المقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد.
كتب الإمام الخميني قدس سره في الأخلاق وفي تهذيب النّفس، فأفاض على طلّاب المعارف الحقّة وأصحاب الطّريقة الوسطى ما أنار به دروب سيرهم. وتوغّل قدس سره في أعماق النّفس البشريّة، فاستخرج منها ما يخلب الألباب. وارتقى قدس سره في مراتب المعنويّات، فصار قدوة السّالكين ومنار العارفين.
هكذا أضحى الإمام قدس سره في هذا الزّمان رمزًا عظيمًا للرّوحانيّة الأصيلة التي تمتزج بالجهاد والوعي وبُعد النّظر، وصار مدرسةً تأخذ بأيدي الباحثين من بداية المسير وإلى قمم المجد والعظمة.
المهتمّون ببرامج السّير والسّلوك، والعاملون على مناهج الأخلاق والتّهذيب، والمشتغلون بتربية النّفوس وتهذيبها، كلّ هؤلاء وجدوا ضالّتهم في هذه المدرسة الشّامخة التي اتّسعت لتلقي بظلالها الوارفة على جميع قضايا النّفس والرّوح، وتجيب عن جميع أسئلة الباحثين.
هذا ما يتعرّف إليه كل من يطالع كتابات الإمام ويكتشفه كل ذي دراية واهتمام، ولكن ماذا عن الذين لا عهد لهم بالمطالعة؟ أو أولئك الذين تحجزهم مصاعب المصطلح والمتابعة؟ هل يجوز أن يبقوا عن هذه المعارف السّامية بعيدين؟! ومن فيض روح الله محرومين؟!
- ألا يمكن أن تُقدَّم لهم بأسهل الطّرق وأيسر السّبل؟
- وهل يوجد مثل المنهاج التّعليميّ من وسيلة تحلّ المعضلات وتزيل المشكلات؟!
17
1
المقدمة
لأجل هذا وغيره، بادر مركز نون للتأليف والترجمة إلى نقل نصوص الإمام الرّائعة من مصادرها الأصيلة ووضعها في قوالب جديدة، تسهّل على طلّابنا الأعزّاء عمليّة التعرّف إلى المدرسة الأخلاقيّة السّلوكيّة الفريدة للإمام الخمينيّ قدس سره، وهذه القوالب هي التي تعتمد المنهجيّة التّحليلية المنطقيّة التي يقوم بها الذّهن السّليم عند تعامله مع قضايا النّفس وتهذيبها.
إنّ أي مهتمّ بتهذيب نفسه وتزكيتها لا بدّ له أن يتعرّف على أمراضها أوّلًا ليتخلّص منها، ومن ثمّ أحوالها الكاملة وفضائلها ليتحلّى بها ثانيًا، ولهذا، قمنا بوضع هذه الأبحاث الأخلاقيّة في قسمين. الأوّل ما ذكره الإمام في جميع كتاباته وكلماته حول أمراض القلب ورذائل الأخلاق وحالاتها السّلبيّة وجاء تحت عنوان "مساويء الخلق". وثانياً كلماته حول الفضائل الاخلاقية والكمالات النفسية وجاء تحت عنوان "محاسن الخلق". وبالرّغم من الغنى الملحوظ في هذا المجال، تبقى بعض الرّذائل والأمراض ممّا لم يتعرّض له الإمامقدس سره، أو اكتفى بالإشارة إليه في طيّات الأبحاث الأخرى.
ولا شكّ بأنّ السّير العلميّ في كلّ مرض يقتضي التعرّف إليه جيّدًا وقبل أيّ شيء، والسّعي لتحديده بصورة علميّة دقيقة ليعين الذّهن على التّعامل معه علميًّا وتحقيقًا، فتّتسع الفائدة وتعظم.
وإنّ من أهم طرق التعرّف إلى الأمراض معرفة عوارضها ممّا يظهر في النّفس وسلوكيّاتها وأحوالها، فيتمكّن المهتمّ بتهذيب نفسه من اكتشافها. وخصوصًا إنّ من طبيعة الأزمات الأخلاقيّة أن تخفي نفسها وتتستّر تحت أوهام الأنانيّة وحبّ النّفس.
وهذا ما يقودنا إلى دراسة آثار كلّ مرض ونتائجه على مستوى الفرد أو المجتمع، في الحياة والعمل دنيا وآخرة، ليكون أبلغ في التّوجّه إلى ضرورة القضاء عليه والتخلّص منه أو معالجته.
فيبدأ الحديث عن العلاج بذكر الأسباب والعوامل التي أدّت إلى تشكّل هذه الرّذيلة أو تلك، لأنّ أصل العلاج في الرّجوع إلى السّبب والمنشأ وسدّ بابه أو القضاء عليه. وفي كلّ علاج نجد أهميّة المعرفة والاعتقاد وندرك أنّ البداية ينبغي أن تكون في العلم النّافع، لأنّ الانتقال إلى العمل لا يمكن أن يتحقّق دون ركيزة علميّة متينة.
18
2
المقدمة
وقد اعتمدنا نفس السّير التّحليليّ في الفضائل مع فارق يرتبط بالتّعامل معها مقارنةً بالرّذائل.
ويمّيز هذا الكتاب العديد من الخصائص، منها:
- سعينا في هذا الكتاب إلى تحقيق الغرض الأساسيّ من تدوين الكتب الأخلاقيّة، وهو أن تكون فرصة مهمّة للتّأثير في النّفوس لا مجرّد وصفة طبّيّة دقيقة. ولهذا، كان علينا أن نحافظ على النّصّ الأصليّ للإمام الخميني قدس سره، دون أي تدخّل.
- توثيق نصوص الإمام بعد مزجها في موضوع كل درس، ليتسنى للأستاذ والباحث المراجعة في المصدر عند الحاجة.
- وقد قمنا باستقصاء كل ما ذكره الإمام أو كتبه فيما يرتبط بكلّ رذيلة أو فضيلة، لكنّنا لم نتمكّن من إدراجها كلّها وإلّا لاحتاج الأمر إلى كتاب أكبر حجمًا بعدّة مرّات ما يؤثّر سلباً على تدريسه واعتماده في المناهج التّعليميّة.
- قمنا بانتقاء أهمّ ما يرتبط بالمسألة المطروحة تاركين الفرصة لكلّ من يرغب في السّباحة في بحر معارف الإمام وتعاليمه.
- أدرجنا نهاية كل درس المفاهيم الرئيسة لما طرحه الإمام في الموضوع المطروح، وهي عبارة عن خلاصة وزبدة أفكار الإمام.
- أدرجنا نهاية كل درس مجموعة من الآيات الشريفة، والأحاديث في نفس موضوع الدرس، لإغناء المادة إضافة إلى ما ذكره الإمام قدس سره من آيات وروايات.
إنّ مركز نون، وإذ يقدّم لأساتذتنا الكرام وطلّابنا الأعزّاء مثل هذا المتن التّعليميّ على أمل أن يساهم بقوّة في تفعيل تناول الموضوعات الأخلاقيّة، يرحّب بكلّ ملاحظة أو انتقاد يتقدّم بهذا العمل نحو المزيد من الدّقّة العلميّة والرّوح التّعليميّة.
والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
19
3
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الإيمان وعلاقته بباقي الكمالات.
2- يبيّن الفرق بين الإيمان والعلم ويميّز بينهما.
3- يشرح أهميّة معرفة درجات الإيمان في توجيه سير وسلوك الإنسان.
21
4
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
تمهيد
ليس الإيمان أحد الكمالات، بل هو أصل ومنبع جميع الكمالات. وذلك لأنّ كل كمال إنّما ينبع بحسب الرؤية التّوحيديّة من مصدرٍ واحدٍ وهو الله تعالى. ولا يمكن أن يتّصف مخلوق بأيّة صفة وجوديّة إلّا بالله عزّ وجلّ. وحيث أنّ الإيمان عبارة عن التّوجّه إلى الله والارتباط الواعي به والاتّصال بساحة قدسه، فإنّ المؤمن يكون كمن توجّه إلى نبع الماء واتّصل به. وبمقدار ما يكون الإيمان حاضرًا في حياة الإنسان وفاعلًا، فإنّ الارتواء سوف يزداد ويزداد معه مستوى الكمال.
كلّ هذا، كما سيتبيّن لنا، ينعكس على حياة الإنسان وعلى شخصيّته ومصيره وسيره وسلوكه بحيث يجعله شخصًا مختلفًا تمامًا عن الذي لا يحمل في قلبه مثل هذا الإيمان. بل إنّنا نجد التّمايز الكبير بين المؤمنين بحسب درجات الإيمان في قلوبهم.
فما هو سرّ هذا الأمر؟ وكيف نفهم الإيمان وسط كل هذا الضّجيج الذي يُثار حوله؟ وكيف نميّز الإيمان الحقيقي عن الإيمان المزّيف أو التّقليديّ؟
ما هو الإيمان؟
يقول الإمام قدس سره: "معلوم أنّ الإِيمان نورٌ إلهيّ يجعل القلب موضع تجليات الحقّ جلّ جلاله، كما جاء في الأحاديث القدسيّة: "لا يَسَعُنِي أَرْضي ولا سَمائي بل يَسَعُني قَلْبُ عبدِي الْمؤمِنِ"1.
1 روح الله الموسويّ الخمينيّ، الأربعون حديثًا، ترجمة محمد الغروي، دار التّعارف للمطبوعات، الطبعة الخامسة،1996م، ص 134.
23
5
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
لا يخلو إنسان من إيمان بشيءٍ ما، فعندما تترسّخ فكرة أو قضيّة ما في نفس الإنسان ويتولّد من هذه الحالة نوع من الالتزام العمليّ فإنّ هذا يُسمّى إيمانًا. ولهذا، نجد من يؤمن بقضيّة أو وطن أو مشروع أو أطروحة يعمل لها بتفانٍ وجدّ. إلّا أنّ الإيمان المطروح هنا، والذي ذُكر في معظم الآيات والأحاديث الشّريفة هو الإيمان بالله تعالى.
ولأنّ الله عزّ وجلّ يختلف تصوّره بين النّاس تبعًا للتّعليم والبيئة والتّلقين والتّجربة الشّخصيّة، يختلف الإيمان به بحسب اختلاف التصوّر. بل إنّ بعض المنكرين لله تعالى والذين يصرّحون بهذا الإنكار قد يكون إنكارهم لهذا الإله الذي يتصوّره البعض.
يهتمّ الإمام الخمينيّ قدس سره كثيرًا بتعريف الإيمان لأجل تمييزه عن بعض الحالات النّفسيّة التي يسمّيها النّاس إيمانًا لكي لا ينخدع الباحث عن الحقيقة، فيُحرم من التوّجّه إلى المعنى الواقعيّ ويحرم نفسه بالتّالي من تحصيل أعظم الكمالات.
فالذين يتصوّرون الله كإله يتصرّف في العالم كمستبد غير محيط بالأشياء لا يمكن أن يذوقوا حلاوة الإيمان ولا يمكن لعلاقتهم بربّهم أن تتكامل وتأخذ بأيديهم إلى الكمالات.
والذين لا يعرفون علاقة الإيمان بالإدراك والمعرفة، ربّما يخيّل إليهم أنّ الإيمان قد يسمو ويزداد بعيدًا عن العلم. وعندئذٍ، فإنّ طريقهم سينسدّ ولن يصلوا إلى نتيجة.
أمّا الذين حصروا الإيمان بالعلم والعقل، ولم يعرفوا معنى حضور الله في القلب، فقد سلكوا طريقًا لزيادة الإيمان من خلال العلم فقط، فأدّى ذلك إلى وصولهم إلى ما يعارض الإيمان!
ولنستمع إلى مجموعة من كلمات الإمام حول ماهيّة الإيمان وحقيقته.
الإيمان غير الإسلام
يقول الإمام قدس سره: "القلب وهو مقرّ نور الإيمان"1. وعَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ أَهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَقَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ يُشَارِكُ الْإِسْلَامَ وَالْإِسْلَامَ لَا يُشَارِكُ الْإِيمَانَ. فَقُلْتُ فَصِفْهُمَا لِي. فَقَالَ: الْإِسْلَامُ
1 روح الله الموسويّ الخمينيّ، جنود العقل والجهل، دار المحجة البيضاء، الطّبعة الأولى، 2003 م، ترجمة مؤسّسة أم القرى، ص 191.
24
6
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَالتَّصْدِيقُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِهِ حُقِنَتِ الدِّمَاءُ وَعَلَيْهِ جَرَتِ الْمَنَاكِحُ وَالْمَوَارِيثُ وَعَلَى ظَاهِرِهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ وَالْإِيمَانُ الْهُدَى وَمَا يَثْبُتُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ صِفَةِ الْإِسْلَامِ وَمَا ظَهَرَ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ وَالْإِيمَانُ أَرْفَعُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِدَرَجَةٍ إِنَّ الْإِيمَانَ يُشَارِكُ الْإِسْلَامَ فِي الظَّاهِرِ وَالْإِسْلَامَ لَا يُشَارِكُ الْإِيمَانَ فِي الْبَاطِنِ وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي الْقَوْلِ وَالصِّفَةِ"1. يتّضح من هذا الحديث الشّريف أنّ الإسلام هو الشّهادة بالتوحيد، والتّصديق بالرّسالة الإسلاميّة، في حين أنّ الإيمان هو تجلّي نور الهداية في القلب. أي إذا استقرّت صفة الإسلام في القلب فهو الإيمان الذي يلازمه العمل. فالكثير من الأحاديث الشّريفة تصرّح بأنّ العمل بالأركان من الإيمان، وهذا ليس لأنّ للعمل بالأركان مدخليّة في حقيقة الإيمان، بل المقصود هو أنّ لازمة الإيمان العمل بالأركان"2.
الإيمان مغاير للعلم
"الإيمان غير العلم والفهم، إذ هما حظّ العقل وهو حظّ القلب، ولا يمكن وصف الإنسان بأنّه مؤمن بمجرّد حصوله على العلم بالله وملائكته وأنبيائه ويوم القيامة، فقد وصف الله تبارك وتعالى إبليس بأنّه كافرٌ رغم أنّه كان على إحاطة علميّة وإدراكيّة بهذه الأمور. وربّما كان الفيلسوف عالمًا بالبراهين الفلسفيّة قادرًا على إقامتها فيما يرتبط بإثبات التّوحيد وشعبه ومراتبه، ورغم ذلك فهو نفسه غير مؤمن بالله لأنّ علمه لم ينتقل من مرتبة العقل والكليّة والتّعقّل إلى مرتبة القلب والجزئيّة والوجدان. ولتقريب هذه الحقيقة، أضرب المثال التالي: نحن جميعًا نعرف بالبرهان والإدراك العقليّ أنّ الأموات عاجزون عن إلحاق الأذى بالإنسان، وأنّ جميع أموات العالم عاجزون عن التحرّك قيد أنملة. كما أنّنا جميعًا نعلم أنّ الحياة لا ترجع إليهم في ظلمة الليل، رغم ذلك نخاف من الموتى في ظلمة الليل فتغلب أوهامنا عقولنا، والسرّ في ذلك أنّ القلب لم يؤمن بهذه الحقيقة العقليّة، وأنّ الإدراك العقليّ لم يدخل إلى القلب، والذي يوصله إلى القلب هو تكرار البقاء عند الموتى في الليل وكثرة زيارة المقابر في الليالي المظلمة، عندها يزول الخوف من الأموات، بل ومن يفعل ذلك
1 الكافي، ج2، ص 25.
2 جنود العقل والجهل، ص 100.
25
7
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
يتّخذ منزلًا في مقابر الموتى ويأنس بواديهم المظلم. فهو يشارك الأوّل ـ الذي لم يوصل العلم إلى القلب ـ في العلم بعجز الموتى عن إلحاق الأذى بأحد، ولكنّه يختلف عنه في الإيمان القلبيّ به، ولذلك لم يؤثّر العلم على الأوّل في حين أنّ إيمان الثّاني أخرجه من أسر الخوف الخياليّ الوهميّ.
يتّضح إذًا، أنّ الإيمان غير العلم، وهذا ما يصدّقه أيضًا المعنى اللغويّ، لأنّ الإيمان في اللغة جاء بمعنى الوثوق والتّصديق والاطمئنان والانقياد والخضوع وقد تُرجم إلى الفارسيّة بمعنى "كرويدن" (الانقياد) وهذا كما هو واضح غير العلم والفهم والإدراك"1. وذكر قدس سره أن الإيمان ليس هو مجرّد العلم فقال قدس سره: و"إنّ الإيمان من الأعمال القلبية، وليس هو مجرد علم"2. أما المؤمن الحقيقي عند الإمام قدس سره فيقول عنه: "إنّ المؤمن هو الذي أدرك بقلبه حضور الحقّ تعالى، والإحاطة القيّوميّة لذاته المقدّسة بكلّ شيء، وأحسّ وجدانيًّا بعظمته وجلاله جلّت عظمته"3.
التّسليم صفة الإيمان
للإيمان آثار كثيرة، سيأتي الحديث عنها، لكن الصّفة الأساسيّة التي تلازمه وتمتزج معه هي صفة التّسليم، لأنّ الحقيقة إذا رسخت في القلب حملته طوعًا على التّسليم لكلّ ما ينسجم معها.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ التّسليم من الخصال الحميدة للمؤمنين، يتوسّلون به لطيّ المنازل المعنويّة والحصول على المعارف الإلهيّة. فالذي يتجلّى بالتّسليم للحقّ تعالى ولأوليائه، ولا يناقش لهم أمرًا، يطوي سيره الملكوتيّ بأقدامهم، ولذلك فهو يصل بسرعة إلى مقصده. من هنا قال بعض العرفاء: إنّ المؤمنين أقرب للمقصد والمقصود من الحكماء، لأنهم يضعون ويحرّكون أقدامهم تبعًا لخطى الأنبياء، في حين أنّ الحكماء يسعون للسّير على وفق فكرهم وعقولهم"4.
1 جنود العقل والجهل، ص 93.
2 الأربعون حديثًا، ص 57.
3 جنود العقل والجهل، ص 97.
4 م.ن، ص 358.
26
8
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
و"إنّ ذلك الإنسان الذي تظهر في قلبه تجلّيات نور الإيمان والمعرفة، ويطوّق رقبته الحبل المتين والعروة الوثقى للإِيمان، ويكون رهن الحقيقة والمعرفة، هو ذلك الإنسان الذي يلتزم بالقواعد الدّينيّة وتكون ذمّته مرهونة لدى القوانين العقليّة، ويتحرّك بأمرٍ من العقل والشّرع، دون أن يهزّ موقفه أيّ من عاداته وأخلاقه وما يأنس به من مألوفاته. فلا تحيد به عن الطريق المستقيم"1.
"إن الإِنسان الذي يدعي الإِسلام والإيمان هو ذلك الذي يستسلم للحقائق ويخضع لها ويرى أهدافه، مهما عظمت، فانية في أهداف وليّ نعمته، ويضحّي بنفسه وبإرادته في سبيل إرادة مولاه الحقيقيّ. ومن الواضح أنّ مثل هذا الشّخص لا يعرف العصبيّة الجاهلية، وإنّه بريءٌ منها"2.
الإيمان درجات
يقول الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾3.
اشتُهر بين النّاس أنّ الإيمان درجات، لكنّ أكثر النّاس لا يعلمون عن درجاته شيئًا، ويتصوّرون أنّ كثرة العبادة هي شدّة الإيمان. ولا شكّ أنّ الإكثار من العبادة هو من تجلّيات زيادة الإيمان، لكنّه قد يوجد في نفوس المنافقين والكفّار. وإبليس هو أبلغ مثال على الكافر الذي يكثر العبادة. فقد عُرف بين الملائكة بكثرة عبادته والله تعالى وصفه بأنّه كان من الكافرين. ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾4. وينبغي أن نعلم أنّ درجات الإيمان إنّما هي لأجل أن يعرف السّالك كيفيّة توجيه مسيرته الإيمانيّة، حيث سيتبيّن لنا أنّ التوّقف عند أيّة درجة من درجات الإيمان أو الكمال هي بمنزلة الوقوع في فخّ إبليس، وهي من أمّ أسباب الهلكة بعينها. ومن أهم درجات كمال الإيمان الحقيقي:
1 الأربعون حديثًا، ص 175.
2 م.ن، ص 175.
3 سورة المجادلة، الآية 11.
4 سورة البقرة، الآية 34.
27
9
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
1- الطّمأنينة
وفي الفصل الذي عقده الإمام للحديث عن مقامات السّالكين، وبعد ذكر الدّرجة الأولى وهي العلم، يذكر الإمام أنّ الإيمان ينتهي إلى الطّمأنينة. قال قدس سره: "مقام الاطمئنان وطمأنينة النّفس، وهو في الحقيقة المرتبة الكاملة من الإيمان. قال تعالى مخاطبًا خليله ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ ولعلّنا نشير إلى تلك المرتبة أيضاً فيما بعد"1.
ويقول قدس سره أيضاً: "كمال الإيمان هو الاطمئنان. فإذا قوي نور الإيمان تبعه حصول الاطمئنان في القلب، وجميع هذه الأمور هي غير العلم. فمن الممكن أن يدرك العقل بالدليل شيئا لكن القلب لم يسلم بعد، فيكون العلم بلا فائدة. مثلاً أنتم أدركتم بعقولكم أن الميت لا يستطيع أن يضرّ أحداً، وأن جميع الأموات في العالم ليس لهم حس ولا حركة بقدر ذبابة، وأن جميع القوى الجسمانية والنفسانية قد فارقته ولكن حيث أن القلب لم يتقبل هذا الأمر ولم يسلم أمره للعقل، فإنكم لا تقدرون على مبيت ليلة مظلمة واحدة مع ميت!!
وأما إذا سلّم القلب أمره للعقل، وتقبل هذا الحكم منه، فلن يكون في هذا العمل ـ أي المبيت مع الميت ـ أي إِشكال بالنسبة إليكم، كما أنه وبعد عدة مرات من الإقدام، يصبح القلب مسلّماً، فلن يبقى عنده بعدها بأس أو خوف من الميت"2.
2- الشهود
وتكون الطّمأنينة هي الدّرجة العليا من الإيمان التي تؤسّس لمقام الشّهود وهو أعلى ما يمكن أن يصل إليه السّالك على مستوى معرفة ربّه سبحانه. ومثل هذا المقام الأسنى لا ينتهي إلى مقام، بل هو سير في عالم الإطلاق إلى ما لا يتناهى، فـ "مقام المشاهدة. وهو نور إلهيّ وتجلٍّ رحمانيّ يظهر في سرّ السّالك تبعًا للتجلّيات الأسمائيّة والصّفاتيّة، وينوّر جميع قلبه بنورٍ شهوديّ ولهذا المقام درجات كثيرة لا تتّسع هذه الأوراق لذكرها. وفي هذا المقام يبرز أُنموذج من قرب النّوافل المعبّر عنه بـ "كنت سمعه وبصره". ويرى السّالك نفسه مستغرقًا في البحر اللامتناهي ومن ورائه بحرٌ عميق في غاية العمق تنكشف له فيه نبذة من أسرار القدر"3.
1 معراج السالكين، ص 26.
2 الأربعون حديثًا، ص 58-59.
3 معراج السالكين، ص 26-27.
28
10
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
و"أصحاب القلوب وأهل الله ينتقلون من حدّ الإيمان إلى منزل الكشف والشهود. وهو يحصل بالمجاهدة الشّديدة والخلوة مع الله والعشق بالله"1.
الحذر من الرضا بالمراتب الدنيا
يقول الإمام الخمينيقدس سره محذرا من الرضا والاكتفاء بالمراتب الدنيا للإيمان وعدم النظر والسعي نحو المراتب الأعلى والأكمل: "وبالجملة، التخلّص بهذه المرتبة الكاملة، وإن كان لا يتحقّق لغير الكمّل من الأولياء والأصفياء عليهم السلام بل المقام الكامل لهذه المرتبة من مختصّات النّبيّ الخاتم والقلب الخالص النّورانيّ الأحديّ الأحمديّ الجمعيّ المحمّديّ صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة وللكمّل والخلّص من أهل بيته بالتبعيّة. ولكن لا يجوز للمؤمنين والمخلصين أيضًا أن يغضّوا النّظر عن جميع مراتبه ويقنعوا بالإخلاص الصّوريّ العمليّ والخلوص الظّاهريّ الفقهيّ، لأنّ الوقوف في المنازل من الأعمال العبقريّة لإبليس، الذي قعد على صراط الإنسان والإنسانيّة، لمنعه بأيّة وسيلة ممكنة من العروج إلى الكمالات والوصول إلى المدارج. فلا بدّ من علوّ الهمّة وتقوية الإرادة، فلعلّ هذا النّور الإلهيّ واللطيفة الربّانيّة تسري من الصّورة إلى الباطن ومن الملك إلى الملكوت"2.
موعظة
"نحن جميعاً نعلم أنّ لا أحد يستطيع التصرّف بشيء في مملكة الحقّ تعالى من غير الإذن القيّوميّ والإشارة الإشراقيّة لذاته المقدّسة جلّ وعلا، ولا يمكن أن تغلب إرادة أيّ مخلوق إرادته القويمة عز وجلّ ولكنّا مع ذلك نطلب الحاجات من أهل الدّنيا وأصحاب الثّروة ونغفل عنه تعالى!
وتوكّلنا على الطّبيعة وأوضاعها وأمورها يزيد بمآت الأمثال على توكّلنا عليه تبارك وتعالى، والسرّ في ذلك هو، ولا غيره، أنّ حقيقة التّوحيد الأفعاليّ لم تدخل قلوبنا.
1 (م.ن)، ص 106.
2 (م.ن)، ص 632-633.
29
11
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
الحكيم الفلسفي يقول: "لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله" لكنّه يطلب حاجته من غيره تعالى! والمتعبّد المتنسّك يجعل ورده ذكر "لا حول لولا قوّة إلاّ بالله" و "لا إله إلا الله"، ورغم ذلك فإنّه يمدّ عينه إلى أيدي الآخرين، ولا علّة لذلك سوى أنّ برهان ذاك لم يخرج من دائرة العقل والإدراك العقليّ ولم يدخل القلب، وذكر هذا لم يتجاوز لقلقة اللسان ولم يتذوّقه القلب.
نحن جميعاً نلهج بالحديث عن التّوحيد ونخاطب الله تعالى بأنه "مقلّب القلوب والأبصار" وأنّ "الخير كلّه بيده" وأنّ "الشرّ ليس إليه" ولكّننا رغم ذلك نواصل السّعي لاستقطاب قلوب عباد الله ونتمنّى دائمًا الحصول على الخيرات من أيدي غيرنا وشرّ كلّ ذلك ليس سوى أنّنا نتعامل بهذه الحقائق العقليّة التي لم تدخل القلب، أو نردّدها لقلقة باللسان دون أن نوصلها إلى مرتبة الذّكر الحقيقيّ.
نحن جميعًا نعلم أنّ القرآن الشّريف، تنزّل من معدن الوحي الإلهيّ بهدف تكميل الإنسان وتخليصه من سجن الطّبيعة والدّنيا المظلم، وأنّ وعده ووعيده هما جميعًا حقٌّ صريح وحقيقة ثابتة، وليس فيه أيّة شائبة من الباطن وما يخالف الواقع، ولكن رغم ذلك، فإنّ تأثير هذا الكتاب الإلهيّ العظيم في قلوبنا القاسية لا يبلغ تأثير كتاب قصّة فيها فلا تتعلّق قلوبنا شوقًا بمواعيده الصّادقة لنخرج بذلك من التعلّق بهذه الدّنيا الدنيّة والنّشأة الفانية، ونتطلّع إلى تلك الدّار الخالدة، ولا يصل فيها خوف وخشية من الوعيد والإنذار القرآني، فنرتدع عن الذنوب، ونتورّع عن معصية وليّ نعمتنا. ولا علّة لكلّ ذلك سوى أنّ حقيقة وحقّانيّة القرآن لم تدخل قلوبنا، ولم تنعقد عليها أفئدتنا. والإدراك العقليّ المجرّد قليل التأثير جدًّا.
وقس على ذلك حال جميع نقائصنا وأشكال طغياننا وذنوبنا وحرماننا من جميع المعارف والأسرار، واعرف أنّ علّتها الأساسية تكمن في هذه الحقيقة"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 94-96.
30
12
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
المفاهيم الرئيسة
1- الإيمان أصل ومنبع جميع الكمالات، وذلك لأنّ كل كمال إنّما ينبع بحسب الرؤية التّوحيديّة من مصدرٍ واحدٍ وهو الله تعالى.
2- الإيمان عبارة عن التّوجّه إلى الله والارتباط الواعي به والاتّصال بساحة قدسه، وهو نورٌ إلهيّ يجعل القلب موضع تجليّات الحقّ جلّ جلاله، لذلك فبمقدار ما يكون الإيمان حاضرًا في حياة الإنسان وفاعلًا يزداد كمالًا.
3- يختلف تصوّر الله عزّ وجلّ بين النّاس تبعًا للتّعليم والبيئة والتّلقين والتّجربة الشّخصيّة، لذا يختلف الإيمان به بحسب اختلاف التصوّر.
4- إنّ الإيمان يتحقّق عندما يستقرّ العلم الثّابت بالبرهان العقليّ في القلب. فبالإضافة إلى العلم هو شعورٌ قلبيّ وإحساس وجدانيّ. فمن حصر الإيمان بالشّعور لم يهتدِ إليه سبيلا. ومن قصره على العلم، سلك طريق الضّياع. فالإيمان تجربة تتفاعل فيها المعرفة مع العمل ويظهر في الصّفات والأخلاق.
5- للإيمان آثار كثيرة، لكن الصّفة الأساسيّة التي تلازمه وتمتزج معه هي صفة التّسليم، لأنّ الحقيقة إذا رسخت في القلب حملته طوعًا على التّسليم لكلّ ما ينسجم معها.
6- إنّ للإيمان درجات وإنّ التوقّف عند أيّة درجة من درجات الإيمان أو الكمال هي بمنزلة الوقوع في فخّ إبليس، وهي من أهمّ أسباب الهلكة.
7- الطّمأنينة هي الدّرجة العليا من الإيمان التي تؤسّس لمقام الشّهود وهو أعلى ما يمكن أن يصل إليه السّالك على مستوى معرفة ربّه سبحانه. وهو سير في عالم الإطلاق إلى ما لا يتناهى.
31
13
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالإِيمَانِ بِكَ، وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِكَ، وَالأَئِمَّةِ الَّذِينَ حَتَمْتَ طَاعَتَهُمْ مِمَّنْ يَجْرِي ذَلِكَ بِهِ وَعَلَى يَدَيْهِ، آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾2.
2- ﴿وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾3.
3- ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾4.
4- ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾5.
5- ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾6.
6- ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾7.
7- ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام يوم الأضحى ويوم الجمعة.
2 سورة البقرة، الآيات 3-5
3 سورة البقرة، الآية 41.
4 سورة البقرة، الآية 121.
5 سورة البقرة، الآية 136.
6 سورة الأنفال، الآية 74.
7 سورة الأنفال، الآية 2.
32
14
الدرس الأول: الإيمان (1) - حقيقة الإيمان ومراتبه
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾1.
8- ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- قُلْتُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "مَا الْإِيمَانُ؟ وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: أَمَّا الْإِيمَانُ فَالْإِقْرَارُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِسْلَامُ فَمَا أَقْرَرْتَ بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لِلْأَوْصِيَاءِ وَالطَّاعَةُ لَهُم"3.
2- عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَداً (غَيْرَكَ وَلَا) بَعْدَكَ فَقَالَ علِيٌّ عليه السلام:... تُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْقَدَرِ (كُلِّه) خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّه"4.
3- عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام: مَا الْإِيمَانُ فَجَمَعَ لِي الْجَوَابَ فِي كَلِمَتَيْنِ فَقَالَ: الْإِيمَانُ بِاللهِ أَنْ لَا تَعْصِيَ اللهَ"5.
4- مِنْ سُؤَالِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللهِ عَنْ مَسَائِلَ كَثِيرَ.. ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ قَالَ: "فَبَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ مَنْزِلَةٌ؟ قَالَ عليه السلام لَا قَالَ فَمَا الْإِيمَانُ وَمَا الْكُفْرُ؟ قَالَ عليه السلام الْإِيمَانُ أَنْ يُصَدِّقَ اللهَ فِيمَا غَابَ عَنْهُ مِنْ عَظَمَةِ الله ِكَتَصْدِيقِهِ بِمَا شَاهَدَ مِنْ ذَلِكَ وَ عَايَنَ"6.
5- قَالَ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ: "يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِمَّا سِوَاهُمَا"7.
1 سورة النور، الآية 62.
2 سورة الحجرات، الآية 15.
3 بحار الأنوار، ج65, ص 287.
4 (م.ن)، ص 288.
5 مستدرك الوسائل، ج16، ص 151.
6 بحار الأنوار، ج10، ص 183.
7 مجموعة ورام، ج1، ص 223.
33
15
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى أهميّة الإيمان وتأثيره على مصيرنا الدّنيويّ والأخرويّ.
2- يبيّن دور الإيمان في إصلاح أنفسنا والارتداع عن الذّنوب والمعاصي.
3- يفهم دور الإيمان في التخلّص من تصرّف الشّيطان.
35
16
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
تمهيد
تتّضح أهميّة الإيمان في المنظومة القيميّة الإسلاميّة عندما نقدر على معرفة مصدر جميع الكمالات والفضائل. وتتجلّى هذه الأهميّة بأعلى مراتبها عندما ندرك أنّ الإيمان هو السّبيل الوحيد للخلاص والنّجاة يوم القيامة. أمّا في الحياة الدّنيا، فإنّ كلّ التحرّكات الإيجابيّة التي يقوم بها النّاس لا يمكن أن تؤتي ثمارها الطيّبة إلّا إذا انطلقت من الإيمان.
ويقدّم لنا الإمام الخمينيّ قدس سره رؤية متميّزة ومتقدّمة حول موقعيّة الإيمان في الدّين وفي الحياة، تجعلنا في حالة من الإشباع والغنى إلى الدّرجة التي ندرك معها أنّه لا معنى للحياة سوى السّلوك في مراتب الإيمان. ولو قيل أنّ كل ما في الوجود، وكل ما يحدث في العالم، وكل ما يجري علينا ومن حولنا إنّما هو لأجل زراعة الإيمان وحراثته لما كان في الكلام أيّة مبالغة.
ها هي الحياة بكلّ ما فيها فرصة عظيمة لنتعرّف على ربّنا ونتوجّه إليه بقلوبنا حتّى نلقاه. وليس لنا سوى الإيمان زادًا يتجلّى في التّقوى والعمل الصّالح.
وتظهر أهميّة الإيمان من خلال معرفة موقعه ضمن دائرة التّعاليم الإسلاميّة والدّين، كما أنّ هذه الأهمّيّة تبرز عند التّأمّل في الآثار التي لا تُحصى للإيمان على صعيد النّفس والمجتمع دنيا وآخرة.
الإيمان هو الدّين
يقول الإمام الخميني قدس سره: "الإيمان بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله وبيوم القيامة، هو الدّين القيّم المحكم والمستقيم والحقّ على امتداد حياة المجموعة البشريّة"1.
فالإيمان ليس جزءًا من الدّين بل هو الدّين كلّه. وكل ما في الدّين فهو مرتبط بالإيمان بدايةً ونهايةً.
1 الأربعون حديثًا، ص 212.
37
17
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
الإيمان أصل جميع الكمالات
"من الواضح أيضًا أنّ الإيمان بالله من نوع العلم ومن الكمالات المطلقة، وحيث أنّه من الكمالات فهو أصل الوجود، وأصل حقيقة النّور والظّهور، وما لا يكون من الإيمان وتوابعه، فهو خارج عن نطاق الكمالات النّفسيّة الإنسانيّة، وملحق بظلمات الأعدام والماهيّات"1.
و"اعلم أنّ الإيمان أيضًا من الكمالات الرّوحيّة، التي قلّما يدرك أحد حقيقتها النّوريّة، حتى أنّ المؤمنين لم يعرفوا شيئًا عن نورانيّة إيمانهم، والكرامات التي تنتظرهم لدى ساحة قدسه المتعالي، ما داموا في عالم الدّنيا، وظلام الطّبيعة"2.
أساس كل صلاح
يقول الإمام قدس سره: "ولو أنّ الإيمان تغلغل في القلب، لصلُحت الأمور، لأنّ آثاره ـ الإيمان ـ تتسرّب إلى الظّاهر والباطن والسرّ والعلن"3.
ولهذا، فلا يوجد باعث على التّوبة والإنابة مثل الإيمان. فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "الإيْمانُ لا يَضُرُّ مَعَهُ عَمَلٌ وَكذلِكَ الْكُفْرُ لا يَنْفَعُ مَعَه عَمَل" وهناك روايات أخرى بهذا المضمون. وقد فسّر المحدّث الجليل المجلسي عليه الرّحمة، الضّرر المنفيّ: (ما يَصِير سَبَباً لِدُخول النّارِ أوِ الْخُلودِ فِيها). وإذا كان المقصود من الضّرر المنفيّ دخول النار، فلا منافاة بين عدم الدّخول في النّار حسب هذه الروايات، وتحقّق أنواع أخرى من العذاب في عالم البرزخ والمواقف المختلفة في يوم القيامة.
ويظنّ الكاتب4 بأنه يمكن تفسير هذه الأخبار، بأن الإيمان ينّور القلب قليلاً وفي درجة محدودة، لو اقترف الإنسان خطيئة أو ذنباً، عولج ببركة ذلك النور وملكة الإيمان الإثم وتلك الجريرة، بالتوبة والرجوع إلى الله. فإن صاحب الإيمان بالله واليوم الآخر، لا يسمح لنفسه أن يترك أعماله إلى يوم القيامة. فهذه الأخبار في الحقيقة تحفز الإنسان على التمسك بالإيمان، والمحافظة عليه"5.
1 الأربعون حديثًا، ص 558.
2 (م.ن)، ص 582.
3 (م.ن)، ص 340.
4 أي الإمام الخميني قدس سره.
5 الأربعون حديثًا، ص 604.
38
18
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
الغنى عن النّاس
"فما لم تكتب عبارة "لا إله إلا الله" بقلم العقل على لوح القلب الصافي لن يكون الإنسان مؤمنا بوحدانية الله. وعندما ترد هذه العبارة النّورانيّة الإلهيّة على القلب، تصبح سلطة القلب لذات الحقّ تعالى، فلا يعرف الإنسان بعدها شخصًا آخر مؤثّرًا في مملكة الحقّ، ولا يتوقّع من شخصٍ آخر جاهًا ولا جلالًا، ولا يبحث عن المنزلة والشّهرة عند الآخرين"1.
"إنّ مطلق الاعتماد على غير الحقّ سبحانه والالتفات إلى المخلوق يكون من جرّاء ضعف اليقين والإيمان"2.
النّجاة من الدّنيا
"إنّ خوف وكراهة المتوسّطين، للموت، أي الذين لا يؤمنون بعالم الآخرة، فلأنّ قلوبهم انشدّت إلى تعمير الدّنيا، وغفلت عن تعمير الآخرة، ولهذا لا يرغبون في الانتقال من مكانٍ فيه العمران والازدهار إلى مكانٍ فيه الدّمار والخراب... وهذا أيضًا ناتج من نقصٍ في الإيمان والاطمئنان. وأمّا إذا كان الإيمان كاملًا، فلا يسمح الإنسان لنفسه أن يشتغل بأموره الدّنيويّة المنحطّة ويغفل عن بناء الآخرة"3.
"إنّ الإنسان ما دام يشتغل بتعمير هذا العالم، ويكون قلبه متّجهاً نحو هذه النشأة، وما دام سكر الطّبيعة ـ عالم المادة ـ قد أعماه وأفقده وعيه، والشّهوة والغضب المخدّرتان قد خدّرتاه وسلبتا لُبّه، يكون محجوبًا نهائيًّا عن صور أعماله وأخلاقه، وتكون آثار أعماله وأخلاقه مهجورة في ملكوت قلبه. ولكن عندما تغشاه سكرات الموت وتواجهه صعابها وضغوطها، ويبتعد قليلًا عن هذه النّشأة، فإذا كان من أهل الإيمان واليقين، وكان قلبه متعلّقًا بهذه العوالم المادّيّة، اتّجه قلبه في نهاية المطاف من حياته إلى ذلك العالم، والسّائقون المعنويّون، وملائكة الله الموكّلون عليه، يسوقونه جميعًا إلى ذلك العالم، وبعد هذا السّوق وذاك الانصراف ينكشف له نموذج من عالم البرزخ، وتنفتح عليه من عالم
1 الأربعون حديثًا، ص 58-59.
2 (م.ن)، ص 361.
3 (م.ن)، ص 390.
39
19
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
الغيب كُوّةٌ ويتكشّف له حاله ومقامه قليلًا، كما نُقل عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنَّهُ قَالَ: "حَرَامٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ أن تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيا حَتّى تَعْلَمَ أنَّهَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ"... فإن كان من أهل الإيمان والسّعادة، يستعدّ قلبه عند معاينة البرزخ لمشاهدة النّفحات اللطيفة اللُطفيّة والجمال، وتظهر فيه آثار تجلّيات اللطف والجمال، فيأخذ القلب في الحبّ للقاء الله، وتشتعل في قلبه جذوة الاشتياق إلى جمال المحبوب، إن كان من أهل الحسنى وحبّ الله والجاذبة الرّبوبيّة، ولا يعرف أحد إلاّ الله، مقدار اللّذات والكرامات الموجودة في هذا التجلّي والاشتياق! وإن كان من أهل الإيمان والعمل الصالح، أغدقت عليه من كرامات الحقّ المتعالي بقدر إيمانه وأعماله، ويراها لدى الاحتضار، فيتوق إلى الموت ولقاء كرامات الحقّ، ويرتحل من هذا العالم مع البهجة والسّرور والرّوح والرّيحان، ولا تطيق الأعين المُلكيّة والذائقة المادّيّة، رؤية هذه الكرامات ومشاهدة هذه البهجة والفرح"1.
الخلاص من تصرّف الشّيطان
"الايمان حظّ القلب الذي يحصل من شدّة التّذكّر والتّفكّر والأنس والخلوة مع الحقّ. فإنّ الشّيطان مع أنّ له العلم بالمبدأ والمعاد بنصّ القرآن محسوب في زُمرة الكفّار، فلو كان الإيمان عبارة عن هذا العلم البرهانيّ يلزم أن يكون الواجدون لهذا العلم بعيدين عن تصرّف الشّيطان ويتلألأ فيهم نور هداية القرآن، مع أنّنا نرى أنّ هذه الآثار لا تحصل بالإيمان البرهانيّ. فإن أردنا أن نخرج من تصرّف الشّيطان ونقع تحت عوذة الحقّ لابدّ وأن نوصل الحقائق ّ إلى القلب بالارتياض القلبيّ الشّديد ودوام التّوجّه أو كثرته وشدّة المراودة والخلوة حتّى يصبح القلب إلهيًّا. فإذا صار القلب إلهيًّا يخلو من تصرّف الشّيطان كما قال الله تعالى: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾2"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 490 - 492.
2 سورة البقرة، الآية 257.
3 معراج السالكين، ص 235.
40
20
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
الخلاص الأبدي
"معلومٌ أنّ من يؤمن بالله ويُصدِّق بيوم الجزاء ويعتقد بيوم القيامة، لا يقترف موبقة كبيرة، تفضحه في عوالم الغيب والشّهادة وفي عالم الدنيا والبرزخ والآخرة، وتقوده إلى شرّ المصائب، التي هي نار جهنم، وتخرجه عن ولاية الحق المتعالي وتدخله تحت ولاية الشيطان"1.
وفي المقابل، فإنّ كلّ الشّقاءات والمصائب والنّقائص إنّما ترجع إلى عدم الإيمان أو نقصانه أو ضعفه أو تزلزله.
يقول الإمام قدس سره: "إنّ كلّ شقائنا هذا من وراء النّقص في الإيمان بيوم القيامة ومن عدم الاطمئنان بعالم الآخرة. فلو أنّنا آمنا بعالم الآخرة والحياة الأبديّة، عُشْر اطمئناننا بالحياة الدّنيويّة وعيشها، وعُشر إيماننا بحياة هذا العالم وبقائه، لتعلّقت قلوبنا بذلك العالم أكثر ولعشقناه، ولسعينا قليلًا في إصلاح الطّريق وترميمه. ولكن المؤسف أنّ إيماننا بالآخرة قد نضب في القلب، وأنّ يقيننا متزلزل"2.
و"إنّ مصدر جميع الخطايا والمعاصي التي تصدر من الإنسان، هو النّقص في اليقين والإيمان، وإنّ مراتب اليقين والإيمان مختلفة على مستوىً لا يمكن عدّها وبيانها. وإنّ اليقين الكامل للأنبياء والاطمئنان التام الذي يحظون به، الحاصلان من المشاهدة الحضورية هو الذي يعصمهم من الآثام. إن يقين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد أبلغه إلى مستوى يقول "وَالله لَوْ أُعْطِيتُ الأقالِيمَ السَّبْعَةِ بِما تَحْتَ أفْلاكِها عَلى أنْ أَعْصَى الله في نَمْلَةٍ أسْلُبُها جَلْبُ شَعِيرةٍ ما فَعَلتُه"3.
فــ "لا بدّ من إصلاح الينبوع، والعثور على الإيمان بالله، وبكلمات أنبيائه حتّى يتم إصلاح الأمور. إنّ كل تعاستنا من ضعف الإيمان ووهن اليقين"4.
1 الأربعون حديثًا، ص 340.
2 (م.ن)، ص 390.
3 (م.ن)، ص 581.
4 (م.ن)، ص 462.
41
21
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
المفاهيم الرئيسة
1- سيّئات المؤمنين أفضل من حسنات الآخرين التي لا تُقبل أبدًا، لأنّ خطايا المؤمنين وذوي الدّين الحقّ، تؤول إلى المغفرة كما قال سبحانه وتعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾.
2- إنّ كلّ الشّقاءات والمصائب والنّقائص إنّما ترجع إلى عدم الإيمان أو نقصانه أو ضعفه أو تزلزله.
3- الإيمان ليس جزءًا من الدّين بل هو الدّين كلّه. وكل ما في الدّين فهو مرتبط بالإيمان بدايةً ونهايةً.
4- الإيمان بالله من نوع العلم ومن الكمالات المطلقة، وحيث أنّه من الكمالات فهو أصل الوجود، وأصل حقيقة النّور والظّهور، وما لا يكون من الإيمان وتوابعه، فهو خارج عن نطاق الكمالات النّفسيّة الإنسانيّة، وملحق بظلمات الأعدام والماهيّات.
5- لو أنّ الإيمان تغلغل في القلب، لصلُحت الأمور، لأنّ آثاره ـ الإيمان ـ تتسرّب إلى الظّاهر والباطن والسرّ والعلن. فللإيمان ظهور في القلب على صعيد العقائد والمعارف والمشاعر، وفي النّشأة البرزخيّة على مستوى الأخلاق والملكات، وفي النّشأة الملكيّة الظّاهرة على صعيد الأعمال.
6- إنّ مطلق الاعتماد على غير الحقّ سبحانه والالتفات إلى المخلوق يكون من جرّاء ضعف اليقين والإيمان.
7- اإذا كان الإيمان كاملًا، لا يسمح الإنسان لنفسه أن يشتغل بأموره الدّنيويّة المنحطّة ويغفل عن بناء الآخرة.
8- إذا أردنا أن نخرج من تصرّف الشّيطان ونقع تحت عوذة الحقّ لابدّ وأن نوصل الحقائق ّ إلى القلب بالارتياض القلبيّ الشّديد ودوام التّوجّه أو كثرته وشدّة المراودة والخلوة حتّى يصبح القلب إلهيًّا.
42
22
الدرس الثاني: الإيمان (2) - أهمّيّة الإيمان ودوره
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ وَأَنْتَ جَعَلْتَ مِنْ صَفَايَا تِلْكَ الْوَظَائِفِ، وَخَصَائِصِ تِلْكَ الْفُرُوضِ شَهْرَ رَمَضَانَ الَّذِي اخْتَصَصْتَهُ مِنْ سَائِرِ الشُّهُورِ، وَتَخَيَّرْتَهُ مِنْ جَمِيعِ الأَزْمِنَةِ وَ الدُّهُورِ، وَآثَرْتَهُ عَلَى كُلِّ أَوْقَاتِ السَّنَةِ بِمَا أَنْزَلْتَ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالنُّورِ، وضَاعَفْتَ فِيهِ مِنَ الإِيمَانِ، وَفَرَضْتَ فِيهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَرَغَّبْتَ فِيهِ مِنَ الْقِيَامِ"1.
الروايات الشريفة:
1- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ كُلُّهُ فِي قَرَنٍ وَاحِدٍ فَإِذَا سُلِبَ أَحَدُهُمَا اتَّبَعَهُ الْآخَرُ"2.
2- عن الرّضا عليه السلام: "إِيَّاكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ فَإِنَّهُ مِنَ الْإِيمَان"3.
3- فِقْهُ الرِّضَا عليه السلام: "إياكم والبُخْلَ فَإِنَّهَا عَاهَةٌ لَا تَكُونُ فِي حُرٍّ وَلَا مُؤْمِنٍ إِنَّهَا حَلَّاقَةُ الْإِيمَانِ"4.
4- عن أبي عبد الله عليه السلام: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَزْهَرُ نُورُهُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا يَزْهَرُ نُجُومُ السَّمَاءِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَالَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَلِيُّ اللهِ يُعِينُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيَصْنَعُ لَهُ وَلَا يَقُولُ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَقَّ ولَا يَخَافُ غَيْرَهُ"5.
5- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً النَّبِيُّونَ ثُمَّ الْوَصِيُّونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ وَإِنَّمَا يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ فَمَنْ صَحَّ دِينُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَجْعَلِ الدُّنْيَا ثَوَاباً لِمُؤْمِنٍ وَلَا عُقُوبَةً لِكَافِرٍ وَمَنْ سَخُفَ دِينُهُ وَضَعُفَ عَمَلُهُ قَلَّ بَلَاؤُهُ وَأَنَّ الْبَلَاءَ أَسْرَعُ إِلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ مِنَ الْمَطَرِ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ"6.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في وداع شهر رمضان.
2 وسائل الشّيعة، ج12، ص 168.
3 مستدرك الوسائل، ج1، ص 376.
4 (م.ن)، ج7، ص 32.
5 الكافي، ج2، ص 170.
6 (م.ن)، ص 259.
43
23
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى علائم الإيمان لاكتشافه في نفسه.
2- يبيّن العلاقة بين الإيمان والخشوع في الصّلاة.
3- يشرح العلاقة بين الإيمان واكتساب الكمالات.
45
24
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
تمهيد
"لقد ذكر الله تبارك وتعالى في قرآنه الكريم خصائص المؤمنين، كما بيّن أهل بيت العصمة والطّهارة عليهم السلام صفاتهم في الأحاديث الشّريفة، لكنّنا لا نتحلّى بأيٍّ منها، رغم أنّنا نعتقد جميعًا (نظريًّا) بالله تبارك وتعالى وتوحيد ذاته المقدّسة وسائر أركان الإيمان استنادًا إلى البراهين العقليّة وأمثالها.
والسرّ في ذلك يكمن فيما ذكرناه من أنّ الإيمان غير الإدراك العقليّ، يقول تبارك وتعالى في الآية الثانية من سورة الأنفال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾1 إلى أن يقول: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾. فهو تبارك وتعالى يصرّح، وعلى نحو الحصر، بأنّ المؤمنين هم الذين يتحلّون بهذه الصّفات، أي أنّ غيرهم ليسوا بمؤمنين، ثمّ يختم هذا الوصف بتأكيد الأمر والتّصريح بأنّ الذين تتوفّر فيهم هذه الصّفات هم وحدهم المؤمنون حقًّا.
1 سورة الأنفال، الآية 2.
47
25
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
وصفاتهم المذكورة في الآية قد لاحظتموها، وأنتم تدّعون الإيمان، وقد أدركتم عقليًّا جميع أركانه ولديكم دليل عقليّ وأوجدتم دليلًا لكلّ منها، فارجعوا إلى أنفسكم وتدبّروا فيها ولاحظوا أيّ تلك الصّفات موجودة في قلوبكم؟ تسمعون أو تردّدون كلّ هذا الذّكر لله تعالى ولكن أين "وجل القلوب" الذي يظهر على المؤمن عند ذكر الله؟ لا ريب في أنّ القلب الذي يدرك وجدانيًّا عظمة الحقّ تعالى وجلاله، ولم يتجلّ فيه كبرياؤه تعالى وعلوّه، لا يوجل من ذكره عزّ وجلّ"1.
كيف نعرف إذا كنّا من أهل الإيمان؟
طالما أنّ الإيمان ليس بالادّعاء، كما أنّه ليس مجرّد علم أو شعور، فكيف يمكن لنا أن نعرف الإيمان في قلوبنا؟ وما هي الدّرجة من الإيمان التي ينبغي أن نبحث عنها؟
حقيقة الإيمان ترتبط بتركيبة الإنسان وتشريحه المعنويّ. ويدلّنا الإمام الخمينيّ قدس سره وهو العارف بتشريح الوجود الإنسانيّ وعلاقة الأعضاء والأقاليم والنّشآت والمراتب ببعضها البعض. فيعتبر أنّ القلب هو الهويّة الحقيقيّة التي تتجلّى في الصّفات النّفسانيّة والملكات الأخلاقيّة، والتي بدورها تتجلّى في سلوكيّات الإنسان.
يقول الإمام قدس سره: "لو أنّ شخصًا قام بالوظائف العبوديّة والمناسك الظّاهريّة ـ حسب ما هو لازم ومطابق لتوجيهات الأنبياء ـ لانعكست من جرّاء أدائه لمسؤوليّاته العبوديّة آثار على قلبه وروحه، حيث يحسن خلقه وتتكامل عقائده. وهكذا فإنّ من يواظب على تهذيب خُلُقه وتحسين باطنه، يترك آثارًا على النّشأتين الأخرويّتين البرزخ والقيامة. كما أنّ كمال الإيمان ومتانة العقائد يؤثّران في النّشأتين التاليتين. ويكون كلّ ذلك نتيجة شدّة الارتباط بين المقامات الثّلاثة، بل التّعبير بالارتباط بين العوالم الثّلاثة من جهة ضيق الخناق لعدم وجود كلمة أخرى تعبّر عن مدى تداخل كلّ منها في الآخر. إذ لابدّ وأن نقول إنّها ـ العوالم الثّلاثة ـ حقيقة واحدة، ذات مظاهر ثلاثة. وهكذا كمالات المقامات الثّلاثة مرتبطة بكمالات كلّ واحد منها. من دون أن يظنّ أحد أنّه يستطيع أن يكون ذا إيمانٍ كاملٍ أو خُلُقٍ مهذّب من دون الأعمال الظّاهريّة، والعبادات الصّوريّة. أو يستطيع أن يجعل إيمانه كاملًا وأعماله تامّة، رغم نقصانٍ في خُلُقه وعدم تهذيبه، أو يمكن أن يتمّ أعماله الظّاهريّة ويكمّل محاسن أخلاقه من دون الإيمان القلبيّ"2.
وعلى هذا الأساس، فللإيمان ظهور في القلب على صعيد العقائد والمعارف والمشاعر، وفي النّشأة البرزخيّة على مستوى الأخلاق والملكات، وفي النّشأة الملكيّة الظّاهرة على صعيد الأعمال.
1 جنود العقل والجهل، ص 96-97.
2 الأربعون حديثًا، ص 419-420.
48
26
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
علائم الإيمان
وعلى هذا الأساس لكلّ ظهور بحسب النّشأة علامات، بحيث إذا لم تكن هذه العلامات فهذا يدلّ على عدم الإيمان. يقول الإمامقدس سره "وإذا فُقدت علائم الإيمان في شخص ما فالإيمان نفسه يكون مفقودًا فيه أيضًا"1.
ويقول قدس سره: "إنّ ما ذُكر في الأخبار الشّريفة من أنّ الإقرار باللسان والعمل بالأركان من دعائم الإيمان، فهو بيان لسرّ طبيعي، ولسنة الله الجارية، لأن حقيقة الإيمان، تلازم العمل والتنفيذ. إنّ العاشق في جوهر طبيعته، يظهر العشق تجاه المعشوق ويتغزّل به، وإنّ المؤمن إذا لم يعمل بمتطلّبات الإيمان وما تستدعيه محبّة الله وأوليائه، لما كان مؤمنًا ومحبًّا. وإنّ هذا الإيمان الشّكليّ والمحبّة الجوفاء، من دون جوهر ومضمون، ينتفي ويزول أمام حوادث بسيطة وضغوط يسيرة، وينتقل هذا المحبّ إلى دار جزاء الأعمال، صفر اليدين"2.
ولنتوقّف عند مجموعة مهمّة من علامات الإيمان كما جاء في كلمات الإمام قدس سره.
1- الخشوع في الصّلاة
"قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾3 فجعل الخشوع في الصّلاة من حدود الإيمان وعلائمه. فمن لم يكن خاشعًا في الصّلاة فهو خارج زمرة أهل الإيمان طبقًا لما قاله ذات الحقّ المقدّس تعالى شأنه. قال الصادق عليه السلام: "إذا دخلت في صلاتك فعليك بالتخشّع والإقبال على صلاتك فإنّ الله تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾. وبما أنّ صلواتنا ليست مشفوعة بالخشوع، فإنّ ذلك ناجم إمّا عن نقص الإيمان أو فقدانه... وأمّا قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾4 فلعلّ المراد منه هو الإيمان الصّوريّ أي الإيمان بما جاء به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وإلّا فالإيمان الحقيقيّ يتلازم مع مرتبة من الخشوع لا محالة. أو أنّ المراد من الخشوع في هذه الآية، هو الخشوع بمراتبه الكاملة، كما أنّ العالِم ربّما يطلق على من انتقل من حدّ العلم
1 جنود العقل والجهل، ص 99.
2 الأربعون حديثًا، ص 608.
3 سورة المؤمنون، الآيات 1-2.
4 سورة الحديد، الآية 16.
49
27
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
إلى حدّ الإيمان، ويُحتمل أن تكون الآية الشّريفة ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾1 إشارة إلى هؤلاء"2.
2- الجدّ والاجتهاد
"إنّ هذه البرودة الموجودة فينا إنّما هي من برودة أشعّة الايمان، وهذا الوهن الذي نجده إنّما هو من وهن أساس الإيمان. ولو أحدثت أخبار الأنبياء والأولياء عليهم السلام وبراهين الحكماء والعرفاء عليهم الرّضوان في أنفسنا مجرّد الاحتمال، لكان اللازم علينا أن نقوم بالأمر ونجتهد في تحصيله بأحسن ممّا نحن فيه"3.
3- الخوف والخشية
"يقول الله تعالى في سورة الأنفال في الآية الشّريفة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾4، فلا بدّ للسّالك من أن يلاحظ هل أنّ هذه الأوصاف الثّلاثة تنطبق عليه؟ وهل أنّ قلبه يوجِلُ إذا ذُكر الله ويخاف؟ وإذا تُليت عليه الآيات الشّريفة الإلهيّة هل يزداد نور الإيمان في قلبه؟ وكذلك اعتماده وتوكّله على الحقّ تعالى؟ أم أنّه عن كلّ هذه المراتب متأخّر، ومن كلّ هذه الخصائص محروم؟ فإن أراد أن يفهم أنّه من الحقّ تعالى خائف وقلبه من خوف الله وجل فلينظر إلى أعماله"5.
4- الشدّة على الكفّار
من صفات المؤمنين الأساسية أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم: "وأهل المعرفة يعلمون بأنّ الشدّة على الكفّار ـ وهي من صفات المؤمنين ـ وقتالهم أيضًا (هي) رحمة ولطف من الألطاف الخفيّة للحقّ تعالى"6.
1 سورة فاطر، الآية 28.
2 معراج السالكين، ص 29.
3 (م.ن)، ص 59.
4 سورة الأنفال، الآية 2.
5 معراج السالكين، ص 217.
6 وصايا عرفانيّة، ص 23.
50
28
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
5- التّواضع
"إعلم أنّ للتواضع درجات يقابلها التكبر في كل درجة:... الرابعة، تواضع المؤمنين الذين حصلوا بنور الإيمان على العلم بالله، وعرفوا أنفسهم بمقدر ما أضاءهُ لهم هذا النّور الإيمانيّ، فصاروا متواضعين للحقّ تعالى ولخلقه"1.
6- إيجاد الكثير من الكمالات
"الإيمان بأنّ المتصرّف في مملكة الوجود وعوالم الغيب والشّهود هو الحقّ تعالى وليس لسائر الموجودات فيها تصرّف إلا التّصرّف الإذنيّ الظلّيّ يؤدّي إلى الكثير من الكمالات النّفسانيّة والأخلاق الإنسانيّة الفاضلة، مثل التّوكّل والاعتماد على الحقّ وقطع الطّمع بالمخلوق الذي هو أمّ الكمالات، ويوجب كثيرًا من الأعمال الصّالحة والأفعال الحسنة وترك الكثير من القبائح... وهكذا مثلًا خُلُق الرّضا فإنّه من الأخلاق الإنسانيّة الكماليّة، وله تأثيرات كبيرة في تصفية النّفس وتجليتها، ويجعل القلب موردًا للتّجليات الإلهيّة الخاصّة، ويوصل الإيمان إلى كماله، وكمال الإيمان إلى الطّمأنينة"2.
"عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "كان أبي يقول: إنّه ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وُزن هذا لم يزد على هذا"3، وفيه في حديث آخر: "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتّى يكون خائفًا راجيًا، ولا يكون خائفًا راجيًا حتّى يكون عاملًا لما يخاف ويرجو"4.
وقد ذكرت الأحاديث الشّريفة للمؤمنين مجموعة من الأوصاف والصّفات يتحلّون بها، مثل التّوكّل والتّسليم والرّضا والخوف والرّجاء ونظائرها. ولا ريب في أنّ من لا يتحلّى بها لن يكون من أهل الإيمان، والعلّة في عدم التحلّي بها هو أنّ العلم والإدراك لم يتحوّلا فينا إلى الإيمان وإلّا لظهرت فينا تلك الأوصاف النّبيلة والأعمال الصالحة. والله العالم"5.
1 جنود العقل والجهل، ص 303.
2 معراج السالكين، ص 96.
3 جنود العقل والجهل، ص 142-143.
4 الكافي، ج2، ص 71.
5 جنود العقل والجهل، ص 101.
51
29
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
7- الغنى عن النّاس
"عليك بالمجاهدة لتودع القلب عند الله، ولا ترى مؤثّرًا غيره.. أوليس عامّة المسلمين المتعبّدين يصلّون في اليوم والليلة عدّة مرات ـ والصّلاة زاخرة بالتّوحيد والمعارف الإلهيّة ويقولون عدّة مرات في اليوم والليلة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. ويتلفّظون أنّ العبادة والإعانة مختصّتان بالله.. إلاّ أنّهم بتذلّلون ويتزلّفون لكلّ عالِمٍ وقويّ وثريّ، إلاّ المؤمنون بحقّ وخواصّ الحقّ سبحانه"1.
وفي موضعٍ آخر يقول الإمام قدس سره: "﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، إلى أن قال ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾. يصرّح الله تعالى في هذه الآيات وعلى نحو الحصر بأنّ المؤمنين هم الذين تتوفّر فيهم الصّفات المذكورة في هذه الآيات، أي أنّ من لم تتوفّر فيهم ليسوا بمؤمنين، ومن هذه الصّفات أنّهم يثقون بربّهم، ويتوكّلون عليه في أعمالهم، وتتعلّق قلوبهم. وعليه يتّضح أنّ الذين تتوجّه قلوبهم إلى غيره ويعتمدون على غير ذاته المقدّسة جلّ وعلا، ويتطلّعون في أمورهم إلى سواه، ويطلبون الفرج من غيره تعالى، هم فاقدون لحقيقة الإيمان، محرومون من نور الإيمان"2.
8- زيادة الإيمان والبصيرة
"إن مَثَلَ الإيمان وتوفير بواعث التوفيق، مَثَلُ إنسان قد حمل مصباحًا وسلك طريقًا مظلمًا، فكلّما تقدّم خطوة، أضاء أمامه واهتدى للخطوة اللاحقة. فكلّما رفع الإنسان قدمًا نحو عالم الآخرة، اتّضح السّبيل أكثر، وغمرته عنايات الحقّ بصورة أكبر، وتوفّرت عوامل التّوجّه إلى عالم القرب ـ الآخرة ـ والانزعاج عن عالم البعد ـ الدنيا. والعنايات الأزليّة للحقّ المتعالي إنّما تسع الأنبياء والأولياء لعلمه ـ سبحانه ـ الأزليّ بطاعتهم أيّام التّكليف"3.
و"إنّ من السّلوك الفطريّ في الإنسان أن يستشعر الضّعة والخشية في محضر السّلطان
1 وصايا عرفانيّة، ص 50.
2 جنود العقل والجهل، ص 205-206.
3 الأربعون حديثًا، ص 277.
52
30
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
العظيم حتى لو لم يجد في نفسه تقصيرًا، بل وحتى عندما يراها في خدمة السلطان، وإن كان جميع الخلائق عاجزين عن القيام بحقّ المعرفة والعبادة والخدمة للذات الإلهيّة المقدّسة، وكيف لا يكونون كذلك وأشرف الممكنات وأعرف خلق الله بالله وأقربهم منه تعالى، الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم يصرّح بالقول: "ما عبدناك حقّ عبادتك وما عرفناك حقّ معرفتك"، و(ماذا يمكن للبعوضة الضعيفة أن تفعله في الوادي الذي يتناثر فيه ريش الصقور).
إذن فالخاصّيّة الأولى من علامات المؤمن مفقودة فينا، وهكذا حال الخاصّيّة الثّانية وهي زيادة الإيمان عند تلاوة الآيات الكريمة على المؤمن، فكلّ هذه الآيات التّدوينيّة والتّكوينيّة تُتلى وتُعرض علينا لكنّها تزيد من احتجابنا بدلًا من زيادة إيماننا! فما أكثر ما نتلوه ونسمعه من آي القرآن الحكيم في أيّام عمرنا دون أن يظهر منه قلوبنا نور الإيمان، ودون أن نتذكّر أو نتنبّه لتأثير هذه الآيات الكريمة"1.
9- شفاء الأمراض
"وهنا تدبّر بصدق ولاحظ هل أنّ صدر الآية الكريمة الرابعة والأربعين من سورة فُصّلت المباركة ينطبق علينا أم ذيلها، وهي: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾2.
1 جنود العقل والجهل، ص 97-98.
2 سورة فصلت، الآية 44.
53
31
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
فأين نجد فينا ذلك الهدى والشّفاء من الأمراض الباطنيّة الذي يثمره القرآن الشّريف للمؤمنين؟ لماذا لا تنفذ هذه الآيات الكريمة إلى أسماعنا؟ ولماذا تصير لنا حجابًا فوق حجاب؟ لا علّة لذلك سوى أنّ نور الإيمان لم يدخل قلوبنا، وعلومنا لم تتجاوز حدّ الإطار النّظريّ، ولم تكتب على لوح القلب. وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تمكّننا أن نعرف جيّدًا حالنا بواسطتها وذلك بتطبيق ما تذكره على صفاتنا"1.
موعظة للإمام
"إنّ النّفوس المنكبّة على الدّنيا، والملتهية بتعميرها والمنصرفة عن الحقّ، تكون منكوسة، رغم أنّها تعتنق الإيمان بالمبدأ والمعاد، لأنّ المقياس في انتكاس القلوب، هو الغفلة عن الحقّ والانشغال بالدّنيا وتعميرها. وهذا الإيمان بالمبدأ والمعاد إمّا لا يُعدّ إيمانًا وعقيدة كما ذُكر في شرح بعض الأحاديث السابقة، أو أنّ الإيمان يكون ناقصًا وبسيطًا جدًّا، وعليه لا يتنافى مع انتكاس القلب، بل إنّ من يظهر الإيمان بالغيب والحشر والنشر، ولا يخشى من ذلك، وأنّ إيمانه لا يدفع به إلى عمل الجوارح والأركان، يكون مثل هذا الإنسان منافقًا ولا يكون مؤمنًا. ويمكن أن يكون مَثَل هؤلاء المؤمنين الشّكليّين، مَثَلَ قوم كانوا بالطّائف ـ كما ورد في الحديث إن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك وإن أدركه على إيمانه نجا"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 98.
2 الأربعون حديثًا، ص 564.
54
32
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
المفاهيم الرئيسة
1- إذا فُقدت علائم الإيمان في شخص ما فالإيمان نفسه يكون مفقودًا فيه أيضًا.
2- من لم يكن خاشعًا في الصّلاة فهو خارج زمرة أهل الإيمان طبقًا لما قاله ذات الحقّ المقدّس تعالى شأنه.
3- إنّ هذه البرودة الموجودة فينا إنّما هي من برودة أشعّة الايمان، وهذا الوهن الذي نجده إنّما هو من وهن أساس الإيمان.
4- ذكرت الأحاديث الشّريفة للمؤمنين مجموعة من الأوصاف والصّفات يتحلّون بها، مثل التّوكّل والتّسليم والرّضا والخوف والرّجاء ونظائرها. ولا ريب في أنّ من لا يتحلّى بها لن يكون من أهل الإيمان.
5- الذين تتوجّه قلوبهم إلى غيره ويعتمدون على غير ذاته المقدّسة جلّ وعلا، ويتطلّعون في أمورهم إلى سواه، ويطلبون الفرج من غيره تعالى، هم فاقدون لحقيقة الإيمان.
6- إن مَثَلَ الإيمان وتوفير بواعث التوفيق، مَثَلُ إنسان قد حمل مصباحًا وسلك طريقًا مظلمًا، فكلّما تقدّم خطوة، أضاء أمامه واهتدى للخطوة اللاحقة.
7- من علائم الإيمان الشّفاء من الأمراض قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾.
8- إنّ من يظهر الإيمان بالغيب والحشر والنشر، وإيمانه لا يدفع به إلى عمل الجوارح والأركان يكون منافقًا ولا يكون مؤمنًا.
55
33
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَبَلِّغْ بِإِيمَانِي أَكْمَلَ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إِلَى أَحْسَنِ النِّيَّاتِ، وَبِعَمَلِي إِلَى أَحْسَنِ الأَعْمَالِ اللَّهُمَّ وَفِّرْ بِلُطْفِكَ نِيَّتِي، وَصَحِّحْ بِمَا عِنْدَكَ يَقِينِي، وَاسْتَصْلِحْ بِقُدْرَتِكَ مَا فَسَدَ مِنِّي"1.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "عَلَامَةُ الْإِيمَانِ أنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ وَأَلَّا يَكُونَ فِي حَدِيثِكَ فَضْلٌ عَنْ عِلْمِكَ وَأَنْ تَتَّقِيَ اللهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِك"2.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "الْمُؤْمِنُ لَا يَغُشُّ الْمُؤْمِنَ وَلَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخُونُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ وَلَا يَغْتَابُهُ وَلَا يَقُولُ لَهُ أُفٍّ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُ أُفٍّ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا وَلَايَةٌ فَإِذَا اتَّهَمَهُ انْمَاثَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ - كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ"3.
3- قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: "السَّخَاءُ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ عِمَادُ الْإِيمَانِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِناً إِلَّا سَخيّ"4.
4- عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنِ الصَّادِقِ عليه السلام قَالَ: "خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ فِيمَا يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا قَلْبُ اللهِ الْوَاعِي وَلِسَانُهُ النَّاطِقُ وَأَمِينُهُ عَلَى سِرِّهِ وَحُجَّتُهُ عَلَى خَلْقِهِ وَخَلِيفَتُهُ عَلَى عِبَادِهِ وَعَيْنُهُ النَّاظِرَةُ فِي بَرِيَّتِهِ وَيَدُهُ الْمَبْسُوطَةُ بِالرَّأْفَةِ والرَّحْمَةِ وَدِينُهُ الَّذِي لَا يُصَدِّقُنِي إِلَّا مَنْ مَحَضَ الْإِيمَانَ مَحْضاً وَلَا يُكَذِّبُنِي إِلَّا مَنْ مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً"5.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في مكارم الأخلاق.
2 نهج البلاغة، ص 556.
3 مشكاة النور، ص 104.
4 مستدرك الوسائل، ج7، ص 17.
5 بحار الأنوار، ج26، ص 257.
56
34
الدرس الثالث: الإيمان (3) - علائم الإيمان
5- عن الصادق عليه السلام: "قِيلَ مَا عَلَامَاتُ الْمُؤْمِنِ، قَالَ عليه السلام: أَرْبَعَةٌ نَوْمُهُ كَنَوْمِ الْغَرْقَى وَأَكْلُهُ كَأَكْلِ الْمَرْضَى وَبُكَاؤُهُ كَبُكَاءِ الثَّكْلَى وَقُعُودُهُ كَقُعُودِ المواثب"1.
6- عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عليه السلام قَالَ: "قِيلَ لَهُ مَا بَالُ الْمُؤْمِنِ أَحَدَّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ عِزَّ الْقُرْآنِ فِي قَلْبِهِ وَمَحْضَ الْإِيمَانِ فِي صَدْرِهِ وَهُوَ عَبْدٌ مُطِيعٌ لِلهِ وَلِرَسُولِهِ مُصَدِّقٌ، قِيلَ لَهُ: فَمَا بَالُ الْمُؤْمِنِ قَدْ يَكُونُ أَشَحَّ شَيْءٍ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَكْسِبُ الرِّزْقَ مِنْ حِلِّهِ وَمَطْلَبُ الْحَلَالِ عَزِيزٌ فَلَا يُحِبُّ أَنْ يُفَارِقَهُ شَيْئُهُ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عِزِّ مَطْلَبِهِ وَ ِنْ هُوَ سَخَتْ نَفْسُهُ لَمْ يَضَعْهُ إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ، قِيلَ فَمَا بَالُ الْمُؤْمِنِ قَدْ يَكُونُ أَنْكَحَ شَيْءٍ؟ قَالَ: لِحِفْظِهِ فَرْجَهُ عَن فُرُوجٍ لَا تَحِلُّ لَهُ وَلِكَيْلَا تَمِيلَ بِهِ شَهْوَتُهُ هَكَذَا وَلَا هَكَذَا فَإِذَا ظَفِرَ بِالْحَلَالِ اكْتَفَى بِهِ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَ قَالَ عليه السلام: إِنَّ قُوَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ أَلَا تَرَوْنَ أَنَّكُمْ تَجِدُونَهُ ضَعِيفَ الْبَدَنِ نَحِيفَ الْجِسْمِ وَهُوَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ"2.
7- قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: "لَا يُعَظِّمُ حُرْمَةَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَنْ قَدْ عَظَّمَ اللهُ حُرْمَتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ كَانَ أَبْلَغَ حُرْمَةً لِلهِ وَرَسُولِهِ كَانَ أَشَدَّ تَعْظِيماً لِحُرْمَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنِ اسْتَهَانَ لِحُرْمَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ هَتَكَ سِتْرَ إِيمَانِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ إِعْظَامَ ذَوِي الْقُرْبَى فِي الْإِيمَان"3.
1 مستدرك الوسائل، ج 8، ص 401.
2 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص 560.
3 مصباح الشريعة، ص 69.
57
35
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى السّبيل لتحصيل الإيمان.
2- يبيّن شروط استقرار الإيمان في القلب.
3- يتعرّف إلى العوامل التي تساهم في إضعاف الإيمان.
59
36
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
تمهيد
بعد أن تعرّفنا على الإيمان وأهميّته وكيفيّة تشخيصه في العقائد والمشاعر والأخلاق والأعمال. يأتي الحديث إلى كيفيّة تحصيله وتقويته. فقد ذكر الإمام أنّ الإيمان فيض إلهيّ وخلعة ربّانيّة غيبيّة يفيض بها على المخلصين من عباده والخاصّة في محفل أنسه. فهل يعني هذا أنّ طريقه الوحيد هو الإخلاص؟! وما هو حال إيمان كلّ من لم يكن مخلصًا؟ هل يُعدّ إيمانه عارية غير مستقرّ كما جاء في تفسير الإمام الصّادق عليه السلام لقوله تعالى ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾1، وإذا كان الإيمان هبة إلهيّة، فهل يعني هذا أنّه لا دور للتكسّب فيه؟ أسئلة عديدة تنتظر إجابات واضحة من تعاليم الإمام الخمينيّ قدس سره ومدرسته الأخلاقيّة العميقة.
يقول الإمام قدس سره: "إن أصول الإيمان وأركانه ــ التي هي عبارة عن معرفة الله والتّوحيد والولاية، والإيمان بالرّسل وبيوم المعاد والملائكة والكتب السّماويّة: هي من الأمور الفطريّة غير أنّ بعضها أصليّ مثل معرفة الله والتوحيد، وبعضها الآخر فرعيّ"2. وفيما يلي نذكر أهم الأصول والقواعد التي يذكرها الإمام الخميني قدس سره لبناء إيمان قوي في النفس لا يتزلزل ولا يعتوره الشك والشبهات، ثم نتحدث عن العوامل السلبية التي تحبط الإيمان وتؤدي إلى إضعافه في النفس.
1 سورة الأنعام، الآية 98.
2 جنود العقل والجهل، ص 102.
61
37
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
عوامل قوة الإيمان
1- التفكّر والرياضة العقلية
إنّ كون الإيمان فيضًا غيبيًّا لا يعني أنّه سيستقرّ بمجرّد نزوله في قلب الإنسان. فبعض القلوب تكون متزلزلة مهتزّة إلى الدّرجة التي تمنع استقرار أيّ خير فيها. والبعض الآخر يكون منكوسًا بحيث يكون أعلاه أسفله وأسفله أعلاه (كالوعاء المقلوب) لا يستقبل شيئًا من فيوضات الملكوت الأعلى. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ القلب إمّا أن يكون مؤمنًا بكلّ ما جاء به النّبيّصلى الله عليه وآله وسلم أو لا! وإمّا أن يظهر إيمانه أو لا! وعلى الأوّل، إمّا أن يستقرّ فيه الإيمان من دون تزلزل أو يؤمن حينًا ويتراجع حينًا آخر رغم إفصاحه عن الإيمان أيضًا"1.
ولهذا، فإنّ قضيّة تحصيل الإيمان ترتبط بالدّرجة الأولى في أحوال القلب من حيث التّوجّه والثّبات وقوّة التّحمّل. وذلك لأنّ المزيد من الإيمان يحتاج إلى قلب قويّ. وعلينا أن نعرف أنّ قوّة القلب ترتبط كذلك بقوّة النّفس، لأنّ النّفس بمنزلة القواعد والأسس التي يرتكز عليها القلب.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم، أنّ الإيمان بالمعارف الإلهيّة وأصول العقائد الحقّة لا يتحقّق إلاّ بما يلي: أن يفهم المرء أوّلاً تلك الحقائق بوسيلة التفكّر والرياضات العقليّة، والآيات والبيانات والبراهين العقليّة، وهذه المرحلة هي بمثابة مقدّمة الإيمان.
وبعد أن يستوفي العقل نصيبه منها، لا ينبغي أن يقنع بها، لأنّ هذا المقدار من المعارف محدودٌ جدًّا، وقلّما تحصل منه النورانية، لذا يجب أن يشتغل السّالك إلى الله بالرّياضات القلبيّة لكي يوصل هذه الحقائق ـ بأيّ رياضة مناسبة ـ إلى القلب فينعقد عليها. وهنا تتمايز مراتب الإيمان، ولعلّ هذا هو معنى الحديث الشّريف: "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء"، لأنّ العلم بالله هو نورٌ ما دام في دائرة القلب، وبعد الرّياضات القلبيّة يقذفه الله تعالى في القلوب المناسبة فتنعقد عليه القلوب. فمثلًا إنّ حقيقة التّوحيد ـ وهي أصل أصول المعارف ومنها تتفرّع معظم الفروع الإيمانيّة، والمعارف الإلهيّة، والصّفات الرّوحيّة الكاملة، والصّفات القلبيّة النورانيّة ـ لا تثمر أيًّا من هذه الفروع، ولا توصل الإنسان إلى أيٍّ من تلك
1 الأربعون حديثًا، ص 557.
62
38
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
الحقائق ما دامت في دائرة الإدراك العقليّ المجرّد. فالتّوكّل على الله تعالى هو أحد فروع التّوحيد والإيمان، وأركان (النّظرية) كاملة عند أغلبنا يوجدها فينا البرهان العقليّ أو ما يشبهه، لكنّ حقيقة التّوحيد (في التوكّل) مفقودة عندنا رغم ذلك"1.
وهذا دستورٌ جامعٌ من الإمام قدس سره يبيّن كيفيّة استجلاب نور الإيمان بالتّوجّه إلى آيات الله في العالم وانتزاع الحقائق منها بقوّة التفكّر. وبالتفكّر يزدهر العلم في القلب وتحصل اليقظة، وبالتّلقين تتبدّل الحقائق المكتسبة إلى ذكر، فيعمر القلب بالإيمان.
لقد ذكر الإمام أنّ جميع موجودات العالم هي من أجل دفع الإنسان نحو الإيمان والكمال: "فجميع موجودات عوالم الغيب والشّهادة مخلوقة لإيصال هذا الموجود الشّريف إلى مقامه، وقد ورد في الأحاديث القدسيّة: "يا بن آدم! خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي"، نقول: إذا عرف المؤمن ذلك، وعرف كيف يستفيد من المخلوقات في إصلاح نفسه وإيصالها إلى الكمال اللائق بها، وأدرك أنّ الحقّ جلّ وعلا هو العالم بكيفيّة تسخير المخلوقات في إصلاحه... وإذا بلغ الإيمان بذلك مرتبة الطّمأنينة والاطمئنان، زال التّزلزل والاضطراب بصورة كاملة، وسكن القلب إلى الحقّ تعالى وإلى تصرّفه وإلى تصرّفه فيه ما دام الإنسان في هذه الحدود فهو واقع في مقام الكثرة، يرى لغير الحقّ تعالى تأثيراً في الأمور، إذا عبر هذا المقام شاهد بنور المعرفة قبسٌ من تجلّيات التّوحيد في الأفعال، وأسقط تأثير الموجودات الأخرى، وعميت عينه بالكامل عنها وتنوّرت بالتوكّل على الحق جلّ علا"2.
ويقول قدس سره أيضًا: "فالإيمان بأمثال هذه الحقائق لا يحرز إلّا بالمجاهدة والتفكّر والتّلقين"3.
فالمجاهدة تشير إلى ضرورة بذل الجهد الكبير، والتّفكّر عبارة عن وسيلة تبديل المعطيات الخارجيّة التي يصطدم بها الإنسان نتيجة توجّهه إلى حقائق ثابتة قابلة للتّرسيخ، أمّا التّلقين فهو وسيلة التذكّر.
1 جنود العقل والجهل، ص 93-94.
2 (م.ن)، ص 200-201.
3 وصايا عرفانيّة، ص 26.
63
39
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
ويقول قدس سره: "إنّ البرهان يقول لنا "لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله" وهذا أحد معاني لا إله إلا الله، وببركة هذا البرهان نقطع يد تصرّف الموجودات عن ساحة كبرياء الوجود ونرجع ملكوت العوالم ومُلكها إلى صاحبها، ونظهر حقيقة ﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾، و﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾. ولكن ما لم يصل هذا المطلب البرهانيّ إلى القلب ويصبح صورة باطنيّة للقلب، فلا ننتقل من حدّ العلم إلى حدّ الايمان، ولا يكون لنا من نور الإيمان الذي ينوّر مملكة الباطن والظّاهر سهم ونصيب. فلهذا، مع وجود البرهان على هذا المطلب الإلهيّ الشّامخ، فنحن واقعون في التّكثير وليس عندنا خبر من التّوحيد الذي هو قرّة عين أهل الله، ندقّ طبل لا مؤثّر في الوجود إلّا الله، ومع ذلك نمدّ عين الطّمع ويد الطّلب إلى من هو أهل وغير أهل"1.
وفي شرحه لحديث جنود العقل والجهل يشير الإمام قدس سره إلى دور المعارف الإلهيّة في الإيمان قائلًا: "وفي ذلك فتح لأبواب المعارف الإلهيّة التي هي مصدر الإيمان"2. فالإيمان لا ينمو ولا يتغّذّى إلّا بماء العلم النّافع. ولا علم أنفع للإنسان وآخرته سوى معرفة الله وشؤونه وتجلّياته.
2- إخلاص النيّة
وفي كلّ مجاهدة ما لم تكن النيّة حاضرة في صفائها وخلوصها، فلن يحصل التّوفيق. فكيف إذا كان الأمر مرتبطًا بالإيمان. ولهذا، يقول الإمامقدس سره: "إنّ إيماننا ناقصٌ، ولم تخرج أدلّتنا العقليّة من نطاق العقل لتصل إلى حدود القلب. ليس الإيمان بالقول والسّماع والمطالعة والمباحثة والنّقاش فحسب وإنّما يتطلّب أيضًا خلوص النيّة. إنّ الباحث عن اللّه يجده لا محالة، والذي يطلب المعارف يبحث عنها، ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾3. ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾4"5.
1 معراج السالكين، ص 104-105.
2 جنود العقل والجهل، ص 292.
3 سورة الإسراء، الآية 72.
4 سورة النور، الآية 40.
5 الأربعون حديثًا، ص 139-140.
64
40
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
3- حبّ عليّ والولاية
"إنّ حبّ الإمام عليّ عليه السلام يبعث على نورٍ وإيمان يجنّبان صاحبهما عن الآثام، ويدفعانه إلى التّوبة والإنابة إذا ابتُلي بالمعصية من دون أن يفسح المجال أمامه للتمادي في الغيّ والعصيان"1.
"لأنّ الإيمان لا يحصل إلاّ بواسطة ولاية عليّ وأوصيائه من المعصومين الطاهرين عليهم السلام، بل لا يُقبل الإيمان بالله ورسوله من دون الولاية"2.
و"بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام: قال "ذِرْوَةُ الأَمْرِ وَسَنامُهُ وَمِفْتاحُهُ وَبابُ الأشْياءِ وَرِضَى الرَّحْمنِ الطّاعَةُ لِلإمامِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ... أما لَوْ أنِّ رَجُلاً قامَ لَيْلَهُ وَصامَ نَهارَهُ وَتَصَدَّقَ بِجَمِيعَ مالِهِ وَحَجَّ جَميعَ دَهْرِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ وِلايَةَ وَلِيِّ اللهِ فَيُوالِيَهُ وَتَكُونُ جَميعُ أعْمالِهِ بِدَلالَتِهِ إلَيْهِ، ما كانَ له عَلَى اللهِ حقٌّ في ثَوابِهِ وَلا كانَ مِنْ أهْلِ الإيْمانِ". ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في قبول الأعمال عند الله سبحانه، بل هو شرط في قبول الإيمان بالله والنبي الأكرم"3.
4- محاسبة النّفسك
"إذا خصّص (الإنسان) عدّة دقائق في اليوم والليلة ـ بحسب إقبال قلبه وتوجّهه، أي بحسب مقدار حضور قلبه ـ لمحاسبة النّفس على مقدار سعيها في اكتساب نور الإيمان، ومطالبتها بهذا النور والبحث عن آثار الإيمان فيها، فإنّ ذلك سيؤثّر في حصوله على النتائج بصورة أسرع إن شاء الله"4.
5- الزّهد في الدّنيا
"بإستناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "سمعته يقول: جُعل الخير كلّه في بيت، وجُعل مفتاحه الزّهد في الدنيا. ثمّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجد الرّجل حلاوة الإيمان حتّى لا يبالي من أكل الدنيا. ثم قال أبو عبد الله عليه لاسلام: حرامٌ على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدّنيا"5.
1 الأربعون حديثًا، ص 605.
2 (م.ن)، ص 607.
3 (م.ن)، ص 608-609.
4 جنود العقل والجهل، ص 110.
5 (م.ن)، ص 282.
65
41
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
6- كظم الغيظ
عن الباقر عليه السلام قال: "من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه، حشا الله قلبهُ أمناً وإيماناً يوم القيامة"1.
ولا شكّ بأنّ هذه التّوصيات هي غيض من فيض مجموعة كبيرة من الأمور التي تساهم في توسعة القلب وتوجيهه لينال فيض الإيمان، مثلما أنّها تساهم في تثبيته ومنع تزلزله بواسطة ثقل الحقائق. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الحقّ ثقيلٌ مريء والباطل خفيف وبيء"2.
في الخلاصة يقول الإمام قدس سره: "بعد أن اتّضح أنّ الإيمان غير العلم، وأنّ ما لدينا من المعارف وحقائق توحيد الله وأسمائه وصفاته هو من العلم الذي يدخل قلوبنا، ما لم يدخل العلم بها إلى القلب فيؤمن بها، يبقى أثرها ضعيفاً. بعد اتّضاح ذلك يجب على الإنسان أن يجتهد في السّعي لاكتساب الإيمان، فلو خرجنا من هذا العالم ـ وهو دار التغيّر والتبدّل، الذي يمكن فيه تغيير جميع الملكات والأوصاف والأحوال القلبيّة ـ دون أن نكتسب الإيمان، فسيورثنا ذلك خسارات شديدة، بل سنقع في الخسران العظيم وسيكون نصيبنا النّدم الذي لا حدّ له، إذ أنّ من المحال في العالم الآخر تغيير أيّ حال من أحوال النّفس، فلا يمكن هناك اكتساب الإيمان الذي لم يكتسبه هنا"3.
عوامل إضعاف الإيمان
تبيّن لنا من الكثير من الشّواهد السّابقة أنّ العامل الأساس لضعف الإيمان واضمحلال نوره في القلب هو الابتعاد عن أسبابه الموجبة لتحصيله أو حصوله كالعلم والتفكّر والتذكّر. وفي المقابل هناك أسباب تؤدّي إلى محقّ الإيمان وإضعافه وتزلزله نقتبس من كلمات الإمام قدس سره بعض ما يشير إليها:
1 جنود العقل والجهل، ص 379.
2 نهج البلاغة، ص 542.
3 جنود العقل والجهل، ص 107
66
42
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
1- عشرة السّوء
"يجب على الشّباب حتّى إذا كانت قلوبهم مطمئنّة بالإيمان، أن ينتبهوا إلى كيفيّة تفاعلهم وعِشرتهم مع الآخرين، ويتورّعوا عن الاختلاط مع السيّئين. بل إنّ الصّداقة والاختلاط مع العصاة وذوي الخُلُق الفاسد والسّلوك المنحرف مسيء لجميع الناس من أيّ طبقة كانوا، ويجب أن لا يكون أحدٌ مطمئناً بنفسه ومغروراً بإيمانه أو أخلاقه وأعماله. كما ورد في الأحاديث الشريفة الأمر بالابتعاد عن معاشرة أهل المعصية"1.
2- المعاصي
"جاء في حديث آخر في الكافي الشريف: "فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغار المعاصي التي نهى الله عزّ وجل عنها، كان خارجًا من الإيمان ساقطًا عنه اسم الإيمان وثابتًا عليه اسم الإسلام، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الإيمان"2.
3- الغفلة
"مسكين هو الإنسان الغافل! إنّه يولي الأمور الدّنيوية الفانية كل هذا الاهتمام... وهو يرى كلّ يوم أنّ أهلها يتركونها ويرحلون، ولا يأخذون معهم سوى الحسرات، لكنّه رغم ذلك يتهاون إلى هذه الدّرجة في اكتساب الإيمان الذي يتكفّل بتحقيق السّعادة الأبدية له، فيبقى على تهاونه وتساهله في هذا الأمر رغم كلّ مواعظ الأنبياء والأولياء والكتب السّماويّة، فلا يفكّر في يوم مصابه وذلّته وعذابه، ولا تؤثّر في قلبه القاسي كلّ مواعظ القرآن ووعده ووعيده التي تليّن الصخرة الصماء، وتخشع لها جبال العالم، أجل، يقول تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾3"4.
1 الأربعون حديثًا، ص 535.
2 جنود العقل والجهل، ص 100-101.
3 سورة الحشر، الآية 21.
4 جنود العقل والجهل، ص 111-112.
67
43
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
4- الغضب
"في الوسائل عن الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل". وفي المستدرك عن الجعفريّات بإسناده عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل وكما يفسد الخل العسل". وينبغي أن نعرف نحن المساكين المبتلين بغلاف الطّبيعة وبالحجب الظّلمانيّة للحياة الدنيويّة الوضيعة، المحجوبين والجاهلين بالغيب وبملكوت النّفس وما يضرّها ويفسدها وما يصلحها وما يهلكها أنّنا لا ندرك كيف يزيل الغضب نور الإيمان ويفسد حقيقته، ولا نرى بنور البصيرة هذا التضادّ بين حقيقة الإيمان والغضب في غير موارده المطلوبة، وقد بعث الحقّ تعالى أطبّاء النّفوس والقلوب، العارفين بالعلم الإلهيّ المحيط وبنور البصيرة النافذة في بواطن الملك والملكوت بالأمراض القلبيّة وأدويتها ومصلحات القلوب ومفسداتها، بعثهم من أجل إيقاظنا بكشف الحقائق وإظهار البواطن، فهم يخبروننا بما في بواطن قلوبنا ويكشفون لنا ملكوت نفوسنا، وهم يعرفون أنّ نار الغضب وثائرته تطفئ نور الإيمان وتفسده مثلما يفسد الخل والصبر العسل بسرعة، وتحول حلاوته اللطيفة إلى مرارة وحموضة لا تُستساغ"1.
5- اتّباع الشّهوات
"إذا جاء ملك الموت ونحن لا نزال عبيد الشّهوات وأسارى قيود أهواء النّفس المتشعّبة ـ والعياذ بالله ـ لكان من الممكن للشّيطان أن يسرق إيماننا الذي هو غايته القصوى وأن يحتال ويتراءى أمام قلبنا بصورة نخرج من الدّنيا ونحن أعداء الحقّ المتعالي والأنبياء والأولياء"2.
6- الحسد
"الحسد، آفة الإيمان التي تأكله، كما تأكل النار الحطب. ويكفي في شناعة هذه الرّذيلة هو أنّ الحسد يقضي على الإيمان الذي يعدّ وسيلة النّجاة في الآخرة، وباعثًا لحياة القلوب، ويجعل الإنسان مفلسًا ومسكينًا"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 228-229.
2 الأربعون حديثًا، ص 293.
3 (م.ن)، ص 135.
68
44
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
7. الغيبة
"اعلم أنّ حرمة الغيبة محلّ اتفاق إجمالاً، بل تُعدّ من ضروريّات الفقه ومن المعاصي الكبيرة والموبقات المهلكة... واللازم في هذا المقام التّنبيه على فساد هذه السيّئة الموبقة وعلى مضاعفاتها، حتّى نبتعد عنها ولا نُبتلى بها إن شاء الله أو إذا ابتُلينا ـ لا سمح الله ـ لتراجعنا وتُبنا، واستأصلنا مادّة الفساد، ولا نفسح المجال للرّحيل من هذا العالم مع هذا الدّنس والابتلاء بهذه المعصية الكبيرة الماحقة للإيمان"1.
8- المفاسد الأخلاقية
"ويستفاد من الأحاديث أنّ ضعف الإيمان وعدم خلوصه كما يسبّب فسادًا في الأخلاق وانحرافًا في الأعمال، كذلك توجب المفاسد الأخلاقيّة نقصًا في الإيمان بل زواله"2.
9- المراء والجدال
"فلمّا علمنا أنّ لهذه الصفة ـ المراء والجدال ـ مساوئ عظيمة، وأنّ كلّ واحدة منها توجب الموبقات والمهلكات، وجب إنقاذ أنفسنا بالتّرويض والجهد، من هذه الخصلة المشينة، والرذيلة المفسدة للقلب، المدمّرة للإيمان"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 336.
2 (م.ن)، ص 340.
3 (م.ن)، ص 408.
69
45
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
المفاهيم الرئيسة
1- الإيمان فيض إلهيّ وخلعة ربّانيّة غيبيّة يفيض بها على المخلصين من عباده والخاصّة في محفل أنسه. وكون الإيمان فيضًا غيبيًّا لا يعني أنّه سيستقرّ بمجرّد نزوله في قلب الإنسان. فبعض القلوب تكون متزلزلة مهتزّة. والبعض الآخر يكون منكوسًا.
2- إنّ قضيّة تحصيل الإيمان ترتبط بالدّرجة الأولى في أحوال القلب من حيث التّوجّه والثّبات وقوّة التّحمّل، وذلك لأنّ المزيد من الإيمان يحتاج إلى قلبٍ قويّ. وقوّة القلب ترتبط كذلك بقوّة النّفس.
3- الإيمان لا ينمو ولا يتغّذّى إلّا بماء العلم النّافع. ولا علم أنفع للإنسان وآخرته سوى معرفة الله وشؤونه وتجلّياته.
4- بالتفكّر يزدهر العلم في القلب وتحصل اليقظة، وبالتّلقين تتبدّل الحقائق المكتسبة إلى ذكر، فيعمر القلب بالإيمان.
5- يُستجلب نور الإيمان بالتّوجّه إلى آيات الله في العالم وانتزاع الحقائق منها بقوّة التفكّر، فجميع موجودات العالم هي من أجل دفع الإنسان نحو الإيمان والكمال.
6- من العوامل التي تساعد على اكتساب الإيمان أيضًا: حبّ الإمام عليّ عليه السلام ومحاسبة النفس وكظم الغيظ والزهد في الدنيا. وإخلاص النيّة.
7- العامل الأساس لضعف الإيمان واضمحلال نوره في القلب هو الابتعاد عن أسبابه الموجبة لتحصيله أو حصوله كالعلم والتفكّر والتذكّر.
8- ما يؤدّي إلى محق الإيمان وتزلزله: عشرة السّوء، المعاصي، الغفلة، الغضب، اتّباع الشّهوات، الحسد، الغيبة، المفاسد الأخلاقية، والمراء والجدال.
9- يجب الحرص على تعميق الإيمان في الظاهر والباطن والسّر والعلن، حتى يتجذّر الإيمان في القلب ولا يزول أمام أي عائق ومانع أو أي تغيير وتبديل.
70
46
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِلَهِي أَتُرَاكَ بَعْدَ الإِيمَانِ بِكَ تُعَذِّبُنِي أَمْ بَعْدَ حُبِّي إِيَّاكَ تُبَعِّدُنِي أَمْ مَعَ رَجَائِي لِرَحْمَتِكَ وَصَفْحِكَ تَحْرِمُنِي أَمْ مَعَ اسْتِجَارَتِي بِعَفْوِكَ تُسْلِمُنِي حَاشَا لِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ أَنْ تُخَيِّبَنِي لَيْتَ شِعْرِي أَلِلشَّقَاءِ وَلَدَتْنِي أُمِّي أَمْ لِلْعَنَاءِ رَبَّتْنِي فَلَيْتَهَا لَمْ تَلِدْنِي وَلَمْ تُرَبِّنِي وَلَيْتَنِي عَلِمْتُ أَمِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ جَعَلْتَنِي وَبِقُرْبِكَ وَجِوَارِكَ خَصَصْتَنِي فَتَقَّرُ بِذَلِكَ عَيْنِي وتَطْمَئِّنُ لَهُ نَفْسِي"1.
الروايات الشريفة:
1- قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: "الْخَشْيَةُ مِيرَاثُ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ شُعَاعُ الْمَعْرِفَةِ وَقَلْبُ الْإِيمَانِ"2.
2- و قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "نحن معاشر الأنبياء والأمناء والأتقياء برآء من التكلف، فاتق الله واستقم يغنك عن التكلف ويطبعك بطباع الايمان، ولا تشتغل بلباس آخره البلاء وطعام آخره الخلاء ودار آخرها الخراب ومال آخره الميراث وإخوان آخرهم الفراق وعز آخره الذلّ ووقار آخره الجفاء وعيش آخره الحسرة"3.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: يَا بُنَيَّ اعْرِفْ مَنَازِلَ الشِّيعَةِ عَلَى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ هِيَ الدِّرَايَةُ لِلرِّوَايَةِ وَبِالدِّرَايَاتِ لِلرِّوَايَاتِ يَعْلُو الْمُؤْمِنُ إِلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ، إِنِّي نَظَرْتُ فِي كِتَابٍ لِعَلِيٍّ عليه السلام فَوَجَدْتُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ قِيمَةَ كُلِّ امْرِئٍ وَقَدْرَهُ مَعْرِفَتُهُ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحَاسِبُ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ فِي دَارِ الدُّنْيَا"4.
4- قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟ فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: قُولُوا، فَقَالُوا: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ: إِنَّ لِلصَّلَاةِ فَضْلًا وَلَكِنْ لَيْسَ بِالصَّلَاةِ، قَالُوا: الزَّكَاةُ، قَالَ: إِنَّ لِلزَّكَاةِ فَضْلًا وَلَيْسَ بِالزَّكَاةِ، فَقَالُوا: صَوْمُ شَهْرِ
1 الصحيفة السجادية، مناجاة الخائفين.
2 مصباح الشريعة، ص 20.
3 (م.ن)، ص 140.
4 بحار الأنوار، ج1، ص 106.
71
47
الدرس الرابع: المؤمن (4) - عوامل قوة وضعف الإيمان
رَمَضَانَ، فَقَالَ: إِنَّ لِرَمَضَانَ فَضْلًا وَلَيْسَ بِرَمَضَانَ، قَالُوا: فَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، قَالَ: إِنَّ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَضْلًا وَلَيْسَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، قَالُوا: فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ: إِنَّ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَضْلًا وَلَيْسَ بِالْجِهَاد،ِ قَالُوا: فَاللهُ وَرَسُولُهُ وابْنُ رَسُولِهِ أَعْلَمُ، فَقَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ تَوَالِي وَلِيِّ اللهِ وَتَعَادِي عَدُوِّ اللَّهِ"1.
5- أَقْبَلَ عَلِيٌّ عليه السلام عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الصَّحَابَةِ! وَاللهِ مَا تَقَدَّمْتُ عَلَى أَمْرٍ إِلَّا مَا عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَطُوبَى لِمَنْ رَسَخَ حُبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِي قَلْبِهِ لِيَكُونَ الْإِيمَانُ أَثْبَتَ فِي قَلْبِهِ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ فِي مَكَانِه"2.
6- وَرُوِيَ أَنَّ جَبْرَائِيلَ نَزَلَ إِلَى آدَمَ عليه السلام بِالْحَيَاءِ وَالْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ فَقَالَ: "رَبُّكَ يَقُولُ لَكَ تَخَيَّرْ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ وَاحِداً فَاخْتَارَ الْعَقْلَ، فَقَالَ جَبْرَائِيلُ لِلْإِيمَانِ وَالْحَيَاءِ ارْحَلَا، فَقَالا أُمِرْنَا أَنْ لَا نُفَارِقَ الْعَقْلَ"3.
7- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "تَفَضَّلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ فَأَنْتَ أَمِيرُهُ وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ فَأَنْتَ نَظِيرُهُ وَافْتَقِرْ إِلَى مَنْ شِئْتَ فَأَنْتَ أَسِيرُهُ، وَالطَّامِعُ مَنْزُوعٌ عَنْهُ الْإِيمَانُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَحْجُزُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الطَّمَعِ فِي الْخَلْقِ فَيَقُولُ يَا صَاحِبِي خَزَائِنُ اللهِ تَعَالَى مَمْلُوَّةٌ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وَمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مَشُوبٌ بِالْعِلَلِ وَيَرُدُّهُ إِلَى التَّوَكُّلِ وَالْقَنَاعَةِ وَقَصْرِ الْأَمَلِ وَلُزُومِ الطَّاعَةِ وَالْيَأْسِ مِنَ الْخَلْقِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَزِمَهُ فَقَدْ صَلَحَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ تَرَكَهُ مَعَ شُؤْمِ الطَّبْعِ وَفَارَقَه"4.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لاَ يَصْدُقُ إِيمَانُ عَبْد، حَتّى يَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللهِ سُبْحَانَهُ أَوْثَقَ مِنهُ بِمَا فِي يَدِهِ"5.
1 الكافي، ج2، ص 125.
2 بحار الأنوار، ج39، ص 352.
3 إرشاد القلوب، ص 111.
4 مصباح الشريعة، ص 105.
5 نهج البلاغة، ص 529.
72
48
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن ماهيّة العلم الحقيقيّ الذي تعشقه الفطرة.
2- يتعرّف إلى أهميّة العلم ودوره في نيل المقامات المعنويّة.
3- يبيّن دور الإخلاص وتطهير النّفس في نيل العلم.
73
49
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
تمهيد
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾1.
إنّ علاقة الإنسان بالعلم تكشف عن حاله وموقعه على طريق التّكامل والتّسافل. فإذا كان التّكامل تعبيرًا عن حبّ الله تعالى يكون حاله كما جاء في الحديث: "إِذَا أَراد اللهُ بعَبْد خيراً فَقَّهَهُ فِي الدِّين وألهمه اليقين"2، والفقه هو الفهم والتعلّم الواعي. وإذا كان سالكًا سبيل التّسافل، فإنّه يكون من المطرودين وهو الذي ينطبق عليه قول الإمام عليّ عليه السلام: "إِذَا أَرْذَلَ اللهُ عَبْداً حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ"3.
فحبّ العلم والتعلّم مؤشّرٌ واضحٌ على الحياة المعنويّة الحقيقيّة. وفي المقابل، إنّ النّفور من العلم أو الحرمان منه أو الإعراض عنه لغيره (مهما كان هذا الغير) هو من علائم الشّقاء.
بدايةً لا بدّ أن نميّز بين العلم كمصطلح ورد في النّصوص الدّينيّة والعلم الذي يُستخدم اليوم بمعنى منهجيّة البحث عن الواقع والحقيقة والذي يُجمع تحت العلوم. فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق: "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء"4. والإمام الخمينيّ قدس سره يقدّم لنا مجموعة من الملاحظات المهمّة حول حقيقة العلم وماهيّته تساعدنا في تلمّس درب الهداية وسط صخب وضوضاء العلوم.
1 سورة فاطر، الآية 28.
2 مستدرك الوسائل، ج11، ص 200.
3 نهج البلاغة، ص 526.
4 مصباح الشّريعة، ص 16.
75
50
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
حقيقة العلم
1- العلم من جنود العقل
"اعلم، أنّ العلم والجهل اللذين عُدّا في هذا الموضع من الحديث الشّريف من جنود العقل والجهل، وهما غير العقل والجهل نفسيهما... فشأن العقل العلمُ، لأنّ العقل حقيقةُ مجرّدةٌ غير محجوبة، وهي متّصلة بالبرهان، لذا فهي حقيقةٌ عاقلة عالمة"1.
ولكي لا نحصر العقل بالبرهان، يقول الإمام قدس سره: "ويجدر التنبُّه إلى أنّ المقصود الأصليّ ليس العلم بالله برهانيًّا، بل المعيار في الكمال هو معرفة الله التي تكون أعلى مراتبها مرتبة الفناء المطلق فيه، وهي المرتبة التي تعني رفض التّعيّنات ونفض غبار الأنانيّة والإنيّة. رزقنا الله وجميع المؤمنين ذلك"2.
2- العلم الحقيقي آية
"اعلم أنّ كثيرًا من العلوم تندرج على تقدير في قسم من الأقسام الثلاثة التي ذكرها رسول الله3، وعلى تقدير آخر في قسم آخر. مثلاً: إنّ علم الطّبّ والتّشريح والنّجوم والأفلاك وما يضاهيها، إذا جعلناها آية وعلامة، وكذلك علم التاريخ وأمثاله، إذا ألقينا عليه نظرة اعتبار واتّعاظ، اندرج جميعها في (الآية المحكمة)، لأنّه يحصل بواسطتها العلم بالله أو بالمعاد، أو يتأكّد العلم بالله وبالمعاد وقد يندرج تحصيلها في (الفريضة العادلة) وقد يندرج تحت (السنّة القائمة). وأمّا إذا كانت دراسة هذه العلوم، لأجل ذاتها أو لأجل أهداف أخرى، فلو شغلتنا عن علوم الآخرة، لأصبحت مذمومة بالعرض، لأنّها صرفت النّاس عن الآخرة، وإن لم تشغلنا عن علوم الآخرة فليس فيها ضررٌ أو نفع، كما قال رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم. فالعلوم بصورة كليّة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 جنود العقل والجهل، ص 238-239.
2 (م.ن)، ص 242.
3 عن أبي الحسنِ موسى عليه السلام قالَ: "دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الْمَسْجِدَ فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هذَا؟ فَقيلَ: عَلاَّمَةٌ، فَقَالَ: وَمَا الْعَلاَّمَةُ؟ فَقَالُوا لَهُ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ العَرَبِ وَوَقَائِعِهَا وَأَيّامِ الجَاهِلِيَّةِ وَالأَشْعَارِ العَرَبِيَّةِ، قَالِ: فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: ذاكَ عِلْمٌ لاَ يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ وَلاَ يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّما العِلْمُ ثَلاَثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلاهُنَّ فَهُو فَضْلٌ" الكافي، ج1، ص32.
76
51
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
الأوّل: ما كان نافعًا للإنسان حسب أحواله في النّشآت الأخرى التي يعتبر الوصول إليها غاية التّكوين والكائنات. وهذا القسم هو الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمًا، وقسّمه إلى الأقسام الثّلاثة التي وردت في الحديث الشّريف.
الثّاني: ما يضرّ بالإنسان ويصرفه عن وظائفه اللازمة. ويكون هذا القسم من العلوم المذمومة التي يجب على الإنسان أن لا يقترب منها مثل علم السّحر، والشّعوذة وأمثالهما...
الثالث: ما لا يوجد فيها ضرر ولا نفع، فيهدر الإنسان وقته عليها للتسلّي والتلهّي، مثل علم الموسيقى وعلم الأنساب والحساب والهندسة والأفلاك وأمثال ذلك. ولو استطاع الإنسان أن يُدخل هذا النّوع من العلم تحت واحد من العلوم الثّلاثة لكان أفضل. وإن لم يتمكّن من ذلك، فعدم الاشتغال يكون حسنًا. لأن الإنسان العاقل عندما عرف بأنّه مع هذا العمر القصير، والوقت القليل، والحوادث الكثيرة، لا يستطيع أن يكون جامعًا لكلّ العلوم وحائزًا على جميع الفضائل، فلابدّ له من التّفكير والتأمّل في العلوم، واختيار ما يكون له أنفع، والانصراف إليه، وتكميله. ومن العلوم ما هو أنفع من كلّ العلوم وأهمّها بالنّسّبة إلى حياته الأبديّة الخالدة هو العلم الذي أمر به الأنبياء عليهم السلام والأولياء، وحثّوا النّاس على تعلّمه، وهو هذه العلوم الثلاثة التي ذكرناها"1.
3- العلم الذي تعشقه الفطرة
"هناك اختلاف بين بني الإنسان في تشخيص مصاديق العلم، وهذا الاختلاف ناتجٌ من احتجاب الفطرة التي تحبُّ في الواقع العلم المطلق، ولكن يجب التنبُّه إلى أنّ العلم الذي تعشقه الفطرة ليس هو العلم المعروف عند العامّة والذي يعني العلم بالمفاهيم والعناوين والعلم الارتسامي، فهذه العلوم ناقصة من جهات عدّة وإن كان فيها ـ في أحد أبعادها ـ العلم الحقيقيّ، وكل ما فيه نقص هو خارج عن دائرة العشق الفطريّ، من هنا فإنّ جميع العلوم الجزئيّة والعلوم الكلّية المفهوميّة حتّى العلم (المفهوميّ) بالله وشؤونه الذاتيّة والصّفاتيّة
1 الأربعون حديثًا، ص 429-430.
77
52
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
والأفعاليّة، ليست هي العلم الذي تعشقه الفطرة السّليمة، بل إنّ ما تعشقه هو المعرفة على نحو المشاهدة الحضوريّة، وهذه المعرفة تحصل برفع الحجب، والحجب كافّة من النّقص والعدم، ولا تصل الفطرة إلى معشوقها ومطلوبها إلّا بعد إزاحة هذه الحجب كافّة، الظّلمانيّة منها والنّورانيّة، وعندها يتحقّق للفطرة شهود "كلّ الكمال" وتصل الفطرة إلى محبوبها: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾، وإليه المرجع والمآب"1.
و"يتَّضح من الرّجوع إلى الفطرة الإنسانيّة أنّ كلّ إنسان عاشقٌ للكمال المطلق... وأنّ الجميع متنفّرون من النّقص، ولأن العلم قرينٌ مساوق للكمال المطلق، فإنّ العشق للكمال عشقٌ للعلم أيضاً، كما أنّ الجهل قرين النّقص ومساوق له، لذا فالجميع متنفّرون منه. يُضاف إلى ذلك أنّ الفطرة تعشقُ العلم بذاته وتكره الجهل بذاته كما هو واضحٌ من الرّجوع إلى الفطرة الإنسانيّة.
... من هنا، ومن الإيضاحات السّابقة أيضًا، يتَّضح أنّ العلم من لوازم الفطرة أي أنّ الفطرة التي لم تحتجب ولم تنغمر في غلاف الطّبيعة متوجّهة إلى المعرفة المطلقة أمّا إذا احتجبت فإنّها تبتعد عن هذه المعرفة بمقدار احتجابها حتّى تصل إلى مرتبة الجهالة المطلقة"2.
4- العلم نور
"اعلم أنّ حقيقة العلم والإيمان الذي يتقوّم بالعلم، عبارة عن النّور، وهذا الموضوع مضافًا إلى أنّه مطابق مع البرهان والعرفان، موافق لنصوص وأخبار أهل العصمة والطّهارة عليهم السلام أيضًا. لأنّ حقيقة النّور التي هي عبارة عن الظّاهر والمكشوف بالذّات، المظهر والكاشف للغير، ثابتة للعلم وصادقة عليه، بل صدق هذه الحقيقة على العلم يكون حقيقيًّا، وعلى الأنوار الحسّيّة، مجازيًّا، لأنّ النّور الحسّيّ، لا ظهور ذاتيّ له في الحقيقة وإنّه من تعيّنات ـ مصاديق ـ تلك الحقيقة، وتكون لها الماهيّة، وأمّا حقيقة العلم، فهي عين الوجود ذاتًا، وغيره مفهومًا، فهو في حاقّ الحقيقة، وعالم الخارج موافق للوجود ومتّحد معه، وتكون حقيقة الوجود عين
1 جنود العقل والجهل، ص 243-244.
2 (م.ن)، ص 243-244.
78
53
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
النّور، وعين العلم ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾1. فالعلم عين النور. وقد عُبّر في الآيات الشّريفة عن الإيمان والعلم بالنور ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾2.
وقد فُسّر (النور) حسب تفسير أهل بيت العصمة عليهم السلام في آية النّور المباركة بالعلم، فَعَنْ الصادِق ـ عليه السلام: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال: كَذلِكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَثَلُ نورِهِ قالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، كَمِشْكوةِ قالَ: صَدْرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، فيها مِصْباحٌ، قالَ: فيهِ نورُ الْعِلْم يَعْني النُّبُوَّةَ، الْمِصْبَاحُ في زُجاجَةٍ قالَ: عِلْمُ رَسولِ الله صَدَرَ إلى قَلْبِ عَلِيٍّ ـ وورد في الحديث المعروف: "الْعِلْمُ نورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ في قَلْبِ مَنْ يَشاءُ". ولهذا النور مراتب، حسب مراتب إيمان وعلم ذوي النور"3.
5- العلم مناقض للأهواء
"اعلمْ، أنّ العلم الإلهيّ النّافع أو العمل الصّالح المطلوب هو كلّ علمٍ أو عمل يُبعد الإنسان عن الأهواء النّفسانيّة والصّفات الشّيطانيّة، ويحدّ من طغيان النّفس، والعكس صحيح، فكلّ علمٍ أو عمل يبعث في الإنسان العُجب بالنّفس والطّغيان، أو على الأقل لا يطهرِّه من الصّفات النّفسانيّة والرّذائل الشّيطانيّة، فهو علم أو عمل مصدره الشّيطان والنّفس الأمّارة بالسّوء، فليس مثل هذا العلم علمًا إلهيًّا نافعًا وإن كان يُصنّف اصطلاحًا من المعارف الإلهيّة، وليس مثل هذا العمل صالحًا نافعًا للرّوح وإن كانت الشّروط (الظاهرية) للعمل الصّالح مجتمعةً فيه"4.
6- العلم فيض إلهيّ غيبيّ
"إنّ إلقاء العلوم والمعارف من العوالم الغيبية، ومن نتائج ارتباط النّفس بها ـ وتقبّلها للعلوم ـ كما ورد في الحديث الشريف: "لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ التَّعْلِيمِ بَلْ هُوَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ"، فكلّ نفس ذات ارتباط مع الملكوت الأعلى وعالم الملائكة المقرّبين، تكون الإلقاءات إليها من نوع الفيوضات الملكيّة، والعلوم التي تُفاض عليها هي من العلوم الحقيقيّة ومن عالم الملائكة.
1 سورة النور، الآية 35.
2 سورة النّور، الآية 40.
3 الأربعون حديثًا، ص 453-454.
4 جنود العقل والجهل، ص 306.
79
54
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
وكلّ نفس منشدّة إلى عالم الملكوت السّفليّ، وعالم الجنّ والشّيطان والنّفوس الخبيثة، كانت الإلقاءات إليها شيطانيّة ومن قبيل الجهل المركّب، والحُجب المظلمة.
ومن هذا المنطلق يرى أرباب المعارف ـ العرفاء ـ وأصحاب العلوم الحقيقية أنّ تطهير النّفوس، وإخلاص النيّة، وتصحيح الغايات والأهداف في تحصيل العلم وخاصّة في دراسة المعارف الحقّة والعلوم الشّرعيّة، هو الشّرط الأوّل في ذلك، ويؤكّدونه على المتعلّمين، لأنّه مع تصفية النّفس، وتجليتها، يشتدّ ارتباطها بالمبادئ العالية. وعندما يقول الرّبّ جلّ جلاله في الآية الكريمة ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾ فلأجل أنّ التّقوى تزكّي النّفس وتربطها بعالم الغيب المقدّس ثمّ يكون التّعليم الإلهيّ والإلقاء الرّحمانيّ، لأنّ البخل في المبادئ العالية، محال، وإنّ فيضها يكون واجبًا، إذ إنّ واجب الوجود بالذّات، واجب من جميع الجهات والحيثيّات"1.
فالعلم لا ينحصر في إطار المفاهيم، بل هو كشف الحقيقة بحسب الإدراك الحقيقيّ الذي هو إدراك القلوب بالشّهود. وعلى ضوء هذا التّعريف، ينبغي تمييز مراتب العلم، بعد أن اتّضح الفارق بينه وبين العلم الاصطلاحيّ المرتبط بالعلوم.
أهميّة العلم
ذكر الإمام قدس سره أنّ العلم هو من أعظم الفضائل، وأنّه طريق إلى الجنّة وأنّ لحملته ولادة روحانيّة تنبثق من أبوّة الأنبياء عليهم السلام، وأنّ فضل العالِم على العابد كفضل القمر على النّجوم ليلة البدر، وأنّه من أهم علامات القرب من الحقّ المتعال، وأنّه أهم عنصر في الزّهد والإعراض عن الدّنيا الدنيّة الغرور، ولا يمكن لأحد أن يبلغ المقامات الكماليّة والدّرجات الأخرويّة إلّا به.
وقد استفاد الإمام قدس سره هذه الحقائق من فهمه وغوره في الأحاديث الشّريفة لأهل بيت العصمة عليهم السلام فنهض شارحًا ومفسّرًا لها ليقدّم لنا تراثًا عظيمًا من المعارف الإلهيّة.
1 الأربعون حديثًا، ص 403-404.
80
55
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
1- نورانيّة كلّ إنسان في الآخرة بحسب علمه
"لا بد من معرفة أن هذا النور الحقيقي الموجود في قلوب أهل الإيمان والعلم، لمّا كان من أنوار عالم الآخرة، (فهو) ينير في عالم الآخرة حسب فعالية النفس بالنور الحسّي. وحيث أن هذا النور هو الذي ينير الصراط، يكون نور طائفة مثل نور الشمس وأخرى مثل نور القمر حتى ينتهي الأمر إلى نور يضيء أمام قدميه فقط"1.
2- محل عناية ملائكة الله
"إن طلبة العلم والمعارف، والمتوجّهين إلى الحقّ والحقيقة، والسّالكين لسبيل رضا الله من الأبناء الرّوحانيين لآدم صفيّ الله عليه السلام الذين يكونون مسجودًا للملائكة ومطاعًا لتمام دائرة الوجود، هؤلاء يكونون محل عناية ملائكة الله، ورعايتهم وتأييدهم وإنّ مثل هذا المُلكيّ الذي تحوّل إلى وجوديّ ملكوتيّ، وهذا الأرضيّ الذي أصبح سماويًّا قد وطأت أقدامهم أجنحة الملائكة، فإذا انفتحت عين بصيرته الملكوتيّة والمثاليّة لرأى بأنّه مستقرّ على أجنحة الملائكة، وأنّه يطوي المسافات بفضل تأييداتهم. هذا بالنسبة إلى الذين هاجروا من المُلك إلى الملكوت، وإن كانوا لا يزالوا في الطّريق. وأمّا الذين، لا يزالون يعيشون في عالم الملك، ولم يطرقوا عالم الملكوت، فمن الممكن أن يكونوا محلّ تأييد ولطف الملكوتيين، حيث يفترشون أجنحتهم تواضعًا لهم وابتهاجاً بهم وبأعمالهم. كما أشير إلى ذلك في هذا الحديث الشّريف وفي حديث (غوالي اللئالئ). عن المقداد ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال: "سَمِعْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: إن الْمَلائِكَة لَتَضَعُ أَجْنِحَتَها لِطالِبِ الْعِلْمِ حَتى يَطَأ عَلَيْها رِضاً بِهِ"... فلمّا لم يكن هذا الكلام معارضاً للبرهان، بل يوافقه، فلا داعي إلى تأويله"2.
3- أفضل عبادة ومقام
"لابدّ وأن نعرف بأنّ العبادة لا تتحقّق من دون علم أيضًا، ومن هنا يكون للعابد نور مخصوص به، بل إنّ نفس الإيمان وعبادة الحقّ المتعالي من سنخ النّور ولكن نور العابد،
1 الأربعون حديثًا، ص 454.
2 (م.ن)، ص 449 - 450.
81
56
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
يضيء لنفسه، وينير تحت أقدامه، ولا ينير للآخرين ولهذا يكون مثلهم مثل النّجوم ليلة البدر، حيث تختفي أنوارها أمام نور القمر ليلة البدر، وإنّما تضيء لنفسها من دون أن تنفع الآخرين وتسطع لهم. فمثل العابد أمام العالم، لا يكون مثل النّجمة في الليل المظلم حتّى ينير قدرًا من المساحة المحيطة بالنّجمة وإنّما يضيء بمثل إضاءة النّجمة ليلة البدر حيث تكون ظاهرة وغير مظهرة لشيءٍ آخر"1.
4- علامة القرب
"اعلمْ، أنّ العلم من أفضل الكمالات وأعظم الفضائل، فهو من أشرف الأسماء الإلهيّة ومن صفات الموجود بما هو موجود، وببركته انتظم نظام الوجود وطراز الغيب والشّهود، وكلّ موجود يكون تحقّقه بحقيقة العلم الشّريفة أقوى، فهو أقربُ إلى المقام المقدّس للحقّ تعالى وإلى المرتبة القدسيّة للواجب جلّ وعلا: بل إنّ العلم مساوقٌ للوجود، فحيثما سطع شعاع الوجود كان معه، وبمقداره شعاع نور العلم، ولذلك، فإنّ الخلوّ التامّ من حقيقة العلم يعني الخلوّ التامّ أيضًا من حقيقة الوجود، والفاقد لهذه الحقيقة هو العدم المطلق. وهذا الأمر قائمٌ على برهان عقليّ رصين، هو برهان "دار الوجود هي دار العلم"، فلا تخلو أيّ ذرّة من الموجودات ـ حتّى الجمادات والنّباتات ـ من العلم، بل إنّ لها نصيبًا من العلم يتناسب مع مقدار نصيبها من حقيقة الوجود"2.
5- الإعراض عن الدّنيا
"قال تعالى شأنه في وصف قارون: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾3. فالذين أنِست قلوبهم بالدّنيا وجعلوها وزينتها مطلوبهم، تفجّرت أمانيّهم وتأسّفوا حسرةً على عدم امتلاكهم لما عند قارون، لمّا رأوه خارجًا في زينته، أمّا الذين أوتوا العلم وتفضّل الله عليهم بالعلم بغيب هذا الظّاهر، لم تؤثّر فيهم زينة الدنيا وقارون، لأنّهم كانوا يطلبون
1 الأربعون حديثًا، ص 455.
2 جنود العقل والجهل، ص 240-241.
3 سورة القصص، الآيات 79 – 80.
82
57
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
ثواب الله، وقد عرفوا أنّ سبيلهم إليه الصّبر عن الزّخارف الدنيويّة"1.
و"لعلّه ما اهتُمّ بشيء في كتاب الله ووصايا الأنبياء والأولياء عليهم السلام وخصوصًا أمير المؤمنين عليه السلام مثلما اهتُمّ بترك الدّنيا والزّهد فيها والإعراض عنها الذي هو من حقائق التّقوى. ولا تحصل هذه المرتبة من التّطهير إلّا بالعلم النّافع والرّياضات القلبيّة القويّة وصرف الهمّة في التفكّر في المبدأ والمعاد وإشغال القلب بالاعتبار في أفول الدّنيا وخرابها وكرامة العوالم الغيبيّة وسعادتها: "رحم الله امرءاً علم من أين وفي أين وإلى أين"2.
6- شرط لبلوغ المقامات المعنويّة
"من دون معرفة الحقّ سبحانه وعبوديّته لا يمكن لأحد من عباده أن يبلغ المقامات الكماليّة والمدارج الأخرويّة ... ولمّا كان كذلك فقد فتح الله تعالى بلطفه الشّامل ورحمته الواسعة بابًا من الرّحمة والرّعاية بالعباد عن طريق تعليمات الوحي الغيبيّة والإلهام، وبوساطة الملائكة والأنبياء. ذلكم هو باب العبادة والمعرفة. فعلّم العباد طرق عبادته، وفتح لهم سبيلًا إلى المعارف لكي يخفّفوا من نقائصهم قدر الإمكان، ويسعوا لنيل الكمالات الممكنة، ويهتدوا بأشعّة نور العبوديّة للوصول إلى عالم كرامة الحقّ، وإلى الرّوح والرّيحان وجنّات النّعيم، بل إلى رضوان الله الأكبر"3.
7- طريق الجنّة
"العلوم في أيّ مستوى كانت: سواء كان علم المعارف أو غيره فهي السّبيل للوصول إلى الجنّة التي تتناسب مع ذلك العلم، وسالك سبيل كلّ علمٍ، سالك لطريق من طرق الجنّة... العلوم بصورة عامّة، طريق إلى العمل، حتّى علوم المعارف إلاّ أنّ الأعمال التي تنجم من علم المعارف، هي أعمال قلبيّة، وجذبات باطنيّة، وتكون نتيجة تلك الأعمال والجذبات وصورها الباطنيّة، صورة جنّة الذّات واللقاء"4.
1 جنود العقل والجهل، ص 279-280.
2 معراج السالكين، ص 103-104.
3 الأربعون حديثًا، ص 260.
4 (م.ن)، ص 446-447.
83
58
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
موعظة
"فويلٌ لك أيّها المسكين المبتلى بحفنة من المفاهيم، والمتشاغل بمجموعة من الاصطلاحات، لقد قضيت عمرك في الانحدار إلى أعماق مستنقع الطبيعة، فابتعدت ــ بوسيلة العلوم والمعارف الحقّة عن الحقّ تعالى! لقد خنتَ المعارفَ إذ اتّخذت الحقّ تعالى والعلم الإلهيّ أداةً لعملك الشّيطانيّ، فاستيقظ قليلًا من نومة الغفلة ولا تثلج صدرك بهذه المفاهيم، ولا تنخدع بمكائد إبليس اللعين، فهو يسوقك إلى الهلكة ويبعدك عن منزل الكرامة الإنسانية وعن قرب الحق تعالى"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 308.
84
59
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ علاقة الإنسان بالعلم تكشف عن حاله وموقعه على طريق التّكامل والتّسافل. فحبّ العلم والتعلّم هو مؤشّرٌ واضحٌ على الحياة المعنويّة الحقيقيّة، وهو شرط لبلوغ المقامات. وفي المقابل، إنّ النّفور من العلم أو الحرمان منه أو الإعراض عنه لغيره (مهما كان هذا الغير) هو من علائم الشّقاء.
2- طالب العلم الحقيقيّ يحدّد قيمة كلّ علم من العلوم وموقفه منه على أساس دوره في إيصاله إلى المطلوب الحقيقيّ والمقصد الواقعيّ.
3- العلم من جنود العقل والجهل، وهو نورٌ كاشفٌ عن الحقيقة، وفيضٌ إلهيّ غيبيّ.
4- إنّ العلم من لوازم الفطرة ومعشوقها، إلا أنّ العلم الذي تعشقه الفطرة هو المعرفة على نحو المشاهدة الحضوريّة، والتي تحصل برفع الحجب الظّلمانيّة والنّورانيّة.
5- إنّ العلم الإلهيّ النّافع أو العمل الصّالح المطلوب هو كلّ علمٍ أو عمل يُبعد الإنسان عن الأهواء النّفسانيّة والصّفات الشّيطانيّة، ويحدّ من طغيان النّفس.
6- الشّرط الأوّل لتحصيل العلم والارتباط بالمبادئ العالية هو تطهير النّفوس وإخلاص النيّة.
7- من شأن العلم أن يورّث نورانيّة لكلّ إنسان في الآخرة بحسب علمه وهو من أهم علامات القرب، وبه تحصل الولادة الملكوتيّة والنبوّة الرّوحانيّة والإعراض عن الدّنيا.
8- العلم هو أفضل عبادة ومقام، والعبادة بحدّ ذاتها لا تتحقّق من دون علم، ومن هنا يكون للعابد نورٌ مخصوصٌ به.
85
60
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَقِنَا مِنْكَ، وَاحْفَظْنَا بِكَ، وَاهْدِنَا إِلَيْكَ، وَلاَ تُبَاعِدْنَا عَنْكَ إِنَّ مَنْ تَقِهِ يَسْلَمْ وَمَنْ تَهْدِهِ يَعْلَمْ، وَمَنْ تُقَرِّبْهُ إِلَيْكَ يَغْنَم"1.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "قَالَ قَرَأْتُ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ عليه السلام إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْخُذْ عَلَى الْجُهَّالِ عَهْداً بِطَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ عَهْداً بِبَذْلِ الْعِلْمِ لِلْجُهَّالِ لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ قَبْلَ الْجَهْلِ"2.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام فِي هَذِهِ الْآيَةِ ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾، قَالَ: "لِيَكُنِ النَّاسُ عِنْدَكَ فِي الْعِلْمِ سَوَاءً"3.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام عَنْ آبَائِهِ عليه السلام قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْعِلْمُ؟ قَالَ: الْإِنْصَاتُ، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: الِاسْتِمَاعُ، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: الْحِفْظُ، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: الْعَمَلُ بِهِ، قَالَ: ثُمَّ مَهْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَشْرُه"4.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "اللَّهُمَّ وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَأْرِزُ كُلُّهُ وَلَا يَنْقَطِعُ مَوَادُّهُ"5.
5- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الْعِلْمُ عِلْمَانِ عِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ فَذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ آدَمَ وَعِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ"6.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام لنفسه وأهل ولايته.
2 الكافي، ج1، ص 41.
3 (م.ن).
4 (م.ن)، ص 48.
5 (م.ن)، ص 335.
6 بحار الأنوار، ج2، ص 33.
86
61
الدرس الخامس: العلم (1) - حقيقة العلم وأهميته
6- عن أبي عبد الله عليه السلام: "قَلِيلُ الْعَمَلِ مِنَ الْعَالِمِ مَقْبُولٌ مُضَاعَفٌ وَكَثِيرُ الْعَمَلِ مِنْ أَهْلِ الْهَوَى وَالْجَهْلِ مَرْدُودٌ"1.
7- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "الْعِلْمُ جُنَّةٌ وَالصِّدْقُ عِزٌّ وَالْجَهْلُ ذُلٌّ وَالْفَهْمُ مَجْدٌ وَالْجُودُ نُجْحٌ وَحُسْنُ الْخُلُقِ مَجْلَبَةٌ لِلْمَوَدَّةِ وَالْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ وَالْحَزْمُ مَسَاءَةُ الظَّنِّ وَبَيْنَ الْمَرْءِ والْحِكْمَةِ نِعْمَةُ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلُ شَقِيٌّ بَيْنَهُمَا وَاللهُ وَلِيُّ مَنْ عَرَفَهُ وَعَدُوُّ مَنْ تَكَلَّفَهُ"2.
8- عَنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "أَيُّهَا النَّاسُ اعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلُ بِهِ أَلَا وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَوْجَبُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِ الْمَالِ إِنَّ الْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَكُمْ قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَيْنَكُمْ وَضَمِنَهُ وَسَيَفِي لَكُمْ وَالْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ فَاطْلُبُوهُ"3.
9- عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "اغْدُ عَالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً أَوْ أَحِبَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَلَا تَكُنْ رَابِعاً فَتَهْلِكَ بِبُغْضِهِم"4.
10- عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لَطَلَبُوهُ وَلَوْ بِسَفْكِ الْمُهَجِ وَخَوْضِ اللُّجَجِ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَانِيَالَ أَنَّ أَمْقَتَ عَبِيدِي إِلَيَّ الْجَاهِلُ الْمُسْتَخِفُّ بِحَقِّ أَهْلِ الْعِلْمِ التَّارِكُ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَأَنَّ أَحَبَّ عَبِيدِي إِلَيَّ التَّقِيُّ الطَّالِبُ لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ اللَّازِمُ لِلْعُلَمَاءِ التَّابِعُ لِلْحُلَمَاءِ الْقَابِلُ عَنِ الْحُكَمَاءِ"5.
1 الكافي، ج1، ص 17.
2 (م.ن)، ص 26.
3 (م.ن).
4 (م.ن)، ص 34.
5 (م.ن)، ص 35.
87
62
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح أهميّة إخلاص النيّة في طلب العلم.
2- يتعرّف إلى غاية العلم وأهدافه.
3- يفهم علامات العلم والعالِم الحقيقيّ.
89
63
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
تمهيد
لا يكفي أن يحبّ الإنسان الفضائل، بل ينبغي أن يسعى لتحصيلها وتحقيقها. ولا شك بأنّ لحبّ العلم تأثيرًا واضحًا في جذب المحبّ إلى هذه الفضيلة الكبرى، لكن غالبًا ما يحدث أن يضيع محبّو العلم في متاهات العلم الفضوليّ الذي لا تأثير له على سعادة الإنسان وكماله. وكثيرًا ما ينتهي هؤلاء إلى فقدان تلك الجاذبة المهمّة ويتحوّل طلبهم للعلم إلى تحصيل الاعتبارات والأمور الدّنيويّة.
لهذا يحتاج طالب العلم إلى تحديد دقيق للعلم المطلوب ومعرفة دوره على مستوى الكمال والتّوظيف الصّحيح للمعارف التي ينالها.
وكل ذلك موقوف على صدق النيّة في الطلب وتحقّق الإخلاص الذي يتوّج بالعبوديّة، كما قال الإمام الصادق عليه السلام في وصيّته لعنوان البصري: "اطلب العلم واطلب معه العبوديّة".
إنّه العلم الذي يتبع التّكليف مثلما أنّه يساهم في كشفه. إنّه العلم الذي يبتعد عن الدّنيا وجاهها واعتباراتها. إنّه العلم الذي يسلك بصاحبه طريق الجنّة.
العلم بأيّ معلوم
انقسم النّاس فيما يتعلّق بأشرف معلوم إلى طوائف وفئات، حتّى وصل الأمر ببعضهم إلى حدّ العلم باللغة أشرف علم. وبمعزل عن المبرّرات التي يقدّمها هؤلاء، فإنّ الإجابة عن هذا السّؤال: "ما هو أشرف معلوم يتعلّق به علم الإنسان؟" ترجع إلى رؤية الإنسان الكونيّة وكيفيّة ترتيبه لنظام الوجود. ولا شكّ بأنّ العلم ـ وخصوصًا العلم بالله وأسماء ذاته المقدّسة وصفاتها وآياتها وكل ما يرتبط بها ـ هو من أعظم الفضائل، كما قال الإمام آنفًا.
91
64
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
وبناءً عليه، فإنّ كل ما يرتبط بذات الله يكون العلم به شريفًا بشرط أنّ يكون دليلًا عليه وطريقًا إلى العلم به. ويقول الإمام قدس سره: "إنّ لجميع الموجودات الممكنة الوجود جهتين ووجهتين: الجهة الأولى هي النّورانيّة والوجود والإطلاق والكمال وهذه هي الوجهة الغيبية الإلهيّة. والجهة الثّانيّة هي الظّلمة والتعيّن والماهيّة والنّقص: وهذه هي الوجهة النّفسانيّة للأشياء. والأشياء في الوجهة الأولى من الشّؤون الإلهيّة والآيات الربّانيّة، ولعلّ المراد من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "آية محكمة" في الحديث المرويّ عنه في الكافي الشّريف: "إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة.."1 ، هو العلم بالوجهة النورانيّة للأشياء، وهو علم ملازم لمعرفة الله. وشأن العقل إدراك تلك الجهة النّورانيّة التي هي من الآيات الإلهيّة، في حين أنّ شأن الوهم والجهل إدراك تعيّنات الأشياء، وهي جهالة مركّبة وسراب باطل لا حقيقة له: "ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل"2.
ويطرح الإمام رؤية شاملة حول المعلوم المطلوب الذي يكون العلم به نافعًا فيقول: "للإنسان ـ إجمالاً وبصورة كلية ـ نشآت ومقامات وعوالم ثلاث:
الأولى: نشأة الآخرة، وعالم الغيب، ومقام الروحانية والعقل.
الثانية: نشأة البرزخ وعالم متوسط بين العالمين، ومقام الخيال.
الثالثة: نشأة الدّنيا ومقام المُلك وعالم الشّهادة. ولكلٍّ منها كمال خاصّ وتربية خاصّة وعمل يتناسب مع نشأته ومقامه، وإنّ الأنبياء عليهم السلام يتولّون بيان تلك الأعمال.
فجميع العلوم النافعة تنقسم إلى هذه العلوم الثلاثة:
علم راجع إلى الكمالات العقلية والوظائف الروحية. وعلم راجع إلى الأعمال القلبية ووظائفها. وعلم راجع إلى الأعمال القالبية الخارجيّة، ووظائف النّشأة الظاهرة للنفس.
أمّا العلوم التي تقوّي العالم الرّوحانيّ، والعقل المجرّد وتربيتهما فهي: العلم بالذّات المقدّس الحقّ جلّ وعلا، ومعرفة أوصافه الجماليّة والجلاليّة، والعلم بالعوالم الغيبيّة المجرّدة... والعلم بالأنبياء والأولياء ومقاماتهم ومدارجهم، والعلم بالكتب المنزليّة،
1 عن النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّما العِلْمُ ثَلاَثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلاهُنَّ فَهُو فَضْلٌ" الكافي، ج1، ص32.
2 جنود العقل والجهل، ص 239-240.
92
65
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
وكيفيّة نزول الوحي، وتنزّل الملائكة والرّوح. والعلم بنشأة الآخرة وكيفيّة عودة الموجودات إلى عالم الغيب، وحقيقة عالم البرزخ والقيامة، وتفاصيل ذلك...
وملخّص الكلام أنّ العلم الذي يرتبط بالعالم الرّوحانيّ والعقل المجرّد، هو العلم بمبدأ الوجود وحقيقته ومراتبه وبسطه وقبضه وظهوره ورجوعه. ويتكفّل بيان هذا العلم بعد الأنبياء والأولياء، الفلاسفة والعظام من الحكماء وأصحاب المعرفة والعرفان.
أمّا العلوم التي ترتبط بتربية القلب وترويضه والأعمال القلبية فهي: العلم بالمُنجيات الخُلقُيّة والمهلكات الخُلقية، أي العلم بمحاسن الأخلاق مثل الصبر، والشّكر... والعلم بكيفيّة تحصيلها وأسباب حصولها ومبادئها وشرائطها. والعلم بقبائح الأخلاق مثل الحسد والكبر... وغير ذلك، والعلم بمبادئها التي تمنحها الوجود، والعلم بكيفيّة التنزّه عنها. والذي يتولىّ بيان هذه الأمور أيضًا الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ثمّ علماء الأخلاق وأصحاب الرّياضة الرّوحيّة وذوي المعارف.
والعلوم التي تُناط بها تربية الظّاهر وترويضه، علم الفقه ومبادئه، وعلم آداب المعاشرة وتدبير المنزل، وسياسة المُدُن ويتكفّل بشرحها الأنبياء ثمّ الأولياء عليهم السلام ثمّ علماء الظّاهر من الفقهاء والمحدّثين.
ولابدّ من معرفة أنّ كلّ واحد من هذه المراتب الثّلاث الإنسانيّة المذكورة مترابطة بدرجة تنعكس آثار كل مرتبة على المرتبة الأخرى من دون فرق في ذلك بين الأمور الكماليّة، أو الأمور القبيحة المعيبة.."1.
"إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قسمّ في هذا الحديث الشّريف2 العلوم إلى ثلاثة أقسام. ولاشكّ أنّ هذه العلوم الثلاثة، مرتبطة بهذه المراتب الثلاث كما تشهد بذلك العلوم السائدة في الكتب الإلهيّة وسنن الأنبياء وأحاديث المعصومين عليهم السلام، حيث تكون العلوم لديهم مقسّمة إلى هذه الأقسام الثلاثة"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 418-419.
2 عن النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّما العِلْمُ ثَلاَثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلاهُنَّ فَهُو فَضْلٌ" الكافي، ج1، ص32.
3 الأربعون حديثًا، ص 421.
93
66
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
أهداف العلم
بمعرفة الهدف من العلم يحقّق الطّالب الشّرط الأوّل في إخلاص النيّة الذي يهيّئ القلب للتوجّه إلى ملكوت العلم والمعارف. ولا شكّ بأنّ للنيّة مدخليّة في تنوير العلم أو ظلمانيّته. لهذا، يقول الإمام قدس سره: "لا بدّ من معرفة أنّ العلوم بصورة كليّة تنقسم إلى قسمين: أحدهما: العلوم الدّنيويّة التي هدفها الوصول إلى المآرب الدنيويّة. على أساس أنّ النيّة قد تكون الأنانيّة وقد تكون إلهيّة. والآخر: العلوم الأخرويّة التي يُقصد منها البلوغ إلى المقامات والدّرجات الملكوتيّة والوصول إلى المراتب الأخرويّة... "1. إنّ الإخلاص في طلب العلم يقتضي أن يحافظ الطّالب والعالِم على التوجّه القلبيّ نحو المقصد النّهائيّ. كما أنّ التوجّه الصّادق يحفظ مسيرة التعلّم ومساره الصّحيح، فلا ينحرف الطّالب ويتّجه نحو المقاصد الشّيطانيّة التي فيها الهلاك المبين والعاقبة الوخيمة. وفيما يلي نذكر بعض ما بيّنه الإمام من أهداف العلم:
1- مقدّمة للإيمان
"إنّني أيضاً لا أعتقد كثيراً بالعلم فقط، إنّ العلم الذي لا يفضي إلى الإيمان أراه الحجاب الأكبر، ولكن لو لم نرد الحجاب ولم نتعلّم لما تمكنّا من خرقه. إنّ العلوم بذور المشاهدات. وإنّه لمن الممكن أن يبلغ الإنسان إلى مقامات شامخة من دون تعلّم حجاب المصطلحات والعلوم، ولكن هذا خلاف العادة، وخلاف طبيعة السّنن، وإنه نادرًا ما يحصل. فالطّريق الطّبيعيّ لمعرفة الله وطلبه هو أنّ الإنسان يبتدئ أوّلًا بإنفاق وقت في التفكّر بالحقّ سبحانه، ويحصل على العلم بالله وأسماء ذاته المقدّس وصفاته حسب الأساليب المتّبعة من التّلمذة على يد رجال ذلك العلم، ثمّ يتزوّد من العارف بواسطة الرّياضة العلميّة والعمليّة وينتهي بذلك حتمًا إلى النّتيجة المنشودة"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 445.
2 (م.ن)، ص 489.
94
67
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
2- مقدّمة للعمل
"ذكرنا سابقًا بأنّ العلوم بأسرها تكون للعمل، حتى علوم المعارف الإلهيّة حيث لها انعكاسات عمليّة أيضًا. ونقول هنا بأنّ علم أحوال القلوب وكيفيّة صحّتها ومرضها وصلاحها وفسادها، من العلوم التي تُعدّ مقدمة للعمل، وأداة لعلاج القلب وإصلاحه. وأمّا الإحاطة بهذه الأمور واستيعابها لا يعتبر من الكمالات الإنسانيّة"1.
فعلى طالب العلم أن يطلب من وراء العلم والتعلّم رفع الحجب عن صفحة القلب ليتحقّق التّوجّه التّامّ إلى منابع العلم ومصادره. وعندها تتنزّل فيوضات الإيمان فيتّسع القلب ويصبح مستعدًّا لشهود الحقائق التي أدركها سابقًا على نحوٍ كلّيّ واستقرّ في قلبه نور الإيمان. ولا شكّ بأنّ من أراد ذلك كلّه، عليه أن يبحث في كلّ علم عن العمل به وعن الجانب التّطبيقيّ فيه لأنّه السّبيل إلى كلّ هذه التّوفيقات جميعًا.
3- رفع الحجب
"المقياس في العلم ليس تجميع المفاهيم الكليّة والاصطلاحات العلميّة، بل المقصود منه رفع الحجب عن عين البصيرة للنّفس وفتح باب معرفة الله، حيث يكون العلم الحقيقيّ هو مصباح هداية الملكوت، والصّراط المستقيم للتقرّب إلى الحقّ ودار كرامته. وكل ما عدا ذلك، وإن كان في عالم المُلك وقبل إزاحة حجب الطبيعة ـ الدّنيا ـ فهو في شكل العلم وصورته، وإنّ أصحابه لدى أهل الحوار والجدال، يُعدّون من العلماء والعرفاء والفقهاء. ولكنّه بعد تساقط الحجب عن وجه القلب، وكشف ستار الملكوت، والاستفاقة من السّبات العميق في عالم المُلك والطّبيعة ـ الدّنيا ـ يتبيّن بأنّ سُمك هذا الحجاب وغلظته أكثر من كلّ الحجب، وإنّ هذه العلوم المقرّرة بأسرها من الحجب الغليظة الملكوتيّة التي تكون بين حجاب وآخر مسافة أميال وفراسخ وقد كنا من الغافلين عنه "النّاسُ نِيامٌ فَإِذا ماتُوا انْتَبَهُوا" ويتبيّن لنا جميعًا كيف سنكون"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 554 -555.
2 (م.ن)، ص 404-405.
95
68
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
4- العلم مقدّمة للمكاشفات
"إنّ الحقّ يستدعي أن نقول بأنّ العلم هو الذي يشتمل على التدبّر والتمعّن والبرهان والاستدلال، بينما قد تكون المكاشفات والمشاهدات نتيجة العلوم الحقيقيّة، وقد تكون من جرّاء الأعمال القلبيّة. وعلى أيّ حال إنّ المشاهدات والمكاشفات، والتحقّق بحقائق الأسماء والصّفات، يجب أن لا تندرج في تقسيمات العلوم، لأنّ العلوم في واد والمكاشفات في واد آخر"1. وعليه فما لم ينتهِ العلم إلى الشّهود، يكون الطّالب في خطرٍ عظيم. أمّا الإحجام والإعراض عن هذا المقصد السنيّ فهو الطّرد والوقوع في فخ إبليس الأكبر.
يقول الإمام قدس سره: "هناك فرق واضح بين العرفان والعلم، بين التعرّف على شيء وبين العلم به. يُقال أنّ العلم في اللغة يختصّ بالكليّات، والمعرفة خاصّة بالجزئيّات والتّشخّص، ويُقال أنّ العارف بالله هو الذي يتعرّف على الحقّ سبحانه بالمشاهدة الحضوريّة، وإنّ العالم بالله هو الذي ينتهي إلى الحقّ سبحانه من خلال البراهين الفلسفية. وذهب البعض إلى أنّ الفارق بين العلم والعرفان من وجهين: الأوّل من ناحية متعلّق كلّ منهما كما ذكرنا متعلّق العلم كلّيّ ومتعلّق المعرفه جزئيّ. والثّاني أنّه أخذ في المعرفة نسيان الشّيء المعلوم سابقًا. في حين أنّ العلم هو ما يدركه الإنسان ابتداءً. وأمّا الشّيء الذي كان معلومًا فغفل عنه ونسيه ثمّ أدركه ثانيًا يُقال له أنّه قد عرفه"2.
علامات العلم الحقيقيّ
بالرّغم من اشتراكهما في بعض الخصائص إلّا أنّ العلم الحقيقيّ الذي هو أعظم نور يهدي إلى الله يختلف كثيرًا عن العلم المزيّف الذي هو حجاب سميك بين الإنسان والمقصد النّهائي.
ويذكر لنا الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة من العلامات المؤكّدة للعلم النّورانيّ، منها:
1- التّواضع
"فقد رُوي في الكافي مسندًا عن مولى الموحّدين عليه السلام أنّه قال: "يا طالب العلم، إنّ العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسه التّواضع وعينه البراءة من الحسد".، وعلى العالِم
1 الأربعون حديثًا، ص 429.
2 (م.ن)، ص 661.
96
69
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
العامل أن يتفكّر في نفسه وأحوالها وملكاتها، ويمعن النّظر بدقّة في صفاتها، ليعرف طبيعة الملكات التي أوجدها فيه علمه من أي فرع كان. إذا كان من أهل المعارف فلينظر في نفسه ليعرف هل نوَّرَ نورُ معرفة الله قلبه وجعله محبًّا وبالتّالي متواضعًا للحقّ تعالى ومظاهر جماله وجلاله؟! أم أنّ تمرّسه لمدّة في مجموعة من الاصطلاحات المعرفيّة، جعله ينظر بعين الاحتقار ـ وهي نظرة إبليس إلى العالم برمّته والعلماء جميعًا ـ فيسمّي الحكماء "قشريين من أهل الظاهر" ولا يرى سائر العلماء بالمرة، وينظر إلى سائر الناس نظرته إلى البهائم!"1.
ويقول قدس سره أيضا: "إذا رأيت أنّ هذه العلوم أوجدت فيك العُجب بالنّفس وعبوديّتها وحبّها، فاعلم أنّك قد صرت طعمة لإبليس، وابتعد عن طريق السّعادة، وانظر حينئذٍ إلى ما حصلت عليه، هل تجد عندك سوى حفنة من الاصطلاحات الجوفاء؟! وهل يمكنك الإجابة بهذه المصطلاحات عن أسئلة ملائكة الله الغلاظ الشّداد؟ وهل يمكن مخادعة ربّ العالمين من قبيل الهيولى والصّورة، والمعاني الحرفيّة؟!"2.
2- البعد عن الشّهرة والتّعالي
"كم هو جهولٌ ذاك الذي يتوّهم أنّه قد وصل ـ بهذه المفاهيم الجوفاء ـ إلى مقام "العلماء بالله، وأنّ الملائكة تفرش أجنحتها تحت قدميه، ثم يتوقّع ـ بسبب هذه الأوهام ـ أن يحوطه عباد الله بالتّبجيل والاحترام فيضيِّقُ عليهم الطّريق في الأزقّة، ويزاحمهم على أماكنهم في المجالس؟! كلّ هذه من مظاهر الغرور المذموم والجهالة والشّيطنة، وهي مواريث إبليس وظلمات بعضها فوق بعض، فالعلم نور، والنّور ينوِّرُ القلب ويوسّعه، ويشرح الصّدر، ويضيء طريق الهداية والسّلوك،، فكيف أوجدت فينا هذه العلوم الرّسميّة ظلمة القبر وضيق الصّدر والتّعالي والتّكبّر؟ هل يمكن والحال هذه أن نعتبر هذه الألفاظ علومًا ونتفاخر بها في العالم؟!"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 306-307.
2 (م.ن)، ص 309.
3 (م.ن)، ص 310.
97
70
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
3- تلاشي الأنانيّة
"فالمقياس في العلم أن يكون آية وعلامة، ولا تكون له إنّية ولا أنانيّة، بل تضمحلّ لدى حصول العلم الإنّية، وتتلاشى الأنانية ولا يغدو العلم باعثًا على النّخوة والأنانيّة والتّظاهر والترفّع".1
4- الحكمة
"فأنت عندما بذلت الجهد أربعين عامًا أو أكثر في سبيل تجميع المصطلحات والمفاهيم العلمية، واعتبرت نفسك علامة ومن جنود الله، ولكن لم تجد أثرًا للحكمة في قلبك، ولا طعمًا لها على لسانك فاعلم بأنّ دراستك وتعبك لم يقترنا بالإخلاص بل إنّما اجتهدت للشّيطان والرّغبات النّفسيّة"2.
5- الحزن والهمّ الخاصّ
"لأصحاب الفقه والعقل - الذين يقصدون التّفقّه في الدّين وإدراك الحقائق ـ أيضًا علامات وآثار، عمدتها ما ذكره الإمام عليه السلام، منها: أنّه ينجم عن هذا العلم في قلبه الحزن والهمّ والانكسار، ومن الواضح أنّ هذا الانكسار والفزع لا يكون لأجل الأمور الدنيويّة الدنيّة الزائلة، بل إنّه ناجم عن الخوف من المعاد، والتّقصير في وظائف العبوديّة... ومن علامات هذا العالم الربّانيّ أنّه رغم قيامه الكامل بوظائف العبوديّة يعيش حالة الفزع، لأنّ نور العلم يهديه إلى أنّه كلما أدّى وظائفه، يشعر بأنّه قاصر أو مقصّر، وأنّه لا يستطيع أن يخرج من مسؤوليّة شكر نعمه وحقيقة عبادته. فيكون قلبه مملوءًا من الخوف والخشية. وقد قال الحقّ جلّ جلاله فيهم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾. إنّ نور العلم يبعث على الخشية والحزن، وصاحبه رغم إقباله على إصلاح نفسه لا يقرّ له قرار من جرّاء خوفه من يوم القيامة، ويدفعه نحو الطلب من الله في أن يصلحه، ويحذره من الانشغال بغير الحقّ، ويبعده عن أهل زمانه، ويجعل هاجسه الخوف من أنّ أهل الدنيا قد يمنعونه من السّير إلى الله، والسّفر إلى عالم الآخرة، ويزيّنون الدّنيا ولذائذها في عينه. والحقّ سبحانه يؤيّد مثل هذا الإنسان، ويقوّي وجوده وينعم عليه بالأمان يوم القيامة. فَيَا لَيْتَنَا كُنَّا مَعَهُمْ فَنَفُوزَ فَوْزاً عَظيماً"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 426-427.
2 (م.ن)، ص 427.
3 (م.ن)، ص 412-413.
98
71
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
6- الخدمة للنّاس
وروي في الكافي الشريف أيضاً: "قال عيسى ابن مريم عليها السلام: يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة اقضوها لي. قالوا: قُضيتْ حاجتُك يا روح الله، فقام فغسل أقدامهم. فقالوا: كنّا نحن أحقَّ بهذا يا روح الله. فقال: إنّ أحقَّ النّاس بالخدمة العالِمْ. إنّما تواضعتُ هكذا لكم لكي تتواضعوا بعدي في النّاس كتواضعي لكم!، ثمّ قال عيسى عليه السلام: بالتّواضع تعمرُ الحكمةُ لا بالتكبّرِ، وكذلك في السّهل ينبُتُ الزرعُ لا في الجبل". إنّ ذكر أحوال العظماء والأولياء والأنبياء، في القرآن الكريم والأحاديث الشّريفة ليس بهدف التّسجيل التاريخيّ، بل لتكميل بني الإنسان من خلال الاعتبار بسيرةِ عظماء العالم، والاتّصاف بصفاتهم الكريمة وأخلاقهم الفاضلة. وهذا الحديث الشّريف ينبغي للعلماء والأجلّاء بالدّرجة الأولى أن يضعوه نصب أعينهم ويتّخذوه وصيّة أخلاقيّة دينيّة مستفادة من سيرة العلماء بالله وزعماء الدّين، فيعلِّموا المتعلّمين منهم العمل بهذه السّيرة النبويّة، ويتخلّقوا هم أنفسهم بهذه الأخلاق الإلهيّة العظيمة، ويتفكّروا في معنى اعتبار عيسى عليه السلام غسل أقدام الحواريّين حاجةً له يطلبها، وهذا ما يعبِّر عن غاية التذلّل (للمؤمنين) ومنتهى التواضع"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 314-315.
99
72
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
المفاهيم الرئيسة
1- انقسم النّاس فيما يتعلّق بأشرف معلوم إلى طوائف وفئات، وذلك بحسب رؤية الإنسان الكونيّة وكيفيّة ترتيبه لنظام الوجود.
2- كل ما يرتبط بذات الله يكون العلم به شريفًا بشرط أن يكون دليلًا عليه وطريقًا إلى العلم به، وهو من أعظم الفضائل.
3- للإنسان إجمالا نشآت ومقامات وعوالم ثلاث: نشأة الآخرة ومقام الرّوحانيّة والعقل، نشأة البرزخ، ونشأة الدّنيا. ولكلٍّ منها كمال خاصّ وتربية خاصّة وعمل يتناسب مع نشأته ومقامه، وجميع العلوم النّافعة تنقسم إلى هذه العلوم الثلاثة: علم راجع إلى الكمالات العقليّة، وعلم راجع إلى الأعمال القلبيّة، وعلم راجع إلى الأعمال القالبيّة الخارجيّة. وتنعكس آثار كلّ مرتبة على المرتبة الأخرى.
4- إنّ العلم الذي يرتبط بالعالم الرّوحانيّ والعقل المجرّد هو العلم بمبدأ الوجود وحقيقته ومراتبه وبسطه وقبضه وظهوره ورجوعه.
5- العلوم التي ترتبط بتربية القلب وترويضه والأعمال القلبيّة هي العلم بالمُنجيات والمهلكات الخُلُقية.
6- العلوم التي تُناط بها تربية الظّاهر وترويضه هي علم الفقه ومبادئه، وعلم آداب المعاشرة وتدبير المنزل، وسياسة المُدُن.
7- ينقسم طلّاب العلم بصورة كليّة أوليّة إلى طائفتين بما يتعلّق بهدفهم من وراء طلب العلم، فإمّا أن يكون إلهيًّا أو لأمور نفسيّة.
8- بمعرفة الهدف من العلم يحقّق الطّالب الشّرط الأوّل في إخلاص النيّة الذي يهيّئ القلب للتوجّه إلى ملكوت العلم والمعارف.
9- العلم مقدّمة للإيمان وللعمل ولرفع الحجب، "العلوم بذور المشاهدات".
10- أهم علامات العلم الحقيقيّ: التّواضع، البعد عن الشّهرة والتّعالي، تلاشي الأنانيّة، الحكمة، خدمة النّاس، الحزن والهم نتيجة الشعور بالتقصير.
11- إذا أوجدت العلوم في الانسان العُجب بالنّفس وعبوديّتها وحبّها، فقد صار الانسان طعمة لإبليس وابتعد عن طريق السّعادة.
100
73
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَارْزُقْنِي صِحَّةً فِي عِبَادَةٍ، وَفَرَاغاً فِي زَهَادَةٍ، وَعِلْماً فِي اسْتِعْمَالٍ، وَوَرَعاً فِي إِجْمَالٍ"1.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: يَا طَالِبَ الْعِلْمِ إِنَّ لِلْعَالِمِ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ: الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالصَّمْتَ، وَلِلْمُتَكَلِّفِ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ: يُنَازِعُ مَنْ فَوْقَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَيَظْلِمُ مَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ وَيُظَاهِرُ الظَّلَمَةَ"2.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لَا يَضِلَّ أَوْلِيَاؤُكَ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَهُمْ بَلْ أَيْنَ هُمْ وَكَمْ أُولَئِكَ الْأَقَلُّونَ عَدَداً وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ قَدْراً الْمُتَّبِعُونَ لِقَادَةِ الدِّينِ الْأَئِمَّةِ الْهَادِينَ الَّذِينَ يَتَأَدَّبُونَ بِآدَابِهِمْ ويَنْهَجُونَ نَهْجَهُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَهْجُمُ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فَتَسْتَجِيبُ أَرْوَاحُهُمْ لِقَادَةِ الْعِلْمِ وَيَسْتَلِينُونَ مِنْ حَدِيثِهِمْ مَا اسْتَوْعَرَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَيَأْنَسُونَ بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْمُكَذِّبُونَ وَأَبَاهُ الْمُسْرِفُونَ أُولَئِكَ أَتْبَاعُ الْعُلَمَاءِ صَحِبُوا أَهْلَ الدُّنْيَا بِطَاعَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَوْلِيَائِهِ وَدَانُوا بِالتَّقِيَّةِ عَنْ دِينِهِمْ وَالْخَوْفِ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَأَرْوَاحُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى فَعُلَمَاؤُهُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ خُرْسٌ صُمْتٌ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ مُنْتَظِرُونَ لِدَوْلَةِ الْحَقِّ وَ سَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَمْحَقُ الْبَاطِلَ"3.
3- قال لقمان لابنه: "لِلْعَالِمِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ الْعِلْمُ بِاللهِ وَ بِمَا يُحِبُّ وَ مَا يَكْرَهُ"4.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في مكارم الأخلاق.
2 الكافي، ج1، ص 37.
3 (م.ن)، ص 335.
4 بحار الأنوار، ج13، ص 415.
101
74
الدرس السادس: العلم (2) - علامات العلم الحقيقي وأهدافه
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "يَا كُمَيْلُ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِالْعِلْمِ فَيَهْتَدُوا وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ فَيَنْجُوا، يَا كُمَيْلُ الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، يَا كُمَيْلُ مَحَبَّةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ (بِهِ) الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ يَا كُمَيْلُ هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ"1.
5- عن عليّ بن الحسين عليه السلام: "كَانَ إِذَا جَاءَهُ طَالِبُ عِلْمٍ قَالَ مَرْحَباً بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ لَمْ يَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا سَبَّحَتْ لَهُ إِلَى الْأَرَضِينَ السَّابِعَة"2.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "شرّ العلم علم لا يعمل به"3.
7- عنه عليه السلام: "الزم العلم بك (لك) ما دلك على صلاح دينك و أبان لك عن فساده"4.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "العلم ما أصلحت به رشادك و شره ما أفسدت به معادك"5.
9- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "قول لا أعلم نصف العلم"6.
1 بحار الأنوار، ج23، ص 44.
2 (م.ن)، ج1، 168.
3 تصنيف غرر الحكم، ص 45.
4 (م.ن)، ص 46.
5 (م.ن).
6 (م.ن)، ص 48.
102
75
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الشّروط اللازمة للعلم والتعلّم والتّعليم.
2- يبيّن خطورة طلب العلم من دون تهذيب النّفس.
3- يشرح أهم موانع تحصيل العلم.
103
76
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
تمهيد
شُبّه العلم النافع المفيد بالمطر الطاهر العذب. بيد أن النفوس والقلوب تتفاوت في استعدادها وتقبلها لهذا المطر كما تتفاوت الأراضي الزراعية. بل إن بعضها يتحول إلى صخرة صماء لا يستقر عليها حبة ماء قط. وبعض القلوب تتلوث إلى درجة تصبح كالقمامة بحيث إذا هطل عليها المطر اشمأزت قلوب الناس من نتانة ريحها.
وإن ما يلوث القلوب ليس سوى التعلقات الدنيوية التي تظهر بصورة رذائل الأخلاق كالكبر والعجب وحب الظهور. وما لم يعمل طالب العلم على تهذيب نفسه من أرجاس الأخلاق ومذام الصفات، فإنه يوشك أن يتبدل إلى موجود شيطاني إبليسي، كما كان حال إبليس في علمه الكثير الذي لم يورثه سوى الخسران المبين والطرد والرجم من ساحة عز الربوبية إلى أسفل سافلين باستكباره وطلبه للعلو والمنزلة.
شروط العلم
لكي ينال الطّالب من العلم نوره، ولكي يقدّم العالم في التّعليم نوره، يجب عليهما رعاية مجموعة من الشّروط والآداب المعنويّة. وقد ذكر الإمام قدس سره شطرًا مهمًّ من هذه الشّروط، نذكر منها:
1- تهذيب النّفس أوّلًا
"يجب على طلّاب العلوم الدّينيّة، والسّالكين لهذا السّبيل المحفوف بالمخاطر، أن يكون أوّل ما يضعونه بعين الاعتبار، إصلاح أنفسهم أثناء الدّراسة ويفضّلونه مهما أمكن على كلّ شيء، لأنّه أوجب كلّ الواجبات العقليّة والفرائض الشّرعيّة وأصعبها"1.
1 الأربعون حديثًا، ص 411.
105
77
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
1- مجاهدة النّفس بالتّقوى
"نفس العلم حجاب غليظ، فإذا لم يُخرق هذا الحجاب بتوفيقٍ من الله سبحانه في ظلّ التّقوى الكاملة والتّرويض المجهد للنّفس، والانقطاع التامّ لله والمناجاة الصّادقة معه، لم تُشرق في قلب السّالك أنوار الجمال والجلال، ولم يشهد قلب المهاجر إلى الله، المشاهدات الغيبيّة، ولم يتمتّع بالحضور العينيّ لتجلّيات الأسماء والصّفات، فضلًا عن الحظوة بالتجلّيات الذاتيّة. وهذا المعنى يجب أن لا يُحجم الإنسان عن البحث والطّلب الذي هو تذكّر للحقّ سبحانه. إذ أنّه من النّادر جدًّا غرس الشّجرة الطّيّبة للمعرفة في القلب أو إنعاشها ونضارتها من دون بذر علوم حقّة مع كافّة شرائطها المعهودة، فالإنسان لا بدّ وأن يواظب في بدء الأمر على الرّياضة العلميّة مع النّهوض بجميع شرائطها ومتمّماتها، ولا يسحب يده منها حيث قالوا: "العلوم بذر المشاهدات". وإن لم تنتج العلوم في هذا العالم لأجل العوائق، نتيجة مجدية وتامة، لأثمرت في عوالم أخرى ثمرات طيّبة، ولكنّ المهمّ هو النّهوض بشرائطها ومقدّماتها"1.
2- التشدّد في مراقبة النّفس
"يجب على علماء الدّين وطلبة علومه أن يتشدّدوا للغاية في مراقبة أنفسهم وتصرّفاتهم، لكي يضمنوا سعادة الناس إضافة إلى سعادتهم هم، فالفساد والقبيح منهم أشدّ إفسادًا وقبحًا بكثيرٍ ممّا يصدر من غيرهم، والحجّة عليهم أتم"2.
3- الإخلاص
"إذا انحرف العالم - لا سمح الله - عن طريق الإخلاص، وسلك طريق الباطل، اعتُبر من علماء السّوء الذين هم أسوأ خلق الله وقد وردت فيهم أحاديث شديدة، وتعبيرات قاسية"3.
"أيّها العزيز إنّ العلاج كلّ العلاج فيما إذا أراد الإنسان أن يكون علمه إلهيَّا أن يبادر إلى مجاهدة النّفس عندما يدرس أيّ علم شاء، ويسعى بواسطة الرّياضة الرّوحانيّة في
1 الأربعون حديثًا، ص 571.
2 جنود العقل والجهل، ص 316.
3 الأربعون حديثًا، ص 411.
106
78
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
سبيل تخليص نيّته. فإنّ المنقذ الأساسيّ ومصدر الفيض تخليص النيّة، والنيّة الخالصة "مَنْ أَخْلَصَ لِلّهِ أرْبَعينَ صَبَاحاً جَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ" فهذه فوائد وآثار الإخلاص في أربعين يوم"1.
4- العمل بما يعلم
"إنّ من يعرّف نفسه على أنّه شمع محفل العرفان، والهادي إلى السّعادة، ومعرّف طرق الآخرة، ثمّ لا يعمل ـ لا سمح الله ـ بما يقول، ويختلف باطنه عن ظاهره، يكون في زمرة أهل الرّياء والنّفاق، ويُحسب من علماء السّوء، ويكون عالمًا بلا عمل. وهذا عقابه أكبر وعذابه أشدّ. وقد أشار الله سبحانه إلى أمثال هذا في القرآن بقوله: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾"2.
"هؤلاء من النّاس الذين ورد فيهم الحديث قائلًا "يَطْلَعُ قَوْمٌ مِنْ أَهلِ الجَنَّةِ إلى قَومٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُونَ ما أَدْخَلَكُمُ النَّارَ وإنَمَا دَخَلْنَا الجَنّةَ بِفَضْلِ تَعلِيمِكُمْ وَتَأَدِيِبكُمْ فَيَقُولونَ إِنَا كُنَا نَأَمُركُمْ بِالخَيرِ وَلاَ نَفْعَلَهُ"3.
5- عدم التوقّف عند أي حدّ
"فموسى الكليم مع ما له من المقام العظيم في النبوّة لم يقتنع بذلك المقام وما توقّف عند مقام علمه الشّامخ، وبمجرّد أن لاقى شخصًا كاملًا كالخضر قال له بكلّ تواضعٍ وخضوع: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾4 وصار ملازمًا لخدمته حتّى أخذ منه العلوم التي احتاج إليها"5.
و"ابراهيم عليه السلام لم يقتنع بمقام شامخ الايمان والعلم الخاصّ للأنبياء فقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾. فأراد أن يرتقي من الإيمان القلبيّ إلى مقام الاطمئنان الشّهوديّ. وأعظم من ذلك إنّ الله تبارك وتعالى يأمر نبيّه الخاتم ـ وهو أعرف خلق الله مطلقًا ـ في
1 الأربعون حديثًا، ص 427.
2 (م.ن)، ص 179.
3 (م.ن)، ص 410.
4 سورة الكهف، الآية 66.
5 معراج السالكين، ص 206.
107
79
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
الكريمة الشّريفة ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾1. فهذه الأوامر في الكتاب الإلهيّ ونقل قصص الأنبياء لأجل أن نتنبّه ونستيقظ من نوم الغفلة"2.
6- التّركيز على العمق الفكريّ والمعنويّ
"يجب على متعلّمي علوم أولئك العظماء والمفسّرين من إفادات القرآن الشّريف وأحاديث أهل العصمة أن يشكروا هذه النّعمة ويجازوا على هذه العطية، بأن يتعاملوا بالمثل، وذلك بأن يرجعوا الصّورة (الظاهرية) إلى الباطن، والقشر إلى اللب، والدّنيا إلى الآخرة، فإنّ الوقوف عند الحدود اقتحام للهلكات، والقناعة بالصّورة تخلّف عن قافلة السّالكين، وهذه الحقيقة واللطيفة الإلهيّة ـ أي العلم بالتأويل ـ تحصل بالمجاهدات العلميّة والرّياضات العقلية، مقرونة بالرّياضات العلميّة، وتطهير النّفوس، وتنزيه القلوب، وتقديس الأرواح، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ و"المطّهرون" على نحو الإطلاق هم الأنبياء والأولياء المعصومون، ولذلك كان علم التّأويل بجميع المراتب مختصًّا بهم. ولكن لعلماء الأمّة أيضًا حظٌّ وافرٌ من ذلك العلم يتناسب مع مرتبتهم في العلم والطّهارة، ولهذا نُقل عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنّه كان يقول بأنّه من الرّاسخين في العلم"3.
7- إيقاظ الفطرة وتفعيلها
"ما دام الإنسان على فطرته الأصليّة السّليمة النّازلة من عالم النّور والطّهارة والمتناسبة بالتالي مع العلوم الحقيقيّة والمعارف الإلهيّة والحقائق الرّوحانيّة والعوالم الغيبيّة فإنّه يقبل جيّدًا تلك العلوم والمعارف الحقّة"4.
8- إخراج النّاس من الاحتجاب
"وبالجملة، فصاحب كلّ مقصد يرى مقصده كمالًا وصاحبه كاملًا ويعشقه، ويتنفّر من غيره. فالأنبياء عليهم السلام، والعلماء بالله وأصحاب المعرفة قد جاؤوا ليخرجوا النّاس
1 سورة طه، الآية 114.
2 معراج السالكين، ص 206.
3 جنود العقل والجهل، ص 68-69.
4 (م.ن)، ص 116.
108
80
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
من الاحتجاب، ويخلّصوا نور فطرتهم من ظلمات الجهل، ويعرّفوهم على الكامل والكمال. فإنهم إذا شخّصوا الكمال والكامل، لن يحتاجوا إلى دعوة للتوجه إليه وترك ما سواه، بل نور الفطرة هو أعظم هاد الهي وهو موجود في جميع سلالة البشر"1.
9- المداراة ورعاية القابليّات
"النّاس متمايزون في تحمّل العلوم والمعارف وكذلك في تحمّل الطّاعات القلبيّة والبدنيّة، فلا يمكن الإفصاح لكلّ شخص عن كلّ علم خاصّة في باب المعارف، بل إنّ سرائر التّوحيد وحقائق المعارف هي من الأسرار التي يجب كتمانها وحفظها عند أهلها. ومعظم الضّلالات وأنواع الإضلال وأشكال التّكفير ناتجةٌ من عدم التزام هذه الوصية، بل إنّ اجتناب الناس، حتى علماء الظاهر منهم للعلوم الإلهيّة وابتعادهم عن المعارف والحقائق ناتجٌ من "تهتّك" بعض أرباب الاصطلاحات الذوقيّة أو أصحاب العلوم العرفانيّة الرّسميّة الذين أفصحوا عن القرآن والحديث الشّريف وإصلاحاتها، رغم أنّ هذه الحقائق المعرفيّة موجودة - في أكمل صورها من البيان ـ في كتاب الله وأحاديث أئمّة الهدى عليهم السلام، ولكن هؤلاء أظهورها بصورة سيّئة جعلت أهل الظّاهر ينفرون منها، بعد أن عجزوا هم أيضًا عن فصل اللبِّ عن القشر، والحقيقة عن الصّورة الظّاهريّة، والمعنى عن اللفظ، فنفوا أصل تلك الحقائق المعرفيّة الشّريفة"2.
10- النّهوض بمهمّة التّربية
"نرى أنّ أهل العلم ينبغي أن يكونوا هم المربّين لأبناء البشر، باعتبارهم فروع شجرة النبوّة والولاية، وعارفين بوخامة الأمور وعواقب فساد الأخلاق"3.
11- استخدام الأساليب المناسبة
"إنّ من يريد أن يربّي ويعلِّم وينذر ويبشّر فلا بدّ له أن يضمّن مقصده بالعبارات المختلفة والبيانات المتنوّعة، فتارةً في ضمن قصّة وحكاية وأخرى في ضمن تاريخ ونقل، وحينًا
1 معراج السالكين، ص 130.
2 جنود العقل والجهل، ص 293.
3 الأربعون حديثًا، ص 179.
109
81
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
بصراحة اللهجة، وحينًا بالكناية والأمثال والرّموز حتّى يتمكّن كلّ من النّفوس المختلفة والقلوب المتشتّتة من الاستفادة منها"1.
12- الصمت
"هذا المنهاج عام يشمل الصّمت والسّكوت والكلام والإرشاد، فعلى الإنسان أن يشتغل في بداية أمره ـ حيث يكون متعلّماً ـ بالبحث والدّرس والتّعلّم، فيجتنب فقط الكلمات والأقوال اللغويّة الباطلة. فإذا كَمُلَ فعليه أن يشتغل بالتّفكّر والتّدبُّر، فيمنع لسانهُ عن النّطق بغير ذكر الله وما يرتبط به لكي تفيض على قلبه الإفاضات الملكوتيّة"2.
13- المودّة للنّاس
"ولا يمكن للعالم والمرشد أن ينهض بمهمّة إرشاد الناس وتعليمهم وبذر بذور المعارف والحكم في قلوبهم ما لم يكن قلبه هو منوّرًا صافيًا تملؤه المودّة والتّواضع"3.
موانع العلم
يوجد الكثير من الموانع التي تقف أمام طالب العلم فتحرفه أو تمنعه من سلوك طريق العلم. يتصوّر بعض النّاس أنّهم على خير لأنّه لم يصبهم ما أصاب بعض أهل العلم من الغرور والعجب والتّفاخر وحبّ الشّهرة والجاه، وهم لا يعلمون بأنّهم في الفتنة قد سقطوا. لأنّ احتمال نجاتهم بعد ذلك من جميع هذه المهلكات يكاد يكون صفرًا. وقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "...الْعَالِمَ تَأْتِيهِ الْفِتْنَةُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا بِعِلْمِهِ... "4. لذا يجب على الطّالب العالِم أن يتعرّف على العواقب الوخيمة والآثار المدمّرة للانحراف بسبب عدم تجاوز الموانع وخرق الحجب. وقد ذكر الإمام مجموعة كبيرة من الموانع في هذا المجال، ونحن نبيّن بعضها على سبيل الاختصار:
1 معراج السالكين، ص 197.
2 جنود العقل والجهل، ص 347.
3 (م.ن)، ص 316.
4 بحار الأنوار، ج1، ص208.
110
82
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
1- سوء الخُلُق
"إذا صار العالِمُ جبّارًا متكبّرًا بطلت خاصيّة علمه وتأثيره، وهذه أعظم خيانة للعلم والمعارف، لأنها تُبعد النّاس عن الحقّ والحقيقة. فإذا لم يتعامل العالم مع النّاس بمقتضى العلم أي الأخلاق الحسنة، أدّى ذلك إلى إسقاط الدّين والعلم من أعين النّاس، وإضعاف عقائدهم، وتنفير قلوبهم من علماء الحقّ، وهذه أشدّ ضربةٍ تُوَجَّه للدّين والحقيقة بأيدي العلماء غير المسؤولين، وقلّما تجد ضربة تماثلها في هذا التّأثير. إنّ تصرّفًا أو عملًا واحدًا يخالف الأخلاق أو الأعمال السّليمة يصدر من عالم أو أحد طلبة علوم الدّين يُؤثّرُ في إفساد أخلاق النّاس وأعمالهم بمقدارٍ قَلّما نجد مثيلًا له في آثار الأعمال الإفساديّة الأُخَر (الصادرة من غيرهم)"1.
2- المباهاة والتّفاخر
"العلم التّوحيديّ الذي يكون تعلّمه من أجل التشدّق به في مجالس العوالم أو العلماء يكون فاقدًا للنّورانيّة، بل هو طعام أعدّته يد الشّيطان لتغذية النّفس الأمّارة بالسّوء، لذلك فهو يخرج صاحبه من التّوحيد ويقرّبه إلى الشّرك"2.
3- التكبّر
"لقد طُرِد إبليس عن مقام القرب بسبب تكبّره على آدم، فكيف تريدُ أن تجدَ لنفسك سبيلاً بهذا التكبّر على بني آدم إلى المعارف الحقّة؟!"3.
"أمّا قوله عليه السلام: "بالتّواضع تعمرُ الحكمة"4، فالمقصود فيه هو: إمّا أنّ بذور الحكمة لا تنمو في القلب الفاقد للتّواضع مثلما أنّ النبتة لا تنمو في الأرض الصّلدة، وإمّا أن يكون المقصود هو أنّ العلماء لا يستطيعون بذر بذور الحكمة وتنميتها في قلوب النّاس ما لم يكن العلماء أنفسهم متواضعين، فينبغي تليين القلوب القاسية بالتّواضع، ثمّ بذر بذور الحكمة
1 جنود العقل والجهل، ص 316.
2 (م.ن)، ص 108.
3 جنود العقل والجهل، ص 307.
4 الكافي، ج1، ص37.
111
83
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
فيها وتوقّع الثّمار منها. وكلا هذين الاحتمالين صحيحان، فالأول يرتبط بإصلاح النّفس، والآخر بإصلاح الآخرين"1.
4- التّوقّف عند المشاهدات
"رغم أنّ العلوم بذور المشاهدات إلّا أنّ الوقوف عندها - عند المشاهدات وعدم تجاوزها - هو الحجاب عينه، وما لم تتفسخ تلك البذور في أرض القلب فلن تظهر شجرة حصول المشاهدات، وما دامت مكدّسة في مخزن القلب ينظر إليها كقيمة مستقلّة بحدّ ذاتها فإنّها لن تعطي ثمارها"2.
5- طلب الدنيا
"أقسم بروح الحبيب، أنّ العلوم الإلهيّة والدّينيّة إذا لم تهدينا إلى طريق الصّلاح والاستقامة، ولم تهذّب بواطننا وظواهرنا، فإنّ أحقر الحِرَف الدنيويّة أفضل منها، لأنّ نتائج الحِرَف الدنيويّة عاجلة ومفاسدها أقل، في حين أنّ العلوم الدينيّة إذا اتّخذت وسيلة لإعمار الدّنيا كانت بيعًا للدّين، ووزر بيع الدّين ووباله أشدُّ وأفظعُ من كلّ شيء"3.
6- أن يُطلب العلم لذاته
"الحديث الشّريف4 قد عبّر عن علم العقائد والمعارف بالآية وهي بمعنى العلامة، والسرّ في التّعبير هذا هو أنّ العلوم العقليّة، والحقائق الاعتقاديّة إذا تمّ تحصيلها لأجل نفس هذه العلوم والحقائق ولأجل تجميع المفاهيم والمصطلحات وزخرفة العبارات وتزيين تركيب الكلمات بعضها مع بعض ومن ثمّ نقلها إلى العقول الضّعيفة، للحصول على المقامات الدنيويّة، لا تكون مثل هذه العلوم من الآيات المحكمة، وإنّما هي حجب غليظة وأوهام واهية، لأنّ الإنسان إذا لم يبتغِ من وراء طلب العلم الوصول إلى الحقّ، والتّحقّق بأسماء الله وصفاته، والتّخلّق بأخلاق الله، سيتحوّل كلّ واحدٍ من إدراكاته إلى دركات وحجب مظلمة، تسوّد قلبه
1 جنود العقل والجهل، ص 315.
2 (م.ن)، ص 67.
3 (م.ن)، ص 309-310.
4 عن النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّما العِلْمُ ثَلاَثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا خَلاهُنَّ فَهُو فَضْلٌ" الكافي، ج1، ص32.
112
84
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
وتعمي بصيرته، ويصبح من مصاديق الآية المباركة التي تقول: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾1"2.
7- طلب الكثرة العلميّة
"فعلى السّالك ألاّ يغتّر بمكايد الشّيطان في هذا المقام، فيحتجب بكثرة العلم وغزارته وقوّة البرهان عن الحقّ والحقيقة ويتأخّر عن السّير في الطّلب. بل يشمّر ذيل همّته، ولا يغفل عن الجدّ في طلب المطلوب الحقيقيّ حتّى ينال المقام الثاني"3.
"فجمع المفاهيم والإكثار من المصطلحات لا تجدي نفعاً، وإنّما تُشغل القلب بغير الحقّ سبحانه، وتثنيه عن الذّات المقدّس، فيغفله"4.
و"لا بدّ أن يُعلم أنّ مجرّد العلم البرهانيّ والسّير التفكّريّ في باب التّوحيد الفعليّ لا ينتج النتيجة المطلوبة، بل ربّما تكون كثرة الاشتغال بالعلوم البرهانيّة سببًا لظلمة القلب وكدورته، وتمنع الإنسان من المقصد الأعلى. وفي هذا المقام قيل "العلم هو الحجاب الأكبر". وفي عقيدة الكاتب إنّ جميع العلوم عمليّة حتى علم التوحيد"5.
8- طلب التفوّق على الغير
"إنّ الإنسان يرغب أن يتفرّد في استيعاب معضلة علميّة وحلّها لدى محضر العلماء والرّؤساء والفضلاء ويبتهج أكثر كلّما كان توضيحه للمسألة العلميّة أحسن، ولفت انتباه الحاضرين أكثر. لأنّه يحبّ أن ينتصر على كلّ من يناظره. إنّه يشعر بنوعٍ من الدّلال العلميّ والتفوّق، وإذا اقترن ذلك بتصديق من إحدى الشّخصيّات لكان نور على نور. إنّ هذا المسكين غافلٌ عن أنّه أحرز هنا موقعًا لدى الفضلاء والعلماء ولكنّه سقط من عين ربّهم ومالك ملوك العالم، وأنّ عمله قد ترك بأمر الحقّ المتعال في سجّين... فإذا رجعتم
1 سورة طه، الآيات 124 - 126.
2 الأربعون حديثًا، ص 425.
3 معراج السالكين، ص 26.
4 الأربعون حديثًا، ص 427.
5 معراج السالكين، ص 104.
113
85
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
إلى باطنكم ورأيتم أنّكم ما زلتم تميلون للغلبة والاشتهار بين العلماء بالعلم والفضل وأنّ بحثكم العلميّ كان لأجل الحصول على المكانة في قلوب أولئك، إذًا، فاعلموا أنّكم مراؤون في هذا البحث العلميّ الذي هو من أفضل الطّاعات والعبادات وأنّ عملكم هذا ـ بحسب الرّواية الشّريفة في كتاب (الكافي) هو في "سجّين"، وأنّكم مشركون بالله"1.
9- العصبيّة
"قباحة هذه السّجيّة (العصبيّة) لدى أهل العلم هو جانب العلم نفسه، إذا إنّ هذه العصبيّة خيانة للعلم وتجاهل لحقّه إذ أنّ من يتحمّل عبء هذه الأمانة ويلبس لبوسها، فعليه أن يرعى حرمتها واحترامها، وأن يعيدها إلى صاحبها صحيحة سليمة. فإذا ما تعصّب، تعصّب الجاهلية يكون قد خان الأمانة وارتكب الظّلم والعدوان، وهذه بذاتها خطيئة كبرى. والنّاحية الثّانية من جرّاء هذه السّجيّة القبيحة إهانة أهل العلم فيما إذا كان التّعصّب في المباحث العلميّة، مع العلم بأنّ أهل العلم من الودائع الإلهيّة الواجب احترامهم. بينما يكون هتكهم هتكًا لحرمات الله ومن الموبقات الكبيرة. وقد تؤدّي العصبيّة التي لا تكون في محلّها، إلى هتك حرمة أهل العلم. أعوذ بالله من هذه الخطيئة الكبيرة!"2.
10- إنكار المقامات المعنويّة
"لعمر الحبيب ليس لي غاية من هذا الكلام إلّا أن ينتبه الأخوة الإيمانيّون وخصوصًا أهل العلم فلا ينكروا على الأقل مقامات أهل الله لأنّ هذا الانكار منشأ جميع الشّقاوات، وليس مقصودنا أن نبيّن من هم أهل الله بل مقصودنا ألاّ ننكر المقامات، وأمّا من هو صاحب هذه المقامات؟ فالله يعلم، وهذا أمر لا يطّلع عليه أحد"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 70-71.
2 (م.ن)، ص 180.
3 معراج السالكين، ص 178.
114
86
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
المفاهيم الرئيسة
1- لكي ينال الطّالب من العلم نوره، ولكي يقدّم العالم في التّعليم نوره، يجب عليهما رعاية مجموعة من الشّروط والآداب المعنويّة، وهي: مراقبة النّفس وإصلاحها، المداراة ورعاية القابليّات وتفعيلها، النّهوض بمهمّة التّربية، العمل بما يعلم، الإخلاص، استخدام الأساليب المناسبة، إخراج النّاس من الاحتجاب، التّركيز على العمق الفكريّ والمعنويّ، مجالسة العلماء مع حفظ آداب العشرة، الصمت، التّوسّع وعدم الانحصار بأحد العلوم، عدم التوقّف عند أي حدّ في طلب العلم، مودّة النّاس.
2- نفس العلم حجاب غليظ، فإذا لم يُخرق هذا الحجاب بتوفيقٍ من الله سبحانه في ظلّ التّقوى الكاملة وترويض النّفس والانقطاع التامّ لله، لم تُشرق في قلب السّالك أنوار الجمال والجلال، ولم يشهد قلب المهاجر إلى الله المشاهدات الغيبيّة.
3- يتصوّر بعض النّاس أنّهم على خير لأنّه لم يصبهم ما أصاب بعض أهل العلم من الغرور والعجب وحبّ الشّهرة والجاه، وهم لا يعلمون بأنّهم في الفتنة قد سقطوا.
4- يجب على الطّالب العالِم أن يتعرّف على العواقب الوخيمة والآثار المدمّرة للانحراف بسبب عدم تجاوز الموانع وخرق الحجب.
5- من الموانع التي تقف أمام طالب العلم وتمنعه من سلوك طريق العلم هي: سوء الخُلُق، المباهاة والتّفاخر والتكبّر، التّوقّف عن الازدياد العلميّ، طلب الدنيا، طلب العلم لذاته فيصبح حجب غليظة وأوهام واهية، طلب الكثرة العلميّة، طلب التفوّق على الغير، العصبيّة، إنكار المقامات المعنويّة.
6- إذا صار العالِمُ جبّارًا متكبّرًا بطلت خاصيّة علمه وتأثيره، وهذه أعظم خيانة للعلم والمعارف، لأنها تُبعد النّاس عن الحقّ والحقيقة.
7- إذا لم يبتغِ الإنسان من وراء طلب العلم الوصول إلى الحقّ، والتّحقّق بأسماء الله وصفاته، والتّخلّق بأخلاق الله، سيتحوّل كلّ واحدٍ من إدراكاته إلى دركات وحجب مظلمة، تسوّد قلبه وتعمي بصيرته.
8- العصبيّة خيانة للعلم وتجاهل لحقّه، كما أنها إهانة لأهل العلم وهتك لحرمتهم.
115
87
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَصَّ مُحَمَّدَاً وَآَلَهُ بِالْكَرَامَةِ وَحَبَاهُمْ بِالرِّسَالَةِ وَخَصَّصَهُمْ بِالْوَسِيلَةِ وَجَعَلَهُمْ وَرَثَةَ الأَنْبِيَاءِ وَخَتَمَ بِهِمُ الأَوْصِيَاءَ وَالأَئِمَّةَ وَعَلَّمَهُمْ عِلْمَ مَا كَانَ وَعِلْمَ مَا بَقِيَ وَجَعَلَ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآَلِهِ وَافْعَلْ بِنَا مَا أَنْتَ أَهْلُهُ فِي الدِّينِ وَالدَّنْيَا وَالآَخِرَةِ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ1.
الروايات الشريفة:
1- عن الإمام الصادق عليه السلام: "نَصْبُ الْحَقِّ لِطَاعَةِ اللهِ وَلَا نَجَاةَ إِلَّا بِالطَّاعَةِ وَالطَّاعَةُ بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعَلُّمُ بِالْعَقْلِ يُعْتَقَدُ وَلَا عِلْمَ إِلَّا مِنْ عَالِمٍ رَبَّانِيٍّ وَمَعْرِفَةُ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ"2.
2- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْعِلْمَ فَاسْتَعْمِلُوهُ وَلْتَتَّسِعْ قُلُوبُكُمْ، فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا كَثُرَ فِي قَلْبِ رَجُلٍ لَا يَحْتَمِلُهُ قَدَرَ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ فَإِذَا خَاصَمَكُمُ الشَّيْطَانُ فَأَقْبِلُوا عَلَيْهِ بِمَا تَعْرِفُونَ فَإِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً، فَقُلْتُ وَمَا الَّذِي نَعْرِفُهُ؟ قَالَ: خَاصِمُوهُ بِمَا ظَهَرَ لَكُمْ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ"3.
3- عَنْ أَبِي الْجَارُودِ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: رَحِمَ اللهُ عَبْدًا أَحْيَا الْعِلْمَ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا إِحْيَاؤُهُ؟ قَالَ: أَنْ يُذَاكِرَ بِهِ أَهْلَ الدِّينِ وَأَهْلَ الْوَرَعِ"4.
5- عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: "قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عليه السلام: يَا هِشَامُ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَشَّرَ أَهْلَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾...
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في ذكر محمد وآل محمد.
2 الكافي، ج1، ص 17.
3 (م.ن)، ص 45.
4 (م.ن)، ص 41.
116
88
الدرس السابع: العلم (3) - شرائط العلم وموانع تحقّقه
يَا هِشَامُ إِنَّ الْعَقْلَ مَعَ الْعِلْمِ، فقَالَ: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾"1.
6. عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ عَلَيْهِ قُفْلٌ وَ مِفْتَاحُهُ الْمَسْأَلَةُ"2.
7. عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "الْعِلْمُ مَقْرُونٌ إِلَى الْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ وَمَنْ عَمِلَ عَلِمَ وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْه"3.
8. عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ يُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ الرِّئَاسَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِأَهْلِهَا"4.
9. عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "إِذَا جَلَسْتُمْ إِلَى الْمُعَلِّمِ أَوْ جَلَسْتُمْ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ فَادْنُوا وَلْيَجْلِسْ بَعْضُكُمْ خَلْفَ بَعْضٍ وَلَا تَجْلِسُوا مُتَفَرِّقِينَ كَمَا يَجْلِسُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ"5.
10- عَنِ الصَّادِقِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ: "يَا ابْنَ النُّعْمَانِ لَا تَطْلُبِ الْعِلْمَ لِثَلَاثٍ لِتُرَائِيَ بِهِ وَلَا لِتُبَاهِيَ بِهِ وَلَا لِتُمَارِيَ وَلَا تَدَعْهُ لِثَلَاثٍ رَغْبَةٍ فِي الْجَهْلِ وَزَهَادَةٍ فِي الْعِلْمِ وَاسْتِحْيَاءٍ مِنَ النَّاسِ"6.
11- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لو أنّ أهل العلم حملوه بحقّه لأحبّهم الله وملائكته ولكنّهم حملوه لطلب الدّنيا فمقتهم الله تعالى وهانوا عليه"7.
1 الكافي، ج1 ص 13.
2 (م.ن)، ص 40.
3 (م.ن)، ص 44.
4 (م.ن)، ص 47.
5 مستدرك الوسائل، ج8، ص 403.
6 (م.ن)، ج8، ص 467.
7 غرر الحكم، ص 48.
117
89
الدرس الثامن: العزم
الدرس الثامن: العزم
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى ماهيّة العزم وأهمّيته وموقعه في السّير والسّلوك.
2- يبيّن كيف يمكن أن يصبح الإنسان من أصحاب عزيمة.
3- يحلِّل أسباب ضعف العزيمة فينا.
119
90
الدرس الثامن: العزم
تمهيد
نحن نعلم أنّ قدر المرء على قدر عزيمته، وأنّه لا يُنال شيءٌ من المجد والسّؤدد إلّا بالعزم، لكنّنا عندما نسبر أغوار هذه الصّفة نتفاجأ كم تحمل من أسرار.
كم نتمنّى أن نصبح من أصحاب العزائم، وخصوصًا إذا عرفنا طول المسير وبُعد السّفر وقلّة الزّاد ووحشة الطّريق وكثرة الآفات وشدّة الصّعوبات.
فنسمع عن أصحاب المقامات المعنويّة ونقرأ عن أحوال العارفين ونتعرّف على رجالٍ أشدّاء في الله، ونرى العزم فيهم جميعًا كصفة مشتركة. ثمّ نتساءل هل يأتي العزم مع الوراثة والطّباع أم أنّه يحصل بالسّعي والتكسّب؟ وهل هو موهبة إلهيّة محضة أم فضيلة مكتسبة؟ هذا ما ستسعى الصّفحات التالية إلى الإجابة عنه.
ما هو العزم؟
بالرّغم من كون العزم من الأمور الوجدانيّة لأنّه قلّ من لم يجرّبه في حياته، إلّا أنّ التّفكّر فيه وفي أسراره يفتح علينا أبواب المعارف الإنسانيّة. كيف لا! وهو كما وصفه الإمام الخمينيّ قدس سره: "جوهر الإنسانيّة ومعيار ميزة الإنسان، ويكون اختلاف درجات الإنسانيّة باختلاف درجات العزم"1.
كلّ واحدٍ منّا كان له في حياته عزم على أمرٍ ما. وأكثر ما عزمنا عليه يرتبط بدنيانا وحاجاتنا المادّيّة. لكنّ العزم المقصود هنا هو ما يرتبط بأمور عظيمة يراها أهل الدّنيا في المستحيلات، كما يقول الإمام قدس سره في هذا المجال: "العزم... هو أن يوطّن الإنسان نفسه على ترك المعاصي وأداء الواجبات، ويتّخذ قراراً بذلك، ويتدارك ما فاته في أيّام حياته،
1 الأربعون حديثًا، ص 30.
121
91
الدرس الثامن: العزم
وبالتّالي يسعى على أن يجعل من ظاهره إنسانًا عاقلًا وشرعيًّا، بحيث يحكم الشرع والعقل حسب الظاّهر بأنّ هذا الشخص إنسان. والإنسان الشّرعيّ هو الذي ينظّم سلوكه وفق ما يتطلّبه الشّرع، يكون ظاهره كظاهر الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يقتدي بالنّبيّ العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، ويتأسّى به في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع ما يفعل وما يترك. وهذا أمرٌ ممكنٌ، لأنّ جعل الظّاهر مثل هذا القائد أمرٌ مقدورٌ لأيّ فرد من عباد الله"1.
فما رآه أهل الدّنيا مستحيلًا يعدّه الإمام الخمينيّ ممكنًا لأنّه الخبير بهذا العالم وما فيه من أسرار.
وللوهلة الأولى إذا عرف الإنسان ظاهر رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم يدرك أنّ مطابقة ظاهره لظاهر الرّسول في حركاته وسكناته أمرٌ بعيد المنال، وهو غاية في الصّعوبة. لكنّ الإمام يدعونا إلى امتلاك عزم يرتبط بهذا المقام. وبالتّاكيد لا يطلب منّا أن نمتلك عزمًا يوصلنا إلى باطن الرّسولصلى الله عليه وآله وسلم لأنّه فوق قدرة جميع البشر وطاقاتهم، فهو أعظم أولي العزم من المرسلين قاطبةً.
أهميّة العزم ودوره
يذكر الإمام مجموعة من أبعاد العزم وأدواره، منها:
1- أوّل شرط للسّلوك
"فقوّ عزمك واحكم إرادتك، فإنّ أوّل شرط للسّلوك هو العزم، وبدونه لا يمكن أن يُسلك أيّ طريق أو يُنال أيّ كمال. والشّيخ الأجلّ الشّاه آبادي (روحي فداه) كان يعبّر عنه بلبّ الإنسانيّة. بل يمكن أن يُقال أنّ من إحدى الجهات المهمّة للّتقوى والتّجنّب عن المشتهيات النفسانيّة وترك أهوائها والرياضات الشرعية والعبادات والمناسك الإلهيّة تقوية العزم وانقهار القوى الملكيّة تحت ملكوت النفس"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 30.
2 معراج السالكين، ص 64.
122
92
الدرس الثامن: العزم
2- قطع جذور حبّ الدّنيا
"إنّ قطع جذور حبّ الدّنيا أمرٌ صعب ـ خصوصًا في بداية الأمر وابتداء السّلوك ـ ولكن كلّ صعب يتيسّر بالعزم وقوة الإرادة، فقوّة الإرادة والعزم الرّاسخ حاكمان على كل أمر صعب وأقوى منه، وهما ييسران كل طريق طويل شائك"1.
3- امتلاك وسيلة السّير إلى الله
"إن المرحلة الأولى من مراحل الإنسانية هي "اليقظة" وهي الاستيقاظ من نوم الغفلة، والصّحوة من سكر الطّبيعة، والإدراك بأنّ الإنسان مسافر، وأنّه لا بُدَّ للمسافر من زاد وراحلة. وزاد الإنسان خصاله، وراحلته في هذه المرحلة الخطيرة المخيفة، وفي هذه الطّريق الضيّقة، على الصّراط الذي هو أحدَّ من السّيف وأدقّ من الشّعرة2، هي همّة الرجال وعزمهم"3.
4- عبور مراتب الكمال
ينقل الإمام الخمينيّ قدس سره عن أحد المشايخ: "إنَّ العزم هو جوهر الإنسانية، ومعيار ميزة الإنسان، وأن اختلاف درجات الإنسان باختلاف درجات عزمه"4. ويضيف: "إذا لم يُعمّر مقام الغيب للنفس بالمعارف الإلهية، والجذبات الغيبية الذاتية، لم تحصل للإنسان جَنَّة الذاتَ وَاللِّقاءِ. وإن لم يهذّب الباطن، ولم يتحلَّ الداخل، ولم تقوَ الإرادة والعزم ولم يكن القلب محلّ تجلٍّ للأسماء والصّفات، لم تكن جَنَّةُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفات التي هي الجنّة المتوسّطة للإنسان"5.
5- التحقّق بمقام الكمال الأخرويّ
يقول الإمام قدس سره: "اجتهد لتصبح ذا عزم وإرادة، فإنّك إذا رحلت من هذه الدنيا دون أن يتحقّق فيك العزم (على ترك المحرمات) فأنت إنسانٌ صوريّ، بلا لبّ، ولن تُحشر في
1 جنود العقل والجهل، ص 235.
2 كما جاء في الحديث النبوي صلى الله عليه وآله وسلم: "الصراط أدق من الشعر وأحدّ من السيف وأظلم من الليل" الكافي، ج8، ص313. "المقصد الرابع في معنى الصراط" وبنفس هذا المعنى جاء في الرواية المروية عن الإمام الصادق عليه السلام في آمالي الصدوق, ص177 وكذلك في بحار الأنوار, ج8، ص65.
3 الأربعون حديثًا، ص 125.
4 (م.ن)، ص 30.
5 (م.ن)، ص 446.
123
93
الدرس الثامن: العزم
ذلك العالم (عالم الآخرة) على هيئة إنسان، لأنّ ذلك العالم هو محلّ كشف الباطن وظهور السّريرة"1.
و"اعلم، يا عزيزي، أنّ العزم والإرادة القويّة لذلك العالم ضروريّان وذات فعاليّة. إنّ البلوغ لأحد مراتب الجنّة والذي يُعدّ من أفضلها هو العزم والإرادة. فالإنسان الذي ليست له إرادة نافذة ولا عزم قويّ لا ينال تلك الجنّة ولا ذلك المقام الرّفيع"2.
6- انقهار جميع قوى النّفس للحقّ
"إنّ من الفضائل والأسرار الشاقّة والصّعبة للعبادات تحقّق هذا الهدف ـ تسخير مُلك الجسم للملكوت ـ أكثر حيث يصير الإنسان بذلك ذا عزم، ويتغلّب على الطبيعة والملك. فإذا اكتملت الإرادة وقوي العزم واشتد، أصبح كمَثَل الجسم وقواه الظاهرة والباطنة مَثَل ملائكة اللّه الذين لا يعصون الله وإنّما يطيعونه في كلّ ما يأمرهم به وينهاهم عنه، من دون أن يعانوا في ذلك عنتًا ولا مشقّة. كذلك إذا أصبحت قوى الإِنسان مسخّرة للرّوح، زال كلّ تكلّف وتعب وتحوّل إلى الرّاحة واليسر، واستسلمت أقاليم الملك السّبعة للملكوت وأصبحت جميع القوى عمّالاً له"3.
7- شرط لنيل المحبّة والتّوبة
"تترك كل معصية في الروح أثراً عُبّر عنه في الأحاديث الشّريفة بالنّقطة السّوداء وهي ظلام ظهر في القلب والرّوح ثم تتوسّع هذه النقطة حتى تسوق الإنسان إلى الكفر والزندقة والشقاوة الأبدية... فالإنسان العاقل لو انتبه لهذه المعاني واعتنى بكلام الأنبياء والأولياء ـ عليهم السلام ـ والعرفاء والحكماء والعلماء ـ رضوان الله عليهم ـ بقدر اعتنائه بقول طبيب معالج، لابتعد لا محالة عن المعاصي ولم يقترب منها أبداً. وإذا ابتلي بالمعصية لا سمح الله أبدى بسرعة تبرّمه وانزعاجه منها وندم عليها وظهرت صورة ندمه في قلبه وتكون نتيجة هذه النّدامة عظيمة جداً، وآثارها حسنة وكثيرة ثم يحصل من جرّاء ندمه العزم على ترك
1 الأربعون حديثًا، ص 30.
2 (م.ن)، ص 152.
3 (م.ن)، ص 151-152.
124
94
الدرس الثامن: العزم
المعصية وترك مخالفة ربّ العالمين. وعندما يتوفّر هذان الركنان ـ النّدم على اقتراف المعصية والعزم على عدم العودة إليها ـ يتيسّر أمر سالك طريق الآخرة، وتغمره التوفيقات الإلهيّة ليصبح حسب النّص القرآنيّ ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾1"2.
ما الذي يحقّق العزم؟
يبيّن الإمام مجموعة من الشّروط والمقدّمات التي تحقّق العزم، فيقول:
1- اليقظة
"اعلم أنّ المنزل الأوّل من منازل الإنسانيّة هو منزل اليقظة كما يقوله كبار أهل السّلوك في بيانهم لمنازل السالكين، ولهذا المنزل كما يقول الشيخ العظيم الشأن الشاه آبادي ـ دام ظله ـ بيوت عشرة، لسنا الآن بصدد تعدادها. ولكن ما يجب قوله هو أنّ الإنسان ما لم ينتبه إلى أنّه مسافر، ولا بُدَّ من السير، وأنّ له هدف وتجب الحركة نحوه، وأنّ البلوغ إلى المقصد ممكن، لما حصل له العزم والإرادة للتحرّك"3.
2- الصّبر
"إنّ الصبر مفتاح أبواب السعادات، وباعث للنجاة من المهالك بل الصبر يهوّن المصائب، ويخفف الصّعاب، ويقوّي العزم والإرادة، ويبعث على استقلالية مملكة الروح"4. فاتّضح أنّ المعرفة بالدّور والهدف والصّبر عليه هو الذي يولّد العزم في وجود الإنسان لبلوغ مراتب الكمال.
برنامج تحصيل العزم
بالإضافة إلى ما تقدّم يذكر الإمام قدس سره مجموعة من الوصايا العمليّة التي تساعد على تقوية العزم اللازم للسّير إلى الله، منها:
1- عدم اليأس
"كما أنّ إرادة الإنسان في شبابه، شابّة وقويّة، وعزمه شابّ وقويّ، لذلك فالإصلاح أيسر عليه يومئذٍ، أمّا في مرحلة الشيخوخة فالإرادة تضعف، والعزم يشيخ، لذا تكون السيطرة على
1 الأربعون حديثًا، ص 309.
2 سورة البقرة، الآية 222.
3 (م.ن)، ص 202.
4 (م.ن)، ص 297.
125
95
الدرس الثامن: العزم
القوى أصعب على الإنسان، ولكن ـ مع ذلك ـ لا ينبغي للشيوخ أن يغفلوا عن السّعي لإصلاح نفوسهم وتزكيتها، فلا ينبغي لهم أن ييأسوا، لأنّ الإنسان ـ رغم كلّ ذلك ـ يستطيع أن يصلح نفسه ما دام في هذا العالم ـ وهو دار التبدّل والتغيّر، ومنزل الهيولى والاستعداد، ويمكنه بالجهد والاجتهاد أن يقتلع جذور الأمراض النفسانيّة المزمنة مهما بلغت درجة رسوخها"1.
2- الابتعاد عن الملذّات
"كلّما كانت العبادات أشق كانت أرغب: "أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا"2. فالتنازل عن النوم اللذيذ في ليل الشتاء البارد، والانصراف إلى عبادة الحقّ المتعال، يزيد من قوّة الرّوح وتغلّبها على قوى الجسم، ويقوّي الإرادة. وإذا كان هذا في أوّل الأمر على شيءٍ من المشقّة والعناء، فإنّ ذلك يخفّ تدريجيًّا كلّما واصل العبادة، وازدادت طاعة الجسم للنفس. إذ أننا نلاحظ أنّ أهل العبادة يقومون بالأعمال دون مشقّة وتكلّف. أمّا نحن فشعورنا بالكسل وبالمشقّة ناشئ من أنّنا لا نبدأ بالعمل. فلو أنّنا بدأنا العمل وكرّرناه عدّة مرات، لتبدّلت مشقّته إلى راحة، بل إنّ أهلها يلتذّون بها أكثر مما نلتذّ نحن بمشتهيات الدّنيا. إذًا، الأمر يصبح عاديًّا بالتّكرار. والخير عادة"3.
3- العبادة
"للعبادة ثمرات، منها: أنّ صورة العمل نفسه تصبح على قدر من الجمال في ذلك العالم لا يكون له نظير في هذا العالم، ونكون عاجزين عن تصوّر مثلها. ومنها: أنّ النّفس تصبح ذات عزم واقتدار، فتكون لها نتائج كثيرة"4.
4- الرّياضات الشّرعيّة
"وكما يقوى عزم الإِنسان بالرياضات الشرعية والعبادات والمناسك وترك الرغبات ويصبح الإنسان ذا عزم وإرادة، فكذلك في المعاصي تتغلب الطبيعة لدى الإنسان وتضعف إرادته وعزمه"5.
1 جنود العقل والجهل، ص 154.
2 بحار الأنوار، ج67، ص191.
3 الأربعون حديثًا، ص 153.
4 (م.ن)، ص 153.
5 (م.ن)، ص 153.
126
96
الدرس الثامن: العزم
5- ترك التّسويف
"إنّ طريق الحقّ سهلٌ بسيط، ولكنّه يحتاج إلى انتباهٍ يسير، فيجب العمل، لأنّ التّباطؤ والتّسويف، ومضاعفة المعاصي في كلّ يوم، تبعث على صعوبة الأمر، وأمّا الإقبال على العمل، والعزم على إصلاح السّلوك والنّفس، يقرّب الطّريق ويسهّل العمل"1.
أسباب ضعف العزيمة
إنّ الالتفات إلى العوامل التي تؤدّي إلى إضعاف العزم، بل زواله، أمر ضروريّ لكلّ مجاهد في سبيل الله، ويذكر الإمام مجموعة من موانع العزم، فيقول:
1- التجرّؤ على المعاصي
"وإنّ التجرّؤ على المعاصي يفقد الإنسان تدريجيًّا، العزم ويختطف منه هذا الجوهر الشريف"2.
2- استماع الغناء
"يقول الأستاذ المعظم دام ظلّه: إنَّ أكثر ما يسبّب على فقد الإنسان العزم والإرادة هو الاستماع للغناء"3.
3- حبّ الدّنيا
"ومن المفاسد الكبيرة لحبّ الدّنيا أنّه يمنع الإنسان من الرّياضات الشّرعيّة والعبادات والمناسك، ويُقوّيّ جانب الطّبيعة في الإنسان بحيث يجعلها تعصي الرّوح وتتمرّد عليها ويوهن عزم الإنسان وإرادته"4.
4- التّسويف
"ويجب أن نعرف أن من أهم أسباب عدم التيقظ الذي يؤدي إلى نسيان المقصد ونسيان لزوم المسير، وإلى إماتة العزم والإرادة، هو أن يظنّ الإنسان أنّ في الوقت متّسعًا للبدء
1 الأربعون حديثًا، ص 313.
2 (م.ن)، ص 30-31.
3 (م.ن)، ص 31.
4 (م.ن)، ص 151.
127
97
الدرس الثامن: العزم
بالسّير، وأنّه إذا لم يبدأ بالتحرّك نحو المقصد اليوم، فسوف يبدأه غداً، وإذا لم يكن في هذا الشهر، فسيكون في الشهر المقبل"1.
5- تحريف وجهة العزم
"القلب بمثابة مرآة لها وجهان، وجهٌ منها نحو عالم الغيب، وتنعكس فيه الصّور الغيبيّة، ووجه آخر نحو عالم الشّهادة وتنعكس فيه الصّور المُلكيّة الدّنيويّة. ويتمّ انعكاس الصّور الدنيويّة من خلال القوى الحسّية الظّاهريّة وبعض القوى الباطنيّة مثل الخيال والوهم. وتنتقش الصّور الأخرويّة فيها من باطن العقل وسرّ القلب. فإذا قويت الوجهة الدنيويّة، والتفتت كلّيًّا إلى تعمير الدّنيا، وانحصرت همّته في هذا العالم واستغرق في ملاذ البطن والفرج، وكافّة المشتهيات والمتع الدّنيويّة، انعطف باطن الخيال نحو الملكوت السّفليّ، الذي يكون بمثابة الظلّ المظلم لعالم المُلك والطّبيعة، وعالم الجنّ والشياطين والنّفوس الخبيثة، وتكون الالقاءات شيطانيّة، وباعثة على تخيّلات باطلة وأوهام خبيثة. وحيث أنّ النّفس تنتبه إلى الدّنيا، اشتاقت إلى تلك التخيّلات الباطلة، وتبعها أيضًا العزم والإرادة، وتتحوّل كلّ الأعمال القلبية والقالبية إلى سنخ الأعمال الشيطانية من قبيل الوسوسة"2.
موعظة للإمام
"إذاً، تجنّب يا أخي المعاصي، واعزم على الهجرة إلى الحقّ تعالى، واجعل ظاهرك ظاهرًا إنسانيًّا، وادخل في سلك أرباب الشّرائع، واطلب من الله تعالى في الخلوات العون على بلوغ هذا الهدف واستشفع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام حتى يوفّقك الله على ذلك، ويعصمك من المزالق التي تعترضك، لأنّ هناك مزالق كثيرة تعترض الإنسان أيام حياته، ومن الممكن أنّه في لحظة واحدة يسقط في مزلق مهلك، يعجز من السّعي لإنقاذ نفسه، بل قد لا يهتم بإنقاذ نفسه، بل ربّما لا تشمله حتى شفاعة الشافعين. نعوذ بالله منها"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 202.
2 (م.ن)، ص 433.
3 (م.ن)، ص 31.
128
98
الدرس الثامن: العزم
المفاهيم الرئيسة
1- العزم هو أن يوطّن الإنسان نفسه على ترك المعاصي وأداء الواجبات، ويتّخذ قراراً بذلك، ويتدارك ما فاته في أيّام حياته.
2- من أبعاد العزم وأدواره أنّه: أوّل شرط للسّلوك, يقطع جذور حبّ الدّنيا, زاد الإنسان في سيره وسلوكه, السّبيل لنيل الجنّة, يجعل جميع قوى النّفس منقهرة للحقّ, شرط لنيل المحبّة والتّوبة.
3- شروط تحقّق العزم:
- اليقظة: فما لم ينتبه إلى أنّه مسافر، ولا بُدَّ من السير، وأنّ له هدف وتجب الحركة نحوه، وأنّ البلوغ إلى المقصد ممكن، لما حصل له العزم والإرادة للتحرّك.
- الصّبر: فالصبر يهوّن المصائب، ويخفف الصّعاب، ويبعث على استقلالية مملكة الروح، وبالتالي يقوّي العزم.
4- يحصل العزم من خلال:
- عدم اليأس: فما دام الإنسان في هذا العالم ــ دار التبدّل والتغيّر، ومنزل الهيولى والاستعداد ـ يمكنه بالجهد والاجتهاد أن يقتلع جذور الأمراض النفسانيّة المزمنة مهما بلغت درجة رسوخها.
- الابتعاد عن الملذّات: فالتنازل عن النوم اللذيذ في ليل الشتاء البارد، والانصراف إلى عبادة الحقّ المتعال، يزيد من قوّة الرّوح وتغلّبها على قوى الجسم، ويقوّي الإرادة.
- ترك التّسويف، لأنّ التّباطؤ والتّسويف، ومضاعفة المعاصي في كلّ يوم، تبعث على صعوبة الأمر.
5- أسباب ضعف العزيمة:
التجرّؤ على المعاصي، استماع الغناء، حبّ الدّنيا، التّسويف، تحريف وجهة العزم نحو الملذّات الدنيويّة والخيالات الباطلة.
129
99
الدرس الثامن: العزم
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"وقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ زَادَ الرَّاحِلِ إِلَيْكَ عَزْمُ إِرَادَةٍ يَخْتَارُكَ بِهَا وَيَصِيرُ بِهَا إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَيْكَ اللَّهُمَّ وقَدْ نَادَاكَ بِعَزْمِ الْإِرَادَةِ قَلْبِي واسْتَبَقَنِي (اسْتَبْقَى) نِعْمَتَكَ بِفَهْمِ حُجَّتِكَ لِسَانِي وَمَا تَيَسَّرَ لِي مِنْ إِرَادَتِكَ اللَّهُمَّ فَلَا أُخْتَزَلَنَّ عَنْكَ وَأَنَا أَؤُمُّكَ وَلَا أُخْتَلَجَنَّ عَنْكَ وأَنَا أَتَحَرَّاكَ اللَّهُمَّ وأَيِّدْنَا بِمَا تَسْتَخْرِجُ بِهِ فَاقَةَ الدُّنْيَا مِنْ قُلُوبِنَا وَتَنْعَشُنَا مِنْ مَصَارِعِ هَوَانِهَا وتَهْدِمُ بِهِ عَنَّا مَا شُيِّدَ مِنْ بُنْيَانِهَا وَسْقِينَا بِكَأْسِ السَّلْوَةِ عَنْهَا حَتَّى تُخْلِصَنَا لِعِبَادَتِكَ وتُورِثَنَا مِيرَاثَ أَوْلِيَائِكَ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾2.
2- ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾3.
الروايات الشريفة:
1- عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ عليه السلام: "إِنَّ عِنْدَنَا قَوْماً لَهُمْ مَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْعَزِيمَةُ، يَقُولُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَقَالَ: لَيْسَ أُولَئِكَ مِمَّنْ عَاتَبَ اللهُ إِنَّمَا قَالَ اللهُ ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾"4.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلَاصُهَا مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا نَتَمَسَّكُ بِهَا أَبَداً مَا أَبْقَانَا وَنَدَّخِرُهَا لِأَهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا فَإِنَّهَا عَزِيمَةُ الْإِيمَانِ وَفَاتِحَةُ الْإِحْسَانِ وَمَرْضَاةُ الرَّحْمَنِ وَمَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ"5.
1 الشيخ عبّاس القمّيّ، مفاتيح الجنان، من أدعية يوم المبعث.
2 سورة آل عمران، الآية 186.
3 سورة الشورى، الآية 43.
4 الكافي، ج1، ص 11.
5 نهج البلاغة، ص 46.
130
100
الدرس الثامن: العزم
3- عَنْ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام يَقُولُ: سَادَةُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ خَمْسَةٌ وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَعَلَيْهِمْ دَارَتِ الرَّحَى نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ"1.
4- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "قَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ وَكَانَ عَابِداً نَاسِكاً مُجْتَهِداً إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لَنَا صِفَةَ الْمُؤْمِنِ كَأَنَّنَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا هَمَّامُ الْمُؤْمِنُ... يُحِبُّ فِي اللهِ بِفِقْهٍ وَعِلْمٍ وَيَقْطَعُ فِي اللهِ بِحَزْمٍ وَعَزْمٍ"2.
5- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا عقدتم على عزائم خير فأمضوها"3.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لَا تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَوَلِيمَةٌ، مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ، وَأَمْحَى الظُّلَمَ لِتَذَاكِيرِ الْهِمَمِ"4.
7- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "عزيمة الكيس وجدّه لإصلاح المعاد والاستكثار من الزاد"5.
1 الكافي، ج1، ص 175.
2 (م.ن)، ج2، ص 226.
3 تصنيف غرر الحكم، ص 476.
4 نهج البلاغة، خ 239.
5 تصنيف غرر الحكم، ص 149.
131
101
الدّرس التاسع: التفكّر
الدّرس التاسع: التفكّر
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى ماهيّة التفكّر ودوره في تكامل الإنسان.
2- يشرح أهم المسائل التي ينبغي التفكّر بها.
3- يبيّن أهم موانع التفكّر والعوامل التي تساعد على تحصيل هذه الفضيلة.
133
102
الدّرس التاسع: التفكّر
تمهيد
إذا كان تهذيب النّفس أساس الحياة المعنويّة ونيل الفيوضات الرّبّانيّة، فإنّ التفكّر هو الخطوة الأولى على هذا الطّريق. وليس المقصود أن يكون للإنسان بعض الأوقات يتفكّر فيها، بل أن يصبح التّفكّر في شخصيّته سمة بارزة وملكة راسخة.
إنّ التفكّر يعبّر عن تفاعل الإنسان الإيجابيّ مع كلّ ما هو إلهيّ ورحمانيّ. فقد خلق الله الوجود ودبّره بحكمته وأرسل من يهدي إليه وحمّلهم كتبه من أجل أن يتفاعل البشر مع كلّ المظاهر ويستفيدوا منها، فينالوا بذلك كمالهم ويسيروا باتّجاه غاية خلقهم. ولا يمكن أن يحصل هذا التّفاعل إلّا إذا سعى الإنسان لمعرفة أسرار الخلق ومعانيه، وهذا الذي يحصل بالتّفكّر.
ما هو التّفكّر؟
لا بدّ أوّلًا من أن نعرف ما هو التفكّر. فالكثير من النّاس يظنّون أنّ التفكّر عبارة عن استحضار صور القضايا في الذّهن والخيال والتجوّل فيها. لكنّ التفكّر أمرٌ أبعد من ذلك لأنّه يرتبط بالتوّجه إلى المقصد واستحضار الغايات من القضايا، كما يقول الإمام الخميني قدس سره: "والعمدة في هذا الباب أن يفهم الإنسان ما هو التّفكّر الممدوح، لأنّه لا شكّ في أنّ التّفكّر ممدوحٌ في القرآن والحديث، فأحسن التّعبير فيه ما قاله الخواجة عبدالله الانصاري قدس سره: "اعلم أنّ التّفكّر تلمّس البصيرة لاستدراك البغية"، يعني أنّ التفكر هو تجسّس البصيرة (وهي بصر القلب) للوصول إلى المقصود والنّتيجة التي هي غاية الكمال. ومن المعلوم أنّ المقصد هو السّعادة المطلقة التي تحصل بالكمال العلميّ والعمليّ"1.
1 معراج السالكين، ص 214.
135
103
الدّرس التاسع: التفكّر
ولهذا فإنّ التّفكّر المطلوب في آيات القرآن الكريم هو السّعي للوصول إلى المقصد كما قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "من آداب قراءة القرآن حضور القلب... ومن آدابه المهمّة: التّفكّر، والمقصود من التّفكّر أن يبحث في الآيات الشّريفة عن المقصد والمقصود"1.
أهميّته
من خلال التّأمّل في أحوال البشر يتبيّن لنا أنّ الإنسان لا يمكن أن يخلو من حالة التّفكّر، فما دام مستيقظًا فهو دائم التّجوال في الأفكار، بل قد يلحقه التفكّر إلى النّوم أحيانًا!
التّفكّر ـ إذًا ـ هو أمرٌ قهريّ. ويكون الحثّ عليه عندها من باب تحصيل الحاصل! لكن لو تأمّلنا جيّدًا، لوجدنا أنّ أكثر النّاس لا يعرفون كيفيّة التّفكّر الصّحيح، ولا يتفكّرون فيما ينبغي لهم، بل يغلب عليهم التّفكّر في أمور لا طائل وراءها. لهذا، فإنّ جُلّ ما ورد في باب التّفكّر إنّما كان لأجل توجيهنا نحو المواد التي ينبغي أن نتفكّر فيها. وقد أشارت بعض النّصوص إلى شروطه وكيفيّته. وشاهدنا بعضها يدلّنا على موانعه وعواقب تركه وإهماله.
أكثر ما نحتاج إليه ليصبح التّفكّر ملكة راسخة فينا، فنتقدّم على طريق الكمال، هو إدراك أهميّته واستشعار عظمة تأثيره ودوره على جميع الصّعد. لهذا، لم يكن أمامنا أجمل ممّا قاله الإمام الخمينيّ قدس سره شارحًا مفسّرًا للنّصوص الشّريفة:
1- غاية إنزال الكتاب
"قد كثرت الدّعوة إلى التّفكر وتمجيده وتحسينه في القرآن الشّريف قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾2. وفي هذه الآية مدحٌ عظيم للتّفكّر، لأنّها جعلت غاية إنزال الكتاب السّماويّ العظيم والصّحيفة النّورانيّة المجيدة احتمال التّفكّر، وهذا من شدّة الاعتناء به حيث أنّ مجرّد احتماله صار موجبًا لهذه الكرامة العظيمة، وقال تعالى في الآية الأخرى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾3. والآيات من هذا القبيل أو ما يقرب منه كثيرة والروايات أيضًا في التّفكّر كثيرة. فقد نُقل عن الرّسول
1 معراج السالكين، ص 213.
2 سورة النحل، الآية 44.
3 سورة الأعراف، الآية 176.
136
104
الدّرس التاسع: التفكّر
الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لمّا نزلت الآية الشّريفة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ﴾ إلى آخرها.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها"1.
2- باب معرفة الله
"فالطّريق الطبيعيّ لمعرفة الله وطلبه هو أنّ يبتدئ الإنسان أوّلاً بإنفاق وقت في التّفكّر بالحقّ سبحانه، ويحصل على العلم بالله وأسماء ذاته المقدّس وصفاته حسب الأساليب المتّبعة من التّلمذة على يد رجال ذلك العلم، ثم يتزوّد من المعارف بواسطة الرياضة العلميّة والعمليّة وينتهي بذلك حتمًا إلى النّتيجة المنشودة"2.
3- مقدّمة للتذكّر
"إنّ قوّة التّذكّر وكماله، يرتبطان بقوّة التّفكر وكماله. والتّفكّر الذي يفضي إلى التّذكّر التامّ للمعبود، لا يساوي الأعمال الأخرى ولا يقاس في الفضيلة بها. ففي الأحاديث الشّريفة أن تفكّر ساعة أفضل من عبادة سنة واحدة أو ستين عاماً أو سبعين عاماً. ومن الواضح أنّ الغاية من العبادات وثمرتها المهمّة، حصول المعرفة والتّذكّر للمعبود الحقّ. والحصول على هذه الخاصيّة من التفكّر الصّحيح، أحسن من الحصول عليها عن طريق العبادة. إذ لعلّ تفكر ساعة واحدة، يفتح أبوابًا من المعارف على السّالك، لا تفتحها عبادة سبعين سنة، أو إنّ في تفكّر ساعة واحدة تذكّر للإنسان بحبيبه سبحانه، ما لا يحصل من المشاق والمساعي المجهدة فترة سنين عديدة مثل هذا التذكّر. واعلم أيّها العزيز أنّ تذكر الحبيب، والتّفكّر فيه دائماً، يثمر نتائج كثيرة لكافّة الطّبقات"3.
4- مقدّمة الإيمان
"اعلم، أنّ الإيمان بالمعارف الإلهيّة وأصول العقائد الحقّة لا يتحقّق إلاّ بما يلي: أن يفهم المرء أوّلًا تلك الحقائق بوسيلة التّفكّر والرّياضات العقليّة، والآيات والبيانات والبراهين العقليّة، وهذه المرحلة هي بمثابة مقدّمة الإيمان"4.
1 معراج السالكين، ص 213-214.
2 الأربعون حديثًا، ص 489.
3 (م.ن)، ص 325.
4 جنود العقل والجهل، ص 93-94.
137
105
الدّرس التاسع: التفكّر
5- مفتاح أبواب المعارف
"فالتّفكّر هو مفتاح أبواب المعارف وخزائن الكمالات والعلوم، وهو مقدّمة لازمة وحتمية للسّلوك الإنساني"1.
6- مقدّمة لازمة للسّلوك
"اعلم أنّ أوّل شرط مجاهدة النّفس والّسير باتّجاه الحقّ تعالى هو "التّفكّر""2.
7- باب جعل القلب إلهيًّا
"من الأمور الهامّة، إذًا، السّعي في سبيل تطوير حالة القلب، وجعلها إلهيّة، وتوجيهها نحو الحقّ المتعالى وأوليائه ودار كرامته، ويتمّ هذا قطعاً بواسطة التّفكّر في آلاء الذّات المقدّس، ونعمائه والمحافظة على طاعته وعبادته"3.
8- أفضل الأعمال القلبيّة والعباديّة
"إنّ التفكّر في لطائف الصّنعة ودقائقها وفي إتقان نظام الخليقة، من العلوم النّافعة، ومن أفضل الأعمال القلبيّة، وخيرٌ من جميع العبادات، لأنّ نتيجته أشرف نتيجة. وعلى الرّغم من أنّ النّتيجة الأصلية لجميع العبادات والسرّ الحقيقي لها هو الحصول على المعرفة، فإنّ كشف هذا السرّ والحصول على تلك النّتيجة ليسا متيسّرين للجميع، بل إنّ لذلك أهلًا تكون لهم في كلّ عبادة بذرة لمشاهدة أو لمشاهدات"4.
بماذا نتفكّر؟
وإذا عرفنا أهميّة التّفكّر ومالت قلوبنا إليه احتجنا إلى تطبيقه ووضعه ضمن إطارٍ عمليّ. والتّفكّر كالنّار يزداد لهيبًا واشتعالًا كلّما قدّمنا له مادّة صالحة كما أنّه يخمد أو ينحرف إذا حرمناه من هذه المواد وقدّمنا له بدلًا من ذلك ما لا يوصل إلى نتيجة تتناسب مع المقصد النّهائيّ للخلقة. ويعرض لنا الإمام الخمينيّ قدس سره بعض نماذج التّفكّر المحمود:
1 الأربعون حديثًا، ص 222.
2 (م.ن)، ص 28.
3 (م.ن)، ص 494.
4 (م.ن)، ص 228.
138
106
الدّرس التاسع: التفكّر
1- نظام الكون
"أيّها العزيز، انظر وتأمّل في العلاقة التي بين هذه الشّمس والأرض. وفي المسافة المعيّنة بين الأرض والشّمس، وحركة الأرض حول نفسها وحول الشّمس. تلك الحركة التي تكون على مدارٍ محدّد فيحصل منها الليل والنهار والفصول. فما أتقنه من صنع وما أكملها من حكمة! ولولا هذا التّنظيم، أي لو كانت الشّمس أقرب أو أبعد، لما تكوّن في الأرض، في الحالة الأولى من الحرّ، وفي الحالة الثانية من البرد، معدن، ونبات، وحيوان. وكذلك لو توقّفت الأرض عن الحركة، على ما هي عليه من البعد عن الشمس لما كان الليل أو النّهار، ولما كانت الفصول، ولما تكوّنت الأرض نهائيًّا أو القسم الأكبر منها. ولا يقتصر على هذا أيضًا، فإنّ الأوج، أو أقصى نقطة للأرض عن الشّمس، يقع في جهة الشّمال لكي لا تزداد الحرارة فتُصاب الكائنات بالضّرر. وكذلك الحضيض، أو أقرب نقطة بين الشّمس والأرض، يقع في جهة الجنوب، لكي لا يُصاب أهل الأرض بضرر. ولا يكتفي بهذا أيضًا، فالقمر المؤثّر في تربية موجودات الأرض، يعاكس الأرض في سيرها، بحيث عندما تكون الشّمس في شمال الأرض، يكون القمر في جنوبها، والعكس بالعكس، إذا كان هذا في الشمال، كانت تلك في الجنوب، وذلك لانتفاع سكّان الأرض منهما. هذه كلّها من الأمور الضّرورية المحسوسة. غير أنّ الإحاطة ببدائع النّظام ودقائقه لا تكون إلاّ للخالق الذي يحيط علمه بكلّ شيء"1.
2- خلق الإنسان
"لِمَ ابتعدنا كلّ هذا البعد؟ فليفكّر المرء في خلقه هو، على قدر طاقته وسعة علمه: أوّلًا في الحواس الظّاهرة التي صُنعت وفق المدركات والمحسوسات، إذ إنّ لكلّ مجموعة من المدركات، التي توجد في هذا العالم، قوّة مدركة بأدقّ ما تكون من الدّقّة والتّرتيب المحيّرين للعقول. والأمور المعنويّة، التي لا تُدرك بالحواس الظّاهرة، تُدرك على ضوء الحواس الباطنيّة.
دع عنك علم الرّوح والقوى الرّوحيّة للنّفس، ممّا تقصر مدارك الإِنسان عن فهمها، واتّجه بنظرك إلى علم الأبدان وتشريحها وبنائها الطّبيعيّ، وخصائص كلّ عضو من
1 الأربعون حديثًا، ص 229.
139
107
الدّرس التاسع: التفكّر
الأعضاء الظّاهرية والباطنيّة. انظر ما أغرب هذا النّظام وما أعجب هذا التّرتيب؟! على الرّغم من أنّ علم البشر لم يبلغ حتى الآن، ولن يبلغ حتّى بعد مائة قرن، إلى معرفة واحد بالألف منه، حسب الاعتراف الصّريح بأفصح لسان من جميع العلماء بعجزهم، مع أنّ جسم الإنسان بالنسبة إلى كائنات الأرض الأخرى، لا يزيد على مجرّد ذرّة تافهة، وأنّ الأرض وجميع كائناتها، لا تعدل شيئًا إزاء المنظومة الشّمسيّة، وإنّ كلّ منظومتنا الشّمسيّة لا وزن لها إزاء المنظومات الشّمسيّة الأخرى، وإنّ كل هذه المنظومات، الكبيرة منها والصّغيرة، مبنيّة وفق ترتيب منظّم، ونظام مرتّب، بحيث أنّ أيّ نقد لا يمكن أن يوجّه إلى أتفه ذرّة فيها، وأنّ عقول البشر كافّة عاجزة عن فهم دقيقة من دقائقها.
فهل بعد هذا التّفكّر يحتاج عقلك إلى دليل آخر ليذعن بأنّ كائنًا عالمًا، حكيمًا، لا يشبه الكائنات الأخرى، هو الذي أوجد هذه الكائنات بكلّ حكمةٍ ونظامٍ وترتيبٍ واتقان؟ ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾1. إنّ كل هذا الخلق المتقن الذي يعجز عقل الإنسان عن فهمه، لم يظهر عبثًا وتلقائيًّا!"2.
3- التفكر في تجرد النفس الإنسانية
"من درجات التفكر أيضاً التفكر في أحوال النفس يؤدي إلى نتائج كثيرة ومعارف عديدة... إن من حالات النفس هو تجرّدها، وهي حالة لم يُولِ الحكماء العظام أهمية لأية مسألة حكمية فلسفية أخرى مثلما أَوْلُوا هذه المسألة وأثبتوها بالأدلة والبراهين. ولكننا لسنا الآن في صدد إثبات تجرد النفس بصورة مفصلة، وإنما نكتفي ببعض الأدلة التي لا تستعصي مبادئها على الفهم، للوصول إلى المقصود.
فنقول: يجمع الأطباء وعلماء الأبدان، وفي ظل التجارب، على أن جميع أعضاء الجسم، من أم الدماغ التي هي مركز الإدراكات ومحل ظهور قوى النفس، وحتى آخر أجزائه الصلبة، تبدأ، من سن الخامسة والثلاثين، أو الثلاثين فما فوق، بالانحدار نحو الانحطاط والنقصان، والاقتراب من الضعف والانحلال. ولقد جربنا بأنفسنا أيضاً كيف يبدو الضعف في القوى
1 سورة إبراهيم، الآية 10.
2 الأربعون حديثًا، ص 229-231.
140
108
الدّرس التاسع: التفكّر
كلها. ولكن في هذه الفترة نفسها، أي من سن الثلاثين أو الأربعين فما فوق، تزداد القوى الروحية والإدراكات العقلية كمالاً ورقياً وسداداً. ويتضح من هذا أن القوى العقلية ليست جسمانية، إذ لو كانت جسمانية لانحدرت، مثل سائر قوى الجسم، نحو الضعف والوهن. كما لا يمكن القول بأن القوى العقلية تزداد قوة بكثرة أعمال القوة الفكرية وحصول التجربة، إذ أن القوى الجسمانية ينتابها التعب والانحلال، لا القوة والكمال، نتيجة لكثرة العمل وبذل الجهد. وهذا بذاته دليل على أن القوى العقلية ليست جسمية ولا من آثار الجسم"1.
4- التفكّر في النعم من حولنا
"التفكر في هذا المقام هو أن يفكّر الإنسان بعض الوقت في أنّ مولاه الذي خلقه في هذه الدّنيا، ووفّر له كل أسباب الدعة والراحة، ووهبه جسمًا سليمًا وقوى سالمة ذات منافع تحيِّر ألباب الجميع، والذي رعاه وهيَّأ له كل هذه السّعة وأسباب النّعمة والرحمة من جهة، وأرسل جميع هؤلاء الأنبياء، وأنزل كلّ هذه الكتب "الرسالات"، وأرشد ودعا إلى الهدى من جهة أخرى... هذا المولى ماذا يستحقّ منّا؟ وما هو واجبنا تجاه مالك الملوك هذا؟! هل أنّ وجود جميع هذه النّعم، هو فقط لأجل هذه الحياة الحيوانيّة وإشباع الشّهوات التي نشترك فيها مع الحيوانات أو أن هناك هدفاً وغاية أخرى؟ هل أنّ للأنبياء الكرام، والأولياء العظام، والحكماء الكبار، وعلماء كلّ أمّة الذين يدعون النّاس إلى حكم العقل والشّرع ويحذّرونهم من الشّهوات الحيوانية ومن هذه الدنيا البالية، عداءً ضدّ النّاس أم أنّهم كانوا مثلنا لا يعلمون طريق صلاحنا نحن المساكين المنغمسين في الشهوات؟! إنّ الإنسان إذا فكَّر لحظةً واحدة، عرف أنّ الهدف من هذه النّعم هو شيءٌ آخر، وأنّ الغاية من هذا الخلق أسمى وأعظم، وأنّ هذه الحياة الحيوانية ليست هي الغاية بحدَّ ذاتها..."2.
الذنوب تمنع من التفكر
قد علمنا أنّ التّفكّر المحمود هو الذي يوصل إلى المقصد والمقصود، ويكون أفضل معين على التّذكّر الذي هو عبارة عن الحضور والقرب. ولهذا، فإنّ كلّ ما يمنع من تحقيق هذا الغرض
1 الأربعون حديثًا، ص 229-231.
2 (م.ن)، ص 28-29.
141
109
الدّرس التاسع: التفكّر
فهو من موانع التّفكّر الذي يجب اجتنابه والتخلّص منه. وأبرز هذه الموانع الذنوب والمعاصي فيشير الإمام الخمينيّ قدس سره إلى تأثير الأعمال السيّئة على التّفكّر فيقول: "وليُعلم كما أنّ لكلّ عمل من الأعمال الصّالحة أو السّيّئة صورة في عالم الملكوت تتناسب معه، فله صورة أيضًا في ملكوت النّفس، وتحصل بواسطتها في ملكوت النّفس: إمّا النّورانيّة... وإمّا أن يصير ملكوت النّفس بها ظلمانيًّا وخبيثًا، وفي هذه الصّورة يكون القلب كالمرآة المريّنة والمدنّسة، لا تنعكس فيها المعارف الإلهيّة ولا الحقائق الغيبيّة، وحيث أنّ القلب في هذه الحالة يقع بالتّدريج تحت سلطة الشّيطان ويكون إبليس هو المتصرّف في مملكة الرّوح، فيقع السّمع والبصر وسائر القوى أيضًا تحت تصرّف ذاك الخبيث، وينسدّ السمع بالكلّيّة عن المعارف والمواعظ الإلهيّة، ولا ترى العين الآيات الباهرة الإلهيّة وتعمى عن الحقّ وآثاره وآياته ولا يتفقّه القلب في الدّين، ويُحرم من التّفكّر في الآيات والبيّنات وتذكّر الحقّ والأسماء والصّفات، كما قال الحقّ تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾1. فيكون نظرهم إلى العالم كنظر الأنعام والحيوانات الخالية من الاعتبار والتّدبّر، وقلوبهم كقلوب الحيوانات لا نصيب لها من التّفكّر والتّذكّر، بل تزداد حالة الغفلة والاستكبار فيهم يومًا بعد يوم من جرّاء النّظر في الآيات وسماع المواعظ، فهم أرذل وأضّل من الحيوان"2.
عوامل مساعدة على تقوية التفكّر
ذكر الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة من الأمور التي تساهم في جعل التّفكّر عادة أو ملكة ثابتة في النّفس.
1- الجذبة الإلهية
بعض هذه الأمور تندرج ضمن التّوفيق الخاصّ الذي يجب أن نطلبه من الله تعالى كالجذبة الرّبوبيّة. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "لو حصلت الجاذبيّة الرّبوبيّة والحال الخاصّة، لأمكن إدراك حقيقة العبادة والسرّ الحقيقي للتذكّر والتفكّر"3.
1 سورة الأعراف، الآية 179.
2 معراج السالكين، ص 211.
3 الأربعون حديثًا، ص 153.
142
110
الدّرس التاسع: التفكّر
2- معرفة الغاية
ومنها ما يرتبط بعالمه الفكريّ ومعارفه كإدراك غاية وجوده، لأنّه عندئذٍ سيقبل على كتاب الله تعالى كمسافر يرتقي سلّم العروج إلى هدفه. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "فإذا أدرك القارئ المقصد، صار بصيرًا في تحصيله، وانفتح له طريق الاستفادة من القرآن الشّريف، وفُتحت له أبواب رحمة الحقّ، ولم يصرف عمره القصير العزيز ورأسمال تحصيل سعادته على أمور ليست مقصودة لرسالة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكفّ عن فضول البحث والكلام، في مثل هذا الأمر المهمّ. فإذا أشخص بصيرته مدّة إلى هذا المقصود وصرف نظره عن سائر الأمور تتبصّر عين قلبه ويكون بصره حديدًا ويكون التّفكّر في القرآن للنّفس أمرًا عاديًّا، وتنفتّح طرق الاستفادة، وتفتّح له أبواب لم تكن مفتوحة لحينها، ويستفيد مطالب ومعارف من القرآن ما كان لينالها بأيّ شكل، فحينها يفهم كون القرآن شفاء للأمراض القلبية"1.
3- صلاة الليل
ومنها صلاة الليل، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "لو أنّ يقظة الليل تكشف للإنسان حقيقة الصّلاة وسرّها، لأنس بذكر الله والتّفكّر في الله، ولجعل الليالي مركوبه للعروج إلى قربه تعالى، ولمّا كان ثمّة ثواب له إلا جمال الحقّ الجميل وحده"2.
4- الصمت
ومنها الصّمت، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وحيث إن الصمت عن الباطل واللغو، واجتناب الهذيان والهذر، يُعين الإنسان على التفكر والاشتغال بباطنه وتطهيره من الرجس، وتخليته وتصفيته، وبالتالي تقريبه من مبدأ الكمال الذي تعشقه الفطرة، وإزالة الأشواك من طريقه إليه، لذا فإنّه من لوازم الفطرة السليمة المخمّرة إلهياً ومن جنود العقل والرحمان"3.
1 معراج السالكين، ص 214-215.
2 الأربعون حديثًا، ص 238-239.
3 جنود العقل والجهل، ص 354.
143
111
الدّرس التاسع: التفكّر
المفاهيم الرئيسة
1- التفكّر هو الخطوة الأولى على طريق تهذيب النفس ونيل الفيوضات الرّبانيّة.
2- يعبّر التفكّر عن تفاعل الإنسان الإيجابيّ مع كلّ ما هو إلهيّ ورحمانيّ، فينال بذلك كماله ويسير باتّجاه غاية خلقه.
3- التفكّر هو تلمّس البصيرة للوصول إلى المقصود والنّتيجة التي هي غاية الكمال، لا استحضار صور القضايا في الذّهن والخيال والتجوّل فيها كما يظنّ البعض.
4- ما ينبغي التفكّر فيه هو: نظام الكون، خلق الإنسان، أحوال النّفس ومآلها، وماذا يستحقّ منّا المولى الواهب للنعم، التفكّر بالحقّ وأسمائه وصفاته، والتفكّر بعالم الملك.
5- من أدوار التفكر وآثاره أنّه:
- مفتاح أبواب المعارف ومقدّمة لازمة للسّلوك.
- باب معرفة الله.
- حياة الروح وجعل القلب إلهيًّا وأفضل الأعمال القلبيّة والعباديّة.
- مقدّمة للتذكّر.
- مقدّمة التّحقّق بالاسم الأعظم.
- مقدّمة الإيمان وقطع الطّمع بالمخلوق.
- الحصول على مقام القرب.
6- الأعمال السيّئة من موانع التفكّر، حيث يصير ملكوت النّفس بها ظلمانيًّا وخبيثًا.
7- من الأمور التي تساهم في جعل التّفكّر عادة أو ملكة ثابتة في النّفس:
- إدارك الإنسان لغاية وجوده لأنّه عندئذٍ سيقبل الى المقصد وهو بصير في تحصيله.
- صلاة الليل.
- الصّمت عن الباطل واللغو.
144
112
الدّرس التاسع: التفكّر
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي رُوعِي مِنَ التَّمَنِّي وَالتَّظَنِّي وَالْحَسَدِ ذِكْراً لِعَظَمَتِكَ، وَتَفَكُّراً فِي قُدْرَتِكَ، وتَدْبِيراً عَلَى عَدُوِّكَ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾2.
2- ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾3.
3- ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾4.
4- ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾5.
1 الصحيفة السجّادية، دعاؤه عليه السلام في الاستعاذة من الشيطان الرجيم.
2 سورة البقرة، الآية 266.
3 سورة آل عمران، الآية 191
4 سورة الأعراف، الآية 176.
5 سورة يونس، الآية 24.
145
113
الدّرس التاسع: التفكّر
5- ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾1.
6- ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عن الإمام الصادق عليه السلام: "يَا هِشَامُ إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ دَلِيلًا وَدَلِيلُ الْعَقْلِ التَّفَكُّر،ُ وَدَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمْتُ"3.
2- عن الإمام الرِّضَا عليه السلام يَقُولُ: "لَيْسَ الْعِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ"4.
3- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "فِكْرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ وَلَا يَنَالُ مَنْزِلَةَ التَّفَكُّرِ إِلَّا مَنْ خَصَّهُ اللهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ"5.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "التَّفَكُّرُ حَيَاةُ قَلْبِ الْبَصِيرِ كَمَا يَمْشِي الْمَاشِي فِي الظُّلُمَاتِ بِالنُّورِ بِحُسْنِ التَّخَلُّصِ وَقِلَّةِ التَّرَبُّصِ"6.
5- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ إِدْمَانُ التَّفَكُّرِ فِي اللهِ وَفِي قُدْرَتِهِ"7.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فَاتَّقُوا اللهَ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ"8.
7- قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام: "عَجَبٌ لِمَنْ يَتَفَكَّرُ فِي مَأْكُولِهِ كَيْفَ لَا يَتَفَكَّرُ فِي مَعْقُولِهِ فَيُجَنِّبُ بَطْنَهُ مَا يُؤْذِيهِ وَ يُودِعُ صَدْرَهُ مَا يُرْدِيهِ"9.
1 سورة الروم، الآية 21.
2 سورة سبأ، الآية 46.
3 الكافي، ج1، ص 15.
4 (م.ن)، ص 55.
5 مستدرك الوسائل، ج11، ص 184
6 الكافي، ج1، ص 28.
7 (م.ن)، ص 54.
8 نهج البلاغة، ص 111.
9 بحار الأنوار، ج1، ص 218.
146
114
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى ماهيّة الذّكر الحقيقيّ وكيفيّته.
2- يتعرّف إلى دور القرآن الكريم والأولياء في الذّكر.
3- يبيّن دور الصّلاة ومنزلتها في الذّكر.
147
115
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
تمهيد
تطالعنا الشّواهد الكثيرة من كلمات الإمام الخمينيقدس سره حول الذّكر. وهي إنّ دلّت على شيء فإنّها تدلّ أوّلًا على أهمّيّة هذا المقام المعنويّ الذي يحكي عن عمق ارتباط الذّاكر بالواقع والحقيقة.
وسوف نتعرّف في هذا البحث على دور الذّكر في حياة الإنسان ومصيره وبناء شخصيّته وتكميله، الّا أنّ ذلك موقوفٌ على فهم حقيقة الذّكر أوّلًا لأنّ أكثر النّاس يخلطون بينه وبين الوِرد. كما أنّه يعتمد على معرفة ما ينبغي أن يذكره الإنسان ثانيًا.
ولكي تحصل الفائدة المرجوّة من هذا البحث فنُقبل على الذّكر ونراه شرطًا أساسيًّا للسّعادة نحتاج إلى التّوجّه والإدراك العميق لأهميّة الذّكر في حياتنا.
ما هو الذّكر؟
عند الحديث عن ملكات النّفس ومقاماتها المعنويّة وكمالاتها يكون الذّكر بمعنى حضور الحقائق في القلب. أمّا إذا كان الحديث عن الأعمال والعبادات الذكريّة فإنّ الذّكر يشير إلى ما ينبغي أن نقوم به من أجل الوصول إلى هذا المقام الشّامخ.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وبالجملة، فحقيقة الذكر والتذكّر هي الذّكر القلبي. أمّا الذّكر اللساني بدونه فهو بلا لبّ وساقط عن درجة الاعتبار تمامًا. كما أشير إلى ذلك في الأحاديث الشّريفة في غير مرّة، فعن الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لأبي ذرّ: "يا أبا ذرّ ركعتان مقتصدتان في تفكّر، خيرٌ من قيام ليلة والقلب لاه (ساه)1 "2.
1 وسائل الشّيعة، ج4، ص 74.
2 معراج السالكين، ص 44.
149
116
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
وعليه، فإنّ الذّكر من أحوال القلوب وصفاتها وإن ظهر على اللسان، بل على الجوارح والأعضاء حتّى قيل خير الذّكر العمل. والمقصود بذلك أنّ الذّكر القلبيّ إذا وصل إلى نصابه وبلغ حدّه المطلوب سرى من القلب إلى جميع مراتب النّفس. لهذا قال الإمامقدس سره: "إنّ ذكر الحقّ والتّذكّر لذاته المقدّس من صفات القلب، وإنّ القلب إذا تذكّر ترتّبت عليه ـ القلب ـ جميع الفوائد المذكورة للذّكر، ولكنّ الأفضل أن يعقب الذّكر القلبي، الذّكر اللساني. وإنّ أفضل وأكمل مراتب الذّكر كافّة هو الذّكر السّاري في نشآت مراتب الإنسانيّة، والجاري على ظاهر الإنسان وباطنه، سرّه وعلنه. فيكون الحقّ سبحانه مشهودًا في سرّ الوجود، وتكون الصّورة الباطنيّة للقلب والروح، صورة تذكّر المحبوب. ويطغى على الأعمال القلبية والقالبية ـ الظاهرية ـ التذكّر لله سبحانه. وتنفتح الأقاليم السّبع الظاهرية، والممالك الباطنية، على ذكر الحقّ، وتتسخّر لتذكّر الجميل المطلق"1.
وإذا كان الفكر عبارة عن حضور الحقائق في مرتبة الذّهن، فإنّ الذّكر هو اشتداد هذا الحضور وقوّته ودخوله إلى باطن النّفس ولبّها المسمّى بالقلب. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "يقول العارف عبد الله الأنصاري "التَّذَكُّر فَوْقَ التَّفَكُرِ، فَإِنَّ التَّفَكُّر طَلَبٌ وَالتَّذَكُّر وُجُودٌ" إذ إنّ التّفكّر طلب للمحبوب والتّذكّر حصول للمطلوب. فما دام الإنسان يطلب ويبحث يكون محجوبًا عن مطلوبه وعندما يصل إلى محبوبة يتحرّر من عناء البحث والتّفتيش"2.
ويقول قدس سره: "اعلم أن التّذكّر من نتائج التفكّر، ولهذا يعتبرون مقام التّفكّر مقدّمًا على مقام التذكّر"3. إذن التّفكّر مقدّمة أساسيّة للتّذكّر: "إنّ قوّة التذكّر وكماله يرتبطان بقوّة التّفكّر وكماله"4.
ماذا نذكر؟
طالما أنّ الذّكر عبارة عن شدّة حضور الحقائق في القلب، ينبغي أن نتعرّف على هذه الحقائق التي يؤدّي تذكّرها إلى تلك الآثار العظيمة في النّفس حاضرًا ومستقبلًا.
1 الأربعون حديثًا، ص 326-327.
2 (م.ن)، ص 325.
3 (م.ن).
4 (م.ن).
150
117
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
لا شكّ بأنّ الحقيقة الوحيدة التي تحقّق هذا الفرض هي حقيقة الألوهيّة. فيكون الذّكر الوحيد ذكر الله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾1 وحقيقة الألوهيّة هي التي تقف وراء كلّ ظواهر الوجود والعالم المعبّر عنها بالآيات. قال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾2. وإنّما كانت هذه الحقيقة هي النّافع الوحيد لأجل انحصار كلّ خير وكمال بها. فيكون الإعراض عنها إعراضًا عن مصدر السّعادة الأوحد. قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾3، وإنّ القول الجامع لهذه الحقيقة هو لا إله إلا الله. ولهذا، قال الإمام الخمينيّ قدس سره في شرحه لجنود العقل والجهل "فليعمد إلى ذكر "لا إله إلّا الله" الشّريف الذي هو أفضل الأذكار وأجمعها"4. ويقول قدس سره: "إذا استحكم في القلب أصل التّوحيد الفعليّ للحقّ وسُقي بماء العلم التوأم للعمل اللطيف الذي يقرع باب القلب تكون نتيجته تذكّر مقام الألوهيّة، ويصفو القلب بالتّدريج للتجلّي الفعليّ للحقّ"5.
ويكون هدف الذّكر ربط الإنسان بمصدر الكمال والسّعادة الأوحد، ويكون تذكّر ما سواه نافعًا ومفيدًا في هذا المجال إذا نظر إليه بمنظار الإسميّة والمظهريّة، كما قال الإمامقدس سره: "لا بدّ للسّالك أن يفهم قلبه أنّ جميع الموجودات الظّاهرة والباطنة وجميع عوالم الغيب والشّهادة تحت تربية أسماء الله، بل هي ظاهرة بظهور أسماء الله وجميع حركاته وسكناته وجميع العالم بقيومية الاسم الله الأعظم، فمحامده للحقّ وعبادته وإطاعته وتوحيده وإخلاصه كلّ ذلك بقيوميّة الاسم الله، فإذا أحكم واستقرّ هذا المقام وهذه اللطيفة الإلهيّة في قلبه بواسطة التّذكّر الشّديد الذي هو غاية العبادات، كما قال تعالى في خلوة الأنس ومحفل القدس لكليمه موسى بن عمران: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
1 سورة الرعد، الآية 28.
2 سورة فصّلت، الآية 53.
3 سورة طه، الآية 124.
4 جنود العقل والجهل، ص 110.
5 معراج السالكين، ص 234.
151
118
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
لِذِكْرِي﴾1. فجعل غاية إقامة الصّلاة ذكره، فبعد التّذكّر الشّديد يُفتح لقلب العارف طريق آخر من المعارف ويُجذب الى عالم الوحدة حتى يكون لسان حاله وقلبه بالله، الحمد لله، وأنت كما أثنيت على نفسك، وأعوذ بك منك"2.
البرنامج العام للذكر
ولأجل تعميق هذا الذّكر والتّوجّه في القلب، جعل الله تعالى أُطُرًا عامّة للذّكر كالقرآن الكريم وأحوال الأولياء ومقاماتهم والصّلاة والعوالم. ولا شكّ بأنّ أعظم الذّكر هو القرآن بل هو الذّكر. وهو المقصد الأعلى للذّكر أيضًا. وقد بلغ أهل بيت العصمة والطّهارة عليهم السلام مرتبة صاروا فيها أهل الذّكر. وهم المعنيّون بقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾3.
وداخل هذه الأًطُر العامّة يوجد مجموعة من الحقائق المرتبطة بأحوال السّالكين ومراتبهم وحاجاتهم المعنويّة والسّلوكيّة. وسوف نتعرّض إلى الشّواهد العديدة من كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره في هذا المجال.
1- القرآن الكريم
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا﴾4، وقال عزّ من قائل: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾5.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من عوّد نفسه على قراءة الآيات والأسماء الإلهيّة من كتاب التّكوين والتّدوين الإلهيّين يصير قلبه بالتّدريج على صورة الذكرى والآية ويتحقّق باطن الذّات بذكر الله واسم الله وآية الله"6.
1 سورة طه، الآية 14.
2 معراج السالكين، ص 251.
3 سورة النحل، الآية 43.
4 سورة الإسراء، الآية 41.
5 سورة الأعراف، الآية 2.
6 معراج السالكين، ص 226.
152
119
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
2- أولياء الله
"نرى ذكر الأولياء ومقاماتهم دخيلًا في تصفية القلوب وتخليصها وتعميرها. لأنّ ذكر خير أصحاب الولاية والمعرفة يوجب المحبّة والتّواصل والتّناسب، وهذا التّناسب يوجب التّجاذب، وهذا التّجاذب يؤدّي إلى التّشافع الذي ظاهره الإخراج من ظلمات الجهل إلى أنوار الهداية والعلم، وباطنه الظّهور بالشّفاعة في عالم الآخرة، لأنّ شفاعة الشّافعين لا تكون من دون تناسب وتجاذب باطنيّ ولا تكون من الجزاف والباطل"1.
وفي الكافي الشّريف: "عَنْ العَرْقُوفي قالَ: سَمِعْتُ أبا عَبْدِاللهِ عليه السلام يقول لأصْحابه: "اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً فِي اللهِ مُتَواصِلينَ مُتَراحِمينَ. تَزاوَرُوا وَتَلاقَوْا وَتَذاكَرُوا أمْرَنا وَأحْيُوهُ""2.
3- الصّلاة
قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾3 يقول الإمام قدس سره: "لو أن يقظة الليل تكشف للإنسان حقيقة الصّلاة وسرّها، لأنِس بذكر الله والتفكّر في الله، ولجعل الليالي مركوبه للعروج إلى قربه تعالى، ولما كان ثمّة ثواب له إلا جمال الحقّ الجميل وحده"4.
و"اعلم أنّ المصلّي اذا تحقّق بمقام الذكر ورأى جميع ذرّات الكائنات، من أعلى الموجودات إلى أدناها أسماء إلهيّة، وأخرج عن قلبه جهة الاستقلال، ونظر إلى موجودات عوالم الغيب والشهود بعين الاستظلال، تحصل له مرتبة التّحميد ويعترف قلبه أنّ جميع المحامد من مختصّات الذّات الأحديّة وليس لسائر الموجودات فيها شركة لأنّه ليس لها كمال من أنفسها حتّى يقع الحمد والثّناء لها"5.
4- العالم التّكوينيّ
يصبح العالم وسيلة لذكر الله ووحدانيّته عندما ننظر إليه كمرآة وآيات. لهذا، قال
1 معراج السالكين، ص 232.
2 الأربعون حديثًا، ص 343.
3 سورة طه، الآية 14.
4 الأربعون حديثاً، ص 238-239.
5 معراج السالكين، ص 227.
153
120
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
الإمام قدس سره: "من عوّد نفسه على قراءة الآيات والأسماء الالهيّة من كتاب التّكوين والتّدوين الإلهيّين يصير قلبه بالتّدريج على صورة الذكرى والآية ويتحقّق باطن الذّات بذكر الله واسم الله وآية الله"1.
كانت هذه برامج عامّة للذّكر، وفيها الكثير من التّفاصيل، نذكر منها على سبيل النّماذج والمصاديق لا الحصر:
5- نعماء الله تعالى
"من الأمور التي تُعين الإنسان ـ وبصورة كاملة ـ في مجاهدته للنّفس والشّيطان، والتي ينبغي للإنسان السّالك المجاهد الانتباه إليها جيّدًا هو "التذكّر". والذّكرى في هذا المقام، هي عبارة عن ذكر الله تعالى ونعمائه التي تلطّف بها على الإنسان"2.
6- فقر الكائنات
"فإذا صار فقر الممكن وذلّته وعظمة الحقّ وكبرياؤه جلّت قدرته نصب عين السّالك ووصل التفكّر والذّكر إلى حدّ النّصاب، وحصل للقلب الأنس والسّكينة، فيشاهد بعين البصيرة آثار جلال الحقّ وكبريائه في جميع الموجودات"3. فـ "لا بدّ للسالك أن يذكّر قلبه وقواه بعجز نفسه وكبرياء الحقّ"4.
7- الآيات الأواخر من سورة الحشر
"إذا عمد في وقت الفراغ من المشاغل النّفسيّة والخواطر، والواردات الدنيويّة مثل أواخر الليل أو ما بين الطّلوعين، إلى تلاوة الآيات الأواخر من سورة الحشر المباركة من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ﴾ وهي الآية 18 من السورة إلى آخرها ـ وهي آيات تشتمل على التذكير ومحاسبة النّفس، وتتضمّن الإشارة إلى مراتب توحيد الله وأسمائه وصفاته ـ نقول إذا عمد على تلاوتها مع التّوجّه القلبيّ والتّدبّر فيها، فإنّ المرجوّ إن شاء الله أن يحصل نتائج طيبة"5.
1 معراج السالكين، ص 226.
2 الأربعون حديثًا، ص 32-33.
3 معراج السالكين، ص 141-142.
4 (م.ن)، ص 140.
5 جنود العقل والجهل، ص 110.
154
121
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
8- رحمة الله المطلقة
"(على السّالك) أن يدخل إلى قلبه بالطّريقة نفسها العلم بسعة رحمة الحقّ تعالى ولطفه وشفقته ورأفته بعباده، وذلك بالتذكّر الشّديد والتفكّر في رحمات الحقّ تعالى المحيطة به منذ ما قبل ولادته وإلى آخر الأبد، فيدرك قلبه، تدريجيًّا، نموذجًا من المحبّة الإلهيّة، وكلّما كان التذكّر أشدّ ـ خصوصًا في أوقات تفرّغ القلب ـ ازدادت هذه المحبّة، حتّى يرى الحقّ تعالى أرحم به وأرأف من كلّ موجود، ويشاهد بنور البصيرة القلبيّة حقيقة "أرحم الراحمين". ويدخل بهذه الكيفيّة، أيضًا أركان التوكّل الآخر إلى قلبه، أي بشدّة التذكّر ورياضة القلب، حتّى يأنس القلب ويألف تلك الحقائق، وعندها تتجلّى مقتضيات ولوازم هذه المعارف في باطن قلبه"1.
9- يا حيّ يا قيّوم
"إجمالاً فإنّ ذكر الله بالخصوص، كما قيل، اسمه المبارك "يا حيّ يا قيّوم "بحضور القلب وتوجّهه، مفيد في إحياء القلب"2.
10- لا إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين
"يُنقل عن بعض أهل الذّكر والمعرفة والإكثار من القول: "لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين" في سجدة واحدة مرّة كلّ يوم وليلة مفيدة في الرّقيّ الرّوحيّ. ونُقل عن بعض سالكي طريق الآخرة أنّه لمّا سمع قول أستاذه الشّيخ الجليل بشأن فائدة هذا العمل كان يسجد مرّة في اليوم والليلة ويكرّر هذا الذّكر ألف مرّة، ونُقل عن آخر أنّه كان يكرره ثلاثة آلاف مرّة"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 193.
2 (م.ن)، ص 124.
3 (م.ن).
155
122
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
بعض خصائص الذكر
يقول الإمام قدس سره: "ويكون التذكّر للآيات والأسماء والصّفات وتذكّر الحقّ وجماله وجلاله باعثًا على حدّة في البصيرة وإزاحة الحجب"1.
و"عَنْ أَبي جَعْفَرَ عليه السلام قالَ: "مَكْتُوبٌ فِي التَّوراةِ الَّتي لَمْ تُغَيَّر أَنَّ مُوسى عليه السلام سَأَل رَبَّهُ فَقالَ: يا رَبِّ أَقَريبٌ أنْتَ مِنّي فَأُناجيك، أمْ بَعيدٌ فَأُناديكَ؟ فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ: يا مُوسى أَنَا جَليسُ مَنْ ذَكَرَنِي. فَقالَ مُوسى: فَمَنْ في سِتْرِك يَوْمَ لا سِتْرَ إِلاّ سِتْرُكَ. فَقالَ: الَّذينَ يَذْكُرُونَني فَأَذْكُرُهُمْ وَيَتحابُّونَ فِيَّ فَأُحِبُّهُمْ فَاؤُلئِكَ الَّذينَ إِذا أرَدْتُ أنْ أُصيبَ أهْلَ الأرْضِ بِسُوءٍ ذَكَرْتُهُمْ فَدَفَعْتُ عَنْهُمْ بِهِم". يُستفاد من هذا الحديث الشّريف، أنّ لذكر الله والتّحابّ بين الأشخاص في سبيل الله، خصائص: إحداها ـ وهي الأهم ـ أنّ ذكر العبد لله، يبعث على ذكر الله لعبده، كما نطقت بهذا المضمون أحاديث أخرى أيضًا. ويقابل هذا الذّكر النّسيان، قد قال سبحانه وتعالى عن النّاسي في القرآن ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾2. فكما أنّ نسيان الآيات والعمى الباطنيّ عن رؤية مظاهر جمال الحقّ وجلاله يسبّب عمىً في العالم الآخر، يكون التّذكّر للآيات والأسماء والصّفات وتذكّر الحقّ سبحانه وجماله وجلاله باعثًا على حِدّة في البصيرة، وإزاحة للحجب، بقدر قوّة التّذكّر ونورانيّته. هذا وإنّ تذكّر آيات الحقّ سبحانه، وصيرورته ـ هذا التّذكّر ـ ملكة ـ راسخة ـ في الإنسان يجعل لبصيرته قوّة، فيرى من خلال الآيات، جمال الحقّ. وإنّ تذكّر الأسماء والصّفات يبعث على مشاهدة الحقّ في تجلّيات أسمائه وصفاته. وإنّ تذكّر الذّات عزّ شأنه من دون حجاب الآيات والأسماء والصّفات، يوجب رفع الحجب بأسرها ومشاهدة الحبيب من دون غشاء وحجاب. ويعتبر هذا ـ التفسير ـ واحدًا من التّوجيهات والتّفسيرات للفتوحات الثّلاثة التي هي قرّة عين العرفاء والأولياء وهي: الفتح القريب. الفتح المبين. الفتح المطلق. الذي هو فتح الفتوح"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 323.
2 سورة طه، الآية 126.
3 الأربعون حديثًا، ص 323-324.
156
123
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
المفاهيم الرئيسة
1- عندما يكون الحديث عن الأعمال والعبادات الذكريّة فإنّ الذّكر يشير إلى ما ينبغي أن نقوم به من أجل الوصول إلى هذا المقام الشّامخ.
2- حقيقة الذكر والتذكّر هي الذّكر القلبي. أمّا الذّكر اللساني بدون الذكر القلبي فهو بلا لبّ وساقط عن درجة الاعتبار تمامًا.
3- إنَّ الذّكر القلبيّ إذا وصل إلى نصابه وبلغ حدّه المطلوب سرى من القلب إلى جميع مراتب النّفس.
4- الحقيقة الوحيدة التي يؤدّي تذكّرها إلى تلك الآثار العظيمة في النّفس حاضرًا ومستقبلًا هي حقيقة الألوهيّة. فيكون الذّكر الوحيد هو ذكر الله تعالى.
5- هدف الذّكر ربط الإنسان بمصدر الكمال والسّعادة الأوحد، ويكون تذكّر ما سواه نافعًا ومفيدًا في هذا المجال إذا نُظر إليه بمنظار الإسميّة والمظهريّة.
6- غاية إقامة الصّلاة هي ذكر الله، وبعد التّذكّر الشّديد يُفتح لقلب العارف طريق آخر من المعارف ويُجذب الى عالم الوحدة.
7- لا شكّ بأنّ أعظم الذّكر هو القرآن بل القرآن هو الذّكر، وهو المقصد الأعلى للذّكر أيضًا. وقد بلغ أهل بيت العصمة والطّهارة مرتبة صاروا فيها أهل الذّكر.
8- أمور أخرى تساهم في تصفية القلب وأن يكون الإنسان من الذّاكرين:
• النّظر إلى العالم التكويني.
• تذكّر العبودية.
• تذكّر نعماء الله وأسمائه وصفاته.
• تذكّر عجز نفسه وفقر الكائنات وكبرياء الحقّ.
• تلاوة الآيات الأواخر من سورة الحشر مع تدّبر.
• تذكّر أحوال النفس وما ينفعها من أعمال صالحة لتغييرها.
• وذكر اسم "يا حيّ يا قيوم" والإكثار من قول "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
157
124
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِلَهِي لَوْلاَ الْوَاجِبُ مِنْ قُبُولِ أَمْرِكَ لَنَزَّهْتُكَ مِنْ ذِكْرِي إِيَّاكَ عَلَى أَنَّ ذِكْرِي لَكَ بِقَدْرِي لاَ بِقَدْرِكَ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَ مِقْدَارِي حَتَّى أُجْعَلَ مَحَلاًّ لِتَقْدِيسِكَ وَمِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْنَا جَرَياَنُ ذِكْرِكَ عَلَى أَلْسِنَتِنَا وَإِذْنُكَ لَنَا بِدُعَائِكَ وَتَنْزِيهِكَ وَتَسْبِيحِكَ إِلَهِي فَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ فِي الْخَلاَءِ وَالْمَلاَءِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالإِعْلاَنِ وَالإِسْرَارِ وَفِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَآَنِسْنَا بِالذِّكْرِ الْخَفِيِّ وَاسْتَعْمِلْنَا بِالْعَمَلِ الزَّكِيِّ وَالسَّعْيِ الْمَرْضِيِّ وَجَازِنَا بِالْمِيزَانِ الْوَفِيِّ، إِلَهِي بِكَ هَامَتِ الْقُلُوبُ الْوَالِهَةُ وَعَلَى مَعْرِفَتِكَ جُمِعَتِ الْعُقُولُ الْمُتَبَايِنَةُ فَلاَ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ إِلاَّ بِذِكْرَاكَ وَلاَ تَسْكُنُ النُّفُوسُ إِلاَّ عِنْدَ رُؤْيَاكَ... إِلَهِي أَنْتَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، وَقُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ فَأَمَرْتَنَا بِذِكْرِكَ وَوِعَدْتَنَا عَلَيْهِ أَنْ تَذْكُرَنَا تَشْرِيفاً لَنَا وَتَفْخِيماً وَإِعْظَاماً وَهَا نَحْنُ ذَاكِرُوكَ كَمَا أَمَرْتَنَا فَأَنْجِزْ لَنَا مَا وَعَدْتَنَا يَا ذَاكِرَ الذَّاكِرِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ1.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "مِنْ أَشَدِّ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ ذِكْرُ اللهِ كَثِيراً، ثُمَّ قَالَ: لَا أَعْنِي سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَإِنْ كَانَ مِنْهُ، وَلَكِنْ ذِكْرَ اللهِ عِنْدَ مَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ فَإِنْ كَانَ طَاعَةً عَمِلَ بِهَا وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً تَرَكَهَا"2.
2- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: "سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام يَقُولُ: شِيعَتُنَا الرُّحَمَاءُ بَيْنَهُمُ الَّذِينَ إِذَا خَلَوْا ذَكَرُوا اللهَ إِنَّ ذِكْرَنَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ إِنَّا إِذَا ذُكِرْنَا ذُكِرَ اللهُ وَإِذَا ذُكِرَ عَدُوُّنَا ذُكِرَ الشَّيْطَانُ"3.
1 الصحيفة السجّاديّة، مناجاة الذّاكرين.
2 الكافي، ج2، ص 80.
3 (م.ن)، ص 186.
158
125
الدرس العاشر: الذّكر (1) - حقيقة الذكر وكيفيّته
3- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثٍ يَقُولُ فِي آخِرِهِ تَسْبِيحُ فَاطِمَةَ عليها السلام: "مِنْ ذِكْرِ اللهِ الْكَثِيرِ الَّذِي قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ"1.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ للذكر أهلا أخذوه من الدنيا بدلا فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عن ذكر يقطعون به أيام الحياة و يهتفون به في آذان الغافلين"2.
5- عَنْهُ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "مَنْ أَطَاعَ اللهَ فَقَدْ ذَكَرَ اللهَ وَإِنْ قَلَّتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ، وَمَنْ عَصَى اللهَ فَقَدْ نَسِيَ اللهَ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ"3.
6- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "مَنْ ذَكَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السِّرِّ فَقَدْ ذَكَرَ اللهَ كَثِيراً إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللهَ عَلَانِيَةً وَلَا يَذْكُرُونَهُ فِي السِّرِّ فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾"4.
7- عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "إِنَّ إِبْلِيسَ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللهِ يَبُثُّ جُنُودَ اللَّيْلِ مِنْ حَيْثُ تَغِيبُ الشَّمْسُ وَتَطْلُعُ فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَاتَيْنِ السَّاعَتَيْنِ وَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ شَرِّ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ وَعَوِّذُوا صِغَارَكُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا سَاعَتَا غَفْلَةٍ"5.
8. عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ عليه السلام قَالَ: "لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَائِماً كَانَ أَوْ جَالِساً أَوْ مُضْطَجِعاً إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ﴾6.
9. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ: "يَا مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ لَا تَدَعَنَّ ذِكْرَ اللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ولَوْ سَمِعْتَ الْمُنَادِيَ يُنَادِي بِالْأَذَانِ وَأَنْتَ عَلَى الْخَلَاءِ فَاذْكُرِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقُلْ كَمَا يَقُولُ الْمُؤَذِّن"7.
1 وسائل الشّيعة، ج6، 442.
2 غرر الحكم، 188.
3 مستدرك الوسائل، ج5، ص 403.
4 الكافي، ج2، ص 501.
5 (م.ن)، ص 255.
6 وسائل الشّيعة، ج7، ص 150.
7 من لا يحضره الفقيه، ج1، ص 288.
159
126
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى أهميّة الذّكر وتأثيره على حياتنا ومصيرنا.
2- يشرح دور الذّكر في إصلاح النّفس وتهذيبها والخروج من الحجب.
3- يفهم دور الذّكر في الوصول إلى الغاية التي خُلقنا لأجلها.
161
127
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
تمهيد
عندما نتأمل في التأثيرات العظيمة للذكر على مستوى بناء الشخصية ومصيرها، ندرك أننا أمام كنز عظيم لا شبيه له. بل نتعرف إلى البعد الجوهري في برنامج الإسلام في صناعة الإنسان الكامل. كيف لا! والذكر عبارة عن الحضور في محضر الحق المتعال. وهل يمكن لمثل هذا الحضور إلا أن يبدّل هوية الإنسان الطبيعية إلى الهوية الربّانية. أليس الذكر تلك الصبغة التي تصبغ وجود الإنسان فتحوله إلى مخلوق ملكوتي.
فما أحوجنا إلى التأمل والتفكر في هذه الآثار التي يجعل كل واحد منها الإنسان أمام مشهد عظيم للنعم الإلهية بحيث لا يستبدل به شيئا.
أهميّة الذّكر وعظمته
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "في الكافي بِسَنَدٍ صَحيح عَنِ الفُضَيْلِ بْنِ يَسارِ قالَ: قالَ أبُوعَبْدِاللهِ عليه السلام: "ما مِنْ مَجْلِسٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ أبْرارٌ وَفُجّارٌ فَيَقُومُونَ عَلى غَيْرِ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وجلَّ إِلاّ كانَ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ"1. من الواضح أنّ الإنسان عندما تنكشف عليه يوم القيامة النتائج العظيمة لذكر الله، ويرى نفسه بعيداً عنها، ويعلم بأنّه قد حُرم من نعمٍ كثيرة، ولا يستطيع تداركها، تستولي عليه الحسرة والنّدامة. فيجب على الإنسان أن يغتنم الفرصة ولا يُخلي مجالسه ومحافله من ذكر الله"2.
إنّ عظمة الذّكر وأهميّته تُعرف من خلال التأمّل في آثاره الكثيرة والعميقة وفي أدواره العديدة ومساهمته في تهذيب النّفس وتكميلها. وقد نقلنا عن الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة مهمّة من الشّواهد التي تدلّ على هذا المطلب، ندرجها ضمن العناوين التالية:
1 الكافي، ج2، ص 496.
2 الأربعون حديثًا، ص 328-329.
163
128
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
الوصول إلى الكمال المطلق
"لو أنّ حقيقة الذّكر تحوّلت إلى صورة باطنيّة للقلب، وانفتحت مملكة القلب على يديه ـ الذّكر ـ لجرى حكمه في كلّ الممالك والأقاليم ـ القوى الجسميّة الظّاهريّة والباطنيّة ـ ولكانت حركة وسكون العين واللسان واليد والرجل، وأفعال كلّ القوى والجوارح مع ذكر الحقّ. ولم تقم ـ القوى الظاهريّة والباطنيّة في جسم الإنسان ـ بإنجاز ما يخالف الوظائف الشّرعيّة المقرّرة. فتكون حركاتها وسكناتها مبدوّة ومختومة بذكر الحقّ، وتَنْفُذُ ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾1 في جميع أطراف المملكة ـ جسم الإنسان بما فيه القوى الظّاهريّة والباطنيّة.
وفي النّتيجة يتحوّل الإنسان إلى حقيقة الأسماء والصّفات، بل إلى صورة اسم الله الأعظم، ومظهره. وهذه هي الغاية القصوى لكمال الإنسان ومنتهى رجاء أهل الله. وكلّما حصل انخفاض عن هذا المستوى الرّفيع، وقلّ نفوذ الذكر ـ في الإنسان ـ انتقص وبنفس النسبة من كمال الإنسان، وأثّر نقصان كل من الظّاهر والباطن، في الآخر، لأنّ نشآت وجود الإنسان مترابطة ومتأثرّة بعضها ببعض"2.
و"من عوّد نفسه على قراءة الآيات والاسماء الالهية من كتاب التكوين والتدوين الالهيين يصير قلبه بالتدريج على صورة الذكرى والآية ويتحقق باطن الذات بذكر الله واسم الله وآية الله"3.
زيادة الإيمان
"يقول تبارك وتعالى في الآية الثانية من سورة الأنفال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾4 إلى أن يقول: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾. فهو تبارك وتعالى يصرّح ـ وعلى نحو الحصر ـ بأنّ المؤمنين هم الذين يتحلّون بهذه الصّفات، أي أنّ غيرهم ليسوا بمؤمنين: ثمّ يختم هذا الوصف بتأكيد الأمر والتّصريح بأنّ الذين تتوفّر فيهم هذه الصّفات هم وحدهم المؤمنون حقاً. وصفاتهم
1 سورة هود، الآية 41.
2 الأربعون حديثًا، ص 327.
3 معراج السالكين، ص 226.
4 سورة الأنفال، الآية 2.
164
129
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
المذكورة في الآية قد لاحظتموها، وأنتم تدّعون الإيمان، وقد أدركتم عقليًّا جميع أركانه ولديكم دليل عقلي وأوجدتم دليلًا لكلّ منها، فارجعوا إلى أنفسكم وتدبّروا فيها ولاحظوا أي من تلك الصّفات موجودة في قلوبكم! تسمعون أو تردّدون كل هذا الذّكر لله تعالى ولكن أين "وجل القلوب" الذي يظهر على المؤمن عند ذكر الله؟ لا ريب في أنّ القلب الذي يدرك وجدانيًّا عظمة الحقّ تعالى وجلاله، ولم يتجلَّ فيه كبرياؤه تعالى وعلوّه، لا يوجل من ذكره عزّ وجلّ"1.
إصلاح النّفوس وتهذيبها
"إنّ الارتباط المذكور بين الرّوح والقوى الظّاهرة، يؤدِّي إلى تأثير الأعمال والأحوال الظاهريّة على الرّوح وترك آثار واضحة عليها، فالأعمال الصّالحة الحسنة، والأعمال السيّئة والقبيحة، تؤدّي إلى ظهور الملكات الحسنة والفاضلة والملكات السيّئة والخبيثة، وبالتّالي تتشكّل بها حقيقة الباطن، وتتهيّأ أرضيّة النّسخ الملكوتيّ. من هنا يتّضح سرّ النّدب إلى تكرار الأذكار والأعمال الصّالحة، فهذا التّكرار يؤدّي إلى ظهور الملكات الفاضلة في الرّوح والملكوت. أمّا الأعمال القبيحة والسيّئة فهي شديدة التّأثير في النّفس لأنّها تتلائم عادةً مع اللذات والشّهوات النفسيّة، لذلك فإنّ القيام بها يكون بتوجّهٍ قلبيّ ونفسيّ فيشتدّ تأثيرها، من هنا فقد شدّدت الشّرائع الإلهيّة في النّهي عنها ومنعها، ودعت إلى الإعراض عن جميع شؤون الطّبيعة، في حين أنّها دعت إلى عدم القناعة بالقيام بالأعمال الحسنة وصالحات الأذكار والأفعال مرّةً واحدة أو بضع مرّاتٍ"2.
فتح أبواب الملكوت
"بالذّكر الحقيقيّ تُخرق الحجب بين العبد والحقّ تعالى، وتُزال موانع الحضور، وقسوة القلب وغفلته، وتُفتح في وجه السّالك أبواب الملكوت الأعلى والألطاف والرّحمة الإلهيّة"3. "فإذا آنست القلب بالتذكّر، تشملك العنايات الأزليّة بالتّدريج ويفتح على قلبك أبواب الملكوت"4.
1 جنود العقل والجهل، ص 96-97.
2 (م.ن)، ص 349 -350.
3 (م.ن)، ص 123-124.
4 معراج السالكين، ص 229.
165
130
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
غاية آمال العارفين
"إنّ تذكّر الحقّ جل وعلا والخلوة والمناجاة مع المحبوب وإظهار العبودية والذلّ أمام عظمة الكامل المطلق، غاية آمال العارفين وثمرة سلوك السالكين"1. "أمّا الكُمّل والأولياء والعرفاء فإنّ تذكّر الحبيب في نفسه، غاية آمالهم وفي ظلّه يبلغون جمال حبيبهم. هَنِيئاً لَهُمْ"2.
الإعانة التامّة على الجهاد الأكبر
"ومن الأمور التي تُعين الإنسان ـ وبصورة كاملة ـ في مجاهدته للنّفس والشّيطان، والتي ينبغي للإنسان السّالك المجاهد الانتباه إليها جيّدًا هو "التذكّر". والذكرى في هذا المقام، هي عبارة عن ذكر الله تعالى ونعمائه التي تلطّف بها على الإنسان"3.
ذكر الله له
"مقام الذّكر من المقامات العالية الجليلة التي لا يسع المجال لبيانها وهو فوق حدود التّقرير والتّحرير، وتكفي لأهل المعرفة والجذبة الإلهيّة وأصحاب المحبّة والعشق الآية الشّريفة الإلهيّة ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾. وقال الله تعالى لموسى: "يا موسى أنا جليس من ذكرني".. وفي رواية الكافي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "من اكثر ذكر الله أحبّه الله". وفي الوسائل بإسناده إلى الصّادق عليه السلام قال: قال الله عزّ وجلّ: "يا بن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، يا بن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء، يابن آدم اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملئك". وقال: "ما من عبد ذكر الله في ملأ من النّاس إلّا ذكره الله في ملأ من الملائكة"4.
معالجة الأمراض القلبيّة
"إذا صار فقر الممكن وذلّته وعظمة الحقّ وكبرياؤه جلّت قدرته نصب عين السّالك ووصل التّفكّر والذّكر إلى حدّ النّصاب، وحصل للقلب الأنس والسّكينة، فيشاهد بعين البصيرة آثار جلال الحقّ وكبريائه في جميع الموجودات، وتعالج العلل والأمراض القلبيّة، فيجد لذّة
1 الأربعون حديثًا، ص 296.
2 (م.ن)، ص 325-326.
3 (م.ن)، ص 32-33.
4 معراج السالكين، ص 227.
166
131
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
المناجاة وحلاوة ذكر الله، ويصير القلب مقرًّا لسلطان كبرياء الحقّ جلّ جلاله وتظهر آثار الكبرياء في ظاهر المملكة وباطنها ويوافق القلب اللسان والسرّ العلن، فتكبّر جميع قوى الباطن والظّاهر والملك والملكوت، ويرتفع أحد الحجب الغليظة، ويتقدم مرحلةً إلى حقيقة الصلاة التي هي معراج القرب"1.
ترك المعاصي
"إذا عاش الإنسان مع الحقّ سبحانه وتعالى في جميع الأحوال وكافّة المستجدّات، وشاهد نفسه أمام الذّات المقدّس عزّ شأنه، لأحجم عن الأمور التي تسخط الله، وردع نفسه عن الطّغيان. إنّ المشاكل والمصائب المنبثقة من النّفس الأمّارة والشّيطان الرّجيم قد نشأت عن الغفلة عن ذكر الحقّ وعذابه وعقابه. إنّ الغفلة عن الحقّ تضاعف كدورة القلب، وتمكّن النّفس والشّيطان من التحكّم في الإنسان وتسبّب زيادة المفاسد على مرّ الأيام. وإنّ التّذكّر للحقّ جلّ شأنه يبعث على صفاء النّفس وصقلها، ويجعلها مظهرًا للمحبوب ويوجب صفاء الرّوح ونقائها، ويحرّر الإنسان من أغلال الأسر، ويُخرج حبّ الدنيا الذي هو رأس الخطايا ومصدر السيّئات من القلب، ويجعل الهموم همًّا واحدًا، والقلب نظيفًا وطاهرًا"2.
فتح العين الباطنيّة
"التذكّر التامّ لحضرة الحقّ والتوجّه المطلق بباطن القلب إلى تلك الذات المقدّسة موجب لفتح العين الباطنيّة للقلب الذي به يحصل لقاء الله وهو قرّة عين الأولياء ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾3"4.
إزالة الحجب وقسوة القلب
"بالذّكر الحقيقيّ تخرق الحجب بين العبد والحقّ تعالى، وتزال موانع الحضور، وقسوة القلب وغفلته، وتفتح في وجه السّالك أبواب الملكوت الأعلى الألطاف والرّحمة الإلهيّة"5.
1 معراج السالكين، ص 141-142.
2 (م.ن)، ص351.
3 سورة العنكبوت، الآية 69.
4 معراج السالكين، ص 351.
5 جنود العقل والجهل، ص 123-124.
167
132
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
الإعراض عن الدّنيا
"ذكر الله تعالى يجعل القلب مُعرِضًا عن جميع منازل الطّبيعة ومناظرها، بل ويجعل كلّ العالم بكلّ ما فيه عدمًا لا قيمة له في عينه، فلا يتعلّق بشيءٍ منه، بل ينحصر تعلّقه بالحقّ تعالى وحده، حتّى تبلغ همّته مرتبةً من العلّو لا يقيم معها وزنًا لجميع عوالم الوجود، وعندها لا تضعف همّته بسبب الواردات القلبيّة مهما كانت، فلا يستشعر الكِبَر في نفسه بسبب هذه الواردات بل إنّه يستصغر كلّ شيء غير الحقّ تعالى وآثار جماله وجلاله"1.
عمارة الآخرة
"إنّ لكلّ من الأعمال الحسنة والأفعال العباديّة صورة باطنيّة ملكوتيّة، وأثر في قلب العابد، أمّا الصّورة الباطنيّة فهي التي تعمّر العوالم البرزخيّة والجنّة الجسمانيّة، لأنّ أرض الجنّة قاع خالية من كلّ شيء كما ورد في الحديث، وإنّ الأذكار والأعمال موادّ إنشاء وبناء لها"2.
التخلّص من الغضب
"الغضب أشبه بالنّار، فهو يزداد شيئًا فشيئًا ويشتدّ، حتى يتعالى لهيبه، وترتفع حرارته ويفلت العنان من يد الإنسان، ويخمد نور العقل والإيمان، ويطفئ سراج الهداية، فيصبح الإنسان ذليلًا مسكينًا. فعلى الإنسان أن يأخذ حذره قبل أن يزداد اشتعاله ويرتفع سعيره... فإذا كان جالسًا فلينهض واقفًا، وإذا كان واقفًا فليجلس، أو أن يشغل نفسه بذكر الله تعالى. بل هناك من يرى وجوب ذكر الله في حال الغضب"3.
نيل الشّفاعة
"نرى ذكر الأولياء ومقاماتهم دخيلًا في تصفية القلوب وتخليصها وتعميرها. لأنّ ذكر خير أصحاب الولاية والمعرفة يوجب المحبّة والتّواصل والتّناسب، وهذا التّناسب يوجب التّجاذب وهذا التّجاذب يؤدّي إلى التّشافع الذي ظاهره الإخراج من ظلمات الجهل إلى أنوار الهداية والعلم، وباطنه الظّهور بالشّفاعة في عالم الآخرة، لأنّ شفاعة الشّافعين لا تكون من دون تناسب وتجاذب باطني ولا تكون من الجزاف والباطل"4.
1 جنود العقل والجهل، ص 304.
2 الأربعون حديثًا، ص 471.
3 (م.ن)، ص 166.
4 معراج السالكين، ص 232.
168
133
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
المفاهيم الرئيسة
1- عندما تنكشف على الإنسان يوم القيامة النتائج العظيمة لذكر الله، ويرى نفسه بعيداً عنها، ويعلم بأنّه قد حُرم من نعمٍ كثيرة، ولا يستطيع تداركها، تستولي عليه الحسرة والنّدامة. فيجب على الإنسان أن يغتنم الفرصة ولا يُخلي مجالسه ومحافله من ذكر الله.
2- إنّ عظمة الذّكر وأهميّته تُعرف من خلال التأمّل في آثاره الكثيرة والعميقة وفي أدواره العديدة ومساهمته في تهذيب النّفس وتكميلها.
3- بعض الشواهد على آثار الذكر وأدواره: الوصول الى غاية آمال العارفين، إصلاح النّفوس وتهذيبها، فتح أبواب الملكوت، الوصول الى الكمال المطلق، زيادة الايمان، الإعانة التامّة على الجهاد الأكبر، عمارة الآخرة، ذكر الله له، فتح العين الباطنيّة، إزالة الحجب وقسوة القلب، الإعراض عن الدّنيا، معالجة الأمراض القلبيّة، ترك المعاصي، التخلّص من الغضب، إحياء القلب، ونيل الشّفاعة.
4- تكرار الأذكار والأعمال الصّالحة يؤدّي إلى ظهور الملكات الفاضلة في الرّوح والملكوت.
5- بالذّكر الحقيقيّ تُخرق الحجب بين العبد والحقّ تعالى، وتُزال موانع الحضور، وقسوة القلب وغفلته، وتُفتح في وجه السّالك أبواب الملكوت الأعلى والألطاف والرّحمة الإلهيّة.
6- الغاية القصوى لكمال الإنسان ومنتهى رجاء أهل الله هي أن يتحوّل الإنسان إلى حقيقة الأسماء والصّفات بل إلى صورة اسم الله الأعظم ومظهره.
7- لا ريب في أنّ القلب الذي يدرك وجدانيًّا عظمة الحقّ تعالى وجلاله، ولم يتجلَّ فيه كبرياؤه تعالى وعلوّه، لا يوجل من ذكره عزّ وجلّ.
8- التذكّر - بإحدى مقاماته - عبارة عن ذكر الله تعالى ونعمائه التي تلطّف بها على الإنسان.
9- إنّ التّذكّر للحقّ جلّ يجعل النّفس مظهرًا للمحبوب ويحرّر الإنسان من أغلال الأسر، ويجعل الهموم همًّا واحدًا والقلب نظيفًا وطاهرًا لورود صاحبه ـ الحقّ جلّ وعلا.
169
134
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
يَا مَنْ ذِكْرُهُ شَرَفٌ لِلذَّاكِرِينَ، وَيَا مَنْ شُكْرُهُ فَوْزٌ لِلشَّاكِرِينَ، وَيَا مَنْ طَاعَتُهُ نَجَاةٌ لِلْمُطِيعِينَ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَاشْغَلْ قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ، وَأَلْسِنَتَنَا بِشُكْرِكَ عَنْ كُلِّ شُكْرٍ، وَجَوَارِحَنَا بِطَاعَتِكَ عَنْ كُلِّ طَاعَةٍ فَإِنْ قَدَّرْتَ لَنَا فَرَاغاً مِنْ شُغْلٍ فَاجْعَلْهُ فَرَاغَ سَلاَمَةٍ لاَ تُدْرِكُنَا فِيهِ تَبِعَةٌ، وَلاَ تَلْحَقُنَا فِيهِ سَأْمَةٌ، حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنَّا كُتَّابُ السَّيِّئَاتِ بِصَحِيفَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ ذِكْرِ سَيِّئَاتِنَا، وَيَتَوَلَّى كُتَّابُ الْحَسَنَاتِ عَنَّا مَسْرُورِينَ بِمَا كَتَبُوا مِنْ حَسَنَاتِنَا1.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام: "أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يَقُولُ: طُوبَى لِمَنْ أَخْلَصَ لِلهِ الْعِبَادَةَ وَالدُّعَاءَ وَلَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِمَا تَرَى عَيْنَاهُ وَلَمْ يَنْسَ ذِكْرَ اللهِ بِمَا تَسْمَعُ أُذُنَاهُ وَلَمْ يَحْزُنْ صَدْرَهُ بِمَا أُعْطِيَ غَيْرُهُ"2.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "مِثْلَهُ وَ قَالَ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللهِ أَظَلَّهُ اللهُ فِي جَنَّتِهِ"3.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَلَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ إِلَّا الذِّكْرَ فَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْفَرَائِضَ فَمَنْ أَدَّاهُنَّ فَهُوَ حَدُّهُنَّ وَشَهْرَ رَمَضَانَ فَمَنْ صَامَهُ فَهُوَ حَدُّهُ وَالْحَجَّ فَمَنْ حَجَّ فَهُوَ حَدُّهُ، إِلَّا الذِّكْرَ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَرْضَ مِنْهُ بِالْقَلِيلِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدّاً يَنْتَهِي إِلَيْهِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾، فَقَالَ: لَمْ يَجْعَلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ حَدّاً يَنْتَهِي إِلَيْهِ"4.
4- عن أبي عبد الله عليه السلام قَالَ: "كَانَ أَبِي عليه السلام كَثِيرَ الذِّكْرِ لَقَدْ كُنْتُ أَمْشِي مَعَهُ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ اللهَ وَآكُلُ مَعَهُ الطَّعَامَ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ اللهَ وَلَقَدْ كَانَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَمَا يَشْغَلُهُ ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَكُنْتُ أَرَى لِسَانَهُ لَازِقًا بِحَنَكِهِ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَانَ يَجْمَعُنَا فَيَأْمُرُنَا بِالذِّكْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ مِنَّا وَمَنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ مِنَّا أَمَرَهُ بِالذِّكْرِ"5.
5- عن أبي عبد الله عليه السلام: "الْبَيْتُ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ وَيُذْكَرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ تَكْثُرُ بَرَكَتُهُ وَتَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ وَتَهْجُرُهُ الشَّيَاطِينُ وَيُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا يُضِيءُ الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَالْبَيْتُ الَّذِي لَا يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ وَلَا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ تَقِلُّ بَرَكَتُهُ وَتَهْجُرُهُ الْمَلَائِكَةُ وَتَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ"6.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام بخواتيم الخير.
2 الكافي، ج2، ص 16.
3 (م.ن)، ص 122.
4 (م.ن)، ص 498.
5 (م.ن) الكافي، ج2، ص 498.
6 (م.ن).
170
135
الدرس الحادي عشر: الذّكر (2) - أهمّية الذّكر ودوره
6- عن أبي عبد الله عليه السلام: "عن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ لَكُمْ أَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَقْتُلُوهُمْ وَيَقْتُلُوكُمْ؟ فَقَالُوا: بَلَى، فَقَالَ: ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كَثِيراً"1.
7- عن أبي عبد الله عليه السلام قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلهِ ذِكْراً، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ أُعْطِيَ لِسَاناً ذَاكِراً فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"2.
8- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "أَنَا الرَّاعِي رَاعِي الْأَنَامِ أَ فَتَرَى الرَّاعِيَ لَا يَعْرِفُ غَنَمَهُ (فَقِيلَ لَهُ) مَنْ غَنَمُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ صُفْرُ الْوُجُوهِ ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنْ ذِكْرِ الله"3.
9- عَنْهُ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "لِكُلِّ شَيْءٍ صَقَّالَةٌ وَصَقَّالَةُ الْقُلُوبِ ذِكْرُ اللهِ"4.
10- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أَكْثِرْ ذِكْرَ اللهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ وَالْخَوْفَ مِنْهُ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ وَيُعِنْكَ عَلَى مَا وَلَّاكَ"5.
1 (م.ن).
2 (م.ن).
3 وسائل الشّيعة، ج7، ص 157.
4 مستدرك الوسائل، ج5، ص 285.
5 بحار الأنوار، ج33، ص 556.
171
136
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح الكيفيّة التي نصبح فيها من الذّاكرين.
2- يبيّن دور التفكّر في تحصيل حالة الذّكر.
3- يتعرّف إلى أهم موانع الذّكر وكيفيّة إزالتها.
173
137
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
تمهيد
يتصور الكثيرون أن الذكر عبارة عن جريان الألفاظ الجميلة على اللسان. وقد درج العديد من الناس على التوقف عند الذكر اللساني باعتبار أنه يحقق الغرض من الذكر. لكن أدنى تأمل في معنى الذكر كفيل بإيقاظ الإنسان وفتح أبواب عظيمة للحقائق الكبرى.
ومن هنا يدرك من عرف المعنى الواقعي للذكر أن الوصول إلى هذا المقام وتحصيل هذه الفضيلة الكبرى ليس بالأمر القليل. إن أولياء الله تعالى جعلوا ذكر الله تعالى هدفًا ساميًا لحياتهم، وعرفوا أن غاية العبادة التحقق بهذه المنزلة الرفيعة. فما هي الطرق التي سلكوها لجعل قلوبهم وبواطنهم وسرائرهم ذاكرة ومستغرقة في ذكر الله الأعز الأجل؟
كيف نصبح من الذّاكرين
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة من الوصايا التي هي بمنزلة الشّروط اللازمة والأعمال المفيدة للوصول إلى مقام الذّكر الحقيقيّ. منها:
1- التفكّر
إنّ خزائن الأفكار هي منابع الأذكار. فكلّما اشتدّ الفكر في النّفس وقوي، اشتدّ الذكّر في القلب وتفعّل. ولا يمكن تحقيق حالة الذّكر الدّائم إلّا بعد استكمال شروط الفكر.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "فلا بدّ للسّالك أن يُحكم أوّلًا بالبرهان الحِكميّ حقيقة لا مؤثّر في الوجود إلّا الله ولا يفرّ من المعارف الإلهيّة التي هي غاية بعثة الأنبياء ولا يعرض عن تذكّر الحقّ والشّؤون الذّاتيّة والصّفاتيّة. فإنّ منبع جميع السّعادات هو تذكّر الحقّ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾1.. وإذا وصل بقدم التّفكّر والبرهان إلى
1 سورة طه، الآية 124.
175
138
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
حقيقة هذه اللطيفة الإلهيّة التي هي منبع المعارف الإلهيّة وباب أبواب الحقائق الغيبيّة، عليه أن يؤنس القلب بها بالتذكّر والرّياضة حتّى يؤمن بها. وهذا هو أوّل مرتبة لصدق مقالته، وعلامته الانقطاع إلى الحقّ وغضّ بصر الطّمع والرّجاء عن جميع الموجودات. ونتيجته التّوحيد الفعليّ الذي هو من أجلّ مقامات أهل المعرفة"1.
2- التّفهيم
وهو حاصل التّفكّر. ويأتي بعده ويشبه التّلقين. يقول الإمام قدس سره: "ومن الآداب القلبية للعبادات ـ وخصوصا العبادات الذكرية ـ التّفهيم، وكيفيّته: أن يعتبر الإنسان قلبه في أوّل الأمر كطفلٍ ما انفتح لسانه، وهو يريد أن يعلّمه كلًّا من الأذكار والأوراد والحقائق وأسرار العبادات بكمال الدقّة والعناية، ويفهّمه الحقيقة التي أدركها في أيّ مرتبة كان فيها.
فإذا لم يكن من أهل فهم معاني القرآن والأذكار وليس له نصيب من أسرار العبادات، فيفهّم القلب المعنى الإجماليّ وهو أنّ القرآن كلام الله والأذكار مذكِّرات بالحقّ تعالى والعبادات إطاعة لأمر الربّ. ويفهم القلب هذه المعاني الإجمالية. وإن كان أهل فهم المعاني الصورية للقرآن والأذكار، فيفهّم القلب المعاني الصورية من الوعد والوعيد والأمر والنّهي وعلم المبدأ والمعاد بالمقدار الذي أدركه. وان كُشفت له حقيقة من حقائق المعارف، أو كُشف له سرّ من أسرار العبادات، فيعلّم القلب ذاك المكشوف بجدٍّ واجتهاد.
ونتيجة هذا التّفهيم هو أنّه بعد مدّة من المواظبة، ينفتح لسان القلب ويصبح القلب ذاكرًا ومتذّكرًا. ففي أوّل الأمر كان القلب متعلّمًا واللسان معلّما، وكان القلب ذاكرًا بذكر اللسان وتابعًا له في الذّكر. وأمّا بعدما انفتح لسان القلب يصبح الأمر معكوسًا، فيكون القلب ذاكرًا أوّلا ويتبعه اللسان في الذّكر والحركة...
وبالجملة، ففي أوّل الأمر لابدّ أن يلاحظ الإنسان هذا الأدب: أي التّفهيم، حتّى ينفتح لسان القلب الذي هو المطلوب الحقيقيّ. وعلامة انطلاق لسان القلب أن يرتفع تعب الذّكر ومشقّته ويحصل النّشاط والفرح، ويرتفع الملل والألم، كشأن الإنسان إذا أراد أن يعلّم طفلًا لم يشرع في التكلّم، فما دام الطّفل لم يتعلّم النّطق، فإنّ المعلّم يكون في تعب وملالة، فإذا انفتح لسان الطّفل وأدّى الكلمة التي علّمه إيّاها ارتفعت ملالة المعلّم. بل نجد المعلّم يؤدّي
1 معراج السالكين، ص 144-145.
176
139
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
الكلمة تبعًا لأداء الطّفل من دون ألم وتعب.
فالقلب أيضًا في أوّل الأمر طفل ما انفتح لسانه بالكلام، ولابدّ له من التعلّم وتلقّن الأذكار والأوراد. فإذا انفتح لسان القلب، يكون تابعًا له وترتفع مشقّة الذّكر وتعب التّعليم وملالة الذّكر. وهذا الأدب بالنّسبة إلى المبتدئين ضروريّ جدًّا"1.
3- العزم
"وحيث أنّ بلوغ المقامات وتحصيل الكمالات مبنيّ على الاختيار والسّعي والاستقبال والمحافظة فإنّ للعزم دورًا أساسيًّا في تحقيق مقام الذّكر. ولهذا، يقول الإمامقدس سره: "ينبغي التّنبّه إلى أنّ على السّالك أنّ يعقد العزم على إدخال حقائق أركان التوكّل إلى قلبه بعد أن أدركها عقله استناداً إلى العلم البرهانيّ، ولا يتحقّق ذلك إلّا بأن ينتخب المجاهد لنفسه ساعةً من ليله ونهاره، يقلّ فيها اشتغال النّفس بعالم الطّبيعة والكثرة، ويكون قلبه فيها فارغ البال، فيشتغل فيها بذكر الحقّ تعالى مقروناً بحضور القلب وتوجّهه وبالتفكّر في الأذكار والأوراد المأثورة"2.
4- طهارة القلب من الرّجس
"فإذا تطهّر القلب من الرّجس استعدّ لذكر الله وتلاوة كتابه، ولكن ما دامت فيه قذارة ورجس عالم الطّبيعة فلن تتيسّر له الاستفادة من ذكر الله وتلاوة القرآن الكريم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في سورة الواقعة المباركة: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾، وقوله تعالى في سورة المؤمن: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ﴾3"4.
5- الذّكر اللسانيّ
صحيح أنّ الذّكر اللسانيّ ليس بالذّكر أصلًا لكنّه قد يكون نافعًا جدًّا ومفيدًا لتحقيقه. بل يمكن عدّه بالنّسبة للمحجوبين طريقًا أساسيًّا. ويقدّم الإمام الخميني قدس سره طريقة
1 معراج السالكين، ص 43-44.
2 جنود العقل والجهل، ص 192.
3 سورة غافر، الآية 13.
4 جنود العقل والجهل، ص 109.
177
140
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
الذّكر اللسانيّ، فيقول: "إنّ ذكر الحقّ بالنطق واللسان الذي يُعدّ من أقلّ مراتب الذّكر، يكون مجديًا ونافعًا أيضًا لأنّسه:
أوّلًا: قام اللسان بوظيفته بواسطة ذكره وإن كان هذا الذّكر قالبًا لا روح له.
وثانيًا: يمكن أن يصير هذا الذّكر باللسان سببًا لتفتّح لسان القلب أيضًا بعد فترة من المواظبة على ذكر اللسان والاستمرار عليه بشروطه.
قال شيخنا الكامل العارف الشّاه آبادي ـ روحي فداه ـ يجب أن يكون الإنسان الذّاكر مثل المعلّم الذي يريد أن يعلّم الطّفل الصّغير الذي لم ينطق بعد الكلمات، حيث يكرّر الكلمة، حتّى ينفتح لسان الطّفل وينطق الكلمة، ثمّ نرى المعلّم يداعب الطّفل ويردّد الكلمة بمثل ما سمعها من الطّفل فيزول تعب المعلّم وكأنّ مددًا يبلغه من الطّفل. كذلك الذّاكر يجب أن يعلّم قلبه الذّكر إذا لم ينفتح لسانه ـ القلب ـ على الذّكر. وسبب تكرار الذّكر هو انفتاح لسان القلب على الذّكر. وآية انفتاحه ـ لسان القلب ـ أنّ لسان الفم يتبع القلب، فيزول نصب تكرار الذّكر وعنائه. في البدء كان اللسان ذاكرًا والقلب استمدّ الذّكر منه، وبعد انفتاح لسان القلب بالذّكر، يتبعه لسان الفم، ويستمدّ اللسان منه ـ القلب ـ الذّكر، أو من الغيب"1.
6- التّكرار
لا شكّ بأنّ المطلوب هو مقام الذّكر لا حالته. لأنّ الأحوال تزول ولا تبقى. والمقامات هي كمالات النّفس التي تبقى. ولأجل تحقيق هذا الأمر ينبغي تكرار الرّياضات الرّوحيّة والمعنويّة. يقول الإمامقدس سره: "يُستحب تكرار الأذكار والأوراد والعبادات والمناسك. والسّبب الرئيسيّ هو تعويد النّفس وترويضها. فلا تضجر عزيزي من التّسكرار. واعلم أنّه ما دام الإنسان يرزح في قيود النّفس والشّهوات، وما دامت سلاسل الشّهوة والغضب الطّويلة على رقبته لا يستطيع أن يبلغ المقامات المعنويّة والروحانيّة، ولا تظهر فيه السّلطة الباطنيّة للنّفس وإرادتها الثّاقبة، ولا يحصل له مقام استقلال النّفس وعزّتها، الذي هو أرقى مقام لكمال الرّوح، بل إنّ هذا الأسر والرقّ يقيّده ولا يسمح له بالتّمرّد على النّفس في جميع الأحوال"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 327-328.
2 (م.ن)، ص 292.
178
141
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
7- التّلقين
"وبعد أن يجعل القلب مؤهّلاً لذكر الله وتلاوة كتابه، عليه أن يلقّنه آيات التّوحيد والتّنزيه (والتّسبيح) الشّريفة مع حفظ حضور القلب وحال طهارته، على النّحو التالي: أن يفرض أنّ حال قلبه كطفلٍ لم يتعلّم النّطق بعد، ويريد أن يعلّمه الكلام، فيلقّنه الكلمة الواحدة ويكرّرها له حتّى يتعلّمها، وبهذا النّحو يلقّن قلبه كلمة التّوحيد بطمأنينة وتوجّه، ويكرّرها له حتّى ينفتح لسانه القلبيّ بالنّطق بها، ولو خصّص أواخر الليل أو ما بين الطّلوعين بعد فريضة الفجر لهذا العمل فهو أفضل للغاية، فيعمد في هذا الوقت إلى توجيه القلب بطهارة شطر القرآن الكريم وذكر الله، ويتلو قلبه، على نحو التّلقين والتّذكير، الآيات القرآنية الكريمة مشتملة على التّذكير والتّوحيد"1.
8- الطّمأنينة
وهي عبارة عن تأمين وضعيّة الثّبات النّفسيّ حتّى تحقّق العبادات الذكريّة هدفها. لهذا، يقول الإمام قدس سره: "من الآداب القلبيّة المهمّة للعبادات ـ وخصوصًا العبادات الذّكريّة ـ الطّمأنينة... وهي عبارة عن أن يأتي السّالك بالعبادة مع سكون القلب واطمئنان الخاطر، لأنّ العبادة إذا أُتي بها حال اضطراب القلب وتزلزله، فلا ينفعل القلب بها، ولا يحصل أثر منها في ملكوت القلب ولا تصير حقيقة العبادة صورة باطنيّة له. في حين أنّ من إحدى نكات تكرار العبادات وتكثير الأذكار والأوراد أن يتأثّر القلب بها وينفعل حتى يتشكّل باطن السّالك شيئَا فشيئًا من حقيقة الذّكر والعبادة، ويتّحد قلبه بروح العبادة. وطالما لم يكن للقلب اطمئنان وسكون وطمأنينة ووقار، لا يكون للأذكار والنّسك فيه تأثير، ولا يسري أثر العبادة من ظاهر البدن وملكه إلى ملكوته وباطنه ولا يؤدّي إلى القلب حظوظه من العبادة... فمثلًا، إذا قال أحد الذّكر الشّريف: "لا إله إلا الله محمّد رسول الله" بسكينة القلب واطمئنانه، وراح يعلّم القلب هذا الذّكر الشريف، فإنّ لسان القلب ينطق بالتدريج، حتى يصبح لسان الظاهر تابعًا للسان القلب. ففي البداية يكون القلب ذاكراً ثم يتبعه اللسان، وإلى هذا المعنى أشار الإمام الصادق عليه السلام، على ما في رواية مصباح الشريعة قال: "فاجعل قلبك قبلة للسانك لا تحرّكه إلا بإشارة القلب وموافقة العقل ورضى الإيمان"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 109.
2 معراج السالكين، ص 32.
179
142
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
9- النّشاط والبهجة
"إنّ من أسرار العبادات والرّياضات ونتائجهما أن تكون إرادة النّفس في ملك البدن نافذة... وتُساق جنود النّفس من الإيمان إلى التّسليم ومن التّسليم إلى الرّضا ومن الرّضا إلى الفناء. وفي هذه الحالة تجد النّفس رائحة من أسرار العبادة، ويحصل لها شيء من التجلّيات الفعليّة. وما ذكرنا لا يتحقّق إلا بأن تؤدّى العبادات عن نشاطٍ وبهجة ويحترز فيها من التكلّف والتعسّف والكسل احترازًا تامًّا، كي تحصل للعابد حالة المحبّة والعشق لذكر الحقّ ولمقام العبوديّة، ويحصل له الأنس والتّمكّن"1.
10- اختيار الأوقات المناسبة
"إذا عمد في وقت الفراغ من المشاغل النّفسيّة والخواطر، والواردات الدّنيويّة مثل أواخر الليل أو ما بين الطّلوعين، إلى تلاوة الآيات الأواخر من سورة الحشر المباركة من قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ﴾ وهي الآية 18 من السورة إلى آخرها ـ وهي آيات تشتمل على التّذكير ومحاسبة النفس، وتتضمّن الإشارة إلى مراتب توحيد الله وأسمائه وصفاته ـ نقول إذا عمد على تلاوتها مع التوجّه القلبي والتدبر فيها، فإنّ المرجوّ إن شاء الله أن يحصل نتائج طيّبة، وكذلك الحال مع الأذكار الشّريفة بحضورٍ قلبيّ، فليعمد إلى الذّكر الشّريف "لا إله إلّا الله"، هو أفضل الأذكار وأجمعها، فالمرجوّ أن يأخذ الله تعالى بيده، (ببركة هذا الذكر المبارك)"2.
موانع الذّكر
1- الإعراض عن الحق
قد يدخل الإنسان في أجواء الفكر، ويعيش في قلب الحقائق والمعارف الإلهيّة العظيمة، ولكنّه لا يصبح من الذّاكرين ولا تتبدّل تلك الأفكار الرّائعة إلى أذكار للقلب، وذلك لأنّه لم يصدق النيّة في عمله ذلك. بل كان همّه مثلًا أن يكون من المعروفين بالعلم والمشهورين بالعرفان. يقول الإمام قدس سره: "الإنسان إذا لم يبتغِ من وراء طلب العلم، الوصول إلى الحقّ،
1 معراج السالكين، ص 38.
2 جنود العقل والجهل، ص 110.
180
143
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
والتحقّق بأسماء الله وصفاته، والتخلّق بأخلاق الله، سيتحوّل كلّ واحدٍ من إدراكاته إلى دركات، وحجب مظلمة، تسوّد قلبه وتعمي بصيرته، ويصبح من مصاديق الآية المباركة التي تقول: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾"1.
2- الاغترار بوعود إبليس
"إنّ ذلك الملعون هو الذي يسعى دائمًا إلى تهوين أمور الآخرة في أعيننا، وبتذكيرنا لرحمة الله ولشفاعة الشّافعين يريد أن ينسينا ذكر الله وطاعته"2. "فلا بدّ أن نعلم بأنّ تأخّرنا عن هذا السّير الملكوتيّ والسّلوك الإلهيّ بسبب إغواء الشّيطان والوقوع تحت السّلطنة الشّيطانيّة من قصورنا أو من تقصيرنا، حيث لم نقم بآدابه المعنويّة وشرائطه القلبيّة، كما أنّ عدم نيلنا في جميع الأذكار والأوراد والعبادات نتائجها الرّوحيّة والآثار الظاهريّة والباطنيّة فهو بسبب هذه المسألة الدّقيقة"3.
3- اللغو
"فيما يرتبط بخصوص آثار اللغو والكلام القبيح فينبغي الالتفات إلى شدّة إضراره على الرّوح، فهو يسلب النّفس الصّلاح والصّفاء والسّلامة والوقار والطّمأنينة والسّكينة، ويلوّثها بالجلافة والكدر والقسوة والغفلة والإدبار عن ذكر الله، ويسلب الرّوح حلاوة عبادة الله وذكره، ويضعف الايمان ويوهنه، ويميت القلب4. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوُ القلبِ، إنّ أبعد الناس من الله القلبُ القاسي"5"6.
1 الأربعون حديثًا، ص 425.
2 (م.ن)، ص 178.
3 معراج السالكين، ص 230.
4 جنود العقل والجهل، ص 350.
5 وسائل الشّيعة، ج12، ص 194.
6 جنود العقل والجهل، ص 352-353.
181
144
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
4- الإخلاد إلى الأرض
"إنّ حرمان قلوبنا المسكينة من حلاوة ذكر الحقّ تعالى، وإنّ عدم وصول لذّة مناجاة تلك الذّات المقدّسة إلى ذائقة أرواحنا ونحن محتجبون عن الوصول إلى قرب الجناب ومحرومون من تجلّيات الجمال والجلال، لأنّ قلوبنا عليلة ومريضة، وقد حجبنا الإخلاد إلى الأرض والاحتجاب بالحجب المظلمة للطّبيعة عن معرفة كبرياء الحقّ وأنوار الجمال والجلال"1.
ويقولقدس سره في مكانٍ آخر: "من الحجب الغليظة التي هي ستر سميك بيننا وبين معارف القرآن ومواعظه: حجاب حبّ الدنيا، فيصرف القلب بواسطة تمام همّته في الدنيا وتكون وجهة القلب تمامًا إلى الدّنيا ويغفل القلب بواسطة هذه المحبّة عن ذكر الله، ويعرض عن الذّكر والمذكور، وكلّما ازداد التعلّق بالدّنيا وأوضاعها ازداد حجاب القلب وساتره ضخامة، وربّما تغلب هذه العلاقة على القلب ويتسلّط سلطان حبّ الجاه والشّرف على القلب بحيث يطفىء نور فطرة الله تمامًا، وتغلق أبواب السّعادة على الإنسان"2.
5- السّقوط في مستنقع العقائد الباطلة
"الذي أوجب أن تكون استفادتنا من هذا الكتاب العظيم (القرآن) قليلة جدًّا هو هذا الفهم. فإمّا ألّا ننظر إليه نظر التّعليم والتّعلّم كما هو الغالب علينا، ونقرأه للثّواب والأجر فقط، فينصبّ جهدنا على تجويده فقط والقراءة الصّحيحة حتى ننال الثّواب، ونحن واقفون عند هذا الحدّ وقانعون بهذا.. ها قد قرأنا القرآن لأكثر من أربعين سنة ولم تحصل الاستفادة منه بوجه إلّا الأجر وثواب القراءة. وإمّا أن نشتغل ـ إن كان هدفنا التّعليم والتّعلّم ـ بالنّكات البديعيّة والبيانيّة ووجوه إعجازها، أو أعلى من هذا بقليل، بالجهات التّاريخيّة وسبب نزول الآيات وأوقات النّزول، وكون الآيات والسّور مكّيّة أو مدنيّة، واختلاف القراءات واختلاف المفسّرين من العامّة والخاصّة وسائر الأمور العرضيّة الخارجة عن المقصد حتّى صارت هذه الأمور بنفسها سببًا للاحتجاب عن القرآن والغفلة عن الذّكر الإلهيّ"3.
1 معراج السالكين, ص 141.
2 (م.ن)، ص 147.
3 (م.ن)، ص 202-203.
182
145
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ ما تعشقه الفطرة السّليمة هو المعرفة على نحو المشاهدة الحضوريّة، لذا فإنّ أوّل عمل ينبغي أن نلتفت إليه إذا أردنا أن نصبح من الذّاكرين هو إزالة الحجب عن القلب لاستقبال أنوار الفطرة الإلهيّة وللسّماح لها بالسّريان في كلّ مملكة وجودنا.
2- من الشّروط اللازمة والأعمال المفيدة للوصول إلى مقام الذّكر الحقيقيّ: التفكّر، العزم، الذكر اللساني، التّكرار وتلقين القلب، طهارة القلب من الرّجس، الطّمأنينة.
3- الفكر هو مقدّمة للذّكر، فكلّما اشتدّ الفكر في النّفس وقوي، اشتدّ الذكّر في القلب وتفعّل. ولا يمكن تحقيق حالة الذّكر الدّائم إلّا بعد استكمال شروط الفكر.
4- أوّل مرتبة لصدق مقالة السّالك هي تذكّر الحقّ، وعلامته الانقطاع إلى الحقّ وغضّ بصر الطّمع والرّجاء عن جميع الموجودات.
5- يمكن أن يصير الذّكر باللسان سببًا لتفتّح لسان القلب وسبب تكرار الذّكر هو انفتاح لسان القلب على الذّكر وآية انفتاحه أنّ لسان الفم يتبع القلب، فيزول نصب تكرار الذّكر وعنائه.
6- لا شكّ بأنّ المطلوب هو مقام الذّكر لا حالته. لأنّ الأحوال تزول ولا تبقى. ولأجل تحقيق هذا الأمر ينبغي تكرار الرّياضات الرّوحيّة والمعنويّة.
7- حتّى يؤثّر الذّكر في ملكوت القلب وتصير حقيقة العبادة صورة باطنيّة للقلب ينبغي أن يؤّدى في حال من الطّمأنينة.
8- أهم موانع الذّكر هي: عدم صدق النيّة، الاغترار بوعود إبليس، اللغو، احتجاب الفطرة بعالم الطّبيعة، الإدّعاء، الإخلاد إلى الأرض وجعل وجهة القلب تمامًا إلى الدنيا، السّقوط في مستنقع العقائد الباطلة، ومدح أهل الدّنيا.
9- ما لم يبتغِ الإنسان الوصول إلى الحقّ من وراء طلب العلم، والتحقّق بأسماء الله وصفاته، والتخلّق بأخلاق الله، سيتحوّل كلّ واحدٍ من إدراكاته إلى دركات وحجب مظلمة.
183
146
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَنَبِّهْنِي لِذِكْرِكَ فِي أَوْقَاتِ الْغَفْلَةِ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِطَاعَتِكَ فِي أَيَّامِ الْمُهْلَةِ، وَانْهَجْ لِي إِلَى مَحَبَّتِكَ سَبِيلاً سَهْلَةً، أَكْمِلْ لِي بِهَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ1.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلاَ تَجْعَلْنِي نَاسِياً لِذِكْرِكَ فِيمَا أَوْلَيْتَنِي، وَلاَ غَافِلاً لإِحْسَانِكَ فِيمَا أَبْلَيْتَنِي، وَلاَ آيِساً مِنْ إِجَابَتِكَ لِي وَإِنْ أَبْطَأَتْ عَنِّي، فِي سَرَّاءَ كُنْتُ أَوْ ضَرَّاءَ، أَوْ شِدَّةٍ أَوْ رَخَاءٍ، أَوْ عَافِيَةٍ أَوْ بَلاَءٍ، أَوْ بُؤْسٍ أَوْ نَعْمَاءَ، أَوْ جِدَةٍ أَوْ لأْوَاءَ، أَوْ فَقْرٍ أَوْ غِنًى... اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَفَرِّغْ قَلْبِي لِمَحَبَّتِكَ، وَاشْغَلْهُ بِذِكْرِكَ، وَانْعَشْهُ بِخَوْفِكَ وَبِالْوَجَلِ مِنْكَ، وَقَوِّهِ بِالرَّغْبَةِ إِلَيْكَ، وَأَمِلْهُ إِلَى طَاعَتِكَ، وَأَجْرِ بِهِ فِي أَحَبِّ السُّبُلِ إِلَيْكَ، وَذَلِّلْهُ بِالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَكَ أَيَّامَ حَيَاتِي كُلِّهَا2.
الآيات الكريمة:
1- ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾3.
2- ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾4.
الروايات الشريفة:
1- قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: "لَا يَتَمَكَّنُ الشَّيْطَانُ بِالْوَسْوَسَةِ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا وَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَاسْتَهَانَ بِأَمْرِهِ وَسَكَنَ إِلَى نَهْيِهِ وَنَسِيَ اطِّلَاعَهُ عَلَى سِرِّهِ... إِذَا أَتَاكَ الشَّيْطَانُ مُوَسْوِساً لِيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَيُنْسِيَكَ ذِكْرَ اللهِ فَاسْتَعِذْ مِنْهُ بِرَبِّكَ وَرَبِّهِ فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُ الْحَقَّ عَلَى الْبَاطِلِ وَيَنْصُرُ الْمَظْلُومَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾"5.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من ذكر الله سبحانه أحيا الله قلبه ونوّر عقله ولبّه"6.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "سامع ذكر الله ذاكر"7.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في مكارم الأخلاق.
2 (م.ن)، دعاؤه عليه السلام إذا أحزنه أمر واهمّته الخطايا.
3 سورة النحل، الآية 43.
4 سورة الكهف، الآية 28.
5 مستدرك الوسائل، ج1، ص 178 ـ 179.
6 تصنيف غرر الحكم، ص189.
7 (م.ن)، ص 188.
184
147
الدرس الثاني عشر: الذّكر (3) - تحصيل مقام الذّكر وأهم موانعه
4- عَنْ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: "زَامَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: فَقَالَ لِي اقْرَأْ فَافْتَتَحْتُ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ فَقَرَأْتُهَا فَرَقَّ وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا أُسَامَةَ ارْعَوْا قُلُوبَكُمْ ذِكْرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاحْذَرُوا النَّكْتَ فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْقَلْبِ تَارَاتٌ أَوْ سَاعَاتٌ الشَّكُّ مِنْ صَبَّاحٍ لَيْسَ فِيهِ إِيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ شِبْهَ الْخِرْقَةِ الْبَالِيَةِ أَوِ الْعَظْمِ النَّخِرِ، يَا أَبَا أُسَامَةَ أَلَسْتَ رُبَّمَا تَفَقَّدْتَ قَلْبَكَ فَلَا تَذْكُرُ بِهِ خَيْرًا وَ لَا شَرًّا وَلَا تَدْرِي أَيْنَ هُوَ، قَالَ: قُلْتُ بَلَى، إِنَّهُ لَيُصِيبُنِي وَأَرَاهُ يُصِيبُ النَّاسَ، قَالَ: أَجَلْ، لَيْسَ يَعْرَى مِنْهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاحْذَرُوا النَّكْتَ فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً نَكَتَ إِيمَاناً وَإِذَا أَرَادَ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ نَكَتَ غَيْرَ ذَلِكَ"1.
5- عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ وَ اللهِ إِنَّ ذِكْرَ اللهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَسْرَعُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ مِنَ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ"2.
6- مِصْبَاحُ الشَّرِيعَةِ، قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: "وَ اقْطَعْ عَمَّنْ يُنْسِيكَ وَصْلُهُ ذِكْرَ اللهِ وَتَشْغَلُكَ أُلْفَتُهُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَ أَعْوَانِهِ وَ لَا يَحْمِلْنَكَ رُؤْيَتُهُمْ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ عِنْدَ الْحَقِّ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خُسْرَاناً عَظِيماً نَعُوذُ بِاللهِ"3.
7- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس في المعاصي أشدّ من اتّباع الشهوة فلا تطيعوها فيشغلكم عن ذكر الله"4.
1 وسائل الشّيعة، ج7، ص 166.
2 مستدرك الوسائل، ج5، ص 58.
3 (م.ن)، ج 8، ص 352.
4 تصنيف غرر الحكم، ص 190.
185
148
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يتعرّف إلى المعنى الدّقيق للطمأنينة وأهم علامتها في النفس.
2. يتعرّف إلى أهميّة الطّمأنينة ودورها في ترسيخ الفضائل الأخلاقيّة في النفس.
3. يبيّن كيفيّة تحصيل الطّمأنينة وأهم الموانع التي تحول دون ذلك.
187
149
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
تمهيد
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾1.
كثيرة هي مواقف الحياة ومواردها وفرصها التي تزلزل الإنسان، فتمنعه من الاستفادة الصّحيحة والتّوجّه المركّز والثّبات واتّخاذ الموقف المناسب، لهذا احتاج العاقل إلى الطّمأنينة لكي يثبت وعاء وجوده أمام نزول الفيوضات الرّحمانيّة، فتستقرّ في قلبه ثمّ تتّحد مع نفسه فتصبح عنوان هويّته وسِمة شخصيّته.
ما أحوج المجاهد إلى الطّمأنينة في ساحات الوغى. والأحوج منه ذاك الذي تحيط به مغريات الدّنيا فتسلبه لبّه من شدّة هزاهزها. وفي مجالس العلم وفي العبادة وفي كلّ عمل نقوم به، تكون الطّمأنينة عاملًا أساسيًّا في تحصيل الفوائد والوصول إلى النّتائج. فما هي الطّمأنينة؟ ومن أين تنشأ؟ وكيف يمكننا تحصيلها؟
ما هي الطّمأنينة؟
لا تحتاج الطّمأنينة إلى تعريفٍ علميّ لأنّها من الأمور التي يدركها الوجدان نظرًا لتحقّقها في عالم الأبدان. فالجسد المطمئنّ شرط في الصّلاة، ويقابلها الاضطراب والتّزلزل والحركة العشوائيّة التي لا تعرف وجهةً، وما ينبغي أن نعرفه أنّ الطّمأنينة هي ثبات الإيمان واستقراره في القلب، وتمركز التّوجّه والتّخيّل في الخيال. ولها حضور وتجلٍّ في جميع مراتب النّفس.
1 سورة الفجر، الآيات 27 – 30.
189
150
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
لكنّ الأصل في بحثنا هذا هو طمأنينة القلب وسكونه التي ينبغي أن تنعكس في عالم المثال بصورة اطمئنان الخاطر، يقول الإمامقدس سره: "من الآداب القلبية المهمّة للعبادات ـ وخصوصًا العبادات الذكرية ـ الطمأنينة. وهي غير الطمأنينة التي اعتبرها الفقهاء رضوان الله عليهم في خصوص الصلاة. وهي عبارة عن أن يأتي السالك بالعبادة مع سكون القلب واطمئنان الخاطر، لأنّ العبادة إذا أُتي بها حال اضطراب القلب وتزلزله، فلا ينفعل القلب بها، ولا يحصل أثر منها في ملكوت القلب ولا تصير حقيقة العبادة صورة باطنيّة له"1.
وبهذا البيان يُعلم أنّ طمأنينة الخاطر من أعظم أسباب استقرار الفضائل ورسوخها في النّفس.
وإذا انعكست الطّمأنينة القلبيّة في عالم الخيال والمثال ظهرت في عالم الملك والظّاهر وتجلّت في حركة الأعضاء والجوارح، فلا يزيغ البصر ولا تتذبذب الأذن ولا تتحرّك الأيدي ولا ترجف الأرجل ما دامت مطمئنّة.
إنّ الطّمأنينة في المراتب المختلفة علامة ودليل على استقرار الفيض الإلهيّ وقرب اتّحاده بالنّفس الذي يُعدّ عنوان الكمال الحقيقيّ. إنّ أكثر النّاس يتمتّعون من حينٍ لآخر بفيوضات رحمانيّة قد تصل إلى حدّ المكاشفات والمشاهدات. لكنّ الكمال الحقيقيّ في صيرورة هذه الكمالات أو الأنوار والفيوضات حالة راسخة وهيئة ثابتة في النّفس، الأمر الذي يحصل بفضل الطّمأنينة.
فلو أراد الله بعبدٍ خيرًا، منحه الطّمأنينة قبل أن يفيض عليه بأنوار الكمالات المختلفة. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الطمأنينة واليقين والثبات والإخلاص وأمثالها من الإفاضات الرّحمانيّة والإلقاءات المُلكية"2.
ويقول قدس سره: "مقام الاطمئنان وطمأنينة النّفس، وهو في الحقيقة المرتبة الكاملة من الإيمان. قال تعالى مخاطبًا خليله: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾3"4.
1 معراج السالكين، ص 31.
2 الأربعون حديثًا، ص 433.
3 سورة البقرة، الآية 260.
4 معراج السالكين، ص 26.
190
151
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
والطّمأنينة علامة إلهيّة على التّكامل حيث يقول الإمام قدس سره: "أمّا أهل الآخرة، فإنهم كلّما ازدادوا قرباً من دار كرم الله، ازدادت قلوبهم سرورًا واطمئنانًا"1.
آثار الطّمأنينة
للطّمأنينة آثار لا عدّ لها ولا حصر، ونحن ننقل منها أهم ما جاء في كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره.
1- العصمة
"إنّ نفي الشكّ يستلزم نفي العيوب القلبيّة والقالبيّة، بل يستلزم العصمة، لأنّها ـ العصمة ـ أمر على خلاف الإرادة والاختيار، وإنها لا تكون من الأمور الطبيعية والجبلّية، بل هي حالة نفسية، وأنوار باطنية تتفجّر من نور اليقين الكامل والاطمئنان التام"2.
2- سبب لتأثير العبادة والذّكر
"من إحدى نكات تكرار العبادات وتكثير الأذكار والأوراد أن يتأثّر القلب بها وينفعل حتى يتشكّل باطن السالك شيئا فشيئا من حقيقة الذكر والعبادة، ويتّحد قلبه بروح العبادة. وطالما لم يكن للقلب اطمئنان وسكون وطمأنينة ووقار، لا يكون للأذكار والنسك فيه تأثير، ولا يسري أثر العبادة من ظاهر البدن وملكه إلى ملكوته وباطنه ولا يؤدي إلى القلب حظوظه من العبادة. وهذا من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى بيان، ويعلم بأدنى تأمّل"3.
3- التغلّب على جنود الشّيطان
"إنّ طمأنينة النّفس واستقامتها هي التي تجعل الغلبة للإنسان في مواجهة جنود الجهل، وتحفظه في مجابهة حزب الشيطان، وتجعله يسيطر على قوّتي الغضب والشهوة، فلا يستسلم لهما، بل هي التي تُسخّر لطاعته جميع قواه الباطنية والظاهرية"4.
1 الأربعون حديثًا، ص 156.
2 (م.ن)، ص 581.
3 معراج السالكين، ص 31-33.
4 جنود العقل والجهل، ص 324.
191
152
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
4. التّقوى التّامّة
"إن الإنسان يستطيع القيام بجميع الواجبات الفردية والاجتماعية، فلا ينحرف ولا يسقط في المعاصي في أيّ مرحلة من مراحل حياته الماديّة والروحيّة، وذلك ببركة التحلّي بهذه القوّة الروحانية العظيمة، أي ملكة الاستقامة والطمأنينة"1.
5- عدم الخوف من الأعداء
"فبها (أي الطمأنينة) قام زعماء الدّين في وجه الملايين من الجاهلين دون أن يسمحوا لكثرة هؤلاء بأن توجد فيهم أدنى وهن، وهذه الرّوح العظيمة هي التي جعلت الأنبياء العظام ينهضون فرادى لمواجهة العقائد الجاهلية الباطلة التي سيطرت على العالم، دون أن يدخلهم أدنى خوف أو رهبةٌ بسبب وحدتهم وكثرة مخالفيهم، وبها تغلّبوا على تلك العقائد الجاهليّة وغيّروا العادات التي أوجدتها في الناس، واستبدلوها بصبغتهم التّوحيديّة"2.
6- سبب للقوّة العظيمة
"لَمَّا سَأَلَ عُمَرُ (أمير المؤمنين عليه السلام) فَقَالَ: "يَا أَبَا الْحَسَنِ لَقَدِ اقْتَلَعْتَ مَنِيعاً وَأَنْتَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَمِيصاً، فَهَلْ قَلَعْتَهَا بِقُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ؟ فَقَالَ: مَا قَلَعْتُهَا بِقُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ وَلَكِنْ قَلَعْتُهَا بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ وَنَفْسٍ بِلِقَاءِ رَبِّهَا مُطْمَئِنَّةٍ رَضِيَّةٍ"3.
أسباب الطّمأنينة
إنّ جميع الكمالات والكرامات إفاضات إلهيّة ومِنن ربّانيّة. لكن على الإنسان أن يحفظ لها في نفسه الوعاء والاستعداد. ومن جملة الأسباب التي تمهّد لحصول الطّمأنينة في النّفس حسبما جاء في كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره:
1- ترك حبّ الجاه والمقام
"إنّ هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من ترك حبّ الجاه والمقام وسائر تفرّعاته، تمنع النفس من أن تخطو خطوات تخالف العدالة والرويّة. إنّ الإِنسان البسيط غير المتكلّف
1 جنود العقل والجهل، ص 325.
2 (م.ن)، ص 325.
3 بحار الأنوار، ج21، ص 40.
192
153
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
يتحمّل المنغّصات ولا تتقطع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير وقته. أمّا إذا اقتلع جذور حبّ الدنيا من قلبه اقتلاعًا، فإنّ جميع المفاسد تهجر قلبه وتحلّ محلّها الفضائل الأخلاقيّة السّامية"1.
2- التوجّه إلى تعمير الآخرة وعالم الغيب
"إذا كانت وجهة القلب نحو تعمير الآخرة، والمعارف الحقّة، وعالم الغيب، لحصل له وئام مع الملكوت الأعلى، الذي هو عالم الملائكة وعالم النفوس الطيّبة السّعيدة، والذي يكون هذا العالم بمثابة الظل النّورانيّ لعالم الطّبيعة، واعتبر العلوم التي تفاض عليه من العلوم الرّحمانيّة الملكيّة والعقائد الحقّة وغدت الخواطر من الإلقاءات والخواطر الإلهيّة، ويتطهّر من الشكّ والشرك ويتنزّه منهما، وحصلت الاستقامة والطّمأنينة في النّفس، وصارت أشواقها أيضًا على ضوء تلك العلوم، وإرادتها على ضوء تلك الأشواق"2.
3- شرح الصدر
"فالمتحلي بشرح الصدر لا يولي أهميّةً لما يراه في نفسه من كمال وجمال ومال ونفوذ وحشمة ولا يستعظمه، لأنّ سعته الوجودية كبيرة إلى درجة تجعله يتغلّب على جميع الورادات القلبية، فلا يضيق وعاؤُهُ الوجودي بشيءٍ. وهذه السّعة في الصدر وليدة معرفة الحقّ تعالى، وهي التي توصل قلوب المتألهين للأنس بالله إلى مقام الاطمئنان والسكينة والطمأنينة"3.
4- إشراقة نور التّوحيد
"إنّ القلب الذي أشرق فيه نور التّوحيد ومعرفة الكمال المطلق يتحلّى بالطّمأنينة والثبات والتأني والاستقرار، وإنّ القلب الذي تنوَّر بمعرفة الحقّ جلَّ وعلا يرى عيانًا أنّ مجاري الأمور بيد قدرته تعالى، ويرى نفسه واجتهاده وحركته وسكونه هو، وكذلك حركات وسكنات جميع الموجودات صادرة منه تبارك وتعالى، لأنّ زمام أمورها ليس بيدها بل بيده عزَّ وجلّ، مثل هذا القلب لا يعتريه اضطراب أو تسرّع أو تذبذب"4.
1 الأربعون حديثًا، ص167-168.
2 (م.ن)، ص 434.
3 جنود العقل والجهل، ص 304.
4 (م.ن)، ص 326.
193
154
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
5- الحلم
"الحلم من شُعَبِ اعتدال القوّة الغضبية، وهو ملكةٌ تؤدّي إلى حصول الطمأنينة في النفس، فلا تهيج فيها القوّة الغضبية بسرعة أو في غير الموارد المناسبة، ولا تفقد زمام أمرها إذا واجهت ما لا ترغب فيه أو ما تكرهه أو ما لا يلائمها"1.
كيفيّة تحصيل الطّمأنينة
إنّ الاتّصال بالأسباب المذكورة هو العنصر المحوريّ في تحصيل الطّمأنينة وجعلها ملكة نفسانيّة راسخة. ويذكر الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة من النّصائح المفيدة في هذا المجال، يمكن أن تشكّل برنامجًا مهمًّا.
1- مخالفة الشّيطان
"من الوضوح بمكان أنّك إذا خالفت الشّيطان فترة من الزّمان، ولم تلقَ بالاً لوساوسه، لانقطع طمعه عنك، وعادت الطمأنينة والسكون إلى نفسك"2.
2- العلم الصّحيح
"عبّر الإمام عليه السلام عن العلم بـ (المُحكمة)3 لأجل أنّ العلم الصحيح لنورانيته وضيائه في القلب، يوجب الاطمئنان، ويدحض الريب والشك"4.
3- إزالة حبّ الدّنيا
"وبصورة عامة، فإنّ العلاج الجذريّ لمعظم المفاسد إنما يتحقّق بمعالجة حبّ الدنيا وحبّ النفس، وبذلك تتحلّى النفس بالسكينة والطمأنينة، فيهدأ القلب حينئذٍ ويصبح الاطمئنان قوّة وملكة فيه، فيتساهل بشأن الأمور الدنيوية ولا يهتم بأيِّ مأكل ومشرب،
1 جنود العقل والجهل، ص 329.
2 الأربعون حديثًا، ص 441.
3 قال المؤمنين عليه السلام يقول: "يا طالب العلم إن العلم ذو فَضَائِلَ كَثِيرةٍ، فَرَأسُهُ التَّواضُعُ، وَعَيْنُهُ البَرَاءَةُ مِنَ الحَسَدِ، وأذُنُهُ الفَهْمُ، وَلِسَانُهُ الصِّدقُ، وحِفْظُهُ الفَحْصُ، وَقَلْبُهُ حُسْنُ النِّيَّةِ، وَعَقْلُهُ مَعْرِفَةُ الأشْيَاءِ وَالأُمُورِ، وَيَدُهُ الرَّحْمَةُ، وَرِجْلُهُ زِيَارَةُ العُلَمَاءِ، وَهِمَّتُهُ السَّلاَمَةُ، وَحِكْمَتُهُ الوَرَعُ، وَمُسْتَقَرُّهُ النَّجَاةُ، وَقَائدُهُ العَافِيَةُ، وَمَرْكَبُهُ الوَفَاءُ، وَسِلاحُهُ لِينُ الكَلِمَةِ، وَسَيْفُهُ الرِّضَا، وَقَوْسُهُ المُدَارَاةُ، وَجَيْشُهُ مُحَاوَرَةُ العُلَمَاءِ، وَمَالُهُ الأدَبُ، وَذَخِيرَتُهُ اجْتِنَابُ الذُّنوبِ، وَزَادُهُ المَعْرُوفُ، وَمَاؤُهُ المُوادَعَةُ، وَدَليلُهُ الهُدَى، وَرَفِيقُهُ مَحَبَّةُ الأخْيَارِ" الكافي، ج1، ص 48.
4 الأربعون حديثًا، ص 427.
194
155
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
ويتعامل بهدوءٍ وتساهل مع من يزاحمه في أيّ أمر من أمور الدنيا، لأنّ محبوبه ليس طعمة أهل الدنيا لكي يهيج من أجلها"1.
و"إنّ أهل الدنيا دائمًا في تعب ونصب، وإنّهم لم يتمتّعوا باطمئنان في الروح واستقرار في الجسم، وإذا حلّت بهم مصيبة، خارت قواهم وحيويّتهم وزال جَلَدهم وصبرهم أمام الحوادث التي تداهمهم. وهذا لا يكون إلاّ نتيجة شكّهم وعدم إيمانهم بالقضاء الإلهيّ وعدله، فتكون هذه الأمور من الحزن والهمّ والتّعب. نتيجة لهذا التزلزل"2.
موانع الاطمئنان
1- طلب الشهوات
"حال القلب المحتجب، المحروم من معرفة الله، الواقع في حجب التوجّه للنفس والشهوات واللذات الحيوانية، فهو مضطربٌ لخوفه فوات اللذات الحيوانية، فصاحبه فاقد للطمأنينة يقوم بأعماله بعجلةٍ وتسرُّع"3.
2- اللغو والكلام القبيح
"فيما يرتبط بخصوص آثار اللغو والكلام القبيح ينبغي الالتفات إلى شدّة اضراره على الرّوح، فهو يسلب النّفس الصّلاح والصّفاء والسّلامة والوقار والطّمأنينة والسّكينة"4.
3- الرّكون إلى الأسباب وعدم إرجاعها إلى الله
"إن المحتجب عن الحقّ تعالى، والمتوجّه إلى الأسباب العاديّة ويراها مستقلّة في فاعليّتها، يتشبّث بها ـ عملياً وقلبيّاً ـ فينقطع عن الحقّ، وتزول الطمأنينة والثقة بالله من نفسه، ويحل محلّها الاضطراب والتزلزل: ولأنّ الأسباب العاديّة لا تحقّق له ما يطمح إليه ولا تطفئ نار حاجته، لذا فإنّ حال الاضطراب والتوقان، والتمسّك والتشبّث بالدنيا وأهلها تشتد فيه كل يوم حتّى تغرقه بالكامل في بحر الدنيا"5.
1 جنود العقل والجهل، ص 235.
2 الأربعون حديثًا، ص 594-595.
3 جنود العقل والجهل، ص 326.
4 (م.ن)، ص 350.
5 (م.ن)، ص 205.
195
156
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
المفاهيم الرئيسة
1- الطّمأنينة هي ثبات الإيمان واستقراره في القلب. ولها حضور وتجلٍّ في جميع مراتب النّفس.
2- إنّ طمأنينة الخاطر من أعظم أسباب استقرار الفضائل ورسوخها في النّفس.
3- إنّ الطّمأنينة في المراتب المختلفة علامة ودليل على استقرار الفيض الإلهيّ وقرب اتّحاده بالنّفس الذي يُعدّ عنوان الكمال الحقيقيّ.
4- آثار الطّمأنينة: العصمة، سبب لتأثير العبادة والذّكر، التغلّب على جنود الشّيطان، التّقوى التّامّة، عدم الخوف من الأعداء، سبب للقوّة العظيمة.
5- أسباب الطّمأنينة: ترك حبّ الجاه والمقام، التوجّه إلى تعمير الآخرة وعالم الغيب، شرح الصدر، إشراقة نور التّوحيد، الحلم.
6- كيفيّة تحصيل الطّمأنينة: مخالفة الشّيطان، العلم الصّحيح، إزالة حبّ الدّنيا.
7- موانع الاطمئنان: طلب الشّهوات، اللغو والكلام القبيح، الرّكون إلى الأسباب العاديّة وعدم إرجاعها إلى السبب الأوحد.
196
157
الدرس الثالث عشر: الطمأنينة
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وارْزُقْنِي الْحَقَّ عِنْدَ تَقْصِيرِي فِي الشُّكْرِ لَكَ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فِي الْيُسْرِ والْعُسْرِ والصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، حَتَّى أَتَعَرَّفَ مِنْ نَفْسِي رَوْحَ الرِّضَا وَطُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ مِنِّي بِمَا يَجِبُ لَكَ فِيمَا يَحْدُثُ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَالأَمْنِ وَالرِّضَا وَالسُّخْطِ وَالضَّرِّ وَالنَّفْع1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾2.
2- ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾3.
الروايات الشريفة:
1- قالَ الإمام الْبَاقِرُ عليه السلام: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى الْمُؤْمِنَ الْبَدَنَ الصَّحِيحَ وَاللِّسَانَ الْفَصِيحَ وَالْقَلْبَ الصَّرِيحَ وَكَلَّفَ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا طَاعَةً لِذَاتِهِ وَلِنَبِيِّهِ وَلِخُلَفَائِهِ فَمِنَ الْبَدَنِ الْخِدْمَةُ لَهُ وَلَهُمْ ومِنَ اللِّسَانِ الشَّهَادَةُ بِهِ وبِهِمْ وَمِنَ الْقَلْبِ الطُّمَأْنِينَةُ بِذِكْرِهِ وَبِذِكْرِهِمْ فَمَنْ شَهِدَ بِاللِّسَانِ وَاطْمَأَنَّ بِالْجَنَانِ وَخَدَمَ بِالْأَرْكَانِ أَنْزَلَهُ اللهُ الْجِنَانَ"4.
2- منْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: إِنَّ الْقَلْبَ لَيَتَجَلْجَلُ فِي الْجَوْفِ يَطْلُبُ الْحَقَّ فَإِذَا أَصَابَهُ اطْمَأَنَّ وقَرَّ ثُمَّ تَلَا أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾ سره"5.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في يوم عرفة.
2 سورة الأنفال، الآيات 9-10.
3 سورة الحج، الآية 11.
4 بحار الأنوار، ج64، ص 303.
5 الكافي، ج2، ص 421.
197
158
الدرس الرابع عشر: اليقين
الدرس الرابع عشر: اليقين
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن المعنى الدّقيق لليقين.
2- يشرح أهميّة اليقين ودوره في سعادة الإنسان.
3- يتعرّف إلى أهم مظاهر اليقين وعلاماته موانع تحقّقه.
199
159
الدرس الرابع عشر: اليقين
تمهيد
إنّ اليقين وإن كان من درجات الإدراك ومراتبه إلّا أنّه خلقٌ فاضلٌ وملكة نفسانيّة محمودة كما جاء في الحديث الذي نقله الإمام الخمينيّ قدس سره في "الأربعون حديثًا" عن كتاب من لا يحضره الفقيه: "بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قالَ: "إنَّ الله خَصَّ رَسولَهُ صلى الله عليه وآله وسلمبِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ فَامْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنْ كَانَتْ فِيكُمْ فَاحْمَدُوا اللهَ وَارْغَبُوا إِلَيْهِ فِي الزَّيَادَةِ مِنْهَا، فَذَكَرَهَا عَشْرَةً: اليَقينُ وَالقَنَاعَةُ وَالصَّبْرُ وَالشُّكْرُ وَالحِلْمُ وَحُسْنُ الخُلْقِ وَالسَّخَاء وَالغِيرَةُ وَالشَّجَاعَةُ وَالمُرُوَّةُ"1. وإنّ بعض الأخلاق يكون أُفقها إلى المجاهدة أقرب. وبعضها الآخر يكون أُفقها إلى الثّمار والنّتائج أقرب. واليقين هو من الصّنف الثّاني، ولهذا، قال الإمام قدس سره: "إنّ الطّمأنينة واليقين والثبات والإخلاص وأمثالها من الإفاضات الرّحمانية والإلقاءات الملكية"2.
فما هي حقيقة اليقين وموقعه في عالم المعنويّات؟ وما هو دوره في بناء الإنسان وتكميله؟
التعريف العلميّ
يعلم من جعل الشكّ ضدًّا لليقين في حديث جنود العقل والجهل أنّ اليقين عبارة عن رسوخ المعرفة في النّفس بحيث يزول معه أيّ احتمال مخالف مهما كان ضئيلًا.
ولا شكّ بأنّ هذه المعرفة التي لا تزلزلها الشّكوك عبارة عن إدراك الواقع كما هو. وليس الواقع في حقيقة الأمر سوى ظهور التّوحيد الذي ملأت آياته أركان السّماوات والأرض. ولهذا، قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ اليقين في الحقيقة هو ثمرة التّوحيد ومحفوفٌ ومحدودٌ به"3.
1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص 554.
2 الأربعون حديثًا، ص 433.
3 جنود العقل والجهل، ص 210.
201
160
الدرس الرابع عشر: اليقين
إنّ تحديد الملكات النّفسانيّة بآثارها أو ظهوراتها أمرٌ شائعٌ في الأخلاق، ولهذا أشار الإمام الخمينيّ قدس سره عند نقل حديث الإمام الصّادق عليه السلام: "ليس شيء إلّا وله حدّ. فقلت: وما حدّ التوكّل؟ قال: اليقين. قلت: فما حدّ اليقين؟ قال: أن لا تخاف مع الله شيئًا"1. وحدّ الشّيء هو منتهاه، ولعلّ المقصود هنا هو أنّ التوكّل ينتهي إلى اليقين، فيصير المتوكّل صاحب مقام اليقين، كما أنّ اليقين ينتهي إلى التّوحيد الفعليّ فلا يرى الإنسان حينئذٍ ضارًّا ولا نافعًا ولا مؤثّرًا ولا مقدّرًا سوى الحقّ تعالى. أو لعلّ المقصود أنّ التوكّل محفوفٌ ومحدودٌ باليقين"2.
علامات اليقين
لليقين علامات كثيرة في الحياة والسّلوك نذكر منها بعضها بحسب ما ورد في كلمات الإمام الخمينيّ قدس سره:
1- الأنس بذكر الله
"نحن الضّعفاء في الإيمان لسنا من أصحاب اليقين، وإلاّ لما كنّا نستمرّ في غفلتنا، ونعانق النّوم حتّى الصباح. لو أنّ يقظة الليل تكشف للإنسان حقيقة الصّلاة وسرّها، لأنس بذكر الله والتفكّر في الله، ولجعل الليالي مركوبه للعروج إلى قربه تعالى، ولما كان ثمّة ثواب له إلا جمال الحقّ الجميل وحده"3.
2- مجانبة رضا الناس ولومهم
"عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "مِنْ صِحَّةِ يَقينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أنْ لا يُرْضِيَ النّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَلا يَلومَهُمْ عَلى ما لَمْ يؤته اللهُ، فَإنَّ الرِّزْقَ لا يَسوقُهُ حِرْصُ حَريصٍ، وَلا يَرُدُّهُ كَراهِيَةُ كارهٍ، وَلَوْ أَنَّ أحَدَكُمْ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَما يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَما يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ. ثُمَّ قالَ: إنَّ اللهَ بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالرّاحَةَ فِي الْيَقينِ وَالرِّضا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ"... فالإنسان الذي يتمتّع بيقينٍ صحيح، والذي يكون واقفًا
1 الكافي، ج2، ص 57.
2 جنود العقل والجهل، ص 210.
3 الأربعون حديثًا، ص 238.
202
161
الدرس الرابع عشر: اليقين
على مجاري الأمور، يجب عليه في اللحظة التي لا يفتر فيها عن طلب الرّزق، بل ينهض بوظائفه العقليّة والشّرعيّة في الاكتساب، ولا يوصد أبواب الطّلب على نفسه، يعرف أنّ كلّ شيء من الذّات المقدّس الحقّ المتعالي، وأنّه لا يؤثّر موجودٌ آخر في الوجود ولا في كمالات الوجود. إنّ الطالب والطلب والمطلوب، منه سبحانه... جعل الإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث الشريف، علامتين على صحّة اليقين وسلامته، أحدهما: لا يُرضي الناس بسخط الله. والآخر: "لا يلوم الناس على ما لم يؤته الله. وهاتان العلامتان من نتائج كمال اليقين. كما أنّ ما يقابلهما يكون من آثار ضعف اليقين وسقم الإيمان ومرضه"1.
3- الرضا بحكم الله وقضائه
"النّاس ينقسمون في هذه الدّنيا إلى هاتين الطبقتين: إمّا يقودهم يقينهم إلى الاعتقاد بأنّ الأسباب الظاهريّة، والمؤثّرات الشّكليّة مسخّرة تحت الإرادة الإلهيّة الكاملة الوجوبيّة، فلا يجدون دورًا لغير الحقّ، ولا يلتمسون من غيره شيئًا. فهم آمنوا بأنّه المالك والمؤثّر في الدّنيا والآخرة، واعتنقوا بكلّ إيمان ويقين غير مشوب بالنّقص والتّرديد، آية من الآيات المباركة القرآنية وهي: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء﴾2. حيث يرون بأنّ الله سبحانه هو مالك ملك الوجود، وأنّ جميع العطايا من ذاته المقدّس، وأنّ القبض والبسط في الوجود وكمالاته منه سبحانه حسب ترتيب النّظام والمصالح الكامنة. ومن البديهي أنّ أبواب المعارف تنفتح على هؤلاء الأشخاص، وتتحوّل قلوبهم إلى قلوب إلهيّة، لا يعبؤون برضا النّاس ولا بسخطهم، ولا يرومون إلاّ رضا الحقّ المتعالي، ولا يطمعون إلاّ فيه ولا يطلبون إلاّ منه، ولا تترنّم قلوبهم إلاّ بهذا الكلام: إلهي إنْ أعْطَيْتَني فَمَن ذا الَّذِي يَمْنَعُني؟ وَإنْ مَنَعْتَنِي فَمَن ذَا الَّذِي يُعْطِينِي. إنّهم يغمضون أعينهم عن النّاس وعطاياهم ودنياهم، ويحدّقَون في الحقّ جلّ جلاله بكلّ حاجة وفقر، وهؤلاء الأشخاص لا يبيعون رضا العالم بأسره، بسخط الحقّ المتعالي. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام. وفي نفس الوقت الذي لا يعبؤون بأحد غير الحقّ المتعالي، ويرون أنّ الكائنات بأسرها فقيرة إلى
1 الأربعون حديثًا، ص 589 - 590.
2 سورة آل عمران، الآية 26.
203
162
الدرس الرابع عشر: اليقين
الله، ينظرون إلى كلّ شيء بعين ملؤها العظمة والرّحمة والحنان، ولا يلومون أحدًا على شيء إلاّ من أجل إصلاح وضعه وتربيته. كما أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا كذلك، لأنّهم يعتبرون النّاس من المرتبطين بالحقّ ومن مظاهر جماله وجلاله، ولا يسمحون لأنفسهم إلاّ بالنّظر إلى عباد الله بكلّ لطف ومحبّة. ولا يؤنّبون في قلوبهم أحدًا على نقصه أو فتوره، وإذا لاموا أحدًا بألسنتهم فلأجل المحافظة على المصالح العامّة وإصلاح أحوال العائلة البشرية. وهذا من نتائج وثمرات الشجرة الطيبة لليقين والإيمان، والمعرفة بالحدود والشريعة الإلهية"1.
4- الروح والراحة في الدنيا
"الحقّ المتعالي قد جعل الرَوْحَ والرّاحة في اليقين والرّضا، والهمّ والحزن في الشكّ والسّخط، وذلك على أساس القسط والعدل. ولا بدّ أن نعرف أن الرَوْحَ والراحة وكذلك الهمّ والحزن تعود إلى الأمور الدنيويّة وكسب العيش، وطلب الرزق، نتيجة وقوعها إثر تقدير الأرزاق وتقسيمها. وإن كان إرجاعهما إلى الأمور الأخروية على أساس بيان آخر، أيضًا صحيحًا... وعليه اعلم أنّ الإنسان الذي يعتقد بالحقّ وتقديره اعتقادًا يقينيًّا، ويعتمد على الرّكن الرّكين الذي يتمتّع بالقدرة المطلقة، والذي يقرّر الأمور بأسرها على ضوء المصالح الغيبيّة، والذي له الرّحمة الكاملة المطلقة والجود المطلق، من المعلوم أنّ بمثل هذا اليقين تتذلّل الصّعاب عنده وتهون أمامه المصائب، ويختلف كثيًرا في طلبه لمعيشته عن أهل الدّنيا وأهل الشكّ والشّرك.
إنّ الذين يعتمدون على الأسباب الظّاهرية، يعيشون دائمًا عند طلب الرّزق في حالة من القلق والاضطراب، ولو اصطدموا بمشكلة، لعظمت عندهم وضاقت الحياة في أعينهم لأنّهم لا يجدونها محفوفة بالمصالح الغيبيّة التي يعلمها الله ويجهلها الإنسان. وخلاصة الكلام إنّ من يرى سعادته، في تحصيل هذه الدّنيا، يواجه في طلبها هذا الآلام والعَناء، وتُسلب عنه الرّاحة والبهجة، وتستنزف قواه وطاقاته في هذا الطّلب. كما نرى أنّ أهل الدنيا دائمًا في تعب ونصب، وأنّهم لم يتمتّعوا باطمئنان في الرّوح واستقرار في الجسم، وإذا حلّت بهم مصيبة، خارت قواهم وحيويّتهم وزال جلدهم وصبرهم أمام الحوادث التي تداهمهم. وهذا
1 الأربعون حديثًا، ص 591-592.
204
163
الدرس الرابع عشر: اليقين
لا يكون إلاّ نتيجة شكّهم وعدم إيمانهم بالقضاء الإلهيّ وعدله، فتكون هذه الأمور من الحزن والهمّ والتّعب. نتيجة لهذا التّزلزل"1.
كمال اليقين
إنّ اليقين كغيره من الكمالات المعنويّة ذو مراتب ودرجات. وقد أشار الإمامقدس سره إلى أعلى درجاته، وهي المتحقّقة في الأنبياء: "إنّ مراتب اليقين والإيمان مختلفة على مستوىً لا يمكن عدّها وبيانها. وإنّ اليقين الكامل للأنبياء والاطمئنان التامّ الذي يحظون به، الحاصلان من المشاهدة الحضوريّة هو الذي يعصمهم من الآثام. إنّ يقين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام قد أبلغه إلى مستوى يقول "وَالله لَوْ أُعْطِيتُ الأقالِيمَ السَّبْعَةِ بِما تَحْتَ أفْلاكِها عَلى أنْ أَعْصَى الله في نَمْلَةٍ أسْلُبُها جَلْبُ شَعِيرةٍ ما فَعَلتُهُ"2"3. و"إنّ مصدر جميع الخطايا والمعاصي التي تصدر من الإنسان، هو النقص في اليقين والإيمان"4.
وفي شرحه لحديث الإمام الصّادق عليه السلام الوارد في مصباح الشّريعة يقول قدس سره "وكمال اليقين مشاهدة حضور المحبوب"5.
1 الأربعون حديثًا، ص 594.
2 نهج البلاغة، ص 347.
3 الأربعون حديثًا، ص 581.
4 (م.ن).
5 معراج السالكين، ص 75.
205
164
الدرس الرابع عشر: اليقين
المفاهيم الرئيسة
1- اليقين عبارة عن رسوخ المعرفة في النّفس بحيث يزول معه أيّ احتمال مخالف مهما كان ضئيلًا، وهو عبارة عن إدراك الواقع كما هو، والذي هو ظهور التّوحيد الذي ملأت آياته أركان السّماوات والأرض.
2- من مظاهر اليقين التفكّر بالله والأنس بذكره، وعدم الاستمرار بالغفلة، وإصلاح نمط العيش.
3- من نتائج كمال اليقين أن لا يُرضي الناس بسخط الله ولا يلوم الناس على ما لم يؤته الله، فالإنسان الذي يتمتّع بيقينٍ صحيح يعرف أنّ كلّ شيء من الذّات المقدّس الحقّ المتعالي، وأنّه لا يؤثّر موجودٌ آخر في الوجود ولا في كمالات الوجود.
4- اليقين أساس الطّمأنينة والعصمة والسّعادة والرّاحة والسّرور، وفي المقابل فإنّ التّزلزل وارتكاب الذّنوب والتّعاسة تنشأ من ضعف الإيمان ووهن اليقين والذي يتجلّى بالاعتماد على غير الحقّ سبحانه والالتفات إلى المخلوق.
5- تتذلّل الصّعاب للشخصية الموقنة وتهون عليها المصائب لأنّها قد اعتمدت على الرّكن الرّكين الذي يتمتّع بالقدرة والرّحمة الكاملة المطلقة، واعتقدت بأنّ الحقّ هو الذي يقرّر الأمور بأسرها على ضوء المصالح الغيبيّة.
6- لليقين درجات ومراتب، وكمال اليقين هو مشاهدة حضور المحبوب، وهي الدرجة المتحقّقة المتحقّقة في الأنبياء وهي التي تعصمهم عن الآثام.
206
165
الدرس الرابع عشر: اليقين
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ إِنَّكَ ابْتَلَيْتَنَا فِي أَرْزَاقِنَا بِسُوءِ الظَّنِّ، وَفِي آجَالِنَا بِطُولِ الأَمَلِ حَتَّى الْتَمَسْنَا أَرْزَاقَكَ مِنْ عِنْدِ الْمَرْزُوقِينَ، وَطَمِعْنَا بِآمَالِنَا فِي أَعْمَارِ الْمُعَمَّرِينَ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَهَبْ لَنَا يَقِيناً صَادِقاً تَكْفِينَا بِهِ مِنْ مَئُونَةِ الطَّلَبِ، وَأَلْهِمْنَا ثِقَةً خَالِصَةً تُعْفِينَا بِهَا مِنْ شِدَّةِ النَّصَبِ وَاجْعَلْ مَا صَرَّحْتَ بِهِ مِنْ عِدَتِكَ فِي وَحْيِكَ، وَأَتْبَعْتَهُ مِنْ قَسَمِكَ فِي كِتَابِكَ، قَاطِعاً لاِهْتِمَامِنَا بِالرِّزْقِ الَّذِي تَكَفَّلْتَ بِهِ، وَحَسْماً لِلاِشْتِغَالِ بِمَا ضَمِنْتَ الْكِفَايَةَ لَهُ فَقُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ الأَصْدَقُ، وَأَقْسَمْتَ وَقَسَمُكَ الأَبَرُّ الأَوْفَى وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ثُمَّ قُلْتَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ1.
الآيات الشريفة:
1- ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾2.
2- ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾3.
3- ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾4.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الإيمَانُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: عَلَى الصَّبْرِ، والْيَقِينِ، وَالْعَدْلِ، وَالْجَهَادِ... والْيَقِينُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ، وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ، وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ، وَسُنَّةِ الاْوَّلِينَ: فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ، وَمَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ، وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الاْوَّلِينَ"5.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام إذا قتر عليه رزقه.
2 سورة السجدة، الآية 24.
3 سورة الجاثية، الآية 4.
4 سورة التكاثر، الآيات 5-7.
5 نهج البلاغة، 473.
207
166
الدرس الرابع عشر: اليقين
2- وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "لأنْسُبَنَّ الاْسْلاَمَ نِسْبَةً لَمْ يَنسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي: الاْسْلاَمُ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقِينُ، وَالْيَقِينُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الاْقْرَارُ، وَالإقْرَارُ هُوَ الأدَاءُ، وَالأدَاءُ هَوَ الْعَمَلُ"1.
3- عن الوشاء عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام قَالَ: "سَمِعْتُهُ يَقُولُ: الْإِيمَانُ فَوْقَ الْإِسْلَامِ بِدَرَجَةٍ وَالتَّقْوَى فَوْقَ الْإِيمَانِ بِدَرَجَةٍ وَ الْيَقِينُ فَوْقَ التَّقْوَى بِدَرَجَةٍ وَ مَا قُسِمَ فِي النَّاسِ شَيْءٌ أَقَلُّ مِنَ الْيَقِينِ"2.
4- عن الإمام الصّادق عليه السلام: "الْمُؤْمِنُونَ أَيْضاً مُتَفَاوِتُونَ فِي قُوَّةِ الْيَقِينِ وَضَعْفِهِ فَمَنْ قَوِيَ مِنْهُمْ يَقِينُهُ فَعَلَامَتُهُ التَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِاللهِ وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى أَمْرِ اللهِ وَعِبَادَتُهُ ظَاهِراً وَبَاطِناً قَدِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ حَالَةُ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ لِأَنَّهُ يَرَى كُلَّهَا مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَمَنْ ضَعُفَ يَقِينُهُ تَعَلَّقَ بِالْأَسْبَابِ وَرَخَّصَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ وَاتَّبَعَ الْعَادَاتِ وَأَقَاوِيلَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقِيقَةٍ وَالسَّعْيِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا وَإِمْسَاكِهَا مُقِرّاً بِاللِّسَانِ أَنَّهُ لَا مَانِعَ وَلَا مُعْطِيَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُصِيبُ إِلَّا مَا رُزِقَ وَقُسِمَ لَهُ وَالْجَهْدَ لَا يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ وَيُنْكِرُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ وَقَلْبِهِ قَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾"3.
5- قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ صَلَاحَ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ وَهَلَاكَ آخِرِهَا بِالشُّحِّ والْأَمَلِ"4.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "عَلَيْكُمْ بِلُزُومِ الْيَقِينِ وَالتَّقْوَى فَإِنَّهُمَا يُبَلَّغَانِكُمْ جَنَّةَ الْمَأْوَى"5.
1 نهج البلاغة، ص 491.
2 الكافي، ج2، ص 51.
3 مستدرك الوسائل، ج11، ص 198.
4 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 413.
5 مستدرك الوسائل، ج11، ص 200.
208
167
الدرس الخامس عشر: الشكر
الدرس الخامس عشر: الشكر
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى المعنى الحقيقيّ للشّكر وكيف يصبح الإنسان شكورا.
2- يبيّن أهميّة الشّكر وارتباطه بالعبوديّة والحياة المعنويّة للإنسان.
3- يشرح علامات الشّكر التي تساعد على اكتشافها في أنفسنا.
209
168
الدرس الخامس عشر: الشكر
تمهيد
ليس الشّكر سوى تعبير عن المعرفة والإيمان. وإنّه خلقٌ كريم لكنّه في حقيقته عبارة عن انفعال النّفس تجاه حضور الله تعالى بإنعامه، أو كما يقول أهل الله "بالاسم المنعم". يستحيل أن يعيش الإنسان في هذه الحياة الدّنيا ولا يكون محاطًا بنعمة الله التي لا تُحصى. ولهذا، كان الشّكر أمرًا بديهيًّا وضروريًّا. فلماذا نجد أكثر النّاس غير شاكرين؟ ولماذا قال الله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾1؟ وهل يمكن أن يكون أحدنا من أولئك؟ وما الذي يمكن أن نفعله لكي نصبح من الشّاكرين؟
أهميّة الشّكر
قبل الخوض في تحديد المعنى للشّكر ينبغي أن نلتفت إلى أهميّته ودوره على صعيد مصير الإنسان.
1- من المسؤوليّات الأساسيّة للعبوديّة
"اعلم أنّ شكر نعم الحقّ المتعال الظاهريّة والباطنيّة من المسؤوليّات الأساسيّة للعبوديّة، حيث يجب على كلّ إنسان أن يشكر ربّه على حسب قدرته المتاحة، رغم أنّ لا أحد من المخلوقين يستطيع أن يؤدّي حقّ شكره"2.
2- من العلامات الأساسيّة للإيمان
وبالإضافة إلى كونه من مسؤوليّات العبوديّة، فإنّ الشّكر يُعدّ من العلائم الأساسيّة للإيمان. عن سَعْدٍ، عن أبي جعفرٍ عليه السلام قالَ: "إنَّ القُلوبَ أرْبَعَةٌ: قَلْبٌ فيه نَفاقٌ وَإيمانٌ
1 سورة سبأ، الآية 13.
2 الأربعون حديثًا، ص 379.
211
169
الدرس الخامس عشر: الشكر
وَقَلْبٌ مَنْكوسٌ، وَقَلْبٌ مَطْبُوعٌ، وَقَلْبٌ أزْهَرُ أجْرَدُ. فَقُلْتُ مَا الأزْهَرُ؟ قَالَ: فِيهِ كَهَيْئَةِ السِّرَاجِ، فَأَمَّا الْمَطْبُوعُ فَقَلْبُ المُنَافِقِ، وَأمَّا الأزْهَرُ فَقَلْبُ المُؤْمِنِ، إنْ أعطاهُ شَكَرَ وَإنْ ابتُلاَهُ صَبَرَ.."1.
"تعرّض الحديث لخصوص صفتين من صفات المؤمن "إنْ أَعْطاهُ شَكَرَ وَإن ابْتَلاهُ صَبَرَ" من أجل أنّ لهاتين الصّفتين من صفات المؤمنين خصائص ومزايا لا تتواجد في غيرها من الصّفات، فإنّهما من أمّهات الصّفات الجميلة، وتتفرّع منهما صفات جميلة أخرى... ومن أجل أنّ هاتين الصّفتين ـ أيضًا ـ من صفات الجلال والجمال، القهر واللطف، المتجلّيتان بالعطاء والابتلاء. فإنّ الابتلاء - وإن كان من صفات اللطف والجمال، ولكنّه حيث يكون ظاهرًا بالقهر، جعل منه. كما ذكرنا في بحث أسماء الحقّ وصفاته. والمؤمن ينهض دائمًا بالعبوديّة بين هذين التجلّيين"2.
3- دليل الحياة المعنويّة
"روى الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ في الوسائل عن محمّد بن ادريس، نقلاً عن العيون والمحاسن للمفيد ـ رحمه الله ـ قال: قال الباقر عليه السلام: "ما أنعم الله على عبد نعمة فشكرها بقلبه إلّا استوجب المزيد قبل أن يظهر شكره على لسانه"3. ويتّضح من هذا الحديث الشّريف أنّ الشّكر من واجبات القلب قبل أن يجري على اللسان، وفي الأحاديث الشّريفة إشارات كثيرة لهذا المعنى"4.
4- دليل بقاء الفطرة الإلهيّة
وكما سيتّضح لاحقًا فإنّ الشّكر يدلّ على وجود تلك الوصلة بيننا وبين الله وهي الفطرة. فمن لم يكن شاكرًا كان كمن قطع ارتباطه بالله تعالى. ولهذا، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ من الأمور الفطريّة التي نقشها قلم القدرة الإلهيّة في فطرة كلّ إنسان، فكان جميع أفراد العائلة البشريّة متّفقين عليها، هو تعظيم المنعم وحمده، وكلّ من يرجع إلى فطرته الأصيلة
1 الكافي، ج2، ص422.
2 الأربعون حديثًا، ص 563-564.
3 وسائل الشيعة، ج16، ص311.
4 جنود العقل والجهل، ص 182.
212
170
الدرس الخامس عشر: الشكر
يجد أنّ من الثابت المستقرّ في كتاب ذاته تعظيم المنعم وحبّه. وهذا الأمر الفطريّ هو منشأ كل حمد وثناء، وكل تعظيم يظهره أهل الدنيا لأولياء نعمهم الدنيويّة، وهو أيضاً منشأ الاحترام والثناء الذي يبديه المتعلّمون تجاه العلماء والمعلّمين. وإذا كفر أحدٌ بنعمة أو أحجم عن حمد المنعم عليه، فقد تكلّف ما يخالف الفطرة الإلهيّة، وخرج عن الغريزة والطّبيعة الإنسانيّة، ولهذا فإنّ عموم البشر ينتقدون وينتقصون فعل الكافرين بالنّعمة، ويرونهم خارجين عن الغريزة الذاتيّة الإنسانيّة. وما تقدّم على شكر المنعم بصورة عامّة، سواء أكان حقيقيًّا أو مجازيًّا، ولكن ينبغي التنبّه إلى أنّ ممّا تقرّه الفطرة السّليمة وتقتضيه الفطرة المخمّرة غير المحتجبة، هو الشّكر والحمد للذّات المقدّسة، أي للمنعم على الإطلاق الذي بسط بساط رحمته في أرجاء دار التّحقّق، فجميع ذرّات الكائنات تتنعّم بمائدة نعم ظلّ رزّاقية ذاته المقدّسة.
وباختصار، فإنّ الفطرة السليمة التي لم تحتجب بأستار التعيّنات الخلقيّة، والتي تردّ الأمانة إلى صاحبها سالمة، تشكر الحقّ تعالى على كلّ نعمة، بل إنّ الفطرة غير المحجوبة ترى أنّ شكر كلّ شاكر وحمد كل حامد ــ بأي عنوان كان، ولأيّ شخصٍ وقع، وعلى أيّ نعمةٍ كان ــ لا يرجع لغير الذّات المقدّسة للحقّ جلّ وعلا، وإن كان المحجوبون يتصوّرون أنّهم يمدحون غيره ويحمدون سواه عزّ وجل. أجل، إنّ شكر المخلوق من الواجبات التي لا شكّ فيها، كما قالوا: "من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق"، ولكن هذا الشكر ينبغي أن يكون بعنوان أنّ هذا المخلوق هو وسيلة اتّخذها الله لبسط نعمه ورحمته، لا أن يكون شكرك للمخلوق سببًا لحجب نفسك عن الخالق والرّازق الحقيقيّ، فهذا هو عين الكفر بنعمة وليّ النّعم. وملخّص الكلام أنّه قد اتّضح أنّ الشكر من متقضيات الفطرة"1.
تعريف الشّكر
"الشّكر بحسب موارد استخدامه عبارة عن إظهار نعمة المنعم، أو هو الأمر الذي يُظهر به الشّكر"2. وفي موضع آخر يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الشكر عبارة عن التّقدير لنعم المنعم، وهذا الأمر يظهر في القلب على نحو، وفي اللسان على نحوٍ ثانٍ، وعلى الجوارح بنحو
1 جنود العقل والجهل، ص 178-180.
2 (م.ن)، ص 173-174.
213
171
الدرس الخامس عشر: الشكر
ثالث. وهذا التقدير متقوّم بمعرفة المنعم ومعرفة النّعمة"1.
ويلاحَظ أنّ أكثر الأذهان تنصرّف عند الحديث عن الشّكر إلى نتائجه التي تظهر في الأعمال القلبيّة والقالبيّة، ولهذا، قال الإمام قدس سره مصحّحًا: "إنّ ما ذكره المحقّقون في الشّكر مبنيّ على المجاز والمسامحة، لأنّ الشّكر لا يكون نفس المعرفة بالقلب، والإظهار باللسان، والعمل بالأعضاء والجوارح، بل هو حالة نفسيّة ناجمة عن معرفة المنعم والنّعمة وأنّ هذه النّعمة من المنعم، وتُنتج من هذه الحال الأعمال القلبية القالبية ـ العمل بالجوارح. كما ذكر بعض المحققين معنىً للشّكر يقترب من هذا المعنى، رغم أنّ كلامهم أيضًا لا يخلو من المسامحة"2.
فالشّكر إذًا هو عرفان وتقدير ممتزج بشعور إنسانيّ بنوع من الفرح والامتنان. وهو لا يكون إلّا في قلب المؤمن بالله. لأنّ المقصود فيه هو شكر المنعم الحقيقيّ.
غاية الشّكر
لا شكّ بأنّ هذه الصّفة النّفسانيّة العظيمة تابعة لمستوى الإنسانيّة وقوّة حضور الفطرة في النّفس والقلب. ولهذا، يكون الشّكر درجات.
وأعلى درجات الشّكر كما يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ منتهى الشّكر في معرفة الإنسان عجزه عن النّهوض بحقّ شكره سبحانه. كما أنّ غاية العبوديّة تكون في معرفة الإنسان عجزه عن القيام بحقّ العبوديّة له تعالى. ومن هذا المنطلق اعترف الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالعجز، مع أنّ شخصًا لم يشكر ربّه ولم يعبده، بمثل شكر ذلك الوجود المقدّس وعبوديّته، لأنّ كمال الشّكر ونقصه يتبعان التعرّف الكامل على المنعم وإحسانه، والتعرّف النّاقص على المنعم وجميله. ولهذا لم يستطع أحد النّهوض بحقّ شكره. لأنّ أحدًا لم يعرفه حقّ معرفته. إنّما العبد يكون شكورًا، إذا علم ارتباط الخلق بالحقّ، وعلم انبساط رحمة الحقّ من أوّل ظهوره إلى ختامه، وعلم ارتباط النّعم بعضها مع بعض وعلم بداية الوجود ونهايته على ما هو عليه. ومثل هذه المعرفة لا تحصل إلاّ للخُلّص من أولياء
1 جنود العقل والجهل، ص 174-175.
2 الأربعون حديثًا، ص 378.
214
172
الدرس الخامس عشر: الشكر
الله الذين كان أشرفهم وأفضلهم، الذّات المقدّس خاتم الأنبياء صلّى الله عليه آله وسلّم، وإنّ كافة النّاس محجوبون عن بعض مراتب هذه المعرفة بل عن أكثر مراتبها وأعظمها. بل ما دامت حقيقة سريان ألوهيّة الحقّ لم تنتقش في قلب العبد بعد ولم يؤمن بأنّه "لاَ مُؤَثِّرَ فِي الوُجُودِ إلاَّ الله" ولا تزال غبرة الشّرك والشكّ عالقة في قلبه، لا يستطيع أن يؤدّي شكر الحقّ المتعالي كما يجب أن يكون. ومن هنا يُعلم أنّ النّهوض بحقّ شكره لا يكون في مستطاع أيّ شخص، كما يقول الحقّ المتعالي جلّ جلاله ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾1. فإنّ القليل من العباد يعرفون كما ينبغي نعم الحقّ. ولهذا فإنّ القليل من العباد يؤدّون الشّكر للحقّ جلّ جلاله كما يستحقّ"2.
مراتب الشكر
وإذا عرفنا غاية الشّكر ومنتهاه أدركنا الطّريق الموصل إليه، وعلمنا أنّ الله تعالى قضى أن يواتر علينا نعمه ويتدرّج بنا في آلائه حتّى نرتقي بذلك في مراتب الشّاكرين لنبلغ أعلى درجات الإنسانيّة. ولهذا، يقول الإمام الخيمنيّ قدس سره: "ولا بدّ من معرفة أنّه كما تختلف مستويات معرفة العباد، كذلك تختلف مراتب شكرهم. وأيضًا إنّ مراتب الشّكر مختلفة، لأنّ الشّكر هو الثّناء على النّعم التي وهبها المنعم. فإذا كانت النّعم من قبيل النّعم الظاهريّة كانت له مرتبة من الشّكر، وإذا كانت من نوع العلوم والمعارف كان شكرها من نوعٍ آخر، وإن كانت من تجلّيات الأسماء كان لها شكرٌ، وإن كانت من قبيل التجلّيات الذاتيّة الأحديّة كان هناك شكرٌ آخر. وحيث أنّ جميع مراتب النّعم متوفّرة لقليلٍ من العباد، كان النّهوض بأداء الشّكر على جميع المستويات لقليل من العباد، وهم الخُلّص من الأولياء الجامعين لجميع الحضرات، والذين هم برزخ البرازخ، والحافظين لكلّ المراتب الظّاهرة والباطنة، ولهذا يكون شكرهم مع جميع الألسنة الظّاهرة والباطنة والسّرّية"3.
1 سورة سبأ، الآية 13.
2 الأربعون حديثًا، ص 379-380.
3 (م.ن)، ص 381.
215
173
الدرس الخامس عشر: الشكر
التّواصل الإيجابيّ مع النّاس
إنّ من أهم أسرار جريان نعم الله على أيدي النّاس ووصولها إلينا عبرهم هو أن يتراحم النّاس فيما بينهم وتشتدّ أواصر المحبّة بينهم. فإنّ الله تعالى لا يعجزه أن يرسل إلينا نعمه دون وسيلة. لكنّه شاء أن تكون عبر المخلوقين. وفي الحديث قال أبو عبد الله عليه السلام: "من قصُرت يده بالمكافأة فليُطل لسانه بالشّكر"1، وقال: "من حقّ الشكر لله، أن تشكر من أجرى تلك النّعمة على يده"2. ويتّضح من هذا الحديث الشّريف ما تقدّمت إليه الإشارة في الفصل السّابق من أنّ شكر المخلوق هو لكونه مجريًا للنّعمة الإلهيّة، وإلّا فإنّ الذي يغفل عن وليّ نعمته الحقيقيّ، ويشكر المخلوق بعنوان كونه مستقلّاً بالإنعام، هو من الكافرين بالنّعمة الإلهيّة، وهذا ممّا لا يحتاج إلى مزيد توضيح واستشهاد، بل هو واضح بنفسه ومبرهنٌ بذاته"3.
وفي الوسائل، عن مجالس الشيخ بإسناده عن النبيّصلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يؤتى العبد يوم القيامة، فيوقف بين يدي الله عزّ وجل، فيأمر به إلى النّار، فيقول: أي رب أمرت بي إلى النار وقد قرأت القرآن؟ فيقول الله: أي عبدي قد أنعمت عليك ولم تشكر نعمتي. فيقول: أي ربّ أنعمت عليّ بكذا، وشكرتك بكذا، وأنعمت عليّ بكذا وشكرتك بكذا، فلا يزال يحصي النعمة ويعدّد الشكر. فيقول الله تعالى: صدقت عبدي إلّا أنّك لم تشكر من أجريت لك النّعمة على يديه. وإنّي قد آليت على نفسي أن لا أقبل شكر عبد لنعمة أنعمتها عليه حتّى يشكر من ساقها من خلقي إليه"4.
كيفيّة تحصيل فضيلة الشكر
قد علمنا أنّ الأصل في هذه المكرمة السّامية هو وجود الفطرة واستواء الإنسانيّة في القلب. وبهذه الطّريقة لو قلنا بأنّ وظيفة الإنسان قبال هذه الصّفة المحمودة ليست سوى الحفاظ على إنسانيّته والعودة إلى فطرته التي فطره الله عليها لما كنّا مبالغين. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من الفِطَر الإلهية التي فطر جميع الخلق عليها، الثناء على الكامل وشكر المنعم وحمده"5.
1 وسائل الشّيعة، ج16، ص 311.
2 (م.ن).
3 جنود العقل والجهل، ص 183.
4 وسائل الشّيعة، ج16، ص 312.
5 معراج السالكين، ص 258-259.
216
174
الدرس الخامس عشر: الشكر
فإذا كان الشّكر عرفانًا، فإنّ تحصيله يعتمد على المعرفة وعلى المزيد من الخضوع والعبودية للذات الإلهية، وما علينا سوى أن نتوجّه بفكرنا إلى مظاهر النّعمة الإلهيّة في كلّ الوجود حتّى ندرك بالدّليل والبرهان، بل بالعيان والوجدان كم أنّ عظمة الحقّ المنعم قد ملأت أركان السّماوات والأرض. بل نفذت فينا حتّى تخلّلت كلّ ذرّات وجودنا. فإذا رسخت هذه المعرفة وأبطلت ما كان فينا من جهل أو سوء ظنّ بربّنا، صار لزامًا أن ننقلها إلى مرحلة العمل من خلال ترسيخ العبودية في القلب حتّى يستقرّ معها الشّكر فيه ويصبح من خصائص شخصيّتنا. لأن المطلوب في باب الفضائل هو أن تصبح ملكة راسخة متّحدة بالنّفس.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "كما أنّك تعبد الله في الظاهر وتدّعي العبودية فاعبده في السرّ أيضًا حتّى تسري العبوديّة السريّة القلبيّة إلى الأعمال الجوارحية أيضًا ويكون العمل والقول نقشًا على الباطن والسرّ، وتسري حقيقة العبوديّة إلى جميع أجزاء الوجود الظاهريّ منها والباطنيّ، ويحظى كلّ من الأعضاء بحظّ من التّوحيد ويوصل اللسان الذّاكر الذّكر إلى القلب وينقل القلب الموحّد المخلص التّوحيدَ والإخلاصَ إلى اللسان ويطلب العبد الرّبوبيّة من حقيقة العبوديّة ويخرج من عبادة النّفس ويوصل ألوهية الحقّ إلى القلب.
وليعلم أنّ ناصية العباد بيد الحقّ تعالى ولا يقدرون على التنفّس والنّظر إلا بقدرة الحقّ تعالى ومشيئته وهم عاجزون عن التصرّف في مملكة الحقّ بجميع أنواع التصرّفات وإن كان تصرّفًا تافهًا إلا بإذن وإرادة ذاته المقدّسة كما قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾1. فإذا أوصلت هذه اللطيفة إلى القلب يكون شكرك للحقّ على الحقيقة ويسري الشّكر إلى أعضائك وأعمالك، فكما أنّ اللسان والقلب لا بدّ أن يكونا مترافقين في طريق العبوديّة، ففي هذا التّوحيد الفعليّ أيضًا لا بدّ أن يكون صدق اللسان موصولًا بصفاء سرّ القلب لأنّ الحقّ جلّ وعلا هو الخالق ولا مؤثّر غيره. وجميع الإرادات والمشيئات ظلّ إرادته ومشيئته الأزليّة السّابقة"2.
1 سورة القصص، الآية 68.
2 معراج السالكين، ص 362.
217
175
الدرس الخامس عشر: الشكر
المفاهيم الرئيسة
1- الشكر عبارة عن انفعال النّفس تجاه حضور الله تعالى بإنعامه، وهو تعبير عن المعرفة والإيمان ـ معرفة المنعم والنّعمة وأنّ هذه النّعمة هي من المنعم ــ وينتج عن هذه الحالة الأعمال القلبية والقالبية وحالة من التقدير الممتزج بنوع من الفرح والامتنان.
2- لا يكون الشّكر إلّا في قلب المؤمن بالله، لأنّ المقصود فيه هو شكر المنعم الحقيقيّ. أمّا من لم يشكر الله أو شكر المخلوق لا بعنوان أنّه وسيلة اتّخذها الله لبسط نعمه ورحمته، فهو الكفور.
3- من علامات الشّكر: استعمال النّعم في موردها، اجتناب المحارم، الحديث عن النّعم، القول باللسان الحمد لله ربّ العالمين.
4- أهميّة الشّكر هو أنّه من المسؤوليّات الأساسيّة للعبوديّة، ومن العلامات الأساسيّة للإيمان، ودليل الحياة المعنويّة، فهو يدلّ على وجود تلك الصّلة بيننا وبين الله وهي الفطرة، فمن لم يكن شاكرًا كان كمن قطع ارتباطه بالله تعالى.
5- الشّكر درجات، وأعلى درجاته معرفة الإنسان عجزه عن النّهوض بحقّ شكره سبحانه وتعالى.
6- تختلف مراتب الشّكر باختلاف مراتب المعرفة بنعم الحقّ، وبما أنّ الذين يعرفون نعم الحقّ كما ينبغي قلّة، فإنّ ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.
7.- الذين ينهضون بأداء الشّكر على جميع المستويات هم الخُلّص من الأولياء الجامعين لجميع الحضرات.
8- وظيفة الإنسان تجاه الشّكر هي الحفاظ على إنسانيّته والعودة إلى فطرته التي فطره الله عليها.
9- إنّ إدراك عظمة الحقّ المنعم التي ملأت أركان السّماوات والأرض يحصل بالتوجّه إلى مظاهر النّعمة الإلهيّة في كلّ الوجود، وهذا ما يؤدّي إلى الخضوع والعبادة.
10- إنّ من أهم أسرار جريان نعم الله على أيدي النّاس ووصولها إلينا عبرهم هو أن يتراحم النّاس فيما بينهم وتشتدّ أواصر المحبّة بينهم.
218
176
الدرس الخامس عشر: الشكر
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
اللَّهُمَّ إِنَّ أَحَداً لاَ يَبْلُغُ مِنْ شُكْرِكَ غَايَةً إلاَّ حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ إِحْسَانِكَ مَا يُلْزِمُهُ شُكْراً وَلاَ يَبْلُغُ مَبْلَغاً مِنْ طَاعَتِكَ وَإِنِ اجْتَهَدَ إلاَّ كَانَ مُقَصِّراً دُونَ اسْتِحْقَاقِكَ بِفَضْلِكَ، فَأَشْكَرُ عِبَادِكَ عَاجِزٌ عَنْ شُكْرِكَ، وَأَعْبَدُهُمْ مُقَصِّرٌ عَنْ طَاعَتِكَ لاَ يَجِبُ لأَحَدٍ أَنْ تَغْفِرَ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ، وَلاَ أَنْ تَرْضَى عَنْهُ بِاسْتِيجَابِهِ فَمَنْ غَفَرْتَ لَهُ فَبِطَوْلِكَ، وَمَنْ رَضِيتَ عَنْهُ فَبِفَضْلِكَ تَشْكُرُ يَسِيرَ مَا شَكَرْتَهُ، وَتُثِيبُ عَلَى قَلِيلِ مَا تُطَاعُ فِيهِ حَتَّى كَأَنَّ شُكْرَ عِبَادِكَ الَّذِي أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ ثَوَابَهُمْ وَأَعْظَمْتَ عَنْهُ جَزَاءَهُمْ أَمْرٌ مَلَكُوا اسْتِطَاعَةَ الاِمْتِنَاعِ مِنْهُ دُونَكَ فَكَافَيْتَهُمْ، أَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ بِيَدِكَ فَجَازَيْتَهُمْ بَلْ مَلَكْتَ يَا إِلَهِي أَمْرَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكُوا عِبَادَتَكَ، وَأَعْدَدْتَ ثَوَابَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُفِيضُوا فِي طَاعَتِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ سُنَّتَكَ الإِفْضَالُ، وَعَادَتَكَ الإِحْسَانُ، وَسَبِيلَكَ الْعَفْوُ1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾2.
2- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾3.
3- ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾4.
4- ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾5.
5- ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾6.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: قال: "إذا قدرت على عدوّك فأجعل العفو شكراً للقدرة عليه"7.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر.
2 سورة البقرة،الآية 152.
3 سورة المائدة، الآية 6.
4 سورة الأعراف، الآية 58.
5 سورة الإسراء، الآية 19.
6 سورة المؤمنون، الآية 78.
7 نهج البلاغة، ص 470.
219
177
الدرس الخامس عشر: الشكر
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "فِيمَا أَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى عليه السلام يَا مُوسَى اشْكُرْنِي حَقَّ شُكْرِي، فَقَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَشْكُرُكَ حَقَّ شُكْرِكَ وَلَيْسَ مِنْ شُكْرٍ أَشْكُرُكَ بِهِ إِلَّا وأَنْتَ أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ، قَالَ: يَا مُوسَى الْآنَ شَكَرْتَنِي حِينَ عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مِنِّي"1.
3- قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "إِذَا أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ فَقُلْ عَشْرَ مَرَّاتٍ: "اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَتْ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ عَافِيَةٍ مِنْ دِينٍ أَوْ دُنْيَا فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ بِهَا عَلَيَّ يَا رَبِّ حَتَّى تَرْضَى وَبَعْدَ الرِّضَا"، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ كُنْتَ قَدْ أَدَّيْتَ شُكْرَ مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة"2.
4- عن الرسول الأكرمصلى الله عليه وآله وسلم: "أَنَّهُ إِذَا رَأَى مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُبْتَلَى قَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاهُ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا"، وَقَالَ: مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ الْعَافِيَة"3.
5- قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "شُكْرُ الْعَالِمِ عَلَى عِلْمِهِ أَنْ يَبْذُلَهُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ"4.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "شكر من دونك بسيب (بسبب) العطاء"5.
7- وعنه عليه السلام: "شكر من فوقك بصدق الولاء"6.
1 الكافي، ج 2، ص 98.
2 (م.ن)، ص 99.
3 مستدرك الوسائل، ج 5، ص 315.
4 بحار الأنوار، ج 2، ص 81.
5 غرر الحكم، ص 279.
6 (م.ن).
220
178
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الصّبر وحقيقته.
2- يشرح العلاقة الحاكمة بين الصّبر بالإيمان.
3- يعدِّد أنواع الصّبر ودرجاته.
221
179
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
تمهيد
لا يخفى ما للصّبر في الثّقافة الإسلاميّة من منزلة رفيعة وقيمة عظيمة. فهو من أحبّ السّبل إلى الله ومن أرقى الكمالات النّفسيّة ومن أهم علائم الإيمان. به يبلغ المؤمن مقامات المقرّبين ومراتب الصّدّيقين. ومع ذلك فقد تمّ تفسيره في أحيانٍ كثيرة بطرقٍ جعلته من عوامل الخمول والنّكوص، فحُرم الكثيرون من معرفة عظمته ودوره المحوريّ في بناء النّفس وتكميلها.
فما هو الصّبر؟ وكيف نكون من الصّابرين الذين يوفون أجرهم بغير حساب؟
تعريف الصّبر
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره أنّ للصّبر تعاريف عديدة. وعند التّأمّل فيها جميعًا يتبيّن لنا أنّ المكاره على جميع أنواعها هي المطروحة في القضيّة. وهي عبارة عن الأمور التي تخالف طبع النّفس وما تهواه أو تطلبه سواء كانت النّفس طبيعيّة أو مجرّدة، نورانيّة أو ظلمانيّة. وفي هذا المجال، فالصّبور هو الذي يتحمّل هذه المكاره من أجل التّقدّم على طريق الله طريق الكمال.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "للصّبر تعاريف عدّة، نكتفي بذكر بعضها، قال المحقّق العارف الأنصاري: "الصّبر: حبسُ النّفس على جزع كامنٍ عن الشّكوى". وبناءً على هذا التّعريف فإنّ الصّبر هو الامتناع عن إظهار الجزع الباطنيّ وعن الشّكوى من الأمور غير الملائمة. وقد عرّف الصّبر بما يقارب هذا المضمون الحكيم الجليل الخواجة الطّوسيّ قدس سره. فالصّبر، إذًا، يشتمل على أمرين يتقوّم بهما:
الأوّل: وجود كراهيّة باطنيّة لما يرد على الإنسان من أمورٍ لا يرغب فيها.
الثاني: الامتناع عن الشّكوى وإظهار الجزع بسبب تلك الأمور.
223
180
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
وقد قال الشّيخ العارف عبد الرزّاق الكاشاني: "المراد بالشّكوى، الشّكاية إلى غير الحقّ، لأنّ الشّكوى إلى الله في باب الصّبر محمودة، ألا ترى أيوب عليه السلام كيف شكا إلى ربّه بقوله: ﴿...أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾، مع أنّ الله تعالى مدحه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾"1.
وبهذا المعنى، يذكر الإمام قدس سره: "أنّ الصّبر يُعتبر من مقامات المتوّسّطين، لأنّ النّفس ما دامت تكره المصائب والبليّات، وتجزع منها، يكون مقام معرفته ناقصًا، كما أنّ مقام الرّضا بالقضاء، والابتهاج من إقبال المصائب عليه، مقام أرقى من مقام الصّبر، رغم كون مقام الرّضا من مقامات المتوسّطين أيضًا. وهكذا يكون الصّبر على المعصية والطّاعة، من جرّاء نقص المعرفة بأسرار العبادة وصور المعاصي والطّاعات. فإنّ الإنسان إذا أدرك حقيقة العبادة وآمن بصورها البهيّة البرزخيّة، وكذلك آمن بالصّور البرزخيّة الموحشة للمعاصي لما كان للصّبر على الطّاعة أو المعصية وقعٌ. بل الأمر يغدو معكوسًا"2.
صبر الأنبياء
"وما ورد في أئمّة الهدى أو الأنبياء العظام من نعتهم بالصّبر، فمن المحتمل أنّه من الصّبر على الآلام الجسديّة التي تسبّب الانفعال والتّأثّر ـ حسب طبيعة الإنسان ـ أو من الصّبر على فراق الأحبّة وهو حينئذٍ من المقامات الكبيرة للمحبّين فيصحّ الحديث عنه في تراجم حياتهم. وأمّا الصّبر على الطّاعات أو المعاصي أو النّوائب عدا ما ذكرنا ـ الآلام الجسمية ـ فلا معنى لها في حقّهم ولا في حقّ شيعتهم"3.
صبر الأولياء
"إنّ فراق الحقّ الذي يكون بالنّسبة للكمّل من أولياء الله عبارة عن مفارقة مقامات القرب فهو مكروه جدًّا لأنفسهم المطهّرة الشّريفة، فيكون تحمّله شاقًّا وصعبًا عليهم ويستلزم الصّبر، فالمولى أمير المؤمنين يقول في دعاء: كميل: "فهبني صبرت على
1 جنود العقل والجهل، ص 363.
2 الأربعون حديثًا، ص 294.
3 (م.ن).
224
181
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
عذابك فكيف أصبر على فراقك". ويدنا عن الوصول إليه قاصرة. فمن حصل له هذا المقام فهو عبد الله على الحقيقة ويقع تحت قباب الرّبوبيّة ويكون الحقّ تعالى متصرّفًا في مملكته ويخرج من ولاية الطّاغوت. وهذا المقام من أعزّ مقامات الأولياء وأخصّ مدارج الأصفياء وليس لسائر النّاس منه حظ، بل لعلّ القلوب القاسية للجاحدين والنّفوس الصّلبة للمجادلين البعيدة عن هذه المرحلة بمراحل، تنكر هذه المقامات ويحسبون الكلام في أطرافها باطلًا، بل ينسبون ـ والعياذ بالله ـ هذه الأمور، التي هي قرّة عين الأولياء والكتاب والسنّة مشحونة بها، إلى اختراعات الصّوفيّة وأراجيف الحشويّة"1.
"أولئك الأولياء حتى لو طلبوا شيئاً فهم يطلبون أمثال النظر إلى كرامة الحبيب، تأمّل فيما يقوله المحبّ الحقيقي، والمجذوب المطلق، علي بن أبي طالب عليه السلام في دعاء: كميل: "فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرتُ على عذابك، فكيف أصبرُ على فراقك؟ وهبني يا إلهي صبرتُ على حرَّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك"2.
علاقة الصّبر بالإيمان
إنّ من علامات فقدان التّحمّل انبعاث الشّكاية من النّفس تجاه المكاره. فيكون الصّبر ها هنا في الحقيقة عبارة عن "الامتناع عن الشّكوى على الجزع الكامن"3.
عندما يشكو الإنسان ما تعرّضت له نفسه من مكروه فكأنّه في هذه الحالة يعترض على تدبير الله تعالى وهو يعلم أنّ كلّ شيء من عند الله ﴿قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾4. ومن كان مؤمنًا حقًّا يؤمن بأنّ الله تعالى هو الحكيم اللطيف، وإنّ كلّ تدبيراته هي لمصلحة العبد وغبطته، فكيف يعترض حينها؟!
1 معراج السالكين، ص 232.
2 جنود العقل والجهل، ص 327-328.
3 الأربعون حديثًا، ص 295.
4 سورة النساء، الآية 78.
225
182
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
ولهذا، تمّ، في الكثير من الأحاديث، ربط الصّبر بالإيمان، كما جاء في الكافي، عن الإمام الصّادق عليه السلام: قالَ: "الصَّبْرُ مِنَ الإيْمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ فَإِذَا ذَهَبَ الرَّأْسُ، ذَهَبَ الجَسَدُ، وَكَذلِكَ إذَا ذَهَبَ الصَّبْرُ، ذَهَبَ الإِيْمَانُ"1.
وفي حديثٍ آخر عن الإمام السّجّاد علي بن الحسين عليهما السلام، قالَ: "الصَّبْرُ مِنَ الإِيْمَان بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ وَلاَ إِيْمَانَ لِمَنْ لاَ صَبْرَ لَهُ"2.
وعن أبي جعفرٍ عليه السلام قالَ: "إنَّ القُلوبَ أرْبَعَةٌ: قَلْبٌ فيه نَفاقٌ وَإيمانٌ وَقَلْبٌ مَنْكوسٌ، وَقَلْبٌ مَطْبُوعٌ، وَقَلْبٌ أزْهَرُ أجْرَدُ. فَقُلْتُ مَا الأزْهَرُ؟ قَالَ: فِيهِ كَهَيْئَةِ السِّرَاجِ، فَأَمَّا الْمَطْبُوعُ فَقَلْبُ المُنَافِقِ، وَأمَّا الأزْهَرُ فَقَلْبُ المُؤْمِنِ، إنْ أعطاهُ شَكَرَ وَإنْ ابتُلاَهُ صَبَرَ.."3. "ثمّ إنّ تعرّض الحديث لخصوص صفتين من صفات المؤمن (إنْ أَعْطاهُ شَكَرَ وَإن ابْتَلاهُ صَبَرَ) من أجل أنّ لهاتين الصّفتين من صفات المؤمنين خصائص ومزايا لا تتواجد في غيرها من الصّفات، فإنّهما من أمّهات الصّفات الجميلة، وتتفرّع منهما صفات جميلة أخرى"4.
أمّا الشّكاية إلى الله، فإنّها تعبّر عن استجابة إيمانيّة للمكروه الذي نزل به من عند الله تعالى. فالعبد هنا فهِم أنّ الله تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾5، وعلم أنّ الله تعالى يريد منه أن يجأر إليه ويشكو عنده قائلًا: "قَدْ نَزَلَ بِي يَا رَبِّ مَا قَدْ تَكَأَّدَنِي ثِقْلُهُ، وَأَلَمَّ بِي مَا قَدْ بَهَظَنِي حَمْلُهُ"6.
"وقد قال الشّيخ العارف عبد الرزاق الكاشاني: "المراد بالشّكوى، الشّكاية إلى غير الحقّ، لأنّ الشّكوى إلى الله في باب الصّبر محمودة، ألا ترى أيوب عليه السلام كيف شكا إلى ربّه بقوله: ﴿...أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾، مع أنّ الله تعالى مدحه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾.. "انتهى. وينبغي التنبّه إلى أن الصبر ــ بهذه المرتبة المذكورة ــ هو من مقامات المتوسّطين، لأنّ نفس الإنسان ما دامت تكره ما يردها من الحقّ تعالى، وما
1 الكافي، ج 2، ص87.
2 (م.ن)، ص 89.
3 (م.ن)، ص422.
4 الأربعون حديثًا، ص 563.
5 سورة الأنعام، الآية 42.
6 الصحيفة السجّادية، دعاؤه عليه السلام إذا عرضت له مهمّة أو نزلب به ملمّة وعند الكرب.
226
183
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
دام الإنسان يجد في باطنه جزعًا من تلك الواردات، فإنّ مقام معارفه وكمالاته ناقص، والمقام الأعلى من هذا المقام من الصّبر، مرتبة الرّضا بالقضاء، حيث يكون الصّابر راضيًا مستبشرًا بما ينزل عليه من بليّات وضرّاء، فيستقبلها بكلّ وجوده لأنّها تنزل عليه من حبيبه سبحانه وتعالى"1.
فاتّضح من هذا الكلام أنّ حسن الصّبر يرجع بالدّرجة الأولى إلى الإيمان. فمن كان مؤمنًا صبر على كلّ ما يرده من الله، سواء كان تكليفًا شاقًّا، أو نهيًا مانعًا من رغبة، أو مصيبة نازلة. وعندما نستحضر معنى الإيمان بالله وتجلّيات حضوره تعالى في حياتنا فلن نجد صعوبة في إدراك أهمّيّة الصّبر وعلاقته بالإيمان.
مراتب الصّبر
إذا كان الصّبر تحمّل المكاره، فإنّ درجاته ومراتبه ستكون بحسب درجات المكاره وشدّتها. وكلّما اشتدّ المكروه عظُم عنده الصّبر وارتفع. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في شرحه لحديث رسول الله: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الصبر ثلاثة: صبرٌ عند المصيبة، وصبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية. فمن صبر على المصيبة حتى يردّها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدّرجة إلى الدّرجة كما بين السماء إلى الأرض، ومن صبر على الطاعة، كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر على المعصية، كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش"2. يتّضح من هذا الحديث الشّريف ثلاث مراتب للصّبر هي مبادىء وأمّهات صبر المتوسّطين:
المرتبة الأولى: الصبر على البليّات والمصائب
"بمعنى أن لا يشكو ولا يجزع بسببها، ولكنّ الجزع منها في محضر الخالق جلّ وعلا ليس نقصًا، بل إنّ تركه عيبٌ عند أهل المعرفة، لأنّه من التجلّد في محضر الحبيب، وهذا عيبٌ كبيرٌ في مذهب العشق والمحبّة، فالمطلوب هو إظهار العجز والفقر في هذا المحضر المقدّس:
1 جنود العقل والجهل، ص 364.
2 الكافي، ج2، ص 91.
227
184
الدرس السادس عشر: الصبر (1) - حقيقة الصبر ومراتبه
ويحسن إظهارُ التجلُّد للعدى ويقبح إلّا العجز عند الأحبّة
كما أنّ التّجلّد إثباتٌ للنّفس، وإظهارٌ لوجودها، وهذا من أقبح المنكرات والجنايات عند أهل المعرفة. ويذكر الحديث الشّريف للصّبر على المصائب ثلاثمائة درجة من الثّواب ما بين كلّ درجتين كما بين السّماء والأرض"1.
المرتبة الثانية: الصّبر على الطّاعة
"أي أن يتحلّى الإنسان بالتحمّل في العمل بالأوامر الإلهيّة، ولا يسمح للنّفس الأمّارة بالسّوء أن تصدّه عن ذلك وأن تطغى، وهذا الطّغيان يقع في مقامين يكون الصّبر في أحدهما أصعب بكثير من الآخر.أمّا المقام الأول الذي يسهل فيه الصبرُ، فهو الصبر على طغيان النفس في نزوعها لترك الطّاعات... والمقام الثّاني: وهو الذي يصعب فيه الصّبر، فهو الصّبرُ على طغيان النّفس بعد قيامها بالطّاعة، وذلك بأن يحفظ الإنسان نفسه من أن يؤدّي القيام بالطّاعة بآدابها الظاهريّة والباطنيّة إلى وقوعها في العُجب والكبر ونظائرهما من الآفات. فربّما دعا الشّيطان والنّفس الأمّارة بالسّوء الإنسان سنين طويلة للقيام بالأعمال الصّالحة والأخلاق الحميدة واتّباع الشّريعة المطهّرة على أمل أن يوقعاه بعد ذلك في العُجب بنفسه، فيسقط بعد كل ما تحمّله من مشاق ورياضات، إذ إنّ الغرور العلميّ والعمليّ وحبّ النفس والإعجاب بها من المهلكات التي تسوق الإنسان إلى الشّقاء... ويذكر الحديث الشّريف للصّبر على الطّاعات ستمائة درجة بين كلّ درجة ودرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، فهذه المرتبة من الصّبر تزيد على سابقتها في عدد الدّرجات، وفي سعةِ كلّ درجة كما بين تخوم كلٍّ منها. إنّ للصّبر على الطّاعات مقامات أخرى لعلّ الحديث لم يتعرّض لها، ويمكن التعرّف إليها عندما ننظر إلى الطّاعة بمعناها الواسع الذي يشمل أيضًا حقائق التّوحيد وأسراره، وحينئذٍ لا يمكن حصر ثواب وأجر صاحب هذه المقامات بأيّ معيار وميزان"2.