاجتماعيَّة أقصى قيمة، وترى ضرورة الالتزام بها من جانب الدَّولة والحكومة، وترى أنَّه لا بدَّ من أن تخضع الحرِّيات الاقتصاديَّة لسلطة الدَّولة، ولا بدَّ من أن تحدَّد الملكيَّة الفرديَّة، وربما تزول بالمرة. وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى مسألتين:
الأُولى: إنّ حالة التجدُّد والتحوُّل تكتنف، على الدوام، العديد من القضايا والمسائل المتعلِّقة بعلم السِّياسة والتَّحليل السِّياسيّ والدِّراسات الإستراتيجيَّة، تبعاً لتغيُّر علاقات القوى على الصَّعيد العالميّ وتجدُّدها، وارتباك المعادلات السِّياسيَّة الإقليميَّة والعالميَّة بفعل العوامل الاقتصاديَّة والثَّقافيَّة والسِّياسيَّة. وبالنتيجة، يرى علماء علم السِّياسة والمنظّرون السِّياسيُّون أنفسهم دائماً في مواجهة التَّساؤلات المستجدَّة والحديثة, بينما تتمتَّع القضايا والمسائل المتعلّقة بالفلسفة السِّياسيَّة بالثَّبات. وهناك أسئلة أساس ومتجذِّرة خاصّة قد شغلت أذهان فلاسفة السِّياسة وزعماء المدارس والمذاهب السِّياسيَّة
21
15
الدرس الأول: السِّياسة وقضاياها الأساس
وأفكارهم. والأجوبة الخاصّة الّتي يسوقها كلّ فيلسوف سياسيّ، أو كلّ مذهب سياسيّ، عن تلك التساؤلات، إنّما ترتسم من خلالها أُطر المذهب السيِّاسيّ وأُسسه ومبادئه. وهذه المذاهب والإيديولوجيات السِّياسيَّة لا يعتريها أيّ تحوُّل أو تغيُّر نتيجة التقلُّبات والتغيُّرات اليوميَّة للعلاقات السِّياسيَّة بين الدُّول، واستقطاب مراكز القوى العالميَّة.
الثانية: يندرج الكثير من التَّساؤلات ضمن دائرة الفلسفة السِّياسيَّة. وكما أشرنا سابقاً، فإنّ معالم المذهب السِّياسيّ تتَّضح من خلال الإجابات عن هذه التَّساؤلات، وبذلك يتميَّز بعضها عن بعضها الآخر. وفي هذا الضوء، لا بدَّ من الالتفات إلى أنّ هذا الكلام لا يعني انعدام الوجوه المشتركة بين الإيديولوجيات السِّياسيَّة المختلفة، ولا يعني، كذلك، أنّ هناك اختلافاً جذرياً بينها في رؤيتها إلى جميع قضايا الفلسفة السِّياسيَّة. فلعلّ سبب تميُّز مذهب سياسي من سائر المذاهب الأُخرى يعزى إلى الاختلاف في جانب من المباحث المرتبطة بالفلسفة السِّياسيَّة، بينما يتَّفق في جوانب أُخرى مع سائر المذاهب السِّياسيَّة. فعلى سبيل المثال، يشترك المذهبان الاشتراكيّ الديمقراطيّ والليبراليّ الديمقراطيّ، بوصفهما إيديولوجيتين متنافستين، في مسألة الديمقراطيَّة، واعتماد آراء الشَّعب أساساً لشرعيَّة النِّظام السِّياسيّ، ما يعني أنَّه لا بدَّ من أن يُنتخب الحكَّام وأصحاب الزعامات السَّياسيّة من قبل الأُمّة عن طريق صناديق الاقتراع. ويختلفان في قضيَّة كون أحدهما يركّز على العدالة الاجتماعيَّة، والآخر يؤكّد على الحرِّيَّة والملكيَّة الفرديَّة، وأحدهما على أصالة المجتمع، والآخر على أصالة الفرد.
22
16
الدرس الأول: السِّياسة وقضاياها الأساس
الخلاصة
1ـ مقولة الرِّئاسة أمر يأبى الانفصال عن المجتمع البشريّ، وكلّ مجتمع يقرّ بالحاكميَّة السِّياسيَّة لفرد أو عدّة أفراد بغية إدارة شؤونه.
2ـ حظيت السِّياسة، بوصفها تدبير شؤون الأفراد والمجتمع، باهتمام المفكِّرين منذ القدم.
3ـ لعالم السِّياسة عدة أبعاد، من هنا كانت له عدَّة فروع وتخصُّصات في العلم والمعرفة تعالج قضاياه ومسائله.
4ـ يولي علم السِّياسة، والتَّحليل السِّياسيّ، والدِّراسات السِّياسيَّة الاستراتيجيَّة، أهميَّةً فائقة للأبحاث السِّياسيَّة العمليَّة.
5ـ تتكفَّل الفلسفة السِّياسيَّة بالأبحاث النَّظريَّة لعالم السِّياسة.
6ـ تقوم كلّ مدرسة وإيديولوجيَّة سياسيَّة على أساس فلسفة سياسيَّة معيّنة.
7ـ تواجه الدِّراسات العمليَّة، على الصعيد السِّياسي، عادةً، القضايا والموضوعات الحديثة والمتجدِّدة، بينما تمتاز الموضوعات والمباحث المتعلِّقة بالفلسفة السِّياسيَّة وجلّ المسائل الأساس بالثَّبات.
8ـ ربَّما تتّفق وجهات نظر مختلف المذاهب السِّياسيَّة في شأن الأبحات المتعلِّقة بالفلسفة السِّياسيَّة.
23
17
الدرس الأول: السِّياسة وقضاياها الأساس
الأسئلة
1ـ ما سرّ الرغبة الّتي تبديها المجتمعات البشريَّة في قبول مقولة الرئاسة والحاكميَّة السياسيَّة؟
2ـ عرِّف السِّياسة.
3ـ أيّ فرع من الدِّراسات السِّياسيَّة يختصُّ بدراسة الجوانب السِّياسيَّة العمليَّة؟
4ـ أذكر بعض التساؤلات الّتي يردّ عليها في الفلسفة السِّياسيَّة.
5ـ ما هي القضايا الّتي تتبنَّاها اللِّيبراليَّة بوصفها مدرسةً سياسيَّة؟
6ـ ما هو الفرع، في الدراسات السِّياسيَّة، الّذي يتأثَّر بالتطوُّرات اليوميَّة السِّياسيَّة والاقتصاديَّة؟
24
18
الدرس الثاني: الإسلام والسياسة
الدرس الثاني: الإسلام والسياسة
إنَّ الحكومة ضرورة اجتماعيَّة. وبما أنّ المجتمع البشريّ يتألَّف من أفراد تحكمهم مصالح وعلاقات متضاربة وأذواق ومشارب شتَّى، كان لا بدَّ من أن تسيِّره حكومة. والواقع أنّ المجتمع البشريّ، مهما كان شكله محدوداً وضئيلاً، مثل القبيلة أو القرية، لا يستغني عن الحكومة الّتي تدبِّر شؤونه وتديرها. فتزاحم المصالح وتضارب المنافع، والنـزاع بين الأفراد، وهضم الحقوق، والإخلال بالنِّظام والأمن العامّ، لمن الأُمور الّتي تتطلّب وجود مرجع، بغية معالجة هذه الأُمور وبسط الأمن والنِّظام.
وبناءً على هذا، فالمجتمع سيكون ناقصاً، وسرعان ما يفقد بقاءه وديمومته من دون ذلك المرجع الّذي نصطلح على تسميته بالدَّولة أو الحكومة. ويمتلك هذا المرجع الحاكميَّة السِّياسيَّة والقدرة على اتّخاذ القرار والأمر والنَّهي. فقد تحدَّث أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلامعن الخوارج وأفكارهم الّتي تستبطن الفوضى والهرج والمرج, وذلك عندما رفعوا شعار: "لا حكم إلّا لله"، وأصرّوا على رفض الحكومة في المجتمع الإسلاميّ، وطالبوا بحكومة الله عليهم، فقال: "إنّه لا بدَّ للنَّاس من أمير برٍّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويُبلِّغ الله فيها الأجل، ويُجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السُّبل، ويؤخذ به للضَّعيف من القويِّ،
25
19
الدرس الثاني: الإسلام والسياسة
حتى يستريح برٌّ، ويُستراح من فاجر"1, فعبارة الإمام عليه السلام تفيد القول بضرورة وجود الحكومة، وتشير إلى مدى أهمِّيَّة هذا الوجود, ذلك أنّها، وإن كانت غاصبة وولايتها السِّياسيّة غير شرعيَّة، ولزعيم غير صالح، فهي أفضل من الفوضى والهرج الاجتماعيّ، وغياب سلطة القانون, لأنّ الحكومة مهما افتقرت للشَّرعيَّة والقانونيَّة، فإنّها تغطِّي على بعض الثَّغرات والنقائص والإرباكات الاجتماعيَّة، وتلبِّي جانباً من متطلّبات المجتمع البشريّ وحاجاته.
ويتّضح، من خلال تأمُّل آيات القرآن الكريم والأحاديث الشَّريفة، أنّ الإسلام، بوصفه دستوراً ودعوة دينيَّة، لم ينتدب المسلمين لتشكيل الحكومة وتأسيس الدَّولة, ذلك لأنّ المجتمعات، كما قال المرحوم العلاَّمة الطباطبائيّ، في تفسيره القيّم، الميزان، تبذل المساعي في سبيل "إلقاء زمام الأُمّة إلى من يدبّر أمرها، ويجمع شتات إراداتها المتضادَّة.. لأنّ الملك من الاعتبارات الضروريَّة في الاجتماع الإنسانيّ.
ولذلك، لم يدعُ القرآن النَّاس إلى الاجتماع على تأسيس الملك.. وإنّما تلقى الملك شأناً من الشؤون اللازمة المراعاة في المجتمع الإنسانيّ.. بل، إنّما دعا الناس إلى الاجتماع والاتّحاد والاتّفاق على الدِّين، ونهاهم عن التفرُّق والشِّقاق فيه وجعله هو الأصل"2.
واستناداً إلى ما سبق، نسأل: ألم تحظَ الحكومة والسِّياسة باهتمام الدِّين الإسلاميّ بوصفهما أمراً ضرورياً للمجتمع البشريّ؟ وهل مرَّ هذا الدِّين الّذي يعدُّ نفسه خاتم الأديان، والدِّين الكامل، مرور الكرام بهذه الضَّرورة؟ أليست لديه أيّة تعاليم ووصايا وإرشادات في هذا المجال؟ تُرى هل تقتصر التَّعليمات الإسلاميَّة على الحياة الفرديَّة للإنسان وصلته بالله، في حين أسند هذا الدِّين الشريف إلى الإنسان مسؤوليَّة تنظيم العلاقات الاجتماعيَّة، وكيفيَّة إدارة شؤون المجتمع والمنهج السِّياسيّ والحكوميّ؟ كيف
1- نهج البلاغة: 82 الخطبة 40.
2- الميزان في تفسير القرآن، 3: 144 ـ 149، ذيل الآية 26 من سورة آل عمران.
26
20
الدرس الثاني: الإسلام والسياسة
يمكن القبول بأنّ ديناً متكاملاً، يرافق الإنسان منذ ولادته حتى وفاته، ويغوص في أغلب تفاصيل حياته، على سبيل التَّوجيه والإرشاد، ويتخلَّى عن قضيَّة الحكومة المهمَّة، ولا يبدي أيّ وجهة نظر في شأن مختلف قضاياها وإدارة شؤون المجتمع الّتي تؤدِّي دوراً مهما في بلورة شخصيَّة الأفراد وسعادتهم؟
هذه التساولات تشير، في الواقع، إلى سؤال محوريّ هو: هل للإسلام فكر سياسيّ؟
إنّ الجواب بالإيجاب عن هذا السُّؤال، يعني أنّ الإسلام - وإن لم يتضمَّن الدعوة إلى مبدأ وجود الحكومة بسبب ضرورتها - أرشد إلى كيفيَّة هذه الحكومة، وإلى الأفراد المؤهَّلين لتولِّيها. وكما نظّم الإسلام الرَّوابط الحقوقيَّة للأفراد في وسط الأُسرة والمجتمعات البشريَّة، فقد برمج، على صعيد الحكومة والسِّياسة، العلاقات المتبادلة بين الحاكم والشعب، وبيَّن حقوق كلّ طرف ومهمَّاته ووظائفه.
وفي ضوء هذه النَّظرة، فإنّ إقصاء الإسلام عن السِّياسة والميدان الاجتماعيّ، واستبداله بدين فرديّ ومتقوقع، أدى إلى تحريفه وسلخه عن حقيقته. وقد كان مؤسِّس الجمهوريَّة الإسلاميَّة، الإمام الخمينيّ رحمه الله، من طائفة العلماء والفقهاء الّذين ركّزوا بعمق على الجانب الاجتماعيّ للإسلام، فهو يرى أنّ تلك النَّظرة المتقوقعة هي صنيعة العناصر المعادية، والقوى الاستعماريَّة الّتي تسعى، من خلال نفث هذه السُّموم، إلى توفير أسباب جمود البلدان الإسلاميَّة وتخلّفها، وهو يقول في هذا الصَّدد:
"فالإسلام دين الأفراد المجاهدين الّذين ينشدون الحقّ والعدالة.. دين أُولئك الّذين يرومون الحرِّيَّة والاستقلال.. دين المجاهدين المناهضين للاستعمار، إلّا أنّ تلك العناصر والقوى الاستعماريَّة عرضوا ويعرضون الإسلام بصيغة أُخرى(...).
فمثلاً، زعموا أنّ الإسلام ليس ديناً جامعاً، وليس ديناً للحياة، ولا يمتلك قوانين وأنظمة للمجتمع، وليس لديه أيّ منهج للدَّولة ولا للقوانين والنظم الإداريَّة"1.
1- ولاية الفقيه: 4.
27
21
الدرس الثاني: الإسلام والسياسة
الأدلَّة على أن للإسلام دوراً في ميدان السِّياسة
يمكن البرهنة على هذا الادّعاء المتمثِّل في أنّ الإسلام دين اجتماعيّ، ودائرته أوسع وأشمل من الحياة الفرديَّة، ويتضمَّن تنظيم جميع أنحاء العلاقات الاجتماعيَّة والسياسيَّة، من خلال أُسلوبين هما:
أولاً: الأُسلوب الاستقرائيّ، ويتمثَّل في أن نتّجه صوب الكتاب والسنَّة، ونعكف على دراسة التَّعاليم الدِّينيَّة في مختلف الأبواب الفقهيَّة. وستجيب هذه الدِّراسة التَّدريجيَّة والشَّاملة عن السؤال الآتي: هل الإسلام، على غرار بعض الأديان التصوُّفيَّة وذات النَّزعة الزُّهديَّة، من قبيل: الدِّيانة البوذيَّة، وبعض الفرق النَّصرانيَّة وغيرها، دين ينحو منحىً فردياً، من دون أن يُعنى بتنظيم مختلف الجوانب الاجتماعيَّة، أو أنَّه دين يُعنى بالمجالات الاجتماعيَّة للحياة البشريَّة، وقضيَّة الحكومة والسِّياسة هي أحد أبعاد الحياة الاجتماعيَّة البشريَّة، علاوةً على عنايته ببيان كيفيَّة عبوديَّة الإنسان إزاء الله تعالى، وتنظيم العلاقات الحقوقيَّة بين الأفراد، وعرض الملكات الأخلاقيَّة، ورسم صورة الحياة المعنويَّة؟ ونصطلح على تسمية هذا الأُسلوب الإستقرائيّ بالمنهج الباطنيّ للدِّين, لأنّنا نتلقَّى الإجابة عن سؤالنا من طريق الرُّجوع المباشر لمضمون باطن الدِّين الّذي يتبلور في مصادره الأصيلة، أي الكتاب والسنَّة.
ثانياً: الأُسلوب الاستدلاليّ، التمسّك ببعض صفات هذا الدِّين المبين وخصائصه.
فاتّصاف الإسلام ببعض الخصائص، من قبيل: كونه "الدِّين الكامل"، و"الدِّين الخاتم"، وأنّ كتابه السماوي: القرآن الكريم جاء ﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾1، ويشتمل على جميع الأُمور الّتي تتوقَّف عليها هداية البشريَّة وسعادتها، إنّما يستلزم من النَّاحية العقليَّة والمنطقيَّة تدخّل هذا الدِّين في دائرة الأبحاث الاجتماعيَّة. ويؤمن
1- سورة النحل: 89.
28
22
الدرس الثاني: الإسلام والسياسة
هذا الاستدلال بالملازمة بين كمال الدِّين وشمول دائرته للمباحث الاجتماعيَّة، ويعدُّ غياب إرشادات الدِّين، على الصَّعيدين: الاجتماعيّ والسياسيّ، دليلاً على قصور هذا الدِّين ونقصه. وسنتحدَّث بإسهاب، في الدُّروس القادمة، في شأن الأُسلوب الثاني في الاستدلال، ونبحث، هنا، في الأُسلوب الأوّل، أي الأُسلوب الاستقرائيّ. فقد أقام الإمام الخمينيّ رحمه الله الدليل، من خلال هذا الأُسلوب، على نشاط الإسلام على الصَّعيدين السِّياسيّ والاجتماعيّ في مباحثه ودروسه المتعلِّقة بالحكومة الدَّينيَّة، والّتي ألقاها عام 1969م في النَّجف الأشرف.
وقد أكّد سماحته على أنّ ماهيَّة القوانين الإسلاميَّة والأحكام الشَّرعيَّة وكيفيتها تشيران إلى أنَّ هذه الأحكام شرِّعت وسنّت من أجل إدارة شؤون المجتمع السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والثَّقافيَّة. ويتعذَّر تنفيذ هذه القوانين والأحكام، من دون تشكيل الحكومة وإقامتها. والتَّكليف الشَّرعي للمسلمين في إجراء هذه الأحكام يستلزم لا محالة تشكيل الحكومة. وقد تناثر هذا النَّوع من الأحكام في جميع أبواب الفقه، فأشار سماحته إلى نماذج منها.
من هذه الأحكام الأحكام الماليَّة، والضَّرائب الّتي شرَّعها الإسلام, إذ ليس فيها ما يدلّ على أنّها قد خصِّصت لسدّ رمق الفقراء، أو السَّادة من بني هاشم منهم بخاصَّة، وإنّما هي تدلّ على أنّ تشريعها كان من أجل ضمان نفقات دولة كبرى ذات سيادة.
فـ "الخمس" ـ مثلاً ـ مورد ضخم يدرّ على بيت المال أموالاً طائلة تمثِّل النصيب الأكبر ممَّا يرد إليه. ويؤخذ الخمس على مذهبنا من جميع المكاسب والمنافع والأرباح، سواء في الزراعة أم في التجارة أم في المعادن والكنوز. ويدفع خمس فائض الأرباح إلى الإمام، أو الحاكم الإسلامي، ليجعله في بيت المال. وبدهيٌّ أنّ هذا المورد الضَّخم إنّما هو من أجل تسيير شؤون الدَّولة الإسلاميَّة، وسدّ جميع احتياجاتها الماليَّة. وإذا أردنا أن نحسب أخماس أرباح المكاسب في الدَّولة الإسلاميَّة، فإنّ هذه الأموال الطائلة ليست لرفع حاجات فقراء بني هاشم وحسب، بل الأمر أكبر وأوسع من هذا الحدّ، فهي
29
23
الدرس الثاني: الإسلام والسياسة
تسدّ احتياجات أُمَّة بأكملها. وإذا نظرنا في الأموال الّتي تجبى من الجزية والخراج، لوجدناها تمثِّل ثروة لا يستهان بها، فعلى الحاكم أن يفرض على الذمِّيين من الجزية ما يتناسب مع قدراتهم الماليَّة، وكذلك يفرض الخراج على الأراضي الخراجيَّة المستثمرة بإشراف الدَّولة، ويوضع خراجها في بيت المال. وهذا كلّه يشكل عائدات ضخمة، تدلّ على أنّ مثل هذه الموارد الماليَّة إنّما خُصّصت لإدارة شؤون المجتمع، وضرورة تشكيل الحكومة.
ومن جهة أُخرى، نرى أنّ أحكام الجهاد والدِّفاع عن حياض المسلمين لضمان الاستقلال وكرامة الأُمّة تدلّ هي الأُخرى على ضرورة تشكيل هذه الحكومة. فعلى سبيل المثال، حكم الإسلام بوجوب الإعداد والاستعداد والتأهُّب التَّام بموجب قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾1، فهذه الآية تأمر بالاستعداد العسكريّ والتسلُّح القوي والتأهُّب الكامل والدَّائم.
كما أنّ أحكام الحدود والدِّيات والقصاص هي من الأحكام الّتي لا تقام من دون سلطات حكوميَّة، فبوساطتها تؤخذ الدِّية من الجاني وتدفع إلى أهلها، وبوساطتها تقام الحدود، ويكون القصاص تحت إشراف الحاكم الشَّرعيّ ونظره. فكلّ هذه الأُمور مرتبطة بالحكومة ولا تتمّ إلّا بها2.
الفلسفة السِّياسيَّة والفقه السِّياسيّ الإسلاميّ
بعد الاعتراف بأنّ الإسلام ينطوي على جانب سياسيّ، وبأنّه خصَّص بعض تعاليمه لقضيَّة الحكومة والسِّياسة، يرد هذا السؤال: ما هي الأقسام الّتي يختزنها مضمون الفكر السِّياسيّ للإسلام؟
بشكل عامّ، يمكن القول: إنَّ مضمون الفكر السِّياسيّ للإسلام يشتمل على قسمين:
1- سورة الأنفال: 60.
2- ولاية الفقيه: 20 ـ 25.
30
24
الدرس الثاني: الإسلام والسياسة
القسم الأوّل: الّذي نسمِّيه "الفلسفة السِّياسيَّة للإسلام".
القسم الثاني: "الفقه السِّياسيّ للإسلام".
أشرنا، في الدرس السَّابق، إلى أنّ كلّ مذهب، أو اتّجاه، سياسيّ لا بدَّ من أن يجيب عن بعض الأسئلة الأصوليَّة والأساسيَّة، ويصطلح على تسمية هذه المباحث بالفلسفة السِّياسيَّة. وبناءً عليه، ينبغي أن تستند المدرسة السِّياسيَّة الإسلاميَّة إلى أُسس نظريَّة خاصّة، فتقدِّم إجاباتها الوافية الخاصَّة عن الأسئلة الأساس الّتي يطرحها عالم السِّياسة.
والقسم الثاني للفكر السِّياسيّ الإسلاميّ، أي الفقه السِّياسيّ، أو "فقه الحكومة"، يشتمل على بعض المباحث، من قبيل: نوع الحكومة، وشكل الدَّولة، وحقوق الأُمّة على الحاكم، ووظائف الأُمّة إزاء الحكومة والحاكم، وحقوق الأقلِّيات الدِّينيَّة، ونوع تعامل الحكومة الإسلاميَّة (دار الإسلام) وارتباطها بالبلدان الأُخرى الواقعة خارج السَّيطرة الإسلاميَّة (دار الكفر).
وبعبارة أُخرى: إنَّ هذا القسم، وخلافاً للقسم الأوّل الّذي يشتمل على المباحث السِّياسيَّة النَّظريَّة والأساس، أقرب إلى الجوانب العمليَّة للسِّياسة والوقائع الحقوقيَّة والتنفيذيَّة ذات الصِّلة بإدارة المجتمع.
31
25
الدرس الثاني: الإسلام والسياسة
الخلاصة
1ـ إنّ المجتمع الّذي يفتقر إلى الحكومة والرئاسة ناقص وآيل للفناء.
2ـ يرى الإسلام الحكومة ضرورة اجتماعيَّة، ولذلك لم يدعُ الآخرين إلى أصل تشكيلها، بل له وجهات نظره في شأن كيفيَّتها وطبيعتها.
3ـ سلخ السِّياسة عن الإسلام تحريف علنيّ لحقيقة هذا الدِّين الحنيف.
4ـ هناك منهجان لإثبات الجانب الاجتماعيّ والسِّياسيّ في الإسلام:
أـ المنهج الاستقرائيّ وتأمُّل التعاليم الإسلاميَّة، أفضل أُسلوب لإثبات وجود بعدين: سياسيّ واجتماعيّ للإسلام.
ب ـ المنهج الاستدلاليّ: خاتميَّة الدِّين الإسلاميّ وكماله شاهد على لزوم بعديه: الاجتماعيّ والسياسيّ.
5ـ يتعذَّر إجراء بعض الأحكام الإسلاميَّة من دون وجود حكومة صالحة.
6ـ يمكن تقسيم الفكر السِّياسيّ للإسلام، على أساس تصنيف كلّي، إلى قسمين:
أ ـ الفلسفة السِّياسيَّة الإسلاميَّة.
ب ـ الفقه السِّياسي الإسلامي.
32
26
الدرس الثاني: الإسلام والسياسة
الأسئلة
1ـ ما الّذي يستفاد من ردّ أمير المؤمنين عليه السلام على الخوارج في شأن ضرورة الحكومة؟
2ـ لِمَ لَمْ يحثُّ الإسلام الآخرين على أصل تشكيل الحكومة؟
3ـ ما هو الأسلوب الاستقرائي في إثبات دور الإسلام في السِّياسة؟
4ـ كيف يمكن الاستدلال بكمال الدِّين وخاتمة الإسلام للأديان على ضرورة تدخّله في السِّياسة؟
5ـ أذكر طائفة من الأحكام الإسلاميَّة الّتي تتوقَّف على تشكيل الحكومة الإسلاميَّة.
6ـ كيف تدلّ الأحكام الماليَّة الإسلاميَّة على البعد السِّياسي في الإسلام؟
7ـ ما هي الأقسام الّتي يشتمل عليها الفكر السِّياسي للإسلام؟
33
27
الدرس الثالث: الحكومة الدِّينيَّة
الدرس الثالث: الحكومة الدِّينيَّة
شهد التَّاريخ المديد لحياة البشريَّة الاجتماعيَّة ظهور أنواع كثيرة من الحكومات والدُّول. ويمكن تمييز هذا النَّوع من ذاك في ضوء خصائص الحكومة وأُسسها. كما يمكن تقسيم أنواع هذه الحكومات داخلياً إلى أقسام مختلفة. على سبيل المثال: يمكن تصنيفها إلى حكومات "مستبدَّة وغير مستبدَّة"، "ديمقراطيَّة وغير ديمقراطيَّة"، "مستعمِرة ومستعمَرة"، "متقدِّمة ومتخلِّفة"، "اشتراكيَّة وغير اشتراكيَّة"، وأمثال ذلك. ويتم كلُّ تصنيفٍ من هذه التَّصنيفات على أساس معايير معيّنة.
ولعلّ أحد التَّصنيفات، الواردة في شأن الحكومات، تقسيمها إلى "حكومة دينيَّة" و"حكومة علمانيَّة". والحكومة الدِّينيَّة، أو "الدَّولة الدِّينيَّة" مصطلح مركّب من مفردة الحكومة، أو الدَّولة المدمجة بالدِّين. والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو المضمون الّذي تفيده، على وجه الدِّقة مفردة "الدِّينيّ" في هذا التركيب؟ وما المعنى المطلوب من تركيب الدِّين والدَّولة؟ ما معيار دينيَّة حكومة وعدم دينيَّتها (علمانيَّتها)؟
قبل الإجابة، من المناسب أن نعرّف الحكومة والدَّولة.
معنى الحكومة والدَّولة
استعملت الحكومة (Government) والدَّولة (State)، في الماضي والحاضر، بمعان
35
28
الدرس الثالث: الحكومة الدِّينيَّة
كثيرة، فوردت، في بعض الأحيان، إحداهما مرادفة للأخرى ووردتا، في أحيانٍ أُخرى، بمعان مختلفة. على سبيل المثال: للدَّولة، بمعناها الحديث، مفهوم مختلف وأشمل من مفهوم الحكومة. الدَّولة، في الاصطلاح الحديث، عبارة عن مجتمع بشريّ يعيش في بقعة معيّنة، وله حكومة تمارس عليه مهمَّات الحكم. وتتكوَّن الدَّولة، وفاقاً لهذا التعريف، من أربعة عناصر هي:
السكَّان، الأرض، الحكومة، الحاكميَّة. وبناءً عليه، فمصطلح الحكومة ليس مرادفاً لمصطلح الدَّولة، وإنما هو جزء منه. والحكومة، بوصفها أحد العناصر الأربعة المكوِّنة للدَّولة، هي عبارة عن مجموعة من الدَّوائر المرتبطة، بعضها مع بعض، برباط معيّن في بقعة معلومة، وتمارس حكومتها على المجتمع البشريّ هناك.
وبناءً على ما تقدَّم، فالمراد من الدَّولة الإيرانيَّة والدَّولة الفرنسيّة ـ مثلاً ـ ما يفوق حكومة هاتين الدَّولتين.
أمّا إذا عرّفنا الدَّولة بالسُّلطة السِّياسيَّة المنظِّمة الّتي تأمر وتنهى، فستكون، في هذه الحالة، مرادفة للحكومة وبمعناها. وفي ضوء دلالة هذا التعريف، سوف لن تقتصر الدَّولة على السُّلطة التنفيذيَّة للبلاد، ولا على هيئة مجلس الوزراء الّتي تنهض بمسؤوليَّة تنفيذ القوانين، بل ستشمل سائر السُّلطات في النِّظام السِّياسيّ، مثل السُّلطة التَّشريعيَّة، والسُّلطة القضائيَّة، والقوَّات العسكريَّة وقوى الأمن الدَّاخلي. والواقع أنّ الدَّولة، أو الحكومة، في هذا التعريف، تعني الجهاز الحاكم الّذي يضمّ مجموعة الأجهزة ومؤسَّسات السُّلطة السِّياسيَّة الحاكمة للبلاد. ومرادنا من الحكومة والدَّولة، في هذا البحث، المعنى الأخير، وهدفنا دراسة المعنى الموجّه والمقبول من تركيب هذا المعنى للحكومة والدَّولة ودمجه بالدِّين.
تعريفات الحكومة الدِّينيَّة
يمكن ذكر عدَّة تعريفات لمصطلح "الحكومة الدِّينيَّة" في مقام التَّنظير والتَّعريف. بعبارة أُخرى: يمكن ذكر عدَّة تفاسير وأنواع مختلفة من تراكيب وصيغ الدِّين والدَّولة.
36
29
الدرس الثالث: الحكومة الدِّينيَّة
ومن الواضح، أنّ بعض هذه التَّعريفات والتصوّرات للحكومة الدِّينيَّة عارية عن الصحّة، ولا تصمد في الدِّفاع أمام النقد. ونورد هنا بعضاً منها بشكل موجز:
أوَّلاًـ حكومة المتدينين: هي الحكومة الّتي يكون فيها المؤمنون والمعتقدون بدين معيّن أصحاب النُّفوذ السِّياسيّ، وتسند فيها السلطة السِّياسيَّة للشعب في إدارة شؤونه، وتناط إدارة المنظّمات والهيئات والأجهزة الإداريَّة بالمتديّنين بدين معيّن كالإسلام أو المسيحيَّة. والحكومة الدِّينيَّة، في ضوء هذا التعريف، ترادف تحديداً "حكومة المتديِّنين".
ثانياًـ حكومة رجال الدين: الّتي تتصدّى فيها للحاكميَّة السِّياسيَّة طبقة خاصَّة تسمَّى "رجال الدِّين". وعلى أساس هذا التعريف، فإنّ ذات السُّلطة السِّياسيَّة السابقة تُسند إلى الشخصيَّات المتديِّنة ورجال الدِّين، ما يجعل الحكومة تتصف بالدِّينيَّة. ولعلّه يمكن لمس هذه الصُّورة القائمة لهذا التصوّر عن الحكومة الدِّينيَّة في أُوربا القرون الوسطى. فرجال الدِّين، في بعض الأديان، كالمسيحيَّة الكاثوليكيَّة، يتمتعون بقدسيَّة وحرمة خاصّة، ويعدُّون الوساطة المعنويَّة بين عالمي اللاهوت والناسوت.
وقد تبلورت تجربة الحكومة الدِّينيَّة، المنسجمة مع هذا التعريف، في حكومات أُوربا إبّان القرون الوسطى. حيث كان رجال الدَّين المسيحيُّون والقائمون على شؤون الكنيسة يتمتَّعون بامتياز خاصّ يدعى حقّ الحاكميَّة، بوصفهم يؤدُّون دور الوساطة1 بين الله والخلق. ولهذا الحقّ والامتياز الخاصَّين جذور في ربوبيَّة الله وحكومته. حيث كانت الذهنيَّة السائدة هي أنّ لرجال الدِّين قدسيَّة، بفعل ارتباطهم بعالم الملكوت. من هنا كانت قراراتهم وكلماتهم كأنّها إيحاءات إلهيَّة مقدّسة ومعصومة تأبى الطَّعن فيها.
ثالثاًـ الحكومة الدِّينيَّة: هي دولة تنهض بمهمة الدِّفاع والتبليغ ونشر تعاليم دينٍ
1- هذا هو الفارق الأساس عمّا تقدمه الحكومة الدينية بالمعنى الثاني ليس فقط حكومة فئة خاصة من المتدينين هم رجال الدين. بل كونهم يؤدون دور الوساطة بين الله والخلق في الحاكمية.
37
30
الدرس الثالث: الحكومة الدِّينيَّة
معيَّنٍ ومفاهيمه. واستناداً إلى هذا التعريف، فجوهر دينيَّة حكومة ما وقوامها يتَّضحان من خلال المنهج الدِّفاعي عن هذا الدِّين المعيّن.
وبناءً عليه، فإنّ حكومة الصَّفويين والقاجاريِّين، في إيران، وحكومة الوهَّابيين في المملكة العربيَّة السعوديَّة، وحكومة طالبان في أفغانستان، جميعها، من مصاديق الحكومة الدِّينيَّة بمعناها الأخير, ذلك لأنّ دول هذه الحكومات تستخدم قواها وسلطتها السِّياسيَّة وسيلةً قويَّة لترويج مذهب ومنهج معيَّنين على مستوى المجتمع والدِّفاع عنه.
رابعاً ـ حكومة الدِّين: هي الحكومة الّتي أسندت لدين معيّن المرجعيَّة الشَّاملة في مجال السِّياسة وإدارة شؤون المجتمع, أي أنّ الدَّولة ومختلف مؤسَّساتها ترى نفسها ملتزمة بجميع المفاهيم والتعاليم الدِّينيَّة الخاصّة، وتسعى إلى تفعيل الحسّ الدينيّ في التدابير والقرارات وسنّ القوانين، وأُسلوب التعامل مع الشعب، ونوع المعيشة وتنظيم الرَّوابط الاجتماعيَّة، وتستلهم التعاليم الدِّينيَّة في جميع القضايا الحكوميَّة لتقيمها على أساس الدِّين وتكيّفها معه. وقد استتبع هذا التفسير للحكومة الدِّينيَّة تأسيس "المجتمع الدِّيني"، ما يعني أنّ هذه الحكومة تريد بلورة جميع العلاقات الاجتماعيَّة (الثَّقافيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والعسكريَّة) في ضوء التعاليم الدِّينيَّة. ويعيش المجتمع الدِّيني هاجس الدِّين، هذا الهاجس شامل ولا يقتصر على جوانب معيّنة، وتالياً يروم المجتمع الدِّينيّ تكييف جميع شؤونه مع الدِّين.
ووفاقاً لهذا التفسير، فإنّ الحكومة الدِّينيَّة ترى للدِّين شأناً خاصّاً، وتضع التعاليم الدِّينيَّة نصب عينيها، وتقبل بمرجعيَّة الدِّين والتركيز عليه على مختلف الأصعدة السِّياسيَّة وإدارة شؤون المجتمع.
أمّا مدى تدخّل التعاليم الدِّينيَّة في إدارة شؤون المجتمع، فإنَّه يأتي بمقدار تدخُل الدِّين في هذه المجالات. بعبارة أُخرى: فإنّ دائرة تدخّل الدِّين في ميدان السِّياسة والمجتمع تتوقَّف على محتوى التعاليم الدِّينيَّة، وبمقدار ما يحمله الدِّين من رسالة في كلّ
38
31
الدرس الثالث: الحكومة الدِّينيَّة
مجال، وما لديه من تعاليم، وما يقدِّمه من تعليمات تحظى بقبول مثل هذه الحكومات.
تقييم للتَّعريفات الأربعة
التَّعريف الرَّابع من بين التَّعريفات الأربعة المذكورة أكمل تناسباً مع ماهيَّة الحكومة الدِّينيَّة, فبعض التَّعريفات،آنفة الذِّكر، لم تشر إلاَّ إلى جانب من جوانب الدَّولة الدِّينيَّة. فمجرّد تديّن الحكَّام وزعماء السُّلطة السِّياسيَّة للمجتمع بدين معيّن، لا يمكنه أن يكون معرّفاً لدينيَّة الحكومة، فأغلب أصحاب المناصب الحكوميَّة، في أغلب بلدان العالم الّتي تسودها حكومات غير دينيَّة، متديِّنون من الناحية الفرديَّة، وتديّن أُولئك بدين خاص، لا يعني أنّ حكومتهم تتَّصف بالدِّينيَّة.
أما ما ورد، في التعريف الأوّل، بوصفه معياراً لدينيَّة الحكومة، فيندرج ضمن التَّعريف الرابع, لأنّ لازمه مرجعيَّة الدِّين، وتطبيق قطاعات الحكومة المختلفة وميادينها في ضوء التعاليم الدِّينيَّة، وذلك بالتزام زعماء الجهاز الحاكم ورؤسائه بذلك الدِّين نظريّاً وعملياً.
وهكذا، يندرج المعيار المذكور في التَّعريف الثَّالث، ضمن التَّعريف الرَّابع أيضاً, وذلك لأنّ الحكومة الّتي تنشد تأسيس المجتمع الدِّينيّ، وتبذل الجهود لتكييف جميع أنواع العلاقات الاجتماعيَّة مع التعاليم الدِّينيَّة، وتريد انسجام قوانين الحكومة وتشريعاتها مع الدِّين، ستسعى تلقائياً إلى الدِّفاع عن ذلك الدِّين، وستعمل بجدٍّ واجتهاد على تبليغه ونشره. أمّا التعريف الثاني للحكومة الدِّينيَّة، فقد بُني على أساس التفسير الخاصّ لرجال الدِّين، والّذي يسود أغلب الأديان في شأن الشخصيات الدِّينيَّة وعلماء الدِّين.
على سبيل المثال، فإنّ الإسلام لا يرى لعلماء الدِّين موقعاً طبقياً خاصّاً، بأيِّ شكل من الأشكال، كما لا يراهم متحلّين بمقام العصمة. وعلى هذا الأساس، تنتفي أصول مثل هذا التفسير للحكومة الدِّينيَّة، إضافة إلى أنّ مجرّد تصدّي العلماء ورجال الدِّين للمناصب الحكوميَّة ليس بضامن لدينيَّة تلك الحكومة، بل وكما ورد في التعريف الرابع، فإنّ تنفيذ التَّعاليم الدِّينيَّة وتكييف مختلف الشؤون الاجتماعيَّة والحكوميَّة مع المضامين
39
32
الدرس الثالث: الحكومة الدِّينيَّة
الدِّينيَّة لا يمنح الحكومة والسِّياسة صبغة دينيَّة1.
والجدير ذكره أنَّ تعريفنا للحكومة الدِّينيَّة لا ينطلق من دين معيّن، بل إنّ إقرار أيّة دولة، في أيّة بقعة من العالم بتعاليم دينيَّة معيّنة، وقبولها لمرجعيتها وتطبيقها لتلك التعاليم, يعني تشكيل حكومة دينيَّة، سواء كان هذا الدِّين من الأديان السماويَّة أم ديناً لا يستند إلى الوحي الإلهيّ، حسب ما نعتقده نحن المسلمين، وقد اصطبغ بصبغة الشِّرك والتَّحريف. كما ينبغي الالتفات إلى أنّه إن كان مرادنا من الدِّين هو الدِّين الإسلاميّ، فالحكومة الدِّينيَّة هي الحكومة الّتي تعيش هاجس التطابق والتكيُّف مع التعاليم الإسلاميَّة. والمراد من التعاليم الإسلاميَّة تلك المضامين الدِّينيَّة والفتاوى المستنبطة من المصادر الدِّينيَّة المعتبرة. وبناءً عليه، فلا فرق بين أن تكون تلك التعاليم الدِّينيَّة مستقاة من الوحي والرِّوايات المعتبره أو أن تكون مستندة إلى العقل والأدلَّة العقليَّة المعتبرة. طبعاً، لمّا كانت المتون الدِّينيَّة (الكتاب والسنَّة) هي أعظم مصدر لإدراك التَّعاليم الإسلاميَّة وأعمقه، فإنّ مراد أغلب الأفراد الّذين يبحثون في موضوع الحكومة الدِّينيَّة، ومدى تدخّل الإسلام في السِّياسة، مرادهم من الدِّين، التَّعاليم المستلهمة من القرآن والسنَّة.
1 حيث أن هناك فارقاً جوهرياً لا بد من بيانه وهو أن الحاكمية لنفس أحكام الدين أم للحاكم الديني.
40
33
الدرس الثالث: الحكومة الدِّينيَّة
الخلاصة
1ـ هنالك عدَّة معانٍ لمصطلحي الحكومة والدَّولة بعضها مرادف لبعضها الآخر.
2ـ للدَّولة، في الاصطلاح المعاصر، تعريف خاص تعدّ الحكومة جزءاً منه.
3ـ يمكن تعريف الحكومة الدِّينيَّة بتعريفات كثيرة, أي يمكن عرض أُطروحات مختلفة لتركيب الدِّين والدَّولة.
4ـ إن فسرنا الحكومة الدِّينيَّة بإقرار مرجعيَّة الدِّين في الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة، فإنّ هذا التفسير يكون أكثر تناسباً مع ماهيَّة تركيب الدِّين والدَّولة.
5ـ يتّصف التعريف الرابع، في هذا الدرس، بشموليَّة خاصّة، ويفيد أنّ المعيار الأصليّ لدينيَّة حكومة ما هو العمل على تطابق الشؤون السِّياسيَّة المختلفة للمجتمع مع التعاليم والمفاهيم الدِّينيَّة.
6ـ تعريف الحكومة الدِّينيَّة، المتمثِّل بمرجعيَّة الدِّين في مختلف الشؤون السِّياسيَّة، تعريف عامّ لا يأخذ بنظر الاعتبار ديناً معيّناً.
41
34
الدرس الثالث: الحكومة الدِّينيَّة
الأسئلة
1ـ أذكر تعريف الدَّولة بمعناها الحديث.
2ـ ما هو التَّعريف الّذي يرادف فيه معنى الدَّولة معنى الحكومة؟
3ـ ما هو التعريف الّذي يرادف فيه معنى الحكومة الدِّينيَّة معنى حكومة المتدينين؟
4ـ ما التعريف المقبول والجامع للحكومات الدِّينيَّة؟
5ـ ما هي الخصائص الّتي تميّز التعريف الرابع للحكومة الدِّينيَّة من سائر التَّعريفات؟
42
35
الدرس الرابع: حدود مرجعيَّة الدِّين في السِّياسة
الدرس الرابع: حدود مرجعيَّة الدِّين في السِّياسة
إتّضح، من الدَّرس السابق، أنّ معيار دينيَّة حكومة ما، هو إدخال التَّعاليم الدِّينيَّة في مختلف شؤون السِّياسة والحكومة ومجالاتهما. وما يميِّز الحكومة الدِّينيَّة، من سائر أشكال الحكومات الأُخرى، هو قبول مرجعيَّة الدِّين في الشؤون السِّياسيَّة والإداريَّة للمجتمع.
والسُّؤال الّذي يطرح نفسه، في هذا البحث، هو: ما هي حدود هذه المرجعيَّة؟ وما هي المجالات في عالم السِّياسة وشؤون الحكم والإدارة العامَّة للمجتمع الّتي يتدخّل فيها الدِّين ؟ بعبارة أُخرى: أيّ مجال من المجالات المتعلِّقة بالحكومة والسِّياسة ينبغي للمتدينين أن يتّجهوا فيه صوب الدِّين وتعاليمه؟ وما القضايا الّتي يستغنون فيها عن مرجعيَّة الدِّين؟ وما هي الجوانب المدنيَّة والبشريَّة في دولة دينيَّة؟ وما الجوانب الأُخرى الّتي ينبغي أن تتأثر بالتَّعاليم الدِّينيَّة وتُقتبس منها؟
هنا، ينبغي أن نتعرَّف إلى المجالات والشؤون المختلفة للسِّياسة والحكومة قبل دراسة هذه المسألة المهمّة, لأنّ العلم التفصيليّ بالأبحاث الجديرة بالطَّرح، في قضيَّة الدَّولة والحكومة، يؤدِّي دوراً مهماً في فهم نوع التدخّل ومرجعيَّة الدِّين في كلّ مجال وصعيد من هذه المجالات والصُّعد.
43
36
الدرس الرابع: حدود مرجعيَّة الدِّين في السِّياسة
الحكومة وأبعاها السِّياسيَّة
عرّفنا الحكومة - الدَّولة بأنّها "السُّلطة السياسيّة المنظَّمة الّتي تمارس الأمر والنَّهي وتدبير الأُمور". وهناك عدّة أبحاث جديرة بالطَّرح في شأن السُّلطة السِّياسيَّة. وهذه الأبحاث والأبعاد السِّياسيَّة المختلفة، رغم تمايزها، مترابطة في ما بينها. وتالياً، يمكن إيجاز الأبعاد والجوانب السِّياسيَّة المختلفة ذات الصلة بمقولة الدَّولة في ما يأتي:
1ـ إنّ الحكومات غاية في الاختلاف والتنوُّع من حيث الشكل، فمنها: الجمهوريَّة، والملكيَّة، والملكيَّة الدستوريَّة وما شابه ذلك. وبناءً عليه، فأحد الأبحاث الأساس المرتبطة بالدَّولة والحكومة، هو: تعيين نوع النِّظام السِّياسيّ الحاكم للشَّعب. وينضوي ضمن هذا البحث تعيين الشرائط والخصائص الفرديَّة لأصحاب القرار السِّياسيّ. والإفصاح عن نوع النِّظام السِّياسيّ من شأنه التعريف إلى حدٍّ ما بالخصائص الضَّروريَّة للتصدّي لمختلف مؤسسات السلطة السِّياسيَّة لكلّ مجتمع ومراكزها.
2ـ لكلّ دولة آليَّة وهيكليَّة ونظام, أي أنّها تتكوَّن من سلطات ومؤسَّسات مختلفة. وإنّ أحد المحاور المهمة ذات الصلة بالسِّياسة والحكومة يتمثَّل في تعيين هيكليَّة كلّ حكومة، وبيان كيفيَّة ارتباط المراكز والمؤسسات واتّصالها، بعضها مع بعضها الآخر، ونطاق وظائف كلّ دائرة من دوائر الجهاز الحاكم ومهمَّاتها وصلاحيَّاتها.
3ـ لكلّ دولة هيمنة وسلطة (Autho rity), أي أنّها تأمر وتنهى، وتسنُّ القوانين، وتضع المقرّرات، وتشرف على ضرورة حسن إجرائها وتنفيذها. وإنّ أحد الأبحاث المهمَّة هنا، هو: ما هي هذه الأهداف والأُصول والقيم الّتي ينبغي أن يتم على أساسها ذلك الأمر والنَّهي؟ ثمَّ، ما هي الأُطر والمبادئ والأُسس الّتي يستند إليها الأمر والنَّهي؟ وما يجب وما لا يجب أن تمارسه مختلف مؤسَّسات الحكومة إزاء أبناء الشعب وأفراد المجتمع؟
44
37
الدرس الرابع: حدود مرجعيَّة الدِّين في السِّياسة
على سبيل المثال، فإنّ الدَّولة الاشتراكيَّة، الملتزمة بالمبادئ الماركسيَّة، تعتمد التَّعاليم الماركسيَّة في أوامرها ونواهيها وممارستها للسُّلطة. فهنالك تركيز فائق على مضامين هذه المدرسة لدى هذا النَّوع من الحكومات في تشريع القوانين والبرمجة والتخطيط الاقتصاديّ وتنظيم العلاقات الثَّقافيَّة والحقوقيَّة وبلورة العلاقات الدوليَّة. كما تمارس الدَّولة حاكميّتها وفاقاً لإطار المبادئ والأُسس اللِّيبراليَّة، في الحكومات اللِّيبراليَّة ـ الديمقراطيَّة السائدة اليوم في أمريكا والبلدان الأُوربيَّة. والديمقراطيَّة وآراء الأكثريَّة ورغباتها لا تمارس بصورة مطلقة ومفتوحة في هذه البلدان، بل تخضع لهيمنة اللِّيبراليَّة وسيطرتها. وسلطة الدَّولة وأوامرها ونواهيها خاضعة للمبادئ والأُطر الّتي تحدِّدها اللِّيبراليَّة.
4ـ تمارس كلّ دولة سلسلة من الوظائف، وتوفّر لمواطنيها عدداً من الخدمات (Functions). وأحد المباحث المرتبطة بمقولة الحكومة يثير أسئلةً منها: ما هي هذه الوظائف والخدمات؟ وما هي الوظائف المحدَّدة الّتي ينبغي أن تقوم بها الدَّولة إزاء شعبها؟
5ـ يعبَّر بالحاكميَّة (Sove reignty) عن مباني السُّلطة السِّياسيَّة وأصولها وأسسها، وقدرة الحكومة على القيام بالمهمَّات والوظائف وممارسة السُّلطة. وتستطيع كلّ دولة، بالاستناد إلى ما تتمتَّع به من حاكميَّة، أن تمارس سلطتها السِّياسيَّة في مختلف المجالات، وتنفيذ إرادتها السِّياسيَّة داخل البلاد وخارجها. كما تزاول الحكومة دورها بالاستناد إلى حاكميَّتها الحقوقيَّة.
ومن الطبيعيّ أن يبرز هنا هذا السؤال: هل حاكميَّتها الحقوقيَّة موجَّهة وشرعيَّة؟
بعبارة أُخرى: هل هي مستحقَّة لهذه الحاكميَّة وجديرة بها أو أنَّها فاقدة للجدارة والأهليَّة؟
إنّ مبحث الشَّرعيَّة (Legitimacy) مبحث غاية في الأهميَّة، ولا يستغني عن الخوض في تفاصيله أيّ مذهب سياسيّ، لأنّ المؤسّسات والمراكز الحكوميَّة، وجميع القرارات
45
38
الدرس الرابع: حدود مرجعيَّة الدِّين في السِّياسة
والتدابير السِّياسيَّة، إنّما تستمدّ اعتبارها وشرعيتها من شرعيَّة حقّ حاكميَّة تلك الحكومة والدَّولة. وينبغي لكلّ حكومة أن تستطيع الدِّفاع بصيغة مقبولة ومستدلَّة عن مبدأ شرعيّتها.
وفي ضوء هذا الشَّرح المقتضب للغاية، يتّضح أنّ هناك، على الأقل، خمسة محاور أساس جديرة بالبحث في شأن الدَّولة والحكومة. ولا بدَّ من أن نرى ما هو المحور الّذي من شأن الدِّين أن يكون المرجع فيه من بين هذه المحاور الخمسة. بعبارة أُخرى: أيٌّ من هذه المجالات الخمسة عليه الاستناد إلى الدِّين في الحكومة الدِّينيَّة بغية إيجاد النِّظام والتنظيم؟
هل يمكن الزَّعم أنّ التدخّل، في بعض هذه المجالات، ليس من شأن الدِّين، وأنَّ مرجعيَّة الدِّين إنّما تقتصر على بعض هذه المجالات؟
دائرة مرجعيَّة الدِّين
يمكن دراسة مبحث تعيين دائرة تدخّل الدِّين في السِّياسة على مستويين:
أوَّلا: دائرة إمكانيَّة تدخّل الدِّين.
ثانياً: دائرة تدخّل الدِّين بالفعل.
المراد من المستوى الأوّل، أساساً، تعيين المجالات السِّياسيَّة المفتوحة بوجه الدِّين، والّتي يكون من مهمَّات الدِّين طرح وصاياه وتعليماته في شأنها وممارسة مرجعيته فيها.
والسُّؤال الأساس الّذي يواجهنا هنا هو: هل يستطيع الدِّين أن يمارس دوره في جميع المجالات الخمسة، وتوجيه الحياة السِّياسيَّة للمجتمع وقيادتها في جميع جوانبها، أو أنّ بعض هذه المجالات بشريٌّ صرف، ولا يجدر بالدِّين أن يتدخّل فيه ويبدي وجهات نظره ووصاياه في شأنه؟
أمَّا المراد من المستوى الثَّاني من البحث، فهو تعيين القضيَّة الآتية:
1ـ في أيِّ مجال، من المجالات الخمسة، أبدى الدِّين الإسلامي الحنيف وجهة نظره عمليَّاً وبالفعل؟
46
39
الدرس الرابع: حدود مرجعيَّة الدِّين في السِّياسة
2ـ ما حيِّز تلك التَّعليمات والوصايا في كلّ جانب؟
ما يبدو، في شأن إمكانيَّة تدخّل الدِّين في مختلف الجوانب السِّياسيَّة، أنّه ليس هنالك أيُّ مانع من مرجعيَّة الدِّين، ما يعني أنَّ للدِّين قوله الفصل في المحاور الخمسة جميعها. وليست هناك من ضرورة من الناحية المنطقيَّة لأن تقتصر دائرة شموليَّة الدِّين للسياسة على جانب أو جوانب معيّنة محدودة، بل يمكن للدِّين إبداء آرائه في جميع شؤون الحكومة.
فعلى سبيل المثال: إنّ للدِّين تعاليمه ووصاياه في باب آليَّة النِّظام السِّياسيّ ونوع الحكومة، وشرائط الجهاز الحاكم للمجتمع الدِّيني، ولا سيّما شرائط الزعيم ورأس الهرم في النِّظام السِّياسيّ. وللدِّين رسالته في شأن حقّ الحاكميَّة، ومبدأ مشروعيّتها، وتعيين هذه المسألة، وهي: ما الحاكميَّة الموجَّهة والشَّرعيَّة؟ وما الحاكميَّة غير الشَّرعيَّة؟ كما أنّ للدِّين كلمته في باب حقوق الأُمّة على الحاكم، ووظائف الحاكم إزاء الأُمّة، وحقّ الحاكم على الأُمّة. وللدِّين أيضاً رسم القيم والمثل والأهداف المعيّنة الّتي ينبغي أن يعتمدها أصحاب السلطة السِّياسيَّة، ليبادروا إلى طرح سياستهم ومشاريعهم، ويديروا شؤون المجتمع في ضوء تلك الأهداف والمبادئ.
وبناءً عليه، فمرجعيَّة الدِّين، في الشأن السِّياسيّ، من حيث إمكانيَّة التدخّل، مطلقة. وكلّ سعي لحصر هذه المرجعيَّة وحدِّها في مجال معيّن من السِّياسة عبث، ويصعب الدِّفاع عنه. ويعتقد بعضهم بضرورة نفي مرجعيَّة الدِّين في مختلف المجالات الحكوميَّة المتنوِّعة، على أثر قبولهم للإمكان المنطقيّ لتدخّل الدِّين في الجوانب المختلفة للسِّياسة. ويرى هؤلاء، في ضوء بعض الأدلَّة، ضرورة إقصاء دينهم عن بعض هذه المجالات، وقد فوّضوا هذه الأُمور مباشرة للإنسان وعقله وتجربته. وسنتوسَّع في الدُّروس القادمة في مناقشة أدلّة هذه الطَّائفة الّتي تنكر الحكومة الدِّينيَّة.
وبعد أن انتهينا من قبول إمكانيَّة تدخّل الدِّين في المجالات الخمسة المتعلِّقة بالسِّياسة، يأتي دور مناقشة المستوى الثاني.
47
40
الدرس الرابع: حدود مرجعيَّة الدِّين في السِّياسة
إنَّ تعيين مدى مرجعيَّة الدِّين العمليَّة في الأُمور السِّياسيَّة والحكوميَّة، لا يتسنَّى سوى من خلال طريق واحد هو الرُّجوع مباشرة إلى مضمون الدِّين والرِّسالة الإلهيَّة. إنّ مراجعة علميَّة لتفاصيل التعاليم الاجتماعيَّة الإسلاميَّة تميط اللِّثام عن حقيقة ما رأى إليه الإسلام، فبأيِّ مجال من هذه المجالات الخمسة، كانت توصياته وإرشاداته وتوجيهاته؟ وبأيّ مقدار تحدَّث في كلّ جانب منها؟ وأيّ الأُمور الّتي تركها للإنسان وعقله وتدبيره؟
فبالرجوع إلى الدِّين وإدراك مضمونه، تتّضح لنا الأُمور الّتي مارس مرجعيَّته فيها، وإلى أيّ مدى، وما هي القضايا الّتي سمح فيها للإنسان بالاعتماد على فكره واختياره.
حقّاً، لا يمكن منع الدِّين من التدخّل في بعض المجالات السِّياسيَّة، أو اعتبار آرائه وتدخّله في بعض الأُمور خارجة عن أهداف الدِّين وشؤونه، من دون العودة إلى محتوى النُّصوص والمتون الدِّينيَّة ومضمونه1.
1- هنا لا بد من توضيح هذه الفكرة كي لا يفهم أن السياسة في الدين هي أحكام ثابتة صدرت من الشريعة بل لا بد من إضافة العنصر الأكثر تأثيراً وحيوته في الممارسة السياسية للدين وهو الأحكام الولائية.
48
41
الدرس الرابع: حدود مرجعيَّة الدِّين في السِّياسة
الخلاصة
1ـ تشتمل مقولة الحكومة والسِّياسة على خمسة أبعاد متَّصل بعضها ببعضها الآخر.
2ـ تعيين نوع النِّظام السِّياسي وعدد مراكزه السِّياسيَّة وكيفيَّتها من الأبعاد المهمَّة للبحث في مقولة السِّياسة.
3ـ أحد المباحث السِّياسيَّة المهمة هو: على أساس أيّ من المبادئ والأهداف تمارس كلّ حكومة أوامرها وسلطتها الّتي تتمتَّع بها؟
4ـ تمارس كلّ حكومة نفوذها بالاستناد إلى الحاكميَّة الحقوقيَّة الّتي تتمتَّع بها.
5ـ مبحث شرعيَّة النِّظام السِّياسيّ يتحدَّث عن قبول أو عدم قبول الحاكميَّة الحقوقيَّة، ويجيب عن السؤال الأساس: من هم الأفراد الّذين لهم حقّ الحكومة؟
6ـ الدِّين قادر على أن يعطي وجهة نظره في أيّ من المحاور الخمسة الأساس للأبحاث السِّياسيَّة.
7ـ يمكن دراسة مرجعيَّة الدِّين في الأمور السِّياسيَّة على مستويين:
أ ـ في أيّ واحد من المجالات السِّياسيَّة يمكن أن يتدخّل الدِّين؟
ب ـ وفي أيٍّ من هذه المحاور أبدى الإسلام رأيه بالفعل؟
8 ـ الجواب الوحيد، عن المستوى الثاني للبحث، هو الرجوع إلى محتوى الدِّين، ليتّضح مدى تدخّل الإسلام في كلّ جانب من المباحث الحكوميَّة.
49
42
الدرس الرابع: حدود مرجعيَّة الدِّين في السِّياسة
الأسئلة
1ـ أذكر، باختصار، المحاور الخمسة المتعلِّقة بالحكومة والسِّياسة.
2ـ ما المراد بالآمريَّة والسُّلطة؟ وما البحث المتعلِّق بهما؟
3ـ ما هو بحث الشَّرعيَّة؟ وما علاقته بالحاكميَّة الحقوقيَّة؟
4ـ ما هو المجال، من المجالات الحكوميَّة الخمسة، الّذي يكون للدِّين فيه شأن المرجعيَّة؟
5ـ ما السبيل إلى تعيين مدى تدخّل الدِّين في أيّ من المجالات الخمسة؟
50
43
الدرس الخامس: منكرو الحكومة الدِّينيَّة
الدرس الخامس: منكرو الحكومة الدِّينيَّة
مرَّ بنا أنّ الحكومة الدِّينيَّة هي نظريَّة سياسيَّة تؤمن بضرورة مرجعيَّة الدِّين في مختلف مجالات السِّياسة والدَّولة. والدَّولة الدِّينيَّة هي الدَّولة الّتي يوجِّهها هاجس التكيُّف مع الدِّين وتسعى إلى تلبية ندائه، وتتقيَّد بأوامره في إدارة العلاقات الاجتماعيَّة وتنظيمها في مختلف مجالاتها، وممارسة السلطة الحكوميَّة وإدارة مختلف الأُمور ذات الصِّلة بالمجتمع على أساس الدِّين وتعليماته ووصاياه. ولقد لقيت قضيَّة دمج الدِّين والدَّولة وإقامة الحكومة الدِّينيَّة معارضين ومنكرين لها في الماضي والحاضر. ومرادنا من المعارضة الإنكار النَّظريّ لهذه التركيبة، أما المعارضة العمليَّة والعمل السِّياسيّ ضد الحكومة الدِّينيَّة فخارج عن مدار البحث.
ومنكرو الحكومة الدِّينيَّة هم أُولئك الّذين ينكرون نظريَّة دمج الدِّين والدَّولة، وإعطاء المرجعيَّة للدِّين في مختلف الأصعدة السِّياسيَّة، وينظرون إليها نظرة سلبيَّة. ويتمّ هذا الإنكار والإقصاء من خلال عدَّة أدلّة. من هنا، يمكن تقسيم المنكرين للحكومة الدِّينيَّة، بحسب نوع الاستدلال والاتّجاه العامّ إلى ثلاثة أقسام أصليَّة:
أوَّلاً: المسلمون الّذين يعتقدون بأنّ الإسلام جاء فقط لهداية البشريَّة معنويَّاً وأخلاقيَّاً، وأنَّه لا يرسم للإنسان سوى طريق العبوديَّة. واستناداً إلى نظرة
51
44
الدرس الخامس: منكرو الحكومة الدِّينيَّة
هؤلاء، فإنّ الإسلام لا دخل له في الشأن السِّياسيّ، وإنَّ دائرة الدِّين تقوم بمعزل عن السِّياسة وغريبة عليها. وتالياً، ليس هناك من انسجام بين الأهداف الّتي يتطلَّع إليها الدِّين وتدخّله في السِّياسة. وهذه الفئة، من معارضي الحكومة الدِّينيَّة، لا تخالف، من حيث الأساس والمبدأ، مرجعيَّة الدِّين في الشؤون السِّياسيَّة، بل تؤكّد غياب البعد السِّياسيّ عن التعاليم الإسلاميَّة. فهذه الفئة تقرُّ بأنّه لو كانت في التعليمات الدِّينيَّة دعوة لتشكيل الحكومة الدِّينيَّة، ولو أنّ الدِّين كان قد أثبت إمكانيَّة مرجعيّته في المجالات المختلفة المرتبطة بالسِّياسة والحكومة، فليس هناك من مانع أمام دمج الدِّين والدَّولة. وبناءً عليه، فنـزاع هذه الفئة مع المدافعين عن الحكومة الدِّينيَّة نزاع دينيّ داخليّ، وفقهيّ ـ كلاميّ. ونـزاعهم يتركَّز على الإجابة عن السؤال الآتي: هل هناك أدلّة وشواهد، في النُّصوص الدِّينيَّة، على ضرورة تشكيل الدَّولة الدِّينيَّة والتوفيق بين الدِّين والسِّياسة؟
ثانياً: الفئة الثَّانية المنكرة للحكومة الدِّينيَّة، هي تلك الفئة الّتي تتبنَّى النَّظريَّة العلمانيَّة، وترى أنَّه يجب فصل الدِّين عن السِّياسة، استناداً إلى التجارب التاريخيَّة والإفرازات والنتائج السلبيَّة الّتي نجمت عن دمج الدِّين والدَّولة. ويعتقد هؤلاء بأنَّ بعض التجارب التاريخيَّة لتشكيل الحكومة الدِّينيَّة لم تكن موفَّقة، المصداق البارز لمثل هذه التجارب حكومة الكنيسة، في أوربَّا، في القرون الوسطى، والّتي اقترنت بالوقائع المريرة والأليمة. ويرى المدافعون عن هذه النظريَّة أنّ خلط الدِّين بالسِّياسة يفضي إلى تشويه صورة الدِّين، وينفّر الآخرين من الإقبال عليه. وعلى هذا الأساس، فمن الأفضل فصل الدِّين عن السِّياسة، وإن تضمّنت التعليمات الدِّينيَّة بعض الإرشادات والتوجيهات في مقولة السِّياسة والحكومة.
وبناءً عليه، فهذه الفئة لا تزعم أنّ الدِّين يفتقر إلى الجوانب السِّياسيَّة، وتعتقد بأنَّ
52
45
الدرس الخامس: منكرو الحكومة الدِّينيَّة
الدِّين، وإن تضمَّن في ذاته مختلف الجوانب السِّياسيَّة، فإنَّ ما قدَّمته تجربة الحكومة الدِّينيَّة من نتائج سلبيَّة يدعو إلى ضرورة غضّ الطَّرف عن هذه التعاليم الدِّينيَّة، وإسناد قضيَّة السِّياسة برمّتها للإنسان.
ثالثاً: الفئة الثالثة المعارضة للحكومة الدِّينيَّة، هي تلك الفئة الّتي تعارض، من الأساس، تدخّل المضامين الدِّينيَّة في الأُمور المرتبطة بالسِّياسة، فهذه الفئة لا تقرّ بمرجعيَّة الدِّين في القضايا الحكوميَّة. فوجهة نظر هؤلاء هي: ليس الحديث في ما إذا كان الدِّين يشتمل على التَّعليمات والإرشادات في الشؤون الحكوميَّة وإدارة أُمور المجتمع أم لا، بل في ضرورة تنحّي الدِّين عن الأُمور الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، وإن انطوى على العديد من التعليمات والوصايا في شأن مختلف الشؤون الاجتماعيَّة والسياسيَّة.
وفي ضوء هذه النَّظرة وإن كان للدِّين دوره في الأُمور السِّياسيَّة، وفي الدَّعوة لتشكيل الدَّولة الدِّينيَّة، وتعاليمه الّتي تغني القضايا السِّياسيَّة، فإنَّه يتعذَّر الإيمان، على الصعيد العمليّ، بمرجعيَّة الدِّين في الأُمور السِّياسيَّة، لأنّ مقولة السِّياسة وإدارة شؤون المجتمع مقولة بشريَّة وعقلائيَّة تماماً، وليس للدِّين تدخُّلٌ فيها.
إنّ إيكال مرجعيَّة الأُمور السِّياسيَّة والاجتماعيَّة إلى الدِّين، وفاقاً لهذه النَّظرة، عمل مستهجن وطائش، ذلك لأنّه يعني تجاهل العقلانيَّة ودور العلم البشريّ وتدبيره. وتالياً تدافع هذه الفئة عن الحكومة العلمانيَّة وتتبنَّى بقوَّة فكرة العلمانيَّة.
فصل الدِّين عن السِّياسة
كما أُشير سابقاً، فإنَّ الفئة الأُولى، من منكري الحكومة الدِّينيَّة، تعتقد بأنَّ الإسلام لم يتضمَّن، في جوهره ومضمونه، حثَّ المسلمين على تشكيل الحكومة الدِّينيَّة. ومحور بحث هذه الفئة يتمثَّل في سنيّ وجود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمفي المدينة، وفي ما إذا كان قد شكَّل حكومة هناك. وعلى فرض الجواب بالإيجاب، فهل كان منشأ هذه الحكومة من الأوامر الإلهيَّة والدَّعوة الدِّينيَّة أو كانت لها جذور جماهيريَّة؟ كما يتمُّ البحث في حقيقة
53
46
الدرس الخامس: منكرو الحكومة الدِّينيَّة
التعليمات الإسلاميَّة، وما إذا كانت عمليَّة تشكيل الحكومة وإدارة المجتمع تفتقد إلى الوضع القانوني.
الوقائع التاريخيَّة تفيد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لمّا هاجر إلى المدينة، دعا جميع القبائل المقيمة فيها وعلى مقربة منها إلى الإسلام، وعقد العديد من الاتفاقيات انطلاقاً من مركزيَّة المدينة. وكان تفسير المسلمين لهذه الوقائع أنّ النبيّ’ شكَّل حكومة في المدينة، ونهض بمسؤوليَّة الزَّعامة السِّياسيَّة للمسلمين إلى جانب وظائف النبوّة في التبليغ والإرشاد والهدي. وكان لنشاطه هذا جذور في الوحي والتعاليم السماويَّة. وقد نشأت ولاية النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من تنفيذ الأمر الإلهيّ، فقد قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾1، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ﴾2.
فقد منح الله تعالى، في هاتين الآيتين، النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمولاية أمر المسلمين، وأن يحكم بين الناس وفاقاً لما جاء في القرآن. وهكذا، تأمر آيات أُخرى المسلمين بطاعته صلى الله عليه وآله وسلم، كما في الآيتين الآتيتين: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾3، ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾4.
وعلى أساس هذا التَّفسير السائد والمعروف، فإنّ إقدام مسلمي صدر الإسلام على تشكيل الحكومة الدِّينيَّة له أُصول تنتهي إلى الدِّين وتعاليمه، وهو عمل دينيّ ومشروع تماماً، وفي الواقع هو تلبية لرسالة الدِّين ودعوته. أمّا العقود الأخيرة، فقد شهدت معارضة من بعض كتّاب أهل السنَّة، وفئة ضئيلة من مفكري الشِّيعة لهذه الرؤية،5 فقد أورد هؤلاء الأفراد تفاسير وتحليلات أخرى في مقابل التفسير السَّائد والمعروف لزعامة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السِّياسيَّة في المدينة. فبعض هؤلاء ينكرون،
1- سورة الأحزاب: 6.
2- سورة النساء: 105.
3- سورة النساء: 59.
4- سورة النساء: 65.
5- ابتدأ هذا البحث بكتاب الكاتب المصري عليّ عبد الرَّزاق: "الإسلام وأُصول الحكم" الّذي طبع في القاهرة سنة 1925م.
54
47
الدرس الخامس: منكرو الحكومة الدِّينيَّة
من الأساس، ولاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السِّياسيَّة، ويؤكّدون أنَّه نهض بعبء الزَّعامة الدِّينيَّة، ولم يتصدّ قطُّ للقضايا السِّياسيَّة والحكوميَّة، بينما يعتقد بعض آخر منهم بأنَّه كانت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم زعامة وولاية سياسيَّتان، إلّا أنّ هذه الولاية لم تكن من جانب الله، بل انبثقت زعامته صلى الله عليه وآله وسلم من تأييد الأُمّة وتفويضها. وبناءً عليه، فالدِّين لم يتضمّن، في تعاليمه، الدعوة لتشكيل الحكومة الدِّينيَّة والأمر بذلك، ولم تكن حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سوى واقعة تاريخيَّة حدثت مصادفةً، ولا يمكن التعامل معها بوصفها أمراً دينياً. وسنتحدّث، في الفصل الثاني من هذا الكتاب، والّذي يختصّ بدراسة الفكر السِّياسيّ للإسلام، عن هذه الرؤى بالتفصيل، وسنردّ على أدلّة هذه الفئة المنكرة للحكومة الدِّينيَّة.
التَّجربة التَّاريخيَّة للحكومة الدِّينيَّة
أشرنا سابقاً إلى أنّ الطائفة الثانية، من منكري الحكومة الدِّينيَّة، تركِّز على النتائج السَّلبيَّة والإفرازات غير المناسبة لتشكيل الحكومة الدِّينيَّة، وجعلت من تفادي هذه النتائج السلبيَّة مستنداً وقاعدة لذلك الإنكار. وطبيعيٌّ إنّ محور استدلال هؤلاء هو الانتقادات الموجَّهة للتجارب التَّاريخيَّة لتشكيل الحكومة الدِّينيَّة. ونذكر هنا بعض الأُمور في مقام الردّ على هذه الفئة من المنكرين للحكومة الدِّينيَّة:
1ـ شهد التاريخ البشري العديد من أنواع الحكومات الدِّينيَّة، لم يكتب لبعضها التَّوفيق والنجاح، بينما كانت حكومة الحقّ والعدل لبعض الأنبياء وأولياء الله جوهرة قيّمة في تاريخ الحكومة الدِّينيَّة. فزعامة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلممدَّة عقد من الزَّمان في المدينة، وحكومة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الّتي دامت أقلّ من خمسة أعوام في الكوفة، إنّما تقدِّمان المثل الأعلى للحكومة الدِّينيَّة بجزئيَّاتها ولحظاتها المشرقة النُّورانيَّة لكلّ باحث ملمّ بالتاريخ. فتلك الحاكميَّة الّتي انصبّت على بلورة روح الورع والتقوى والعدل والفضيلة لم تكن مفخرة للمسلمين فحسب، بل مدعاة لفخر البشريَّة برمّتها. وبناءً عليه، فلا يمكن إصدار حكم كلّيّ بإخفاق جميع
55
48
الدرس الخامس: منكرو الحكومة الدِّينيَّة
الحكومات الدِّينيَّة، بل يقتضي الإنصاف العلميّ أن تخضع كلّ تجربة تاريخيَّة للمناقشة والدِّراسة بكلّ دقة.
2ـ للحكومات الدِّينيَّة مراتب ودرجات، فبعض مصاديق الحكومة الدِّينيَّة، في عالم الإسلام والمسيحيَّة، وإن ابتعدت كثيراً عن الدَّرجة المطلوبة والمرجوة، فإنّها اتَّصفت بمزايا خاصّة، في زمانها، حين مقارنتها بسائر أشكال الحكومات الّتي عاصرتها. والحكومات الإسلاميَّة، في القرون الأُولى في العالم الإسلاميّ، ملتزمة جداً بالحكومة الدِّينيَّة، وإن كنّا نعتقد بأنَّ أغلبها كان قائماً على أساس الغصب وبعيداً عن الأفكار الإسلاميَّة.
وعلى هذا الأساس، يمكن الادّعاء بأنّها كانت تتمتَّع بالكثير من مواطن القوة مقارنة بسائر الحكومات غير الدِّينيَّة في زمانها. على سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى سلوك المسلمين الفاتحين تجاه أهالي الأراضي المفتوحة، والّتي كان لها بالغ التأثير في اعتناقهم للإسلام. وبناءً عليه، فليس هناك من وجه لمقارنتها بسلوك السلاطين والملوك الّذين كانوا يفتتحون البلاد، وسائر الحكومات الفاتحة.
3ـ الحقيقة الّتي لا يمكن التغاضي عنها، هي أنّ أغلب الحقائق المتعالية، والمفاهيم السامية، والأهداف العظيمة، يمكن أن تخضع للاستغلال. أولم يكن هناك أشخاص اصطنعوا لهم ديناً، وادّعوا النبوّة كذباً؟ ألم يكن هناك من استعمر البلدان الضَّعيفة، ونهب خيراتها تحت شعار البناء والعمران؟ ويشهد عالمنا المعاصر بعض الحكومات الغربيَّة "الحرّة" الّتي تنتحل الديمقراطيَّة، وترتكب أبشع الجرائم بحقّ بعض الشعوب المظلومة كالشَّعب الفلسطينيّ، بذريعة الدِّفاع عن الحرِّيَّة وحقوق الإنسان، تُرى ما الّذي يمكن فعله إزاء هذا الاستغلال والادِّعاء؟ فهل ينبغي التخلِّي عن الدِّين والنبوّة والإمامة والحرِّيَّة وحقوق الإنسان بذريعة استغلالها والتلاعب بها من بعض الأفراد المغرضين؟
إنّ التعامل المنطقيّ والمعقول، للحيلولة دون ذلك الاستغلال والادِّعاء يكون من خلال
56
49
الدرس الخامس: منكرو الحكومة الدِّينيَّة
الحضور الفاعل، والإشراف الدقيق والمقتدر. كذلك الأمر في باب الحكومة الدِّينيَّة، إذ توجد إمكانيَّة لاستغلال قداسة الدِّين والحكومة باسم الدِّين، كما توجد عمليَّة إقصاء لحقيقته وروحه وجوهره، بحيث لا تمارس تلك الحكومة تعاليمه ومفاهيمه. ومن هنا، فهي تتطلّب تفعيل الحضور الواعي والمقتدر للمتديِّنين وإشرافهم، لكن ليس من الصَّواب قطُّ التخلّي عن أصل حاكميَّة الدِّين ودوره في المجالات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة بسبب الخطر المذكور.
ولا بدَّ من أن يلتفت المتديِّنون على الدَّوام، لحقيقة عظمة المعطيات والنتائج الطيِّبة الّتي تعود على الناس نتيجة تطبيق الإسلام الحقّ، وتنظيم جميع علاقاته الاجتماعيَّة على أساس تعاليم هذا الدِّين المقدّس وقيمه.
57
50
الدرس الخامس: منكرو الحكومة الدِّينيَّة
الخلاصة
1ـ ينقسم معارضو الدَّولة الدِّينيَّة إلى ثلاث فئات:
أ ـ الفئة الأُولى، من منكري الحكومة الدِّينيَّة، تتمثَّل في بعض المسلمين الّذين يعتقدون بأنّ الإسلام لم يدع لتشكيل الدَّولة الدِّينيَّة، وبأنَّه يفتقر للتعاليم الخاصّة بالسِّياسة.
ب ـ الفئة الثَّانية، من منكري الحكومة الدِّينيَّة، تستند، في أفكارها، إلى النتائج السلبيَّة للحكومة الدِّينيَّة، وتقيّم سلبياً التجربة التاريخيَّة لتشكيل الحكومة الدِّينيَّة.
ج ـ الفئة الثالثة من المنكرين ترفض من الأساس مرجعيَّة الدِّين في القضايا الاجتماعيَّة والسياسيَّة.
2ـ الحقيقة التاريخيَّة تتمثَّل في أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شكّل الحكومة الدِّينيَّة، وولايته السِّياسيَّة مستندة إلى الوحي.
3ـ لم تكن جميع نماذج الحكومة الدِّينيَّة، طوال التاريخ سلبيَّة، إذ كانت هناك نماذج إيجابيَّة مشرقة.
4ـ لا تقتصر إمكانيَّة استغلال الأمور القدسيَّة على الدِّين والحكومة الدِّينيَّة، بل عادة ما تتعرض سائر المفاهيم القيّمة والنفيسة للاستغلال.
58
51
الدرس الخامس: منكرو الحكومة الدِّينيَّة
الأسئلة
1ـ صنّف باختصار معارضي الدَّولة الدِّينيَّة.
2ـ ما حقيقة كلام أُولئك الّذين ينكرون الحكومة الدِّينيَّة بالاستناد إلى التجربة التاريخيَّة؟
3ـ ما هو منشأ ولاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السياسيَّة؟
4ـ ما هو ردّنا على الفئة الثانية من منكري الحكومة الدِّينيَّة؟
59
52
الدرس السادس: العلمانيَّة وإنكار الحكومة الدِّينيَّة
الدرس السادس: العلمانيَّة وإنكار الحكومة الدِّينيَّة
أشرنا، في الدَّرس السَّابق، إلى أنّ الفئة الثَّالثة، من منكري الحكومة الدِّينيَّة، ترفض، من الأساس، مرجعيَّة الدِّين في الأُمور الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، وتتبنّى الحكومة العلمانيَّة. وأصحاب هذه النَّظريَّة، وإن لم يسمّوا أنفسهم بالعلمانيين، ينسجمون مع العلمانيَّة، ويشاطرونها الرأي في أُسسها ومبادئها، ذلك لأنّهم يؤمنون بالاستغناء عن الدِّين في المجالات الاجتماعيَّة والسياسيَّة. ومن المناسب أن نسلّط الضوء، بصورة مقتضبة، على العلمانيَّة وأُسسها الفكريَّة قبل أن نناقش أدلّة هذه الفئة من منكري دمج الدِّين بالسِّياسة.
جوهر العلمانيَّة
ظهرت العلمانيَّة، بوصفها ظاهرةً متميِّزة، على أثر التَّطوُّرات الاقتصاديَّة والثَّقافيَّة والاجتماعيَّة الّتي حدثت في الغرب عقب عصر التجدُّد (عصر النهضة)، والّذي كان من أهمّ معطياته رواج نظريَّة فصل الدِّين عن السِّياسة.
وقد عُرِّبت مفردة فصل الدِّين عن الدَّولة بالعَلمانيَّة (Secula rism)، والعلمانيَّة (بكسر العين وفتحها). فَمَن ترجمها بالعِلمانيَّة ـ بكسر العين ـ عدَّها مشتقَّة من العلم لتعني الدَّعوة إلى العلميَّة، أمّا من ترجمها بالعَلمانيَّة ـ بفتح العين ـ فقد عدَّها مشتقَّة
61
53
الدرس السادس: العلمانيَّة وإنكار الحكومة الدِّينيَّة
من العالمَ، فهي تعني ترويج النُّـزوع إلى الدُّنيا بدلاً من الآخرة، والتركيز على طاقات الإنسان الدُّنيويَّة، من قبيل: العقل والعلم البشريَّين بدل الالتفات إلى الرُّوح.
فالتَّرجمات الفارسيّة والعربيّة لهذه الكلمة والكلمات المرتبطة بها، من قبيل: (Secular)، لا يمكنها عكس جميع ما يتضمَّنه هذا المصطلح بمختلف معانيه وأبعاده. وقد تطوَّرت هذه الكلمة على غرار العديد من الكلمات التاريخيَّة المهمة الّتي اكتسبت بمرور الزمان عدة معانٍ.
بداية، كان المراد من هذه المفردة "غير القسّ وغير الروحانيّ". فقد كانت في أُوربا القرون الوسطى الكثير من الأراضي الوقفيَّة الخاضعة لإشراف رجال الدِّين وقساوسة الكنيسة وإدارتهم، بينما كانت الأراضي غير الموقوفة خاضعة لإشراف غير الروحانيّين وإدارتهم. ثمّ تطوّر معنى هذه المفردة لتُشْتَمَّ منها، أحياناً، رائحة العداء للدِّين ورجاله، إلّا أنّها تعني في أغلب الأحيان اللاَّدينيَّة ـ لا مناهضة الدِّين ـ أو عدم الخضوع لسلطة الكنيسة ورجال الدِّين. فمثلاً، يطلق اسم المدارس العلمانيَّة على المدارس الّتي تدرِّس الرِّياضيات أو العلوم الطبيعيَّة بدلاً من التَّعاليم الدِّينيَّة، ولم يكن أساتذة تلك المدارس من القساوسة ورجال الدِّين.
ثمّ راجت هذه الفكرة شيئاً فشيئاً. ولم يُكتف بإخراج بعض التَّعاليم والمعارف عن نفوذ الدِّين وأرباب الكنيسة. بل أُخرجت بعض جوانب الحياة البشريَّة من دائرة التَّعاليم الدِّينيَّة وسيطرة الدِّين والكنيسة، وهكذا تحوَّلت العلمانيَّة إلى نزعة فكريَّة عصريَّة. ولهذه النـَّزعة نظرة جديدة إلى العالم والإنسان، وتعرض صورة حديثة للإنسان ومصادره المعرفيَّة. وهذه النَّزعة، ذات الرُّؤية الجديدة، تتنكَّر، في كثير من الموارد، لمرجعيَّة الدِّين والقيم، ولاعتبار التعاليم الدِّينيَّة.
وقد أكّد أصحاب النَّـزعة العلمانيَّة، بادئ الأمر، فصل العلم عن الإيمان. وعلى هذا الأساس، فإنّ جميع العلوم والمعارف البشريَّة، حتّى تلك المتعلِّقة بالموضوعات الفلسفيَّة، وبما وراء الطبيعة، خارجة عن دائرة نفوذ الدِّين والتجربة الدِّينيَّة. هذه
62
54
الدرس السادس: العلمانيَّة وإنكار الحكومة الدِّينيَّة
الحركة، من قبل العلمانيّين، كانت ردَّة فعل على تشدُّد الكنيسة الّتي حصرت العلم والمعرفة في نطاق تفسيرها الرسميّ للكتب المسيحيَّة المقدّسة، وسلبت العلماء والمفكّرين إبداء آرائهم العلميَّة، وصادرت حرِّيَّة البحث. فقد فرضت الكنيسة مرجعيتها ومرجعيَّة الكتب المقدّسة على جميع شؤون القرون الوسطى العلميَّة والأدبيَّة والفنيَّة. ومن هنا، فإنّ أنشطة العلمانيَّة في الدِّفاع عن العلوم والمعارف كانت ردَّة فعل على ذلك التشدُّد الّذي فرضته الكنيسة.
وقد اتَّسعت هذه النَّـزعة لتتجاوز العلوم التجريبيَّة، وتشمل القضيَّة الفلسفيَّة، فظهرت الفلسفة العلمانيَّة. ثمّ تطوَّرت هذه الأوضاع بالتَّدريج في مقابل المؤسّسة الاجتماعيَّة والسياسيَّة، فاتّسقت، لتصبح على غرار دائرة العلم والفلسفة في المجال السِّياسيّ، فتفعَّلت نظريَّة فصل الدِّين عن السِّياسة، ورفض مرجعيَّة الدِّين والكنيسة في الأُمور السِّياسيَّة من جانب زعماء هذه المدرسة. وعلى هذا الأساس، فالعلمانيَّة لا تطالب بفصل الدِّين عن السِّياسة فحسب، بل تطالب حتّى بفصل العلوم الفنِّيَّة والحرفيَّة عن الدِّين. فالعلمانيَّة، أساساً، تطالب بعلمنة جميع الأُمور والشؤون وفصلها عن الدِّين. وبناءً على ذلك، فهي تتبنَّى وتطالب بفنٍّ دنيويّ، وعلم دنيويّ، وفلسفة دنيويَّة، وحقوق دنيويَّة، وأخلاق دنيويَّة، وحكومة دنيويَّة.
وأساس العلمانيَّة يتمثَّل في ما نعبِّر عنه بعقلانيَّة العلمانيّ، حيث كان لهذه العقلانيَّة الخاصّة حظّها الأوفر في بلورة المدنيَّة الغربيَّة المعاصرة. والعقلانيَّة العلمانيَّة نظرة جديدة في باب دائرة الدِّين ومرجعيَّته من جانب، وموقع العقل والعلم البشريَّين من جانب آخر. فالعلمانيَّة تحدِّد دائرة الدِّين وتقصرها على تنظيم الحياة الفرديَّة وصلة الإنسان بالله، ولا تعترف بمرجعيَّة الدِّين في الحياة العلميَّة والاجتماعيَّة البشريَّة، بل تؤكّد مرجعيَّة العقل والعلم البشريَّين في هذه المجالات.
وتعتقد العلمانيَّة بأنّ العقل والعلم البشريَّين مستغنيان ومستقلاّن عن أيّ مبدأ معرفيّ آخر، ولا بدَّ من المحافظة على استغناء العقل والعلم البشريَّين واستقلالهما.
63
55
الدرس السادس: العلمانيَّة وإنكار الحكومة الدِّينيَّة
وترى أنَّ العقل البشريّ المستقلّ عن الدِّين، وأيِّ مرجع معرفيّ آخر، قادر على كشف معضلات الحياة البشريَّة وأهدافها. وعلى هذا الأساس، أخذت العلمانيَّة، وبالاستناد إلى العقلانيَّة المذكورة وتلك النظرة الخاصّة للعقل والعلم البشريَّين، تنحّي شيئاً فشيئاً مرجعيَّة الدِّين عن مختلف الشؤون النظريَّة والعلميَّة، في حين توسّعت في تأكيد نزعة محوريَّة الإنسان ومحوريَّة العقل في مختلف شؤون الحياة العلميَّة والاجتماعيَّة للإنسان الغربيّ المعاصر1.
الدِّين والعلمانيَّة
تؤكّد العلمانيَّة استقلاليَّة العقل والعلم البشريَّين عن الوحي والتَّعاليم الدِّينيَّة، ورفض الرُّجوع إلى الدِّين في جميع الأُمور الّتي للعقل والعلم البشريَّين سبيل إليها. ويرى العلمانيُّون أنّ مرجعيَّة الدِّين تكون موضوعيَّة في المجالات الّتي لا سبيل إليها من قبل العقل والعلم البشريَّين. تُرى هل يمكن عدُّ هذه النظرة العلمانيَّة الخاصّة إلى الدِّين والعقل والعلم إلحاديَّة ومناهضة للدِّين؟
الحقيقة هي أنّ تفسير العلمانيين لسلطة الدِّين ومساحته يختلف، تماماً، عن نظرة أغلب المؤمنين المتوازنة إلى الدِّين. فالتفسير السائد والغالب والمقبول للدِّين هو أنّه لا يقتصر على إيمان الفرد وصلته الفرديَّة بالله، بل يعني أنَّه يستوعب صلة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالعالم والطَّبيعة، كما أنّ له حضوره في مجال الهداية الدِّينيَّة. وللدِّين تعاليمه في المجالات الاجتماعيَّة ومختلف شؤونها. واختلاف عقلانيَّة العلمانيَّة مع هذه الرؤية السائدة والمعروفة للدِّين ليست بالشكل الّذي يجعلنا نرى أنَّ العلمانيَّة تنطوي على جوهر إلحاديّ ومناهض للدِّين. وتأكيد العلمانيَّة الاستقلال المعرفيّ للعقل والعلم البشريَّين عن الوحي والتعاليم الدِّينيَّة لا يتناقض، بحدِّ ذاته، مع الإيمان والتديُّن. طبيعيٌّ أن تروم العلمانيَّة تحديد دائرة الدِّين، وأن ترى خروج الأُمور الّتي يمكن للعقل والعلم البشريَّين سبر غورها من دائرة الإيمان والدِّين، وأن
1- للوقوف على المزيد، في هذا الشأن، راجع الفصل الثاني من كتاب الحكومة الدِّينيَّة لأحمد واعظي، نشر مرصاد ـ قم، 2000م.
64
56
الدرس السادس: العلمانيَّة وإنكار الحكومة الدِّينيَّة
تقدِّم في هذه المجالات الحدس والظنّ النَّاشئين من العلم والإدراك البشريَّين على القطع والحسم والإدراك النَّاشئة من الرجوع إلى المتون الدِّينيَّة، وهي تسعى إلى تقييم المفاهيم الدِّينيَّة على محكّ العقل والعلم والمنطق البشريَّين. ورغم هذا كلّه، لا ينبغي وصف العلمانيَّة بالإلحاد ومناهضة الدِّين.
ويبدو أنّ قوام العلمنة وأساسها يستندان إلى قبول عقلانيَّة العلمانيَّة، أي إنّ العلماني هو كلّ من اعتقد باستقلال العقل والعلم البشريَّين، وآمن باقتصار مرجعيَّة الدِّين على علاقة الإنسان بعالم الغيب، وأعلن حظر تدخّل الدِّين في المجالات الّتي يطالها العقل والعلم البشريَّان، ولا فرق في ما إذا كان يؤمن حقّاً بالله ومذهب معيّن، أو ملحداً ينكر الدِّين أساساً.
وخلاصة القول، فإنّ العلمانيَّة تقتصر، في ما يتعلَّق بمرجعيَّة الدِّين، على المجالات الّتي لا يبلغها عقل الإنسان، وهذه المجالات شخصيَّة ومتعلِّقة برابطة الإنسان بالله. وهذا حقّ لكلّ فرد في أن يقبل هذه الرَّابطة أو يرفضها. ومن هنا، ليس للعلمانيَّة من تعليمات في شأن قبول هذه الرَّابطة أو رفضها، كما تعتقد بالتَّساهل والتَّسامح في أمر التديُّن. وفحوى هذا التَّساهل ليس الإلحاد واللادين، ويمكن جمع العلمانيَّة مع الاعتقاد بالله والمعاد والإيمان بهما. طبيعيٌّ أن يكون تديّن الفرد العلمانيّ تديُّناً خاصّاً قائماً على أساس محوريَّة العقل والإنسان، وعلى الحدِّ للغاية من دائرة نفوذ الدِّين ومرجعيته.
واستناداً إلى ما سبق، فإنّ ماهيَّة العلمانيَّة تتمثَّل في قبول عقلانيَّة العلمنة، حيث تؤكّد هذه العقلانيَّة الاعتماد على الذات واستقلال العقل والعلم البشريَّين عن الوحي والتعاليم الدِّينيَّة، فلا يبقى من مجال لتدخّل الدِّين في أغلب المجالات. ولهذه النظرة الخاصّة إلى الدِّين وإلى قدرة الإنسان المعرفيَّة نتائج كثيرة تجعل العديد من الأُمور غير دينيَّة، فتكتسب العلوم والفنون والفلسفة والحقوق والأخلاق والسِّياسة صبغة غير دينيَّة وعلمانيَّة.
وبناءً على ذلك، فإنَّ فصل الدِّين عن السِّياسة هو إحدى ثمرات العلمانيَّة ونتائجها، ولا يعدُّ نتيجتها الوحيدة. ولذلك لا يبدو تعريف العلمانيَّة بفصل الدِّين عن السِّياسة
65
57
الدرس السادس: العلمانيَّة وإنكار الحكومة الدِّينيَّة
دقيقاً، ذلك لأنّنا بدل أن نعرّف العلمانيَّة في ضوء جوهرها، أي العقلانيَّة، نكون قد عرّفناها على أساس إحدى نتائجها، كما لا يبدو من الصَّواب تعريفها بالإلحاد ومناهضة الدِّين، لأنّه قد يكون الشخص مؤمناً بالله، لكنه بقبوله للعقلانيَّة يصبح مدافعاً عمليَّاً عن العلمانيَّة. وبعد هذا الإيضاح الإجماليّ، في باب معنى العلمانيَّة ومضمونها، ونسبتها للدِّين، يأتي دور طرح بعض أدلّة العلمانيين على نفي الحكومة الدِّينيَّة وإنكار دور الدِّين في ميدان السِّياسة وإدارة شؤون المجتمع، وسنتوسَّع في الدَّرس القادم، في مناقشة دليلين رئيسين من أدلّتهم.
66
58
الدرس السادس: العلمانيَّة وإنكار الحكومة الدِّينيَّة
الخلاصة
1ـ اعتنقت الفئة الثَّالثة، من منكري الحكومة الدِّينيَّة، فكرة العلمانيَّة.
2ـ العلمانيَّة نظرة وظاهرة معرفيَّة خاصّة انبثقت في العصر الحديث.
3ـ لا تقدِّم الترجمة اللفظيَّة لـ"العلمانيَّة" صورة واضحة عنها.
4ـ شهدت مفردة العلمانيَّة تطوُّراً على صعيد المعنى.
5ـ قوام العلمانيَّة قبول عقلانيَّة العلماني، وهذه العقلانيَّة تعتقد بالاعتماد على الذات واستقلال العقل والعلم البشريَّين عن الدِّين وتعاليمه.
6ـ تتنكَّر العلمانيَّة لمرجعيَّة الدِّين في أغلب المجالات.
7ـ لا ينبغي تعريف العلمانيَّة بفصل الدِّين عن السِّياسة، لأنّ هذا يمثِّل إحدى نتائج العلمانيَّة، كما أنّ من نتائجها فصل العلم والفن والفلسفة عن الدِّين.
8ـ العلمانيَّة لا تعني الإلحاد ومناهضة الدِّين، بل تنشد تضييق دائرة الدِّين.
9ـ قد يكون العلماني موحِّداً أو ملحداً، لأنّ الإيمان والإلحاد ليسا من أصول العلمانيَّة، بل أصلها قبول العقلانيَّة.
67
59
الدرس السادس: العلمانيَّة وإنكار الحكومة الدِّينيَّة
الأسئلة
1ـ ما هو الاستعمال الابتدائي للعلمانيَّة؟
2ـ ما المراد بالعقلانيَّة؟
3ـ ما هي العلاقة بين العلمانيَّة والتديُّن؟
4ـ ما هو معتقد العلمانيَّة بدائرة الدِّين وحدوده؟
5ـ هل يصح تعريف العلمانيَّة بفصل الدِّين عن السِّياسة؟
68
60
الدرس السابع: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (1)
الدرس السابع: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (1)
الدَّليل الأوَّل
إنّ أحد الاستدلالات المشهورة للعلمانيين على نفي تدخّل الدِّين في السِّياسة، والّذي يركّزون عليه دائماً، يتمثَّل في ما يعبَّر عنه بـ "صعوبة تطبيق الشَّريعة"، حيث يقوم جوهر هذا الاستدلال، الّذي يتكوَّن من مقدِّمتين أصليَّتين، على أساس تعذُّر تطبيق الشريعة. ويركِّز المعتقدون بالحكومة الدِّينيَّة، في استدلالاتهم، على هذه المسألة، وهي أنّ في الشريعة الإسلاميَّة أحكاماً وقوانين واجبة التطبيق، وفي المقابل يتعذَّر تطبيق هذه الأحكام من دون وجود الحكومة ودعمها.
إذاً، لا بدَّ من أن تكون الدَّولة الدِّينيَّة في خدمة تطبيق الشَّريعة على مختلف الأصعدة الا جتماعيَّة، بينما يصر العلمانيُّون، في مقام نفيهم لضرورة تشكيل الحكومة الدِّينيَّة، على أنّ الشريعة تواجه صعوبة التَّطبيق في المجتمع، ولا يمكن تطبيق الفقه والشريعة على نطاق المجتمع بأكمله. وعلى هذا الأساس، يشكِّكون في فلسفة إقامة الحكومة الدِّينيَّة، وذلك لأنّ فلسفة تشكيل الحكومة الدِّينيَّة وأساس قيامها ليسا سوى تطبيق الشريعة وإجرائها على جميع نواحي الرَّوابط الاجتماعيَّة.
المقدّمة الأُولى: إنَّ للروابط والعلاقات الاجتماعيَّة جوانب متغيِّرة ومتطوِّرة،
69
61
الدرس السابع: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (1)
فمستوى العلاقات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة البشريَّة ونوعها يشهدان حالات من التغيُّر تمتدُّ طوال التاريخ، ويعزى هذا التَّغيُّر إلى تطوُّر العلم والتجربة والمعرفة البشريَّة. فالعلاقات والروابط السِّياسيَّة والثَّقافيَّة والاقتصاديَّة البشريَّة، في المجتمعات القرويَّة والعشائريَّة البسيطة، تختلف تماماً عن العلاقات الاجتماعيَّة السائدة لدى المجتمعات الصناعيَّة وشبه الصناعيَّة. وبناءً على ذلك، فتغيُّر أشكال الحياة الاجتماعيّة وقوالبها وتطوّرها، ومن ثمّ تغيُّر الروابط والعلاقات الاجتماعيَّة حقيقة لا يمكن التنكُّر لها.
المقدّمة الثانية: إنّ للدِّين وتعاليمه مضموناً ومحتوىً ثابتين، لأنّ الدِّين خاطب الإنسان في مرحلة زمنيَّة معيّنة هي مدة ظهوره، وتعامله مع ظروف وشرائط اجتماعيَّة خاصّة، وعلاقات وروابط محدودة بتلك المرحلة التاريخيّة. فالدِّين والشريعة ليسا حقيقة متكرِّرة. والإسلام ظهر في مرحلة معيّنة من التَّاريخ، والوحي الإلهيّ ليس بالصيغة الّتي تتجدَّد في ضوء التطوُّرات الاجتماعيَّة. فالدِّين أمر ثابت ولا يتجدَّد تبعاً للتطوُّرات والتغيُّرات الاجتماعيَّة، وليس له من تعاليم ووصايا حديثة ومتطوِّرة.
نتيجة المقدِّمتين: ونتيجة تينك المقدِّمتين، فإنّ الأمر الثَّابت يأبى التَّطابق مع الأمر المتغيِّر، وتالياً ليس من شأن الدِّين الثابت أن يكون منظِّماً للعلاقات الحقوقيَّة في جميع مجالات الرَّوابط الاجتماعيَّة ولكلّ الأزمنة. وليست هناك من صعوبة في تطبيق الشريعة في المجتمعات القريبة إلى المجتمع الّذي ظهر فيه الدِّين، لأنّ النسيج الاجتماعيّ ونوع العلاقات والرَّوابط لم تشهد تغيُّراً جذرياً. بينما يصعب تطبيق الشريعة في المجتمعات الّتي اختلفت بنيتها الاجتماعيَّة مع زمان نزول الوحي. والنتيجة المباشرة لعدم إمكانيَّة تطبيق الشريعة، ستكون انتفاء ضرورة تشكيل الدَّولة الدِّينيَّة، وعدم وجوب مرجعيَّة الدِّين في الشؤون السِّياسيَّة والاجتماعيَّة.
70
62
الدرس السابع: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (1)
الردّ على الدَّليل الأوّل
نلحظ عدَّة إشكالات على هذا الاستدلال ومقدِّمتيه الأصليَّتين، أهمّها:
أولاً: التَّغيُّرات الّتي تطول العلاقات الاجتماعيَّة حقيقة لا يمكن إنكارها، إلّا أنّها ليست جميعاً من نوعٍ واحد، وبعضها لا يخلق أيّة مشكلة في شأن تطبيق الشريعة. كما لا بدَّ من إدراك هذه المسألة جيداً، وهي أنّ جميع التغيُّرات الاجتماعيَّة ليست من نوع التغيُّرات الجذريَّة والمختلفة بصورة كلّيَّة. فبعض التغيُّرات الاجتماعيَّة تقتصر على الشكل والقالب، بمعنى أنّ الرابطة الاقتصاديَّة نفسها الّتي كانت في السابق سائدة بشكل معيّن بين أبناء المجتمع، تسود اليوم بشكل آخر وقالب جديد، ولم تنبثق بدلاً منها رابطة جديدة بماهيَّة حقوقيَّة مختلفة.
وهذا التغيُّر، في الصورة والشكل، وارد في مختلف أنواع الروابط الاجتماعيَّة. على سبيل المثال: توجد، في جميع المجتمعات، في الماضي والحاضر، علاقات وعقود تنتظم في قالب البيع والإيجار والشركة في مجال الرَّوابط الحقوقيَّة والاقتصاديَّة، وكلَّما تقادم الزمان حدث تغيُّر في شكل هذه الرَّوابط وقالبها، من دون أن يشهد أصل ماهيَّة هذه الروابط أيّ تغيُّر. فإن كانت للبيع والإيجار والشركة صور محدَّدة في الماضي، فقد ظهرت اليوم عدَّة أنواع من التجارة والشركة والإيجار.
فمثلاً، لم تكن في الماضي شركات مختلفة عامَّة وشركات خاصّة وشركات ضامنة. أمّا الإسلام، فقد شخَّص حكم أصل هذه الماهيَّات الحقوقيَّة. فالأحكام الفقهيَّة الصَّادرة، في صدر الإسلام، في باب البيع والشركة والإيجار، يمكن تطبيقها على جميع هذه الصُّور والأشكال الجديدة، لأنّ هذه الأحكام صدرت في باب هذه الماهيّات الحقوقيَّة، وليس في شأن شكل وقالب معيَّنين منها. إذاً، فهي باقية على قوّتها وفاعليّتها.
كما أنّ الإسلام لم يعترف، منذ الماضي، ببعض الرَّوابط الحقوقيَّة والاقتصاديَّة، وهو يرفضها وإن ظهرت اليوم بأشكال وقوالب جديدة، والحكم الإسلاميّ جار على هذه
71
63
الدرس السابع: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (1)
القوالب الجديدة. على سبيل المثال: يمكن الإشارة إلى المعاملات الربويَّة الباطلة في الشريعة الإسلاميَّة، فقد ظهرت اليوم أشكال جديدة من المعاملات لم يكن لها مثيل في السابق. فإن اتَّضح للفقيه، من خلال التَّحليل الحقوقيّ والفقهيّ، أنّ لهذه المعاملات المستحدثة ماهيَّة ربويَّة حكم ببطلانها. وبناءً على ذلك، فحكم الرِّبا الإسلاميّ لا يواجه أيّة مشكلة في هذه الحالات الجديدة، ومجرّد حدوث التغيُّر والتطور في الروابط الاقتصاديَّة لا يؤدّي إلى تعطيل تطبيق أحكام الشريعة.
ثانياً: بعض التَّغيُّرات الاجتماعيَّة يؤدّي إلى انبثاق روابط وأُمور جديدة حديثة من حيث المضمون ومن حيث الشكل والقالب، ونعبِّر عنها عادة بـ "المسائل المستحدثة". وليست هناك من مشكلة في تطبيق الشَّريعة في هذه المسائل.
والمقدِّمة الثانية لاستدلال العلمانيين، والمتمثِّلة في إصرارهم على ثبات الدِّين وعدم مرونته وتكيُّفه مع الظروف المتغيِّرة والمتطوّرة، مردودة ومطعون فيها، وذلك لأنّ الدِّين، وإن كان ثابتاً لا يتغيَّر مع التغيُّرات الاجتماعيَّة، فإنَّ محتوى الدِّين الإسلاميّ المبين تضمَّن ما يمهِّد لتطبيق الشريعة، ومرونة الفقه الإسلاميّ إزاء مقتضيات الزمان والمسائل المستحدثة قد أُخذت بنظر الاعتبار.
فهذه الأسباب والعناصر جعلت الفقه قادراً على التكيُّف مع الظروف المتغيِّرة والمستجدَّة، الأمر الّذي أزال مشكلة تطبيق الشريعة وصعوبتها. وإليك بعض العناصر المرنة في الفقه الإسلامي:
1ـ إنّ باب الاجتهاد، في الفقه الإسلامي، ولا سيّما فقه أهل البيت عليهم السلام، مفتوح. ومعنى فتح باب الاجتهاد أنّ وظيفة الفقيه والمجتهد ليست مقتصرة على استنباط الأحكام الشَّرعيَّة الّتي ورد السؤال والجواب عنها في المصادر الفقهيَّة، بل يستطيع الفقيه بذل جهده في استخراج أحكام المسائل الجديدة، بالاستناد إلى الأُصول والمباني الفقهيَّة.
72
64
الدرس السابع: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (1)
2ـ إنّ شرعيَّة عنصر الشرط ووجوب الالتزام به، مهَّدت السبيل لانسجام الفقه مع بعض الشرائط والمسائل المستحدثة، لأنّ العديد من العقود العقلائيَّة المستحدثة تكتسب شرعيتها من باب الشُّروط ولزوم الالتزام بها.
على سبيل المثال: فإنّ قوانين التِّجارة العالميَّة، وحقوق الملاحة، والقوانين ذات الصلة بحقّ الاختراع، والقوانين المتعلِّقة بالخطوط الجويَّة، جميعها، من الأُمور المستحدثه الّتي لم ترد في شأنها آراء صريحة في الشريعة الإسلاميَّة، إلّا أنّ النظام الإسلاميّ يمكنه الالتزام بما يراه صالحاً من بعض العقود والاتفاقيات الدَّوليَّة والشخصيَّة، وإرشاد المجتمع لرعايتها والاستفادة مما فيها من تسهيلات.
3ـ إنّ جواز إصدار حكم ولائي من الوليّ الفقيه، الجامع للشرائط، بالاستناد إلى عنصر المصلحة، لمن الأسباب بالغة الأهميَّة لانسجام الفقه وتكيُّفه مع مقتضيات الزمان، فللوليّ الفقيه أن يعيِّن الجانب الشرعيّ، وعلى أساس الحكم الولائيّ، لواقعة ما في ظروف جديدة ليس فيها حكم فقهيّ خاصّ.
وزبدة الكلام أنّه:
أوَّلاً: إنّ جميع التَّغيُّرات الاجتماعيَّة ليست بالشكل الّذي تتطلّب فيه إجابة شرعيَّة، وثبات الدِّين لا يخلق مشكلة إزاء تطبيق الشريعة، لأنّ التغيُّر يقتصر على الشكل والقالب، وحكم الشريعة الثابت يطبّق عليها بسهولة.
ثانياً: حين يكون التغيُّر مدعاة لظهور قضايا ومسائل مستحدثة، فهناك الأسباب والعناصر الّتي تكهّن بها الفقه لتلبية هذه الظروف المستحدثة واستيعابها وتطبيقها على الشريعة. وبناءً على ذلك، فثبات الدِّين لا يعني عدم مرونته إزاء الظروف المتغيِّرة، بل يعني اختزان الدِّين الثابت عناصر مرنة تتكيَّف مع مختلف التغيُّرات.
73
65
الدرس السابع: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (1)
الخلاصة
1ـ يعتقد العلمانيون بأنّ الحكومة الدِّينيَّة تصطدم بمشكلة تطبيق الشريعة.
2ـ الاستدلال المشهور للعلمانيين، على نفي الحكومة الدِّينيَّة، يستند إلى إثبات عجز الفقه عن التكيُّف مع الشرائط الاجتماعيَّة المتغيِّرة.
3ـ جوهر استدلال العلمانيين يتمثَّل في أنّ الدِّين ثابت والعلاقات الاجتماعيَّة متغيِّرة، ولا يمكن تطبيق الثابت على المتغيِّر. إذاً، يتعذَّر تطبيق الدِّين في المجتمعات البشريَّة.
4ـ الواقع أنّ التغييرات الاجتماعيَّة ليست من نوعٍ واحد.
5ـ التغيُّرات الصُّوريَّة والشكليَّة في العلاقات الاجتماعيَّة لا تعرقل تطبيق الشريعة.
6ـ رغم أنّ بعض التغيُّرات الاجتماعيَّة مستحدثة، فإنَّ الشريعة الإسلاميَّة تكهّنت بالحلول اللازمة لها.
7ـ إنّ الدِّين، وإن كان ثابتاً، يتضمَّن العناصر المرنة الّتي تتكيَّف مع الظروف المتغيِّرة.
74
66
الدرس السابع: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (1)
الأسئلة
1ـ قرّر دليل العلمانيَّة الأوّل على نفي الحكومة الدِّينيَّة.
2ـ وضّح باختصار قسمي التغيُّرات الاجتماعيَّة.
3ـ ما هو القسم من التغيُّرات والتطوُّرات الاجتماعيَّة الّذي تشتدّ فيه صعوبة تطبيق الشريعة؟
4ـ أذكر باختصار الردّ على دليل العلمانيين الأوّل.
5ـ وضّح بعض العناصر المرنة للفقه الإسلامي مع الظروف المستجدَّة.
75
67
الدرس الثامن: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (2)
الدرس الثامن: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (2)
الدَّليل الثَّاني
استند الدليل السَّابق للعلمانيِّين إلى عجز الفقه من النَّاحية الحقوقيَّة، وعدم قدرته على تنظيم الروابط والقضايا الاجتماعيَّة المتطوِّرة والمتغيِّرة، فشكَّك، من خلال طرح صعوبة تطبيق الشريعة، في إمكانيَّة تدخّل الفقه في السِّياسة والمجتمع.
أمّا الدَّليل الثاني للعلمانيين فينظر، من زاوية أُخرى، إلى عجز الفقه وعدم فاعليَّته في الميدانين: السِّياسيّ والاجتماعيّ، وينكر مرجعيَّة الدِّين من بُعد آخر. ويتكوَّن هذا الدَّليل من المقدِّمات الآتية:
1ـ إنّ أحد الأهداف الأساسيَّة للفقه يتمثَّل في حلّ المعضلات الاجتماعيَّة والإداريَّة لمختلف شؤون حياة الإنسان الدِّنيويَّة. ويبدو هذا الهدف جليَّاً واضحاً في أبواب المعاملات وغير العبادات الفقهيَّة، من قبيل: الإرث، والوصيّة، والتِّجارة، والحدود، والدِّيات. على سبيل المثال: فإنّ مسائل الحدود والدِّيات إنّما وضعت في هذا الباب، بغية الحيلولة دون حصول الانتهاكات، ولمعالجة المفاسد الاجتماعيَّة، ومسائل التِّجارة والمعاملات لغرض تسهيل حلِّ أزمات المجتمع الاقتصاديَّة وتنظيمها.
2ـ إستطاع الفقه تحقيق هذه الأهداف، وتمكَّن من معالجة متطلّبات الإنسان
77
68
الدرس الثامن: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (2)
الاجتماعيَّة، وتنظيم شؤونه في الأزمنة السابقة، حين كانت العلاقات الاجتماعيَّة بسيطة ومتواضعة، وكانت متطلّبات المجتمع بسيطة وغير معقَّدة. وبناءً على ذلك، فالإدارة الفقهيَّة ناجعة ومتناسبة مع المجتمعات الّتي تمتاز حاجاتها ومتطلّباتها بالسذاجة والبساطة، حيث يمتلك القدرة على حلِّها ومعالجتها.
3ـ تنطوي المجتمعات المعاصرة على تعقيد خاص، ويتطلّب حلُّ مشكلاتها إدارة علميَّة وتخطيطاً دقيقاً، فلم يعد من الممكن حلُّ هذه المشكلات من خلال الفقه. فليس للفقه، بخصائصه وفاعليَّته السَّابقة، أن يمارس نشاطه اليوم، كما كان عليه سابقاً، كي يتمكَّن من تحقيق أهدافه في المجالات الاجتماعيَّة، ذلك لأنّ الفقه في الأساس ليس بمشروع مبرمج، بل هو عبارة عن فنّ بيان الأحكام. والفقه قادر على حلّ المشكلات الحقوقيَّة، إلّا أنّ المشكلات الحقوقيَّة ليست هي مشكلات العالم المعاصر جميعها.
ونتيجة لهذه المقدمات، فإنّ الفقه يفتقد لدور التدخّل في إدارة شؤون المجتمعات المعاصرة، لأنّه يقتصر على معالجة المشاكل الحقوقيَّة، وإدارة شؤون المجتمعات المعاصرة تتطلّب تخطيطاً فنِّياً وعلميَّاً. وبناءً على ذلك، فلا مجال للفقه حيث وجدت الإدارة العلميَّة والعقلائيَّة المعاصرة.
الردّ على الدَّليل الثاني
يقوم هذا الدَّليل على أساس الإدراك الخاطئ للحكومة الدِّينيَّة، وأُسلوب تدخّل الفقه في الحياة الاجتماعيَّة. ونبيِّن، هنا، نقاط ضعف هذا الاستدلال:
1ـ تتمثَّل إحدى المسائل المجانبة للصواب، في هذا الاستدلال، في وضع الإدارة الفقهيَّة في مقابل الإدارة العلميَّة والعقلائيَّة، كأنّه لا يمكن الجمع بينهما بأيّ شكل من الأشكال. ومنشأ هذا التصوّر يعزى إلى عدم تبيين علاقة العقل بالدِّين بصورة صحيحة، والّذي يخلو من التصوير الصحيح للحكومة الدِّينيَّة، وما يؤدِّيه الفقه من دور فاعل فيها. وعلى أساس هذا الغموض، تصوّر العلمانيون أنّه، إمَّا أن
78
69
الدرس الثامن: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (2)
يكون زمام إدارة شؤون المجتمع بيد الفقيه، ومن ثمَّ يكون حلُّ جميع الصُّعوبات والمعضلات الاجتماعيَّة بوساطة الفقه الّذي يخلو من العلم والعقل، أو أن يقصى الفقه بالمرَّة وتمارس الإدارة العلميَّة والعقلائيَّة.
طبيعيٌّ القول: ليس هناك أيّ أساس لهذا التقابل، فالحكومة الدِّينيَّة لا تختلف عن الحكومة العلمانيَّة، إذ إنّ الحكومة الدِّينيَّة لا تهمل العقلانيَّة والعلم والتجربة البشريَّة، وتقتصر على الأحكام الفقهيَّة في إدارتها لشؤون المجتمع، بينما تنطلق الحكومة العلمانيَّة بما تتمتّع به من إدارة على أساس العقل والعلم. إنّ هذا التصنيف والتمييز بعيدان غاية البعد عن العدالة، ومجانبان للواقع.
فالحكومة الدِّينيَّة، هي الأُخرى، تستعين بالعقل والعلم والتخطيط في إدارتها للمجتمع. والفارق بين الحكومة الدِّينيَّة والحكومة العلمانيَّة يتمثَّل في أنّ العقلانيَّة والبرمجة والتخطيط ليست مطلقة العنان في الحكومة الدِّينيَّة، بل تنسجم مع التَّعاليم والمفاهيم الدِّينيَّة. والعقلانيَّة ليست غائبة في الحكومة الدِّينيَّة، بل توجد عقلانيَّة متناسبة مع الشَّريعة. فالإدارة والتدابير العقلانيَّة في الحكومة الدِّينيَّة لا بدَّ من أن تأخذ بنظر الاعتبار التعاليم الدِّينيَّة، وتسعى إلى إدارة شؤون المجتمع على أساس عدم انتهاك حدود الفقه الإسلاميّ. بينما تمتاز الإدارة العقلانيَّة في الحكومة العلمانيَّة بأنّها مطلقة العنان ومستقلَّة عن الدِّين، ومثل هذه العقلانيَّة لا تستبطن هاجس التكيُّف مع الدِّين.
2ـ مرجعيَّة الدِّين في الحكومة الدِّينيَّة، وضرورة رعاية حدود الفقه الإسلامي، لا تعنيان استنباط جميع أنشطة الحكومة بما فيها التشريع والقضاء والتخطيط وإسنادها مباشرة إلى الفقه. فالحكومة الدِّينيَّة ليست في صدد إجراء جميع التدابير الجزئيَّة، ووضع الخطط الاقتصاديَّة والسياسيَّة، وحلّ أزمات المجتمعات المعاصرة المعقدة مباشرة من جوهر الفقه، من دون إشراك العقل والعلم. فهذا الأمر غير ممكن، ولا يزعمه الدِّين ولا يتبنَّاه.
79
70
الدرس الثامن: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (2)
والفقه ليس بحلاّل لجميع المعضلات في الماضي والحاضر. بل إنّ المستدلّ يظنّ أنَّ جميع المصاعب كانت تعالج في الماضي بوساطة الفقه وحسب، وإنّ العقل والعلم والتدبير البشريّ لم يكن له دخل البتّة. فالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلموالإمام عليّ عليه السلام وسائر خلفاء صدر الإسلام، في الوقت نفسه الّذي كانوا يستندون فيه إلى الفقه، في إدارة شؤون البلاد الإسلاميَّة آنذاك، كانوا ينفتحون على الأساليب العقلائيَّة والتدابير العرفيَّة واستشارة الآخرين. ولم يكن الفقه، بأيّ شكل من الأشكال، المصدر الأوحد لحلّ جميع الصُّعوبات والمعضلات الاجتماعيَّة، بحيث يستعاض به عن العقل والعلم والأساليب العقلائيَّة.
وبناءً على ذلك، فكما جعلت الحكومة الدِّينيَّة الفقه في الماضي إلى جانب العقلانيَّة والتدبير العقلائيّ، فإنّ الحكومة الدِّينيَّة المعاصرة يمكنها القيام اليوم بهذا الدَّور. ومغالطة العلمانيين تتمثَّل في أنّهم حاولوا الإيحاء بأنّ الحكومة في الماضي لم تكن بحاجة سوى إلى الفقه، وبالنَّظر إلى ضرورة التخطيط والبرمجة الاجتماعيَّة في العالم المعاصر، فإنّ الحكومة الدِّينيَّة القائمة على أساس الإدارة الفقهيَّة عاجزة عن إدارة شؤون المجتمع.
3ـ للفقه على صعيد الحياة الجماعيَّة خاصِّيتان:
الأُولى: إنّه يخوض، من عدّة جوانب، في تنظيم العلاقات الاجتماعيَّة، ويعيِّن حدود الحقوق وقيودها.
والثانية: إنّه يطرح مبادئ وضوابط وأُسساً كلّيَّة وعامّة في مجال الثقافة والاقتصاد والسِّياسة الداخليَّة والخارجيَّة. ومحوريَّة الفقه في الحكومة الدِّينيَّة وتركيزها على الإدارة الفقهيَّة تتمثَّل في أن تحفظ حدود تلك الحقوق في السُّلطة، وإسداء الخدمات وسنّها لقوانينها، وانطوائها على المشاريع العمليَّة لتحقيق تلك المبادئ والأُسس والأهداف. فالإدارة الفقهيَّة لا تعني انفراد الفقه في حلّ مشكلة التضخّم والبطالة والمرور، بل تعني أنّ مسؤولي النظام الإسلامي
80
71
الدرس الثامن: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (2)
يراعون الحدود الشَّرعيَّة في طرحهم الخطط والمشاريع اللاَّزمة لمعالجة المشاكل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وتنفيذ تلك المشاريع والقرارات الأكثر تناسباً مع الموازين الفقهيَّة والقيم الإسلاميَّة والمنسجمة معها.
وبناءً على ذلك، فما ورد في النقطة الثالثة من الاستدلال، ومفاده أنّ للفقه شأناً حقوقيَّاً فقط، وليست جميع مشاكل المجتمع من نوع المشاكل الحقوقيَّة، إنّما أغفل تلك المسألة الّتي أشرنا إليها. فمشاكل المجتمع، وإن لم يكن لها بعد حقوقيّ، فإنَّ أُسلوب حلّ هذه المشاكل وآثارها وامتداداتها تبدو خطيرة في المجتمع الدِّينيّ. وبناءً على ذلك، فلا بدَّ من اختيار الأُسلوب الّذي يراعي حدود الحقوق الإسلاميَّة من بين جميع الأساليب المطروحة لحلّ المشكلة الاجتماعيَّة، والّذي يتضمَّن، تالياً، صيانة القيم والأُسس الإسلاميَّة. ونخلص ممّا سبق إلى أنّ عدم حقوقيَّة مشكلة اجتماعيَّة لا يمنح المسوِّغ لعدم الاكتراث بالأُطر الحقوقيَّة الإسلاميَّة في معالجة تلك المشكلة.
إنّ الدليلين اللذين ناقشناهما، في الدَّرسين الأخيرين، يعدَّان من أهمّ أدلّة العلمانيين وأكثرها شهرة على نفي تدخّل الدِّين في السِّياسة وإدارة شؤون المجتمع، ولا تحتلّ سائر أدلّتهم مثل هذه الأهميَّة، ومن هنا تحفَّظنا عن مناقشتها، واكتفينا بهذين الدَّليلين.
81
72
الدرس الثامن: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (2)
الخلاصة
1 ـ إنّ أحد أهداف الفقه هو حلّ المعضلات الاجتماعيَّة للمجتمعات البشريَّة.
2 ـ يعتقد العلمانيون بأنّ الفقه الإسلاميّ نجح في حلّ المعضلات الاجتماعيَّة في السابق، لكن يتعذر عليه تحقيق هذا الهدف في المجتمعات المعاصرة.
3 ـ هناك تعقيد خاص يكتنف المجتمعات المعاصرة، بما يجعل من المتعذِّر حلّ جميع مشاكلها من طريق الفقه، ولا بدَّ من إدارة علميَّة وتخطيط لحلّ تلك المصاعب.
4 ـ يعتقد العلمانيُّون بأنّ الإدارة العلميَّة والعقلائيَّة هي البديل للإدارة الفقهيَّة.
5 ـ يؤمن العلمانيُّون بأنّ الفقه لا يحل سوى المشاكل الحقوقيَّة، ومشاكل المجتمعات المعاصرة ليست مشاكل حقوقيَّة فقط.
6 ـ أورد العلمانيون مغالطة من خلال جعلهم الإدارة الفقهيَّة مقابل الإدارة العلميَّة.
7 ـ استعانت الحكومة الدِّينيَّة والإدارة الفقهيَّة، منذ السابق وحتّى الآن، بعنصر العقلانيَّة.
8 ـ نشاط الفقه، على صعيد الحكومة، لا يرفض الاستعانة بالعقل والعلم الحديث.
9 ـ لا بدَّ من أن تتمّ معالجة المشاكل الاجتماعيَّة وسبل الإدارة والتخطيط في الحكومة الدِّينيَّة على أساس الأُطر الفقهيَّة والمعايير والقيم الدِّينيَّة .
82
73
الدرس الثامن: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (2)
الأسئلة
1 ـ ما هي عقيدة العلمانيين في قدرة الفقه على حلّ المعضلات الاجتماعيَّة؟
2 ـ قرّر باختصار دليل العلمانيين الثاني على نفي الحكومة الدِّينيَّة.
3 ـ أيّ نوع من الإدارة تتطلَّب المجتمعات المعاصرة، من وجهة نظر العلمانيين؟
4 ـ هل هناك من تعارض بين الإدارة العلميَّة والإدارة الفقهيَّة؟
5 ـ ما هي أنشطة الفقه على صعيد الحياة الاجتماعيّة؟
6 ـ ما المراد من مرجعيَّة الدِّين على صعيد إدارة المجتمع؟
83
74
الدرس الثامن: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (2)
للتوسع في المطالعة
لمزيد المعلومات والتعرُّف أكثر إلى "المصطلحات السِّياسيَّة" الواردة في هذا الفصل، عليك بالرجوع إلى المصادر الآتية:
1 ـ معجم العلوم السِّياسيَّة، نشر مركز المعلومات والوثائق العلميَّة الإيرانيَّة.
2 ـ مدخل إلى موسوعة العلوم الاجتماعيَّة، باقر ساروخاني، نشر كيهان.
3 ـ الفلسفة السِّياسيَّة، تنقيح انطوني كوينتن، ترجمة مرتضى أسعدي، نشر دار الهدى العالميَّة.
وللتعرف إلى "اللِّيبراليَّة" راجع كتاب:
4 ـ ظهور وسقوط ليبراليَّة الغرب، تأليف آربلاستر، ترجمة عباس مخبر. وهو من المصادر المفيدة في هذا المجال.
في شأن المباحث المهمة المتعلقة بـ "علاقة الدِّين بالسِّياسة"، أُنظر في:
5 ـ الدِّين والسِّياسة، ماكس ل. استكهاوس، ترجمة مرتضى أسعدي، وهي مدرجة في كتاب "الثقافة والدين" لميرجا إليادة، ترجمة: هيئة الترجمة في دار طرح نو ـ طهران 1377 هـ.شمسي.
6 ـ الدِّين والسِّياسة، نينيان اسمارث، وهي مدرجة في كتاب "العقل والسِّياسة"، ترجمة عزّت الله فولادوند، طرح نو ـ طهران 1377هـ.شمسي.
وللتعرف إلى قصة علاقة السلطة السِّياسيَّة والسلطة المعنويَّة لكنيسة روما في القرون الوسطى، راجع المصدرين الآتيين:
7 ـ تاريخ العقائد والمذاهب السِّياسيَّة من العهود القديمة إلى اليوم، البروفسور غايتا نوموسكا والدكتور غاستون بوتو، ترجمة حسين شهيد زاد.
8 ـ الشَّرعيَّة الدِّينيَّة للدولة والقدرة السِّياسيَّة للدين، عليّ رضا شجاعي زند.
84
75
الدرس الثامن: أدلّة العلمانيِّين على نفي الحكومة الدِّينيَّة (2)
وللوقوف على كيفيَّة ارتباط الدِّين بالسِّياسة في آراء الفلاسفة المسلمين، راجع:
9 ـ الدِّين والدَّولة في الفكر الإسلامي، محمد سروش، مركز نشر مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم، الصفحات 47 و56.
وراجع المصادر الآتية لمزيد من الإلمام بالعلمانيَّة:
10ـ الأُسس الفلسفيَّة للعلمانيَّة، عادل ظاهر، دار الساقي ـ بيروت 1993 م.
11ـ العلمانيَّة من منظور مختلف، عزيز العظمة، مركز دراسات الوحدة العربيَّة ـ بيروت 1992 م.
12ـ الحكومة الدِّينيَّة، أحمد واعظي، نشر مرصاد ـ قم، 2000م.
13ـ قضيَّة العلمانيَّة، مقال بقلم برهان غليون، فصليَّة الحكومة الإسلاميَّة، السنة الثانية، العدد الثالث.
85
76
الإسلام والحكومة
الإسلام والحكومة
الدَّرس 9 – 10: النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة
الدَّرس 11: الولاية السِّياسيَّة بعد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
الدَّرس 12: الفكر السِّياسيّ للشِّيعة
الدَّرس 13: دور البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
الدَّرس 14: تأثير البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
87
77
الإسلام والحكومة
تمهيد
عرّفنا، في الفصل السَّابق، الحكومة الدِّينيَّة بأنّها تعني اتِّباع التَّعاليم الدِّينيَّة في شؤون الدَّولة، والقبول بمرجعيَّة الدِّين في مختلف الشؤون السِّياسيَّة. وعرضنا أدلّة المنكرين للحكومة الدِّينيَّة، وأثبتنا عدم وجود ما يحول دون أن يكون الدِّين مرجعيَّةً في المجالات الاجتماعيَّة وتأسيس الحكومة الدِّينيَّة1.
والهدف الرئيس، في هذا الفصل، هو الإجابة عن الأسئلة الآتية: هل دعا الإسلام المسلمين لتشكيل الدَّولة الدِّينيَّة؟ وهل له رؤية خاصّة إلى شكل الحكومة وأهدافها ووظائفها؟ بعبارة أُخرى: هل أفتى الإسلام بدمج الدِّين بالدَّولة؟ وقدَّم أُطروحة سياسيَّة معيّنة؟
من الطَّبيعيّ أن تتضمَّن هذه الدِّراسة تحليل وجهات نظر الفئة الأُولى من منكري الحكومة الدِّينيَّة وآرائها، ونقدها، وهي الّتي أشرنا إليها في الفصل السابق. فهذه الفئة لا تنكر، من حيث المبدأ، إمكانيَّة تدخّل الدِّين في المجالات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، ولا ترى من عقبة تحول دون أن يكون الدِّين مرجعيَّةً في الأُمور الاجتماعيَّة، بل تنكر حدوث مثل هذا التدخّل من جانب الإسلام، إذ إنها تعتقد بأنّ الإسلام ترك للمسلمين شأن الحكومة وكيفيتها وأُسلوب إقامتها، ولم يطرح وجهة نظر في هذا الشأن.
1- لا بد أولاً من تحديد موضوع الشرعية. هل الشرعية في الدولة الإسلامية للحاكم أم لنفس الأحكام، وهذا الكلام يظهر من تبني الشق الثاني أي الشرعية لنفس الأحكام وهذا خطأ فاحش لأن نقطة الخلاف بين شرعية الدولة بين الفكر الإمامي وفكر الحركات الإسلامية الأخرى (السنية) هي الخلاف شرعية الحاكم أم الأحكام ولذا لا بد من إحداث بحث مستقل حول هذه النقطة الأساسية.
89
78
الدرس التاسع: النَّبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (1)
الدرس التاسع: النَّبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (1)
هل دعا الإسلام لإنشاء حكومة دينيَّة؟ وهل له تعاليمه في مختلف المجالات ذات الصِّلة بالسِّياسة والحكومة ؟
تقتضي الإجابة عن هذا النَّوع من الأسئلة العودة، من دون تريُّث، إلى صدر الإسلام، وإلى مرحلة وجود النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنوّرة.
من المسلّم به أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نهض بزعامة الأُمّة الإسلاميَّة في العقد الأخير من عمره الشريف، حين كان في المدينة. والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا هو: هل كانت تلك الزَّعامة في إطار الحكومة وقيادة المسلمين، أو أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يشكِّل أساساً الحكومة، وزعامته وقيادتة كانتا من نوع زعامة رؤساء الأديان المعنويَّة لأتباعهم ومحبِّيهم وقيادتهم؟
الاعتقاد السائد بين المسلمين قاطبة، في السابق، وأغلب المسلمين المنكرين لمرجعيَّة الدِّين..، في عصرنا الراهن، واستناداً إلى الشَّواهد التاريخيَّة الرَّصينة، يفيد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أسّس حكومة في العالم الإسلاميّ آنذاك مركزها المدينة. ورغم هذا الاعتقاد المقبول والسائد، فإنّ عدداً قليلاً من الكتّاب المسلمين، راح يميل، في السَّنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين، إلى الرأي القائل: إنّه لم تكن للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
91
79
الدرس التاسع: النَّبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (1)
سوى زعامة دينيَّة، ولم يؤسِّس حكومة.
وهناك مبحثان أساسان في باب زعامة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هما:
أ ) هل شكَّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكومة؟
ب) ولنفرض أنّه شكَّل حكومة، فهل كانت زعامته وولايته صلى الله عليه وآله وسلم مستمدَّتين من الوحي والتَّعاليم الدِّينيَّة، أو أنَّ أصولهما كانت مدنيَّة، وأنّ النَّاس منحوه بإرادتهم هذه الزَّعامة السِّياسيَّة؟
بداية سنتوسَّع في مناقشة البحث الأوّل، ونسلّط الضوء على أدلّة أُولئك الّذين يعتقدون بعدم قيام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتشكيل الحكومة الدِّينيَّة.
الرسالة سوى الحكومة
تبنّى الكاتب المصريّ عليّ عبد الرزَّاق فكرةً مفادها أنّ زعامة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت مجرّد زعامة دينيَّة، وأنّ منشأ تلك الزعامة نبوَّته ورسالته. ومن هنا، فقد اختتمت تلك الزعامة بوفاته صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي ليست من الأُمور القابلة للنيابة. ولم تكن زعامة الخلفاء بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كزعامته، بل كانت زعامتهم سياسيَّة. فقد شكّلوا الدَّولة العربيَّة، واستمدُّوا من الدَّعوة الدِّينيَّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما رسّخ حكومتهم. وسمِّي زعماء هذه الحكومات الجديدة بخلفاء رسول الله. وهذا ما يجعل بعضهم يظنّ أنّ زعامتهم هي نيابة عن زعامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بينما لم تكن للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سوى زعامة دينيَّة تأبى الانتقال والنيابة. فلم تكن للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولاية سياسيَّة لتنتقل إلى خلفائه1.
ويستعين عبد الرزَّاق بدليلين لإثبات مدّعاه:
الأوّل: تمسّك ببعض الآيات القرآنيَّة، الّتي حصرت وظيفة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الرِّسالة والبشارة والإنذار. ويعتقد الكاتب المذكور بأنّه لو كان للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شأن آخر غير النبوّة والرِّسالة، كمنصب الحكومة والولاية، لكان من الأولى أن يشار إليه في الآيات القرآنيَّة، ولما أوجز شأنه في النبوّة والإنذار
1- الإسلام وأُصول الحكم، عليّ عبد الرزاق: 90-94.
92
80
الدرس التاسع: النَّبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (1)
والبشارة،1 ومن الآيات الّتي استدلّ بها: ﴿إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾،2 ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾،3﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾،4 ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ﴾،5 ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾6.
الدليل الثاني الّذي تمسّك به على نفي تأسيس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للحكومة: يعود هذا الدَّليل إلى دراسة لوازم وجود الحكومة. فهو يعتقد بأنَّ للحكومة، في العصر الراهن، إدارات كثيرة وأجهزة عديدة متنوِّعة. وطبيعيٌّ أنه لم يكن من الضَّروريّ أن تكون للحكومات السَّالفة مثل هذه الإدارات والأجهزة. ولكن، ولمَّا كانت هنالك حكومة، كان لا بدَّ من أن تشتمل على الأنظمة والوزارات والأجهزة المحاسبة للدَّخل والمصروفات، وضبط الشؤون الداخليَّة والخارجيَّة، فهذه أدنى الأُمور الّتي تتطلّبها كلّ حكومة. فلو تمعَّنا في مدَّة زعامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرأينا خلوَّها حتى من هذا الحدّ الأدنى من التنظيم والإدارة، أي إنّ زعامة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانت تفتقر لأدنى الأجهزة الضروريَّة للحكومة. قد يتبادر إلى الأذهان إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، بسبب تواضع حياته كان يأبى وجود مثل هذه الأجهزة في حكومته، ولكن عبد الرزَّاق يعتقد بأنّ هذا الاحتمال ليس صحيحاً، لأنّ هذه الأجهزة والأُمور الإداريَّة من مقوّمات الحكومة وضروراتها، ولا تتنافى مع بساطة العيش. وبناءً على ذلك، يرى أنّ غياب هذه الأُمور يفيد بعدم تشكيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للدولة، وأن الإسلام دين، ما يعني أنَّه ديانة وحسب، ولم تكن رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تشتمل على إقامة الحكومة8.
الرَّدّ على الدَّليل الأوّل
إنّ الرُّجوع إلى القرآن الكريم يوضح هذه المسألة، وهي أنّ وظائف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
1- المصدر نفسه: 73.
2- سورة الأعراف: 188.
3- سورة النور: 54.
4- سورة الكهف: 110.
5- سورة الرعد: 7.
6- سورة الشُّورى: 48
7- الإسلام وأُصول الحكم: 62 ـ 64.
93
81
الدرس التاسع: النَّبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (1)
ومهمَّاته لم تكن مقتصرة على إبلاغ الرسالة وإنذار الناس. على سبيل المثال: القرآن الكريم يعدُّ جهاد الكفَّار والمنافقين، وحثَّ المؤمنين على قتال المشركين، والقضاء، وتبيين المعارف الإلهيَّة، من شؤون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذه الأُمور أكثر عمقاً من مجرّد إبلاغ الرِّسالة وإنذار الناس.
ونورد، هنا، آية على كلّ شأن من هذه الشؤون، بوصفها دليلاً يؤيِّد ما نذهب إليه:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾1،﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾2 ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾3،﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾4.
استناداً إلى هذه الحقيقة المتمثِّلة في أنّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عدة مناصب مختلفة، نرى أنَّ الحصر الّذي استدلّ به عبد الرزاق، في تلك الآيات، لا يمكنه أن يكون حصراً حقيقياً، بل حصر إضافيّ، والمراد من الحصر الإضافي تأكيد المتكلِّم على اتّصاف الموصوف بصفة واحدة من صفتين معيَّنتين يُتصوَّر أنه يتَّصف بهما.
على سبيل المثال: قد يكون هناك تصوُّرٌ مفاده أنّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وظيفة حمل الناس وإجبارهم على الهدى، بالإضافة إلى وظيفة الإبلاغ الإلهيّ. ولرفع هذا الوهم والتصوّر الخاطئ، هناك آية تبيّن هذا الحصر الإضافيّ، إذ تحصر مهمة النبيّ في وظيفة الإبلاغ، فتقول: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾5، أي أنّ وظيفة الرسول ليست إجبار الناس على الإيمان، بل إبلاغ الرسالة وبيان سبيل الهدى. وعلى الناس أن يسلكوا سبيل الهدى بأنفسهم، ويبادروا إلى العمل الصالح.
إذن، فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليس وكيل الآخرين في أمر الهداية، بل هو مكلّف بجعلهم يرون
1- سورة التحريم: 9.
2- سورة الأنفال: 60.
3- سورة الأحزاب: 36.
4- سورة النحل: 44.
5- سورة النور: 54.
94
82
الدرس التاسع: النَّبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (1)
طريق الهدى فقط. وهذه الحقيقة المتمثِّلة في أنّ النبيّ هاد فقط، وليس وكيل الأُمّة في أمر الهداية، والنَّاس أنفسهم عليهم السعي إلى الهدى والمبادرة للعمل الصالح، قد تم بيانها في قالب الحصر الإضافيّ1 بهذه الآية ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيل﴾2.
وبناءً على ذلك، فالخطأ الرئيس لعبد الرزَّاق يتمثَّل في عدِّه الحصر، في آيات من هذا القبيل، حصراً حقيقياً، وذكر الصفة الخاصّة دليل على نفي جميع الصفات الأُخرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في حين أنّ الحصر في هذه الآيات حصر إضافيّ، وهي – أي الآيات – في الأساس ليست واردة في شأن سائر الصفات والمناصب الأُخرى، وهي تنفي كلّ وصف خاصّ يكون مدعاة للتَّوهُّم.
الرَّدّ على الدَّليل الثَّاني
يتّضح، من خلال الرُّجوع إلى تاريخ العرب قبل الإسلام، أنّ العرب كانوا يفتقرون للحكومة والسلطة السِّياسيَّة المنظَّمة. فلم تكن لديهم حكومة تبسط الأمن في الداخل، وتصدُّ الأعداء الآتين من الخارج. ولم يكن سائداً، آنذاك، سوى نظام القبيلة. وإننا لا نشاهد قطّ أيّ شكل سياسيّ وإداريّ ساد الأقوام والأُمم المتحضِّره آنذاك في الجزيرة العربيَّة. فكانت كلّ قبيلة لها وحدة متميِّزة ومستقلَّة عن سائر القبائل، ويتزعَّمها رئيس القبيلة. وقد قام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتلك النهضة التغييريَّة في ظلّ تلك الظروف، ليحدث جميع تلك التغييرات الشاملة في شبه الجزيرة العربيَّة، ويعمل على تأسيس نظام سياسيّ وتشكيل حكومته، في وسط كان يفتقر أساساً للحكومة والدَّولة المركزيَّة.
ونشير هنا إلى بعض الخطوات، بوصفها شاهداً تاريخياً على تحقُّق تأسيس الدَّولة الدِّينيَّة من جانب النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
أوّلاً: أرسى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دعائم الوحدة بين القبائل العربيَّة المشتَّتة. ولم يكن لهذه
1- الميزان في تفسير القرآن 12: 241-242، ذيل الآية (35) من سورة النحل، و10: 133 ذيل الآية (108) من سورة يونس.
2- سورة يونس: 108.
95
83
الدرس التاسع: النَّبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (1)
الوحدة طابع دينيّ فحسب، بل أوجدت اتّحاداً سياسياً إلى جانب نشر العقائد والتعاليم الدِّينيَّة المشتركة، فأصبحت لهذه القبائل، الّتي كانت مستقلِّة ومتناحرة بالأمس، مصالح وعلاقات مشتركة في ظلّ تلك الوحدة السِّياسيَّة. ولعلّ أسمى تجلِّيات تلك الوحدة السِّياسيَّة وحدة مصير هذه القبائل المسلمة في الصلح والقتال إزاء القبائل غير المسلمة.
ثانياً: جعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة مركز حكومته، ومن هناك أوفد الحكَّام والولاة لسائر المناطق. وقد ذكر الطبريّ أسماء عدد من صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذين تصدُّوا لهذا الأمر. وقد تبنَّى بعض هؤلاء الأفراد تعليم الفرائض الدِّينيَّة، بينما اقتصر بعض آخر على إدارة الشؤون الإداريَّة والماليَّة لتلك المناطق، في حين نهض آخرون بأعباء الأُمور الدِّينيَّة، من قبيل إقامة صلاة الجماعة وتعليم القرآن وأحكام الشريعة.
وبناءً على نقل الطبريّ، فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولّى سعيد بن العاص منطقة ما بين رمع وزبيد حتى حدود نجران، وعامر بن الشمر هَمْدان، وفيروز الديلميّ على صنعاء لإقامة الصلاة، وبعث عمرو بن حزم لأهل نجران، وأبا سفيان بن حرب على الصَّدقات، وأبا موسى الأشعري على مأرب، ويعلى بن أُميّة على الجند1.
ثالثاً: وصايا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكتبه لبعض رسله، إلى تلك المناطق، شاهد واضح على البعد الحكوميّ في زعامته صلى الله عليه وآله وسلم . وقد وردت، في بعض تلك الكتب والرَّسائل، وصايا وتعليمات تفيد أنّ رسله كانوا حكاماً وولاة على تلك المناطق. فعلى سبيل المثال، طلب من عمرو بن حزم، في عهده إليه، أن يعامل النَّاس بالرِّفق واللِّين والتشدُّد على الظَّلمة منهم، وأن يأخذ خمس الغنائم، ويجبي زكاة أموالهم، كما ورد في العهد2، ومن الواضح أنّ الحاكم والوالي فقط من
1- تاريخ الطبري 3: 318.
2- جاء في ذلك العهد: "أمره أن يأخذ بالحقّ كما أمره الله، يخبر النَّاس بالذي لهم والّذي عليهم، يلين للنَّاس في الحقّ ويشتدُّ عليهم في الظُّلم، أمره أن يأخذ من المغانم خمس الله". راجع: نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ظافر القاسمي، الكتاب الاول، ص 529.
96
84
الدرس التاسع: النَّبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (1)
يسعه القيام بهذه الأُمور.
رابعاً: الشَّاهد الآخر على تشكيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدَّولة، هو أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وضع العقوبات الجزائيَّة للعصاة والمتمرِّدين الّذين كانوا ينتهكون حرمة القوانين التَّشريعيَّة، والحدود الإلهيَّة، ولم يكتف بالعقاب الأُخرويّ للمتخلِّفين. إنّ إقامة الحدود الشَّرعيَّة، ومعاقبة المذنبين من الأفراد، هي شأن من شؤون الدَّولة والحكومة.
خامساً: عُبِّر عن الحكومة والسُّلطة السِّياسيَّة، على لسان القرآن ومؤمني صدر الإسلام، بكلمة "الأمر": ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ و﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾1، ولو كانت زعامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيادته مقتصرتين على الزَّعامة الدِّينيَّة لما كان هناك من معنى للدَّعوة إلى المشورة واستطلاع الآراء في الزَّعامة الدِّينيَّة وإبلاغ الرسالة الإلهيَّة. وعليه، فكلمة "الأمر" في هاتين الآيتين إشارة إلى اتّخاذ القرارات السِّياسيَّة وإدارة شؤون المجتمع.
الخلاصة
1 ـ نهض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بزعامة أُمَّته. والاعتقاد السائد لدى قاطبة المسلمين مفاده أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شكَّل حكومة،. وقد اعترف بعض الكتَّاب المسلمين المعاصرين بزعامته الدِّينيَّة، لكنهم أنكروا تشكيله للحكومة.
2 ـ استدلّ بعض من أنكر تشكيل الحكومة النبويَّة ببعض الآيات الّتي ترى أنّ وظيفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تنحصر في إبلاغ الرسالة والبشارة والإنذار، ولم تتطرّق هذه الآيات إلى كونه حاكماً ووالياً.
1- سورة آل عمران: 159، وسورة الشورى: 38.
97
85
الدرس التاسع: النَّبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (1)
3 ـ تفيد هذه الآيات الحصر الإضافيّ لا الحقيقيّ. وبناءً عليه، فهي لا تدلّ على نفي الزَّعامة السِّياسيَّة.
4 ـ الدليل الآخر لبعض المنكرين مفاده أنّ الزعامة النبويَّة للمسلمين كانت تفتقر لأدنى الأجهزة اللازمة لتشكيل حكومة.
5 ـ تشير الشواهد التاريخيَّة إلى أنّ حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانت تتمتع بالأجهزة المتناسبة مع الظروف الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والإقليميَّة للمجتمع آنذاك.
6 ـ إنّ بعض الأُمور، من قبيل: إيفاد المندوبين، شاهد آخر على الجانب الحكوميّ لزعامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الأسئلة
1 ـ ما هما البحثان الرئيسان المختصَّان بزعامة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ؟
2 ـ ما الدَّليل الأوّل لعلي عبد الرزَّاق على نفي تشكيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للحكومة؟
3 ـ اذكر باختصار الردّ على الدَّليل الأوّل لعبد الرزَّاق.
4 ـ ما هو الدَّليل الثاني لعبد الرزَّاق؟
5 ـ ما هي الشواهد التاريخيَّة الدَّالَّة على تشكيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحكومة؟
98
86
الدرس العاشر: النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (2)
الدرس العاشر: النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (2)
تبنّى أحد الكتّاب العرب، وهو محمَّد عابد الجابريّ، في مقام نفيه لحكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الدِّينيَّة، الدِّفاع عن فكرة أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يبنِ نظاماً سياسياً ودولة دينيَّة، بل كانت حصيلة جهوده تأسيس "الأُمّة الإسلاميَّة". فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، كما يرى الجابريّ، لم يشكّل الحكومة، بل بثَّ في أوساط الناس سلوكاً معنوياً واجتماعياً خاصّاً، وصنع منهم أُمّة تسعى إلى حفظ دينها وشريعتها السماويَّة والمعنويَّة. وقد عاش النَّاس من خلال الإسلام والدَّعوة النَّبويَّة، حالةً معنويَّة واجتماعيَّة منظَّمة. وفي الوقت الّذي سعى فيه النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى توسيع هذه الحالة المعنويَّة والاجتماعيَّة، وبناءً الأُمّة الإسلاميَّة، كان يتحاشى تسمية نفسه بالملك أو رئيس الدَّولة أو السُّلطان.
وبناءً على ذلك، فقد ظهرت، بادئ الأمر، خلال الدَّعوة المحمَّديَّة "الأُمّة الإسلاميَّة"، ثمّ انتهت هذه الدعوة بعد مدَّة من الزمان إلى تشكيل نظام سياسيّ خاصّ يعرف بالدَّولة الإسلاميَّة. فالدَّولة والنظام السِّياسيّ ظهرا في عهد الخلافة العبَّاسيَّة. وكان المسلمون، في صدر الإسلام، ينظرون إلى الإسلام، أي الدعوة المحمَّديَّة، بوصفها "الدِّين الخاتم" لا بوصفها "الدَّولة". ومن هنا، كان جلُّ ما يريدونه حفظ هذا الدِّين وبقاء كيان الأُمّة الإسلاميَّة، لا أن يسعوا إلى حفظ النِّظام السِّياسيّ والدَّولة الفتيَّة. فما
99
87
الدرس العاشر: النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (2)
حصل، في المجتمع الإسلاميّ، في صدر الإسلام، إنّما هو تشكيل الأُمّة الإسلاميَّة، ثمّ تطوَّرت وتكاملت الدَّعوة الدِّينيَّة الإلهيَّة في مسيرتها لتظهر الحكومة الدِّينيَّة. واستدلّ الجابري على ادّعائه بالشواهد الآتية:
1ـ لم تكن، لدى العرب، في عهد البعثة النَّبويَّة، دولة أو سلطان، وكان النِّظام السِّياسيّ ـ الاجتماعيّ لمكّة والمدينة (يثرب) قوامه نظام القبيلة، الّذي لا يبلغ مستوى الدَّولة، لأنّ الدَّولة تتحقَّق ببعض الأُمور، من قبيل: الأرض ذات الحدود المعيّنة، والجماعة الّتي تعيش في تلك الأرض، والسلطة المركزيَّة الّتي تنوب عن تلك الجماعة في مختلف الشؤون الاجتماعيَّة، وتمارس سلطتها حسب القوانين والعرف السائد، فمثل هكذا سلطة لم تكن معهودة لدى العرب.
2 ـ كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يسعى إلى نشر القيم الدِّينيَّة والسلوك الاجتماعيّ الخاصّ والجديد، الّذي نادت به دعوته الدِّينيَّة، وكان يتجنَّب تسمية نفسه بالملك أو برئيس الدَّولة.
3 ـ لم يذكر القرآن شيئاً باسم الدَّولة الإسلاميَّة، بل أشار إلى الأُمّة الإسلاميَّة في قوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾1.
4 ـ إنّ الدَّولة، بوصفها مصطلحاً سياسياً، بدأت في زمن العباسيين، والّذي كان سائداً قبلها هو الأُمّة الإسلاميَّة. وما إن آلت السُّلطة من الأُمويين إلى العباسيين حتى جرت على ألسنتهم وألسنة أتباعهم عبارة "هذه دولتنا"، وأمثال ذلك، ما يفيد ربط الدِّين بالدَّولة، وبروز محوريَّة "الدَّولة" بدل "الأُمّة"2.
الرَّدّ على نظريَّة الجابري
إنّ القسم المتعلِّق بالرَّدّ على الدَّليل الثاني لعلي عبد الرَّزاق، من الدَّرس السابق، يردُّ على نظريَّة الجابريّ القائلة بعدم تشكيل الحكومة، ونذكر هنا بعض الأُمور المكملة، والّتي تعالج نظريَّة الجابريّ:
1- سورة آل عمران: 110.
2- الدِّين والدَّولة وتطبيق الشريعة، محمد عابد الجابري: 13 ـ 24.
100
88
الدرس العاشر: النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (2)
1ـ إنّ تشكيل الأُمّة الإسلاميَّة، وانتشار السلوك المعنويّ والاجتماعيّ الإسلاميّ، ببركة الإسلام والإيمان، في أوساط العرب المشتَّتين والمتفرِّقين، لا يمنع من أن تتمتَّع هذه الأُمّة بحكومة مركزيَّة. فليس هناك من يسعه إنكار أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صنع أُمّة واحدة من تلك القبائل المتعدِّدة والمشتَّتة، والبحث يتركَّز على أنّ تلك الأُمّة لم تكن فاقدة للسلطة السِّياسيَّة. والواضح أن عنصر الحكومة كان موجوداً في تلك الأُمّة، وكانت تلك السلطة السِّياسيَّة وزعامة الأُمّة بيد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم . والشواهد الّتي ذكرناها، في ختام الدَّرس السابق، تثبت هذا الرَّأي.
2ـ إنّ عبد الرزَّاق والجابريّ قد غفلا عن قضيَّة أساسيَّة وهي: الحقيقة هي أنّ آليَّة الحكومة والدَّولة، في كلّ مجتمع، تتناسب مع الظروف الخاصّة الاجتماعيَّة ـ التاريخيَّة لذلك المجتمع. ففي المجتمع البسيط الخالي من التعقيد، من الطبيعيّ أن تفتقر الحكومة لذلك التعقيد والأجهزة الكثيرة والمتنوِّعة.
والمجتمع المعقَّد، ذو العلاقات الاجتماعيَّة المتنوِّعة، يتطلّب دولة ذات بنية مركَّبة وأجهزة واسعة ومعقَّدة، لتتمكن من تنظيم مختلف شؤونه. والمغالطة الّتي أُصيب بها الكاتبان تتمثَّل في تجاهلهما للوضع الاجتماعيّ الخاصّ الّذي كان قائماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فهما يحملان تصوّراً خاصّاً للدَّولة، وبسبب فقدان ذلك التصوّر والقالب الخاصّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد حكما بعدم وجود الدَّولة في زمانه، ورأيا أنَّ تبلور تشكيل الدَّولة الإسلاميَّة قد تمَّ في الأزمنة التالية، كالعصر العباسيّ.
الدكتور السنهوريّ ذهب، في نقد هذه النظريَّة النَّاشئة عن آراء عبد الرزَّاق، إلى القول: "إنّ الاستدلال الرئيس لعبد الرزَّاق هو أنّ النظام الحكوميّ، في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كان يفتقر إلى البنية الضروريَّة للدَّولة والحكومة. وهذا لا يصح دليلاً على صحّة ادعائه (عدم وجود الدَّولة والحكومة)، لأنّ البساطة السائدة آنذاك في مجتمع الجزيرة العربيَّة، لم تكن تسمح بنظام دقيق ومعقَّد. ولقد اعتمد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما أمكنه ـ أفضل نظام سائد على عهده وأحسنه، خال من كلّ عيب. وإن افتقرت
101
89
الدرس العاشر: النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (2)
حكومته للنظام المعقَّد السائد اليوم لدى الحكومات المعاصرة، فذلك لأنّ هذا النظام لم يكن مناسباً لذلك المجتمع الّذي عاش فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . ومع هذا، فقد ابتكر نظاماً للضرائب، ووضع قانوناً مدنياً، وأوجد تنظيمات إداريَّة وعسكريَّة في دولته الإسلاميَّة"1.
3- لا يستند ما ذهبنا إليه، من أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أقام سلطةً سياسيَّةً، وكيان حكومة مركزيَّة، إلى استخدام مصطلح "دولة" آنذاك، أو إلى أن النبيّ’ سُمِّي بأسماء حكوميَّة معيّنة، من قبيل: الملك أو الرئيس أو السلطان، لكي يحصر الجابريّ تشكيل الحكومة والدَّولة بالأزمنة اللاحقة، لمجرّد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمّ نفسه ملكاً، أو لرواج مفردة "هذه دولتنا" على عهد العبّاسيين. فالواقع التاريخيّ الّذي لا يمكن إنكاره يفيد أنّ زعامة سلطة سياسيَّة مركزيَّة في المدينة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن المفروغ منه أنّ هذه الحكومة المنبثقة عن الإسلام وتعاليمه تختلف كثيراً، من حيث الشكل والقالب والعلاقة مع الأُمّة، عن القوالب الّتي كانت معروفة آنذاك.
إلهيَّة حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
خلصنا إلى القول: إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شكَّل حكومة في المدينة، واقترنت نبوَّته ورسالته بولايته السِّياسيَّة. ونبحث الآن، في قضيَّة مهمّة، وهي: هل كانت ولايته السِّياسيَّة وحكومته بتفويض من الله تعالى أو أنّها استندت إلى بيعة الأُمّة؟ بعبارة أُخرى: هل كانت أصول حكومته وولايته السِّياسيَّة دينيَّة أو شعبيَّة؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال سيكون لها دورها في تعيين علاقة الإسلام بالسِّياسة. فلو كانت لحكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وولايته السِّياسيَّة أصول دينيَّة، ما يعني أنّ الله منحه هذا المنصب، لكانت العلاقة بين الإسلام والسِّياسة "علاقة ذاتيَّة"، بمعنى أنّ الإسلام ركّز في مضامينه وتعاليمه على الحكومة، وطالب المسلمين بإقامة الدَّولة الدِّينيَّة،
1- فقه الخلافة وتطورها لعبد الرزاق أحمد السنهوري: 82.
102
90
الدرس العاشر: النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (2)
فبادر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من باب تلبية الدَّعوة الدِّينيَّة إلى تأسيس الحكومة، والتدخّل في شؤون المسلمين الاجتماعيَّة والسياسيَّة.
أمّا إذا استندت ولاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السِّياسيَّة إلى رغبة الأُمّة وإرادتها، فستكون علاقة الإسلام بالسِّياسة علاقة تاريخيَّة. والمراد من العلاقة التاريخيَّة أنّ الإسلام لا يستبطن، في تعاليمه، دعوة لتشيكل الحكومة الدِّينيَّة، ولم يقرّ منصباً خاصّاً للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم باسم الولاية السِّياسيَّة. وبهذا، يكون تشكيله للدَّولة الدِّينيَّة مجرّد واقعة تاريخيَّة حدثت مصادفة. ولو لم ينتخبه أهل المدينة ويبايعوه زعيماً سياسيَّاً لهم، لما كان هناك مثل هذه العلاقة بين الإسلام والحكومة، لأنّه، ووفاقاً لهذا الرأي، ليست هناك من رابطة جوهريَّة وذاتيَّة بين الإسلام والحكومة، وليس في هذا الدِّين من رأي في شأن الولاية السِّياسيَّة.
كتب أحد المدافعين عن هذه النظريَّة يقول: إنّ منصب الزَّعامة الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والأخلاقيَّة الّذي اعتمده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لترسيخ أوَّل قاعدة لانطلاقة رسالته السماويَّة، إنّما تم، بادئ الأمر، من طريق الانتخاب والبيعة، ثمّ تعزَّزت هذه البيعة، من جانب الله تعالى، بالرِّضا والتأييد، كما ورد في الآية الشريفة: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾1، وهكذا لم تكن زعامة النبيّ السِّياسيَّة جزءاً من مهمَّته السماويَّة ورسالته. فزعامته صلى الله عليه وآله وسلم وقيادته السِّياسيَّتان كانتا تتعلَّقان بالإجراءات والأوامر العمليَّة والنظم الشعبيَّة، والّتي انبثقت من خلال انتخاب الأُمّة وبيعتها، ولا تُعدُّ في سياق الوحي السماويّ.
نظريَّة العلاقة التاريخيَّة بين الدِّين والسِّياسة، ومدنيَّة ولاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السياسيّة ليست بصحيحة. فحكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن منبثقة من الظروف الخاصّة بذلك العهد، وواقعة حدثت مصادفةً وطبقاً لإرادة الأُمّة، بل كانت متجذِّرة في تعاليم الإسلام. وكما سنبيِّن، فإنّ قبول الأُمّة وبيعتها مثَّلتا الأساس لتثبيت تلك الدَّعوة الدِّينيَّة وتحقُّقها في
1- سورة الفتح: 18.
103
91
الدرس العاشر: النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (2)
الواقع. ويمكن بالاستناد إلى عدة أدلّة إثبات نشأة ولاية النبيّ السِّياسيَّة من الإسلام والوحي السماويّ، وإليك بعض هذه الأدلَّة:
1 ـ إنّ الإسلام يشتمل على بعض القوانين والتكاليف الّتي لا يمكن تطبيقها على مختلف شؤون المجتمع الإسلامي، من دون إقامة الدَّولة الدِّينيَّة.
فتنفيذ أحكام الإسلام الجزائيَّة، وتولِّي الواجبات الماليَّة للمسلمين، من قبيل: جباية الزكاة وتوزيعها، وخمس الأموال والغنائم، كلّ في موارده، لا يتحقَّق إلّا من خلال الدَّولة الإسلاميَّة. وبناءً على ذلك، لم يكن أمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مقام الاستجابة لهذه المجموعة من التعاليم الدِّينيَّة سوى التصدّي للولاية السِّياسيَّة. وبالطبع، لو لم يواكبه المسلمون ويدعموه ببيعتهم وحمايتهم، لما ترسَّخت دعائم ولايته السِّياسيَّة، ولتعطَّلت هذه التعاليم الدِّينيَّة.
إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ ولايته السِّياسيَّة منبثقة من الأُمّة، وليست لها علاقة بصميم الإسلام وذاته.
2 ـ الآيات القرآنيَّة الّتي أثبتت ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السِّياسيَّة، وأمرت المسلمين بطاعته هي: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾1، ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾2،﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ﴾3.
وعلى أساس هذه الآيات، يتأكَّد أنّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولاية وأولويَّة وحكماً على المؤمنين. ويبقى السُّؤال مطروحاً، وهو: في أيّ الأُمور تكون الولاية والأولويَّة والحكم؟
ظاهر هذه الآيات يفيد أنّ الولاية والأولويَّة تكونان في الأُمور الّتي يرجع فيها الأفراد والأقوام عادة إلى رئيسهم، أي الأُمور الاجتماعيَّة المنوط بها حفظ المجتمع والنظام وصيانتهما وإدارتهما.. أُمور من قبيل: إشاعة النظام، وإحقاق حقوق الأفراد، وجباية
1- سورة الأحزاب: 6.
2- سورة المائدة: 55.
3- سورة النساء: 105.
104
92
الدرس العاشر: النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (2)
الضرائب وصرفها على المستحقين وسائر المصارف الضروريَّة، ومعاقبة المذنبين، وقتال الأجانب والصُّلح معهم.
3ـ إنّ أهمّ دليل استند إليه من زعم أنّ الولاية السِّياسيَّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مدنيَّة، وليست دينيَّة، بعض موارد بيعة المسلمين له. فبيعة وفد يثرب سنة (13) من البعثة، وبيعة الشجرة ـ بيعة الرضوان ـ الّتي أُشير إليها في الآية المذكورة قُبيل هذا1، مثَّلتا المستمسك الأصليّ لهؤلاء في أنّ حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم تقم على أساس دينيّ.
وإن عدنا إلى بيعة العقبة، الّتي وقعت في السنة الثالثة عشرة من البعثة، بعد مناسك الحجّ، وقبل الهجرة النبويَّة، مع ممثِّلين عن أهل يثرب، يتّضح جلياً أنّ مفادها حماية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من مشركي مكة، ولم تكن فيها أيّة دلالة على انتخابه للزَّعامة والقيادة السياسيِّتين،2 إذ إنه قال في هذه البيعة: "أمّا ما لي عليكم، فتنصرونني مثل نسائكم وأبنائكم، وأن تصبروا على عضِّ السيف وإن قُتِل خياركم". فضرب البراء بن معرور يد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقال: نعم، والّذي بعثك بالحقّ لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا.3
أمّا بيعة الرضوان الّتي أشارت إليها الآية 18 من سورة الفتح، فقد وقعت سنة (6) للهجرة في موضع يعرف بـ "الحديبيَّة"، وإنَّ التمسّك بهذه البيعة لإثبات مدنيَّة حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم4 لمن العجب العجاب، لأنّ هذه البيعة تمّت بعد سنوات من استقرار ولايته السِّياسيَّة في المدينة. أضف إلى ذلك أنّ مضمون هذه البيعة كان إعلان الاستعداد لقتال المشركين، ولا يمتُّ بأيّة صلة إلى قضيَّة انتخاب الزَّعيم والقائد السِّياسيّ.
1- سورة الفتح: 18.
2- بمعنى آخر بايعوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كحاكم فعلي.
3- مناقب آل أبي طالب: 1: 181
4- صَالَحَ كحاكم فالصلح وقع في طول حاكميته.
105
93
الدرس العاشر: النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (2)
الخلاصة
1ـ يعتقد بعض الكتّاب المعاصرين بأنّ النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يشكّل الحكومة، بل صنع "الأمّة الإسلاميَّة"، ثمّ تأسّست الدَّولة الدِّينيَّة في العصر العبّاسيّ بعد تشكيل الأُمّة.
2ـ الشاهد على هذا الادّعاء يتمثَّل في أنّ تعريف الدَّولة لا يصدق على العلاقات القبليَّة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والشاهد الآخر أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمّ نفسه حاكماً وأميراً، كما أن القرآن استخدم عبارة الأمّة دلالة على المسلمين.
3ـ غفل المدافعون عن هذه النظريَّة أنّ قضيَّة الحكومة، في كلّ مجتمع، تتناسب مع ظروفه الاجتماعيَّة. وبناءً عليه، فعدم انطباق الدَّولة بمعناها المعاصر على حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يقوم شاهداً على نفي وجود الحكومة في المدينة آنذاك.
4ـ الغفلة الأُخرى الّتي وقعوا فيها، هي أنّ نزاعهم ليس في مجرّد لفظ الدَّولة والإمارة والحكومة. وادّعاؤنا أنّ الحكومة، أو الولاية السِّياسيَّة، تحقّقت في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
5ـ وجود الحكومة في الوسط الإسلاميّ لا يتنافى مع إطلاق مصطلح الأمّة على المسلمين.
6ـ الادّعاء الأساس هو أنّ الولاية السِّياسيَّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حصيلة "علاقة ذاتيَّة" بين الإسلام والسِّياسة، لا حادثة أو مصادفة تأريخيَّة. وبناءً عليه، فرابطة الإسلام والسِّياسة ليست "رابطة تاريخيَّة".
7ـ هناك عدة أدلّة على إلهيَّة حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين، وعلى أنّها لم تكن مدنيَّة.
106
94
الدرس العاشر: النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتأسيس الحكومة (2)
الأسئلة
1ـ ما هو مراد من يقول: إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صنع الأمّة الإسلاميَّة بدل الحكومة؟
2ـ ما هي أدلّة هؤلاء على هذا الادّعاء؟
3ـ ما هو الردّ على الفئة المنكرة لتأسيس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للحكومة؟
4ـ ما المراد من "العلاقة الذاتيَّة" و"العلاقة التاريخيَّة" بين الإسلام والسِّياسة؟
5ـ بيّن أدلّة كون حكومة النبيّ إلهيَّة ونشأتها دينيَّة، وأنّها غير مدنيَّة.
107
95
الدرس الحادي عشر: الولاية السِّياسيَّة بعد النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
الدرس الحادي عشر: الولاية السِّياسيَّة بعد النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
أشرنا، في الدَّرس السَّابق، إلى أنّ ولاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السِّياسيَّة مُنحت له على أساس النَّصِّ الشَّرعيّ والوحي السماويّ، ومبدأ شرعيَّة هذه الولاية هو إرادة الله وأمره. والسُّؤال المطروح، هنا هو: هل هناك من آراء، في التَّعاليم الإسلاميَّة والنُّصوص الدِّينيَّة، تنصُّ على شكل النِّظام السِّياسيّ للمسلمين وكيفيَّة الولاية السِّياسيَّة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو أنّ الإسلام سكت عن هذا الأمر، وفوّض للأُمَّة أن تتَّخذ القرار المناسب في قضيَّة الولاية السِّياسيَّة وكيفيتها؟
يصطلح على هذه المسألة، في الكلام الإسلاميّ، بمسألة الإمامة، وتعدّ من أهمّ المباحث الكلاميَّة للعالم الإسلاميّ طوال التَّاريخ، وتمثِّل المحور الأساس للنِّزاع بين المذهبين: الشِّيعيّ والسُّنيّ، حيث يعتقد أهل السنَّة بأنَّ النُّصوص الدِّينيَّة لم تتحدَّث عما ينبغي أن تكون عليه الحكومة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ لم ترد مطالب واضحة في شأن النِّظام السِّياسيّ الحكوميّ، وصفات حاكم المسلمين وكيفيَّة انتخابه، وأنّ الّذي حصل بعد رحيل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، كان حصيلة اجتهاد مسلمي صدر الإسلام. وقد اصطلح أهل السنَّة على مضمون هذا الاجتهاد بنظام الخلافة.
في المقابل، فإنّ الشِّيعة يعتقدون بأنّ النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى أساس النُّصوص الشَّرعيَّة
109
96
الدرس الحادي عشر: الولاية السِّياسيَّة بعد النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
الكثيرة، الواردة في باب القيادة والولاية السِّياسيَّة للأُمَّة من بعده، وضع، في حياته، وبأمر من الله، بعض التَّعاليم المؤسِّسة للولاية من بعده، وشيّد صرح "نظام الإمامة".
وقبل البحث في هذين الرَّأيين الأساسيَّين، وهما رأيان متقابلان في باب النِّظام السِّياسي للإسلام، نرى من الضَّروري التطرُّق إلى مسألة مهمَّة، وهي أنَّ اهتمام أهل السُّنَّة بمسألة الإمامة لا يرقى إلى اهتمام الشِّيعة بها. فمسألة الخلافة، وشروط الخليفة، وكيفيَّة نصبه، لدى أهل السُّنّة، تعدُّ مبحثاً فقهياً غير مرتبط بعلم الكلام والعقائد. ومن هنا، فإنّه لم يحظ بأهميَّة تذكر. أمّا تناول هذه المسألة، بشكل واسع في كتب أهل السُّنَّة الكلاميَّة، فيُعزى إلى حالات انفعال تمثِّل ردَّات فعل حيال التأكيد الخاصّ والمتزايد للشِّيعة على هذا الأمر. وعلى أثر اهتمام الشِّيعة الخاصّ بمسألة الإمامة وطرحها، في جملة الأبحاث الأصليَّة والعقديَّة، اضطرّ أهل السنَّة إلى طرح هذه المسألة بوصفها بحثاً فرعياً وفقهياً في علم الكلام والعقائد. على سبيل المثال: قال الغزالي في شأن مسألة الإمامة: "النَّظر في الإمامة ليس من المهمَّات، وليس أيضاً من فنّ المعقولات، بل من الفقهيَّات"1.
إنّ مسألة الإمامة، لدى الشِّيعة، ليست مسألة فرعيَّة، وفقهيَّة، ومقتصرة على كيفيَّة إدارة شؤون المجتمع والولاية السِّياسيَّة، بل هي مسألة كلاميَّة ممتزجة بالإيمان. ولذلك، فإنّ عدم الإيمان بإمامة الأئمّة المعصومين عليهم السلام يُعدُّ بمنزلة رفض جزء من الدِّين وإنكاره، وتجاهل بعض النُّصوص والتعاليم الدِّينيَّة، وبالنتيجة يعدُّ نقصاً في الإيمان. والولاية السِّياسيَّة وجه من وجوه الإمامة لدى الشِّيعة على أساس منزلتها الرفيعة، والرُّكن الأساس والمحوريّ للتشيُّع إنّما يتوقَّف على قبول هذا الاعتقاد.
من هنا، عرّف الشهرستانيّ، وهو من علماء أهل السنَّة، الشِّيعة قائلاً: "الشِّيعة هم الّذين شايعوا عليّاً على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّة، إمّا جلياً وإمّا خفياً، واعتقدوا أنّ إمامته لا تخرج عن ولده... "2.
1- الاقتصاد في الاعتقاد، أبو حامد الغزالي: 95.
2- الملل والنِّحل للشهرستاني 1: 131.
110
97
الدرس الحادي عشر: الولاية السِّياسيَّة بعد النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
أهل السنَّة ونظريَّة الخلافة
لو غضضنا الطرف عن بعض الاتّجاهات السِّياسيَّة الّتي ظهرت، خلال القرن العشرين، بين عدد من الباحثين المعاصرين والمجدّدين المسلمين العرب، لرأينا أنَّ الفكر السِّياسيّ لأهل السنَّة في صورته التاريخيَّة، يقوم على أساس قبول نظريَّة الخلافة. فمنذ زمن الماورديّ1، أول عالم سنِّيّ ألّف كتاباً مستقلاًّ في الفقه السِّياسيّ الإسلاميّ، حتّى الوقت الحاضر، نجد جميع المؤلَّفات السنِّيَّة الّتي بحثت في الفكر السِّياسي، تركِّز على محور نظريَّة الخلافة.
الفقه السِّياسيّ والفلسفة السِّياسيَّة، عند أهل السنَّة، يعتمدان على عمل صحابة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من اعتمادهما على النُّصوص الدِّينيَّة. وهم يعتقدون بعدم وجود النُّصوص الصَّريحة، في القرآن والسنّة، في باب كيفيَّة نصب الخليفة، والشُّروط الّتي ينبغي توافرها فيه، ويرون أن هذا الأمر قد فُوّض لاجتهاد الأُمّة، وأنَّ ما حصل، عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في شأن السِّياسة، وإدارة شؤون المجتمع، وكيفيَّة انتخاب الحاكم والخليفة ومدى صلاحياته، معلّل وموجّه وحجَّة، لأنّ هذه الأُمور منبثقة من رأي صحابة رسول الله واجتهادهم، وأنّ اجتهاد هؤلاء معتبر وحجّة.
طبيعيٌّ أنّ استناد النظام السِّياسيّ، عند أهل السنَّة، على الحوادث الّتي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بدلاً من التَّعامل مع النُّصوص الدِّينيَّة، أثقل كاهل علمائهم بطرح نظريَّة للفكر السِّياسيّ تكون متكاملة ومنسجمة، لأنّ الحوادث السِّياسيَّة لذلك العصر لم تكن على وتيرة واحدة، وقد أدّى تنوُّع الحوادث هذا إلى تشتُّت الآراء. على سبيل المثال: يمكن الإشارة إلى مسألة كيفيَّة تعيين الخليفة، ومبدأ شرعيَّة ولايته السِّياسيَّة.
فقد جرت خلافة الخليفة الأوّل أبي بكر الصِّدّيق على أثر بيعة طائفة من المهاجرين والأنصار في السقيفة رغم مخالفة كبار الصحابة لتلك البيعة، ومنهم: أبو ذرّ، وسلمان،
1- عليّ بن محمد بن حبيب، أبو الحسن الماوردي (364 ـ 450هـ) من كبار فقهاء الشافعية، صاحب كتاب الأحكام السلطانية في الفقه السِّياسي، وله مؤلَّفات أخرى مثل: الحاوي، وتفسير القرآن الكريم.
111
98
الدرس الحادي عشر: الولاية السِّياسيَّة بعد النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
والمقداد، والزبير، وفي مقدِّمتهم جميعاً الإمام عليّ عليه السلام.
بينما تولاّها الخليفة الثَّاني عمر بن الخطّاب، من طريق عهد أبي بكر له، ونصبه إيّاه للخلافة. في حين تولَّى الخليفة الثالث، عثمان بن عفّان، الخلافة من طريق الشُّورى المكوَّنة من ستة أشخاص والّتي شكّلها عمر، بينما تزعَّم عليّ عليه السلام أُمور المسلمين باتّفاق المهاجرين والأنصار وببيعةِ عامَّة المسلمين. وكما يُلاحظ، فإنّ خلافة هؤلاء الخلفاء لم تحصل وفاق أُسلوب واحدٍ معيّن، وطريقة مشتركة خاصّة.
ثم واجهت شرعيَّة الولاية السِّياسيَّة، عقب الخلفاء الأربعة، مشكلات جدِّيَّة خطيرة، لأنّ معاوية والعديد من خلفاء بني أُميّة وبني العبّاس رسّخوا دعائم سلطتهم بالقوَّة العسكريَّة والقهر والغلبة، ولم يلوا الخلافة من طريق بيعة المسلمين أو تعيين شورى الحلِّ والعقد.
ونظريَّات علماء أهل السُّنة ومفكِّريهم، في باب الخلافة وتعيين الخليفة، متأثّرة تماماً بالأحداث الّتي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد سعوا إلى طرح نظريَّتهم في النِّظام السِّياسيّ بالشكل الّذي ينسجم مع تلك الأحداث جميعها.
على سبيل المثال: يتحدَّث الماورديّ، في باب كيفيَّة نصب الخليفة ومشروعيَّة خلافته، فيسعى إلى الجمع بين جميع طرق انتخاب الخليفة فيقول: والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما: باختيار أهل الحلّ والعقد. والثَّاني: بعهد الإمام من قبل.
وهناك خلاف، في الطريق الثاني، هو: هل تنعقد الإمامة من دون إجماع أهل الحلِّ والعقد؟
الصحيح هو انعقاد خلافة الإمام بعهد من سبقه، ولا يلزم رضى أهل الحلِّ والعقد، لأنّ خلافة عمر لم تكن برضى الصَّحابة، والأمر الآخر هو أنّ الخليفة السابق أولى بتعيين الخليفة اللاحق، واختياره أكثر نفاذاً من اختيار الآخرين (أهل الحلِّ والعقد)1.
والقضيَّة الأُخرى المهمَّة، في باب نظريَّة الخلافة، لدى أهل السنَّة، هي: هل خلافة
1- الأحكام السلطانية، أبو الحسن الماوردي: 6 و10.
112
99
الدرس الحادي عشر: الولاية السِّياسيَّة بعد النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
المسلمين تدلّ على منزلة خاصّة أخلاقيَّة ومعنويَّة لصاحبها؟
ففي صدر الإسلام، كانت مفردة الخليفة تستعمل بمعناها اللُّغويّ، ولم تترتَّب عليها منزلة معنويَّة خاصّة. فالخلافة في اللُّغة مصدر بمعنى مجيء شخصٍ خلفاً لشخصٍ آخر، فينوب عنه، والخليفة من يُستخلف من غيره. وبناءً على ذلك، فخليفة رسول الله هو من يتزَّعم المسلمين بعده، والخليفة بعد الخليفة الأوّل هو من ينهض بهذه الزعامة على أثر استخلاف خليفة رسول الله، يعني خليفة خليفة رسول الله. ويفهم من كلمات الخلفاء أنّ اسم الخليفة، في بداية استعماله، كان فاقداً للمعنى المعنويّ الخاصّ، ولم يكن يفيد منزلة معيّنة كالتمتُّع بالخصائص المعنويَّة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وكمالاته الذاتيَّة. ولكن، مع مرور الزمان، أصبح تقديس هذا المنصب وتكريمه أساساً لتثبيت الحكومات، وخليفة رسول الله كان يعني أنَّه يرقى إلى منزلة الاستفادة من الشؤون المعنويَّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
وأخيراً، فإنَّ تاريخ الخلافة الإسلاميَّة شهد وصول بعض الأفراد للخلافة، وقد حكم هؤلاء، بوصفهم خلفاء رسول الله، لكنَّهم لم يكونوا، من حيث السيرة والصِّفات الأخلاقيَّة والمعنويَّة، على العكس من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحسب، بل ابتعدوا غاية البعد عن سلوك المسلم العاديّ. وهذه المسألة تكفي، بحدّ ذاتها، لطرح هذا السؤال: ما الفارق بين نظام الخلافة الّذي اعتمده علماء أهل السنَّة ونظام السَّلطنة الملكيّ؟ والأمر الّذي يضاعف هذا الغموض والإبهام هو أنّ بعض المدافعين عن نظام الخلافة لم يذكروا أيّة شروط معيّنة للتصدّي للخلافة، بل يفهم من بعض كلماتهم أنّ العدالة والتقوى لم تكونا شرطين ينبغي أن يتوافرا في خليفة المسلمين المفروض أن يطاع.
على سبيل المثال، يمكن الاستشهاد بكلام أبي بكر الباقلاَّنيّ (ت403هـ) الّذي نقل عن جمهور أهل الحديث أنّ ظهور الفسق، وانتهاك النُّفوس المحترمة، وتعطيل الحدود، وغصب الأموال من قبل الحاكم والإمام لا يوجب عزله والخروج عن طاعته. وقد استدلّ هؤلاء، في توجيه نظريَّتهم، ببعض الرِّوايات عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والصَّحابة، كقوله: "اسمعوا
113
100
الدرس الحادي عشر: الولاية السِّياسيَّة بعد النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
وأطيعوا ولو لعبد أجدع ولو لعبد حبشي، وصلّوا وراء كلّ برٍّ وفاجر"، "أطعهم ولو أكلوا مالك وضربوا ظهرك"1.
لا يخفى أنّ بعض علماء السَّلف، من أهل السنَّة، مثل أحمد بن حنبل، يعتقد بكراهة إطلاق اسم الخليفة على الحاكم بعد الحسن بن علي عليه السلام. فهذه الطائفة من العلماء فرَّقت بين الخلافة والسلطنة (الملوكيَّة)، ودليلها على ذلك الرِّواية الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، والّتي نقلها أبو داود والتَّرمذيّ، وهي: قال: "الخلافة في أُمَّتي ثلاثون سنة ثمّ ملك بعد ذلك"2، ورغم هذا كلّه، فقد كانت السيرة العملِيَّة لأغلب علماء أهل السنة تتمثَّل في طاعة الخلفاء وعدم مخالفتهم العلنيَّة، وإن جانب أكثر هؤلاء الخلفاء العدالة والتقوى، أو كان حظّهم منها قليلاً.
1- التمهيد في الردّ على الملحدة، أبو بكر الباقلاَّني: 235.
2- مآثر الإنافة في معالم الخلافة، أحمد بن عبد الله القلقشندي: 9.
114
101
الدرس الحادي عشر: الولاية السِّياسيَّة بعد النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
الخلاصة
1ـ مسألة الإمامة، في الكلام الإسلاميّ، هي ردّ على السؤال الآتي: هل تحدَّثت التعاليم الإسلاميَّة في شأن الولاية السِّياسيَّة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لا؟
2ـ يعتقد أهل السنَّة بأنّ تعيين الزَّعامة السِّياسيَّة تُرك للأُمّة، وقد اختار مسلمو صدر الإسلام باجتهادهم "نظام الخلافة".
3ـ يؤمن الشِّيعة بـ "نظام الإمامة"، ويرون أنّ النصوص الدِّينيَّة شخَّصت مسألة الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
4ـ الإمامة مسألة فرعيَّة لدى أهل السنَّة، وأساس وعقديَّة لدى الشِّيعة.
5ـ المحور الرئيس للفكر السِّياسيّ لأهل السنَّة، بما في ذلك نظريَّة الخلافة عندهم يستند إلى عمل الصَّحابة.
6ـ تفتقر النَّظريَّة السِّياسيَّة، عند أهل السنَّة، للانسجام والوحدة النظريَّة، بسبب تنوُّع طرق انتخاب خلفاء صدر الإسلام وتعيينهم.
7ـ كانت مفردة الخليفة ـ في بداية استخدامها ـ تفتقر للشأن المعنويّ، إلّا أنّهم عرّفوها مع مرور الزمان بمعنى النيابة عن مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنزلته الدنيويَّة والمعنويَّة.
8ـ يتميَّز نظام الخلافة ـ الّذي يحظى بتأييد أهل السنّة ـ عن نظام السَّلطنة، ويواجه إشكاليَّات في كثير من موارده.
115
102
الدرس الحادي عشر: الولاية السِّياسيَّة بعد النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
الأسئلة
1ـ ما هو النِّزاع الأساس في مسألة الإمامة؟
2ـ ما المراد بنظام الخلافة؟
3ـ ما هي منزلة مسألة الإمامة لدى الفريقين: السنَّة والشِّيعة؟
4ـ ما هي أسس أهل السنَّة في تبيين الفكر السِّياسي ونظريَّة الخلافة؟
5ـ لماذا واجه أهل السنَّة صعوبة في بيان مشروعيَّة الولاية السِّياسيَّة في نظريَّة الخلافة؟
6ـ ما هي المسيرة الّتي طواها استعمال مفردة الخليفة والخلافة لدى أهل السنَّة؟
7ـ ما الّذي أدَّى إلى الإبهام في تعيين حدود نظام الخلافة والنظام الملكيّ؟
116
103
الدرس الثاني عشر: الفكر السياسي الشيعي
الدرس الثاني عشر: الفكر السياسي الشيعي
يعتقد الشِّيعة بنظريَّة الإمامة في باب الولاية السِّياسيَّة عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ولا يقتصر اعتقادهم، في شأن الأئمّة المعصومين عليهم السلام ومنزلتهم، على ولايتهم السِّياسيَّة على الأُمّة فحسب، بل يتعدَّى ذلك إلى الاعتقاد بأنّهم وارثون لكلّ شؤون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سوى تلقِّي الوحي التَّشريعيّ. وهذا الاعتقاد سائد لديهم. وبناءً على ذلك، فالأئمّة عليهم السلام يتمتَّعون بالولاية المعنويَّة والهداية الدِّينيَّة وتبيين الحقائق الدِّينيَّة بالإضافة إلى ولايتهم السِّياسيَّة. فهؤلاء ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه وأوصياؤه بالحقّ، ويترتَّب على وراثة شؤونه المعنويَّة والعلميَّة والسياسيَّة أنّهم أفضل النَّاس بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وأولاهم بالتصدّي للإمامة والخلافة.
ومن هنا، أشار بعض علماء أهل السنَّة إلى هذه المسألة في تعريفهم للشِّيعة. على سبيل المثال: قال ابن حزم في تعريفه لهم: "ومن وافق الشِّيعة في أنّ عليّاً أفضل النَّاس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأحقّهم بالإمامة وولده من بعده، فهو شيعيّ وإن خالفهم في ما عدا ذلك ممَّا اختلف فيه المسلمون، فإنْ خالفهم في ما ذكرنا فليس شيعيَّاً"1.
وتختلف النَّظريَّة السِّياسيَّة للشِّيعة مع نظريَّة الخلافة عند أهل السنَّة في أمرين:
الأوَّل: إنّ الشِّيعة يرون أنَّ النُّصوص الدِّينيَّة تحدَّثت في شأن الحكومة والولاية
1- الفصل في الملل والأهواء والنِّحل 2: 113.
117
104
الدرس الثاني عشر: الفكر السياسي الشيعي
السِّياسيَّة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويعتقدون بوجود النُّصوص المتواترة الكثيرة الّتي تدلّ على تعيين الخليفة من بعده. ولذلك، فهم يؤمنـون بأنّ شرعيَّة ولاية الأئمّة المعصـومين عليهم السلام السِّياسيَّة تستند إلى أمـر الله ونصبه. فولاية أهل البيت عليهم السلام، أي إمامتهم، منصب ربَّانيّ، على غرار ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأُمّة، الّتي هي مبدأ إلهيّ، لا يستند، في مشروعيَّته، إلى آراء الأُمّة وبيعتها.
الثاني: إنّ الشِّيعة يرون الإمام خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمعنى الواقعيّ لهذه الكلمة، أي خلافته في الجوانب المعنويَّة والعلميَّة والسياسيَّة جميعها، على خلاف نظرة أهل السنَّة الّذين يكتفون بمعناها اللُّغويّ.
من الطَّبيعيّ أن يوجد بعضٌ من علماء أهل السنَّة الّذين تأثَّروا بعقيدة الشِّيعة في شأن أئمّتهم، فمالوا إلى النَّظرة القائلة: إنَّ الخلفاء الأربعة، بالتَّرتيب، هم أفضل النَّاس بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . إلّا أنّ هذا الاعتقاد لم يكن سائداً قطُّ لدى مسلمي صدر الإسلام، حتى بالنِّسبة للخليفتين الأوّل والثاني لم يكن يُعتقد فيهما ذلك. وقد اشتدَّت هذه النَّزعة، لدى أهل السنَّة، على يد الخلفاء الأُمويين والعباسيين، بسبب أغراضهم السِّياسيَّة، ولا سيّما مناهضة التشيُّع، فبذلوا قصارى جهدهم لترويج عقيدة تفيد بأنَّ أُولئك الخلفاء يتحلّون ببعض صفات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم1.
وهناك العديد من الرِّوايات المعتبرة الّتي تفيد بأنَّ الأئمّة يتمتَّعون بمنزلة اجتماعيَّة وإيمان خاصّ. فالإمامة ليست فرعاً من فروع الإسلام، ولا جزءاً كسائر أجزائه فحسب، بل بها قوام أغلب أحكام الإسلام وفروعه، وهي أصل ثبات الإسلام والمسلمين. ونشير، في ما يأتي، إلى تلك الرِّوايات:
فقد أورد المرحوم الكلينيّ رواية، بسنده، عن زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "بُني الإسلام على خمسة أشياء: على الصَّلاة والزكاة والحجِّ والصَّوم والولاية.
1- الإسلام السِّياسي، محمد سعيد العشماوي: 93 و94.
118
105
الدرس الثاني عشر: الفكر السياسي الشيعي
قال زرارة: فقلت: وأيّ شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنّها مفتاحهنّ والوالي هو الدليل عليهنّ...
"ثم قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطَّاعة للإمام بعد معرفته. إنّ الله عزّ وجلّ يقول:﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾1".
الإمام الرِّضا عليه السلام في حديث شريف له، وصف الإمامة فقال: "إنّ الإمامة زمام الدِّين، ونظام المسلمين، وصلاح الدُّنيا، وعزّ المؤمنين. إنّ الإمامة أُسّ الإسلام النَّامي، وفرعه السَّامي. بالإمام تمام الصَّلاة والزَّكاة والصِّيام والحجِّ والجهاد، وتوفير الفيء والصَّدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثُّغور والأطراف. الإمام يحلّ حلال الله ويحرّم حرام الله ويقيم حدود الله ويذبّ عن دين الله"2.
وقال عليّ عليه السلام: "فرض الله الإيمان تطهيراً من الشُّرك... والإمامة نظاماً للأُمّة، والطَّاعة تعظيماً للإمامة"3.
والجدير بالذِّكر هو أنّ الفكر السِّياسيّ الشِّيعيّ يمكن بحثه خلال مرحلتين زمنيَّتين:
1ـ مدَّة حضور الإمام المعصوم عليه السلام.
2ـ زمان غيبة إمام العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وآراء علماء الشِّيعة، في باب الولاية السِّياسيَّة، في عصر حضور الإمام المعصوم عليه السلام، متّفقة وصريحة وواضحة. فالشِّيعة تعتقد بنظريَّة الإمامة، وولاية الأُمّة هي أحد شؤون إمامة الإمام المعصوم عليه السلام، وجميع الحكومات الّتي تشكَّلت متجاهلة هذا الحقّ الإلهيّ هي حكومات غاصبة وجائرة. وعلى هذا الأساس، لا يختلف علماء الشِّيعة في هذا الأمر، ذلك لأنّ قوام التشيُّع وهويَّته قد
1- أصول الكافي 2: 18 ـ 19 ح 5، باب دعائم الإسلام. والآية من سورة النساء: 80.
2- أُصول الكافي: 1: 200 ح 1، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته.
3- نهج البلاغة: الحكمة 252.
119
106
الدرس الثاني عشر: الفكر السياسي الشيعي
انعقدا على هذا الاعتقاد. أمّا الّذي تجدر دراسته، فهو الفكر السِّياسيّ للشِّيعة في عصر الغيبة.
الفكر السِّياسيّ الشِّيعيّ في عصر الغيبة
إنّ الفكر السِّياسيّ الشِّيعيّ، في عصر الغيبة، لا يعادل، من حيث الوضوح واتّفاق الرأي، نظيره في عصر حضور الإمام المعصوم عليه السلام، كما أنه لم يكن في مستواه. بدهي القول: ليس من عالم شيعيّ يشكِّك في الولاية السِّياسيَّة للمعصومين وإمامتهم، لأنّ هذا التَّشكيك بمنزلة الخروج من التشيُّع. وإمامة المعصومين عليهم السلام ليست مجرّد اتّفاق في الرَّأي، بل هي جوهر التشيُّع. والسؤال الّذي يطرح نفسه هو: هل هناك مثل هذا التوافق في وجهات النظر في شأن كيفيَّة الولاية السِّياسيَّة في عصر غيبة الإمام المعصوم؟
الواقع ليس هناك مثل هذا الاتّفاق من جميع الجهات، أي لا يمكن نسبة قول معيّن وثابت إلى جميع علماء الشِّيعة، وذلك لوجود بعض الاختلافات بينهم في بعض جوانب هذا البحث. وسيرد، في الأبحاث القادمة، أنّ علماء الشِّيعة يؤمنون، في زمان غيبة إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، بولاية الفقيه العادل، ويرون أنّ الفقيه العادل، النائب العام للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، لكنهم يختلفون في دائرة ولايته وصلاحيَّاته، ويتعذَّر أن ننسب إليهم نظريَّة محدَّدة في باب دائرة ولاية الفقيه.
وسيرد بالتَّفصيل، في بحث المسار التاريخي لولاية الفقيه، أنّ علماء الشِّيعة يجمعون على أصل ولاية الفقيه ونيابة الفقيه العادل للإمام المعصوم عجل الله تعالى فرجه الشريف في الجملة، وفي بعض شؤونه عجل الله تعالى فرجه الشريف. ومحلُّ النِّزاع يتمثَّل في حدود دائرة هذه الولاية. فبعض كبار فقهاء الشِّيعة يرون أنّ هذه الولاية والنِّيابة عامَّة وشاملة لجميع الشؤون القابلة لنيابة الإمام المعصوم عجل الله تعالى فرجه الشريف. وبناءً على ذلك، فهم يعتقدون بولاية الفقيه العامَّة، بينما يرى بعض آخر من الفقهاء أنّها محدودة بشؤون معيّنة.
فالولاية السِّياسيَّة للفقيه، في إدارة الشؤون الاجتماعيَّة والسياسيَّة للمجتمع
120
107
الدرس الثاني عشر: الفكر السياسي الشيعي
الإسلاميّ، منوطة بإثبات الولاية العامَّة للفقيه، لأنّ أحد شؤون الإمام المعصوم ولايته السِّياسيَّة، وهذا الشأن قابل للنِّيابة على خلاف الأمور الرفيعة المعنويَّة، والعلم الإلهيّ، ومقام العصمة الّتي تعدُّ من الشؤون الّتي تأبى النِّيابة.
وسنتحدَّث، في الفصل الثالث، بالتفصيل عن ولاية الفقيه وأدلّتها، ومسألة نصب الفقيه العادل في منصب الولاية، ودائرة ولايته، ومدى صلاحيّاته. لكن لا بدَّ من الاعتراف بأنّ المباحث ذات الصلة بالفقه السِّياسيّ ـ فقه الحكومة ـ لم تحظ لدى فقهاء الشِّيعة بتلك الأهميَّة الّتي أولوها للأبحاث المتعلِّقة بأبواب العبادات وبعض أبواب المعاملات. وأغلب فقهاء الشِّيعة إمّا أنّهم لم يطرحوا أساساً هذه الفروع الفقهيَّة ولم يتناولوها، من ثمَّ، بالبحث والتحليل، أو أنّهم مرّوا بها مرور الكرام من دون التعمُّق فيها على غرار ما فعلوه في المسائل محلّ الابتلاء في العبادات والمعاملات. وهذا ما أدَّى إلى ضعف المباحث السِّياسيَّة وفقه الحكومة مقارنة بسائر الأبواب الفقهيَّة. ومن المفروغ منه أنّ فقهاء الشِّيعة الأجلاَّء لو تناولوا فقه الحكومة على غرار ما فعلوه في شأن العبادات والمعاملات، لشهدنا اليوم مدى غنى الفكر السِّياسيّ الشِّيعيّ. والواقع أنَّ الضُّغوط الّتي مورست ضد الشِّيعة، وما تبعها من أساليب على عهد بني أُميّة وبني العبّاس، جعلهم يعيشون وضعاً يمكن وصفه بما يأتي:
أوَّلاً: إن سنحت لهم الفرصة في الوصول إلى الأئمّة عليهم السلام، كان عليهم، بسبب غلبة جوِّ التقيَّة، أن يتجنَّبوا البحث في المسائل السِّياسيَّة الحسَّاسة الّتي تعني النفي الصريح لشرعيَّة تلك الحكومات، وتبيين القواعد الصحيحة للحكومة، ولم تكن الأجواء مساعدة لإجراء هذه الأبحاث ونشرها.
ثانياً: إنّ هذه الأقليَّة المحرومة الّتي كانت تعاني الأمرّين، كانت ترى نفسها في وضع يتعذَّر معه عملياً تشكيل الحكومة الدِّينيَّة، وبالنتيجة بذل الشِّيعة جهودهم للحفاظ على أنفسهم، وللقيام بالمقاومة السلبيَّة تجاه الحكومات الغاصبة آنذاك، وتالياً، قلّما كانوا يسألون عن خصائص الحكومة والنظام السِّياسي
121
108
الدرس الثاني عشر: الفكر السياسي الشيعي
المطلوب. وبناءً على ذلك، لم تكن الرِّوايات المرتبطة بالفقه السِّياسيّ في غنى الرِّوايات المرتبطة بالأحكام العباديَّة وسائر الأبواب مورد الابتلاء ووفرتها.
وبالنَّظر إلى استمراريَّة تلك الأوضاع، خلال القرون الّتي أعقبت بداية عصر غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وبقاء الظروف الاجتماعيَّة والسياسيَّة الشاقّة وغير المواتية للشِّيعة، فإنّ علماء هذا المذهب لم يبدوا اهتماماً كبيراً بطرح الأبحاث ذات الصِّلة بالفقه السِّياسيّ والتوسُّع في فروعها كما ينبغي.
122
109
الدرس الثاني عشر: الفكر السياسي الشيعي
الخلاصة
1ـ تعتقد الشِّيعة بأنّ للأئمة عليهم السلام منزلة أعمق بكثير من مجرّد ولايتهم السِّياسيَّة.
2ـ هذه المنزلة الخاصّة الّتي توجب الاعتقاد بأفضليتهم، عُدَّت المقوّم والمعرّف للشِّيعة، وأساس اختلافهم عن أهل السنَّة في الإمامة.
3ـ للإمامة، في مدرسة أهل البيت وروايات المعصومين، شأن ومنزلة اجتماعيَّة ودينيَّة خاصّة، ولا تقتصر على الولاية السِّياسيَّة.
4ـ الفكر السِّياسيّ الشِّيعيّ، في عصر الغيبة، ليس له وضوح الفكر السِّياسي لعصر حضور الإمام.
5ـ يصنَّف الفكر السِّياسيّ الشِّيعيّ في مرحلتين:
أ ) مرحلة حضور الإمام المعصوم عليه السلام.
ب) عصر الغيبة.
6ـ هناك اتفاق بين علماء الشِّيعة على أصل الولاية للفقيه العادل في عصر الغيبة، لكنهم يختلفون في دائرة هذه الولاية وشمولها.
7ـ الأسباب السِّياسيَّة والضغوط الّتي مارستها حكومات الجور هي العلّة الأساس لقلَّة الاهتمام بأبحاث الفكر السِّياسيّ وفقه الحكومة لدى علماء الشِّيعة وفقهائهم.
123
110
الدرس الثاني عشر: الفكر السياسي الشيعي
الأسئلة
1ـ بيِّن الوجهين الأساسَين لافتراق نظريَّة الإمامة لدى الشِّيعة عن نظريَّة الخلافة لدى أهل السنَّة.
2ـ ما المنزلة الاجتماعيَّة والإيمانيَّة الّتي ذكرتها روايات أهل البيت للإمامة؟
3ـ ما الفارق بين الفكر السِّياسيّ الشِّيعيّ في عصر حضور الإمام وبين نظيره في عصر غيبة الإمام المعصوم عجل الله تعالى فرجه الشريف؟
4ـ ما هي نقاط الاشتراك والاختلاف لدى علماء الشِّيعة في أبحاث ولاية الفقيه في عصر الغيبة؟
5ـ ما العلّة في قلة أبحاث فقه الحكومة لدى فقهاء الشِّيعة مقارنة بمباحث العبادات؟
124
111
الدرس الثالث عشر: دور البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
الدرس الثالث عشر: دور البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
أشرنا، في ما سبق، في تبيين المذهب السِّياسيّ لأهل السنَّة، إلى مسألة مفادها أنّهم يرون أنَّ المتون الدِّينيَّة لم تتحدَّث في شأن الولاية السِّياسيَّة بعد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، ويعتقدون بأنّ الزَّعامة السِّياسيَّة فُوّضت للأُمّة ومجلس الخبراء (أهل الحلِّ والعقد)، وأنّ بيعة المسلمين هي الّتي تنصب الحاكم الإسلاميّ. الواقع أنَّ هذا الادّعاء لا ينسجم مع اعتقاد الشِّيعة، والأدلَّة المتعدِّدة والمعتبرة للإمامة الّتي بُحثت بالتفصيل في الكتب الكلاميَّة تفنِّد هذا الادّعاء. فإمامة الأئمّة المعصومين عليهم السلام تنصيبيَّة، ولا توجب بيعة الأُمّة وقبولها سوى بسط يد الإمام من دون أن يكون لهذه البيعة أيّ دور في أصل إمامته. والسُّؤال المطروح هنا، هو: هل يمكن قبول هذا الادّعاء في زمن غيبة إمام العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، واعتبار الولاية السِّياسيَّة على الشِّيعة، في زمن الغيبة، منوطة بهم، والنَّظر إلى البيعة والشُّورى بوصفهما الوسيلتين المعتمدتين في تعيين الزعامة السِّياسيَّة؟ يفترض قبول هذه الرؤية عدم وجود النِّيابة العامَّة عن الإمام المعصوم عجل الله تعالى فرجه الشريف، وعدم ورود الرِّوايات الّتي تنصّ على ولاية الفقيه العادل.
يتناول البحث، في هذا الدَّرس والدَّرس الّذي يليه، دراسة مسألتين هما:
الأُولى: هل في رواياتنا شاهد على هذا الادّعاء؟ وهل يمكن اعتبار البيعة والشُّورى
125
112
الدرس الثالث عشر: دور البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
الوسيلتين المعتمدتين في تشكيل الحياة السِّياسيَّة في عصر الغيبة؟
والثانية: ما هو الدَّور الّذي يمكن أنّ تؤدِّيه البيعة والشورىفي الفكر السِّياسيّ للإسلام؟
لقد وردت عدَّة أخبار عن الإمام عليّ عليه السلام أفاد بعضها بتفويض الزَّعامة السِّياسيَّة للأُمّة، وذلك عندما تشير إلى أنّ شورى المسلمين إذا نصّبت شخصاً، وبايعتة الأُمّة، فإنَّه يصبح وليّاً للمسلمين. ولا بدَّ من بيان أنواع البيعة وتوضيحها باختصار قبل مناقشة بعض رواياتها.
البيعة وأنواعها
البيعة نوع من المعاهدة والعقد كانت سائدةً، بين القبائل العربيَّة، قبل الإسلام. ما يعني أنَّها ليست من المفاهيم الّتي وضعها الإسلام، إلّا أنّ سيرة الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم منحتها الشَّرعيَّة من خلال بيعة المسلمين له في موارد كثيرة.
والبيعة والبيع مصدران للفعل "باع". ومن هنا، فإنّ معنى البيعة، له صلة وطيدة بمعنى البيع، وهو نوع من العقد في المجال التجاريّ. فالبيع عقد ثمرته تبادل المال بين المشتري والبائع، أمّا البيعة فهي معاهدة تتمُّ بين رئيس قوم أو مجتمع وأفراد ذلك المجتمع، حيث يضع المبايعون إمكاناتهم وأموالهم تحت تصرّفه، ويقدِّمون له طاعتهم بموجب هذه المعاهدة.
وكما ينبغي في عقد البيع أن يُحرز، في البداية، رضى طرفي المعاملة بما يتضمنَّه في شأن القيمة وسائر الشُّروط، ثمّ يقرُّ بعد ذلك مضمون المعاملة ـ غالباً ما يكون هذا الإقرار قولياً ولفظياً، وتارة يكون عمليّاً وهو ما يصطلح عليه بالمعاطاة ـ كذلك في البيعة هناك في البداية، حوار وتراض في باب الشروط، ثمّ يضع كلٌّ يده في يد الآخر، ويقرُّون ما ارتضوه واتفقوا عليه، وفي هذه الحالة يحصل عقد البيعة، ويمكن أن يكون مضمون هذا العقد والتعاهد متنوِّعاً ومختلفاً.
ومن هنا، كانت هناك أنواع من البيعة، والقسم الرَّائج والغالب منها هو ما يقع
126
113
الدرس الثالث عشر: دور البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
حين القبول وإقرار الولاية السِّياسيَّة. فالمعروف بين العرب أنّ إقرار الولاية السِّياسيَّة لفرد ما وقبولها يقترنان ببيعته. فبيعة أبي بكر في السقيفة، وبيعة عليّ عليه السلام بعد مقتل عثمان، وبيعة عبد الرحمن بن عوف لعثمان في الشُّورى الّتي عيَّنها عمر لتعيين الخليفة، كلّها من موارد البيعة بالخلافة والزَّعامة السِّياسيَّة. أمّا البيعة فلا تنحصر في هذا القسم، لأنّ المقصود من البيعة أحياناً تعهُّد المبايعين على الجهاد والصمود والمقاومة إزاء الأعداء، كالذي حدث في بيعة الرضوان سنة (6 هـ) في الحديبيَّة، وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ﴾1، فقد كانت مرَّت عدَّة سنين آنذاك، على زعامة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الدِّينيَّة والسَّياسيَّة للمسلمين، ولم تكن تلك البيعة لمنحه الولاية السِّياسيَّة.
قال جابر ـ الّذي شهد تلك البيعة ـ: "بايعنا رسول الله (يوم الحديبيَّة) على أن لا نفرّ"2، كما قد يكون الهدف من البيعة، في بعض الحالات، إعلان الحماية والتعهُّد في الدفاع عن شخص إزاء العدو وما يواجهه من تهديدات، على غرار ما حصل في بيعة العقبة سنة (13) من البعثة، بين وفد أهل يثرب والنبيّ3 صلى الله عليه وآله وسلم.
وتشترك جميع أنواع البيعة في مسألةٍ واحدة مشتركة تتمثَّل بالتزام المبايع بمضمون بيعته. فالبيعة عهد وعقد ملزمان، ولا تفرغ ذمَّة المبايع حتى يعمل بمفاد البيعة.
وفي ما يأتي، سنورد بعض الرِّوايات الّتي يفيد مضمونها إقرار الولاية السِّياسيَّة لمن تتمُّ له البيعة. وظاهر هذه الرِّوايات تقوية "نظريَّة الانتخاب"، وهي النَّظريَّة الّتي تتبنَّى حقّ تعيين الولاية السِّياسيَّة للمسلمين.
1- سورة الفتح: 18.
2- جامع البيان لابن جرير الطبري، 26: 11 ـ 13 ذيل الآية: 18 من سورة الفتح.
3- السيرة النبوية، ابن هشام، 2: 84 ـ 85 .
127
114
الدرس الثالث عشر: دور البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
الرِّوايات الدَّاعمة لنظريَّة الانتخاب
قال الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أنّ يختار ولا للغائب أنّ يرد، وإنّما الشُّورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل سمّوه إماماً كان ذلك لله رضى"1.
"ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى يحضرها عامَّة الناس، فما إلى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثمّ ليس للشاهد أنّ يرجع ولا للغائب أنّ يختار"2.
قال المرحوم الشيخ المفيد: لمّا تخلَّف عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقَّاص، ومحمد بن مسلمة، وحسَّان بن ثابت، وأُسامة بن زيد، عن بيعة عليّ عليه السلام خطب عليه السلام فقال: "أيّها النَّاس، إنّكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنّما الخيار إلى الناس قبل أن يبايعوا، فإذا بايعوا فلا خيار لهم، وإنّ على الإمام الاستقامة، وعلى الرَّعيَّة التَّسليم، وهذه البيعة عامّة، ومن رغب عنها رغب عن دين الإسلام، واتَّبع غير سبيل أهله..."3.
وقال عليّ عليه السلام لمن أراد مبايعته، بعد قتل عثمان، ليكون خليفة المسلمين: "إنّ البيعة لأصحاب بدر، فمن اجتمعوا عليه فهو خليفة المسلمين"4.
يفيد ظاهر هذه الرِّوايات أنّ زمام أمر انتخاب وليِّ المسلمين هو بيد المسلمين، ممَّن له أهليَّة الانتخاب منهم، أي ممَّن يُعدُّ من أهل الحلِّ والعقد والخبرة، فإذا بايع هؤلاء أحداً فهو إمام المسلمين، وتصبح طاعته واجبة، وليس للآخرين مخالفته والخروج على طاعته. ويستفاد من صريح الرِّواية الأخيرة، ومن ظاهر بعض الرِّوايات الأُخرى،
1- نهج البلاغة: الرسالة 6.
2- المصدر نفسه: الخطبة 173.
3- الإرشاد، 1: 243؛ نهج البلاغة: الرسالة 6.
4- أنساب الأشراف للبلاذري، 4: 559.
128
115
الدرس الثالث عشر: دور البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
أنّ آراء الأفراد، في تعيين الحاكم وولي المسلمين، ومن ثمَّ وجهات نظرهم وبيعة كلٍّ منهم، ليست في مستوى واحد من الاعتبار، بل إنّ أهليَّة الانتخاب تنحصر في تلك الطَّليعة من المؤمنين والمجاهدين والسَّابقين للجهاد والشَّهادة.
على كلّ حال، ما تثبته هذه الرِّوايات يتعارض بوضوح مع القول بنصب الإمام، لأنّها تشير إلى أنّ ولاية الأُمّة السِّياسيَّة انتخابيَّة، ومفوّضة إلى شورى أصحاب الحلِّ والعقد، ونخب الأُمّة1.
أجواء صدور هذه الرِّوايات
جميع كلمات الإمام عليّ عليه السلام، في شأن البيعة والشُّورى ـ سوى عدد قليل منها ــ قيلت في بيعة السقيفة، وفي الشُّورى الّتي نصبها عمر لتعيين الخليفة الثالث، وقد صدرت خلال مدة خلافته القصيرة، وبعد مبايعته من قبل الأُمّة، حيث يمكن تقسيم كلماته عليه السلام، في شأن البيعة والشُّورى، الّتي أوردها خلال مدّة خلافته، إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأُوَّل: روايات واردة في وصف بيعته وشرح الظروف الّتي دعته لقبولها، وما اشتملت عليه مقارنةً ببيعة الناس لمن سبقه من الخلفاء الثلاثة، من مزايا وخصائص. ونشير إلى بعض تلك الكلمات بوصفها الّذي ذكرنا:
"بايعني النَّاس غير مستكرهين ولا مجبرين، بل طائعين مخيَّرين"2.
"لم تكن بيعتكم إيّاي فلتة، وليس أمري وأمركم واحد. إنّي أُريدكم لله، وأنتم تريدونني لأنفسكم"3.
ثم قال لمن أصرّ على بيعته: "ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفيّاً ولا تكون إلّا
1- البحث، هنا، يتمّ بغض النظر عن مناقشة سند هذه الرِّوايات، وهو يتمُّ على فرض صحة صدورها. غير أنّ التمعُّن في أسانيدها ومصادرها يفيد في الأغلب ضعف سندها.
2- نهج البلاغة: الرسالة 1.
3- المصدر نفسه: الخطبة 136.
129
116
الدرس الثالث عشر: دور البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
عن رضا المسلمين"1، هذا القسم من الرِّوايات الّتي تصف كيفيَّة بيعته عليه السلام خارج عن مدار بحثنا.
القسم الثاني: كلماته عليه السلام الموجَّهة إلى المتخلِّفين عن بيعته، كعبد الله بن عمر وأُسامة بن زيد وسعد بن أبي وقاص، والناكثين كطلحة والزبير اللّذين بايعا بادئ الأمر ثمّ نكثا ببيعتهما. حيث يؤكّد عليه السلام في كلماته إلى هؤلاء مسألتين: الأُولى هي: إنّ البيعة على أساس الرضى والاختيار تلزم صاحبها بالطَّاعة، والثانية: إنّ بيعة الناس له كانت عامَّة، ومرضيَّة لدى الجميع وخالية من الإجبار. ومن هنا، يعدُّ نقضها وقوفاً بوجه المسلمين.
القسم الثَّالث: يُعدُّ هذا القسم أهمّ الأقسام الثلاثة، إذ إنَّه يتضمَّن كلماته عليه السلام الّتي قالها ليردّ دعاوى معاوية وأهل الشام. فقد شكّك هؤلاء في وجوب خلافته عليه السلام وصحَّتها، إذ رأوا أن تخلُّف بعض الأفراد، مثل: معاوية وعمرو بن العاص وسائر القرشيِّين الشَّاميِّين عن شورى تعيين الخليفة، إنّما يمثِّل مانعاً وعقبة أمام وجوب خلافته عليه السلام وصحَّتها. لذا، فأغلب كلماته عليه السلام الّتي يستشهد بها في "نظريَّة الانتخاب" ترتبط بهذا القسم.
وسنقوم، في الدرس القادم، بتحليل هذه الكلمات، ومناقشة إمكانيَّة الاستشهاد بها في إثبات نظريَّة انتخاب الولاية السِّياسيَّة.
1- تاريخ الطبري: 4: 427.
130
117
الدرس الثالث عشر: دور البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
الخلاصة
1ـ يتبنَّى بعض الباحثين الدِّفاع عن فكرة عدِّ البيعة والشُّورى الوسيلتين المعتمدتين في تعيين الولاية السِّياسيَّة على الأمّة، وذلك استناداً إلى بعض الرِّوايات. ما يعني أن الولاية السِّياسيَّة، في عصر الغيبة، قد أوكلت للأمّة، ولم تتخذ شكلاً تنصيبياً.
2ـ البيعة هي نوع من العقد الّذي كان سائداً قبل الإسلام، وأمضاه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
3ـ للبيعة أقسام مختلفة، ولا تقتصر على الولاية السِّياسيَّة.
4ـ هناك روايات وكلمات عن الإمام عليّ عليه السلام تؤيِّد عدَّ البيعة والشُّورى الوسيلتين المعتمدتين في تعيين الحاكم الإسلاميّ على الأمّة.
5ـ إنّ هذه الرِّوايات صدرت في أجواء سياسيَّة معيّنة في مقابل أُولئك الّذين شكَّكوا في وجوب بيعته عليه السلام أو تخلَّفوا عنها، أو نكثوا بها، كطلحة والزُّبير
131
118
الدرس الثالث عشر: دور البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
الأسئلة
1- ما هو دليل من قال باستناد الولاية السياسية في عصر الغيبة للانتخاب؟
2- ماذا تعني البيعة؟ وما هي أقسامها؟
3- هل كانت بيعة الرضوان من أجل منح النبي صلى الله عليه وآله وسلم الولاية السياسية؟
4- ما هي الأمور المستفادة من روايات الإمام علي عليه السلام في باب البيعة والشورى؟
5- كيف كان الجو الحاكم الذي صدرت فيه هذه الطائفة من الروايات؟
132
119
الدرس الرابع عشر: تأثير البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
الدرس الرابع عشر: تأثير البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
مرَّ بنا أنّ بعض المدافعين عن "نظريَّة الانتخاب"، في تعيين الولاية السِّياسيَّة، استشهدوا ببعض الكلمات الصادرة عن أمير المؤمنين عليه السلام، في خطب له، أو في روايات منسوبة إليه، وخلصوا إلى أنّ ما يُفهم من تلك الكلمات التأييد التَّامّ والعامّ لتفويض حقّ انتخاب الوليّ والحاكم الإسلامي للأُمّة، ما يعني أنَّ الولاية السِّياسيَّة في المجتمع الإسلاميّ انتخابيَّة، على الأقلّ في عصر الغيبة، وليست تنصيبيَّة، أي أنَّه لا يصحُّ الاعتقاد بنصب الفقيه العادل لزعامة الأُمّة، بل الأمر متروك لشورى المسلمين وبيعة الأُمّة.
ويبدو أنّ هذا الفهم الرِّوائيّ غير صائب، ذلك لأنّ هذه الرِّوايات صادرة في مقام الجدال بالتي هي أحسن، وجدال هذه الرِّوايات يحول دون التمسّك بها خارج دائرته1، فالمقدِّمات الّتي يستفاد منها، في دليل الجدال، لا يمكن التعامل معها على
1- جاء في الآية 125 من سورة النحل: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، حيث أراد الله تعالى من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى الحقّ وطريق السعادة من خلال الصناعات الثلاث: البرهان والخطابة والجدال (راجع: الميزان 12: 371-372 ذيل هذه الآية).
وصناعة الجدال هي أن يستدلّ المستدلّ لإثبات مدّعاه بقضايا مسلّم بها ومقبولة عند المخاطب، وبمقدِّمات مشهورة ومسلّم بها، فيلزمه بالتسليم لمدّعاه. وصحة هذه المقدمات إمّا أن تكون مورد شكَّ وتردُّد لدى المستدلّ أو مرفوضة تماماً، ولديه مقدِّمات أُخرى وأُسلوب آخر لإثبات مدّعاه، إلّا أنّه يبتعد عن المقدِّمات الصحيحة واليقينيَّة عنده، ويقبل على هذه المقدِّمات المسلّم بها لدى الخصم، لإفحامه وإخضاعه للتسليم بها. بعبارة أُخرى: يستعين بالجدال بدلاً من البرهان؛ لأنّ الخصم لا يسلّم لمقدِّمات البرهان، بينما يستجيب لمقدِّمات القياس والاستدلال الجدلي، ولا يملك سوى قبول تلك المقدِّمات.
133
120
الدرس الرابع عشر: تأثير البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
غرار مقدِّمات استدلال القياس البرهانيّ والقضايا الحقيقيَّة والصَّادقة، لأنّ مقدِّمات الاستدلال الجدليّ إنّما يستفاد منها كونها مقبولة، مسلَّماً بها لدى المخاطب، وهذا لا يعني بالضَّرورة أنّها مسلّمة ومقبولة في حدَّ ذاتها، وادّعاؤنا هو أنّ عليّاً عليه السلام استشهد ببعض الأُمور الّتي تعدّ لدى المخالفين أُسس خلافة الخلفاء الثلاثة السابقين وأصولها، أمام أُولئك الّذين لم يسلّموا بخلافته وإمامته، بدلاً من الاستدلال بما هو حقّ من الأُسس والمبادئ الّتي تستند إليها إمامته وولايته، أي النَّصب الإلهيّ. وروح استدلاله عليه السلام الجدليّ هو: عليكم التَّسليم بخلافتي بسبب الدَّليل نفسه الّذي سلّمتم فيه بخلافة من سبقني من الخلفاء، ذلك لأنّ إمامتي تتّصف بما هو أسمى شأناً من البيعة، أي بقبول الأُمّة، واتّفاق الشُّورى وإجماعها.
شواهد جدليَّة تلك الرِّوايات
استهل الإمام عليه السلام انطلاقة أمر خلافته بكتاب كتبه إلى معاوية شرح له فيه قضيَّة مقتل عثمان ومبايعة الأُمّة له، وطالبه بمبايعته، وإيفاد أشراف الشام إليه: "أمّا بعد، فإنّ النَّاس قتلوا عثمان من غير مشورة منِّي، وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع، فإذا أتاك كتابي فبايع لي، وأوفد إليّ أشراف أهل الشام قبلك"2، فامتنع معاوية عن إجابة طلب الإمام عليه السلام، وأعدّ العدّة لقتاله بدلاً من مبايعته، وكان على معاوية أن يختلق ذريعة لعصيانه وتمرّده. فعمد إلى بعض الحيل إزاء المنطق المتين للإمام عليه السلام، ومنها:
أولاً: وجود فرق بين الإمام عليه السلام ومن سبقه من الخلفاء، ليشكِّك، بهذه الطريقة، بأحقيَّة إمامته وخلافته.
ثانياً: تذرّع بأنّ قتلة عثمان يتمتَّعون بدعم عليّ عليه السلام. ومن هنا، طالبه بإيفاد أُولئك القتلة إلى الشام بغية معاقبتهم والاقتصاص منهم. وبعد ذلك، تعقد شورى المسلمين لاختيار الخليفة. والواقع أنّ منطق معاوية، في هذا الأمر، هو أنّ
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 1: 230ـ231.
134
121
الدرس الرابع عشر: تأثير البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
البيعة والشُّورى الّتي تمت لعليّ عليه السلام ليست ملزمة لأهل الشام، لأنّ أشراف هذه البلاد على خلاف أشراف المدينة والبصرة وأمثالهم، لم يحضروا في الشُّورى. وقد نقل المبرّد رسالة معاوية الّتي اتَّصفت بالسماجة، وجاء فيها: "أمّا بعد، فلعمري لو بايعك القوم الّذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان، كنت كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضَّعيف، وقد أبى أهل الشام إلّا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين"1.
ثم كتب معاوية كتاباً آخر، يوم صفِّين، أنكر فيه صحَّة الشُّورى / البيعة الّتي تمت للإمام عليه السلام، بدليل أنّ أهل الشام لم يحضروها، فلم يكونوا ليرتضوها: "فلعمري لو صحّت خلافتك، لكنت قريباً من أن تعذر في حرب المسلمين، ولكنها ما صحّت لك، أنَّى بصحّتها وأهل الشام لم يدخلوا فيها ولم يرتضوا بها؟"2.
ونجح معاوية في ترسيخ هذا المنطق لدى أهل الشام، والمتمثِّل في أنّ الطلب بدم عثمان مقدَّم على كلّ ما سواه، ولا قيمة للبيعة / الشُّورى الّتي جعلت الخلافة تؤول إلى عليّ عليه السلام، ولا بدَّ من تشكيل الشُّورى بعد القصاص من قتلة عثمان. على سبيل المثال: حبيب بن مسلمة، أحد أعضاء الوفد الّذي بعثه معاوية يوم صفّين، خاطب الإمام عليه السلام قائلاً: "فادفع إلينا قتلة عثمان ـ إن زعمت أنّك لم تقتله ـ نقتلهم به، ثمّ اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يولّي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم"3، فما كان من عليّ عليه السلام إزاء هذا التمرّد والعصيان والاستدلال إلّا أن احتجّ بأُمور مسلّم بها لدى العامَّة، ولا يسع حتى الخصم إنكارها. فالمسلمون قاطبة وأهل الشام والمعارضون لبيعة عليّ عليه السلام، وحتى معاوية، يقرّون جميعاً بالآليَّة الّتي
1- الكامل في اللُّغة والأدب للمبرد، 1: 423؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 3: 88.
2- بحار الأنوار: 80:33؛ وشرح نهج البلاغة، 14: 42.
3- تاريخ الطبري، 5: 7؛ والبداية والنهاية، 7: 259.
135
122
الدرس الرابع عشر: تأثير البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
تسلّم بموجبها الخلفاء الثلاثة دفَّة الحكومة، فاستعان الإمام عليه السلام بصحَّة تلك البيعة ووجوبها وقبولها. وفي مواجهة معاوية وأهل الشام، استدلّ بهذه الأُمور المسلَّم بها لدى المخاطبين، من دون أدنى تلميح إلى أدلّة نصبه للإمامة، فقد احتجّ الإمام عليه السلام على المتخلّفين عن بيعته قائلاً: "أيّها النَّاس! إنّكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنّما الخيار إلى النَّاس قبل أن يبايعوا"1، كما اعتمد عليه السلام المقدِّمات نفسها في احتجاجه على معاوية وأهل الشام، كأنّه يريد القول: إنَّ الّذين نصبوا الخلفاء السابقين، قد أصرّوا، وعلى خلاف رغبتي، بالبيعة لي. وبناءً عليه، وجبت عليك الطاعة والانقياد لي، كما أطعت الخلفاء من قبلي2.
ثم ذكّر الإمام عليه السلام معاوية بأنّ طاعته لا تستلزم حضوره البيعة، ذلك لأنّه لم يشهد بيعة من سبقه من سائر الخلفاء، وذلك بقوله: "لأنّ بيعتي في المدينة لزمتك وأنت بالشام، كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة، وأنت أمير لعمر على الشام، وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر وهو أمير لأبي بكر على الشَّام"3.
أضف إلى ذلك، أنّ معاوية وقريش أهل الشَّام من الطُّلقاء، ليسوا مؤهَّلين للعضويَّة في شورى تعيين الخليفة، كما وصفهم الإمام عليه السلام: "واعلم أنّك من الطُّلقاء الّذين لا تحلّ لهم الخلافة، ولا تعرض فيهم الشُّورى"4.
"...أمّا قولك: إنّ أهل الشام هم الحكَّام على أهل الحجاز، فهات رجلاً من أهل الشام يقبل في الشُّورى أو تحلّ له الخلافة، فإن زعمت ذلك كذّبك المهاجرون والأنصار"5.
يتبيَّن ممَّا سبق، واستناداً للعديد من أدلّة نصبه عليه السلام للإمامة، أن لا مجال
1- إرشاد الشيخ المفيد، 1: 243.
2- راجع: شرح نهج البلاغة، 3: 75.
3- شرح نهج البلاغة، 14: 43.
4- وقعة صفّين: 29.
5- بحار الأنوار، 32: 379؛ شرح نهج البلاغة 3: 90 ـ 91.
136
123
الدرس الرابع عشر: تأثير البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
للشُّبهة والشَّكّ في أنّ تركيزه على دور البيعة والشورى في تعيين الخليفة، وعلى أنّ زمام أُمور هذا التَّعيين يقتصر على المهاجرين والأنصار، إنّما كان من باب الجدال. ولعلّنا نلمس نظير هذا الجدال بالتي هي أحسن في تعامله عليه السلام مع حادثة السقيفة وبيعة أبي بكر.
فقد احتجّت قريش، بزعامة أبي بكر وعمر، على الأنصار بقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأقنعوهم بأنّ الخلافة في المهاجرين من قريش. فاستعان الإمام عليه السلام بهذا الاستدلال ليثبت أهليَّته لمقام الخلافة على أساس تلك المقدّمة المتمثِّلة بالقرابة بوصفها معياراً للإمامة. ومن الطَّبيعيّ أن يكون هذا الاستدلال جدليَّاً بالنظر إلى أدلّة التنصيب للإمامة، ذلك لأنّ مستند إمامته عليه السلام هو أدلّة التنصيب الإلهيَّة، وليس مجرّد قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ومع ذلك، فقد احتجّ عليه السلام بهذا الدَّليل الجدليّ على معاوية.
"قالت قريش: منّا أمير، وقالت الأنصار: منّا أمير، فقالت قريش: منّا محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنحن أحقّ بذلك الأمر، فعرفت ذلك الأنصار فسلّمت لهم الولاية والسُّلطان. فإذا استحقُّوها بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم دون الأنصار، فإنّ أولى الناس بمحمَّد أحقّ بها منهم"1.
ربما يقال: نقرّ بجدليَّة التمسّك باعتبار البيعة والشُّورى لإثبات ولاية المعصومين، لكن يمكن الزَّعم أنّ هذه البيعة ـ الشُّورى معتبرة في تعيين الزَّعامة السِّياسيَّة في عصر الغيبة. وبناءً على ذلك، فالبيعة ـ الشُّورى ليست فاقدة للاعتبار من الأساس، ولكن بالنظر إلى أدلّة نصب الأئمّة المعصومين لمنصب الإمامة في زمان حضور الإمام، فإنّها فاقدة لاعتبارها، بينما تتمتَّع بهذا الاعتبار في عصر الغيبة. بعبارة أُخرى: فقد استند الإمام عليه السلام إلى مقدّمة باطلة في استدلاله الجدليّ، بل هو يفقد بهذه المقدّمة ـ اعتبار البيعة والشورى ـ أحقيّته في حال حضور الإمام المعصوم، وإلّا فهي تتمتَّع بحدّ ذاتها بالصحة والاعتبار. والّذي يتبنَّى هذه الفكرة يرى أنَّ جدليَّة دليل الإمام عليه السلام
1- وقعة صفّين: 91.
137
124
الدرس الرابع عشر: تأثير البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
تحول دون التمسّك بالبيعة والشُّورى لانتخاب الحاكم الإسلاميّ في عصر الغيبة، ولو كانت أدلّة نصب الفقيه العادل للولاية العامَّة تامّة لما برز دور هذا البحث، أي كما أنّ أدلّة نصب الإمام المعصوم للإمامة تبطل دور البيعة والشُّورى في منح الولاية السِّياسيَّة وإعطائها الشَّرعيَّة، فإنّ أدلّة ولاية الفقيه تجعل البيعة والشورى في هذا المجال فاقدة للاعتبار أيضاً.
ولا بدَّ، في ختام البحث، من تأكيد قضيَّة هي محور بحثنا، ومفادها دراسة دور البيعة والشُّورى في منح السلطة السِّياسيَّة وإضفاء الشَّرعيَّة عليها ومناقشة ذلك، وإلّا فلا يمكن إنكار أنّ قبول السلطة السِّياسيَّة وتحقُّقها العينيّ والخارجيّ على صعيد المجتمع إنّما يتبع إقبال الأُمّة وبيعتها ومواكبتها، فأغلب الأئمّة عليهم السلام لم تنل إمامتهم وولايتهم الشَّرعيَّة والرَّبانيَّة تحقُّقاً خارجياً وعينياً على مستوى المجتمع، وذلك بسبب عدم تمتِّعهم ببيعة الأُمّة.
138
125
الدرس الرابع عشر: تأثير البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
الخلاصة
1ـ أغلب الرِّوايات الواردة عن عليّ عليه السلام في اعتباريَّة البيعة والشورى في تعيين الخليفة هي من باب الجدال، ولا يمكن الاستدلال بها في باب انتخاب السُّلطة السِّياسيَّة.
2ـ استند منطق معاوية، في خروجه على إمامة عليّ عليه السلام، إلى عدم اعتبار البيعة/ الشُّورى الّتي أدَّت إلى خلافته.
3ـ أراد معاوية، بعد الاقتصاص من قتلة عثمان، أن تقوم شورى المسلمين، الّتي لم يشهدها هو وأمثاله، باختيار الحاكم الإسلاميّ.
4ـ دافع الإمام عليه السلام عن صحَّة البيعة/الشُّورى الّتي أدَّت إلى خلافته استناداً للمسلّمات لدى عامّة المسلمين، والّتي لا يسع معاوية وأمثاله التنكُّر لها. وعليه، فاستدلاله عليه السلام كان من باب الجدال بالتي هي أحسن.
5ـ وجود أدلّة نصبه عليه السلام للإمامة، وعدم تمسّكه بالنصوص شاهد آخر على جدليَّة استدلالاته.
6ـ لو كانت أدلّة ولاية الفقيه تامة، لما كانت هناك من حاجة للاستشهاد بهذه الروايات لإثبات النظريَّة الانتخابيَّة للولاية السِّياسيَّة، في عصر الغيبة.
139
126
الدرس الرابع عشر: تأثير البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
الأسئلة
1ـ لماذا لا يمكن الاستدلال بالروايات الصَّادرة عن أمير المؤمنين عليه السلام في باب البيعة والشُّورى على نظريَّة انتخاب الولاية السِّياسيَّة ؟
2ـ ما هو منطق معاوية في نزاعه السِّياسيّ مع عليّ عليه السلام ؟
3ـ كيف كان ردّ عليّ عليه السلام على منطق معاوية وأهل الشام؟
4ـ ما الشواهد على جدليَّة استدلال الإمام عليه السلام ؟
5ـ هل يمكن التمسّك بهذه الروايات لانتخاب الولاية السِّياسيَّة في عصر الغيبة؟
140
127
الدرس الرابع عشر: تأثير البيعة والشُّورى في تعيين الولاية السِّياسيَّة
للتوسع في المطالعة
للوقوف على الأبحاث السائدة، لدى المنكرين المعاصرين من الكتّاب العرب، في شأن علاقة الدِّين بالسِّياسة، راجع المصادر الآتية:
1ـ الدِّين والدَّولة وتطبيق الشريعة، محمّد عابد الجابري، ط. مركز دراسات الوحدة العربيَّة ـ بيروت.
2ـ الإسلام السِّياسي، محمّد سعيد العشماوي، سيناء للنشر ـ القاهرة.
3ـ أُصول الشَّريعة، محمّد سعيد العشماوي، سيناء للنشر ـ القاهرة.
4ـ سقوط الغلو العلمانيّ، محمّد عمارة، دار الشروق ـ القاهرة.
5ـ العلمانيَّة ونهضتنا الحديثة، محمّد عمارة، دار الشروق ـ القاهرة.
ولمزيدٍ من معرفة النظام السِّياسيّ على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحكومات صدر الإسلام، راجع المصادر الآتية:
1ـ نظام الحكومة النبويَّة والتراتيب الإداريَّة، عبد الحي الكتاني، دار الكتاب العربي ـ بيروت.
2ـ نظام الحكم في الإسلام، محمّد يوسف موسى ـ بيروت.
3ـ نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ظافر القاسمي، دار النفائس ـ بيروت.
ويمكن الوقوف على المزيد من المباحث الفقهيَّة في شأن منزلة البيعة والشورى، في النظام السِّياسي للإسلام، بمراجعة هذا المصدر:
1ـ ولاية الأمر في عصر الغيبة، السيد كاظم الحائري، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، الصفحات 157 ـ 243.
141
128
ولاية الفقيه المعنى والمسيرة التَّاريخيَّة والأدلَّة
ولاية الفقيه المعنى والمسيرة التَّاريخيَّة والأدلَّة
الدَّرس 15: معنى ولاية الفقيه
الدَّرس 16: الولاية التَّنصيبيَّة إزاء تفويض الفقيه وإشرافه
الدَّرس 17 و18: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه
الدَّرس 19: ولاية الفقيه مسألة كلاميَّة أم فقهيَّة؟
الدَّرس 10-22: أدلَّة إثبات ولاية الفقيه
الدَّرس 23: الدَّليل العقليّ على ولاية الفقيه
143
129
ولاية الفقيه المعنى والمسيرة التَّاريخيَّة والأدلَّة
تمهيد
مرَّ بنا، في دروس سابقة، أنّ الفكر السِّياسيّ الشِّيعيّ يستند إلى نظريَّة نصب الإمام، فالشِّيعة تعتقد بأنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام نُصّبوا للإمامة والولاية من جانب الله وبوساطة إبلاغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . والسُّؤال المهمّ الّذي ينبغي طرحه ومناقشته هو: هل تمّ تنصيب الفقهاء العدول، في عصر الغيبة، للولاية والنِّيابة العامَّة من قبل المعصومين عليهم السلام؟
الفصل الحاليّ يتكفَّل بالإجابة عن هذا السؤال المهمّ والأساس. وسنتناول، في مستهلّ هذا الفصل، توضيح معنى ولاية الفقيه، ومن ثمّ نقدِّم ما يحول دون إساءة الفهم في هذا الخصوص، من خلال التحليل الدَّقيق لمحل النِّزاع. بعد ذلك سنعرض أقوال أعلام الشِّيعة، مع لمحة تاريخيَّة عن نظريَّة ولاية الفقيه.
وسنسلّط الضوء على أدلّة إثبات الولاية للفقيه، وهو أهمّ محور في مباحث هذا الفصل، وسنوضح، قبل ذلك، ما إذا كانت ولاية الفقيه مسألة كلاميَّة أم فقهيَّة. وتؤدِّي الإجابة عن هذا السؤال دوراً مباشراً في نوعيَّة الأدلَّة المقامة على إثبات ولاية الفقيه. والاعتقاد بأنّ ولاية الفقيه مبحث كلامي، أو على الأقل اشتمالها على البعد الكلاميّ إلى جانب البعد الفقهي، يوفّر الأرضيَّة المناسبة لطرح الأدلَّة العقليَّة عليها.
145
130
الدرس الخامس عشر: معنى ولاية الفقيه
الدرس الخامس عشر: معنى ولاية الفقيه
الولاية، لغةً، مشتقَّة من "و ـ ل ـ ي"، وتستعمل بكسر الواو وفتحها. وهناك بعض المفردات الّتي تشترك، في مادَّتها، مع الولاية، وهي: التَّولية، الموالاة، التَّولِّي، وليّ، متولٍّ، استيلاء، ولاء، مولى، والٍ.
تدلّ الولاية، من النَّاحية اللُّغويَّة، على معانٍ كثيرة، من قبيل: النُّصرة، والتصدّي لأُمور الآخرين، والسُّلطة والقيمومة. ومعنى التصدّي لأمر ما والتصرُّف فيه أنسب المعاني للمراد من ولاية الفقيه. فالشَّخص الّذي يتصدّى لأمر ما تكون له ولاية عليه، ويُعدُّ وليّه ومولاه.
وبناءً على ذلك، فمفردة الولاية، والمفردات الّتي تشترك معها في جذورها اللُّغوية، من قبيل: الوليّ، والتَّولية، والمتولِّي، والوالي، تدلّ على معنى التصدّي والتدبير والتصرّف. وتفيد مثل هذه الكلمات معنى التَّصدِّي لشؤون فرد آخر– المولّى عليه – وإدارتها، وتشير إلى أنّ الوليّ والمولى أولى من الآخرين بهذا التصرّف والتصدّي، وعلى أساس وجود ولاية هذا الوليّ يسلب من الآخرين حقّ التصدّي والتصرّف في شؤون ذلك الفرد1، وقد وردت الكلمات المشتملة على هذا المعنى في القرآن الكريم، لتكون صفة
1- لمزيد من الاطِّلاع على معاني المولى والولي يراجع: الغدير، العلاّمة الأميني 1: 609 ـ 649 (الطبعة المحققة)؛ فيض القدير في ما يتعلق بحديث الغدير، المحدِّث عباس القمي: 375 ـ 448.
147
131
الدرس الخامس عشر: معنى ولاية الفقيه
لله والرَّسول والإمام: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾2، ولعلّ الخوض في تفاصيل مختلف المعاني لمشتقات "و- ل- ي" ودراسة مختلف استعمالاتها في القرآن والرِّوايات، يبعدنا عن البحث الأصليّ، ذلك لأنّ المعنى الاصطلاحيّ للولاية وشريكاتها، مثل الوالي والوليّ، واضح.
فحين نسأل: هل نصَّب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شخصاً لولاية المسلمين؟
أو نسأل: هل للفقيه العادل ولاية في عصر الغيبة؟
فمن الواضح أنّه ليس مرادنا من السُّؤال الحبّ والمودّة والنُّصرة وما شابه ذلك، بل المطلوب التصدّي وإدارة شؤون المجتمع الإسلاميّ.
فالمعنى المراد من الولاية للفقيه العادل، في عصر الغيبة، هو أنّه أولى بالتصدّي لشؤون المجتمع الإسلاميّ، وأنّه منصّب لهذا الموقع الشرعيّ والاجتماعيّ.
ماهيَّة الولاية
إنّ الولاية الّتي تثبتها أدلّة ولاية الفقيه العادل من نوع الاعتبارات والجعليَّات الشَّرعيّة. فالفقاهة، والعدالة، والشجاعة، وأمثال ذلك، من الصِّفات والحقائق التَّكوينيَّة. أمّا بعض الأُمور، من قبيل: الرِّئاسة والملكيَّة، فهي من القضايا "الوضعيَّة والتعاقديَّة". والأُمور الاعتباريَّة والوضعيَّة تطلق على الأُمور الّتي تنشأ بوساطة الجعل والعقد، وليس لها بحدّ ذاتها من وجود خارجيّ. بل تكتسب وجودها من خلال وضع الواضع وجعل الجاعل. فإن كان الواضع والجاعل هو الشارع، قيل لذلك الاعتبار: "الاعتبار الشَّرعيّ"، بينما يقال له: "الاعتبار العقلائيّ" إن كان واضعه العقل والعرف2.
فالشَّخص الّذي يصبح فقيهاً، أو يبلغ ملكة العدالة والتَّقوى، يكون صاحب صفة تكوينيَّة وحقيقيه، أمّا إن نُصِّب فرد لمنصب معيّن، وجُعلت له رئاسة، فإنّ هذا
1- سورة المائدة: 55.
2- الرئاسة الّتي تجعلها قبيلة لزعيمها، والمجتمع لحاكمه، نماذج للاعتبارات العقلائية. كما أنّ قوانين المرور، من قبيل: منع الاجتياز من الجانب الأيمن، والاستدارة في الشارع الأُحادي الجانب، نماذج من الاعتبارات والجعليات الوضعية العقلائية.
148
132
الدرس الخامس عشر: معنى ولاية الفقيه
المنصب ليس له واقع تكوينيّ وحقيقيّ، بل هو عقد واعتبار عقلائيّ. والفارق بين الأمر الاعتباريّ والأمر التكوينيّ يتمثَّل في أنّ زمام الأمر الاعتباريّ والوضعيّ هو بيد الواضع أو مبرم العقد، على خلاف الحقائق التكوينيَّة الّتي لم يضعها واضع، ولم ينشأ اعتبارها من جاعل، كي ينتفي وجودها بتغيير جعله واعتباره. فالولاية تنشأ بنحوين: تكوينيّ واعتباريّ. أمّا الولاية الّتي يتمتَّع بها الفقيه، وتستنبط من أدلّة ولاية الفقيه، فهي ولاية اعتباريَّة.
أما الولاية التَّكوينيَّة، فهي فضيلة ومقام معنويّ وكمال روحيّ. ويتمتَّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومون عليهم السلام بكلا القسمين من الولاية، ويُعدُّون خلفاء الله وأصحاب مقام الولاية الإلهيَّة الجامعة، بسبب تمتُّعهم بالعصمة والعلم الربانيّ، وأقصى مراتب العبوديَّة، كما يعدّون أصحاب ولاية سياسيَّة وتنفيذيَّة، وهي شأن اعتباريّ، بسبب تفويضهم منصب الزَّعامة وإدارة شؤون المسلمين.
قال الإمام الخمينيّ قدس سره، في هذا الخصوص: "حينما نثبت للفقيه العادل، في عصر الغيبة، نفس الولاية الّتي كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، فلا يتوهمنّ أحد أنّ مقام الفقهاء نفس مقام الأئمّة عليهم السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّ كلامنا هنا ليس عن المقام والمرتبة، وإنّما عن الوظيفة.
فالولاية ـ أي الحكومة وإدارة البلاد وتنفيذ أحكام الشرع المقدّس ـ هي وظيفة كبيرة ومهمّة، لكنها لا تعطي الإنسان مقاماً وشأناً غير عاديّ، أو ترفعه عن مستوى الإنسان العاديّ. وبعبارة أُخرى، فـ"الولاية" ـ "التي هي محلّ البحث، أي الحكومة والإدارة والتنفيذ ـ ليست امتيازاً، خلافاً لما يتصوّره الكثيرون، بل هي وظيفة خطيرة.
"فـ "ولاية الفقيه""من الأُمور الاعتباريَّة العقلائيَّة، وليس لها واقع سوى الجعل"1.
وينبغي الإعتقاد بأنّ ما تنشده ولاية الفقيه، من منصب الحاكميَّة وسلطة التنفيذ وقيادة المجتمع، إلى الفقيه، هو "اعتبار ووضع عقلائيّ"، لأنّ جميع المجتمعات
1- الحكومة الإسلاميَّة، الإمام الخميني 69.
149
133
الدرس الخامس عشر: معنى ولاية الفقيه
البشريَّة يوجد فيها مثل هكذا اعتبار وتعاقد، فيتمّ فيها تعيين الأفراد في مثل هذا المنصب.
ومن جانب آخر، فإنّ إسناد هذه السُّلطات له هو "اعتبار شرعيّ"، وذلك لأنّ هذا الاعتبار والوضع قد ثبت للفقيه من طريق روايات المعصومين عليهم السلام والأدلَّة الشَّرعيَّة، وبذلك يُنصّب استناداً إلى هذه الأدلَّة لهذا المقام والمنصب والوظيفة.
إذاً، فأصل مقولة الولاية هو "الاعتبار العقلائيّ"، وإنّ تأييد هذا الاعتبار للفقيه وإمضاءه وجعله في حيّز الشرع المقدّس، هو "اعتبار شرعيّ".
نوعا الولاية في الفقه الإسلاميّ
يمكن تصنيف الآيات والرِّوايات المتعلِّقة بالولاية، في قسمين، أو بتعبير أدق: إنَّنا نواجه نوعين من الولاية في الفقه:
النَّوع الأوّل: الولاية المتمثِّلة في التَّصدّي لإدارة شؤون المؤمنين، وهي الولاية الّتي يتمتَّع بها الفقيه العادل بجعل الله والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام في عصر الغيبة. والآية المذكورة في بداية هذا الدرس ناظرة إلى هذا النوع من الولاية.
والنَّوع الثاني: التصدّي لأُمور الأفراد العاجزين عن استيفاء حقوقهم، لقصور في الفهم والشعور، أو بسبب العجز العمليّ عن القيام بأعمالهم، أو لعدم حضورهم، فلا بدَّ من وليّ، من طرفهم، يقوم بإدارة شؤونهم، بوصفهم أفراداً عاجزين أو قاصرين أو غائبين. ومن نماذج هذا النَّوع من الولاية، ولاية أولياء المقتول ـ وليّ الدَّم ـ، وأولياء الميِّت. والآيتان الآتيتان ناظرتان إلى هذه الموارد من الولاية: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾1.
1- سورة الإسراء: 33.
150
134
الدرس الخامس عشر: معنى ولاية الفقيه
﴿فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾1
إنّ الغفلة عن الفارق الأساسيّ، بين هذين القسمين من الولاية، أدَّت إلى الوقوع في خطأ فادح طال بعض معارضي ولاية الفقيه، فظنّوا أنّ ولاية الفقيه من نوع الولاية على المحجورين والقاصرين، فمعنى ولاية الفقيه ـ إذاً، وكما يرى أصحاب هذا الظَّن ـ هو أنّ النَّاس كالمجانين والأطفال والسُّفهاء والمحجورين بحاجة إلى قيّم، والوليّ الفقيه هو قيّم الناس. وبناءً على ذلك، فولاية الفقيه تستلزم نوعاً من تحقير الناس وإهانتهم والتقليل من إدراكهم. وسنردّ على هذا الظَّنِّ في الدَّرس القادم.
الخلاصة
1ـ استعملت مفردة الولاية بعدّة معانٍ، والّذي يراد من ولاية الفقيه ما يتناسب وأحد معانيها اللُّغويَّة، أي التصدّي والتصرّف.
2ـ الولاية المطروحة، في ولاية الفقيه، هي من نوع الاعتبارات والجعليَّات الشَّرعيّة.
3ـ يتمتَّع المعصومون عليهم السلام، إضافة إلى الولاية الاعتباريَّة والتعاقديَّة، بالولاية التكوينيَّه، وهي نوع كمال وفضيلة معنويَّة.
4ـ هناك نوعان من الولاية في الفقه:
أـ الولاية على القاصرين والمحجور عليهم.
ب ـ الولاية المتمثِّلة في التصدّي لأُمور المؤمنين الاجتماعيَّة.
5ـ الولاية الّتي ثبتت، في القرآن الكريم، للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأُولي الأمر عليهم السلام، وتالياً للفقيه العادل، هي الولاية من النوع الثاني.
1- سورة البقرة: 282.
151
135
الدرس الخامس عشر: معنى ولاية الفقيه
6ـ الخلط بين نوعي الولاية، والغفلة عن وجود نوع ثان من الولاية، أدَّيا إلى حسبان بعضهم ولاية الفقيه من نوع الولاية على المحجور عليهم.
الأسئلة
1ـ ما المعنى اللُّغوي للولاية الّذي ينسجم مع اصطلاح ولاية الفقيه ؟
2ـ ما المراد من قولهم: ولاية الفقيه من نوع الأمور الاعتباريَّة والمجعولة؟
3ـ ما المقصود بالولاية التكوينيَّة؟
4ـ ما هو الفارق بين ولاية الفقيه وولاية الأئمّة المعصومين عليهم السلام؟
5ـ ماذا تعني الولاية على المحجور عليهم؟
152
136
الدرس السادس عشر: بين الولاية التَّنصيبيَّة وتفويض الفقيه وإشرافه
الدرس السادس عشر: بين الولاية التَّنصيبيَّة وتفويض الفقيه وإشرافه
الهدف من هذا الدَّرس كشف النِّقاب، بمزيد من الإيضاح عن المقصود من الولاية التَّنصيبيَّة للفقيه، واختلافها عن الرؤية القائلة بوكالة الفقيه من جانب النَّاس، أو إشرافه على شؤون الحكومة بدلاً من ولايته، فهذا الأمر من شأنه إغناء محلِّ النِّزاع في بحث ولاية الفقيه. وقبل الدُّخول في هذا البحث، لا بدَّ من أن نشير إلى سوء الفهم السَّائد في شأن معنى ولاية الفقيه، ونريد به سوء الفهم الّذي أشرنا إليه إجمالاً في ختام الدَّرس السابق.
فبعض معارضي الولاية السِّياسيَّة للفقيه ومنتقديها، يصرّون على أنّ "الولاية" الواردة، في ولاية الفقيه، ذات معنى يختلف تماماً عن معنى السُّلطة الحقوقيَّة والحاكميَّة السِّياسيَّة السَّائدة في سائر الأنظمة السِّياسيَّة، كأنّ ماهيَّة السُّلطة السِّياسيَّة، في هذا النظام، تختلف كلّياً عن السُّلطة السِّياسيَّة في سائر الأنظمة الأُخرى المعروفة. ولعلّ منشأ هذه الفكرة يعود إلى عدِّ الولاية السِّياسيَّة للفقيه من نوع الولاية على الأفراد القاصرين والمحجور عليهم، حيث يظنّ هؤلاء أنّ الولاية المطروحة، في مختلف الأبواب الفقهيَّة، إنّما تختصُّ بالموارد الّتي يكون "المولّى عليه" فيها قاصراً ومحجوراً عليه وعاجزاً. وبناءً على ذلك، فتعميم هذه الولاية على المجتمع والسياسه، وطرح بحث
153
137
الدرس السادس عشر: بين الولاية التَّنصيبيَّة وتفويض الفقيه وإشرافه
الولاية العامَّة للفقيه، يعني أنّ أبناء المجتمع قاصرون ومحجور عليهم ومولّى عليهم، ويحتاجون إلى وليّ وقيّم، بمعنى أنّ الناس يفتقرون إلى قدرة التَّشخيص، ويحتاجون إلى وليّ وقيّم على شؤونهم.
كتب أحد المدافعين عن هذه النظريَّة يقول: "إنّ الولاية تعني القيمومة، وهي متفاوتة مفهوماً وماهيَّة مع الحكومة والحاكميَّة السِّياسيَّة، لأنّ الولاية هي حقّ تصرّف وليّ الأمر في أموال المولّى عليه وحقوقه لسبب من الأسباب، من قبيل: عدم البلوغ والنُّضج العقلي، الجنون، وغيرها مما يحول دون تصرّفه في أمواله وحقوقه الشخصيَّة، بينما الحكومة أو الحاكميَّة السِّياسيَّة تعني إدارة شؤون البلاد وتدبير أُمورها والّتي تقع ضمن حدود جغرافيَّة ـ سياسيَّة معيّنة".
فقد أغفلت هذه المطالب مسألتين أساسَين:
الأُولى: إنّ للولاية، في الفقه، استعمالين مختلفين، والولاية الواردة في شأن التصدِّي للشَّأن العام وإدارة شؤون المجتمع، والّتي تعدّ من نوع الدَّولة والحاكميه تختلف تماماً عن الولاية على القاصرين. وقد ثبت هذا النَّوع من الولاية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأُولي الأمر بصريح القرآن.
فهل تعني ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين أنّ مسلمي صدر الإسلام، وكبار شخصيَّات ذلك العصر، كانوا قاصرين ومحجور عليهم؟ فولاية الفقيه، كما ذكرنا مراراً، هي من نوع ولاية الأئمَّة المعصومين عليهم السلام، مع فارق مفاده أنّ ولاية هؤلاء الأئمَّة لا تقتصر على هذه الولاية الاعتباريَّة، إذ إنَّهم كانوا يتمتَّعون بمنزلة معنويَّة وولاية إلهيَّة عامّة، وكانوا خلفاء الله.
الثانية: إنّ الإمام، على أساس الرِّوايات، قيّم. فقد عُرِّف، في الرِّواية الّتي نقلها الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا عليه السلام، في شأن فلسفة جعل الولاية والإمامة، بأنّه القيّم والأمين على الدِّين، وحافظ الأحكام الشرعيّة الإلهيَّة، وهو المواجه للمفسدين وأصحاب البدع، فقال:
154
138
الدرس السادس عشر: بين الولاية التَّنصيبيَّة وتفويض الفقيه وإشرافه
"إنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً، لدرست الملّة، وذهب الدِّين، وغيِّرت السنَّة (السُّنن)… فلو لم يجعل لهم قيّماً حافظاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لفسدوا"1.
فلا ينبغي عدُّ كلمة "قيّم"، في هذا النَّحو من الرِّوايات، بمعنى قيمومة الأب والوليّ على القاصر الصَّغير أو السَّفيه، لأنّ القيّم في الاصطلاح القرآنيّ والرِّوائيّ بمعنى قوام الشيء أو الإنسان نفسه، وهو مصدر قوام الآخرين.
ومن هنا، نعت القرآن الكريم الدِّين والكتاب بهذه الصِّفة:
﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾2. ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ﴾3.
﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً *فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾4.
فالإمام، القائد للمجتمع الإسلاميّ، يعني أنّه القيّم على النَّاس، وأن قيمومته عليهم هي مصدر انسجامهم ونهضتهم واستقرارهم.
وبناءً على ذلك، لا ينبغي اعتبار القيّم، في الاستعمال القرآنيّ والرِّوائيّ، كاستعماله نفسه في المصادر الفقهيَّة في الأبواب المرتبطة بالقاصرين والمحجور عليهم. ولهذا السَّبب، فقد حصل خلط في كلمات هذه الطائفة من منكري ولاية الفقيه، فظنّوا أنّ ولاية الفقيه هي القيمومة على المحجور عليهم.
الفارق بين التَّنصيب للولاية وبين التوكيل والإشراف
المحور الأصليّ، في مبحث ولاية الفقيه، هو: هل الفقيه العادل منصّب لولاية أمر الأُمّة من جانب المعصومين عليهم السلام؟
في الواقع أنّ "ولاية الفقيه التَّنصيبيَّة" ونيابته عن المعصوم، في إجراء الأحكام وإدارة الشؤون الاجتماعيَّة ـ السِّياسيَّة للمجتمع الإسلاميّ، يمثِّلان المحور الأصليّ للأبحاث الخاصَّة بولاية الفقيه.
1- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي، 6: 60 ح 1.
2- سورة التوبة: 36.
3- سورة الروم: 43.
4- سورة البيِّنة: 2 و3.
155
139
الدرس السادس عشر: بين الولاية التَّنصيبيَّة وتفويض الفقيه وإشرافه
ولمزيد من إيضاح معنى الولاية التنصيبيَّة، لا بدَّ من تسليط الضَّوء على اختلافها عن "الولاية الانتخابيَّة" أو "وكالة الفقيه"، كما ينبغي إيضاح الفرق بين ولاية الفقيه و"إشراف الفقيه".
فالفقيه العادل والجامع للشرائط، في عصر الغيبة، هو نائب إمام العصر والزَّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، ومنصّب من قبله لإدارة شؤون المجتمع الإسلاميّ، وله ولاية على الناس، وهذه الولاية غير الوكالة. وهنا يتمثَّل الفرق الحقيقيّ بين "الولاية التَّنصيبيَّة للفقيه" و"الولاية الانتخابيَّة للفقيه". فعلى أساس نظريَّة الولاية المنتخبة، يمنح النَّاس الفقيه الولاية بانتخابهم وبيعتهم، ومن ينتخبه النَّاس هو، في الواقع، وكيلهم في إدارة شؤون المجتمع وقيادته.
أمّا في ضوء نظريَّة نصب الوليّ الفقيه، فإنّ الفقيه العادل ليس بوكيل النَّاس، لأنَّه تلقَّى منصبه من طريق الأدلَّة الشرعيّة ونصب الإمام المعصوم عليه السلام، وليس لقبول الناس ومواكبتهم من تأثير في أصل منصب الولاية. بل لهم تأثير في بسط اليد وإمكانيَّة ممارسة الولاية. بعبارة أُخرى: إنَّ شرعيَّة ولاية الفقيه ليست متوقِّفة على قبول الناس، بل إنّ قبول هذه الولاية وتحقُّقها العينيّ يتمَّان بمعاونة الناس وإرادتهم.
فالماهيَّة الحقوقيَّة للولاية التنصيبيَّة تختلف تماماً عن الماهيَّة الحقوقيَّة للوكالة، ففي الوكالة يوجد شخص معيّن ـ الوكيل- يكون بدل شخص آخر - الموكِّل - في عمل خاصّ، فيقوم الأوّل بإنجاز هذا العمل عن الشخص الثاني.
فالأصالة في القرار للموكِّل، وليس للوكيل من حقٍّ في اتّخاذ القرار، سوى ما كان ضمن الصلاحيَّة الّتي فوّضها إيّاه الموكِّل أو الموكِّلون، بينما ليس الأمر كذلك في الولاية، حتى لو وكّل المعصوم شخصاً ونصَّب آخر للولاية، فإنّ الماهيتين، من الناحية الحقوقيَّة، غير متساويتين.
قال آيه الله جوادي آملي في هذا الشأن:
"هناك فارق بين (الولاية) و(الوكالة)، فالوكالة تبطل بموت الموكِّل، وليست
156
140
الدرس السادس عشر: بين الولاية التَّنصيبيَّة وتفويض الفقيه وإشرافه
الولاية كذلك. أي لو وكّل الإمام المعصوم عليه السلام شخصاً عنه في أمر، فوكالة ذلك الشخص تبطل بعد شهادة الإمام أو وفاته، إلّا أن يديمها الإمام اللاحق. أمّا في الولاية فالأمر ليس كذلك، فلو نصّب الإمام شخصاً لولاية الوقف مثلاً، فولايته لا تبطل بشهادة الإمام أو وفاته، اللهم إلّا أن يعزله الإمام اللاحق من الولاية"1.
والمسألة الأُخرى هي أنّ ولاية الفقيه غير إشراف الفقيه، فولاية الفقيه منصب من مهمَّاته التصدِّي للشأن العامّ والإدارة وإجراء الأحكام، ما يعني أنَّها مشاركة في الإجراءات التنفيذيَّة والإداريَّة الرَّامية إلى تنظيم الشؤون المختلفة والأساس للمجتمع الإسلاميّ، وفاقاً للموازين الشرعيّة، بينما الإشراف هو نوعٌ من الرَّقابة والتذكير، ويفتقر إلى عنصر التنفيذ والإدارة واتّخاذ القرار.
يتمثَّل النزاع، في الفكر السِّياسيّ، في عصر الغيبة، في إثبات الولاية للفقيه العادل. أمَّا إشراف الفقيه فليس محور نزاع بين الموافقين والمعارضين. وموضع الخلاف الرئيس يتمثَّل في ما إذا كان نصب الفقيه العادل للولاية يتمُّ من جانب الشرع أم لا. وبناءً على ذلك، فالبحث الفقهيّ، في هذا الباب، انصبّ دائماً على محور "ولاية الفقيه"، ولم تتركَّز آراء المخالفين والموافقين على محور "إشراف الفقيه".
وفي ضوء نظريَّة "الولاية التنصيبيَّة للفقيه" يبرز هذا السُّؤال: كيف يتمُّ جعل هذه الولاية للفقيه العادل الجامع للشرائط؟ وهل يحقُّ لكلّ فقيه عادل وجامع للشرائط أن يتولَّى منصب الوليّ الفقيه، فيتعدَّد بذلك متولّو هذا المنصب، أو أن هذا المنصب يتولّاه فقيه عادل وجامع للشرائط واحد؟ وكيف يتمُّ اختياره؟
الحقّ أنّه لو دلّت الأدلَّة الروائيَّة على ولاية الفقيه، فإنَّ هذا المنصب يثبت لكلّ فقيه جامع للشرائط، فهذه الولاية ثابتة له بنحو الفعل، ولا تتوقَّف على أيّ أمر آخر، مثل انتخاب الخبراء أو آراء الأُمّة.
إذاً، فللفقيه العادل ولاية بالفعل وفاقاً لأدلَّة ولاية الفقيه، من قبيل: إنّ لكلّ فقيه
1- ولاية الفقيه: 395.
157
141
الدرس السادس عشر: بين الولاية التَّنصيبيَّة وتفويض الفقيه وإشرافه
عادل بالفعل منصب القضاء، وله أن يبتّ في الخصومات. وهنا، لا يخفى أنّ جميع الفقهاء الجامعين للشرائط والذين لهم منصب الولاية، لا يمكنهم التصدّي مباشرة لإدارة شؤون المجتمع، كما لا يستطيع جميع القضاة الحكم في قضيَّة واحدة. فمن الطبيعيّ أن تسقط وظيفة سائر الفقهاء أصحاب منصب الولاية بتصدّي أحد الفقهاء الجامع للشرائط. وبناءً على ذلك، فمنصب الولاية لا يُسلب من الآخرين بانتخاب الخبراء وإقبال الأُمّة على فقيه عادل، بل ليس لهؤلاء الفقهاء العدول وظيفة ممارسة الولاية ما دام فقيه عادل ينهض بأعبائها1.
1- قد يقال إنّ هذا نوع من استعجال النتائج. لأن الدليل قد يدل على ولاية لواحد فقط.
158
142
الدرس السادس عشر: بين الولاية التَّنصيبيَّة وتفويض الفقيه وإشرافه
الخلاصة
1ـ الأشخاص الّذين يريدون تصوير ولاية الفقيه على أنّها من نوع الولاية على القاصرين، يرون أنّ الماهيَّة الحقوقيَّة للولاية هي على اختلاف مع الماهيَّة الحقوقيَّة لسائر النُّظم السِّياسيَّة.
2ـ ترى هذه النظريَّة أنّ الولاية العامَّة للفقيه ملازمة لكون الناس قاصرين ومحجور عليهم.
3ـ أغفلت هذه النظريَّة الاستعمالات المختلفة لمفردة الولاية في المعارف الإسلاميَّة.
4ـ تمَّ تعريف الإمام، في بعض الرِّوايات، بأنَّه القيّم على المجتمع، حيث ورد القيّم، في هذه الرِّوايات، بمعنى أنّه مصدر النظام والاستحكام، وهو المعنى نفسه الّذي نُعت به الدِّين والصُّحف السماويَّة في القرآن بصفة القيّم.
5ـ الولاية التنصيبيَّة تختلف تماماً عن نظريَّة الانتخاب أو وكالة الفقيه من جانب الناس.
6ـ هناك تفاوت ماهوي عميق وواضح بين الولاية التنصيبيَّة والوكالة.
7ـ ولاية الفقيه من نوع التصدّي للشأن العامّ والإدارة. وبناءً عليه، فهي تختلف تماماً عن إشراف الفقيه.
8ـ استناداً لأدلّة ولاية الفقيه، فإنّ هذه الولاية ثابتة بالفعل لكلّ فقيه جامع للشرائط، أي أنّ كلّ فقيه عادل منصّب من جانب الإمام، وممارسته للولاية مشروعة.
159
143
الدرس السادس عشر: بين الولاية التَّنصيبيَّة وتفويض الفقيه وإشرافه
الأسئلة
1ـ هل تختلف الماهيَّة الحقوقيَّة لولاية الفقيه عن سائر النُّظم السِّياسيَّة الحاكمة؟
2ـ ما هي الأُمور الّتي غفل عنها أُولئك الّذين عدُّوا ولاية الفقيه من نوع الولاية على المحجور عليهم ؟
3ـ ما الفوارق بين الولاية التنصيبيَّة ووكالة الفقيه؟
4ـ هل تتمثَّل ولاية الفقيه في إشرافه ورقابته؟
5ـ كيف تثبت الولاية للفقيه الجامع للشرائط على أساس أدلّة ولاية الفقيه؟
160
144
الدرس السابع عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (1)
الدرس السابع عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (1)
يعود تاريخ البدء بالكلام على ولاية الفقيه إلى انطلاقة الفقه. فقد ساد الاعتقاد بالولاية للفقيه، في بعض الأُمور، منذ بداية تاريخ الفقه والاجتهاد. ومن هنا، يمكن عدّها من المسلّمات الفقهيَّة للشِّيعة. والاختلاف بين الفقهاء يتمثَّل في مدى شمولها لا في أصلها.
وهناك اتّفاق على هذه الولاية للفقيه العادل في بعض الأُمور، كالقضاء والأُمور الحسبيَّة1، ومحل الاختلاف، في ولاية الفقيه، يتمثَّل في ما إذا كانت تشمل الأمور الأعمّ من هذه الأُمور، أي شؤون المجتمع الإداريَّة والسياسيَّة، وهذه الولاية يصطلح على تسميتها بـ"الولاية العامَّة للفقيه"2، أو النيابة العامَّة عن المعصومين عليهم السلام. والمراد من الولاية العامَّة للفقيه هو أنّ الفقيه العادل لا ينوب عن المعصوم عليه السلام في الأحكام والقضاء والأُمور الحسبيَّة فحسب، بل يتمتَّع بجميع الشؤون الّتي يمكن فيها
1- المراد من الأُمور الحسبيَّة الأُمور الّتي لا يرضى الشارع المقدّس بتركها تحت أيّة شرائط، من قبيل: القيمومة على الصَّغير، والمجنون، والسَّفيه، وكلمة الحسبة تعني الأجر والثواب، وتطلق عادة على ما يراد منه نيل الأجر الأُخروي والثواب. كما وردت، أحياناً، بمعنى القربة. فالأعمال الّتي تتم بغية التَّقرب إلى الله تعدُّ من الأُمور الحسبية. ولا بدَّ من الالتفات، هنا، إلى أنّ الأُمور الحسبية ليست الواجبات الكفائية؛ لأنّ الواجب الكفائي يمكن أن يبادر إليه كلّ قادر عليه، وفي حال القيام به يسقط عن الآخرين، بينما جواز التصرّف بالأُمور الحسبية يختص إمّا بالفقيه العادل، أو بالقدر المتيقِّن سقوط حقّ تصرّف الآخرين بوجود الفقيه العادل.
2- هناك مصطلح الولاية المطلقة التي تثبت من خلال الدليل أما الولاية العامة فهو الولاية التي تشمل وتتسع من دليل الحسبة والثمرة أنه عند الشك في أمر ما نتمسك بالاطلاق وإدخاله تحت الولاية، بينما لا يدخل تحت الولاية بالمعنى الثاني أي الحسبة.
161
145
الدرس السابع عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (1)
النِّيابة عنه.
لقد سعى بعضهم، ممَّن خالف ولاية الفقيه العامَّة، إلى الإيحاء بأنّ هذه الولاية هي من الأبحاث المستحدثة في تاريخ الفقه الشِّيعيّ، وبأنَّها طرحت خلال القرنين الأخيرين، وليست لها من سابقة طوال تاريخ الفقه الشِّيعيّ. والواقع أنّ هناك العديد من الأعلام الّذين تبنّوا هذه النظريَّة طوال عصور التفقُّه الشِّيعيّ، وقد أفتى بها كبار أعلام الطائفة وفقهائها. وادّعى بعض الفقهاء الإجماع عليها. ونقتصر هنا على الإشارة إلى كلمات ثلاثة من الفقهاء.
ذهب المحقِّق الكركيّ، وهو من كبار فقهاء الطائفة، في القرن العاشر الهجريّ، إلى القول بإجماع الأصحاب على النيابة العامَّة للفقيه الجامع للشرائط، ما جعله يعدُّ غياب هذه الولاية تعطيلاً لأُمور الشِّيعة1.
كما ذهب الفقيه النَّحرير محمّد حسن النجفيّ رحمه الله، صاحب كتاب "جواهر الكلام"، في بحث الأمر بالمعروف، إلى أنّ نيابة الفقيه العادل في جميع مناصب الإمام من المطالب المسلَّم بها والمفروغ منها لدى علماء الطائفة، وإنكار الولاية العامَّة يعني تعطيل أغلب أُمور الشِّيعة، وعدم القول بهذه الولاية ناشئ من عدم تذوّق الفقه وإدراك كلام المعصومين. يقول:
"ثبوت النِّيابة لهم، في كثير من المواضع، على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام أجمع، بل يمكن دعوى المفروغيَّة منه بين الأصحاب، فإنّ كتبهم مملوءة بالرجوع إلى الحاكم، المراد منه نائب الغيبة في سائر المواضع... لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأُمور المتعلِّقة بشيعتهم معطَّلة. فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنّه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً"2.
1- رسائل المحقق الكركي، (رسالة في صلاة الجمعة)، 1: 142 ـ 143.
2- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، 21: 396 و397.
162
146
الدرس السابع عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (1)
وذهب الفقيه المتبحِّر، الحاج أقا رضا الهمدانيّ، إلى أنَّ نيابة الفقيه العادل للمعصوم عليه السلام من المسلّمات، فقال: "لا يصحّ التَّردُّد في نيابة الفقيه الجامع للشرائط للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته في هذه الأُمور (الأُمور العامَّة الّتي يرجع فيها كلّ قوم إلى رئيسهم). ويؤيِّد ذلك تتبُّع كلمات الأصحاب، فكلماتهم أنّ هذه المسألة من المسلّمات في كلّ باب. وقد بلغت هذه المسألة وضوحاً جعلهم يدعون الإجماع على النِّيابة العامَّة"1.
أشرنا، سابقاً، إلى أنّ مسألة الولاية العامَّة حظيت بمن يتبنّاها طوال تاريخ الفقه الشِّيعيّ منذ القدم حتَّى الآن، وأفتى بها كبار الفقهاء. ومن المناسب هنا أن نورد كلماتهم على مرِّ العصور والدُّهور.
قال محمّد بن النُّعمان البغداديّ، المعروف بالشيخ المفيد (413 هـ)، أحد كبار فقهاء الشِّيعة بعد نقله القول المخالف الّذي ادّعى تعطيل إقامة الحدود في حالة استمرار غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف:
"فأمّا إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم أئمّة الهدى من آل محمّد عليهم السلام، ومن نصَّبوه لذلك من الأُمراء والحكّام، وقد فوّضوا النَّظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان…"2.
فالمرحوم الشيخ المفيد يرى أنّ إقامة الحدود من شأن الحاكم الإسلاميّ لا القاضي. وبناءً على ذلك، فتأكيده على أنّ هذا الأمر يُعدُّ من شؤون الفقيه الجامع للشرائط يفيد الولاية العامَّة للفقيه، ذلك لأنّ الحاكم هو من يسعه إقامة الحدود فقط. ويتَّفق هذا الكلام مع مضمون الرِّوايتين الآتيتين:
عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام، قلت: من يقيم الحدود؟ السلطان أو القاضي؟ فقال: "إقامة الحدود إلى من إليه الحكم"3.
1- مصباح الفقيه، 14: 291، كتاب الخمس.
2- المقنعة: 810، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- وسائل الشِّيعة، 18: 220.
163
147
الدرس السابع عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (1)
إنّ عليّاً عليه السلام قال: "لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلّا بإمام"1. 2
قال حمزة بن عبد العزيز الدَّيلميّ، الملقَّب بسلار (ت 448 أو 463هـ): "قد فوّضوا إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس على أن لا يتعدُّوا واجباً ولا يتجاوزوا حدّاً، وأمروا عامّة الشِّيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك"4.3
وفي ضوء هذه الفتوى، فإنّ إقامة الحدود وإجراء الأحكام الشرعيّة ـ الّتي هي شأن من شؤون الولاية السِّياسيَّة وأبعد من الولاية على القضاء ـ فُوّضت إلى فقهاء الشِّيعة، إذ إنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام أمروا النَّاس بمعاضدتهم في هذا الشأن.
ويعتقد الفقيه النَّحرير ابن إدريس الحلِّي (ت 598 هـ) بأنَّ للفقيه الجامع للشَّرائط إجراء الأحكام وإقامة الحدود. فهذه الولاية تُعدُّ من نوع الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ويتعيّن وجوبها على الفقيه العادل الجامع للشرائط، حتى لو نصِّب حاكماً من قبل السلطان الجائر، فهو منصّب في الواقع من الإمام المعصوم ووليّ الأمر. فإقامة الحدود ليست وظيفة الإمام المعصوم فحسب، بل هي وظيفة كلّ حاكم. إذاً، فهي تشمل نائب الإمام في مختلف البلدان5 أيضاً. ويرى ابن إدريس أنّ السيِّد المرتضى والشيخ الطُّوسيّ وكثيراً من العلماء هم على هذا الرأي:
"وعليه، (العالم الجامع للشَّرائط) متى عرض لذلك أن يتولاَّه (الحدود)، لكون هذه الولاية أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، تعيّن غرضهما بالتعريض للولاية عليه، وهو وإن كان في الظاهر من قبل المتغلِّب، فهو في الحقيقة نائب عن وليّ الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف في الحكم… فلا يحلّ له القعود عنه… وإخوانه في الدِّين مأمورون بالتحاكم وحمل حقوق الأموال إليه، والتمكُّن من أنفسهم لحدًّ أو تأديب تعيَّن
1- قد يقال إن لفظة امام لا ظهور لها بالفقيه.
2- مستدرك وسائل الشِّيعة، 3: 220.
3- المراسم النبوية: 261.
4- وقد يقال إن هذا ليس بولاية عامة بل هذا ظاهر في القضاء.
5- قد يقال إنّه لا ملازمة بين إقامة الحدود وثبوت الولاية العامة، أولاً: تكون الولاية العامة أعم. وثانياً: لاحتمال كون ذلك من باب النهي عن المنكر.
164
148
الدرس السابع عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (1)
عليهم…
"وما اخترناه، أوَّلاً، هو الّذي تقتضيه الأدلَّة، وهو اختيار السيِّد المرتضى في انتصاره، واختيار شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه وغيرهما من الجلّة المشيخة… الشائع المتواتر أنّ للحكام إقامة الحدود، في البلد الّذي كلّ واحد منهم نائب فيه من غير توقُّف في ذلك"1.
والمحقِّق الكركيّ، أحد كبار فقهاء القرن العاشر الهجريّ (ت 940هـ)، يؤكّد الولاية العامَّة للفقيه العادل، النائب عن الإمام المعصوم عليه السلام، ويصرّح بأنّ أعلام الطَّائفة مجمعون على ذلك، فيقول: "اتَّفق أصحابنا (رضوان الله عليهم) على أنّ الفقيه العادل، الإماميّ، الجامع لشرائط الفتوى، المعبَّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعيّة، نائب من قبل أئمّة الهدى (صلوات الله عليهم) في حال الغيبة في جميع ما للنِّيابة فيه مدخل…
والمقصود من هذا الحديث، هنا، هو أنّ الفقيه، الموصوف بالأوصاف المعيّنة، منصوب من قبل أئمَّتنا، نائب عنهم في جميع ما للنيابة فيه مدخل بمقتضى قوله عجل الله تعالى فرجه الشريف: "فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً" وهذه استنابة على وجه كلّيّ"2.
كما صرّح الشيخ حسن كاشف الغطاء (ت 1262 هـ)، ابن الشيخ جعفر كاشف الغطاء، في كتابه: "أنوار الفقاهة" (المخطوط والّذي لم يطبع حتَّى الآن) بالولاية العامَّة، وبعدم حصر هذه الولاية في القضاء، وقد نسب هذا الأمر للفقهاء، فقال: "ولاية الحاكم عامَّة لكلّ ما للإمام ولاية فيه، لقوله عجل الله تعالى فرجه الشريف: "حجَّتي عليكم"، وقوله عجل الله تعالى فرجه الشريف: "فاجعلوه حاكماً"، حيث فهم الفقهاء منه أنّه بمعنى الوليّ المتصرّف، لا مجرّد أنّه يحكم في القضاء".
وأحد أدلّة صاحب "أنوار الفقاهة" على عموم الولاية يتمثَّل في عدم وجود الفارق بين النائب الخاصّ والنائب العامّ في دائرة الولاية، أي لو نصّب المعصوم عليه السلام
1- السرائر 3: 538 ـ 539، 546.
2- رسائل المحقق الكركي، (رسالة صلاة الجمعة) 1: 142 و143.
165
149
الدرس السابع عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (1)
نائباً خاصّاً في أحد البلاد ـ مثلاً مالك الأشتر على مصر أو النوَّاب الأربعة في الغيبة الصغرى ـ فإنّ ولايته سوف لن تقتصر على القضاء وستشمل إقامة الحدود، وأخذ الأموال الشرعيّة1، ورفع الخصومات، وقيمومة الأُمور الحسبيَّة، وتأديب الأفراد المذنبين ومعاقبتهم، وغير ذلك، ما يعني أنَّ للنَّائب العام في الغيبة الكبرى نيابة المعصوم عليه السلام العامَّة أيضاً.
الخلاصة
1ـ أصل وجود الولاية للفقيه من مسلّمات فقه الطَّائفة، وإن كان هناك خلاف في سعة هذه الولاية.
2ـ ادّعى بعض كبار فقهاء الطَّائفة الإجماع على الولاية العامَّة للفقيه، بينما ذهب بعض المخالفين إلى أنّ هذا الموضوع مستحدث.
3ـ تأكيد بعض الفقهاء أنّ إقامة الحدود من شأن الفقيه العادل شاهد على الولاية العامَّة.
4ـ صرّحت بعض الرِّوايات بأنّ إقامة الحدود شأن الحاكم والسلطان لا القاضي.
5ـ صرّح بعض الفقهاء بعدم وجود الفارق، في دائرة الولاية، بين النائب العامّ (الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة) والنائب الخاصّ (مثل مالك الأشتر، ومحمّد بن أبي بكر).
1- هذه الملازمة جديرة بالبحث ويؤسًّس عليها، ولذا لا بدّ من توضيحها وذكر دليلها. هذه الملازمة تعني أن كلّ من نصّبه الإمام لمنصب فيه ولاية فولايته عامّة، أي بمعنى أن الولاية لا تتجزّأ.
166
150
الدرس السابع عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (1)
الأسئلة
1ـ ما هو محور الاختلاف في ولاية الفقيه ؟
2ـ أذكر ثلاثة من الفقهاء الّذين ادّعوا الإجماع على عموميَّة ولاية الفقيه.
3ـ ما دليل المحقِّق الكركيّ على ولاية الفقيه العامَّة؟
4ـ كيف تكون نظريَّة إقامة الفقيه العادل للحدود دليلاً على الولاية العامَّة؟
5ـ ما رأي صاحب كتاب: "أنوار الفقاهة" في باب الولاية؟
168
151
الدرس الثامن عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (2)
الدرس الثامن عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (2)
تفيد بعض كلمات فقهائنا بأنّ وظائف الحاكم وصلاحيَّاته تتعدَّى القضاء ورفع الخصومات. وسنذكر، أولاً، بعض النَّماذج، ثمّ نتناول بالبحث المقصود بالحاكم في هذه العبارات.
قال المحقِّق الحلِّيّ، في شأن من لا يدفع النفقة الواجبة: "إذا دافع بالنَّفقة الواجبة أجبره الحاكم، فإن امتنع حبسه…"1.
كما يرى المحقِّق الحلِّيّ أنّ للحاكم عزل الوصيّ عند الخيانة، فيقول: "ولو ظهر من الوصيّ عجز ضمّ إليه مساعد. وإن ظهر منه خيانة، وجب على الحاكم عزله ويقيم مقامه أميناً"2.
كما ذهب الشيخ المفيد إلى أنّ تعيين الوكيل على أموال السُّفهاء من وظائف الحاكم: "لحاكم المسلمين أن يوكل لسفهائهم من يطالب بحقوقهم ويحتجُّ عنهم ولهم"3.
ويذكر الشيخ المفيد "الحاكم" بعبارات أُخرى مثل "السلطان" و"الناظر"، فقال،
1- شرائع الإسلام، 2: 297 و298، كتاب النكاح.
2- المصدر نفسه، 2: 203، كتاب الوصيّة.
3- المقنَّعة: 816، كتاب الوكالة.
169
152
الدرس الثامن عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (2)
مثلاً، في مبحث الوصيّة: "فإن ظهر من الوصيّ خيانة كان للنَّاظر في أُمور المسلمين أن يعزله"1.
وقال، في شأن مفردة السُّلطان، وفي موضوع وظيفة الحاكم إزاء المحتكر: "وللسُّلطان أن يكره المحتكر على إخراج غلّته وبيعها في أسواق المسلمين"2.
ويعتقد المرحوم الرَّاونديّ، في بحث المتاجر، بأنّ للحاكم حقّ إجبار المحتكر على بيع سلعته: "فإذا ضاق الطَّعام، ولا يوجد إلّا عند من احتكره، كان للسلطان أن يجبره على بيعه"3.
وذهب المرحوم الشيخ حسن كاشف الغطاء، في باب القضاء، من كتاب: "أنوار الفقاهة"، إلى أنّ الحاكم الشَّرعيّ وكيل ونائب من جانب الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف في جميع الأنفال والأموال، وادّعى الإجماع على هذه الفتوى: "وكذا الحاكم الشرعيّ وكيل عن الصاحب عجل الله تعالى فرجه الشريف في ما يعود إليه من أنفاله وأمواله، وقبضه، لمكان الضرورة والإجماع وظواهر أخبار النيابة والولاية"4.
وعلى الرُّغم من أنَّ هذه الأقوال تمثِّل جانباً بسيطاً من فتاوى بعض فقهاء الطائفة وآرائهم في شؤون الحاكم ووظائفه، فإنّها تفيد بأنّ صلاحيات السلطان والحاكم أكثر بكثير من قضاء القاضي في رفع الخصومات وفي اختلاف طرفي النِّزاع. فالحاكم يحبس ويقيم الحدود ويتصدّى لإدارة شؤون السفهاء والقاصرين، وهو "وليُّ من لا وليَّ له". ومن هنا، فهو يتولَّى الأوقاف العامَّة الفاقدة للوليّ، كما أنّ قبضه هو قبض المعصوم عليه السلام. وكذلك، فإنّ الأموال الّتي يكون التصرّف فيها من شأن الإمام المعصوم عليه السلام، في حال حضوره، يكون التصرّف فيها من شأنه في غيبة المعصوم عليه السلام.
1- المصدر نفسه: 669، كتاب الوصيّة.
2- المصدر نفسه: 616.
3- فقه القرآن 2: 52.
4- قد يقال إنّ هذا ليس إجماعاً على الولاية العامّة والظاهر إنه إجماع على الأموال.
170
153
الدرس الثامن عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (2)
وهنا لا بدَّ من أن نعرف المقصود بالحاكم والسُّلطان والنَّاظر لأُمور المسلمين.
للوهلة الأُولى، نقول: إنّ هذه الصِّفات هي صفات خلفاء الله، أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، وفي المرتبة الثانية صفات نوّابهم الخاصين، وفي عصر الغيبة صفات النُّوَّاب العامِّين لإمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهم الفقهاء العدول الجامعون للشرائط المنصّبون لهذا المقام. وهذا ما صرّح به كبار الأصحاب في كلماتهم.
فقد قال الشيخ المفيد، في توضيح المراد من الحاكم والسلطان: "فأمّا (أمر) إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام، المنصوب من قبل الله تعالى، وهم أئمّة الهدى من آل محمّد عليهم السلام، أو من نصَّبوه لذلك من الأُمراء والحكَّام، وقد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان"1.
وهذا ما يقوله فخر المحقِّقين، فقد عرّف الحاكم بهذا التعريف، ونسبه إلى أبيه العلاَّمة الحلِّيّ وإلى ابن إدريس، فقال: "المراد بالحاكم، هنا، السلطان العادل الأصليّ أو نائبه، فإن تعذَّر فالفقيه الجامع لشرائط الفتوى، فقوله: (فإن لم يكن حاكم)، المراد به فَقْد هؤلاء الثلاثة، وهو اختيار والدي المصنِّف وابن إدريس... "2.
كما أكّد المحقِّق الكركيّ هذا التفسير للحاكم، فقال: "والمراد به (الحاكمٍ) الإمام المعصوم أو نائبه الخاصّ، وفي زمان الغيبة النائب العامّ، وهو المستجمع لشرائط الفتوى والحكم... ولا يخفى أنّ الحاكم، حيث أُطلق، لا يراد به إلّا الفقيه الجامع للشرائط"3.
ولا بدَّ، هنا، من الإشارة إلى بعض الأُمور:
1 ـ سعينا، في الدَّرسين الأخيرين، إلى الاستشهاد بأقوال الفقهاء السابقين، في شأن الفتوى في ولاية الفقيه والتَّركيز عليها، لأنّ الهدف الأصليّ هو بيان أنّ الاعتقاد بولاية الفقيه، في كلمات الأصحاب، له جذور وثيقة وعريقة وليس من المسائل المستحدثة.
1- المقنَّعة: 810.
2- إيضاح الفوائد 4: 624، كتاب الوصايا.
3- جامع المقاصد 11: 266 و267، كتاب الوصايا.
171
154
الدرس الثامن عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (2)
فلا شبهة ولا شكَّ في أنّ مسألة ولاية الفقيه وردت بطرائق أكثر إيضاحاً في كلمات الفقهاء المتأخِّرين والمعاصرين، ومن جملة كبار الفقهاء المعاصرين الّذين تبنّوا الولاية العامَّة للفقيه نذكر: المرحوم آية الله البروجردي، وآية الله الكلبايكاني، ومؤسِّس الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة الإمام الخمينيّ (قدّس الله أسرارهم)1.
2 - خلافاً لما هو عليه فقه أهل السنَّة، من أبحاث مستقلَّة في باب الفقه السِّياسيّ، تحت عنوان: "الأحكام السلطانيَّة"، وخوضهم بإسهاب في شأن فقه الحكومة وما تنطوي عليه من تفاصيل وفروع مرتبطة بهذا الفقه، فإنّ الفقه السِّياسيّ الشِّيعيّ لا يتَّصف بهذه السِّعة والشموليَّة، ويعزى سرّ ذلك إلى الأوضاع الخاصّة الاجتماعيَّة ـ السياسيَّة للشِّيعة.
فقد واجه الشِّيعة مختلف الضغوط السِّياسيَّة المعادية لهم، والّتي تعرّضوا لها بسبب معارضتهم للحكومات الجائرة، ما أدّى إلى فقدهم المجال المناسب للقيام بالأبحاث المستقلَّة والواسعة على مستوى الفقه السِّياسي. ولذلك، لم يخض الفقهاء السابقون، بصورة مستقلة ومباشرة، في باب الحاكم، وسعة صلاحيات وليّ الأمر وشمولها، وسائر المباحث ذات الصِّلة بالفقه السِّياسي. وكما مرَّ، في ثنايا عرض هذه المسيرة التاريخيَّة الموجزة، فإنّ هذه المباحث طرحت بصورة متفرِّقة ضمن أبواب الحدود والدِّيات والقضاء والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والنكاح والوصيّة والمزارعة وأمثال ذلك. بل، حتّى الفقهاء الّذين تبنّوا صراحة الولاية العامَّة للفقيه، كالمحقِّق الكركي وصاحب الجواهر، لم يطرحوا ذلك في أبحاثٍ مستقلَّة، ولم يتعرّضوا، بصورة تفصيليَّة، لمختلف جوانب هذه الولاية العامَّة وفروعها.
ويعود البحث المستقلّ، في شأن ولاية الفقيه، إلى القرنين الأخيرين، فللمرَّة الأُولى، في هذا المجال، أفرد المرحوم الملاّ أحمد النراقي (ت 1245هـ)، في كتابه: "عوائد
1- وردت آراء هؤلاء الفقهاء في المصادر الآتية:
البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر، تقريرات دروس آية الله البروجردي. الهداية إلى من له الولاية، تقريرات دروس آية الله السيد محمّد رضا الكلپايكاني. كتاب البيع للإمام الخميني، الجزء الثاني، ولاية الفقيه للإمام الخميني.
172
155
الدرس الثامن عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (2)
الأيام" صفحات خاصّة، تعرَّض فيها للبحث في ولاية الفقيه وأدلّتها.
وهذا ينتهي بنا إلى حقيقة مفادها أنّ التطرُّق المحدود لشؤون الفقيه العادل والتأكيد على المسائل الخاصّة، من قبيل: إقامة الحدود، والولاية على الأُمور الحسبيَّة، والنيابة في الأُمور الماليَّة المتعلِّقة بالمعصومين، كالأنفال والخمس وسهم الإمام عليه السلام، لا يعني عدم الاعتقاد بولاية الفقيه العامَّة، لأنّ المدافعين الأشدّاء عن الولاية العامَّة ذكروا بعض الموارد المحدودة على هامش فتاواهم بوصفها شؤون الحاكم. إذاً، فذكر الموارد المحدودة لا يعني مخالفة الولاية العامَّة للفقيه أو عدم الموافقة عليها، إلّا إذا صرَّح الفقيه بمحدوديَّة ولاية الفقيه وعدم عموميّتها.
3 ـ طوى الفقه السِّياسيّ مسيرته التكامليَّة على غرار الفقه، وأُسوة بسائر العلوم والمعارف الّتي تطوَّرت وتكاملت بمرور الزمان.
إنّ فقه المعاملات، كما هو عليه، في كتب القدماء، لا يقارن بما هو عليه لدى المتأخِّرين. فـ"مكاسب" الشيخ الأنصاريّ رحمه الله لا يمكن مقارنتها، من حيث العمق، بأبحاث العلاَّمة والمحقِّق الحلِّيّ والشهيدين (رحمة الله عليهم أجمعين) في باب المتاجر، كما تتعذَّر المقارنة بين مباحث الأُصوليين المتأخِّرين، في باب الأُصول العمليَّة والدليل العقليّ، من حيث التبحُّر العلميّ ووضوح المباني والمسائل ومباحث قدماء الأصحاب في هذا الخصوص. وبناءً على ذلك، فمن الطَّبيعيّ أن تكون مباحث فقه الحكومة، في العصور المتأخّرة للشِّيعة، أكثر غنىً مما كانت عليه في السَّابق. وعلى هذا الأساس، لا يمكن اعتبار هذا الغنى وتلك السِّعة شاهداً على حداثة أصل هذه المباحث.
4 ـ إنّ إنكار الولاية العامَّة للفقيه لا يعني التنكُّر لتصدّي الفقيه للأُمور الاجتماعيَّة، ولا بدَّ من الالتفات إلى المقدِّمات الآتية لتوضيح هذا المطلب:
أوَّلاً: أيّ فقيه لا ينكر أصل ولاية الفقيه. فالولاية للفقيه من مسلّمات فقه الإماميَّة، ومحلُّ النِّزاع إنّما هو في سعة هذه الولاية وحدودها.
173
156
الدرس الثامن عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (2)
ثانياً: إنكار الولاية، في بعض الشؤون، يعني أنّ الأدلَّة الشَّرعيَّة لم تنصّب الفقيه بالولاية في هذه الشؤون. مثلاً، المنكرون لولاية الفقيه السِّياسيَّة يعتقدون بأنَّ الأدلَّة الروائيَّة لم تجعل للفقيه الولاية في الأمر والنَّهي أو الولاية في الحكم.
ثالثاً: ربما لم ينصّب فقيه على عمل هو من باب الولاية، إلّا أنّ التصدّي لذلك العمل من شأن الفقيه. فمثلاً يمكن الاستدلال بفتوى بعض فقهاء الشِّيعة على أنّ تصدّي الفقيه العادل للأُمور المرتبطة بالمحجور عليهم ليس من باب النَّصب بالولاية، بل كونهم يعدُّون تصرّفه، ولو من باب "القدر المتيقّن" من جواز التصرّف، أولى من تصرّف الآخرين1.
وقد لا يعتقد فقيه، في باب ولاية الفقيه السِّياسيَّة ـ الولاية في الحكم والأمر والنَّهي ـ بنظريَّة الولاية التنصيبيَّة للفقيه، لكنّه يرى جواز ـ بل وجوب ـ تصدّي الفقيه العادل في قضيَّة الحكومة وإدارة البلاد الإسلاميَّة من باب الحسبة.
قال آية الله ميرزا جواد التبريزي رحمه الله في هذا الصَّدد: "هناك مبنيان في ولاية الفقيه: المبنى الأوّل، مبنى الإمام الخمينيّ الّذي يثبت للفقيه، من خلال التمسّك بالأدلَّة القرآنيَّة والروائيَّة، ولاية الأمر والنهي، أي الحكومة وإدارة البلاد.
والمبنى الآخر، الحسبة الّتي قال بها بعض الفقهاء، ومنهم المحقِّق الخوئيّ... وطبق هذا المبنى، فإنّ الأدلَّة العقليَّة والنقليَّة لـ"ولاية الفقيه المطلقة" ليست تامّة، لكن هناك بعض الأُمور في المجتمع الّتي لا يرضى الشارع بتركها. ولا شكَّ في أنّ الشخص الوحيد الّذي يتصدّى لهذه الأُمور هو الفقيه. فقيمومة الأيتام والصِّغار، وحفظ ثغور المسلمين من جملة الأُمور الحسبيَّة، ولعلّه2 يمكن القول: أهمّ هذه الأُمور حفظ نظام المجتمع الإسلاميّ. وعلى هذا الأساس، من الضروريّ إعداد الجيش للدِّفاع عن أموال وأعراض المؤمنين وأرواحهم، وإيجاد الأجهزة اللاَّزمة لإدارة شؤونه"3.
1- آية الله السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره أحد هؤلاء الفقهاء. راجع: التنقيح في شرح العروة الوثقى، تقرير أبحاث المحقق الخوئي، بقلم الميرزا عليّ الغروي التبريزي، باب الاجتهاد والتقليد: 49 و50.
2- هذه الشمولية مردها إلى الفارق بين الولاية المطلقة والولاية العامّة.
3- فكرة الحكومة، نشر مؤتمر الإمام الخميني وأُطروحة الحكومة السِّياسيَّة، العدد الثاني، 2000 م
174
157
الدرس الثامن عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (2)
الخلاصة
1ـ عدَّ فقهاء الطَّائفة، في كتبهم الفقهيَّة، الكثير من وظائف الحاكم، وعبّروا عنه بـ"السلطان" و"الناظر".
2ـ صلاحيَّات الحاكم، في كلمات الأصحاب، أعمق بكثير من صلاحيَّات القاضي ووظائفه.
3ـ ذهب الشيخ المفيد إلى أنّ المراد بالسُّلطان والحاكم، بالدرجة الأُولى، المعصوم عليه السلام، وفي عصر الغيبة الفقيه العادل، وهذا ما قال به فخر المحقِّقين ونسبه إلى العلاّمة الحلِّيّ وابن إدريس.
4ـ بحث ولاية الفقيه من الأبحاث المتجذِّرة في تاريخنا الفقهيّ، مع أنّه طُرح في العصور المتأخِّرة بوضوح وتفصيل أكثر من السابق.
5ـ انطلق البحث المستقلّ، في باب ولاية الفقيه، من قبل المحقق النراقي في كتاب "عوائد الأيام"، ولم يرد قبله من بحث مستقلّ حتى من قبل المدافعين الأشدَّاء عن الولاية العامَّة.
6ـ ليس من المستغرب التكامل التدريجيّ للأبحاث المتعلقة بولاية الفقيه، فقد تكاملت وتطوّرت أغلب المباحث الفقهيَّة والأصوليَّة بمرور الزمان.
7ـ إنكار الولاية التَّنصيبيَّة للفقيه لا يلازم إنكار جواز تصدّي الفقيه لأمور المسلمين العامَّة والاجتماعيَّة.
175
158
الدرس الثامن عشر: المسيرة التَّاريخيَّة لولاية الفقيه (2)
الأسئلة
1ـ ما الفارق بين التعبير بالحاكم والقاضي في كلمات الأصحاب؟
2ـ ما هو تعريف الشيخ المفيد للحاكم أو السُّلطان؟
3ـ متى طرح مبحث ولاية الفقيه بصورة مستقلّة في الكُتب الفقهيَّة؟
4ـ كيف لا يقدح في اعتبار ولاية الفقيه عدم طرحها بصورة مستقلة وإغناء جميع جوانبها في كلمات القدماء؟
5ـ لم لا يؤثر إنكار الولاية التنصيبيَّة للفقيه على تصدّيه للأمور الاجتماعيَّة؟
176
159
الدرس التاسع عشر: ولاية الفقيه مسألة كلاميَّة أم فقهيَّة؟
الدرس التاسع عشر: ولاية الفقيه مسألة كلاميَّة أم فقهيَّة؟
مرَّ بنا، في الفصل الثاني، أنّ الإمامة تعدُّ، لدى أهل السنَّة، مسألة فقهيَّة، ولدى الشِّيعة مسألة كلاميَّة. وإن سرت مسألة الولاية والإمامة إلى كتب أهل السنَّة الكلاميَّة، فليس بسبب طبيعة هذه المسألة، بل بسبب اهتمام الشِّيعة بها وطرحها في مجموعة الأبحاث الكلاميَّة.
والمحور الأساس لهذا الدرس هو دراسة القضيَّة المتمثِّلة في السؤال الآتي: هل أنّ ولاية الفقيه مسألة كلاميَّة، مثل ولاية المعصومين عليهم السلام وإمامتهم، أو أنّها فرع من الفروع ولا علاقة لها بالأبحاث الكلاميَّة والعقديَّة؟
وقبل إصدار الحكم، في هذا الشأن، لا بدَّ من تسليط الضوء على تعريف المسألة الكلاميَّة واختلافها عن المسألة الفقهيَّة. كما لا بدَّ من التعرّف إلى معيار كلاميَّة المسألة وفقهيَّتها، لتّتضح ثمرة عدِّ ولاية الفقيه كلاميَّة أو فقهيَّة.
معيار كلاميَّة المسألة أو فقهيَّتها
قد يتبادر إلى الذِّهن، للوهلة الأُولى، أنّ معيار كون المسألة كلاميَّة، هو إثباتها بالدَّليل العقلي، بينما تثبت المسألة الفقهيَّة بالدَّليل النَّقلي، ومن هنا لا بدَّ من اعتبار علم الكلام في زمرة العلوم العقليَّة، وعلم الفقه في زمرة العلوم النَّقليَّة.
177
160
الدرس التاسع عشر: ولاية الفقيه مسألة كلاميَّة أم فقهيَّة؟
هذا المعيار باطل تماماً، لأنّ للدَّليل العقليّ دوره في علم الفقه، كما تتّضح بعض المباحث الكلاميَّة بمعونة الأدلَّة النقليَّة. فالدَّليل العقلي يستمدّ الاستنباط الفقهيّ، في علم الفقه، بنحوين:
أ ـ المستقلاَّت العقليَّة: نظير وجوب طاعة الله، وهذه مسألة فقهيَّة ودليلها حكم العقل، والعقل مستقلٌّ في حكمه، حيث يصدر هذا الحكم من دون تدخّل أيّ دليل نقلي.
ب ـ غير المستقلاَّت، أو الملازمات، العقليَّة: والمراد بغير المستقلاَّت العقليَّة، تلك الطائفة من القضايا العقليَّة الّتي تصدر على أساس إدراك الملازمة بين حكم شرعيّ مع حكم شرعيّ آخر. فالعقل، بعد أن يقف على حكم شرعيّ، يرى ملازمة بين ذلك الحكم وحكم آخر، فيقف على هذا الأساس من حكم شرعي على حكم آخر. ويساعد الفقيه، في استنباط ذلك الحكم الشَّرعي، عنصر الملازمة.
وبناءً على ذلك، فلا يمكن الزَّعم بأنّ علم الفقه هو العلم الّذي تثبت مسائله عن طريق الأدلَّة النقليَّة من دون الاستمداد من الدليل العقليّ. كما لا يمكن الادّعاء بأنّ علم الكلام لا يستفيد من الدليل النقليّ لأنَّ جميع مسائله تثبت من طريق الدَّليل العقليّ. فبعض المباحث الكلاميَّة، المرتبطة بالمبدأ والمعاد، إنّما تستمدّ من الأدلَّة النقليَّة: القرآن والرِّوايات.
والمَعَاد بحث كلاميّ، لكن لا يمكن التعرُّف إلى بعض تفاصيله بمجرّد الدَّليل العقليّ، ولا بدَّ من الاستفادة من الأدلَّة النقليَّة.
الواقع أنّ علم الفقه يبحث في أفعال المكلَّفين، ويناقش أحكام أعمالهم. ما يعني أنّه يجيب عن أسئلة منها: ما هي الأفعال الواجبة، وما هي المحرَّمة؟ وأي الأعمال جائز، وأيّها غير جائز؟ أمّا علم الكلام فيبحث في أحوال المبدأ والمعاد، ولا علاقة له بأفعال المكلّفين، كما أنَّه لا يبحث في واجبات السُّلوك البشريّ ومحرَّماته. والأفعال
178
161
الدرس التاسع عشر: ولاية الفقيه مسألة كلاميَّة أم فقهيَّة؟
الّتي تُبحث، في علم الكلام، هي أفعال الله تعالى. على سبيل المثال: يُبحث في علم الكلام: هل بعثُ الرُّسل واجب على الله؟ هل يصدر عن الله قبيح؟ هل يجب على الله إثابة المحسنين؟1.
إنّ بحث ضرورة بعث الأنبياء ووجوب إرسال الرُّسل بحث كلاميّ، لأنّه بحث عقديّ يتعلَّق بالمبدأ تعالى وفعله. أمّا البحث في وجوب طاعة الأنبياء وضرورة تلبية دعوتهم فهو بحث فقهيّ، لأنّه حكم في باب عمل المكلّفين، وموضوعه فعل الإنسان وما يجب أو لا يجب أن يتعلَّق به.
واستناداً إلى هذا المعيار نعود إلى بحث ولاية الفقيه، فنقول: لا شكَّ في أنّ لهذا البحث جوانب فقهيَّة، فهناك بعض الجوانب، في هذه المسألة، مرتبط بعمل المكلّفين، والحكم الشَّرعيّ لتلك الأفعال إنّما يُبحث في الفقه. على سبيل المثال: المسائل الآتية مسائل فقهيَّة متعلِّقة بولاية الفقيه:
هل يجوز تصدّي الفقيه للشؤون الاجتماعيَّة والأُمور العامَّة للمسلمين أو لا؟ هل يجب على المسلمين طاعة أوامر الفقيه ونواهيه في الأُمور الاجتماعيَّة والسياسيَّة؟ هل تجب عليهم مساعدة الفقيه العادل في ممارسة الولاية على أُمور المسلمين العامَّة؟ هل يجوز للمسلمين أن يسلّطوا على أُمورهم غير الفقيه العادل؟ هل تجب طاعة أحكام الوليّ الفقيه من قبل سائر الفقهاء؟
وبناءً على ذلك، فولاية الفقيه تشتمل، بما لا يقبل الشَّك، على بعد فقهيّ، ومن هنا لا بدَّ من أن تطرح في علم الفقه. والمهمّ أن نرى ما إذا كان لهذه المسألة بعد كلاميّ أيضاً.
1- لا بدَّ من الالتفات إلى أنّ الوجوب الّذي يطلق على أفعال الله ليس من نوع الوجوب التكليفي، بل بمعنى الضَّرورة، أي أنّ الله سيقوم بهذا الفعل بالضَّرورة، وإلّا فلا واجب على الله، وكلّ الضَّرورات تستند إليه. بعبارة أُخرى: الوجوب المطروح في الكلام هو "وجوب عن الله" لا "وجوب على الله".
179
162
الدرس التاسع عشر: ولاية الفقيه مسألة كلاميَّة أم فقهيَّة؟
البعد الكلاميّ لولاية الفقيه
تداخل البعد الكلاميّ لولاية الفقيه بمسألة الإمامة، فإن طرحت هذه الولاية من الزاوية نفسها الّتي ينظر بها إلى مسألة الإمامة، سيتّضح بجلاء بعدها الكلاميّ، فتعدّ مثل مسألة الإمامة بحثاً كلاميَّاً.
والسُّؤال الّذي يطرح هنا هو: لماذا تعدُّ الشِّيعة مبحث الإمامة مسألة كلاميَّة؟
الجواب هو أنّ الشِّيعة لا تنظر إليها نظرة فقهيَّة، ولا تتعامل معها من حيث تشخيص فعل المكلّفين. فالشِّيعة لا تطرح الإمامة في إطار هذه الأسئلة: هل يجب على المسلمين تعيين الإمام والحاكم؟ وهل تجب طاعة الإمام؟ وهل يجب على المسلمين تشكيل الحكومة وانتخاب زعيم لهم بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ؟
إنّ التَّعامل مع مسألة الإمامة بهذا الشَّكل ـ وهذه نظرة أهل السنَّة ـ جعلها مسألة فقهيَّة، ذلك لأنّ الحديث هو عن عمل المسلمين وتعيين حُكْمه. أمّا إن نظرنا إليها من حيث "فعل الله"، وجعلنا مسألة الإمامة كمسألة النبوَّة وبعث الرُّسل، ضمن دائرة أفعال الله، وتساءلنا: هل نصب الله بعض الأفراد بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لهداية الأُمّة؟ هل يجب على الله نصب الإمام؟ فإنّ المسألة تصبح كلاميَّة، ذلك لأنّه حسب المعيار الّذي سبق، ستكون بحثاً عن المبدأ والمعاد ـ ومن ذلك البحث عن أفعال الله ـ وهذه مباحث كلاميَّة.
فإن نظرنا إلى مسألة ولاية الفقيه بوصفها امتداداً لولاية المعصومين عليهم السلام، وبحثنا نصب الفقيه العادل للولاية على غرار نصب الإمام المعصوم عليه السلام للولاية والإمامة من زاوية فعل الله، فسيكون البحث كلامياً.
قال آية الله جوادي آملي في توضيح هذاالمطلب: "البحث الكلاميّ، بشأن ولاية الفقيه، هو أنّ الله عالم بجميع ذرَّات العالم ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾1، فهو يعلم أنّ للمعصومين من أوليائه حضوراً وظهوراً خلال مدَّة معيّنة، وسيغيب خاتم أوليائه
1- سورة سبأ: 3.
180
163
الدرس التاسع عشر: ولاية الفقيه مسألة كلاميَّة أم فقهيَّة؟
مدّة مديدة، فهل أمر بشيء زمان الغيبة، أم ترك الأُمّة لحالها؟ وإن أمر بشيء، فهل ذلك الأمر نصب الفقيه الجامع شرائط الولاية وضرورة رجوع الناس إلى هذا الوليّ أم لا؟
إنّ موضوع هكذا مسألة هو "فعل الله"، وبناءً عليه فالبرهان الّذي يثبت ولاية الفقيه مرتبط بعلم الكلام"1.
الإمام الخمينيّ قدس سره هو آخر الفقهاء الّذين تعاملوا مع ولاية الفقيه من النَّاحية الكلاميَّة. والإمام يؤكّد أنّ الأدلَّة نفسها الّتي تقتضي نصب الإمام المعصوم عليه السلام، ويُستشهد بها في باب الإمامة، تقتضي نصب الوليّ وتشكيل الحكومة في عصر الغيبة: "حفظ النظام من الواجبات الأكيدة، واختلال أُمور المسلمين من الأُمور المبغوضة، ولا يقوم ذا ولا يُسدّ عن هذا إلّا بوالٍ وحكومة. مضافاً إلى أنّ حفظ ثغور المسلمين عن التهاجم، وبلادهم من غلبة المعتدين واجب عقلاً وشرعاً، ولا يمكن ذلك إلّا بتشكيل الحكومة. وكلّ ذلك من أوضح ما يحتاج إليه المسلمون، ولا يعقل ترك ذلك من الحكيم الصَّانع. فما هو دليل الإمامة، بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة وليّ الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف... فهل يعقل من حكمة الباري الحكيم إهمال الملَّة الإسلاميَّة وعدم تعيين تكليف لهم؟ أو رضى الحكيم بالهرج والمرج واختلال النظام؟"2.
لقد اتّضح، مما تقدَّم، أنّ ولاية الفقيه ومبحث الحكومة، في عصر الغيبة، هو مبحث فقهيّ وكلاميّ. والتعامل معه، من خلال الكلام، لا يحول دون النَّظر في جوانبه الفقهيَّة، فعندما يجرى الحديث عن ضرورة رأي الشارع، في باب الحكومة في عصر الغيبة، تصبح المسألة كلاميَّة. وإن بحثنا في تفاصيل شرائط والي المسلمين ووظائفه، ووظيفة الأُمّة تجاهه، نكون قد بحثنا في مسألة فقهيَّة. وكما تثبت ضرورة نصب الإمام في الأدلَّة العقليَّة للإمامة، فإنّ تعيين مصاديقها يتم بوساطة الأدلَّة النقليَّة، مثل واقعة
1- ولاية الفقيه: 143.
2- البيع، الإمام الخميني: 461 و462.
181
164
الدرس التاسع عشر: ولاية الفقيه مسألة كلاميَّة أم فقهيَّة؟
الغدير، كذلك تثبت ضرورة تنصيب الوالي من جانب الشرع في الأدلَّة العقليَّة لولاية الفقيه، فإنّ الأدلَّة الروائيَّة لولاية الفقيه تدلّ على أنّ مصداق هذا النَّصب في عصر الغيبة هو الفقيه العادل.
ونقول في الختام: إنّ المباحث الكلاميَّة لا تتَّصف بالدرجة نفسها من الأهمِّيَّة، فبعض المباحث الكلاميَّة جزء من مباحث أُصول الدِّين، مثل مبحث النبوّة والمعاد، أمّا مبحث الإمامة فهو بحث من أُصول المذهب. والمعاد من أُصول الدِّين. وجزئيَّات تلك المسألة وتفصيلاتها، رغم كونها كلاميَّة، ليست بأهمِّيَّة أصل المعاد. وبناءً على ذلك، فولاية الفقيه والحكومة في عصر الغيبة، رغم كونها مسألة كلاميَّة، هي أقلُّ مرتبة من مسألة الإمامة. ومن هنا، فهي ليست من أُصول المذهب.
182
165
الدرس التاسع عشر: ولاية الفقيه مسألة كلاميَّة أم فقهيَّة؟
الخلاصة
1ـ لا بدَّ من إيضاح ما إذا كانت ولاية الفقيه مسألة فقهيَّة أم كلاميَّة.
2ـ اعتقد بعضهم خطأ أنّ معيار كلاميَّة مسألة ما، هو إمكانيَّة إقامة الدليل العقلي عليها.
3ـ معيار فقهيَّة مسألة ما هو ارتباطها بفعل المكلّفين.
4ـ المسائل الكلاميَّة تبحث في المبدأ والمعاد. وبناءً على ذلك، إن كان البحث في أفعال الله فالمسألة كلاميَّة، وإن كان في فعل المكلّف فالبحث يُعدُّ فقهياً.
5ـ لولاية الفقيه بعدان: كلاميّ، وفقهيّ. ويمكن دراستها من خلالهما.
6ـ إنّ تعامل شخص مع ولاية الفقيه على أساس: هل يجب على الله نصب الفقيه في عصر الغيبة، كنصب الإمام المعصوم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، هو البعد الكلاميّ لولاية الفقيه.
7ـ تناول الإمام الخمينيّ البعد الكلاميّ لولاية الفقيه، وذهب إلى أنّ الأدلَّة العقليَّة، في باب إمامة الأئمّة، تدلّ على ضرورة الولاية والحكومة في عصر الغيبة.
8ـ ليست جميع الأبحاث الكلاميَّة على الدرجة نفسها من الأهميَّة. وبناءً عليه، فأهميَّة ولاية الفقيه تقع دون أهميَّة الإمامة والنبوّة.
183
166
الدرس التاسع عشر: ولاية الفقيه مسألة كلاميَّة أم فقهيَّة؟
الأسئلة
1ـ ما هو معيار كون المسألة فقهيَّة؟
2ـ ما هو معيار كون المسألة كلاميَّة؟
3ـ ما هو خطأ من اعتقد بأنّ كلاميَّة مسألة ما، يُعَدُّ من خلال إمكان إقامة الدليل العقليّ عليها؟
4ـ لماذا كان لولاية الفقيه بعدان: كلاميّ وفقهيّ؟
5ـ ما معنى النظرة الكلاميَّة إلى مسألة ولاية الفقيه على وجه الدقة؟
6ـ ما هي نظريَّة الإمام الخمينيّ في مسألة ولاية الفقيه؟
184
167
الدرس العشرون: أدلَّة إثبات ولاية الفقيه (1)
الدرس العشرون: أدلَّة إثبات ولاية الفقيه (1)
مرَّ بنا أنّ موضوع النِّزاع، في بحث ولاية الفقيه، يتمثَّل في إثبات الولاية في الأُمور العامَّة للفقيه العادل، لأنّ الفقهاء متَّفقون على ثبوت الولاية في بعض الأُمور كالقضاء وأُمور المحجور عليهم، ولا نزاع بينهم في ذلك. وبناءً على ذلك، فالموضوع الّذي دار في شأنه النِّزاع هو الولاية العامَّة للفقيه.
فالولاية منصب، وثبوته للأفراد يتطلّب إثباتاً شرعياً، ذلك لأنّه من حيث المبدأ لا ولاية لأحد على آخر، ويُعبّر عن هذا بأصل عدم الولاية. فالأصل الابتدائيّ يتمثَّل في أنّ لا ولاية لفرد على غيره إلّا أن يقوم الدَّليل الشرعيّ المعتبر على إثبات ولايته. والدَّليل الشرعيّ المعتبر على قسمين: نقليّ، وعقليّ.
الدَّليل النَّقليّ يشمل الآيات والرِّوايات المعتبرة الصَّادرة عن المعصومين عليهم السلام، والدَّليل العقليّ يتأتَّى من مقدِّمات صحيحة ومعتبرة، ومن هنا يمكنها أن تكون كاشفة عن الحكم الشرعيّ1، وعلى هذا الأساس، يُعدُّ الدَّليل العقليّ دليلاً شرعياً معتبراً، لأنّه كاشف عن رأي الشَّرع.
وقد ثبتت ولاية الفقيه العادل بالدَّليل الشرعيّ المعتبر في أُمور، من قبيل القضاء،
1- هذا بناء على ثبوت كبرى الملازمة.
185
168
الدرس العشرون: أدلَّة إثبات ولاية الفقيه (1)
وإدارة شؤون المحجور عليهم، أي الأُمور الحسبيَّة. والقضيَّة موضوع البحث هي: هل ولاية الفقيه السِّياسيَّة ـ أي الولاية في الأمر والنَّهي وإدارة شؤون المسلمين الاجتماعيَّة ـ ثابتة للفقيه العادل؟
أمامنا ثلاث طرق لإثبات هذه الولاية:
الأُولى: وهي الطريقة المشهورة والمتداولة، وتتمثَّل في التمسّك بروايات المعصومين عليهم السلام.
الثَّانية: وتتمثَّل في إقامة الدَّليل العقليّ. كما تمسّك بذلك أعلام الطَّائفة في بحث الإمامة.
الثالثة: وتتمثَّل في إثبات الولاية من طريق الحسبة، فولاية الفقيه، في الأُمور الحسبيَّة، مورد قبول فقهاء الشِّيعة. فهل يمكن إثبات الولاية للفقيه العادل في الأمر والنهي والحكومة من باب الحسبة؟
سنقوم، الآن، بتسليط الضَّوء على هذا الموضوع قبل تناول الأدلَّة الرِّوائيَّة والعقليَّة.
إثبات ولاية الفقيه العامَّة من باب الحسبة
أشرنا، سابقاً، إلى أنّ المراد من الأُمور الحسبيَّة تلك الّتي يطالب الشَّارع المقدّس بتحقيقها، ولا يرضى بتركها وإهمالها تحت أيّة ظروف. وهناك رأيان في شأن من يتصدّى للأُمور الحسبيَّة: فغالبيَّة الشِّيعة تقول: إنّ للفقيه الجامع للشرائط ولاية على هذه الأُمور، والتصدّي للأُمور الحسبيَّة هو أحد مناصب الفقيه العادل، إلى جانب سائر المناصب كالولاية على القضاء.
وفئة قليلة من فقهاء الشِّيعة ترى أن ليس للفقيه العادل الحقُّ في تولِّي هذا المنصب، وتنكر الولاية الشَّرعيَّة له في الأُمور الحسبيَّة. وإنكار منصب الولاية لا يعني إنكار أولويَّة تصدّي الفقيه العادل لهذه الأُمور وتصرُّفه فيها، لأنّها تعتقد بأنّ التصرّف في هذه الأُمور ثابت لهذا الفقيه من باب القدر المتيقِّن. وبوجود الفقيه العادل واستعداده
186
169
الدرس العشرون: أدلَّة إثبات ولاية الفقيه (1)
للتصدّي للأُمور الحسبيِّة، ليس للآخرين حقّ التصرّف، لأنّ جواز تصرّف المؤمنين العدول وتصدِّيهم محل شكٍّ وشبهة. والواقع أنّ تصدّي الفقيه العادل وتصرُّفه أمر قطعيّ ويقينيّ بلا إشكال1، إذاً للمؤمنين العدول التصدّي للأُمور الحسبيَّة في حالة عدم إمكانيَّة الوصول إلى الفقيه العادل، أو عدم قدرته على التصدّي.
فعادة ما يذكر الفقهاء أُموراً من قبيل: القيمومة على الصَّغير والمجنون والسَّفيه الفاقد للأب والجدّ، بوصفها نماذج من الأُمور الحسبيَّة، في حين أنّ بعض الفقهاء يعتقدون بتوسيع دائرة هذه الأُمور، ويرون أنّنا لو تأمّلنا بدقَّة تعريفها، لوجدناها تشمل الأُمور المرتبطة بحفظ نظام المسلمين، والدِّفاع عن ثغورهم وصيانتها أيضاً. وفي هذه الحالة، يمكن اعتبار تصدّي الفقيه العادل للأُمور الاجتماعيَّة والسياسيَّة للمسلمين من موارد تصدّيه للأُمور الحسبيَّة.
وبناءً على ذلك، ووفاقاً للمبنى المشهور للفقهاء، فإنّ الفقيه العادل صاحب منصب الولاية في الأُمور الحسبيَّة، وبالنتيجة، له ولاية عامَّة على أُمور المسلمين، ووفاقاً للمبنى الأخير، فإنّ تصدّيه لهذه الأُمور يثبت من باب القدر المتيقِّن لجواز التصرّف، وبوجود الفقيه العادل الجامع للشرائط، لا يستطيع الآخرون التصدّي لهذه الأُمور.
ويقرّر آية الله السيد كاظم الحائريّ (حفظه الله تعالى) هذا الاستدلال بهذه الطريقة:
"إنّ المقصود، من الحوادث الواقعة، المشكلات الاجتماعيَّة المعاصرة، وفي ما يستجدّ من تطوُّرات في حياة الناس. فهو لا يدري ماذا يفعل، وقد كان سؤاله عامَّاً لا يخصُّ جهة معيّنة بالذكر، فكانت الإجابة عامّة كذلك مناسبة للسؤال. وكان الجواب: ارجعوا إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجَّتي عليكم، وأنا حجَّة الله2"3.
وكما نلاحظ، فإنّ هذا الدَّليل يثبت أولويَّة تصدّي الفقيه العادل للأُمور الاجتماعيَّة.
1- يميل إلى هذا الرأي، من بين الفقهاء المعاصرين، المرحوم آية الله الخوئي. راجع: التنقيح في شرح العروة الوثقى: ص 49 و50، باب الاجتهاد والتقليد.
2- ولاية الأمر في عصر الغيبة: 69.
3- هذا تمسك بالدليل النقلي وليس بدليل الحسبة؛ لأنّ المهم في الدليل النقلي جواب الإمام العامّ أو المطلق.
187
170
الدرس العشرون: أدلَّة إثبات ولاية الفقيه (1)
ولإثبات ما هو أكثر من ذلك، أي "التَّنصيب للولاية"، نحتاج إلى الأدلَّة الأُخرى لولاية الفقيه، لا سيّما الأدلَّة الرِّوائيَّة.
أدلَّة ولاية الفقيه الرِّوائيَّة
تُعدُّ الرِّوايات من أهمّ الأدلَّة على ولاية الفقيه العامّة، إذ إنَّها كانت، منذ القدم، مورد تمسّك الفقهاء والمعتقدين بولاية الفقيه.. وهنا نتناول بالبحث أهمّ الرِّوايات:
أولاً: توقيع1 إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
تفسير الرِّواية الآتية من أهمّ أدلّة إثبات الولاية العامّة للفقيه، والّتي نقلها الشيخ الصَّدوق رحمه الله في كمال الدِّين، وعلى أساس هذا النقل، كتب إسحاق بن يعقوب كتاباً لصاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وسأل عن حكم ما واجهه من بعض المشاكل. وقد استدلّ بقسم من هذا التوقيع الشريف العديد من الفقهاء على الولاية العامّة للفقيه:
عن محمَّد بن محمَّد بن عصام، عن محمَّد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمريّ أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف: "أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك... وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجَّتي عليكم، وأنا حجَّة الله عليهم"2.
فهذه الرِّواية من أكثر الروايات صراحة في إفادة الولاية العامَّة. وقد ركّز أغلب من تمسّك بها على الفقرة الثانية: "فإنّهم حجَّتي عليكم، وأنا حجَّة الله".
وإن استدلّ بعض الفقهاء كالإمام الخمينيّ قدس سره علاوة على ذلك، بالفقرة الأُولى: "أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا"، فإنَّ الفقرتين الواردتين، في هذه الرِّواية، تشهدان على الولاية العامَّة للفقيه.
1- التوقيع، في اللغة، يعني وضع علامة على رسالة، ويطلق التوقيع على خطِّ الملوك والسلاطين على أمر أو كتاب.
واشتهرت كتب المعصومين عليهم السلام، لا سيما تلك الّتي تشَّرفت بالصُّدور من الناحية المقدّسة لإمام الزمان |، وأُبلغت من طريق أحد النُّواب الأربعة، اشتهرت في كتب التاريخ والحديث بالتوقيعات. ولاية الفقيه للإمام الخميني: 67.
2- كمال الدِّين للشيخ الصدوق، 2:483 ج 4 باب 45، كما رواه المرحوم الشيخ الطوسي أيضاً في كتاب الغيبة: 290 و293. كما روته المصادر والمراجع الأُخرى بالاستناد إلى هذين الكتابين.
188
171
الدرس العشرون: أدلَّة إثبات ولاية الفقيه (1)
إنّ تقرير الاستدلال بالفقرة الأُولى، من الرِّواية، يقوم على أساس النظر إلى أنّ الإمام عليه السلام جعل المرجع، في تعيين الوظيفة في "الحوادث الواقعة"، رواة الحديث، وأمر بالرجوع إليهم. ومن الواضح أنّ المراد ليس مجرّد الرِّواية ونقل الحديث ما لم يقترن بالتفقُّه. كما أنّ ظاهر الرِّواية يفيد بأنَّ هذا الرجوع ليس من باب السؤال عن الحكم الشرعيّ للحوادث، لأنّ الجميع كان يعلم بضرورة الرُّجوع إلى الفقهاء للاستفتاء واستبيان الحكم الشَّرعيّ في عصر الغيبة. إذاً، فالمراد من هذا الرجوع اتّضاح وظيفة الشَّخص أو الأُمّة وتكليفهما في (الحوادث الواقعة). ويشير هذا إلى أنّ لفقهاء الشِّيعة شأناً آخر غير الفتيا في الأحكام الشَّرعيَّة، ذلك هو مرجعيَّة تعيين تكليف الأشخاص في الحوادث والقضايا الاجتماعيَّة أيضاً. قال الإمام الخمينيّ في هذا الشأن:
فالمقصود بـ "الحوادث الواقعة" هو الحوادث الاجتماعيَّة المستجدَّة والمشاكل الّتي تواجه المسلمين. لقد كان سؤاله بشكل عامّ، وبنحو مموّه: نحن، الآن، لا نستطيع الوصول إليك، فماذا يجب أن نفعل تجاه المستجدّات الاجتماعيَّة؟ وما هو التَّكليف؟ أو أنّه ذكر بعض الحوادث وسأل: لمن نرجع في هذه الحوادث؟ والّذي يبدو أنّه قد سأل بنحو عامّ، والإمام أجابه وفاقاً للسؤال أنّه في الحوادث والمشاكل ارجعوا إلى رواة أحاديثنا، أي الفقهاء1.
والفقرة الثانية: من كلام الإمام "فإنّهم حجَّتي عليكم، وأنا حجَّة الله" تدلّ، أيضاً، على الولاية العامَّة للفقيه، لأنّه عرّف نفسه بأنّه حجَّة الله على النَّاس، والفقهاء حجَّته على الناس. فمعنى حجِّيَّة الأئمّة عليهم السلام لا يقتصر على مرجعيَّتهم في بيان الأحكام الشَّرعيَّة، بل يشمل أيضاً أقوالهم وأفعالهم وسلوكهم، وسيرتهم العمليَّة أُسوة وقدوة في جميع المجالات، وأساس النجاة. واتّباعهم هدي، والتخلُّف عنهم ضلال، ولأتباعهم حجَّة عند الله، وعذر من تخلّف عنهم غير مقبول عند الله. وعلى هذا الأساس، فالنَّاس مكلَّفون بالرجوع إلى الأئمّة المعصومين عليهم السلام في جميع الأُمور ـ من المعارف الإلهيَّة وفهم الأحكام الشَّرعيَّة حتى تدبير شؤون
1- الحكومة الإسلاميَّة: 121 و122 ط. الأُولى 1996 م، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ، الشؤون الدولية ـ طهران.
189
172
الدرس العشرون: أدلَّة إثبات ولاية الفقيه (1)
المسلمين ـ بوصفهم حجج الله. ففي عصر الغيبة، حيث لا وجود لحجج الله، يجب على المؤمنين الرجوع إلى فقهاء الأُمّة، بوصفهم منصّبين من جانب الإمام حجَّة على الناس في كافة شؤونهم1.
وكما سبق، فإنّ الرِّواية، آنفة الذِّكر، صريحة للغاية في إثبات الولاية العامَّة للفقيه، بحيث عدَّها بعضهم من أقوى أدلّة النَّصب وأهمِّها:
"ولكنَّ الّذي يظهر بالتدبّر في التوقيع المرويّ عن إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف الّذي هو عمدة دليل النَّصب، إنّما هو إقامة الفقيه المتمسّك برواياتهم مقامه بإرجاع عوامّ الشِّيعة إليه في كلّ ما يكون الإمام مرجعاً فيه، كي لا تبقى شيعته متحيِّرين في أزمنة الغيبة"2.
"لعلّ أقواها نصّاً، في الدلالة، التَّوقيع الرَّفيع الّذي أخرجه شيخنا الصَّدوق في كمال الدِّين"3.
الحديث الّذي ذكرناه ينطوي على مشكلة واحدة فقط من حيث السَّند، وهي وجود إسحاق بن يعقوب في سلسلته، إذ لم يرد له توثيق خاصّ في كتب الرِّجال، ولكن الاستناد إلى الشواهد المذكورة أدناه لا يجعل فقدان التَّوثيق يقدح باعتبار الحديث:
1 ـ يختلف ادّعاء صدور التوقيع تمام الاختلاف عن ادّعاء سماع حديث عن المعصوم عليه السلام، وصدور التَّوقيع لشخص يفيد بعلوّ منزلته لدى المعصوم عليه السلام ومدى قربه منه. وقد صرّح بعض كبار الأعلام، كالشيخ الكلينيّ والشيخ الصَّدوق والشيخ الطُّوسيّ، بأنّ إسحاق بن يعقوب صادق في دعواه بصدور التوقيع الشَّريف. ولو كان لهؤلاء الأعلام قدح في وثاقته لما أيَّدوه قطّ في دعواه هذه، ولما بادروا إلى نقل روايته.
2 ـ عاش الكلينيّ في عصر الغيبة، وعاصر إسحاق بن يعقوب، وصحّة صدور التوقيع كانت محرزة لشخص كالشيخ الكلينيّ. وبناءً على ذلك، فنقل الكلينيّ دليل على
1- البيع للإمام الخمينيّ،2: 474 و475.
2- مصباح الفقيه للحاج آقا رضا الهمداني، 14: 289، كتاب الخمس.
3- ولاية الفقهاء في عصر الغيبة: 10.
190
173
الدرس العشرون: أدلَّة إثبات ولاية الفقيه (1)
صحّة دعوى إسحاق بن يعقوب في صدور التوقيع والرِّواية خالية من إشكال السَّند1.
الخلاصة
1ـ الولاية منصب، وثبوتها للأفراد يتطلّب إثباتاً شرعياً، لأنّ الأصل عدم ولاية شخص على الآخرين.
2ـ لا يمكن إقصاء أصل عدم الولاية إلّا بالدليل الشرعيّ. والدليل الشَّرعيّ على قسمين: نقليّ، وعقليّ.
3ـ ثبتت ولاية الفقيه العادل في أمور، كالقضاء والتصدّي للأمور الحسبيَّة، بالدليل الشرعيّ بشبه اتّفاق. ومحلّ البحث الحكومة أو الولاية في الأمور السِّياسيَّة.
4ـ يمكن إثبات الولاية العامَّة للفقيه من باب الأمور الحسبيَّة.
5ـ أثبت دليل الحسبة أولويَّة تصدّي الفقيه العادل للأمور الاجتماعيَّة للمسلمين ولزوم ذلك، لكنها لا تدلّ على نصب الفقيه العادل للولاية.
6ـ توقيع إمام الزَّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف من أهمّ الأدلَّة الرِّوائيَّة على ولاية الفقيه.
7ـ يمكن الاستدلال على ولاية الفقيه بقرينتين من هذه الرِّواية.
8ـ لا تواجه هذه الرِّواية مشكلة في سندها، والإشكال الوارد عليها قابل للحلّ.
1- ولاية الأمر في عصر الغيبة: 123 و124.
191
174
الدرس العشرون: أدلَّة إثبات ولاية الفقيه (1)
الأسئلة
1ـ ما المراد من أصل عدم الولاية؟
2ـ عن أيّ طريق يمكن نفي أصل عدم الولاية؟
3ـ قرِّر أنّ ولاية الفقيه العامَّة هي من باب الحسبة.
4ـ هل يمكن لدليل الحسبة إثبات نصب الفقيه للولاية؟
5ـ كيف يستدلّ على ولاية الفقيه من عبارة: "وأمّا الحوادث الواقعة"؟
6ـ كيف تردّ على مشكلة سند التَّوقيع؟
192
175
الدرس الحادي والعشرون: أدلّة إثبات ولاية الفقيه (2)
الدرس الحادي والعشرون: أدلّة إثبات ولاية الفقيه (2)
ثانياً ـ مقبولة عمر بن حنظلة1
استدلّ المحقِّق الكركيّ في رسالة صلاة الجمعة، والمحقق النَّراقيّ، وصاحب الجواهر، والشيخ الأنصاريّ في كتاب القضاء، والعديد من الفقهاء برواية عمر بن حنظلة على الولاية العامَّة للفقيه:
"محمد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة"، قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ قال: "من تحاكم إليهم، في حقّ أو باطل، فإنّما تحاكم إلى الطَّاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطَّاغوت، وما أمر الله أن يُكْفَر به، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾2 ". قلت: فكيف يصنعان؟ قال: "ينظران من كان منكم ممَّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه، فإنّما استُخفّ
1- عدَّه الشيخ الطُّوسي والبرقي من أصحاب الإمامين الصادق والباقر عليهما السلام، وعمر بن حنظلة أحد مشاهير الرُّواة، روى عنه كبار الصَّحابة، مثل زرارة وهشام بن سالم وعبدالله بن بكير وعبد الله بن مسكان وصفوان بن يحيى وآخرين.
2- سورة النساء: 60.
193
176
الدرس الحادي والعشرون: أدلّة إثبات ولاية الفقيه (2)
بحكم الله، وعلينا ردَّ، والرَّادُّ علينا الرَّادُّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله"1.
تتَّضح دلالة هذه الرِّواية على الولاية العامَّة للفقيه بالالتفات للمقدِّمات الآتية:
1 ـ إنَّ سؤال عمر بن حنظلة لم يكن بخصوص الرُّجوع إلى القضاة، بل سأل عن جواز الرُّجوع إلى السُّلطان والقاضي في المنازعات. فعادة ما تتطلّب بعض النِّزاعات تدخّل الوالي والسُّلطان، وتالياً فهي ليست من نوع الرجوع إلى القاضي. على سبيل المثال: النزاعات المحلِّيَّة والقبليَّة الّتي إن لم يبادر الوالي وصاحب النفوذ السِّياسيّ لحلّها فوراً، فإنّها تنتهي إلى سفك الدِّماء والاضطرابات السِّياسيَّة والاجتماعيَّة. وبالطَّبع، هناك بعض النزاعات البسيطة الّتي لا تتجاوز حدود الاختلافات الحقوقيَّة والفرديَّة الّتي يمكن للقاضي حلّها، ولا علاقة لها بالسلطان.
2 ـ عدَّ الإمام عليه السلام الرُّجوع إلى القاضي والسُّلطان، كليهما، رجوعاً إلى الطَّاغوت، وذلك لا يجوز، حيث استشهد على ذلك بالآية 60 من سورة النِّساء الّتي أمرت المؤمنين بالكفر بالطَّاغوت، وحذّرت من الرُّجوع إليه في المنازعات. وإن يكن المقصود، بالطَّاغوت، في هذه الآية، ليس خصوص الوالي والسُّلطان اللامشروع، فإنَّها تشمله قطعاً، وذلك لأسبابٍ منها: أوَّلاً: اتّصاف القضاة بالطغيان بسبب انتمائهم لحكومة الجور، فالقاضي المنصّب من حكومة غير شرعيَّة يوصف بالطاغوتيَّة والعدول عن الحقّ. ثانياً: بالرجوع إلى الآيتين الواردتين قبل هذه الآية، نلاحظ أنّهما لم تقتصرا على الرجوع إلى القاضي، بل بحثتا حكم القاضي والسلطان والتَّنازع في الأُمور القضائيَّة والحكوميَّة. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾2.
فالحكم، في هذه الآية، يشمل حكم السُّلطان والوالي والقاضي، ولا دليل على حصره في القاضي. وعلى أساس هذه الآية، فإنّ كلّ حاكم مكلّف بالحكم بالعدل سواء كان
1- وسائل الشِّيعة، 27: 136 ـ 137 ح 1، الباب 11 من أبواب صفات القاضي.
2- سورة النساء: 58.
194
177
الدرس الحادي والعشرون: أدلّة إثبات ولاية الفقيه (2)
قاضياً أم حاكماً أم والياً.
وقال تعالى، في الآية الآتية من السُّورة المذكورة: ﴿وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ﴾1.
فلزوم طاعة الرسول وأُولي الأمر لا يقتصر على الأحكام الشَّرعيَّة، بل يشمل أوامرهم ونواهيهم الحكوميَّة، أي الأحكام والأوامر الّتي يصدرونها بوصفهم الولاة وأصحاب الزعامة السِّياسيَّة. وبناءً على ذلك، فالمنع من الرجوع والتحاكم إلى الطاغوت ـ الّذي تأكّد في هذه الرِّواية بالاستشهاد بالآية 60 من سورة النساء ـ بقرينة الآيتين السابقتين لها، يشمل حاكم الطَّاغوت وقاضي الطَّاغوت، ولا يقتصر على القاضي فحسب.
3 ـ ذهب الإمام عليه السلام في حلّه للقضيَّة، إلى أنّ فقيه الشِّيعة هو الحاكم: "إنّي قد جعلته عليكم حاكماً" وهذا النَّصب شامل لشؤون القضاء، وشامل لشؤون الولاية والحكومة، لأنّه، وحسب المقدِّمتين السابقتين، كان محلّ السؤال الرجوع إلى السلطان والقاضي2.
وقد استنبط الشيخ الأنصاريّ، في كتاب القضاء والشهادات، من كلام الإمام عليه السلام: "إنّي قد جعلته عليكم حاكماً" أنّ ولاية الفقيه هي في الأُمور العامَّة، ولا تختصُّ بالقضاء في المنازعات، لا سيّما أنّ سياق العبارة يقتضي أن يقول الإمام: "إنّي قد جعلته عليكم حكماً".
وعدوله عليه السلام عن "حكم" إلى "حاكم" يفيد بعدم اقتصار دائرة نفوذ أحكام الفقيه العادل على القضاء في الدَّعاوى، وبأنَّ أحكامه نافذة في الأُمور العامَّة، أي أنّ كلّ أمر جزئيّ أو كلّيّ عامّ للإمام، والسلطان حقّ التسلّط عليه والتدخّل فيه، فإنَّ الحاكم المنصوب، من قبله، له أيضاً ذلك التسلّط وتلك الولاية: "ثم إنّ الظاهر، من
1- سورة النساء: 59.
2- البيع للإمام الخميني، 2: 476 – 479.
195
178
الدرس الحادي والعشرون: أدلّة إثبات ولاية الفقيه (2)
الرِّوايات المتقدِّمة، نفوذ حكم الفقيه في جميع خصوصيَّات الأحكام الشَّرعيَّة وفي موضوعاتها الخاصّة، بالنسبة إلى ترتُّب الأحكام عليها، لأنّ المتبادر عرفاً من لفظ "الحاكم" هو المتسلّط على الإطلاق، فهو نظير قول السلطان لأهل بلدة: "جعلت فلاناً حاكماً عليكم"، حيث يفهم منه تسلّطه على الرَّعيَّة في جميع ما له دخل في أوامر السلطان جزئياً أو كلّياً.
ويؤيِّده العدول عن لفظ "الحكم" إلى "الحاكم"، مع أنّ الأنسب في السِّياق ـ حيث قال: فارضوا به حكماً ـ أن يقول: "فإنّي قد جعلته عليكم حكما"1.
ليس هناك من إشكال في سند هذه الرِّواية، لأنّ جميع رواة هذا الحديث موثَّقون سوى عمر بن حنظلة. والمشكلة الوحيدة تتمثَّل في عدم وجود توثيق مباشر لعمر بن حنظلة في كتب الرِّجال. ويمكن معالجة هذه المشكلة من عدّة جوانب.
أوّلاً: عمر بن حنظلة كثير الرِّواية، ومن المشاهير، وقد روى عنه كبار الأجلاَّء، مثل زرارة، وهشام بن سالم، وصفوان، وعبد الله بن بكير، وعبد الله بن مسكان، وكثرة الرِّواية ونقل كبار مشايخ الرِّواية عن شخص أمارة على وثاقته.
ثانياً: وردت، في الكافي، رواية عن الإمام الصادق عليه السلام في مدحه2، والأهمّ من ذلك عمل الأصحاب بهذه الرِّواية وقبولهم لها. ومن هنا، سمِّيت بمقبولة عمر بن حنظلة. والشهيد الثاني رحمه الله وضمن تأكيده على وثاقة عمر بن حنظلة، يصف هذه الرِّواية بأنّها مورد قبول الأصحاب3:
"وعمر بن حنظلة لم ينصُّ الأصحاب فيه بجرح ولا تعديل، ولكنّ أمره عندي سهل، لأنّي حقَّقت توثيقه في محلّ آخر وإن كانوا قد أهملوه، ومع ما ترى في هذا الإسناد قد قبل الأصحاب متنه وعملوا بمضمونه، بل جعلوه عمدة التفقّه،
1- القضاء والشهادات: 48 و49.
2- الكافي، 3: 257 ح 1، باب وقت الظهر والعصر. عليّ بن ابراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن يزيد بن خليفة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت. فقال أبو عبد الله عليها السلام: إذاً لا يكذب علينا.
3- هذا ينفع بناء على القول بحجيّة الخبر الموثوق دون خبر الثقة.
196
179
الدرس الحادي والعشرون: أدلّة إثبات ولاية الفقيه (2)
واستنبطوا منه شرائطه كلّها، وسمّوه مقبولاً"1.
ثالثاً: مشهورة أبي خديجة
روى الشيخ الطُّوسيّ رحمه الله هذه الرِّواية عن أبي خديجة ـ أحد أصحاب الإمام الصَّادق عليه السلام الموثّقين ـ وقد استدلّ بها لإثبات ولاية الفقيه العامَّة:
"محمد بن حسن، بإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن أحمد بن محمد، عن حسين بن سعيد، عن أبي الجهم، عن أبي خديجة، قال: بعثني أبو عبدا لله عليه السلام إلى أصحابنا، فقال: قل لهم: إيّاكم، إذا وقعت بينكم خصومة، أو تدارٍ في شيء من الأخذ والعطاء، أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق. اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا. فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر"2.
فالاستدلال بهذه الرِّواية على الولاية العامَّة للفقيه قريب جداً من الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة، لأنّه مُنع الرجوع فيها إلى الفسّاق وقضاة الجور في المنازعات الحقوقيَّة (تدارٍ) وكذلك الرُّجوع إلى الحاكم والسلطان، وأكّدت بالمقابل الرجوع إلى الفقيه العادل.
قال الإمام الخمينيّ قدس سره في تقرير استدلاله بهذه الرِّواية:
المراد من "التَّداري في شيء" ، الوارد في الرِّواية، هو الاختلاف الحقوقيّ، أي لا ترجعوا في النِّزاعات الحقوقيَّة والقضايا الجزائيَّة إلى هؤلاء الفسّاق. ثمّ قال عليه السلام بعد ذلك: "فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً"، يتّضح أنّ المقصود من "الفسّاق" هم القضاة المعيّنون من قبل السلاطين وأُمراء ذلك الوقت، والحكَّام غير الشرعيين.
1- الرعاية لحال البداية في علم الدِّراية: 131، ويلاحظ، في هذا الخصوص، كلام ابن الشهيد الثاني صاحب المعالم في منتقى الجمان1: 19. وإضافة إلى الشهيد الثاني، فمن المعاصرين الأُستاذ المحقِّق السيد جعفر مرتضى العاملي يرى رواية ابن حنظلة صحيحة. وقال آية الله السيد عليّ الموحد الأبطحي: أثبتنا أمارات وثاقة ابن حنظلة في كتبنا الرِّجالية، وذكرنا منها رواية أجلاء الثقات من أصحاب الباقر والصادق والكاظم عليهم السلام عنه، وفيهم من عُرف بأنّه لا يروي إلّا عن ثقة، مثل صفوان بن يحيى. وهذا الوجه بعينه جار في يزيد بن خليفة (رسالة في ثبوت الهلال: 77).
2- وسائل الشِّيعة، 27: 139 ح6، باب 11 من أبواب صفات القاضي.
197
180
الدرس الحادي والعشرون: أدلّة إثبات ولاية الفقيه (2)
ثمّ قال عليه السلام في ذيل الرِّواية: "وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر"، أي لا ترجعوا في الأُمور ذات العلاقة بالسلطة التنفيذيَّة إلى هؤلاء الحكَّام غير الشرعيِّين.
ولئن كان "السُّلطان الجائر" هو كلّ حاكم جائر وغير شرعيّ، بشكل عامّ، ويشمل جميع الحكَّام غير الإسلاميين، والسُّلطات الثلاث القضائيَّة والتشريعيَّة والتنفيذيَّة جميعاً ـ وبالالتفات إلى أنّه قد نهى قبل ذلك عن الرُّجوع إلى قضاة الجور ـ فإنَّه يتّضح أنّ المراد بهذا النَّهي فريق آخر، وهو السلطة التنفيذيَّة. والجملة الأخيرة ـ بالطبع ـ ليست تكراراً للكلام السابق، أي النَّهي عن الرُّجوع إلى الفسّاق، وذلك لأنّه قد نهى أولاً عن الرُّجوع إلى القاضي الفاسق في الأُمور المتعلِّقة به من التحقيق، وإقامة البيِّنة، وأمثال ذلك. وأوضح وظيفة اتّباع القاضي الّذي عيّنه. ثمّ منع بعد ذلك من الرُّجوع إلى السلاطين أيضاً"1.
ويعتقد الفقيه المتبحِّر، المرحوم الشيخ مرتضى الأنصاريّ، بأنّ جعل منصب القضاء لا يحدّ من دائرة صلاحيات القاضي في رفع الخصومات القضائيَّة، وأنَّ هذا المنصب كانت له صلاحيات جمَّة على عهد الأئمّة، أي كان القاضي يتولَّى إدارة أغلب الأُمور العامَّة وتدبيرها. وبناءً على ذلك، فهذه الرِّواية تثبت للفقيه ولاية عامَّة ولا تقتصر على القضاء بمصطلح اليوم:
"المتبادر من لفظ (القاضي) عرفاً: من يُرجع إليه وينفَّذ حكمه وإلزامه في جميع الحوادث الشَّرعيَّة، كما هو المعلوم من حال القضاة، سيّما الموجودين في أعصار الأئمّة عليهم السلام من قضاة الجور. ومنه يظهر كون الفقيه مرجعاً في الأُمور العامَّة، مثل الموقوفات وأموال اليتامى والمجانين والغيّب، لأنّ هذا كلّه من وظيفة القاضي عرفاً"2.
1- الحكومة الإسلاميَّة 140 و141.
2- القضاء والشهادات: 49.
198
181
الدرس الحادي والعشرون: أدلّة إثبات ولاية الفقيه (2)
لا بدَّ من الالتفات إلى أنّه لا يمكن التوصُّل إلى اعتبار الولاية السِّياسية من مجرّد "إنّي قد جعلته عليكم قاضيا". وما ذكره الشيخ الأنصاريّ رحمه الله هو توسُّع الولاية على القضاء في الأُمور الحسبيَّة. وبناءً على ذلك، فإنّ دلالة مقبولة عمر بن حنظلة على الولاية العامَّة أوضح من مشهورة أبي خديجة، لأنّ الفقيه نُصّب هناك للحكومة، بينما نصّب في مشهورة أبي خديجة للقضاء. طبعاً، النَّهي الوارد، في رواية أبي خديجة، عن الرُّجوع إلى السلطان يفيد بضرورة رجوع الشِّيعة، في مثل هذه الأُمور إلى الفقيه، بدلاً من الرُّجوع إلى السُّلطان. وإن لم تكن هذه الدَّلالة واضحة هنا وضوحها في مقبولة عمر بن حنظلة.
الخلاصة
1ـ مقبولة عمر بن حنظلة من أكثر الرِّوايات دلالةً على ولاية الفقيه.
2ـ لم يُمنع الشِّيعة، في هذه الرِّواية، من الرُّجوع إلى قضاة الحكومة الجائرة فحسب. بل نهوا عن الرجوع إلى السُّلطان وحاكم الجور.
3ـ أمر الإمام عليه السلام الشِّيعة، في هذه المقبولة، بالرجوع إلى الفقيه بدل الرُّجوع إلى السُّلطان وقاضي الجور، ونصَّبه حاكماً.
4ـ ليست لهذه الرِّواية مشكلة في السَّند، لأنّ رواتها موثقون، وعمر بن حنظلة، وإن لم يوثق مباشرة، إلّا أنّ روايته مقبولة لدى الأصحاب.
5ـ مشهورة أبي خديجة أحد الأدلَّة الرِّوائيَّة أيضاً على ولاية الفقيه، ووجه الاستدلال بها يشبه إلى حدّ كبير مقبولة عمر بن حنظلة.
6ـ رواية عمر بن حنظلة على ولاية الفقيه أكثر وضوحاً من مشهورة أبي خديجة، لأنّها نصّبت الفقيه مباشرة بمنصب الحكومة.
199
182
الدرس الحادي والعشرون: أدلّة إثبات ولاية الفقيه (2)
الأسئلة
1ـ أيّ من الفقهاء الأجلاَّء الشِّيعة استدلّ على الولاية العامَّة بمقبولة ابن حنظلة؟
2ـ بيِّن باختصار وجه الاستدلال بمقبولة ابن حنظلة على ولاية الفقيه.
3ـ ليس لعمر بن حنظلة توثيق مباشر، فكيف تحلُّ مشكلة السند؟
4ـ ما وجه الاستدلال على الولاية العامَّة للفقيه بمشهورة أبي خديجة؟
5ـ ما هي كلمات المرحوم الشيخ الانصاري في شأن دائرة نفوذ الفقيه المنصوب للقضاء؟
6ـ لماذا تعدُّ مشهورة أبي خديجة أقلّ وضوحاً في الدَّلالة على الولاية العامَّة من مقبولة ابن حنظلة؟
200
183
الدرس الثاني والعشرون: أدلة إثبات ولاية الفقيه (3)
الدرس الثاني والعشرون: أدلة إثبات ولاية الفقيه (3)
جعل الإمام عليه السلام للفقيه منصباً في كلٍّ من روايتي عمر بن حنظلة وأبي خديجة. وكما أشرنا، في ختام الدَّرس السابق، فإنّ دائرة صلاحيَّات هذا المنصب، في رواية عمر بن حنظلة، تبدو أكثر سعةً، لأنّ الفقيه نصَّب في منصب "الحاكميَّة"، وفي رواية أبي خديجة نصِّب في منصب القضاء. وقد منع الشِّيعة، في مشهورة أبي خديجة، عن الرُّجوع القضائيّ والحكوميّ للفسقة في كلا القسمين، إذ تفيد هذه القضيَّة أنّه على الشِّيعة الرُّجوع إلى الفقيه العادل في الأُمور الحكوميَّة. وكما مرَّ سابقاً، هناك اختلاف جذريّ بين النَّصب والوكالة، ذلك أنَّ نصب الوليّ الفقيه، لمختلف أنحاء الولاية الواردة في الرِّوايتين، ليس مؤقَّتاً ولا مشروطاً بحياة الإمام عليه السلام، بخلاف الوكالة الّتي تزول بموت الموكِّل. وبناءً على ذلك، فتصدّي الفقيه العادل لهذه المناصب الولائيَّة ثابت وباق، بدليل أنّ هذا النَّصب لم ينقض من الإمام المعصوم اللاَّحق.
ردود على بعض الأسئلة والشُّبهات
طرحت بعض الأسئلة، وأثيرت بعض الشُّبهات على النَّصب الوارد في الرِّوايتين المذكورتين، نتحدَّث عنها هنا بشيء من الاختصار.
1 ـ تعتقد الشِّيعة بأنّ الإمام الصادق عليه السلام وولده من بعده منصّبون لإمامة الأُمّة. وبناءً
201
184
الدرس الثاني والعشرون: أدلة إثبات ولاية الفقيه (3)
على ذلك، فما معنى نصب الفقيه العادل للولاية مع وجود الإمام المعصوم؟
وهنا يطرح سؤال مفاده: هل يمكن أن ينوب فرد أو أفراد، عن الإمام المعصوم حين حضوره، وهو صاحب ولاية عامَّة ومطلقة، فتكون لهم مثل هذه الولاية؟
الجواب: إنّ النَّصب للولاية، في زمان حضور الإمام المعصوم عليه السلام، هو من نوع تعيين الموظَّفين، وإيفاد أصحاب القدرة والقرار للتصرّف في البلاد. أولم يوفد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعض الأفراد لإدارة شؤون المسلمين في المناطق البعيدة عن المدينة؟ ومن بين تلك الموارد إيفاد أمير المؤمنين عليه السلام إلى اليمن، كما وجَّه أمير المؤمنين عليه السلام مالك الأشتر إلى مصر، وأشخاصاً آخرين إلى مختلف المناطق، بوصفهم ولاة وعمالاً وأصحاب ولاية. وبناءً على ذلك، فما المانع من أن يسند الإمام الصادق عليه السلام في زمان حضوره، إدارة شؤون الشِّيعة البعيدين عنه ـ بسبب التقيَّة أو بعد المسافة ـ إلى الفقيه العادل، وينصّبه ولياً على الأُمّة بالنِّيابة عنه؟
2 ـ الإمام الصادق عليه السلام نفسه لم يكن مبسوط اليد، ولم تكن الأوضاع تسمح بأن يمارس ولايته العامَّة على الأُمّة. فكيف ـ إذاً ـ يكون لمن نصَّبه لولايةٍ عامّة، مع أنّ مفاد نصبه، نصب الفقيه العادل للولاية العامّة؟
الجواب: إنّ الولاية ليست سوى الأولويَّة والأحقِّيَّة وجواز التصرُّف في أُمور الآخرين. والنَّصب بالولاية يعني منح الشَّرعيَّة وإعطاء المجوِّز الشَّرعيّ والقانونيّ لهذا التصرّف. ونصب الفقيه العادل للولاية يعني أنّه منصّب من قبل صاحب الولاية، ومن بيده زمام أُمور الأُمّة وشرعيَّتها. ولهذا الفقيه الحقّ في القيام ببعض التصرّفات، وولايته في هذه التصرّفات شرعيَّة وحقّ، سواء كانت بخصوص القضاء والأُمور الحسبيَّة أم في مطلق الأُمور العامَّة للأُمّة.
ومقولة النَّصب بالولاية تختلف عن مقولة بسط اليد في الولاية وممارستها بالفعل من قبل الشخص المنصَّب. فدائرة ممارستها الخارجيَّة والإتيان بالأُمور المتعلِّقة بها بالفعل تتوقَّف على القدرات والإمكانات الخارجيَّة. وأحياناً، لا تتوافر شروط ممارسة
202
185
الدرس الثاني والعشرون: أدلة إثبات ولاية الفقيه (3)
الولاية لأصحابها الأصليين، أي الإمام المعصوم عليه السلام. وهذا لا يعني عبثيَّة نصب الإمام المعصوم عليه السلام الآخرين للولاية وعدم جدوى ذلك، لأنّ مقولة الأولويَّة والأحقيَّة بالولاية ـ صاحب منصب ولائي ـ هي غير الفعليَّة الخارجيَّة وتحقُّقها العينيّ.
أضف إلى ذلك، فإنّ أرضيَّة ممارسة الولاية، في زمان الإمام عليه السلام، لم تنتفِ بصورة كلّيَّة، أي إنّ قبض اليد وبسطها من الأمور النِّسبيَّة. فالمنصّب من جانب الإمام عليه السلام، وإن لم يستطع التصدّي لبعض الشؤون العامَّة للشِّيعة في تلك الظروف، لكنه كان قادراً على إدارة الشؤون القضائيَّة والأُمور الحسبيَّة. وعلى أساس هاتين الرِّوايتين، فإنّ الإمام عليه السلام يقول بثبوت الولاية العامَّة للفقيه العادل ونصبه في هذا المنصب. ومقولة القدرة وبسط يد الفقيه، في شأن ممارسة هذه الولاية، قضيَّة أُخرى تتوقَّف على الأضاع والظروف وإعداد الشُّروط الخارجيَّة للقيام بشؤون الولاية.
3 ـ إنّ تنصيب الفقيه لولاية أُمور المسلمين العامَّة يؤدِّي إلى الفوضى والهرج والمرج. ويفترض أنّ يكون الهدف من هاتين الروايتين هو نصب الفقيه العادل لتدبير شؤون الشِّيعة وإدارتها، علماً أنهَّ ليس هناك من حدّ لعدد الأفراد الّذين ينصّبون للولاية. وربما شهد عصر ما حضور مئة فقيه، جامعين للشرائط، فهل يعقل أن يكون لهم جميعاً الحقُّ في منصب الولاية بالفعل؟ وبالنظر إلى هذه المشكلة، ليس هنالك من سبيل سوى تضييق دائرة هذا النَّصب. ولا بدَّ من أن يكون مفاد هاتين الرِّوايتين نصب الفقيه في القضاء.
والجواب: ذكرنا سابقاً أنّ هناك اختلافاً واضحاً بين أمرين: أوَّلهما تولِّي منصب الولاية وثانيهما ممارستها في الخارج، إذ لكلّ من هذين الأمرين ظروفه وشروطه. ومعنى نصب الوليّ الفقيه هو أنّ لكلّ فقيه عادل جامع للشرائط بالفعل منصب الولاية والنِّيابة، ولأحكامه وتصرّفاته في الشؤون ذات الصلة اعتبار شرعيّ. ولا يعني هذا أنّ جميع الفقهاء، أصحاب الولاية، يمارسون مهمَّاتهم في كلّ موقع يتطلّب تدخّل الفقيه الوليّ ويصدر حكمه في هذا الخصوص، فلو كان في منطقة خمسون قاضياً وعرضت
203
186
الدرس الثاني والعشرون: أدلة إثبات ولاية الفقيه (3)
على أحدهم قضيَّة فسوف لن يتدخّل الآخرون، وتصدّي أحد القضاة سيحول دون ممارسة الآخرين لدورهم القضائيّ. ونصب الفقيه العادل للولاية يقلِّده مسؤوليَّة، ويقلِّد النَّاس تكليفاً. فالناس مكلّفون بالرجوع إلى الفقيه العادل في أُمورهم والانصراف عن الطَّاغوت، وعليهم أن لا يفوّضوا زمام أُمور المجتمع الإسلاميّ لغير الفقيه العادل والأمين. ومن واجب الفقيه العادل، أيضاً، أداء هذا التكليف في حالة توافر الشُّروط وإقبال الناس، وهو بذلك يؤدِّي تكليفاً إلهيّاً، فإن نهض فقيه بالأمر من جراء إقبال الناس أو انتخاب الخبراء، سقط التَّكليف عن سائر الفقهاء.
وبناءً على ذلك، فجميع الفقهاء العدول الجامعون للشرائط يتمتَّعون بمنصب الولاية، لكن ترفع عنهم مسؤوليَّة التصدّي إن انبرى لها فقيه عادل. بعبارة أُخرى: إنَّ جواز تصرّف كلّ فقيه في أمر، مشروط بعدم ممارسة الولاية في هذا الأمر من فقيه عادل آخر. وفي مثل هذه الحالة، سوف لن يحدث أيّ هرج ومرج وفوضى في النظام، ولا يبرز هذا الاختلال في النظام إلّا عندما يمارس جميع الفقهاء العدول ولايتهم في موضوع معيّن.
الرِّوايات المؤيِّدة لولاية الفقيه
هناك العديد من الرِّوايات الأُخرى الّتي دلّت على إثبات ولاية الفقيه، غير الرِّوايات الثلاث المذكورة، لكنها ليست بوضوح الرِّوايات السَّابقة من ناحية الدَّلالة، وربما من حيث السَّند. مع ذلك، يمكن التمسّك بها بوصفها مؤيِّدة للولاية العامَّة للفقيه، وسنتطرق هنا إلى بعضها باختصار:
1 ـ صحيحة قداح
علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمَّاد بن عيسي، عن القدّاح (عبد الله بن ميمون)، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً إلى الجنَّة.. وإنّ العلماء ورثة الأنبياء. إنّ الأنبياء لم يورثوا
204
187
الدرس الثاني والعشرون: أدلة إثبات ولاية الفقيه (3)
ديناراً ولا درهماً، ولكن ورّثوا العلم. فمن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافر"1.
فهذه الرِّواية صحيحة السَّند وجميع رجالها ثقات. وقد تمسّك بها بعض الفقهاء كالملا أحمد النَّراقيّ رحمه الله في كتابه: "عوائد الأيام"، والإمام الخمينيّ قدس سره في إثبات ولاية الفقيه. ووجه الاستدلال بهذه الرِّواية، بمقتضى عبارة "العلماء ورثة الأنبياء"، فإنّ الفقهاء وعلماء الدِّين يرثون النبيّ صلى اله عليه وآله في جميع الشؤون الّتي تقبل الوراثة، ومن بين هذه الشؤون زعامة الأمّة وولاية أمرها. فوراثة العلماء للأنبياء لا تقتصر على الجانب العلميّ، لأنّ لهذه الوراثة إطلاقاً، ولا يخرج منها سوى ما خرج بالدَّليل الخاصّ، وهو مقام النبوّة. وتواجه هذه الرِّواية احتمال أنّ الكلمات السابقة لعبارة ـ العلماء ورثة الأنبياء ـ وما بعدها، يُستشمّ منها أنّ هذه الوراثة تنحصر في خصوص العلم، وأنّ العلماء يحظون بأحاديث الأنبياء ومعارفهم وليس في جميع شؤونهم. فإذا رأينا أنّ تلك الكلمات يمكنها أن تكون قرينة على الاختصاص، فلا يمكن التمسّك بإطلاق "العلماء ورثة الأنبياء"2.
2 ـ مرسلة الصَّدوق رحمه الله
روى الشَّيخ الصَّدوق رحمه الله في مختلف كتبه3 الرِّواية الآتية:
"قال أمير المؤمنين عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "اللَّهم ارحم خلفائي" ـ ثلاث مرات ـ قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يأتون من بعدي يروون عنِّي حديثي وسنَّتي".
ونسب الصَّدوق رحمه الله هذه الرِّواية في العديد من كتبه للمعصوم عليه السلام، ونقلها بصورة مرسلة. ومراسيل الصَّدوق مقبولة عند أغلب الأصحاب، لا سيّما إذا نسبها جزماً للمعصوم. وقد تمسّك بهذه الرِّواية أغلب الفقهاء، مثل صاحب الجواهر، والملا أحمد النَّراقيّ، وصاحب العناوين (المير عبد الفتاح مراغي)، وآية الله الكلبايكانيّ،
1- الكافي، 1: 43 ح 1، باب ثواب العالم والمتعلِّم.
2- ولاية الفقيه، الإمام الخمينيّ، 86 ـ 92.
3- عيون أخبار الرضا، 2: 37 ح 94، الباب 31، من لا يحضره الفقيه 4: 420؛ معاني الأخبار: 374.
205
188
الدرس الثاني والعشرون: أدلة إثبات ولاية الفقيه (3)
والإمام الخمينيّ قدس سره في إثبات ولاية الفقيه. وتقرير الاستدلال بالرِّواية كالآتي:
أ ـ كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شؤونه الخاصّة، من قبيل: تلقِّي الوحي وتبليغه، ومقام العصمة، والعلم الإلهيّ.. كما كانت له شؤون أُخرى كالقضاء، ورفع المنازعات، وتدبير أُمور المجتمع الإسلاميّ. وبعض شؤون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قابلة للاستخلاف والانتقال إلى الآخرين، فالقضاء وإدارة شؤون المجتمع الإسلاميّ، هي من جملة الأُمور الّتي يمكن الاستخلاف فيها، وتقبُّل الانتقال إلى الآخرين.
ب ـ دعا النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، حسب هذه الرِّواية، لبعض الأفراد بوصفهم خلفاءه في بعض أمور الخلافة، ومن المسلّم به أنّ ولاية الأُمّة وتدبير شؤونها من هذه الأُمور.
ج ـ إنّ عبارة "خلفائي"، الواردة في الرِّواية، مطلقة، ولا تنحصر بأئمّة الهدى عليهم السلام، وإنَّما تشمل الخلفاء بالوساطة (العلماء)، بالإضافة إلى الخلفاء من دون وساطة (الأئمّة).
د ـ إنّ المراد من عبارة "الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنَّتي" ليس مجرّد نقلة الحديث ورواته المجرّدين من الفقه، بل الرُّواة المتفقِّهون في الرِّواية، فالمقصود بهذه العبارة فقهاء الإسلام لا كلّ من يروي الحديث1.
3ـ المرويّ في غرر الحكم ودرر الكلم
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: "العلماء حكَّام على النَّاس"2، وورد، في "كنز الفوائد" للكراجكيّ، قول يشبه مضمونه هذا القول، فعن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "الملوك حكَّام على النَّاس والعلماء حكَّام على الملوك"3، ودلالة الرِّواية واضحة على ولاية الفقيه، لكنها ينبغي أن تعدَّ من مؤيِّدات ولاية الفقيه لضعف سندها.
1- البيع للإمام الخمينيّ، 2: 468 ـ 470.
2- غرر الحكم للآمدي، 1: 137 و506.
3- كنز الفوائد، 2: 33.
206
189
الدرس الثاني والعشرون: أدلة إثبات ولاية الفقيه (3)
4 ـ المنقول في تحف العقول
نقل ابن شعبة الحرّاني في كتابه الشريف: "تحف العقول" خطبة الإمام الحسين عليه السلام في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر مخاطباً فيها علماء زمانه.
فحذّرهم عليه السلام من أنّ الظَّلمة قد اغتصبوا منزلتهم ومكانتهم، ولا بدَّ من أن تكون مجاري أُمور الأُمّة بيد علمائها، فقال:
"وأنتم أعظم النَّاس مصيبة كما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون. ذلك بأنّ مجاري الأُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله والأُمناء على حلاله وحرامه. فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سُلبتم ذلك إلّا بتفرُّقكم عن الحقّ، واختلافكم في السنَّة بعد البيِّنة الواضحة. ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت أُمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم"1، ودلالة هذه الرِّواية تامَّة، لكنّها تفتقر لصحّة السند كسابقتها. وبناءً على ذلك، فهي من الرِّوايات المؤيِّدة لولاية الفقيه.
وهناك العديد من الرِّوايات الّتي نتحفَّظ عن ذكرها رعاية للاختصار وعدم الإطالة.
1- تحف العقول عن آل الرسول، 1: 238.
207
190
الدرس الثاني والعشرون: أدلة إثبات ولاية الفقيه (3)
الخلاصة
1ـ نُصِّب الفقيه، في بعض روايات الإمام عليه السلام ، في منصب ومقام، وهذا التَّنصيب أعمّ من حضور الإمام وغيبته.
2ـ تمتُّع الإمام عليه السلام بالولاية الكلّيَّة، لا يمنع من إرجاع الشِّيعة للفقهاء في بعض الأُمور.
3ـ نصَّب الإمام الصَّادق عليه السلام الفقهاء للولاية حين لم يكن مبسوط اليد، ولا ضير في ذلك، لأنّ مقام جعل الولاية غير مقام ممارستها في الخارج.
4ـ إشكال بعضهم على أدلّة نصب الفقيه بالولاية يتمثَّل في أنّ نظريَّة وجود الولاية بالفعل، للفقهاء عن طريق نصب الإمام، توجب الهرج والمرج في المجتمع.
5ـ اختلاف الفقهاء، في ممارسة ولايتهم في واقعة معيّنة، إنّما يهيئ أرضيَّة اختلال النِّظام، لا الاستفادة من حقِّهم بهذا المنصب.
6ـ تُعدُّ بعض الرِّوايات من مؤيِّدات ولاية الفقيه رغم ضعف سندها أو عدم صراحتها المطلوبة.
7ـ الرِّوايات الّتي صرّحت بأنّ العلماء والفقهاء ورثة الأنبياء تدلّ على ولاية الفقيه، لأنّ إدارة أمور المجتمع كانت من شؤون الأنبياء.
208
191
الدرس الثاني والعشرون: أدلة إثبات ولاية الفقيه (3)
الأسئلة
1ـ ما هي المشاكل الّتي تعاني منها نظريَّة الولاية التنصيبيَّة للفقيه؟
2ـ لو كان كلّ فقيه عادل صاحب ولاية، ألا يوجب ذلك الهرج والمرج واختلال النظام؟
3ـ هل يستطيع الإمام غير المبسوط اليد نصب شخص آخر للولاية العامَّة؟
4ـ ما هو تقرير الاستدلال برواية: "اللّهمّ ارحم خلفائي" على ولاية الفقيه؟
5ـ كيف تدلّ رواية "العلماء ورثة الأنبياء" على ولاية الفقيه؟
209
192
الدرس الثالث والعشرون: الدليل العقلي على ولاية الفقيه
الدرس الثالث والعشرون: الدليل العقلي على ولاية الفقيه
عرضنا في الدُّروس السَّابقة، أهمَّ الأدلَّة الرِّوائيَّة على ولاية الفقيه، ونبحث الآن في بعض الأدلَّة العقليَّة عليها.
لقد تمسّك علماؤنا بالدَّليل العقليّ في مباحث النبوّة والإمامة، ويستند الدَّليل العقليّ إلى المقدِّمات العقليَّة واليقينيَّة. وينبغي أن تشتمل هذه المقدِّمات على أربع خصائص هي "الكلّيَّة" و"الذَّاتيَّة" و"الدَّوام" و"الضَّرورة". وعلى هذا الأساس، تكون النتيجة الحاصلة منها كلّيَّة وذاتيَّة ودائمة وضروريَّة، وسوف لن تكون ناظرة لأُمور جزئيَّة وأشخاص. ولذلك، فإنّ البراهين الّتي تقام، في أبحاث النبوّة والإمامة، غير متعلِّقة بنبوّة شخص معيّن أو إمامته، ولا تثبت إمامة شخص معيّن أو نبوَّته. وبناءً عليه، فالدَّليل العقليّ، في ولاية الفقيه، إنّما يُثبت أصل هذه الولاية للفقيه الجامع للشرائط. أمّا مَن هو هذا الفقيه الجامع للشرائط الّذي له الولاية؟ فهذا أمر جزئيّ وشخصيّ لا يتعيَّن بالدليل العقليّ1.
1- ولاية الفقيه، آية الله جوادي آملي: 151.
211
193
الدرس الثالث والعشرون: الدليل العقلي على ولاية الفقيه
خصائص الحكومة الدِّينيَّة والدَّليل العقليّ نوعان:
أ - الدَّليل العقليّ المحض.
ب- الدَّليل العقليّ المركَّب.
أ ـ فالدَّليل العقلي المحض ما كانت مقدِّماته محض عقليَّة، من دون أيّة مقدّمة شرعيَّة.
ب ـ أمّا الدَّليل العقلي المركَّب، فيطلق على الدَّليل العقلي الّذي يتكوّن من بعض المقدِّمات الشَّرعيَّة، مثل الآيات أو الرِّوايات، أو حكم شرعي معيّن، وليست جميع مقدِّمات البرهان محض عقليَّة. وقد استُدلّ في باب ولاية الفقيه بكلا الدليلين، وسنورد أنموذجاً لكلّ دليل في هذا الدَّرس.
وقبل البحث في الأدلَّة العقليَّة على ولاية الفقيه، لا بدَّ من ذكر مسألتين:
الأُولى: لا مانع من أن تكون نتيجة الدَّليل العقلي التوصُّل إلى حكم شرعي، لأنّ العقل أحد مصادر الأحكام الشَّرعيَّة، ويمكنه أن يكون كاشفاً لرأي الشَّرع. وقد وردت هذه الأبحاث بصورة مفصَّلة في علم الأُصول في باب المستقلاَّت العقليَّة وغير المستقلاَّت العقليَّة، وبيّن الأُصوليُّون الشرائط الّتي يكون العقل فيها كاشفاً عن الحكم الشرعي. والدور الّذي يقوم به العقل في استنباط الحكم الشرعي هو الدور نفسه الّذي تقوم به سائر الأدلَّة الشَّرعيَّة المعتبرة. وقد ثبت اعتبار الدَّليل العقلي في كشف رأي الشارع في محلِّه. وبناءً على ذلك، فالدَّليل العقليّ المحض على ولاية الفقيه من نوع المستقلاَّت العقليَّة الّتي لا تستند إلى أيِّ دليل نقليّ.
الثانية: إنّ لإقامة الدَّليل العقليّ على الإمامة والنبوّة سابقة طويلة، بينما يعود الدَّليل العقليّ على ولاية الفقيه إلى العصور المتأخِّرة. والمرحوم المحقِّق النَّراقي أوَّل من استعان بالدَّليل العقليّ لإثبات ولاية الفقيه، ثمّ تبعه على ذلك سائر الفقهاء. وتتفاوت التقريرات المختلفة للدَّليل العقليّ في بعض
212
194
الدرس الثالث والعشرون: الدليل العقلي على ولاية الفقيه
مقدِّماته، وركّزت في أغلب الموارد على الكبرى المشتركة نظير قاعدة اللُّطف أو الحكمة الإلهيَّة.
الدَّليل العقليّ المحض على ولاية الفقيه
يمكن الإفادة من برهان الحكماء المعروف، على ضرورة النبوّة العامَّة، بشكل تكون نتيجته ليس ضرورة النبوّة فحسب، وإنَّما ضرورة الإمامة، وضرورة نصب الفقيه العادل. وهذا البرهان، القائم على أساس ضرورة إرساء النظام في المجتمع، يثبت لزوم القانون الشَّرعي ومن يقوم على تنفيذه.
فالقانون الشَّرعيّ ومنفِّذه لا بدَّ من أن يكون بالدَّرجة الأُولى نبيَّاً، فإن فُقد فالوصيّ المعصوم، وفي حالة عدم حضور الوصيّ فالفقيه العادل. والفلاسفة الّذين تمسّكوا بهذا البرهان قرّروه بأُسلوب يفيد إثبات النبوّة وضرورة بعث الأنبياء1، وما نقوله، هنا، هو أنّه يمكن تقريره بصيغة لإثبات نصب المعصوم للإمامة، ونصب الفقيه العادل للولاية. وإليك مقدِّمات هذا البرهان:
1 ـ الإنسان كائن اجتماعيّ، ومن الطَّبيعيّ حدوث التَّنازع والاختلاف في كلّ مجتمع. ولذلك، فالمجتمع البشريّ بحاجة إلى التَّنظيم والانضباط.
2 ـ لا بدَّ من أن يضمن نظام الحياة الاجتماعيَّة البشريَّة كمال الإنسان وسعادته الفرديَّة والاجتماعيَّة.
3 ـ لا يتمُّ تنظيم الحياة الاجتماعيَّة، بما يجعلها خالية من النِّزاعات والاختلافات، وضامنة لسعادة الإنسان المعنويَّة والغائيَّة، إلّا من خلال القوانين المناسبة والمنفّذ الجدير.
4 ـ ليس للبشر قدرة على تنظيم الحياة الاجتماعيَّة المطلوبة من دون الله.
5 ـ لا بدَّ من أن يكون حامل القوانين الإلهيَّة وحافظها معصوماً، لتصل إلى الإنسان بصورة كاملة، ومن دون نقص وتدخّل وتصرّف
1- الإلهيّات من الشفاء: 487 – 488، المقالة العاشرة، الفصل الثاني.
213
195
الدرس الثالث والعشرون: الدليل العقلي على ولاية الفقيه
6 ـ تبيين الدِّين الكامل وإجراؤه يتطلّب نصب الوصيّ والإمام المعصوم1.
7 ـ لا يؤمّن الهدف المذكور ـ أي الحياة الاجتماعيَّة المطلوبة والمنسجمة مع القوانين الشَّرعيَّة ـ في حالة فقدان النبيّ والإمام المعصوم، إلّا من طريق القائد العالم بالوحي والعامل به.
فالمقدّمة السادسة، في هذا البرهان، مقيدة بلزوم نصب الإمام، والمقدّمة السَّابعة تثبت ضرورة نصب القائد في زمان غيبة الإمام المعصوم.
فالصُّورة الحاصلة، من اندماج مقدِّمتي هذا البرهان، جاءت في كلمات آية الله جوادي آملي بهذا الشَّكل:
"إنّ حياة الإنسان الاجتماعيَّة وكماله الفرديّ والمعنويّ تتطلّب، من جانب، قانوناً إلهيّاً في الأبعاد الفرديَّة والاجتماعيَّة، مصوناً ومحفوظاً من الضُّعف والنَّقص والخطأ والنسيان، وتحتاج، من جانب آخر، إلى حكومة دينيَّة وحاكم عالم وعادل لتحقُّق وإجراء ذلك القانون الكامل. والحياة الإنسانيَّة لا تتحقَّق، في بعدها الفرديّ والاجتماعيّ، بدونهما أو بأحدهما، وفقدانهما في البعد الاجتماعيّ يوجب الهرج والمرج وفساد المجتمع الّذي لا يقرّه أيّ شخص عاقل. وهذا البرهان الّذي هو دليل عقليّ، ولا يختصُّ بأرض وزمن معيَّنين، يشمل زمان الأنبياء عليهم السلام. ولما كانت نتيجته ضرورة النبوّة، فإنَّه يشمل، أيضاً، ما بعد نبوّة الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، ما يعني أنَّه يفضي إلى ضرورة الإمامة، وكذلك إلى عصر غيبة الإمام المعصوم وحاصله ضرورة ولاية الفقيه"2.
ولا يقتصر الدليل العقليّ المحض على هذه الحدود، فهناك العديد من البراهين المتكوِّنة صرفاً من مقدِّمات عقليَّة، أُقيمت على ضرورة نصب الوليّ في عصر الغيبة.
1- هذا الدليل لا يثبت أكثر من لزوم تنفيد أحكام الشرع. وهذا لا يلازمه بنص الفقيه بل يكفي الوثوق به لتنفيذ أحكام الشرع.
2- ولاية الفقيه: 151 و152.
214
196
الدرس الثالث والعشرون: الدليل العقلي على ولاية الفقيه
الدليل العقليّ المركَّب
يمكن إقامة الدَّليل العقليّ على ولاية الفقيه، بالاستفادة من بعض الأدلَّة الشَّرعيَّة، وضمِّها إليه مع بعض المقدِّمات العقليَّة، ونشير هنا إلى برهانين من تلك البراهين:
البرهان الأوَّل ـ أثبت أُستاذ الفقهاء، المرحوم آية الله البروجرديّ، الولاية العامَّة للفقيه، بالاستناد لهذه المقدِّمات العقليَّة والنقليَّة:
1ـ يتصدّى الحاكم لتلبية الحاجات الّتي يتوقَّف عليها حفظ نظام المجتمع.
2ـ إلتفت الإسلام إلى هذه الحاجات، وشرّع لها الأحكام اللازمة، وطالب حاكم المسلمين بإجرائها.
3ـ كان قائد المسلمين وزعيمهم، في صدر الإسلام، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن بعده الأئمّة الأطهار عليهم السلام، وكان من وظائفهم سياسة شؤون المجتمع وإدارتها.
4ـ القضايا السِّياسيَّة وإدارة شؤون المجتمع لا تقتصر على ذلك الزمان، فهي من حاجات المسلمين في العصور والدُّهور جميعها.
لم يكن من السَّهل على الشِّيعة، بسبب تفرّقهم في البلدان، الوصول إلى الأئمّة عليهم السلام في حياتهم. ولذلك، فإنّنا نوقن بأنّهم نصّبوا بعض الأفراد لإدارة هذه الأُمور حتى لا تختل شؤون الشِّيعة. ونحن لا نحتمل ـ في عصر الغيبة ـ أن يكون الأئمّة قد نهوا الشِّيعة عن الرُّجوع إلى الطَّواغيت وأعوانهم، وفي الوقت نفسه أهملوا السِّياسة، ولم ينصّبوا بعض الأفراد لتدبير الأُمور السِّياسيَّة، ورفع الخصومات وسائر المتطلّبات الاجتماعيَّة المهمَّة.
5ـ بالنَّظر إلى لزوم نصب الوليّ، من جانب الأئمّة عليهم السلام، لا بدَّ من إحراز تعيين الفقيه العادل لإحراز هذا المنصب، لأنّه لا أحد يعتقد بنصب غير الفقيه لهذا المنصب. فليس هناك سوى احتمالين:
الأوّل: إنّ الأئمّة عليهم السلام لم ينصّبوا أحداً، وإنّما نهوا شيعتهم عن الرُّجوع إلى الطَّاغوت والسُّلطان الجائر فقط.
215
197
الدرس الثالث والعشرون: الدليل العقلي على ولاية الفقيه
والثاني: إنّهم نصّبوا الفقيه العادل لهذه المسؤوليَّة. ويتّضح من المقدمات الأربع السابقة بطلان الاحتمال الأوّل. وعليه، قطعاً، تم نصب الفقيه العادل1.
البرهان الثاني: وقد قرّر آية الله جوادي آملي برهانه العقلي المركَّب بهذه الصيغة:
"إنَّ صلاحيَّة الدَّين الإسلاميّ وديمومته إلى يوم القيامة من المسلّمات والواضحات... وتعطيل الإسلام، في عصر الغيبة، مخالف لخلود الإسلام في جميع الشؤون العقديَّة والأخلاقيَّة والعمليَّة. وإقامة النِّظام الإسلاميّ وإجراء أحكامه وحدوده والدفاع عن كيان الدِّين وحفظه من الطامعين أمورٌ لا يشكّ في ضرورتها. والحكيم، تعالى، لا يرضى قطُّ بهتك الحرمات الشَّرعيَّة وأعراض الناس وضلالهم وتعطيل الإسلام. ودراسة الأحكام السِّياسيَّة ـ الاجتماعيَّة للإسلام تفيد استحالة تحقّقها من دون زعامة الفقيه الجامع للشرائط. فالعقل يحكم، على هذا الأساس، أنّ الله تبارك وتعالى لم يترك الإسلام والمسلمين في عصر الغيبة من دون زعامة"2.
ومقدِّمات هذا الدَّليل ليست عقليَّة تماماً. وقد استفيد من بعض الأُمور مثل الحاجة لإجراء الأحكام الإسلاميَّة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، نظير الحدود والقصاص والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والزَّكاة والخمس ووجود الحكومة الصالحة. وبناءً على ذلك، فهو ليس دليلاً عقلياً محضاً.3
1- البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر: 72 ـ 78.
2- ولاية الفقيه: 167 و168.
3- هذا الدليل لا يثبت تعيّن الفقيه. إلا إذا تمسكنا بالقدر المتيقن. والقدر المتيقن عندئذ له وجهتان: 1- المجري للأحكام، 2- نفس الأحكام من حيث السعة والضيق.
216
198
الدرس الثالث والعشرون: الدليل العقلي على ولاية الفقيه
الخلاصة
1ـ يمكن الاستعانة بالدَّليل العقليّ في بعض المسائل الفقهيَّة. والدَّليل العقليّ كاشف عن الحكم الشرعيّ.
2ـ الدَّليل العقليّ قسمان:
أ - الدَّليل العقليّ المحض
ب - الدَّليل العقليّ المركَّب.
والدَّليل العقليّ المحض هو الدَّليل الّذي يستند إلى مقدِّمات عقليَّة ويقينيَّة تماماً، أمّا الدَّليل العقلي المركَّب، فيضم فيه بعض المقدمات الشَّرعيَّة والنقليَّة إلى المقدمات العقليَّة.
3ـ الدليل العقليّ على الإمامة والنبوّة له جذوره التاريخيَّة، بينما تعود الاستعانة بهذا الدليل، في بحث ولاية الفقيه، إلى العصور المتأخِّرة.
4ـ يمكن تقرير الدليل الّذي أقامه الفلاسفة على النبوّة وضرورة بعث الأنبياء بشكل يفضي إلى ضرورة نصب الإمام ونصب الفقيه.
5ـ جوهر الدليل العقليّ المركَّب على ولاية الفقيه هو أنّ الإسلام يلبِّي حاجات الإنسان في جميع العصور والأمصار. وكما يتطلّب تطبيقه نصب الإمام المعصوم، فإنّه يتطلّب في عصر الغيبة نصب من يطبّق الإسلام، وهو الفقيه.
6ـ يثبت الدَّليل العقليّ ضرورة نصب الإمام والفقيه، ولا يتضمَّن هذا الدليل إثبات نتيجة جزئيَّة وشخصيَّة قطّ، ولا يعيّن أنّ ذلك الشخص هو الإمام.
217
199
الدرس الثالث والعشرون: الدليل العقلي على ولاية الفقيه
الأسئلة
1ـ عرّف الدليل العقليّ المحض.
2ـ عرّف الدليل العقليّ المركَّب.
3ـ ما هي مكانة الدليل العقليّ في الفقه؟
4ـ أذكر خلاصة دليل عقليّ واحد على ولاية الفقيه.
5ـ قرّر باختصار الدليل العقليّ المركَّب الّذي استدلّ به آية الله البروجرديّ على ولاية الفقيه.
218
200
الدرس الثالث والعشرون: الدليل العقلي على ولاية الفقيه
للتوسع في المطالعة
للوقوف على آراء فقهاء الشِّيعة، في باب ولاية الفقيه والمباحث الواردة في هذا الفصل، راجع المصادر الآتية:
1ـ ولاية الفقيه في صحيحة عمر بن حنظلة وغيرها، السيّد جعفر مرتضى العاملي، ط. قم، 1403 هـ،
2ـ الحكومة الإسلاميَّة وولاية الفقيه، محمّد تقي مصباح اليزدي، منظمة الإعلام الإسلامي ـ طهران 1993 م.
3ـ الشريعة والحكومة، السيد محمّد مهدي الموسوي الخلخالي، مركز نشر مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم، 1999 م.
4ـ الدِّين والدَّولة في الفكر الإسلامي، محمّد سروش محلاتي، مركز نشر مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم، 2000 م.
5ـ النظريَّة السِّياسيَّة للإسلام، محمد تقي مصباح اليزدي، مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والتحقيق ـ قم، 2000 م.
6ـ ولاية الفقيه وحاكميَّة الأُمّة، السيد حسن طاهري الخرم آبادي، مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم، 1993 م.
7ـ ولاية الفقيه في الحكومة الإسلاميَّة، السيد محمّد حسين الحسيني الطهراني، 4 مجلدات، مؤسسة النشر والترجمة طهران، 1414 هـ،
8ـ حكمة حكومة الفقيه، حسن ممدوحي، مركز نشر مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم، 2000 م.
9ـ الحكومة الإسلاميَّة في أحاديث الشِّيعة الإماميَّة، رضا استادي وآخرون، مؤسسة في طريق الحقّ ـ قم، 1989 م.
10ـ آراء الفقهاء في ولاية الفقيه، السيّد عليّ الحسيني، الفقه، تحليل معاصر في الفقه الإسلامي، العدد صفر، 1993 م.
219
201
الدرس الثالث والعشرون: الدليل العقلي على ولاية الفقيه
11ـ ولاية الفقيه: ولاية الفقاهة والعدالة، عبد الله جوادي آملي، مركز إسراء للنشرـ قم، 1999 م.
12ـ الأبعاد الفقهيَّة للإمام الخميني قدس سره، مجلة فقه أهل البيت، العدد 19 ـ 20، السنة الخامسة، خريف ـ شتاء عام 1999 م.
220
202
خصائص الحكومة الدينية
خصائص الحكومة الدينية
الدَّرس 24: فلسفة ولاية الفقيه
الدَّرس 25: خصائص الزَّعامة وشرائطها
الدَّرس 26: دائرة طاعة القيادة
الدَّرس 27: المصلحة العامَّة وحكم الفقيه
الدَّرس 28: حكم الفقيه وولايته المطلقة
الدَّرس 29 – 30: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها
الدَّرس 31 – 32: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة
221
203
خصائص الحكومة الدينية
تمهيد
اقترنت النَّظريَّة السِّياسيَّة الشِّيعيَّة، في عصر الغيبة، بأُطروحة ولاية الفقيه. وقد شُيّد صرح النِّظام السِّياسيّ على أُسس هذه الولاية. وهذا ما جعلنا نبحث، في الفصل السَّابق، بالتفصيل، في إثباتها وفي المسار التاريخيّ للاعتقاد بها في مصادر فقهاء الشِّيعة. ولا بدَّ من تسليط الضوء، في هذا الفصل، على مختلف شؤون الحكومة الولائيَّة وعلى بعض خصائصها وأهدافها.
الواقع أنّ هناك العديد من التحدِّيات والهجمات الّتي واجهت أُطروحة الحكومة الدِّينيَّة وولاية الفقيه في العالم المعاصر، في ظلّ الأجواء الّتي تشهد الاستجابة التامَّة للعلمانيَّة والحكومات اللِّيبراليَّة ـ الديمقراطيَّة. يتطلَّب هذا الواقع، علاوة على استسلام العقليات المعروفة للفلسفة السِّياسيَّة العلمانيَّة وغير الدِّينيَّة في مقابل النظريّة السِّياسيَّة القائمة على أساس ولاية الفقيه والحاكميَّة الدِّينيَّة، دفاعاً مستدلاًّ ومنطقيَّاً وتوعية متواصلة.
فالحقد والبغض هما الدَّافعان إلى إطلاق بعض الشُّبهات والهجمات على ولاية الفقيه، بينما يعود بعضها الآخر إلى الإبهام وسوء الفهم. ولا سبيل إزاء القسم الثاني سوى البيان المستدلّ والمنطقيّ. وبناءً على ذلك، فهذا الفصل يتابع هدفين: الردّ
223
204
خصائص الحكومة الدينية
على بعض شبهات وإبهامات الحكومة الولائيَّة من جانب، والإشارة إلى بعض خصائص الحكومة الدِّينيَّة وأهدافها من جانب آخر.
224
205
الدرس الرابع والعشرون: فلسفة ولاية الفقيه
الدرس الرابع والعشرون: فلسفة ولاية الفقيه
إنَّ المجتمع الإسلاميّ، كأيّ مجتمع آخر، يتطلّب ولاية/ زعامة سياسيَّة. وكما مرَّ بنا في الفصل الأوّل، فإنّ المجتمع لا يستغني عن الحكومة/ الزَّعامة السِّياسيَّة، وإن كان أبناؤه منضبطين ومراعين للحقّ، ذلك لأنّه يتعذَّر تنظيم شؤونه الرئيسة إلّا من خلال وجود مرجعيَّة تُعرف بالحكومة والدَّولة. فالذي يسوِّغ ضرورة الزَّعامة والسُّلطة السِّياسيَّة هو ما ينطوي عليه المجتمع من نقص وحاجة. والمجتمع من دون الحكومة/ الزَّعامة السِّياسيَّة مجتمع ناقص، يعاني العديد من الأزمات، وفضلاً عن هذا، فإنّ سرّ الحاجة للحكومة والولاية لا يعود إلى نقص أفراد المجتمع وحاجاتهم فحسب.
وبناءً على ذلك، فجعل الولاية للفقيه العادل، في مصادرنا الدِّينيَّة، إنّما هو لتلبية حاجات المجتمع الإسلاميّ. ومعنى جعل الولاية للفقيه العادل ومنحه زعامة المجتمع الإسلاميّ، ليس لأنّ أبناء المجتمع الإسلاميّ ضعفاء وقاصرون، وبحاجة إلى وليّ وقيّم، بل لأنّ حاجات المجتمع البشريّ تُلبَّى من خلال تعيين الزَّعامة السِّياسيَّة.
وكما مرّ بالتَّفصيل، في الفصل الثالث، فإنّ أغلب فقهاء الشِّيعة يرون أنَّ هذه الزَّعامة السِّياسيَّة، في عصر الغيبة، هي للفقيه الجامع للشَّرائط، وأنّ هذا الفقيه نُصِّب، في هذا المقام، على أساس الأدلَّة الرِّوائيَّة، أو من باب أنّه من القدر المتيقَّن في
225
206
الدرس الرابع والعشرون: فلسفة ولاية الفقيه
الأُمور الحسبيَّة أنّ له حقَّ التصرُّف فيها، فإن نهض بالأمر سقط التصدّي عن الآخرين حتّى عن أُولئك الّذين يرون أنَّ الولاية السِّياسيَّة، في عصر الغيبة، تتمُّ بانتخاب الأُمّة وينكرون النَّصب، ويعتقدون بأنّ الأُمّة لا يمكنها اختيار غير الفقيه العادل للزَّعامة، أي أنّهم يدافعون، تالياً، عن ولاية الفقيه المنتخبة.
إذاً، يمكن الادّعاء بأنّ النظريَّة السِّياسيَّة الشِّيعيَّة، في عصر الغيبة، قائمة على أساس الزَّعامة السِّياسيَّة للفقيه العادل. والواقع أنَّه لا يوجد فرق بين أن نعدَّ منشأ هذه الزعامة الأدلَّة الروائيَّة على نصب الفقيه للولاية، أو أن نثبتها له من باب الحسبة، أو أن نعدَّ الفقاهة شرطاً ضرورياً لمنتَخَب الأُمّة. تُرى ما سرّ ذلك؟ ولماذا يؤكّد علماء الشِّيعة أنّ الفقاهة شرط في زعامة المجتمع الإسلاميّ؟
الجواب عن هذا السؤال يكمن في أنّ وظيفة الحكومة ورسالتها، في المجتمع الإسلاميّ، هي إدارة مختلف شؤون المسلمين وفاقاً للتعاليم الشَّرعيَّة. وخلافاً للحكومات العلمانيَّة الّتي لا تفكر سوى في إشاعة النِّظام وبسط الأمن والاستقرار وضمان الرَّفاه الاجتماعيّ في إطار المبادئ والأُسس اللِّيبراليَّة، أو في الأُطر الأُخرى للمذاهب البشريَّة، فإنّ هدف الحكومة الدِّينيَّة ليس تغطية هذه الأُمور بكلّ صيغة ووفاقاً لأيِّ نزعة. فجميع القضايا والعلاقات الاجتماعيَّة، في المجتمع الإسلاميّ، لا بدَّ من أن تتبلور على أساس القيم والموازين الإسلاميَّة. ولا بدَّ من أن تنسجم مختلف المجالات الاقتصاديَّة والمعيشيَّة والإداريَّة والرَّوابط الحقوقيَّة والعلاقات الثَّقافيَّة مع الأُطر الدِّينيَّة.
وبناءً على ذلك، لا بدَّ من أن يتمتّع زعيم المجتمع الإسلاميّ بمعرفةٍ كافيةٍ بالإسلام وموازينه وتعاليمه، فضلاً عن القدرة على إدارة الشؤون الاجتماعيَّة المهمَّة والأهليَّة لذلك. ولهذا كان لا بدَّ من أن يكون زعيم المجتمع الإسلاميّ فقيهاً وعارفاً بالإسلام بالشكل الّذي يجعله جديراً بالتصدّي لولاية المسلمين السِّياسيَّة1.
1- لو تجعل هذه إحدى المقدمات في الدليل العقلي بكلا قسميه لتمّت النتيجة.
226
207
الدرس الرابع والعشرون: فلسفة ولاية الفقيه
هذه المسألة لم تغب عن بعض مفكِّري أهل السنَّة وعلمائهم، فهم لا يعتقدون بنظريَّة التنصيب، ويرون أنّ المتون الدِّينيَّة لم تتحدَّث عن كيفيَّة تعيين الزعامة الإسلاميَّة. وعلى هذا الأساس، يؤكّد بعض مفكِّريهم المعاصرين ما يأتي:
القرآن والسنَّة يشتملان على بعض الأُمور الّتي يمكن اعتبارها من المبادئ الأخلاقيَّة للحكومة في الإسلام، وهذه الأُمور من قبيل: مدح الشُّورى، والحثُّ على المشورة في الحكومة، والدَّعوة لإقامة العدل ومساعدة الفقراء والمساكين. ومن الواضح أنّ عينيَّة هذه المبادئ الأخلاقيَّة في الدَّولة تستلزم أن يكون الحاكم عالماً بالدِّين ومخلصاً ومطبِّقاً له1.
التَّشكيك في اشتراط الفقاهة
هناك رؤية أُخرى تقابل هذه النَّظرة الغالبة والسَّائدة، الّتي تؤكّد ضرورة توافر عنصر التفقّه والمعرفة بالدِّين في الزَّعيم السِّياسيّ للمجتمع الإسلاميّ، وتصرّ على الولاية التنصيبيَّة للفقيه، أو على الأقلّ، تشترط الفقاهة في التَّصدّي للزعامة السِّياسيَّة. تنكر هذه الرُّؤية الأُخرى تصدِّي الفقيه للشؤون التَّنفيذيَّة، ذلك أنَّ أصحابها يعتقدون بعدم وجود الملازمة بين إجراء التعاليم الإسلاميَّة وتصدِّي الفقيه للأُمور التنفيذيَّة. ويقولون: صحيح أنّ للإسلام تعاليم اجتماعيَّة وسياسيَّة، ويؤكّد على مبادئ وقيم خاصّة، إلّا أنّ هذه التعاليم لا تعني أنّ الزَّعامة السِّياسيَّة للمجتمع بيد الفقيه، لأنّ وظيفة الفقيه مجرّد بيان الأحكام، وليس من شأنه تنفيذها والقيام عملياً بالتصدّي لأُمور المجتمع، بهدف تطبيق هذه الأحكام، ولا ضرورة لأن تكون الفقاهة من شرائط الزعامة السِّياسيَّة. وإن أردنا التعامل بجدِّيَّة مع مشاركة الفقيه في المسائل الاجتماعيَّة والسياسيَّة، فعلينا أن نؤمن بإشراف الفقيه على إجراء الأحكام الشَّرعيَّة ومراقبته لها. ومن الواضح أنّ هناك بوناً شاسعاً بين "إشراف الفقيه" و"ولاية الفقيه". فالإشراف لا يقلّد الفقيه أيّة وظيفة ومسؤوليَّة تنفيذيَّة وإداريَّة.
1- الدِّين والدَّولة وتطبيق الشريعة لمحمد عابد الجابري: 34.
227
208
الدرس الرابع والعشرون: فلسفة ولاية الفقيه
بعض المدافعين عن عدم اشتراط الفقاهة، في الزَّعامة السِّياسيَّة للمجتمع الإسلاميّ، يستدلّون باختلاف شأني السِّياسيّ والفقيه. فهم يرون أنّ السِّياسة وإدارة شؤون المجتمع حرفة وفنّ، تتعاطى مع الجزئيات، بينما الفقاهة، والأسمى منها: الإمامة والنبوّة، تتعامل مع الأُصول والأُمور العامَّة الكلّيَّة. فإنّ التضلّع في الجزئيات وإدارة المجتمع، ليس له أيّ ملازمة مع التضلّع بـالأُصول والعموميَّات. فالأُصول والأُمور العامَّة الكلّيَّة والأحكام أُمور ثابتة تأبى التغيُّر، بينما تتعامل السِّياسة والإدارة مع الأُمور الجزئيَّة المتغيِّرة على الدوام:
فكما لا يستطيع الفيلسوف، بعقله النَّظريّ الصرف، والفقيه بمجرّد اجتهاده وتفقُّهه في الدِّين، أن يبادر إلى مهنة الحياكة والنسيج أو "السُّواقة" من دون الاختبار والتجربة، كذلك لا يسع الفيلسوف أو الفقيه، أو أيّ متخصِّص آخر أن يبادر إلى المجال السِّياسيّ لمجرّد عقله النظريّ أو فقهه، ذلك لأنّ الفلسفة النظريَّة، أو الفقاهة، أو النظريَّة الأخلاقيَّة، هي على مستوى الثوابت المجرّدة، والسِّياسة هي في دائرة المتغيِّرات.
فالحكومة المدبِّرة لشؤون البلاد، والمسؤولة عن تسيير أُمور الناس اليوميَّة ورعاية أمنهم واقتصادهم، إنّما تُعدُّ من شعب العقل العمليّ ومن الموضوعات الجزئيَّة والمتغيِّرة الّتي تقع عادةً في الموضوعات الحسِّيَّة والتجريبيَّة. وبالتأكيد، فإنّ وضعها يختلف تماماً عن الكلّيات والأوامر السماويَّة. والتَّشخيص الصَّحيح للموضوعات التجريبيَّة هو في عهدة الناس فقط، وما لم يشخِّصوا الأمور كما ينبغي، لا يكون لأحكام الشرع الكلّيَّة من فاعليَّة وحاكميَّة.
ويدافع آخرون عن هذه الرُّؤية الّتي لا تجد في الفقاهة شرطاً لإدارة شؤون المجتمع الإسلاميّ، فيقولون بعدم حصر دور الفقيه في طرح الأُصول والكلّيات، بل يضيفون إليه شأن الإشراف. فهم يعتقدون بأنَّ لا ضرورة لأن تكون الزعامة للفقيه العادل، بغية تحقّق الحكومة الدِّينيَّة، بل تحصل هذه الحكومة إن كان الفقيه مشيراً أو مشرفاً، يخضع له
228
209
الدرس الرابع والعشرون: فلسفة ولاية الفقيه
المسؤولون عن إجراء الشريعة.
وبناءً على ما تقدّم، فإنّ نظرة المدافعين عن عدم اشتراط الفقاهة في الزَّعامة السِّياسيَّة، وبالنتيجة إنكار ولاية الفقيه السِّياسيَّة، إنّما تستند إلى أمرين:
الأوَّل: أنّ التضلّع في الفقه ليست له أيّة دلالة على أولوية الفقيه العادل في التصدّي السِّياسيّ وإدارة شؤون المجتمع.
والآخر: أنّ تشكيل الحكومة الدِّينيَّة، وتحقيق أهداف الدِّين وأحكامه على مستوى المجتمع لا ينحصران في تصدِّي الفقيه لإدارة الشؤون السيِّاسيَّة، وإنَّما هناك صيغ أُخرى للحكومة الدِّينيَّة يمكن تطبيقها، وليس للفقيه من ولاية فيها، بل ينحصر دوره في بيان الأحكام، أو أبعد من ذلك، في الإشراف على رعاية الأحكام الشَّرعيَّة.
الدِّفاع عن ضرورة الزَّعامة السِّياسيَّة للفقيه
لقد أغفلت النَّظريَّة الّتي رفضت شرط الفقاهة في إدارة شؤون المجتمع الإسلاميّ، وتنكّرت لولاية الفقيه السِّياسيَّة، العديد من الأُمور المهمَّة. وسنناقش رؤيتها من خلال المسائل الآتية:
1 ـ هل الفقاهة، من وجهة نظر القائلين بالولاية السِّياسيَّة للفقيه، هي العلّة الوحيدة والشرط اللازم لإحراز هذا المنصب الاجتماعيّ، أو أنّها أحد الشُّروط الضَّروريَّة اللاَّزمة لتولِّي زعامة المجتمع الإسلاميّ السِّياسيَّة؟
كما سيأتي، في الدَّرس القادم، فإنّ المصادر الدِّينيَّة ذكرت بعض الشُّروط والصِّفات اللاَّزم توافرها في إمام المسلمين، ومن أهمها التبحُّر في الدِّين والتفقُّه. فالعدالة والشجاعة وحسن التدبير والمقدرة على إدارة شؤون المجتمع تعدُّ من جملة الشروط المعتبرة اللاَّزم توافرها في إمام المسلمين ووليِّ أمرهم. واستناداً إلى ضرورة توافر هذه الصِّفات الكثيرة في من يتصدَّى لهذا المقام، علاوة على المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، يتّضح أنّ الفقاهة ليست الشرط الوحيد المفروض توافره في زعيم المجتمع الإسلاميّ،
229
210
الدرس الرابع والعشرون: فلسفة ولاية الفقيه
لكي يُقال ـ على سبيل الإشكال ـ إنَّ التفقُّه في الدِّين لا يؤمّن المؤهِّلات والقابليات اللاَّزمة لإدارة شؤون المجتمع، وإنّ السِّياسة وإدارة البلاد تتطلّب مقدرة خاصّة في الجزئيات، بينما الفقاهة قادرة على إدراك كلّيات الأحكام والأُصول.
2 ـ تتمثَّل مهمَّة الزَّعامة السِّياسيَّة، في الحكومات العلمانيَّة، في إدارة شؤون المجتمع، وضمان الأمن والرفاه في أُطر النُّظم والمبادئ اللِّيبراليَّة وحقوق الإنسان. والحكومة الدِّينيَّة ملتزمة بالدين، وتنشد تحقيق الأهداف المذكورة ضمن إطار الشرع والمبادئ والقيم الإسلاميَّة. وبناءً على ذلك، لا يمكن تفويض العقل العمليّ وفنّ الإدارة والتمكّن من السِّياسة العمليَّة في إدارة شؤون المجتمع الإسلاميّ، ذلك لأنّ السِّياسة والإدارة في هكذا حكومة ينبغي أن تمارس في ظلّ الموازين الدِّينيَّة والشَّرعيَّة. إذن، فزعيم هذا المجتمع، إضافة إلى فقاهته ومعرفته بالإسلام، لا بدَّ من أن يتمتع بقدرة سياسيَّة، وباطّلاع على فنِّ الإدارة ومعرفة به.
والشاهد على ذلك أنّ بعض الأُمور تطرأ على المجتمع الإسلاميّ، ما يجعل مصلحة النِّظام والمجتمع الإسلاميّ تقتضي من الحاكم إصدار أمر حكوميّ. وقد يكون الحكم، أو الأمر الحكوميّ، في بعض الموارد، مخالفاً لبعض الأحكام الأوّليَّة الإسلاميَّة. وعلى أساس أدلّة نصب الفقيه العادل للولاية العامَّة، فإنّ صدور الأمر الحكوميّ، أو الحكم الولائيّ، من شأن الفقيه العادل، وإطاعة أحكامه الولائيَّة واجب شرعيّ، بينما لو كان الزعيم السِّياسيّ للمجتمع الإسلاميّ فاقداً للفقاهة، فليس له حقّ إصدار مثل هذه الأحكام، وإنّ عدم طاعته في أحكامه وأوامره المخالفة لبعض الظواهر الشَّرعيَّة أمرٌ جائز.
والشَّاهد الآخر هو أنّه، وبالنَّظر إلى ضرورة تطبيق التعاليم الإسلاميَّة في مختلف المجالات الاجتماعيَّة، فإنّ بعض الحالات تشهد تزاحم بعض الأحكام الشَّرعيَّة مع أحكام أُخرى، والالتفات إلى أحدها يعني تجاوز الآخر. ففي هذه الحالة، لا بدَّ من أن يشخِّص الحاكم أيّهما أهمّ وأيّهما مهمّ، فيقدم الأهمّ على المهمّ، ولا شكَّ في أنّ تشخيص الأهمّ والمهمّ من الأحكام يتطلّب تعمقاً وتبحُّراً
230
211
الدرس الرابع والعشرون: فلسفة ولاية الفقيه
من الحاكم في التعاليم الدِّينيَّة.
فهذان الشَّاهدان يشيران إلى أنّ الزعامة الإسلاميَّة تتطلّب ميزةً مهمّة، وهي التفقُّه إلى جانب القدرات والكفاءات اللازمة والمعروفة في سائر الحكومات. وكون الحكومة دينيَّة يتطلّب مثل هذا الشرط على صعيد زعامة المجتمع.
3 ـ لا بدَّ من أن يلتفت أُولئك الّذين يتبنُّون نظريَّة إبعاد ولاية الفقيه عن التوجُّه القائل بحصر دور الفقيه في المشاورة والإشراف، إلى أنّ جعل الفقهاء على هامش الحكومة وحصر عملهم في الإشراف على إسلاميَّة النِّظام، يفقد الضَّمانة اللازمة لتحقيق أهداف الحكومة الدِّينيَّة، أي لو غضضنا الطَّرف عن النقطة الثانية، وسلَّمنا زعامة المجتمع لغير الفقيه، وحصرنا دور الفقيه في الإشراف، فما الضمانة لبقاء إسلاميَّة النِّظام والتزام أصحاب القرار بوصايا الفقيه؟ فإن استحوذت السلطة التنفيذيَّة على جميع الأجهزة الإداريَّة، وتفاقمت المخالفات وحالات التمرُّد على الشرع، فمن ذا الّذي يلزم هذه الزَّعامة بالاستجابة لوصايا الفقهاء؟
إنّ تجربة الحركة الدستوريَّة (المشروطة)، واستيعاب دور الفقهاء في الدَّستور (القانون الأساس) بالإشراف على لوائح مجلس الشُّورى، لَشَهادةٌ حيَّة على عدم فاعليَّة عنصر الإشراف لضمان إسلاميَّة النظام.
فالتَّاريخ يشهد أنّ هذا الأصل (القانون الأساس)، سرعان ما أُقصي عن الحياة الدستوريَّة، وغاب إشراف الفقهاء عمليَّاً من مسرح الأحداث السِّياسيَّة.
231
212
الدرس الرابع والعشرون: فلسفة ولاية الفقيه
الخلاصة
1ـ جعل الولاية للفقيه العادل هو لسدِّ ضعف المجتمع ونقصه.
2ـ عدّ فقهاء الشِّيعة التفقُّه شرطاً لزعامة المجتمع وإدارة شؤونه، حتى تلك الطائفة من الفقهاء الّتي لا تؤمن بنصب الفقيه.
3ـ فلسفة اشتراط الفقاهة، في الزَّعامة السِّياسيَّة، تتمثَّل في أنّ أهداف الحكومة لا تقتصر على الرفاه والأمن، فمن هذه الأهداف تكييف جميع العلاقات الاجتماعيَّة مع الأحكام والتعاليم الإسلاميَّة.
4ـ يرى بعض مخالفي ولاية الفقيه أن ليس من ملازمة بين تطبيق الإسلام وتصدّي الفقيه. فهؤلاء يعتقدون بأنّ إدارة شؤون المجتمع شأن للسياسيّ لا للفقيه. فالفقيه متضلّع في الأُصول العامَّة والكلّيات، في حين أنّ إدارة شؤون المجتمع تتعلّق على الدوام بالجزئيَّات والمتغيِّرات.
5ـ بعض آخر من مخالفي ولاية الفقيه يرى أن لا ملازمة بين الحكومة الدِّينيَّة وتصدّي الفقيه، فإسلاميَّة النظام تتحقّق بإشراف الفقيه.
6ـ غفل مخالفو الولاية السِّياسيَّة للفقيه عن بعض الأُمور، أحدها أنّ الفقاهة ليست الشرط الوحيد في الزعامة السِّياسيَّة، ليشكل عليها بأنّ إدارة شؤون المجتمع تتطلّب بعض الخصائص، لا يكفي فيها الاطِّلاع على الأصول والكلّيات.
7ـ أثبتت التجربة التاريخيَّة أنّ مجرّد إشراف الفقهاء ليس من شأنه ضمان تطابق مختلف شؤون المجتمع والسِّياسة مع الإسلام.
232
213
الدرس الرابع والعشرون: فلسفة ولاية الفقيه
الأسئلة
1ـ هل تتَّفق جميع الاتجاهات الفقهيَّة على اشتراط الفقاهة في زعامة المجتمع الإسلاميّ؟
2ـ ما هي فلسفة اشتراط التفقُّه في الزَّعامة السِّياسيَّة؟
3ـ ما هو دليل من اعتقد بأنّ التصدّي لشؤون المجتمع السِّياسيَّة ليس من شأن الفقيه؟
4ـ ما هي خلاصة رأي من يتبنَّى إشراف الفقيه بدلاً من ولايته؟
5ـ كيف تردّ على شبهة من زعم أنّ الولاية السِّياسيَّة ليست من وظائف الفقيه؟
6ـ ما هو ردّك على من يتبنَّى الدِّفاع عن إشراف الفقيه بدلاً من ولاية الفقيه؟
233
214
الدرس الخامس والعشرون: خصائص الزَّعامة وشروطها
الدرس الخامس والعشرون: خصائص الزَّعامة وشروطها
يتميَّز الفكر السِّياسي الإسلاميّ، من سائر المذاهب السِّياسيَّة الأُخرى، بخصائص وشروط خاصّة يشترط توافرها في الزعيم السِّياسيّ للمجتمع. فعنصر الجاذبيَّة والقدرة على كسب الأصوات يحتلُّ مكانة واسعة في أغلب النُّظم الديمقراطيَّة السَّائدة، ويتقدَّم على ما سواه من الفضائل والمزايا الفرديَّة الّتي يتمتَّع بها أصحاب الزَّعامات السِّياسيَّة. فالمهمّ، في هذا النَّوع من الأنظمة، هو الاستحواذ على الأذهان من خلال الدِّعاية وتبنِّي الشعارات البرَّاقة، وتالياً كسب المعركة الانتخابيَّة والفوز بالسُّلطة. أمّا في النِّظام السِّياسيّ الإسلاميّ، فإنّ الزعيم الّذي ينهض بالأمر لا بدَّ من أن يتحلّى ببعض الصِّفات والسجايا الفرديَّة. ونشير، هنا، إلى أهمّ هذه الصِّفات، ونلمّح إلى الآيات والرِّوايات الّتي صرّحت بضرورة التحلّي بها.
أوَّلاً: الفقاهة
إنّ أهمّ صفة للحاكم السِّياسيّ وأبرزها هي تمتُّعه بمعرفة عميقة بالإسلام، وبانفتاح علميّ عليه وعلى تعاليمه السامية. وقد تحدَّثنا، في الدَّرس السَّابق، عن فلسفة هذا الشَّرط وضرورة توافره في حاكم المجتمع الإسلاميّ. وتّتضح أهميَّة هذه الميزة إن عرفنا أنّنا نستلهم التعريف بالنظام السِّياسيّ الشِّيعيّ في عصر الغيبة منها، إذ إنَّنا
235
215
الدرس الخامس والعشرون: خصائص الزَّعامة وشروطها
نعدُّ هذا النِّظام قائماً على أساس "ولاية الفقيه"، على الرُّغم من أنّ سائر الشُّروط معتبرة في الحاكم الإسلاميّ للمجتمع. فنحن نستطيع الاصطلاح على تسمية هذا النظام بأنّه مبنيٌّ على "ولاية العادل"، أو "ولاية المدير والمدبّر"، أو "ولاية المؤمن والمتَّقي"، لأنّ جميع هذه الصِّفات مشترطة في الحاكم الإسلاميّ، ولكن بسبب أهميَّة صفة الفقاهة، من بين سائر الصفات، فقد جرى التَّركيز عليها، وسمِّيت الزعامة وولاية المجتمع الإسلاميّ بـ "ولاية الفقيه". واشتراط الفقاهة ممَّا يستفاد صراحة من أدلّة ولاية الفقيه الرِّوائيَّة، ونشير هنا إلى نماذج من فقرات هذه الرِّوايات:
أ - في مقبولة عمر بن حنظلة نقرأ:
"من كان منكم ممَّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً"1.
ب - وفي مشهورة أبي خديجة قال الإمام الصادق عليه السلام:
"ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا فاجعلوه بينكم"2.
ج - وقال أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "أللَّهم ارحم خلفائي ـ ثلاث مرات ـ قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: الّذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنَّتي"3.
د- وورد في التَّوقيع الشَّريف لإمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف:
"أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا"4.
وقد بحثنا، في هذه الرِّوايات، بالتفصيل في المباحث المتعلِّقة بالأدلَّة الرِّوائيَّة على ولاية الفقيه، وأشرنا إلى أنّ المراد من رواة الأحاديث والسنَّة في هذه الرِّوايات ليس مجرّد ناقلي الأحاديث، بل المراد العلماء المتفقِّهون في الدِّين، والذين يدركون
1- وسائل الشِّيعة، 27: 136 و137 ح 1، الباب 11 من أبواب صفات القاضي.
2- الكافي، 7: 412 ح 4، كتاب القضاء والأحكام، باب كراهية التَّرافع إلى قضاة الجور.
3- معاني الأخبار للشَّيخ الصَّدوق: 374 و375 ح 1 باب معنى قول النبيّP: اللهم ارحم خلفائي، تحقيق عليّ أكبر الغفاري.
4- عيون أخبار الرِّضا ع، 2: 37 ح94، الباب 31.
236
216
الدرس الخامس والعشرون: خصائص الزَّعامة وشروطها
لطائف أحاديث المعصومين عليهم السلام ورموزها، وإلاَّ فإنّ مجرّد نقل الحديث لا يستتبع مرجعيَّة وولاية.
ثانياً: العدالة
عدَّ فقهاء الشِّيعة العدالة شرطاً في الأُمور الأدنى من الولاية السِّياسيَّة وإدارة الشؤون الاجتماعيَّة، من قبيل: إمامة الجماعة أو القضاء. وبناء على ذلك، لم يعُد من المستغرب أن تكون العدالة شرطاً مهمَّاً ورئيساً في أمر خطير كإمامة الأُمّة، الّتي انعقدت وتشابكت بمصالح بناءً المجتمع وسعادة أبنائه. فما يستفاد من العديد من الآيات والرِّوايات الوفيرة هو ضرورة عدم طاعة الجائر والظَّالم، فقد حذَّرنا الله في القرآن الكريم من الرُّكون إلى الظَّلمة، فقال: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾1.
والرُّكون إلى الظَّلمة يشمل الصُّحبة والمحبَّة والنَّصيحة والتبعيَّة والطَّاعة، كما يشمل معونة الإمام الجائر وغير العادل وطاعته. نقل عليّ بن إبراهيم الرِّواية الآتية في بيان المراد من الركون إلى الظلمة: "ركونُ مودّةٍ ونصيحةٍ وطاعة"2.
كما نهى الله النَّاس، في عدة آيات، عن طاعة المسرفين والمفسدين وعبدة الأهواء، وهؤلاء جميعهم يكشفون عن غياب العدالة.
﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾3.
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾4.
كما أكّد العديد من الرِّوايات لزوم عدالة الزَّعيم وإمام الجمعة. كتب الإمام الحسين عليه السلام لأهل الكوفة:
1- سورة هود: 113.
2- تفسير القمي، 1: 338 ذيل هذه الآية .
3- سورة الشعراء: 151 – 152.
4- سورة الكهف: 28.
237
217
الدرس الخامس والعشرون: خصائص الزَّعامة وشروطها
"فلَعَمْري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط والدَّائن بدين الله"1.
وقال الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في خطبة له بحضور معاوية بن أبي سفيان: "إنّما الخليفة من سار بكتاب الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس الخليفة من سار بالجور"2.
وقال الإمام الباقر عليه السلام لمحمَّد بن مسلم:
"... والله يا محمّد، من أصبح من هذه الأُمّة لا إمام له من الله (عزّ وجلّ) ظاهر عادل، أصبح ضالاًّ تائهاً. وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق. واعلم، يا محمَّد، أنّ أئمّة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلّوا وأضلُّوا"3.
ويُستفاد، من مجموع الآيات والرِّوايات الّتي أشرنا إلى نماذج منها، أن لا ولاية للفاسق والفاجر والجائر على الأُمّة، وولاية غير العادل من نوع ولاية الطَّاغوت.
ثالثاً: العقل والتَّدبير والقدرة والأمانة
للشُّروط هذه بُعد عقلائيّ، أي إنّ طبيعة منصب الزَّعامة يقتضي التمتُّع بهذه الصِّفات، ويرى أبناء المجتمع ضرورة توافرها في القائد. وقد أكّدت آيات وروايات عديدة لزوم توافرها في من يتصدَّى للقيادة حتّى في بعض الأُمور الجزئيَّة، فضلاً عن زعامة الأُمّة وإمامتها:
﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾4.
وحين أراد يوسف عليه السلام التصدّي لأُمور الخزانة وتحدَّث في ذلك إلى عزيز مصر، أكّد تحلّيه بصفتين، هما: الحفظ، والأمانة، وهذا شاهد على ضرورة اتصاف الزعيم بهاتين الصفتين: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾5.
كما أكّدت بنت شعيب عليه السلام، حين أراد أن يتصدَّى موسى عليه السلام لأمواله، اتّصافه
1- الإرشاد، الشيخ المفيد 2: 39.
2- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني: 47.
3- أُصول الكافي 1: 184 ح 8، باب معرفة الإمام والردّ عليه.
4- سورة النساء: 5.
5- سورة يوسف: 55.
238
218
الدرس الخامس والعشرون: خصائص الزَّعامة وشروطها
بخصلتين، هما: القوّة، والأمانة. وبناءً على ذلك، من الأولى توافر هاتين الصِّفتين في من يتصدّى لزعامة المجتمع ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾1.
وأكّد الإمام عليّ عليه السلام على عدم وقوع الزَّعامة بيد الفجّار والفسّاق: "ولكنَّني آسى أن يلي أمر هذه الأُمّة سفهاؤها وفجّارها، فيتَّخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً والصالحين حرباً والفاسقين حزبا"2.
وفي الرِّواية الّتي نقلها الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا عليه السلام نتبيَّن أنّ فقدان الإمام المبين هو سبب اندراس الشريعة وزوالها: "إنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حفيظاً مستودعاً لدرست الملَّة"3.
ويرى أمير المؤمنين عليه السلام أنّ شرط الطَّاعة حسن التَّدبير والسِّياسة: "من حسُنت سياسته وجبت طاعته"4، "من أحسن الكفاية استحقّ الولاية"5.
كما عدّ أمير المؤمنين عليه السلام حسن التدبير والحلم والسِّياسة من صفات من يتصدّى لإمرة الجند الضَّروريَّة: "ولِّ أمر جنودك أفضلهم في نفسك حلماً، وأجمعهم للعلم وحسن السِّياسة، وصالح الأخلاق"6.
عرضنا أهمّ شروط الولاية والزَّعامة. وأحد الأسئلة المهمَّة الّتي ينبغي الالتفات إليها هو: هل الأعلميَّة في الفقه شرط التصدّي للولاية وإمامة الأُمّة؟ ترد الإجابة عن هذا السُّؤال، بالطبع، بعد الفراغ من أصل اعتبار الفقاهة.
1- سورة القصص: 26.
2- نهج البلاغة: 452، الرسالة 62.
3- علل الشرائع للشيخ الصدوق: 253 ح 9، الباب 182.
4- غرر الحكم للآمدي 5: 211 ح 8025.
5- المصدر السابق: 349 ح 8292.
6- دعائم الإسلام 1: 358.
239
219
الدرس الخامس والعشرون: خصائص الزَّعامة وشروطها
اعتبار الأعلميَّة في الفقه
إنَّ أحد الأبحاث المهمَّة، في باب شروط الحاكم والزَّعامة السِّياسيَّة، هو البحث في قضيَّة الأعلميَّة. فهل يلزم أن يكون الوليُّ الفقيه أعلم الفقهاء في استنباط الحكم الشَّرعيّ والاجتهاد؟ للفقيه العادل الجامع للشرائط شؤون ولائيَّة مختلفة، فصدور الفتوى الشَّرعيَّة من شؤونه كما أنَّه يتمتَّع بمنصب القضاء، والولاية على الأُمور الحسبيَّة، وتالياً على الولاية العامَّة والحاكميَّة.
والسؤال الّذي يطرح نفسه هو: هل الأعلميَّة شرط في هذه الولايات جميعها؟ يبدو أنّ شرط الأعلميَّة، ينبغي أن يتوافر، في بعض شؤون الفقيه، أكثر من بعضها الآخر، ومن ذلك مثلاً: إنّ هذا الشرط ينبغي أن يتوافر في من يتولَّى المرجعيَّة والفتيا أكثر ممَّا ينبغي توافره في من يتولَّى القضاء، ذلك لأنّنا، إن عَدَدنا الأعلميَّة شرطاً في الولاية على القضاء، للزم من ذلك أن يوجد قاضٍ واحد في البلاد برمّتها، وهذا ما يوجب العسر والاضطراب واختلال أُمور الشِّيعة. والواقع أنّ البحث يتمثَّل في ما إذا كانت الولاية، في التدبير والزَّعامة السِّياسيَّة، من نوع القضاء أم مساوقة للإفتاء وفي ما إذا كانت الأعلميَّة الفقهيَّة شرطاً فيها.
يُستفاد، من ظاهر بعض الرِّوايات، بغضِّ النَّظر عن ضعف سندها وقوَّته، اشتراط الأعلميَّة. فقد روي في كتاب سليم بن قيس الهلاليّ عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنّه قال: "أفينبغي أن يكون الخليفة على الأُمّة إلّا أعلمهم بكتاب الله وسنَّة نبيِّه، وقد قال الله: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾"1.
ونقل البرقيّ هذه الرِّواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أمّ قوماً، وفيهم أعلم منه أو أفقه منه، لم يزل أمرهم في سفال إلى يوم القيامة"2.
وقال الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، في خطبة له، وكان معاوية حاضراً: "قال
1- كتاب سليم بن قيس: 118.
2- المحاسن، البرقي، 1: 93 ح49.
240
220
الدرس الخامس والعشرون: خصائص الزَّعامة وشروطها
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما ولّت أُمّة أمرها رجلاً قط، وفيهم من هو أعلم منه، إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا"1.
ولحلّ هذه المشكلة لا بدَّ من الالتفات إلى هذه الأُمور:
1 ـ تعطينا العودة إلى كلمات فقهاء الطَّائفة دلالة على أنّهم لم يعدُّوا الأعلميَّة شرطاً في غير الافتاء والتقليد ـ المرجعيَّة ـ، ومن عدَّها شرطاً حصرها في المرجعيَّة والتقليد. قال آية الله السيد كاظم الطباطبائيّ رحمه الله في "العروة الوثقى" الّتي حظيت باهتمام الفقهاء: "لا يعتبر الأعلميَّة في ما أمره راجع إلى المجتهد إلّا في التقليد، وأمّا الولاية... فلا يعتبر فيها الأعلميَّة"2.
وبهذا قال كبار الفقهاء في تعليقاتهم على العروة. وبناءً على ذلك، فميزة الأعلميَّة الفقهيَّة ليست مشروطة في الحاكم الشرعيّ لدى الآيات العظام: الحائريّ، والنَّائينيّ، والآقا ضياء العراقيّ، وكاشف الغطاء، والسيّد أبو الحسن الأصفهانيّ، والبروجرديّ، والسيّد أحمد الخوانساريّ، والإمام الخمينيّ، والميلانيّ، والكلبايكانيّ، والخوئيّ، والحكيم، والشاهرودي (رحمهم الله جميعاً).
ويرى الشيخ الأنصاريّ أنَّها شرط عند الاختلاف في الفتيا، بينما لا يراها كذلك عند تصدّي حاكم الشَّرع للشؤون الولائيَّة المختلفة: "وكذا القول في سائر مناصب الحكم، كالتصرُّف في مال الإمام، وتولِّي أمر الأيتام والغيّب ونحو ذلك، فإنّ الأعلميَّة لا تكون مرجِّحاً في مقام النَّصب، وإنّما هو مع الاختلاف في الفتوى"3.
وادّعى صاحب الجواهر أنّ الرِّوايات والنُّصوص الواردة، في الولاية، ركّزت على التفقُّه لا الأعلميَّة: "بل، لعلّ أصل تأهّل المفضول وكونه منصوباً يجري على قبضه وولايته مجرى قبض الأفضل من القطعيَّات الّتي لا ينبغي الوسوسة فيها، خصوصاً بعد ملاحظة نصوص النَّصب الظَّاهرة في نصب الجميع الموصوفين بالوصف
1- غاية المرام للبحراني: 298.
2- العروة الوثقى: المسألة 68، الاجتهاد والتقليد.
3- التقليد للشيخ الأنصاري: 67.
241
221
الدرس الخامس والعشرون: خصائص الزَّعامة وشروطها
المزبور لا الأفضل منهم، وإلاَّ لوجب القول: "انظروا إلى الأفضل منكم" لا "رجل منكم"، كما هو واضح بأدنى تأمّل"1.
2 ـ إنّ تدبير شؤون المجتمع، إضافة إلى الحاكميَّة، يتطلّب معرفة بالموضوع. بعبارة أُخرى: لايكفى مجرّد القدرة علي استنباط الأحكام الجزئيَّة والفروع الفقهيَّة لإدارة شؤون المجتمع. وبناءً على ذلك، فالأعلميَّة الواردة، في هذه الطائفة من الروايات، ربما تعني المقدرة الشاملة، الأعمّ من الحكم والمعرفة بالموضوع. أي أنّ الأُمّة لا يكتب لها السعادة إن فوّضت أمرها لشخص غير مؤهَّل مع وجود الأعلم بإدارة الأُمور، المتَّصف باقتدار علميّ وعمليّ أكثر من غيره.
3 ـ للتفقُّه والاجتهاد عدة أبعاد، فربما يكون الفقيه أعلم في العبادات، وآخر في المعاملات، وثالث في الاجتماعيات والسِّياسة (فقه الحكومة). فتناسب الحكم والموضوع يقتضي أن لو كان لدينا إصرار علي شرط الأعلميَّة أن تكون في باب فقه الحكومة معياراً لاختيار الحاكم والزعيم السِّياسيّ، ذلك لأنّ الأعلميَّة في العبادات أو الأبواب المرتبطة بالتجارة، لا تستتبع أولويَّة في الولاية السِّياسيَّة.
والّذي يستفاد من بعض الروايات أنّ المعيار هو الأعلميَّة في إدارة شؤون المجتمع والحكومة. علي سبيل المثال، فإنّ الرِّواية الآتية بالاستناد إلى الضمير "فيه"، تقصر الأعلميَّة علي جانب معيّن هو الحكومة: "يا أيّها النَّاس، إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه"2.
1- جواهر الكلام، 40: 44 و45.
2- نهج البلاغة: الخطبة 173.
242
222
الدرس الخامس والعشرون: خصائص الزَّعامة وشروطها
الخلاصة
1- إنّ أحد مميِّزات النظام السِّياسيّ للإسلام اشتراطه الكمالات والفضائل المعيّنة في رأس هرم السُّلطة السِّياسيَّة.
2- أهمّ صفات الحاكم الإسلاميّ التفقُّه والمعرفة المعمَّقة بالإسلام.
3- يستفاد شرط التفقُّه، في ولاية الفقيه صراحة، من أدلّتها الرِّوائيَّة.
4- صرّحت أغلب الأدلَّة بحثّ الشِّيعة علي الرجوع إلى رواة الحديث، والمراد بهم الفقهاء، لأنّ مجرّد نقل الحديث من دون دراية وتفقُّه، لا يتضمَّن مرجعيَّة.
5- العدالة هي الشرط المهمّ الآخر في زعيم الأمّة الإسلاميَّة.
6- منع القرآن الكريم، في العديد من آياته، الأمّة من اتباع حكَّام الجور والظلمة والذين تغيب عنهم العدالة.
7- يستفاد من الأدلَّة الرِّوائيَّة أنّ ولاية الفاسق والجائر من نوع ولاية الطَّاغوت.
8- هناك بعد عقلائيّ لبعض صفات الزعامة وشروطها كالعقل والتدبير والاقتدار.
9- أحد الأبحاث المدعاة للتأمّل في شروط الزعيم اعتبار الأعلميَّة،
10- يرى أغلب الفقهاء أنّ الأعلميَّة شرط الإفتاء، غير أنّها ليست شرطاً في سائر شؤون الفقيه كالولاية علي القضاء والولاية علي الأمور الحسبيَّة.
11- تتطلّب إدارة شؤون المجتمع معرفة بالموضوع واطِّلاعاً علي الأوضاع السِّياسيَّة- الاجتماعيَّة المحلِّيَّة والعالميَّة إلي جانب المعرفة بالحكم. ولذلك لا يمكن حمل الأعلميَّة المذكورة في بعض الروايات علي خصوص القدرة علي الاستنباط (معرفة الحكم).
243
223
الدرس الخامس والعشرون: خصائص الزَّعامة وشروطها
الأسئلة
1- ما الدَّليل علي اشتراط الفقاهة في الولاية السِّياسيَّة؟
2- أشر إلى بعض أدلّة اشتراط العدالة في الزَّعامة السِّياسيَّة.
3- الأعلميَّة، في الاستنباط، مع أيّ نحو من أنحاء الولاية الشَّرعيَّة لها تناسب أكثر؟
4- لماذا لا تشترط الأعلميَّة في الولاية علي القضاء؟
5- هل تشترط الأعلميَّة في الولاية السِّياسيَّة؟
244
224
الدرس السادس والعشرون: دائرة طاعة القيادة
الدرس السادس والعشرون: دائرة طاعة القيادة
الموضوع الأساس لهذا الدرس هو: ما هي الأُمور الّتي تطيع فيها الأُمّة الزَّعامة والقيادة، في النِّظام القائم علي أساس ولاية الفقيه؟ وما هي حدود انقياد الأُمّة وتبعيَّتها للوليّ الفقيه؟ وهل لها الحقُّ في مخالفته في بعض المجالات وعدم الانصياع لتوجيهاته وإرشاداته؟ هذه التَّساؤلات هي المحور الأساس لهذا الدَّرس.
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة، لا بدَّ من الالتفات إلى مطلبين، نتحدَّث عنهما بوصفهما مقدِّمة.
الأوّل: لا بدَّ من توضيح مكانة الزَّعامة في النِّظام السِّياسيّ المنبثق من ولاية الفقيه.
والثاني: دراسة مختلف أنواع المخالفة وعدم التَّبعيَّة.
موقع الزَّعامة في النِّظام الولائيّ
ذكر القرآن الكريم الله تعالي بوصفه الوليَّ الأوحد والحاكم الّذي لا منازع له. فللَّه ولاية حقيقيَّة علي الإنسان، وله حقّ التَّشريع والأمر والنَّهي ﴿فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾1.
1- سورة الشوري:9.
245
225
الدرس السادس والعشرون: دائرة طاعة القيادة
﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾1.
﴿وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ﴾2.
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ﴾3.
﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾4.
ولو ضممنا هذا الموضوع إلى "أصل عدم الولاية"، لكانت النَّتيجة هي: ليس لأيّ إنسان علي آخر ولاية، وليس له حقّ الأمر والنَّهي وسنُّ القوانين والتضييق علي الآخرين، وتقتصر هذه المنزلة علي الله تعالي. فإن منح صاحب الولاية الحقيقيّ ولايةً لفرد، أو لأفراد، وأمر بلزوم طاعته أو طاعتهم، فإنّ ممارسة هذا الفرد، أو الأفراد، للولاية ستكون مشروعة ومعتبرة.
واستناداً إلى العديد من الأدلَّة القرآنيَّة والرِّوائيَّة، فإنّ الله جعل هذه الولاية للمعصومين عليهم السلام. وبناءً علي أدلّة تنصيب ولاية الفقيه، فإنّ الفقهاء العدول نُصّبوا من جانب الأئمّة عليهم السلام بالولاية. وبناءً على ذلك، لا بدَّ من طاعة أوامرهم ونواهيهم في عصر الغيبة. وعلي هذا الأساس، فإنّ ولاية الفقيه فرع من ولاية النبيّ وأهل بيته عليهم السلام، وولاية النبيّ والأئمّة انبثقت من ولاية الله تعالى وحاكميَّته.
وتفيد نصوص ولاية الفقيه وأدلَّتها أنّ الفقيه العادل يتمتَّع بحقّ الحكومة، وله بسبب الولاية السِّياسيَّة والنصب من جانب المعصومين حقّ الأمر والنَّهي، وسنُّ القوانين في الإطار العام والاجتماعيّ للمجتمع الإسلاميّ، وطاعة أوامره ونواهيه واجبة وضروريَّة.
وعلي أساس الولاية التَّنصيبيَّة للفقيه، فإنّ سائر المؤسَّسات الموجودة في الحكومة تكتسب شرعيّتها من حكم الوليّ الفقيه. فشرعيَّة الولاية السِّياسيَّة له هي مبدأ شرعيَّة سائر
1- سورة الأنعام:57.
2- سورة البقرة: 107.
3- سورة المائدة: 55.
4- سورة الأعراف: 54.
246
226
الدرس السادس والعشرون: دائرة طاعة القيادة
الأجهزة الموجودة في هيكليَّة الحكومة، لأنّه لولا مصادقته لاختلت شرعيَّة سائر الأجهزة في هذه الحكومة. علي سبيل المثال: يصدر بعض الوزراء، في الجهاز الحاكم، تعليمات معيّنة، أو أنّ عدة نوَّاب في المجلس النيابيّ، يضعون قوانين وضوابط معيّنة، أو يحدِّدون بعض المجالات، وهذه الأُمور جميعها مما يتطلَّب الشَّرعيَّة.
والتَّساؤلات المطروحة هي: لماذا يجب علينا الالتزام بالقوانين الّتي يصادق عليها المجلس؟ لماذا ننصاع لمقرّرات هيئة مجلس الوزراء؟ ما الّذي يلزمنا برعاية ضوابط الأجهزة العسكريَّة والقضائيَّة في البلاد وقوانينها، وتالياً لم تجب طاعتها؟
استناداً إلى آيات القرآن الكريم، يعود حقّ التَّشريع والأمر والنَّهي لله ولمن نصَّبه للولاية: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾1. ولهذا السبب، ليس لأحد حقّ الأمر والنَّهي والتَّشريع، إلّا من ثبتت ولايته في هذه الأُمور. إذاً، فمجرَّد فوز الأشخاص ببعض الآراء وصعودهم إلى المجلس، لا يمنحهم شرعيَّة الأمر والنهي وسنِّ القوانين، والناخبون لهم وغير الناخبين ليسوا ملزمين بطاعة أوامرهم ونواهيهم، لأنّ رأي الناس لا يجعل ذلك الفرد المنتخب صاحب منصب ولاية شرعيَّة في الحكومة، إلّا أن يفوّض حقّ التشريع من جانب صاحب الولاية الشَّرعيَّة.
ويسري هذا الكلام على جميع أجهزة السُّلطة السِّياسيَّة. علي سبيل المثال: في السلطة القضائيَّة، إن كان المتصدّي لأمر القضاء منصّباً من قبل من كانت ولايته شرعيَّة، فإنّ أوامره ستكون مشروعة. ولذلك، عبَّرت بعض رواياتنا بولاية الجور والطَّاغوت، ونعتت ولاتها وعمَّالها بأعوان الظَّلمة والطَّواغيت إزاء الحكومات وولاية الأفراد الّذين لا تتوافر فيهم شروط زعامة المجتمعات الإسلاميَّة.
وبناءً علي ما تقدَّم، فإنّ منزلة ولاية الفقيه تحتلُّ مكانة خطيرة بالغة الأهميَّة في النظام السِّياسيّ الشِّيعيّ، لأنّها أساس شرعيَّة جميع أجهزة الدَّولة. وعلي أساس هذا المبنى، صرّح دستور الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة، القائم علي أساس ولاية الفقيه، بأنّ الدستور ورئاسة الجمهوريَّة لا بدَّ من أن يُمْضَيا ويُصادق عليهما، بعد الانتخاب، من جانب
1- سورةالنساء: 59.
247
227
الدرس السادس والعشرون: دائرة طاعة القيادة
القائد الحاكم، لأنّ مجرّد كتابة بعضهم قانوناً، وتصويت أكثريَّة النَّاس عليه، لا يمنحه شرعيَّة وجوب الطاعة، إلّا أن يُصادق عليه صاحب الولاية الشَّرعيَّة، ويشهد بانسجامه مع الشَّرع. ومن هنا، فإنّ شرعيَّة أوامر رئيس الجمهوريَّة ونواهيه منوطة بإنفاذ الحاكم، لأنّ تأييد الشَّعب لرئيس الجمهوريَّة لا يجعله صاحب ولاية شرعيَّة في ممارسة الحكومة.
أقسام المخالفة
بعد أن فرغنا من إيضاح المكانة الرَّفيعة للزَّعامة والولاية في النِّظام السِّياسيّ للإسلام، لا بدَّ من دراسة مسألة، وهي: في أيّ المجالات تجب الطَّاعة والانقياد للزعامة؟ وما هي الموارد الّتي يمكن مخالفته وعدم طاعته فيها؟ ولا بدَّ من العلم قبل ذلك بأنّ المخالفة قسمان:
أ) المخالفة العمليَّة،
ب) المخالفة النَّظريَّة.
والمراد، من المخالفة العمليَّة، العصيان والتمرُّد علي القوانين والمقرّرات الحكوميَّة. والشَّخص الّذي يبادر إلى المخالفة العمليَّة لحكومة يمارس، في الواقع، "عصياناً مدنيَّاً" وخروجاً علي أوامر السُّلطة السِّياسيَّة.
أمّا المخالفة النظريَّة، فهي من نوع الاعتقاد والرَّأي ووجهة النَّظر.
فالشَّخص الّذي يعترض علي بعض قوانين الحكومة، ويراها غير صائبة، ولا يخالفها عملياً، يُعدُّ مخالفاً نظرياً لها. فهو لم ينتهك القانون، ولم يمارس العصيان المدنيّ، بل خالف بعض الأُمور علي صعيد الفكر فقط1.
إمكانيَّة مخالفة الوليِّ الفقيه
بعد أن فرغنا من ذكر المقدِّمتين الخاصَّتين بمنصب الزَّعامة والولاية وأقسام المخالفة، نصل إلى مرحلة الإجابة عن السؤال المحوريّ لهذا الدرس، وهو: هل يجب
1- المخالفة النظرية أو الالزامية ليس محرمة إذا لم تفضِ إلى مخالفة عمليّة كما حقق في الأصول.
248
228
الدرس السادس والعشرون: دائرة طاعة القيادة
الانقياد والطَّاعة التَّامَّين للوليّ الفقيه، في النِّظام الولائي، أو يمكن مخالفته شرعاً؟
إنّ الأحكام الّتي يصدرها الوليُّ الفقيه، علي غرار أوامر سائر الزُّعماء في الأنظمة السِّياسيَّة الأُخرى، تستند إلى ركنين هما:
أ) المعرفة.
ب) تعيين الحكم وطريق الحلّ المتناسب مع ذلك الموضوع (الحاكميَّة). والتقييم الدَّقيق للأوضاع والمعرفة العميقة بالموضوع يعدَّان مقدِّمة ضروريَّة لكلّ قرار وحكم، لا سيّما بالنسبة للموضوعات ذات الصلة بالقضايا المهمَّة للبلاد، وتؤدِّي دوراً حيويَّاً في رسم مستقبل المجتمع، من قبيل القضايا المتعلِّقة بالأمن القوميّ للبلاد وثقافتها واقتصادها.
ففي هذه الموضوعات المهمَّة والأساس، قلّما يمكن الظَّفر بوحدة رأي في شأنها من قبل المعنيِّين. وبناءً على ذلك، ففي كلّ حكم يصدره الوليُّ الفقيه، في شأن قضيَّة من القضايا، يمكن أن يواجه تشخيصه الفرديّ للموضوع بمخالفته لبعض آراء المعنيِّين من أصحاب القرار. فهل هناك من دليل علي أنّ معرفة الوليّ الفقيه هي، بشكل مطلق، وفي جميع الأُمور، مقدّمة وأفضل من معرفة الآخرين بالأُمور، وتالياً، فالجميع ملزمون بقبول تلك المعرفة، ولا يمتلكون حقّ إبداء الرأي المخالف؟
إن لم يبادر الوليُّ الفقيه إلى إصدار حكم واتخاذ قرار نهائيّ، في شأنه، فإنّ باب البحث والنِّقاش والنَّقد البنّاء وإبداء الرأي المخالف، في هذا الشأن، يبقى مفتوحاً علي مصراعيه، وإنّ الاطِّلاع علي رأي الوليّ الفقيه لا يغلق باب البحث والتَّحقيق والحوار. والسِّيرة العمليَّة لأولياء الدِّين تؤكِّد هذه الحقيقة، وهي أنّهم كانوا يستطلعون آراء أصحابهم في القضايا والمسائل، فكانوا يسمعون وجهات نظر مخالفة لآرائهم. إنّ المبادرة إلى استشارة المسلمين والأصحاب نفسها تفيد بعدم لزوم التبعيَّة في تشخيص الموضوع والتعرُّف إليه. وحين يتوصَّل الوليُّ الفقيه وزعيم الحكومة إلى رأي في موضوع معيّن، ويصدر حكمه في شأنه، آنذاك تكون طاعة حكمه واجبة علي الجميع، ولا يحقّ لأحد
249
229
الدرس السادس والعشرون: دائرة طاعة القيادة
معارضته وإعلان العصيان المدنيّ والتمرّد العمليّ بذريعة عدم الاتّفاق معه في وجهة النظر الّتي أبداها. وبناءً على ذلك، فطاعة أحكام الوليّ الفقيه العمليَّة واجبة، وإن لم تكن كذلك في معرفة الموضوع. ونجد دليل لزوم طاعة أحكام الوليّ الفقيه وقراراته في بعض الرِّوايات، كمقبولة عمر بن حنظلة الّتي صرّحت بأنّ مخالفتها تصل إلى درجة الاستخفاف بأوامر الله، ومخالفة أهل البيت، والإعراض عن الله تعالى: "فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنَّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ علي الله"1.
ربما يتصوّر بعضهم أنّ عدم جواز الردّ والإنكار، في هذه الرِّواية، يختصُّ بحكم القاضي، ولا يسري إلى حكم الحاكم والوليّ الفقيه، وقد غفلوا عن أنّ القضاء شعبة من شعب الولاية، وشأن من شؤون الفقيه الجامع للشرائط، فإن تعذَّر نقض حكم الفقيه في نزاع خاصّ وجزئيّ، فمن المسلّم به عدم جواز نقض حكمه في الشؤون الأعلى مرتبة والعظيمة كإدارة شؤون البلاد، وإصدار الأحكام الولائيَّة. أضف إلى ذلك أنّ الإمام الصَّادق عليه السلام ذكر هذه الفقرة عقب نصب الفقيه لمنصب "الحكومة"، ما يعني أنَّها لا تقتصر علي مخالفة الحاكم في شأن القضاء.
ذلك أنَّه من غير الجائز مخالفة الحاكم ووليّ الأمر عملياً، بينما لا تلزم ولا تجب موافقته النظريَّة. فلا يجب علي المؤمنين أن يوافقوا، في وجهة النظر والاعتقاد، آراء الحاكم ووجهات نظره وقراراته، بل أُلزموا بطاعته عملياً، وبعدم توفير أرضيَّة الإخلال بالنظام. ومن هنا، ففي الوقت الّذي أفتي فيه الفقهاء بحرمة نقض حكم الحاكم فإنّهم لم يحرِّموا مناقشته2.
فدائرة طاعة الوليّ الفقيه مقتصرة علي أحكامه الولائيَّة، فلو لم يكن للوليّ الفقيه، في مورد ما حكم وإلزام، وإنّما مجرّد إبداء وجهة نظره في قضيَّة معيّنة، بعنوان مقترح وتوصية غير ملزمة، أو ترجيح أمر، فلا تجب طاعته شرعاً. أمّا
1- وسائل الشِّيعة 27: 136 و137 ح 1، الباب 11 من أبواب صفات القاضي.
2- جواهر الكلام: 40: 105.
250
230
الدرس السادس والعشرون: دائرة طاعة القيادة
طاعة الوليّ الفقيه في الأحكام الولائيَّة الّتي يحكم بها، فلا تختصّ بمقلّديه، بل تسري علي جميع المسلمين بمن فيهم الفقهاء أصحاب الفتيا1.
وسنتحدَّث بالتفصيل، في الدَّرس القادم، عن ماهيَّة الحكم الولائيّ والأبحاث المتعلِّقة به.
ومن الطَّبيعيّ أنّ تأكيد الإسلام نفوذ حكم الحاكم الإسلاميّ مدعاة لعزّة الأُمّة الإسلاميَّة واقتدارها، ووحدة الأُمّة وتراصّ صفوفها ومنعتها أمور تتمُّ في ظلّ التكاتف والتبعيَّة العمليَّة للزعامة العادلة والفقيه الأمين والورع التقيّ، ما يؤكِّد أنَّ عزّته مصدر عزّة الأُمّة ورفعتها. ومن هنا، دُعيت الأُمّة لحفظ حرمة الإمام والحاكم العادل. وقد أجاب الإمام الرِّضا عليه السلام عن سؤال محمّد بن سنان، حين سأله عن علّة حرمة الفرار من القتال، بأنّ ذلك يوجب ضعف الدِّين والاستخفاف بالأنبياء والأئمّة العدول، ويوجب ترك نصرتهم أمام العدوّ، وهذا ما يجعل العدو يطمع فيهم2.
وروي الإمام الصَّادق عليه السلام عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الله نهى المسلمين عن المجالس الّتي يُسبّ فيها الإمام، فقال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجلس في مجلس يُسبّ فيه إمام..."3.
ولا بدَّ، في الختام، من ذكر هذه المسألة، وهي أنّ بحثنا كان في دائرة التبعيَّة الشَّرعيَّة لوليّ الأمر، والتبعيَّة القانونيَّة خارجة عن بحثنا، لأنّ القوانين والمقرّرات لمختلف الأجهزة، في كلّ حكومة، واجبة الاتّباع من الناحية القانونيَّة، وهناك عقاب قضائيّ للمتمرّد عليها. فالأوامر والأحكام الحكوميَّة، في النِّظام القائم علي أساس ولاية الفقيه، هناك وجوب شرعيّ في إطاعتها بالإضافة إلى لزوم الطاعة القانونيَّة.
1- صرّح الفقهاء بأنّ حدود وجوب الطاعة الشَّرعيَّة للوليّ الفقيه هي في حكمه الّذي يحكم به، وتسري هذه الطاعة حتي علي سائر الفقهاء. جاء، في المسألة 57، باب الاجتهاد والتقليد، في العروة الوثقي: "حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه ولو لمجتهد آخر، إلّا إذا تبيّن خطؤه". وردّ السيد كاظم الحائري في جوابه على هذا الاستفتاء: "هل يجب علي الفقهاء في بلد يحكمه مجتهد جامع للشرائط إطاعة احكام هذا الفقيه؟" فقال: نعم يجب.
وأجاب عن سؤال آخر، في شأن طاعة وليّ الأمر لغير مقلّديه، فقال: ما يحكم به سماحة السيد القائد دام ظله، بوصفه ولياً للأمر، يجب اتباعه حتي علي غير مقلّديه. راجع: الفتاوي المنتخبة، كتاب الاجتهاد والتقليد، المسألتان: 36 و47.
2- وسائل الشِّيعة، 15: 87 ح 2، الباب 29 من أبواب جهاد العدو.
3- وسائل الشِّيعة، 16: 266 ح 21، الباب 38 من أبواب الأمر والنهي.
251
231
الدرس السادس والعشرون: دائرة طاعة القيادة
الخلاصة
1ـ بالنظر إلى أصل الولاية من جانب، وحصر الولاية الحقيقيَّة في الله من جانب آخر، فإنّ كلّ ولاية تكتسب شرعيتها مباشرة أو بوساطة النَّصب الإلهيّ.
2ـ في ضوء الولاية التنصيبيَّة للفقيه، فإنّ سائر أركان النظام السِّياسيّ تكتسب شرعيتها من ولاية الفقيه، وهذا يعكس رفعة منزلة هذا المنصب.
3ـ مجرّد آراء الشعب لا تمنح صاحبها منصب التَّشريع والأمر والنهي.
4ـ تنقسم مخالفة الزعامة السِّياسيَّة إلى مخالفة عمليَّة وأخرى نظريَّة.
5ـ يتحقَّق العصيان المدنيّ بالمخالفة العمليَّة، ومجرّد الاعتقاد بعدم صوابيَّة قانون أو أمر لا يعدُّ عصياناً مدنياً.
6ـ لا تجوز المخالفة العمليَّة لأحكام الوليّ الفقيه، كما لا تجب موافقته نظرياً.
7ـ اختلاف نظام ولاية الفقيه عن سائر الأنظمة السِّياسيَّة يتحدّد بأنّ المخالفة العمليَّة لأحكامه الحكوميَّة مخالفة للشرع إضافة إلى كونها عصياناً مدنياً.
8ـ الدَّليل الفقهيّ على لزوم طاعة الأحكام الولائيَّة للفقيه العادل، وجود بعض الرِّوايات كالمقبولة.
9ـ لا تقتصر طاعة الأحكام الولائيَّة للوليّ الفقيه على مقلّديه فحسب، بل تسري طاعتها على كلّ مكلّف، وإن كان فقيهاً ومجتهداً.
252
232
الدرس السادس والعشرون: دائرة طاعة القيادة
الأسئلة
1ـ لماذا اكتسبت منزلة الفقيه العادل أهميَّة خاصّة في النِّظام السِّياسيّ للإسلام؟
2ـ لماذا كانت ولاية الفقيه مبدأ شرعيَّة جميع الأجهزة الحكوميَّة؟
3ـ ما المراد بالمخالفتين العمليَّة والنظريَّة؟
4ـ كيف تجوز مخالفة الوليّ الفقيه؟
5ـ ما هو اختلاف التبعيَّة والطاعة في النِّظام الولائيّ عن سائر النُّظم السِّياسيَّة؟
6ـ لماذا أكّد الإسلام على نفوذ حكم القيادة وضرورة طاعتها؟
7ـ على من تجب طاعة الأحكام الولائيَّة للفقيه العادل؟
253
233
الدرس السابع والعشرون: المصلحة وحكم الحاكم
الدرس السابع والعشرون: المصلحة وحكم الحاكم
ذكرنا أنّ الفقيه العادل صاحب ولاية عامَّة، وحكمه الولائيّ لا يسري على مقلّديه فحسب، بل تجب طاعته حتّى من قبل سائر الفقهاء والمقلّدين الآخرين. وهنا تبرز عدَّة أسئلة: ما المراد بحكم الحاكم؟ ما الفرق بين حكم الحاكم والفتوى؟ ما هو مبنى صدور حكم الحاكم؟ هل حكم الحاكم من نوع حكم القاضي أو يختلف عنه؟ هل حكم الحاكم من نوع الأحكام الثانويَّة للفقه؟ هل لحكم الحاكم من حدود؟ هذه الأسئلة وأمثالها تبيِّن ضرورة بحث ماهيَّة حكم الحاكم ومبنى هذه الأحكام ودائرتها. ولهذا، لا بدَّ من دراسة أقسام الحكم ليتّضح الفرق بين حكم الحاكم وسائر الأحكام الشَّرعيَّة والفتوى.
أقسام الحكم
1 ـ الحكم الشرعيّ
الحكم الشَّرعيّ من أكثر أنواع الحكم رواجاً ومعرفة. والمراد من الحكم الشَّرعيّ: الحكم الّذي يضعه الشَّارع المقدّس. والتكاليف والقوانين الإلهيَّة من المصاديق البارزة للأحكام الشَّرعيَّة. فالحكم الشَّرعيّ قرار من قبل الشَّارع، حيث يوجد بوساطة جعله وإيجاده. والحكم الشَّرعيّ على نوعين: تكليفيّ، ووضعيّ.
المراد من الأحكام التكليفيَّة تلك الطائفة من القوانين والقرارات الشَّرعيَّة الّتي
255
234
الدرس السابع والعشرون: المصلحة وحكم الحاكم
تفصح عن رأيها في شأن جوازها أفعال المكلّفين أو عدم جوازه. فهذه الطائفة من الأحكام توضح ما هي الأفعال الّتي يجب الإتيان بها والأفعال الّتي لا يجب الإتيان بها، وما هي الأفعال الّتي من الأفضل ممارستها والأفعال الّتي من الأفضل تركها. وتقسم الأحكام التكليفيَّة إلى خمسة أقسام: واجبة ومحرّمة ومستحبَّة ومكروهة ومباحة.
النوع الآخر هو الأحكام الوضعيَّة. وهذه الأحكام مجعولة من الشَّارع أيضاً إلّا أنّها لا تتحدَّث مباشرة عن جواز فعل المكلّف أو عدم جوازه. ففي الأحكام الوضعيَّة ـ وبسبب قرار الشارع ـ تتشكّل روابط ومعانٍ شرعيَّة، بحيث تكون موضوعاً لأحكام تكليفيَّة خاصّة، مثلاً النَّجاسة، والطَّهارة، والملكيَّة، والزَّوجيَّة مصاديق لأحكام الشَّارع الوضعيَّة. فالنَّجاسة ليست حكماً تكليفياً، إلّا أنّ هناك بعض الأُمور يحكم عليها، على أثر هذا الحكم الوضعيّ للشَّارع بأنّها نجسة، فتكون موضوعاً لحكم تكليفيّ. فيكون أكلها وشربها، مثلاً، وفي بعض الأحيان بيعها وشراؤها، حراماً.
وللأحكام الشَّرعيَّة تقسيمات أُخرى، كتقسيمها إلى الأحكام الظاهريَّة والواقعيَّة، والأوّليَّة والثَّانويَّة، وسنشير إلى بعضها في ثنايا هذا البحث.
إنّ اجتهاد الفقهاء، يعني السَّعي إلى اكتشاف الحكم الشرعيّ من طريق مصادره. وبناءً على ذلك، فالفتاوى الفقهيَّة للمجتهدين، هي بيان الحكم الشَّرعيّ للشَّارع وإعلانه. والفقيه لا يقرِّر بفتواه حكماً شرعياً، بل الشَّارع يعلن القرار. ووظيفة الفقيه والمجتهد، في مقام الاستنباط والإفتاء، تتمثَّل في إدراك قرار الشَّارع وجعله وكشف ذلك.
2 ـ حكم القاضي
يصدر القاضي حكمه في شأن النِّزاعات والمخاصمات بعد دراسة القضيَّة. وحكم القاضي، وهو قراره، ليس من نوع الفتوى، لأنّ الإفتاء إعلان قرار الشَّارع. والواقع أنّ القاضي في مقام القضاء ينشئ الحكم. والقاضي في حكمه، وإن لم يكن بمعزل عن الارتباط بالأحكام الشَّرعيَّة، يبادر إلى الحكم بلحاظ الموازين الشَّرعيَّة، وعلى
256
235
الدرس السابع والعشرون: المصلحة وحكم الحاكم
أساسها يفضّ النزاع والخصومة، إلّا أنّ فعله ليس إعلان الحكم الشَّرعيّ، بل إنشاء الحكم بالاستناد إلى الأحكام الشَّرعيَّة. فالقاضي يلتفت إلى أدلّة الطرفين، وبالنظر إلى الشَّواهد والقرائن من جانب، واستنباط القوانين والأحكام الشَّرعيَّة من جانب آخر، يصدر حكمه القضائيّ. وبناءً على ذلك، فحكم القاضي ليس بمعزل عن الحكم الشَّرعيّ.
3 ـ حكم الفقيه المجتهد
عرفنا، حتَّى الآن، أنّ للفقيه، بالإضافة إلى الإفتاء، إنشاء الحكم. ويتمّ إنشاء هذا الحكم في مقام القضاء. وهنا يبرز سؤال: هل يقتصر إنشاء حكم الفقيه العادل على النِّزاع والخصومة؟
قطعاً هناك بعض الأُمور الّتي اتّفق فيها الفقهاء على أنّ الفقيه العادل يمكنه إنشاء الحكم فيها، من دون أن تكون في القضاء ورفع الخصومة. والمورد المعروف لصدور مثل هذه الأحكام عبارة عن رؤية الهلال، وإقامة الحدود، فقد صرّح فقهاء الطائفة، منذ السابق، أنّ إقامة الحدود الشَّرعيَّة من شؤون الفقيه الجامع للشرائط، وإقامة الحدود تحتاج إلى حكم الحاكم الشَّرعيّ. فإقامة الحدود ليست من نوع المنازعات والخصومات السائدة بين الناس، لتعدّ من اختصاص القضاء.
وعلى أساس قبول الولاية العامَّة للفقيه الجامع للشرائط، وعلى أنّ ولايته لا تقتصر على الإفتاء والقضاء والقيمومة على المحجور عليهم، فإنّه صاحب ولاية تدبيريَّة، وينوب عن المعصوم في جميع الأُمور الّتي تقبل النِّيابة، وإنّ دائرة صدور حكم الحاكم لا تقتصر على رؤية الهلال وإقامة الحدود.
فصاحب الجواهر، بوصفه أحد المتبنِّين للولاية العامَّة للفقيه، وباقتضاء إطلاق عبارة مقبولة عمر بن حنظلة: "إنّي جعلته حاكماً" لا يرى أن يقتصر صدور الحكم على القضاء، بل يراه مطلقاً، حيث بيّن ذلك من خلال بيانه لوجه الفرق بين حكم الحاكم والفتوى، فقال:
257
236
الدرس السابع والعشرون: المصلحة وحكم الحاكم
"الظَّاهر أنّ المراد بالأُولى ـ الفتوى ـ الإخبار عن الله تعالى بحكم شرعيّ متعلّق بكلّيّ، كالقول بنجاسة ملاقي البول أو الخمر... وأمّا الحكم فهو إنشاء إنفاذ من الحاكم لا منه تعالى لحكم شرعيّ أو وضعيّ أو موضوعها في شيء مخصوص. ولكن هل يشترط فيه مقارنته لفصل خصومة كما هو المتيقّن من أدلّته؟ لا أقلّ من الشكّ، والأصل عدم ترتّب الأثر على غيره، أو لا يشترط، لظهور قوله عجل الله تعالى فرجه الشريف: "إنّي جعلته حاكماً" في أنّ له الإنفاذ والإلزام مطلقاً، ويندرج فيه قطع الخصومة الّتي هي مورد السؤال. ومن هنا، لم يكن إشكال عندهم في تعلُّق الحكم بالهلال والحدود الّتي لا مخاصمة فيها"1.
إنّ القسمين الثاني والثالث، من الأحكام، مشتركان في أنهما إنشاء الفقيه وليسا من نوع إعلان إنشاء الشَّارع وكشفه. إلّا أنّ نقطة افتراقهما تتمثَّل في أنّ حكم القاضي محدود بمورد وجود النِّزاع والخصومة ويصدر لحلّ النزاع، أمّا حكم الحاكم فليس محدوداً بوجود النِّزاع والخصومة.
مبنى صدور حكم الحاكم
لحكم حاكم الشَّرع والفقيه العادل أقسام. وكما مرَّ سابقاً فإنّ إعلان هلال شهر رمضان وشوّال، وسائر الأشهر، من شؤون حاكم الشرع، فإذا حكم الفقيه العادل برؤية الهلال لزم اتّباعه. كما أنّ إقامة الحدود من أقسام حكم الحاكم. ورغم أنّ حدّ الزَّاني والمحارب وشارب الخمر وسائر الموارد بُيِّنت في الشريعة إلّا أنّ إجراءها وتنفيذها يتطلّب حكم الفقيه العادل. والقسم الآخر من أقسام أحكام حاكم الشرع يرتبط بإدارة المجتمع، وتدبير الشؤون الرئيسة للأُمّة الإسلاميَّة. ومحلُّ بحثنا هو هذا القسم من أحكام الحاكم.
ومن دون شكَّ، فإنّ من أهمّ شؤون كلّ سلطة سياسيَّة، هو تنفيذ أوامرها، وإلزام المواطنين بأداء بعض الأُمور وترك بعضها الآخر. فتدبير الأُمور الاجتماعيَّة الكبرى
1- جواهر الكلام 40: 100.
258
237
الدرس السابع والعشرون: المصلحة وحكم الحاكم
والرئيسة يتمّ في ظلّ الإلزامات والأوامر والنواهي الحقوقيَّة. وفي النِّظام السِّياسيّ المبنيِّ على ولاية الفقيه، يُعْطي الفقيه العادل، من ناحية كونه حاكم شرع، حقّ الأمر والإلزام، ما يجعل طاعة قراراته الملزمة الحكميَّة واجباً شرعيَّاً.
إنّ مبنى صدور حكم الحاكم هو مصلحة المسلمين والنِّظام الإسلاميّ، فالوليّ الفقيه يتصرّف بأموال المجتمع الإسلاميّ في ضوء المصلحة ورعاية صلاح المسلمين، ويبذل جهده في نظم الأُمور من خلال إصدار الأوامر والقرارات الملزمة الخاصّة، قال الإمام الخمينيّ قدس سره في هذا الخصوص:
"فللفقيه العادل جميع ما للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام ممَّا يرجع إلى الحكومة والسِّياسة، ولا يعقل الفرق، لأنّ الوالي ـ أيّ شخص كان ـ هو مجري أحكام الشريعة، والمقيم للحدود الإلهيَّة، والآخذ للخراج وسائر الماليات (الضرائب)، والمتصرّف فيها بما هو صلاح المسلمين. فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يضرب الزَّاني مئة جلدة والإمام عليه السلام كذلك والفقيه كذلك، ويأخذون الصدقات بمنوال واحد، ومع اقتضاء المصالح يأمرون النَّاس بالأوامر الّتي للوالي، ويجب إطاعتهم"1.
وهنا، يطرح هذا السُّؤال المهمّ: ما الأهميَّة الّتي يجب أن تحظى بها المصلحة لتكون مبنى لصدور الحكم، بحيث يضطر الحاكم لإصدار مثل هذا الحكم الولائيّ؟ وهل يكفي مطلق المصلحة لصدور مثل هذه القرارات الملزمة، أو ينبغي أن تكون المصلحة على درجة من الأهميَّة بحيث يؤدِّي تجاهلها إلى الهرج والمرج واختلال النظام؟
يمكن طرح هذا السُّؤال من زاوية أُخرى، وهي أنّنا تعلّمنا في الفقه وعلم الكلام أنّ لكلّ فعل حكماً واقعيّاً لدى الشَّارع المقدّس، ولا يخلو أيٌّ من أفعال المكلّفين من أحد الأحكام التكليفيَّة الخمسة. وبناءً على ذلك، فإنّ أحكام الحاكم، والقرارات الملزمة الولائيَّة، مخالفة بصورة طبيعيَّة للحكم الواقعيّ لذلك الفعل. على سبيل المثال: يمكن الإشارة إلى حكم الميرزا الشيرازيّ رحمه الله في واقعة تحريم التَّبغ. فحكم
1- البيع، الإمام الخميني، 2: 467.
259
238
الدرس السابع والعشرون: المصلحة وحكم الحاكم
استعمال التبغ وشرائه وبيعه هو الإباحة في الشريعة الإسلاميَّة، ولكن استناداً إلى الحكم الولائيّ لذلك المرجع، فإنَّه يحكم بالحرمة مؤقَّتاً، وفي ظلّ تلك الظروف. وهنا يطرح هذا السؤال: متى تتقدَّم المصلحة على الملاك الواقعيّ للحكم؟ هل في حالة عدم رعاية مصلحة صدور حكم الحاكم يوجب العسر والحرج على المؤمنين أو اختلال نظام المسلمين، فللفقيه إصدار حكمه إزاء الحكم الواقعيّ، أو أنّ مجرّد مصلحة نظام الإسلام والمسلمين إن رجحت على الملاك الواقعيّ للأحكام، كانت مجوِّزاً لإنشاء الحكم الولائيّ، وإن لم يبلغ مرحلة الاضطرار والعسر والحرج أو اختلال النظام؟
الجواب عن هذا السؤال مرهون بوضوح هذه المسألة، وهي: هل أنّ حكم الحاكم من أحكام الإسلام الأوّليَّة أو من الأحكام الثانويَّة؟ لو كان حكم الحاكم من الأحكام الثانويَّة، فإنّ صدوره يتوقَّف على حالة الاضطرار أو العسر والحرج أو اختلال النظام. بعبارة أُخرى: فلو عَدَدْنا حكم الحاكم من الأحكام الثانويَّة، لَلزم من ذلك أن تكون المصلحة في صدور الحكم على درجة من الأهميَّة، بحيث إنّ عدم الاكتراث بها يوجب اختلال نظام المسلمين أو يوقعهم في عسر وحرج. وفي هذه الحالة، فإنّ الاضطرار يتطلّب من الفقيه أن يصدر حكماً ولائياً على خلاف الحكم الأوّلي للواقعة، بصورة مؤقَّتة، وما دامت الشرائط قائمة.
الأحكام الأوّليَّة والثَّانويَّة
مرَّ بنا أنّ لكلِّ فعلٍ من أفعال الإنسان الاختياريَّة حكماً من الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة. وبناءً على ذلك، فإنّ لكلّ فعل من أفعال المكلّفين "حكماً أوّلياً"، والشَّارع المقدّس وضع الحكم الأوّليّ لكلّ واقعة وفعل حسب المصالح والمفاسد ـ الملاكات ـ الذاتيَّة والواقعيَّة لذلك الفعل. فالحكم الأوّلي للأفعال والأشياء يوضع حسب مواضعها نفسها، من دون الأخذ بعين الاعتبار الشرائط الخاصّة والاستثنائيَّة.
فالحكم الأوّليّ للميتة هو الحرمة، والحكم الأوّليّ مفاده أنّ على كلّ مكلّف صوم شهر
260
239
الدرس السابع والعشرون: المصلحة وحكم الحاكم
رمضان، والحكم الأوّليّ يقضي بأنَّ على كلّ مسلم، من أجل إقامة الصلوات اليوميَّة الواجبة، وجوب الوضوء.
وأحياناً تطرأ بعض الحالات الخاصّة، فلا يكون ممكناً الالتزام بالحكم الأوّليّ، فهذه الحالات والأوضاع تجعل المكلّف في وضع يعرّضه لبعض المشاكل إن عمل بالحكم الأوّليّ. ففي هذه الحالة، وضع الشارع "أحكاماً ثانويَّة" للمكلّف. على سبيل المثال: أكل لحم الميتة حرام، إلّا أنّ المكلّف يضطرّ، في بعض الظروف، ولأجل حفظ حياته، لتناولها، حيث يحلّ له أكلها: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾1. وبناءً على ذلك، فـ "الاضطرار" حالة طارئةٌ على المكلّف في ظروف معيّنة توجب رفع الحكم الأوّليّ عنه بصورة مؤقَّتة، ما دامت تلك الحالة الطَّارئة باقية ويصدر له حكماً ثانوياً.
فالحكم الثَّانويّ منوط بوجود حالات خاصّة، مثل "الاضطرار" و"الضَّرر" و"الإكراه" و"العسر والحرج" و"اختلال النظام". من الطَّبيعيّ أنَّ الأحكام الأوّليَّة والثانويَّة واقعيَّة أنشأها وجعلها الشَّارع المقدّس، مع فارق أنّ الأحكام الثانويَّة تقع في طول الأحكام الأوّليَّة، بمعنى أنّ زمان الأحكام الثانويَّة يتحقَّق عندما يطرأ أحد العناوين الخاصّة. والفرق الآخر هو أنّ الحكم الثانويّ مؤقّت، ويبقى فاعلاً طوال بقاء الأمر العارض والعنوان الطارئ.
وبعد اتّضاح الأحكام الأوّليَّة والثانويَّة، لا بدَّ من أن نرى ما إذا كان حكم الفقيه من الأحكام الأوّليَّة أو الثَّانويَّة.
1- سورة البقرة: 173
261
240
الدرس السابع والعشرون: المصلحة وحكم الحاكم
الخلاصة
1ـ هنالك ثلاثة أنواع معروفة للحكم: الحكم الشَّرعيّ، حكم القاضي، حكم الفقيه.
2ـ المراد من الحكم الشرعيّ ما يضعه ويجعله الشَّارع.
3ـ إنّ فتوى المجتهدين هي إدراك الحكم الشَّرعيّ واستنباطه، أي إنّ الفقيه في مقام الاستنباط والإفتاء يكشف عن الحكم الشرعيّ ولا ينشئ شيئاً.
4ـ القاضي ينشئ حكماً في مقام القضاء، وحكمه ليس من نوع الإفتاء.
5ـ لا يقتصر شأن الفقيه العادل على الاستنباط وإنشاء الحكم في مقام القضاء.
6ـ في ضوء ولاية الفقيه ونيابته العامَّة، فإنّ دائرة إنشاء حكم حاكم الشَّرع والفقيه العادل لا تقتصر على رؤية الهلال وإقامة الحدود.
7ـ حكم الفقيه وحكم القاضي كلاهما إنشاء.
8ـ مبنى إنشاء حكم الفقيه العادل وصدوره هو رعاية مصلحة المسلمين والنظام الإسلاميّ.
9ـ هل أنّ مبنى صدور الحكم مطلق المصلحة، أو أنّها ينبغي أن تكون من الأهميَّة بحيث يوجب تجاهلها الهرج والمرج واختلال النظام؟
10ـ الإجابة عن التساؤل السابق تكمن في توضيح ما إذا كان حكم الفقيه يعدّ من الأحكام الأوّليَّة أو الثانويَّة.
11ـ عرفنا أنّ الأحكام الثانويَّة تقع في طول الأحكام الأوّليَّة.
262
241
الدرس السابع والعشرون: المصلحة وحكم الحاكم
الأسئلة
1 ـ ما المراد بالحكم الشَّرعيّ والحكم التكليفيّ والوضعيّ؟
2 ـ ما الفارق بين حكم القاضي والفتوى؟
3 ـ ما الفارق بين حكم الفقيه وحكم القاضي؟
4 ـ ما هو مبنى صدور حكم الفقيه العادل؟
5ـ ما هو دور بحث الحكم الأوّليّ والثانويّ في مبحث الأحكام الحكوميَّة الولائيَّة؟
6 ـ ما هي الأحكام الثانويَّة؟ وما علاقتها بالأحكام الأوّليَّة؟
263
242
الدرس الثامن والعشرون: حكم الفقيه وولايته المطلقة
الدرس الثامن والعشرون: حكم الفقيه وولايته المطلقة
اتّضح، في الدَّرس السَّابق، أنّ للفقيه العادل، إضافة إلى شأن استنباط الحكم الشرعيّ، الولاية في إصدار الحكم. وعمل الفقيه، في الإفتاء، هو الكشف عن إنشاء الشَّارع والإخبار به، في حين أنّ حكم الفقيه إنشاء منه. والفقيه العادل يأخذ بعين الاعتبار أُصول الشرع ومبانيه، وكذلك مصلحة الإسلام والمسلمين في إنشاء حكمه. في ختام الدَّرس السابق، طرحنا السُّؤال الآتي: هل أنّ حكم الفقيه من الأحكام الأوّليَّة أو من الأحكام الثَّانويَّة؟
الإمام الخمينيَ قدس سره ربط الإجابة عن هذا السؤال بمنزلة الحكومة في الإسلام. فالإمام يرى أنّ صلاحيَّات الوليّ الفقيه ودائرة صدور حكمه أمران تابعان لتعيين علاقة الحكومة والنِّظام الإسلاميّ بالأحكام الأوّليَّة، وتشخيص منزلة الحكومة والنِّظام السِّياسيّ في النظريَّة الإسلاميَّة.
وكان مؤسِّس الجمهوريَّة الإسلاميَّة يؤكّد، في دروس الفقه، لطلبة البحث الخارج، في النَّجف الأشرف، أنّ النِّظام السِّياسيّ الإسلاميّ، بما في ذلك الحكومة، فرع من فروع الإسلام، له شأن رفيع جعل الأحكام الفقهيَّة تأتي لخدمة هذا النِّظام وتأييده وتثبيته وحفظه. فالحكومة الإسلاميَّة أساس حفظ الشَّريعة وبقائها وقوامها. ومن هنا،
265
243
الدرس الثامن والعشرون: حكم الفقيه وولايته المطلقة
ضحّى أولياء الله بأنفسهم في سبيل حفظ نظام المسلمين وبقائه. ويرى سماحته أنّ الأحكام الشَّرعيَّة شأن من شؤون الحكومة. وطبيعيٌّ أنَّ الأحكام الشَّرعيَّة ليست هدفاً كما أنها ليست مقصودة لذاتها، بل هي وسيلة الحكومة الإسلاميَّة وآليَّة من آلياتها لبلوغ العدالة. ومن هنا، عبَّرت الرِّوايات عن الحاكم والوليّ الفقيه بـ "حصن الإسلام": "الإسلام هو الحكومة بشؤونها، والأحكام قوانين الإسلام، وهي شأن من شؤونها، بل الأحكام مطلوبات بالعرض وأُمور آليَّة لإجرائها وبسط العدالة"1.
ويؤكّد الإمام الخمينيَ قدس سره أنّ الحكومة من أحكام الإسلام الأوّليَّة، وحفظ النظام والحكومة الإسلاميَّة من أهمّ الواجبات الإلهيَّة، وهو مقدَّم على سائر الأحكام الأوّليَّة. وكتب سماحته رسالة إلى قائد الثورة سماحة آية الله الخامنئيّ(مدَّ ظله) جاء فيها: "الحكومة فرع من ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المطلقة. وهي واحد من الأحكام الأوّليَّة، ومقدّمة على جميع الأحكام الفرعيَّة حتى الصوم والصَّلاة والحج و... "2.
وعلى أساس هذا التَّقرير، فإنّ صدور حكم الفقيه منوط بوجود مصلحة الإسلام ونظام المسلمين، وليس نتيجةً لطروء أحد العناوين الثانويَّة كالعسر والحرج والاضطرار أو اختلال النظام. ومصلحة النِّظام هي مبنى صدور حكم الفقيه، وإن لم يكن هناك أحد العناوين الثانويَّة.
ومع هذا، فالإمام، في السَّنوات الأُولى لانتصار الثورة، فوّض، في بعض الموارد، لمجلس الشُّورى الإسلاميّ، حقّ إصدار الأحكام الحكوميَّة وسنِّ القوانين المخالفة لظاهر الشرع. ورعاية للاحتياط والدقَّة في العمل، جعل وضع هذه القوانين منوطاً بالعناوين الثانويَّة، مثل "اختلال النظام" و"الضرورة" و"الحرج". وإن لم يعدّ توقُّف صدور هذه الأحكام من الناحية الفقهيَّة على هذه العناوين، وعدَّها أحكاماً أوّليَّة. وكتب سماحته ردَّاً على رسالة رئيس المجلس في ذلك الوقت، المؤرَّخة بتاريخ 11/10/1981:
1- البيع، الإمام الخميني، 2: 472.
2- صحيفة النور، 20: 170.
266
244
الدرس الثامن والعشرون: حكم الفقيه وولايته المطلقة
"كلّ ما له مدخليَّة في حفظ النِّظام الإسلاميّ، بحيث يوجب فعله وتركه اختلال النِّظام، وكلّ ما له ضرورة يستلزم فعله أو تركه الفساد، وكلّ ما استلزم فعله أو تركه حرجاً، فلأكثريَّة أعضاء مجلس الشُّورى الإسلاميّ الإذن في المصادقة عليه وإجرائه، بعد تعيين الموضوع، مع التصريح بأنّ الحكم مؤقّت ما دام الموضوع متحقِّقاً، وينتفي تلقائياً بعد ارتفاع الموضوع".1
ثم شدّد تأكيده رحمه الله، في أواخر عمره الشريف، أنّ الحكومة من الأحكام الإسلاميَّة الأوّليَّة، ثمّ صرّح بأنّ مصلحة النِّظام هي المبنى في صدور حكم الفقيه. وتختلف تماماً مصلحة النِّظام عن العناوين الثانويَّة من قبيل: اختلال النِّظام، والضرورة، والعسر، والحرج. ومن هنا تأسّس مجمع تشخيص مصلحة النِّظام، بوصفه مؤسسة استشاريَّة لتشخيص المصالح وتقديم العون للوليّ الفقيه، بغية إصدار الأحكام، وفوّض لهذه المؤسسة تشخيص مبنى إصدار الأحكام الولائيَّة.
ولاية الفقيه المطلقة
تداول الفقهاء السَّابقون، في كلماتهم، مفردة "الولاية العامَّة" للفقيه، أو "النيابة العامَّة". أو "عموم الولاية"، ولم تكن مفردة "الولاية المطلقة" شائعة، وإنَّما وردت في كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره، في تعبيره عن الولاية السِّياسيَّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، وهذه الولاية ثابتة للفقيه العادل الجامع للشرائط. وحين أُعيدت صياغة الدستور الإيرانيّ، في عام 1979م، استُخدمت مفردة "الولاية المطلقة":
"السُّلطات الحاكمة، في الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة، عبارة عن: السُّلطة التَّشريعيَّة، والسُّلطة التَّنفيذيَّة، والسُّلطة القضائيَّة، وهي تمارس وظائفها طبق المواد القادمة تحت إشراف ولاية الأمر المطلقة وإمامة الأُمّة"2.
1- صحيفة النور 15: 188.
2- القانون الأساسي للجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة: المادة 57.
267
245
الدرس الثامن والعشرون: حكم الفقيه وولايته المطلقة
بيد أنّ بعض الجهَّال، أو المعاندين، جعل مفردة المطلقة في "الولاية المطلقة" المتشابهة لفظياً مع مصطلح "المطلقة"1 في الفلسفة السِّياسيَّة، ذريعةً للإشكال على ولاية الفقيه. فالحكومة المطلقة، في المصطلح السائد في الفلسفة السِّياسيَّة، ترادف ممارسة الدكتاتوريَّة والاستبداد واعتماد الأساليب الشخصيَّة غير المنضبطة في الحكومة وإدارة شؤون المجتمع. وسيتّضح، من الأبحاث القادمة، أنّ ولاية الفقيه المطلقة تختلف، من حيث الجذور والأُسس، مع الحكومة المطلقة المستخدمة في المصطلح السِّياسيّ.
والإدراك الصحيح، للمراد من ولاية الفقيه المطلقة، يعتمد على الالتفات إلى هذه المقدّمة:
إنّ ماهيَّة الاستنباط الفقهيّ هي كشف جعل الشَّارع وإنشائه. والفقيه، في مقام الإفتاء، لا يجعل حكماً ولا ينفِّذه. فالفقيه يكشف، بالرُّجوع إلى الأدلَّة، عن مسألة أنّ صلاة العشاء واجبة. وهذا الحكم يحتاج إلى تنفيذ، وتنفيذه هو أداء صلاة العشاء بعد صلاة المغرب. إنّ إقامة صلاة العشاء لا تتوقَّف على تعيين الفقيه وإمضائه وتنفيذه. وليس للفقيه من دور في تعيين أُسلوب تنفيذ الحكم الشرعيّ الّذي له نواح كثيرة من التطبيقات. على سبيل المثال: حكم الزَّواج في الشِّريعة الإسلاميَّة الجواز بالمعنى الأعمّ. ولهذا الحكم تطبيقات كثيرة، أي للفرد الحريَّة في اختيار زوجته من الأُسر والطوائف والأعراق المختلفة، وليس للفقيه من دور في إنشاء هذا الجواز وكيفيَّة تنفيذه، بل إنّ كشف هذا الحكم الشَّرعيّ يتوقف على جهده العلميّ فقط.
وفي المقابل، هناك حكم الفقيه الّذي يتَّصف بعنصري الجعل والتنفيذ، ففي موارد ينشئ الحكم، وفي موارد أُخرى يُنفِّذه. على سبيل المثال: لا يمكن، في شأن إقامة الحدود، إجراء الحدّ الشرعيّ على مجرم من دون حكم الفقيه العادل وتنفيذه. ولو انبرى الوليّ الفقيه، بناءً على تشخيص المصلحة، إلى تحريم شراء سلعة أو التعامل
1- Absolutism .
268
246
الدرس الثامن والعشرون: حكم الفقيه وولايته المطلقة
التجاريّ مع بلد، وبالعكس لو جوّز ذلك التعامل والشراء مع بعض البلدان، فإنّه ينشئ حكماً، ويجعل إلزاماً لتطبيق معيّن، لأنّ لتجارة سلعة مباحة تطبيقات متنوِّعة ومتعدَّدة، ويمكن بيعها بعدَّة طرق مختلفة، وتعيين موارد خاصّة هو تدخّل في تنفيذ حكم.
الأنموذج الآخر للتدخّل التنفيذيّ لحاكم الشَّرع يبرز حين تزاحم حكمين، ففي إدارة شؤون المجتمع تحدث بعض الحالات الّتي يتزاحم فيها حكمان شرعيَّان في مقام الإجراء والتنفيذ، وترجيح أحدهما يعني إقصاء الآخر. والوليُّ الفقيه يشخِّص هنا الحكم الشَّرعيّ الأهمّ، فينفِّذه والحكم الشَّرعيّ المهمّ فيحول دونه.
والقضيَّة المثيرة للجدل هي: هل يستطيع الوليُّ الفقيه أن يحول دون تنفيذ حكم شرعيّ، من دون أن يكون هناك حكم شرعيّ أهمّ؟ أي في المورد الّذي يوجد فيه حكم شرعيّ إلزاميّ ـ الوجوب أو الحرمة ـ هل يحقّ له إن اقتضت المصلحة أن ينشئ حكماً خلاف ذلك الحكم الإلزاميّ والأوّليّ الشرعيّ؟ على سبيل المثال: يمنع المسلمين بصورة مؤقَّتة من الذِّهاب إلى حجِّ التَّمتُّع.
توجد هنا نظريَّتان أساسان متقابلتان، فقد أجاب أصحاب "الولاية المطلقة" عن هذا السُّؤال بالإيجاب، ولم يعط أنصار "الولاية المقيَّدة" هذا الحقَّ للفقيه العادل.
فالمتبنّون للولاية المقيَّدة يرون أنّ حدود حكم الفقيه تتمثَّل في عدم وجود الحكم الشرعي الإلزامي. والوليُّ الفقيه، في إصداره للحكم، مقيّد بنطاق الشَّرع، وليس له أن يصدر حكماً بخلاف الواجب أو الحرام الشَّرعي لمجرّد الاستناد إلى المصلحة، ومن دون وجود التزاحم. فهؤلاء يعتقدون بأنّ دائرة الأحكام الولائيَّة، تقتصر على الأحكام الّتي تصدر في حال تزاحم الأحكام الإلزاميَّة وغير الإلزاميَّة فقط، وفي الحالات الّتي سكت فيها الشارع المقدّس عن بيان حكمها، فللوليّ الفقيه هنا سدّ الفراغ القانونيّ بإصدار حكمه. وهذا السكوت وفقدان الحكم الشرعيّ الأوّليّ ليس من باب نقص الشَّريعة وإهمالها، بل هو من باب طبيعة القضيَّة الّتي تستلزم السكوت عن الحكم الإلزاميّ. قال الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر رحمه الله في هذا الصدد:
269
247
الدرس الثامن والعشرون: حكم الفقيه وولايته المطلقة
"ولا يقتصر تدخّل الدَّولة على مجرّد تطبيق الأحكام الثَّابتة في الشَّريعة، بل يمتدّ إلى ملء منطقة الفراغ من التَّشريع"1.
المرحوم العلاَّمة الطباطبائيّ رحمه الله، هو من أنصار الولاية المقيَّدة للفقيه، ويرى أنّ القوانين الإسلاميَّة على قسمين: ثابتة، ومتغيِّرة.
فالقسم الأوّل: من الأحكام الثَّابتة، نظِّم في ضوء فطرة الإنسان وخصائصه الّتي تعدُّ من الأُمور الثابتة وغير القابلة للتغيير، واصطلح عليها باسم الشَّريعة الإسلاميَّة.
أمّا القسم الثاني: فيشمل الأحكام المتغيِّرة، وهذه تختلف حسب المصالح والأزمنة والأمكنة بوصفها آثار الولاية العامَّة، والمنوطة بنظر النبيّ وأوصيائه المنصوبين من جانبه، فهم يشخّصونها ويجرونها في ظلّ المقرّرات الدِّينيَّة الثابتة وحسب مصلحة الزمان والمكان. ومن الطَّبيعيّ أن لا تُعدَّ هذه المقرّرات، بحسب الاصطلاح، ديناً وأحكاماً وشرائع سماويَّة. والقرارات الّتي يضعها وليُّ الأمر لتطوير الثقافة وحياة الناس، رغم ضرورة إجرائها، لا تعدُّ شريعة وحكماً إلهيّاً.
إنّ اعتبارَ هذا النَّوع من المقرّرات تابع، طبعاً، للمصلحة الّتي اقتضتها. أمّا الأحكام الشَّرعيَّة فهي ثابتة وخالدة، ولا يحقّ حتى لوليّ الأمر تغييرها لمصلحة، أو إلغاؤها بناءً على مصالح2.
وفي مقابل هذه الرؤية الّتي تتبنَّى الولاية المقيَّدة للفقيه، وتقيِّدها في إطار أحكام شرعيَّة معيّنة، تبنّى الإمام الخمينيَ قدس سره أُطروحة ولاية الفقيه المطلقة. وفي ضوء هذه الأُطروحة، لا تحول حتى الأحكام الإلزاميَّة الشَّرعيَّة دون صدور الأحكام الولائيَّة للفقيه، فولاية الفقيه ليست مقيَّدة بحدود الشَّرع، فإن اقتضت مصلحة النِّظام الإسلاميّ، والمجتمع الإسلاميّ، فللفقيه أن يصدر حكماً مؤقَّتاً، ويبقى سارياً ما دامت
1- اقتصادنا، السيد الشهيد محمد باقر الصدر: 721.
2- قبسات من الإسلام: 71 ـ 80.
270
248
الدرس الثامن والعشرون: حكم الفقيه وولايته المطلقة
مصلحة الإسلام والمسلمين، والّتي تعدُّ من أهمّ المصالح، تقتضي ذلك، وإن كان الحكم مخالفاً لأحد الأحكام الشَّرعيَّة الإلزاميَّة.
وبناءً على ذلك، فولاية الفقيه ليست محدَّدة ولا مشروطة ولا مقيَّدة من حيث الأحكام الشَّرعيَّة، بل مطلقة. والجذور الأصليَّة لهذه الرؤية هي أنّ الحكومة، عند الإمام الخمينيَ قدس سره، تعدُّ من أحكام الإسلام الأوّليَّة، وحفظ النِّظام والحكومة الإسلاميَّة من أهمّ الواجبات المقدَّمة على سائر الأحكام الأوّليَّة:
"الحكومة، أو الولاية المطلقة، الّتي فوّضها الله للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أهمّ الأحكام، والّتي تتقدَّم على جميع الأحكام الفرعيَّة. ولو كانت صلاحيات الحكومة ضمن إطار الأحكام الفرعيَّة لفقدت الولاية المطلقة المفوّضة لنبيّ الإسلام اسمها ومضمونها، ولأصبحت ظاهرة بدون محتوى... فللحكومة أن تمنع كلّ أمر عباديّ أو غير عباديّ إن كان مخالفاً لمصالح الإسلام ما دام كذلك"1.
فصدور حكم الفقيه منوط بوجود مصلحة حفظ النظام. ويعتقد الإمام رحمه الله بأنَّه لو بلغت مصلحة حفظ النظام درجة، بنظر الوليّ الفقيه، تزاحم حكماً من الأحكام الأوّليَّة، فإنّ مصلحة حفظ النظام تتقدَّم دائماً، وهي أهمّ من ملاك ذلك الحكم الشَّرعيّ ومصلحته. وللفقيه، صاحب الولاية، أن يعمل وفاقاً لتشخيصه للمصلحة، ويقدِّم الأهمّ على المهمّ مؤقّتاً وما دامت المصلحة باقية.
ولا بدَّ، في الختام، من الإشارة إلى أنّ المادة (110) من الدُّستور الإيرانيّ، وإن ذكرت صلاحيات الوليّ الفقيه ووظائفه، بالاستناد إلى الولاية المطلقة، فإنّ صلاحياته لا تقتصر على ذلك، لأنَّها تعتمد على مصالح المجتمع الإسلاميّ.
1- صحيفة النور، 20: 170.
271
249
الدرس الثامن والعشرون: حكم الفقيه وولايته المطلقة
الخلاصة
1 ـ يرى الإمام الخمينيَ قدس سره أنّ الحكومة والنِّظام الإسلاميّ من أحكام الإسلام الأوّليَّة.
2 ـ يرى سماحته أنّ الحكومة ليست من أجزاء الفقه، بل الفقه كلّه في خدمة حفظ نظام المسلمين. ومن هنا، فإنّ حفظ الحكومة الإسلاميَّة من أهمّ الواجبات.
3 ـ وفاقاً لهذا المعنى، فإنّ صدور حكم الفقيه لا يتوقَّف على تحقُّق أحد العناوين الثانويَّة.
4 ـ اعتقد الإمام، في السنوات الأولى من الثورة الإسلاميَّة بأن الأحكام الشَّرعيَّة لا تحول دون صدور الأحكام الولائيَّة، ورعاية للاحتياط توقف صدور الحكم، ومخالفة ظواهر الشرع تتوقَّف على طروء العناوين الثانويَّة.
5 ـ لبحث الولاية المطلقة علاقة مباشرة ببحث دائرة صدور الأحكام الولائيَّة.
6 ـ لا يمكن اعتبار ولاية الفقيه المطلقة هي الحكومة المطلقة نفسها المطروحة في الفلسفة السِّياسيَّة.
7 ـ هناك عنصرا التنفيذ والإنشاء في حكم الفقيه على خلاف الإفتاء.
8 ـ لازمة ولاية الفقيه المطلقة تتمثَّل في أنّ المصلحة لو اقتضت، فللفقيه العادل إنشاء الحكم وتنفيذه حتى وإن خالف أحكام الشرع الإلزاميَّة (الواجبة والمحرَّمة).
9 ـ ولاية الفقيه المقيَّدة تعني أحقيَّة الفقيه بإصدار الأحكام في دائرة غير الإلزامات الشَّرعيَّة، وولايته مقيَّدة بعدم وجود الإلزامات الشَّرعيَّة.
10 ـ يعتقد الإمام الخمينيَ قدس سره بتقديم مصلحة حفظ النظام دائماً حين تتزاحم هذه المصلحة مع ملاكات أيّ حكم شرعيّ ومصلحته.
272
250
الدرس الثامن والعشرون: حكم الفقيه وولايته المطلقة
الأسئلة
1 ـ ما هو رأي الإمام الخمينيَ قدس سره بموقع الحكومة وعلاقتها بالأحكام الشَّرعيَّة؟
2 ـ ما المراد بولاية الفقيه المطلقة؟
3 ـ ما هي علاقة ولاية الفقيه المطلقة ببحث الحكومة المطلقة؟
4 ـ ما المراد بالولاية المقيَّدة للفقيه؟
5 ـ ما الّذي ينبغي فعله إن تزاحمت مصلحة حفظ النظام مع ملاكات الأحكام الشَّرعيَّة الأوّليَّة؟
273
251
الدرس التاسع والعشرون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (1)
الدرس التاسع والعشرون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (1)
يتمثَّل أحد الفوارق القائمة بين نظام سياسيّ معيّن وأنظمة سياسيَّة أُخرى، في رؤيته الخاصّة لمكانة الحكومة ووظائفها وصلاحيَّاتها وأهدافها. فالأنظمة السِّياسيَّة المختلفة ترى أنَّ للحكومة أهدافاً ووظائف متنوِّعة، من بينها بعض الأهداف المشتركة بين مختلف الأنظمة. فبسط الأمن والاستقرار، والنِّظام العـامّ، وردع العدوان، وصدّ تجاوز الأجانب، من جملة الأهداف الّتي تسعى إليها جميع النُّظم السِّياسيَّة، مهما كانت نزعتها الفكريَّة.
وتسود، اليوم، أوساط المنظّرين السِّياسيين والمعنيِّين بالفلسفة السِّياسيَّة عدة أبحاث جدِّيَّة في شأن مهمَّات الدَّولة وصلاحيَّاتها. فبعض النظريَّات السِّياسيَّة تدافع عن "الحدّ الأدنى للدَّولة". فالعقيدة العامَّة السائدة، لدى هذه المذاهب السِّياسيَّة، تتمثّل في ضرورة الحدِّ قدر الإمكان من تدخّل الدَّولة في الأُمور. على سبيل المثال: إنّ اللِّيبراليَّة التقليديَّة للقرن التاسع عشر، واللِّيبراليَّة المعاصرة1، تطالب، من النَّاحية الاقتصاديَّة، بالحدِّ، في المجال الاقتصادي، من تدخّل الدَّولة في السوق الاقتصاديَّة الحرَّة. ويعتقد هؤلاء بأنَّ المعاملات السائدة في السوق الحرَّة تعيد التوازن الاقتصاديّ،
1-.Neo liberalism
275
252
الدرس التاسع والعشرون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (1)
من دون الحاجة لتدخّل الدَّولة، فهذا التَّدخُّل من شأنه الإخلال بالنظام الاقتصاديّ الطبيعيّ والتَّجارة الحرَّة.
وفي المقابل، هناك النَّظريَّة الاشتراكيَّة الّتي تطالب بأقصى درجات تدخّل الدَّولة المباشر في المجال الاقتصاديّ، حتى إنّها تنادي بمركزيَّة أسس الاقتصاد بيد الدَّولة. وقد ظهرت الصُّورة الشفَّافة لهذه النَّزعة في برهة من تاريخ اللِّيبراليَّة. واللِّيبراليَّة المعاصرة، الّتي امتدَّت من أوائل القرن العشرين حتى عقد السَّبعينات، كانت تنادي بـ "دولة الرَّفاهيَّة"، وتطالب بتدخّل الدَّولة في السوق الاقتصاديَّة الحرَّة، بغية تنظيم السوق من جانب، والدِّفاع عن الطَّبقات المعدمة والضمان الاجتماعيّ من جانب آخر.
وإن تجاوزنا الاقتصاد، فإنّ أحد الأبحاث المهمَّة للفلسفات السِّياسيَّة في مجال دور الدَّولة ومهمّتها، يتمثَّل في تحقيق السعادة والأخلاق والجوانب المعنويَّة. فهل تعدُّ سعادة الفرد وفلاحه من أهداف الدَّولة ووظائفها؟
منذ القدم، كانت لأغلب المذاهب السِّياسيَّة رؤية خاصّة لمقولة الخير والسعادة. وقد وضع المنظّرون السياسيون خطط أنظمتهم السِّياسيَّة المقترحة على محور الخير والسعادة، وكانوا يحدِّدون نوع النِّظام السِّياسيّ وأهدافه ومشاريعه في ضوء تعريفهم الخاص للخير والسعادة. وقد شهدنا، خلال القرنين الأخيرين، ظهور المذاهب السِّياسيَّة الّتي تجاهلت تماماً دور الدَّولة ومهمَّتها في هذا الصَّدد. ووفاقاً لرؤى هذه المذاهب، فإنّ بعض المقولات، مثل الخير والسَّعادة، خارجة عن دائرة وظائف الدَّولة. فالدَّولة ينبغي أن تفكِّر في الرَّفاه والأمن، وتترك للمجتمع، وكلّ فرد من أفراده، تأمين السعادة والخير والأخلاق والأمور المعنويَّة.
فاللِّيبراليَّة تدافع بقوة عن الرَّأي القائل: إنّ هذه الأُمور متعلِّقة بالأفراد. وبناءً على ذلك، ليست للحكومة أيّة وظيفة أو مسؤوليَّة في هذا المجال، وتدخّلها فيه هو تدخّل في شؤون الأفراد، وتجاوز لحقوقهم وحرِّياتهم. ولا بدَّ للدَّولة من أن تمارس وظائفها في إطار حقوق الإنسان وحرِّياته الفرديَّة. ويعتقد اللِّيبراليون بأنّ الميثاق العالميّ لحقوق
276
253
الدرس التاسع والعشرون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (1)
الإنسان الّذي نظم على أساس مبادئ اللِّيبراليَّة وأسسها، إطار مناسب لتعيين أهداف الدَّولة ووظائفها. ورسالة الدَّولة الدِّفاع عن هذا الإطار، وعليها أن تسعى إلى حفظ الأمن وصيانة الملكيَّة الشخصيَّة والحرِّيات الثَّقافيَّة والدِّينيَّة والاقتصاديَّة، وتفوّض الخير والسعادة والأخلاق لأفراد المجتمع أنفسهم، ليختار كلّ شخص ما يناسبه من طريقة العيش والحياة الخاصّة، وليتعاملوا وفاقاً لرؤيتهم الخاصّة للخير والسعادة.
واستناداً إلى هذه المقدّمة، لا بدَّ من معرفة الرِّسالة والأهداف الّتي وضعها الإسلام على عاتق الحكومة. وتالياً تنبغي معرفة نظرة الإسلام لمقولة الحكومة والمكانة الّتي يراها لها والرِّسالة الّتي ينبغي أن تنهض بها. وسنقسم هذه الدِّراسة إلى ثلاثة أقسام:
أوَّلها: نظرة الإسلام الخاصّة إلى الحكومة وشأنها ومكانتها.
وثانيها: أهداف الدَّولة الدِّينيَّة.
وثالثها: الوظائف الأكثر دقَّة للحاكم الإسلاميّ.
ماهيَّة الحكومة في الإسلام
تحدَّثنا، بالتَّفصيل، في الفصل الثَّاني، عن المنزلة الرفيعة للإمامة والزَّعامة السِّياسيَّة للأُمَّة من وجهة نظر الإسلام. وليس المراد من بحث ماهيَّة الحكومة، هنا، الإشارة إلى مكانتها وأهميتها ثانية، بل نريد أن نعرّف ما هي نظرة الإسلام إلى الحكومة وماذا يقول في ماهيتها.
تفيد الآيات والرِّوايات بأنّ الرؤية الإسلاميَّة قائمة على أساس أن لا قيمة ولا كمال، لا للحكومة ولا للمناصب والمقامات الدنيويَّة في حد ذاتها. فالحكومة تحمل أمانة ومسؤوليَّة. وتحمُّل هذه الأمانة والمسؤوليَّة يتطلّب أهليَّة وتمتُّعاً بكمالات فرديَّة خاصّة. ولذلك قيل بشرائط وفضائل خاصّة ينبغي أن تتوافر في حاكم المجتمع الإسلاميّ. فالإسلام يرى كلّ إدارة ومنصب اجتماعيّ، ولا سيّما الحكومة والإمارة، أمانة إلهيَّة، ولا يرى لها قيمة وكمالاً بحدِّ ذاتها: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم
277
254
الدرس التاسع والعشرون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (1)
بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾1.
وأكّد الإمام عليّ عليه السلام في كتابه إلى قائد الجيش الإسلاميّ المتوجِّه إلى أذربيجان ـ الأشعث بن قيس ـ أنّ منصبه ليس بلقمة هنيَّة سائغة، بل أمانة هو مسؤول عنها، وأن أموال بيت مال المسلمين، في الواقع، هي أموال الله الّتي لا بدَّ من حفظها.
"إنّ عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك. ليس لك أن تفتات في رعيَّة، ولا تخاطر إلّا بوثيقة، وفي يديك مال من مال الله (عزّ وجلّ) وأنت من خزَّانه حتى تسلِّمه إليّ"2.
ورأى في رسالة أُخرى إلى أحد ولاته، أنّ استغلال المنصب خيانة، واستهانة بالأمانة الإلهيَّة: "فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربَّك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك"3.
فأمير المؤمنين عليّ عليه السلام يرى أنّ الحكومة أمانة، وخيانتها خذلان أبديٌّ عند الله بالدَّرجة الأُولى. فالرؤية الإسلاميَّة قائمة على أساس أنّ مسؤولي النِّظام يحملون أمانة هم مسؤولون عنها عند الله. وكتب الإمام عليه السلام كتاباً لقاضي الأهواز رفاعة جاء فيه: "اعلم، يا رفاعة، أنّ هذه الإمارة أمانة، فمن جعلها خيانة فعليه لعنة الله إلى يوم القيامة، ومن استعمل خائناً فإنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بريء منه في الدُّنيا والآخرة"4.
ونقل جلال الدِّين السَّيوطيّ، في تفسيره، عن عليّ عليه السلام أنّه قال: "حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدِّي الأمانة، فإذا فعل ذلك، فحقّ على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا، وأن يجيبوا إذا دُعوا"5.
1- سورة النِّساء: 58.
2- نهج البلاغة، الرسالة 5.
3- المصدر نفسه، الرسالة 40.
4- دعائم الإسلام، 2: 531.
5- الدر المنثور، 2: 175.
278
255
الدرس التاسع والعشرون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (1)
فالحكومة، بحدّ ذاتها، لا قيمة معنويَّة لها، وليست كمالاً للحاكم، إلّا أن يجعلها وسيلة لأداء المسؤوليَّة والأمانة الإلهيَّة.
روى عبد الله بن عبَّاس فقال: حين خرجنا من البصرة، وصلنا ذي قار، فرأيت أمير المؤمنين عليه السلام يخصف نعله، فسألني: ما قيمة هذه النَّعل؟ قلت: لا قيمة لها.
فقال: "والله، لهي أحبُّ إليَّ من إمرتكم إلّا أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً"1.
وبناءً على ذلك، فالحكومة تكون ذات قيمة حين تتفعّل رسالتها وأهدافها، ويسعى الحاكم السِّياسيّ إلى تحقيق تلك الأهداف.
أهداف الحكومة الدِّينيَّة
إنّ الرُّجوع إلى المصادر الدِّينيَّة يكشف حقيقةً مفادها أنَّ أهداف الحكومة الإسلاميَّة لا تقتصر على بسط الرفاهيَّة والأمن، فضلاً عن أنَّها وضعت الأمور المرتبطة بالخير والسعادة وبمعنويَّات المجتمع الإسلاميّ في دستور عمل الدَّولة. فالحكومة الدِّينيَّة لا بدَّ من أن تمهِّد السبيل أمام الحياة الإيمانيَّة والأخلاقيَّة المطلوبة، والاهتمام بالجوانب الثَّقافيَّة والدِّينيَّة، إلى جانب بسط الأمن والاستقرار ورفاهيَّة أبناء المجتمع، ولا سيّما الطبقات الفقيرة. وسنشير إلى بعض هذه الأهداف من خلال الآيات والرِّوايات الّتي تحدَّثت عن أهداف الحكومة الدِّينيَّة، حيث يمكن تقسيم هذه الأهداف وفاقاً لتقسيم كلّي، إلى أهداف معنويَّة وأُخرى دنيويَّة. والأهداف الدنيويَّة للحكومة الدِّينيَّة هي الأُمور الّتي تشترك فيها مع سائر الحكومات غير الدِّينيَّة. أمّا الأهداف المعنويَّة للحكومة الدِّينيَّة، فهي الأُمور المختصَّة بها، والّتي تميِّز الحكومة الدِّينيَّة من سائر أنواع الحكومات الأُخرى. وخصوصيّة الحكومة الدِّينيَّة تكمن في التزامها بتحقيق هذه الأهداف.
1- نهج البلاغة، الخطبة 33، وورد هذا الحديث، باختلاف يسير، في إرشاد المفيد، 1: 247.
279
256
الدرس التاسع والعشرون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (1)
1 ـ الأهداف المعنويَّة
المراد من الأهداف المعنويَّة، للحكومة الدِّينيَّة، الجهود الّتي تبذل لتنقية أجواء المجتمع بغية تحقيق سموِّ الفطرة البشريَّة وتكاملها. وبعض هذه الجهود يُعدُّ من نوع الثقافة والإرشادات والتوجيهات والتبليغ الدِّينيّ الصحيح، وبعضها الآخر يعدُّ من نوع التحقُّق العينيّ للأحكام والحدود وتطهير الوسط الاجتماعيّ من التلوُّث والفساد. ونبحث، بادئ الأمر، في طائفة من الآيات والرِّوايات الواردة في الأهداف المعنويَّة للحكومة الدِّينيَّة، ثمّ نتناول تصنيف هذه الأهداف.
فقد ذكر الله تعالى بعض الوظائف لمن تحصل لهم القوّة، ويتمكَّنون في الأرض، منها: إقامة الصَّلاة، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾1
كما أنّ إقامة القسط ـ العدل الاجتماعيّ ممَّا ركّز عليه الإسلام، وعدّه من الأهداف السِّياسيَّة للحكومة الدِّينيَّة ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾2.
﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾3.
﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾4.
وسأل أبو حمزة الثُّماليّ الإمام الباقر عليها السلام عن الحقوق المتبادلة بين الإمام والأُمّة، فذكر عليه السلام بسط العدل والقسط من جملة حقوق الأُمّة على الإمام:
سألت أبا جعفر عليه السلام: ما حقّ الإمام على الناس؟ قال: "حقُّه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا". قلت: فما حقُّهم عليه؟ قال: "يقسم بينهم بالسَّويَّة ويعدل في الرعيَّة..."5.
وقال الإمام عليّ عليه السلام: "إمام عادل خير من مطر وابل"6.
1- سورة الحج: 41.
2- سورة النحل: 90.
3- سورة الشُّورى: 15.
4- سورة النساء: 58.
5- أُصول الكافي، 1: 405 ح 1، باب ما يجب من حقّ الإمام على الرَّعية.
6- غرر الحكم للآمدي، 1: 386 ح 1491.
280
257
الدرس التاسع والعشرون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (1)
وذكر الإمام الرضا عليه السلام الأهداف المعنويَّة والثَّقافيَّة الخاصّة في جملة وظائف الإمام: "والإمام يحلّ حلال الله ويحرِّم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذبُّ عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجَّة البالغة"1.
وقال الإمام عليّ عليه السلام، لدى ذكره للحكومة: إنَّ الغرض منها ليس المنصب والمتاع الدنيويّ الزائل، بل تحقيق ثلاثة أهداف، اثنان منها في جملة الأهداف المعنويَّة: "اللَّهم، إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطَّلة من حدودك"2.
كما أنّ من أهداف الحكومة الدِّينيَّة إقامة الحقّ ومكافحة الباطل ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾3.
وكما ذكرنا فإنّ عليّاً عليه السلام ذكر، في كلامه لابن عباس، أنّ إقامة الحقّ ومنع الباطل هدف يمنح الحكومة قيمة.
وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاذ بن جبل، حين وجَّهه إلى اليمن، بوصايا مهمَّة، بعضها وارد في شأن الأهداف المعنويَّة للحكومة الدِّينيَّة:
"يا معاذ، علِّمهم كتاب الله، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة، وأنزل النَّاس منازلهم خيرهم وشرّهم... وأمت أمر الجاهليَّة إلّا ما سنّه الإسلام، وأظهر أمر الإسلام كلّه، صغيره وكبيره، وليكن أكثر همِّك الصَّلاة، فأنّها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدِّين. وذكّر الناس بالله واليوم الآخر، واتّبع الموعظة، فإنّه أقوى لهم على العمل بما يحبُّ الله، ثمّ بثّ فيهم المعلمين، واعبد الله الّذي إليه ترجع، ولا تخف في الله لومة لائم"4.
1- أُصول الكافي، 1: 200 ح 1، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته.
2- نهج البلاغة، الخطبة، 131.
3- سورة ص: 26.
4- تحف العقول: 26.
281
258
الدرس التاسع والعشرون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (1)
الخلاصة
1 ـ يتمثَّل أحد امتيازات الحكومة الدِّينيَّة على سائر النظم السِّياسيَّة، في الأهداف والوظائف الخاصّة الّتي تنشدها هذه الحكومة.
2 ـ هناك دعم في العصر الراهن لنظريَّة الحدّ من نشاط الدَّولة وحصر وظائفها وأهدافها (دولة الحدّ الأدنى)، لا سيّما في الحكومات اللِّيبراليَّة ـ الديمقراطيَّة.
3 ـ ترى الحكومات اللِّيبراليَّة الديمقراطيَّة أنّ بعض المقولات، كالخير والسعادة والأخلاق والمعنويات، أمور شخصيَّة وخارجة عن أهداف الدَّولة ووظائفها.
4 ـ تتوقَّف دراسة أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها على مكانتها في نظر الإسلام.
5 ـ الحكومة، من وجهة نظر الإسلام، أمانة ومسؤوليَّة خطيرة، ولا تستتبع أيَّ امتياز ومنزلة.
6 ـ إنّ قيمة الحكومة مرهونة بأداء الأمانة، وأداء الأمانة منوط بتطبيق الأهداف والوظائف الملقاة على عاتق الحكومة وزعيمها.
7 ـ يمكن تقسيم أهداف الحكومة الدِّينيَّة إلى أهداف معنويَّة ودنيويَّة.
8 ـ وردت عدة تأكيدات على الأهداف المعنويَّة للحكومة في الآيات والرِّوايات.
282
259
الدرس التاسع والعشرون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (1)
الأسئلة
1 ـ ما هي نظريَّة اللِّيبراليَّة في شأن أهداف الحكومة ووظائفها؟
2 ـ كيف ينظر اللِّيبراليون الدِّيمقراطيون إلى السَّعادة والأهداف المعنويَّة؟
3 ـ ما هي حقيقة الحكومة وكنهها، من وجهة نظر الإسلام؟
4 ـ ما المراد بالأهداف المعنويَّة للحكومة الدِّينيَّة؟
283
260
الدرس الثلاثون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (2)
الدرس الثلاثون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (2)
قسّمنا، في الدَّرس السَّابق، أهداف الحكومة الدِّينيَّة إلى طائفتين: مادِّيَّة ومعنويَّة، وأشرنا إلى بعض الآيات والرِّوايات الواردة في تحديد الأهداف المعنويَّة. ويمكن تصنيف هذه الأهداف كما يأتي:
1 ـ إقامة الحقّ، ومحوريَّته في إجراء الأُمور ومحو الباطل والشرك والجاهليَّة.
2 ـ بسط العدل والقسط.
3 ـ إقامة الحدود الشَّرعيَّة.
4 ـ بذل الجهود لتعليم المعارف الشَّرعيَّة ونشر ثقافة العبوديَّة.
5 ـ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
6 ـ الدِّفاع عن الدِّين والسَّعي إلى نشر الدَّعوة التَّوحيديَّة.
الأهداف الدنيويَّة
المراد من الأهداف الدنيويَّة تلك الطائفة من الأهداف الّتي ينتظر عقلائياً أن تهتمّ بتحقيقها كلّ حكومة صالحة شعبيَّة. والغرض من ذكر هذه الأهداف هو أنّ مصادرنا الدِّينيَّة لم تغفل أمر المعاش والرَّفاه وأمن الشَّعب، وكانت المساعي الأُخرويَّة، في التعاليم الدِّينيَّة، نصب أعين أولياء الله إلى جانب عمارة الدُّنيا. ولذلك، وردت الإشارة،
285
261
الدرس الثلاثون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (2)
في الحكومة الدِّينيَّة، إلى أهدافها ذات الصِّلة بالمعاش ومختلف الشؤون الدنيويَّة. والأهداف الدنيويَّة للحكومة الدِّينيَّة هي تلك الأهداف الّتي تدَّعي الحكومات العلمانيَّة السعي إلى تحقيقها. وسنشير، في خاتمة البحث، إلى الفارق الأساس بين الحكومتين الدِّينيَّة والعلمانيَّة في تحقيق هذه الأهداف.
وقد أكّد القرآن لزوم حفظ الأمن والقوَّة العسكريَّة للمجتمع الإسلاميّ، فجاء فيه:
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾1.
وذكر الإمام الصَّادق عليه السلام أنّ الأمن والعمران هما من متطلّبات المجتمع العامَّة، إذ لا بدَّ من توفيرهما لكلِّ مجتمع: "ثلاثة أشياء يحتاج الناس طرّاً إليها: الأمن، والعدل، والخصب"2.
واستهل الإمام عليّ عليه السلام عهده إلى مالك الأشتر، لمّا ولاّه على مصر، بالإشارة إلى بعض أهداف الحكومة:
"هذا ما أمر به عبد الله، عليّ، أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه، حين ولاّه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوِّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها"3.
وعدَّد عليه السلام، في إحدى خطبه، حقوق النَّاس، الّتي تُعدُّ من الأهداف الأساس للحكومة الدِّينيَّة، ومن بينها نشر التربية والتعليم، وأداء حقوق النَّاس من المصادر الماليَّة للبلاد، فقال: "أيّها النَّاس، إنّ لي عليكم حقّاً، ولكم عليَّ حقّ، فأمّا حقّكم عليَّ: فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا"4.
1- سورة الأنفال: 60.
2- تحف العقول: 236.
3- نهج البلاغة، الرسالة 53.
4- المصدر نفسه، الخطبة 34.
286
262
الدرس الثلاثون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (2)
كما أنّ من الأهداف الّتي أكَّد عليه السلام العمل على تحقيقها: مناهضة الظُّلم وحماية المظلوم إزاء تعدّي الظَّلمة الّذين يتطاولون على الضُّعفاء، فرأى أنّ هذا الأمر عهد الله في رقبة العلماء، وأنّ أحد أسباب قبوله الخلافة الوفاء بهذا العهد: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجَّة بوجود النَّاصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظَّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها"1.
كما عدَّد عليه السلام بعض فوائد الحكومة، وهي تعدّ من الأهداف الّتي ينبغي أن تحقِّقها كلُّ حكومة، وذلك حين مواجهته للخوارج، وهم يطلقون شعارهم: "إن الحكم إلّا لله"، وبذلك أنكروا الحكومة. وأحد تلك الأهداف هو أخذ الحقّ للضعيف من القويّ، فقال: "ويؤخذ به للضَّعيف من القوي"2.
كما أنّ الاصلاحات، في مختلف مجالات المجتمع، من أهداف الحكومة الدِّينيَّة ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾3.
كما ذكر عليه السلام أنّ الاصلاحات في البلاد، أحد أهداف قبوله الخلافة: "ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك"4.
ويمكن، استناداً إلى ما سبق، إيجاز الأهداف الدنيويَّة للحكومة الدِّينيَّة في ما يأتي:
1 ـ بسط الأمن.
2 ـ تقوية البنية الدِّفاعيَّة وحفظ ثغور البلاد الإسلاميَّة.
3 ـ إشاعة الرَّفاهيَّة والإعمار والبناء.
4 ـ الإصلاحات في مختلف شؤون المجتمع.
5 ـ حفظ الأموال العامَّة والتَّقسيم العادل لها في المجتمع.
1- المصدر نفسه، الخطبة 3.
2- نهج البلاغة، الخطبة، 40.
3- سورة هود: 88.
4- نهج البلاغة، الخطبة، 131.
287
263
الدرس الثلاثون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (2)
6 ـ نشر التَّعليم والتَّربية.
7 ـ الضمان الاجتماعيّ وحماية الطَّبقات المظلومة والمعدمة.
إنّ الأهداف الدنيويَّة للحكومة الدِّينيَّة أهداف عامّة يمكن أن تدَّعيها كلّ حكومة. فهذه الأهداف تنبثق من الجانب العقلائيّ للحكومة، ولا يختصُّ ذكرها ورسم صورتها بالشَّريعة والدِّين. مع ذلك، تختلف الحكومة الدِّينيَّة عن سائر الحكومات غير الدِّينيَّة والمعروفة في تحقيق هذه الأهداف. ويتمثَّل هذا الاختلاف في أمرين:
الأوّل: وهو مدى اهتمامها ببعض هذه الأهداف بالشَّكل الّذي لا يشاهد مثيله في سائر الحكومات، على سبيل المثال: يمكن الإشارة إلى الفقرتين 5 و7 السابقتين، فقد وردت عدَّة تأكيدات، في روايات المعصومين والسِّيرة العمليَّة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام في أمر الحكومة على مواساة الفقراء والضُّعفاء، ومن جانب آخر التأكيد على العدالة والمساواة بين جميع الأفراد في بيت المال.
الفارق الثاني: يتمثَّل في أُسلوب تحقيق هذه الأهداف ومنهجه، فالحكومة الدِّينيَّة تتابع الأهداف الدنيويَّة إلى جانب أهدافها المعنويَّة، وتنظِّمهما معاً على أساس القيم والسموّ والتكامل. على سبيل المثال: على الرُّغم من أنّ إصلاح الأُمور والعمران من الأهداف الدِّنيويَّة والعامّة للحكومة الدِّينيَّة، فإنّ هذه الأهداف تؤمّن في ظلّ التوجُّه إلى الأهداف المعنويَّة والخاصّة للحكومة الدِّينيَّة، أي أنّ حاكميَّة العدل والقسط هي الأرضيَّة الصالحة للتحقُّق العينيّ للأهداف الدنيويَّة.
قال عليّ عليه السلام: "العدل يضع الأُمور في مواضعها"1، "ما عمرت البلدان بمثل العدل". ويحظى كلٌّ من الرَّفاه والأمن بمعناه الحقيقيّ حين تكون الحياة الاجتماعيَّة مفعمة بالأخلاق السَّامية، وتسودها القيم والمثل. ومن هنا، فإنّ التحقُّق العينيّ
1- نهج البلاغة، الرسالة 26.
288
264
الدرس الثلاثون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (2)
للأهداف المعنويَّة للحكومة الدِّينيَّة يوفّر الأرضيَّة المساعدة للتحقُّق العيني للأهداف الدينويَّة والعامة لهذه الحكومة.
وظائف ولاة الحكومة الدِّينيَّة
إنّ تحقيق جميع الأهداف المادِّيَّة والمعنويَّة للحكومة الدِّينيَّة، يلقي بمسؤوليَّة كبرى على عاتق ولاة الحكومة وموظَّفيها المفروض أن يؤدُّوا مهمَّات وظائف خطيرة، فتأكيد الإسلام على الأهداف المعنويَّة الخاصّة يتطلّب من الحاكم الإسلاميّ سلوكاً فردياً وإدارة خاصّة. وهذا يُعدُّ من مميِّزات الحكومة الدِّينيَّة من سائر أنواع الحكومات الأُخرى. ونشير هنا، إجمالاً، إلى بعض هذه الوظائف:
1 ـ رعاية الورع والتَّقوى
هدف الحكومة الدِّينيَّة هو ترسيخ روح الإيمان والتقَّوى ونشر المعارف الدِّينيَّة وبسط العدل والقسط. ومن هنا، يجب أن يتحلَّى مسؤولو هذه الحكومة بالقدر الأوفى من الورع والتقوى والإقرار بالعبوديَّة لله سبحانه وتعالى، فيتَّقون الله في السرِّ والعلانيَّة، وينسجم قولهم مع عملهم. فقد كتب عليّ عليه السلام لأحد ولاته:
"أمره بتقوى الله في سرائر أمره، وخفيّات عمله، حيث لا شاهد غيره، ولا وكيل دونه. وأمره أن لا يعمل بشيء من طاعة الله في ما ظهر، فيخالف إلى غيره في ما أسرّ. ومن لم يختلف سرّه وعلانيته وفعله ومقالته، فقد أدّى الأمانة، وأخلص العبادة"1.
فالتقوى تقتضي أن يستشعر الحاكم الإسلاميّ أمر الله في كلّ عمل، وأن لا يقدِّم هوى النفس على أوامر الله. وقد أشار الإمام الصَّادق عليه السلام إلى هذه الميزة بوصفها علامة إمامة الحقّ في تقسيمه الأئمّة إلى قسمين: إمام حقٍّ وإمام باطل، فقال: "إنّ الأئمّة في كتاب الله ـ عزّ وجلّ ـ إمامان، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾
1- نهج البلاغة، الرسالة 26.
289
265
الدرس الثلاثون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (2)
لا بأمر النَّاس، يقدِّمون أمر الله قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم. قال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ يقدِّمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّ وجلّ"1.
2 ـ الكفاءة والجدارة
لا بدَّ من أن يكون الحاكم الإسلاميّ، بالدَّرجة الأُولى، من الأفراد الكفوئين والملتزمين، وعليه أن يوظِّف الأفراد الأكفَاء، ويقدِّم مصلحة الإسلام والمسلمين على كلّ علاقة وضابطة أُخرى. فقد أوصى الإمام عليّ عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر بالدقَّة في اختيار موظَّفي الدَّولة، ورعاية الجوانب المطلوبة جميعها:
"ثم اختر للحكم، بين النَّاس، أفضل رعيَّتك في نفسك ممَّن لا تضيق به الأُمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلَّة، ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه... ثمّ انظر في أُمور عمّالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنّهما جماع من شُعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدِّمة، فإنّهم أكرم أخلاقاً، وأصحّ أعراضاً، وأقلّ في المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأُمور نظراً"2.
3 ـ الزُّهد والتواضع
أشرنا، في الدَّرس السَّابق، إلى أنّ نظرة الإسلام للحكومة تتمثَّل في أنّها أمانة إلهيَّة ومسؤوليَّة، ولا تعدُّ امتيازاً اجتماعياً ووسيلة للتَّطاول ونيل الثَّروة أبداً. ومن جانب آخر، فإنّ دعم الضُّعفاء والسعي إلى أخذ حقّهم من الأقوياء من أهداف النظام الإسلاميّ. وبناءً على ذلك، لا بدَّ من أن يشعر الحاكم بألم الفقير والمحروم، وينبغي ألّا يرقى عليه في المعيشة. قال الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ الله جعلني إماماً لخلقه، ففرض عليَّ التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي
1- أُصول الكافي، 1: 216 ح 2، باب أنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان.
2- نهج البلاغة، الرسالة 53.
290
266
الدرس الثلاثون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (2)
وملبسي كضعفاء النَّاس، كي يقتدي الفقير بفقري، ولا يُطغي الغنيّ غناه"1.
قال المعلَّى بن خنيس: "لمّا شاهدت ما عليه بنو العبّاس من نعمة وسعة، تمنّيت لو كانت الحكومة لجعفر الصادق عليه السلام فنتنعَّم بتلك النِّعم، فقال عليه السلام: "هيهات، يا معلّى! أما والله أن لو كان ذاك ما كان إلّا سياسة اللَّيل، وسياحة النَّهار، ولبس الخشن، وأكل الجشب"2.
4 ـ المساواة في الحقوق الاجتماعيَّة
الميزة الأُخرى لأصحاب السُّلطة السِّياسيَّة هي أنَّهم لا يرون أنفسهم أفضل من أبناء المجتمع، بل يرون أنّهم كغيرهم إزاء القانون. وبناءً على ذلك، فإن ارتكب أحد ولاة الدَّولة خطأ، لا بدَّ من أن يخضع للحدّ الشرعيّ، والعقاب الإسلاميّ أُسوة بسائر الناس.
قال الإمام الصَّادق عليه السلام: "قال أمير المؤمنين لعمر بن الخطّاب: ثلاث إن حفظتهنّ وعملت بهنّ كفتك ما سواهنّ، وإن تركتهنّ لم ينفعك شيء سواهنّ. قال: وما هنّ يا أبا الحسن؟ قال: إقامة الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرِّضا والسَّخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود"3.
5 ـ الاتصال المباشر بالأُمّة
دعا الإسلام الحكَّام للتقرُّب من النَّاس، وسماع آرائهم، واستشارتهم. ويتمُّ هذا الأمر في الوقت الّذي يعملون فيه على تعظيم النَّاس واحترامهم، فإنّه يعرّف المسؤولين بآلام المجتمع ويوسّع من أُفقهم ونظرتهم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾4.
1- الكافي1: 410، ح1، باب سيرة الإمام في نفسه.
2- المصدر السابق: 410، ح2.
3- وسائل الشِّيعة، 27: 212 ـ 213، ح2، الباب الأول من أبواب آداب القاضي
4- سورة آل عمران: 159.
291
267
الدرس الثلاثون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (2)
﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ﴾1.
وأوصى الإمام عليّ عليه السلام مالك الأشتر بأن لا يضع بينه وبين النَّاس حاجباً، فإنّ ذلك يوجب قلّة معرفة المسؤولين بأوضاع النَّاس، ويخلط الحقّ بالباطل، ويجعل الأُمور تشتبه عليهم: "فلا تطولنّ احتجابك عن رعيَّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرَّعيَّة شعبة من الضِّيق، وقلّة علم بالأُمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه"2.
6 ـ مكافحة الفقر، والضَّمان الاجتماعيّ
إحدى الوظائف المهمَّة للحكومة الدِّينيَّة هي مكافحة الفقر وضمان معيشة ضعفاء المجتمع. وقد ورد العديد من الرِّوايات في هذا الخصوص، نذكر أنموذجين منها:
قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : "ما من غريم ذهب بغريمه إلى وال من ولاة المسلمين، واستبان للوالي عسرته، إلّا برأ هذا المعسر من دَينه، وصار دَينُهُ على والي المسلمين في ما في يديه من أموال المسلمين"3.
ورأى الإمام عليّ عليه السلام شيخاً مكفوفاً يسأل، فسأل: ما هذا؟ قالوا نصراني. فقال عليه السلام: "استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال"4.
إنّ وظائف الحاكم السِّياسيّ أعمق بكثير ممَّا أوجزناه هنا. ومن البدهيّ أنّ كلّ هدف من الأهداف المعنويَّة والدِّنيويَّة للحكومة الدِّينيَّة يقلِّد مسؤولي الدَّولة وظائف ومهمَّات جسيمة إضافيَّة خاصّة.
1- سورة التوبة: 61.
2- نهج البلاغة، الرسالة 53.
3- مستدرك الوسائل، 13: 400، ح15723.
4- وسائل الشِّيعة، 15: 66، ح1، الباب 19 من أبواب جهاد العدو.
292
268
الدرس الثلاثون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (2)
الخلاصة
1 ـ من أهمّ الأهداف المعنويَّة للحكومة الدِّينيَّة تحقيق بعض الأمور، من قبيل: إقامة الحقّ والقضاء على الباطل، وبسط العدل والقسط، وإقامة الحدود الشَّرعيَّة، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ونشر العلم والمعرفة.
2 ـ المراد من الأهداف الدِّنيويَّة للحكومة تلك الأهداف العقلائيَّة الّتي يُنتظر تحقيقها من قبل جميع الحكومات.
3 ـ من أهمّ الأهداف الدِّنيويَّة للحكومة الدِّينيَّة، والّتي أكّدت عليها الآيات والرِّوايات، بسط الأمن والدفاع عن الثغور، وإشاعة الرفاهيَّة وممارسة البناء والإعمار، وتوسيع التربية والتعليم، وإصلاح مختلف شؤون المجتمع.
4 ـ تمتاز الحكومة الدِّينيَّة بأنّها تتابع أهدافها الدِّنيويَّة بالانسجام مع أهدافها المعنويَّة.
5 ـ إنّ تحقيق أهداف الحكومة الدِّينيَّة لا سيّما المعنويَّة منها، يلقي بمسؤوليَّة خطيرة ووظيفة ثقيلة في أعناق مسؤولي الحكومة.
6 ـ رعاية الورع والتقوى، والتحلّي بالكفاءة، والزُّهد، والتواضع، والمساواة أمام القانون، وفي الامتيازات الاجتماعيَّة من أهمّ وظائف أجهزة الحكومة الدِّينيَّة.
293
269
الدرس الثلاثون: أهداف الحكومة الدِّينيَّة ووظائفها (2)
الأسئلة
1 ـ أُذكر خمسةً من أهداف الحكومة الدِّينيَّة.
2 ـ ما المراد بالأهداف الدِّنيويَّة للحكومة الدِّينيَّة؟
3 ـ ما هي بعض الأهداف الدِّنيويَّة للحكومة الّتي أكّدتها الآيات والرِّوايات؟
4 ـ ما الفرق بين الحكومة الدِّينيَّة وسائر الحكومات في تحقيق الأهداف الدِّنيويَّة؟
5 ـ ما هي وصايا الإمام عليّ عليه السلام لمالك الأشتر في اختيار العمَّال والولاة؟
6 ـ أُذكر نبذة عن وظائف مسؤولي الحكومة.
294
270
الدرس الحادي والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (1)
الدرس الحادي والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (1)
يتمثَّل أحد المباحث المهمَّة، في فلسفة الإسلام السِّياسيَّة، في دراسة العلاقة بين الدِّين والدِّيمقراطيَّة، فالبحث في هذه القضيَّة يكتنفه العديد من الأسئلة والشُّبهات. ومنشأ هذه الشُّبهات هو الاعتقاد بالتَّضارب الذَّاتي الّذي يأبى الحلّ بين الأُصول والمبادئ الإسلاميَّة، والأُصول والأُسس الّتي تحكم الديمقراطيَّة. ويشير بعض منكري الانسجام بين الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة إلى أُطروحة ولاية الفقيه، إذ يعتقد هؤلاء أن ليس هنالك من خلاف ذاتي بين الإسلام والديمقراطيَّة، غير أنّ النظام الولائي القائم على أساس ولاية الفقيه لا يمكنه التكيّف مع الجمهوريَّة والديمقراطيَّة، ما يعني أنَّنا نواجه، في هذا الخصوص، ضمن تقسيم كلّي، ثلاث نظريَّات رئيسة:
أوَّلا: النَّظريَّة الّتي تؤمن بإمكانيَّة دمج الحكومة الدِّينيَّة بالدِّيمقراطيَّة، ولا ترى في الالتزام بالإسلام وتعاليمه ما يحول دون سيادة الشَّعب، ومشاركة الجماهير في صنع مستقبلها السِّياسيّ وإدارة شؤون البلاد. وقد تبلور نظام الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران ـ بوصفه شاهداً واقعيّاً ـ ودستورها على أساس هذه الأُطروحة السِّياسيَّة.
ثانياً: النَّظريَّة الّتي تؤمن بالتضادِّ الذَّاتيّ بين الإسلام والدِّيمقراطيَّة، وترى أنَّ
295
271
الدرس الحادي والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (1)
الإسلام يناهض من الأُسس والجذور سيادة الشعب، ما يعني أن ليس بمقدور الحكومة الولائيَّة، والأُطروحة السِّياسيَّة لولاية الفقيه، بل ولجميع أشكال الحكومة الدِّينيَّة الّتي تعتمد مرجعيَّة الإسلام وتلتزم بتعاليمه ومفاهيمه، أن تكون حكومة سيادة الشَّعب والدِّيمقراطيَّة.
ثالثاً: النَّظريّة الّتي لا تنكر، من الأساس، الانسجام بين الدِّين والدِّيمقراطيَّة، وترى أنّ المشكلة تكمن في النِّظام الّذي يستند إلى ولاية الفقيه. واستناداً إلى هذه النَّظريَّة، فإنّه يتعذّر الجمع بين الإيمان بولاية الفقيه والالتزام بالديمقراطيَّة، ويستحيل تعايش فكرة الجمهوريَّة مع نزعة الحكومة الولائيَّة، فهنالك غياب للجمهوريَّة وسيادة الشعب في ظلّ ولاية الفقيه، وتالياً فإنّ الإيمان بالجمهوريَّة، إلى جانب الاعتقاد بولاية الفقيه، هو اعتقاد بمتناقضين.
وقبل إصدار الحكم على هذه النَّظريات الثلاث ومناقشتها، وعرض آراء مخالفي الحكومة الدِّينيَّة الشعبيَّة، لا بدَّ من التعرّف أولاً إلى ماهيَّة الدِّيمقراطيَّة.
ماهيَّة الدِّيمقراطيَّة
الديمقراطيَّة كلمة يونانيَّة تتكوَّن من مفردتين Demo بمعنى الشَّعب، وCracy بمعنى الحكومة. وحكومة الشَّعب، أو سيادة الشَّعب، بمعناها الواقعيّ، هدف بعيد المنال، لأنّه، في المجتمعات المعاصرة المعقَّدة الّتي تتَّخذ فيها كلّ يوم عشرات القرارات الاجتماعيَّة الجسيمة، ويُسَنّ فيها العديد من القوانين في مختلف المجالات، وفي جميع أجهزة الدَّولة، من المتعذَّر أن يتمَّ تحقيق كلّ هذه القوانين ووضع المقرّرات بصورة مباشرة من قبل الشعب. وبناءً على ذلك، فلا مناص من أن ينهض بزمام الأُمور، في هذه الحكومات المسمَّاة بالديمقراطيَّة، بعض الأفراد المنتخبين من قبل الأكثريَّة، فيمارسون هم الحكومة عملياً وليس الشعب. من المعروف أنّ أغلب القرارات في الدَّولة اليونانيَّة ـ المدن اليونانيَّة العريقة ـ كانت تتَّخذ في ميادين المدن وبحضور الناس. ومع ذلك، لم يكن جميع أبناء الشعب يبدون آراءهم هناك، حيث لم يكن للنِّساء والعبيد حقّ التصويت.
296
272
الدرس الحادي والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (1)
والدِّيمقراطيَّة كلمة فضفاضة تتضمَّن عدَّة تفاسير واستنتاجات، والشاهد على هذا الادّعاء أنَّها تحظى بدعم مختلف المذاهب والمدارس الفكريَّة المتناقض بعضها مع بعضها الآخر. فالاشتراكيَّة، واللِّيبراليَّة، والتيَّار المحافظ، وحتى الفاشيَّة لا تنفكُّ عن المناداة بها، وتزعم أنّها تمثِّل الدِّيمقراطيَّة الحقيقيَّة. وتشير مختلف الصيغ، من قبيل: الاشتراكيَّة ـ الدِّيمقراطيَّة، واللِّيبراليَّة ـ الدِّيمقراطيَّة، والدِّيمقراطيَّة الصناعيَّة، والدِّيمقراطيَّة التعدديَّة، إلى عدم وجود فهم بسيط واضح ومحدَّد لها.
فللدِّيمقراطيَّة معنى مرن، وقد تحقَّقت في صيغ مختلفة اختلافاً كبيراً في أغلب مناطق العالم، واقترنت بأُطروحات سياسيَّة مختلفة. وهذا يكشف أنّها لا تتضمَّن مضموناً واحداً يتَّفق عليه الجميع، علاوة على أنَّها اكتسبت ملامح متعدِّدة من خلال التَّعقيدات والتَّطورات الاجتماعيَّة لمختلف المجتمعات والشعوب. وبما أنّ الدِّيمقراطيَّة تتمتَّع اليوم بسمعة إيجابيَّة، فإنّ أغلب الأنظمة السِّياسيَّة اصطلحت على تسمية نفسها بهذه التَّسمية، وإن كان الدَّور الجماهيريّ غير ذي فاعليَّة فيها.
والواقع أنّ القراءات المتنوِّعة للدِّيمقراطيَّة لا تحول دون تصنيف الرؤى السائدة في شأنها، فهناك رؤيتان، في تصنيف عام للدِّيمقراطيَّة: الرُّؤية التقييميَّة، والرُّؤية المنهجيَّة.
فالنظرة التقييميَّة للدِّيمقراطيَّة تؤمن بأنّ انتخاب الأكثريَّة يعني دائماً انتخاب خير المجتمع وصلاحه واختيار الحقّ، إذ يتميز الحقّ من الباطل في ضوء هذا الأُسلوب من إقامة الانتخابات، ما يعني أنَّه يمكن للدِّيمقراطيَّة أن تكون صيغة مناسبة لكيفيَّة ممارسة المجتمع لحياته الاجتماعيَّة، وأنّ خير هذا المجتمع وسعادته يتمثَّلان في الانتخابات.
وتعتقد الرؤية الّتي كانت سائدة، في القرن الثامن عشر، والّتي يعبَّر عنها بالدِّيمقراطيَّة التقليديَّة ـ وما زال هناك اليوم من يتعامل معها على أساس هذه الرُّؤية ـ بأنّ رأي الأغلبيَّة هو معيار التمييز بين الحقّ والباطل، ما يعني أنَّها تولي أهميَّة وقيمة
297
273
الدرس الحادي والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (1)
لرأي هذه الأغلبيَّة، وتراها صاحبة القرار الحقّ والصائب، وأساس هذه النظريَّة يستند إلى الاستدلال الآتي:
من الواضح أنّ كلّ فرد ينشد منفعته ومصلحته وخيره، في حياته الشَّخصيَّة، ويسعى إلى تحقيق أفضل الاختيارات في كلّ ممارسة انتخابيَّة في مختلف جوانب حياته. بعبارة أُخرى: إنّ الناس ينظرون إلى مصالحهم في حياتهم الفرديَّة، ويفتشون عمّا فيه خيرهم. وانتخاب الأكثريَّة، في الحياة الاجتماعيَّة، هو الآخر يمثِّل انتخاب أنفع طريق وأصوبه، لأنّ النَّاس ينتخبون أفضل حاكم لتحقيق منافعهم، وسيكون الرأي الجماعي حاصل تشخيصاتهم الفرديَّة، فكلّ فرد يدلي برأيه في الأُمور الاجتماعيَّة الجسيمة سيعيّن بتشخيصه منفعة المجتمع ومصلحته، وسيكون رأي الأكثريَّة عاكساً للإرادة العامَّة في تشخيص خير المجتمع ومصلحته وتعيينهما. وبناءً على ذلك، فكلّ واقعة أو حادثة اجتماعيَّة، ستصنَّف بسهولة إلى حسنة وسيِّئة، ونافعة وضارَّة، والإرادة العامَّة المتبلورة في رأي الأكثريَّة أفضل كاشف لهذا السيِّئ والحسن، والضار والنَّافع.
أمّا النَّظرة المنهجيَّة للدِّيمقراطيَّة، فتؤمن بأنّ هذه الطَّريقة في الحكم هي مجرّد أُسلوب لحلّ النِّزاعات الاجتماعيَّة، وطريقة لتوزيع السُّلطة السِّياسيَّة وتداولها. فالتجربة العقلائيَّة البشريَّة، خلال القرون والعصور السَّالفة، توصَّلت إلى نتيجة مفادها أنّ الدِّيمقراطيَّة صيغة ممتازة لتعيين الحكام والزَّعامات السِّياسيَّة. فالواقع هو أنّها منهج معقول يتمثَّل في الرجوع إلى آراء الشعب لانتخاب الحزب الحاكم أو ممثِّلي البرلمان وما شابه ذلك، بدلاً من أن تلجأ الأحزاب والقيادات السِّياسيَّة والمتطلِّعون للسلطة إلى الاستيلاء عليها من خلال بعض الأساليب كالحروب، والاغتيالات، والنزاعات العنيفة المخلَّة بالوحدة، وتداول الزَّعامة السِّياسيَّة في ما بينهم. فرأي الأكثريَّة، في الديمقراطيَّة المنهجيَّة، ليس معيار الحسن والسيِّئ والصَّائب والخاطئ، فربَّما لا يتَّجه المُنتخَب من قبل الشعب، أو الحزب الحائز على رأي الأكثريَّة عملياً، في مسيرته،
298
274
الدرس الحادي والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (1)
باتّجاه سعادة المجتمع ومصلحته، ورأي الأكثريَّة ليس بدليل على كون ذلك الانتخاب صائباً ومحقّاً.
وفي العصر الحاضر، لم يعد للنَّظرة الأُولى للديمقراطيَّة (التقييميَّة) من مكانة لدى المراقبين، ولم يعد هناك من يعتقد بأنّ رأي الأكثريَّة يعني بالضَّرورة انتخاب ما فيه خير المجتمع ومصلحته. فالنازيَّة الألمانيَّة والفاشيَّة الإيطاليَّة والشيوعيَّة الروسيَّة والقطب الشرقيّ إنّما بلغت دفّة الحكم على أساس رأي الأكثريَّة، أو الثورة ومطالبة الأغلبيَّة، إلّا أنّها مارست العنف وارتكبت أبشع الجرائم البشريَّة.
الآن، وبعد أن اتّضحت ماهيَّة الدِّيمقراطيَّة، نعود إلى مناقشة النظريَّة الّتي تؤمن بالتضادّ الجذريّ والأساسيّ بين الإسلام والدِّيمقراطيَّة.
التضادّ الذاتيّ بين الإسلام والدِّيمقراطيَّة
يعتقد بعض الباحثين بأنَّ الديمقراطيَّة مبنيَّة على أُسس ومبادئ معيّنة ذات رؤية خاصّة للإنسان والمجتمع والسِّياسة، وتنشد غايات وأهدافاً معيّنة. وهذه الأُسس والمبادئ والأهداف لا تنسجم مع التعاليم الإسلاميَّة والأُصول الحاكمة لهذه التعاليم.
لا يمكن الجمع بين الإسلام والدِّيمقراطيَّة للأسباب الّتي سيرد ذكرها، بل يستحيل أساساً الجمع بين الإسلام والدِّيمقراطيَّة، اللَّهمّ إلّا أنّ يصبح الإسلام علمانياً تماماً. فأحد المبادئ النظريَّة للدِّيمقراطيَّة هو خطأ الإنسان. وهذا المبدأ نفسه يستند إلى مبدأ آخر هو أنّ الإنسان موجود مختار وصاحب انتخاب، ومن لوازم كونه صاحب انتخاب الزَّلل والخطأ والضَّلال... وأهم موضع يتجلّى فيه انتخاب الإنسان هو عالم الفكر والاعتقاد. ولا بدَّ من أن يمهِّد التعامل بحرِّيَّة مع الآراء ووجهات النظر والأفكار المتعارضة للإنسان، لينتخب ما يشاء بحريَّة، فهو حرّ في انتخاب "دين من الأديان"أو "الإلحاد".
إنّ أيّ انتخاب مركَّب من الحقيقة وغير الحقيقة، وذلك بسبب عدم اتّضاح الحقيقة وعدم انتشارها بين جميع أبناء البشريَّة... وأحد المباني المعرفيَّة للدِّيمقراطيَّة هو
299
275
الدرس الحادي والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (1)
عدم اتّضاح الحقيقة وتوزُّعها بين عامّة البشريَّة. فإن عُدَّ دين أنّه حقّ وما سواه من الأديان كفر وشرك وضلال، فسوف لن يعود هناك من مكان للحكومة الدِّيمقراطيَّة. والإسلام، بالاستناد إلى الآيات القرآنيَّة، يرى نفسه الدِّين الحقّ الوحيد من دون غيره، فالآيتان التاليتان تتناقضان والدِّيمقراطيَّة صراحة: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾1، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾2، وفي أوائل سورة التوبة، آيات هي كذلك من جملة الموارد الّتي تتعارض وانتخاب الإنسان.
ورد، في هذا الاستدلال، مبنيان رئيسان للدِّيمقراطيَّة:
المبنى الأوّل: تعدُّد المعرفة ونسبيَّتها
والمراد من نسبيَّة المعرفة وتعدُّدها أن لا سبيل أمام الإنسان لكشف الحقيقة، وأنه لا يمكن تمييز الحقّ من الباطل. فلا أحد يستطيع الزَّعم بأنّ فكره واعتقاده ودينه حقّ، وسائر الأفكار باطلة. فالحقّ والباطل نسبيَّان، وكلّ فكرة وعقيدة ودين يمكن أن تتمتع بنصيب من الحقّ، وليس هناك من حقّ محض ولا باطل محض. وهذا التشكيك المتمثِّل بالنِّسبيَّة المعرفيَّة ينظر بعين واحدة إلى جميع الأفكار والعقائد، ويعدُّها رسميَّة ومعتبرة جميعاً. وبناءً على ذلك، فهي تؤمن بالتعدُّديَّة (البلوراليَّة)، ويلزم من هذه التعدُّديَّة تعذُّر البرهان المنطقيّ على إثبات ترجيح فكر ودين وتقدُّمهما على ما سواهما، بل الإنسان هو الّذي ينتخب ما يشاء من هذه الأفكار والعقائد والأديان المتعدِّدة.
إذاً، فلا بدَّ من إعداد المناخ الملائم للانتخاب، بدلاً من الدَّعوة لترجيح الحقّ على الباطل، والصحيح على الخاطئ، ذلك لأنّه يتعذَّر تشخيص الحقّ من الباطل، والصائب من الخاطئ. وهذا يفضي بنا إلى الكلام على المبنى الثاني.
المبنى الثاني: حرِّيَّة الفكر والبيان، وإمكانيَّة الانتخاب الحرّ للعقائد والأفكار.
"الانتخاب المطلق" هو الحرِّيَّة المطلقة للفكر والبيان والانتخاب، وتمتدُّ جذوره إلى
1- سورة يونس: 32.
2- سورة آل عمران: 85.
300
276
الدرس الحادي والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (1)
المبنى الأوّل (التعدُّديَّة المعرفيَّة)، لأنّنا إن آمنَّا بإمكانيَّة تشخيص الحقّ من الباطل، فلا معنى لأن نفتي بالانتخاب المطلق. فلا عاقل يقبل أن ندعوه إلى الاختيار بين الحقّ والباطل مع إمكانيَّة تشخيص الحقّ وتمييزه من الباطل، لأنّ التوقُّع المعقول والطبيعي هو اتّباع الحقّ بعد معرفته.
وعلى أساس هذا الاستدلال، لا تنسجم الحكومة الدِّينيَّة مع الدِّيمقراطيَّة، فالحكومة الدِّينيَّة تلتزم بالإسلام، وهي لا تقرّ بأنّ الإسلام حقّ فحسب، بل جعلته المرجع في سنّ القوانين واتخاذ القرارات وسائر الشؤون السِّياسيَّة للمجتمع، فكيف يمكن الالتزام بالإسلام وبالدِّيمقراطيَّة في الوقت نفسه. فالدِّيمقراطيَّة، وبمقتضى المبنيين السَّابقين، لا ترى من فارق بين الإسلام وسائر الأديان، وتعتقد بأن لا ميزة للإسلام على سائر الأديان من حيث الحقّ والاعتبار. وسنحاول مناقشة هذه النظريَّة في الدَّرس القادم.
301
277
الدرس الحادي والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (1)
الخلاصة
1ـ هناك نظريَّة تؤمن بإمكانيَّة انسجام الحكومة الدِّينيَّة مع الدِّيمقراطيَّة، بينما يعتقد بعضهم بعدم الانسجام الذاتيّ بين الإسلام والدِّيمقراطيَّة، في حين يعتقد بعض آخر بتضادّ ولاية الفقيه والجمهوريَّة والدِّيمقراطيَّة.
2ـ تعني الدِّيمقراطيَّة حكومة الشعب، وهو هدف يأبى التَّحقُّق.
3ـ هناك عدة قراءات وتفاسير للدِّيمقراطيَّة، وهي أساساً مفردة مرنة.
4ـ يمكن تصنيف القراءات المتنوِّعة للدِّيمقراطيَّة في قراءتين: القراءة الّتي تراها مجرّد منهج لإدارة الشؤون الاجتماعيَّة، والقراءة الّتي تنظر إليها بصورة تقييميَّة.
5ـ تعدُّ القراءة التقييميَّة انتخاب الأكثريَّة مرادفاً لانتخاب خير المجتمع وسعادته. وبناءً عليه، فكيفيَّة التعايش يجب أن تتم على أساس رأي الأكثريَّة.
6ـ فقدت النَّظرة التقييميَّة للدِّيمقراطيَّة حيويّتها في العصر الحاضر، وقلّ المتبنُّون لها.
7ـ يعتقد بعضهم بأنّ وجود مبنيين رئيسين للديمقراطيَّة هما سبب عدم انسجام الإسلام والدِّيمقراطيَّة.
8ـ المبنيان الرئيسان للدِّيمقراطيَّة هما: تعدُّديَّة المعرفة، وحقّ الانتخاب المطلق.
9ـ يؤكّد الإسلام أحقِّيَّة تعاليمه. وبناءً عليه، فهو لا يؤمن بتعدُّد الحقيقة واختلاط الحقّ بالباطل، ويرى أنه يمكن التمييز بين الحقّ والباطل، فالحقُّ يُتَّبع بعد معرفته.
302
278
الدرس الحادي والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (1)
الأسئلة
1ـ ما هي النظريات الأصليَّة الثلاث في شأن الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة؟
2ـ لماذا كانت الدِّيمقراطيَّة بمعناها الواقعيّ فكرة مثاليَّة؟
3ـ ما المراد بالنظرة التقييميَّة للدِّيمقراطيَّة؟
4ـ ما المراد بالنظرة المنهجيَّة للدِّيمقراطيَّة؟
5ـ ما هو الدليل على التَّضادّ الذاتيّ بين الإسلام والدِّيمقراطيَّة؟
6ـ ما المراد بتعدُّديَّة المعرفة؟
303
279
الدرس الثاني والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (2)
الدرس الثاني والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (2)
عرضنا، في الدَّرس السَّابق، بالتَّفصيل النَّظريَّة الّتي تؤمن بعدم الانسجام الذاتيّ بين الإسلام والدِّيمقراطيَّة. ونناقش، في هذا الدَّرس، هذه النَّظريَّة.
إمكانيَّة انسجام الدِّين والدِّيمقراطيَّة
أشرنا، سابقاً، إلى عدم وجود قراءة واحدة للدِّيمقراطيَّة، وإلى وجود عدة رؤى إلى مقولتها. وما ورد، في شأن عدم الانسجام الذاتيّ بين الإسلام وبينها، يستند إلى نظرة خاصّة لها، أي "الديمقراطيَّة التعدُّديَّة". وبالتأكيد، فإنّ مثل هذا التفسير لها لا ينسجم مع الإسلام، ولا مع أيّ مذهب يرى الأُمور حقّاً وصواباً، ويبتعد عن التَّشكيك والنسبيَّة. فللدِّيمقراطيَّة عدّة تفاسير، ولا يستند بعضها إلى المبنيين المذكورين في الاستدلال السابق. على سبيل المثال: الاتّجاه الّذي يرى الدِّيمقراطيَّة مجرّد أُسلوب لتداول السلطة السِّياسيَّة، ومنهجاً ناجحاً في إدارة شؤون المجتمع، لا يرى أنّها تقوم على أساس الانتخاب المطلق وتعدُّديَّة المعرفة.
فالدِّيمقراطيَّة، بوصفها أسلوباً، يمكن حصرها في نطاق معيّن مفاده أنّها أقرَّت بعض المباني والمبادئ الخاصّة بوصفها حقّاً وصواباً، ومن ثمَّ تصدّت إلى العمل في إطار حفظ هذه المبادئ والمباني. وفي ظلّ هذا التصوّر للدِّيمقراطيَّة تحقَّق ما يأتي:
305
280
الدرس الثاني والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (2)
أوَّلاً: أُقصيت النِّسبيَّة والتَّعدُّديَّة المعرفيَّة بصورة تامّة، لأنّنا اعتقدنا بصحّة ذلك الإطار.
ثانياً: انتخاب الأفراد ليس مطلقاً، بل مقيَّدٌ، لأنّ الأفراد، في ظلّ هذه النَّظرة للديمقراطيَّة، لا يستطيعون انتخاب ما يتناقض مع ذلك الإطار من المبادئ والأُصول المقرّرة ويخالفه. وبناءً على ذلك، فهذا التصوّر للدِّيمقراطيَّة ليس له أيّ توقُّف واعتماد على المبنيين (الانتخاب المطلق والتعدُّديَّة المعرفيَّة) المذكورين.
ومن المصادفات التَّاريخيَّة، طبعاً، أن تتبلور الدِّيمقراطيَّات اللِّيبراليَّة في ضوء هذا التصوّر. فلم تكن اللِّيبراليات الأُولى، إبّان بداية طرح الدِّيمقراطيَّة واعتبار انتخاب الأكثريَّة، تستسيغ ذلك، لأنّها كانت تخشى أن يؤول رأي الأكثريَّة إلى القضاء على الأُصول والمبادئ اللِّيبراليَّة. فاللِّيبراليون شديدو التمسّك والإيمان بمبادئ اللِّيبراليَّة، من قبيل: احترام الملكيَّة الفرديَّة، وحريَّة التجارة، والسوق الاقتصاديَّة الحرّة، والتساهل والتسامح، والحرِّيات الدِّينيَّة، وحريَّة الفكر والبيان. ومن هنا، أرادوا حشر الدِّيمقراطيَّة ضمن إطار هذه الأُصول والمبادئ، بالشكل الّذي لا يستطيع رأي الأكثريَّة إقصاء بعضٍ منها. وبناءً على ذلك، ليس من تعارض بين الاعتقاد بأحقِّيَّة اللِّيبراليَّة وتقاطع أُصولها ومبادئها مع الدِّيمقراطيَّة، ويمكن تقييد الدِّيمقراطيَّة، بوصفها منهجاً، في إطار الأُصول والأُسس اللِّيبراليَّة، والتَّحدّث، من ثمَّ، عن اللِّيبراليَّة الدِّيمقراطيَّة.
فإن يكن الأمر كذلك، فما الضَّير في أن نحصر الديمقراطيَّة المنهجيَّة في إطار الأُصول والمبادئ الإسلاميَّة، ونقول بالرجوع إلى آراء الشَّعب في تعيين الزَّعامات السِّياسيَّة، ليقوم الشعب بانتخاب ممثِّليه إلى مجلس النوَّاب. أمّا منتخبو الشعب، فلا يحقّ لهم سنّ القوانين واتّخاذ القرارات الّتي تتعارض مع التعاليم الإسلاميَّة. ورأي الأكثريَّة وانتخاب الشعب يحظيان بالاحترام ما داما لا يمسَّان حدود الأُطر العقديَّة.
وبناءً على ذلك، فكما تحدِّد اللِّيبراليَّة الدِّيمقراطيَّةَ ضمن أُصولها ومبادئها، فإنّ
306
281
الدرس الثاني والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (2)
الإسلام هو الآخر يؤطِّرها بأُسسه ومبادئه، ما يعني أنَّه يمكن تكييف الدِّيمقراطيَّة والجمهوريَّة مع الإسلام.
والنِّظام السِّياسيّ للجمهوريَّة الإسلاميَّة أُنموذج عمليّ لهذا التَّكييف. فدستور الجمهوريَّة الإسلاميَّة صرّح بحاكميَّة الشعب، وجمهوريَّة النِّظام، ولزوم اعتماد آراء الشعب في تداول السلطة السِّياسيَّة، إلى جانب كون هذه الحاكميَّة مقترنة بالحاكميَّة الشَّرعيَّة ومرجعيَّة التعاليم الإسلاميَّة، وتالياً حاكميَّة الشعب في إطار الحاكميَّة الدِّينيَّة.
ولاية الفقيه والدِّيمقراطيَّة
أشرنا، في الدَّرس السَّابق، إلى النَّظريَّة الّتي تقول بعدم انسجام أُطروحة ولاية الفقيه مع الجمهوريَّة. وتقوم هذه النَّظريَّة على تحليل خاصّ لولاية الفقيه، وهو التحليل الّذي يعدُّ ولاية الفقيه من باب القيمومة والولاية على القاصرين والمحجور عليهم. فهذه النَّظريَّة ترى أنّ الجمع بين نظام ولاية الفقيه والدِّيمقراطيَّة هو جمع بين النقيضين، والدستور الإيرانيّ الّذي جمع بين الجمهوريَّة وولاية الفقيه عانى من مشكلة منطقيَّة عويصة، ذلك لأنّه جمع بين متناقضين ومتعارضين تماماً:
يُنتخب مجلس خبراء القيادة في الجمهوريَّة الإسلاميَّة من قبل الشَّعب، ومعنى الرُّجوع لرأي الأكثريَّة يتمثَّل في أنّ الشعب، في خاتمة المطاف، هو الّذي يعيِّن القائد ووليّ الأمر، وهو الشعب نفسه الّذي يمثِّل في نظام ولاية الفقيه الصِّغار والمجانين الّذين فُرض، حسب المصطلح الفقهيّ والحقوقيّ والقضائيّ، أنّه "مولّى عليه". فإن كان المولّى عليه شرعاً أو قانوناً يستطيع تعيين وليّ أمره، فهو إذاً بالغ وعاقل ولم يعد مولّى عليه، ولا يحتاج لوليّ الأمر، ما يثير سؤالاً هو: كيف يتَّجه إلى صناديق الاقتراع وينتخب وليَّ أمره؟
وهكذا نرى أنّ أصل هذا الاستدلال بُني على التَّناقض بخصوص شأن الشَّعب ومنزلته في دستور الجمهوريَّة الإسلاميَّة، لأنّ الفرضيَّة المسبقة للجمهوريَّة والدِّيمقراطيَّة
307
282
الدرس الثاني والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (2)
هي أنّ أبناء الشعب بالغون وأصحاب اختيار وانتخاب، ويمكنهم المشاركة في تعيين مصيرهم السِّياسيّ، فضلاً عن أنّ آراءهم الانتخابيَّة معتبرة. من جانب آخر، نجد الفرض المسبق لولاية الفقيه، هو أنّ الشعب مولّى عليه وغير رشيد، ويحتاج إلى قيّم وولي في إدارته لأُموره، ما يعني أنَّه يتعذَّر الجمع بين هذين الفرضين المسبقين، حيث يستحيل أن يكون الشعب رشيداً ومختاراً، وفي الوقت نفسه غير رشيد ومولّى عليه. وعلى أساس هذا التحليل، فإنّ الجمع بين الجمهوريَّة والديمقراطيَّة مع ولاية الفقيه في الدستور جمع لمتناقضين.
الرَّدّ على شبهة التَّناقض
مصدر شبهة التَّناقض بين ولاية الفقيه والجمهوريَّة والدِّيمقراطيَّة، ناشئ من سوء فهم تفسير ولاية الفقيه. فقد تبيّن، في الدَّرسين الخامس عشر والسَّادس عشر، أنّ ولاية الفقيه ليست من نوع الولاية على المحجور عليهم والقاصرين، بل من نوع ولاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام. وعلى أساس هذا التفسير الواقعيّ لولاية الفقيه، يتّضح أنّ الفرض المسبق لولاية الفقيه ليس أنّ الأُمّة محجور عليها وغير رشيدة. وبناءً على ذلك، لا توجد مشكلة بين الجمهوريَّة ورأي الشعب من هذه الناحية. ويبدو من المناسب ـ ونحن نصل إلى اختتام بحث الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة ـ أن نشير إلى أنّ الدِّيمقراطيَّة، وإن كانت مقبولة في ميدان الحياة السِّياسيَّة والاجتماعيَّة، فإنَّه لا ينبغي الاستغراق في إيجابياتها، ذلك لأنّ هذه الظاهرة، وبخاصَّة المنهج حديث الظهور منها، تواجه العديد من المخاطر وتعرف الكثير من الآفات، نشير هنا إلى بعضها.
آفات الدِّيمقراطيَّة
يتمثَّل أساس الدِّيمقراطيَّة وجوهرها في مشاركة الشَّعب والاستفادة من آرائه واقتراحاته في إدارة المجتمع ومختلف شؤونه وميادينه. غير أنّ العديد من الحكومات المعاصرة الّتي تعدُّ نفسها ديمقراطيَّة ابتعدت ـ ولأسباب كثيرة ـ عن هذا الهدف. وما
308
283
الدرس الثاني والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (2)
يجري اليوم، في هذه الحكومات، هو في الحقيقة صورة باهتة للدِّيمقراطيَّة، ولا يعبّر عن ديمقراطيَّة واقعيَّة. فالديمقراطيَّة أصبحت تعني، فقط، أنّ بإمكان النَّاس الموافقة على الأشخاص الّذين سيحكمونهم أو رفضهم، وأنّ الّذين يمارسون السُّلطة في الحقيقة والواقع هم السِّياسيون.
إحدى الآفات والمعضلات المهمّة للدِّيمقراطيَّة، في جميع أشكالها وصورها، تعود إلى دور الشعب. فأبناء الشعب يتعاطون عادةً مع القضايا السِّياسيَّة والاجتماعيَّة بشكل غير مسؤول. فالنَّاس يمارسون في أُمورهم الشخصيَّة، من قبيل: الزواج وشراء البيت وأثاث المنزل والسيارة، منتهى الدِّقَّة، ويبذلون قصارى جهدهم لاختيار الأفضل، بينما يعتمدون روح التساهل والتَّسامح في القضايا الاجتماعيَّة والسياسيَّة، فالمنتخبون عموماً ضعاف عادة، ولا يبذلون قدراً كافياً من الدقَّة في انتخابهم. ومن هنا، فلديهم الوضع المساعد على تلقّي الضربات والهزّات العاطفيَّة والدعاويَّة والاستعداد لتقبّل تأثير القوى الداخليَّة والخارجيَّة.
الآفّة الأُخرى تتمثَّل في استغلال الأحزاب والسَّاسة المتزايد لوسائل الإعلام والدعاية، ما جعل أصالة تأثير الشعب في توزيع السُّلطة السِّياسيَّة والإشراف الجماهيريّ على النظام تتعرّض لأخطار جديَّة. فإنّنا لا نواجه، في عالم السِّياسة (إرادة عامّة وشعبيَّة أصيلة)، بقدر ما نصطدم بـ "إرادة مصطنعة ومزيَّفة". فالإرادة العامَّة، في الدِّيمقراطيات المعروفة، أصبحت مجيّرة، وتحوَّلت إلى نتيجة لأنشطة دعايات وسياسات فئات معيّنة، بدلاً من أن تكون عنصراً أساساً وعاملاً يحرّك عجلة السِّياسة. ويقول هربرت ماركوز:
"إنّ الإعلام والدعاية يخلقان، لدى الشعب، نوعاً من الشُّعور الكاذب، بمعنى إيجاد وضع لا يتسنَّى للشعب فيه إدراك مصالحه الواقعيَّة"1.
1- صور الديمقراطية لديفيد هيلد: 347، ترجمه للفارسيَّة عباس مخبر.
309
284
الدرس الثاني والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (2)
ولعلّ أبرز مشكلة وآفّة للدِّيمقراطيات المعاصرة هي أنّ طبقة كبار التجَّار وأصحاب المصالح الاقتصاديَّة الكبيرة، بوصفها تمثِّل النُّخب الاجتماعيَّة، تهيمن على القرار السِّياسيّ، بالإضافة إلى سيطرتها الخفيَّة على اقتصاد المجتمعات. إنّ جميع الأحزاب والفئات السِّياسيَّة المنظمة تتأثَّر نوعيَّاً بهذه الاستقطابات الاقتصاديَّة العملاقة، وتتبنَّى، في أغلب الموارد، متطلّبات أصحاب النفوذ الاقتصاديّ. وفي اللِّيبراليات الديمقراطيَّة الحاليَّة، فإنّ مشاركة الشعب في أنشطة الدَّولة وقراراتها يتمُّ، بقدر كبير، نيابياً، ومن طريق الممثّلين. ويتم اختيار هؤلاء النوابّ من دون دقّة كافية من قبل الشعب، وتحت طائلة تأثير أساليب الدعاية والتوجيهات غير المنظورة للزَّعامات الاقتصاديَّة، وتالياً ستكون مهمَّة هؤلاء النُّوابّ، بصورة طبيعيَّة، وبالدَّرجة الأساس، حماية مصالح الفئات الاقتصاديَّة المتواطئة معها ودعمها.
310
285
الدرس الثاني والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (2)
الخلاصة
1ـ يمكن انسجام الإسلام والدِّيمقراطيَّة.
2ـ النَّظريَّة الّتي تؤمن بالتَّضادّ الذاتيّ بين الإسلام والديمقراطيَّة تقوم، في الواقع، على قراءة خاصّة للديمقراطيَّة، وتتبنَّى الديمقراطيَّة التعدُّديَّة.
3ـ لا معنى للدِّيمقراطيَّة المطلقة من دون إطار، حيث أقرت أغلب بلدان العالم المعاصر مبادئ اللِّيبراليَّة وأصولها بوصفها إطاراً لاحتواء الدِّيمقراطيَّة.
4ـ نستطيع جعل الإسلام إطاراً للدِّيمقراطيَّة المنهجيَّة في مقابل اللِّيبراليَّة الدِّيمقراطيَّة.
5ـ أُطروحة الجمهوريَّة الإسلاميَّة تتمثَّل في إقرار حاكميَّة الشعب في إطار الحاكميَّة الدِّينيَّة.
6ـ النَّظريَّة الّتي تقول بالتّضادّ بين ولاية الفقيه والجمهوريَّة والدِّيمقراطيَّة تستند إلى تحليل خاصّ لولاية الفقيه.
7ـ لو التبس الأمر على أحدهم بتفسير ولاية الفقيه على أنّها الولاية على المحجور عليهم والقاصرين، فإنّه يتعذَّر عليه تكييفها مع الجمهوريَّة والدِّيمقراطيَّة.
8ـ ولاية الفقيه من نوع ولاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام.
9ـ تعاني الدِّيمقراطيَّة من عدّة صعوبات وآفات.
10ـ إنّ أعظم آفات الديمقراطيَّة، في العالم المعاصر، هي أنّ انتخاب الشعب مسيّس ومجيّر من جانب سماسرة الاقتصاد وأساليب الدِّعاية.
311
286
الدرس الثاني والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (2)
الأسئلة
1ـ ما هو الردّ على نظريَّة التضادّ الذاتيّ بين الإسلام والدِّيمقراطيَّة؟
2ـ ما هو التفسير للدِّيمقراطيَّة الّذي ينسجم مع الحكومة الدِّينيَّة؟
3ـ ما المراد باللِّيبراليَّة الدِّيمقراطيَّة؟
4ـ ما هو الاستدلال على تضادّ الحكومة الولائيَّة وعدم انسجامها مع الدِّيمقراطيَّة والجمهوريَّة؟
5ـ ما هو الردّ على شبهة مناقضة ولاية الفقيه لحاكميَّة الشَّعب؟
6ـ ما هي الآفّات الّتي تهدِّد الديمقراطيَّة؟
312
287
الدرس الثاني والثلاثون: الحكومة الدِّينيَّة والدِّيمقراطيَّة (2)
للتوسع في المطالعة
راجع المصادر الآتية لمعرفة المزيد عن الدِّيمقراطيَّة:
أوّلاً ـ المصادر الأجنبيَّة:
1ـ الدِّيمقراطيَّة، كارل كوهن، ترجمة فيربرز مجيدي، طهران، نشر خوارزمي.
2ـ الرأسماليَّة والاشتراكيَّة والدِّيمقراطيَّة، جوزيف.أ.شومه بيتر، ترجمة حسن منصور، نشر جامعة طهران.
3ـ صور الدِّيمقراطيَّة، ديفيد هيلد، ترجمة عباس مخبر، طهران، روشنكران، 1990م.
4ـ ما هي الدِّيمقراطيَّة؟ ديفيد بيتهام وكوين بويل، ترجمة شهرام نقش التبريزي، طهران، نشر ققنوس.
5ـ الحضارة والدِّيمقراطيَّة، غي ارمه، ترجمة مرتضى ثاقب فر، طهران، نشر ققنوس.
ثانياً - راجع لمعرفة الأحكام الأوّليَّة والثانويَّة:
1 ـ مصطلحات الأُصول، عليّ المشكيني، قم، انتشارات ياسر، ص 121 وما بعدها، 1969م.
2 ـ أنوار الفقاهة، ناصر مكارم الشيرازي، قم، مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ج 1 ص 540، 1411 هـ.
313
288
المصادر
المصادر
1) المصادر العربيَّة:
1ـ الأحكام السلطانيَّة، أبو الحسن الماوردي، مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم 1406هـ.
2ـ الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، مجلدان، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ـ قم 1413هـ
3ـ الإسلام السِّياسي، محمد سعيد العشماوي، سيناء للنشر ـ القاهرة 1992 م.
4ـ الاقتصاد في الاعتقاد، أبو حامد الغزالي، القاهرة 1327 هـ،
5ـ الإلهيّات من كتاب الشفاء، ابن سينا، تصحيح حسن حسن زادة آملي، مركز نشر مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم 1997 م.
6ـ أنوار الفقاهة (كتاب القضاء)، الشيخ حسن كاشف الغطاء، توجد نسخة مصورة في مكتبة مركز أبحاث وتحقيقات مكتب الإعلام الإسلامي.
7ـ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار عليهم السلام، العلامة محمد باقر المجلسي، 110 مجلد، مؤسسة الوفاء ـ بيروت 1403 هـ،
8ـ البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر، تقرير أبحاث آية الله الحاج حسين البروجردي، مركز نشر مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم 1988م.
315
289
المصادر
9ـ البيع، الإمام الخميني، خمسة مجلَّدات، مركز النشر الإسلامي ـ قم 1415 هـ،
10ـ تحف العقول عن آل الرسول، حسن بن عليّ بن حسين بن شعبة الحراني، تصحيح عليّ أكبر غفاري، مركز النشر الإسلامي ـ قم 1416 هـ،
11ـ التمهيد في الردّ على الملحدة، أبو بكر الباقلاني، القاهرة 1947 م.
12ـ التنقيح في شرح العروة الوثقى، تقرير أبحاث آية الله السيد أبو القاسم الخوئي، 10 مجلَّدات، نشر أنصاريان ـ قم 1417 هـ،
13ـ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن بن باقر النجفي، باهتمام عدد من الفضلاء، 43 مجلداً، دار الكتب الإسلاميَّة ـ طهران 1398هـ،
14ـ الدِّين والدَّولة وتطبيق الشريعة، محمّد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربيَّة ـ بيروت.
15ـ رسائل المحقّق الكركي، عليّ بن حسين بن عبد العالى الكركي المشهور بالمحقق الثاني، ثلاثة مجلدات (إلى الآن)، مكتبة آية الله المرعشي، ومركز النشر الإسلامي ـ قم 1409-1412 هـ،
16ـ الرعاية لحال البداية في علم الدراية، زين الدِّين بن عليّ بن أحمد العاملي الشهيد الثاني، تحقيق محمد عليّ البقّال.
17ـ السيرة النبويَّة، ابن هشام، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1355 هـ،
18ـ علل الشرائع، محمد بن عليّ بن بابويه الصدوق، تحقيق السيد فضل الله الطباطبائي اليزدي، مكتبة الطباطبائي ـ قم 1998 م.
19ـ عوائد الأيام، المولى أحمد النراقي، تحقيق مركز الأبحاث والتحقيقات الإسلاميَّة ـ قم، نشر مركز نشر مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم 1966 م.
20ـ عيون أخبار الرضا، محمد بن عليّ بن بابويه الصدوق، مجلدان، تصحيح عليّ أكبر غفاري، نشر الصدوق ـ طهران1994 م.
21ـ الغدير في الكتاب السنة والأدب، العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني، تحقيق
316
290
المصادر
ونشر: مركز الغدير للدراسات الإسلاميَّة ـ قم 1416 هـ،
22ـ الفتاوى المنتخبة، السيد كاظم الحائري، دار التفسير ـ قم 1417 هـ،
23ـ فقه الخلافة وتطورها، عبد الرزاق أحمد السنهوري، الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب ـ القاهرة 1993 م.
24ـ القاموس المحيط، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، تصحيح: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1413 هـ،
25ـ القضاء والشهادات، الشيخ مرتضى الأنصاري، نشر المؤتمر العالمي للشيخ الأنصاري ـ قم 1415 هـ،
26ـ الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ثمانية مجلدات، تحقيق عليّ أكبر غفاري، دار الكتب الإسلاميَّة ـ طهران 1388 هـ،
27ـ كتاب السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى، ابن إدريس الحلي، ثلاثة مجلدات، تحقيق ونشر مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم 1411 هـ،
28ـ كتاب سليم بن قيس الهلالي، دار الكتب الإسلاميَّة ـ طهران.
29ـ مآثر الإنافـة في معالم الخلافـة، أحمـد بن عبدالله القلقشندي، الكويت 1972م.
30ـ المراسم النبويَّة، حمزة بن عبد العزيز الديلمي الملقب سلار، تصحيح محمود البستاني، نشر الحرمين ـ قم 1404 هـ،
31ـ الملل والنحل، عبد الكريم الشهرستاني، القاهرة 1956 م.
32ـ مناقب آل أبي طالب عليه السلام، محمد بن شهرآشوب، تحقيق محمد حسين دانش الاشتياني والسيد هاشم رسولي محلاتي، أربعة مجلدات، مؤسسة نشر العلامة ـ قم 1379 هـ،
33ـ من لا يحضره الفقيه، محمد بن عليّ بن بابويه الصدوق، تصحيح عليّ أكبر غفاري، مركز النشر الإسلامي ـ قم 1414 هـ،
34ـ الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، دار الكتب الإسلاميَّة ـ
317
291
المصادر
طهران 1392 هـ،
35ـ نهج البلاغة، جمع وانتخاب أبو الحسن محمد بن الحسن الموسوي السيد الرضي، تصحيح صبحي الصالح، نشر دار الهجرة ـ قم.
36ـ وسائل الشِّيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ـ قم 1409 ـ 1412 هـ،
37ـ وقعة صفين، نصر بن مزاحم بن سيار المنقري، تحقيق عبد السلام محمد هارون، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي ـ قم 1403 هـ،
38ـ ولاية الفقهاء في عصر الغيبة، لطف الله صافي الكلبايكاني، دار القرآن الكريم ـ قم 1415 هـ،
39ـ ولاية الأمر في عصر الغيبة، السيد كاظم الحسيني الحائري، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم 1414 هـ،
40ـ الهداية إلى من له الولاية، تقرير أبحاث آية الله الكلبايكاني، نشر نويد إسلام ـ قم 1998 م.
2- المصادر الفارسيَّة:
41ـ انديشه حكومت، نشر مؤتمر الإمام الخميني وفكر الحكومة الإسلاميَّة، 1999م.
42ـ جامعه ى دينى، جامعه ى مدني، أحمد واعظي، مركز الأبحاث الثَّقافيَّة والفكر الإسلامي ـ قم 1998 م.
43ـ حكومت إسلامى، عدد خاص بالفكر والفقه السِّياسي للإسلام (مجلة فصليَّة)، أمانة مجلس خبراء الدستور، خريف 1996 م، 19 عدد (لحد الآن)
44ـ حكومت دينى، احمد واعظي، نشر مرصاد ـ قم 1999 م.
45ـ شرح فارس غرر ودرر مدي، عبد الواحد بن محمد التميمي آمدى، 7 مجلدات، تنظيم: السيد جلال الدِّين المحدث، نشر جامعة طهران 1994 م.
318
292
المصادر
46ـ صحيفه ى نور، الإمام الخميني، منظمة أسناد ثقافة الثورة الإسلاميَّة ـ طهران 22 مجلد، 1982 م.
47ـ فرازهايى از تاريخ إسلام، السيد محمد حسين الطباطبائي، باهتمام السيد هادي خسروشاهي.
48ـ فقه: كاوشى نو در فقه إسلامى (مجلة فصليَّة)، مكتب الإعلام الإسلامي لحوزة قم العلميَّة ـ قم، صدرت منذ عام 1993، 26 عدد (لحد الآن).
49ـ فيض القدير فيما يتعلق بحديث الغدير، الحاج الشيخ عباس القمي، مركز نشر مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم 1997 م.
50ـ مدلهاى دموكراسى، ديفيد هيلد، ترجمة عباس مخبر، روشنكران ـ طهران 1990م.
51ـ ولايت فقيه، الإمام الخميني، مؤسسة تنظيم ونشر التراث ـ طهران 1999 م.
52ـ ولايت فقيه، عبد الله جوادي آملي، نشر إسراء ـ قم 1999 م.
319
293