المقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين وبعد.
تُعتبر معرفة أهل البيت عليهم السلام وولايتهم والإيمان بهم، وأنّهم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المطهّرون، وولاة الأمر وخلفاؤه على العباد والبلاد، أساس وركيزة البنية الإيمانية والعقائدية للإنسان المسلم، وقد حثّت الروايات على معرفتهم، وحذّرت من عدم معرفتهم.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مّنَّ الله عليه بمَعرِفةِ أهلِ بيتي وولايتهم فقد جمع الله له الخيرَ كُلّه"1.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّما يعرِف الله عزّ وجلّ ويعبُده من عرف الله وعرف إمامَه منّا أهل البيت"2.
ومن أهمّ خصائص أهل البيت عليهم السلام أنّهم أفضل الخلق وأكملهم وأزكاهم وأطهرهم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾3.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أنا وعلي والحسن والحسين وتسعةٌ من ولدِ الحسين مطهّرون معصومون"4.
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، تحقيق: مؤسسة البعثة، قم، نشر: مؤسسة البعثة، 1417هـ، ط1، ص560، المجلس الثاني والسبعون، ح751/9.
2 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363ش، ط5، ج1، ص181، باب معرفة الإمام والرد إليه، ح4.
3 سورة الأحزاب الآية 33.
4 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا، تحقيق: تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، المطبعة: مطابع مؤسسة الأعلمي - بيروت - لبنان، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1404 - 1984م، لا.ط، ج1، ص65، باب النصوص على الإمام الرضا عليه السلام بالإمامة في جملة الأئمة الاثني عشر، ح30.
13
8
المقدمة
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسّكتُم به لن تضلّوا بعدي، أحدُهما أعظمُ من الآخر: كتابُ الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهلُ بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلُفوني فيهما"1.
وهم خزنة علم الله وتراجمة وحيه، كما جاء عن الإمام الباقر عليه السلام: "نحن خزّان علم الله، ونحنُ تراجمَةُ وحي الله"2. وفي عدّة روايات أنّهم ورثة علم الأنبياء عليه السلام.
وهم أفضل الخلق: "أنا وأهل بيتي صفوةُ الله وخيرته من خلقه"3.
وأركان العالم وأمان أهل الأرض، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "النُجوم أمانٌ لأهل السماء، وأهلُ بيتي أمانٌ لأهل الأرض، فإذا ذَهبَ أهلُ بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدون"4.
ولقد تحدّثت الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة عن فضل حبّهم، وأنّه كحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحثّ الناس على حبّهم، وأنّهم خلفاء الله، وأوصياء نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي مودّتهم وولايتهم صراط النجاة وطريق الحقّ:
روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا سيّدُ النبيين، وعليّ بن أبي طالب سيّدُ الوصيين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر، أوّلهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم"5.
1 الترمذي، أبي عيسى محمد عيسى، سنن الترمذي، تحقيق وتصحيح: عبد الرحمن محمد عثمان، بيروت - لبنان، دار الفكر، 1403 - 1983م، الطبعة: الثانية، ج5، ص328، باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ح3876.
2 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص192، باب أن الأئمة عليهم السلام ولاة أمر الله وخزنة علمه، ح3.
3 السيد المرعشي، نور الله الحسيني، شرح إحقاق الحق، تحقيق وتعليق: السيد شهاب الدين المرعشي النجفي، قم - إيران، الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، لا.س، لا.ط، ج9، ص483.
4 م، ن، ص303.
5 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، قم، إيران، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، محرم الحرام 1405 - 1363 ش، لا.ط، ص280، باب ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النص على القائم عليه السلام وأنه الثاني عشر من الأئمة عليهم السلام، ح29.
14
9
المقدمة
وعن الإمام علي عليه السلام: "من أحبّ الله أحبّ النبيّ، ومن أحبّ النبيّ أحبّنا، ومن أحبّنا أحبّ شيعتنا"1.
وورد الحثّ على الطاعة والولاية مقترناً بالحبّ لهم في الكثير من الروايات منها:
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "تمسّكوا بطاعة أئمّتكم ولا تُخالفوهم، فإنّ طاعتهم طاعة الله، وإنّ معصيتهم معصية الله"2. وعن الإمام الرضا عليه السلام: "كمال الدين ولايَتُنا والبراءة من عدوّنا"3.
هذا الكتاب، دروس تمهيدية في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام، يُساهم في هذه المعرفة من ناحية السيرة والتاريخ، التي تُشكّل مدخلاً للمعرفة الإيمانية والعقائدية والولاية والاقتداء بهم عليهم السلام، وقد ركّزنا فيه على جانب السيرة، ولم نُعطِ للتحليل حيّزاً كبيراً فيه، على أمل أن نوفّق في الكتب الأخرى للغور في تاريخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام بشكل تحليلي معمّق.
الحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
1 الكوفي، فرات بن إبراهيم، تفسير فرات الكوفي، تحقيق: محمد الكاظم، طهران، الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1410 - 1990 م، ط1، ص128، تفسير سورة المائدة، ح146.
2 الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد، بيروت، لبنان، دار الكتب العلمية، 1408 - 1988م، لا .ط، ج5، ص220، باب لزوم الجماعة وطاعة الأئمة والنهى عن قتالهم.
3 ابن إدريس الحلي، مستطرفات السرائر، تحقيق: لجنة التحقيق في مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1411هـ، ط2، ص640، مما استطرفه من كتاب أنس العالم تصنيف الصفواني.
15
10
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الحياة الشخصية للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
2- يتعرّف إلى حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مرحلة الشباب إلى الزواج.
3- يلخص مكانة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ودوره في قريش.
17
11
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
النسب المبارك
يعود نسب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى هاشم بن عبد مناف الذي تنتسب إليه أشرف أُسرة في مكّة هي أُسرة بني هاشم.
فهو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلّب بن هاشم بن عبد مناف، المنحدر من ذريّة عدنان أحد أحفاد نبيّ الله إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام1. وكان جميع آبائه موحّدين مؤمنين على دين الحنيفية الإبراهيمية، بل كان فيهم الصدّيقون من أنبياء مرسلين أو أوصياء معصومين2، قال الله تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾3.
الولادة المباركة
ولدته أمّه آمنة بنت وهب من بني زهرة في مكّة المكرّمة في منزل أبيه عبد الله بن عبد المطلّب في شعب أبي طالب يوم الجمعة في السابع عشر من شهر ربيع الأول على الأشهر في عام الفيل الموافق لسنة 571 للميلاد قبل البعثة النبوية بأربعين سنة4. وقد صاحبت ولادته
1 نسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر وهو قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، راجع: الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد (المجموعة)، مطبعة الصدر، قم، مكتب آية الله العظمى المرعشي النجفي، 1406هـ، ص4، الباب الأول في ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الأربلي، علي بن عيسى بن أبي الفتح، كشف الغمة، بيروت، لبنان، دار الأضواء، 1985م، ط2، ج1، ص15.
2 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، أوائل المقالات، تحقيق: الشيخ إبراهيم الأنصاري، بيروت، لبنان، دار المفيد، 1414 - 1993م، ط2، ص12، القول في آباء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمه، الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ملاحظات: دار إحياء التراث العربي، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1403 - 1983م، ط2، ج15، ص117، ح63.
3 سورة الشعراء، الآيتان 218 - 219.
4 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص440، باب مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووفاته.
19
12
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
المباركة حوادث مختلفة في السماء والأرض، وخاصّة في الشرق، فاضطرب إيوان كسرى أنوشيروان، وسقطت أربع عشرة شرفة من شرفاته، وغير ذلك1.
واستقبله جدّه عبد المطلّب بن هاشم بالغبطة والسرور، فقد كان أبوه عبد الله مسافراً إلى الشام في تجارة فمات في المدينة قبل ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم2، ودفن في دار النابغة قيس بن عبد الله3.
رضاعه
لم يرتضع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أمّه سوى ثلاثة أيام، ثمّ حظيت بشرف إرضاعه حليمة السعدية بنت أبي ذؤيب من بني سعد4.
فقد رأى عبد المطّلب أن يرسل حفيده إلى البادية ليكمل رضاعه هناك، وينشأ ويترعرع في البادية، ليكتسب اللغة الصحيحة، والقوّة والمناعة5.
وكانت حليمة ترعاه هي وزوجها وتقدّمه حتّى على أولادها، وقد وجدت فيه كلّ الخير والبركة. وقد روي عنها أنّها قالت: قدمنا منازل بني سعد ومعي يتيم عبد المطلّب، ولا أعلم أرضاً أجدب من أرضنا، وكانت الأغنام تبقى جائعة لقلة الطعام. ولما سكن محمّد عندنا في البادية فكنّا نحلب منها ونشرب ويتدفّق الخير علينا، وأصبح جميع من في الحيّ يتمنّى ذلك اليتيم الذي يسَّر لنا الله ببركته الخير ودفع عنّا الفقر والبلاء.
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج15، ص263، ح14.
2 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص440، باب مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووفاته، اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، بيروت، لبنان، الناشر: دار صادر ومؤسسة نشر فرهنك أهل بيت عليهم السلام - قم - إيران، لا.ت، لا.ط، ج2، ص10، البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف، تحقيق : الدكتور محمد حميد الله، المطبعة: مطابع دار المعارف بمصر، الناشر: معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالاشتراك مع دار المعارف بمصر، 1959م، لا.ط، ج1، ص92، ح158.
3 الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، تحقيق ومراجعة وتصحيح وضبط: نخبة من العلماء الأجلاء، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1403 - 1983م، ط4، ج2، ص8، الزركلي، خير الدين الزركلي، الأعلام، بيروت، دار العلم للملايين، أيار - مايو 1980م، ط5، ج5، ص207.
4 العاملي، السيد جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، قم، إيران، دار الحديث، 1426 هـ - 1385 ش، ط1، ج2، ص147.
5 السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن أبي بكر، الخصائص الكبرى، الهند، طبع في حيدرآباد الدكن، دار الكتاب العربي، 1320ه، لا.ط، ج1، ص57، العاملي، السيد جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج2، ص147.
20
13
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
بقي النبيّ مع حليمة إلى أن بلغ سنّ الخامسة، فعادت به إلى أهله ليكون في كفالة جدّه عبد المطلّب ثمّ في رعاية عمّه أبي طالب1.
النبيّ في كفالة جدّه
فَقَدَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمّه بعد عودته من حيّ بني سعد وله من العمر ست سنوات على أشهر الروايات، وأصبح بذلك يتيم الأبوين، فعاش في كفالة جدّه عبد المطلّب، الذي كان يرعاه خير رعاية، ولا يأكل طعاماً إلّا إذا حضر، وكان يفضّله على سائر أبنائه.
ويبدو أن عبد المطلّب كان عارفاً بشـأنية محمّد وما سيكون من أمره وعظمته من خلال أمرين:
أولاً: من الصفات والملامح التي كانت تظهر على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والبركات والأحداث التي رافقته منذ ولادته وفي أحضان أمّه ومرضعته.
وثانياً: من البشائر والأخبار التي كانت تُنبىء بمستقبله ونبوتّه.
إنّ هذا النوع من المؤشرات والدلائل رسّخ في نفس عبد المطلّب الاعتقاد بشأنية حفيده، وجعل له صلى الله عليه وآله وسلم مكانة خاصة عنده، بحيث كان يعطيه من الحبّ والعطف والحنان والاهتمام ما لم يعطه لأحد غيره، إلاّ أن هذا الحنان الدافق وهذه الرعاية الكريمة لم تدم له صلى الله عليه وآله وسلم طويلاً، فقد توفّي عبد المطلّب والنبيّ في الثامنة من عمره، فانتقل بعده إلى دار عمّه أبي طالب2.
النبيّ في رعاية أبي طالب
قبل أن توافي المنية عبد المطلّب كان قد جمع أولاده العشرة وأوصاهم بابن أخيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ولمّح لهم بما سيكون من شأنه في المستقبل، وممّا قاله لهم: "قد خلّفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطؤون به رقاب العرب"3.
1 اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص10، الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج1، ص573.
2 راجع: سورة البقرة الآيتان 89 ـ 146، سورة الأعراف، الآية 157، الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص171.
3 اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص13.
21
14
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
وقد اختار عبد المطلّب من بين أبنائه أبا طالب ليكون هو من يكفل محمّداً بعده ويقوم برعايته، وذلك لسببين:
الأول: أنّ أبا طالب كان أخاً لوالد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أمّه، فإنّ أمّهما هي فاطمة بنت عائذ المخزومية، وطبيعيّ أن يكون أبو طالب أكثر حناناً وعطفاً وحبّاً لابن أخيه من أبيه وأمّه من بقية إخوانه كالحارث والعباس وغيرهما الذين كانوا من أمّهات شتّى.
الثاني: أنّ أبا طالب كان أنبل إخوته وأكرمهم، وأعظمهم مكانة في قريش، وأجلّهم قدراً، وقد ورث زعامة أبيه عبد المطلّب، وخضع لزعامته القريب والبعيد بالرغم من فقره1.
وقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "إنّ أبي ساد الناس فقيراً، وما ساد فقير قبله"2.
وقد قام أبو طالب برعاية النبيّ خير رعاية، وأدّى الأمانة، وحفظ الوصية، وبقي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم شغله الشاغل الذي شغله هو وزوجته فاطمة بنت أسد حتّى عن أولادهما في أشدّ المراحل ضيقاً وحرجاً حتّى النفس الأخير من حياتهما.
ولم يكن يعني أبا طالب شيء كما تعنيه رعاية النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والمحافظة عليه. وقد بلغ من عنايته به وحرصه عليه أنّه كان إذا اضطرّ إلى السفر إلى خارج مكّة أو الحجاز أخرجه معه3.
السفر إلى الشام
كانت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رحلتان إلى الشام، إحداهما: بصحبة عمّه، والأخرى: بصحبة غلام لخديجة في تجارة لها.
في الرحلة الأولى: كان عمر النبيّ اثنتي عشرة سنة، وكان مع عمّه أبي طالب ضمن قافلة تجارية لقريش. وفي الطريق توقّفت القافلة في منطقة تسمى بُصرى، وكان فيها راهب يدعى بحيرا. وقد اتّفق أن التقى الراهب قافلة قريش ولفتت نظره شخصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وراح
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص171.
2 اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص14.
3 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص171، الشيخ الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، ص391، المجلس الحادي والخمسون، ح505/14.
22
15
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
يتأمّل ويحدّق في صفاته وملامحه، خاصة بعد أن رأى أنّ سحابة من الغيم ترافقه صلى الله عليه وآله وسلم أينما جلس لتحميه من حرّ الشمس، فسأل عنه بعض من في القافلة فأشاروا إلى أبي طالب وقالوا له: هذا عمّه، فأتى الراهب أبا طالب وبشّره بأنّ ابن أخيه نبيّ هذه الأمّة وأخبره بما سيكون من أمره بعدما كان قد كشف عن ظهره ورأى خاتم النبوّة بين كتفيه ووجد فيه العلامات التي وصفته بها التوراة والأناجيل وغيرها1.
وتذكر النصوص أنّ بحيرا أصرَّ على أبي طالب بأن يعود به إلى مكة وأن يبقيه تحت رقابته خوفاً عليه من اليهود وغيرهم، فقطع أبو طالب رحلته ورجع به إلى مكّة.
وفي الرحلة الثانية: كان عمر النبيّ خمساً وعشرين سنة، ويقول المؤرّخون: إنّ سفره هذا كان في تجارة لخديجة بنت خويلد قبل أن يتزوّج بها، وإنّ أبا طالب هو الذي أشار عليه بالعمل بالتجارة مع خديجة بسبب الوضع المادّيّ الصعب الذي كان يعيشه آنذاك2.
فدخل مع خديجة في شراكة تجارية، ولم يكن أجيراً لها، إذ لم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أجيراً لأحد قط. وسافر برفقة ميسرة وهو يعمل لدى خديجة وربح في تجارته أضعاف ما كان يربحه غيره، وظهرت له في سفره بعض الكرامات الباهرة، فلمّا عادت القافلة إلى مكّة أخبر ميسرة غلام خديجة. سيدته بذلك3.
بقي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في رعاية عمّه أبي طالب حتّى كبر وبلغ الخامسة والعشرين من عمره فتزوّج بخديجة بنت خويلد.
1 الطبري، محمد بن جرير، دلائل الإمامة، تحقيق ونشر: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم، 1413ه، ط1، ص11، ح3.
2 الصنعاني، أبي بكر عبد الرزاق بن همام، عني بتحقيق نصوصه وتخريج أحاديثه والتعليق عليه: الشيخ المحدث حبيب الرحمن الأعظمي، من منشورات المجلس العلمي، لا.د، لا.ط، لا.ت، ج5، ص318، باب ما جاء في حفر زمزم، ح 9718، ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، تحقيق وضبط وتعليق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المطبعة: المدني - القاهرة، الناشر: مكتبة محمد علي صبيح وأولاده - بمصر، 1383 - 1963م، لا. ط، ج1، ص118، ابن سعد، محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، دار صادر - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج1، ص121، العاملي، السيد جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ج2، ص176 ـ ج3، ص23.
3 العاملي، السيد جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ج2، ص198.
23
16
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
الزواج من خديجة
أصبح محمّد صلى الله عليه وآله وسلم شاباً، وأخذ اسمه يحتلّ مكاناً مرموقاً في أوساط قريش فعُرف بصدق الحديث وعظيم الأمانة وكرم الأخلاق. وفي عمر السابعة والثلاثين، أي قبل البعثة بثلاث سنوات أو في السنة الخامسة والثلاثين، أي قبل البعثة بخمس سنين، تزوج بخديجة بنت خويلد زوجته الأولى بعد عودته من رحلته الثانية إلى الشام، وقيل إن عمره كان أكثر من ذلك بعدّة سنوات أي في سن 30 أو 37 سنة.
ونكاد نقطع بسبب كثرة النصوص، أنّ خديجة هي التي بادرت أولاً وأبدت رغبتها في الزواج من محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بعدما رأت فيه من الصفات النبيّلة ما لم تره في غيره.
ويرجّح كثير من المؤرّخين أن يكون عمر خديجة حين زواج النبيّ بها ثمانية وعشرين عاماً وليس أكثر من ذلك1.
كما أنها لم تتزوّج قبله بأحد قطّ، وإنّما تزوّج بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكانت بكراً. وأمّا النصوص التي تفيد أنّها تزوّجت قبله برجلين هما: عتيق بن عائذ المخزوميّ، ثم أبو هالة التميميّ، فإننا نحتمل جداً أن تكون مما صنعته يد السياسة بهدف إلحاق الأذى بشخصيتها وشأنها بين الناس، خصوصاً مع الالتفات إلى شخصية عتيق2.
وولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السيدة خديجة عليها السلام القاسم وعبدالله (يلقب بالطاهر) وقد مات كلاهما في الصغر بمكة، والسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، ثم ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مارية القبطية إبراهيم وتوفي وهو صغير3.
عمله صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة
ليس هناك أيّ عيب أو نقص في أن يقوم الإنسان بالعمل والكدح في سبيل تأمين العيش الكريم. والعمل في سبيل العيش من سنن الأنبياء والمرسلين. وقد عاش الكثيرون من الأنبياء من عمل
1 البيهقي، أحمد بن الحسين، دلائل النبوة، تحقيق: وثق أصوله وخرج حديثه وعلق عليه: الدكتور عبد المعطي قلعجي، بيروت ـ لبنان، دار الكتب العلمية، 1405 - 1985م، ط1، ج2، ص71.
2 الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد، ج9، ص219، باب فضل خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
3 الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد (المجموعة)، ص8، ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، تحقيق: تصحيح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، 1376 - 1956م، ج1، ص162، الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج3، ص262.
24
17
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
أيديهم وعرق جباههم، وأتقنوا بعض المهن والأعمال الشريفة حتّى لا يكونوا عبئاً على أحدٍ من الناس. وقد أوصى الإسلام بالعمل للدنيا والآخرة، وأكّد عليه، ورغَّب به، وندّد بالكسالى الذين يُحقّرون الأعمال الصغيرة الشريفة ويرفضونها ليتحوّلوا إلى عبءٍ على المجتمع بسبب بطالتهم.
وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة يقوم بعدّة أعمال لتأمين العيش وكسب الرزق، فيذكرون: أنّه كان يرعى الغنم لأهله في مرحلة الصبا ومطلع الشباب، كما أنّه عمل في التجارة الخارجية مع خديجة عندما أصبح شابّاً في عمر الخامسة والعشرين.
ثم إن تجارة النبيّ مع خديجة كانت على نحو المضاربة والمشاركة، ولم تكن على نحو الإجارة، فلم يكن النبيّ أجيراً عند خديجة يأخذ بدل ما يُقدّمه من أتعاب، وإنّما كان شريكاً لها في تجارتها وله نسبة في الأرباح.
مكانة النبيّ محمّد قبل البعثة
أصبح النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في مطلع شبابه موضع احترام في مجتمعه، لِمَا كان يمتلكه في شخصيّته من وعي، وحكمة، وإخلاص، وبُعد نظر. وقد اشتُهر بسمّو الأخلاق، وكرم النفس، والصدق والأمانة حتّى عُرف بين قومه بالصادق الأمين، كما اشتُهر برجاحة عقله، وصوابيّة رأيه حتّى وَجَدَ فيه المكّيّون والقرشيّون سيّداً من سادات العرب الموهوبين، ومرجعاً إليهم في المهمّات وحلّ المشكلات والخصومات1.
وكان الناس يتحاكمون إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية، لأنّه كان لا يُداري ولا يُماري2.
موقف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من حرب الفجار
ما إن بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرابعة عشر أو العشرين من عمره حتّى اشتعل القتال بين قبيلة قيس من جهة وقبيلة قريش وبطونها من جهة أخرى. وكان سبب هذه المعركة أنّ النعمان بن المنذر قد قتل أخاً لبلعاء بن قيس، فكان بلعاء يعترض قوافل النعمان، فطلب النعمان من عروة بن عتبة ومن البراض بن قيس حمايتها، فتبرّع كلّ منهما لذلك وتنازعا أيّهما يقدّم
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج18، ص168.
2 الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الأوسط، تحقيق: قسم التحقيق بدار الحرمين، دار الحرمين، 1415 - 1995م، لا.ط، ج2، ص145.
25
18
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
هذه الخدمة للنعمان، فكان أن تعرّض البراض لعروة وقتله، فتعصّبت لكلّ منهما قبيلته ووقعت الحرب في شهر رجب وهو أحد الأشهر الحرم، ولذلك سمّيت بحرب الفجار، لأنّ الفجار فجروا، وانتهكوا الأشهر الحرم. وقد رفض أبو طالب المشاركة في هذه الحرب ومنع بني هاشم من ذلك، والتزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقرار عمّه ووجهوا هذه الحرب بكلّ ما يمكن لهم لمنع الاقتتال بين الطرفين، لأنّها كانت حرب ظلم وعدوان وقطيعة رحم، ولا صحّة للروايات التي ادعت أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد شارك في هذه الحرب مع قبيلة قريش1.
حلف الفضول
بعد سلسلة من حوادث الاعتداء على أموال وأعراض بعض الوافدين إلى مكّة في موسم الحجّ للزيارة أو التجارة، دعا الزبير بن عبد المطلّب إلى إقامة تحالف بين قبائل قريش بهدف: مواجهة كلّ من يعتدي على الآخرين، وخصوصاً الزائرين.
فاستجاب لدعوته بنو هاشم، وبنو عبد المطلّب، وبنو أسد وغيرهم، وعقدوا اجتماعاً في دار عبد الله بن جدعان تحالفوا فيه على محاربة الظلم والفساد والانتصار للمظلوم والدفاع عن الحق. وقد سمّي بحلف الفضول، لأنّ قريشاً قالت بعد إبرامه: هذا فضول من الحلف، وقيل: لأنّ ثلاثة ممّن اشتركوا فيه كانوا يُعرفون باسم الفضل.
وقد حضره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وشارك فيه وكان يتجاوز العشرين من عمره الشريف وأثنى عليه بعد نبوّته وأمضاه، فقد رُوي أنّه قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لقد حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما يسرّني به حمر النعم، ولو دعيت إلى مثله لأجبت"2.
إنّ نظرة تحليلية بسيطة إلى هذا الحلف تقودنا إلى تسجيل الأمور التالية:
أولاً: إنّ ثناء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الحلف، ومشاركته فيه، وإمضاءه له، يدلّ على أنّ هذا الحلف ينسجم في أهدافه مع أهداف الإسلام، لأنّه قائم على أساس الحقّ والعدل والخير.
1 اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص15، ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص209.
2 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، ج14، ص129، اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص18، ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري، بيروت ـ لبنان، دار إحياء التراث العربي، 1408 - 1988م، ط1، ج2، ص293.
26
19
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
ثانياً: إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يمتدح هذا الحلف ويثني عليه مع أنّ الذين قاموا به كانوا وقتها على الشرك والكفر، ولكنّه يهدم مسجد الضرار مع أنّ الذين بنوه كانوا وقتها يتظاهرون بالإسلام ويتعاملون على أساسه بحسب الظاهر.
ثالثاً: إنّ اهتمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بحلف الفضول إنّما يدلّ على أنّ الإسلام ليس منغلقاً على نفسه، وإنّما هو يستجيب لكلّ عمل إيجابيّ فيه خير الإنسان، ويشارك فيه على أعلى المستويات، انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية، وانسجاماً مع أهدافه الكبرى، ومع المقتضيات الفطرية والعقل السليم.
تجديد بناء الكعبة
في أثناء ولاية قريش عليها وقبل النبوّة بخمس سنوات أو أكثر تمّ هدم الكعبة وتجديد بنائها، بسبب السيول، وقيل إنّ الكعبة احترقت، واحترق بابها والأخشاب التي كانت بها، إثر ذلك اجتمعت قريش وقررّت هدمها وتجديد بنائها ورصدوا لذلك نفقة طيبة. وقد شارك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في جمع الحجارة.
ولمّا بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يرفع الحجر إلى موضعه، وكاد الأمر يؤدّي بهم إلى فتنة كبيرة، فاتّفقوا أن يُحكِّموا في هذا النزاع أوّل داخل عليهم، فكان محمّد بن عبد الله أوّل الوافدين، فلّما رأوه استبشروا بقدومه وقالوا: لقد جاءكم الصادق الأمين، أو هذا الأمين قد رضينا به حكماً.
طلب منهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يحضروا له ثوباً، فأتوا له بثوب كبير، فأخذ الحجر ووضعه فيه بيده، ثمّ التفت إلى شيوخهم وقال: "لتأخذ كل قبيلة بطرف من الثوب ثم ارفعوه جميعاً" فاستحسنوا ذلك ووجدوا فيه حلاً يحفظ حقوق الجميع، ولا يعطي لأحد امتيازاً على الآخر، ففعلوا ما أمرهم به، فلمّا أصبح الحجر بمحاذاة الموضع المخصّص له، أخذه رسول الله بيده الكريمة ووضعه مكانه1.
1 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج14، ص129، ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص204، السيد ابن طاووس، علي بن موسى، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، المطبعة: الخيام - قم، 1399، ط1، ص16.
27
20
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
المفاهيم الرئيسة
1- يعود نسب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى هاشم المنحدر من ذرية عدنان أحد أحفاد نبيّ الله إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
2- ولدته أمّه آمنة في مكّة المكرمة في شعب أبي طالب يوم الجمعة في السابع عشر من شهر ربيع الأول لسنة 571. ومات أبوه عبد الله قبل ولادته.
3- لم يرتضع من أمّه سوى ثلاثة أيّام، ثم حظيت بشرف إرضاعه حليمة السعدية بنت أبي ذؤيب من بني سعد.
4- فَقَدَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمّه بعد عودته من حيّ بني سعد فعاش في كفالة جدّه عبد المطلب وبعده في كفالة جدّه أبي طالب.
5- كانت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رحلتان إلى الشام، إحداهما: بصحبة عمّه، والأخرى: بصحبة غلام لخديجة في تجارة لها.
6- تزوّج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السيدة خديجة ويرجّح أنّه كان لها من العمر ثمانية وعشرون عاماً.
7- كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة يقوم بعدّة أعمال لتأمين العيش وكسب الرزق إذ كان يرعى الغنم لأهله ويعمل في التجارة.
8- أصبح النبيّ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم في مطلع شبابه موضع احترام في مجتمعه، لِمَا كان يمتلكه في شخصيته من وعي، وحكمة، وإخلاص، وبُعد نظر، وقد اشتهر بسموّ الأخلاق، وسُمّي بالصادق الأمين.
9- لم يشارك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حرب الفجار، والتزم بقرار عمّه بعدم المشاركة، لأنّها كانت حرب ظلم وعدوان وقطيعة رحم.
10- عقد في قريش حلف الفضول وحضره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وشارك فيه، وأثنى عليه بعد نبوته وأمضاه.
11- أعادت قريش ترميم الكعبة واختلفوا حول وضع الحجر الأسود، فحلّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النزاع، ولما أصبح الحجر بمحاذاة الموضع المخصّص له، أخذه رسول الله بيده الكريمة ووضعه مكانه.
28
21
الدرس الأول: ولادة النبيّ الأعظم ونشأته صلى الله عليه وآله وسلم
للمطالعة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخلق العظيم
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"1، فإنّ البعثة قد وُجدت في هذا العالَم لأجل هذا الهدف، من أجل تعميم المكارم الأخلاقيّة، والفضائل الروحيّة وتكميلها عند النّاس.
وطالما أنّ المرء لم يتحلَّ بأفضل المكارم الأخلاقيّة، فإنّ الله تعالى لن يوكل إليه هذه المهمّة العظيمة والخطيرة، ولهذا فإنّ الله سبحانه يُخاطب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل البعثة قائلاً: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾2، أي أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان على درجة من الاستعداد تجعله قادرًا على تلقّي الوحي الإلهيّ، وهذا الأمر يعود إلى ما قبل البعثة. ولهذا فقد ورد أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يشتغل بالتجارة في شبابه.
وفي هذه المرحلة الّتي كانت نهاية تكامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقبل نزول الوحي كان النبيّ يعتزل في غار حراء ويجول بفكره في الآيات الإلهية، ويتأمّل في هذه الخلائق والموجودات. "لقد كان يشاهد كافّة هذه الآيات الإلهية فيزداد خضوعه يومًا بعد آخر أمام عظمة الحقّ، ويتضاعف خشوع قلبه أمام الأمر والنّهي الإلهيّين والإرادة الرّبانية وتتفتّح في وجدانه، مع مرور الأيّام، براعم الأخلاق النبيّلة. فلمّا استكمل أربعين سنة، ونظر الله عزّ وجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها وأخضعها، أذن لأبواب السماء ففُتحت، ومحمّد ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمّد ينظر إليهم"3، ونزل عليه جبرائيل، وكانت بداية البعثة.
إنّ هذا المخلوق الإلهيّ الّذي لا نظير له، وهذا الإنسان الكامل، قد شرع منذ اللحظة الأولى من البعثة في دخول مرحلة من الجهاد الشامل والبالغ المشقّة والمكابدة، استغرقت ثلاثًا وعشرين سنة، وكلّ هذا كان نموذجًا للكفاح والمجاهدة والعمل الدؤوب4.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تفسير مجمع البيان، تحقيق: لجنة من العلماء، الطبعة: الأولى، بيروت، لبنان مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1415 - 1995م، ط1، ج10، ص86.
2 سورة القلم، الآية 4.
3 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج17، ص309.
4 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ترجمة: مركز نون للتأليف والترجمة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، بيروت، لبنان،1434ه ـ 2013، ط1، ص23(بتصرف).
29
22
الدرس الثاني: البعثة والهجرة (1)
الدرس الثاني: البعثة والهجرة (1)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الإعداد الإلهيّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوّة إلى حين بداية الدعوة.
2- يتعرّف إلى البشارة بالنبوّة وأوّل المسلمين إيماناً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
3- يفهم التحدّيات التي واجهها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودفعته إلى اتّخاذه قرار الهجرة إلى يثرب.
31
23
الدرس الثاني: البعثة والهجرة (1)
البعثة النبوية
الإعداد الإلهيّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوّة
لقد أعدَّ الله نبيّه محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وهيّأه لحمل الرسالة وأداء الأمانة الكبرى وإنقاذ البشرية، عن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العلم، أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال أم في الكتاب عندكم تقرؤونه. فتعلمون منه؟ قال: "الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول الله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾" ثمّ قال: "أيّ شيء يقول أصحابكم في هذه الآية؟، أيقرّون أنّه كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان؟" فقلت : لا أدري - جعلت فداك - ما يقولون، فقال (لي): "بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان حتّى بعث الله تعالى الروح التي ذكر في الكتاب، فلمّا أوحاها إليه علم بها العلم والفهم، وهي الروح التي يعطيها الله تعالى من شاء، فإذا أعطاها عبداً علّمه الفهم"1.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوّة يتعبّد في غار حراء، وكان قبل ذلك يتعبّد فيه عبد المطلّب2.
البشارة بالنبوّة
حينما بلغ الأربعين من عمره الشريف اختاره الله رسولاً وهادياً للبشرية جمعاء. والمرويّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بُعث بالإسلام في السابع والعشرين من شهر رجب بعد عام الفيل بأربعين سنة (610م)3.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص273، باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة عليهم السلام.
2 ابن حنبل، أحمد بن حنبل، مسند أحمد، بيروت، لبنان، دار صادر، لا.ط، ج6، ص233.
3 العاملي، السيد جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ج2، ص290.
33
24
الدرس الثاني: البعثة والهجرة (1)
وقد بدأ نزول الوحي عليه بواسطة جبرائيل الأمين عليه السلام في غار حراء. وتفيد الروايات أنّ أوّل آيات قرأها جبرائيل على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي قوله تعالى في سورة العلق: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾1.
بعد تلقين ذلك البيان الإلهيّ، عاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله مستبشراً مسروراً بما أكرمه الله به من النبوّة والرسالة، مطمئناً إلى المهمّة التي شرّفه الله بها، فلم يكن خائفاً أو مرعوباً ممّا جرى له، بل كان عالماً بنبوّة نفسه2، وكان ينتظر اللحظة التي يأتيه فيها جبرائيل ليعلن نبوّته ورسالته، فلمّا دخل على خديجة أخبرها بما أنزله الله عليه وما سمعه من جبرائيل فقالت له: أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلاّ خيراً، وأبشر فإنّك رسول الله حقاً.
وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام: "كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ممّا ينزغ به الشيطان؟"
فقال عليه السلام: "إنَّ الله إذا اتّخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه"3.
أوّل المسلمين
بعد أن بشرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوّة والرسالة، كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو أوّل الناس إسلاماً وإيماناً وتصديقاً به صلى الله عليه وآله وسلم. وكان عمره آنذاك عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة، وذلك لأنّ علياً عليه السلام كان ملازماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يُفارقه حتّى وهو في غار حراء4.
1 سورة العلق، الآيات 1 - 5.
2 ابن حنبل، أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج6، ص233، البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دار الفكر، 1401 - 1981م، لا.ط، ج1، ص3، النيسابوري، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، بيروت - لبنان، دار الفكر، لا.ت، لا.ط، ج1، ص97.
3 العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، تحقيق: الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، لا. ط، ج2، ص201.
4 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص15، النسائي، أبي عبد الرحمان أحمد بن شعيب، خصائص أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب)، تحقيق وتصحيح الأسانيد ووضع الفهارس: محمد هادي الأميني، طهران، مكتبة نينوى الحديثة، لا.ط، ص3.
34
25
الدرس الثاني: البعثة والهجرة (1)
ثمّ أخبر الرسول زوجه خديجة بذلك فآمنت به، فكانت أوّل امرأة من المسلمات. وقد بُعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين وصلّى عليّ وخديجة معه يوم الثلاثاء، ولم يكن على وجه الأرض أحد يعبد الله على هذا الدين إلاّ النبيّ وعلي وخديجة، وكانت أوّل صلاة صلّاها عليّ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الظهر1.
الدعوة وتحدّيات قريش
مرّت الدعوة الإسلامية في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منذ بعثته إلى وفاته بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى (الدعوة الهادئة للأفراد):
كانت دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في البداية تتّجه نحو آحاد الناس بصورة هادئة بعيداً عن أجواء التحدّي، وذلك حذراً من وقع المفاجأة على قريش التي كانت متعصّبة لشركها ووثنيتها. فلم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يُظهر الدعوة في المجالس العامّة لقريش، ولم يكن يدعو إلاّ من يغلب على الظنّ أنه سيؤمن به، فآمن به عدد قليل من الناس تباعاً. واختار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لهم دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكّة ليلتقي بهم فيها، ولتكون مركزاً يمارسون فيه عبادتهم وصلاتهم بعيداً عن أنظار قريش. وكانت حصيلة الدعوة في هذه الفترة ما يقارب أربعين رجلاً وامرأة عامّتهم من الفقراء2.
فكانت نتيجة هذا الأسلوب الذي اتّبعه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته أمرين:
الأول: عدم تعريض الطليعة المؤمنة، لأي عمل يشل الحركة ويفكك ارتباطها ومن ثم يدفعها إلى التشرذم والضياع.
الثاني: توفير العدّد الكافي من المؤمنين بالرسالة، لكي تتحمّل مسؤولياتها في التغيير الإسلامي بجدارة وإيمان.
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص189، ابن سعد، محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج4، ص163، الخطيب البغدادي، أحمد بن علي، تاريخ بغداد، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت - لبنان، دار الكتب العلمية، 1417 - 1997م، ط1، ج2، ص81.
2 البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ج2، ص206، ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج3، ص34، ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، بيروت، دار الجيل،1412 ه - 1992م، ط1، ج3، ص1053.
35
26
الدرس الثاني: البعثة والهجرة (1)
المرحلة الثانية (الدعوة العامة):
في هذه المرحلة استجاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأمر ربه عز وجل بالدعوة العامّة لجميع الناس، وبدأ بتنفيذ ذلك عبر خطوتين:
الخطوة الأولى: دعوة الأقربين من عشيرته وقومه هم بنو هاشم أو بنو عبد المطلب إلى الإسلام وإبلاغهم رسالة الله تعالى تنفيذاً لأمره عز وجل حيث قال عزّ من قائل: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾1، ثم إن الابتداء بذوي القرابة والعشيرة يهدف إلى تثبيت أولى دعائم الدعوة، ودفع أبناء عشيرته إلى الدفاع عنه بدافع القرابة على فرض أنّهم لم يؤمنوا بدعوته.
الخطوة الثانية: دعوة عامّة الناس بمن فيهم قريش إلى الدخول في الإسلام حيث صعد النبيّ على الصفا ونادى قريشاً وقبائل مكّة فلما اجتمعوا قال لهم: "أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلاً في سفح جبل قد طلعت عليكم أكنتم مصدقي؟"، قالوا: نعم، أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذباً قط. فقال: "إنّي نذير لكم من عذاب شديد، إنّ الله أمرني أن أنذركم من عقابه، وإنّي لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيباً إلاّ أن تقولوا لا إله إلا الله"، فلم تستجب له قريش، وقامت بخطوات لمواجهة حركته ودعوته في قريش ومكّة2.
خطوات قريش في مواجهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
1- مواجهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالتكذيب، والسخرية، والاستخفاف والاستهزاء، ورميه بأنواع التهم من قبيل ساحر ومجنون، وكان ذلك هو ردّ الفعل الأولي، ولم يصل ردّ الفعل هذا إلى حد المواجهة المباشرة، إلاّ أن استمرار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة وإصراره عليها من جهة، وتعرضه لآلهة قريش وأصنامها من جهة أخرى، واتساع نشاط النبيّ وتكاثر المسلمين باستمرار من جهة ثالثة، جعل المشركين يشعرون بجدّية الموقف وخطورته والتفكير في محاولة جديدة بعيدة عن العنف، فقرّروا: مفاوضة النبيّ ومساومته على الدعوة، وقد مرّت المفاوضات بثلاث جولات انتهت كلّها بالفشل الذريع:
1 سورة الشعراء، الآية 214.
2 الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تفسير مجمع البيان، ج10، ص768، العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، ج2، ص253، اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص24.
36
27
الدرس الثاني: البعثة والهجرة (1)
• في الجولة الأولى: حاولت قريش استعطاف أبي طالب من أجل الضغط على ابن أخيه فقالوا له: إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلّل أبناءنا، فإمّا أن تكفّه عنّا وإمّا أن تخلي بيننا وبينه، فردّهم أبو طالب ردّاً رفيقاً، فانصرفوا عنه.
• الجولة الثانية: تواصت قريش بالشدّة وعدم المهادنة في الموقف فجاؤوا إلى أبي طالب وقالوا له: إنّا كنّا قد استنهيناك عن ابن أخيك، فلم تنهه عنّا، وإنّا والله لا نصبر على هذا، من شتم آبائنا وعيب آلهتنا حتّى تكفّه عنّا، أو ننازله وإيّاك حتّى يهلك أحد الفريقين، فوعدهم أبو طالب أن يبلغ ابن أخيه موقفهم، فكان ردّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الردّ الخالد: "والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته"1.
• الجولة الثالثة: عرضوا على أبي طالب أن يعطيهم محمّداً ليقتلوه ويأخذ هو في مقابله عمارة بن الوليد أجمل فتى في قريش ليكون في رعايته وكفالته بدل محمّد، فرفض أبو طالب موبّخاً لهم بقوله: لبئس ما تسومونني عليه أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبداً.
• كما جرت مفاوضة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمومساومته مباشرة عن طريق إغرائه بالمال والجاه، ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رفض عرضهم، ورأوا فيه رجلاً من نوع آخر لا طمع له في مال ولا سلطان2.
2- نهي الناس عن الالتقاء بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والاستماع إلى ما يتلوه من قرآن. وقد تحدّث القرآن عن ذلك بقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾3.
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج18، ص182.
2 اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص24، الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص642، الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص326، الموفق الخوارزمي، بن أحمد البكري المكي الحنفي، المناقب، تحقيق: فضيلة الشيخ مالك المحمودي - مؤسسة سيد الشهداء عليه السلام، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1411 ه. ق، ط2، ج1، ص73.
3 سورة فصلت، الآية 26.
37
28
الدرس الثاني: البعثة والهجرة (1)
3- التعرّض لشخص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالإيذاء المباشر، حيث رجموا بيته بالحجارة، وألقوا التراب على رأسه، وسلّطوا الصبيان عليه يرمونه بالحجارة. وقد تعرّض النبيّ لأذى لا مثيل له من سفهاء قريش وعبيدهم، وأحياناً من زعمائهم ووجهائهم كأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وأبي لهب وزوجته التي كانت تضع الأشواك أمامه في طريقه وأمام داره حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت"1.
4- اتّباع سياسة الإرهاب والتعذيب والتنكيل بالصفوة المؤمنة وخاصّة بأولئك الفقراء والضعفاء، الذين لا عشيرة تحميهم كآل ياسر، وبلال الحبشيّ، وغيرهم.
5- استخدام سلاح الحرب الإعلامية والدعاية ضدّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانوا يروّجون بين الوافدين إلى مكّة إنّ هذا الرجل ساحر، وأنّه يفرق بين المرء وأبيه، وغير ذلك2.
الحصار في شعب أبي طالب
المقاطعة لبني هاشم، وفرض حصار اجتماعيّ واقتصاديّ عليهم، وهو ما عرف بحصار الشعب، فقد اجتمع المشركون في دار الندوة وكتبوا وثيقة اتّفقوا فيها على البنود التالية:
1- أن لا يزوّجوا أحداً من نساءهم لبني هاشم، وأن لا يتزوّجوا منهم.
2- أن لا يبتاعوا منهم شيئاً، ولا يبيعوهم شيئاً مهما كان نوعه.
3- أن لا يجتمعوا معهم على أمر من الأمور.
4- أن يكونوا يداً واحدة على محمّد وأتباعه.
قدَّرتْ قريش أن هذا الحصار سيؤدّي إلى أحد أمور ثلاثة: إمّا قيام بني هاشم بتسليمهم النبيّ ليقتلوه، وإمّا أن يتراجع النبيّ عن الدعوة، وإمّا القضاء عليه وعلى جميع من معه جوعاً وعطشاً تحت وطأة الحصار.
استمرّ الحصار ثلاث سنوات من السنة السادسة حتّى التاسعة للبعثة، وكان المسلمون خلاله ينفقون من أموال خديجة، وأبي طالب، حتّى نفدت واضطرّوا أن يقتاتوا بورق الشجر،
1 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص42.
2 ابن إسحاق، محمد بن إسحاق المطلبي، سيرة ابن إسحاق(السير والمغازي)، تحقيق: محمد حميد الله، معهد الدراسات والأبحاث للتعريف، ج2، ص132.
38
29
الدرس الثاني: البعثة والهجرة (1)
ولم يكونوا يخرجون من شعب أبي طالب إلّا في موسم العمرة في رجب، وموسم الحجّ في ذي الحجّة. وكان عليّ أمير المؤمنين عليه السلام أثناء هذه المحنة يأتيهم بالطعام سراً من مكّة من حيث يمكن، ولو أنهم ظفروا به لم يُبقوا عليه.
وكان أبو طالب يحرس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه خوفاً من أن يتسلّل أحد من المشركين إليه ويغتاله على حين غرّة أو غفلة، بل كان إذا حلَّ الظلام ينقل النبيّ من المكان الذي عرف أهل الشعب انّه بات فيه إلى مكان آخر ويجعل ابنه علياً عليه السلام في مكانه.
انتهى الحصار بعدما أكلت الأرضة ما في صحيفة المشركين التي تعاقدوا فيها على الحصار، وقيام جماعة منهم ممّن تربطهم ببني هاشم علاقات نسبية بنقض الصحيفة وإلغاء مفاعيلها1.
الهجرة إلى الحبشة
هاجر المسلمون إلى الحبشة في رجب من السنة الخامسة للبعثة بعدما أمرهم النبيّ بذلك، وقال لهم: إنّ بها ملكاً لا يظلم عنده أحد. وكان عددهم في أرض الحبشة ثلاثة وثمانين ما بين رجل وامرأة عدا الأطفال، وكان في مقدّمتهم جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم2. وكان الهدف من هذه الهجرة:
أوّلاً: التخلّص من الضغوط وسياسة الإرهاب والتعذيب التي كان يتعرّض لها المسلمون داخل مكّة.
ثانياً: إيجاد مكان آمن للمسلمين ولكلّ من يدخل في الإسلام يستطيعون فيه ممارسة شعائرهم بحرية.
ثالثاً: التبشير بالإسلام ومبادئه وأهدافه وأحكامه، والترويج له والتعريف به خارج الجزيرة العربية.
1 المسعودي، على بن الحسين ، التنبيه والإشراف، دار صعب - بيروت - لبنان، لا.ط، ص200، الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، إيمان أبي طالب، تحقيق: مؤسسة البعثة، بيروت، لبنان، دار المفيد، 1414 - 1993م، ط2، ص3.
2 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج13، 268، العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج18، ص412، ابن إسحاق، محمد بن إسحاق المطلبي، سيرة ابن إسحاق(السير والمغازي)، ج1، ص344.
39
30
الدرس الثاني: البعثة والهجرة (1)
رابعاً: توجيه ضربة لكبرياء قريش، ولتدرك أنّ قضية الإسلام تتجاوز حدود تصوّراتها وقدراتها.
الخروج إلى الطائف
خرج النبيّ إلى الطائف في السنة العاشرة من البعثة وأقام فيها عشرة أيام يتجوّل بين أحيائها ويدعو أهلها إلى الإسلام، ولكنهم لم يسمعوا منه، بل جلسوا في الطريق يرمونه بالحجارة حتّى جرح في رأسه، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راجعاً إلى مكّة1.
وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يهدف من الانتقال إلى الطائف إلى الإعداد للمستقبل باعتبار أن الطائف هي البلد الثالث الذي له موقعه ونفوذه الخاص في المنطقة، نظراً لوجود قبيلة كبيرة فيها هي ثقيف، فلا بدّ من التمهيد لإدخالهم في الإسلام في المستقبل.
وربّما تكون ثمّة أهداف أخرى منها: إيجاد قاعدة ارتكاز لدعوته في الطائف بدل مكّة، بعد أن وجد صلى الله عليه وآله وسلم أنّ مكّة لا تصلح أن تكون قاعدة لعمله الرساليّ في هذه المرحلة، وخصوصاً بعدما أثّرت عمليات التعذيب والإرهاب التي مارستها قريش بحقّ المسلمين على نشاط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والحدّ من انتشار الإسلام بين الناس.
1 ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص57، العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، ج1، ص257، الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص172.
40
31
الدرس الثاني: البعثة والهجرة (1)
المفاهيم الرئيسة
1- لقد أعدَّ الله نبيّه محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وهيّأه لحمل الرسالة وأداء الأمانة الكبرى وإنقاذ البشرية.
2- بُعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام في السابع والعشرين من شهر رجب بعد عام الفيل بأربعين سنة. وكان الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو أوّل الناس إسلاماً وإيماناً، وكذا زوجة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خديجة ثمّ توسّعت دائرة المسلمين.
3- كانت دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في البداية تتّجه نحو آحاد الناس بصورة هادئة بعيداً عن الإعلان المباشر والعلنيّ، ثمّ دعوة الأقربين من عشيرته وقومه، ثمّ دعوة عامة الناس بمن فيهم قريش.
4- خطوات قريش في مواجهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:
• مواجهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالتكذيب، والسخرية، والاستخفاف والاستهزاء، ورميه بأنواع التهم من قبيل ساحر ومجنون.
• نهي الناس عن الالتقاء بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والاستماع إلى ما يتلوه من قرآن.
• التعرّض لشخص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالإيذاء المباشر، حيث رجموا بيته بالحجارة، وألقوا التراب على رأسه، وسلّطوا الصبيان عليه يرمونه بالحجارة.
• اتّباع سياسة الإرهاب والتعذيب والتنكيل بالصفوة المؤمنة وخاصّة بأولئك الفقراء والضعفاء.
• استخدام سلاح الحرب الإعلامية والدعاية ضدّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
5- الحصار في شعب أبي طالب: وهو مقاطعة لبني هاشم، وفرض حصار اجتماعيّ واقتصاديّ عليهم، وهو ما عرف بحصار الشعب.
6- هاجر المسلمون إلى الحبشة في رجب من السنة الخامسة للبعثة بعدما أمرهم النبيّ بذلك، لفسح المجال أمامه لتبليغ الإسلام وتخفيف وطأة قريش عن المسلمين.
7- خرج النبيّ إلى الطائف في السنة العاشرة من البعثة وأقام فيها عشرة أيام يتجوّل بين أحيائها ويدعو أهلها إلى الإسلام، ولكنّهم لم يسمعوا منه، بل جلسوا في الطريق يرمونه بالحجارة حتّى جرح في رأسه.
41
32
الدرس الثاني: البعثة والهجرة (1)
للمطالعة
السّلوك الاجتماعيّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
لقد حدّد صلى الله عليه وآله وسلم موقفه منذ اللحظة الأولى لدخوله المدينة، حيث كانت يثرب يومها مقسّمة إلى أحياء تضمّ بيوتًا وأزقّة ومتاجر، يعود كلٌّ منها إلى واحدة من القبائل التّابعة إمّا للأوس أو للخزرج... كانت ناقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تمرّ من أمام قلاع هذه القبائل فيخرج كبارها ويأخذون بركاب النّاقة منادين: إلينا يا رسول الله، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "دعوا الناقة فإنّها مأمورة"1. لكنّ كبار القوم وأشرافهم وشيوخهم وشبابهم اعترضوا ناقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: انزل هنا يا رسول الله، فالدّار دارك، وكلّ ما لدينا في خدمتك، لكنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول لهم: "دعوا الناقة فإنّها مأمورة".
فانطلقت حتّى حطّت رحالها في أكثر أحياء المدينة فقرًا، فمدّ النّاس أعناقهم ليعرفوا مَنْ صاحب الدار الّتي حطّت عندها الناقة، فإذا به أبو أيّوب الأنصاريّ، أفقر أهل المدينة أو أحد أفقرهم. عمد أبو أيّوب الأنصاريّ وعياله الفقراء المعوزون إلى أثاث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فنقلوه إلى دارهم، وحلّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضيفاً عليهم2، فيما رُدّ الأعيان والأشراف وأصحاب النفوذ وذوو الأنساب وأمثالهم، أي أنّه حدّد موقعه الاجتماعيّ، فاتّضح من خلال ذلك عدم تعلّق هذا الرجل بالثّروة والنسب القبليّ والزعامات القبلية والانتماء الأُسريّ والعائليّ وعدم ارتباطه بالمتحايلين الوقحين ولن يكون كذلك. فهو صلى الله عليه وآله وسلم حدّد طبيعة سلوكه الاجتماعيّ منذ اللحظة الأولى، وأيًّا من الفئات يُساند، ولأيٍّ من الطبقات ينحاز، ومَنْ هم الّذين سينالون القسط الأوفر من فائدة وجوده. فالجميع كانوا ينتفعون من وجود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتعاليمه، بيد أنّ الأكثر حرمانًا كان أكثر انتفاعًا منه، دافعهم في ذلك هو التعويض عن حرمانهم3.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج19، ص110.
2 م. ن، ص121.
3 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250سنة، ص32 (بتصرف)
42
33
الدرس الثالث: البعثة والهجرة (2)
الدرس الثالث: البعثة والهجرة (2)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يلخص لقاءات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالوفود التي كانت تحضر مكّة في موسم الحجّ.
2- يتعرّف إلى الأسباب الداعية إلى الهجرة.
3- يقرأ الأسباب الكامنة وراء اختيار المدينة موطناً جديداً للمسلمين.
43
34
الدرس الثالث: البعثة والهجرة (2)
اللقاء الأوّل باليثربيين
بعد أن عاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الطائف استأنف جهوده عند حلول موسم الحجّ متنقّلاً بين وفودها، حيث اجتمع بستّة من أهل يثرب في السنة الحادية عشرة من البعثة، فدعاهم لرسالته، فآمنوا به، وأقسموا أن يعملوا في سبيلها عند عودتهم إلى بلدهم.
ولم يكن اجتماعه بهؤلاء الستة عملاً عفوياً، بل كان مقصوداً، حيث اجتمع بهم بشكل شبه سريّ، وركّز على عدد محدود، لا كما فعل مع باقي الوفود حيث كان يدعوها علانية.
واستهدف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الاجتماع حثّ هؤلاء الأشخاص على القيام بنشاط في بلادهم لتهيئة الجوّ وخلق مناخ مؤيّد ومتعاطف مع الدعوة ومبادئها الجديدة في المدينة1.
العقبة الأولى:
عندما حلّ موسم الحجّ في العام الثاني التقى صلى الله عليه وآله وسلم مع اثني عشر رجلاً من اليثربيّين، واجتمع بهم سراً في واد ضيّق بالعقبة بين مكّة ومنى، وهي العقبة الأولى، وقد أعلنوا فيها إيمانهم واستعدادهم للعمل على نشر الإسلام، وبايعوا رسول الله على ذلك.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم مصعب بن عمير من أجل أن يعلّمهم الإسلام، ويفقّههم في الدين، ويجعل منهم قوّة أكثر فاعلية ودقّة في نشر الدين الجديد في صفوف أهل المدينة، وقد نجح في ذلك وبدأت الدعوة بالانتشار في أوساط أهل يثرب2.
1 ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص77، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم المشرفة، ربيع الأول 1417هـ، ط1، ج1، ص58.
2 السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، بيروت - لبنان، دار الفكر، لا.ط، ج6، ص218.
45
35
الدرس الثالث: البعثة والهجرة (2)
العقبة الثانية:
وفي العام التالي أي في السنة الثالثة عشر من البعثة وبعد مرور عام كامل على بيعة العقبة الأولى عاد مصعب بن عمير إلى مكّة ومعه جمع كبير من مسلمي المدينة، خرجوا مستخفين مع حجّاج قومهم المشركين. ويبدو أن مصعباً قبل حضوره إلى مكّة، كان قد رتّب اجتماعاً بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين مسلمي يثرب بعد انتهاء موسم الحجّ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نازلاً دار عبد المطلّب أيام الحجّ، ومعه عليّ عليه السلام والحمزة، فجاء المسلمون من الأوس والخزرج، وتواعد معهم على اللقاء أيام التشريق ليلاً، وأمرهم أن لا ينبّهوا نائماً ولا ينتظروا غائباً حتّى لا يلاحظ أحد حركتهم ويرتاب في أمرهم، فبايعوه على حمايته، وعلى أن يمنعوه وأهله ممّا يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، وعلى أن ينصروه ويقفوا إلى جانبه في الشدّة والرخاء، كما بايعوه على السمع والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن يدعوا إلى الله ولا يخافوا في الله لومة لائم. وقد سُمّيت هذه البيعة ببيعة العقبة الثانية.
وكانت بيعة العقبة هي الخطوة الرئيسة التي مهّد فيها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للهجرة إلى المدينة المنوّرة، وبالهجرة إلى المدينة تبدأ المرحلة الثالثة من مراحل الدعوة وهي مرحلة بناء الدولة، والدفاع عن الإسلام1.
الهجرة إلى المدينة
لقد أسّس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المرحلة قاعدة آمنة للمسلمين يمكن لهم اللجوء إليها من بطش قريش وجبروتها. وبعد مضيّ ثلاث عشرة سنة، وصل النبيّ مع قريش إلى طريق مسدود، فلم يبقَ جدوى مع هؤلاء القوم المتكبّرين، فأمر المسلمين بالهجرة إلى يثرب باعتبارها المكان الآمن في الجزيرة، حيث ورد عنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله عز وجل قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها.
فأخذ المسلمون يتوافدون إلى المدينة أفراداً وجماعات سراً وعلانية، مضحّين بوطنهم وبعلاقاتهم وكثير منهم بممتلكاتهم ومكانتهم في مجتمعهم الجاهليّ في سبيل عقيدتهم ودينهم.
1 الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج1، ص59، ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج2، ص193، ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص99.
46
36
الدرس الثالث: البعثة والهجرة (2)
ورأت قريش في هذه الهجرة خطراً على وجودها وعلى مستقبلها التجاريّ خاصّة أنّ تجارتها إلى الشام تمرّ عبر المدينة، فأخذت تمنع المسلمين من الهجرة وتلاحقهم وتُلحق العذاب والإرهاب بهم.
ولم يبق في مكّة سوى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام وعدد قليل من المسلمين وبعض النساء. وانتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإذن الإلهيّ بالهجرة، وشعرت قريش بحجم الخطر فيما لو التحق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه، فاجتمع كبراء قريش لإيجاد طريقة لمنع النبيّ من الالتحاق بالمسلمين، فاتفقوا على عملية الاغتيال التي ينفّذها كلّ بطون قريش، من أجل أن يتفرّق دمه في القبائل كلّها فلا يعود بإمكان بني هاشم أن يثأروا لدمه1.
وقد تحدّث القرآن عن ذلك بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾2.
ليلة المبيت
أخبر الله تعالى رسوله الكريم بهذه المؤامرة، وأمره بالخروج ليلاً من مكّة وأن يجعل علياً عليه السلام مكانه ليبيت على فراشه من أجل التمويه والإيهام، ليفوِّت عليهم كيدهم، فخرج رسول الله إلى غار ثور، وبات عليّ عليه السلام على فراش رسول الله تلك الليلة. وعندما اقتحم المشركون دار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجدوا أنفسهم أمام عليّّ عليه السلام. وقد نزل قوله تعالى في حقّ الإمام علي عليه السلام ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾3. وقد أهبط الله سبحانه وتعالى جبرائيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجعل جبرائيل يقول: بخ بخ! من مثلك يا بن أبي طالب، والله يباهي به الملائكة4؟
1 الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تفسير مجمع البيان، ج8، ص455، ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص321، السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ج5، ص141.
2 سورة الأنفال، الآية 30.
3 سورة البقرة، الآية 207.
4 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج2، ص64، القمي، على بن إبراهيم القمي، تفسير القمي، تصحيح وتعليق وتقديم: السيد طيب الموسوي الجزائري، قم - ايران، مؤسسة دار الكتاب، صفر، 1404هـ، ط3، ج1، ص273، الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، قم، دار الثقافة، 1414هـ، ط1، ص463.
47
37
الدرس الثالث: البعثة والهجرة (2)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار
كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج قبل ذلك من بينهم، وهو يقرأ هذه الآية: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾1. وبعدما فشلت خطّة قريش بقتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم استنفرت جميع قواها، وقامت بالبحث عنه، ولكنّها فشلت أيضاً بتدبير إلهيّ واضح، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غار ثور، وأخفاه الله عن أنظار قريش. وقال تعالى: ﴿... إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾2.
وتوجّه نحو غار ثور حيث بقي فيه ثلاثة أيام إلى أن تمكّن من الوصول إلى قرية قباء في المدينة المنوّرة برغم ملاحقة قريش له3.
وكانت هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أوّل يوم من شهر ربيع الأول بعدما كان أمضى ثلاث عشرة سنة في مكّة. وكانت هذه الهجرة بداية التاريخ الإسلاميّ4.
استخلاف الإمام عليّ عليه السلام
كانت قريش تدعو محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية الأمين، وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكّة من العرب في الموسم. وجاءته النبوّة والرسالة والأمر كذلك، فأمر علياً عليه السلام أن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوة وعشياً: "ألا من كان له قبل محمّد أمانة أو وديعة فليأت فلتؤدّ إليه أمانته".
قال: وقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا عليّ بأمر تكرهه حتّى تقدم عليّ، فأدّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً، ثمّ إنّي مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف
1 سورة يس، الآية 9.
2 سورة التوبة، الآية 40.
3 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج2، ص64، ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص332.
4 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، روضة الكافي، ج8، ص280، ابن سعد، محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص228، الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص102.
48
38
الدرس الثالث: البعثة والهجرة (2)
ربي عليكما ومستحفظه فيكما"1. وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ومن أزمع للهجرة معه من بني هاشم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ وهو يوصيه : "وإذا أبرمت ما أمرتك فكن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وسر إليّ لقدوم كتابي إليك، ولا تلبث بعده"2.
وقد أدى الإمام عليه السلام الأمانات كلها إلى أهلها3، ورحل مع الفواطم وهنّ: أُمّه فاطمة بن أسد، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفاطمة بنت الزبير، إلى مدينة يثرب4.
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يثرب
انطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهجرته إلى يثرب في أوّل يوم من شهر ربيع الأوّل، ووصل إلى مدينة قباء، وانتشر في يثرب خبر وصوله إلى قباء، وأنّه سوف يمكث هناك بانتظار أخيه عليّ بن أبي طالب، فاندفع المسلمون وأهلوهم ومن تبعه يزورونه في قباء ويسلّمون عليه، ويتشرّفون برؤيته. وأراد بعض المسلمين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدخول إلى يثرب إلا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصرّ على انتظار الإمام عليّ عليه السلام حيث قال: "لست أريم حتّى يقدم ابن عمّي وأخي في الله، وأحبّ أهل بيتي إليّ، فقد وقاني بنفسه من المشركين"5.
ولمّا قدم الإمام عليّ عليه السلام والفواطم بعد خمسة عشر يوماً من قدوم النبيّ، ولما بلغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قدومه، قال: "أدعوا لي علياً"، فقيل: يا رسول الله لا يقدر أن يمشي، فأتاه صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، فلمّا رآه اعتنقه وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وكانتا تقطران دماً، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام: "يا عليّ أنت أوّل هذه الأمّة إيماناً بالله ورسوله، وأولهم هجرة إلى
1 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، 468، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج1، ص374، ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج2، ص57.
2 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج66، ص97.
3 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص280، الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، 83، ابن الصباغ، علي بن محمد أحمد المالكي، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، تحقيق: سامي الغريري، قم، دار الحديث، مطبعة: سرور،1422هـ، ط1، ج1، ص35.
4 السيد هاشم البحراني، حلية الأبرار، تحقيق: غلام رضا مولانا البروجردي، قم ـ إيران، مؤسسة المعارف الإسلامية، 1411هـ، مطبعة: بهمن، ط1، ج1، ص91، العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج66، ص97.
5 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص280، ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، ص35، الشيخ الطوسي، الأمالي، ج2، ص83.
49
39
الدرس الثالث: البعثة والهجرة (2)
الله ورسوله، وآخرهم عهداً برسوله، لا يحبّك والذي نفسي بيده إلّا مؤمن قد امتحن قلبه للإيمان، ولا يبغضك إلّا منافق أو كافر"، ثمّ نزل قباء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار كلثوم بن الهدم1.
وبقي رسول الله بعد قدوم عليّ عليه السلام يوماً أو يومين، ثمّ أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وكان يوم الجمعة ـ أن يخطّ لمسجد قباء المعروف والذي نزل فيه قوله تعالى: ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى...﴾2 ، وكانت قبلته إلى بيت المقدس، فصلّى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الجمعة، ثمّ انطلق صلى الله عليه وآله وسلم على ناقته، والإمام عليّ عليه السلام بجانبه إلى يثرب، يحفّه المسلمون بالتكبير والتهليل، وكان كلّ مسلم يرغب بأن ينزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم داره، وانطلقت ناقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو واضع لها زمامها...، حتّى صارت بالقرب من باب أبي أيّوب خالد بن يزيد الأنصاريّ فبركت هنالك، فمكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنده شهراً، حتّى انتهى صلى الله عليه وآله وسلم من بناء المسجد وبناء داره، ودار الإمام عليّ عليه السلام3.
دوافع الهجرة
لم تكن الهجرة إلى المدينة ردّ فعل على اضطهاد قريش بل كانت فعلاً خطّط له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لتكون المدينة قاعدة ارتكاز للدعوة.
وأهمّ الدوافع التي أدّت للهجرة هي:
أولاً: إنّ مكّة لم تعد مكاناً صالحاً للدعوة، فقد حصل النبيّ منها على أقصى ما يُمكن الحصول عليه، ولم يبقَ بعدُ أيّ أمل في دخول فئات جديدة في الدين الجديد في المستقبل القريب على الأقل، خصوصاً بعدما نجحت قريش في وضع الحواجز والعراقيل الكثيرة أمام تقدّم هذا الدين وانتشاره، لذلك كان لا بدّ من الانتقال إلى مكان آخر ينطلق الإسلام فيه بحرّية بعيداً عن ضغوط قريش، وفي منأى عن مناطق سيطرتهم ونفوذهم.
1 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج1، ص183، المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي، إمتاع الأسماع، تحقيق وتعليق: محمد عبد الحميد النميسي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1420 - 1999م، ط1، ج1، ص48.
2 سورة التوبة، الآية 108.
3 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج1، ص183، ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص146.
50
40
الدرس الثالث: البعثة والهجرة (2)
وثانياً: إنّ الإسلام دين كامل ونظام شامل، يُعالج في تشريعاته جميع جوانب الحياة، وهو للبشرية جمعاء وما حصل عليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة بعد ثلاث عشرة سنة لا يُمكّنه من تطبيق كافّة تشريعات الإسلام، على البشرية كلّها، وتحقيق كامل أهدافه، ولا سيّما بالنسبة إلى ذلك الجانب الذي يُعالج مشاكل الناس الاجتماعية والسياسية وغيرها، ممّا يحتاج إلى بناء الدولة لنشر القانون والنظام وتطبيقهما، فكان لا بدّ من الانتقال إلى ساحة أخرى يستطيع النبيّ فيها إقامة الحكومة التي تضمن تطبيق النظام الإسلاميّ في الحياة وتحقيق أهدافه الكبرى ونشره في كافّة البلاد وإبلاغه إلى جميع العباد.
سرّ اختيار المدينة
كانت المدينة مهيأة جغرافياً واجتماعياً واقتصادياً لتكون قاعدة صلبة للإسلام:
1- فمن الناحية الجغرافية تبعد المدينة عن مكّة أكثر من أربعمائة كيلو متر، ممّا يجعلها بمأمن من هجمات قريش المفاجئة والمباغتة من جهة، ومن جهة أخرى هي قريبة من طريق تجارة مكّة الشام بحيث تمكّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من فرض سيطرته وممارسة نوع من الضغط السياسيّ والاقتصاديّ وحتّى العسكريّ على قريش في الوقت المناسب.
2- ومن الناحية الاجتماعية، فإنّ طول النزاع القبليّ بين سكّانها من الأوس والخزرج واليهود جعلها منطقة مفككة اجتماعياً، فكما أنّها لا تستطيع أن تتماسك أمام قوّة الإسلام، فإنها كانت تتطلّع إلى رجل تلتفّ حوله لينزع عنها إلى الأبد هذه العصبيات المستعصية.
3. ومن الناحية الاقتصادية تعتبر المدينة غنية بإمكانياتها الزراعية بما يمكّنها من المقاومة والاحتفاظ بنوع من الحياة في حال تعرّضت لضغوط اقتصادية من قبل المشركين وغيرهم.
أحداث وقعت في السنة الأولى للهجرة
1- انتشار الإسلام: في السنة الأولى للهجرة انتشر الإسلام انتشاراً واسعاً في يثرب.
51
41
الدرس الثالث: البعثة والهجرة (2)
ومن جملة من اعتنق الإسلام سلمان الفارسيّ1، وأصبح سلمان من كبار الصحابة ومن المقرّبين من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
2- عودة بعض المهاجرين من الحبشة: وبعد عدّة أشهر من وصول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أخذت طلائع مهاجري الحبشة تتوافد على المدينة بعد أن بلغهم نبأ الهجرة، ولم يصلوا جميعاً فقد مرّ بعضهم على مكّة، ومنهم من توجّه للمدينة وشهد معركة بدر. واستمرّت العودة من الحبشة بتقطّع إلى سنة سبع للهجرة، عندما قدم جعفر بن أبي طالب2.
3- التأريخ الهجريّ: بادر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وصوله إلى المدينة إلى العمل على تأريخ الحوادث، فابتدأ باستعمال التأريخ ابتداءً من يوم قدومه مهاجراً إلى المدينة حينما ورد إلى قباء، ثم أخذ المسلمون يؤرّخون بعد ذلك بالشهر والشهرين، فكانوا يؤرّخون بالأشهر إلى السنة الخامسة، ومنها يبدأون بذكر السنين3.
1 الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج1، ص151، الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص159.
2 ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين، فتح الباري شرح صحيح البخاري، بيروت، لبنان، دار المعرفة، ط2، ج7، ص145، ابن سعد، محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص139.
3 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج58، ص351، ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج6، ص206، الواقدي، محمد بن عمر بن واقد، المغازي، تحقيق: الدكتور مارسدن جونس، نشر دانش إسلامي، رمضان ،1405هـ، لا.ط، ج2، ص531.
52
42
الدرس الثالث: البعثة والهجرة (2)
المفاهيم الرئيسة
1- بعد أن عاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الطائف استأنف جهوده عند حلول موسم الحجّ متنقّلاً بين وفودها، حيث اجتمع بستّة من أهل يثرب في السنة الحادية عشرة من البعثة. وعندما حلّ موسم الحجّ في العام الثاني التقى صلى الله عليه وآله وسلم مع اثني عشر رجلاً من اليثربيين.
2- الهجرة إلى يثرب: وصل النبيّ مع قريش إلى طريق مسدود، فلم يبقَ جدوى مع هؤلاء القوم المتكبرين، فأمر المسلمين بالهجرة إلى يثرب باعتبارها المكان الآمن في الجزيرة.
3- لم يبق في مكّة سوى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام وعدد قليل من المسلمين وبعض النساء، وانتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإذن الإلهيّ بالهجرة.
4- مؤامرة قريش: أخبر الله تعالى رسوله الكريم بهذه المؤامرة، وأمره بالخروج ليلاً من مكّة وأن يجعل علياً عليه السلام مكانه ليبيت على فراشه من أجل التمويه والإيهام.
5- أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام بأن يبقى في مكّة وأن يقيم صارخاً يهتف بالأبطح غدوة وعشياً : ألا من كان له قِبَلَ محمّد أمانة أو وديعة فليأت فلتؤدّ إليه أمانته.
6- هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب حتّى وصل قباء وبنى فيها مسجداً، وانتظر وصول الإمام عليّ عليه السلام، ولمّا قدم الإمام عليّ عليه السلام والفواطم، دخل رسول الله يثرب.
7- دوافع الهجرة:
أولاً: إنّ مكّة لم تعد مكاناً صالحاً للدعوة الإسلامية.
ثانياً: إنّ الإسلام دين كامل ونظام شامل، يعالج في تشريعاته جميع جوانب الحياة، وهو للبشرية جمعاء.
8- سرّ اختيار المدينة: هناك عدّة أسباب ساعدت على اختيارها مقراً جديداً للدعوة: الأسباب الجغرافية والأسباب الاجتماعية والأسباب الاقتصادية.
9- أحداث وقعت في السنة الأولى للهجرة: انتشار الإسلام، بداية التأريخ الهجري، عودة بعض المهاجرين من الحبشة.
53
43
الدرس الثالث: البعثة والهجرة (2)
للمطالعة
دعائم النّظام النموذجيّ
قدِم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمإلى المدينة ليُقيم هذا النّظام ويعمل على تكامله ويجعله أنموذجًا إلى أبد الدّهر، وليقتدي به اللّاحقون على امتداد التاريخ، ممّن تتوفّر لديهم القدرة على إقامة نظامٍ مماثل له. وإنّ إيجاد مثل هذا النّظام يحتاج إلى دعائم عقائدية وإنسانية، فلا بدّ أوّلًا من وجود معتقدات وأفكار سليمة. وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك خلال فترة السّنوات الثلاث عشرة الّتي أمضاها في مكّة، ثمّ علّمها وفهّمها الناس بشكل متواصل طوال وجوده في مكّة.
وثانيًا: من الضروريّ وجود القواعد والدّعائم الإنسانيّة، لأنّ النّظام الإسلاميّ لا يقوم على فردٍ واحد. وقد باشر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإعداد هذه الرّكائز في مكّة وحقّقها. كان البعض من كبار الصّحابة، فيما كان البعض الآخر من الّذين إعدادهم في يثرب أمثال سعد بن معاذ وأبي أيّوب وآخرين، وذلك قبل هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كانت هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بمثابة نسائم ربيع عمّت أجواء المدينة فشعر أهلها كأنّ انفراجًا حلّ فيهم جذب القلوب وأيقظها. وعندما دخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة تبدّل ذلك الشّوق وذلك النّسيم إلى عاصفة ألهبت قلوب النّاس فغيّرتها. وسرعان ما نما لديهم الشّعور بأنّ جميع ما لديهم من عقائد وعواطف وروابط قبليّة وعصبيّات قد ذابت بطلوع محيّا هذا الرجل وسلوكه ومنطقه، وأشرفوا على نافذة جديدة تطلّ بهم على حقائق عالم الخلق والمعارف الأخلاقيّة... ومن العجائب الّتي حفلت بها حياته صلى الله عليه وآله وسلم هي أنّه، وطوال تلك السنوات العشر، لم يهدر لحظةً واحدة، فلم يُرَ صلى الله عليه وآله وسلم غافلًا عن إنارة مشعل الهداية والإيمان والتعليم والتربية ولو للحظةٍ واحدة، فلقد كانت يقظته ونومه ومسجده وداره ودخوله ساحة الحرب ومسيره في الطرقات والأسواق ومعاشرته لأسرته وكلّ وجوده أينما حلّ، درسًا1.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ص 31(بتصرف).
54
44
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الأعمال التي قام بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في تأسيس الدولة.
2- يلخّص سياسية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في نسج العلاقات مع القاطنين في المدينة.
3- يتعرّف إلى جهاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين خصوصاً في معركة بدر.
55
45
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
باشر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فور وصوله إلى المدينة المنوّرة بأعمال تأسيسية ترتبط ببناء المجتمع السياسيّ الإسلاميّ، وبمستقبل الدعوة الإسلامية، وأبرزها:
بناء المسجد
المسجد هو أوّل مركز عُنِيَ النبيّ بإنشائه، وقد كان مركزاً للعبادة، والتعليم، والحكم، والإدارة. فلم يكن لحكومة النبيّ مقرّ خاصّ، وكان المقرّ العامّ الوحيد في الدولة هو المسجد. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي بأصحابه في المِرْبَدِ1، كان اشتراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلممن أصحابه، وقام ببناء المسجد بذلك المكان، وقد نقلت حجارته من الحرّة2. وقد عمل بيده الشريفة إلى جانب المسلمين ممّا دفع أصحابه إلى الدأب في العمل. وقد شاركت النساء في بناء المسجد، فكن يحملن الحجارة ليلاً، بينما يقوم الرجال نهاراً بالبناء، حتّى أتموا بناءه، ثمّ بنيت مساكنه وبيوته ملاصقة للمسجد3.
تشريع الأذان
بعد الانتهاء من بناء المسجد جاء الوحي الإلهيّ بوسيلة دعوة الناس إلى الصلاة. ورغم اقتراح العديد من المسلمين لبعض الأساليب في دعوة الناس إلى الصلاة، إلا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يصدّ أحداً منهم، بل استمع إلى أقوالهم وآرائهم، ثمّ أخبرهم بالوحي الإلهيّ،
1 المربد: موضع نزول الإبل، وتجفيف التمور.
2 موضع الحجارة السود خارج المدينة.
3 الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج1، ص159، الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص81 ـ ص317، الشيخ الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، لا.ت، ط2، ج1، ص75.
57
46
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
وأن الأذان وحي من الله سبحانه وتعالى، وقد علّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام عليّ عليه السلام ثمّ أمره بأن يعلّم بلالاً، فدعا الإمام عليّ عليه السلام بلالاً فعلمه الأذان، ثمّ صعد بلال على أحد جدران المسجد ورفع الأذان لأول مرّة في الإسلام1.
المؤاخاة
أقدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على أوّل خطوة تنظيميّة للمجتمع الجديد هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وذلك في سبيل ترجمة الرؤية النظرية في الإسلام إلى واقع معاش، وفي سبيل التمهيد لولادة الأمّة الجديدة بتركيب مجتمعيّ ذي صيغة منسجمة متآلفة، وفي سبيل توكيد وحدة المسلمين والتغلّب على التناقضات الداخلية القائمة بين الأوس والخزرج، والتناقضات المتوقّعة بين المهاجرين والأنصار، وفي سبيل تحطيم الاعتبار الطبقيّ القبليّ، والاقتصاديّ، وعلاج مشكلة التفاوت في المستوى المعيشيّ، والتعبير العمليّ عن مبدأ المواساة والمساواة الإسلاميّ.
وكانت المؤاخاة بعد خمسة أو ثمانية أشهر من وصوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وقال لهم: "تآخوا في الله أخوين أخوين"2. وبعد أن آخى رسول الله بين المسلمين بقي الإمام عليّ عليه السلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما تركتك لنفسي، أنت أخي وأنا أخوك، فإنْ ذكرك أحد فقل: أنا عبد الله وأخو رسوله لا يدّعيها بعدك إلّا كذّاب، والذي بعثني بالحقّ ما أخّرتك إلّا لنفسي، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي وأنت أخي ووارثي"3. ثمّ أخذ بيده، وقال: "هذا أخي"، فآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين نفسه والإمام عليّ عليه السلام4.
1 العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، ج1، ص157، الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، 83.
2 ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص351.
3 القاضي النعمان المغربي، النعمان بن محمد، دعائم الإسلام، تحقيق : آصف بن علي أصغر فيضي، القاهرة، دار المعارف، 1383 - 1963م، لا. ط، ج2، ص477.
4 ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج7، ص211، المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي، إمتاع الأسماع، ج1، ص340، السيد ابن طاووس، علي بن موسى، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ص28.
58
47
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
الصحيفة
مع بداية الهجرة كان ثمّة خمس طوائف من السكّان في المدينة هم:
1- المهاجرون: الذين ضحّوا بوطنهم وأموالهم وعلاقاتهم طلباً للحرّية وحرصاً على دينهم، فهاجروا من مكّة إلى المدينة.
2- الأنصار: وهم سكّان المدينة الأصليون من قبيلتي الأوس والخزرج، الذين أحبّوا رسول الله ونصروه واتّبعوا النور الذي أُنزل معه.
3- المشركون: من قبيلتي الأوس والخزرج ومن قبائل عربية أخرى، وذكر منهم عشائر: خطمة بنو واقف، بنو سليم... وهؤلاء كانوا على الكفر أوّل الهجرة، وتأخّر إسلام كثير منهم إلى السنة الرابعة للهجرة.
4- المتهوّدون: وهم جماعة من الأوس والخزرج وغيرهما كانوا قد تهوّدوا، لمجاورتهم خيبر وقريظة والنضير.
5- اليهود الأصليون: (من أصل اسرائيليّ) الذين أتوا من فلسطين وسكنوا المدينة وضواحيها، وهم قينقاع، وقريظة، والنضير، ويهود خيبر.
وكان لا بدّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يسعى لتنظيم المجتمع الإسلاميّ في إطار دولة يحكمها القانون الإلهيّ، من أن يقوم بجملة من التدابير التنظيمية التي تجعل علاقات هذه الطوائف فيما بينها منضبطة في إطار القانون الجديد، فكانت وثيقة الصحيفة، التي وضعها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تضمّنت قواعد كلية وأسساً عملية في الحقوق والعلاقات، وقد بلغت 41 بنداً، من أهمها:
1- أنّ المسلمين أمّة واحدة من دون الناس رغم اختلاف قبائلهم وانتماءاتهم.
2- أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو قائد الأمّة ومركز السلطة في كلّ شيء.
3- أنّ مسؤولية دفع الظلم تقع على عاتق الجميع، ولا تختصّ بمن وقع عليه الظلم.
4- منحت الوثيقة المتهوّدين من الأنصار حقوقهم العامة كحقّ الأمن والحرية والمواطنة بشرط أن يلتزموا بقوانين الدولة وأن لا يفسدوا ولا يتآمروا على الإسلام والمسلمين.
59
48
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
موادعة اليهود
بعد إقرار الوثيقة السياسية الكبرى في المدينة، وقّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموادعة بينه وبين المتهوّدين من قبائل الأوس والخزرج. بقي اليهود الأصليون فشعروا بأنّهم قد عزلوا عن أنصارهم من المتهوّدين بعد توقيع الصحيفة، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلموطلبوا الهدنة، فكتب لهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بذلك على أن لا يعينوا عليه أحداً، ولا يتعرّضوا لأحد من أصحابه بلسان ولا يد، ولا بسلاح، لا في السرّ ولا في العلانية، فإن فعلوا فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حلّ من سفك دمائهم، وسبي ذراريهم ونسائهم وأخذ أموالهم، وكتب لكل قبيلة كتاباً على حدة1.
إعداد القوة العسكرية
أقدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على خطوةٍ أخرى على طريق بناء الدولة، وهي خطوة الإعداد العسكريّ وإعداد القوة البشرية المدرّبة، وإعداد السلاح والخيل وغير ذلك ممّا تحتاجه القوّة المسلحة، وذلك عملاً بقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ﴾2.
فقسم المسلمين في المدينة إلى عرافات، وجعل على كل عشرة عريفاً، وجعل من جميع الذكور البالغين جنوداً، وكوّن منهم الجيوش، والسرايا العسكرية.
وما يمكن استفادته من الروايات المتفرّقة فيما يتعلّق بتنظيم القوة العسكرية وإدارة المعارك الدفاعية في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الملامح التالية:
1- إنّ القرار العسكريّ الإستراتيجيّ والتكتيكيّ كان بيد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحده.
2- كان النبيّ يشكّل الجيش والوحدات العسكرية من الذكور البالغين. وكان يختار للجندية الذين بلغوا خمس عشرة سنة من العمر فقط.
3- التدريب: فقد كان شبّان المدينة المنورة يتدرّبون على استعمال السلاح، وفنون
1 ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص147، الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص666، ابن حنبل، أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج4، ص141.
2 سورة الأنفال، الآية 60.
60
49
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
القتال، وكان في المدينة مكان مخصّص للتدريب، وكان الإمام عليّ يعلّم الناس الرمي والقتال.
وقد كان هنالك الكثير من النظم العسكرية في سيرة النبيّ، من قبيل إحصاء عدد المسلمين لأغراض عسكرية، ومن قبيل التسليح العسكريّ والصناعات العسكرية، والتجسّس العسكريّ وغير ذلك من الملامح التي تكشف عن دقة التنظيم العسكريّ، الذي كان له دور كبير في تحقيق إنجازات عسكرية كبرى في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في فترة زمنية قصيرة نسبياً.
مواجهة التحدّيات
بعد أن استقرّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ورتّب أوضاعها الداخلية بدأت مرحلة الدفاع عن الإسلام والجهاد ضدّ القوى الجاهلية. وواجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عسكرياً ثلاث فئات من الأعداء هم:
1- المشركون (من قريش وغيرها من القبائل الأخرى).
2- اليهود.
3- النصارى (في حرب مؤتة وتبوك).
وللمؤرّخين اصطلاحان في تسمية المعارك التي خاضها المسلمون في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هما:
الغزوة: ويقصدون بها المعركة التي يحضرها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ويتولّى هو قيادتها.
السرية: وهي المجموعة الجهادية التي لا يكون فيها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويتولّى أحد أصحابه قيادتها.
وبلغت الغزوات والسرايا في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من ثمانين بين غزوة وسرية. وكلّها كانت في فترة ما بعد الهجرة.
السرايا وأهدافها
كانت أوّل سرّية بعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد سبعة أشهر من الهجرة هي سرية حمزة بن عبد المطلب لملاقاة بعض المشركين من قريش، لكن مجدي بن عمرو الجهني الذي كان موادعاً للطرفين، حال بينهما، فانصرفا من غير قتال.
61
50
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
كان الهدف من إرسال السرايا هو إرباك قريش وحلفاءها وإضعافهم وتحطيم معنوياتهم، وضرب نشاطهم التجاريّ الذي يمثّل عصب حياتهم وشريان وجودهم، وإنذار أعداء الدولة الناشئة من غير قريش وحلفائها كاليهود في الداخل وجماعات البدو في الخارج بأنّ المسلمين قادرون على الردّ ومستعدّون للتصدّي لأيّ عدوان يستهدف الإسلام وكيانه السياسيّ1.
وقد حقّقت هذه السرايا المنجزات التالية:
1- عقد تحالفات بين المسلمين وبين بعض القبائل الموجودة في المنطقة، بعدما شعرت تلك القبائل بقوة المسلمين وقدرتهم على التحرّك، وبتصميمهم على مواجهة حتّى قريش بالحرب.
2- التدريب على القتال في ظروف جديدة تختلف عن ظروف معارك الجاهلية، وفي إطار موازين قوى مادية ومعنوية مختلفة.
3- استطلاع المناطق المحيطة بالمدينة وما فيها من مسالك وطرق مواصلات ومصادر مياه.
4- تهديد قريش بالحصار الاقتصاديّ عن طريق جعل ممرّات تجارة قريش مع بلاد الشام مهدّدة وغير آمنة.
5- تثبيت هيبة الإسلام والمسلمين بين القبائل المجاورة للمدينة.
معركة بدر
كانت معركة بدر أول معركة مسلّحة كبرى خاضها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون في مواجهة المشركين من قريش، وذلك يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان المبارك في السنة الثانية من الهجرة، قرب بدر على بعد حوالي مائة وستين كيلو متراً من المدينة فيما بينها وبين مكّة المكّرمة.
1 للاطلاع على بعض السرايا، راجع: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص402، اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص70، ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص245، الواقدي، محمد بن عمر بن واقد، المغازي، ج1، ص10.
62
51
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه مستهدفين السيطرة على القافلة التجارية التي كان يقودها أبو سفيان، المتوجّهة من الشام إلى مكّة، لا طعماً في المال والغنيمة وإنّما بغية التعويض على المسلمين ممّا أخذه منهم المشركون، وفرض حصار اقتصاديّ على قريش، علَّ ذلك يدفعها إلى الامتناع عن محاربة الدعوة، والتآمر على الإسلام والمسلمين. وقد علم أبو سفيان بتحرّك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فغيّر طريقه، وأرسل إلى مكّة يطلب النجدة من قريش، فأقبلت قريش بأحقادها وكبريائها بألف مقاتل لحماية القافلة، وبدأت المعركة بالمبارزة ثمّ التحم الجيشان وهما غير متكافئين لا من حيث العدد ولا من حيث العتاد، ولكنّ الله أنزل الكثير من ألطافه ورحمته، فتدخّلت يد الغيب، وجاء الإمداد الملائكيّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فحقّق الله سبحانه النصر للإسلام والمسلمين، واندحرت قوّة قريش.
وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قيادة حكيمة لا نظير لها. وكان للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في هذه المعركة دور كبير، وظهرت شجاعته المتميزة بين صفوف المسلمين. ومن جهة أخرى أثبت المسلمون أنّهم أصحاب حقّ، وأنّهم يستطيعون الصمود في وجه أقوى العرب في ذلك الزمن وهي قريش1.
وقد أيدّ الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم والمسلمين بنصره حيث قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾2.
وكان المشركون يرون جيشاً صغيراً لا يملك شيئاً من العدّة، سوى الإيمان الراسخ، ينتصر على جيش يفوقه أضعافاً في العدد والعدة. وتشير الآية إلى حقيقة أنّ الله ينصر من يشاء. فمشيئة الله وإرادته لا تكون بغير حساب، بل هي تكون بموجب حكمته وفي حدود لياقة الأفراد، أي أنّ الله يؤيّد الذين يستحقّون ذلك.
1 الواقدي، محمد بن عمر بن واقد، المغازي، ج1، ص27، ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج14، ص85، ابن إسحاق، محمد بن إسحاق المطلبي، سيرة ابن إسحاق (السير والمغازي)، ج2، ص333.
2 سورة آل عمران، الآية 13.
63
52
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
والجدير بالذكر أنّ النصر الإلهيّ للمسلمين في الحادثة التاريخية كان ذا جانبين، فقد كان نصراً عسكرياً، ونصراً منطقياً. فمن الناحية العسكرية: انتصر جيش صغير مفتقر إلى المعدّات الحربية على جيش يبلغ أضعافه عدداً وإمكانات. ومن الناحية المنطقية: فإنّ الله كان قد أخبر المسلمين صراحة بهذا النصر قبل بدء الحرب، قال تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾1، وهذا ما نراه في الذين وُهِبوا البصيرة بحيث يرون الحقائق كما هي، يدركون أنّ أساس هذا الانتصار هو الإيمان وحده2.
ولعل أبرز نتائج هذه المعركة أنّها:
1- عزّزت ثقة المسلمين بأنفسهم، وثبّتت إيمان بعض المتردّدين في إسلامهم.
2- جعلت من المسلمين قوّة مرهوبة الجانب عند القبائل المشركة واليهود في المنطقة.
3- شجّعت الكثيرين على الدخول في الإسلام بعد أن كانت قريش تشكِّل الحاجز النفسي والماديّ لهم.
4- أضعفت هيبة قريش ونفوذها ومكانتها بين العرب.
5- فتحت الأبواب أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمفي الانطلاق بحرية أكبر في نشر الدعوة.
6- زادت من قوّة التضامن والتماسك بين المهاجرين والأنصار وعزّزت وحدتهم في مواجهة التحدّي.
الدروس المستفادة من معركة بدر
1- أنّ وحدة القيادة تمثل دوراً مهماً وبارزاً في المعركة، فقد كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو القائد العامّ للمسلمين في معركة بدر، وكان المسلمون يعملون كيد واحدة تحت قيادته.
2- أنّ القلّة المؤمنة المجاهدة الصابرة التي تملك إرادة قوية وعزيمة راسخة، وإخلاصاً، ووعياً، وتخطيطاً، تستطيع أن تحقّق الانتصارات والإنجازات الكبرى، يقول الله
1 سورة آل عمران، الآية 12.
2 الشيخ الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، لا.د، لا .ط، ج2، ص416، العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج19، ص202.
64
53
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ...﴾1.
3- أنّ النصر بحاجة إلى عنصر روحيّ معنويّ: هو الإيمان بالله، والإخلاص له، والاعتماد عليه، والثقة به.
4- انضباط المسلمين في تنفيذ أوامر قائدهم نموذج رائع للانضباط الحقيقيّ. ومعنى الانضباط هو إطاعة الأوامر وتنفيذها والقيام بالتكاليف المحدّدة بحرص وأمانة وعن طيبة خاطر.
1 سورة آل عمران، الآية 123.
65
54
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
المفاهيم الرئيسة
1- بناء المسجد: المسجد هو أوّل مركز عُنِيَ النبيّ بإنشائه. وقد عمل بيده الشريفة إلى جانب المسلمين رجالاً ونساءً.
2- تشريع الأذان: أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين أنّ الأذان وحي من الله سبحانه وتعالى، وقد علّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام عليّ عليه السلام ثمّ أمره بأنّ يعلّم بلالاً.
3- المؤاخاة: أقدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على أول خطوة تنظيمية للمجتمع الجديد هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وآخى رسول الله بينه وبين الإمام عليّ عليه السلام.
4- الصحيفة: سعى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لتنظيم المجتمع الإسلاميّ في إطار دولة يحكمها القانون الإلهيّ فقام بجملة من التدابير التنظيمية التي تجعل علاقات هذه الطوائف فيما بينها منضبطة في إطار القانون الجديد فكانت وثيقة الصحيفة.
5- موادعة اليهود: بعد توقيع الصحيفة، جاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطلبوا الهدنة، فكتب لهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً بذلك.
6- إعداد القوة العسكرية.
7- واجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث فئات من الأعداء هم:1. المشركون.2. اليهود. 3. النصارى.
8- السرايا وأهدافها:
• عقد تحالفات بين المسلمين وبين بعض القبائل المتواجدة في المنطقة.
• استطلاع المناطق المحيطة بالمدينة.
• تثبيت هيبة الإسلام والمسلمين بين القبائل المجاورة للمدينة.
9- معركة بدر: كانت معركة بدر أوّل معركة مسلحة كبرى خاضها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون في مواجهة المشركين من قريش. وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شجاعة لا نظير لها. وكان للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في هذه المعركة دور كبير، وظهرت شجاعته المتميّزة بين صفوف المسلمين، ومن جهة أخرى أثبت المسلمون أنّهم أصحاب حق، وأنّهم يستطيعون الصمود في وجه أقوى العرب في ذلك الزمن وهي قريش وأيد الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم والمسلمين بنصره. وكان للمعركة نتائج بارزة جداً كتثبيت قوة المسلمين وهيبتهم. ويمكن استفادة دروس كثيرة منها كوحدة القيادة وغيرها.
66
55
الدرس الرابع: بناء الدولة الإسلامية ــ ومواجهة التحديات (1)
للمطالعة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومواجهة التحديات
إنّ العمل المهمّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الدّعوة إلى الحقّ والحقيقة والجهاد في سبيل هذه الدّعوة. ولم يُبتلَ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأيّ تشويشٍ أو تردّد أمام الدنيا الظّلمانيّة في زمانه. سواءٌ في تلك الأيّام الّتي كان فيها في مكّة وحيدًا، أم في ذلك الجمع الصّغير من المسلمين الّذين أحاطوا به وفي مواجهة زعماء العرب فلم يستوحش. وقال كلمة الحقّ وأعادها وبيّنها وأوضحها وتحمّل الإهانات واشترى كلّ تلك الصعاب والآلام بالنّفس حتّى تمكّن من أسلمة عددٍ كبير منهم، أم في ذلك الوقت الّذي تشكّلت فيه الحكومة الإسلاميّة، وكان هو نفسه في موقع رئاسة الحكومة، وكانت السّلطة بيده. في تلك الأيّام أيضًا، كان هناك أعداءٌ ومخالفون متنوّعون يواجهون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، سواء تلك المجموعات العربية المسلّحة ــ البدو المتفرّقون في صحاري الحجاز واليمامة، والّتي كانت دعوة الإسلام تريد إصلاحهم وهم يقاومون - أم ملوك العالم وسلاطينه - القوّتان العظميان في ذلك الزّمان - أي إيران والإمبراطورية الرومانيّة، الّذين كتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجادلهم وتوجّه إليهم وجيّش الجيوش نحوهم، وعانى الصّعاب ووقع في الحصار الاقتصاديّ، حتّى وصل الأمر إلى حدّ أنّه كانت تمرّ على أهل المدينة عدّة أيّام أحيانًا، لا يجدون فيها خبز يومهم. لقد كانت التهديدات الكثيرة تُحيط بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من كلّ حدبٍ وصوب. كان بعض النّاس يقلقون، وبعضهم يتزلزلون، وبعضهم يتذمّرون، وبعضهم يلوم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمويحثّه على التنازل، إلّا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يتردّد أو يضعف في ميدان الجهاد هذا، وتقدّم بالمجتمع الإسلاميّ بكلّ اقتدار حتّى أوصله إلى أوج العزّة والقدرة. هذا هو النّظام والمجتمع، الّذي استطاع ببركة صمود النبيّ في ميادين الجهاد والدعوة، أن يصبح القوّة الأولى في العالم في السنوات التالية1.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ص 21 (بتصرف).
67
56
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يستنتج أبرز النتائج والعبر من معارك أحد والخندق وحنين وفتح مكة.
2- يطلع على كيفية مواجهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لخطط اليهود.
3- يتعرف على بيعة الغدير والوصية الأخيرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
69
57
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
معركة أحد
استمرّت أحداث بدر ومعركتها التاريخية تتفاعل حقداً وكيداً في نفوس المشركين في مكّة. ولم يكن لدى أبي سفيان، قائد الشرك والعدوان آنذاك، غير التفكير بالحرب ومعاودة الهجوم على المسلمين بدافع الثأر، وتحقيق نصر عسكريّ يغيِّر الآثار النفسية والإعلامية التي أنتجتها معركة بدر.
دقّ المشركون طبول الحرب، وزحفوا باتّجاه المدينة. وكان عددهم ثلاثة آلاف مقاتل. وعرف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمسيرهم من خلال عيونه في مكّة. وبعد أن استشار أصحابه في سبل التصدّي، قرّر مواجهة العدوّ خارج المدينة، فخرج صلى الله عليه وآله وسلم في نحو ألف مقاتل، ثمّ تراجع عدد المسلمين إلى سبعمائة بسبب تراجع المنافقين بقيادة عبد الله بن أبيّ بن سلول عن القتال، والتقى الفريقان عند جبل أُحد على بُعد بضعة كيلومترات من المدينة، في شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة.
رسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خارطة المعركة، وحدّد مواقع جيشه، فوضع الرماة عند فتحة في الجبل، وكان عددهم خمسين رجلاً، ليوفّر حماية خلفية للجيش الإسلاميّ، وبدأت المعركة، وكان النصر حليف المسلمين في الجولة الأولى، فاستولت قواتهم على ساحة المعركة، وانهزم العدو، وبدأ المسلمون بجمع الغنائم، فاستهوت الغنائم نفوس بعض الرماة، فتركوا مواقعهم، واندفعوا نحوها، ممّا أحدث ثغرة في صفوف المجاهدين، استغلها خالد بن الوليد فهاجم المجاهدين من خلفهم تسبّب هذا الهجوم ببعثرة الجيش الإسلامي وانهزامه أمام المشركين الذين استعادوا أنفاسهم بعدما تمكّن خالد بن الوليد من قتل القلة التي بقيت على الجبل والالتفاف على المسلمين المنشغلين بجمع الغنائم، وصرخ صارخ: "إن محمداً قد قتل"، فتشتّت المسلمون تحت وقع المباغتة وتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يثبت معه غير علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي راح يقاتل إلى جانب رسول صلى الله عليه وآله وسلم قتالاً شديداً ويصدّ
71
58
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
كتائب المشركين ويفرّقهم ويقتل فيهم، عندها نادى جبرائيل عليه السلام من السماء: "لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ"1.
ولمّا رأى المسلمون صبر وثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام بدأوا يعودون تدريجياً إلى ميدان المعركة، وتمكّنوا من صدّ هجمات المشركين المتواصلة، وأدرك المشركون استحالة إبادة المسلمين وتفتيتهم وتحقيق انتصار عليهم، وكانوا قد أصابهم التعب والجراح، فآثروا الانسحاب عائدين إلى مكّة دون تحقيق أهدافهم2.
معركة الخندق
توالت غزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لبعض قبائل العرب واليهود بعد معركة بدر وأحد، ممّا أثار مخاوف اليهود وإحساسهم بالخطر من تعاظم قوّة المسلمين، فاندفعوا للتآمر على الإسلام ونبيّه العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، وراحوا يحرّضون أعداء الإسلام ويخطّطون لتكوين تجمّع عسكريّ هائل لمهاجمة المدينة والقضاء على الإسلام.
لقد اتّصل اليهود بقريش وغطفان واتّفقوا معهم على مهاجمة المدينة، إلاَّ أنّ أنباء هذه المؤامرة تسرَّبت إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فشاور أصحابه، فاستنفر المسلمون لحفر الخندق حول المدينة وشارك هو صلى الله عليه وآله وسلم بعملية الحفر.
وتأهّبت أحزاب الكفر والضلال من قريش وغطفان وبعض القبائل المعادية، وجمعوا رجالهم وأنصارهم ومن تابعهم، فكان تعداد جيشهم عشرة آلاف مقاتل نزلوا قرب المدينة، بينما كان عدد المسلمين تسعمائة مقاتل تعبأوا خلف الخندق بقوّة وشجاعة3.
وقد ساهمت ثلاثة عناصر أساسية في تحقيق الثبات والنصر في هذه المعركة، هي:
1 محمد بن سليمان الكوفي، مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، قم المقدسة، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، محرم الحرام 1412، ط1، ج1، ص495، القاضي النعمان المغربي، النعمان بن محمد، شرح الأخبار، تحقيق: السيد محمد الحسيني الجلالي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المشرفة، 1414، ط2، ج2، ص381.
2 ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج3، 106، الواقدي، محمد بن عمر بن واقد، المغازي، ج1، ص199، الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص186، ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج1، ص191.
3 ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي، السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، بيروت - لبنان، دار المعرفة، 1396 - 1976م، لا.ط، ج3، ص180، البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ج3، ص20، الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر، مجمع الزوائد، ج9، ص345، المسعودي، على بن الحسين ، التنبيه والإشراف، ص115.
72
59
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
1- التخطيط العسكريّ الذي تمثَّل بحفر الخندق، حيث ساهم الخندق في حماية المسلمين والمدينة، وفي حرمان العدوّ من سرعة الحركة.
2- العمل الاستخباريّ الفعَّال الذي قام به رسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث أدّى إلى إضعاف جبهة الأحزاب وتضعضعها.
3- الدور البطوليّ الذي قام به علي بن أبي طالب عليه السلام. وقد وصف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم موقف عليّ عليه السلام يوم الخندق بقوله: "مبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة"1.
صلح الحديبية
عزّزت الأحداث والمعارك التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعداء الإسلام من المشركين واليهود موقف المسلمين، وغرست هيبتهم في النفوس، فقرّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يسير بأصحابه إلى مكّة ليزور البيت الحرام ويعتمر بعد أن رأى في المنام أنّه يدخله هو وأصحابه آمنين من غير قتال كما يشير قوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾2.
توجّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ما يقرب من ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار نحو مكّة في ذي القعدة في السنة السادسة من الهجرة، وهم يحملون السلاح، وقد ساقوا معهم سبعين بدنة هدياً لتنحر في مكّة.
وتناهى الخبر إلى قريش ففزعت وظنّت أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد الهجوم عليها، فجهّزت نفسها وأرسلت سرية بقيادة خالد بن الوليد كمقدّمة لجيشها، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خبر قريش واستعدادها لقتاله. ولكي يتجنّب المواجهة حيث لم يكن هدفه الحرب غيَّر مسيره وسلك طريقاً غير الطريق الذي سلكته قريش، حتّى استقرَّ في وادي الحديبية.
بعدما حطَّ جيش المسلمين في الحديبية بدأت رحلة التفاوض بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقريش، فبعثت قريش عدّة مندوبين على التوالي للتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واستيضاح أهدافه،
1 السيد ابن طاووس، علي بن موسى، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ص514.
2 سورة الفتح، الآية 27.
73
60
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
فأبلغهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بجواب واحد: "إنّا لم نجيء لقتال ولكنّا جئنا معتمرين"1. وبعد تعثّر المفاوضات أكثر من مرّة أرسلت قريش سهيل بن عمرو سفيراً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وجرت مفاوضات أدّت إلى الاتّفاق على وثيقة، وكان من أبرز بنودها:
1- اتّفق الطرفان على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض.
2- من أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه رَدّهُ عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه.
3- من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده (أي يتحالف معه) كان له ذلك، ومن أحبَّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم كان له ذلك أيضاً من غير حرج عليه من أحد الطرفين.
4- أن يرجع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمن معه هذا العام على أن يأتي في العام القادم فيدخل مكّة ويقيم فيها ثلاثة أيام، ولا يدخل عليها بسلاح إلاَّ سلاح المسافر، السيوف في القُرب.
5- أن يكون الإسلام ظاهراً بمكّة، لا يكره أحد على دينه، ولا يؤذى ولا يُعيَّر.
6- لا إسلال (سرقة) ولا إغلال (خيانة) بل يحترم كل طرف أموال الطرف الآخر، فلا يخونه ولا يعتدي عليه بسرقة.
7- أن لا تعين قريش على محمّد وأصحابه بنفس ولا سلاح.
وبموجب هذه المعاهدة تحالفت خزاعة مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتحالفت كنانة مع قريش2.
فتح مكّة
بعد مرور نحو السنتين على صلح الحديبية أقدمت قريش على نقضه وذلك عندما انضمّت
1 القاضي النعمان المغربي، النعمان بن محمد، شرح الأخبار، ج1، ص108، الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث، بيروت ـ لبنان، دار المفيد، 1414 - 1993م، ط2، ج1، ص202، الواقدي، محمد بن عمر بن واقد، المغازي، ج2، ص587.
2 القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار، ص108، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج1، ص202، الواقدي، ج2، ص573، الحلبي، المناقب، ج1، ص202، الشيخ المفيد، الإرشاد، ج1، ص121، ابن حجر، الإصابة، ج3، ص199، ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج3، ص324، الطبرسي، مجمع البيان، ج9، ص178، الواقدي، المغازي، ج2، ص587.
74
61
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
إلى حلفائها من قبيلة كنانة التي أقدمت على مهاجمة خزاعة حليفة المسلمين مخالفةً بذلك الهدنة القائمة بين الطرفين بموجب الصلح، فاستنصرت خزاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وشعرت قريش بخطورة المجازفة، وقرّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التوجّه إلى مكّة لمواجهة قريش، فاستنفر أصحابه وجهّز جيشاً من عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وغيرهم من القبائل.
وقرّر أن يتحرك سراً ليباغت قريشاً. تحرّك جيش المسلمين في العاشر من شهر رمضان المبارك سنة ثمان للهجرة سراً، حتّى وصل إلى مشارف مكّة وطوَّقها.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكّة بتلك الحشود التي تنساب خلفه فاتحاً من غير قتال، فلمّا انتهى إلى الكعبة.
واستطاع في موقف إنسانيّ نبيل أن يستميل أهل مكّة، وهم الذين وقفوا ينتظرون حسابهم، فإذا به صلى الله عليه وآله وسلم يعفو عنهم ويقول لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"1.
أهم الحروب ضدّ اليهود
أ - غزوة بني قينقاع:
إنّ ممارسات اليهود قد هيّأت الجوّ للتخلّص من بغيهم وإفسادهم ومكرهم على مراحل. وكان أوّل ما قام به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمهو مواجهة بني قينقاع وإجلاؤهم عن المدينة المنورة، والسبب في ذلك هو: أنهم كانوا يسكنون داخل المدينة وفي حيّ من أحيائها، وكانوا أول من غدر وخان من اليهود، خصوصاً بعدما قتلوا أحد المسلمين الذي استغاثت به إحدى نساء المسلمين، ولم يبقَ أمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أن يقاتلهم، فسار إليهم، وكان عددهم حوالي سبعمائة مقاتل، وسلم الراية لعلي عليه السلام، وحاصرهم في حصنهم خمس عشرة ليلة أشدّ حصار، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فاستسلموا، وطلبوا من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمأن يخلي سبيلهم وينفيهم من المدينة، على أن يكون لهم نساؤهم والذرية، وله أموالهم والسلاح، فقبل منهم ذلك، وأخذ أموالهم وأسلحتهم ووزّعها بين المسلمين، وطردهم من المدينة إلى أذرعات بالشام، ويقال: إنّه لم تدر عليهم السنة حتّى هلكوا جميعاً2.
1 ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج4، ص321، الواقدي، محمد بن عمر بن واقد، المغازي، ج2، ص782، ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة،ج1، ص41.
2 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج1، ص92، الواقدي، محمد بن عمر بن واقد، المغازي، ج1، ص363.
75
62
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
ب- غزوة بني النضير:
عمد بنو النضير إلى الكيد سراً والتدبير للغدر بالنبيّ واغتياله، وقد شرعوا في تنفيذ ذلك، وعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فقرّر إجلاؤهم عن مواضعهم بعد أن ظهر للعيان فسادهم، فأنذرهم في البداية بأن يخرجوا من حصونهم وينزحوا من يثرب في مدّة عشرة أيام، ولكنّهم رفضوا الإذعان واحتموا في حصونهم فأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقطع نخيلهم وحرقها، ولعل النخيل الذي أُحرق كان ذلك الذي يعيق حركة القتال. ويظهر أن قطع النخيل وإحراقه، كان سبباً في تسرّب اليأس إلى قلوبهم، فاختاروا الإذعان لحكم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، خاصّة بعد أن تمكن علي بن أبي طالب عليه السلام من قتل عشرة من فرسانهم، فطلبوا منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجليهم ويكفّ عنهم على أنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلاّ السلاح، فرضي النبيّ بذلك، فحملوا من أموالهم ما استقلّت به الإبل، وكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعير وينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام1.
د- معركة خيبر:
كان يهود خيبر من أقوى الطوائف اليهودية في بلاد الحجاز وأكثرهم عدداً وعدّة وأمنعهم حصوناً، وكان يهود خيبر ممّن حرّض القبائل العربية ضدّ المسلمين في غزوة الخندق، وقد بذلوا الأموال في ذلك، فقرّر رسول صلى الله عليه وآله وسلم العزم على غزوهم في حصونهم ومعاقلهم المنيعة في خيبر، وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة. فجمع صلى الله عليه وآله وسلم جيشه وتكتّم على مسيره، وخرج من المدينة في ألف وستمائة مقاتل من المسلمين، وأعطى رايته لعليّ عليه السلام، وسلك طرقاً تحفظ سرية تحرّكه، فلم يشعر اليهود إلاّ وجيش المسلمين قد نزل بساحتهم ليلاً، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد وعده الله بالنصر وأن يردّه إلى المدينة فاتحاً غانماً.
وحين فوجئوا بقوات المسلمين، تشاوروا فيما بينهم واتّفقوا على القتال فأدخلوا نساءهم وأولادهم وأموالهم في بعض الحصون، وأدخلوا ذخائرهم في حصون أُخرى. وبعد محاولات عديدة من قبل المسلمين لاقتحام الحصن فلم يتمكّنوا من ذلك، عندها رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطي رايته لعلي عليه السلام حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله
1 ابن سعد، محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج2، ص28، ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج1، ص165، الواقدي، محمد بن عمر بن واقد، المغازي، ج1، ص135.
76
63
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
ويحبّه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، كراراً غير فرار"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً، وهو أرمد، فتفل في عينيه، ثمّ قال: "خذ هذه الراية، فامض بها حتى يفتح الله عليك"1.
فخرج عليّ عليه السلام ومعه المقاتلون المسلمون فدار قتال بينهم وبين اليهود على أبواب الحصن، وقتل علي عليه السلام مرحباً وهو من أبطال اليهود وصناديدهم، فاستولى الخوف على اليهود والتجأوا إلى الحصن وأغلقوا بابه، وكان من أمنع الحصون وأشدّها وقد حفروا حوله خندقاً يتعذّر على المسلمين اجتيازه، فاقتلع علي عليه السلام باب الحصن، وجعله جسراً فعبر عليه المسلمون، فاستسلموا وطلبوا العفو من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمفأجابهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك بعد أن استولى على أموالهم، وتمّ الاتفاق بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمعلى أن تبقى الأرض في أيديهم يعملون فيها بنصف الناتج والنصف الأخر للمسلمين2.
هـ- يهود فدك:
لما سمع يهود فدك القرية اليهودية المجاورة لخيبر بما حلَّ برفاقهم في خيبر بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلميعلنون رغبتهم في المصالحة على مناصفة أراضيهم، فوافق صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وصالحهم على نصف ناتج الأرض، فكانت خيبر ملكاً للمسلمين لأنّه استولى عليها بالحرب، وفدك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصّة لأنّه تملكها بالصلح، وقد وهبها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة الزهراء عليها السلام في حياته، وسلّمها إيّاها وجعلت عمّالها فيها وصارت هي المشرفة على أعمالها وعلى ناتجها. وكانت تصرف ناتجها على فقراء بني هاشم وحسبما تشاء3.
حجّة الوادع وبيعة غدير خمّ
عندما حان موعد الحجّ من العام العاشر للهجرة، أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه سيحجّ بنفسه في الناس هذا الموسم، فاجتمع إليه الناس من كلّ مكان، ثمّ ما لبث أن غادر المدينة
1 المسعودي، على بن الحسين ، التنبيه والإشراف، 222، ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج3، ص344، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج1، ص207.
2 ابن سعد، محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج2، ص90، الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام، تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1364ش، ط3، ج4، ص148.
3 ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج2، ص90، ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج30، ص300، الخرائج والجرائح، ج1، ص113، النووي، شرح مسلم، ج12، ص28، الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج4، ص148، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص37.
77
64
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
في الخامس والعشرين من ذي القعدة مصطحباً معه نساءه وابنته فاطمة الزهراء عليها السلام.
ولمّا أتمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجّه خرج من مكّة متّجهاً إلى المدينة ومعه تلك الوفود التي لم تشهد لها مكة نظيراً في تاريخها آنذاك. ولما انتهى إلى مكان قريب من الجحفة يقال له غدير خمّ، وقبل أن يتفرّق الناس كلٌ إلى ناحيته، نزل في ذلك المكان في الصحراء وكان يوماً قائظاً شديد الحرارة. بعد أن نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...﴾1.
أمر صلى الله عليه وآله وسلم بدوحات فجمعت له ووقف عليها حتّى يراه الناس ويسمعوه، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال كما في (البداية والنهاية): "كأنّي دُعيت فأجبت، إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض"، ثمّ قال: "الله مولاي وأنا وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة"، وأخذ بيد علي عليه السلام وقال: "من كنت مولاه فهذا عليّ وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه"، وأضاف إلى ذلك في (البداية والنهاية)، أن الرواي قال قلت لزيد بن أرقم: أنت سمعته من رسول الله؟ فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا رأه بعينه وسمعه بأذنيه.
وروى المفيد في كتاب الإرشاد عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن انتهى من خطابه أفرد لعليّ عليه السلام خيمة وأمر المسلمين بأن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك كلّهم، وأمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين ممّن معه أن يفعلن ذلك، وقال له عمر بن الخطاب يوم ذاك: بخ بخ لك يا عليّ أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
الوصية الأخيرة
لما قربت الوفاة من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مكث ثلاثة أيام موعوكاً، ثمّ خرج إلى المسجد معصوب الرأس معتمداً على أمير المؤمنين عليه السلام وعلى الفضل بن العبّاس، حتّى صعد المنبر فجلس عليه ثم قال: "معاشر الناس، قد حان منّي خفوف من بين أظهركم، فمن كان له عندي عِدَةٌ فليأتني أُعطه إياها، ومن كان له عليَّ دينٌ فليخبرني به. معاشر الناس، ليس
1 سورة المائدة، الآية 67.
78
65
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
بين الله وبين أحد شيء يُعطيه به خيراً أو يصرف به عنه شراً إلّا العمل. أيّها الناس، لا يدّعي مُدّعٍ، ولا يتمنّى مُتمنٍّ، والذي بعثني بالحقّ لا ينجي إلّا عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت، اللهمّ هل بلّغت"1.
ثمّ نزل فصلّى بالناس صلاة خفيفة ودخل بيته.
وجاءه بلال والمرض قد اشتدّ به عند طلوع الفجر فنادى للصلاة، فقام صلى الله عليه وآله وسلموهو لا يستقلّ على الأرض من الضعف، فأخذ بيده عليّ عليه السلام والفضل بن العبّاس فاعتمد عليهما، ورجلاه تخطّان الأرض من الضعف، وابتدأ الصلاة، ومكث فترة من الزمن مغمى عليه، فبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وابنته عليها السلام ونساء المؤمنين وجميع من حضر2.
وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
كانت الساعات الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شديدة على المسلمين لشعورهم بفراقه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي اليوم التالي حُجب الناس عنه، وكان عليّ عليه السلام لا يفارقه إلّا لضرورة، فلمّا حضره الموت قال له: "ضع يا عليّ رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله تعالى، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثمّ وجّهني إلى القبلة، وتولّ أمري، وصلّ عليَّ أوّل الناس، ولا تفارقني حتّى تواريني في رمسي، واستعن بالله تعالى".
فأخذ عليّ عليه السلام رأسه ووضعه في حجره، ففاضت نفسه الشريفة وهو إلى صدره عليه السلام. وكانت وفاته يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة، وهو ابن ثلاث وستّين سنة3.
1 ابن حنبل، أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج1، ص325، الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، ص37، ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج8، ص101.
2 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص459، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج1، ص267، ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج10، ص179.
3 الشيخ المفيد، الأمالي، ص23، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج10، ص179، الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص459، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج1، ص267، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج1، ص203.
79
66
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
المفاهيم الرئيسة
1- قام المشركون بقرع طبول الحرب فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمواجهتهم راسماً خارطة المعركة، انهزم العدو إلا أنّ بعض الرماة تركوا مواقعهم، مما أحدث ثغرة في صفوف المجاهدين، فاستغلّها المشركون وقاموا بالالتفاف على المسلمين، فتفرق الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم عادوا بعدما رأوا ثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام.
2- تآمر اليهود على الإسلام ونبيّه واتّفقوا مع قريش وبعض القبائل العربية، فحشدا للمعركة، وتجهز المسلمون لها جيداً، وكان الدور البطوليّ الذي قام به الإمام علي عليه السلام الأثر البالغ في النصر.
3- صلح الحديبية: قرّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يسير إلى مكّة ليزور البيت الحرام ويعتمر. وتناهى الخبر إلى قريش، فأرسلت وفداً، ولكي يتجنّب المواجهة حيث لم يكن هدفه الحرب جرت مفاوضات أدّت إلى الاتّفاق على وثيقة عرفت بصلح الحديبية.
4- بعد صلح الحديبية أقدمت قريش على نقضه من خلال مهاجمة خزاعة حليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فاستنصرت خزاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستنفر أصحابه وجهّز جيشاً دخل مكّة، واستطاع صلى الله عليه وآله وسلم استمالة أهل مكّة وهو يقول لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
5- حاولت قبيلة هوازن وثقيف مواجهة المسلمين، فعلم النبيّ بذلك، انطلق راجعاً، وفي الطريق اجتاز المسلمون وادي حنين، ففاجأهم أعداؤهم بهجوم مباغت ولم يثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير الإمام عليّ عليه السلام ثم بادر المسلمون للعودة حتى انتصروا.
6- واجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اليهود في عدّة معارك، وهي: غزوة بني قينقاع، غزوة بني النضير، غزوة بني قريظة، معركة خيبر، يهود فدك.
7- وكانت في العام العاشر للهجرة، أعلن رسول الله أنّه سيحجّ فغادر المدينة في الخامس والعشرين من ذي القعدة مصطحباً معه نساءه وابنته فاطمة الزهراء عليها السلام وبدأت أعمال والتعاليم التي بعث من أجلها.
8- لمّا أتمّ رسول الله حجّه خرج من مكّة متّجهاً إلى المدينة، وصل إلى غدير خم، جمع رسول الله المسلمين، وبعد أن أوصى بالقرآن والعترة من أهل بيته، أوصى بالولاية والخلافة لأمير المؤمنين عليه السلام من بعده.
80
67
الدرس الخامس: بناء الدولة الإسلامية ومواجهة التحديات (2)
للمطالعة
اليهود في يثرب
كان لهؤلاء اليهود ثلاث مزايا:
أوّلها: سيطرتهم على الثروات الأساس في المدينة، وعلى أهمّ مزارعها وتجارتها ومنافعها، وعلى أهمّ صناعاتها الّتي تدرّ الأرباح وهي صناعة الذهب وغيرها. وكان أغلب أهل المدينة يرجعون إليهم لسدّ حوائجهم والاستقراض منهم وتسديد الربا إليهم، أي أنّهم كانوا يقبضون على كلّ شيء من الناحية المالية.
والثانية: تفوّقهم على أهل المدينة من الناحية الثقافيّة، فهم كانوا أصحاب كتاب وعلى اطّلاع على مختلف المعارف والعلوم الدينيّة والمسائل الّتي تجهلها عقول أهل المدينة ذات الطّبيعة شبه البدائيّة. من هنا كانت لهم الهيمنة الفكريّة. وإذا ما أردنا وصفهم وفقًا للمصطلحات المعاصرة فبإمكاننا القول بأنّهم كانوا يُشكّلون طبقة مثقّفة، لذلك كانوا يستحمقون أهل المدينة ويسخرون منهم ويُحقّرونهم. بالطّبع، كانوا يتصاغرون في المواطن التي كانوا يدركون فيها الخطر أو عند الضرورة، غير أنّ التفوّق كان لهم في الحالات الطبيعية.
الثالثة: اتّصالهم بالمناطق النائية عن المدينة، فلم يتقوقعوا داخل حدود المدينة. لقد كانوا يُمثّلون واقعًا قائمًا في المدينة، لذا كان على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يضعهم في الحسبان، فأوجد صلى الله عليه وآله وسلم ميثاقًا جماعيًّا عامًّا. ولدى ورود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة اتّضح أنّ قيادة مجتمعها منحصرةٌ به صلى الله عليه وآله وسلم من دون أن يبرم عقدًا أو يطلب شيئًا من النّاس أو أن يدخل في مباحثات مع أحد، أي إنّ الشّخصيّة والعظمة النبويّة أخضعت الجميع لها بشكلٍ طبيعيّ. لقد تجلّت قيادته وجعلت الجميع يتحرّكون ويُبادرون حول محوريّتها1.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ص35.
81
68
الدرس السادس: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1)
الدرس السادس: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرف إلى سيرة الإمام عليّ عليه السلام.
2- يفهم مراحل حياة الإمام عليّ عليه السلام في ظلّ الإسلام عليه السلام.
3- يتعرّف إلى إنجازات الإمام عليّ عليه السلام في عهد الخلفاء وأيّام حكمه.
83
69
الدرس السادس: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1)
سيرة مشرقة
أولاً: لمحة تاريخية
ولد الإمام عليّ عليه السلام في مكّة في البيت الحرام عندما شُقّ جدار البيت لفاطمة بنت أسد ودخلت إليه، وبقيت ثلاثة أيام ثمّ خرجت. وكانت ولادته يوم الجمعة، 13 من شهر رجب، بعد عام الفيل بثلاثين سنة.
وكانت شهادته ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان سنة40هـ، وهو ابن ثلاث وستّين سنة، قتله عبد الرحمن بن ملجم وهو يُصلّي في مسجد الكوفة، ودُفن في النجف الأشرف.
وتسلّم خلافة الرسول بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمدّة 29 سنة تقريباً من سنة11هـ إلى سنة40هـ، فكان أول الأئمّة وكان من ألقابه: سيّد الأوصياء، أمير المؤمنين، الصدِّيق الأكبر، الفاروق الأعظم، قسيم الجنّة والنار، وغيرها، وأمّا كنيته: أبو الحسن.
عاصر الإمام عليّ عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان بجواره منذ ولادته، وتربّى بين يديه. وتسلّم الخلافة لمدّة خمس سنوات تقريباً، وأوصى من بعده لابنه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام1.
وكان له سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى: الإمام الحسن والإمام الحسين وزينب الكبرى وزينب الصغرى المكنّاة أم كلثوم، أمّهم السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام.
ومحمد المكنّى أبو القاسم، أمّه خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية، وعمر ورقية، وأمّهما أم حبيب بنت ربيعة، والعبّاس وجعفر وعثمان وعبد الله، أمّهم أمّ البنين بنت حزام بن خالد بن دارم2، وغيرهم الذين لم نذكر أسماءهم.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص292.
2 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج1، ص354، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد، ص18.
85
70
الدرس السادس: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1)
وعمل أمير المؤمنين عليه السلام على تربية ثلّة من المؤمنين الشرفاء الأوفياء، نذكر منهم على سبيل المثال: مالك الأشتر، كميل بن زياد النخعي، الأصبغ بن نباتة، أويس القرني، الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني، حُجر بن عدي الكندي، رشيد الهجري، زيد بن صوحان العبدي، سليمان بن صرد الخزاعي، سهل بن حنيف، عبدالله بن عباس، عمرو بن الحمق الخزاعي، وغيرهم الكثير1.
ثانياً: الولادة والتربية
ولد الإمام علي عليه السلام بعد ثلاثين عاماً من ولادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عمره لمّا بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرة أعوام، وعاش الإمام علي عليه السلام خلال هذه المرحلة وهي الفترة الحسّاسة لتكوين شخصيّته وتربيته روحيّاً ومعنويّاً في بيت الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وفي ظلّ تربيته، وذلك بعدما أصابت قريشاً أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرين، فتفرّق أبناء أبي طالب بين إخوته إلا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ عليّاً فضمّه إليه، فلم يزل عليّ عليه السلام مع رسول الله في بيته حتّى بعثه الله نبيّاً، فاتّبعه عليّ فأقرّ به وصدّقه2. وأشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أنّ الله تعالى قد اختار له علياً3 ـ وقد أشار الإمام علي عليه السلام في الخطبة القاصعة إلى هذه الفترة وقال: "وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه ويمسّني جسده، ويشمُّني عرفه. وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه...، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به"4.
1 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، تحقيق: جواد القيومي الإصفهاني، قم المقدسة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، رمضان المبارك 1415، ط1، ص55، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
2 يراجع: ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص262، الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص213، ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج13، ص119.
3 أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، مقاتل الطالبيين، تقديم وإشراف: كاظم المظفر، قم - ايران، ملاحظات: مؤسسة دار الكتاب، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها - النجف الأشرف، 1385 - 1965م، ط2، ص15.
4 صبحي الصالح، نهج البلاغة،، الخطبة: 192.
86
71
الدرس السادس: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1)
ثالثاً: الإمام عليّ عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء1
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يُبعث يتعبّد في غار حراء شهراً في كلّ عام2. وأشارت الروايات إلى أنّ رسول الله كان يأخذ عليّاً معه إلى غار حراء للعبادة أيضاً. وقد شاهد الإمام عليّ عليه السلام علائم وإشارت النبوّة، وروي عنه أنه قال: "ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري...، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك لوزير وإنّك لعلى خير"3.
مراحل حياة الإمام علي عليه السلام في الإسلام
أولاً: من البعثة إلى هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة
استغرقت هذه الفترة ثلاثة عشر عاماً. وتشتمل هذه الفترة الزمنية على مجموعة كبيرة من الأعمال العظيمة والبارزة التي قدّمها الإمام عليه السلام في سبيل ازدهار ورفعة الإسلام.
أ- أوّل من أسلم:
إنّ أُولى مفاخر الإمام عليّ عليه السلام في هذه المرحلة هي سبقه في الإسلام وتقدّمه على غيره من العرب، لطهارة روحه وصفاء نفسه وبغضه لعبادة الشرك والأوثان، فقد كان مؤمناً موحداً4، وأكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك فقال: "أوّلكم وروداً عليّ الحوض أوّلكم إسلاماً علي بن أبي طالب"5. ويقول الإمام عليه السلام: "ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوة"6.
1 حراء جبل يقع في شمال مكة، وغار حراء يقع في قمته.
2 ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص252.
3 نهج البلاغة، الخطبة: 192.
4 الموفق الخوارزمي، بن أحمد البكري المكي الحنفي، ص18.
5 ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص28، ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج13، ص119.
6 نهج البلاغة، الخطبة 192.
87
72
الدرس السادس: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1)
ب- مساندة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:
لم يفارق الإمام عليّ عليه السلام رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ ولادته. وتأكّد هذا الترابط الوثيق بعد بزوغ فجر الإسلام. وكان الإمام عليّ عليه السلام يدعو الناس للإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فترة الدعوة السرية لمدّة ثلاث سنوات، وكان يدافع عنه ويقف في وجه المعارضين له، إلى أن أُمِر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة قومه إلى دين الله فأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمعلياً عليه السلام بأن يعدّ وليمة غداء ويدعو خمسة وأربعين وجيهاً من وجهاء بني هاشم إليها وأن يعد طعاماً من اللحم مع اللبن... وبعد حضورهم في الموعد المحدّد وتناول طعامهم افتتح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلمته قائلاً: "إنّي واللّه ما أعلم أنّ شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصييّ وخليفتي فيكم؟" فلم يجبه أحد فنهض الإمام علي عليه السلام ـ ولم يتعدّ عمره 14 عاماً1 إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كرّر ذلك ثلاثاً ليلقي الحجة على القوم، وكان يقوم علي عليه السلام مجيباً، فقام رسول الله فضرب بيده على يد علي وقال في حقّه وبحضور وجهاء بني هاشم المقولة الشهيرة: "هذا عليٌّ أخي ووصيّي وخليفتي فيكم"2.
ث. التضحية الكبيرة:
اجتمع المشركون في دار الندوة وقرّروا قتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على أن يشترك من كلّ قبيلة رجل شاب، وفي هذه الحالة لن يكون القاتل واحداً ولن يستطيع بنو هاشم الأخذ بثاره، لأنّهم يعجزون عن محاربة جميع القبائل ويرتضون لا محالة بقبول الفدية وتنتهي المسألة. اختارت قريش لتنفيذ خطّتها الليلة الأُولى من ربيع الأوّل. وقد ذكر الله تعالى فيما بعد خطتهم وقال: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾3.
1 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج13، ص234 ـ 235.
2 الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص217، ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج13، ص211.
3 سورة الأنفال، الآية 30.
88
73
الدرس السادس: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1)
فأطلع ملك الوحي رسول الله على ذلك، وأبلغه أمر الله بأن يترك مكّة ويتّجه نحو يثرب. واختار سول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام عليّاً عليه السلام، لكي يبيت على فراشه، وقال: "امضِ إلى فراشي ونم في مضجعي والتفّ في بردي الحضرميّ ليروا أنّي لم أخرج"1 فأطاع عليّ ما أُمِر به. وحاصر جلاوزة قريش ومرتزقتهم بيت رسول الله وداهموه بسيوف مسلولة، فنهض عليٌّ من الفراش2.
وقد خلّد القرآن المجيد تضحية عليّ عليه السلام فقال عزوجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾3. قال المفسّرون: قد نزلت هذه الآية في التضحية العظيمة لعليّ عليه السلام ليلة المبيت4.
ثانياً: من هجرة الرسول إلى وفاته صلى الله عليه وآله وسلم
أ- عليّ عليه السلام أخو رسول الله:
لمّا دخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة قرّر أن يُبرم عقد الأُخوّة بين المهاجرين والأنصار من المسلمين، فآخى بين المسلمين جميعاً. وبعد أن حصل كلّ واحد على أخيه من الحاضرين جاء عليّ عليه السلام وكان قد بقي وحده إلى رسول الله والدموع تفيض من عينيه وقال: "ما آخيت بيني وبين أحد" قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أنت أخي في الدنيا والآخرة"5، ثمّ آخى بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبين علي عليه السلام6.
1 ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص124 ـ 128، الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج1، ص30.
2 ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2، ص 124 - 128, ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 102، 1399هـ. ق. بيروت، دار صادر, الشيخ المفيد الإرشاد، ص 30, الحاكم النيسابوري المستدرك على الصحيحين، اج 3، ص 4، بيروت، دار المعرفة, الطبري، تاريخ الأُمم والملوك، ج 2، ص 244، بيروت، دار القاموس الحديث.
3 سورة البقرة، الآية 207.
4 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص262، الشيخ المظفر، محمد حسن المظفر، دلائل الصدق لنهج الحق، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، دمشق، 1422هـ، ط1، ج2، ص80.
5 الحاكم النيسابوري، محمد بن عبدالله، المستدرك على الصحيحين، إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، لا.ت، لا.ط، ج3، ص14.
6 ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص35.
89
74
الدرس السادس: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1)
ب ـ جهاد الإمام عليّ عليه السلام:
شارك الإمام عليّ عليه السلام في جميع غزوات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلا غزوة تبوك للظروف الحرجة والحسّاسة التي كانت تُنذر بتدبير مؤامرة من قِبَل المنافقين عند غياب رسول الله عن مركز الحكومة الإسلامية، وبقي فيها بأمر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ونعرض دور عليّ عليه السلام في ثلاث ساحات من ساحات الجهاد:
في غزوة بدر: كان رسول الله قد علم بأنّ هناك قافلة تجارية لقريش يترأّسها أبو سفيان آتية من الشام تريد مكّة، وحيث إنّها تمرّ من طريق على مقربة من المدينة انطلق رسول الله مع أصحابه المهاجرين والأنصار باتّجاه بدر.
فاستنجد أبو سفيان فقرّرت قريش المواجهة فانطلقت باتّجاه المدينة. وانتهت الحرب بهزيمة ساحقة لجيش المشركين لدرجة أنّه قد أُسر سبعون منهم، وكان قد هلك أكثر من نصف المقتولين بضربات سيف علي عليه السلام في هذه الحرب. وقد ذكر المرحوم الشيخ المفيد ثلاثة وثلاثين شخصاً من قتلى المشركين في غزوة بدر وكتب: "وقد أثبتت رواة العامّة والخاصّة معاً أسماء الذين تولّى أمير المؤمنين قتلهم ببدر من المشركين سوى من اختلف فيه وأشرك هو فيه غيره"1.
د- غزوة أُحد:
بعد هزيمة قريش في معركة بدر، ولأجل تعويض هذه الخسارة والهزيمة الكبيرة، قرّروا أن يُهاجموا المدينة، فعلم رسول الله بذلك، وبعد التشاور قرّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مواجهة قريش في وادي جبل أحد. ووضع خمسين رامياً، وأمرهم بأن لا يتركوا المكان، وبعد بدء المعركة وميل الحسم لصالح المسلمين وبدأت قريش بالفرار، دخل الغرور قلوب أولئك فنزلوا لجمع الغنائم، فقام المشركون بالالتفاف على المسلمين ومحاصرتهم، فانهزم المسلمون، ولاذوا بالفرار، واستشهد نحو سبعين مقاتلاً، واشتدّ القتال، ولم يبقَ في الميدان سوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام ومن لحق بهما بعد الفرار، فأبصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من المشركين، فقال لعلي: احمل عليهم ففرّقهم وقتّل فيهم، ثمّ أبصر جماعة أُخرى فقال له: احمل عليهم،
1 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج1، ص39.
90
75
الدرس السادس: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1)
فحمل عليهم وفرّقهم وقتل فيهم، فقال جبرائيل: يا رسول الله هذه المواساة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّه منّي وأنا منه"1، فقال جبرائيل: وأنا منكما، قال فسمعوا صوتاً يقول: "لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي"2.
هـ. في غزوة الأحزاب (الخندق):
عندما أُعلم رسول الله بانطلاق قريش باتّجاه المدينة، شكّل صلى الله عليه وآله وسلم لجنة عسكرية للتشاور، فاقترح سلمان الفارسي أن يحفر خندق من الجهة الأضعف في المدينة، فقبل المسلمون بذلك، وأشار سلمان لأهمية هذا العمل لأنه كان يعمل في بلادهم، وقاموا بحفر الخندق، والتحضير الكامل للمعركة. وصل جيش الأحزاب، وقد أثارت رؤية خندق عميق عريض حول منافذ المدينة دهشتهم، لأنّه لم يسبق للعرب أن استخدمته في حروبها، فاضطرّوا إلى محاصرة المدينة من وراء الخندق، وحاول خرق الخندق أكثر من مرّة من خلال خمسة أبطال من جيش الأحزاب استعرضوا قوّتهم بخيولهم حول الخندق واخترقوه من خلال منفذ ضيّق وصاروا إلى جانبه الآخر وطلبوا المبارزة من أقرانهم. وبعد أن عبروا الخندق رفع "عمرو" صوته بنداء هل من مبارز؟ وحينما لم ينهض أحد من المسلمين لمواجهته، تجرّأ أكثر واستهزأ بعقائد المسلمين وقال: تقولون إنّ من يُقتل منكم في الجنّة ومن يُقتل منّا في النار، فهل من أحد أُرسله إلى الجنّة أو يُرسلني إلى النار؟ ثم ّ أنشد أشعاراً كان منها:
ولقد بُححت من النداء لجمعكم هل من مبارز
وكان كلّما يرتفع نداء "عمرو" للمبارزة كان عليٌّ عليه السلام هو الوحيد الذي يقوم ويستأذن الرسول ليذهب إلى ساحة القتال، غير أنّه صلى الله عليه وآله وسلملم يكن يوافق. وقد تكرّرت هذه الحالة ثلاث مرّات، وفي المرّة الأخيرة التي استأذن عليّ عليه السلام فيها قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّه عمرو بن عبد ود" فقال عليّ: "وأنا عليّ"3.
1 ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، بيروت، دار صادر، 1386 - 1966م، لا.ط، ج2، ص154.
2 م.ن.
3 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج13، ص284.
91
76
الدرس السادس: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1)
وفي النهاية وافق نبيّ الإسلام وأعطاه سيفه وألبسه عمامته، وحين انطلق عليٌّ عليه السلام إلى ساحة القتال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "برز الإسلام كلّه إلى الشرك كله"1.
انطلق عليّ عليه السلام راجلاً نحو عمرو، وقال حينما واجهه: "إنّك كنت تقول في الجاهلية لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلّا قبلتها" قال: أجل، قال عليه السلام: "فإنّي أدعوك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وتُسلم للّه ربّ العالمين". قال: يا ابن أخي أخّر هذا عنّي, قال: "فأُخرى ترجع إلى بلادك، فإن يكن محمد صادقاً كُنتَ أسعد الناس، وإن غير ذلك كان الذي تُريد" قال: هذا ما لا تتحدّث به نساء قريش أبداً، وقد نذرت ما نذرت وحرّمت الدهن, قال: "فالثالثة البراز" فضحك عمرو وقال: إنّ هذه الخصلة ما كنتُ أظنّ أن أحداً من العرب يرومني عليها، إنّي لأكره أن أقتل مثلك وكان أبوك لي نديماً، فارجع فأنت غلام حَدَث... قال الإمام علي عليه السلام: "فأنا أُحبّ أن أقتلك".
غضب عمرو من قول عليّ، ونزل عن فرسه بكبرياء، وعقلها، وتقاتلا قتالاً شديداً، فأنزل عمرو ضربة قاصمة على رأس علي، فدفعها بترسه، فصار نصفين، وجرُح رأسه عليه السلام. ثمّ استغلّ علي الفرصة وضربه ضربة قوية، فألقاه صريعاً، وكانت الغبرة المثارة تمنع من رؤية القتال فسُمع التكبير ودبّ الفرح في قلوب المسلمين2.
عندها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام في ذلك اليوم: "لو وزن اليوم عملك بعمل جميع أُمّة محمّد، لرجح عملك على عملهم، وذاك أنّه لم يبق بيت من المشركين إلّا وقد دخله ذلّ بقتل عمرو ولم يبق بيت من المسلمين إلّا وقد دخله عزّ بقتل عمرو"3.
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج20، ص215.
2 الواقدي، محمد بن عمر بن واقد، المغازي، ج2، ص471، ابن هشام، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج3، ص236، ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، ج2، ص181، الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج1، ص54.
3 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج20، ص216.
92
77
الدرس السادس: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1)
المفاهيم الرئيسة
1- ولد الإمام في جوف الكعبة في بيت الله، وكانت شهادته في بيت الله في مسجد الكوفة.
2- وعاش الإمام علي عليه السلام خلال هذه المرحلة وهي الفترة الحساسة لتكوين شخصيته وتربيته روحياً ومعنوياً في بيت الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلموفي ظل تربيته، وقد كان يتردّد معه إلى غار حراء.
3- كان الإمام عليه السلام أوّل من أعلن إسلامه وصلى خلف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الوحيد الذي يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويردّ كيد قريش.
4- آخاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلمولم يؤاخِ غيره.
5- شارك عليه السلام خلال حياته مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمبغزوات ومعارك كثيرة، أبرزها غزوة بدر وأحد والأحزاب.
6- الغزوة الوحيدة التي لم يشارك فيها عليه السلام في زحف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هي غزوة تبوك.
93
78
الدرس السادس: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1)
للمطالعة
المراحل الأربعة لمسيرة الإمامة - 1 -
ظهرت مسيرة الإمامة منذ اليوم الأوّل لرحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم واستمرّت حتّى عام وفاة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، ويمكن تقسيمها لأربع مراحل:
الأولى: مرحلة السكوت:
تميّزت هذه المرحلة بأنّ المجتمع الإسلاميّ الحديث الولادة والفتيّ كان محفوفًا بأعداءٍ مقتدرين تربّصوا بالإسلام من الخارج، وكلّ ثغرة في جسد الأمّة كانت تُشكّل تهديدًا لأساس المجتمع الإسلاميّ. ومن جانبٍ آخر، لم يكن منحنى انحراف الواقع عن الحقيقة كبيرًا، وامتدت هذه المرحلة لـ 25 سنة هي حياة الإمام عليّ عليه السلام منذ وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عام 11 للهجرة ــ حتّى تولّيه الخلافة ــ سنة 35 للهجرة. وقد شرح الإمام موقفه في هذه المرحلة من خلال الكتاب الّذي وجّهه إلى أهالي مصر، عبر مالك الأشتر عندما ولاّه إمارتها، حيث جاء فيه: "فأمسكت يدي، حتّى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلمًا أو هدمًا تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، فنهضت في تلك الأحداث"1.
إنّ حياة أمير المؤمنين عليه السلام في هذه السنوات الـ 25 لهذه المرحلة، تحكي عن التدخّل الفعّال والدّعم والعون الناتج من الحرص الكبير على الإسلام ومجتمع المسلمين. إنّ أجوبة وإرشادات هذا الإمام لخلفاء زمانه، فيما يتعلّق بالقضايا السّياسيّة والاجتماعيّة وغيرها، قد نُقلت في نهج البلاغة وغيرها من كتب الحديث والتّاريخ، وهي شاهدة على عدم تردّده في هذا النهج2.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 نهج البلاغة، كتاب 62.
2 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ص68.
94
79
الدرس السابع: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2)
الدرس السابع: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يحلِّل دور الإمام عليّ عليه السلام في مرحلة الخلفاء.
2- يعرف الملامح العامة لدولة الإمام عليّ عليه السلام.
3- يحلِّل أسباب ونتائج معارك الإمام عليّ عليه السلام الثلاث.
95
80
الدرس السابع: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2)
وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقضية الخلافة
لم يكن في العالم الإسلاميّ شخص يفوق مستوى الإمام علي عليه السلام في الفضل والعلم والجهاد في سبيل الله تعالى، وفي كافة الصفات الإنسانية العالية سوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولهذا نُصّب عليه السلام من قِبَل رسول الله وبأمره تعالى في مناسبات عديدة لقيادة المسلمين وخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأهمّها هو ما حدث في الغدير. ومن هنا كان من المتوقّع أن يتولّى الإمام عليّ عليه السلام الخلافة وقيادة المسلمين غير أنّه لم يحدث ذلك من الناحية العملية، بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأُقصي علي عليه السلام عن الساحة السياسية ومركز القرار في قيادة المجتمع الإسلاميّ.
وقد أشار الإمام عليه السلام في كثير من المناسبات إلى صبره على هذه القضية بدافع الحفاظ على الإسلام، ومنها ما قاله في بداية تسلّم عثمان السلطة: "لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري، وواللّه لأسلمنّ ما سلمت أُمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلّا عليّ خاصة"1.
ويذكر الإمام علي عليه السلام في خطبة الشقشقية هذا المفترق الصعب والحسّاس والخيارين المصيريّين وسبب اختياره للخيار الثاني بهذا النحو: "فَسَدَلْتُ دُونَها ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْها كَشحاً، وطَفِقْتُ أرتَئي بَين أن أصولَ بيد جَذّاء، أو أصْبِرَ على طَخية عمياء، يَهْرَمُ فيها الكَبير وَيشيبُ فيها الصَغير، ويَكْدَحُ فيها مؤمِنٌ حَتّى يَلقى ربَّهُ، فَرَأيْتُ أنَّ الصَّبرَ على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العَيْنِ قَذى وَفي الحَلْقِ شَجى، أَرى تُراثي نَهباً"2.
1 نهج البلاغة، الخطبة: 74.
2 م.ن، الخطبة: 3.
97
81
الدرس السابع: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2)
دور أمير المؤمنين عليه السلام في زمن الخلفاء
تركّزت نشاطات الإمام في هذه الفترة على الأُمور الآتية:
1- الإجابة عن شبهات وتساؤلات علماء الأديان العالمية لا سيّما اليهود والنصارى منهم الذين كانوا يتوافدون إلى المدينة للبحث والاستقصاء حول دين النبيّ بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم وما كانوا يجدون من يجيب عن تساؤلاتهم سوى الإمام علي عليه السلام الذي بدت معرفته بالتوراة والإنجيل واضحة من خلال كلامه معهم. ولولا أنّ علياً ملأ هذا الفراغ لكان المجتمع الإسلاميّ يغطّ في انتكاسة كبيرة.
2- عندما كان أهل الخلافة يصلون إلى طريق مسدود في القضايا السياسية وبعض القضايا والمشاكل الأُخرى كان الإمام عليه السلام المستشار الوحيد والمعتمد الذي يُعالج المشاكل بموضوعية. ويشهد التاريخ بأنّ أبا بكر وعمر كانا يراجعان الإمام في القضايا السياسية والدينية وتفسير القرآن والأحكام الفقهية للإسلام طيلة فترة خلافتهما. وسنشير إلى مثال واحد فقد وقعت في السنة الرابع عشرة من الهجرة حرب طاحنة بين جيش الإسلام وجيش الفرس في القادسية، وانتهت بانتصار المسلمين وقتل "رستم فرّخ زاد" القائد العامّ للقوات الفارسية مع مجموعة من المقاتلين، وانضمّ بهذا الانتصار جميع أرجاء العراق إلى لواء الإسلام، واستولى المسلمون على المدائن التي كانت مركزاً للملوك الساسانيين وتراجع قادة الجيش الفارسيّ إلى داخل أراضيهم.
وخشي المستشارون والعسكريون الفرس من أن يزحف الجيش الإسلاميّ إلى داخل أراضيهم ويستولي على جميع أرجاء البلاد بالتدريج. ولأجل مواجهة هذا النوع من الهجوم الخطير أعدَّ "يزدجرد" ملك فارس جيشاً قوامه مائة وخمسون ألف مقاتل بقيادة "فيروزان" حتّى يصدّ أي هجوم مفاجئ، وإذا ساعدت الظروف يبدأ هو بالهجوم. وكتب سعد بن أبي وقاص القائد العامّ للقوات الإسلامية رسالة إلى عمر يُطلعه فيها على احتشاد العدوّ واستعداده واقترح مباغتة العدوّ بالحرب لإرعابه.
دخل الخليفة المسجد واستدعى كبار الصحابة، وأطلعهم على ما ينويه من ترك المدينة
98
82
الدرس السابع: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2)
والانطلاق نحو مكان بين البصرة والكوفة. وبعد كثرة المداولات، قام أمير المؤمنين عليه السلام وقال: "إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلّة وهو دين الله الذي أظهره وجنده الذي أعدّه وأمدّه حتّى ما يبلغ وطلع حيثما طلع ونحن على موعود من الله واللّه منجز وعده وناصر جنده، ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمّه، فإذا انقطع النظام تفرّق الخرز وذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب، فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك".
"إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك وطمعهم فيك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإنّ الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأمّا ما ذكرت من عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنّما كنا نقاتل بالنصر والمعونة"1.
استجاب عمر لكلام الإمام بعد سماعه ولم يذهب2. ونظراً لهذه المعالجة والحلول قال عمر: أعوذ بالله من مشكلة ليس لها أبو الحسن3.
من الخلافة إلى الشهادة
بعد فترة وجيزة من تولّي الخليفة الثالث عثمان بن عفان الخلافة ثارت جماعة من الناس على حكومته، واستمرّ حراك الناس حتّى قُتل عثمان، وكانت خلافته قد استمرت نحو اثني عشر عاماً. وكان الناس في هذه المدة يعيشون حالة من الفوضى والضياع، وخلالها كان أصحاب الثورة يراجعون الإمام غير أنّه كثيراً ما كان يُبعد نفسه عن الأنظار، وحيث إنّهم كانوا يطالبونه بقبول بيعتهم وهو ما يزال يرى الظروف غير مناسبة لقبول الخلافة وأنّ
1 نهج البلاغة، الخطبة: 146.
2 ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، ج3، ص8، الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص273، ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج7، ص107.
3 ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص39.
99
83
الدرس السابع: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2)
الحجّة لم تتمّ عليه بهذا الاقتراح قال: "دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإنّ الآفاق قد أغامت والحجّة قد تنكّرت، واعلموا أنّي وإن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم منّي أميراً"1. وحيث قد كثر توافد المسلمين على الإمام عليه السلام وازدحامهم عليه واكتظّت داره بهم وازداد إصرارهم عليه، شعر بالمسؤولية ولم ير بدّاً من قبول البيعة. وتحدّث الإمام في خطبة أخرى عن إقبال الناس عليه بحرارة وسرور وعن أسباب قبول الخلافة قائلاً: "... فما راعني إلّا والناس كعرف الضبع إليّ ينثالون عليّ من كلّ جانب حتى لقد وطئ الحسنان2، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أُخرى وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. بلى واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها، أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز"3.
معالم حكومة الإمام عليّ عليه السلام
على الرغم من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد واجه عقبات في أيّام خلافته إلاّ انّه استطاع بلا شكّ أن يطرح نموذجاً ناجحاً للحكومة وفق تعاليم الإسلام ومعاييره والتي نذكر بعضها بإيجاز:
1- أشار الإمام علي عليه السلام إلى أنّ فلسفة قبوله للخلافة هي لأجل إجراء العدالة الاجتماعية في المجتمع على كافة المستويات لا سيما الاقتصادية، والاستفادة من الإمكانات العامة، ومكافحة الفوارق الطبقية الكبيرة في المجتمع.
1 نهج البلاغة، الخطبة: 92.
2 نص كلام الإمام هو (وطئ الحسنان) الذي قد يعني: الحسن والحسين، ولكن قد فسّر البعض الحسن بالابهام، ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص200.
3 نهج البلاغة، الخطبة: 3.
100
84
الدرس السابع: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2)
2- إنّ رؤية الإمام علي عليه السلام للحكم تتلخّص في أنّ الحكم والمنصب ليس إلّا وسيلة لخدمة الناس وإحقاق الحقّ ودحض الباطل، لا أنّه طعمة تدرّ الأرباح. وقد التزم الإمام بهذا المنهج إلى أبعد الحدود، حتّى تراه يجتنب عن إعطاء المهام الحسّاسة كالولاية وبيت المال إلى المتعطّشين للسلطة وكسب المال.
3- لقد عاش الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عند تصدّيه للخلافة غاية الزهد والبساطة في الحياة، كما كان يوصي عمّاله بالاعتدال والعزوف عن زخارف الدنيا وزبرجها. وهذه الخصوصية أي عزوفه عن زخارف الدنيا هي من أبرز خصائصه الذاتية وسيرة حكمه.
4- إنّ المعيار الذي أكّد عليه الإمام عليه السلام في انتخاب الولاة والعمّال، هو أن تكون لهم سوابق في الإسلام، وتقوى، وكفاءة في إدارة سدّة الحكم، والتزام بقيم الإسلام وغيرها من المعايير. والشيء الذي لم يخطر ببال الإمام أبداً هو القرابة والعشيرة، كما يتّضح ذلك حينما نصب (51) شخصاً كولاة وممثّلين عنه في الولايات والإمارات المختلفة، فتجد فيهم من المهاجرين والأنصار، وأهل اليمن، والهاشميّ وغير الهاشميّ، والعراقيّ والحجازيّ، الشابّ والكهل، ولا تجد في هذه القائمة أثراً لأسماء الحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية وعبد الله بن جعفر (زوج زينب عليها السلام). وعلى الرغم من أنّ الإمام عليه السلام كان ينصب عمّالاً وولاة صالحين وكفوئين إلّا أنّه في الوقت نفسه كان يجعل عليهم عيوناً لمراقبة تحرّكاتهم. ومن أبرز تلك النماذج كتاب تقريع بعثه الإمام عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاريّ عامله على البصرة وقد بلغه أنّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها1.
5- لم يكن الإمام يعتقد - وخلافاً لمعظم الزعماء والرؤساء - بأنّ الغاية تُبرّر الوسيلة، ولم يتوصّل إلى أهدافه المقدّسة النبيّلة بوسائل غير مشروعة قطّ، كما يظهر من جوابه لمّا عوتب على التسوية في العطاء وتصييره الناس أسوة فيه من غير تفضيل
1 نهج البلاغة، الكتاب: 45.
101
85
الدرس السابع: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2)
أصحاب السابقات والشرف: "أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه؟، والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السماء نجماً. ولو كان المال لي لسوَّيت بينهم، فكيف وإنّما المال مال الله؟"1.
القتال في ثلاث جبهات
حمّلت خلافة الإمام عليه السلام وقيادته - التي ساد فيها العدل وإحياء المبادئ والقيم الإسلامية الأصيلة - أصحابه عبأ ثقيلاً ما أدّى إلى تشكيل خطٍّ معارض لحكومته، وانتهت هذه المعارضات إلى حدوث ثلاث حروب مع الناكثين والقاسطين والمارقين، وهي:
قتال الناكثين: وقد كان سبب هذه الحرب مع الناكثين (ناقضي العهد) هو أنّ طلحة والزبير اللّذين بايعا الإمام علياً قد طلبا منه أن يولّيهما أعمال البصرة والكوفة، ولكن الإمام رفض ذلك، فتركا المدينة سرّاً والتجآ إلى مكة وجيّشا جيشاً بأموال بيت المال المختلس من قبل بني أُمية وانطلقا نحو البصرة واستوليا عليها. فتحرّك الإمام علي عليه السلام تاركاً المدينة لمعالجة أمر الناكثين، فحدثت حرب طاحنة قرب البصرة انتهت بانتصار الإمام عليّ وهزيمة الناكثين، وهذه هي حرب الجمل التي لها مساحة كبيرة في التاريخ، والتي اندلعت سنة 36 هجرية.
قتال القاسطين: كان معاوية قد أعدّ ومنذ فترة سبقت خلافة الإمام علي عليه السلام مقدّمات الخلافة لنفسه في الشام، وما إن تسلّم الإمام الخلافة حتّى عزل معاوية عن الشام ولم يرض أن يقرّه عليها لحظة واحدة. وكان حصيلة هذا النزاع أن تقاتل جيش العراق وجيش الشام في أرض تُدعى صفّين. وكان الانتصار لجيش الإمام علي عليه السلام لولا خديعة معاوية برفع المصاحف بإشارة من عمرو بن العاص التي أحدثت تمرّداً في جيش الإمام. وفي النتيجة وبعد الاضطراب الكبير في جيش الإمام علي عليه السلام وافق على التحكيم، وكان من جهته أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص من جهة معاوية لكي ينظرا في مصالح الإسلام والمسلمين.
1 نهج البلاغة، من كلام له عليه السلام لما عوتب على التسوية في العطاء، 126.
102
86
الدرس السابع: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2)
وتذكر الكثير من المصادر التاريخية أنّ ما حصل داخل جيش الإمام علي عليه السلام من البلبلة والاضطراب ما أدّى إلى انشقاق الصفّ والتقاتل ووقوع المسلمين في أزمة كبيرة لا تحمد عقباها. وبعد أن حان موعد إعلان رأي الحكمين خدع عمرو بن العاص أبا موسى وهو ما أدّى إلى إفشاء خطة معاوية الشنيعة بين الجميع، وبعد ذلك خرج بعض من المسلمين الذين كانوا في صفّ الإمام عليه وانتقدوه لقبوله التحكيم الذي فرضوه هم أنفسهم عليه. وقد حدث قتال القاسطين عام 37 هجرية.
قتال المارقين: والمارقون هم أُولئك الذين أصرّوا على قبول التحكيم، وندموا بعد عدّة أيام على ذلك، وطلبوا منه أن ينقض العهد من جهته، غير أنّ الإمام عليه السلام لم يكن بذلك الشخص الذي ينقض عهده، ولهذا خرجوا على الإمام ووقفوا ضدّه وقاتلوه في النهروان وقد عُرفوا بالخوارج لذلك. وانتصر الإمام في هذه الحرب، غير أنّ الأحقاد ظلّت دفينة في النفوس. اندلعت هذه الحرب في سنة 38، وعلى رأي بعض المؤرّخين في سنة 39 هجرية.
103
87
الدرس السابع: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2)
المفاهيم الرئيسة
1- قدّم الإمام عليّ عليه السلام حفظ أمور المسلمين على تسلّم مقاليد الخلافة مع تأكيده على حقّه. وقد أشار في كثير من المناسبات إلى صبره على انحراف الخلافة الإسلامية كما يظهر من كلامه في الخطبة الشقشقيّة.
2- تركّزت نشاطات الإمام عليه السلام في زمن الخلفاء على أمور منها:
• الإجابة عن شبهات وتساؤلات علماء الأديان العالمية كاليهود والنصارى.
• كان المستشار الوحيد والمعتمد الذي يعالج المشاكل السياسية وغيرها خاصة لدى أبي بكر وعمر ما أدّى إلى حفظ الأمّة من الضياع.
3- بُويع عليه السلام من قبل الناس بعد أن أثار عثمان غضبهم جرّاء فساده الماليّ والإداريّ، وتصرّفه غير الشرعيّ في أموال المسلمين وثاروا عليه وقتلوه.
4- أشار عليه السلام إلى أن فلسفة قبوله للخلافة هي لأجل إجراء العدالة الاجتماعية.
5- تتلخّص رؤيته عليه السلام للحكم في أنّ الحكم ليس إلا وسيلة لخدمة الناس.
6- عاش عليه السلام عند تصدّيه للخلافة غاية الزهد والبساطة في الحياة.
7- المعيار الذي اعتمده في تنصيب الولاة هو التقوى والكفاءة والالتزام.
8- قاتل الناكثين (طلحة والزبير وغيرهما) والقاسطين (معاوية) والمارقين (الخوارج).
104
88
الدرس السابع: الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2)
للمطالعة
المراحل الأربعة لمسيرة الإمامة - 2 -
المرحلة الثانية: هي مرحلة تسلّم الحكم: استغرقت أربعة أعوام وتسعة أشهر من خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وبضعة أشهر من خلافة ولده الحسن عليه السلام. وقد اكتنف هذه الفترة آلام وهموم ومشاكل، إلّا أنّها سجّلت أنصع الصفحات وأروعها في تاريخ الحكومة الإسلاميّة.
إنّ هذه المرحلة من تاريخ الإمامة كانت النموذج الّذي دعا أئمّة أهل البيت عليهم السلام، خلال القرنين التاليين، إلى تطبيقه في الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة وسعوا على طريقه. وكان الشّيعة يذكرون مثل هذه الذكرى العظيمة ويتحسّرون عليها، ويندّدون بالأنظمة الّتي تلتها عند مقارنتها بها. في الوقت نفسه، كانت درسًا وتجربةً ملهمة يمكن أن تدلّ على وضع وأحوال أيّة حكومة ثوريّة وإسلاميّة صرفة داخل مجتمعٍ وجماعةٍ لم تتربَّ أو انجرّت نحو الانحراف، ومنذ ذلك الوقت كانت تُفرض الأساليب والمناهج البعيدة المدى والمتلازمة مع كلّ أنواع التربية الصعبة والحزبيّة الشديدة على الأئمّة اللاحقين.
المرحلة الثالثة: مرحلة السّعي البنّاء القصير المدى لإيجاد الحكومة والنّظام الإسلاميّ: هي الّتي استوعبت السّنوات العشرين بين صلح الإمام الحسن عليه السلام سنة41 هـ، وشهادة الإمام الحسين عليه السلام سنة 61 هـ، فبعد صلح الإمام الحسن عليه السلام، بدأ نوعٌ من العمل شبه السرّيّ للشّيعة، كان هدفه إعادة القيادة الإسلاميّة إلى عترة النبيّ في الفرصة المناسبة.
المرحلة الرّابعة: وهي مرحلة متابعة ذلك النّهج في برنامجٍ بعيد المدى، في زمنٍ قارب القرنين، شهد انتصاراتٍ وهزائم في مراحل مختلفة، وتلازم مع الانتصار القاطع في مجال العمل الأيديولوجيّ، وامتزج بمئات التكتيكات المتناسبة مع الزّمان، والمزيّنة بآلاف مظاهر الإخلاص والتضحية وعظمة الإنسان الّذي يريده الإسلام1.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ص69 70 (بتصرف).
105
89
الدرس الثامن: السيدة فاطمة بنت محمّد عليها السلام
الدرس الثامن: السيدة فاطمة بنت محمّد عليها السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى حياة السيّدة الزهراء عليها السلام.
2- يقرأ بعض فضائل السيّدة الزهراء عليها السلام.
3- يحلِّل مواقف السيّدة الزهراء من الأحداث الواقعة بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
107
90
الدرس الثامن: السيدة فاطمة بنت محمّد عليها السلام
سيرة مشرقة
أولاً: لمحة تاريخية
ولدت السيدة الزهراء عليها السلام على ما هو المشهور بعد النبوّة بخمس سنين في العشرين من جمادى الآخرة، في مكّة المكرّمة، من أبوين كريمين، وهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسيدة خديجة بنت خويلد. وعاشت مع أمّها السيّدة خديجة خمس سنوات تقريباً ثمّ فقدتها في السنة العاشرة للبعثة، وكانت شهادتها عليها السلام في الثالث عشر من جمادى الآخرة أو الثالث من جمادى الآخرة.
وكان من ألقابها: الزهراء، سيّدة نساء العالمين، المحدَّثة، البتول، الصدّيقة، وكنيتها البارزة أمّ الحسنين. وبعد شهادتها دفنها أمير المؤمنين عليه السلام ليلاً وأعفى قبرها ولا يعلم موضعه.
ثانياً: شذرات من فضائلها
اتّسمت حياة السيّدة الزهراء عليها السلام بالعبادة، وقد عرفت بذلك حتّى قيل إنّه لا يوجد في هذه الأمة أعبد من فاطمة، فإنّها كانت تقوم في مصلّاها حتّى تتورَّم قدماها1.
وكانت عندما تقوم في محرابها يزهر نورها لأهل السماء، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "وأمَّا ابنتي فاطمة فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني وهي نور عيني وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيَّ، وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربّها (جلّ جلاله) زَهَر نورها لملائكة السماء كما يزهر
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج43، ص76.
109
91
الدرس الثامن: السيدة فاطمة بنت محمّد عليها السلام
نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله (عزّ وجلّ) لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أَمَتي فاطمة، سيّدة إمائي قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي..."1.
وكانت السيدة الزهراء عليها السلام تمثل أكمل أنواع التراحم والتعاطف الاجتماعيّ، فكانت إذا قامت في محرابها تدعو للمؤمنين جميعاً وخصوصاً جيرانها، وهذا ما يحدّثنا عنه الإمام الحسين عليه السلام عن أخيه الإمام الحسن عليه السلام قال: "رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم، وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أمّاه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بُنيّ! الجار ثم الدار2.
السيّدة الزهراء عليها السلام في ظل الإسلام
أولاً: حياتها في مكّة
ولدت السيّدة فاطمة الزهراء من بيت العفّة والطهارة، وتربّت في ذلك البيت المليء بالحبّ والعطف والحنان، فأخذت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكارم الأخلاق وفضائلها وتربّت على يديه أكمل تربية، وكذا أخذت من أمّها مكارم الأخلاق، فكانت خير نموذج للمرأة المسلمة التي يمكن لها أن تبني بيتاً إسلامياً على تعاليم الإسلام وأحكامه ومبادئه.
وقد عاشت السيّدة الزهراء عليها السلام مع أبيها وأمّها المرحلة الأولى من النبوّة والبعثة عندما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال في مكّة المكرّمة. وقد شاهدات الصعوبات والتحدّيات التي رافقت الدعوة النبوية المباركة. وكانت تساعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تحمّل تلك المصاعب والتحديات، بل كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالأمّ الحنون، حتّى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلّدها وسام
1 ابن شاذان، أبي الفضل سديد الدين شاذان بن جبرائيل، الفضائل، النجف الأشرف، منشورات المطبعة الحيدرية، 1381 - 1962م، لا.ط، ص9.
2 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع، تقديم: السيد محمد صادق بحر العلوم، النجف الأشرف، منشورات المطبعة الحيدرية، 1385 - 1966م، لا. ط، ج1، ص182.
110
92
الدرس الثامن: السيدة فاطمة بنت محمّد عليها السلام
الأمومة لعظمتها من جهة، ولعظمة الأمومة من جهة أخرى، فقال عنها: "فاطمة أمّ أبيها"1.
ثانياً: الهجرة إلى المدينة
كانت السيّدة الزهراء عليها السلام من النساء اللواتي هاجرن إلى المدينة المنورة بعد مغادرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد هاجرت مع الفواطم برفقة الإمام عليّ عليه السلام حتّى نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قباء ودخلوا إلى يثرب.
وبعد الاستقرار في يثرب التي تأسّست فيها دولة الإسلام، كانت السيدة الزهراء عليها السلام شريكة في صناعة الدولة الإسلامية في وقوفها مع أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومساندته في كلّ شيء، ومن جهة أخرى كانت ترى كيف أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام بجهاد الكفّار والمشركين، وشاهدت ظهور تيار آخر من الناس المنافقين الذين كانوا يحاربون الإسلام من الداخل، ممّا أثر سلباً على مسيرة الإسلام السياسية.
ثالثاً: زواج السيدة الزهراء
وبعد أن نشأت الزهراء عليها السلام في بيت العفة والطهارة ووصلت إلى مرحلة الزواج تقدم لها العديد من الرجال إلا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحيل الأمر إلى الله عزّ وجلّ، إلى أن تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام إلى خطبتها فوافق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وجاء الأمر الإلهيّ بزواج النور من النور، فانتقلت السيدة الزهراء عليها السلام إلى بيت الزوجية.
وكان ذلك المنزل المفعم بالإيمان والتقوى هو بيت الطهر والصفاء، الذي نشأ فيه فرع النبوة أي الإمامة، فولد الحسن والحسين عليهما السلام، ونشآ في بيت من بيوت الله تعالى.
واستمرّت الحياة في صفاء وطهر وهناء إلى أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى فتبدّلت الحياة الهنيئة إلى حياة الحزن على فراق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقاست الزهراء عليها السلام أشدّ أذية في الإسلام حتّى ارتحلت إلى ربها شهيدة راضية مرضية2.
1 الطبراني، أبي القاسم سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، حققه وخرج أحاديثه: حمدي عبد المجيد السلفي، دار إحياء التراث العربي، ط2، ج22، ص397.
2 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص124.
111
93
الدرس الثامن: السيدة فاطمة بنت محمّد عليها السلام
السيدة الزهراء عليها السلام في آية المباهلة
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾1، فتلاها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على النصارى، ودعاهم إلى المباهلة، وقال: "إنّ الله عزّ اسمه أخبرني أنّ العذاب ينزل على المبطل عقيب المباهلة، ويبيّن الحقّ من الباطل بذلك"، فاتّفق رأيهم على استنظاره إلى صبيحة غد من يومهم ذلك.
فلمّا رجعوا إلى رحالهم قال لهم الأسقف. انظروا محمّداً في غد، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه على غير شيء.
فلمّا كان من الغد جاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم آخذاً بيد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين بين يديه يمشيان وفاطمة عليها السلام تمشي خلفه، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم.
فلمّا رأى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أقبل بمن معه، سأل عنهم، فقيل له: هذا ابن عمّه علي بن أبي طالب وهو صهره وأبو ولده وأحبّ الخلق إليه، وهذان الطفلان ابنا بنته من عليّ وهما من أحب الخلق إليه، وهذه الجارية بنته فاطمة أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه.
فنظر الأسقف إلى العاقب والسيد وعبد المسيح وقال لهم: انظروا إليه قد جاء بخاصّته من ولده وأهله ليباهل بهم واثقاً بحقّه، والله ما جاء بهم وهو يتخوّف الحجّة عليه، فاحذروا مباهلته، والله لولا مكان قيصر لأسلمت له، ولكن صالحوه على ما يتّفق بينكم وبينه، وارجعوا إلى بلادكم وارتؤوا لأنفسكم، فقالوا له: رأينا لرأيك تبع، فقال الأسقف: يا أبا القاسم إنّا لا نباهلك ولكنّا نصالحك، فصالحنا على ما ننهض به.
فصالحهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على ألفي حلّة من حلل الأواقي قيمة كل حلة أربعون درهماً جياداً، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك، وكتب لهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً بما صالحهم عليه، وكان الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من عند محمد النبيّ رسول الله لنجران وحاشيتها، في كل صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق، لا يؤخذ منه شيء منهم غير ألفي حلّة من حلل الأواقي ثمن كل حلة أربعون درهماً، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك، يؤدون ألفاً
1 سورة آل عمران، الآيات 59 - 61.
112
94
الدرس الثامن: السيدة فاطمة بنت محمّد عليها السلام
منها في صفر، وألفاً منها في رجب، وعليهم أربعون ديناراً مثواة رسولي مما فوق ذلك، وعليهم في كلّ حدث يكون باليمن من كل ذي عدن عارية مضمونة ثلاثون درعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جملاً عارية مضمونة، لهم بذلك جوار الله وذمة (محمد بن عبد الله)، فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمّتي منه بريئة". وأخذ القوم الكتاب وانصرفوا1.
السيّدة الزهراء عليها السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أولاً: موقف الزهراء من قضية الخلافة
انتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى تاركاً وصيّاً على أمّته، وهو الإمام عليّ عليه السلام، حيث أكّد في كثير من مواقفه على ذلك، وكان آخرها يوم الغدير عندما كان قافلاً من مكة الكرّمة وقد أنهى حجّة الوداع. وقد عايشت السيدة الزهراء عليها السلام هذه المشكلة، ووقفت إلى جانب الإمام عليّ عليه السلام لا بدافع العاطفة الزوجيّة والعائلية فقط، وإنّما انطلاقاً من المسؤوليّة الشرعيّة. ويمكن وضع العناوين العامّة للمعارضة التي قامت بها السيّدة الزهراء عليها السلام في الآتي:
1- المطالبة الصريحة والمباشرة بالالتزام بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
2- استنهاض المسلمين من الأنصار وشحذ الهمم للمطالبة بإرجاع الحقّ لأهله. إلا أنّها لم تجد من يصغي إليها.
3- تحميل المسلمين كافة تبعات ما قاموا به، والذي سوف يؤثر سلباً على حياتهم، وأن ما قام به الإمام علي عليه السلام هو الحقّ نفسه.
ثانياً: قضية فدك
1ـ أرض فدك:
فدك هي أرض زراعية كبيرة تقع بخيبر، بينها وبين يثرب مسير يومين، وهي التي أفاءها الله عزّ وجلّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سنة سبع للهجرة صلحاً، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لمّا هاجم يهود خيبر وفتح حصونهم ولم يبق إلا ثلاثة حصون، واشتدّ بهم الحصار، أرسلوا إلى
1 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج1، ص169.
113
95
الدرس الثامن: السيدة فاطمة بنت محمّد عليها السلام
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه أن ينزلهم على الجلاء، وفعل ذلك، وبلغ ذلك اليهود من أهل فدك، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصالحهم على النصف من ثمارها وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك. فهو ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾1.
وبناء على هذا النصّ القرآنيّ تكون هذه الأرض خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحقّ له أن يتصرّف فيها كيف يشاء، ويحكم فيها بما يريد، فهي ليست من غنائم الحرب لكي توزّع بين المجاهدين المسلمين.
2- فدك ملك للسيّدة الزهراء عليها السلام:
لا يشكّ مسلم أنّ السيّدة الزهراء عليها السلام قد أخذت أرض فدك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحلة، وذلك بعدما نزل قوله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾"2.
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإعطاء فدك للزهراء عليه السلام، فإنّه كان يحقّ له أن يفعل بها ما يشاء، فهي ملك خالص له.
وقد أشار المؤرّخون والمحدّثون إلى أنّ السيّدة الزهراء عليها السلام كانت تتصرّف في فدك في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن فدك كانت في يدها، وممّا يشير إلى ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام في الكتاب الذي أرسله إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة، فإنه ذكر فيه: "...بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله..."3.
وقد طالب السيدة الزهراء عليها السلام بأرض فدك أكثر من مرة إلا أن ذلك لم يجدي نفعاً رغم تقديمها شهوداً على ذلك وهما الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأم أيمن.
1 سورة الحشر، الآية 6.
2 سورة الحشر، الآية 7.
3 نهج البلاغة، رسالة الإمام علي عليه السلام إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف.
114
96
الدرس الثامن: السيدة فاطمة بنت محمّد عليها السلام
للمطالعة
السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام أسوة للمرأة المسلمة
كانت حياة فاطمة الزّهراء عليه السلام مليئة بالعمل والسّعي والتّكامل والسموّ الرّوحيّ للإنسان، وكانت مشاكل المحيط والحياة قد جعلت فاطمة الزّهراء عليها السلام كمركزٍ لمراجعات النّاس والمسلمين، وقامت بتربية أولادها الحسن والحسين وزينب، وإعانة زوجها عليّ عليه السلام، وكسب رضا أب كالنبيّ. وعندما بدأت مرحلة الفتوحات والغنائم لم تأخذ بنت النبيّ ذرّة من لذائذ الدنيا وزخرفها ومظاهر الزينة والأمور الّتي تميل لها قلوب الشابّات والنّساء، وكانت عبادة فاطمة الزّهراء عليها السلام عبادةً نموذجيّة ...إنّ جهاد تلك المكرّمة في الميادين المختلفة هو جهاد نموذجيّ في الدفاع عن الإسلام، وفي الدّفاع عن الإمامة والولاية، وفي الدّفاع عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وفي حفظ أكبر القادة الإسلاميّين وهو أمير المؤمنين عليه السلام زوجها. وقد قال عليّ عليه السلام مرّة بشأن فاطمة الزّهراء عليها السلام : "ما أغضبتني ولا عصت لي أمراً"1. ومع تلك العظمة والجلالة، فإنّها كانت زوجة في بيتها، وامرأة بالنّحو الذي يقول عنه الإسلام. تلك كانت عبادتها وفصاحتها وبلاغتها وحكمتها وعلمها ومعرفتها وجهادها وسلوكها كابنة وزوجة وأمّ. وكان إحسانها إلى الفقراء بحيث عندما أرسل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمرجلًا عجوزًا فقيرًا إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام وقال له أن يطلب حاجته منهم، أعطته فاطمة الزّهراء عليها السلام جلدًا كان ينام عليه الحسن والحسين عليهما السلام حيث لم يكن عندها شيءٌ غيره، وقالت له أن يأخذه ويبيعه ويستفيد من ثمنه. هذه هي الشّخصيّة الجامعة لفاطمة الزّهراء عليها السلام. إنّها أسوة للمرأة المسلمة2.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج43، ص134.
2 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر250 سنة، ص122 - 123(بتصرف).
115
97
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى سيرة الإمام الحسن عليه السلام وجهاده.
2- يعرف أسباب الصلح بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية.
3- يشرح بنود المعاهدة وسبب نقضها من قبل معاوية.
117
98
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
سيرة مشرقة
أولاً: لمحة تاريخية
ولد الإمام الحسن عليه السلام ليلة الثلاثاء، في النصف من شهر رمضان المبارك، في السنة الثالثة للهجرة في المدينة المنوّرة1. وأبوه أمير المؤمنين عليه السلام، وأمّه السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام. ونشأ الإمام في هذا البيت الكريم، وتربّى بين يدي الإمام عليّ عليه السلام والسيّدة الزهراء عليها السلام أكمل تربية.
تسلّم الإمامة بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام. وقد استمرّت إمامته عشر سنوات تقريباً، حيث بويع بالخلافة في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 40هـ، واستشهد سنة50 هـ. وقد استمرّت حكومته ثمانية أشهر تقريباً، وأوصى من بعده بالإمامة لأخيه الإمام الحسين عليه السلام2.
وكان من ألقابه: الحجّة، الكفيُّ، السّبط، الوليّ، وكنيته أبو محمّد.
وكان للإمام الحسن عليه السلام، خمسة عشر ولداً ذكراً وأنثى، وهم: زيد بن الحسن وأختاه أم الحسن وأم الحسين وأمّهم أم بشير بنت أبي مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة الخزرجية، والحسن المثنى أمّه خولة بنت منظور الفزارية، وعمر وأخواه القاسم وعبد الله أمّهم أم ولد، وعبد الرحمن أمّه أم ولد، والحسين الملقّب بالأثرم وأخوه طلحة وأختهما فاطمة بنت الحسن أمّهم أم اسحق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي، وأم عبد الله وفاطمة وأم سلمة ورقية لأمّهات3.
1 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 28, المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ص 187.
2 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص300، باب الإشارة والنص على الحسين بن علي عليه السلام.
3 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج2، ص20، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد، ص27.
119
99
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
وكان من أصحابه: أشعث بن سوار، سليم بن قيس الهلالي، عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عمرو بن قيس المشرقي، المسيب بن نجبة، مسعود مولى أبي وائل، يُكنّى أبا رزين، ميثم التمار، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري1.
وكانت شهادته المباركة عليه السلام في السابع من شهر صفر سنة 50هـ، وقد مضى وهو ابن سبع وأربعين سنة، مستشهداً بعد أن سمّته زوجته جعدة بنت الأشعث بدسيسة من معاوية بن أبي سفيان، ودُفن في المدينة المنوّرة - البقيع.
ثانياً: عبادته
لقد كان الإمام الحسن عليه السلام أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم، وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم2، وكان إذا حجّ حجّ ماشياً، وكان إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممرّ على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره شهق شهقة يُغشى عليه منها، وكان إذا ذكر الجنّة والنار اضطرب اضطراب السليم، ويسأل الله الجنّة، وتعوّذ بالله من النار، وكان عليه السلام لا يقرأ من كتاب الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ إلّا قال: "لبّيك اللهم لبّيك"، ولم يُرَ في شيء من أحواله إلا ذاكراً لله سبحانه وتعالى، وكان أصدق الناس لهجة3.
وكان له عليه السلام حالات خاصة أثناء قيامه بين يدي الله تعالى للصلاة، فإذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي الله عزّ وجلّ، وكان إذا توضّأ ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه، فقيل له في ذلك، فقال: حقّ على كل من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله.
وإذا دخل المسجد رفع رأسه، ويقول: "إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم"4.
1 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، 93، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
2 الترمذي، أبي عيسى محمد بن عيسى، سنن الترمذي، ج5، ص659، البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ج5، ص33.
3 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، ص150.
4 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص7.
120
100
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
ثالثاً: مكارم أخلاقه
جسّد الإمام عليه السلام أخلاق الإسلام ومبادئه في التعامل مع الناس، فكان نبراساً يستضاء به في ذلك، فروي أنّ الإمام الحسن عليه السلام قد حيّته جارية له بطاقة ريحان، فقال لها: "أنت حرّة لوجه الله"، فسئل في ذلك، فقال: "أدّبنا الله تعالى ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾1، وكان أحسن منها إعتاقها"2.
ومن حلمه وتواضعه أنّ شاميّاً رآه راكباً فجعل يلعنه، والإمام لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه السلام فسلّم عليه وضحك، فقال: "أيّها أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيانك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعوَد عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً".
فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثمّ قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليَّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليَّ، وحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم3.
الحياة الجهادية للإمام الحسن عليه السلام
كان الإمام الحسن عليه السلام ـ كما يشهد التاريخ ـ شجاعاً مقداماً وشهماً، لا يعرف الخوف طريقه إليه، ولم يبخل يوماً في تقديم أيّ تضحية في سبيل تقدّم الإسلام وإعلاء كلمته، وكان دائم الاستعداد للجهاد في سبيل الله.
في حرب الجمل: كان الإمام الحسن عليه السلام يقاتل مع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام جنباً إلى جنب وفي الخطّ الأماميّ من ساحة القتال في حرب الجمل4. وقبل بدء الحرب دخل الكوفة وبأمر من أبيه برفقة عمار بن ياسر وعدّة من أصحاب أمير المؤمنين ودعا
1 سورة النساء، الآية 86.
2 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص18
3 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج43، ص344.
4 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 21.
121
101
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
أهلها للمشاركة في القتال1. ومع وجود معارضة لحكومة الإمام علي عليه السلام استطاع الإمام الحسن عليه السلام أن يعبّئ جيشاً تعدّى التسعة آلاف مقاتل وبعث بهم إلى ساحة القتال2.
في حرب صفّين: كان له دور فاعل في تعبئة القوات وإرسال الجيش إلى قتال معاوية في حرب صفّين أيضاً، وكان يدعو أهل الكوفة إلى الجهاد إلى جانب أمير المؤمنين للقضاء على أعداء الإسلام وخونته3. وقد بلغ من استعداده للتضحية في سبيل الحقّ مبلغاً في حرب صفّين جعل أمير المؤمنين عليه السلام يطلب من أصحابه أن يمنعوه هو وأخاه الحسين من مواصلة القتال لئلاّ ينقطع بهما نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم4.
الإمام الحسن عليه السلام وتسلّم مقاليد الحكم
إنَّ الظروف الصعبة الّتي أحاطت بحياة الإمام المجتبى عليه السلام جعلت من محطّات حياته ودراستها أمراً يحتاج إلى كثير من الدقّة والتمحيص والإنصاف, لأنّ الإمام عليه السلام قد عانى مظلوميّة من أهل زمانه، ومظلوميّة في صفحات التاريخ الإسلاميّ، سواء على مستوى فهم حركته السياسيّة المباركة وصولاً إلى الصلح مع معاوية، أم على مستوى بعض الاتّهامات التي لا تليق بالإمام عليه السلام كتعدّد الزوجات وغير ذلك ممّا نشتمّ منه رائحة البيت الأمويّ.
وقد عهد الإمام عليّ عليه السلام إليه قبل شهادته بيومين قائلاً: "يا بُنيّ! أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمودفع إليَّ كتبه وسلاحه وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن توصي بها إلى أخيك الحسين عليه السلام"5.
وبعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام، خطب الإمام الحسن عليه السلام خطبة قال فيها: "أيّها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد رسول
1 اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 170.
2 ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 231.
3 نصر بن مزاحم، وقعة صفين، ص 113.
4 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 25.
5 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 1، ص 297.
122
102
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا ابن البشير، أنا ابن النذير... الخ"1. وبعد ذلك قام ابن عبّاس ودعا الناس إلى بيعته فاستجابوا وبايعوه قائلين "ما أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة"2. وينقل ابن أبي الحديد أنّه: "كان عدد المبايعين له أكثر من أربعين ألفاً"3.
صلح الإمام الحسن عليه السلام
دوافع الصلح وأسبابه:
ولأجل أن تتّضح دوافع صلحه عليه السلام ونتائجه جيداً يجب علينا أن نتصفّح التاريخ وندرس هذا الموضوع في ضوء الوثائق التاريخية الأصيلة. وينبغي القول عموماً إنّ الإمام الحسن عليه السلام لم يصالح في الواقع بل فُرض الصلح عليه، أي تعاونت الظروف المتردّية مع العوامل الأُخرى بحيث أوجدت وضعاً جعل الصلح أمراً ضرورياً مفروضاً على الإمام ولم ير حلاً غير ذلك، ذلك أنّ الأوضاع والظروف خارج العالم الإسلاميّ والوضع الداخليّ في العراق ومعسكره هو عليه السلام، كلّ ذلك كان يدعو إلى عدم استمرارية الحرب، وكان للصلح أسباب منها:
1- الوضع الداخلي:
لقد كانت حروب الجمل وصفّين والنهروان والحروب الخاطفة التي نشبت بين جيش معاوية وبين مراكز الحدود في العراق والحجاز واليمن بعد التحكيم قد ولّدت عند أصحاب الإمام عليّ حنيناً إلى السلم والموادعة، فقد مرّت عليهم خمس سنين وهم لا يضعون سلاحهم من حرب إلاّ ليشهروه في حرب أُخرى، وكانوا لا يقاتلون جماعات غريبة عنهم وإنّما يحاربون عشائرهم وإخوانهم بالأمس ومن عرفهم وعرفوه الذين أصبحوا الآن في معسكر معاوية4. وقد عبّر الناس عن رغبتهم في الدعة وكراهيتهم للقتال بتثاقلهم عن حرب الفرق الشامية
1 أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، مقاتل الطالبيين، ص 33.
2 م.ن.
3 ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب، ج 1، ص 385.
4 قد قتل في حرب الجمل أكثر من ثلاثين ألفاً , تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 172 وقتل في النهروان أربعة آلاف من الخوارج, م. ن، ج 2، ص 182، وكانت خسائر الطرفين في صفين قد بلغت المائة وعشرة آلاف قتيل, المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص 393.
123
103
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
التي كانت تغير على الحجاز واليمن وحدود العراق، وتثاقلهم عن الاستجابة للإمام عليّ حين دعاهم للخروج ثانية إلى صفّين1.
فلمّا استشهد الإمام عليّ عليه السلام وبويع الإمام الحسن عليه السلام بالخلافة برزت هذه الظاهرة على أشدّها وبخاصّة حين دعاهم الإمام الحسن للتجهّز لحرب الشام حيث كانت الاستجابة بطيئة جداً. وعندما وصل خبر تحرّك جيش معاوية باتّجاه الكوفة، أمر الإمام الحسن أن يجتمع الناس في مسجدها، ثمّ خطب خطبة، وبعد أن أنهى خطبته المثيرة الجهادية، لزم الجميع الصمت ولم يستجب له أحد منهم ولا أيّدوه بكلمة. ويدلّ هذا الأمر على مدى الخذلان والتثاقل الذي وصل إليه أهالي العراق آنذاك حيث خمدت في نفوسهم نار الحماس والجهاد ولم يكونوا على استعداد لخوض القتال.
وأخيراً، وبعد خطب بعض أصحاب الإمام الحسن عليه السلام الكبار ومحاولاتهم لتعبئة القوات وحثّ الناس على القتال، انطلق الحسن مع نفر قليل من الكوفيين متّجهاً نحو مكان يدعى "النُّخيلة" وعسكر هناك. وبعد انتظار لتعزيز القوات طال عشرة أيام اجتمع في معسكره أربعة آلاف مقاتل. ولأجل ذلك اضطرّ الإمام للعودة إلى الكوفة للمحاولة مرة أُخرى لتعبئة قوات أكثر2.
2- جيش متفكّك:
وقد انعكست طبعاً ظاهرة التعدّدية العقائدية والتباين الفكريّ والتفكّك على جيش الإمام الحسن عليه السلام أيضاً وجعلت منه جيشاً لا يتمتّع بالانسجام والتماسك. ولذلك كان من غير الممكن الاعتماد على هذا الجيش في مواجهة العدوّ الخارجيّ. وهكذا كان جيش الإمام الحسن يفتقد الوحدة والانسجام الضروريين في مواجهة عدوّ قويّ كمعاوية.
وقد أجمع المؤرّخون على أنّه عليه السلام جهّز جيشاً واستعد للقتال، غير أنّ انعدام الانسجام ووجود التحزّب في جيشه من ناحية، وتفكّكه قبل بدء الحرب ونشوب النزاع أثر مؤامرات معاوية الغادرة وخذلان الناس له من ناحية أُخرى، دفعاه إلى أن يوقف الحرب ويخضع
1 شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحسين، ص 138 - 141.
2 الشيخ الرضي، آل ياسين، صلح الحسن، لا.د، لا.ط، لا.ت، ص 102.
124
104
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
للصلح والسلم، وعليه بدأ عمل الإمام بالتحرّك وإعلان الحرب وإعداد الجيش، وانتهى إلى الصلح والهدنة، وهو يدرك بعمق طبيعة المجتمع الإسلاميّ وظروفه وتهمّه مصالح الأُمّة1.
روي عن الإمام المجتبى عليه السلام عن أبي سعيد قال: قلت للحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام: يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمَ داهنت معاوية وصالحته، وقد علمت أنّ الحقّ لك دونه وأن معاوية ضالّ باغٍ؟
فقال عليه السلام: "سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه ولولا ما أتيت لما تُرك من شيعتنا على وجه الأرض أحدٌ إلا قُتل"2.
الصلح وأهداف الإمام الحسن عليه السلام
عندما ارتأى الإمام الحسن أنّ الحرب تتعارض مع المصالح العليا للمجتمع الإسلاميّ والحفاظ على كيان الإسلام ودخل في السلم اضطراراً للظروف العصيبة التي أُشير إليها تفصيلاً مسبقاً، بذل قصارى جهده لضمان تحقيق أهدافه العليا والمقدّسة بأقصى ما يمكن من خلال هذا الصلح بطريقة سلمية.
ومن ناحية أُخرى ولأنّ معاوية كان مستعدّاً لأن يُقدّم أيّ نوع من الامتيازات والتنازلات للدخول في السلم وتسلّم السلطة، لدرجة أنّه أرسل صحيفة بيضاء مختومة إلى الإمام كتب فيها: أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فهي لك3، استغلّ الإمام هذه الفرصة فكتب في معاهدة الصلح جميع القضايا الهامّة والحسّاسة ذات الأولوية التي تمثّل مبادئه الكبيرة، وطلب من معاوية الالتزام بما جاء فيها.
1 ولهذا السبب ألف عدّة من المؤرّخين المسلمين القدماء كتباً تحت عنوان قيام الحسن ومنها الكتابان التاليان:
أ: قيام الحسن عليه السلام، تأليف هشام بن السائب الكلبي (المتوفّى 205هـ).
ب: قيام الحسن عليه السلام، تأليف إبراهيم بن محمد الثقفي (المتوفّى عام 283هـ). (امام در عينيّت جامعه، محمد رضا الحكيمي، ص 171).
2 م. ن.
3 ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 405, الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري، ج 6، ص 93.
125
105
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
ويمكن حصر نص المعاهدة في خمسة بنود:
البند الأوّل: تسليم الأمر ـ الخلافة ـ إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وسنّة رسوله.
البند الثاني: أن تكون للحسن الخلافة من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية أن يعهد بها إلى أحد.
البند الثالث: أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه في الصلاة، وأن لا يذكر علياً إلاّ بخير.
البند الرابع: استثناء ما في بيت مال الكوفة وهو خمسة ملايين درهم وتكون بحوزة الإمام الحسن، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصلات على بني أُمية، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وصفّين مليون درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد1.
البند الخامس: الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما صدر من هفواتهم، وأن لا يتّبع أحداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة وحقد، وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة عليّ بمكروه، وأنّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقّب عليهم شيئاً ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه، وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت الرسول غائلة سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أُفق من الآفاق.
فكتب معاوية جميع ذلك بخطّه وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكّدة والأيمان المغلّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام2.
1 دار ابجرد هي إحدى المدن الخمس في ولاية فارس قديماً (لغتنامه دهخدا، كلمة دار أبجرد). ولعلّ اختيار خراج دار ابجرد كان بسبب ووفقاً للوثائق التاريخية انّ أهلها استسلموا طوعاً بلا قتال للجيش الإسلامي وصالحوه ويختص خراجها كما أمر الإسلام بالرسول وأهل بيته واليتامى والمساكين وابن السبيل، لذلك شرط الإمام أن يدفع إلى عوائل شهداء الجمل وصفين من خراج هذه المدينة، لأنّ دخلها يختص بالإمام، مضافاً إلى ذلك انّ الفقراء من عوائل الشهداء كانوا المستحقين لهذا الخراج، العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 44، ص 10.
2 يراجع تفصيل معاهدة الصلح في: الشيخ راضي آل ياسين، صلح الحسن عليه السلام، ص 259 - 261.
126
106
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
معاوية بن أبي سفيان ينقض الصلح
دخل الجانبان الكوفة بقواتهما بعد إبرام معاهدة الصلح، واجتمعوا في مسجدها الكبير. والناس كانوا ينتظرون أن يتمّ التأكيد على بنود المعاهدة من خلال خطب قائدي الفريقين بمرأى ومسمع منهم حتّى لا يبقى مجال للشكّ والترديد في تطبيقها. ولم يكن هذا التوقّع في غير محلّه فإنّ إيراد الخطبة كان جزءاً من الصلح، ولذلك ارتقى معاوية المنبر وخطب خطبة غير أنّه ليس فقط لم يؤكّد على بنود المعاهدة، بل قال مستخفّاً ومستهتزئاً: أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحجّ وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون! ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم وألي رقابكم. ثمّ قال: ألا وإنّ كلّ شرط وشيء أعطيت الحسن بن عليّ تحت قدميّ هاتين1. وهكذا داس معاوية كلّ ما تعهّد به وشرطه ونقض معاهدة الصلح علانية.
وتبعاً لهذه السياسة لم يكتف معاوية بعدم إجراء تعديل على طريقته هذه في التعامل فقط، بل ازداد طغياناً وإجراماً أكثر من السابق، فقد أشاع بدعة سبّ أمير المؤمنين وهتك حرمة ساحته المقدّسة أكثر ممّا مضى، وضيّق الخناق على الشيعة وأصحاب عليّ الكبار الأوفياء لدرجة كبيرة، وقتل شخصية بارزة كحجر بن عديّ وجماعة آخرين من الشخصيات الإسلامية الكبيرة، وتصاعد القتل والتنكيل والاضطهاد لشيعة عليّ حتّى أصبح الشيعة بشكل عامّ إمّا سجناء أو مفقودين أو مشرّدين بعيداً يعيشون في أجواء يسودها الرعب والخوف.
1 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج 16، ص 15, أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، مقاتل الطالبيين، ص 45, الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج1، ص 191.
127
107
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
المفاهيم الرئيسة
1- لقد كان الإمام الحسن عليه السلام أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم، وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
2- جسّد الإمام عليه السلام أخلاق الإسلام ومبادئه في التعامل مع الناس، فكان نبراساً يستضاء به في ذلك.
3- شارك عليه السلام في حرب الجمل وحرب صفّين.
4- إنّ الظروف الصعبة التي أحاطت بالإمام المجتبى عليه السلام جعلت من محطّات حياته ودراستها أمراً يحتاج إلى كثير من الدّقة.
5- من دوافع الصلح الذي عقده بينه وبين معاوية:
• الشعور بضرورة تهدئة الوضع الداخليّ، بعد أن أنهك المسلمون بحروب الجمل وصفّين والنهروان، فكان لا بدّ من المهادنة نوعاً ما.
• عدم ترابط وتكاتف المجتمع آنذاك.
6- أهمّ بنود الصلح:
الأول: تسليم الأمر لمعاوية على شرط العمل بكتاب الله وسنّة رسوله.
الثاني: أن تكون الخلافة للحسن من بعده.
الثالث: أن يترك سبّ الأمير عليه السلام.
الرابع: إعطاء الأمان للموالين والعلويين.
البند الخامس: الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم.
7- قام معاوية بالدخول إلى الكوفة وخطب خطبته الشهيرة التي نقض فيها جميع بنود الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام.
128
108
الدرس التاسع: الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام
للمطالعة
الصلح خيار الأئمّة عليهم السلام
لقد ذكرنا مرارًا فيما يتعلّق بصلح الإمام الحسن عليه السلام، وما نصّت عليه المصنّفات والكتب أيضًا، عدم قدرة من كان في نفس موقف الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وفي مثل ظروفه، إلّا أن يقوم بمثل ما قام به الإمام الحسن عليه السلام، بما في ذلك أمير المؤمنين عليه السلام نفسه، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول إنّ الجانب الفلانيّ من عمل الإمام عليه السلام هو مثارٌ للتّشكيك. كلّا، ففعله عليه السلام كان مطابقًا للاستدلال المنطقيّ الّذي لا يقبل التخلّف.
من هو الأكثر ثوريّة من بين آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ ومن الّذي فاقهم في اصطباغ حياته بصبغة الشّهادة وفاقهم حميّةً للمحافظة على الدّين ومواجهة العدوّ؟ إنّه الحسين بن عليّ عليه السلام، وهو عليه السلام قد شارك الإمام الحسن عليه السلام في هذا الصّلح، فلم يعقد الإمام الحسن الصّلح وحده بل عقداه معًا. غاية الأمر أنّ الإمام الحسن عليه السلام كان المتقدّم يتبعه الإمام الحسين في ذلك. كان الإمام الحسين عليه السلام أحد الذائدين عن مبدأ صلح الإمام الحسن عليه السلام . وعندما بدر اعتراضٌ من أحد الأنصار المقرّبين ــ من هؤلاء المتحمّسين الثائرين ــ على ما فعله الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، ردّ عليه الإمام الحسين عليه السلام، "وغمز الحسين حجراً"1، وليس هنالك من يقول: لو كان الإمام الحسين مكان الإمام الحسن لما وقّع الصّلح، كلا، فلقد كان الإمام الحسين إلى جانب الإمام الحسن ووقّع الصلح، ولو لم يكن الإمام الحسن عليه السلام وكان الإمام الحسين عليه السلام وحيدًا في تلك الظّروف لحدث ما حدث ووقع الصلح2.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج 16، ص 15.
2 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر250 سنة، ص129 (بتصرف).
129
109
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى مناقب الإمام الحسين عليه السلام وعبادته ومكانته.
2- يستذكر ملامح عصر الإمام الحسين عليه السلام ومواجهته لمعاوية.
3- يتعرّف على حركة الإمام الحسين عليه السلام في فترة خلافة يزيد بن معاوية.
131
110
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
سيرة مشرقة
أولاً: لمحة تاريخية
وُلد الإمام الحسين عليه السلام في الثالث من شهر شعبان بالمدينة، سنة أربع من الهجرة، في المدينة المنوّرة، وأبوه أمير المؤمنين عليه السلام، وأمّه السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام. ونشأ الإمام بين والديه نشأة طيّبة مملوءة بالإيمان والتقوى، وتربّى بين يدي الإمام عليّ عليه السلام والسيّدة الزهراء عليها السلام أكمل تربية.
وتسلّم الإمام الحسين عليه السلام الإمامة بعد شهادة أخيه الإمام الحسن عليه السلام. وقد استمرّت إمامته عشر سنوات تقريباً.
ومن ألقابه: السيّد، الطيّب، الوفيّ، المبارك، النافع، الدليل على ذات الله، السبط، التابع لمرضاة الله، وكنيته أبو عبد الله.
وكان للإمام الحسين عليه السلام ستّة أولاد: علي بن الحسين زين العابدين، كنيته أبو محمد، وأمّه شاه زنان بنت كسرى يزدجرد، وعلي الذي استشهد في كربلاء، وأمّه ليلى بنت أبي مرّة الثقفيّة، وجعفر بن الحسين، وأمّه قضاعية وتوفّي في حياة الإمام الحسين عليه السلام.
وعبد الله بن الحسين وهو الرضيع الذي ذبح في كربلاء، وسكينة بنت الحسين، وأمّهما الرباب بنت امرئ القيس بن عدي، وهي أم عبد الله بن الحسين، وفاطمة بنت الحسين، وأمّها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله1.
1 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج2، ص135، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد، ص34.
133
111
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
وكان من أصحابه عليه السلام تلك الثلّة المؤمنة التي استشهدت معه في كربلاء، ومن غيرهم أيضاً: أنس بن الحارث الكاهلي، جعيد الهمداني، سيف بن مالك، سوار بن المنعم بن الحابس، ضرغامة بن مالك، قيس بن مسهّر الصيداوي1.
وقد أوصى قبل شهادته المباركة بالإمامة والوصاية لابنه الإمام السجاد علي بن الحسين عليه السلام2.
أمّا شهادته المباركة فكانت يوم السبت العاشر من المحرّم، سنة إحدى وستّين من الهجرة بعد صلاة الظهر في كربلاء العراق مظلوماً ظمآن صابراً محتسباً، وله يومئذٍ ثمان وخمسون سنة، ودُفن في كربلاء المقدّسة.
ثانياً: مكارم أخلاقه وعبادته
واتّصف الإمام عليه السلام بفضائل الأخلاق وأرفعها. وكان حريصاً على خدمة الناس وتقديم العون والمدد لهم كما فعل مع ذلك الأعرابيّ الذي عجز عن أداء دية كانت عليه، فدفعها إليه الإمام3.
وكان عليه السلام إذا توضّأ تغيّر لونه وارتعدت مفاصله، فقيل له في ذلك فقال: "حقّ لمن وقف بين يدي الملك الجبّار أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله"، وسأله رجل فقال له: ما أعظم خوفك من ربّك، قال: "لا يأمن يوم القيامة إلّا من خاف الله في الدنيا"4.
ثالثاً: مكانة الإمام الحسين عليه السلام وفضله
لقد امتاز الإمام الحسين عليه السلام بمكانة خاصة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى قال فيه جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حسين منّي وأنا من حسين أحبّ الله من أحبّ حسيناً. حسين سبط من الأسباط"5.
1 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، ص99، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
2 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص302، باب الإشارة والنص على علي بن الحسين عليه السلام.
3 الشيخ عبد الله البحراني، العوالم (الإمام الحسين)، تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي، قم، 1407هـ، ص61.
4 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص225.
5 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج2، ص127.
134
112
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
وكان الناس يهابون الإمام الحسين عليه السلام، فقد روى إبراهيم بن الرافعي، عن أبيه، عن جدّه قال: رأيت الحسن والحسين عليهما السلام يمشيان إلى الحجّ، فلم يمرّا براكب إلا نزل يمشي، فثقل ذلك على بعضهم فقالوا لسعد بن أبي وقاص: قد ثقل علينا المشي، ولا نستحسن أن نركب وهذان السيدان يمشيان، فقال سعد للحسن عليه السلام: يا أبا محمّد، إنّ المشي قد ثقل على جماعة ممّن معك، والناس إذا رأوكما تمشيان لم تطب أنفسهم أن يركبوا، فلو ركبتما، فقال الحسن عليه السلام: "لا نركب، قد جعلنا على أنفسنا المشي إلى بيت الله الحرام على أقدامنا، ولكنّنا نتنكّب الطريق، فأخذا جانباً من الناس"1.
ملامح عصر الإمام الحسين عليه السلام
إنّ معاوية بن أبي سفيان أراد إعادة الجاهليّة الأولى إلى المجتمع الإسلاميّ باسم الإسلام وإمرة المؤمنين. وقد اعتمد من أجل الوصول إلى هذا الهدف عدّة خطوات أثّرت تأثيراً بالغاً على الإسلام والمسلمين، حتّى تحوّلت تلك الخطوات إلى سمات سلبية بارزة في المجتمع الإسلاميّ:
أولاً: تحويل الحكم الإسلاميّ من الخلافة إلى الملك
عندما تسلّم معاوية ولاية الشام تصرّف فيها من دون أي رادع، فكان تصرّفه كالملك، من الناحية العسكرية والسياسية والاقتصادية بل والاجتماعية، فقد أبعد العديد من القبائل العربية والمناوئين له، بالإضافة إلى استخدام المال بدون قيود بلا رقيب ولا حسيب.
وقال يخاطب أهل الكوفة شامتاً بهم: "يا أهل الكوفة، أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحجّ، وقد علمت أنّكم تصلون وتزكّون وتحجّون؟ ولكني قاتلتكم لأتأمّر عليكم وأليَّ رقابكم..."2.
1 م.ن.
2 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص160.
135
113
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
ثانياً: الإرهاب والتجويع
لقد أشاع معاوية سياسية الإرهاب والتصفية الجسدية لكلّ قوّة معارضة للحكم، فقال سفيان بن عوف الغامديّ، وهو أحد قادة معاوية العسكريّين، قال: "دعاني معاوية فقال: إنّي باعثك بجيش كثيف أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتّى تمرّ بهيت فتقطعها فإن وجدت بها جنداً فأغر عليهم، وإلّا فامض حتّى تغير على الأنبار، فإن لم تجد جنداً فامض حتّى توغل في المدائن. إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم، وتفرح كلّ من له هوى فينا منهم، وتدعو إلينا كلّ من خاف الدوائر، فاقتل كلّ من لقيته ممّن هو ليس على مثل رأيك. وأخرب كل ما مررت به من القرى، وأحرب الأموال فإن حرب الأموال شبيه بالقتل وهو أوجع للقلب"1.
وكانت هذه الخطوة منه واسعة الانتشار في جميع الأقطار والبلاد الإسلامية، فقد أرسل الضحّاك بن قيس الفهريّ وأمره بالتوجّه ناحية الكوفة حتّى قتل الناس وسفك دماءهم2.
وقد صوّر الإمام الباقر عليه السلام هذه الحالة بقوله: "فقُتِلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقُطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يُذكَر بحبنّا والانقطاع إلينا سُجن، أو نُهب ماله أو هُدّمت داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين عليه السلام"3.
ومن سياسة التجويع التي استخدمها معاوية محو أسماء المحبّين لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من الديوان، وإسقاط عطائه ورزقه، فأرسل إلى عمّاله قائلاً: "انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبُّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه"4.
1 م.ن، ج2، ص86.
2 إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي، الغارات، تحقيق: السيد جلال الدين الحسيني، لا.ت، لا.ط، ج2، ص421.
3 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج11، ص43.
4 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج11، ص45.
136
114
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
خطوات الإمام الحسين في مواجهة سياسة معاوية
انتهج الإمام في مواجهة هذه الخطوات منهاجاً يقوّض هذا البناء من أساسه:
أولاً: مواجهة معاوية ورفض البيعة ليزيد
وقد أرسل الإمام عليه السلام لمعاوية رسالة طويلة جاء في بعض مقاطعها: "تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصف محجوباً أو تنعت غائباً،... ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جورٍ وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلّا غمضة فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص"1.
ثانياً: فضح جرائم معاوية
أرسل الإمام الحسين عليه السلام رسالة جاءت كردّ على الرسالة السابقة فضحت الحاكم الأمويّ معاوية. وجاء في هذه الرسالة مجموعة أمور منها:
أ- وصف حزب معاوية بحزب الظلمة.
ب- تذكيره بجرائمه المختلفة التي أدّت إلى إراقة دماء الأبرياء والعظماء من الصالحين الأصحاب كحجر بن عدّي، وعمرو بن الحمق الخزاعيّ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهما.
ج- وصف خلافة معاوية بأنّها أعظم فتنة تمرّ بالأمّة الإسلاميّة.
د- تذكيره بنقض العهد وبنود الصلح الّذي أبرمه مع الإمام الحسن عليه السلام.
هـ- تهديده لمعاوية حسبما جاء في نصّ الرسالة: "فأبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة"2.
1 ابن قتيبة الدينوري، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسياسة، تحقيق: الدكتور طه محمد الزيني، مؤسسة الحلبي، لا.ت، لا.ط، ج1، ص195- 196.
2 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص327.
137
115
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
الخيارات المتاحة أمام الإمام الحسين عليه السلام
كان أمام الإمام عليه السلام عدّة مواقف:
الأوّل: أن يبايع يزيد.
الثاني: أن يرفض البيعة ويبقى في مكّة أو المدينة.
الثالث: أن يرفض ويذهب إلى بلد من بلاد العالم الإسلاميّ كاليمن.
الرابع: أن يرفض ويلبّي نداء الرسائل الموجّهة إليه ويستشهد في كربلاء.
وكان اختيار الموقف الرابع مبنيّاً على إدراك طبيعة الظروف الموضوعيّة المحيطة بالأمّة، ومن خلاله استطاع أن يعالج هذا المرض الّذي دبّ في جسدها وكاد أن يقضي عليها. فاستطاع أن يهزّ ضمير الأمّة من ناحية، ويشعرها بأهميّة الإسلام وكرامة هذا الدين من ناحية ثانية، ويعيد لها إرادة المواجهة من ناحية ثالثة، وأن يوضح لكلّ المسلمين أنّ مفهوم الصلح عند الإمام الحسن عليه السلام لم يكن موقفاً إمضائياً وإنّما كان أسلوباً تمهيديّاً لموقف الإمام الحسين عليه السلام.
سبب الخروج من المدينة المنورة
لقد عزم الإمام الحسين عليه السلام على ترك المدينة المنوّرة، وآثر الخروج منها، حيث لم يكن له فيها مأمن يقيه من شر السلطة الحاكمة آنذاك.
وكان الإمام يتوقّع أن تقع مواجهة عسكرية في المدينة المنوّرة بينه وبين قوات السلطة الأموية من جهة أخرى، وذلك بسبب رعونة يزيد بن معاوية التي تجسّدت في أوامره المشدّدة لوالي المدينة الوليد بن عتبة بقتل الإمام الحسين عليه السلام في حال رفضه للبيعة، حيث أرسل الوليد إلى يزيد يخبره عن حال الحسين بقوله: "أنّه ليس يرى لنا عليه طاعة ولا بيعة"1.
فلمّا وصلت الرسالة إلى يزيد غضب غضباً شديداً، وكتب إلى الوليد قائلاً: "من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أمّا بعد: فإذا ورد عليك كتابي هذا، فخذ
1 ابن أعثم، أحمد بن أعثم الكوفي، الفتوح، تحقيق: علي شيري، بيروت، دار الأضواء، 1411، ط1، ج5، ص18.
138
116
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
البيعة ثانياً على أهل المدينة بتوكيد منك عليهم، وذر عبد الله بن الزبير، فإنّه لن يفوتنا ولن ينجو منّا أبداً ما دام حياً، وليكن مع جوابك إليّ رأس الحسين بن عليّ، فإذا فعلت ذلك فقد جعلت لك أعنّة الخيل، ولك عندي الجائزة والحظّ الأوفر والنعمة واحدة، والسلام"1.
ولو فرض تخلّف الوليد عن فعل ذلك لمعرفته بمكانة الإمام الحسين عليه السلام2 إلا أن السلطة لن يُعدم لها أمويون غيره، فكان بإمكانها تجنيد عناصر لها داخل المدينة فتقوم بمواجهة الإمام عليه السلام.
ولو فرض عدم حصول المواجهة العسكرية سوف تتّجه السلطة إلى محاولة اغتيال الإمام عليه السلام سراً، وهذا ما كان يخشاه الإمام الحسين عليه السلام حيث سوف يؤدّي ذلك إلى قتل ثورته المباركة في مهدها.
ولذا قام الإمام بالخروج من المدينة مفوّتاً على السلطة خطّتها في ذلك، وهذا ما حصل فعلاً، وكان الإمام حريصاً على أن يتحقّق مصرعه في ظروف زمانية ومكانية يختارها هو، ولا يتمكّن العدوّ من إخماد ثورته المباركة، فكان خروجه عليه السلام من المدينة انفلاتاً بالثورة المقدّسة من طوق الحصار والتعتيم الأمويّ.
الإمام الحسين عليه السلام في مكة المكرّمة
ارتحل الإمام الحسين عليه السلام من المدينة المنوّرة سنة ستين للهجرة في آواخر شهر رجب متوجّهاً إلى مكّة المكرّمة، وأقام في مكّة منذ اليوم الثالث من شعبان إلى اليوم الثامن من ذي الحجة من نفس السنة، أي ما لا يقل عن مائة وخمسة وعشرين يوماً، وهي فترة طويلة نسبياً في إطار حساب عمر النهضة الحسينية. وقد توجّه الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة وهو يعلم بأن أهل مكّة لا يميلون إلى بني هاشم عامّة وإلى أبيه وآل عليّ خاصّة، بل هم في الطرف المقابل لهم، فقد روي عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام أنه قال: "ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا..."3.
1 م.ن.
2 م.ن.
3 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص104.
139
117
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
وهذا يكشف لنا عن حقيقة وهي أنه لم يكن لأهل البيت عليهم السلام في مكة قاعدة شعبية واسعة تتولاهم وتدعم مواقفهم وتنصرهم، أو تحبّهم على الأقل.
ومن جهة أخرى يبيّن لنا هذا الأمر أن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن يقصد من توجّهه إلى مكّة أهل مكة جميعهم، بل كان قاصداً الموالين منهم، ومن يمكن أن يكون لديه البصيرة، وتتّضح لديه الحقيقة فيساند الثورة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى كان قاصداً بالأساس الوفود الإسلامية من المعتمرين والحجّاج طلباً للنصرة وإتماماً للحجّة على الناس.
وقد فرح الموجودون في مكّة بقدوم الإمام الحسين عليه السلام عليهم فرحاً شديداً، وأخذوا يفدون إليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمعون منه، ويضبطون ما يروون عنه.
الخروج من مكّة إلى العراق
بعد قضاء تلك الفترة في مكّة المكرّمة علم الإمام عليه السلام أنّ السلطة الأموية تريد غيلته وقتله. ويروى أن يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم وولّاه أمر الموسم وأمره على الحاجّ كلّهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسين عليه السلام سراً وإن لم يتمكّن منه بقتله غيلة. ثمّ إنّه دسّ مع الحاجّ في تلك السنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني أمية، وأمرهم بقتل الإمام الحسين عليه السلام على أيّ حال اتّفق.
فلما علم الحسين عليه السلام بذلك قرّر أن يخرج من مكّة متوجّهاً إلى العراق حتّى أنّه لم يتيسّر له أن يتمّ حجّه، فتحلّل وخرج. وقد كانت السلطة قد ضيّقت عليه جميع الأقطار، ولم يتركوا له موضعاً للفرار.
وقد روي بأسانيد أنّه لما حاول محمد ابن الحنفية ثنيه عن الخروج إلى الكوفة أجابه وقال له: والله يا أخي لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الأرض، لاستخرجوني منه حتّى يقتلوني.
ولو فرض أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يسالمهم ويبايعهم لا يتركونه لشدة عداوتهم، وكثرة وقاحتهم، بل كانوا يغتالونه بكلّ حيلة، ويدفعونه بكلّ وسيلة وإنّما كانوا يعرضون البيعة
140
118
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
عليه أوّلاً لعلمهم بأنّه لا يوافقهم في ذلك، وكان عبيد الله بن زياد يقول: أعرضوا عليه فلينزل على أمرنا ثمّ نرى فيه رأينا، وهم لا أمان لهم، وهذا ما فعلوه مع مسلم بن عقيل عندما أمنوه ثمّ قتلوه1.
ومن جهة أخرى فقد صرّح الإمام الحسين عليه السلام بأنّه لا يريد أن تستباح حرمة هذا البيت بقتله، فقال مخاطباً أخاه محمد ابن الحنفية: "يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت"2.
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج45، ص100.
2 السيد ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف، قم ـ إيران، أنوار الهدى، 1417هـ، ط1، ص39.
141
119
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
المفاهيم الرئيسة
1- وُلد الإمام الحسين عليه السلام بالمدينة، وتسلّم الإمامة بعد شهادة أخيه الإمام الحسن عليه السلام. وقد استمرت إمامته عشر سنوات تقريباً. وكانت شهادته المباركة يوم العاشر من المحرّم، سنة إحدى وستّين من الهجرة.
2- لقد امتاز الإمام الحسين عليه السلام بمكانة خاصة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الناس يهابون الإمام الحسين عليه السلام.
3- ملامح عصر الإمام الحسين عليه السلام: أولاً: تحويل الحكم الإسلاميّ من الخلافة إلى الملك. ثانياً: الإرهاب والتجويع.
4- خطوات الإمام الحسين في مواجهة سياسة معاوية: أولاً: مواجهة معاوية ورفض البيعة ليزيد. ثانياً: فضح جرائم معاوية.
5- الخيارات المتاحة أمام الإمام الحسين عليه السلام: الأوّل: أن يبايع يزيد، الثاني: أن يرفض البيعة ويبقى في مكّة أو المدينة. الثالث: أن يرفض ويذهب إلى بلد من بلاد العالم الإسلاميّ كاليمن. الرابع: أن يرفض ويلبّي نداء الرسائل الموجّهة إليه ويستشهد في كربلاء.
6- لقد عزم الإمام الحسين عليه السلام على ترك المدينة المنوّرة، وآثر الخروج منها، حيث لم يكن له فيها مأمن يقيه من شر السلطة الحاكمة آنذاك. وكان الإمام يتوقّع أن تقع مواجهة عسكرية في المدينة المنوّرة بينه وبين قوات السلطة الأموية من جهة أخرى، ولذا قام الإمام بالخروج من المدينة مفوّتاً على السلطة خطّتها في ذلك.
7- أقام في مكّة منذ اليوم الثالث من شعبان إلى اليوم الثامن من ذي الحجة من نفس السنة، أي ما لا يقل عن مائة وخمسة وعشرين يوماً، وهي فترة طويلة نسبياً في إطار حساب عمر النهضة الحسينية.
8- الخروج من مكّة إلى العراق: بعد قضاء تلك الفترة في مكّة المكرّمة علم الإمام عليه السلام أنّ السلطة الأموية تريد غيلته وقتله بكل حيلة ووسيلة حتى لو بقي في مكة المكرمة، ولذا قرر الخروج إلى العراق.
142
120
الدرس العاشر: الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام
للمطالعة
الثّمار الطيّبة للثّورة الحسينيّة
لقد قام الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام بعملٍ، أدّى إلى ظهور أشخاصٍ في جميع عهود الحكومات الطاغوتية. ورغم أنّهم كانوا أبعد عن عصر صدر الإسلام إلّا أنّ إرادتهم للقتال والجهاد ضدّ جهاز الظّلم والفساد كانت أكبر من عصر الإمام الحسن المجتبى عليه السلام كما كان يُقضى عليهم جميعًا، فبدءًا من قضية قيام أهل المدينة المعروفة بالحرّة، إلى الأحداث اللاحقة وقضايا التوّابين والمختار الثقفيّ إلى عصر بني العبّاس، ففي الداخل هناك شعوبٌ دائمًا ما تثور. فمن ذا الّذي أوجد مثل هذه الثّورات؟ فلو لم يثر الإمام الحسين عليه السلام هل كانت لتتبدّل هذه الروحية الكسولة والمتهرّبة من المسؤوليّة إلى روحيّة مواجهةٍ للظلم وتحمّل المسؤوليّة؟ لماذا نقول إنّ روحيّة تحمّل المسؤوليّة كانت ميّتة؟ إنّه بسبب أنّ الإمام الحسين عليه السلام ذهب من المدينة، الّتي كانت مهد الرّجال العظام في الإسلام، إلى مكّة. وكان أبناء العبّاس والزبير وعمر وأبناء خلفاء صدر الإسلام قد اجتمعوا جميعهم في المدينة، ولم يكن أيٌّ منهم حاضرًا أو مستعدًّا لمساعدة الإمام الحسين عليه السلام في هذه الثّورة الدمويّة والتّاريخيّة. إذًا، فإلى ما قبل بدء ثورة الإمام الحسين عليه السلام، لم يكن الخواصّ مستعدّين ليخطوا خطوةً واحدة. أمّا بعد ثورة الإمام الحسين عليه السلام فقد أُحييت هذه الرّوحيّة. عظمة هذه الواقعة هي هذه. هذا الّذي يُقال: "الموعود بشهادته قبل استهلاله وولادته، (هذا الّذي) بكته السماء ومن فيها والأرض ومن عليها"1 قبل ولادته، إنّه الحسين بن عليّ عليه السلام الّذي له ذلك العزاء الكبير ونحن نُعظّمه. وبحسب هذا الدّعاء أو الزّيارة فإنّ البكاء عليه هو من أجل ذلك. لهذا، عندما ننظر اليوم نرى أنّ الذي أحيى الإسلام وحفظه هو الحسين بن عليّ عليه السلام2.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 العلّامة المجلسيّ، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 44، ص 347.
2 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ص175.
143
121
الدرس الحادي عشر: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
الدرس الحادي عشر: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى سيرة الإمام السجّاد عليه السلام وملامح عصره.
2. يستذكر أهداف الإمام السجّاد عليه السلام.
3. يتبيّن أسلوب مواجهة الإمام عليه السلام للانحراف.
145
122
الدرس الحادي عشر: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
سيرة مشرقة
أولاً: لمحة تاريخية
كانت ولادة الإمام زين العابدين عليه السلام يوم الخميس في الخامس من شعبان سنة 38هـ. أبوه الإمام الحسين عليه السلام وأمّه المكرّمة شهربانو (شاه زنان) بنت يزدجرد. نشأ الإمام عليه السلام في هذا البيت الكريم، وتخلّق بأخلاق الأنبياء والأوصياء. وكان كثير العبادة لله سبحانه وتعالى، حتّى كانت ألقابه تُشير إلى ذلك فكان من ألقابه: زين العابدين، سيّد الساجدين، سيّد العابدين، ذو الثفنات.
وأمّا كنيته فهي: أبو الحسن وأبو محمّد وقال بعضهم: أبو الحسين.
تسلّم زمام الإمامة في سنة 61 هـ في العاشر من المحرّم بعدما استشهد والده الإمام الحسين عليه السلام، واستمرّت إمامته أربعة وثلاثين سنة، وقبل شهادته أوصى إلى ابنه الإمام محمد الباقر عليه السلام1.
وكان له من الأولاد خمسة عشر ولداً ذكراً وأنثى، وهم: الإمام محمد الباقر عليه السلام، أمّه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
وعبد الله والحسن والحسين، وزيد وعمر، والحسين الأصغر وعبد الرحمن وسليمان، وعلي - وكان أصغر أبناء الإمام السّجاد، وخديجة، ومحمد الأصغر، وفاطمة وعليّة وأم كلثوم، وهؤلاء أمّهاتهم أم ولد2.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص305، باب الإشارة والنص على أبي جعفر الأول الباقر عليه السلام.
2 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ص155، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد، ص38.
147
123
الدرس الحادي عشر: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
وكانت شهادته المباركة في أحد الأيّام الثلاث الآتية: إمّا الثاني عشر من محرّم، أو الثامن عشر، أو الخامس والعشرين منه، في سنة خمس وتسعين للهجرة، وقيل في سنة وفاته (سنة الفقهاء) لكثرة موت الفقهاء والعلماء آنذاك. وكان عمره ستّاً وخمسين سنة، ودفن عليه السلام في المدينة المنوّرة، في البقيع.
ثانياً: عبادته
كان الإمام زين العابدين عليه السلام أعبد أهل زمانه، فلم يُرَ أعبد منه، حتّى لُقّب بزين العابدين. وقد شهد بذلك المخالف أيضاً، قال الإمام مالك: "سُمّي زين العابدين لكثرة عبادته"1. ولا بأس بذكر رواية واحدة توضح مدى انقطاعه لله تعالى: روي عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليهما السلام: "أنّ فاطمة بنت علي بن أبي طالب لمّا نظرت إلى ما يفعل ابن أخيها عليّ بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة، أتت جابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام الأنصاري، فقالت له: يا صاحب رسول الله، إنّ لنا عليكم حقوقاً، ومن حقّنا عليكم أنْ إذا رأيتم أحدنا يُهلك نفسه اجتهاداً أن تُذكّروه الله وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقيّة أبيه الحسين، قد انخرم أنفه، وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه دأباً منه لنفسه في العبادة...، فأقبل جابر عليه يقول: يا بن رسول الله، أما علمت أنّ الله تعالى إنّما خلق الجنّة لكم ولمن أحبّكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم؟ فما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟ قال له علي بن الحسين عليهما السلام: يا صاحب رسول الله، أما علمت أنّ جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر فلم يدع الاجتهاد له، وتعبّد - بأبي هو وأمّي - حتّى انتفخ الساق وورم القدم، وقيل له: أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكوراً؟"2.
وكان من شدّة تقرّبه إلى الله تعالى كثرة سجوده، فإنّه ما قام بعمل إلّا وسجد لله سبحانه وتعالى شكراً على أدائه، فقد روي عن جابر بن يزيد الجعفي قال: قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: "إن أبي علي بن الحسين عليه السلام ما ذكر نعمة الله عليه إلّا سجد، ولا
1 السيد محمد هادي الميلاني، قادتنا كيف نعرفهم، تحقيق: السيد محمد علي الميلاني، مراجعة وتصحيح: السيد علي الميلاني، قم، مطبعة: شريعت، 1426، ط1، ج4، ص10.
2 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، ص637.
148
124
الدرس الحادي عشر: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
قرأ آية من كتاب الله عزّ وجلّ وفيها سجود إلّا سجد ولا دفع الله تعالى عنه سوءاً يخشاه أو كيد كايد إلّا سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلّا سجد، ولا وفّق لإصلاح بين اثنين إلّا سجد، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده فسُمّيَ السجّاد لذلك"1.
وقد سُمّي بذي الثفنات لكثرة عبادته وسجوده لله عزّ وجلّ. روي عن الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام قال: "كان لأبي عليه السلام في موضع سجوده آثار ناتية، وكان يقطعها في السنة مرّتين في كلّ مرّة خمس ثفنات، فسُمّي ذا الثفنات لذلك"2.
ثالثاً: مكانة الإمام زين العابدين بين المسلمين
برز الإمام السجاد عليه السلام على الصعيد العلميّ والدينيّ، فكان إماماً في الدين ومناراً في العلم، ومرجعاً ومثلاً أعلى في الورع والعبادة والتقوى، حتّى اشتهر بين المسلمون جميعاً في عصره بأنّه أفقه أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم، فلم يكن في قريش أفضل منه، بل لم يكن في المسلمين أفضل منه، وقد شهد بفضله علماء المذاهب الأخرى، قال سفيان بن عيينة "ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه"3.
وقد اعترف بهذه الحقيقة حكّام عصره من بني أميّة أنفسهم، رغم ما ما يحملونه من عداوة وخصومة تجاه الإمام عليه السلام وأهل بيته، فقال له عبد الملك بن مروان يوماً: "لقد أوتيت من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك ولا قبلك إلاّ من مضى من سلفك..."4 ، ووصفه عمر بن عبد العزيز بأنّه: "سراج الدنيا وجمال الإسلام"5.
ومع هذا اعتبر بعض المؤلّفين أنّ شهادة الإمام الحسين عليه السلام أفقدت الفكر الشيعيّ الزعيم السياسيّ الّذي كان محور الحركة القيادية، وأنّ الإمام زين العابدين عليه السلام انصرف عن السياسة إلى الدين وأصبح زعيماً روحياً لا علاقة له بما يجري من أحداث على أرض الواقع، بل غاية ما قام به هو تخريج ثلّة من العلماء والفقهاء الكبار الذين أصبحوا
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع، ج1، ص232، باب العلة التي من أجلها سمي علي بن الحسين عليه السلام السجاد.
2 م.ن، ص233.
3 ابن شهرآشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص297.
4 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج46، ص57.
5 اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 303 - 305.
149
125
الدرس الحادي عشر: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
فيما بعد مراجع في الأحكام الفقهيّة والقضايا الإسلاميّة.
والحقيقة أنّ هذا التصوّر هو ما أراد أن يوحي به الإمام عليه السلام للسلطة الأمويّة الحاكمة للحفاظ على التشيّع ولنشر الإسلام الأصيل بشكل هادئ وليحصل التغيير من الأرض وبشكل تدريجيّ. وهو ما نفهمه عندما ندرس مراحل حياة الإمام عليه السلام.
المحطات الرئيسة في حياة الإمام السجّاد عليه السلام
يمكن اعتبار حضور الإمام في كربلاء ومواقفه في الشام، وتخطيطه في المدينة بعد عودته إليها هي المحطات الثلاث التي تؤشّر إلى الأبعاد الحقيقية في شخصيته الجهادية:
المحطة الأولى: في كربلاء
تؤكّد المصادر التاريخية أنّ الإمام السجاد عليه السلام كان حاضراً في كربلاء إذ شهد واقعة الطفّ بجزئياتها وتفاصيلها وجميع مشاهدها المروّعة. ومن المتّفق عليه، أنّه كان يوم كربلاء مريضاً أو موعوكاً1 وللحدّ الذي لا يستطيع الوقوف على قدميه، أو لا تحمله قدماه2.
وورد ما يشير إلى أنّه قد حضر بعض القتال: "وكان علي بن الحسين عليلاً، وارتُثَّ يومئذٍ، وقد حضر بعض القتال، فدفع الله عنه وأُخِذ مع النساء"3.
كلّ ذلك وغيره كثير يختزنه الإمام السجّاد عليه السلام ويطوي عليه قلبه وضلوعه، إذ لم يتسنَّ له أن يبذل مهجته، لجرحٍ أصابه، فأخرجه من المعركة، أو مرضٍ شديد أقعده عن المساهمة فيها، فيحمل تلك المشاهد ليستفيد عليه السلام مما شاهده في إبراز وحشية بني أمية وأتباعهم على الملأ.
المحطة الثانية: في الكوفة
يستحضر الإمام السجاد عليه السلام مصارع إخوته وأبناء عمومته، فيقف شامخاً في قصر الإمارة بالكوفة وهو يحمل بلاغة جدّه الإمام عليّ عليه السلام وعنفوان أبيه الحسين عليه السلام،
1 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الارشاد، 231. القاضي النعمان المغربي، النعمان بن محمد، شرح الأخبار، ج 3، ص 250.
2 اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 243 - 244، ومع وضوح هذا النص، فإنّ كلمة (ارتُثَّ) هذه تدلُّ على اشتراكه في القتال، لأنها تُقال لمن حُمل من المعركة بعد أن قاتل وأُثخن بالجراح، فأُخرج من أرضها وبه رمق، كما يقول اللغويون، أو أصحاب فقه اللغة.
3 مجلة تراثنا، مؤسسة آل البيت، ج2، ص150 (عن كتاب تسمية من قبل مع الحسين، الفضل بن زبير الكوفي الأسدي).
150
126
الدرس الحادي عشر: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
فيتحدّث بخطبته أمام الطاغية عبيد الله بن زياد، ويضعه موقف المتّهم المباشر بسفك دماء الأبرياء، عندما رد عليه الإمام علي بن الحسين عليه السلام فقال: "الله يتوفّى الأنفس حين موتها.. وما كان لنفسٍ أن تموت إلاّ بإذن الله...". فغضب ابن زياد فأراد قتله على جرأته وتجاسره على الطاغية بتلك الأجوبة، فتشبّثت به عمّته زينب وتعلّقت به، وقالت لابن زياد: "يا ابن زياد، حسبُك منّا ما أخذت، أما رويتَ من دمائنا؟ وهل أبقيت مِنّا أحداً؟ أسألك الله ـ إن كنت مؤمناً ـ إن قتلته لمّا تقتلني معه..."1.
المحطّة الثالثة: في الشام
أمّا في الشام وحيث الدور الإعلاميّ أكثر تأثيراً من قعقعة السيوف وطعن الرماح مع ما يستبطن من فضح وكشف واحتمال تصفية وقتل، يقف الإمام السجّاد عليه السلام في مجلس يزيد، فينبري بعد أن يحمد الله ويثني عليه مسفّهاً الدعاوى الأموية التي حاولت تشويه نهضة أبيه، وتزييف أهداف ثورته، وعرّف عن نفسه لأنّ في بلاد الشام كانت الصورة عن أهل البيت عليهم السلام غير واضحة، بل مشوّهة تماماً، فقال: "يا معشر الناس: فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أُعرّفه نفسي، أنا ابن مكّة ومِنى، أنا ابن مروة والصفا، أنا ابن محمّد المصطفى... أنا ابن من علا فاستعلى، فجاز سدرة المنتهى، وكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء مثنى مثنى، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن عليّ المرتضى، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المقتول ظلماً، أنا ابن المجزور الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتّى قضى، أنا ابن صريع كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجنّ في الأرض والطير في الهواء، أنا ابن من رأسه على السنان يُهدى، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تُسبى... أيُّها الناس إنّ الله تعالى ـ وله الحمد ـ ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن، حيث جعل راية الهدى والتُقى فينا، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا..."2.
1 ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 435.
2 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 182.
151
127
الدرس الحادي عشر: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
وبهذه الخطبة الموجزة أصبح الرمز الذي يقود مسيرة الإحياء ـ إحياء هذا الدين المضيّع ـ الذي شوّهته السلطة الأموية وحكمت أو تحكّمت باسمه... فتراه عليه السلام حين أراد يزيد أن يقطع حديثه بالأذان للصلاة، يُعلِّق على صوت المؤذّن الذي يقول: "أشهد أنّ محمداً رسول الله" بقوله: "يا يزيد! هذا جدّي أم جدّك؟ فإن قلت جدّك فقد كذبت! وإن قلت جدّي، فلمَ قتلتَ أبي وسبيت حرمه وسبيتني؟!"، ثمّ قال مخاطباً الناس: "أيُّها الناس، هل فيكم من أبوه وجدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟" فعلت الأصوات بالبكاء.
وهكذا يتجلّى دور الإمام السجاد عليه السلام في قيادة مشروع الإحياء وثورة التصحيح. ومن هذه المحطّة تبدأ رحلة الألف ميل مسافة وعمقاً من الشام إلى المدينة، ليستأنف الإمام عليه السلام مهمته الرسالية في استكمال هذا المشروع وريادة هذه الثورة.
المحطّة الرابعة: في المدينة المنوّرة
أ- دوره العلميّ:
ليس الحديث عن الدور العلميّ للإمام السجاد عليه السلام ممّا تجمعه السطور، أو تفي بالتعبير عنه, ولكن حسبها أنّها تأتي بمعالم تفصح بعض إفصاح عن ذلك الدور وما كان يتمتّع به صاحبه من منزلة.
فلقد عاش الإمام زين العابدين عليه السلام في المدينة المنوّرة، حاضرة الإسلام الأولى، ومهد العلوم والعلماء، في وقت كانت تحتضن فيه ثلّة من علماء الصحابة، مع كبار علماء التابعين، فكان بشهادة أكابر أبناء طبقته والتابعين لهم، الأعلم والأفقه والأوثق، بلا ترديد. فقد كان الزهريّ يقول: "ما كان أكثر مجالستي مع عليّ بن الحسين، وما رأيت أحداً كان أفقه منه". وممّن عرف هذا الأمر وحدّث به الفقيه الشهير سفيان بن عيينة1. وبمثل هذا كان يقول الشافعيّ محتجّاً بعليّ بن الحسين عليه السلام على أنّه كان (أفقه أهل المدينة)2.
هذا، وقد كانت مدرسته تعجّ بكبار أهل العلم من حاضرة العلم الأولى في بلاد الإسلام، يحملون عنه العلم والأدب، وينقلون عنه الحديث، ومن بين هؤلاء: زيد ابنه، وكذلك ثوير بن
1 الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، حسين الأسد، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1413 - 1993م، ط9، ج 4، ص 389.
2 ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، ج 15، ص 274.
152
128
الدرس الحادي عشر: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
أبي فاختة، وسعيد بن جبير ويحيى بن أم الطويل، الزهري، وعمرو بن دينار، وغيرهم، وقد حدّث عنه غير هؤلاء من الرجال من خاصّة شيعته من كبار أهل العلم، منهم: أبان بن تغلب، وأبو حمزة الثماليّ، ثابت بن هرمز الفارسي، جابر بن عبد الله الأنصاري، حبيب بن حسان بن أبي الأشرس الأسدي، وغيرهم الكثير1.
هذا الجمع الغفير وغيرهم ممّن وصف بالخلق الكثير أخذوا عنه عليه السلام علوم الشريعة من تفسير القرآن الكريم والعلم بمحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه وأحكامه وآدابه، والسُنّة النبوية الشريفة روايةً وتدويناً في عصر كانت ما تزال كتابة الحديث فيه تتأثّر بما سلف من سياسة المنع من التدوين، السياسة التي اخترقها أئمّة أهل البيت عليهم السلام فكتب عنهم تلامذتهم والرواة عنهم الشيء الكثير، إلى أحكام الشريعة، حلالها وحرامها وآدابها، إلى فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عهد عمدت فيه السياسة إلى تعطيل الكثير من الأحكام وتبديل بعض السنن وإحياء بعض البدع، إلى الجهر في نصرة المظلوم، وضرورة الردّ على الظالم، وكشف أساليبه الظالمة للناس.
المرحلة المنعطف
إنّ مرحلة الإمام السّجاد عليه السلام يُمكن أن تُسجّل منعطفاً مهمّاً بين مرحلتين فاصلتين في عمل أئمّة أهل البيت عليهم السلام:
الأولى: مرحلة التصدّي والصراع السياسيّ والمواجهة العسكرية ضدّ المنحرفين والمحرّفين من الفاسقين والمارقين والناكثين، وقبلهم الكفرة والمنافقون وأعداء الدين الواضحون.
الثانية: مرحلة المعارضة السياسية الصامتة، أو الرفض المسؤول الواضح للانحراف، أمام الضبابية والزيف الملفّع بالدين، وبعد ذلك بناء القاعدة الشعبية والجماعة الواعية التي تتحمّل عبء الرسالة لمواجهة الانحراف والتحريف اللذين أُغرقت أو استُغرقت فيهما الحالة الدينية تحت شعارات الإسلام نفسها ويافطات الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة.
1 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، ص109، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
153
129
الدرس الحادي عشر: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
تأسيساً على ذلك، كان على الإمام زين العابدين عليه السلام أن يُجذّر في عقول وضمائر الجماعة المؤمنة التي يُراد لها أن تحفظ الإسلام عقيدةً ونظاماً، شريعةً ومنهاجاً، عدّة أمور منها:
1- تركيز ثورة الإمام الحسين عليه السلام في ضمائر الناس باعتباره خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه فعلاً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، داعياً لتحكيم دين الله، ولم يخرج (أشراً ولا بطراً)، بل لم يخرج على إمرة (أمير المؤمنين يزيد!!) ولم ينوِ تمزيق الصفّ المسلم أو تفريق جماعة المسلمين، وبالتالي فإنّه قُتل بسيف أعداء الدين، وليس (بسيف جدّه) كما كان يروّج الإعلام الرسميّ آنذاك، وبعض المؤرّخين المتخلّفين اليوم1.
2- بناء الجماعة الواعية، أو كما تُسمّى القاعدة الجماهيرية الشعبية، المؤهّلة لحفظ الرسالة وحدودها بعيداً عن الزيف والتزييف وسياسة تسطيح الوعي التي غطّت مساحات عريضة من الجمهور المسلم بحيث أضحت تلك الجماهير لا تفرّق بين المفاهيم ومصاديقها، أو بين الشعارات المرفوعة وضرورة تبنّيها، أو بين الأصيل والطارىء، الأمر الذي يُسبّب الفتنة فعلاً أو يُشعلها، ويحجب الرؤية الواضحة عن النفوس البريئة التي تتأثّر بالشعار ولا تغوص في أعماق الأمور.
3- تعميق مفهوم الإمامة والولاية في الجماعة الخاصّة بعد أن اهتزّت لدى العامّة تحت ضغط الإعلام المزّيف وأبواقه المأجورة، ومن ثمّ توضيح الخرق الفاضح الذي تمَّ خلاله فصل المرجعية الفكرية عن المرجعية السياسية أو الاجتماعية.
4- العمل بدقّة في مقطع زمنيّ بالغ الحساسية، يحسب على الإمام حركاته وسكناته، ويعدّ عليه أنفاسه وكلماته من جهة، وموازنة ذلك مع عمل إعلاميّ وتبليغيّ بالغ الصعوبة والتعقيد لكشف المعالم الحقيقية للدين، بعيداً عن عيون السلطة ورقابتها وأزلامها وجواسيسها المنتشرين في كلّ زاوية وزقاق، من جهة أخرى.
وبهذا استطاع الإمام السجاد عليه السلام أن يقود الأمّة ويكمل الثورة ويحقّق بقية أهدافها، لكن بما ينسجم مع طبيعة المرحلة وتعقيداتها، حتّى لو لم يتسلّم سلطة أو حكماً.
1 صائب عبد الحميد، ابن تيمية حياته عقائده، ط2، ص 390.
154
130
الدرس الحادي عشر: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
المفاهيم الرئيسة
- برز الإمام السجاد عليه السلام على الصعيد العلميّ والدينيّ، إماماً في الدين ومناراً في العلم.
- اشتهر الإمام زين العابدين عليه السلام بكثرة عبادته لله سبحانه وتعالى حتّى لقّب بزين العابدين لكثرة عبادته وانقطاعه لله عزّ وجلّ.
المحطات الرئيسة في حياة الإمام السجّاد عليه السلام
المحطّة الأولى: في كربلاء.
المحطّة الثانية: في الكوفة.
المحطّة الثالثة: في الشام.
المحطّة الرابعة: في المدينة المنوّرة: حيث عمل على إبراز الدور العلميّ للأئمّة أهل البيت عليهم السلام وله خاصّة في تلك المرحلة.
- خطوات هامّة في المدينة المنوّرة لحفظ الإسلام عقيدة ونظاماً منها:
1- تركيز ثورة الإمام الحسين عليه السلام في ضمائر الناس.
2- بناء الجماعة الصالحة والواعية.
3- تعميق مفهوم الإمامة.
155
131
الدرس الحادي عشر: الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام
للمطالعة
التدبّر في تجارب أهل البيت عليهم السلام
من جملة الأشياء الّتي أراها جليّة وشديدة الأهميّة في كلمات الإمام السّجاد عليه السلام، تلك الكلمات الّتي يُذكّر فيها بتجارب أهل البيت عليهم السلام الماضية. ففي هذا القسم يُشير الإمام عليه السلام إلى تلك الأيّام الّتي مرّت على النّاس من قِبَل الحكّام الجائرين، مثل معاوية ويزيد ومروان، ووقائع مثل الحرّة وعاشوراء، وشهادة حجر بن عديّ ورشيد الهجريّ، وعشرات الحوادث المهمّة والمعروفة والّتي مرّت على أتباع أهل البيت طيلة الأزمان الماضية واستقرّت في أذهانهم. ويريد الإمام عليه السلام أن يحثّ أولئك المخاطَبين من خلال ذكر تلك الحوادث الشّديدة، على التحرّك والثورة. والتفتوا الآن إلى هذه الجملة: "فقد لعمري استدبرتم من الأمور الماضية في الأيّام الخالية من الفتن المتراكمة والانهماك فيها ما تستدلّون به على تجنّب الغواة"1.
أي إنّكم تستحضرون تلك التّجارب وتعلمون ماذا سيفعل بكم أهل البغي والفساد ــ وهم حكّام الجور ــ عندما يتسلّطون عليكم. ولذلك يجب عليكم أن تتجنّبوهم وتواجهوهم. وفي هذا الخطاب يطرح الإمام مسألة الإمامة بصورة صريحة، أي قضيّة الخلافة والولاية على المسلمين والحكومة على النّاس وإدارة النّظام الإسلاميّ. هنا يُبيّن الإمام السجّاد عليه السلام قضيّة الإمامة بالصّراحة، في حين أنّه في ذلك الزّمن لم يكن ممكنًا طرح مثل هذه المطالب على العامّة. ثم يقول عليه السلام: "فقدّموا أمر الله وطاعته وطاعة من أوجب الله طاعته".
وهنا يُعيّن الإمام فلسفة الإمامة والإنسان الّذي يجب أن يُطاع بعد الله. ولو فكّر النّاس بهذه المسألة لعلموا أنّه لا يجب طاعة عبد الملك، لأنّه من غير الجائز أن يوجب الله طاعة عبد الملك، ذلك الحاكم الجائر بكلّ فساده وبغيه. وبعد أن يُقدّم الإمام هذه المسألة يتعرّض لردّ شبهة مقدّرة فيقول: "ولا تقدّموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطّواغيت وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر الله وطاعته وطاعة أولي الأمر منكم"2. فالإمام عليه السلام في هذا القسم من كلمته يعرض بصراحة لقضيّة الإمامة3.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404هـ، ط2، ص 253.
2 م.ن، ص 254.
3 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ص228.
156
132
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى عبادة عليه السلام الإمام وشذرات من مكارم أخلاقه.
2- يفهم العوامل المؤثّرة في عصر الإمام الباقر عليه السلام.
3- يشرح دور الإمام الباقر عليه السلام في الجانب العلميّ والتربويّ والثقافيّ.
157
133
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
سيرة مشرقة
أولاً: لمحة تاريخية
ولد الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام يوم الاثنين في الثالث من صفر، أو غرّة رجب سنة 57 بالمدينة المنوّرة. أبوه الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام وأمّه الماجدة فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وقيل لها أمّ عبد الله، وقد عرفت أمّه بالفضل والتقى والعبادة. وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام في حقّه أنّه قال: "كانت صدّيقة لم يُدرك في آل الحسن عليه السلام امرأة مثلها"1.
وكان من ألقابه: الباقر، الشاكر، الهادي، الأمين، وأمّا كنيته: فأبو جعفر.
وكان الإمام عليه السلام حاضراً في وقعة الطفّ مع جدّه الحسين عليه السلام وعمره أربع سنين أو ثلاث، وكان مع ركب السبايا في رحلتهم من الكوفة إلى الشام ثمّ العودة إلى المدينة.
تسلّم الإمامة بعد شهادة أبيه الإمام السّجاد عليه السلام، واستمرّت إمامته 19 عاماً من سنة 95هـ للهجرة وإلى عام 114هـ.
وكان للإمام الباقر عليه السلام سبعة أبناء من الذكور والإناث، وهم: أبو عبد الله الإمام جعفر بن محمد عليه السلام وعبد الله بن محمد، أمّهما أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر.
وإبراهيم وعبيد الله، أمّهما أم حكيم بنت أسيد بن المغيرة الثقفية، وعلي وزينب وأم سلمة أمّهم أم ولد2.
1 قطب الدين الراوندي، سعيد بن هبة الله، الدعوات، تحقيق: مدرسة الإمام المهدي|، قم، مؤسسة الإمام المهدي، 1407هـ، ط1، ص68.
2 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج2، ص176، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد، ص38.
159
134
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
وقبل شهادته المباركة أوصى بالإمامة إلى ابنه الإمام جعفر الصادق عليه السلام1، وانتقل إلى الرفيق الأعلى شهيداً يوم الاثنين السابع من ذي الحجّة، سنة 114هـ وهو ابن ستّ وخمسين سنة، ودُفن في المدينة المنوّرة، البقيع إلى جوار أبيه الإمام السجّاد عليه السلام.
ثانياً: عبادته ودعاؤه
كان الإمام الباقر عليه السلام أعبد أهل زمانه. وروي عن عبد الله بن يحيى قال: "رأيت على أبي جعفر محمّد بن عليّ إزاراً أصفر، وكان يُصلّي كلّ يوم وليلة خمسين ركعة بالمكتوبة"2.
وكان شديد الاعتراف لله سبحانه وتعالى بالعبودية، روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "كان أبي في جوف الليل يقول: أمرتني فلم أئتمر وزجرتني فلم أزدجر، ها أنا ذا عبدك بين يديك ولا أعتذر"3.
وروي عن إسحاق بن عمّار قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "إنّي كنتُ أُمهّد لأبي فراشه فأنتظره حتّى يأتي، فإذا أوى إلى فراشه ونام قمت إلى فراشي، وإن أبطأ عليّ ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعدما هدأ الناس فإذا هو في المسجد ساجد وليس في المسجد غيره فسمعت حنينه وهو يقول: "سبحانك اللهمّ أنت ربّي حقاً حقاً، سجدت لك يا ربّ تعبّداً ورقّاً، اللهمّ إنّ عملي ضعيف فضاعفه لي، اللهمّ قني عذابك يوم تبعث عبادك وتب عليّ إنّك أنت التوّاب الرحيم"4.
وكان للإمام عليه السلام اهتمام خاصّ بشيعته ومواليه، فقد كان من دعائه لهم: "بسم الله الرّحمن الرّحيم، يا دان غير متوان يا أرحم الراحمين، اجعل لشيعتي من النار وقاءً ولهم عندك رضاً، واغفر ذنوبهم ويسرّ أمورهم واقض ديونهم واستر عوراتهم وهب لهم الكبائر التي بينك وبينهم، يا من لا يخاف الضيم ولا تأخذه سنة ولا نومٌ اجعل لي من كلّ غمّ فرجاً ومخرجاً"5.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص306، باب الإشارة والنص على أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام.
2 الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، ج4، ص404.
3 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج46، ص290.
4 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، المقنعة، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1410هـ، ط2، ص430.
5 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج1، ص63.
160
135
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
ثالثاً: مكارم أخلاقه
جسّد الإمام الباقر عليه السلام في حياته أخلاق الإسلام، فقد كان كريماً يعطي الفقراء ما في يده، ظاهر الجود في شيعته وعند أهل العامة، مشهور الكرم فيما بين الخلق، معروفاً بالفضل والاحسان مع كثرة عياله وتوسّط حاله، فقد روي عن الحسن بن كثير أنه قال: شكوت إلى أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام الحاجة وجفاء الأخوان، فقال: "بئس الأخ أخ يرعاك غنيّاً، ويقطعك فقيراً"، ثم أمر غلامه فاخرج كيساً فيه سبمعائة درهم، وقال: "استنفق هذه، فإذا نفدت فأعلمني"1، وكان لا يملّ من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمّليه وراجيه2.
وفي موقف آخر كان الإمام يتعامل مع الناس بحسن الخلق حتّى كان الناس يميلون إليه، ويصبحون من مواليه وشيعته، فروي أنّ رجلاً من أهل الشام كان يختلف إلى أبي جعفر عليه السلام بالمدينة قال له: يا محمّد، ألا ترى أنّي إنّما أغشى مجلسك حياء مني لك، ولا أقول إنّ في الأرض أحداً أبغض إليّ منكم أهل البيت، واعلم أن طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم، ولكن أراك رجلاً فصيحاً، لك أدب وحسن لفظ وإنّما الاختلاف إليك لحسن أدبك. وكان أبو جعفر عليه السلام يقول له خيراً، ويقول : "لن تخفى على الله خافية". فلم يلبث الشامي إلّا قليلا حتّى مرض واشتدّ وجعه، وكان قد أمر غلامه إذا مات أن يصلّي عليه الإمام الباقر عليه السلام، فاعتقدوا أنّه مات، فذهب الغلام إلى الإمام الباقر عليه السلام وقال له ما أوصاه به الشاميّ، إلا أنّ الإمام الباقر عليه السلام أخبره بأن صاحبه لم يمت بعد، وإنّما ذلك من شدّة المرض، فجاء الإمام إلى داره، وأمرهم بمداواته ثمّ صلّى الإمام ركعتين، فلمّ يلبث إلّا قليلاً حتّى عوفي الشاميّ، فأتى أبا جعفر عليه السلام فقال: أخلني، فأخلاه، فقال : أشهد أنّك حجّة الله على خلقه، وبابه الذي يؤتى منه، فمن أتى غيرك خاب وخسر وضل ضلالاً بعيداً. فقال له أبو جعفر عليه السلام: "أما علمت أنّ الله يحب العبد ويبغض عمله ويبغض العبد ويحب عمله"؟ قال: فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر عليه السلام3.
1 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج2، ص166.
2 م.ن.
3 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، ص411(بتصرف).
161
136
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
العوامل المؤثّرة في عصر الإمام الباقر عليه السلام
يمكن اختصار العوامل المؤثّرة التي ميّزت هذه المرحلة بالآتي:
أ- انتشار الخوف في كافّة المناطق الإسلاميّة خصوصاً بعد واقعة الحرّة.
ب- الانحطاط الفكريّ الّذي كان يعمّ أكثر الناس في العالم الإسلاميّ، وهذا كان نتيجة للابتعاد عن التعاليم الدينيّة خلال سنوات طويلة.
ج- الفساد السياسيّ المتفشّي بين الحكّام سواء في المستوى النظريّ أم العمليّ.
في ظلّ هذه العوامل بدأ الإمام السجّاد عليه السلام بالعمل المتواصل والدؤوب كما مرّ معنا، وأكمل ابنه الإمام الباقر عليه السلام من بعده هذا العمل. وفي زمنه كان الوضع قد تحسّن عمّا كان عليه وذلك بفضل جهود الإمام زين العابدين عليه السلام.
إضافة إلى ما ذكر وصل الانحراف في عصر الإمام الباقر عليه السلام إلى ذروته، سواء على مستوى الحكم والسلطة أم على المستوى العقائديّ والدينيّ والثقافيّ، فالحكم صار كتلة ظلم وجور، والعقائد والمفاهيم صارت تتضاربها الأهواء، فكثرت المدارس، وتعدّدت المناهج، وتعمّقت الخلافات.
ويمكن أن نشير، في هذا الإطار، إلى بعض التيّارات الّتي واجهها الإمام عليه السلام:
كالغلاة، وقد نشطوا بقيادة المغيرة بن سعيد الّذي قال في حقّه الإمام الصادق عليه السلام: "لعن الله المغيرة بن سعيد إنّه كان يكذب على أبي"1، والمجبّرة، وهم القائلون بالجبر الملتزم بإبطال النبوّات والتكاليف، وقد ذكرهم أغلب من ذكر المجسّمة، ولم يصرّح بكفرهم إلا القليل2، والمفوّضة، وهم الذين يقابلون المجبّرة ويقولون بتفويض أمر العباد إليهم، وحال هؤلاء حال المجبّرة أيضا3. وروي عن الإمام الباقر عليه السلام: "إيّاك أن تقول بالتفويض فإنّ الله عزّ وجلّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً منه وضعفاً ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً"4.
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 25، ص 297.
2 محمد علي الأنصاري, الموسوعة الفقهية لميسّرة, مجمع الفكر الإسلامي، 1410هـ، ط1، ج2, ص21.
3 م. ن.
4 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، م. س، ج5، ص 17.
162
137
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
والمرجئة، وهي من الإرجاء، أرجأت الأمر أي أخّرته، وهم يزعمون أنّ أهل القبلة كلّهم مؤمنون ويعتقدون أنّ الله تعالى أرجأ تعذيبهم بسبب المعاصي، أي أخره عنهم1. وقال عليه السلام محذّراً منهم: "اللهمّ العن المرجئة فإنّهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة"2.
دور الإمام الباقر عليه السلام في بناء الجامعة العلمية لأهل البيت عليهم السلام
عاش الإمام الباقر عليه السلام في فترة زمنية مفصلية في تاريخ الأمة الإسلامية، وفي أوج الصراع على السلطة فترة حكم بني أميّة بمرحلتي بني سفيان وبني مروان، هذه الفترة التي تميّزت بتعبئة العالم الإسلاميّ في مواجهة أهل البيت عليهم السلام, بكلّ أساليب الدعاية والإغراء الماديّ والمعنويّ، فكان على المسلم أن يعلن عداءه لنهج أهل البيت عليهم السلام وإلّا لم يكن له إلّا الاضطهاد والظلم والقمع وفي كثير من الأحيان حدّ السيف.
ولكن رغم كلّ الأجواء الضاغطة كان هناك فسحة من الراحة نتيجة انشغال الأمويّين بنزاعاتهم الخاصّة للاستيلاء على الحكم بالإضافة إلى الكثير من الثورات التي انطلقت تباعاً بعد واقعة كربلاء والتي أضعفت الحكم الأمويّ.
استفاد منها الإمام الباقر عليه السلام ورسم لنفسه مساراً واضحاً على هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, في تبليغ الرسالة، وبيان أحكام الشريعة الإسلامية، ومعالجة كلّ الانحرافات العلمية والفكرية التي أُدخلت في ذلك الزمان على الشريعة الإسلامية، ووضع المنهج العلميّ الصحيح الذي يفهم الدين الإسلاميّ من خلاله، وكان دوره في عدّة خطوات هي:
أولاً: الإمام الباقر عليه السلام هو المرجعية العلمية
قال ابن حجر في ترجمة الإمام محمد الباقر عليه السلام: سُمّي بذلك لأنّه من بقر الأرض، أي شقّها، وإثارة مخبآتها ومكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام، والحكم واللطائف ما لا يخفى إلّا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة،
1 الشيخ فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، الناشر: مرتضوي، 1362ش، ط2، ج1، ص 177. الفيروز أبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، لا.ت، لا.ط، ج1، ص 16.
2 م. ن، ج50، ص 292.
163
138
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
ومن ثمّ قيل هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه1. والذي يدلّ على سعة علومه أنّه مع كثرة ما انتهل العلماء من نمير علومه، فإنّه كان يجد في نفسه ضيقاً وحرجاً لكثرة ما عنده من العلوم التي لم يجد لبثّها ونشرها سبيلاً، فكان عليه السلام يقول: "لو وجدت حمَلَة لعلمي الذي آتاني الله عزّ وجلّ، لنشرت التوحيد والإسلام والدين والشرايع..، وكيف لي بذلك، ولم يجد جدّي أمير المؤمنين عليه السلام حملة لعلمه حتّى كان يتنفَّس الصعداء ويقول على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني فإنّ بين الجوانح علماً جماً... "2.
وكان عليه السلام مقصد العلماء من كلّ البلاد الإسلامية، وما زار أحدٌ المدينة إلّا عرّج على بيت محمد الباقر عليه السلام يأخذ منه..، وكان يقصده من أئمة الفقه كثيرون3، فلقد حاز الإمام عليه السلام على شهرة علمية في زمانه، فكان مجلسه يغصُّ دوماً بالوافدين من مختلف أرجاء وأصقاع الأرض الإسلامية، وكانت مكانته العلمية تستهوي الكثيرين للاستعانة به لحلّ المعضلات العلمية والفقهية التي تواجههم. وقد فتن بشخصيته في ذلك الوقت أهل العراق.. وكان الوافدون عليه عليه السلام يبدون خضوعاً وأملاً كبيرين بشخصيته العلمية بحيث كان عبد الله بن عطاء المكّي يقول: "ما رأيت العلماء عند أحدٍّ قط أصغر منهم عند أبي جعفر. ولقد رأيت الحكم بن عُيينة مع جلالته في القوم بين يديه كأنّه صبيٌّ بين يدي معلّمه"4.
وذكر ابن شهر آشوب في المناقب: "إنّ أبا جعفر أكبر العلماء"5، وقد أخذ عنه أهل الفقه ظاهر الحلال والحرام6. وكان عليه السلام واسع العلم ووافر الحلم7، حتّى وصفه هشام بن عبد الملك بأنّه "نبيّ الكوفة" حين سأله الأبرش الكلبيّ: "من هذا الذي احتوشته أهل العراق يسألونه؟ قال: هذا نبيّ الكوفة، وهو يزعم أنّه ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وباقر العلم ومفسِّر القرآن"8.
1 ابن حجر، أحمد بن حجر، الصواعق المحرقة، خرج أحاديثه وعلق عليه: عبد الوهاب عبد اللطيف، مصر، مكتبة القاهرة، 1385 - 1965م، ط2، ص 201.
2 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 3، ص 225.
3 أبو زهرة، الإمام الصادق عليه السلام، ص 22.
4 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ص280 - 282.
5 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج 3.
6 الشيخ باقر شريف القرشي، حياة الإمام الباقر، ج 1، ص 139.
7 ابن عنبة، أحمد بن علي، عمدة الطلب، تصحيح: محمد حسن آل الطالقاني، النجف الأشرف، منشورات المطبعة الحيدرية، 1380 ـ 1961م، ط2، ص 195، ج 4، ص 402.
8 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 46، ص 350.
164
139
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
ثانياً: التركيز على الجانب الأخلاقيّ والتربويّ
وضع الإمام أسس النظام الأخلاقيّ العامّ للفرد والمجتمع. ونشير إلى بعض جنباته في هذه العجالة:
1- الحثّ على الخصال الحميدة: حثَّ عليه السلام على التمرّن على الأخلاق الفاضلة والخصائص الحميدة، فقال عليه السلام: "عليكم بالورع والاجتهاد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً كان أو فاجراً، فلو أن قاتل عليّ بن أبي طالب عليه السلام ائتمنني على أمانة لأدّيتها"1.
2- حسن الخلق: وحبّب إلى النفوس حسن الخلق والرفق، فقال: "من أعطي الخلق والرفق فقد أعطي الخير كلّه، والراحة، وحسن حاله في دنياه وآخرته. ومن حُرم الرفق والخلق كان ذلك له سبيلاً إلى كل شرّ وبليّة إلاّ من عصمه الله تعالى"2.
3- العلاقة بالآخر على أساس العلاقة بالله: كما حثّ عليه السلام على جعل الروابط والعلاقات الاجتماعية على أساس القرب والبعد من الله تعالى، فقد أورد أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تؤكّد على ذلك ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان، ومن أحبّ في الله، وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله, فهو من أصفياء الله"3.
4- عدم إكرام الشّرير: روى عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "ألا إنّ شرار أمتي الذين يكرمون مخافة شرّهم، إلا وإنّ من أكرمه النّاس اتّقاء شرّه فليس منّي"4.
5- الترغيب بالأدب الحسن: وحبّب إلى نفوس أصحابه الأدب وحسن السيرة، فقال عليه السلام: "ما استوى رجلان في حسب ودين قط إلاّ كان أفضلهما عند الله آدبهما"5.
1 ابن شعبة، الحرّاني، الحسن بن علي، تحف العقول، ص299.
2 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج75، ص 186.
3 أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، تصحيح وتعليق: السيد جلال الدين الحسيني، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1370 - 1330ش، لا.ط.
4 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج72، ص272.
5 ابن فهد الحلي، أحمد بن محمد، عدة الداعي، تصحيح: أحمد الموحدي القمي، قم، مكتبة وجداني، لا.ت، لا.ط، ص18.
165
140
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
6- الزهد: وروى عليه السلام عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "إن من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا"1.
فقد حبّب الإمام عليه السلام إلى أصحابه السلوك الصالح، بربطه بالعبادة وطلب العون من الله تعالى، فقال: "ما من عبادة أفضل من عفّة بطن وفرج، وما من شيء أحبُّ إلى الله من أن يُسأل، وما يدفع القضاء إلاّ الدعاء، وإن أسرع الخير ثواباً البرّ..."2.
7- الارتباط الدائم بالله تعالى: الارتباط بالله تعالى والاستسلام له والعزم على طاعته من شأنه أن يمحّص القلوب، ويطهّر النفوس، قال عليه السلام: "ما عرف الله من عصاه"3. فإنّ المعرفة تنتج الحبّ والحبّ الصادق يحول بين الإنسان وبين مخالفة محبوبه.
8- الإقرار بالذنب والتوبة: إنّ منهج أهل البيت عليهم السلام يهدف إلى علاج النفوس البشرية، واستجاشة عناصر الخير فيها، والى مطاردة عوامل الشرّ والضعف والغفلة. قال عليه السلام: "والله ما ينجو من الذنب إلاّ من أقرّ به"4.
والتوبة تمحو الذنب فيعود الإنسان من خلالها إلى الاستقامة ثانية، قال عليه السلام: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ"5.
9- تعميق الحياء الداخليّ: ولا بدّ أن يتسلّح الإنسان بالواعز الذاتيّ الذي يصدّه عن فعل القبيح، ولذا أكّد الإمام عليه السلام على الحياء لأنّه حصن حصين يردع الأهواء والشهوات من الانطلاق اللا محدود. قال عليه السلام: "الحياء والإيمان مقرونان في قرن، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه"6.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي،ج2،ص128.
2 م. ن، ص460.
3 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار،ج75، ص 174.
4 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص426.
5 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج6، ص41.
6 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص106.
166
141
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
ثالثاً: العلم والتعلّم أصلان لا غنى عنهما
حثّ الإمام عليه السلام على طلب العلم، وخصوصاً علم الفقه فقال: "الكمال كلّ الكمال: التفقّه في الدين، والصبر على النائبة وتقدير المعيشة"1.
وحرص عليه السلام على نشر العلم وتعليمه للناس بقوله عليه السلام: "من علّم باب هدى فله أجر من عمل به، ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئاً..."2 ، وجعل على العلم زكاة فقال: "زكاة العلم أن تعلّمه عباد الله"3.
رابعاً: تربية الفقهاء والمحدّتين
لم يكتفِ الإمام عليه السلام بحفظ الدين بما فيه من تفسير وتفصيلٍ في الأحاديث ووضع القواعد المساعدة على الفهم، بل نجده اهتمّ بتربية ثلّة من الأصحاب وحملة الحديث جعلهم يتفرّغون لذلك، ومن بينهم: جابر بن يزيد الجعفي، والحكم بن عيينة الكوفي وحمران بن أعين، وزياد بن المنذر أبو الجارود، وإبراهيم بن نعيم العبدي الكناني، إبراهيم بن عمر الصنعاني اليماني، إسماعيل بن جابر الخثعمي الكوفي، بكير بن أعين بن سنسن الشيباني، وغيرهم الكثير4.
وعهد إلى ابنه الإمام الصادق عليه السلام أن يتولّى القيام بنفقاتهم حتّى تخرّجت على يديه كوكبة من عيون الفقهاء والعلماء.
ويُذكّرهم الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "كان أصحاب أبي والله خيراً منكم، كان أصحاب أبي ورقاً لا شوك فيه"5.
وقد ذكرت كتب التراجم ترجمة أربعمائة واثنين وثمانين شخصاً من تلامذته وأصحابه، منهم العظماء أمثال أبان بن تغلب الّذي قال له الإمام عليه السلام: "اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس فإنّي أُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك"6.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1،ص32.
2 م.ن، ص35.
3 م.ن، ص41.
4 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، ص127، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
5 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الكشي (اختيار معرفة الرجال)، تصحيح وتعليق: ميرداماد الأسترابادي، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1404هـ، لا.ط، ج2، ص 639.
6 م. ن، ج1، ص 131.
167
142
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
خامساً: القرآن الكريم دستور العقيدة والهداية
حثَّ الإمام الباقر عليه السلام المؤمنين على تلاوة كتاب الله العزيز، لأنّه المنبع الأصيل والدستور الدائم لهداية الناس. روى أبو بصير قال: قلتُ لأبي جعفر: إذا قرأت القرآن فرفعت صوتي جاءني الشيطان فقال: إنّما تُرائي بهذا أهلك والناس، فقال عليه السلام: "يا أبا محمّد اقرأ قراءة ما بين القراءتين تسمع أهلك، ورجِّع بالقرآن صوتك فإنّ الله يُحبّ الصوت الحسن يُرجّع فيه ترجيعاً"1.
وأعلن رفضه لمنهج تفسير القرآن الذي يعتمد على الآراء الشخصية والاستحسان، فقد دخل عليه الفقيه المعروف قتادة فقال له الإمام عليه السلام: "أنت فقيه أهل البصرة"؟ قال: "نعم هكذا يزعمون"، قال عليه السلام: "بلغني أنك تُفسّر القرآن". قال: "نعم"، فأنكر الإمام عليه ذلك وقال له: "يا قتادة إنْ كُنتَ قد فسَّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كُنتَ قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، يا قتادة، ويحك، إنّما يعرف القرآن من خوطب به"2.
وقد اشتهر من أصحابه عليه السلام ممن كتب عنه تفسير القرآن، وهما أبو الجارود زيار بن المنذر، وأبو حمزة الثمالي ثابت بن دينار.
سادساً: موقع السنّة الشريفة وأهمّيتها في فهم الدين
لقد اعتنى الإمام الباقر عليه السلام بشكل خاصّ بحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتّى روى عنه جابر بن يزيد الجعفيّ سبعين ألف حديث3، كما روى عنه أبان بن تغلب وغيره من تلامذته وأصحابه مجموعة كبيرة من هذا التراث الضخم. ولم يكتفِ الإمام بنقل الحديث ونشره بل دعا إلى الاهتمام بفهم الحديث والوقوف على معطياته، حتّى جعل المقياس في فضل الراوي هو فهم الحديث ودرايته بمعانيه وأسراره. وقد روي عنه أنّه قال: "اعرف منازل الشيعة على قدر رواياتهم ومعرفتهم, فإنّ المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدراية للرواية يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان"4.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 2، ص 616.
2 م.ن، ج8، ص 311.
3 م.ن، ج 1، ص 140.
4 باقر شريف القرشي، حياة الإمام محمد الباقر عليه السلام، ص 140 - 141.
168
143
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
سابعاً: تصحيح العقيدة
بحث الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام في كثير من دروسه المسائل الكلامية، وسئل عن أعقد المسائل وأدقّها في بحوث هذا العلم فأجاب عنها، سأله رجل فقال له: أخبرني عن ربك متى كان؟ فأجابه الإمام عليه السلام: "ويلك! إنّما يقال لشيء لم يكن، متى كان؟ إن ربّي تبارك وتعالى كان ولم يزل حياً بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كون. كيف! ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع لمكانه مكاناً، ولا قوي بعدما كوّن الأشياء، ولا كان ضعيفاً قبل أن يكوّن شيئاً..."1.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 1، ص 88 - 89.
169
144
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
المفاهيم الرئيسة
- عرف الإمام الباقر عليه السلام بشدّة عبادته لله سبحانه وتعالى، وكثرة دعائه وخصوصاً لشيعته ومواليه.
- عُرف الإمام عليه السلام بالكرم والجود والتواضع للناس كافّة. وقد امتاز بذلك بين جميع أهل زمانه.
- لقد أثّرت عوامل عديدة في حياة الإمام الباقر عليه السلام، منها:
1- انتشار الخوف في كافّة المناطق الإسلامية.
2- الانحطاط الفكريّ الذي عمّ أكثر الناس في العالم الإسلاميّ.
3- الفساد السياسيّ المتفشّي بين الحكّام على المستوى النظريّ أو العمليّ.
- لقد أسّس الإمام الباقر عليه السلام دوراً علمياً رائد في بناء جامعة أهل البيت عليهم السلام العلمية من خلال:
أولاً: الإمام الباقر عليه السلام هو المرجعية العلمية
ثانياً: التركيز على الجانب الأخلاقيّ والتربويّ.
ثالثاً: العلم والتعلّم.
رابعاً: تربية الفقهاء، والمحدّثين.
خامساً: الاهتمام بالقرآن.
سادساً: فهم الدين من خلال السنّة الشريفة.
سابعاً: تصحيح العقيدة.
170
145
الدرس الثاني عشر: الإمام محمد بن عليّ الباقر عليه السلام
للمطالعة
القيادة العلميّة والفكريّة
لقد اختار1 الإمام السجّاد عليه السلام ابنه الإمام الباقر عليه السلام، كإمامٍ للشّيعة وخليفةٍ له، وأراه صندوقًا بحسب الرّوايات مليئًا بالعلم2 أو حاويًا لسلاح رسول الله، وقال: "يا محمّد احمل هذا الصّندوق إلى بيتك"، ثمّ يخاطب الحاضرين: "لا يوجد في هذا الصّندوق من الدّرهم والدّينار شيءٌ، بل هو مليءٌ بالعلم"3. وبهذا التّعبير، عرّف الحاضرين إلى إرث القيادة العلميّة والفكرية والقيادة الثوريّة...
إنّ ما يدفع الإمام وأتباعه نحو هذه الحركة الّتي لا تعرف السّكون، في كلّ هذا السّعي المجهد، ويدعوهم للقيام بهذا التّكليف الإلهيّ هو الواقع الاجتماعيّ والذهنيّ المؤسف. فهم كانوا من جهة يشاهدون أمام أعينهم كيف أنّ النّاس، وإثر التربية المضلّة والمخرّبة، كانوا يزدادون سقوطًا وغرقًا في التيّار العام الفاسد للمجتمع يومًا بعد يوم، ووصل الأمر شيئًا فشيئًا إلى حيث أنّ عامّة النّاس لم يعودوا يستمعون إلى الدّعوة المنجية للإمامة، كحال الزّعماء والمسؤولين ــ "إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا"4ــ ومن جانبٍ آخر لم يعد هناك في هذا التيّار الانحرافيّ، الّذي أصبح كلّ شيء فيه، حتّى الدّرس والبحث والفقه والكلام والحديث والتفسير، من أجل تلبية أماني ورغبات الطواغيت الأمويين، أيّ طاقة أمل مفتوحة عليهم، ولو لم ينهض التشيّع لأجل دعوتهم وهدايتهم لأُغلق عليهم طريق الهداية كلّيًّا، "وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا"5,6.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 الإختيار هنا بمعنى إيصائه بالتصدّي لمهام الإمامة، وتأكيد الحجيّة على الناس، لأنّ تنصيب الإمام اختيار إلهي واقعي.
2 العلّامة المجلسيّ، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 46، ص 229.
3 م. ن.
4 م. ن، ص 288.
5 م. ن، ج 26، ص 253.
6 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ص257(بتصرف).
171
146
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى قبس من علم الإمام عليه السلام وعبادته.
2- يتبيّن الظروف السياسيّة المحيطة بعصر الإمام الصادق عليه السلام.
3- يتعرّف إلى النهضة العلمية في عصر الإمام الصادق عليه السلام ومنهجه الإصلاحيّ.
173
147
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
سيرة مشرقة
أولاً: لمحة تاريخية
ولد الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام يوم الاثنين في السابع عشر من شهر ربيع الأوّل في المدينة المنوّرة سنة 83هـ. وكانت ولادته المباركة في اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهو يوم عظيم البركة. وأبوه الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام وأمّه الجليلة المكرّمة فاطمة، المكنّاة بأمّ فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، التي روي في حقّها عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "كانت أمّي ممّن آمنت واتّقت وأحسنت، والله يُحبّ المحسنين"1. وكان يُقال للإمام الصادق عليه السلام ابن المكرّمة2.
وبعد شهادة أبيه الإمام الباقر عليه السلام تسلّم الإمام الإمامة بوصيّة من والده. واستمرّت إمامته 34 سنة تقريباً من سنة114هـ حتّى شهادته في سنة 148هـ.
ولُقّب الإمام عليه السلام بعدّة ألقاب: الصابر، الفاضل، الطاهر، الصادق، وهذا الأخير هو أشهر ألقابه.
وأمّا كنيته فأبو عبد الله، وأبو إسماعيل، وأبو عبد الله أشهرهما.
وولد للإمام الصادق عليه السلام عشرة أولاد من الذكور والإناث، وهم: الإمام موسى الكاظم عليه السلام أمّه أم ولد، وإسماعيل وعبد الله وأم فروة، أمّهم فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وإسحاق ومحمد، والعبّاس وعلي وأسماء وفاطمة أمّهاتهم أم ولد3.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص393، باب مولد أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام.
2 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج46، ص367.
3 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، ج2، ص209، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد، ص45.
175
148
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
وقبل شهادته المباركة أوصى لابنه الإمام موسى عليه السلام بالإمامة من بعده1. وكانت شهادته في شهر شوّال سنة 148هـ مسموماً على يد المنصور، وهو ابن خمسٍ وستّين سنة، ودفن في جوار آبائه الطاهرين في البقيع في المدينة المنوّرة.
ثانياً: عبادته ومكارم أخلاقه
عُرِف الإمام الصادق عليه السلام بمكارم الأخلاق وأسماها، وكانت مناقبه كثيرة تفوت عدّ الحاسب، ويحار فيها الإنسان. وممّا ورد في عفوه عن الناس ما روي أنّ رجلاً أتاه عليه السلام فقال: إنّ فلاناً ابن عمّك ذكرك فما ترك شيئاً من الوقيعة والشتيمة إلّا قاله فيك، فقال أبو عبد الله عليه السلام للجارية: ايتيني بوضوء، فتوضّأ ودخل، فقلتُ في نفسي: يدعو عليه، فصلّى ركعتين، فقال: "يا ربّ هو حقّي قد وهبته، وأنت أجود منّي وأكرم، فهبه لي ولا تؤاخذه بي ولا تُقايسه"، ثمّ رقّ فلم يزل يدعو فجلعت أتعجّب2.
وقد ورد في شدّة عبادته لله سبحانه وتعالى أنّه كان يُسبّح الله وهو راكع ستّين تسبيحة، فقد روى أبان بن تغلب قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وهو يُصلّي فعددت له في الركوع والسجود ستّين تسبيحة3.
وروي عن مالك بن أنس ـ فقيه أهل السنة وإمامهم في ذلك العصر ـ أنّه قال: "وكان جعفر بن محمّد لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإمّا ذاكراً، وكان من عظماء العبّاد، وأكابر الزهّاد الذين يخشون الله عزّ وجلّ، وكان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: "قال رسول الله" اخضرّ مرّة واصفرّ أخرى حتّى يُنكره من يعرفه.
ولقد حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الإحرام كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد يخرّ من راحلته، فقلتُ: قل يا بن رسول الله، فلا بدّ لك من أن تقول، فقال الصادق عليه السلام: "يا ابن أبي عامر، كيف أجسر أن أقول: لبّيك اللهم لبّيك، وأخشى أن يقول عزّ وجلّ لي: لا لبّيك ولا سعديك"4.
1 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص307، باب الإشارة والنص على أبي الحسن عليه السلام.
2 الشيخ علي الطبرسي، علي بن الحسن، مشكاة الأنوار، تحقيق: مهدي هوشمند، دار الحديث، 1418هـ، ط1، ص380.
3 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص329.
4 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، الخصال، ص167.
176
149
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
ثالثاً: قبس من علمه
إنّ النظر إلى كلمات المعاصرين للإمام الصادق عليه السلام يكشف عن سعة علم الإمام عليه السلام ومكانته عندهم، قال كمال الدين محمّد بن طلحة: هو - "أي الإمام الصادق عليه السلام - من عظماء أهل البيت عليهم السلام وساداتهم ذو علوم جمّة وعبادة موفورة وأوراد متواصلة وزهادة بيّنة وتلاوة كثيرة يتتبّع معاني القرآن الكريم ويستخرج من بحره جواهره ويستنتج عجائبه ويُقسّم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يُحاسب عليها نفسه. رؤيته تُذكّر بالآخرة واستماع كلامه يُزهّد في الدنيا والاقتداء بهداه يورث الجنّة، نور قسماته شاهد أنّه من سلالة النبوّة، وطهارة أفعاله تصدع بأنّه من ذريّة الرسالة، نُقل عنه الحديث واستفاد منه العلم كثير من العلماء، مثل: يحيى بن سعيد الأنصاريّ وابن جريح، ومالك بن أسد، وابن عيينة وأبي حنيفة، وغيرهم، وعدّوا أخذهم منه منقبة شُرّفوا بها، وفضيلة اكتسبوها"1.
وكان من أصحابه أيضاً الذين تتلمذوا على يديه، وصاروا من كبار العلماء الإماميين، منهم: أبان بن تغلب، إسحق بن عمار، بريد بن معاوية العجلي، ومحمد بن مسلم الثقفي، والفضيل بن يسار، وجميل بن دراج، وإسماعيل بن مسلم الكوفي، ومعاوية بن عمار العجلي، حمران بن أعين الشيباني، زرارة بن أعين، صفوان بن مهران، وغيرهم الكثير2.
وهناك شواهد كثيرة على عظمة الإمام الصادق عليه السلام العلمية، وهو أمر متّفق عليه من قِبَل علماء الشيعة والسنّة، فالفقهاء والعلماء الكبار يتواضعون أمام عظمته العلمية ويمدحون تفوقّه العلميّ، فأبو حنيفة يقول: لما أقدمه (جعفر بن محمد) المنصور بعث إليّ فقال: "يا أبا حنيفة، إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ له من مسائلك الشداد فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فسلّمت عليه، فأومأ إليّ فجلست.
1 الأربلي، علي بن عيسى، كشف الغمة، ج2، ص 368.
2 راجع: الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، ص 155، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
177
150
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
ثمّ التفت إليه، فقال: يا أبا عبد الله، هذا أبو حنيفة.
قال عليه السلام: "نعم أعرفه".
ثمّ التفت إليّ فقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد الله من مسائلك.
فجعلت أُلقي عليه فيجيبني، فيقول "أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا"، فرّبما تابعنا وربّما تابعهم وربّما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على الأربعين مسألة فما أخلّ منها بشيء.
ثمّ قال أبو حنيفة وبعد ما بلغ إلى هذا الوضع: "أليس أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟"1.
ونقل الناس عنه -الصادق عليه السلام- من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته ما نقل عنه من العلوم2.
الظروف المحيطة بعصر الإمام الصادق عليه السلام
يُعتبر عهد الإمام الصادق عليه السلام عهد الانفراج الفكريّ لمدرسة أهل البيت عليهم السلام، طبعاً قياساً بالعهود السابقة التي مرّت بها الأمّة الإسلاميّة. وأسباب هذا الانفراج كثيرة أهمّها ضعف الحكم الأمويّ وانهياره سنة 132هـ. والبداية الضعيفة لدولة بني العبّاس. ومن الطبيعيّ أن ينشغل الحكّام عن رموز أهل البيت عليهم السلام. لذلك كان الإمام عليه السلام بعيداً عن المواجهة السياسيّة العلنيّة. ولذا سُمّي هذا العصر بعصر انتشار علوم آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ممّا انعكس إيجابياً على الشيعة، حيث كان فضلاء الشيعة ورواتهم في تلك السنين آمنين على أنفسهم مطمئنّين متجاهرين بولاء أهل البيت عليهم السلام معروفين بذلك بين الناس، ولم يكن للأئمّة عليهم السلام مزاحم لنشر الأحكام، فكان يحضر شيعتهم مجالسهم العامّة والخاصّة للاستفادة من علومهم3.
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج47، ص217، الشيخ أسد حيدر، الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب الأربعة، ج4، ص335.
2 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ص270.
3 الطهراني، آغابزرك، الذريعة، بيروت - لبنان، دار الأضواء، 1403هـ - 1983م، ط3، ج2، ص 132.
178
151
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
ولقد بلغ الازدهار العلميّ والفكريّ غايته في عهد الإمام الصادق عليه السلام فازدهرت المدينة المنوّرة وزخرت بطلّاب العلوم ووفود الأقطار الإسلامية، وانتظمت فيها حلقات الدرس، وكان بيته كجامعة إسلامية يزدحم فيه رجال العلم وحملة الحديث من مختلف الطبقات ينتهلون من معين علمه. ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان1.
منهج الإمام الصادق عليه السلام في التصحيح العلميّ
لقد حرص الإمام الصادق عليه السلام على المعالجة العلمية الجديّة والشاملة، للواقع العلميّ بشكل عام والفقهيّ بشكل خاصّ. وتكوّن المنهج الإصلاحيّ من مجموعة من الخطوات أهمّها:
الأولى: رفض منهج الاجتهاد السائد
عمل الإمام عليه السلام على تصحيح منهج الاجتهاد الفقهيّ السائد المعتمد على القياس، فقد روي عنه أنّه قال عليه السلام: "إنّ أصحاب المقائيس طلبوا العلم بالمقائيس، فلم تزدهم المقائيس من الحقّ إلّا بعداً، وإنّ دين الله لا يصاب بالمقائيس"2.
الثانية: منهج التعامل مع الشريعة والفقه
وذلك من خلال تأصيل منهج الاجتهاد الفقهيّ واستنباط أحكام الشريعة. وقد تمثّل ذلك في الرسائل العلميّة التي دوّنها أصحابه في أصول الفقه، والفقه، والحديث، والتي تميّزت بالاعتماد على مدرسة أهل البيت عليهم السلام، حيث اتّخذت أساساً للفقه والإفتاء دون الرأي والاستحسان، وذلك من خلال:
1- تحديد مرجعية النص: ربط كلّ ما يصدر عنه من روايات وأخبار بمرجعيّة النصّ الأساسية المتمثّلة برسول الله، فلا حجّية لجميع أنواع النصوص الواردة بطرق أخرى، فروي عنه أنّه قال: "حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث
1 ابن حجر، أحمد بن حجر، الصواعق المحرقة، ص 199.
2 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 1، ص 56، ح7.
179
152
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ"1.
2- تحديد مصادر الفتاوى: ونفى صدور الفتاوى عنهم عليه السلام مع ما لهم من الشأن والموقع العلميّ. وفي هذا إشارة إلى عدم حجية جميع الفتاوى التي يصدرها المجتهدون بالاعتماد على القياس ونحوه، فقال عليه السلام: "إنا لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصول علم عندنا نتوارثها كابراً عن كابر، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم"2.
3- وضع منهج التفقّه في الدين: فقد علّم طلاّبه كيفية استنباط الأحكام من مصادر التشريع كما علّمهم كيفية التعامل مع الأحاديث المتعارضة. ويمكن بيان مكوّنات هذا المنهج بالأمور التالية:
أ- رفض ما يخالف الكتاب3: فصرّح عليه السلام بوجوب رفض الأحاديث التي تعارض القرآن فقال عليه السلام: "ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف"4. وقال أيضاً: "إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه"5.
ب- بيان كيفية معالجة الأحاديث المتعارضة: وفي حالة تعارض الأحاديث فيما بينها قال عليه السلام: "إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلاّ فالّذي جاءكم به أولى به"6.
عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 1، ص 53 - 58.
2 محمد بن الحسن بن فروخ الصفار، بصائر الدرجات، تحقيق: الحاج ميرزا حسن كوبه باغي، طهران، منشورات الأعلمي، 1404هـ - 1362ش، لا.ط، ص 300.
3 إن هذه المسألة لها مباحث تفصيلية في علم الأصول، فليس كل مخالف للكتاب لا يأخذ به على وجه الإطلاق، ولا حاجة لتفصيله هنا، ومن أراد التوسعة يراجع الكتب الأصولية.
4 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 1، ص 69.
5 م.ن.
6 م. ن.
180
153
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
منازعة في دين أو ميراث، فقال: "ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله..."1.
ج- التفريع عن الأصول: عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم التفريع"2.
د- تأسيس القواعد الفقهيّة الكلية: يلاحظ في مجموعة كبيرة من الروايات الواردة عن الأئمّة عليهم السلام أنّها قد تحدّثت عن قواعد كلّية للفقه والأصول والحديث. وقد شكّلت هذه القواعد الكلية في عصر الغيبة جزءاً هاماً من منهج وأدوات الاجتهاد عند الإمامية. ونذكر فيما يلي بعض الروايات في هذا المجال:
عن موسى بن بكر، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام، الرجل يغمى عليه يوماً أو يومين أو الثلاثة أو الأربعة أو أكثر من ذلك، كم يقضي من صلاته؟ قال: "ألا أخبرك بما يجمع لك هذه الأشياء كلّها؟ كلّما غلب الله عليه من أمر فالله أعذر لعبده"3.
هـ- حثّ الأصحاب من الفقهاء على الإفتاء:
قال الإمام الصادق عليه السلام لأبان بن تغلب: "اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي أحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك"4.
الثالثة: التدوين
وتميّزت أيضاً مدرسة الإمام عليه السلام بالاهتمام بالتدوين فكان عليه السلام يأمر طلاّبه بالكتابة ويؤكِّد لهم ضرورة التدوين والكتابة، كما تجد ذلك في قوله عليه السلام: "إحتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون اليها"5.
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 8، القضايا والأحكام، باب الاتفاق على عدلين في الحكومة، ح 3233.
2 ابن إدريس الحلي، محمد بن منصور، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1410هـ، ط2، السرائر، ج 3، ص 575، ما استطرفه من جامع البزنطي.
3 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، الخصال، ج 2، ص 644، أبواب ما بعد الألف، ح 24.
4 الأردبيلي، محمد علي، جامع الرواة، مكتبة المحمدي، لا.ت، لا.ط، ج1، ص 9.
5 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 1، ص 52.
181
154
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
الرابعة: مرجعيّة الكتاب والسنّة
أ.جامعيّة الكتاب والسنّة للشريعة:
عن مُرازم عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء، حتّى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتّى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلاّ وقد أنزل الله فيه"1.
وعن المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "ما من أمر يختلف فيه اثنان، إلاّ وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال"2.
ب- وجوب الردّ إلى الكتاب والسنّة وأخذ الأحكام منهما:
روي عنه عليه السلام أنّه قال: "كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة.."3.
سعة جامعة الإمام الصادق عليه السلام
قارع الإمام الصادق عليه السلام جميع التيارات الفكرية والدينية السائدة في تلك الفترة، وأثبت أفضلية العقيدة الإسلامية. ولم تقتصر جامعة الإمام الصادق على الطلّاب الشيعة، فقد زخرت بطلّاب العلم من مختلف المذاهب أيضاً. وكان أئمّة المذاهب المشهورون ـ بشكل مباشر وغير مباشر ـ تلامذة لديه يفيدون منه، وكان على رأسهم أبو حنيفة الذي لازم الإمام سنتين وجعل هاتين السنتين مصدر علمه ومعرفته وكان يقول: لولا السنتان لهلك النعمان4.
وقد كان تلامذة الإمام من الأقطار المختلفة مثل الكوفة والبصرة وواسط والحجاز وغيرها، ومن مختلف القبائل مثل بني أسد، المخارق، طي، سليم، غطفان، الأزد، خزاعة، خثعم، بني ضبة، وقريش لا سيما بنو الحارث بن عبد المطلّب وبنو الحسن الذين اتّصلوا بتلك الجامعة5.
1 م.ن، ص 59، كتاب فضل العلم، الباب 20، باب الرد الى الكتاب، ح 1.
2 م. ن، ج1، ص 60، ح 6.
3 م. ن، ص 70، ح 3.
4 الشيخ أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج1، ص70.
5 م.ن، ص38.
182
155
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
وقد قال الحسن بن عليّ بن زياد الوشّاء: أدركت في هذا المسجد ـ الكوفة ـ تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمّد1.
وكان الإمام الصادق عليه السلام يشجّع ويعلّم ويرغّب تلاميذه في العلم الذي يتناسب مع ذوقهم وطبيعتهم، وفي النهاية كان كلّ واحد منهم يتخصّص في مجال علميّ واحد أو مجالين مثل الحديث، التفسير، علم الكلام وغيرها.
وكان عليه السلام يرشد بعض العلماء الذين يراجعونه للبحث والمناظرة إلى المناظرة مع أحد الطلّاب الذي تخصّص في ذلك العلم، فقد روي عن هشام بن سالم قال: كنّا عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة من أصحابه، فورد رجل من أهل الشام فاستأذن، فأذن له، فلمّا دخل سلّم، فأمره أبو عبد الله عليه السلام بالجلوس، ثمّ قال له: "حاجتك أيّها الرجل؟" قال: بلغني أنّك عالم بكلّ ما تسأل عنه، فصرت إليك لأُناظرك.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: "في ماذا؟" قال: في القرآن، وإسكانه وخفضه ونصبه ورفعه.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: "يا حمران دونك الرجل!". فقال الرجل: إنّما أُريدك أنت لا حمران.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: "إن غلبت حمران فقد غلبتني". فأقبل الشاميّ يسأل حمران حتّى غرض وحمران يجيبه.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: "كيف رأيت يا شامي؟". قال: رأيته حاذقاً ما سألته عن شيء إلاّ أجابني فيه.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: "يا حمران سل الشاميّ" فما تركه يكشر. فقال الشامي: أُريد يا أبا عبد الله أُناظرك في العربية!
فالتفت أبو عبد الله عليه السلام فقال: "يا أبان بن تغلب ناظره"، فناظره فما ترك الشامي يكشر.
فقال: أُريد أن أُناظرك في الفقه!
1 النجاشي، أحمد بن علي، فهرست مصنفي الشيعة (رجال النجاشي)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1416هـ، ط5، ص 39 - 40.
183
156
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
فقال أبو عبد الله عليه السلام: "يا زرارة! ناظره!" فناظره فما ترك الشاميّ يكشر. ثمّ قال: أُريد أن أُناظرك في الكلام!
قال: "يا مؤمن الطاق ناظره"، فناظره فسجل الكلام بينهما، ثمّ تكلّم مؤمن الطاق بكلامه فغلبه به.
وهكذا عندما أراد الشامي أن يناظر في الاستطاعة - قدرة الإنسان على فعل الشرّ والخير- والتوحيد والإمامة أمر الإمام وبالترتيب كلاً من حمزة الطيار وهشام بن سالم وهشام بن الحكم بمناظرته، فغلبوه بأدلّة قاطعة ومنطق مفحم، وبمشاهدة ذلك المشهد المثير ارتسمت ابتسامة جميلة على شفتي الإمام فرحاً1.
الإمام الصادق عليه السلام والمنصور
كان أبو جعفر المنصور قلقاً جداً من نشاطات وتحرّكات الإمام الصادق السياسية. وممّا جعله يزداد قلقاً محبوبية الإمام الصادق عليه السلام ومنزلته العلمية الكبيرة، لذلك كان يُحضر الإمام إلى العراق بين الحين والآخر بذريعة وأُخرى، ويخطّط لقتله وفي كلّ مرة كان الخطر يزول عن الإمام بنحو أو بآخر2.
كان المنصور يراقب تحرّكات الشيعة في المدينة بدقّة، وكان له جواسيس ينظرون من ثبتت شيعيته فيضربون عنقه3.
وكان الإمام الصادق عليه السلام يمنع أصحابه من التعاون والتعامل مع الجهاز الحاكم.
وقد سأله أحد أصحابه يوماً: جعلت فداك -أصلحك الله- إنّه ربما أصاب الرجل منّا الضيق والشدّة، فيدعى إلى بناء يبنيه أو نهر يكريه أو المسناة يصلحه، فما تقول في ذلك؟
فقال عليه السلام: "ما أحبّ أن أعقد لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء - يعني بني العبّاس - وأنّ لي ما بين لابتيها ولا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم الله بين العباد"4.
1 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال، ج2،ص555.
2 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج47، ص162-212، وقد عقد المجلسي فصلاً خاصاً للمواجهات التي كانت بين الإمام والمنصور.
3 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال، ص282.
4 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج5، ص 107، باب عمل السلطان وجوائزهم، ح7.
184
157
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
وكان يحذّر الفقهاء والمحدّثين من الانتماء إلى الحكومة ويقول: "الفقهاء أُمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا إلى السلاطين فاتّهموهم"1.
وكتب أبو جعفر المنصور إلى الإمام يوماً: لولا تغشانا كما يغشانا سائر الناس.
فأجابه الإمام: "ما عندنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّيك عليها، ولا تعدّها نقمة فنعزّيك بها، فلم نغشاك؟!"، فكتب المنصور: تصحبنا لتنصحنا، فأجابه الإمام: "من أراد الدنيا فلا ينصحك، ومن أراد الآخرة فلا يصحبك"2.
1 الشيخ أسد حيدر، الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب الأربعة، ج3، ص21.
2 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج47، ص184.
185
158
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
المفاهيم الرئيسة
- يعتبر الإمام الصادق عليه السلام من عظماء أهل البيت عليهم السلام وساداتهم وذا علوم جمّة وعبادة موفورة وأوراد متواصلة وزهادة بيّنة وتلاوة كثيرة.
- منهج الإمام الصادق عليه السلام في الإصلاح العلميّ: أهمّ الخطوات التي قام بها عليه السلام في منهجه الاصلاحي:
الأولى: رفض منهج الاجتهاد الذي كان سائداً.
الثانية: منهج الاجتهاد الفقهيّ من خلال:
1. تحديد مرجعية النص.
2. تحديد مصادر الفتاوى.
3. وضع منهج التفقّه في الدين.
الثالثة: التدوين.
الرابعة: اعتبار المرجعية الأساس هي الكتاب والسنّة.
- كان المنصور العباسيّ قلقاً جداً من تحركات الإمام لذلك حاول قتله عدّة مرّات.
- كان الإمام عليه السلام يمنع أصحابه من التعاون والتعامل مع الجهاز الحاكم.
186
159
الدرس الثالث عشر: الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
للمطالعة
التشكيلات السرّية الأيديولوجية والسّياسيّة
لقد استطاع الإمام الصّادق عليه السلام وبمساعدة آبائه الواسعة إعداد عدّةٍ مؤمنةٍ ومسلمة ومذهبيّة وأصيلة وثوريّة ومضحّية ومستعدّة للمخاطرة في كلّ أنحاء العالم الإسلاميّ. ولم يكن هؤلاء أشخاصًا عاديّين، لا يعني ذلك أنّهم كانوا من طبقات مميّزة، كلّا، فكان منهم التّاجر والكاسب والغلام وأمثالها. ولكن من ناحية الرّكيزة المعنويّة لم يكونوا يشبهون الأشخاص العاديّين بأيّ شكلٍ من الأشكال. فقد كانوا أشخاصًا تُختصر حياتهم في هدفهم وفي مذهبهم، وكانوا منتشرين في كلّ الأماكن. من المدهش أنّ أتباع الإمام الصادق عليه السلام كانوا منتشرين في كلّ مكان، فلا ينبغي التصوّر أنّهم كانوا يتواجدون في المدينة فحسب، بل كانوا يتواجدون في الكوفة أكثر من المدينة، لا بل كان البعض منهم في الشّام نفسها. فهؤلاء كانوا يُمثّلون الشّبكة العظيمة لتشكيلات الإمام الصادق عليه السلام. الحزب العلويّ وحزب التشيّع، وما ذكرته هنا بشأن تلك الشّبكة هو التشيّع نفسه، أي إنّ ما ذكرته حول تلك الشّبكة الواسعة للتشكيلات هو التشيّع نفسه. وهذا من الفصول الّتي لم تُعرف من حياة الإمام الصادق، إنّه من الأمور الّتي أؤكّد عليها أنا العبد وأصرّ عليها، كان هناك شبكة تنظيميّة عظيمة وحزبٌ كاملٌ يُدار من قِبَل الإمام الصّادق عليه السلام في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ وكانت هذه من نقاط القوّة.
كان هناك شبكة هي الّتي كانت تتحمّل مسؤوليّة الأنشطة الواسعة والمثمرة المتعلّقة بقضية الإمامة في الكثير من المناطق النّائية لدولة المسلمين، وخصوصًا في نواحي العراق العربيّ وخراسان. ولكن هذا أحد وجوه القضيّة وجزءٌ صغيرٌ جدًّا منها. إنّ موضوع التّشكيلات السرّيّة في ساحة الحياة السّياسيّة للإمام الصادق عليه السلام وللأئمّة الآخرين أيضًا، هو من أهمّ فصول هذه الحياة والسّيرة الجيّاشة، والوقت نفسه من أكثرها غموضًا وإبهامًا1.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ص301.
187
160
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى مكارم أخلاق الإمام عليه السلام وعبادته.
2- يعرف الظروف العامّة الّتي رافقت تصدّي الإمام الكاظم عليه السلام للإمامة.
3- يفهم أولويّات المواجهة لدى الإمام عليه السلام حتّى مرحلة السجن.
189
161
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
سيرة مشرقة
أولاً: لمحة تاريخية
ولد الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام يوم الأحد السابع من شهر صفر سنة (128هـ) في مدينة الأبواء بين مكّة والمدينة. أبوه الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، وأمّه يُقال لها حميدة. وقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال في حقّها: "حميدة في الدنيا، محمودة في الآخرة"1. وكان الإمام الصادق عليه السلام شديد الحبّ لابنه الإمام موسى الكاظم عليه السلام حتّى قيل له يوماً: ما بلغ بك من حبّك ابنك موسى؟ قال عليه السلام: "وددت أن ليس لي ولد غيره حتّى لا يشركه في حبّي له أحد"2.
وكان من ألقابه عليه السلام العبد الصالح، الصابر، الأمين، باب الحوائج، ذو النفس الزكية، زين المجتهدين، الوفيّ، المأمون، الطيّب، والكاظم، والأخير من أشهر ألقابه، وذلك لكثرة كظمه الغيظ وعدم دعائه على أعدائه مع ما لقي منهم من الأذى، وكان يُحسن إلى من يُسيء إليه3.
وأمّا كنيته فهي: أبو إبراهيم، أبو عليّ، أبو إسماعيل وأبو الحسن الأوّل، وهو أشهرها.
وقد تسلّم الإمامة بعد شهادة أبيه الصادق عليه السلام في سنة 148هـ، إلى سنة 183هـ، واستمرّت إمامته 35 سنة.
وولد له من الأبناء عليه السلام سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى منهم: الإمام علي بن
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، 476، باب مولد أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام.
2 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج75، ص209.
3 ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، ج6، ص164.
191
162
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
موسى الرضا عليهما السلام، وإبراهيم، والعباس، والقاسم، وإسماعيل، وجعفر، وهارون، والحسين، وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى ، ورقية ، وحكيمة، ونقتصر على ذكر أسماء هؤلاء1.
وكان الإمام قد أوصى قبل شهادته بالإمامة إلى ابنه الإمام عليّ الرضا عليه السلام2. واستشهد الإمام الكاظم عليه السلام، مسموماً ببغداد في حبس السنديّ بن شاهك في الخامس والعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة (183هـ). وهو ابن أربع وخمسين سنة، ودفن ببغداد في مقابر قريش.
ثانياً: عبادته وتقرّبه لله
كان الإمام عليه السلام أعبد أهل زمانه. وروي أنّه كان يقوم الليل للتهجّد والعبادة حتّى الفجر فيُصلّي صلاة الفجر ويبدأ بالتعقيب إلى طلوع الشمس، ثمّ يظلّ ساجداً إلى قبيل الزوال. وكان كثيراً ما يقول: "اللهمّ إنّي أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب"، ويُكرّر هذا الدعاء.
وكان من دعائه أيضاً: "عظُم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك"3.
وكان عليه السلام يبكي من خوف الله كثيراً حتّى تجري دموعه على لحيته4. وقد ورد في زيارته ما يشير إلى شدّة عبادته وتقرّبه لله عزّ وجلّ، "اللهمّ صلّ على محمد وأهل بيته وصلّ على موسى بن جعفر وصيّ الأبرار، وإمام الأخيار، وعيبة الأنوار، ووارث السكينة والوقار والحكم والآثار، الذي كان يحيي الليل بالسهر إلى السحر، بمواصلة الاستغفار، حليف السجدة الطويلة، والدموع الغزيرة، والمناجاة الكثيرة، والضراعات المتّصلة الجميلة"5.
ودخل في إحدى المرّات مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسجد سجدة في أوّل الليل، وسُمع يقول
1 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج2، ص244، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج الموليد، ص47.
2 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص311، باب الإشارة والنص على أبي الحسن الرضا عليه السلام.
3 الإربلي، علي بن أبي الفتح، كشف الغمة، ج3، ص20.
4 الشيخ عباس القمي، منتهى الآمال، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1422هـ، ط5، ج2، ص291.
5 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج99، ص17.
192
163
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
في سجوده: "عظم الذنب عندي فليحسن العفو عندك، يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة"، فجعل يردّدها حتّى أصبح1.
ثالثاً: مكارم أخلاقه
اشتهر الإمام الكاظم عليه السلام بعظيم شأنه، وكثرة اجتهاده وعبادته لله سبحانه وتعالى. وكان مواظباً على العبادات، مشهوراً بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدّقاً وصائماً. ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدي عليه دُعي كاظماً، وكان الإمام عليه السلاميجازي المسيء بإحسانه إليه، ويقابل الجاني بعفوه عنه. ولكثرة عبادته كان يسمّى بالعبد الصالح، ويعرف بالعراق بباب الحوائج إلى الله لنجح مطالب المتوسّلين إلى الله تعالى به، وكان أفقه الناس في زمانه، وأسخاهم وأكرمهم2.
وكان أكثر صلة لرحمه من غيره، وأكثر صلة لفقراء المدينة حتّى أنّه كان يحمل إليهم كلّ ليلة الذهب والفضة والخبز والتمر، وهم لا يعرفونه. ومن كرمه إعتاقه ألف مملوك3.
كان الإمام عليه السلام معروفاً بالسخاء والكرم، وكان يبلغه عن الرجل أنّه يؤذيه فيبعث إليه بصرّة فيها ألف دينار. وكان يصرّ الصرر ثلاثمائة دينار، وأربعمائة دينار، ومائتي دينار، ثمّ يقسمها بالمدينة. وكان الرجل الذي تأتيه صرّة من الإمام عليه السلام يستغني بها عن الناس4.
الظروف العامّة
طارد العبّاسيّون ذريّة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأتباعهم، ولاحقوهم على امتداد العالم الإسلاميّ، وحاولوا استئصالهم خوفاً من ثوراتهم ومكانتهم، ومدى تأثيرهم في قلوب الناس. وقد أُحصي الكثير من الشهداء الذين قُتلوا ابتداءً من تسلّم أبي
1 الخطيب البغدادي، أحمد بن علي، تاريخ بغداد، ج13، ص29.
2 محمد بن طلحة الشافعي، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول، تحقيق: ماجد بن أحمد العطية، لا.ت، لا.ط، ص447.
3 الشيخ عباس القمي، منتهى الآمال، ج2، ص291.
4 الخطيب البغدادي، أحمد بن علي، تاريخ بغداد، ج13، ص29.
193
164
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
العبّاس السفّاح السلطة حتّى شهادة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، والشهيد الحسين بن عليّ بن الحسن شهيد فخّ الّذي استشهد سنة 169هـ، بالإضافة إلى استشهاد الإمام الكاظم عليه السلام نفسه على يد هارون الرشيد سنة 183هـ بعد سنين قضاها يتنقّل في سجون هذا الطاغية.
وأمّا على المستوى العلميّ فقد كثرت الشبهات على الناس ونشأ الكثير من الفرق والمذاهب والتيّارات المنحرفة، حتّى وصل بعضها إلى الإلحاد1.
المحافظة على المسيرة العلمية
لقد أظهر الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام العلوم والمعارف الإسلاميّة الأصيلة وحدّدا المناهج والأصول والمعالم العامّة في جامعة أهل البيت عليهم السلام. وقد عمل الإمام الكاظم عليه السلام على المحافظة على تلك المسيرة العلمية العظيمة، فأكمل دور أبيه الصادق عليه السلام في تخريج العلماء والطلّاب الذين يحملون الإسلام الحقيقيّ، فحافظ على ازدهار هذه الجامعة ونموّها وتطوّرها، وكذا عمل على توسعة رقعة هذا العلم، فوسّع من دائرته على جميع العلماء والشخصيّات في عصره.
وأكّد الإمام عليه السلام على ضرورة تدوين العلم، ولذا كان يحضر العلماء في مجلسه ومعهم في أكمامهم الألواح، فإذا نطق عليه السلام بكلمة وأفتى في نازلة أثبتوا ما سمعوه منه2.
ولقد روى العلماء والفقهاء من أحاديثه عليه السلام الكثير ودوّنوها في كتبهم ومسانيدهم، وفي شتّى العلوم التي تلقّوها منه، على اختلاف آرائهم وتباين نزعاتهم، من الحكمة والتفسير والفقه والحديث، حتّى طبّقت آراؤه الخافقين، وضربت لأجل ذلك آباط الإبل، للاستماع إلى حديثه والانتهال من علومه، فكانت مدرسته امتداداً لمدرسة أبيه الإمام الصادق عليه السلام، فأصبح عليه السلام بعد أبيه عميداً وزعيماً للحركة العلمية والنهضة الفكرية في عصره.
وكان من تلامذته: صفوان بن يحيى البجلي، ومحمد بن أبي عمير، أحمد بن محمد بن
1 الشيخ القرشي، محمد باقر شريف، حياة الإمام الرضا عليه السلام، ص 193.
2 السيد ابن طاووس، المجتنى من دعاء المجتبى، تحقيق: صفاء الدين البصري، لا.ت، لا.ط، ص27.
194
165
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
أبي نصر البزنطي، النضر بن سويد، حماد بن عيسى الكوفي، أبو عبد الله عبد الرحمن بن الحجّاج البجلي الكوفي، عبد الله بن جندب البجلي، عبد الله بن يحيى الكوفي، علي بن يقطين، المفضّل بن عمر، هشام بن الحكم، يونس بن عبد الرحمن، وهؤلاء كانوا من كبار العلماء والمحدّثين1.
العمل السياسيّ
وبدأ الإمام الكاظم عليه السلام بدور آخر تجلّى في المواجهة السياسيّة، وبدأ بخطوات عمليّة عديدة في هذا الإطار. وأمّا الجهاد العسكريّ فلم تكن الأمّة جاهزة لمثل هذا الخيار، وهذا ما نجده في كلمته لشهيد فخّ الحسين بن عليّ عندما رآه عازماً على الخروج: "إنّك مقتول فأجدّ الضراب، فإنّ القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويضمرون نفاقاً وشركاً فإنّا لله وإنّا إليه راجعون وعند الله أحتسبكم من عصبة"2.
وقد ارتسم هذا العمل السياسيّ غير المسلّح في العديد من الأمور:
1- بيان حقّ الإمام عليه السلام بالخلافة:
هذا البيان الّذي انتقل من إطاره العلميّ إلى إطار التحدّي وصناعة الجوّ السياسيّ. وممّا ينقل أنّه لمّا زار هارون قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلموقد احتفى به الأشراف والوجوه والوزراء وكبار رجال الدولة، أقبل على الضريح المقدّس ووجّه للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلمالتحيّة قائلاً: السلام عليك يا بن العمّ، قاصداً الافتخار على من سواه برحمه الماسّة من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمداعماً خلافته من خلال ذلك، وكان الإمام عليه السلام موجوداً فسلّم على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: "السلام عليك يا أبتِ".
ففقد الرشيد صوابه وانتفخت أوداجه وقال: لِمَ قلت إنّك أقرب إلى رسول الله منّا؟
فقال عليه السلام: "لو بُعث رسول الله حيّاً وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟".
فقال هارون: سبحان الله! وإنّي لأفتخر بذلك على العرب والعجم.
1 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، 331، النجاشي، أحمد بن علي، فهرست مصنفي الشيعة (رجال النجاشي)، ص446، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
2 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص 366، باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة، ح18.
195
166
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
فقال عليه السلام: "ولكنّه لا يخطب منّي، ولا أزوّجه، لأنّه والدنا لا والدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم"1.
2- النفوذ إلى السلطة والتأثير من داخلها:
لقد استطاع الإمام أن ينفذ من خلال بعض شيعته إلى مركز القرار واضعاً عيوناً له تنقل التوجّهات للاتّقاء منها من جهة ولمحاولة التأثير في تلك القرارات من جهة أخرى، أو على الأقلّ لخدمة المؤمنين ورفع الظلم عنهم بالقدر الممكن. ومن تلك الشخصيّات عليّ بن يقطين، الّذي كان وزيراً لهارون الرشيد، وقد قال له الإمام الكاظم عليه السلام: "يا عليّ إنّ لله تعالى أولياءَ مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا عليّ"2.
وكان الإمام عليه السلام حريصاً على أمن عليّ بن يقطين وعدم كشفه من قبل هارون وأعوانه. ومرّة أهدى الرشيد إلى ابن يقطين ثياباً فاخرة فيها درّاعة فاخرة فقام من فوره وأهداها إلى الإمام عليه السلام فردّها الإمام عليه السلام وكتب إليه: "احتفظ بها ولا تخرجها عن يدك فسيكون لك بها شأن تحتاج إليها معه"3.
وبعدها جاء ساعٍ إلى هارون يقول له إنّ عليّ بن يقطين يقول بإمامة موسى الكاظم، وإنّه قد حمل إليه في هذه السنة تلك الدرّاعة السوداء التي أكرمته بها، فاستدعى هارون عليّ بن يقطين وقال له: ما فعلت بالدرّاعة السوداء الّتي كسوتك بها وخصصتك بها من بين سائر خواصّي؟
فقال ابن يقطين: هي عندي يا أمير المؤمنين، في سفط من طِيْبِ مختومٌ عليها، فطلب إحضارها، فأرسل من يحضرها من مكانها. وعندما رآها هارون قال: ردّها إلى مكانها وخذها وانصرف راشداً فلن نصدّق بعدها عليك ساعياً4.
1 الشيخ القرشي، محمد باقر شريف، حياة الإمام الرضا عليه السلام، ج1، ص 78.
2 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج72، ص 349.
3 م. ن، ج 48، ص 137.
4 م. ن، ص 138.
196
167
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
3- مواجهة السلطة وفضح ظلمها:
كان الإمام عليه السلام يُظهر عدم شرعيّة هذه السلطة. ومما يُنقل أنّ هارون قال لأبي الحسن الكاظم عليه السلام حين أُدخل عليه: ما هذه الدار؟
فقال عليه السلام: "هذه دار الفاسقين".
فقال له هارون: فدار من هي؟
قال: "هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة".
قال: فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟
فقال عليه السلام: "أُخذت منه عامرة ولا يأخذها إلّا معمورة".
قال: فأين شيعتك؟
فقرأ أبو الحسن عليه السلام: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾1. فقال له: فنحن كفّار؟
قال عليه السلام: لا، ولكن كما قال الله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾2.
فغضب عند ذلك وغلظ عليه3.
أسباب سجن الإمام عليه السلام
1- حقد هارون على كلّ شخصيّة بارزة:
لم يرق لهارون أن يسمع الناس يتحدّثون عن أيّ شخص يتمتّع بمكانة عليا. ويكفي دليلاً على ذلك ما فعله بالبرامكة حيث محا وجودهم رغم كونهم حاشيته ورجاله، بعد أن ذاع اسمهم بين الناس وصار لهم عزّ وجاه.
1 سورة البيّنة، الآية 1.
2 سورة إبراهيم، الآية 28.
3 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 48، ص 156.
197
168
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
2- بغضه للعلويّين:
فقد كان هارون حاقداً على العلويّين وكان يتفنّن في تقتيلهم والبطش بهم، فلم يكن مرتاحاً لوجود سيّدهم الكاظم عليه السلام في دعة واطمئنان وأمان.
3. الوشاية به عليه السلام:
وهذا هو السبب الأساس، فقد وشى بعض المتزلّفين لهارون بالإمام الكاظم عليه السلام، وتناولت الوشاية أموراً عديدة، منها:
أ- جباية الأموال له: ففي الوقت الذي كان يقوم هارون الرشيد بحصار العلويّين اقتصاديّاً لتجويعهم وإفقارهم وصلت إليه وشاية تخبره أنّ الأموال تصل إلى الإمام عليه السلام من جميع أقطار العالم الإسلاميّ وأنّه اشترى ضيعة تسمّى البسريّة بثلاثين ألف دينار.
ب- طلب الخلافة: ويذكر المؤرّخون من الواشين عليّ بن اسماعيل بن جعفر حيث خرج إلى بغداد فدخل على الرشيد وقال له: ما ظننت أنّ في الأرض خليفتين حتّى رأيت عمّي موسى بن جعفر يُسلَّم عليه بالخلافة. فلمّا سمع ذلك هارون فَقَدَ صوابه.
ومن الأمور التي ملأت قلب هارون غيظاً، أنّه كان يقول لموسى بن جعفر عليه السلام: خذ فدكاً حتّى أردّها إليك، فيأبى حتّى ألحّ عليه.
فقال عليه السلام: "لا آخذها إلّا بحدودها".
قال: وما حدودها؟ قال عليه السلام: "إن حدّدتها لم تردّها".
قال: بحقّ جدّك إلّا فعلت. قال عليه السلام: "أمّا الحدّ الأوّل فعدن"، فتغيّر وجه الرشيد وقال: إيهاً.
قال عليه السلام: "والحدّ الثاني سمرقند"، فاربدّ وجهه. قال عليه السلام: "والحدّ الثالث أفريقية"، فاسودّ وجهه وقال: هيه. قال عليه السلام: "والرابع سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية".
قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء، فتحوّل إلى مجلسي.
198
169
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
قال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: "قد أعلمتك أنّني إن حددتها لم تردّها". فعند ذلك عزم على قتله1.
وهكذا فقد كان اعتقال الإمام عليه السلام سنة 179هـ في شهر شوال، وبقي يتنقّل في السجون يلاقي أنواع التضييق والتنكيل إلى أن عمد الرشيد إلى رُطبٍ فوضع فيه سمّاً فاتكاً وأمر السنديّ أن يقدّمه إلى الإمام عليه السلام ويحتّم عليه أن يتناول منه ففعل ومضى شهيداً سنة183هـ.
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج29، ص 201.
199
170
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
المفاهيم الرئيسة
- طارد العباسيون ذريّة الإمام عليه السلام وأتباعهم، ولاحقوهم على امتداد العالم الإسلاميّ.
- أحصي الكثير من الشهداء، الذين قتلوا ابتداء من تسلّم السفاح السلطة حتّى شهادة الإمام الكاظم عليه السلام، وكان أشهرهم الشهيد محمد بن عبد الله بن الحسن، والشهيد الحسين بن علي بن الحسن شهيد فخّ.
-اشتهر الإمام الكاظم عليه السلام بعظيم شأنه، وكثرة اجتهاده وعبادته لله سبحانه وتعالى، وكان مواظباً على العبادات، مشهوراً بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدّقاً وصائماً.
- كان الإمام عليه السلام أعبد أهل زمانه، ويبكي من خوف الله كثيراً حتّى تجري دموعه على لحيته.
- عمل الإمام الكاظم عليه السلام على المحافظة على تلك المسيرة العلمية العظيمة، فأكمل دور أبيه الصادق عليه السلام في تخريج العلماء والطلّاب الذي يحملون الإسلام الحقيقيّ.
- انتشر في هذه المرحلة الفسق وشرب الخمر والمجون...
- رسم الإمام الكاظم عليه السلام خطوط عمله السياسيّ ضمن الأمور التالية:
1. بيان حقّه عليه السلام بالخلافة.
2. النفوذ إلى السلطة والتأثير من داخلها.
3. مواجهة السلطة وفضح ظلمها.
- أسباب سجن هارون للإمام عليه السلام:
1. حقد هارون على كلّ شخصية بارزة.
2. بغضه للعلويين.
3. الوشاية بالإمام من قبل بعض المتزلّفين.
200
171
الدرس الرابع عشر: الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
للمطالعة
المواجهة المستمرّة
إنّ إمامة موسى بن جعفر، بدأت في أصعب المراحل والمقاطع الزمنيّة. فلا يوجد عصر من بعد عصر الإمام السجّاد عليه السلام بشدّة وصعوبة عصر موسى بن جعفر عليه السلام. ففي عام 148هـ كانت أوضاع بني العبّاس قد استتبّت، بعد فراغهم من الصّراعات والخلافات والحروب الّتي كانت دائرة فيما بينهم في بداية حكمهم. فقد قضوا على التّهديد الكبير لخلافتهم والّذي كان يجيء من شخصيّات وجيهة كبني الحسن، حتّى وصل الأمر إلى الإمام الصادق عليه السلام، فقتله بالسمّ غيلةً. ولم يعد في أجواء الحياة السّياسيّة للعبّاسيين أيّ غبارٍ. في مثل هذه الظّروف الّتي كان يتمتّع فيها المنصور بأوج السّلطة الظّاهريّة والقدرة، جاء دور خلافة موسى بن جعفر عليه السلام، الّذي كان شابًّا في مقتبل العمر، وكان يخضع لكلّ هذه الرّقابة. وكان الأمر بحيث إنّ الّذين كانوا يريدون أن يعرفوا إلى من يرجعون بعد الإمام الصادق عليه السلام كانوا يجدون صعوبة بالغة في شقّ الطّريق والوصول إلى موسى بن جعفر عليه السلام. وكان موسى بن جعفر عليه السلام يوصيهم بالحذر لأنّه لو عُرف أنّهم قد سمعوا منه وأخذوا من تعاليمه وارتبطوا به سيكون مصيره الذبح. ففي مثل تلك الظّروف، وصل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام إلى الإمامة وبدأ جهاده.
وهنا لو سألتم أنّه كيف بدأ موسى بن جعفر جهاده عندما وصل إلى الإمامة؟ وماذا فعل؟ ومن جمع؟ وأين ذهب؟ وأيّ أحداثٍ جرت عليه طيلة هذه الـ 35 سنة؟ هناك أشياءٌ متفرّقة يُمكن أن نفهم من مجموعها أشياء كثيرة...، أحدها أنّ هناك أربعة خلفاء حكموا في هذه السنوات الـ 35 من عهد إمامة موسى بن جعفر عليه السلام، وقد كان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام مشغولًا بالتّبليغ والدّعوة إلى الإمامة. وكلّ واحد من هؤلاء الخلفاء الأربعة، ضايقوا موسى بن جعفر عليه السلام وضغطوا عليه.
الإمام الخامنئي دام ظله
201
172
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى مكانة الإمام العلمية وفضائله وعبادته.
2- يتعرّف إلى الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام.
3- يفهم الأهداف الحقيقيّة لولاية العهد، وموقف الإمام الرضا عليه السلام.
203
173
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
سيرة مشرقة
أولاً: لمحة تاريخية
ولد الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في الحادي عشر من شهر ذي القعدة سنة (148هـ) في المدينة المنوّرة. أبوه الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وأمّه أم ولد، ولها أسماء، منها: تُكتَم، وسمانَة. وكانت تكتم من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفّاة حتّى أنّها ما جلست بين يديها منذ ملكتها إجلالاً لها، ولمّا أنجبت الإمام الرضا عليه السلام سمّاها الإمام الكاظم عليه السلام بالطاهرة1.
وكان جدّه الإمام الصادق عليه السلام يتمنّى رؤيته، كما روي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام أنّه قال: "سمعت أبي جعفر بن محمّد عليه السلام غير مرّة يقول لي: إنّ عالم آل محمد لفي صلبك وليتني أدركته، فإنّه سميّ أمير المؤمنين علي عليه السلام"2.
وكان من ألقابه: الرضا، الصابر، الفاضل، الرضيّ، الوفيّ، قرّة أعين المؤمنين، غيظ الملحدين، وأمّا كنيته: فأبو الحسن الثاني.
وولد للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ابنه الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام فقط3.
تسلّم الإمامة بعد شهادة أبيه الكاظم عليه السلام في سنة183هـ، إلى سنة 203هـ، واستمرّت إمامته 20 سنة تقريباً، وأوصى قبل شهادته لابنه الإمام محمّد الجواد عليه السلام4. استشهد
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا، ج1، ص14، باب ما جاء في أم الرضا عليه السلام، ح2.
2 الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى، ج2، ص315.
3 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج2، ص271، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد، ص51.
4 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص320، باب الإشارة والنص على أبي جعفر الجواد عليه السلام.
205
174
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
بالسمّ في شهر صفر، سنة ثلاث ومائتين من يوم الجمعة، وهو يومئذٍ ابن خمس وخمسين سنة. ودفن في طوس.
ثانياً: كرم أخلاقه وعبادته
إنّ تواضع الإمام الرضا عليه السلام وكرم أخلاقه قد ملأ الدنيا، وأقرّ له بذلك جميع من رآه وعاصره. وقد وصف إبراهيم بن العبّاس الإمام الرضا عليه السلام وصفاً جميلاً جداً حاول فيه جمع فضائله وعلّو أخلاقه، حيث قال: ما رأيت أبا الحسن الرضا عليه السلام جفا أحداً بكلمة قطّ، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتّى يفرغ منه، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قطّ، ولا اتّكأ بين يدي جلس له قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قطّ، ولا رأيته تفل قطّ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قطّ، بل كان ضحكه التبسّم.
وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه علي مائدته مماليكه ومواليه حتّى البوّاب والسائس. وكان عليه السلام قليل النوم بالليل، كثير السهر، يحيي أكثر لياله من أولها إلى الصبح، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام من الشهر، ويقول: ذلك صوم الدهر. وكان عليه السلام كثير المعروف والصدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنّه رأى مثله في فضله فلا يصدّقوه1.
وكان من سيرته العبادية وقربه من الله عزّ وجلّ أنّه كان يذكر الله تعالى في جميع أوقاته، وكان شديد الخوف من الله عزّ وجلّ، وكان يجلس في مصلّاه في ليله يسبّح الله ويكبّره ويهلله ويصلّي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى تطلع الشمس، وكان من دعائه في قنوته: "اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك، إنّه لا يذلّ من واليت، ولا يعزّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت"2.
ثالثاً: مكانته العلمية وفضله
عُرف الإمام الرضا عليه السلام في زمانه بكثرة علومه وتنوّعها وسعتها، حتّى كان سميّ جدّه
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا، ج2، ص197.
2 م.ن، ص195.
206
175
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان ممّن شهد له بذلك أبوه الإمام الكاظم عليه السلام عن أبيه الإمام الصادق عليه السلام، فإنّ الإمام الكاظم كان يقول لأبنائه: "هذا أخوكم عليّ بن موسى الرضا عالم آل محمّد، فاسألوه عن أديانكم واحفظوا ما يقول لكم، فإنّي سمعت أبي جعفر بن محمد عليه السلام غير مرّة يقول لي: إن عالم آل محمد لفي صلبك، وليتني أدركته، فإنه سميّ أمير المؤمنين عليه السلام"1.
وقد تحدّث الإمام الرضا عليه السلام عن توافر الناس إليه، وأخذهم العلم عنه، حيث قال: "كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إليّ بأجمعهم، وبعثوا إليّ بالمسائل، فأجبت عنها"2.
وشهد له أهل عصره بعلمه وفضله، حتّى قال عنه أبو الصلت الهرويّ: "ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرضا عليه السلام ولا رآه عالم إلّا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد(عدّة مرّات)، علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم حتّى ما بقي أحد منهم إلا أقرّ له بالفضل، وأقرّ على نفسه بالقصور"3.
وقد ربى الإمام الرضا عليه السلام الكثير من العلماء والفقهاء، وكان من جملة أصحابه: أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمّي، الحسن بن سعيد بن حمّاد، الحسن بن علي الخزاز، والحسن بن علي بن يقطين، وداود بن سليمان، والريان بن الصلت، وعلي بن إسماعيل الميثمي، ويونس بن عبد الرحمن، والحسن بن محبوب السراد، والحسن بن علي بن فضال، وغيرهم4.
ودخل أبو نواس على المأمون فقال له: يا أبا نواس قد علمت مكان عليّ بن موسى الرضا منّي وما أكرمته به فلماذا أخّرت مدحه وأنت شاعر زمانك وقريع دهرك؟ فانشد يقول:
قيل لي أنت أوحد الناس طراً في فنون من الكلام النبيّه
لك من جوهر الكلام بديع يثمر الدرّ في يدي مجتنيه
1 الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج2، ص64.
2 الإربلي، علي بن أبي الفتح، كشف الغمة، ج3، ص111.
3 الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج2، ص64.
4 الشيخ الطوسي، الفضل بن الحسن، رجال الطوسي، ص362، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
207
176
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
فعلى ما تركت مدح ابن موسى والخصال التي تجمّعن فيه
قلت لا أهتدي لمدح امام كان جبرئيل خادماً لأبيه
فقال المأمون أحسنت ووصله من المال بمثل الذي وصل به كافة الشعراء وفضّله عليهم1.
الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام
أولاً: الإمام عليه السلام في عصر هارون الرشيد
بعد استشهاد الإمام الكاظم عليه السلام سنة 183هـ وتسلّم الإمام الرّضا عليه السلام الإمامة عانى الكثير من ظلم هارون، ولم يسجّل له أيّ حضور في المجالس والمحافل العامّة، وذلك لأسباب متعدّدة منها الوصيّة الّتي ركّز فيها الإمام الكاظم عليه السلام على أنّ إظهار ابنه الإمام عليه السلام للإمامة سيكون بعد أربع سنوات من استشهاده أي سنة 187هـ. وذلك لإدراك الإمام الظروف القاسية التي ستمرّ بها الأمّة في ذلك الوقت.
وبالفعل في سنة 187هـ، أعلن الإمام عليه السلام إمامته، ولذلك قال له محمّد بن سنان: لقد شهرت بهذا الأمر - الإمامة - وجلست في مكان أبيك بينما سيف هارون يقطر دماً. فقال الإمام عليه السلام: "إنّ الّذي جرّأني على هذا الفعل قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: لو استطاع أبو جهل أن ينقص شعرة من رأسي، فاشهدوا بأنّي لست نبيّاً، وأنا أقول: لو استطاع هارون أن ينقص شعرة من رأسي فاشهدوا بأنّي لست إماماً"2. وقد توفّي هارون سنة 193هـ. ودُفن في مدينة طوس، ولم يتمكّن من أذية الإمام الرضا عليه السلام وتوجيه الإساءة إليه.
ثانياً: الإمام عليه السلام في عصر الأمين
إنّ شخصيّة الأمين كما تصفها بعض الكتب كانت شخصيّة مستهترة، يقول بعض الكُتّاب "قد كان قبيح السيرة ضعيف الرأي، سفّاكاً للدماء يركب هواه، ويهمل أمره، ويتّكل في جليلات الأمور على غيره"3.
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا، ج2، ص155.
2 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج8، ص257.
3 المسعودي، علي بن الحسين، التنبيه والإشراف، ص 302.
208
177
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
وقد احتدم الصراع بين الأمين والمأمون والّذي أدّى في نهاية المطاف إلى الإطاحة بحكم الأمين وقتله.
وقد استفاد الإمام عليه السلام من هذه الأوضاع، وصبّ جهوده على بناء الجماعة الصالحة ونشر المفاهيم الإسلاميّة الصحيحة في المجتمع الّذي عانى الكثير من المجون والفساد والانحراف الفكريّ.
ثالثاً: الإمام عليه السلام في عصر المأمون
حاول المأمون أن يُظهر حنكته السياسية بإسناد ولاية العهد إلى الإمام عليه السلام. لكنّ الطرف الآخر الّذي كان في المقابل هو الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، وهو نفسه الّذي كان يحوّل أعمال المأمون وخططه الذكيّة والممزوجة بالشيطنة إلى أعمال بدون فائدة ولا تأثير لها، كما سنرى في الكلام عن ولاية العهد. وهناك عدّة شواهد على هذه الشيطنة، ففي عصره كان يتمّ ترويج العلم والمعرفة بحسب الظاهر، وكان العلماء يُدعَون إلى مركز الخلافة، ويبذل المأمون الهبات والمشجّعات للباحثين، وذلك لإعداد الأرضيّة لانجذابهم نحوه. وعلاوة على هذا فقد حاول جذب الشيعة وأتباع الإمام عليه السلام إليه من خلال القيام ببعض الأعمال، فمثلاً كان يتحدّث عن عدّة أمور منها:
أ- أنّ الإمام علياً عليه السلام أكثر أهليّة وأولى بالخلافة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
ب- جعل لعن معاوية وسبّه أمراً رسميّاً.
ج- أعاد للعلويّين ما غُصب من حقّ السيّدة الزهراء عليها السلام في فدك.
وبالنتيجة كان يبذل قصارى جهده لإرضاء الناس حتّى يستطيع بسهولة الاستقرار على كرسيّ الخلافة.
الإمام الرضا عليه السلام وولاية العهد
أولاً: أهداف ولاية العهد
بعد مقتل الأمين تسلّم المأمون الخلافة سنة 198هـ، وأسند ولاية العهد إلى الإمام عليه السلام سنة 201 للهجرة، وكان وراء هذا العمل عدّة أهداف منها:
209
178
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
1- التهدئة للأوضاع الداخليّة:
بعد تسلّم المأمون الخلافة بسنة واحدة أي في سنة 199هـ، اندلعت ثورات عظيمة وحركات تمرّد واسعة قادها العلويّون، حيث خرج أبو السرايا السريّ بن منصور الشيبانيّ بالعراق ومعه محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل الحسنيّ، فضرب الدراهم بالكوفة بغير سكّة العبّاسيين، وسيّر جيوشه إلى البصرة. وقد توزّعت الثورة على عدّة جبهات:
أ- جبهة البصرة بقيادة العبّاس بن محمّد بن عيسى الجعفريّ.
ب- وجبهة مكّة بقيادة الحسين بن الحسن الأفطس.
ج- وجبهة اليمن بقيادة إبراهيم بن موسى بن جعفر عليه السلام.
د- وجبهة فارس بقيادة إسماعيل بن موسى بن جعفر عليه السلام.
هـ- وجبهة الأهواز بقيادة زيد بن موسى.
و- وجبهة المدائن بقيادة محمّد بن سليمان1.
ولذلك كان الهدف الأوّل من دعوة الإمام عليه السلام إلى خراسان تحويل ساحة المواجهة العنيفة والملتهبة إلى ساحة مواجهة سياسيّة هادئة.
2- سلب القداسة والمظلومية عن الثورة:
لم يكن يعرف الشيعة التعب أو الملل في المواجهة ولم تكن ثورتهم لتقف عند حدّ. وهذه المواجهات كان لها خاصّيّتان:
الأوّلى: المظلوميّة. الثانية: القداسة2.
المظلوميّة: الّتي كانت تتمثّل بانتزاع الخلافة والاضطهاد والقتل الّذي تعرّض له أئمّة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ومواليهم.
أمّا القداسة: فهي الّتي يمثّلها الإمام المعصوم من خلال ابتعاده عن أجهزة الحكم، وقيادة الناس وفقاً لمنهج الإسلام الأصيل.
إنّ المأمون العباسيّ حاول من خلال ولاية العهد أن يسلب هذه القداسة والمظلوميّة
1 المنظمة العالمية للحوزات، تاريخ الإسلام، ج3، ص160-161.
2 الإمام الخامنئي، الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت عليهم السلام، ص 190-191(بتصرّف).
210
179
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
اللّتَيْن تشكّلان عامل النفوذ الثوريّ في المجتمع الإسلاميّ, لأنّ الإمام عندما يصبح وليّ عهد سينضمّ، حسب تصوّر المأمون، إلى أجهزة الحكم وينفّذ أوامر الملك في التصرّف بالبلاد، إذاً فهو لم يعد لا مظلوماً ولا مقدّساً.
3- إضفاء المشروعيّة على الخلافة العباسيّة:
إنَّ مبايعة الإمام عليه السلام للمأمون تعني حصول المأمون على اعتراف من العلويّين، على أعلى مستوى، بشرعيّة الخلافة العباسيّة. وقد صرّح هو بذلك "فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا"1.
لأنّ هذه البيعة تعني بالنسبة إلى المأمون: أنّ الإمام يكون قد أقرّ بأنّ الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويّين دون غيرهم. ولذلك إنّ حصول المأمون على هذا الاعتراف ومن الإمام عليه السلام خاصّة، يُعتبر أخطر على العلويّين من الأسلوب الّذي انتهجه أسلافه من أمويّين وعباسيّين ضدّهم، من قتلهم وتشريدهم، وسلب أموالهم2.
وهناك أهداف كثيرة ذُكرت في الكتب للبيعة كأن يكسب المأمون سمعة معنويّة وصيتاً بالوقار والتقوى، وأن يتحوّل الإمام إلى حامٍ ومرشد للنظام، إلى غير ذلك من الأهداف الّتي سنذكر بعضها. ولكنّ السؤال المهمّ هو ما هي الإجراءات التي قام بها الإمام عليه السلام في سبيل مواجهة هذه الخطوة السياسيّة الدقيقة؟
ثانياً: الإكراه على البيعة
أوّل أمر قام به الإمام أنّه رفض البيعة بولاية العهد. وانتشر هذا الرفض في كلّ مكان حتّى أنّ الفضل بن سهل صرّح في جمع من العاملين بهذا الأمر. وبيّن الإمام في كلّ فرصة أُتيحت له أنّه مجبر على القيام بهذا الأمر. وهذا يُعتبر أيضاً إجراء من قبل الإمام في مواجهة ولاية العهد من قبل المأمون. قال الريّان بن الصلت: دخلت على عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، فقلت له: يا بن رسول الله الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا، ج2، ص 181.
2 العاملي، السيد جعفر مرتضى، الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام، لا.ت، ط2، ص 238-239.
211
180
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
في الدنيا، فقال عليه السلام: "قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خُيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أنّ يوسف عليه السلام كان نبيّاً ورسولاً فلمّا دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ؟ ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك على أنّي ما دخلت في هذا الأمر إلّا دخول خارج منه فإلى الله المشتكى وهو المستعان"1.
طبعاً، هذا لا يعني أنّ الإمام عليه السلام لأنّه هُدّد بالقتل قبِل بولاية العهد من دون النظر إلى النتائج المترتّبة على ذلك. ومن النصوص الّتي يظهر فيها التهديد للإمام عليه السلام هو قول المأمون له: "إنّ عمر بن الخطّاب جعل الشورى في ستّة أحدهم جدّك أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وشرط فيمن خالف منهم أن يُضرب عنقه ولا بدّ من قبولك ما أريده منك فإنّني لا أجد محيصاً عنه"2.
ثالثاً: الإجراءات الّتي قام بها الإمام عليه السلام في قبول ولاية العهد
1- إعلان التهديد:
وهذا الإجراء تقدّم الكلام عنه، وقد ساعد أعوان السلطة لعدم تدبيرهم ودرايتهم بالسياسة على نشر هذا الخبر.
2- عدم التدخّل في الشؤون السياسيّة:
رغم كلّ التهديدات الّتي مورست على الإمام عليه السلام قَبِلَ ولاية العهد بشرط الموافقة على عدم تدخّله في أيّ شأن من شؤون الحكومة من حرب أو سلم، ومن عزل أو نصب وغيره.
فقد قال عليه السلام عندما هدّده المأمون: "فإنّي أجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد على أنّني لا آمر ولا أنهى ولا أفتي ولا أقضي ولا أولّي ولا أعزل ولا أغيّر شيئاً ممّا هو قائم، فأجابه المأمون إلى ذلك كلّه"3.
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا، ج2، ص139.
2 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ص290.
3 م.ن.
212
181
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
إلى غيرها من الإجراءات التي قام بها الإمام الرضا عليه السلام في مواجهة هذه السياسة الّتي قام بها المأمون.
رابعاً: نتائج ولاية العهد
إنّ السنة التي تسلّم فيها الإمام عليه السلام ولاية العهد كانت واحدة من أعظم البركات التاريخية على التشيّع حتّى إنّها نفخت روحاً جديدة في نضال العلويّين وكفاحهم، وهذا كان من بركات التدبير الإلهيّ للإمام الثامن عليه السلام وأسلوبه الحكيم1، ولذلك سنشير إلى بعض من نتائج ولاية العهد.
1- اعتراف المأمون بأحقيّة أهل البيت عليهم السلام:
ويكفي للتدليل على هذه الفكرة أن نطّلع على بعض الكلمات التي صدرت عن الإمام عليه السلام في مراسم التعيين. فعندما طلب المأمون منه أن يخطب أمام الناس خطب موضّحاً حقّه: "أيّها الناس إنّ لنا عليكم حقّاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكم علينا حقّاً به، فإذا أدّيتم إلينا ذلك وجب لكم علينا الحكم والسلام"2.
ثم خطب المأمون فقال: "أيّها الناس جاءتكم بيعة عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام والله لو قرأت هذه الأسماء على الصمّ البكم لبرئوا بإذن الله عزّ وجلّ"3.
2- توظيف الإعلام لصالح الإمام عليه السلام:
وقد تمّ ذلك من خلال عدّة خطوات:
• أصبح أئمّة الجمعة يدعون للإمام الرضا عليه السلام في كلّ جمعة وعند كلّ مناسبة.
• ضربت النقود باسم الإمام الرضا عليه السلام في جميع الأمصار.
• كثرت الخطب والأشعار المادحة للإمام وأهل البيت عليهم السلام.
1 الإمام الخامنئي، الدروس العظيمة من السيرة أهل البيت عليهم السلام، ص190.
2 ابن الصباغ المالكي، علي بن محمد، الفصول المهمّة، تحقيق وتوثيق وتعليق: سامي العزيري، قم، دار الحديث، 1422هـ، ط1، ص255 - 256.
3 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا، ج2، ص147.
213
182
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
حتّى إنّ المأمون نفسه قال:
لا تُقبل التوبة من تائب إلّا بحبِّ ابن أبي طالب
أخي رسول الله حلف الهدى1 والأخ فوق الخِلّ والصاحب2
3- حريّة الإمام عليه السلام في المناظرة:
ويكفي أن نعرف أنّ مناظرات الإمام كثيرة جدّاً مع كلّ المذاهب والأديان حتّى لُقّب عليه السلام بـ "غيظ الملحدين".
فقد جمع المأمون للإمام عليه السلام الجاثليق وهو رئيس الأساقفة، ورأس الجالوت عالم اليهود، ورؤساء الصابئين، وعظماء الهنود من أبناء المجوس، وأصحاب زرادشت، وعلماء الروم، والمتكلّمين، فناظرهم بأجمعهم في مناظرات مشهورة، وغلب عليهم بالحجّة البيّنة والبراهين التامّة، وأذعنوا لتمام فضله في العلم.
4- نشر فضائل أهل البيت عليهم السلام ومقاماتهم:
فقد نشر الإمام عليه السلام فضائل الإمام عليّ عليه السلام وكراماته، ويكفي أن نعرف أنّ نفس المأمون في سنة 211 قد أمر أن ينادى: "برئت الذمّة ممّن يذكر معاوية بخير، وإنّ أفضل الخلائق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّ بن أبي طالب"3.
5- حقن دماء المسلمين:
من آثار هذه الولاية حقن الدماء، فقد أصدر المأمون العفو العامّ عن قادة الثورات: كزيد وإبراهيم أخي الإمام عليه السلام، ومحمّد بن جعفر.
1 الشيخ القرشي، محمد باقر شريف، حياة الإمام الرضا عليه السلام، ج2، ص 249.
2 السيد محمد حسن، الأمين، أعيان الشيعة، تحقيق وتخريج: حسن الأمين، بيروت، لبنان، دار التعارف للمطبوعات، لا.ت، لا.ط، ج 2، ص 16.
3 السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، تاريخ الخلفاء، تحقيق: لجنة من الأدباء، بيروت، مطابع معتوق إخوان، لا.ت، لا.ط، ص247.
214
183
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
المفاهيم الرئيسة
- عُرف الإمام الرضا عليه السلام في زمانه بكثرة علومه وتنوّعها وسعتها، حتى كان سميَّ جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
- إنّ تواضع الإمام الرضا عليه السلام وكرم أخلاقه قد ملأ الدنيا، وأقرّ له بذلك جميع من رآه وعاصره، وقد وصف إبراهيم بن العباس الإمام الرضا عليه السلام وصفاً جميلاً جداً حاول فيه جمع فضائله وعلوّ أخلاقه.
- عانى الإمام الرضا عليه السلام الكثير من ظلم هارون ولكن لم يظهر أيّ تصدٍّ علنيّ لمنصب الإمامة.
الحياة السياسية
- عاصر الإمام عليه السلام عدداً من خلفاء بني العبّاس وهم هارون، والأمين، والمأمون.
- في عهد المأمون تسلّم الإمام عليه السلام ولاية العهد.
- كانت هناك عدّة أهداف وراء ولاية العهد منها: التهدئة للأوضاع الداخليّة، سلب القداسة والمظلوميّة عن الثورات، إضفاء المشروعيّة على الخلافة العباسيّة.
- إنّ الإمام عليه السلام كان مكرهاً على البيعة، وعند عرضها عليه وقبوله بها قام بعدّة إجراءات منها إعلان أنّه قبل ذلك تحت التهديد، وعدم تدخّله في الشؤون السياسيّة.
نتائج ولاية العهد
1- اعتراف المأمون بأحقيّة أهل البيت عليهم السلام.
2- توظيف الإعلام لصالح الإمام عليه السلام.
3- حرّية الإمام في المناظرة.
4- حقن دماء المسلمين.
215
184
الدرس الخامس عشر: الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
للمطالعة
أهداف المأمون من ولاية العهد
لقد كان المأمون بدعوته للإمام الثامن عليه السلام إلى خراسان يسعى وراء عدّة مقاصد أساس:
الأول: تبديل ساحة المواجهات الثوريّة الحادّة للشّيعة إلى ساحةٍ للنشاط السياسيّ الهادئ البعيد عن الخطر... وكان لهذا التدبير القدرة على أمرين:
أ- أن يجعل الفكر الشيعيّ مرادفًا لسائر العقائد والأفكار الّتي لها أتباعٌ في المجتمع ويخرجه من حيثيّة الفكر المخالف لجهاز السّلطة.
ب- تخطئة ادّعاء التشيّع حول خلافة الأمويين والعبّاسيين، وإضفاء الشرعيّة على هذه الخلافات.
الثاني: نقض الفكرة السّائدة عن زهد وعدم اهتمام الأئمّة بزخارف الدنيا ومقاماتها، ويُظهر أنّ الأئمّة يلجؤون إلى الزّهد فقط في الظّروف الّتي لا تصل فيها أيديهم إلى الدّنيا.
الثالث: أن يجعل الإمام المعصوم، الّذي كان ركيزة المعارضة والمواجهة، في جهازه الحاكم وكذلك بقية القادة العلويين يدخلون تحت سيطرة المأمون.
الرابع: أن يجعل الإمام عليه السلام تحت محاصرة أجهزة الحكومة. وبذلك يفقده الطّابع الشّعبيّ، ويبني حاجزًا بينه وبين النّاس حتّى يضعف بالتّالي الرابط العاطفيّ بينه وبين الطّبقة الشعبيّة.
الخامس: أن يكسب سمعة معنويّة ووجاهة، باختياره ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولاية عهده.
السادس: كان باعتقاد المأمون أنّ الإمام عليه السلام بتسلّمه لولاية العهد سيتحوّل إلى عاملٍ تبريريّ لجهاز الحكم وصاحب الشّخصيّة المقدّسة والمعنويّة.
وكما يُشاهد فإنّ هذا التدبير كان من العمق والتعقيد لدرجة أنّه لم يكن لأحدٍ غير المأمون القدرة على القيام به، ولهذا السبب، كان أنصار المأمون والمقرّبون غافلين عن أبعاده وجوانبه ولأجل ذلك كان المأمون يخترع القصص من أجل توجيه هذا الفعل ودوافعه ويتوسّل بهذا القول وذاك1.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر250 سنة، ص337341 (بتصرف).
216
185
الدرس السادس عشر: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام
الدرس السادس عشر: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى بعض فضائل الإمام عليه السلام وحياته العلمية.
2- يتعرّف إلى الظروف السياسية العامّة في عصر الإمام عليه السلام
3- يلخِّص خطّة المأمون وكيفيّة مواجهة الإمام عليه السلام له.
217
186
الدرس السادس عشر: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام
سيرة مشرقة
أولاً: لمحة تاريخية
ولد الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام في التاسع عشر أو الخامس عشر من شهر رمضان سنة (195هـ) في المدينة المنوّرة. وأبوه الإمام عليّ الرضا عليه السلام، ووالدته أمّ ولد اسمها سبيكة، وقد سمّاها الإمام الرضا عليه السلام خيزران، وكانت من أهل النوبة من قبيلة مارية القبطية أمّ إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت أفضل نساء زمانها، ولقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث روي عنه أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيّبة الفم"1.
وكان من ألقابه: المختار، المنتجب، المرتضى، القانع، العالم، التقيّ، الجواد، والأخيران من أشهرها، وكنيته: أبو جعفر الثاني تمييزاً عن جدّه محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام.
تسلّم الإمامة بعد شهادة أبيه الرضا عليه السلام في سنة 203هـ، واستمرّت إمامته 17 سنة إلى سنة 220هـ، وقبل شهادته المباركة أوصى بالإمامة إلى ابنه الإمام عليّ الهادي عليه السلام2.
وكان للإمام الجواد عليه السلام أربعة أولاد، وهم: الإمام علي الهادي عليه السلام، وأبو أحمد موسى المبرقع، وأبو أحمد الحسين، وأبو موسى عمران، وبناته، فاطمة، وخديجة وأم كلثوم وحكيمه وأمامة، وأمّهم يُقال لها سمانة، ولم يكن للإمام الجواد عليه السلام من أم الفضل أولاد3.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص323.
2 م.ن، باب الإشارة والنص على أبي الحسن الثالث عليه السلام.
3 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج2، ص295، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد، ص54.
219
187
الدرس السادس عشر: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام
استشهد في آخر ذي القعدة سنة (220 هـ) بوساطة زوجته أمّ الفضل بنت المأمون التي سمّته بعد تحريض عمّها المعتصم، ودُفن في بغداد في مقابر قريش في ظهر قبر جدّه الإمام موسى بن جعفر عليه السلام.
ثانياً: علمه ومكارم أخلاقه
تمتّع الإمام الجواد عليه السلام بمكانة علمية مرموقة في المجتمع الإسلاميّ، وكان محطّ أنظار العلماء وعامة الناس. وكانت الشيعة تأتي إليه وتسأله عن موارد الحلال والحرام رغم صعوبة التواصل ومتاعب الطريق. وكان الإمام عليه السلام يفرغ نفسه للإجابة على مشاكل الناس وأسئلتهم، فكان يقضي وقتاً طويلاً في ذلك، ويُقيم له مجلساً خاصّاً، فقد أجاب في مجلس واحد على مئات المسائل، حتّى أدهش الناس من كثرة علومه وفضائله1.
وهذه المكانة هي التي دفعت المأمون لأن يحسن إلى الإمام ويقرّبه إليه، حتّى بالغ في إكرامه وإجلاله وإعظامه، حتّى وصل به الأمر إلى أن يعزم أن يزوّجه بابنته أمّ الفضل. وقد أثبت الإمام عليه السلام هذه المكانة وكان لا يزال صغيراً في السنّ حيث تسلّم الإمامة وعمره سبع أو ثماني سنوات2.
وقد تتلمذ على يديه المباركتين العديد من الأصحاب، ومنهم: إبراهيم بن مهزيار، وسهل بن زياد الآدمي، وعلي بن أسباط، وموسى بن القاسم البجلي، أيوب بن نوح بن دراج، الحسن بن راشد، صالح بن أبي حماد، علي بن يحيى يُكنّى أبا الحسين، محمد بن أبي زيد الرازي، نوح بن شعيب البغدادي، أحمد بن الحسن بن علي بن فضّال، حمدان بن سليمان بن عميرة، داوود بن أبي زيد، رجاء العبرتائي بن يحيى، وغيرهم الكثير من الفقهاء والمحدّثين والأصحاب3.
وكان الإمام عليه السلام شديد الزهد في حياته رغم وجوده في بغداد، فقد روى الحسين المكاري، قال: "دخلتُ على أبي جعفر عليه السلام ببغداد وهو على ما كان من أمره، فقلتُ في
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج6، ص496.
2 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج2، ص281.
3 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، ص387، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
220
188
الدرس السادس عشر: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام
نفسي: هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبداً، وأنا أعرف مطعمه، قال: فأطرق رأسه ثمّ رفعه، وقد اصفرّ لونه، فقال: يا حسين، خبز شعير وملح جريش في حرم جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أحبّ إليّ مما تراني فيه1.
وكان عليه السلام كثير الوعظ والإرشاد لأصحابه، فروي أنّ رجلاً أتى إلى الإمام الجواد عليه السلام وقال له: أوصني، قال عليه السلام: "تقبل؟" قال: نعم، قال عليه السلام: "توسّد الصبر، واعتنق الفقر، وارفض الشهوات، وخالف الهوى، واعلم أنّك لن تخلو من عين الله فانظر كيف تكون"2.
الظروف السياسية العامة
كان الشيعة ينتظرون بفارغ الصبر ولادة الإمام الجواد من أبيه الإمام الرضا عليه السلام، وذلك لعلمهم بهذا الأمر. ولكنّ الإمام الرضا عليه السلام كان قد مرّ على عمره الشريف أكثر من أربعين سنة ولم يُرزق ولداً بعد، وعندما كان يُسأل عن ذلك كان يُجيب: "إنّ الله سوف يرزقني ولداً يكون الوارث لي والإمام من بعدي"3.
وأخيراً، ولد للإمام سنة 195هـ ابنه الإمام محمد الجواد عليه السلام، وقال الإمام الرضا عليه السلام عند ولادته: "قد وُلد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار وشبيه عيسى ابن مريم، قدّست أم ولدته، قد خُلقت طاهرة مطهّرة". ثمّ قال عليه السلام: "يُقتل غصباً فيبكي له وعليه أهل السماء، ويغضب الله على عدوّه وظالمه، فلا يلبث إلّا يسيراً حتّى يُعجّل الله به إلى عذابه"4.
وولادة الإمام عليه السلام أزالت القلق من قلوب الشيعة، حيث كان يحزنهم أن لا يكون للإمام الرضا عليه السلام خليفة.
ولكنّ المسألة الجديرة بالاهتمام هي تولّي الإمام عليه السلام منصب الإمامة في سنّ السابعة أو الثامنة من عمره الشريف ما شكلّ سابقة في الفكر الإماميّ. ولكنّ هذا الأمر ليس بغريب في حياة الأولياء الّتي فيها الكثير من المعجزات والكرامات التي اخترقت نواميس الطبيعة.
1 قطب الدين الراوندي، سعيد بن عبد الله، الخرائج والجرائح، ج1، ص383.
2 ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول، ص455.
3 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج50، ص15.
4 م. ن.
221
189
الدرس السادس عشر: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام
إنّ الزمان الّذي عايشه الإمام الجواد عليه السلام تميّز بوجود شخصيّة متميّزة على سدّة الحكم ذات دهاء وعلم واسع وأسلوب في العمل تميّزت بها من غيرها من الشخصيّات الّتي توالت على الحكم وتصدّت لمواجهة الأئمّة عليهم السلام هي المأمون الذي شهد له التاريخ بأنّه أدهى بني العبّاس1 كما كان معاوية أدهى بني أميّة.
فإنّ الذين سبقوا المأمون في الحكم كانوا يواجهون الأئمّة عليهم السلام وأتباعهم بشكل مباشر وبالحديد والنار، وقد رأى بعينه كيف كان أبوه هارون الرشيد يتعامل مع الشيعة بكلّ قسوة، لكنّه علم أنّ هذا الأسلوب من التعامل مع الشيعة وأئمّتهم لن يزيدهم إلّا قوّة وتمسّكاً بخطّهم، بل إنّه سيزلزل حكم بني العبّاس أيضاً كما زلزل من قبلهم حكم بني أميّة واقتلعه من جذوره.
خطّة المأمون
لقد اتّبع المأمون سياسة أخرى مع الشيعة تتركّز على محاولة تضعيف الفكر الشيعيّ والطعن به من الداخل بشكل يحدث زلزالاً في وجدانهم وعقائدهم فيقضي عليهم بشكل لا تقوم لهم قائمة بعده. وقد لاحظ أنّ الإمامة هي الحصن الأساس لهذا الفكر. من هنا كان سعيه بهذا الاتّجاه من جهات عدّة:
1- محاولة تحطيم عقيدة الشيعة بعصمة الإمام عليه السلام من خلال استدعائه إلى دار الخلافة ليعيش في بذخ القصور بشكل يُسقط مفهوم العصمة.
2- محاولة تحطيم عقيدتهم بعلم الإمام عليه السلام من خلال إجراء المناظرات مع أبرز العلماء الذين تصل يده إليهم بحضور رؤساء القوم وأشرافهم، علّه يحصل اشتباه أو توقّف فيحصل مراد المأمون.
3- إذا لم ينجح في تحطيم فكرة الإمامة فهو على الأقلّ سيضمن الإمام إلى جانبه كشخص تابعٍ للسلطان فيتحوّل الشيعة من معارضين إلى أتباع لسلطان بني العبّاس وحكمهم.
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج45، ص131.
222
190
الدرس السادس عشر: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام
بالإضافة إلى أنّ عمل الشيعة بالتقيّة والخفاء يشكّل مشكلة حقيقيّة بالنسبة إلى الدولة، وقرب الإمام من المأمون ووقوعه تحت نظره في جميع الأوقات يسمح للمأمون برصد جميع تحرّكات الإمام عليه السلام واتّصالاته وبالتالي كشف وجهاء الشيعة.
وقد واجه المأمون الإمام الرضا عليه السلام بهذا الأسلوب وبهذه السياسة ولكنّ سياسته باءت بالفشل الذريع ولم يستطع أن يسجّل موقفاً واحداً على الإمام يستطيع أن يستفيد منه في خطّته هذه إلى أن فقد الأمل ووجد أنّ الدّفة تميل لغير صالحه وأنّ الإمام الرضا عليه السلام وبسبب هذه المناظرات والمواقف وجد شهرة في البلاد وحبّاً شديداً بين العباد، وشيعته تزداد يوماً بعد يوم، فلم يبقَ أمامه إلا حلّ واحد وهو دسّ السّم والتخلّص من وجوده الشريف المبارك.
وفي هذه الظروف والأجواء انتقلت المواجهة إلى الإمام الجواد عليه السلام وكان له من العمر ما يقارب الثماني السنوات، وعندها وجد المأمون نفسه أمام إنسان في عمرٍ صغير، فتجدّد أمله بتحقيق مخطّطه وعبر أسلوبه القديم، فإنّ الذي يواجهه الآن ليس الإمام الرضا عليه السلام بل هو صبيّ لم يبلغ الحلم، ومن كان في عمره عادة لن يستطيع أن يناظر كبار العلماء أو يصمد أمام مغريات السلطان ودار الخلافة بكلّ ما فيها، من هنا نراه يستدعي الإمام الجواد عليه السلام إلى بغداد.
مواجهة الإمام الجواد عليه السلام
لقد واجه الإمام الجواد عليه السلام هذه السياسة من اللحظة الأولى التي وطئت قدماه فيها بغداد، وأسقطها تباعاً:
1- على المستوى العلميّ:
هيّأ المأمون للمناظرات بين الإمام عليه السلام وبين قاضي الزمان يحيى بن أكثم بحضور جمع من الأشراف ورؤساء القوم. وقد صرّح المأمون بغرضه من تلك المناظرات حيث قال ليحيى "اطرح على أبي جعفر محمّد ابن الرضا عليه السلام مسألة تقطعه فيها". ولكنّ المناظرات كانت دائماً تسير لصالح الإمام عليه السلام وكان يتوقّف خصمه ويدهش لشدّة ما يراه من إحاطة وسعة في علم الإمام عليه السلام.
223
191
الدرس السادس عشر: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام
ومن هذه المناظرات: قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرمٍ قتل صيداً؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: "قتله في حلّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأً؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم بالنهار؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟".
فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره.
ثم شرح الإمام عليه السلام بعد ذلك تفصيل هذه المسائل قائلاً:
"إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحلّ وكان الصيد من ذوات الطير، وكان من كبارها، فعليه شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، وإذا قتل فرخاً في الحلّ فعليه حَمَل قد فُطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، وإن كان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة. وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه، وكان إحرامه بالحجّ نحره بمنى، وإن كان إحرامه بالعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء وفي العمد عليه المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه، وهي على الكبير واجبة والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الآخرة، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة"1.
وكان من آثار هذه المناظرات أن انتشر الفكر الشيعيّ وشاع وبانت قوّته ومتانته وعلوّه، فانقلب السحر على الساحر.
2- الحفاظ على مكانة أهل البيت عليهم السلام:
فقد حاول المأمون الطعن بها وتسجيل ولو خطأ واحد على الإمام عليه السلام لإسقاط
1 الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج 13، ص 14.
224
192
الدرس السادس عشر: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام
مكانته وقداسته، وبذل لذلك كلّ ما أمكنه، فعن محمّد بن الريّان قال: "احتال المأمون على أبي جعفر عليه السلام بكلّ حيلة فلم يمكنه فيه شيء فلمّا أراد أن يبني عليه ابنته دفع إلى مائة وصيفة من أجمل ما يكنّ إلى كلّ واحدة منهنّ جاماً فيها جوهر يستقبلون أبا جعفر عليه السلام إذا قعد في موضع الختان، فلم يلتفت إليهنّ، وكان رجل يُقال له مخارق صاحب صوت وعود وضرب، طويل اللحية فدعاه المأمون فقال: يا أمير المؤمنين إن كان في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره، فقعد بين يدي أبي جعفر عليه السلام لا يلتفت إليه لا يميناً ولا شمالاً، ثمّ رفع إليه رأسه، وقال عليه السلام: "اتّقِ الله يا ذا العثنون"1 قال: فسقط المضراب من يده والعود فلم ينتفع بيده إلى أن مات"2.
ورغم الحقيقة الراسخة في عصمة الإمام عليه السلام إلا أنّ المأمون كان قادراً على الاستفادة من وجود الإمام في قصر الخلافة من الجهة الإعلاميّة ليعكسها بشكل سلبيّ على الشارع الشيعيّ، ولم يستطع المأمون أن يحوّل الشيعة إلى المشروع العبّاسيّ ويستفيد منهم كأتباع لهذا المشروع، بل على العكس فقد استفاد الإمام عليه السلام من هذه السياسة في تقوية المشروع الإسلاميّ الأصيل.
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾3.
وعلى أيّ حال فإنّ المأمون استمرّ بسياسته هذه يحصد الفشل تلو الآخر إلى أن توفّي وحكم بعده أخوه المعتصم، فسار مدّة بسيرة المأمون، ولكنه سرعان ما فقد الأمل من تحقيق أهدافه، وفهم الآثار التي تحصل بسبب هذه السياسة التي لم تزد مشروعه إلّا ضعفاً ووهناً والشيعة إلّا علواً ومتانة، وأحسّ بالاحباط والفشل فتخلّى عن سياسته هذه وتوسّل بالحديد والنار شأن كلّ ضعيف لا يقدر على مواجهة الكلمة والفكر، فدسّ السمّ له واستشهد عليه السلام عن عمر لم يتجاوز الخامسة والعشرين.
1 اللحية الطويلة.
2 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص 495.
3 سورة التوبة، الآية 33.
225
193
الدرس السادس عشر: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام
المفاهيم الرئيسة
- تمتّع الإمام الجواد عليه السلام بمكانة علمية مرموقة في المجتمع الإسلامي، وكان محط أنظار العلماء وعامة الناس.
-كان المأمون أدهى بني العبّاس وكان خطّط لمحاربة الشيعة والطعن بركنهم الأساس المتمثّل بالإمامة.
- حاول المأمون تحطيم مفهوم العصمة وعلم الإمام عليه السلام ونقل الشيعة من موقع مواجهة العبّاسيين إلى موقع التابع.
- المناظرات التي أعدّها المأمون لمواجهة الإمام عليه السلام كانت نتائجها عكسيّة وصارت سبباً في نشر التشيّع وإظهار قوّته. كما وسقطت رهاناته في تسجيل خطأ (ولو على المستوى الإعلاميّ) على الإمام عليه السلام بسبب وجوده في قصر الخلافة.
- بعد فشل سياساتهم كلّها لم يبقَ أمام العبّاسيين سوى اغتيال شخص الإمام عليه السلام.
- كان الشيعة ينتظرون بفارغ الصبر ولادة الإمام الجواد، وذلك لعلمهم بهذا الأمر، وكان قد مرّ على عمر الإمام الرضا عليه السلام أكثر من أربعين سنة ولم يرزق ولداً.
- تولّى الإمام الجواد الإمامة في سن السابعة أو الثامنة من عمره الشريف.
- إنَّ الزمان الذي عايشه الإمام الجواد عليه السلام تميّز بوجود شخصية متميّزة على سدّة الحكم ذات دهاء وعلم واسع.
226
194
الدرس السادس عشر: الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام
للمطالعة
بنيان الحرية
إنّ الإمام الجواد عليه السلام هو قدوةٌ وأسوةٌ ونموذجٌ لنا. وإنّ الحياة القصيرة لهذا العبد الصالح لله، انقضت بالجهاد ضدّ الكفر والطّغيان. وقد أضحى في موقع قيادة الأمّة الإسلاميّة في حداثة عمره، وقد جاهد مجاهدةً مركّزة ضدّ العدوّ في هذه السّنوات القصيرة، حيث إنّه كان ما زال في مقتبل عمره، عندما لم يعد أعداء الله يتحمّلون وجوده، فقتلوه بالسمّ واستُهشد. وإن هذا الإمام العظيم قد أضاف بعمله إلى الإسلام دعامة مهمّة من الجهاد الشّامل، وقدّم لنا درسًا عظيمًا في مواجهة القوى المنافقة والمرائية حيث يجب أن نسعى جهدنا من أجل أن نستنهض وعي النّاس لمواجهة هذه القوى. فلو أنّ العدوّ يظهر عداءه بنحوٍ صريحٍ وعلنيّ ولا يرائي، فإنّ التّعامل معه أسهل. ولكن عندما يكون العدوّ كالمأمون الّذي يتظاهر بالقداسة والدّفاع عن الإسلام، فإنّ التعرّف عليه سيكون صعبًا بالنّسبة للنّاس. كان المتسلّطون، في عصرنا هذا، وفي جميع عصور التاريخ، يسعون دائمًا للتوسّل بالحيلة والرّياء والنّفاق عندما يعجزون عن مواجهة النّاس وجهاً لوجه، وقد بذل الإمام الرضا عليه السلام والإمام الجواد عليه السلام، الهمّة من أجل كشف قناع التزوير والرّياء عن وجه المأمون، ونجحوا في ذلك.
إنّ هذا العظيم هو مظهر المقاومة وعلامتها. إنسانٌ عظيمٌ أمضى كلّ عمره القصير بمواجهة ومعارضة السّلطة المزوّرة والمرائية للخليفة العبّاسي ــ المأمون ــ ولم يتراجع خطوةً واحدةً وتحمّل جميع الظروف الصّعبة وجاهد بكلّ الأساليب الجهاديّة الممكنة. وكان أوّل من أشاد بنيان بحث الحرّية بصورةٍ علنيّة. وكان يُباحث العلماء والدعاة والمدّعين ومختلقي الأعذار في محضر المأمون العبّاسي بشأن أدقّ القضايا ويستدلّ ويثبت أفضليّته وحقّانية كلامه. إنّ بحث الحرّية هو من تراثنا الإسلاميّ، وقد راج هذا البحث في زمان أئمّة الهدى، وقد تطرّق الإمام الجواد عليه السلام إليه في زمانه وتعرّض له بصورةٍ صافية ونقيّة1.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ص355 356.
227
195
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى فضائل الإمام عليه السلام ومكارم أخلاقه وقبس من علمه.
2- يعرف الحالة العامّة لعصر الإمام الهادي عليه السلام.
3- يستذكر كيفيّة بناء الإمام عليه السلام للمجتمع الصالح وبناء نظام الوكالة.
229
196
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
سيرة مشرقة
أولاً لمحة تاريخية
ولد الإمام عليّ بن محمّد الهادي عليه السلام في النصف من ذي الحجّة سنة (212هـ) قرب المدينة في موضع يقال له (صريا). أبوه الإمام محمد الجواد عليه السلام، وأمّه سمانة المغربية المعروفة بالسيّدة، وقد كانت دائمة الصوم ولا مثيل لها في الزهد والتقوى، وتُكنّى أم الفضل. وقد روي عن الإمام عليه السلام في حقّها أنّه قال: "أمّي عارفة بحقّي وهي من أهل الجنّة لا يقربها شيطان مارد، ولا ينالها كيد جبّار عنيد، وهي مكلوّة بعين الله التي لا تنام، ولا تختلف عن أمّهات الصدّيقين والصالحين"1.
وكان من ألقابه عليه السلام: النجيب، المرتضى، الهادي، النقيّ، العالم، الفقيه، الأمين، المؤتمن، الطيّب، المتوكّل، وأشهرها: النقيّ، والهادي.
وأمّا كنيته فهي: أبو الحسن الثالث تمييزاً له عن الإمام الكاظم والإمام الرضا عليهما السلام2.
وكان له عليه السلام من الأولاد خمسة، وهم: الإمام الحسن العسكري عليه السلام، والحسين، ومحمد، وجعفر المعروف بجعفر الكذّاب المدّعي للإمامة، وابنته عائشة3.
1 يوسف بن حاتم الشامي، الدر النظيم، قم، لا.ت، لا.ط، مؤسسة النشر الإسلامي، ص721.
2 المشهور بين المحدّثين في التعبير عنهم بأبي الحسن ثلاثة وهم: الإمام موسى الكاظم، والإمام علي الرضا، والإمام علي الهادي عليهم السلام، وإن شاركهم بعض باقي الأئمّة عليهم السلام في هذه الكنية، فإذا ورد حديث عن أبي الحسن وأطلق فهو الإمام موسى الكاظم عليه السلام، ويقال له (أبو الحسن الماضي)، وإذا قيد بالثاني فهو الإمام عليّ الرضا عليه السلام، وإذا قيد بالثالث فهو الإمام عليّ الهادي عليه السلام.
3 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج2، ص312، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد، ص56.
231
197
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
وكان الإمام عليه السلام قبل شهادته قد أوصى لابنه الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام بالإمامة1، واستشهد عليه السلام في سنة (254هـ) في اليوم الثالث من شهر رجب، بالسمّ في زمن المعتزّ، ودفن في سامرّاء.
ثانياً: فضائله ومناقبه
كان الإمام الهادي عليه السلام أطيب الناس بهجة، وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذا صمت علتهُ هيبة الوقار، وإذا تكلّم سماه البهاء2، وإذا دخل على الناس ترجّلوا له احتراماً وتقديراً، فقد روى أبو هاشم الجعفريّ: أنّ بعض الناس كانوا في مجلس بانتظار قدوم الإمام الهادي، فقالوا: لِمَ نترجّل لهذا الغلام وما هو بأشرفنا، ولا بأكبرنا ولا بأسنّنا ولا بأعلمنا؟ والله لا ترجّلنا له، فقال أبو هاشم: والله لتترجّلنّ له صغرة إذا رأيتموه، فما هو إلا أن أقبل وبصروا به حتّى ترّجل الناس كلهم.
فقال لهم أبو هاشم: أليس زعمتم أنّكم لا تترجّلون له؟ فقالوا له: والله ما ملكنا أنفسنا حتّى ترجّلنا3.
وكان شديدة العبادة لله عزّ وجلّ، متفرّغاً لها، مقبلاً للعبادة لا يفتر ساعة، دائم التبسّم، دائم الذكر لله عزّ وجلّ4، وكان من تسبيحه الدائم لله عزّ وجلّ قوله: "سبحان من هو دائم لا يسهو، سبحان من هو قائم لا يلهو، سبحان من هو غنّي لا يفتقر، سبحان الله وبحمده"5.
وكان شديد الزهد، فكان يلبس جبّة صوف، وكانت سجّادته من حصير6.
ومن كلماته ومواعظه للناس ما روي عن أبي هاشم الجعفريّ قال: أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد عليه السلام فأذن لي فلمّا جلست قال: "يا أبا هاشم أيّ نعم الله عزّ وجلّ عليك تريد أن تؤدّي شكرها"؟ قال أبو هاشم : فوجمت فلم أدر ما أقول له.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص325، باب الإشارة والنص على أبي محمد عليه السلام.
2 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص505.
3 م.ن، ص511.
4 قطب الدين الراوندي، سعيد بن عبد الله، الخرائج والجرائح، ج2، ص901.
5 قطب الدين الراوندي، سعيد بن عبد الله، الدعوات، ص94.
6 قطب الدين الراوندي، سعيد بن عبد الله، الخرائج والجرائح، ج2، ص901.
232
198
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
فابتدأ عليه السلام فقال: "رزقك الإيمان فحرّم بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذّل، يا أبا هاشم إنّما ابتدأتك بهذا لأنّي ظننت أنّك تريد أن تشكو لي من فعل بك هذا، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها"1.
ثالثاً: قبس من علومه عليه السلام
اعتبر المؤرّخون وأصحاب السير الإمام الهادي عليه السلام علماً بارزاً من أعلام عصره في العلم والمعرفة، فإنّ مائة وخمسة وثمانين تلميذاً وراوياً أخذوا ورووا عن الإمام الهادي عليه السلام، وحفلت كتب الرواية والحديث والفقه والمناظرة والتفسير وأمثالها بما أثر عنه، واستفيد من علومه ومعارفه. وكان من تلامذته ورواته وأصحابه: عبد العظيم بن عبد الله الحسني، أيوب بن نوح بن دراج، والحسن بن علي الوشاء، وعبد الله بن جعفر الحميري، ومحمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، أحمد بن إسحاق بن عبد الله الأشعري، علي بن مهزيار الأهوازي، الفضل بن شاذان النيشابوري، عثمان بن سعيد العمري صاحبه وسفير الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف2.
كما أنّ للإمام عليه السلام رسائل في مختلف العلوم والأمور، منها: رسالته في الردّ على الجبر والتفويض، وإثبات العدل، والمنزلة بين المنزلتين، وغيرها.
إمامة الإمام الهادي عليه السلام
تسلّم الإمام الهادي عليه السلام الإمامة بعد استشهاد أبيه الإمام الجواد عليه السلام سنة 220هـ. وبهذا يكون عمره الشريف حين تصدّيه للإمامة ثماني سنوات، ولذلك تُعتبر إمامته المصداق الثاني للإمامة المبكّرة في الفكر الشيعيّ، فمن الطبيعيّ أن تتكثّف النصوص حول إمامته لتركيزها في أذهان الناس كما حصل من قبل مع الإمام الجواد عليه السلام حيث كان هناك تمهيد طبيعيّ من الإمام الرضا عليه السلام لابنه الإمام الجواد عليه السلام. وإنّ إسناد هذا المنصب الإلهيّ إليه في هذه السن المبكرة جعل الكرامات تظهر على يديه مؤكّدة اتّصال صاحبها بعالم الغيب، ولذا كان لا بدّ من العمل على تأكيد إمكانية أن يتسلّم الإمام منصب
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، ص498.
2 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، ص383، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
233
199
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
الإمامة مبكراً، ولذا ورد العديد من الروايات التي تشير إلى أن الإمام الهادي هو الإمام بعد أبيه من جهة، ومن جهة أخرى روايات تشير إلى ضرورة الالتزام بأوامره وأنّ من بعده ابنه الحسن ثمّ القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف، منها ما ورد عن إسماعيل بن مهران، قال: لمّا خرج أبو جعفر عليه السلام من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى، قلت له عند خروجه: جعلت فداك، إنّي أخاف عليك من هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك؟ قال: فكرّ بوجهه إليّ ضاحكاً، وقال: "ليس حيث ظننت في هذه السنة". فلمّا استُدعي به إلى المعتصم في المرّة الثانية صرت إليه، فقلت له: جعلت فداك، أنت خارج، فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتّى اخضلّت لحيته، ثمّ التفت إليّ فقال: "عند هذا يُخاف عليَّ، الأمر من بعدي إلى ابني عليّ"1.
وأمّا الجهة الأخرى، فقد روي عن الصقر بن أبي دلف قول الإمام الجواد عليه السلام: "الإمام بعدي ابني عليّ أمره أمري، وقوله قولي وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن أمره أمر أبيه وقوله قول أبيه وطاعته طاعة أبيه".
ثم سكت فقلت: يا بن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى عليه السلام بكاءً شديداً ثمّ قال: "إنّ بعد الحسن ابنه القائم بالحقّ المنتظر" إلى آخر الرواية2.
ملامح عصر الإمام الهادي عليه السلام
1- الحالة السياسية العامّة:
بدأ الإمام الهادي عليه السلام مهامّه القيادية في حكم المعتصم سنة (220هـ) واستشهد في حكم المعتزّ سنة (254 هـ). وخلال هذه السنوات الأربع والثلاثين عاصر ستة من حكام بني العباس. ويعتبر عهد المتوكّل العبّاسيّ بدء العصر العباسيّ الثاني وهو عصر نفوذ الأتراك (232 ـ 334 هـ). واعتبره البعض بدء عصر انحلال الدولة العباسية، الذي انتهى بسقوطها على أيدي التتار سنة (656 هـ). وكان لسياسة المتوكّل وأسلافه الأثر البالغ في انفصال بعض أمصار الدولة واستقلالها عن السلطة المركزية بالتدريج، حيث نشأت
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص260.
2 علي بن يونس العاملي النباطي البياضي، الصراط المستقيم، تحقيق وتصليح: محمد الباقر البهبودي، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، 1384هـ، ط1، ص230.
234
200
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
دويلات صغيرة وكيانات متنافسة فيما بينها، كالسامانية والبويهية والحمدانية والغزنوية والسلجوقية بعد هذا العصر1.
وكان المعتصم أوّل الخلفاء العباسيين الذين استعانوا بالأتراك وأسندوا إليهم مناصب الدولة وأقطعوهم الولايات الإسلامية2.
وقد انتهج المتوكّل سياسة العنف تجاه العلويين أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، حيث أمر بهدم قبر الإمام الحسين عليه السلام، ومنع الناس من زيارته وتوعّد بالسجن على من زاره3. وقد أثار المتوكل بهذه السياسة حفيظة المسلمين بشكل عامّ، وأهل بغداد بشكل خاصّ. وقد ردّوا على الإهانات التي ألحقها بالعلويين فسبّوه في المساجد والطرقا4.
وكان المنتصر يحسن للعلويين مخالفاً بذلك سياسة أبيه، وتجلّت سياسته في إزالة الخوف عنهم والسماح لهم بزيارة قبر الحسين عليه السلام. ولم يدم حكم المنتصر طويلاً فقد تآمر عليه الأتراك وقتلوه عن طريق طبيبه طيفور في سنة (248 هـ)5.
وبعد مقتل المنتصر تولّى الخلافة المستعين بالله سنة (248 هـ) وأرجع عاصمته إلى بغداد. وقد تم قتله غيلة6، وتعيين المعتز مكانه من قبل الأتراك7.
كما أنّ المعتز لم ينج من أعمال العنف والتعسّف التي قام بها قادة الدولة العباسية من الأتراك فقتل شرّ قتلة على أيديهم وذلك سنة (255 هـ)، وقام أيضاً بقتل الإمام الهادي عليه السلام.
إنّ ضعف شخصيّة الحكّام هو أحد عوامل التفكّك والانهيار الذي أصاب الدولة الإسلامية، وقد رافقه نفوذ زوجاتهم وأمهاتهم إلى جانب سيطرة الأتراك الذين اعتمدوا عليهم للتخلّص من نفوذ الفرس والعرب. كما كان لظلم الأمراء والوزراء دوره البالغ في زعزعة ثقة الناس بالحكّام وإثارة الفتن والشغب داخل بلاد المسلمين.
1 حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي، ج 3، ص 1 (بتصرف).
2 م. ن، ص 2، ويراجع: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج 7، حول ازدياد نفوذ الاتراك في عصر المعتصم.
3 الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج 11، ص 44.
4 حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي، ج 3، ص 5.
5 الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج 7، أحداث عام 248 هـ.
6 ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، ج 7، ص 50 وما بعدها.
7 المسعودي، علي بن الحسين، مروج الذهب، قم، إيران، دار الهجرة، 1404هـ - 1984م، ط2، ج 2، ص 407 - 408.
235
201
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
2- الحالة الثقافية:
كان لترجمة الكتب اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية أثر كبير في ثقافة هذا العصر. وكانت ظاهرة الترجمة قد ابتدأت منذ أيام المأمون. وقد أسهمت في رفد الثقافة الإسلامية من جهة والانفتاح على الثقافات الأخرى التي قد تتقاطع مع ما أفرزته الحضارة الإسلامية من اتّجاهات فكرية وثقافية من جهة أخرى.
كما كان لارتحال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أثر كبير في التبادل والتعاطي الثقافيّ بين شرق البلاد الإسلامية وغربها وأنتج ذلك نشاطاً ثقافياً متميّزاً وحركة فكرية. وقد حظي الشعراء والأدباء بمكانة رفيعة عند الأمراء ما أدى إلى ازدهار الأدب في هذا العصر.
3- الحالة الاقتصادية:
إنّ الاضطرابات السياسية والصراع على السلطة وبدء انفصال أجزاء عن الدولة العباسية واستقلالها قد أثّر في تدهور الوضع الاقتصاديّ. وكان لظهور الطبقية في المجتمع الإسلاميّ آثار سلبية أدّت الى سرعة الانهيار الاقتصادي فضلاً عن المجاعة وارتفاع الأسعار، ما كان له أثر كبير في اضطراب الأمن وفقدان السيطرة من قبل الدولة. وقد تجلّى ذلك في قصر فترة حكم الخلفاء إلى جانب انتقال إدارة الدولة إلى القوّاد الأتراك بدل الخلفاء وهو دليل واضح على ضعف شوكتهم وفقدان هيبتهم أمام قوّاد الجيش ووزرائهم وكتّابهم1.
4- العبّاسيّون والإمام الهادي عليه السلام:
تدرّجت سياسة الحكّام العباسيين في مناهضة أهل البيت عليهم السلام بعد أن عرفوا موقعهم الدينيّ والاجتماعيّ المتميّز وأنهم لا يداهنون من أجل الحكم والملك بل إنّهم أصحاب مبدأ وعقيدة وقيم، فكانت سياسة السفّاح والمنصور والرشيد تتلخّص في الرقابة المشدّدة والتضييق مع فسح المجال للتحرّك المحدود، ورافقها خلق البدائل العلمية لئلّا ينفرد أهل البيت عليهم السلام بالمرجعية العلمية والدينية في الساحة الاجتماعية، فكان الدعم المباشر من الحكّام لأئمة المذاهب وتبنّي بعضها والدعوة إليها في هذا الطريق. ولكن كلّ هذه الأساليب
1 يُراجع: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج 7، أحداث السنوات 247 254 هـ.
236
202
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
لم تفلح في التعتيم الإعلاميّ وتوجيه الأنظار عن أهل البيت عليهم السلام إلى غيرهم فكانت سياسة المأمون هي سياسة الاحتواء التي نفّذها مع الإمام الرضا عليه السلام.
وقد بقي الإمام الهادي عليه السلام تحت رقابة الحكّام العباسيين مدّة طويلة تزيد على العشرين عاماً، وهي فترة طويلة جداً إذا ما قسناها بفترة ولاية العهد للإمام الرضا عليه السلام أو فترة بقاء الإمام الجواد عليه السلام في بغداد في زمن المعتصم. وفي هذا مؤشّر واضح على انكشاف سياسة العباسيين الحقيقية تجاه أئمة أهل البيت عليهم السلام.
5- اضطهاد أتباع أهل البيت عليهم السلام:
إذا استثنينا سياسة المنتصر التي لم تدم سوى ستة أشهر والتي تمثّلت في اللين مع العلويين وشيعة أهل البيت عليهم السلام فإنّا نجد السياسة العباسية العامة هي مناهضة أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم، وممارسة سياسة العنف معهم بالرغم من اتّساع رقعة التشيّع بعد تظاهر المأمون باحترامه الخاصّ للإمام الرضا عليه السلام.
إنّ حرمان أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم من الوضع المعيشيّ اللائق بهم إنّما كان باعتبار قلقهم من توظيف المال للإطاحة بملكهم. ومن هنا كانت سياسة التقشّف بالنسبة لهم سياسة عامّة قد سار عليها عامّة حكّام بني العبّاس، وهم أعرف بالمكانة الاجتماعية لأهل البيت عليهم السلام في قلوب المؤمنين.
وكان الحرمان يمتدّ إلى إخراجهم من الوظائف الحكومية إن عثروا على موالٍ لأهل البيت عليهم السلام كان قد حظي بوظيفة حكومية، بل تعدّى ذلك إلى تحديد أملاكهم وغلمانهم حتّى بان الفقر والحرمان على كثير من العلويين في هذا العصر.
6- انتفاضات العلويين:
لقد تمادى المتوكّل في إيذاء العلويين ومنعهم حقوقهم التي منحهم الله إيّاها حتّى أشرفوا على الهلاك من شدّة الفقر. بل تمادى في الجور عليهم حتّى قدّم دعوى غير العلويّ على دعوى العلويّ إذا تحاكما عند القضاة. ولم نجد من العباسيين عامّة إلاّ العداء والبغض لأهل البيت عليهم السلام لأسباب شتّى، منها: تفرّد أهل البيت عليهم السلام بالنصّ عليهم من قبل جدّهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتفرّدهم بالزعامة الروحية والعلمية، وتأثيرهم على قلوب المسلمين
237
203
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
ووجدانهم، والاهتمام بشؤونهم، وإيثارهم للدين على الدنيا، والموت في سبيل الله على الحياة مع الذلّ والهوان في غير طاعة الله.
إنّ عواطف المسلمين وقلوبهم قد اتّجهت نحو أبناء الرسول عليهم السلام وشيعتهم الذين يحذون حذوهم، وأخذت هذه الظاهرة تنمو وتظهر على الساحة الإسلامية، وهذا ممّا لا يرتاح له الحكّام العباسيّون وعملاؤهم الذين جلسوا على موائدهم التي جسّدت أفظع أنواع التبذير في بيت مال المسلمين. ومن هنا لم تخل الساحة الإسلامية من الثورات التي قام بها قادة علويّون على طول الخطّ بعد ثورة الحسين عليه السلام.
وقد استمرّت هذه الثورات حتّى عصر الغيبة وانتهت فيما بعد الى تأسيس دويلات وإمارات يحكمها قادة علويون أو علماء يحملون ثقافة أهل البيت عليهم السلام ويحاولون تجسيد قيمهم وسيرتهم في الحياة الإسلامية.
ولم تكن اغتيالات الخلفاء للأئمّة من أهل البيت عليهم السلام إلاّ باعتبار دعمهم لهذه الثورات المسلّحة وتأييدهم لها من قريب أو من بعيد. وقد خرج على حكّام هذا العصر من العلويين مجموعة تمثّل استمرار الخط الثوريّ ضدّ الظلم والظالمين.
الجانب التنظيميّ (نظام الوكالة)
إنّ مفهوم الإمامة الّذي يعني قيادة الأمّة إلى الخير والصلاح في الدنيا والآخرة اقتضى من الإمام أن يمارس الجانب التنظيميّ في المجتمع من أجل حمايته من حبائل السلطة الّتي كانت تتربّص بالمؤمنين وبإمامهم عليه السلام الدوائر. فاتّبع الإمام أسلوب الوكالة للارتباط بأتباعه وشيعته في العالم، فكيف كان هذا النظام؟
كان الوكلاء يتولّون تنظيم عمليّة الاتّصال بين الإمام عليه السلام والشيعة، خصوصاً في الموارد التالية: تسلُّم الخمس من الشيعة وإيصاله للإمام عليه السلام، والإجابة عن المسائل الفقهيّة والعقائديّة، والتعريف بالإمام عليه السلام وتمهيد الأرضيّة له.
وكان من وكلائه عليّ بن جعفر الوكيل. ولقد نظّم الإمام عليه السلام العلاقة بين الوكلاء أنفسهم، بحيث يبقى كلّ وكيل ضمن دائرة عمله بشكل منظّم من دون التعرّض لدائرة عمل الآخر. وقد كتب عليه السلام كتاباً وجّهه إلى أيّوب بن نوح وكان من وكلائه عليه السلام أمره فيه بعدم
238
204
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
الإكثار بينه وبين أبي عليّ وهو وكيل آخر وأن يلزم كلّ واحدٍ منهما ما وُكّل به وأُمر بالقيام فيه في أمر ناحيته، وأوصى أبا عليّ أيضاً بمثل ما أوصى به أيّوباً، وطلب من الاثنين أن يتولّى كلّ واحد منهما الشؤون الماليّة لما يليه من الشيعة وأن لا يقبلا شيئاً من أموال شيعة المناطق الأخرى.
ونظّم عليه السلام كذلك العلاقة بين الوكيل وبين الشيعة الموجودين في ناحيته، فاعتبر أنّ طاعة الوكيل هي طاعة له عليه السلام، ففي كتاب له عليه السلام عن أبي عليّ بن راشد يقول: "فقد أوجبت في طاعته طاعتي، والخروج إلى عصيانه الخروج إلى عصياني، فالزموا الطريق يأجرْكم الله ويَزدكُم من فضله"1. وأكّد على ضرورة تمهيد الطريق أمام الوكيل وتسهيل مهمّته، يقول عليه السلام: "فعليك بالطاعة له والتسليم إليه جميع الحقّ قِبلك، وأن تحضّ مواليّ على ذلك وتعرّفهم من ذلك ما يصير سبباً إلى عونه وكفايته فذلك توفير علينا ومحبوب لدينا ولك به جزاء من الله وأجر"2.
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 50، ص 223.
2 م. ن.
239
205
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
المفاهيم الرئيسة
- تسلّم الإمام الهادي عليه السلام الإمامة بعد استشهاد أبيه الجواد عليه السلام، وكان له من العمر ثماني سنوات.
- كان الإمام الهادي عليه السلام أطيب الناس بهجة، وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذا صمت علتهُ هيبة الوقار، وإذا تكلّم سماه البهاء.
- اعتبر المؤرّخون وأصحاب السير الإمام الهادي عليه السلام علماً بارزاً من أعلام عصره في العلم والمعرفة، فإن مائة وخمسة وثمانين تلميذاً وراوياً. أخذوا ورووا عنه.
- بدأ الإمام الهادي عليه السلام مهامّه القياديّة سنة 220 هـ، وقد عاصر ستّة من ملوك بني العباس.
- يعتبر عهد المتوكّل بداية العصر العباسيّ الثاني، وهو عصر نفوذ الاتراك، وقد انتهج المتوكّل سياسة العنف ضدّ العلويين.
- كان المعتصم أول الخلفاء العباسيين الذين استعانوا بالأتراك.
- شاعت في هذا العصر ترجمة الكتب اليونانية والفارسية والهندية.
- بقي الإمام الهادي عليه السلام تحت رقابة الحكام العباسيين مدّة تزيد على العشرين عاماً.
- كان وكلاء الإمام عليه السلام يتولّون تنظيم عملية الاتّصال بينه وبين الشيعة.
240
206
الدرس السابع عشر: الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام
للمطالعة
الموقف وقلب الموازين بوجه العدوّ
بعد أن أحضروا الإمام إلى سامرّاء ليكون تحت مراقبتهم، أضحى الإمام عليه السلام محبوبًا من قِبَل النّاس. وكان الجميع يحترمونه، ولم يكن يتعرّض لأيّ إهانة. ثمّ فيما بعد وعند وفاته انقلب حال المدينة كلّها، وهناك أدرك الحكّام وجود سرٍّ ما، وكان عليهم أن يشخّصوه ويتعاملوا معه. فالتفتوا إلى قضيّة القدسيّة. وهنا نجد المتوكّل يحضر الإمام عليه السلام إلى مجلسه، الّذي هو مجلس خمرٍ وسكرٍ، لكي ينتشر الخبر في كلّ مكان، أنّ عليًّا بن محمد كان نديمًا للمتوكّل وقد جالسه في مجلس الخمر واللهو! فانظروا أنتم أيّ تأثيرٍ تركه هذا الخبر.
لقد نظر الإمام عليه السلام إلى القضيّة من زاوية الإنسان المجاهد ووقف مقابل هذه المؤامرة. وذهب إلى بلاط المتوكّل، واستطاع أن يُبدّل مجلس سكره إلى مجلسٍ عابقٍ بالمعنويّات.
فبذكر الحقائق وإنشاد تلك الأشعار الشامتة هزم المتوكّل، بحيث إنّ هذا المتوكّل وبمجرّد أن انتهى الإمام من كلماته، نهض من مكانه وأحضر للإمام الغالية (عطر مركّب من المسك والعنبر) وشيّعه بكلّ أدبٍ واحترام.
إنّ الإمام عليه السلام هو الّذي استطاع أن يُشخّص هذه الوضعيّة ويتحدّث بطريقة لا تُغضب الخليفة. كان من الممكن مثلًا أن ينتفض الإمام عليه السلام فجأةً ويرمي بكلّ كؤوس الشّراب أرضًا، ولكن لم يكن هذا ليكون ردّة فعلٍ جيّدة وما كان ليؤتي ثماره، لكنّ الإمام عليه السلام تصرّف بطريقةٍ أخرى.
يجب عليكم أن تلتفتوا إلى هذه النقطة في حياة الأئمّة وهي أنّ هؤلاء العظماء كانوا دومًا في حالة جهاد، جهاد روحه سياسيّة.
إنّ هؤلاء العظماء حقّقوا نجاحاً أكبر من الإمام الحسين عليه السلام، الّذي وضع هذا الأساس، لأنّه بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام، "ارتدّ النّاس بعد الحسين إلّا ثلاثة". لكن في زمن الإمام الهادي عليه السلام عندما تنظرون، فإنّ كلّ العالم الإسلاميّ كان قد صار في قبضة الأئمّة عليه السلام حتّى أنّ العبّاسيين وقفوا عاجزين ولم يعرفوا ماذا يفعلون، فلذلك أقبلوا على الشّيعة1.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر250 سنة، ص361 364(بتصرف).
241
207
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى مكارم أخلاق الإمام وعبادته.
2- يتعرّف إلى الظروف المحيطة بتسلّم الإمام العسكريّ عليه السلام للإمامة.
3- يطلّع على الجهاد العلميّ والثقافيّ للإمام وكيفية تمهيده لغيبة الإمام المهديّ.
243
208
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
سيرة مشرقة
أولاً: لمحة تاريخية
ولد الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام في المدينة في الثامن من ربيع الآخر سنة 232. أبوه الإمام علي الهادي عليه السلام، ويقال له ولأبيه وجدّه عليه السلام ابن الرضا، ووالدته اسمها حُديث أو سليل، وكانت في غاية الصلاح والتقى، وكانت في بلدها في مصافّ الملوك. ويكفي في فضلها، أنّها كانت مفزعاً وملجأً للشيعة بعدة شهادة الإمام العسكريّ1.
وكان من ألقابه: التقيّ، المرضيّ، النقيّ، الرفيق، الزكيّ، الصامت، الهادي، السراج، العسكريّ2، الخالص، وأما كنيته: فأبو محمّد.
وكان للإمام الحسن العسكري عليه السلام ولد واحد فقط هو الإمام محمد المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف3.
وقد تسلّم الإمامة بعد شهادة أبيه الإمام الهادي عليه السلام في سنة 254هـ، إلى سنة 260هـ، فاستمرّت إمامته ست سنوات، وكان عليه السلام قبل شهادته قد أوصى إلى ابنه الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بالإمامة من بعده4.
1 الشيخ عباس القمي، منتهى الأمال، ج2، ص649.
2 قال الشيخ الصدوق رضوان الله عليه: سمعت مشايخنا رضي الله عنهم يقولون: إنّ المحلة التي يسكنها الإمامان عليّ بن محمّد والحسن بن عليّ عليهما السلام بسر من رأى كانت تسمّى العسكر، فلذلك قيل لكلّ واحد منهما العسكري، راجع: علل الشرائع، ج1، ص230.
3 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج2، ص336، الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، تاج المواليد، ص59.
4 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص328، باب الإشارة والنص على صاحب الدار عليه السلام.
245
209
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
وكانت شهادته يوم الجمعة الثامن من ربيع الأوّل سنة 260 وعمره 28 عاماً، ودفن مع أبيه الهادي عليه السلام في سامرّاء1.
ثانياً: مكارم أخلاقه وعبادته
لقد برز في حياة الإمام العسكريّ عليه السلام رغم المراقبة الشديدة والقاسية من قبل حكّام عصره خدمته للناس، واهتمامه بهم، فقد روى محمّد بن القاسم أبو العيناء الهاشميّ مولى عبد الصمد ابن عليّ عتاقة قال: كنت أدخل على أبي محمد عليه السلام فأعطش وأنا عنده فأجلّه أن أدعو بالماء فيقول: "يا غلام اسقه"، وربّما حدّثت نفسي بالنهوض فأفكر في ذلك فيقول "يا غلام دابته"2.
وكان الإمام عليه السلام كثير العبادة لله سبحانه وتعالى، يقوم الليل ويصوم النهار، وقد كان الإمام موضوعاً تحت المراقبة الشديدة، وقد تأثّر به الكثير من الناس. يروى أنّه دخل العبّاسيون على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمد عليه السلام، فقالوا له: ضيّق عليه ولا توسّع، فقال لهم صالح: ما أصنع به وقد وكّلت به رجلين شرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم.
ثمّ أمر بإحضار الموكّلين، فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ فقالا: ما نقول في رجل يصوم النهار، ويقوم الليل كلّه لا يتكلّم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا؟ فلمّا سمع ذلك العبّاسيّون انصرفوا خائبين3.
وكان المعتمد يسأل عليّ بين جرين عن الإمام عليه السلام بشكل دائم، ويتقصّى أخباره، فكان يأتيه الجواب: "إنّه يصوم النهار، ويصلّي الليل"4.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص503، باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام.
2 م.ن، ص512.
3 م.ن.
4 السيد ابن طاووس، علي بن موسى، مهج الدعوات، لا.ت، الناشر: كابغانه سنائي، لا.ط، ص275.
246
210
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
وكان كثير الوعظ والتذكير بالله سبحانه وتعالى، ومن مواعظه قوله: "أورع الناس من وقف عند الشبهة، أعبد الناس من أقام على الفرائض، أزهد الناس من ترك الحرام، أشدّ الناس اجتهاداً من ترك الذنوب"1.
ثالثاً: مكانة الإمام وعلومه
رغم كلّ المضايقات السياسية والأمنية على الإمام العسكريّ عليه السلام إلا أنّه استطاع أن يتحرّك في المجال العلميّ بين المسلمين عموماً والشيعة خصوصاً. وعمل الإمام في هذه الفترة على تربية عدد كبير من العلماء لكي يتسنّى له إرجاع الناس إلى الفقهاء والعلماء ـ كما سيأتي ـ، ومن جهة أخرى ردّ كلّ الشبهات العلمية التي ترد على الإسلام، والتي يمكن أن تؤثّر على المسلمين، والتي لم يتمكّن أحد من حلّها سوى الإمام العسكريّ عليه السلام، فكان الإمام عليه السلام يجيب عن تلك المشكلات بحنكة عالية ويقدّم الحلول في ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام كما حصل مع إسحاق الكنديّ فيلسوف العراق في زمانه عندما ألّف كتاباً حول تناقض القرآن الكريم وشغل نفسه بذلك وتفرّد في منزله، وبعلم الإمام وفطنته دمّر كل المباني التي على أساسها تحدّث الكنديّ حيث أرسل له الإمام عليه السلامأحد تلامذة الكنديّ وحمّله رسالة أن يقول للكندي فقال: قل له: "إن أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننتها إنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول لك إنّه من الجائز، لأنّه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك، فقل له: ما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فيكون واضعاً لغير معانيه".
فقال الكندي لذلك الرجل: أقسمت عليك، ألا أخبرتني من أين لك؟
فقال الرجل: أمرني به أبو محمّد الإمام العسكريّ.
فقال: الآن جئت بالحقّ، وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت، فهم الذين يمكنهم أن يكشفوا عن الحقيقة، ثمّ إنّه دعا بالنار، وأحرق جميع ما ألّفه2.
1 ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول، ص489.
2 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص424.
247
211
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
الظروف السياسية في عصر الإمام العسكريّ عليه السلام
واصل الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام مهامّ الإمامة بعد والده الإمام الهادي عليه السلام. وعاصر في فترة إمامته القصيرة (ست سنوات) حكومة ثلاثة حكّام من العباسيين هم المعتزّ والمهتدي والمعتمد. وكانت المعاناة مع الدولة العبّاسية ما زالت شديدة، ففي غضون حكم المعتزّ قُتل الكثير من الأبرياء وسُجن من العلويّين أكثر من سبعين شخصاً من آل جعفر وآل عقيل. وبعد المعتزّ تسلَّم المهتدي الخلافة، وسجن الإمام عليه السلام، بل وحتّى اتّخذ قراراً بقتله إلّا أنّ الأجل لم يمهله فمات.
وحدّث عليّ بن جعفر عن الحلبيّ: اجتمعنا في العسكر وترصّدنا لأبي محمّد عليه السلام يوم ركوبه، فخرج توقيعه: "ألا لا يسلّمنّ عليّ أحد، ولا يُشز إليّ بيده، ولا يومئ، فإنّكم لا تؤمَنون على أنفسكم"1.
يقول أحمد بن محمّد: كتبت إلى أبي محمّد (الإمام العسكريّ) حين أخذ المهتدي في قتل الموالي: يا سيّدي الحمد لله الذي شغله عنّا، فقد بلغني أنّه يتهدّدك، ويقول والله لأجلينّهم عن جديد الأرض، فوقّع أبو محمّد عليه السلام بخطّه: "ذلك أقصر لعمره، عدّ من يومك هذا خمسة أيام ويُقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمرّ به"، فكان كما قال عليه السلام2.
وقد بلغت درجة الضغط والمضايقة في عهد الإمام العسكريّ عليه السلام على الإمام والشيعة إلى درجة اضطرّ الإمام عليه السلام إلى أن يتصرف بطريقة أمنية، وكانت تلك المضايقة تعود لسببين:
الأول: أنّ الشيعة قد تحوّلت في عصر الإمام العسكريّ عليه السلام إلى قوّة ضخمة في العراق تعارض وتخالف الخلفاء والحكّام، بل وصل الأمر إلى أنّهم كانوا لا يعترفون بشرعية أيّ واحد من الخلفاء العباسيين، ويعتقدون بأنّ الإمامة في أولاد الإمام عليّ عليه السلام. ومن الشواهد
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 50، ص 269.
2 الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ص324.
248
212
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
التاريخية على ذلك هو اعتراف عبيد الله وزير المعتمد بذلك، فقد ذهب جعفر الكذّاب أخو الإمام العسكريّ عليه السلام بعد استشهاده إلى عبيد الله وقال: اجعل لي مرتبة أخي وأنا أوصل إليك في كلّ سنة عشرين ألف دينار، ...(فزجره) وقال: يا أحمق، إنّ السلطان جرّد سيفه في الذين زعموا أنّ أباك وأخاك أئمة ليردّهم عن ذلك فلم يتهيّأ له، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى مرتّب"1.
الثاني: أنّ العباسيين وغيرهم كانوا يعلمون وطبقاً للروايات المتواترة أن المهديّ المنتظر الذي سيتحقّق على يديه العدل والحرية من جهة، ومن جهة أخرى سوف يبيد كلّ الحكومات الظالمة أنه من أبناء الحسن العسكريّ، ولهذا شدّدوا الرقابة على الإمام العسكريّ عليه السلام في كلّ صغيرة وكبيرة، فقد أخضعوه للمراقبة الشديدة، ووضعوه تحت أعينهم2.
وبعد خلافة المهتدي تسلَّم المعتزّ زمام السلطة، وفي عهده استشهد الإمام العسكريّ عليه السلام، وقُتِل مجموعة من العلويّين في هذه الأحداث. وتذكر بعض المصادر التاريخيّة أنّه قد تمّ قتل بعضهم بأفجع صورة وحتّى بعد القتل مثّلوا بأجسادهم3.
الإمام العسكريّ عليه السلام والتمهيد للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
إنّ المهمّة المميّزة في إمامته عليه السلام كانت التمهيد لولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وغيبته الصغرى والكبرى، والارتباط الصحيح به وضرورة الانتقال بالشيعة من نقطة اتّصال مباشرة بالمعصوم إلى نقطة اتّصال غير مباشرة. وتعتبر هذه المرحلة من أدقّ المراحل على الفكر الشيعيّ منذ النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عهد الإمام العسكريّ، لذلك كان على الإمام أن يكثّف أحاديثه وأن يقوم عمليّاً، كما سيتّضح، بالتمهيد للغيبة، التي عمل الإمام عليه السلام على التمهيد لها من جهتين:
1 الأربلي، علي بن عيسى بن أبي الفتح،كشف الغمة، ج3، ص197.
2 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص434.
3 أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، مقاتل الطالبيين، ص 685- 690.
249
213
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
الجهة الأولى: التمهيد النظريّ:
ويمكن تلخيص دور الإمام عليه السلام في هذا الاتّجاه بما يلي:
1- النصّ على الإمام وتعريف شيعته به:
عن محمّد بن عبد الجبّار قال: قلت لسيّدي الحسن بن عليّ عليه السلام: يا بن رسول الله، جعلني الله فداك، أحبّ أن أعلم من الإمام وحجّة الله على عباده من بعدك.
قال عليه السلام: "إنّ الإمام من بعدي ابني، سَميّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنيُّه، الّذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه".
قال: ممّن هو يا بن رسول الله؟ قال عليه السلام: "من ابنة قيصر ملك الروم، ألا إنّه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة ثمّ يظهر"1.
عن يعقوب بن منقوش قال: "دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ عليه السلام وهو جالس على دكّان في الدار وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل، فقلت: سيّدي، من صاحب هذا الأمر؟ فقال: ارفع الستر، فرفعته فخرج إلينا غلام خماسيّ له عشر أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين، أبيض الوجه، درّيّ المقلتين، شثن الكفّين، معطوف الركبتين، في خدّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ أبي محمّد عليه السلام ثمّ قال لي: هذا صاحبكم، ثمّ وثب فقال له: يا بُنيّ ادخل إلى الوقت المعلوم، فدخل البيت وأنا أنظر إليه، ثمّ قال لي: يا يعقوب، انظر من في البيت، فدخلت فما رأيت أحداً"2.
2- التأكيد على الصبر وانتظار الفرج:
إنّ انتظار فرج الإمام عليه السلام من العبادات بل من أفضل الأعمال كما في الأحاديث المباركة. فإنّ أوّل ما يتوجّب على الإنسان هو الصبر عند طول الغيبة. وما يؤكّد على ذلك الرسالة التي أرسلها الإمام عليه السلام إلى عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي، الّتي جاء فيها:
1 الشيخ الطبرسي، الميرزا حسين النوري، النجم الثاقب، تقديم وتحقيق وترجمة: السيد ياسين الموسوي، قم، أنوار الهدى، 1415هـ، ط1، ج1، ص 136.
2 الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى، ص413.
250
214
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
"عليك بالصبر وانتظار الفرج"1، وهذا ما كان يؤكّده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديثه، منها ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عزّ وجلّ"2.
3- التحذير من الشكّ والضعف:
فروي عنه عليه السلام: "إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة المتمسّك فيها بدينه كالخارط شوك القتاد بيده"3.
الجهة الثانية: التمهيد العمليّ للغيبة:
والمقصود بذلك أنّ الإمام عليه السلام عيّن وكلاء وسفراء من خاصّة أصحابه لتبليغ تعليماته وأحكامه إلى شيعته، وذلك بأسلوب التوقيعات والمكاتبات، وهذا يعتبر تمهيداً عمليّاً لما سيحصل في زمن الغيبة الصغرى.
الجهاد العلميّ والثقافيّ للإمام العسكريّ عليه السلام
اتّسم عصر الإمام العسكريّ عليه السلام ومن قبله عصر الإمامين الهادي والرضا عليهما السلام باتّساع رقعة التشيّع، واتّضاح معالم المدرسة الشيعيّة. وراح الإمام العسكريّ يمارس نشاطاته السياسية والاجتماعية والعلمية للدفاع عن الإسلام ومواجهة الأفكار اللاإسلامية، ويمكن رصد نشاطات الإمام في:
أولاً: التواصل بينه وبين شيعته
بعد اتّساع رقعة التشيّع في عهد الإمام العسكريّ عليه السلام، ووجود الشيعة بأكثر من بلد في العالم، كان لا بدّ من إيجاد وسيلة للتواصل فيما بينهم، وكان ذلك سبباً في إيجاد وسيلة للتواصل المنظّم تؤمّن اتّصال الشيعة بالإمامة من جهة، واتّصالهم ببعضهم بعضاً من جهة أخرى، ويتمّ من خلال ذلك توجيههم دينياً وسياسياً وتعبوياً، فقام الإمام عليه السلام
1 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص527.
2 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص644.
3 ابن أبي زينب النعماني، محمد بن إبراهيم، الغيبة، تحقيق: فارس حسون كريم، قم - إيران، أنوار الهدى، 1422هـ، ط1، ص122.
251
215
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
بتعيين بعض الأشخاص في مناطق متعدّدة ليكونوا حلقة الوصل بين الإمام وشيعته وبين الشيعة أنفسهم، منها على سبيل المثال ما فعله مع إبراهيم بن عبده، حيث أرسل رسالة إلى عبد الله بن حمدويه البيهقي: "فقد نصبت لكم إبراهيم بن عبدة ليدفع النواحي وأهل ناحيتك حقوقي الواجبة عليكم إليه، وجعلته ثقتي وأميني عند مواليّ هناك، فليتقوا الله وليراقبوا، وليؤدّوا الحقوق، فليس لهم عذر في ترك ذلك، ولا تأخيره"1.
ثانياً: إرجاع الناس إلى الفقهاء والعلماء
الرجوع إلى الفقهاء الثقات حيث لا يمكن أو يتعسّر الرجوع إلى الإمام المعصوم، وقد أيّد الإمام العسكريّ عليه السلام جملة من الكتب الفقهية والأصول في عصره أو قبل عصره. وقد بلغ أسماء أصحاب الإمام عليه السلام ورواة حديثه 213 شخصاً، منهم:
1- أحمد بن إسحاق الأشعريّ القمّي: وهو من الأصحاب المقرّبين للإمام عليه السلام، ويعدّ كبير القمّيين وكان يحمل مسائل أهل قمّ إليه عليه السلام.
2- أبو هاشم داود بن القاسم الجعفريّ: وهو من أحفاد جعفر الطيّار ومن أعظم رجال أهل بيته وأهل بغداد، وكانت له منزلة رفيعة ومقام محمود عند الأئمّة عليهم السلام.
3- عبد الله بن جعفر الحميريّ: من أبرز رجال قمّ المقدّسة، له كتاب (قرب الإسناد).
4- أبو عمرو عثمان بن سعيد العمريّ: وهو النائب الأوّل للإمام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف. وكان من كبار وكلاء الإمام الهادي عليه السلام والعسكريّ عليه السلام2.
شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام
قال أبو الأديان: "كنت أخدم الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام وأحمل كتبه إلى الأمصار فدخلت عليه في علّته التي توفّي فيها عليه السلام فكتب معي كتباً وقال: "امض بها إلى المدائن فإنّك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل إلى سُرَّ مَنْ رأى يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في
1 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال، ص580.
2 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، ص397، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
252
216
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
داري وتجدني على المغتسل"، قال أبو الأديان: فقلت: يا سيدي فإذا كان ذلك فمن؟ قال: "من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم من بعدي". فقلت: زدني، فقال: "من يصلّي عليَّ فهو القائم بعدي".
فقلت: زدني، فقال: "من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي".
ثمّ منعتني هيبته أن أسأله عمّا في الهميان.
وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها ودخلت سُرّ مَنْ رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي عليه السلام فإذا أنا بالواعية في داره وإذا به على المغتسل وإذا أنا بجعفر بن عليّ أخيه بباب الدار والشيعة من حوله يعزّونه ويهنّئونه فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة،... تقدّم جعفر ليصلّي على أخيه فلمّا همّ بالتكبير خرج صبيّ بوجهه سمرة بشعره قطط بأسنانه تفليج فجذب برداء جعفر بن عليّ وقال: "تأخّر يا عمّ أنا أحقّ بالصلاة على أبي"، فتأخّر جعفر وقد اربدّ وجهه واصفرّ. فتقدّم الصبيّ وصلّى عليه ودُفن إلى جانب قبر أبيه، ثمّ قال: "يا بصريّ هات جوابات الكتب التي معك"، فدفعتها إليه، فقلت في نفسي: هذه بيّنتان،... الخ"1.
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ج2، ص475.
253
217
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
المفاهيم الرئيسة
- اتّسمت حياة الإمام العسكريّ عليه السلام رغم شدّة الحصار والمراقبة بخدمته للناس، وبكثرة العبادة والتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى، وقد كان لذلك تأثير بالغ في تعامل خلفاء عصره معه، وفي هدايته للناس وتأثّرهم به.
- واصل الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام مهامّ الإمامة بعد والده الإمام الهادي عليه السلام. وعاصر في فترة إمامته القصيرة (ست سنوات) حكومة ثلاثة حكّام من العبّاسيين هم المعتزّ والمهتدي والمعتمد.
- كانت المهمة المميّزة في إمامته التمهيد لولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وغيبته الصغرى والكبرى، ويمكن تلخيص دور الإمام عليه السلام في هذا الاتّجاه بما يلي من خلال:
أولاً: التمهيد النظريّ بالآتي:
1- النصّ على إمامة المهديّ عجل اللع تعالى فرجه الشريف وتعريف شيعته به.
2- التأكيد على الصبر وانتظار الفرج.
3- التحذير من الشك والضعف.
ثانياً: التمهيد العمليّ للغيبة.
راح الإمام العسكري يمارس نشاطاته السياسية والاجتماعية والعلمية للدفاع عن الإسلام ومواجهة الأفكار اللاإسلامية، ويمكن رصد نشاطات الإمام في:
أولاً: المستوى العلميّ والثقافيّ.
ثانياً: شبكة الاتّصالات بينه وبين شيعته.
ثالثاً: إرجاع الناس إلى الفقهاء والعلماء.
254
218
الدرس الثامن عشر: الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام
للمطالعة
الغربة وصناعة التشكيلات الشيعية
أنتم ترون أنّهم عندما أحضروا الإمام الهادي عليه السلام من المدينة إلى سامرّاء، وقتلوه في سنّ الشباب عن عمرٍ يناهز 42 سنة، أو عندما يقتلون الإمام العسكريّ في سنّ الـ 28 سنة، فكلّ ذلك دليلٌ على هذه الحركة العظيمة للأئمّة والشّيعة وأصحابهم الكبار، فقد استطاع الأئمّة في مثل هذا الوضع أن يُحقّقوا مثل هذه النجاحات في ظلّ نظام بوليسيّ. مقصودنا أنّه ينبغي مشاهدة هذه العزّة والعظمة إلى جانب تلك الغربة.
لا يوجد أيّ زمانٍ شهدت فيه روابط الشّيعة وانتشار تشكيلاتهم في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ ما شهدته في زمن حضرة الإمام الجواد والإمام الهاديّ والإمام العسكريّ عليه السلام. فوجود الوكلاء والنوّاب وتلك القصص الّتي تُنقل عن الإمام الهادي عليه السلام والإمام العسكريّ عليه السلام دليلٌ على هذا الأمر. أي إنّه بالرغم من الإقامة الجبريّة لهذين الإمامين الجليلين في سامرّاء، وقبلهما الإمام الجواد عليه السلام والإمام الرضا عليه السلام بنحوٍ آخر، فإنّ الارتباط والتواصل مع النّاس كان يتّسع على هذه الشاكلة. وهذه الروابط والتّواصل كانت موجودة قبل زمن الإمام الرضا عليه السلام. غاية الأمر أنّ مجيء الإمام إلى خراسان كان له تأثيرٌ كبيرٌ جدًّا في هذه القضيّة.
إنّ أئمّتنا وطيلة الـ 250 سنة للإمامة ــ أي منذ رحيل نبيّ الإسلام المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى زمن وفاة الإمام العسكري ــ قد لاقوا الكثير من التّعذيب والقتل والظّلم، وحريٌّ بنا أن نبكيهم. إنّ مظلوميّتهم تستحضر القلوب والعواطف. لكنّ هؤلاء المظلومين قد انتصروا سواءٌ في مقطعٍ من الزمّان أو في كلّ هذا الزّمان وطوله1.
الإمام الخامنئي دام ظله
1 الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، ص368.
255
219
الدرس التاسع عشر: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف (1) العقيدة المهدوية (المعتقد والغيبة)
الدرس التاسع عشر: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف (1)
العقيدة المهدوية (المعتقد والغيبة)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى العقيدة المهدوية في الأديان السماوية.
2- يتبيّن معنى الغيبة وأسبابها وظروف الظهور.
3- يعرف الدليل على إمكانية طول عمر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
257
220
الدرس التاسع عشر: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف (1) العقيدة المهدوية (المعتقد والغيبة)
سيرة مشرقة
وُلد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يوم الجمعة منتصف شهر شعبان سنة (255هـ) في مدينة سامرّاء. أبوه الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، وأمّه أمّ ولد يقال لها نرجس، وقيل: سوسن. وكانت سنّه عند وفاة أبيه عليهما السلام خمس سنين. قال في حقّه جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما روي عن أبي سعيد الخدريّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "المهديّ منّي، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً..."1.
ومن ألقابه: بقيّة الله، الحجّة، الخلف الصالح، القائم، المهديّ، المنتظر، وأمّا كنيته فهي كنية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبو القاسم.
وكان الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام قد أوصى إليه بالإمامة من بعده، فكان إمام الأمّة وسيّدها وهو صغير السنّ لم يتعدَّ الخمس سنوات، ولا يزال كذلك إلى أن يظهر ويتحقّق على يديه ما وعد الله به المؤمنين من النصر والغلبة والتمكين في الأرض.
ولا يختلف الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن آبائه الطاهرين بكثرة العبادة والتقرّب لله سبحانه وتعالى. وقد أثر عنه الكثير من الأدعية المروية، وكان له تسبيح، وهو قوله: "سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته، سبحان الله زنة عرشه، والحمد لله مثل ذلك"2.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص514، باب مولد الصاحب عليه السلام، السيد ابن طاووس، علي بن موسى، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ص177.
2 قطب الدين الراوندي، سعيد بن عبد الله، الدعوات، ص94.
259
221
الدرس التاسع عشر: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف (1) العقيدة المهدوية (المعتقد والغيبة)
الإيمان بالمهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف تجسيد لحاجة فطرية
إنّ ظهور الإيمان بفكرة حتمية ظهور المنقذ العالميّ في الفكر الإنسانيّ عموماً يكشف عن وجود أسس متينة قوية تستند إليها تنطلق من الفطرة الإنسانية. فليس المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف تجسيداً لعقيدة إسلامية ذات طابع دينيّ فحسب، بل هو عنوانٌ لطموح اتّجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطريّ أدرك الناس من خلاله ـ على تنوّع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب ـ أن للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض تحقّق فيه رسالات السماء مغزاها الكبير وهدفها النهائيّ، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرِّ التأريخ استقرارها وطمأنينتها بعد عناء طويل1.
حتمية الإيمان بالمنقذ بين الديانات السماوية
يعتبر الإيمان بحتمية ظهور المصلح الدينيّ العالميّ وإقامة الدولة الإلهية العادلة في كلّ الأرض من نقاط الاشتراك البارزة بين جميع الأديان2. والاختلاف فيما بينها إنّما هو في تحديد هوية هذا المصلح الدينيّ العالميّ الذي يحقّق جميع أهداف الأنبياء3 عليهم السلام.
عقيدة الإمامية بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
لقد تواترت الأخبار والروايات الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام التي تبشِّر بالمهديّ، وبظهوره في آخر الزمان لينشر العدل، وينصر المستضعفين في العالم. وإن ما يعزّز عقيدة المسلمين بالمهديّ مجموعة الأخبار التي أكّدت أن الأرض لا تخلو من حجّة لله على الأرض. روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن علياً إمام أمّتي من بعدي، ومن وُلده القائم المنتظر الذي إذا ظهر يملأ الأرض عدلاً وقسطاً"4.
1 الصدر، السيد محمد باقر، بحث حول المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ص 7 - 8.
2 زين الدين، الشيخ محمد أمين، حديث المهدي والمهدوية، ص 13.
3 الشهيد الصدر، محمد صادق، تأريخ الغيبة الكبرى، ص 251 وما بعدها.
4 السيد المرعشي، نور الله الحسيني، شرح إحقاق الحق، ج 29، ص 238.
260
222
الدرس التاسع عشر: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف (1) العقيدة المهدوية (المعتقد والغيبة)
غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
تؤكِّد الروايات كما يخبرنا الواقع أنَّ للإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف غيبتين، إحداهما أطول من الأخرى. وسنفصِّل في هذا الدرس الكلام عن الغيبة الصغرى، إن شاء الله تعالى، فقد روي عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كان أبو جعفر يقول: "لقائم آل محمَّد غيبتان: واحدة طويلة، والأخرى قصيرة، قال: فقال لي: نعم يا أبا بصير إحداهما أطول من الأخرى"1.
الإمامة والغيبة الصغرى
بدأت فترة الغيبة الصغرى بوفاة الإمام الحسن العسكريِّ عليه السلام عام 260 هـ حيث كان عمر الإمام المهديِّ عجل الله تعالى فرجه الشريف خمس سنين تقريباً، واستمرَّت قرابة 70 سنة حتّى عام 329 هـ حيث انتهت بوفاة السفير الرابع، وبداية الغيبة الكبرى.
وفي زمن الغيبة الصغرى لم يطَّلع على مكانه أحد من الناس إلا خاصّة مواليه والمقرَّبين منه فقط.
السفراء الأربعة
كان الشيعة يتّصلون بالإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف خلال فترة الغيبة الصغرى عبر أشخاص اصْطُلِحَ عليهم باسم السفراء، وهم على التوالي:
السفير الأوّل: أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري الأسدي2.
السفير الثاني: أبو جعفر محمَّد بن عثمان بن سعيد العمريّ3.
السفير الثالث: أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي4.
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 51، ص 365.
2 لمدة 5 سنوات تقريباً.
3 لمدة 40 سنة تقريباً.
4 لمدة 21 سنة تقريباً.
261
223
الدرس التاسع عشر: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف (1) العقيدة المهدوية (المعتقد والغيبة)
السفير الرابع: أبو الحسن عليّ بن محمَّد السمريّ1. وفي نهاية سفارته خرج التوقيع من الإمام المهديِّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يخبر الناس بانتهاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى، حيث كتب عجل الله تعالى فرجه الشريف: بسم الله الرحمن الرحيم: "يا عليّ بن محمَّد السمريّ أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميِّت ما بينك وبين ستة أيّام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامَّة، فلا ظهور إلا بإذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي لشيعتي من يدَّعِي المشاهدة، ألا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفيانيّ والصيحة فهو كذَّاب مفترٍ، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العليّ العظيم"2. وفي اليوم السادس مرض السمريُّ رضوان الله تعالى عليه وانتقل إلى رحمة الله تعالى وكان آخر ما تكلَّم به بعد أن سألوه إلى من يوصي فقال: "لله أمر هو بالغه"3.
أسباب الغيبة
أولاً: الحفاظ على شخص الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف
كانت الحكومة العباسيَّة تترصَّد المولود الجديد لتقتله. ونتيجة تدبير الإمام العسكريّ لم يتمّ لهم معرفة ذلك. وفي هذه الظروف الصعبة والمطاردة العباسيَّة لم يكن للإمام أن يظهر أمام الناس جميعاً، فهو مكلَّف بالحفاظ على نفسه ليتمكَّن حين يحين الموعد من إقامة الدولة الإسلاميَّة العالميَّة. وأشارت إلى ذلك روية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا بدَّ للغلام من غيبة، فقيل له: وَلِمَ يا رسول الله؟ قال: يخاف القتل"4.
ثانياً: تمحيص المؤمنين
إنَّ مشروعاً بحجم مشروع الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف لا يستطيع أن يقوم بحمله إلّا المخلصون حقَّاً الذين واجهوا جميع أنواع التحدّيات والصعوبات وثبتوا. ومن جهة أخرى هذا المشروع
1 لمدة 3 سنين تقريباً.
2 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 51، ص 361.
3 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص 433.
4 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع، ج 1، ص 243.
262
224
الدرس التاسع عشر: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف (1) العقيدة المهدوية (المعتقد والغيبة)
ليكشف الإنهزاميّين وضعاف النفوس وينسحبوا قبل أن يشكِّلوا أيَّ ثغرة في جيش الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وقد أشار الإمام الرضا عليه السلام إلى هذه القاعدة في الغيبة الكبرى للمهديّ، حيث قال: "والله لا يكون ما تمدُّون إليه أعناقكم حتَّى تُميَّزوا وتُمحَّصوا فلا يبقى منكم إلا الأندر، ثمَّ قرأ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾1،2.
متى تنتهي الغيبة؟
إن تحقّق تلك الأمور وحدها لا يكفي لكي يتحقّق ظهور المهديّ، بل هناك أسباب وشرائط أخرى لا بدَّ من توفُّرها أيضاً ليتحقّق الفَرَجُ، من هذه الأمور:
وجود الأنصار
لا بدَّ من توفُّر العدد الكافي من الأنصار المخلصين القادرين على تحقيق مشروع الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، الذين يجتمعون حول الإمام عند بداية حركته، ولعلَّهم يشكِّلون نواة التحرُّك، بالإضافة إلى وجود القادة في جيش الإمام وعددهم 313 بعدد المسلمين في بدر هؤلاء الذين يكفون الإمام ما يريد كما ذُكِرَ في الرواية عن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام: "يحفُّون به يقونه بأنفسهم في الحروب ويكفونه ما يريد"3.
عدم التوقيت
هناك العديد من الروايات التي تؤكِّد على عدم توقيت ظهور الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، كما في الرواية عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قال: "لقد حدَّثني أبي عن أبيه عن آبائه عليهم السلام أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قيل له: يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريَّتِك؟ فقال عليه السلام: مثله مثل الساعة لا يجلِّيها لوقتها إلا هو، ثقُلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة"4.
1 سورة العنكبوت، الآية 3.
2 داود بن سليمان بن يوسف الغازي، مسند الإمام الرضا عليه السلام، تحقيق: محمد جواد الحسيني الجلالي، مكتب الإعلام الإسلامي، 1418هـ، ط1، ج 1، ص 264.
3 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 52، ص 308.
4 م. ن، ج 51، ص 154.
263
225
الدرس التاسع عشر: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف (1) العقيدة المهدوية (المعتقد والغيبة)
بل هناك روايات واضحة في تكذيب من يوقِّت للظهور كالرواية عن الإمام محمَّد الباقر عليه السلام: "كذب الوقَّاتون، كذب الوقَّاتون، كذب الوقَّاتون"1.
السبب في إخفاء وقت الظهور
هناك العديد من الأسباب التي تدعو إلى ذلك، نذكر منها:
1- ما دام للظهور ظروفه الموضوعية التي يتحقّق الكثير منها على يد المؤمنين، فمن المناسب أن يرتبط الظهور بعمل هؤلاء الناس، وبهمّتهم وحضورهم، ما سيدفعهم للعمل ولتجهيز الأرضيَّة للظهور، وبالتالي للتعجيل بالظهور. وأمَّا ربط الظهور بزمن هو مجرَّد رقم وتاريخ، فهذا لن يكون ربطاً بالأسباب الحقيقيَّة، ولن يكون مساعداً على مستوى دفع الناس باتِّجاه تحقيق ظروف وشرائط الظهور.
2- إخفاء وقت الظهور سيبقي شعلة الأمل مشتعلة دائماً في قلوب المؤمنين، ففي الرواية عن محمَّد بن الفضيل عن الرضا عليه السلام، قال سألته عن شيء من الفَرَجِ، فقال: "أليس انتظار الفَرَجِ من الفَرَجِ؟ إِنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾2"3. وهذا الأمل سيدفعهم لإصلاح أمورهم، والابتعاد عن المعاصي والتزام الطاعات، وتجهيز الأنفس لنصرة الإمام، ولذلك جاء في رسالة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف التي أرسلها للشيخ المفيد: "فليعمل كلُّ امرئ منكم بما يقرِّبه من محبَّتِنا ويتجنَّب ما يدنيه من كراهيتنا وسخطنا، فإنَّ أمرنا بغتة فجأة، حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة"4.
طول عمر الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف أمر ممكن
يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾5 فما دمنا نتكلّم عن
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 1، ص 368.
2 سورة الأعراف، الآية 71.
3 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 52، ص 128.
4 م. ن، ج 53، ص 176.
5 سورة يس، الآية 82.
264
226
الدرس التاسع عشر: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف (1) العقيدة المهدوية (المعتقد والغيبة)
أنَّ الله تعالى أراد للإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف أن يغيب هذه الفترة الطويلة كلَّها فلا مجال للكلام عن عدم إمكانيَّة ذلك أو استحالته، بل الله قادر على ما يريد. وعنه عجل الله تعالى فرجه الشريف: "وأمَّا ظهور الفرج فإنَّه إلى الله"1.
نماذج من التاريخ
إنَّ التشكيك في أن يطول عمر الإنسان فترة طويلة من الزمن، يُشعر أنَّ طول عمر الإمام المهديّ نموذج أوحد لا مثيل له في التاريخ. ولكن من المستغرب أنَّ التشكيك يحصل رغم وجود الكثير من النماذج الأكيدة لأشخاص كانت أعمارهم طويلة جداً، وردت في نصوص قرآنية أو في روايات مسلّمة، وسنذكر فيما يلي نموذجين:
أ- نوح عليه السلام:
يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾2. فهذه السِّنون الطويلة من عمر نبيِّ الله نوح عليه السلام "ألف سنة إلّا خمسين عاماً"، هي جزء من عمره قضاها بعد أن أرسله الله تعالى لقومه إلى أن حصل الطوفان، وليس تمام عمره.
فإذا كان نبيُّ الله نوح تستوجب ظروفه أن يحيا هذا العمر كلّه، أفلا يستحقُّ تحقيق الوعد الإلهيّ بالنصر النهائيِّ، وتحقيق العدالة على الأرض، وغلبة جند الله، ورفعة دينه... كلّ ذلك ألا يستوجب المدَّ في عمر صاحب الزمان ليحقِّق هذا المشروع العظيم على يديه؟!
ب- الخضر عليه السلام:
من المعروف أنَّ الخضر عليه السلام من المعمَّرين، وأنَّ عمره تطاول لآلاف السنين، وفي رواية عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قال: "إنَّ الخضر عليه السلام شرب من ماء الحياة فهو حيٌّ لا يموت حتَّى ينفخ في الصُّور، وإنَّه ليأتينا فَيُسَلِّمْ عليّنا، فَيُسْمَعُ صوته ولا يُرى شخصُه، وإنَّه ليحضر حيث ما ذكر، فمن ذكره منكم فليُسَلِّمْ عليه، وإنَّه ليحضر الموسم
1 الشيخ الطوسي، محمد بن النعمان، الغيبة، تحقيق: الشيخ عبد الله الطهراني - الشيخ علي أحمد ناصح، مؤسسة المعارف الإسلامية، 1411هـ، ط1، ص 291.
2 سورة العنكبوت، الآية 14.
265
227
الدرس التاسع عشر: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف (1) العقيدة المهدوية (المعتقد والغيبة)
كلّ سنة، فيقضي جميع المناسك ويقف بعرفة، فيُؤَمِّن على دعاء المؤمنين وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته ويصل به وحدته"1.
وتشير الروايات إلى وجود الارتباط الوثيق بين طول عمر الخضر عليه السلام وعمر الإمام المهديِّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، فعن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام أنّه قال: "وأمَّا العبد الصالح الخضر، فإنَّ الله تبارك وتعالى ما طوَّل عمره لنبوَّة قدَّرها له، ولا لكتاب ينزله عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله من الأنبياء، ولا لإمامة يلزم عباده الاقتداء بها، ولا لطاعة يفرضها له، بلى، إنّ الله تبارك وتعالى لمَّا كان في سابق علمه أن يقدِّر من عمر القائم ما يقدِّر من عمر الخضر وما قدَّر في أيّام غيبته ما قدَّر وعلم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طوَّل عمر العبد الصالح من غير سبب يوجب ذلك إلّا لعلَّة الاستدلال به على عمر القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف، وليقطع بذلك حجَّة المعاندين لئلَّا يكون للناس على الله حجَّة"2.
1 الأصفهاني، محمّد تقي الموسوي، مكيال المكارم، تحقيق: السيد علي عاشور، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1421هـ، ط1، ج 1، ص 171.
2 م.ن.
266
228
الدرس التاسع عشر: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف (1) العقيدة المهدوية (المعتقد والغيبة)
المفاهيم الرئيسة
1- وُلد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يوم الجمعة منتصف شهر شعبان سنة (255هـ) في مدينة سامرّاء.
2- كان الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام قد أوصى إليه بالإمامة من بعده، فكان إمام الأمّة وسيّدها وهو صغير السنّ لم يتعدَّ الخمس سنوات، ولا يختلف الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن آبائه الطاهرين بكثرة العبادة والتقرّب لله سبحانه وتعالى. وقد أثر عنه الكثير من الأدعية المروية، وكان له تسبيح، وهو قوله: "سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته، سبحان الله زنة عرشه، والحمد لله مثل ذلك"1.
3- إنّ ظهور الإيمان بفكرة حتمية ظهور المنقذ العالميّ في الفكر الإنسانيّ عموماً يكشف عن وجود أسس متينة قوية تستند إليها تنطلق من الفطرة الإنسانية.
4- يعتبر الإيمان بحتمية ظهور المصلح الدينيّ العالميّ وإقامة الدولة الإلهية العادلة في كلّ الأرض من نقاط الاشتراك البارزة بين جميع الأديان.
5- عقيدة الإمامية بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف: لقد تواترت الأخبار والروايات الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام التي تبشِّر بالمهديّ، وبظهوره في آخر الزمان لينشر العدل، وينصر المستضعفين في العالم.
6- كان للإمام سفراء أربعة هم: السفير الأوّل: أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري الأسدي. السفير الثاني: أبو جعفر محمَّد بن عثمان بن سعيد العمريّ. السفير الثالث: أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي. السفير الرابع: أبو الحسن عليّ بن محمَّد السمريّ.
7- متى تنتهي الغيبة: إن تحقّق تلك الأمور وحدها لا يكفي لكي يتحقّق ظهور المهديّ، بل هناك أسباب وشرائط أخرى لا بدَّ من توفُّرها أيضاً ليتحقّق الفَرَجُ، من هذه الأمور: وجود الأنصار، عدم التوقيت.
8- طول عمر الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف أمر ممكن: يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ويوجد نماذج من التاريخ: أ - نوح عليه السلام. ب- الخضر عليه السلام.
1 قطب الدين الراوندي، الدعوات، ص94.
267
229
الدرس التاسع عشر: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف (1) العقيدة المهدوية (المعتقد والغيبة)
للمطالعة
الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وشبهه بالرسل
روى الشيخ الصدوق بسنده عن محمد بن مسلم الثقفيّ، قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلموعليهم، فقال لي مبتدئاً: "يا محمد بن مسلم إنّ في القائم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم شبهاً من خمسةٍ من الرسل: يونس بن متّى، ويوسف بن يعقوب، وموسى، وعيسى، ومحمّد، صلوات الله عليهم، فأمّا شبهه من يونس بن متّى: فرجوعه من غيبته وهو شاب بعد كبر السنّ.
"وأمّا شبهه من يوسف بن يعقوب عليهما السلام: فالغيبة من خاصته وعامته، واختفاؤه من إخوته وإشكال أمره على أبيه يعقوب عليهما السلام مع قرب المسافة بينه وبين أبيه وأهله وشيعته.
"وأمّا شبهه من موسى عليه السلام فدوام خوفه، وطول غيبته، وخفاء ولادته، وتعب شيعته من بعده ممّا لقوا من الأذى والهوان إلى أن أذن الله عزّ وجلّ في ظهوره ونصره وأيّده على عدوّه.
"وأمّا شبهه من عيسى عليه السلام: فاختلاف من اختلف فيه، حتّى قالت طائفة منهم: ما ولد، وقالت طائفة: مات، وقالت طائفة: قتل وصلب.
"وأمّا شبهه من جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فخروجه بالسيف، وقتله أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والجبارين والطواغيت، وأنّه ينصر بالسيف والرعب، وأنه لا تردُّ له راية"1.
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص327.
268
230
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2)
علامات الظهور ـ الرايات
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الظروف العامّة قبل الظهور.
2- يتعرّف إلى أهمّ علامات الظهور.
3- يميّز بين الرايات في عصر الغيبة ويفهم مداليلها.
269
231
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
علامات الظهور
قلنا بأنَّه ليس هناك توقيت لظهور الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولكن رغم ذلك لم يترك أمر الظهور بدون أيِّ إشارة إليه، فقد ذكر العديد من الروايات أموراً وحوادث عديدة اعتبرَتها مؤشِّراً على قرب زمن الظهور، وهو ما اصطُلح عليه بعلامات الظهور. وهذه العلامات متعدِّدة ولها أقسامها المتفاوتة.
فبعض العلامات واضح في معناه والمقصود منه، وبعضها الآخر أشبه بالرمز الّذي لا يتّضح معناه بشكل واضح ودقيق. ولعلَّ سبب الإبهام والترميز هو اختلاف الأزمنة وصعوبة التعبير عن أمور غير موجودة في ذلك الزمن، فيُستعاض عنها بالتشبيه والترميز.
وبعض علامات الظهور، يتحدَّث عن الأجواء العامَّة للزمن الّذي يحصل فيه الظهور. ومن الطبيعيّ أنَّ الأجواء العامَّة لا تحدث بلحظة واحدة عادة وإنَّما تكون على نحو التراكمات الاجتماعيّة، وبالتالي فإنَّ مثل هذه العلامات لا يكون ملاصقاً لزمن الظهور تماماً، ويحتمل أنْ يتراخى الزمن حتّى يحصل الظهور بعدها. فيما هناك علامات أخرى أشبه بالأحداث والوقائع الّتي تكون قبيل الظهور بفترات قليلة يعقبها الظهور مباشرة، وبالتالي فهي علامات قريبة جداً من زمن الظهور.
وقد قسَّموا العلامات أيضاً إلى علامات حتميَّة الوقوع، وأخرى غير حتميَّة، ويمكن أنْ لا تتحقّق، ولا يتوقّف عليها الظهور بشكل أكيد.
وقبل أن نفصِّل ذلك كلَّه هناك سؤال لا بدَّ من طرحه، وهو: ما الفائدة من الإخبار عن علامات الظهور؟
271
232
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
لماذا علامات الظهور؟
علامات الظهور لها فوائد متعدِّدة وكبيرة على مستوى حفظ المؤمنين في زمن الغيبة ومواجهة تحدّيات ذلك الزمان، وعلى مستوى جهوزيَّتهم واستعدادهم عند الظهور، وعدم تراخي الهمم وضعف العزيمة مع تطاول الزمن.
أمَّا حفظ المؤمنين في مواجهة التحدّيات، فمن جهتين:
الجهة الأولى: بعث نور الأمل مع تراكم التحدّيات والصعوبات، فعندما يكثر الفساد في المجتمع وتضيع الحقوق، ويبدأ الإنسان بالإحساس بالإحباط في مواجهة تلك التحدّيات يلاحظ علامة أو عدَّة من علامات الظهور، فتعود شعلة الأمل لتضيء روحه وقلبه من جديد، ويتذكَّر أنَّ الفساد والظلم ليس لهما إلّا جولة، وستنتهي هذه الجولة في يوم ما، وقد بدأت علائم أزوف جولته تظهر من خلال علامات الظهور.
الجهة الثانية: أنَّه مع قراءة علامات الظهور، وكيف أنَّ زمن الظهور سيكون بعد وصول الظلم والفساد إلى القمَّة، فإنَّه بعد ذلك مهما رأى من ظلم وفساد لن يصاب بالمفاجأة والصدَّمة والإحباط، فهو يتوقَّع ذلك من خلال ما يذكر في وصف زمن الظهور وعلاماته العامَّة، وسينقلب الإحباط من وجود الظلم إلى التفاؤل بقرب الظهور.
وأمَّا تأثير العلامات على الجهوزيَّة، فلأنَّ المؤمن عندما يرى علامة تشبه علامات الظهور سيستبشر بقرب الظهور، وبالتالي سيكون أكثر حيويَّة وجهوزيَّة وفعاليَّة في مواجهة الفساد، ليحصل على لياقة أن يكون جنديَّاً من جنود الإمام.
الأجواء العامّة قبيل الظهور
هناك رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام تختصر الدرجة الّتي وصل إليها الانحطاط في المجتمعات الفاسدة، حيث يقول: "احفظ... فإنَّ علامات ذلك: إذا أمات الناس الصلاة، وأضاعوا الأمانة، واستحلُّوا الكذب وأكلوا الرِّبا، وأخذوا الرُّشا... وباعوا الدين بالدُّنيا واستعملوا السفهاء، وقطعوا الأرحام واتَّبعوا الأهواء واستخَفُّوا بالدماء، وكان الحِلْمُ ضعفاً والظلم فخراً، وكان الأمراء فجرة، والوزراء ظلمة والعرفاء خونة والقُرّاء فسقة، وظهرت شهادات الزُّور واستُعلِن الفجور وقول البهتان والإثم والطغيان.
272
233
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
... وكان زعيم القوم أرذلهم، واتُّقِيَ الفاجر مخافة شرِّه وصُدِّق الكاذب واؤتُمِنَ الخائن واتُّخِذَت القِيَان والمعازف، ولعن آخر هذه الأُمَّة أوَّلها، وركبت ذوات الفروج السروج وتشبَّه النساء بالرجال والرجال بالنساء..."1.
وقائع قبيل الظهور
هناك العديد من العلامات والأحداث الّتي ستحصل قبيل الظهور مذكورة في الروايات، نذكر بعضها مع تصنيفها إلى أقسام:
أ. الحركات العسكريّة:
1- خروج السفيانيّ: وفي حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "فبينما هم كذلك، أي أثناء الفتنة بين أهل المشرق والمغرب، يخرج عليهم السفيانيّ من الوادي اليابس في فور ذلك حتَّى ينزل دمشق، فيبعث جيشين: جيشاً إلى المشرق وآخر إلى المدينة حتَّى ينزلوا بأرض بابل من المدينة الملعونة "يعني بغداد" فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويفضحون أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمئة كبش من بني العبَّاس ثمَّ ينحدرون إلى الكوفة"2.
2- خروج اليمانيّ: قال صلى الله عليه وآله وسلم: "خروج الثلاثة: السفيانيّ والخراسانيّ واليمانيّ في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد وليس فيها من راية أهدى من رايةٍ اليمانيّ لأنَّه يدعو إلى الحقِّ"3. وفي حديث عنه: "خروج السفيانيّ واليمانيّ والخراسانيّ في سنة واحدة وفي شهر واحد وفي يوم واحد، ونظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً، فيكون البأس في كل وجه، ويل لمن ناواهم، ليس في الرايات أهدى من راية اليمانيّ هي راية هدى لأنَّه يدعو إلى صاحبكم، فإذا خرج اليمانيّ حرَّم بيع السلاح على كلِّ الناس"4.
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 52، ص 193.
2 م. ن، ص 186.
3 م. ن، ص 210.
4 م. ن، ص 232.
273
234
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
3- إقبال الرايات السود من خراسان: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تنزل الرايات السود الّتي تخرج من خراسان إلى الكوفة، فإذا ظهر المهديُّ بعثت إليه بالبيعة"1.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا سمعت الرايات السود مقبلة من خراسان فكنت في صندوق مقفل عليك، فاكسر ذلك القفل وذلك الصندوق حتَّى تُقتل تحتها"2.
ب. أحداث محدَّدة:
قتل النفس الزكيَّة بين الركن والمقام: ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "وليس بين قيام قائم آل محمَّد وبين قتل النفس الزكيَّة إلّا خمس عشرة ليلة"3.
ج. كوارث وأحداث طبيعيَّة:
1- خسف بالبيداء: ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "قبل قيام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف اليمانيّ والسفيانيّ والمنادي ينادي من السماء، وخسف البيداء وقتل النفس الزكيَّة"4.
2- خسف بالمشرق وخسف بالمغرب: في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "...يكون عند ذلك ثلاثة خسوف، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب"5.
3- طلوع الشّمس من المغرب: عن الإمام الباقر عليه السلام...: "وطلوع الشّمس من المغرب من المحتوم"6.
إعلان الظهور
الصيحة في السماء: ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "ينادي منادٍ من السماء باسم القائم فيسمع من بالمشرق ومن بالمغرب لا يبقى راقد إلّا استيقظ ولا قائم إلّا قعد ولا قاعد إلّا قام على رجليه فزعاً من ذلك الصوت، فرحم الله من اعتبر بذلك الصوت فأجاب"7.
1 م. ن، ص 217.
2 المتَّقي الهندي، علاء الدين علي المتقي، كنز العمال، ضبط وتفسير، الشيخ بكري حياني، تصحيح وفهرست: الشيخ صفوة السقا، بيروت - لبنان، مؤسسة الرسالة، 1409 - 1989م، لا.ط، ج 11، ص 278.
3 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، الغيبة، ص 445.
4 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 52، ص 203.
5 الشيخ علي كوراني العاملي، معجم أحاديث الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرج الشريف، لا.د، 1426هـ - 2006م، ط3، ج 1، ص 361.
6 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 52، ص 289.
7 م. ن. ص 230.
274
235
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
رايات قبل الظهور
إنَّ النصر النهائيَّ والكامل سيتحقّق عند ظهور الإمام المهديِّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولن يتحقّق قبيل ذلك، وهذا ما تؤكِّده الروايات بشكل واضح لا لُبس فيه، وما دمنا نعلم أنْ لا نصر نهائيَّاً وكاملاً قبل الظهور، فهل يمكن أن يكون هناك رايات قبل الظهور؟
ما المقصود من الرايات؟
إنَّ الراية في هذا الزمن لها رمزها وحضورها المعنويّ، فهي تُعبِّر عن حضور وقوَّة أصحاب هذه الراية حيثما رفعت، وإسقاطها يعني سقوطهم وضعفهم هناك.
أمَّا في الأزمنة السابقة فبالإضافة إلى بُعْدِها المعنويِّ كان لها بُعْد آخر، حيث كانت الراية تجمع الناس حولها ليتكتَّلوا ويقوموا قيام رجلٍ واحدٍ في مواجهة الأعداء، وسقوط الراية يعني ضياع الجيش وتشتُّته وزعزعة صفوفه، وبالتالي الهزيمة العمليَّة، لذلك كان يُنتخب لحمل الراية أقوى وأشجع وأمضى الناس، والقادر على قيادتهم لتحقيق النصر. من هنا نفهم كلمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خيبر: "لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله كرَّاراً غير فرَّارٍ"1.
فمجرَّد رفع الراية يعني تجميع الناس ودعوتهم للالتحاق بها، وتكتُّلهم تحت عنوانها للقيام بعمل كبير قد يستوجب بذل الدماء.
الرايات قبل ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف
هذا السؤال يطرح نفسه باعتبار أنَّنا ذكرنا سابقاً أنَّ النصر النهائيَّ لن يكون إلّا بظهور الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، فهل يجب انتظار ظهوره لترتفع الرايات، أم يمكن ذلك في زمان غيبته؟
قلنا: إنَّ رفع الرايات يعني القيام بعمل جماعيّ كبير وبشكل منظَّم قد يستوجب بذل الدماء، وبالتالي فرفع الرايات هو وسيلة لتحقيق أهداف معيَّنة. وفي زمن الغيبة هناك الكثير من الأهداف الضروريَّة التي يجب تحقيقها، والكثير من التكاليف الواجبة التي يجب التزامها، وكلّها تحتاج لعمل جماعيٍّ وتكتُّلٍ وتنظيمٍ وبذلٍ للدماء والمهج في سبيل ذلك. ومن تلك الأمور:
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 8، ص 251
275
236
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
1- الدفاع عن بلاد المسلمين ومصالحهم:
فإنَّ الجهاد والدفاع عن بلاد المسلمين ودمائهم وأعراضهم واجب باتَّفاق كافَّة الفقهاء، والدفاع لن يحصل بالتشتُّت والجلوس في البيت وترك الأعداء يفعلون ما يحلو لهم من نهب وظلم واضطِهاد، بل نحن نحتاج في الدفاع إلى مواجهةٍ قويَّةٍ ومنظَّمةٍ، وتجميع طاقات الأُمَّة وقدراتها على جميع المستويات، يقول تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾1.
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهذه وظيفة إلهيَّة عظيمة لا يمكن تركها أو التخلِّي عنها، يقول تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾2. ولا تكفي المبادرات الفرديَّة للنهي عن المنكر في هذا الزمن، بل لا يتحقّق النهيُّ عنه وإصلاح المجتمع إلا من خلال عملٍ جماعيٍّ يواجه كلَّ تحديّات أهل المنكر، على جميع المستويات الثقافيَّة والإعلاميَّة والعسكريَّة والاجتماعيَّة وغيرها... يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾3.
3- تنفيذ الأحكام الإلهية:
إنّ الإسلام يتضمَّن أحكاماً تفصيليَّة على جميع المستويات، حتَّى في القضاء وإقامة الحدود والعقوبات، وكذلك في الاقتصاد والبنوك والأموال، بالإضافة إلى قوانين الأحوال الشخصيَّة، فهل يمكن لأحد أن يدَّعي جواز ترك الإسلام وأحكامه كلّها في زمن الغيبة؟! لا شكَّ أنَّنا مكلَّفون شرعاً بالالتزام بهذه الأحكام، يقول تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾4.
1 سورة الحج، الآية 39.
2 سورة آل عمران، الآية 110.
3 سورة آل عمران، الآية 104.
4 سورة المائدة، الآية 45.
276
237
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
لا تلتحق بالرايات المشبوهة
هناك روايات وردت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تنبِّه المؤمنين وتحذِّرهم وتمنعهم من الالتحاق برايات كانت ترتَفع ليتجمَّع الناس حولها. كالرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "فالخارج منّا اليوم إلى أيِّ شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فنحن نشهدكم أنَّنا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم.."1 ، وهناك روايات أخرى أيضاً بهذا المعنى.
والسبب في هذه الروايات هو حركة العباسيِّين الذين رفعوا شعار الثأر لأهل البيت من الأمويِّين، بشكل غرَّر ببعض المؤمنين، فأراد الإمام أن ينبِّههم إلى أن العباسيِّين غير صادقين في ادِّعاءاتهم وأنَّهم يطلبون الملك والدُّنيا، وأنَّهم إن وصلوا إلى الحكم فلن يكونوا أفضل من الأمويِّين "فنحن نشهدكم أنَّنا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم"، وأمَّا إذا كانت الراية صحيحة وتعبِّر عن شخص يرضاه الإمام فالموضوع مختلف، كما في الوليِّ الفقيه الذي عبَّر الإمام الحجّة عن رضاه عن عمله وألزم المؤمنين بطاعته "وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا"، فراية الوليّ الفقيه ليست إلّا راية رفعها الإمام الحجّة بنفسه بمقتضى هذه الرواية، والوليُّ الفقيه لا يدعو لنفسه وإنَّما يدعو للإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف ويمهِّد لظهوره.
رايات حقّ قبل الظهور
هناك الكثير من الروايات التي تتحدَّث عن رايات حقّ وهدى ترفع قبل ظهور الإمام المهديِّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأنَّها تمهِّد لظهوره. كالرواية عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام: "كأنِّي بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحقَّ فلا يعطونه، ثُمَّ يطلبونه فلا يعطونه. فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتَّى يقوموا ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم، قتلاهم شهداء"2.
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 8، ص 264.
2 العلاّمة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 52، ص 243.
277
238
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يخرج ناس من المشرق فيوطِّئون للمهديِّ"1، أي يمهِّدون لظهوره. وعن الإمام موسى الكاظم عليه السلام قال: "رجل من أهل قم يدعو الناس إلى الحقِّ، يجتمع معه قوم قلوبهم كزبر الحديد، لا تزلُّهم الرِّياح العواصف، ولا يملّون من الحرب، ولا يجبنون، وعلى الله يتوكَّلون، والعاقبة للمتَّقين"2.
الانتظار والعلاقة بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
الانتظار في اللَّغة بمعنى الترقُّب3، والتربُّص4، وهو "حالة نفسانيَّة ينبعث منها التهيّؤ لما تنتظره، وضدّه اليأس، فكلَّما كان الانتظار أشدّ كان التهيّؤ آكد..."5.
كيف يكون الانتظار؟
إنَّ معرفة كيفيّة الانتظار أمر مهمّ جدًّا لأنَّنا نتحدَّث عن فترة طويلة استمرّت قروناً حتَّى الآن ومرَّت فيها أجيال وأجيال، ضمن ظروف مختلفة وفرص متفاوتة، ولا يمكن ترك هذه الأجيال بلا تكليف واضح ومحدَّد، فما هو تكليف هذه الأجيال في هذه الفترة؟ وكيف من المفترض أن يكون انتظارها لظهور الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف ولتحقّق الفرج على يديه؟
الانتظار السلبيّ والإيجابيّ
هناك نهجان مختلفان ومتناقضان متصوّران لكيفيّة الانتظار، ولتكليف المؤمنين في زمان الغيبة الكبرى للإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف:
أ- الانتظار السلبيّ: والمقصود منه أن يبقى الإنسان جالساً بدون أيِّ حراك أو فعاليَّة تذكر، وبدون أن يقوم بأيِّ عمل تغييريّ، ويكتفي بمراقبة علامات الظهور، وما تحقّق منها، ليزداد أمله بقرب الظهور، كما لو استشعر تحقّق شيء منها، وهذا يعني أنَّ الوظيفة الأساسيّة للمؤمنين في عصر الغيبة هي أن يعيشوا أمل ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف بدون أن يسعوا لتغيير الواقع الاجتماعيِّ والسياسيِّ.
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 51، ص 87.
2 م.ن. ج 57، ص 216.
3 ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، نشر: أدب الحوزة، محرم 1405، ج1، ص 424.
4 م.ن. ج7، ص 39.
5 الأصفهاني، محمَّد تقي الموسوي،، مكيال المكارم، ج2، ص 136.
278
239
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
ب- الانتظار الإيجابيّ: والمقصود منه أن لا يقف الإنسان مكتوف اليدين ساكناً، حتَّى يتحقّق الفرج بظهور الإمام، وإنَّما يقوم بالواجبات الشرعيَّة الملقاة على عاتقه سواء كانت فرديّة أم اجتماعيَّة، أو لها علاقة بالنظام والحكم.
فأيُّهما هو الانتظار الصحيح والمطلوب شرعاً؟
المنهج الصحيح في الانتظار
عند مراجعة الروايات الشريفة، لا شكَّ أنَّنا سنصل إلى نتيجة قطعيَّة تقول: إنَّ المطلوب من الأجيال في عصر الغيبة الكبرى لا يمكن أن يكون مجرَّد السكون والجلوس في البيت، والتخاذل عن الوظائف الشرعيَّة الممكنة، والّتي فيها مصلحة الأمَّة، بل هناك العديد من الأدوار الأساسيَّة الّتي لا بدَّ من تنفيذها، يمكن أن نختصرها فيما يلي:
أوّلاً: طاعة الله وتنفيذ الأحكام الشرعيّة
عن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف...: "ولو أنَّ أشياعنا وفَّقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد لَما تأخَّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقِّ المعرفة وصدقها منهم بنا"...1.
فاتِّحاد المؤمنين حول قضية الإمام المهديِّ هو سبب مباشر لتعجيل الظهور. وليس المطلوب مجرَّد الاتِّحاد العقائديّ، لأنَّ ذلك حاصل منذ زمن بعيد، وإنَّما المطلوب الاتِّحاد على المستوى العمليِّ. وعندما نتحدَّث عن اتِّحاد، فهذا يعني أنَّهم كالجسد الواحد الّذي له رأس واحد يديره ويقوده، هذا الرأس الّذي عبَّرت عنه مكاتبته عجل الله تعالى فرجه الشريف: "وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله"2، وهو الوليُّ الفقيه.
ويكون همُّ المؤمنين تطبيق أحكام الله تعالى والتمسّك بطاعته، كما طلب وأكَّد عليه الإمام الحجّة عجل اله تعالى فرجه الشريف في ما ورد عنه: "فاتَّقوا الله جلّ جلاله، وظاهرونا على انتياشكم3 من فتنة قد أنافت4 عليكم، يهلك فيها من حمَّ أجله، ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارة
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 53، ص 177.
2 الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج 27، ص 140.
3 انتياشكم: انتشالكم.
4 أناف على الشيء: طال وارتفع عليه.
279
240
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
لأزوف1 حركتنا ومباثتكم بأمرنا ونهينا، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾2"3.
ثانياً: توحيد الأُمَّة وتنظيمها بالشكل المطلوب
فالإمام الصادق عليه السلام يتحدَّث بشكل واضح أنَّ حفيده المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف "ما يخرج إلّا في أولي قوَّة"4.
والقوَّة لها جانبان، قوَّة ماديَّة تأتي من خلال التجهيز والاستعداد والتدرُّب... وهذا يفترض أنَّ هناك تحرُّكاً قويًّا في هذا الاتجاه قبيل ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وقوَّة في القلب والإرادة، وهذه تنتج من الثبات أمام الابتلاءات، وهناك رواية تصفهم: "إنَّ قلب رجل منهم أشدّ من زبر الحديد لو مرُّوا بالجبال الحديد لتدكدكت، لا يكفُّون سيوفهم حتّى يرضى الله عزَّ وجلَّ"5.
ثالثاً: التمهيد للظهور
هناك العديد من الروايات التي تتحدَّث عن أشخاص ورايات تظهر قبيل ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وتقوم بتهيئة الأرض له والتمهيد لظهوره، كالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يخرج ناس من المشرق فيوطِّئون للمهديِّ"6. بل إنَّ أمنية كلِّ مؤمن أن يكون في ركب جنود القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف عند ظهوره. وفي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "فيا طوبى لمن أدركه وكان من أنصاره"7. والمخلصون يعملون على التمهيد لظهوره، وتهيئة الأرض ومواءمة الظروف لتحقيق شرائط الظهور، وتحقيق اليوم الموعود، وفي رواية أنَّه سئل الإمام محمَّد التقيُّ عليه السلام: "لِمَ سُمِّيَ القائم؟ فقال: "لأنَّه يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته. فقيل له: وَلِمَ سُمِّيَ المنتظر؟ فقال: لأنَّ له غيبة يكثر أيّامها، ويطول أمدها،
1 الأزوف: الاقتراب.
2 سورة الصف، الآية 8.
3 الشيخ الطبرسي، الميرزا حسين النوري، خاتمة المستدرك، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، بيروت، لبنان، 1408 - 1987م، ط1، ج 3، ص 225، من رسالة للشيخ المفيد.
4 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 52، ص 323.
5القندوزي، سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة، تحقيق: سيد علي جمال أشرف الحسيني، دار الأسوة، 1416هـ، ط1، ج 3، ص 177.
6 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 51، ص 241.
7 ابن أبي زينب، النعماني، محمد بن إبراهيم، الغيبة، ص 240.
280
241
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
فينتظر خروجه المخلصون، وينكره المرتابون، ويستهزىء بذكره الجاحدون، ويكذِّب بها الوقَّاتون، ويهلك فيها المستعجلون، وينجو فيها المسلّمون"1.
آداب العلاقة بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
أ- معرفة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف:
قال رسول الله: "من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية"2.
ب- الثبات على الدين والولاية لأهل البيت عليهم السلام:
من أهمّ تكاليفنا الشرعية في عصر الغيبة الثبات على موالاة أهل البيت عليهم السلام والثبات على العقيدة الصحيحة بإمامة الأئمة الاثني عشر، فعن رسول الله قال: "والذي بعثني بالحقّ بشيراً ليغيبنّ القائم من ولدي بعهد معهود إليه منّي حتّى يقول أكثر الناس ما لله في آل محمد حاجة ويشكّ آخرون في ولادته، فمن أدرك زمانه فليتمسّك بدينه ولا يجعل للشيطان إليه سبيلاً يشكّكه فيزيله عن ملّتي ويخرجه من ديني"3.
ت- ذكر فضائل الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف:
من جملة مصاديق الثبات على الولاية ذكر فضائل الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وإشاعتها بين الناس والبراءة من أعدائه. كما جاء عن رسول الله أنّه قال: "طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو يأتمّ به في غيبته قبل قيامه ويتولّى أولياءه ويعادي أعداءه، ذلك من رفقائي وذوي مودّتي وأكرم أمّتي عليّ يوم القيامة"4.
ث- مراعاة الأدب عند ذكره عليه السلام، بأن لا يذكره إلاّ بألقابه الشريفة:
كالحجّة والقائم، والمهديّ، وصاحب الزمان، وصاحب الأمر، وتكملة ذكره عليه السلام بقول: عليه السلام، أو عجل الله تعالى فرجه الشريف، والقيام عند ذكر لقبه "القائم".
1 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 51، ص 30.
2 ابن أبي زينب، محمد بن إبراهيم، ص 130، الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 2، ص 21.
3 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين، ج 1، ص 51، العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 51، ص 68، ح 10.
4 الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، الغيبة، ص 275، الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين، وتمام النعمة، ج 1، ص 286.
281
242
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
ح- الدعاء للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف والدعاء بتعجيل الفرج:
فقد ورد من الناحية المقدّسة على يد محمّد بن عثمان في آخر توقيعاته عليه السلام: "وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإنّ ذلك فرجكم"1.
خ- إظهار محبّته عليه السلام:
وتحبيبه إلى الناس، وإظهار الشوق إلى لقائه عليه السلام ورؤيته، والبكاء والإبكاء والتباكي والحزن على فراقه، والتصدّق عنه عليه السلام بقصد سلامته.
د- إقامة مجالس تُذكر فيها فضائله عليه السلام ومناقبه:
أو بذل المال في إقامتها، والحضور في هكذا مجالس، والسعي في ذكر فضائله ونشرها.
ذ- إهداء ثواب الأعمال العبادية المستحبّة له عليه السلام:
كالحجّ والطواف عنه عليه السلام، والصوم والصلاة، وزيارة مشاهد المعصومين عليهم السلام, أو بذل المال لنائب ينوب عنه في أداء تلك الأعمال.
ر. تجديد البيعة للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف:
جاء في دعاء العهد: "اَللّـهُمَّ إنّي أُجدّد لَهُ في صَبيحَةِ يَوْمي هذا وَما عِشْتُ مِنْ أيامي عَهْداً وَعَقْداً وَبَيْعَةً لَهُ في عُنُقي، لا أحول عَنْها وَلا أزول أبداً …"2.
ز- الصلاة على الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف:
جاء في دعاء العهد: "اَللّـهُمَّ بَلِّغْ مَوْلانَا الإمام الْهادِيَ الْمَهْدِيَّ الْقائِمَ بأمرك صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ وعَلى آبائِهِ الطّاهِرينَ عَنْ جَميعِ الْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ في مَشارِقِ الأرض وَمَغارِبِها سَهْلِها وَجَبَلِها وَبَرِّها وَبَحْرِها، وَعَنّي وَعَنْ والِدَيَّ مِنَ الصَّلَواتِ زِنَةَ عَرْشِ اللهِ وَمِدادَ كَلِماتِهِ، وَما أحصاه عِلْمُهُ وأحاط بِهِ كِتابُهُ..."3.
1 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص 485، للشيخ الطوسي، محمد بن علي، الغيبة، ص 293.
2 السيد ابن طاووس، علي بن موسى، مصباح الزائر، ص 169.
3 م.ن.
282
243
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
المفاهيم الرئيسة
1- قسم العلماء العلامات إلى علامات حتميَّة الوقوع، وأخرى غير حتميَّة، وللعلامات فوائد متعدِّدة على مستوى حفظ المؤمنين في زمن الغيبة ومواجهة تحدّيات ذلك الزمان، وعلى مستوى جهوزيَّتهم واستعدادهم عند الظهور.
2- وقائع قبيل الظهور
أ- الحركات العسكريّة: خروج السفيانيّ، خروج اليمانيّ، الرايات السود.
ب- أحداث محدَّدة: قتل النفس الزكيَّة بين الركن والمقام.
ج- كوارث وأحداث طبيعيَّة: خسف بالبيداء، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، طلوع الشّمس من المغرب.
3- إعلان الظهور: يتم إعلان الظهور عبر ما يعرف بالصيحة في السماء التي يقوم بها جبرائيل عليه السلام.
4- رايات قبل الظهور: رفع الرايات يعني القيام بعمل جماعيّ كبير وبشكل منظَّم قد يستوجب بذل الدماء، وفي زمن الغيبة هناك الكثير من الأهداف الضروريَّة التي يجب تحقيقها، وهي: الدفاع عن بلاد المسلمين ومصالحهم, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, تنفيذ الأحكام الإلهية.
5- هناك روايات وردت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تنبِّه المؤمنين وتحذِّرهم وتمنعهم من الالتحاق برايات كانت ترتَفع ليتجمَّع الناس حولها وهي الرايات المشبوهة، خصوصاً مع وجود رايات حقّ قبل الظهور رايات حقّ وهدى ترفع قبل ظهور الإمام المهديِّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأنَّها تمهِّد لظهوره.
6- الانتظار والعلاقة بالإمام المهدي: وقسم إلى: الانتظار السلبيّ، الانتظار الإيجابيّ.
7- المنهج الصحيح في الانتظار يعتمد على: أوّلاً: طاعة الله وتنفيذ الأحكام الشرعيّة. ثانياً: توحيد الأُمَّة وتنظيمها بالشكل المطلوب، ثالثاً: التمهيد للظهور.
283
244
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
8- آداب العلاقة بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف:
أ- معرفة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ب- الثبات على الدين والولاية.
ت- ذكر فضائل الحجّة.
ث- مراعاة الأدب عند ذكره عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ح- الدعاء للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
خ- إظهار محبّته عجل الله تعالى فرجه الشريف.
د- إقامة مجالس تُذكر فيها فضائله عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ذ- إهداء ثواب الأعمال العبادية المستحبّة له عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ر ـ تجديد البيعة للإمام.
ز- الصلاة على الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.
284
245
الدرس العشرون: الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف (2) علامات الظهور ـ الرايات
للمطالعة
صفات الأنصار
1- الإيمان بالغيب: في الرواية سئل الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾1، فقال: "المتّقون شيعة عليّ عليه السلام والغيب فهو الحجّة (الغائب)..."2.
2- حزب الله: في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما سئل عن أوصيائه، فعدَّهم النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن قال: "ومن بعده (أي بعد الحسن العسكريّ) ابنه محمَّد، يدعى بالمهديّ والقائم والحجّة، فيغيب ثمَّ يخرج، فإذا خرج يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، طوبى للصابرين في غيبته، طوبى للمقيمين على محبَّته أولئك الذين وصفهم الله في كتابه وقال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾3، وقال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...﴾4,5
3- الصبر على الأذى: ففي الرواية عن الإمام الحسين عليه السلام: "أما أنَّ الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"6.
4- تمنّي الشهادة: عن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام قال: "يَدْعُوْنَ بالشهادة ويتمنَّوْنَ أنْ يُقتلوا في سبيل الله"7.
1 سورة البقرة، الآيتان 1 - 2.
2 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 52، ص 124.
3 سورة البقرة، الآيتان 2 - 3.
4 سورة المجادلة، الآية 22.
5 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 52، ص 143.
6 الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص 318.
7 العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 52، ص308.
285
246