المقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد.
التزكية والتعليم هما منهج الأنبياء في تربية الإنسان ووصوله إلى المقصد الأعلى للخلق وهو التوحيد، وقد بيّن الأنبياء بتربيتهم أنّ أحداً لن يصل إلى الحق بغير طريق اتّباعهم، ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾1. فطريقهم دواء كلّ داء، ورافع كلّ حاجة، وعلاج كلّ أمراض النفس، وجواب كل سؤال، وهو راسم طريق الحياة والسير الكمالي للإنسان.
وإنّ المربّين والمعلِّمين العظام للنفوس البشرية هم أولئك الذين سلكوا مسير التهذيب باتباعهم القويم للأنبياء، وعرفوا في جهاد النفس متاهات هذا الطريق، وأدركوا مخاطر الشيطان والنفس وتهديداتهما وحيلهما وخططهما، وخبروا زوايا هذا الطريق الخفيّة والدقيقة.
ولكي يطوي طلّاب طريق المعرفة والتهذيب والسير والسلوك هذا الطريق، هم في أشدّ الحاجة إلى الاستمداد من هؤلاء الذين سلكوا إلى حريم حضرة الحقّ.
وكم هو مهمٌّ العثور على هؤلاء السالكين بحيث قالوا: لو أنّهم أفنوا نصف أعمارهم في طلبهم ليمضوا نصفه الثاني تحت تعليمهم وتربيتهم فقد فعلوا عظيماً، وكم هم نادرون أمثال هؤلاء الذين يتمكّن الإنسان من الحضور في محضرهم ويعهد إليهم باطمئنان تربية نفسه.
1 سورة النساء، الآية 80.
7
1
المقدمة
وفي زماننا، يتألّق الإمام الخميني قدس سره من بين السالكين والمربّين العظام جوهراً ثميناً، ونبعاً كوثريّاًّ يروي ظمأ عطاشى طريق السلوك الماء الزلال ويجيب حاجاتهم.
ولهذا فقد سعينا أن نجمع باقة من تعليمات ذلك العظيم في التهذيب والسلوك من آثاره الخالدة، لنُقدّمها لطلّاب هذا الطريق مشعلاً يُضيء دربهم.
يتميّز هذا الكتاب، تهذيب النفس بأنّه في تمام مطالبه - ما عدا المقدّمة - من نصوص وكلمات الإمام الخميني قدس سره.
وقد تمّ تخصيصه بمباحث تهذيب النفس، حيث تمّ السعي عند جمع هذه المادة وتبويبها أن تتضمّن أغلب ما ورد عن الإمام قدس سره في عنوان الكتاب، بحيث يكون الجمع شاملاً لنكات وأصول رؤيته. وما حُذف من نصوص الموضوع هو المفاهيم والأفكار المكرّرة. ولأنّ بعض النصوص لها عدّة وجوه وحيثيات، اضطررنا إلى تكرار بعض المطالب في الفصول المختلفة وربطها بعناوين مختلفة.
في الختام ينبغي توجيه الشكر إلى كلّ الذين ساهموا في إنجاز هذا العمل جمعاً وتنظيماً وفهرسةً وترجمة.
والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
8
2
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
ضرورة التربية لتحصيل الكمال
هذا الإنسان لو خلّي ونفسه ولم يُكبَح جماحه، يُصبح أكثر افتراساً وشراسة من جميع الحيوانات.
إنّكم تشاهدون الجرائم التي تُرتكب الآن بحقّ البشر من قِبَل هذه القوى العظمى، والتي تتصوّر أنّها قد تحلّت بالتربية. هذه الجرائم التي ترتكبها هذه الحكومات بحقّ البشرية وبحقّ أبناء جنسهم على طول التاريخ لم تصدر من أيّ حيوان مفترس. فالحيوان المفترس يُطارد الفريسة فإذا نال منها وشبع فإنّه لا يُفكّر بعدها باستغلال عدّة من الحيوانات الأخرى وبسط هيمنته عليها.
أمّا هذا الإنسان الذي لا يعرف الشبع ولا حدّ لأهوائه النفسية فلو أُعطي دولة بأكملها فإنّه يبحث عن دولة أخرى. وإذا بسط هيمنته عليها بادر إلى البحث عن دولة أخرى. ليس لتطلّعات الإنسان حدّاً ولا نهاية. فما أن يحصل على شيء تجده يُفكّر بالحصول على ما لم يحصل عليه. فإذا تُرك الإنسان وشأنه فإنّ آماله تكون في الشهوات اللامتناهية وفي الغضب اللامحدود وفي نوازع الهيمنة التي ليس لها نهاية.
لا تتوهّموا أنّ الإنسان لو أُعطي المنظومة الشمسية بأكملها سيقنع ويكتفي، لا بل إنّه سيتطلّع إلى منظومة أخرى. أنتم ترون أنّهم الآن يتطلّعون إلى مناطق أخرى غير الأرض. يريدون السيطرة على الكواكب الأخرى. فإذا ما سيطروا على كوكب فلن يكفّوا عن التطلّع إلى كوكب آخر. لقد خُلق الإنسان على هذه الشاكلة، لا حدّ لغضبه، ولا حدّ لشهوته، لا حدّ لأنانيّته.
لا شيء يُشبِع الإنسانَ ما لم يتربّ. فمن خلال هذه التربية يصل الإنسان إلى منتهى شبع ينال فيه غاية كلّ تلك الأشياء التي يريدها، وذلك هو الوصول إلى الكمال المطلق. فإذا وصل إلى الكمال المطلق يحصل على هذه الطمأنينة.
11
3
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
فطمأنينة القلوب هي في الوصول إلى الله. وبغيره لا تهدأ القلوب مطلقاً. هم أنفسهم لا ينتبهون إلى أن هذه النفس تتطلّع إلى الكمال المطلق، فيتيهون عن الكمال في نهاية المطاف. إن نفس الإنسان تريد الوصول إلى الكمال المطلق. والخطأ يقع في تشخيص ما إذا كان هذا أو ذاك هو الكمال. يرى أحدهم الكمال في العلم فيقتفي أثر العلم. ويرى آخر الكمال في السلطة فيلهث خلفها. وكلّ هؤلاء الساعين في الدنيا إنّما يطلبون الكمال المطلق، وبعبارة أخرى الجميع يسعون للقاء الله، ولكنّهم غير ملتفتين1.
أهمّية تهذيب النفس عند الأولياء
من غير الممكن أن تلبّوا دعوة الله إلى الضيافة وتردّوا الضيافة الإلهية ما لم تنسلخ قلوبكم عن هذه الدنيا. إن ما اهتمّ به أولياء الله هو تهذيب النفس وانتزاع القلب ممّا سوى الله والتوجّه إليه سبحانه. فكلّ المفاسد التي تحدث في العالم هي وليدة التوجّه إلى النفس في مقابل التوجّه إلى الله. وإنّ كلّ الكمالات التي تحقّقت لأنبياء الله وأوليائه كانت نتيجة سلخ القلوب عمّن سواه تعالى والارتباط به. وتتجلّى علامات هذه الأمور في أعمالنا2.
توصية شرائح المجتمع بالابتعاد عن حبّ النفس
لا تجعلوا النظرة نظرة متشائمة. ولا يكوننّ الحبّ والبغض في قلوبكم بحيث تحكمون أو تكتبون أو تقولون ما يُخالف الواقع. قولوا الوقائع.
بالطبع أنا لا أعني أن تؤيّدوا وتروّجوا الفحشاء. لأن هذا العمل خلاف الشرع ومن الذنوب الكبيرة. ولكن من باب الموعظة ومن أجل التنبيه، أَظهِروا نقاط الضعف ولكن بهدوء، لا أن يشوّه الشخص الذي يسمع بما كتبتموه الأمور أكثر. إذا قلتم شيئاً سيّئًا أزعج أحدًا وهو أيضًا لم يكن مهذّباً لدرجة كبيرة بحيث يغمض عينه عنه. هو أيضاً يقوم في المقابل بردّ فعل مشابه ومغرض. بل ويزيد عليه ومن يواجهه يزيد عليه أيضاً وهكذا. نحن إذا أردنا أن يكون وطننا لنا ولا يستطيع الآخرون التسلّط عليه، من الآن يجب على جميع الطبقات الموجودة التعاضد
1 صحيفة الإمام، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، ج 12، ص 504 - 505.
2 م.ن، ج 17، ص 493.
12
4
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
والتعاون. والتخلّي عن هذا الحبّ والبغض المبني على أساس حبّ النفس. وأن يسيطروا قليلاً على حبّ النفس، إن لم يتمكّنوا من اقتلاعه بشكل كامل فليقلّلوا منه إلى أن يتمّ الانتصار. وأن يضبطوا الأقلام مؤقّتاً وإذا ما أرادوا النصيحة فلتكن نصيحة، نصيحة يُمكن أو يتقبلّها المرء، ولكن الحدّة لا يُمكن أن يتحمّلها ذلك المرء نفسه مهما كان. نحن يجب أن نتعلّم من العظماء. لقد سمعتم قصة مالك الأشتر حين شتمه شخص وبعد أن علم أنّه مالك ذهب خلفه. وكان مالك قد دخل المسجد وانشغل بالصلاة فجاءه واعتذر منه. فقال: أنا لم آت- هكذا يروون- إلى المسجد إلا لأستغفر لك.
انظروا كيف يُربّي وكيف يؤدّي هكذا أمر إلى التربية. كتب أحدهم إلى الخواجه نصير الدين الطوسي قدس سره مكتوباً فيه بعض المسائل. وكان من ضمن ما كتب له أن تجرّأ عليه ونعته باسم "الكلب". فعندما أجابه الطوسي - حسب الرواية- ردّ على كلّ إشكالاته بحكمة إلى أن وصل إلى قوله (أنت كلب) فكتب له: كلا، إنّ أوصافي وخواصي وآثاري تختلف عن أوصاف الكلب وخواصه وآثاره. الكلب عنده الصفة الفلانية وهي ليست موجودة عندي، وأنا اتصف بالصفة الفلانية وهي ليست موجودة في الكلب. لقد حلّ القضية بمنتهى الحكمة في هذا الشكل. حسناً، لو أنّ الخواجة كتب له في جوابه أنّك أنت الكلب وأبوك الكلب فلقد كان سيتلقّى في اليوم التّالي كتاباً آخر يحمل شتائم أكثر. عندما نستطيع باللسان الليّن ومن خلال القول السليم الخالي من الطعن وغير المغرض أن نُصلح الناس وأن نزيد من عدد أصدقائنا وأن يكون هذا لله فما الداعي لأن يكتب الإنسان بقلمه ضدّ نفسه. الكثيرون يتخيّلون فيظنّ الواحد منهم أنّ هذا الذي أقوله ضدّ فلان سيقمع فلاناً. لكنّه سيقمعه هو نفسه أوّلاً. هؤلاء لا ينتبهون إلى هذا الأمر. فعندما يحصل مثل هذا الأمر ويقرؤون أن هذا القلم قلم ملوّث فإنّهم سوف يشعرون بالنفور منه.
ما هي دعوى الإنسان الذي يُمكنه أن يهدي إنساناً آخر إلى الخير بلسان طيّب وقلم حسن وبالنصيحة والمصادقة كما كان يفعل الأنبياء!1.
1 صحيفة الإمام، ج 14، ص 18 - 20.
13
5
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
انهض لأجل بناء النفس
أيّها العزيز، استيقظ من نومك، وتنبّه من غفلتك، واشدد حيازيم الهمّة، واغتنم الفرصة ما دام هناك وقت، وما دام في العمر بقية، وما دامت قواك تحت تصرّفك، وشبابك موجوداً، ولم تتغلّب عليك الأخلاق الفاسدة بعد، ولم تتأصّل فيك الملكات الرذيلة، فابحث عن العلاج، واعثر على الدواء لإزالة تلك الأخلاق الفاسدة القبيحة، وتلمّس سبيلاً لإطفاء ثائرة الشهوة والغضب1.
الجميع مكلّفون بالتزكية
جميعنا مكلّفون بتزكية أنفسنا، فقد جاءت البعثة من أجل التزكية. وإذا لم تحصل التزكية فإنّ كلّ ما يقع في النفس، وكلّ ما يجري معها، فهو حجاب للإنسان. كلّنا مكلّفون بتزكية أنفسنا حتى نستطيع أن نستفيد من النور الإلهي ومن نور القرآن2.
التقدّم بالقوى الإلهية
هذّبوا أنفسكم وزكّوها. لا تركّزوا الاهتمام على أنّني بقوّتي أُريد أن أطرح فلاناً أرضاً وأغلبه مثلًا. لينصب اهتمامكم على أن تتقدّموا بقوّة إلهية. أي اجعلوا يدكم وعينكم ونفسكم وكلّ ما لكم، بدّلوا كلّ هذه من قوى شيطانية إلى قوى إلهية. إذا غفل الإنسان كانت قواه قوى شيطانية، عينه شيطانية، ويده شيطانية. أمّا إذا هذّب نفسه فتصير كلّها إلهية. تتحوّل كلّ قواكم قوّةً إلهية، والقوّة الإلهية ستنتصر3.
السعي لأجل تقوية الروحانية
علينا أن نسعى إلى تقوية الروحانية وسحق النفسانية بكل ما نستطيع. فإذا تحقّق هذا الأمر فستُحَلّ كلّ الأمور لأنّ الاختلافات تدور حول هذا الأمر. لا يقع أيّ اختلاف في العالم إلا
1 الإمام روح الله الموسوي الخميني، الأربعون حديثاً، ص 53, تعريب محمد الغروي، دار التعارف - بيروت، ط 6، 1998، ح1.
2 صحيفة الإمام، ج 14، ص 394.
3 م.ن، ج 12، ص 242 - 243.
14
6
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
ويكون سببه هو هذا. والشيطان أيضاً قال منذ اليوم الأول ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾1، أنا أفضل منه فعصى الله تعالى. الحاصل أنّه قال أنا أفضل وهذا إرث شيطاني ورثناه جميعاً. الكلّ يرون ما عندهم أفضل ممّا لدى الآخرين، وإذا ما رأوه عند الآخرين يستصغرونه، أمّا فيهم فيرونه عظيماً. يتجاهلون عيوبهم ويرون العيب الصغير لدى الآخرين كبيراً2.
تبعية كلّ المجاهدات لجهاد النفس
على من يُريد الخروج من هذه الأنانيّة أنْ يُهاجرَ بالمجاهدة، يُجاهد ويُهاجر هذه الهجرة، فطبق الحديث الشريف، جئتم من الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر3. إنّ جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، وسائر أشكال الجهاد في الدنيا تَبَعٌ لهذا الجهاد، فلو انتصرنا فيه لكان كُلُّ جهاد نقوم به هو جهاد إلهي، وإذا لم ننجح في هذا الجهاد لكانت سائرُ أشكال جهادنا الأُخرى شيطانيّةً.
ورد أنّ من خرج للجهاد من أجل الحصول على جاريةٍ أو طعامٍ فأجره هو هذا، أمّا ذلك الذي يكون جهاده إلى الله فأجره على الله4. فسنخيّة الأفعال تختلف، وهناك فَرْقٌ بين الأفعال الصادرةِ عن أولياء الله وبين تلك الصادرة عنَّا لأنَّ المصدرَ مختلفٌ5.
الانتصار في ميدان النفس والروح
اسعوا إلى أن تفوزوا في تلك الساحة، ساحة الجهاد بين الله والشيطان، الجهاد بين نفس الإنسان وروحه. فلو حقّقتم هذا الفوز، فلا تخافوا أيّة هزيمة فتلك ليست هزيمة6.
1 سورة ص، الآية 76.
2 صحيفة الإمام، ج 17، ص 531.
3 إشارة إلى حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في استقبال المجاهدين حيث قال: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر". فقيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال: "جهاد النفس". الشيخ الكليني، الكافي،ج5،ص12، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، نشر دار الكتب الإسلامية، طهران، مطبعة الحيدري، ط3، 1367ش، كتاب الجهاد، باب وجوه الجهاد، ح3.
4 إشارة إلى الآية ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾، سورة النساء، الآية 100.
5 الإمام الخميني، تفسير سورة الحمد، ص 122 - 123.
6 صحيفة الإمام، ج 14، ص 351.
15
7
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
أولوية البناء الروحي
إنّ البناء الروحي يحتلّ الأولوية بين جميع عمليات البناء. جهاد البناء يجب أن يبدأ من الأفراد أنفسهم فيبنوا أنفسهم، ويجاهدوا شيطانهم الداخلي، لأنّ هذا الجهاد هو منشأ جميع أنواع الجهاد التي تحصل فيما بعد. وما لم يبنِ الإنسان نفسه فلن يتمكّن من بناء الآخرين، وما لم يبنِ الآخرون أنفسهم فإنّهم لا يستطيعون بناء بلدهم. جهاد البناء يجب أن يبدأ من نفس الإنسان.
جهاد النفس هو الجهاد الأكبر. ولهذا فالانتصار في كلّ أنواع الجهاد الأخرى والغلبة فيها رهين بانتصار الإنسان في جهاد النفس.
فإذا انصبّ اهتمام أفراد الناس على أنفسهم، ولم يجاهدوا شيطانهم، فإنّهم علاوة على أنّهم لن يتمكّنوا من إصلاح المجتمع، سيفسدون فيه. فجميع المفاسد التي تحدث في العالم مردّها إلى انعدام ذلك الجهاد، وهو الجهاد الأكبر. جميع المشكلات التي يُعانيها البشر هي من أنفسهم. البشر هم الذين يرتكبون الجرائم بحقّ البشر. وسائر الموجودات وسائر الحيوانات حتى السباع لا تقوم بمقدار ما يرتكبه البشر من جرائم. فهذا البشر، الذي لم يتمّ إصلاحه ولم يقم ببناء نفسه هو أكثر سبعية من كلّ الحيوانات، فليس هناك سبع كالإنسان. ولا يصل حيوان آخر إلى مستوى هذا الحيوان أيضاً1.
وجوب تطهير القلب
ومن المهمّات التي لا بدّ للإنسان أن يقوم بها بكلّ عدّة وعُدّة وبكلّ رياضة ومجاهدة ويُخلّص نفسه من قبحها وعارها، تطهير القلوب من القذارات المعنوية والأوساخ الخلقية، فإنّه إن قام في المحضر الربوبي بدون ذاك التطهير المعنوي فلا ينال غير صورة الصلاة وقشرها وتعبها ومشقّتها2.
1 صحيفة الإمام، ج 11، ص 379.
2 الإمام روح الله الموسوي الخميني، سرّ الصلاة، ص 37.
16
8
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
دعوة الفئات المختلفة للتهذيب
هذّبوا نفوسكم، وأخرجوا حبّ الدنيا من قلوبكم، (أخرجوا) رأس كلّ خطيئة1. فكلّ الخطايا هي من حبّ الدنيا وحبّ الشهرة. اخرجوا هذا الحبّ من قلوبكم وأميتوه واحيوا بحياة الإسلام، بالحياة الإلهية. كونوا إلهيّين، اتحدوا، وكونوا صفّاً واحداً2.
التفكُّر في كيفية عيشنا
يجب أن نُفكّر كيف جئنا من هناك وكيف نحيا هنا وكيف سنرجع إلى هناك. هل أنّنا هنا في خدمة الحق تعالى وخدمة الخلق؟ هل نُجاهد في سبيل الله ونمشي على صراط الربوبية المستقيم أم أنّنا عنه منحرفون؟ فإذا ما كنّا منحرفين سواء للشمال أو اليمين، فالشمال يُعبّر عنه بـ (المغضوب عليهم)، واليمين يُعبّر عنه بـ (الضالّين)، فهذا في مقابل الصراط المستقيم. إنّنا إذا انطلقنا من على الصراط المستقيم فلنُحافظ على حركتنا المستقيمة، فلا ننحرف ولا نكون شرقيين ولا غربيين، بل مستقيمين، لا إلى اليمين ولا إلى الشمال. نتحرّك بنحو مستقيم من هنا حتى اللانهاية، فنكون سعداء وقد أسعدنا شعبنا. وإذا انحرفنا- لا قدّر الله- إلى الشمال أو اليمين على حدٍّ سواء نكون منحرفين. وإذا كان لنا مقام ما بين أبناء الشعب، فعندها سوف نتسبّب بانحراف شعب3.
التوصية بتقوية الروح والقلب
إنّ كلّ عمل يبدأ من الفكر. كلّ عمل يبدأ من التفكُّر والتأمّل في أطرافه. فلو كان في روحنا ضعف لن نستطيع عمل شيء. قوّوا روحكم، قوّوا قلوبكم وانقطعوا إلى الله4.
1 إشارة إلى حديث الإمام الصادق عليه السلام "حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة"، الشيخ الكليني، الكافي،ج2، ص131، كتاب الإيمان والكفر، باب حبّ الدنيا والحرص عليها،ح1.
2 صحيفة الإمام، ج 6، ص 284.
3 م.ن، ج 9، ص 513 - 514.
4 صحيفة الإمام، ج 18، ص 426.
17
9
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
حاجة العموم للتربية والتزكية
تحتاج الجمهورية الإسلامية إلى التربية والتزكية. جميع فئات شعبنا وجميع الشعوب تحتاج إلى التربية والتزكية، وتحتاج إلى تعاليم الأنبياء. إن مجرّد الادّعاء بأنّ جمهوريّتنا جمهورية إسلامية لا يكفي، وإنّما تكون كذلك وتصل إلى كمالها المطلوب عندما يكون الله تبارك وتعالى هو الحاكم على هذا الشعب وعلى هذا البلد، يعني عندما تكون الحكومة من ألفها إلى يائها حكومة إلهية. ويكون كلّ الزعماء ورجال الدولة والمسؤولين، أشخاصاً إلهيّين، قد خرجوا من النفسانية، وتجاوزوا الأنانية والذاتية، وحيث لا وجود للنفسي والشخصي عندهم، فيكون كلّ ما لديهم من الله1.
الجدّية في تطهير الباطن
..إذا أحسّ بأنّ الغلبة في باطن ذاته ومملكة روحه لجنود الجهل وحزب الشيطان ، فعليه أن يبادر بكل جدّية وبأية رياضة ومجاهدة لطرد الجنود الشيطانية من مملكته الباطنية ، ويمنع إبليس الخبيث من التصرّف فيها2.
ضرورة تعلّم العلوم المعنوية
إن من أسمى وأرفع المجالات التي ينبغي وبنحو عمومي أن تنصبّ عليها جهود التعليم والتعلّم هي العلوم المعنوية الإسلامية، كعلم الأخلاق وتهذيب النفس والسير والسلوك إلى الله رزقنا الله ذلك وإيّاكم فإنّه الجهاد الأكبر3.
استثمار الفرص
يا أيّها العزيز، يا من تقرأ هذه الوريقات، خذ العبرة من حال هذا الكاتب الذي يرزح الآن تحت الثرى، وهو في العالم الآخر مبتلى بأعماله البشعة وأخلاقه القبيحة. وطالما سنحت
1 صحيفة الإمام، ج 13، ص 508 - 509.
2 الإمام روح الله الموسوي الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 52.
3 صحيفة الإمام، ج 21، ص 426.
18
10
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
له الفرصة فقد ضيّع عمره الثمين بالبطالة والهوى والشهوة، فأتلف ذلك الرأسمال الإلهي وأباده. فانتبه إلى نفسك لأنّك ستكون يوماً ما مثلي دون أن تعلم متى يكون ذلك. فلعلّك الآن وأنت مشغول بالقراءة، إذا تباطأت ذهبت الفرصة من يدك. يا أخي، لا تؤجّل هذه الأمور لأنّها لا تحتمل التأجيل، فكم من إنسان سليمٍ وصحيح الجسم فاجأه الموت في لحظة وأخرجه من هذه الدنيا ولا نعلم عن مصيره شيئاً. إذاً، لا تُضيّع الفرصة، بل اغتنم اللحظة الواحدة، لأنّ القضية عظيمة الأهمية، والرحلة شديدة الخطورة. فإذا قصّر الإنسان في هذه الدنيا التي هي مزرعة الآخرة، يكون السيف قد سبق العذل، ولن تستطيع إصلاح مفاسد النفس، ولا يكون نصيبك سوى الحسرة والندم والذل.
إنّ أولياء الله لم يخلدوا إلى الراحة آناً، وكانوا دائمي الخوف من هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر1.
الاستفادة من الرحمات الإلهية
إنّ رحمة الله قد أحاطت بك الآن، رحمة الصحّة والسلامة والحياة والأمن والهداية والعقل والفرصة والإرشاد إلى إصلاح النفس. أنت مغمور بآلاف الرحمات الإلهية المختلفة ولكنّك لا تنتفع بها، بل تُطيع أوامر الشيطان. فإذا لم تستفد من هذه الرحمات في هذا العالم، فاعلم أنّك في العالم الآخر ستكون محروماً من رحمات الله اللامتناهية، وستُحرم كذلك من شفاعة الشافعين. إنّ مظهر شفاعة الشافعين في هذه الدنيا هو الاهتداء بهداهم، وفي ذلك العالم يكون باطن الهداية هو الشفاعة. فإذا حرمت الهداية، حرمت الشفاعة، وعلى قدر اهتدائك تنل الشفاعة. إنّ شفاعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مثل رحمة الحق المطلقة تنال من هو جدير بها. فإذا انتزع الشيطان ـ لا سمح الله ـ بهذه الأسباب الإيمان من يدك، فلن تكون جديراً بالرحمة والشفاعة. نعم، رحمة الله وافرة في الدارين. فإذا كنت طالباً للرحمة، فلماذا لا تستفيد من فيوضات الرحمة المتتالية في هذه الدنيا، وهي بذور الرحمات الأخرى؟ إنّ هذا العدد الكبير من الأنبياء والأولياء دعوك إلى مائدة ضيافة الله ونعمته، وأنت رفضت وهجرت كلّ ذلك بوسوسة من الخنّاس، وبإلقاء شيطاني، وضحّيت بمحكمات كتاب الله، والمتواترات
1 الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص 188.
19
11
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
من أحاديث الأنبياء والأولياء، وبضروريات عقول العقلاء، وببراهين الحكماء القطعية، لأجل نزغات الشيطان والأهواء النفسية. الويل لي ولك من هذه الغفلة والعمى والصمم والجهل!1.
تطبيق قوانين الإسلام في أنفسنا
واجبنا الآن هو أنّ يجد كل منّا، في أيّ مكان كنّا وفي أيّ زمان، في البدء بتطبيق أحكام الإسلام من أنفسنا، فإذا لم نُصلح أنفسنا بأنفسنا، ولم نُجرِ عليها أحكام الإسلام لا نستطيع تأسيس حكومة إسلامية. إذا لم يصلح من هو على رأس الحكومة كرئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء مثلًا نفسَه، ولم يتبع قوانين الإسلام، ويُطبّقها في مملكة وجوده لا يستطيع أن يقيم حكومة إسلامية، ولا أن يكون حاكماً إسلامياً2.
ضرورة ثورة النفوس
يجب أن نثور داخلياً. يجب أن تنقلب نفوسنا أيضاً، فإذا كانت إلى الآن تحت سيطرة الشيطان والطاغوت يجب أن نتبدّل ونخرج من ربقة الشيطان إلى ظلّ الرحمن، وذلك يكون بأن نعمل وفق القانون الإسلامي3.
النهوض في وجه جنود إبليس
ها أنتم الآن في شركة واحدة يجب أن تعملوا فيها بأمانة ودِيانة، ومثلما تقدّمتم في هذه الثورة تقدَّموا أيضاً في ثورتكم ضدّ جنود إبليس، هؤلاء الجنود الذين يريدون أن يجرّونا إلى الفساد والظلم والظلام، فيجب القيام عليهم والوقوف في وجههم. وكلّ فرد مكلّف بإصلاح نفسه قبل أن يصلح الآخرين. كلّنا مكلّفون أن نُصلح أنفسنا. إيران اليوم بحاجة إلى رجال صالحين يُتابعون شؤونها، وحيثما كنتم عليكم أن تعملوا وفق أسس الصلاح والسداد والأمانة والديانة. أيّدكم الله جميعاً، وجعل بلادكم مستقلّة، وحفظها من شرّ الشياطين4.
1 الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص 188 - 189.
2 صحيفة الإمام، ج 8، ص 283 - 284.
3 م.ن، ج 11، ص 504.
4 م.ن، ج 8، ص 289 - 290.
20
12
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
التحرّر من أسر الشيطان
أيّها الإخوة والأخوات الإسلاميّون! إذا أردتم الاستقلال والحرية والجمهورية الإسلامية، وقد ضحّيتم من أجل تحصيلها بشبابكم الأعزّاء وتحمّلتم ضغوط الحرب المفروضة، فاسعوا في هذه السنة الجديدة أن تخرجوا من قيد شيطان النفس1.
إصلاح النفس بالتلازم مع تقوية البدن
لقد كانت قوّة الروح وقوّة الإيمان هي التي نصرتكم على الجنود الشيطانية وعلى الطاغوت، ويجب أن تمنحكم قُوَّةُ الإيمان وقُوَّةُ الباطن تلك الغلبة على الجنود الشيطانية في باطن الإنسان والتي تريد إغواءه. أصلحوا أحوالكم على نحو ما تُعزِّزون من قوّة أبدانكم2.
الحاجة إلى الإصلاح حتى آخر العمر
الأهمّ هو أن يُصلح الإنسان نفسه في شهر رمضان، فنحن بحاجة إلى الإصلاح وإلى تهذيب النفس، إنّنا محتاجون إلى ذلك حتى آخر نفس. والأنبياء كذلك محتاجون (إلى تهذيب النفس) ولكنّهم أدركوا احتياجهم وعملوا بمقتضاه، ونحن لوجود الحجاب لم نتمكّن من فهم ذلك ولم نعمل بواجبنا3.
الفرعونية كامنة في باطن الإنسان
لا تتصوّروا أنّ الذين يمتلكون نفساً فرعونية كانوا شخصاً أو عدّة أشخاص. فما دام الإنسان لم يتلق التربية الإسلامية أو تربية المدارس التوحيدية فإنّ هذه الفرعونية تبقى في باطنه، وكذلك تبقى الشيطنة والأنانية4.
1 صحيفة الإمام، ج 14، ص 216 - 217.
2 م.ن، ج 8، ص 374.
3 م.ن، ج 18، ص 480.
4 م.ن، ج 12، ص 508.
21
13
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
أهمّية هزيمة الطاغوت الداخلي
وكما تحقّقت تلك الفتوحات والانتصارات في صدر الإسلام على يد عدّة قليلة، استطاعت أن تهزم الفرس والروم، أنتم أيضاً هزمتم بحمد الله هذا الطاغوت بالاعتماد على الروحية القوية والإيمان بالله، وكذلك اهزموا الطاغوت الكامن في نفوسكم، فالمهمّ هو أن تتغلّبوا على ذلك الطاغوت1.
استثمار شهر رمضان لأجل إصلاح النفس
أقول للسادة مرّة أخرى إنّنا في شهر رمضان المبارك وإنّ أبواب رحمة الله تبارك وتعالى مفتوحة أمام جميع المذنبين، فأصلحوا نفوسكم في هذا الشهر قبل فوات الأوان. إنّنا جميعاً محتاجون لإصلاح نفوسنا،... يجب أن نعوذ بالله ونصلح أنفسنا2.
التوصية بإزالة الأهواء النفسية
وإنّنا نأمل أن يعمل شعبنا في هذه السنة الجديدة، بالنحو الذي هي عليه سيرة الأنبياء، ويعمل بالنحو الذي هي عليه سيرة الأولياء. والأصل في ذلك إزالة الأهواء النفسية. فالإنسان مبتلى بهوى النفس على مدى عمره وهو لذلك محتاج إلى الرياضة. وأنا المتحدّث إليكم لم أوفّق إلى ذلك. وإنّني آمل أن يشهد شعب إيران وكافة المسلمين في العالم، تحوّلًا في السنة الجديدة هذه، فيعملون لأجل الله تعالى، ولا يكون عملهم من أجل هيمنة نفوسهم ولا من أجل انتصارها ولا من أجل الأهواء النفسية. وإن شاء الله ينال الجميع توفيق الباري للمجاهدة في سبيله تبارك وتعالى3.
ضرورة التهذيب للمسؤولين
إنّه شيطان هذا الذي يوجد في كلّ إنسان ويمكن أن يحرف كلّ شخص ويجب على الإنسان أن يُهذّب نفسه.
1 صحيفة الإمام، ج 9، ص 221.
2 م.ن، ج 15، ص 31.
3 م.ن، ج 21، ص 324.
22
14
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
أنتم الذين تريدون خدمة هذا الشعب، والحكومة التي تريد خدمة هذا الشعب، ورئيس الجمهورية وأمثاله ممّن يريدون خدمة هذا الشعب، فلينتبهوا إلى أنهم خدّام، وقد آمنوا بقلوبهم بأنّهم يريدون أن يخدموا هذا الشعب1.
ضرورة ابتعاد المسؤولين عن الجاه والمقام
الأمور بأيديكم وعليكم أن تخدموا هذا الشعب وأن تعتبروا أنفسكم خدّامه. إذا خطر ببالكم بأنّني وزير ويجب أن يسمع الناس كلامي فاعلموا بأن الإصلاح لم يشملكم، حتى ولو كان خاطراً ذهنياً. لو خطر ببال رئيس الجمهورية بأنّني أكبر مسؤول في البلاد وما شابه ذلك فمعنى ذلك أنه لم يُصلح نفسه. وخواطر كهذه هي من الشيطان حتى ولو لم يعمل وفقها لكن لمجرّد خطورها فهي من الشيطان2.
تهذيب النفس بالتلازم مع خدمة الشعب
أتمنّى أن تعملوا حيثما كنتم بحسن نية للإسلام ولأجل رفعة الإسلام، وأن تنشغلوا بتهذيب أنفسكم أيضاً مثلما أنتم مشغولون بعمل قيّم، حتى يسري منكم الخلق الحسن والنفسية الحسنة والأعمال الحسنة وينتقل إلى الأشخاص الذين يراجعونكم3.
أولوية بناء الروح على بناء الجسم
كما وظّفتم جميع طاقاتكم المادّية والمعنوية في سبيل بناء البلد، آمل أن لا تغفلوا عن بناء أنفسكم والآخرين، وأن تُقدّموا كما ذكرتكم مراراً بناء الروح على بناء الجسم، كي تمضي الأمور إلى الأمام بقوّة الإيمان على أفضل وأسرع وجه، بمشيئة الله تعالى، وأن نوصل هذا البلد بعون الله، وبالتعاون مع بعضنا البعض، إلى الاكتفاء الذاتي والإعمار الكامل، إن شاء الله تعالى4.
1 صحيفة الإمام، ج 16، ص 23.
2 م.ن، ج 15، ص 124.
3 م.ن، ج 12، ص 103.
4 م.ن، ج 16، ص 338 - 339.
23
15
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
جهاد النفس بالتلازم مع جهاد البناء
أطلب منكم أن تُجاهدوا أنفسكم أيضاً أثناء جهاد البناء. إذا كان ما تقومون به خالصاً لله فقد حقّقتم جهاد النفس أيضاً1.
مجاهدة ميول النفس
الأشخاص الذين يُضحّون لأجل الإسلام بأرواحهم التي هي رأس مال كلّ شيء آخر بالنسبة للإنسان، ونحن لا نمتلك هذا التوفيق، ولا نستطيعه، قصارى ما نستطيع فعله هو الدعاء لكم. عندما تقرّر أن تهدوا مثل هذه التحفة لديكم للإسلام، فعندها إذا طرأ - على سبيل الفرض - ما يُعارض رغبتكم فإنّ عليكم أن تُحاربوه خلافاً لميل أنفسكم. وهذا هو الجهاد الباطني الذي يجب أن يخوضه الإنسان دوماً وأن ينتبه إليه أبداً2.
ضرورة التهذيب في القوّات المسلّحة
عليكم أولاً، أن تُصلحوا أنفسكم. لا تتخيّلوا أنّنا الآن أحرار، ولدينا بنادق أيضاً، فيجب أن نؤذي الناس. أنتم الآن مكلّفون، وتحت النظر، تحت نظر الله، ونظر إمام الزمان عليه السلام وهم يُراقِبونكم. إنّ صحيفة أعمالكم تُعرَض على إمام الزمان3.
احرسوا أنفسكم
(آمل كما أنّكم حرّاس الإسلام) أن تكونوا حرّاساً على أنفسكم، احرسوا أنفسكم. لا تدعوا النفس تجمح، وتفعل ما تشاء. ألجموا أنفسكم حتى تصير تابعة للإسلام. اعملوا كلّ ما يُريده الله4.
1 صحيفة الإمام، ج 12، ص 449.
2 م.ن، ج 16، ص 287.
3 م.ن، ج 8، ص 284.
4 م.ن، ج 8، ص 122.
24
16
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
توصية الحرس بحراسة النفس
أيّها الحرس الأعزّاء ويا جنود الإسلام، احرسوا أنفسكم أيضاً أينما كنتم، حتى تُحقّقوا النصر على أنفسكم والنصر على كلّ الشياطين1.
حراسة الإسلام على ضوء حراسة النفس
أنتم أيّها السادة الذين أنتم حرس الثورة، أعني الثورة الإسلامية مثلما تحرسون الثورة، تكليفكم الأعلى هو أن تحرسوا الإسلام، وذلك بحراسة أنفسكم، من أهوائكم النفسية، من شهواتكم ومن الميول الموجودة في كلّ إنسان وهي ميول شيطانية. حتى إذا ما رآكم الناس أنتم الحرس أو شاهدتكم تلك العيون التي تتربَّص بكم يرونكم أناساً أسوياء في الوقت الذي تتمتّعون فيه بالقُدرة، وتعاملون الفاسدين بشدّة، ولكنّكم رحماءُ بالناس رُفَقاء بهم2.
مهمّة إصلاح الآخرين
مثلما أنّ كلّ شخص وكلّ فرد مكلّف بإصلاح نفسه، كذلك هو مكلّف بإصلاح الآخرين3.
ضرورة كبح جماح النفس
تريّثوا قليلاً وانتبهوا لما يدور حولكم. كلّما تكلّم أحدكم عن آخر فلا يكوننّ ذلك بالسوء فهذا مخالف لآداب الإسلام ولآداب المسلمين وللإنسانية، ومناقض لسلوك الأنبياء والأولياء. امتنعوا عن ذلك. تمهّلوا قليلاً واتركوا هوى النفس جانباً، ودعوا الشهرة، فكلّ مشاكلنا تنبثق من هوى النفس هذا. إنّ أعدى أعداء الإنسان هو نفسه هذه التي بين جنبيه. ألجموها قليلاً واكبحوا جماحها قدراً ما4.
1 صحيفة الإمام، ج 12، ص 358.
2 م.ن، ج 8 ص 380.
3 م.ن، ج 10، ص 268.
4 م.ن، ج 13، ص 80.
25
17
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
ضرورة التحكّم بالأقلام
تحكّموا بأقلامكم قدراً ما. واحفظوا أنفسكم قدراً ما. لا تتّبعوا هوى النفس إلى هذه الدرجة. لا تتّبعوا الشيطان إلى هذه الدرجة. وفي طرحكم للقضايا اطرحوا القضايا الصحيحة ولا تطرحوا القضايا الفاسدة1.
التربية الإلهية منذ الطفولة
لو استطعتم أن تربّوا هؤلاء الأطفال بحيث يكونون منذ البداية يريدون الله ومتوجّهين نحو الله، ولو تمكّنتم من حقن عبودية الله والارتباط بالله في هؤلاء الأطفال، والأطفال يقبلون بسرعة، إذا ألقيتم إليهم التربية الإلهية وعبودية الله وحقيقة أن كلّ شيء منه، وهم قبلوا ذلك، فقد خدمتم هذا المجتمع2.
توصية الأم والمعلِّم بتهذيب الأطفال
بأمومتكم يجب أن تُهذّبوا الأطفال، من خلال تعليمكم يجب أن تُهذِّبوا أيضاً، قدّموا للمجتمع أفراداً سالمين، أصلحوا مجتمعاً3.
التوصية بتهذيب الأطفال
أيّتها السيّدات المحترمات! هذّبن أنفسكنّ، وهذّبن أولادكنّ. ربّينَ أولادكنّ تربية إسلامية، ففي الإسلام كلّ شيء، تخلَقْن بالأخلاق الإسلاميّة والتجئن إلى الإسلام ففيه كلّ شيء .. أيّها السادة المحترمون! أيتها السيدات المحترمات. أجيبوا نداء الإسلام بلبّيك4.
توصية أبناء الشهداء بالتهذيب
سوف يلتفت قرّة أعيننا الأعزّاء الآن حيث يحملون على عواتقهم الرسالة العظيمة لآبائهم العظماء إلى لزوم العمل الدؤوب في طريق تهذيب النفس والدراسة، مستلهمين ذلك من
1 صحيفة الإمام، ج 14، ص 373.
2 م.ن، ج 14، ص 40.
3 م.ن، ج 7، ص 286.
4 م.ن، ص 533.
26
18
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
الأرواح السعيدة لجنود إمام الزمان - أرواحنا فداه -، كي يمسكوا بزمام الأمور في مجتمعهم من خلال اكتسابهم العلوم والمعارف والمعنويات الإسلامية1.
توصية الرياضيين بالتهذيب
أتمنّى أن يكون أبطالنا الأعزّاء مرفوعي الرأس أينما كانوا، وأن يعملوا في كلّ مكان بروح إنسانية، وبروح إسلامية، وبنفس مهذّبة، حتى إذا ما ذهبوا إلى أيّ مكان، يثبتون علاوة إلى تفوّقهم البطولي، التفوّق في الأخلاق والآداب والإنسانيّة2.
التقدّم في الإنسانية
اعتمدوا على أنفسكم وكونوا مع الله بعزم وثبات واسعوا لأن تتقدّموا في الإنسانية قبل أيّ تقدّم آخر3.
• تربية الإنسان أساس العالم.
• أساس العالم قائم على تربية الإنسان4.
• إصلاح العالم قائم على تربية الإنسان.
• إذا ما صلح الإنسان صلح كلّ ما في العالم5.
• تربية الإنسان أصل فساد وصلاح العالم.
• إنسان واحد صالح يُمكن أن يُربّي عالَماً، وإنسان غير متربّ أو إنسان فاسد يجرّ العالم معه إلى الفساد6.
تأثير الإنسان على صلاح المجتمع وفساده
إذا بدّل الإنسان نفسه إلى إنسان تحت تربية الأنبياء فلا بدّ أن يصير إنساناً، والمجتمع
1 صحيفة الإمام، ج 20، ص 29.
2 م.ن، ج 12، ص 104.
3 م.ن، ج 15، ص 340.
4 م.ن، ج 14، ص 153.
5 م.ن، ج 10، ص 68.
6 م.ن، ج 9، ص 292.
27
19
الفصل الأول أهمّية تهذيب النفس وضرورته
أيضاً يرتقي تبعاً له. قد يؤدّي فرد واحد إلى فساد مجتمع وفي بعض الأحيان قد يؤدّي فرد واحد كذلك إلى إصلاح مجتمع1.
ضرر الإنسان غير المتربّي
إن ضرر الإنسان غير المتربّي على المجتمعات لا يفوقه ضرر أيّ شيطان وأيّ حيوان وأيّ موجود2.
السعي للوصول بالجهاد الأكبر إلى الكمال
اسعوا أنتم إلى أن تخدموا الشعب والإسلام. وابذلوا ما في وسعكم لتبلغوا بالجهاد الأكبر غايته إن شاء الله، وتكونوا إنساناً كاملاً، إنساناً إسلامياً، إنساناً ملتزماً، مفيدين لأنفسكم وبلادكم وشعبكم3.
1 صحيفة الإمام، ج 3، ص 394.
2 م.ن، ج 14، ص 153.
3 م.ن، ج 8، ص 301.
28
20
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
صناعة الإنسان هدف الأنبياء عليهم السلام
ما من موجود يفتن ويعيث في الأرض فساداً بقدر ما يفعل الإنسان، هذا الحيوان ذو القدمين، وما من حيوان محتاج إلى التربية بقدر ما يحتاج إليها هذا الحيوان ذو القدمين. لقد بُعث جميع الأنبياء منذ البدء وإلى الآن، حتى الخاتم، من آدم حتى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لغرض واحد وهو تبديل هذه الحيوانات إلى إنسان، الهدف هو هذا. جميع الكتب التي أُنزلت من السماء إلى الأنبياء، والتي أعظمها القرآن، تهدف إلى هذه الغاية نفسها، وهي إنقاذ أفراد هذا الإنسان الذين وقعوا في الظلمات، وغرقوا في الدنيا، ولا يفكّرون إلّا بأنفسهم، وكلّ ما يُريدونه هو لأنفسهم، لا يُفكّرون أصلاً بأن شيئاً آخر غيرهم موجود، إنّهم (الأنبياء) يريدون نجاة هؤلاء من هذه الظلمات، وإيصالهم إلى عالم النور، ظلمات كثيرة فوقها ظلمات، الآية الشريفة تشير إلى أنّه يوجد في هذه الجهة الظلمات ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾ وفي تلك الجهة النور1.
صناعة الإنسان طريق الأنبياء عليهم السلام
وتلك الطريق التي اتخذها الأنبياء كانت طريق التربية والتهذيب. لقد جاء الأنبياء لأجل الإنسان، جاؤوا لأجل بناء الإنسان ولم يكن لديهم عمل آخر. لقد جاؤوا لكي يهدوا الناس الذين هم على شاكلة الإنسان ولكنّهم يسيرون في الطريق الخاطئ، ليهدوهم إلى الصراط المستقيم2.
1 صحيفة الإمام، ج 11، ص 80.
2 م.ن، ج 15، ص 494 - 495.
31
21
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
طريق الأنبياء عليهم السلام هي طريق التربية والتعليم
العالم مدرسة، ومعلّمو هذه المدرسة هم الأنبياء والأولياء. ومربّي هؤلاء المعلّمين هو الله تبارك وتعالى. فالله سبحانه وتعالى قد ربّى وعلّم الأنبياء وأرسلهم لتربية كافّة الناس وتعليمهم.
بُعِث الأنبياء أولو العزم لكلّ البشر وهم معلّمو البشر ومربّوهم جميعاً، ومعلّم هؤلاء ومربّيهم هو الحقّ تعالى. فبعد أن تعلّموا الأحكام الإلهية وتربّوا أُمِروا بتربية البشر وتعليمهم.
لقد جاء في القرآن الكريم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾1، فيذكر الدافع من وراء البعث في هذه الآية، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى قد أرسل رسولاً من بين هؤلاء الأميّين والجهلة والذين لا عهد لهم بالتربية والتعليم الإلهي، حتى يتلو آيات الله عليهم، وبتلاوة آيات القرآن وبالتربية التي تلقّاها نفسه في ظلّ التعاليم الإلهية، يقوم بتربيتهم ويزكّيهم ويُعلّمهم الكتاب والحكمة. تشتمل هذه الآية على نكات كثيرة حول أهمّية تربية المعلِّم وأهمّية التعليم والتعلّم. ففي قوله ﴿هُوَ الَّذِي﴾ دلالة واضحة على مدى أهمّية هذا الموضوع وعظمته حتى نسبه إلى نفسه إذ يقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ﴾ رسولًا من بين الناس، وجميع العالم أميّون، حتى الذين تعلّموا حسب الظاهر علوماً وعرفوا صناعات واطّلعوا على مسائل، لكن في الحقيقة جميعهم أميّون وجميعهم في ضلال مبين في قبال تلك التربية الإلهية التي تتحقّق لهم على أيدي الأنبياء.
الطريق الوحيد للتربية والتعليم هو ذلك الطريق الذي أوحى به الله ربّ العالمين، إنّه فقط ذلك الطريق الذي بيّنه الحقّ، وذلك التهذيب المقترن بالتربية الإلهية، والتي يربّي الأنبياء الناس عليها. إنّه ذلك العلم الذي عرضه الأنبياء على البشر، ذلك العلم الذي يوصل الإنسان إلى كماله المطلوب. كما تبيّن الآية الكريمة: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾2، فالناس قسمان: قسم مؤمن، وهم الذين تربّوا على يد الأنبياء، وبواسطة تربية الأنبياء خرجوا من جميع الظلمات والمشاكل ودخلوا في النور والكمال المطلق. فهذه الآية توضح ميزان المؤمن وملاك الإيمان،
1 سورة الجمعة، الآية 2.
2 سورة البقرة، الآية 257.
32
22
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
وتفصل مدّعي الإيمان عن المؤمنين، فالمؤمنون هم الذين خرجوا من جميع الظلمات إلى النور ومن جميع النقائص وتجاوزوا جميع الموانع التي تقف في طريق الإنسان وذلك من خلال التربية الإلهية التي تلقّوها بواسطة الأنبياء الذين ربّاهم الله. فميزان المؤمن هو هذا. كلّ شخص قد خرج من جميع الظلمات بواسطة تعليم الأنبياء ووصل إلى النور المطلق هو المؤمن.
إنّ مدّعي الإيمان كثيرون، لكن المؤمنين قليلون، وأولئك الذين في الجهة المقابلة للمؤمنين ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ فوليّهم ليس الله بل الطاغوت، والطاغوت يُخرج الكفّار من النور ويوصلهم إلى الظلمات. فملاك المؤمن وغير المؤمن حسب هذه الآية الشريفة هو هذا. المؤمن الحقيقي قد اتبع الأنبياء وتربّى على أيديهم بحيث خرج من جميع الظلمات والنقائص ووصل إلى النور، فمعلِّمه ووليّه هو الله سبحانه وتعالى وبالواسطة هم الأنبياء. فالله خصّ الأنبياء بتربيته وهم جاؤوا لتربيتنا وتربية جميع البشر. فإذا ما تربّينا على أيديهم واستفدنا من العلوم التي جاؤوا بها للبشر ونهلنا من تعاليمهم، نصير على الصراط المستقيم ونهتدي إلى النور،ونهتدي إلى الله تبارك وتعالى الذي هو النور المطلق1.
هدف الأنبياء عليهم السلام معرفة النفس والله تعالى
فكلّ مشاكلنا ناشئة عن كوننا محجوبين عن مشاهدة الحقيقة كما هي ونظام الوجود كما هو. إنّنا نتوهّم أنَّ الحياة هنا شيء والعدم هنا نقص، في حين أنَّ الحياة هنا هي تنزّل تلك الحقيقة الآتية من عالم الغيب، وأنَّ الموت - إن كان موتاً إنسانياً - هو الرجوع إلى تلك المرتبة التي كانت أولاً، والمراتب والشؤون مختلفة بالطبع.
إنّ كلَّ ما جاء به الأنبياء لم يكن مقصوداً بذاته، فتشكيل الحكومة ليس هدفاً مقصوداً بذاته للأنبياء، والدعوات مهما تكن فإنّما هي لإيقاظ الإنسان، ولتفهيمه وإراءته كيف كان قبلًا وما هو الآن؟ وكيف سيكون فيما بعد؟ وكيف هو العالم بالنسبة للذات المقدّسة للحقّ تعالى؟ وإن أيدينا لتقصر عن الوصول إلى هذه المسائل، ونأمل ببركة أولياء الله أن نحصل نحن أيضاً على معرفة قليلة وتنزاح عن أعيننا بعض الحجب لنُدرك قول الله تعالى: ﴿اللَّهُ
1 صحيفة الإمام، ج 13، ص 503 - 505.
33
23
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾1، و﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾2 بقلبنا ووجودنا لا بالإدراك العلمي، بل بالمشاهدة، لأنَّ إدراكه العلمي أمر سهل، لكن الوصول إلى حيث يشهد الإنسان هذه الأمور أمر صعب ويحتاج إلى المجاهدة، وقد وصل الأنبياء والأولياء بمجاهداتهم إلى هذه الأمور3.
دافع البعثة تزكية النفوس
أولئك الذين يعتبرون أنّ البعثة هي بعثة إلهية وأنّ دافعها هو هداية جميع الخلق، عليهم أن يتوجّهوا إلى غاية البعثة، وأن ينتبهوا إلى الدافع وراءها والذي بيّنه الله تعالى في قوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾4 انتبهوا لماذا كانت البعثة، وما هو دافع البعثة وما الذي يحصل لو أنّ شخصاً خالف هذا الدافع؟
لقد كان الدافع وراء البعثة تزكية النفوس وتزكية النفوس إنّما تكون بانتفاء الأنانية، وانتهاء الإنّيّة ورؤية النفس، والقضاء على طلب الرئاسة، وزوال حبّ الدنيا، ليحلّ الله تبارك وتعالى وحبّه محلّ الجميع. إنّ غاية البعثة هي أن تحكم حكومة الله في قلوب البشر حتى تحكم بالتّالي في المجتمعات البشرية5.
تزكية النفوس لأجل إدراك الكتاب والحكمة
بعث فيكم رسولًا يتلو عليكم القرآن والآيات الإلهية، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾6، ولعلّ هذا هو غاية التلاوة، يتلو من أجل "التزكية" ومن أجل "التعليم" ومن أجل التعليم العمومي، تعليم هذا الكتاب نفسه وتعليم الحكمة التي هي من هذا الكتاب نفسه. إذاً غاية البعثة هي نزول الوحي ونزول القرآن وغاية تلاوة القرآن على البشر هي أن تحصل لهم التزكية وتُصفّى النفوس من هذه الظلمات الموجودة فيهم حتى تكون أرواحهم وأذهانهم بعد أن تُصفّى
1 سورة النور، الآية 35.
2 سورة الحديد، الآية 3.
3 صحيفة الإمام، ج 19، ص 285 - 286.
4 سورة الجمعة، الآية 2.
5 صحيفة الإمام، ج 14، ص 393.
6 سورة الجمعة، الآية 2.
34
24
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
نفوسهم قادرة على فهم الكتاب والحكمة. فالغاية هي التزكية من أجل فهم الكتاب والحكمة.
فلا تستطيع كلّ نفس أن تُدرك هذا النور المتجلّي والمتنزّل من الغيب والواصل إلى الشهادة. إنّ تعليم الكتاب والحكمة غير ميسّر طالما أنّه لا توجد تزكية، فيجب تزكية النفوس من كلّ التلوّثات، والتي أكبرها عبارة عن تلوّث نفس الإنسان بأهوائها النفسانية.
وما دام الإنسان في حجاب نفسه، لا يستطيع أن يُدرك هذا القرآن الذي هو نور وطبقاً لما ورد في القرآن فهو نور، ولا يستطيع الغارقون في الحجاب وخلف الحجب الكثيرة أن يدركوا هذا النور، هم يظنّون أنّهم يستطيعون، ولكنّهم لا يستطيعون. فلا يكون الإنسان أهلًا لكي ينعكس هذا النور الإلهي في قلبه ما دام غير قادر أن يخرج من حجاب نفسه الشديد الظلمة، ما دام أسيراً للأهواء النفسانية، ما دام أسيراً للأنانيات، وما دام أسيراً للأمور التي قد أوجدها في باطن نفسه من ظلمات ﴿بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ﴾1.
إنّ الذين يريدون أن يفهموا القرآن ومحتواه، وليس صورته النازلة الصغيرة، بل يريدون أن يفهموا محتوى القرآن بحيث إنّهم كلّما قرؤوا أكثر كلّما ارتفعوا أكثر وكلّما قرؤوا أكثر كلّما اقتربوا من مبدأ النور ومن المبدأ الأعلى، فهذا لا يمكن إلا برفع الحجب و"أنت حجاب نفسك" فيجب رفع هذا الحجاب حتى تستطيع أن تُدرك هذا النور كما هو، والإنسان لائق هذا الإدراك. إذاً فإحدى الغايات هي تعلّم الكتاب بعد التزكية وتعلّم الحكمة بعد التزكية.
إنّ أول آية نزلت على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في الروايات والتواريخ هي آية: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾2. فهذه الآية هي أول آية، بحسب ما نُقل، قرأها جبرائيل على الرسول الأكرم وقد دُعي فيها منذ البداية إلى "القراءة" والتعلّم. ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾3 وفي نفس هذه السورة ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾4. فهذه السورة هي أول ما نزل من الوحي وفي أول نزول للوحي وردت هذه الآية في هذه السورة ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾. فيُعلم من ذلك أنّ الطغيان ووجود الطاغوت من الأمور الأخطر والتي تقع على رأس الأمور، ومن أجل سحق الطاغوت يجب
1 سورة الزخرف، الآية 32.
2 سورة العلق، الآية 1.
3 سورة العلق، الآية 1.
4 سورة العلق، الآيتان 6 و7.
35
25
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
تعليم "الكتاب" و"الحكمة" وتعلّم "الكتاب" و"الحكمة" و"التزكية". فالإنسان هو هكذا، والوضع الروحي لكلّ الناس هو بهذا النحو، فبمجرّد أن يستغني أحد ما يطغى. فلو استغنى مالياً يطغى بنفس المقدار، ولو استغنى علمياً يطغى بنفس المقدار، ولو حصل على مقام فإنّه يطغى بنفس مقدار ذلك المقام. ففرعون الذي يُسمّيه الله تبارك وتعالى طاغية هو طاغ لأنّه حصل على المقام ولم يكن فيه دافع إلهي فجرّه هذا المقام إلى الطغيان. الأشخاص الذين يحصلون على الأمور الدنيوية بدون تزكية النفس، فبقدر ما يحصّلون منها فإنّ طغيانهم سوف يزداد، وإنّ وبال هذا المال وهذا المنال وهذا المقام وهذا الجاه وهذا المنصب هو من الأمور التي توقع الإنسان في الصعوبات والمحن في الدنيا، وفي الآخرة أكثر. إنّ غاية البعثة هي أن تُخلّصنا من أنواع الطغيان، وأن نُزكّي أنفسنا، وُنصفّي نفوسنا وننقذها من هذه الظلمات. فلو حصل هذا التوفيق للجميع، ستُصبح الدنيا نوراً واحداً كنور القرآن وتجلياً لنور الحقّ1.
تقدّم التزكية على تعليم الكتاب والحكمة
الله تبارك وتعالى يستخدم تعبير المنّة على الناس في موارد التزكية والتعليم والتربية والتعليم. لقد منّ الله، وبعث الرسول من أجل التربية والتعليم، وذكر التربية قبل التعليم، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾2 فالتزكية أولاً. بالطبع إذا ما أردنا الدخول في تفاصيل هذه الآية الشريفة فإنّ ذلك سيستغرق وقتاً طويلًا. ولكنّني أقول كلمة وهي أنّ هذه الآية الشريفة تُبيّن لنا موقع التعليم والتربية وهي تحتاج إلى شرح وتفصيل. فمن خلال تعبير ﴿مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ﴾ نفهم أنّ أساس بعثة النبي هو من أجل التربية والتعليم. يتلو الآيات، والآيات هي العلوم التي بها ينظر إلى كلّ شيء على أنّه آية، يتلو الآيات عليهم ويزكّيهم ويُطهّرهم ويُطهّر نفوسهم، وبعد أن يُطهّرهم ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾. التربية تسبق التعليم. فإن لم تسبقه ينبغي أن تُلازمه وأن تكون الأولوية لها. إذا لم تُزكَّ الأنفس وإذا لم تُطهّر ولم تتخلّص من تلك الأوصاف الفاسدة فإنّ العلم سيترك الأثر السيّئ عليها3.
1 صحيفة الإمام، ج 14، ص 388 - 390.
2 ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ سورة آل عمران، الآية 164.
3 م.ن، ج 12، ص 492.
36
26
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
القرآن كتاب الدعوة والإصلاح
اهتمّ القرآن وهو الكتاب الإلهي الحيّ بتهذيب الناس كما لم يهتمّ بأيّ شيء آخر، بل يُمكن القول بأنّ القرآن نزل بهذا الهدف لأنّ البشر كانوا محتاجين إلى هذا الأمر أكثر من أيّ شيء غيره. إنّ القرآن كتاب لبناء الإنسان في تمام المراحل التي يطويها الإنسان، فللقرآن دعوة وطريق في جميع المراحل. وجميع القصص الواردة في القرآن - والتي تكرّرت أحياناً لأهمية المسألة - كانت لإرشاد الناس ولأجل التهذيب. ليس القرآن كتاب الأحكام (الفقهية) فقد ذكر كلّيات وأصول الأحكام وليس بنحوها الكامل أيضاً. القرآن كتاب الدعوة وكتاب إصلاح المجتمع حيث إنّه بعد إصلاح المجتمع يجب العمل بسنّة النبي والأخبار الواردة عن الرسول الأكرم وأئمة الهدى ورواتهم. وعليه فهاتان النكتتان تؤدّيان إلى أن نهتمّ بأمر تهذيب نفوسنا لأنّه أهم الأمور عند الإسلام1.
تقوية الأبعاد المعنوية وإقامة العدل
لقد دعا القرآن إلى المعنويات بالقدر الذي يستطيع الإنسان الوصول إليه، ومن ثم إقامة العدل. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الذين كانوا لسان الوحي، مهتمّين بكلا الأمرين. وكانت سيرة الرسول تدل على ذلك أيضاً، حيث بقي يعمل على تقوية المعنويات إلى ما قبل تشكيل الحكومة. وما أن تمكّن من تشكيل الحكومة حتى عمل علاوة إلى المعنويات، على إقامة العدل. فقد شكّل الحكومة وأنقذ هؤلاء المحرومين من نير الظالمين بالقدر الذي تسنّى له من الوقت. وهذه السيرة المتواصلة للأنبياء، ينبغي أن يحرص عليها ويبقيها الذين يعتبرون أنفسهم أتباع الأنبياء، سواء في الجوانب المعنوية حيث يجب على أهل المعنويات العمل على تقوية الجوانب المعنوية لديهم ولدى الناس أيضاً، وعلى الناس الاهتمام بهذه الجوانب كذلك، أم فيما يتعلّق بإقامة العدل. فالحكومة الإسلامية مطالبة بإقامة العدل في نفس الوقت الذي تُصحّح فيه المعنويات وتروّج لها. ونحن إذا كنّا أتباع الإسلام وأتباع الأنبياء، فهذه هي سيرة الأنبياء المتواصلة. وإذا افترضنا استمرار بعثة الأنبياء إلى الأبد فلن تحيد سيرتهم عن ذلك، من
1 صحيفة الإمام، ج 15، ص 504.
37
27
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
تقوية الجوانب المعنوية في البشر بالقدر الذي يليق بهم، والاستمرار في إقامة العدل بين الناس وقطع دابر الظالمين. ونحن علينا أن نعمل على تقوية هذين الأمرين.
علينا جميعاً، نحن وكلّ الشعب وكلّ الناس، أن نعمل على تقوية الحكومة الإسلامية كي يتسنّى لها إقامة العدل، وعلى الحكومة الاهتمام بالجوانب المعنوية أيضاً، فلأنها تابعة للإسلام، يجب أن تكون على نهج الإسلام. وعلى نهج الإسلام يعني هذين الأمرين وهذين الطريقين اللذين في الإسلام، حفظ المعنويات وتقوية معنويات الناس، وإقامة العدل بينهم وإنقاذ المظلومين من أيدي الظالمين1.
ابتعاد الإنسان عن المفاسد والرذائل
لقد بُعث الأنبياء لأجل هذا الهدف، وهو تربية الإنسان، صناعة الإنسان، وتجنيب البشر أنواع القبائح والشرور والمفاسد والرذائل الأخلاقية، وتعريفهم بالفضائل والآداب الحسنة "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"2.
الدعوة إلى الصراط المستقيم والكمال الإنساني
إن سعي الأنبياء وفكرة البعثة في جميع القرون هو تربية هذا الموجود ﴿الإِنسَانَ﴾، هذا الموجود الذي يُمثّل عصارة جميع المخلوقات وبإصلاحه يتمّ إصلاح العالم وبفساده ينجرّ العالم إلى الفساد. كان سعي الأنبياء من البداية إلى النهاية هو دعوة هذا الموجود إلى الصراط المستقيم وشدّه إليه، ليس مجرّد الهداية والكلام فقط بل بالدلالة على الطريق وبكونهم القدوة في الأعمال والأفعال والأقوال من أجل إيصال هذا الموجود إلى كماله اللائق به3.
علاج النفوس، مقصد الشرائع الإلهية
كلّ الشرائع الإلهية مقصدها الأساسي هو نشر المعارف، وذلك لا يحصل إلا بعلاج النفوس وإبعادها عن ظلمة عالم الطبيعة وخلاصها إلى عالم النورانية4.
1 صحيفة الإمام، ج 17، ص 528.
2 الإمام روح الله الموسوي الخميني، الجهاد الأكبر، ص 12.
3 صحيفة الإمام، ج 14، ص 7 - 8.
4 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 271.
38
28
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
أدعية الأئمة عليهم السلام من جهة تهذيب النفس
إن هذه الأدعية تُهيّئ النفوس للتخلّص من العلائق التي تُكبّل الإنسان، والتحرّر من أسر تعلّقات عالم الطبيعة التي قادت الإنسان إلى الضياع والحيرة، وسلوك طريق الإنسانية. إن الطرق الأخرى ليست طريق الإنسان، فطريق الإنسانية هو الصراط المستقيم الذي أشار إليه الأئمة في أدعيتهم ومناجاتهم بطريقة واضحة بعد قصر اليد عن الدعوة العلنية.
لم يكن هدف الأنبياء السيطرة والاستيلاء، ولم يكن هدفهم كسب الدنيا وعمارتها بل كان هدفهم هداية أهل الدنيا وإرشاد هذا الإنسان الظلوم والجهول، الجاهل جداً، إلى الطريق القويم ليسلك منه. إن ذلك الطريق الذي يوصلكم إلى الله تبارك وتعالى هو هذا: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾1، من الدنيا إلى النهاية حيث كلّ العالم، من الدنيا إلى ما وراءها حيث النور المطلق. لقد جاء الأنبياء لإيصالنا إلى ذلك النور ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾2. والطاغوت هو في قبال الأنبياء وفي قبال الله3.
الخروج من الظلمات ودخول عالم النور
جاء الأنبياء لإنقاذنا نحن الذين لم نحظَ بالنور وقد أحاطت بنا الظلمات من كلّ جانب، ليخرجونا من هذه الظلمات المتنوّعة ويوصلونا إلى عالم النور حيث إنّكم إذا وصلتم إلى عالم النور، ستكونون نورانيين من قمة رؤوسكم حتى أخمص أقدامكم، تصبحون نوراً. يصير الكلام الذي تنطقون به نورانياً، الكلام الذي تسمعونه نورانياً. الأذن والسمع والبصر يكون نورانياً. لقد تركت كلّ سمعك ووجدت أذناً نورانية. أعرضت عن بصرك الظلماني ولقيت عيناً نورانية. العين التي تتوجّه بها إلى الله، والأذن التي تتوجّه بها إلى الله4.
1 سورة هود، الآية 56.
2 سورة البقرة، الآية 257.
3 صحيفة الإمام، ج 13، ص 34 - 35.
4 م.ن، ج 11، ص 384.
39
29
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
تحرُّر الإنسان من العلائق الدنيوية
الأنبياء بذلوا كلّ جهودهم من أجل تحرير هؤلاء الكفّار والمنافقين وهؤلاء المنحرفين وأسارى أغلال أنفسهم وأغلال تعلّقات الدنيا - وجميع المفاسد ناجمة عن ذلك - كان الأنبياء يريدون تحرير هؤلاء وكانت هذه المهمّة صعبة جدّاً. وهذه المهمّة لم تتحقّق على صعيد العموم (في السابق) حتى يمكن تحقّقها (فيما بعد). ومن الآن فصاعداً لن يتحقّق هذا المعنى كذلك. هذا الإنسان لن يصير آدمياً حتى نهاية المطاف. هناك مثل معروف يقول كم من السهل أن تُصبح عالماً (عالم دين) ولكن كم من الصعب أن تُصبح إنسانًا. وكان شيخنا1 رحمه الله يقول: ما أصعب أن تُصبح عالماً ومن المحال أن تُصبح إنساناً2.
علماء الدين ومسؤولية تبليغ دعوة الأنبياء
جميع الأنبياء هم معجزة، والجميع جاءوا لصناعة البشر. يريدون أن يسير البشر على الصراط المستقيم الإلهي، وأن يعيش البشر في سلام وصفاء وأخوّة. هذه هي وظيفة المرسلين الإلهيين الذين جاؤوا للأرض كي يرتقوا بالبشر من هذا العالم إلى العالم الأعلى. وعلماء الدين والروحانيون (في مختلف الأمم) لديهم وظيفة، علماء الدين المسيحيون، وعلماء الدين المسلمون، وعلماء الدين اليهود، جميع علماء الدين. وهذه الوظيفة هي التبعية التامة للأنبياء وللذين جاءوا لتربية البشر وإرساء أسس السلام والصفاء بين أفراد البشر. يحتل علماء الدين المرتبة الأولى في مجال تحقيق تطلّعات الأنبياء والتي هي الوحي الإلهي نفسه. فعلى علماء الدين تكليف إلهي، وهو تكليف أعظم وأكبر من تكاليف وواجبات سائر الناس. عليهم مسؤولية إلهية. إنّ علماء الدين مسؤولون إزاء الأنبياء وبين يدي الله تبارك وتعالى. إنّهم مسؤولون عن تبليغ تعاليم الأنبياء إلى الناس والأخذ بأيديهم وإنقاذهم من مشاكلهم3.
1 حضرة آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي 1276-1355هـ.ق.- من الفقهاء العظام ومراجع التقليد عند الشيعة في القرن الرابع عشر الهجري، يعتبر مؤسس الحوزة العلمية في قم سنة 1340 هـ.ق.
2 صحيفة الإمام، ج 14، ص 12.
3 م.ن، ج 11، ص 406 - 407.
40
30
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
الرشد وتربية أبعاد الوجود الإنساني
ارتقوا ببناء أنفسكم في جميع الأبعاد التي جاء الأنبياء لتربيتها وتكميلها، في الجانب العلمي بكلّ أبعاد العلم، والجانب الأخلاقي بكلّ أبعاد الأخلاق، تهذيب النفس وانعتاقها من زخارف الدنيا، فمنشأ كلّ الكمالات هو تخليص النفس من التعلّقات، وشقاء كلّ إنسان في تعلّقه بالمادّيات. إن تعلّق النفس بالمادّيات يُخرج الإنسان من ركب الإنسانية، والخروج من التعلّقات المادّية والتوجّه إلى الله تبارك وتعالى يوصلان الإنسان إلى مقام الإنسانية. ولأجل هاتين الجهتين كذلك قد جاء الأنبياء: إخراج الناس من التعلّقات، والتشبّث بمقام الربوبية1.
التعريف بمبدأ الوحي
الأ إنَّ جميع القضايا هي من أجل المعنويات. والأنبياءالذين جاؤوا ونشروا الأحكام إنما فعلوا ذلك من أجل تزكية الناس ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾2. الجميع جاؤوا من أجل تعريف الناس بمبدأ الوحي وبالسير إلى الله وهدايتهم إلى الصراط المستقيم3.
دعوة موسى عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تهذيب النفس
راعٍ ينهض بعصاه ويتوجّه إلى فرعون ويطلب منه أن يُسلِم ويُصبح إنساناً. ويتيم صغير... ينهض من الحجاز ويدعو جميع الأمم والشعوب أن تصل إلى الإنسانية كلّها. الهدف هو هذا، أن نصير إنساناً ولكن الأمر مع الأسف صعب.
هناك مثل يقول: "من السهل أن تُصبح عالماً ولكن من الصعوبة أن تُصبح إنساناً". وكان يقول المرحوم الشيخ عبدالكريم (الحائري اليزدي): "ما أصعب أن تُصبح عالماً ومن المحال أن تُصبح إنساناً، كأنّه محال. والأنبياء قد بعثوا ليجعلوا هذا المحال ممكناً4.
1 صحيفة الإمام، ج 8، ص 267.
2 سورة الجمعة، الآية 2.
3 صحيفة الإمام، ج 19، ص 51.
4 م.ن، ج 13، ص 35 - 36.
41
31
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
الإسلام وبناء الإنسان
جاء الإسلام أساساً للبناء، ونظره إلى بناء الإنسان، الجهاد من أجل البناء، وبناء الإنسان لنفسه مقدَّم على كلّ أنواع الجهاد. هذا ما سمّاه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم "الجهاد الأكبر". فهو إذاً جهاد عظيم وصعب، وكلّ الفضائل تأتي بتبعه. الجهاد الأكبر هو جهاد الإنسان مع نفسه الطاغوتية1.
تربية الإنسان المهذَّب الواعي
إنّ نظام الإسلام ليس نظاماً مادّياً. إنّه نظام مادّي- معنوي. والمادّية التي يقبلها الإسلام هي التي تكون في ظلّ المعنوية، أي المعنويات والأخلاق وتهذيب النفس. لقد جاء الإسلام لتهذيب الإنسان ولصناعته. كل المدارس التوحيدية جاءت لصناعة الإنسان وبنائه. إنّنا مكلّفون بصناعة الإنسان. أنتنّ أيّتها السيّدات اللاتي تحملتّن المشقّة وجئتنّ إلى هنا، إنّكنّ مكلّفات بصناعة الإنسان، مكلّفات بإعداد الإنسان المهذّب في أحضانكنّ.
إنّ هدف الإسلام وهدف جميع الأنبياء هو تربية الناس، وجعل الصورة البشرية إنساناً معنوياً وحقيقياً. المهم في نظر الأنبياء هو أن يصير الإنسان سليماً، وإذا ما تربّى الإنسان فكلّ الأمور تحلّ. البلد الذي فيه إنسان مهذّب لا يُعاني من مشاكل، لأنّ الإنسان المهذّب الواعي يقوم بتأمين جميع أبعاد السعادة للبلد. الإنسان المؤمن بالله تبارك وتعالى، الإنسان الملتزم، الإنسان المهذّب، يقطع يد الظالم2.
الأنبياء والنهي عن تمرّد الإنسان
لأجل هذا نزل القرآن، ولأجل هذا جاء الإسلام، من أجل أن يتربّى الناس، فلولا التربية لكانوا أشدّ افتراساً وإيذاءً من كلّ الحيوانات. الإنسان موجود إذا لم يخضع للتربية، فلن يُضاهيه حيوان ولا موجود في العالم خطورةً وإيذاءً. كلّ الأنبياء الذين بُعثوا جاؤوا لتربية هذا الموجود الذي لو أطلق عنانه لأفسد العالَم. وللأسف فإنّ الأنبياء بدورهم لم ينجحوا في تحقيق مهمّتهم3.
1 صحيفة الإمام، ج 8، ص 300.
2 م.ن، ج 7، ص 531.
3 م.ن، ج 12، ص 423.
42
32
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
توفير شرائط التهذيب
للإسلام أحكام وقوانين لكلّ هذه المراحل، لتربّي الإنسان فرداً كاملاً فاضلاً، يُجسّد القانون ويعمل على تطبيقه تلقائياً. ويتضح إلى أيّ حدٍّ يهتم الإسلام بالحكومة والعلاقات السياسية والاقتصادية للمجتمع، لكي يوفّر كلّ الظروف لأجل تربية الإنسان المهذّب الفاضل1.
النظام الاجتماعي العادل لأجل تربية الإنسان المهذّب
ينظر الإسلام إلى القانون بنظرة "آلية"، بمعنى أنّه يعتبره آلة ووسيلة لتحقّق العدالة في المجتمع، وواسطة للإصلاح الاعتقادي والأخلاقي وتهذيب الإنسان. فالقانون إنّما يكون لأجل التنفيذ وإحلال النظام الاجتماعي العادل من أجل تربية الإنسان المهذّب2.
التهذيب في رأس برنامج القرآن
جميع المسائل الواردة في الإسلام، وحتى مسائله السياسية، فإنّها جميعاً مسائل تهذيبية، لأجل صناعة الإنسان. يجب ألا نُسيّس اليوم جميع المسائل، بل يجب أن نضعها كلّها باتجاه المسائل الإسلامية وبخاصة التهذيب. أنتم تلاحظون بأن لحن القرآن في هذا الباب هو أكثر وآكد من كلّ الأبواب الأخرى، بعد عدّة آيات فيها القسم يأتي ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾3، وهذا يجعلنا نُدرك أنّ أساس المسائل، والذي به تصلح الأمور، هو التهذيب، وأنّ أساس جميع الانحرافات هو عدم التهذيب والدسّ في نفس الإنسان، الدسّ شيطان، ولذلك علينا أن نضع هذا في رأس أولوياتنا4.
1 الإمام روح الله الموسوي الخميني، ولاية الفقيه، ص 29.
2 م.ن، ص 73.
3 سورة الشمس، الآيتان 9 و10.
4 صحيفة الإمام، ج 15، ص 513 - 514.
43
33
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
حروب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأجل التهذيب
تلك الحروب التي خاضها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كانت دفاعاً أو ابتداءاً، كانت هي الأخرى آثار الرحمة الإلهية، لأجل تهذيب الشعوب. فأولئك الذين يُمكن تهذيبهم يجب أن يُهذّبوا وأولئك الذين يُشكّلون مانعاً من تهذيب الأمم يجب أن يُزالوا عن الطريق1.
أهداف الحروب الإسلامية
عندما يُصبحُ الإنسانُ إنساناً يَقومُ بجميع تلك الأعمال، يزرع ولكن لله، ويُقاتل لله. أولئك الذين قاموا بأعباء كُلِّ تلك الحروب ضدّ الكفّار والظالمين كانوا من أهل التوحيد وقُرّاء الأدعية، أكثرُ أولئك الذين كانوا في ركاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ركاب أمير المؤمنين عليه السلام كانوا من أهل العبادات الكثيرة. وحضرة أمير المؤمنين عليه السلام كان نَفْسُهُ يقومُ للصلاة في خضم اشتداد حمى القتال، المعركة دائرة ويؤدّي صلاته، يُقاتلُ ويُصلّي، وفي اشتداد القتال قام خطيباً مُتحدّثاً عن التوحيد عندما سَأَلَهُ أَحَدُهُم عن التوحيد، وعندما اعترض آخر بأنَّ الوقت غَيْر مُناسبٍ لمثل هذا أجاب عليه السلام: إنَّا لأجل هذا نُقاتل2، فحربنا ليست للدنيا، لم نُحارب معاوية لكي نتسلَّط على الشام. الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام لم يكن هدفهم (أهل) العراقَ والشامَ بل كانوا يريدون أن يصنعوا الإنسان من هؤلاء، كانوا يريدون أنْ يُنقذوا أرواح الناس من سُلطَةِ المستكبرين. هؤلاء هم أنفسهم أصحابُ الأدعية. الإمام علي عليه السلام نفسه الذي وَرَدَ عنه دُعاء كميل كان يقرأ دعاء كميل وكان هو نفسُهُ المقاتل3.
1 صحيفة الإمام، ج 15، ص 493.
2 نقل شريح بن هاني يوم وقعة الجمل، قال: إن أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إن الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه. قالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: "دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم"، الشيخ الصدوق، التوحيد, ص83، تصحيح وتعليق السيد هاشم الحسيني الطهراني، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، باب معنى الواحد والتوحيد والموحد، ص83، ح3.
3 الإمام الخميني، تفسير سورة الحمد، ص 147 - 148.
44
34
الفصل الثاني الأنبياء وتهذيب النفس
سعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام في تربية البشر
إنّ النبي الأكرم وأهل بيته المكرّمين صلى الله عليه وآله وسلم، قد صرفوا تمام أعمارهم في نشر الأحكام والأخلاق والعقائد، وهم أرادوا في ذلك بلوغ مقصدهم الوحيد وهو إبلاغ أحكام الله وإصلاح البشر وتهذيبهم، ولقد استساغوا في سبيل هذا المقصد الشريف أنواع القتل والسلب والإذلال والإهانة، ولم يتوانوا في ذلك1.
تزكية النفوس لتحقيق التوحيد
إنّ هدف القرآن والأحاديث هو تصفية العقول وتزكية النفوس لأجل تحقُّق المقصد الأعلى، التوحيد2.
1 الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص 631.
2 م.ن، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 11.
45
35
الفصل الثالث العلم وتهذيب النفس
تقدّم التزكية على التعليم
إنّ مسألة التربية أولى من مسألة التعليم، وفي الآية الكريمة ذُكرت تلاوة آيات القرآن كذلك ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾1، بمعنى إيصال تلك التعليمات اللازمة على طريق التربية والتعليم، وبعدها ذكر ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾. ويمكن الاستفادة من هذا الترتيب بأن مسألة تزكية النفس أكثر أهمّية من مسألة تعليم الكتاب والحكمة، وهي مقدّمة لأن يقع الكتاب والحكمة في نفس الإنسان. فلو قام الإنسان بتزكية نفسه وبتربيتها وفق توصيات الأنبياء عليهم السلام التي أهدوها للبشر، فإنّه بعد التزكية سيرتسم في نفس الإنسان الكتاب وكذلك الحكمة بمعانيها الحقيقية، ويصل الإنسان إلى الكمال المطلوب. ولذلك يقول في آية أخرى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾2. تُبيّن الآية بأنّ العلم وحده ليس له فائدة. العلم الذي لا تربية فيه ولا تزكية ليس له فائدة، فكما أنّ الحمار لا يستفيد من الكتب التي في خرجه، سواء كانت كتب التوحيد أو الفقه أو كتب معرفة الإنسان، ومهما كانت لن تكون ذات فائدة للحمار، كذلك حال الذين يخزنون شتّى أنواع العلوم والمعارف في باطنهم دون أن يقوموا بتربية نفوسهم وتزكيتها، فهؤلاء علومهم ليست لها أيّة فائدة، بل إنّها في أغلب الأحيان مضرّة. وفي كثير من الأحيان فإنّ ذلك الشخص العالم الذي يعرف كلّ شيء غير أنّه لم يقم بتزكية نفسه وتصفيتها وتربيتها بحسب التربية الإلهية، يكون علمه وسيلة لهلاك البشر. وما أكثر العلماء الذين يجلبون الفساد للبشرية، أولئك أسوأ من الجهّال. وما أكثر أصحاب الاختصاصات الذين جلبوا الهلاك والدمار للبشر، أولئك أسوأ من عامة الناس وضررهم أكبر، وكما يُبيّن القرآن ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾ بل هم أسوأ منه لأنّ علمهم يؤدّي إلى تدمير الآخرين.
1 سورة الجمعة، الآية 2.
2 م.ن، الآية 5.
48
36
الفصل الثالث العلم وتهذيب النفس
فعلى العاملين في مجال إعداد المعلّمين وكلّ من يعمل في هذا المجال أن يعلم أولًا بأنّ هذا العمل هو عمل إلهي. فالله سبحانه وتعالى هو مربّي المعلّمين الذين هم الأنبياء. فإذاً، أوّلاً العمل عمل إلهي، وثانياً إن التربية والتزكية متقدّمة على التعليم.
لو كان في مدارسنا وكلّياتنا وجامعاتنا وجميع المدارس التعليمية سواءً التي تُدرّس العلوم الإسلامية أو غير الإسلامية، (لو كان فيها) التربية والتزكية، لاستطاعت أن تُقدّم الخدمات وتهدي للبشرية السعادة، فكلّ سعادات البشر هي من العلم والإيمان والتزكية: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾1، فالإنسان، أصله هذا الحيوان الذي يدعى بالإنسان، وهو في خسران وضرر، إلّا طائفة واحدة، وهم أولئك الذين آمنوا بالله سبحانه وتعالى وبما أمر به، وعملوا الصالحات. وكان من آثار ذلك الإيمان أن ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾، يوصون بالحق وبالصبر، وإلّا إذا خرج من هذا الاستثناء ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فهو ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾، في خسران وضرر. اسعوا إلى تربية وتزكية أنفسكم قبل التعليم والتعلّم، اسعوا أن تكون التربية جنباً إلى جنب الدراسة والتعليم، وأن تكون كما هي بحسب الرتبة، متقدّمة على التعليم وتلاوة القرآن وتعلّم الكتاب والحكمة. فوظيفتكم تربية المعلّمين، المعلّمين الملمّين بكافة العلوم التي يحتاجها الإنسان والبشر سواءً في الدنيا أو في الآخرة، بالإضافة إلى ذلك وقبل كلّ ذلك يجب أن يكون في صلب عملكم تزكية النفس. وإذا لم يكن ذلك، فإنّ تربيتكم وتعليمكم إذا لم يجلب الضرر للبشر فإنه لن يجلب النفع لهم بل إنّه مضر.
إنّ جميع هذه الأضرار التي لحقت بالبشر وكلّ هذا الخسران الذي يواجهه البشر على هذه الكرة الأرضية هو بسبب العلماء الذين لديهم تخصّص لكن ليس لديهم أية تربية.
نحن إذا قمنا بتزكية أنفسنا وفق التربية الإسلامية وكان الله عزّ وجل وليّنا وليس الطاغوت، فإنّ هذه النقائص الموجودة في نقاط مختلفة من بلدنا وفي مختلف أنحاء العالم ستزول وتنعدم. فجميع الاختلافات التي تظهر - ما عدا الاختلاف بين الحق والباطل - هي بسبب أننا لم نُربّ أنفسنا ولم نُزكّها.
إنّ أكبر عدو لنا هو نحن، أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك. فنفس الإنسان هي العدو
1 سورة العصر، الآية 2.
49
37
الفصل الثالث العلم وتهذيب النفس
الأكبر له، فإذا لم يعمل على تربيتها وتزكيتها فإنّها ستسوقه إلى هلاكه وتدخله في الظلمات التي آخرها الظلام الأكبر الذي هو جهنّم. إنّنا إذا قمنا بتربية أنفسنا، فإنّ جميع مشاكلنا سوف تُحل، إذ إنّ جميع مشاكلنا سببها عدم تزكية أنفسنا وعدم خضوعنا للتربية الإلهية والانضواء تحت لواء الإسلام. وحسب الواقع فإنّ جميع هذه الأزمات التي تُشاهدونها وجميع الموانع التي تواجه شعبنا، سببها عدم وجود تربية في البين، وعدم وجود تزكية، ليس هناك إلا الجهل أو العلم الذي هو أكثر ضرراً من الجهل على الإنسان. لقد ذكر الله عزّ وجلّ ميزان العلم بواسطة الأنبياء، وواقع الأمر هو أنّ "العلم نور"، يقذفه الله في قلوب الناس، فإذا أوجد النورانية فهو العلم وإذا أصبح حجاباً للإنسان فذلك ليس العلم بل هو الحجاب "العلم هو الحجاب الأكبر".
فأنتم الذين تريدون أن تربّوا أنفسكم أو تربّوا المعلّمين، عليكم أن تجعلوا التربية على رأس كلّ الأمور وفي مقدّمتها، فنفوس الشباب مستعدّة لتقبّل أيّ شيء يُلقى فيها، فهي كمرآة مصقولة لم تنفصل عن فطرتها، وهذه المرآة تعكس كلّ ما يرتسم عليها. فإنّ كان المعلِّم معلِّماً يدعو إلى النور ويدعو إلى الصلاح وإلى الإسلام وإلى الأخلاق الحميدة والقيم الإسلامية والإنسانية، تلك القيم التي يرضاها الله، فإن فعل ذلك، كما كان الأنبياء يخرجون الناس من الظلمات إلى النور، فإنه أيضاً يخرج الشباب من الظلمات إلى النور، وعمله هو عمل الأنبياء عليهم السلام، ولو أن المعلّمين - لا قدّر الله- ساروا على خلاف طريق الحق والصراط المستقيم ولم يقوموا بتربية وتزكية أنفسهم فإنّ آراءهم وأفكارهم المنحرفة سترتسم على مرايا نفوس شبابنا وتحرفهم عن الطريق المستقيم إمّا شرقاً أو غرباً1.
العلوم مقدّمة للتوحيد القلبي
كما أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الشريف لكتاب الكافي حصر العلم في ثلاثة2، عبّر صلى الله عليه وآله وسلم عن القسم الأوّل الذي هو علم العقائد بالآية والعلامة المحكمة، والنكتة في هذا أنّ
1 صحيفة الإمام، ج 13، ص 505 - 508.
2 إشارة إلى الحديث النبوي الشريف: "إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل"، الشيخ الكليني، الكافي،ج1،ص32، كتاب العلم، باب صفة العلم،ح1.
50
38
الفصل الثالث العلم وتهذيب النفس
العلوم العقائدية أيضًا لا بدّ أن تكون آية إلهيّة ويكون المنظور والمقصود منها هو طلب الحقّ والبحث عن المحبوب المطلق، بحيث لو فرض أنّ متكلّمًا أو حكيماً صرف عمره في الشعب المتشتّتة والفنون المتكثّرة لعلم الكلام والحكمة بينما لم يكن العلم غاية إلهية وآلة لطلب الحقّ وحبّه فإنّ هذا العلم سيكون حجاباً بل حجاباً أكبر، ولا يكون علمه إلهياً ولا حكمته إلهيّة بل يكون القلب أكثر اعتناء، بعد البحث الكثير والقيل والقال الطويل، بعالم الطبيعة والكثرة وتكون الروح أشدّ تعلّقاً بأغصان الشجرة الخبيثة.
ولو فُرض أنّ عالماً بحث عن التوحيد والتجريد ولكن لم يكن باعث هذا العلم طلب الحقّ وحبّ الله تبارك وتعالى بل كان الداعي له هو نفس العلم وفنونه البديعة، بل النفس وشؤوناتها فلا يكون علمه آية وعلامة ولا حكمته حكمة إلهيّة بل نفسانية وطبيعية.
فما اشتهر عند العلماء أنّ قسماً من العلوم مطلوب في نفسه - والذي تقابله العلوم العملية1 - ليس صحيحاً في نظري القاصر، بل لجميع العلوم المعتبرة سمة المقدميّة، غاية الأمر أنّ كلّ واحد مقدّمة لشيء وعلى نحو خاص، فعلم التوحيد والتوحيد العلمي مقدّمة لحصول التوحيد القلبي الذي هو توحيد عملي، ويحصل بالتعمّل والتذكّر والارتياض القلبي.
وما أكثر الأشخاص الذين صرفوا العمر في التوحيد العلمي وصرفوا الوقت بالمطالعة والبحث والتعليم والتعلُّم ولكن لم يهتدوا إلى صبغة التوحيد ولم يصبحوا علماء إلهيّين أو حكماء ربانيين، بل تزلزلت قلوبهم أكثر من غيرهم وهذا لأنّ علومهم لم تكن متّسمة بسمة الآيتية، ولم يكن لهم شغل بالرياضات القلبية، وزعموا أنّ هذا الطريق يطوى بالمدارسة فحسب.
يا أيّها العزيز، إنّ جميع العلوم الشرعية مقدّمة لمعرفة الله تبارك وتعالى ولحصول حقيقة التوحيد في القلب التي هي صبغة الله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً﴾2، غاية الأمر أنّ بعضها مقدّمة قريبة وبعضها مقدّمة بعيدة وبعضها بلا واسطة وبعضها الآخر مع الواسطة. فعلم الفقه مقدّمة للعمل، والأعمال العبادية هي بنفسها مقدّمة لحصول المعارف وتحصيل التوحيد والتجريد، إن أُدّيت بآدابها الشرعية القلبية والقالبية والظاهرية والباطنية. ولا يمكن
1 نقل مثيل هذا الرأي عن الشيخ الرئيس أبو علي سينا في منطق الشفاء حيث يقول: "والفلسفة النظرية إنّما الغاية فيها تكميل النفس بأن تعلم فقط"، الشفاء،ج1،ص12،قسم المنطق، المقالة الأولى، الفصل 2.
2 سورة البقرة، الآية 138.
51
39
الفصل الثالث العلم وتهذيب النفس
مناقضة ذلك بالقول إنّه لم يحصل من عباداتنا طوال أربعين أو خمسين سنة أي معارف وحقائق والسبب أنّه لم يحصل من علومنا كيفية حتى ولا حال. ولم يكن وليس لنا أي ارتباط بالتوحيد والتجريد وهما قرّة عين الأولياء. وتلك الشعبة من علم الفقه والتي تتكفّل بسياسة المدن وتدبير المنزل وتعمير البلاد وتنظيم العباد هي أيضاً مقدّمة لتلك الأعمال1.
الوقوع في الغفلة والغرور جرّاء تحصيل العلم
ولا أدري إلى متى نبقى على هذه الحالة، يجب كَحَدٍّ أدنى أنْ نُهذِّب أنفسنا بحيث لا تكون هذه العلوم الرسميّة مانعةً لنا عن الله وذكر الله، وهذه مسألةٌ مُهمّةٌ أنْ لا يُصبح الاشتغالُ بالعلم سبباً للغفلة عن الله، وأن لا يَتَحَوَّلَ إلى عاملٍ لبعث الغرور فينا فيُبعدنا عن مبدأ الكمال.
هذا الغرور مَوجُودٌ لدى العلماء بمختلف الاختصاصات، سواء العلوم الماديّة والطبيعيّة أم العلوم الشرعيّة أم العلوم العقليّة، فما لم يكن القلبُ مُهَذّباً ظَهَرَ الغُرورُ الذي يَصُدُّ الإنسانَ بصورةٍ كاملةٍ عن الله. عندما يَنْهَمِكُ بالمطالعة يغرق فيها، وعندما يَقُومُ للصلاة يُؤدّيها بدون حضور. كان أحد أصدقائي رحمه الله يقول: لا أتذكّر الآن، اتركني إلى أنْ أقوم للصلاة لكي أتذكّر!!، كأنَّ الإنسان عندما يؤدّي الصلاة فهو ليس في الصلاة أصلاً، لا يتوجّه إلى الله وقلبه ليس مع الصلاة بل في مكانٍ آخر. قد يُفكّرُ أيضاً بكيفية حَلِّ مسألةٍ علميّةٍ، هذا العلم الذي هو مُقَدِّمة للوصول للغاية والمقصود، يَصُدُّ الإنسانَ عن الغاية والمقصود. هذا الأمر يَصدُقُ على العلوم الشرعيّة، علم التفسير وعلم التوحيد، فالقلبُ إذا لم يكن مُسْتَعِدّاً مُهَذَّباً يَتَحَوَّلُ فيه حتى علمُ التوحيد إلى غِلٍّ وَقَيدٍ يَصُدُّ الإنسانَ.
العلوم الشرعيّة جميعها وسائل، المسائل الشرعيّة جميعها وسائل للعمل، والعملُ أيضاً وسيلةٌ، جميعها وسائل الوصول للمقصد والغاية، وسائل لإيقاظ النفس، ولكي تخرج من هذه الحجب الظلمانيّة، هذه الحجب التي تجعلنا في ظلمات، تخرج من هذه الظلمات لتصل إلى الحُجُبِ النورانيّة، كما ورد في وصفها بأن "لله سَبْعِينَ ألْفَ حِجابٍ مِنْ نُورٍ (وظُلْمَةٍ)2 "،
1 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 8 - 10.
2 قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة"، مرصاد العباد،ص171، العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج55، ص45، تحقيق السيد ابراهيم الميانجي، محمد باقر اليهودي، نشر مؤسسة الوفاء - بيروت، ط2، 1983م، في تجديد المصافحة، ح25.
52
40
الفصل الثالث العلم وتهذيب النفس
وحتى تلك النوريّة فهي حُجُبٌ أيضاً، وَنَحْنُ بعد لم نخرج حتى من الحُجُبِ الظلمانيّة، لا زلنا نتقلقل في أطباقها ولا ندري ماذا ستكون العاقبة.
العلمُ لم يُؤثّر في نفوسنا سوى بالتأثير السيّء، هذه العلوم وتلك، الشرعيّة والعقليّة التي سمّاها المساكينُ بـ الذهنيّات، أي التي لا عينيّة لها، هي وسائل للوصول إلى المقصد والغاية، ولكن كُلّاً منها يصدُّنا عن المقصد، فلا يعود علماً بل حجاباً ظلمانيّاً، وهذا هو واقعُ كُلِّ علمٍ يحجز الإنسانَ عن الوصول إلى المقصد، وعن تحقيق ما بُعِثَ الأنبياء من أجله.
فبعثةُ الأنبياء هي من أجل إخراج الناس من هذه الدنيا ومن هذه الظلمات، وإيصالهم إلى مبدأ النور لا الأنوار، بل النور المطلق. الأنبياء جاؤوا من أجل إيصال الناس إلى الفناء في النور المطلق، وأنْ تفنى هذه القطرة في البحر (وبالطبع المثالُ ليس مُنطَبِقَاً)1.
حصول العلم بالتأويل على أثر التزكية
هذه الحقيقة واللطيفة الإلهية - أي العلم بالتأويل - تحصل بالمجاهدات العلمية والرياضات العقلية، مقرونة بالرياضات العملية، وتطهير النفوس، وتنزيه القلوب، وتقديس الأرواح، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾2، و ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾3، وإن كان الراسخون في العلم والمطهّرون على نحو الإطلاق هم الأنبياء والأولياء المعصومون4، ولذلك كان علم التأويل بجميع مراتبه مختصّاً بهم، ولكن لعلماء الأمّة أيضاً حظّ وافر من ذلك العلم يتناسب مع مرتبتهم في العلم والطهارة ، ولهذا نقل عن ابن عباس - رضي الله عنه - قوله: "أنا من الراسخين في العلم"5.
1 الإمام الخميني، تفسير سورة الحمد، ص 139 - 140.
2 سورة آل عمران، الآية 7.
3 سورة الواقعة، الآية 79.
4 الشيخ الكليني، الكافي،ج1،ص213 "كتاب الحجة"، "باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة عليهم السلام"، البحراني، تفسير البرهان، ج1، ص370.
5 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 61.
53
41
الفصل الثالث العلم وتهذيب النفس
حصول الإدراك القلبي على أثر التزكية
إنَّما تُذكر التزكية أوّلًا ويُذكر التعليم بعدها لأنَّ النفوس إذا لم تُزَكَّ فإنَّها لن تتمكّن من الوصول، فأذن الإنسان قد تسمع شيئاً، وعقله قد يُدرك أحياناً ويُقيم البرهان، وقد يضمّ إلى جانبه مسائل عرفانية، لكن ما ينبغي على القلب أنْ يجده أمر صعب، إذ كيف نجد الطموحات التوحيدية والطموحات العرفانية التي بعث بها الأنبياء عليهم السلام كيف نجدها وندخلها قلوبنا، ثم تدخل بعد ذلك في شهودنا. هذه المسألة التي تحتاج إلى رياضات بعد التعليم والتعلّم، تحتاج إلى التزكية، وإلى جانب التزكية يأتي التعلّم والحكمة، وتتبعها المسائل التي تطرأ على النفوس المستعدّة، وهذا يوجد تحوّلًا في النفوس بحيث لو وصلت إلى ذلك المقام لأدركت الأشياء كما هي "اللهمّ أرني الأشياء كما هي"1، وهذا ما أراده العظماء والأنبياء2.
العلم والتهذيب أساسا تحصيل مقام الإنسانية
إنّني أسأل الله تبارك وتعالى توفيقكنّ أيّتها النساء وأيّتها الأخوات الساعيات في العلم وكذلك في العمل وفي تهذيب الأخلاق. فكما أنّ العلم لوحده لا ينفع فإنّ التهذيب الأعمى لوحده لا ينفع هو الآخر، إنّ العلم مع تهذيب النفس هو الذي يوصل الإنسان إلى مقام الإنسانية. وإنّني أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقكنّ وسائر الأخوات في أرجاء إيران وأن يوفّق الإخوة كذلك للسير بجناحي العلم والعمل مع الأخلاق الإسلامية إلى الأمام وأن يُطبّق الإسلام في إيران كما يريده الله تبارك وتعالى3.
العلم والعمل جناحا ترقّي الإنسان
العلم وحده لا أثر له، بل ربّما أَضرّ، والعمل بلا علم لا نتيجة له، فالعلم والعمل جناحان يصل بهما الإنسان إلى الإنسانية. العلم بكلّ الشؤون والعمل - النفساني والجسماني والعقلاني - يوصلان الإنسان إلى مراتب الإنسانية. والأمل أنْ تلتفتوا أنتم أيّها السادة إلى هذا المطلب
1 في عوالي اللئالي، للإحسائي، ج4،ص132، ذكر الحديث: "اللهم أرنا الحقائق كما هي". وفي التعليق عليه نقل عن التفسير الكبير للفخر الرازي،ج6،ص24 ومرصاد العباد،ص309،كالتالي: "أرنا الأشياء كما هي".
2 صحيفة الإمام، ج 19، ص 225.
3 م.ن، ج 18، ص 405.
54
42
الفصل الثالث العلم وتهذيب النفس
خلال الدراسة، وتُنزّهوا أنفسكم في المدارس عن تعلّقات الدنيا، فكلّ بلاءات البشر من هذه التعلّقات1.
تحصيل السعادة على أساس العلم والتهذيب
لقد أكّد الأنبياء كثيراً على التربية وكانوا يسوقون الناس باتجاه تهذيب أنفسهم أكثر ممّا سعوا في تعليمهم، وذلك لأنّ فائدة التربية أكثر، وبالطبع لقد كان العلم موضع اهتمام الأنبياء جميعاً، لكنّهما يجب أن يكونا معاً فالتهذيب والتعليم جناحان، فإذا أراد شعب أن يطير نحو السعادة، عليه أن يطير بكلا الجناحين2.
العلم والمعنويات يجلبان السعادة
ليست بالحرّية وحدها سعادة الأمة، وليست بالاستقلال وحده سعادة الأمة، وليست بالمادّيات وحدها سعادة الأمة، فهذه جميعها في ظلّ المعنويات تُحقّق السعادة. المعنويات هي الأهمّ. اسعوا إلى كسب المعنويات. العلم وحده لا فائدة فيه. إنّ العلم مع المعنويات يكون علماً، والأدب وحده لا فائدة فيه، وإنّما الأدب مع المعنويات. المعنويات هي التي تضمن السعادة التامة للبشر، فاسعوا لكسب المعنويات. أثناء تحصيل العلم، حصِّلوا المعنويات. لتكن في الجامعات معنويات، لتكن في المدارس معنويات، لتكن في أماكن التعليم معنويات، حتى تصيروا إن شاء الله سعداء3.
تقوية توأما العلم والأخلاق
المهمّ هو أن يكون جناحا العلم والعمل معاً، فالعلم بدون عمل غير مفيد بل هو مضرٌّ، ولعلّ أكثر المصائب التي حلّت بالبشر ناشئة عن العلم، وكلّ هذا الخراب الذي حلّ بالدنيا إنّما نتج عن عدم اقتران العلم بالتهذيب، إن لديهم علماً ولكنّهم غير مهذّبين، فلو أردتم خدمة الإسلام وخدمة وطنكم وحفظ استقلالكم وأن لا ترتهنوا لأية جهة، عليكم أن تقوّوا أواصر العلم وكذلك تجتهدوا في تهذيب الأخلاق وتحسين العمل أيضاً4.
1 صحيفة الإمام، ج 8، ص 267 - 268.
2 م.ن، ج 16، ص 501.
3 م.ن، ج 7، ص 534.
4 م.ن، ج 19، ص 325.
55
43
الفصل الثالث العلم وتهذيب النفس
الانتصار على أساس التحصيل والتهذيب
إذا كنتم تمتلكون في المراكز التي أنتم فيها هدفاً صحيحاً وغاية صحيحة وتعملون لأجل بلوغ تلك الغاية ولأجل الوصول إلى ما يُريده الله تبارك وتعالى وهو تهذيب النفس وعبادة الله وإبعاد كلّ أنواع الشرك والإلحاد عن أنفسكم وعن مراكزكم، إذا كنتم كذلك فستنتصرون. فجميع أنواع الفساد والمشاكل التي تواجه أي بلد، هي بسبب أنّ مراكز التعليم والتعلّم فيه ليست مراكز للتهذيب. لا يوجد فرق بين المدارس التعليمية القديمة والحديثة. إذا لم يكن تهذيب والتزام وما لم يعرف الإنسان طريقه وصراطه المستقيم وإذا لم يكن هدفه وغايته نفس الغاية الإسلامية للتعليم فهذا نفسه باعث على الانحراف وهذا الذي يأخذنا نحن والدول الإسلامية إمّا يميناً وإمّا شمالاً1.
تجلّي نورانية العلم في القلب المهذّب
هذّبوا أنفسكم، تهذّبوا بآداب الله، بسنن الله، فإن لم يكن ذلك لن يكون للعلم أثر فيكم.
إنّكم إن لم تكونوا مهذّبين لن تحصلوا على ذلك النور الذي "يقذفه الله في قلب من يشاء"2. ذلك العلم الذي يستتبع النورانية، ذلك العلم الذي هو نور، والله يهبه تبارك وتعالى، لا يشمل كلّ القلوب، إذ لا يليق به كلّ قلب. فما لم يُهذّب ذلك القلب، وما لم يُفرّغ من الأخلاق القبيحة ومن الأعمال السيئة، وما لم يتوجّه إلى الله ويسلم إلى الله سبحانه وتعالى بالكامل، فإنه جلّ وعلا لن يقذف ذلك النور فيه، فهذا الأمر لا يتمّ عبثاً، ولا يحصل بالحرص على المعرفة بدقائق العلوم، فالغزالي كان عالماً جيداً جدّاً بدقائق العلوم، وكذا كان أبو حنيفة والكثير غيرهم، هناك الكثير ممّن يحيطون بدقائق العلوم بنحو أفضل من الجميع، لكن الباري تبارك وتعالى لم يتلطّف عليهم بذلك النور. فهذا يحتاج إلى التهذيب. وهذا يسلتزم بذل الجهد والرياضة. وأنتم أيها السادة ما دمتم قد دخلتم في هؤلاء القوم فعليكم بالتريّض وبذل الجهد، وعليكم بالمراقبة3.
1 صحيفة الإمام، ج 14، ص 3 - 4.
2 إشارة إلى حديث عنوان البصري عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس العلم بالتعلّم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه". العلامة المجلسي، بحار الأنوار،ج1،ص225, كتاب العلم، باب آداب طلب العلم، ...، ح17.
3 صحيفة الإمام، ج 2، ص 38 - 39.
56
44
الفصل الثالث العلم وتهذيب النفس
طلب العلم لله
انتبهوا أعزّائي لتدخلوا في جند الله، فالدرس وحده لا يُدخل الإنسان في جند الله. العلم وحده - العلوم القانونية خاصّة - لا يوصل الإنسان إلى مراتب الإنسانية. يجب أن يكون، لكن يجب أن يقترن به التوجّه إلى الغيب. ادرسوا لله. لقد بدأتم من الصفر، وآمل أن تمضوا إلى اللامتناهي، امضوا إلى حيث لا ترون غير الله، وترون كلّ شيء منه، وكل أحد مظهراً له1.
1 صحيفة الإمام، ج 8، ص 269.
57
45
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
الحوزة وتهذيب النفس
أنتم أيّها السادة السالكون سبيل الإسلام والعِلم، المتلبّسون بلباس الإسلام والأنبياء والرُّوحانية، لا تظنّوا أنّ الدرس مفيد لكم من دون أن تكون القراءة باسم الربّ. فهو مضرّ حيناً، وباعث على الغرور حيناً، ومبعد للإنسان عن الصراط المستقيم حيناً. أصحاب البدع كان أكثرهم من أهل العلم، وأولئك الذين دعوا بخلاف الواقع كان أكثرهم من أهل العلم، فلأنّ علمهم لم يكن قراءة باسم الربّ، كان ذا انحراف منذ البدء. وهذا الطريق المنحرف كلّما امتدّ إلى الأمام ازداد انحرافاً وبعداً عن الإنسانية. فكم من امرئ رآه الناس الفيلسوف الأعظم، والفقيه الأكرم، يعلم كلّ شيء، خزّان العلوم، لكن لأنّ قراءته لم تكن باسم الربّ ازداد بعده عن الصراط المستقيم وعن الجميع. وكلّما ازداد التخزين زاد الوِزر، وكلّما كبر الخزّان اشتدّ الوِزر وازدادت ظلماته: ﴿بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾1، يكون العلم ظُلْمة حيناً لا نوراً. ذلك العلم الذي يشرع باسم الربِّ يكون فيه نور الهداية. وذلك العلم الذي يحصل ابتغاء التعلّم، فحسنه هو أن صاحبه يريد أن يتعلّم، وإلا فمن يقول بأنّني أُريد منصباً، أو أن أكون إمام جماعة، أو أن أكون خطيباً، أو أن أكون مقبولًا لدى العامّة محبوباً لدى الناس، فهذا انحراف. هذه كلّها انحرافات، وكلُّها دقيقة! الصراط المستقيم بحسب ما وُصِف أدقّ من الشَّعرة، إنّه في غاية الدقّة. فكم من إنسان أفنى عمراً في الرياء وهو لم يدرِ؟ كان كل ما عمله رياء طوال عمر بأكمله ولم يفهم أنه كان رياءً، إنّه دقيق لدرجة أنّ الإنسان نفسه لا يدري! يوجد موازين لذلك، أولئك الذين هم أهل العمل لم يعينوا الموازين حتى نفهم نحن من وماذا ونشخّص أنفسنا. في علم الأنبياء الذي هو علم صناعة الإنسان توجد الموازين2.
1 سورة النور، الآية 40.
2 صحيفة الإمام، ج 8، ص 328 - 329.
61
46
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
التأدُّب بالأخلاق والأعمال الحسنة
يتحتّم على أهل العلم ـ زادهم الله شرفاً وعظمة ـ أن يتبرّؤوا من المفاسد الأخلاقية والعملية، وأن يزيّنوا أنفسهم بحلية الأعمال الحسنة والأخلاق الكريمة، وأن لا يخلعوا أنفسهم عن المكانة الشريفة الذي أنعم الله تعالى بها عليهم، إذ إنّ خسران ذلك لا يعلمه إلا الله1.
تهذيب الظاهر والباطن بواسطة العلوم الدينية
أُقسم بروح الحبيب، أنّ العلوم الإلهية والدينية إذا لم تهدنا إلى طريق الصلاح والاستقامة، ولم تُهذّب بواطننا وظواهرنا، فإنّ أحقر الحِرف الدنيوية أفضل منها، لأن نتائج الحرف الدنيوية عاجلة ومفاسدها أقلّ، في حين أنّ العلوم الدينية إذا اتخذت وسيلة لإعمار الدنيا كانت بيعاً للدين، ووزر بيع الدين ووباله أشدُّ وأفظعُ من كلّ شيء2.
وجوب التهذيب بالتلازم مع طلب العلوم الدينية
إنّ اكتساب الفضائل والمكارم الإنسانية وتحقيق المعايير الآدمية هو من التكاليف الصعبة والعظيمة جدّاً الملقاة على عاتقكم. فلا تتصوّروا أنّكم بانشغالكم الآن بطلب العلوم الشرعية ودراسة الفقه الذي هو أشرف العلوم، قد ارتحتم وعملتم بواجبكم وتكليفكم. فإذا لم يتوافر الإخلاص وقصد القربى، فإنّ هذه العلوم لا تنفع شيئاً.
إذا كان تحصيلكم العلمي لغير الله والعياذ بالله، وبدافع الأهواء النفسية والاستحواذ على المراكز الاجتماعية والوجاهة الدنيوية، فإنّكم لن تجنوا غير الوزر والوبال.. إنّ هذه المصطلحات إن لم تكن لوجه الله تعالى، فستكون وزراً ووبالاً. إنّ هذه المصطلحات مهما كثرت وعظمت، إذا لم تكن مقرونة بالتهذيب والتقوى فإنّها سوف تنتهي بضرر دنيا مجتمع المسلمين وآخرتهم.
1 الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص 190.
2 م.ن، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 342.
62
47
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
إنّ مجرّد تعلُّم هذه المصطلحات لا يُجدي نفعاً. كما أنّ علم التوحيد إذا لم يقترن بصفاء النفس سيكون وبالاً. فما أكثر الأشخاص الذين كانوا علماء في علم التوحيد ولكنّهم كانوا سبباً في انحراف جموع غفيرة من الناس.. وكم من الأشخاص كانوا يتقنون هذه الدروس التي تدرسونها بنحو أفضل منكم، ولكن نظراً لأنّهم كانوا منحرفين ولم يصلحوا أنفسهم ويُهذّبوها، فإنّهم عندما نزلوا إلى المجتمع أضلّوا الناس وأفسدوا كثيرين.
فإذا تجرّدت هذه المصطلحات الجافّة من التقوى وتهذيب النفس، فإنّها كلّما تكدّست في الذهن أكثر، تعاظم التكبّر والغرور في دائرة النفس أكثر فأكثر. وإنّ عالِم السوء الذي سيطر عليه الغرور والتكبّر، لا يتمكّن من إصلاح نفسه والمجتمع، ولا يجلب غير الضرر للإسلام والمسلمين. وسوف يُصبح بعد سنين من طلب العلم وإنفاق الحقوق الشرعية والتمتّع بالحقوق والمزايا الإسلامية، عقبة في طريق تقدُّم الإسلام والمسلمين، ووسيلة في تضليل الشعوب وانحرافها، وتُصبح ثمرة كلّ هذه الدروس والبحوث والانشغال في الحوزات، أن يحول دون نشر الإسلام وإطلاع العالم على حقائق القرآن. بل قد يُصبح وجوده حائلاً دون تعرُّف المجتمع على الإسلام وعلماء الدين.
أنا لا أقول: لا تدرسوا، لا تكتسبوا العلم، بل ينبغي أن تلتفتوا إلى أنّكم إذا أردتم أن تكونوا أبناء مفيدين وفاعلين للإسلام والمجتمع، وأن تتولّوا قيادة الأمة وتوعيتها بالإسلام، وإذا أردتم أن تدافعوا عن حمى الإسلام وتذودوا عن حياضه، ينبغي لكم أن تعزّزوا قواعد الفقاهة وأن تُصبحوا من أصحاب الرأي فيها. فإذا لم تدرسوا فإنه يحرم عليكم البقاء في المدرسة، ولا يُمكنكم الاستفادة من الحقوق الشرعية المخصّصة لدارسي العلوم الإسلامية. طبعاً إنّ كسب العلم واجب، ولكن مثلما تجدّون وتجتهدون في المسائل الفقهية والأصولية يجب أن تسعوا في طريق إصلاح أنفسكم أيضاً. فأيّ خطوة تخطونها على طريق تحصيل العلم، ينبغي أن تُقابلها خطوة أخرى على طريق استئصال الأهواء النفسية الخبيثة وتعزيز القوى الروحية واكتساب مكارم الأخلاق وتحصيل المعنويات والتقوى1.
1 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 8 - 9.
63
48
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
تهذيب النفس أوجب الأعمال لطلاب العلم
يجب على طلّاب العلوم الدينية، والسالكين لهذا السبيل المحفوف بالمخاطر، أن يكون أول ما يضعونه بعين الاعتبار، إصلاح أنفسهم أثناء الدراسة وأن يُقدّموه مهما أمكن على كلّ شيء، لأنّه أوجب كلّ الواجبات العقلية والفرائض الشرعية وأصعبها1.
ضرورة التهذيب مع التحصيل
ما أُريده منكم هو أن تنشغلوا بجدّية بالدراسة والبحث، ولا تغفلوا بأيّ وجه، وأن تجتهدوا أثناء الدراسة بتهذيب الأخلاق وتحكيم مباني الدِّين المقدّس2.
السعي في تحصيل الفضائل
على السادة المجدِّين في تحصيل العلم أن يكونوا كذلك مجدِّين في تهذيب الأخلاق والأعمال والعقائد والفضائل الأخلاقية، فالعلم بلا عمل ولا تقوى مضرّ في أغلب الأوقات. فالعالم يجب أن يكون متقياً وذاكِراً لله تبارك وتعالى ليستطيع تربية المجتمع. ويجب أن يُربِّي نفسه ليقدر على تربية المجتمع3.
ضرورة وجود معلّم
يجب أن تتيقّظوا. عليكم أن تضعوا برنامجاً لتهذيب النفوس وتزكيتها وإصلاح الأخلاق. وليتخذ كلّ واحد منكم مدِّرساً للأخلاق، وشكِّلوا مجالس الوعظ والخطابة والنصح والإرشاد. فالإنسان وحده يعجز عن تهذيب نفسه.
وإذا ما بقيت الحوزات العلمية هكذا خالية من مربّي الأخلاق ومجالس الوعظ والإرشاد فستكون محكومة بالفناء.
1 الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص 420.
2 صحيفة الإمام، ج 2، ص 317.
3 م.ن، ج 8، ص 303.
64
49
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
فكيف يحتاج علم الفقه والأصول إلى أستاذ ودرس وبحث، وكل علم وصناعة في الدنيا لا بدّ لها من أستاذ ومدرِّس، -الشخص المتعنّت والفرداني لا يتخصّص في مجال ولا يُصبح فقيهاً أو عالماً!- ولا يكون الأمر كذلك في العلوم المعنوية والأخلاقية التي هي هدف بعثة الأنبياء ومن ألطف العلوم وأدقّها؟! كيف لا تحتاج إلى تعليم وتعلُّم وأنّى يُمكن تحصيلها بدون معلِّم؟! لقد سمعت مراراً أن سيّداً جليلاً كان معلِّم الأخلاق والمعنويات لأستاذ الفقه والأصول المرحوم الشيخ الأنصارى1.2
ضرورة التوجّه إلى الأخلاق والعلوم المعنوية
ها قد انقضت سنة أخرى من أعمارنا.. أنتم الشباب تسيرون نحو الهرم والشيخوخة، ونحن الشيوخ نقترب من الموت. فأنتم على علم بمدى التقدّم العلمي الذي أحرزتموه وحجم المعارف التي اكتسبتموها في هذا العام الدراسي. ولكن ما الذي فعلتموه بالنسبة لتهذيب الأخلاق وتحصيل الآداب الشرعية والمعارف الإلهية؟ أيّة خطوة إيجابية خطوتم؟ هل كنتم في صدد تهذيب أنفسكم وإصلاحها؟ وهل كان لديكم برنامج في هذا المجال؟ للأسف لا بدّ لي من القول بأنّكم لم تنجزوا عملاً يستحقّ الذكر، ولم تقطعوا شوطاً يُذكر على طريق إصلاح نفوسكم وتهذيبها.
إنّ الحوزات العلمية بحاجة إلى تعليم وتعلّم المسائل الأخلاقية والعلوم المعنوية جنباً إلى جنب مع تدريس الموضوعات العلمية. فالإرشادات الأخلاقية وتربية القوى الروحية ومجالس الوعظ والإرشاد أمور ضرورية لها. ينبغي أن تكون البرامج الأخلاقية والإصلاحية، وصفوف التربية والتهذيب، وتعليم المعارف الإلهية التي هي الهدف الأساس من بعثة الأنبياء عليهم السلام رائجة وشائعة في الحوزات العلمية.
1 السيد علي الشوشتري، هو السيد علي بن السيد محمد المتوفى عام 1283هـ- من كبار زهّاد وعرفاء عصره. وقد أجازه كلٌّ من الشيخ الأنصاري والسيد الحسين إمام جمعة شوشتر. اشتغل فترة في القضاء والإفتاء في مدينة شوشتر، ثم هاجر إلى النجف الأشرف ليحضر دروس الشيخ الأنصاري في الفقه. وكان الشيخ بدوره يحضر دروس السيد في الأخلاق. وكان السيد وصيّ الشيخ الأنصاري، وبعد وفاة الشيخ حلّ محلّه في التدريس. كذلك كان المرحوم السيد علي أستاذ ومربي الآخوند ملا حسين قلي الهمداني الذي كان لديه تلامذة كثيرون وكان يتولّى إرشادهم، وإن أساتذة كباراً نظير الميرزا جواد ملكي التبريزي، والسيد أحمد الكربلائي، والشيخ محمد البهاري، والسيد علي قاضي التبريزي، والعلامة الطباطبائي، هم من خرّيجي مدرسته.
2 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 11 - 12.
65
50
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
ولكن ما يؤسف له أنّ هذا النوع من المسائل المهمّة والضرورية قلّما يتمّ الاهتمام بها في المراكز العلمية. فالعلوم المعنوية والروحانية بدأت تتضاءل، وبات يخشى أن لا تتمكّن الحوزات العلمية في المستقبل من تربية علماء أخلاق ومربّين مهذّبين ومتّقين ورجالاً إلهّيين، إذ لم يبق البحث والتحقيق في المسائل المقدماتية مجالاً للاهتمام بالمسائل الأصلية والأساسية التي ركّز عليها القرآن الكريم واهتمّ بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الأنبياء والأولياء عليهم السلام.
من المفيد أن يهتمّ الفقهاء العظام والمدرّسون الأعلام ممّن هم محطّ اهتمام المجامع العلمية، بتربية الأفراد وتهذيبهم خلال تدريسهم وأبحاثهم، وأن يركّزوا أكثر على القضايا المعنوية والأخلاقية. كما ينبغي لطلبة العلوم الدينية أن لا يتوانوا في اكتساب الملكات الفاضلة وتهذيب النفس، وأن يهتمّوا بالواجبات المهمّة والمسؤوليات الخطيرة الملقاة على عاتقهم.
أنتم الذين تدرسون اليوم في هذه المراكز العلمية وتتطلّعون لأن تتسلّموا في الغد زمام قيادة المجتمع وهدايته، لا تتصوّروا أنّ واجبكم هو أن تحفظوا حفنة من المصطلحات وحسب، بل تقع على عاتقكم مسؤوليات أخرى أيضاً. ينبغي لكم أن تبنوا أنفسكم وتربّوها في هذه الحوزات بحيث إذا ما ذهبتم إلى مدينة أو قرية وفّقتم إلى هداية أهاليها وتهذيبهم. يؤمل منكم عند مغادرتكم الحوزات العلمية أن تكونوا قد هذّبتم أنفسكم وبنيتموها حتى تتمكّنوا من بناء الإنسان وتربيته وفقاً لأحكام الإسلام وتعاليمه وقيمه الأخلاقية. ولكن إذا ما عجزتم ـ لا سمح الله ـ عن إصلاح أنفسكم خلال مراحل الدراسة، ولم تكتسبوا الكمالات المعنوية، فإنّكم أينما ذهبتم ستضلّون الناس ـ والعياذ بالله ـ وتسيؤون إلى الإسلام وإلى علماء الدين.
ضرورة وجود حوزات أخلاق جنبًا إلى جنب علم الفقه والفلسفة
ما لم يكن التهذيب في البين فحتى علم التوحيد لا جدوى منه، "العِلمُ هو الحجاب الأكبر". ومهما اختزن الإنسان في ذهنه وقلبه من العلم، حتى وإن كان علم التوحيد الذي هو أشرف العلوم، فما لم يكن الإنسان مهذّباً، فإنّ هذا العلم سيزيده بعداً على بعد عن الله تبارك وتعالى. فيجب العمل في هذه الحوزات العلمية على الاهتمام بمسألة التهذيب سواءً الآن أو فيما بعد، فلتكن إلى جانب علم الفقه والفلسفة وأمثالها حوزات الأخلاق، حوزات التهذيب والسلوك إلى الله تعالى.
66
51
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
أتعلمون من حاكم الشيخ فضل الله نوري1؟ إنه أحد المعمّمين الزنجانيين2، إنّ الذي حاكمه وأصدر الحكم بقتله هو عالم دين زنجاني، فعندما لا يكون عالم الدين مهذّباً سيكون فساده أكبر من أيّ شخص آخر. وقد ورد في بعض الروايات أنّ أهل جهنّم يتعذّبون من الرائحة العفنة لبعض علماء الدين، وكذلك الأمر في الدنيا فهناك من يتعذّبون جرّاء نتانة وتعفّن بعض علماء الدين.
فما لم تُصلحوا أنفسكم وتبدؤوا من أنفسكم وتهذّبوها، لن تستطيعوا إصلاح وتهذيب الآخرين، فالإنسان غير السوي لا يُمكنه أن يُصلح الآخرين، ومهما بالغ في الوعظ والإرشاد لن يكون ذا نفع. فليجتهد العلماء المتواجدون في الحوزات العلمية الآن حتى لا يخرج منها الشباب بعد عشر سنوات أو عشرين سنة من الدراسة بفطرة مشوّهة وقد دخلوها حين دخلوها بفطرة سليمة، فالتهذيب ضروري للجميع على حدٍّ سواء، يجب على كلّ الأمّة وكلّ الناس أن يكونوا مهذّبين. ولكن التاجر إذا لم يكن مهذّباً ففساده يكون في التلاعب بالأسعار أو الغش في البضاعة وغيرها من المخالفات التي لو جمعت لكانت مفاسدها كثيرة لكن تاجراً فاسداً واحداً ليس له الأثر الكبير، في المقابل فإنّ العالم إذا فسد، يفسد مدينة بأكملها، بل يفسد دولة بأسرها سواءً كان هذا العالم، من علماء الجامعة أم من علماء المدرسة الفيضية(الحوزة) فإنّ الأمر سيّان3.
اهتمام الأساتذة بتهذيب الطلّاب
القصد من هذا الكلام الطويل أنَّ الشعب العزيز عموماً والمعنيين وذوي الاختصاص خصوصاً والمسؤولين بشكل أخصّ عليهم أن يولوا هذه الأرصدة القيّمة والأجهزة الصانعة للإنسان أهميّة خاصة ويسعوا في تقويتها وتهذيبها بكل ما أوتوا من قوة، وأن توجّه الحوزات العلمية المعظّمة والأساتذة المحترمون العناية خاصة لتهذيب الأخلاق والمعارف الإنسانية إلى جانب تعليم القرآن والفقه ومقدّماته، فإذا صَلحَ العالِمُ صَلحَ العالَمُ وإذا فسَدَ فسَد4.
1 الشيخ فضل الله نوري، من علماء طهران ومجتهديها الكبار، ومن علماء الدين القادة في مرحلة الحكومة الدستورية "المشروطة". كان يدافع عن الحكومة الدستورية الشرعية، وقد اتهمه خصومه بمعارضة الحكومة الدستورية وأصدروا حكم الإعدام بشأنه وأعدموه شنقاً.
2 الشيخ إبراهيم الزنجاني من أعضاء الماسونية وقد تولّى رئاسة المحكمة التي قاضت الشيخ فضل الله نوري.
3 صحيفة الإمام، ج 13، ص 420.
4 م.ن، ج 19، ص 152.
67
52
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
موافقة الأعمال للكتاب والسنّة
فانتبهوا أن تُحصّلوا التقوى خلال تحصيلكم العلم، وأن تُهذّبوا أنفسكم وأخلاقكم وأعمالكم. يجب أن تكون على وفق الكتاب والسنّة لتكونوا أنتم أنفسكم الكتاب والسنة، أي تكونوا الكتاب العملي والسنّة العملية. يجب أن يكون عالم الدين على نحو إذا رآه الناس تذكّروا رسول الله. وأنتم قد حملتم على عاتقكم هذا الحمل، فعليكم أن تنهضوا به وتوصلوه سالماً في النهاية وتهدوا الناس. سلّمكم الله أنتم وأصدقاءكم ورفاقكم في تلك المدرسة وسائر المدارس وأسعدكم، وجعلكم الله جميعاً من العلماء الأعلام المهذّبين حيث قمتم لله1.
إصلاح النفس مقدّم على التحصيل الدراسي
إنّ تحصيل هذه العلوم هو في الواقع مقدّمة لتهذيب النفس واكتساب الفضائل والآداب والمعارف الإلهية. وحاذروا أن تبقوا إلى آخر العمر تراوحون في هذه المقدمة دون أن تُحقّقوا النتيجة المرجوة.
إنّكم تبغون من وراء كسب هذه العلوم هدفاً سامياً ومقدّساً يتمثلّ في معرفة الله تعالى وتهذيب النفس وتزكيتها. ولا بد لكم أن تكونوا في صدد اجتناء ثمرة عملكم ونتيجة جهدكم. فابذلوا كلّ ما بوسعكم لتحقيق هدفكم الأصلي والأساس.
عندما تلتحقون بالحوزة ينبغي لكم أن تهتمّوا بإصلاح أنفسكم قبل كلّ شيء. وما دمتم في الحوزة وأثناء الدراسة يجب أن تكونوا بصدد تهذيب أنفسكم، حتى إذا ما تركتم الحوزة وأخذتم على عاتقكم هداية أبناء مدينة أو محلّة ما، يتسنّى للناس أن يستفيدوا من أعمالكم وسلوكياتكم ويتّعظوا من الفضائل الأخلاقية التي تتحلّون بها ويصلحوا أنفسهم بالتأسّي بها.
اجتهدوا في أن تُصلحوا أنفسكم وتُهذّبوها قبل النزول إلى ساحة المجتمع. فإذا لم تهتمّوا الآن، حيث تمتلكون متّسعاً من الوقت والطاقة، بتهذيب أنفسكم، فلن تتمكّنوا من إصلاحها فيما بعد عندما يلتفّ الناس حولكم.
فثمّة أشياء كثيرة يُبتلى بها الإنسان وتحول دون التهذيب واكتساب العلم. وإن أحد هذه
1 صحيفة الإمام، ج 8، ص 262.
68
53
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
الموانع بالنسبة للبعض هي نفس هذه اللحية والعمامة! فإذا كبرت عمامة أحدكم وطالت لحيته، يصعب عليه إذا لم يكن قد هذّب نفسه أن يواصل تحصيل العلوم الدينية ويكون مقيداً. ويصعب عليه كبح جماح النفس الأمارة وحضور درس أحد1.
المبادرة للتهذيب قبل تحقّق المواقع
لا قدّر الله أن تُصبح لحية طالب العلوم الدينية بيضاء بعض الشيء وتكبر عمامته، قبل أن يتمكّن من اكتساب الملكات الفاضلة وتنمية قواه الروحية، لأنّه والحال هذه سوف يبقى محروماً من الاستفادات العلمية والمعنوية ومن جميع البركات. اغتنموا الفرصة وجدّوا واجتهدوا قبل المشيب، وطالما أنّكم لم تحظوا باهتمام الناس وتوجّههم، فقد تتوافر لكم الفرصة لأن تفعلوا شيئاً لأنفسكم. فلا قدّر الله تعالى أن يهتمّ المجتمع بشخصٍ ما قبل أن يتمكّن ذلك الشخص من تربية نفسه، ويُصبح ذا نفوذ ومنزلة بين الناس، فعندها سوف يُضيّع نفسه ويخسرها. فابنوا أنفسكم وأصلحوها قبل أن يفلت الزمام من أيديكم. تحلّوا بالأخلاق الفاضلة وتخلّصوا من الأخلاق الذميمة. وليكن الإخلاص رائدكم في درسكم وبحثكم لكي يُقرّبكم من الله تعالى. فإذا لم تتوافر النية الخالصة في الأعمال، فسوف يبتعد الإنسان عن عرش الربوبية. حاذروا من أن تكونوا بنحو إذا ما فتحت صحيفة أعمالكم بعد عمر سبعين سنة، يرى فيها- والعياذ بالله- أنّكم أضحيتم سبعين سنة بعيدين عن الله عزّ وجلّ2.
البعد عن طلب الدنيا
إنّ علماً اهتمّ به الله تعالى كلّ هذا الاهتمام وبعث من أجله الأنبياء، أصبح الآن مهملاً في حوزاتنا ولا نجد أحداً يهتمّ به الاهتمام الذي يستحقّه. وقد وصل الأمر بسبب فقدان العلوم المعنوية والمعارف في الحوزات، إلى أن تنفذ الأمور المادّية والدنيوية إلى أوساط علماء الدين وتُبعد الكثيرين عن المعنويات والروحانيات بحيث إنّهم باتوا يجهلون ما معنى عالم الدين أصلاً؟ وما هو واجبه؟ وما هي المهام التي ينبغي له الاضطلاع بها؟
1 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 9 - 10.
2 م.ن، الجهاد الأكبر، ص 10 - 11.
69
54
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
فبعض ليس لهم غير تعلّم عدّة كلمات ثم الرجوع إلى مناطقهم أو أيّ مكان آخر للحصول على الجاه والمنصب والمقام والتملّق للآخرين، مثلما كان أحدهم يقول: دعني أدرس "اللمعة" وحينها سوف أفهم كيف أتصرّف مع مختار القرية.
يجب أن لا يكون الأمر بنحو تتلخّص نظرتكم وغايتكم من الدراسة منذ البداية في الحصول على المنصب الفلاني وكسب المقام الكذائي، أو أن تُصبحوا رؤساء المدينة الفلانية أو شيوخ القرية الفلانية.. فمن الممكن أن تُحقّقوا هذه الأهواء النفسية والأماني الشيطانية، ولكن لن تجلبوا لأنفسكم ولمجتمعكم الإسلامي غير التعاسة والشقاء. فمعاوية قد ترأّس أيضاً مدّة مديدة إلا أنّه ما جنى لنفسه سوى اللعن والذم وعذاب الآخرة.
لا بدّ لكم من تهذيب أنفسكم، حتى إذا ما أصبح أحدكم رئيس قوم أو فئة، اشتغل في تهذيب نفوسهم أيضاً. اخطوا في طريق إصلاح المجتمع وبنائه. ليكن هدفكم خدمة الإسلام والمسلمين. فإذا خطوتهم من أجل الله تعالى، فإنّ الله مقلّب القلوب، يجعل القلوب تهفو إليكم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾1.
إنّكم إذا ما جاهدتم في سبيل الله وضحّيتم من أجله تعالى، فإنّه سبحانه لا يترككم دون أجر وثواب. وإن لم يكن ذلك في هذه الدنيا فستحصلون عليه في الآخرة. وما أحسن أن لا تنالوا أجركم وثوابكم في هذا العالم، لأنّ الدنيا ليست ذات قيمة. فكلّ هذا الصخب والضجيج وهذه الاعتبارات تنتهي خلال أيام معدودات وتمرّ من أمام عين الإنسان كالحلم، بيد أنّ الأجر الأخروي خالد ليس له نهاية أو حدّ2.
ثقل مسؤوليات علماء الدين
تقع على عاتقكم مسؤولية ثقيلة وجسيمة. فإذا لم تعملوا بمسؤوليّاتكم في الحوزات العلمية ولم تكونوا بصدد تهذيب أنفسكم، واقتصر همّكم على تعلّم عدد من المصطلحات وبعض المسائل الفقهية والأصولية، فإنّكم ستكونون في المستقبل لا سمح الله مضرّين بالإسلام والمجتمع الإسلامي، ومن الممكن أن تتسبّبوا ـ والعياذ بالله ـ في إضلال الناس وانحرافهم.
1 سورة طه، الآية 96.
2 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 12 - 13.
70
55
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
فإذا ما انحرف إنسان وضلّ عن الإسلام بسبب سلوككم وسوء عملكم، فإنّكم ترتكبون بذلك أعظم الكبائر، ومن الصعب أن تُقبل توبتكم. كما لو أنّ شخصاً اهتدى بكم فإنّ ذلك خير لكم ممّا طلعت عليه الشمس، كما ورد في الحديث الشريف.
إنّ مسؤوليّتكم جسيمة للغاية. وواجباتكم هي غير واجبات عامة الناس. فما أكثر الأمور المباحة لعامّة الناس إلا أنّها لا تجوز لكم، وربما تكون محرّمة عليكم. الناس لا يتوقّعون منكم القيام بالكثير من الأمور المباحة، فكيف إذا ما صدرت عنكم لا سمح الله الأعمال القبيحة غير المشروعة، فإنّها ستُعطي صورة سيّئة عن الإسلام ومجتمع علماء الدين. وهنا يكمن الداء. إذا ما شاهد الناس عملاً أو سلوكاً من أحدكم خلافاً لما يتوقّع منكم، فإنّهم سينحرفون عن الدين ويبتعدون عن علماء الدين، وليس عن ذلك الشخص. وليتهم ابتعدوا عن هذا الشخص وأساؤوا الظنّ به فحسب، لكن إذا ما رأى الناس تصرّفاً منحرفاً أو سلوكاً لا يليق من أحد علماء الدين، فإنّهم لا يُحلّلون ذلك ويُفصّلونه بأنّه من الممكن أن يوجد بين المعمّمين أشخاص غير صالحين، مثلما أنه يوجد بين التجّار والموظّفين أفراد منحرفون وفاسدون. لذا فإذا ما ارتكب بقّال مخالفة، فإنّهم يقولون إنّ البقّال الفلاني منحرف. ولو ارتكب عطّار عملاً قبيحاً، فإنّهم يقولون: إنّ العطّار الفلاني شخص منحرف. ولكن إذا ما قام أحد المعمّمين بعمل لا يليق، فإنّهم لا يقولون إنّ المعمّم الفلاني منحرف، بل يقولون إنّ المعمّمين سيؤون.
إنّ واجبات علماء الدين جسيمة للغاية، وإنّ مسؤوليّاتهم أعظم من مسؤوليّات سائر الناس1.
تأثير اختلاف علماء الدين على الناس
يجب أن يكون إعلامنا أقوى من السابق، يجب أن تكون شرائحنا متراصّة أكثر من السابق، يجب أن تكون صفوفنا متراصة أكثر من السابق، ويجب أن تكون اختلافاتنا أقل. إنّني أشعر بالأسف حينما أسمع عن وقوع خلافات في بعض مناطق البلاد، على ماذا نختلف؟ ولماذا نختلف؟ معلوم أنّ هؤلاء الذين يبثّون الفرقة والاختلاف لا حظّ لهم من الإسلام إطلاقاً، إنّ الاختلاف يعني هزيمة الإسلام.
1 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 2 - 4.
71
56
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
إذا اختلفنا مع بعضنا فإنّ الإسلام سيُمنى بهزيمة، ولو اختلف علماء الدين فيما بينهم لا سمح الله - فإنّ الناس سيشعرون بأنّ هذه الاختلافات هي من أجل الدنيا، فليس هناك من اختلاف من أجل الدين، جميعنا نعتنق ديناً واحداً، ونتمسّك بقرآن واحد فإذا ما وقع الاختلاف فهذا يعني أنّ دافعه الدنيا، والشيطان هو الذي يحثّ على الاختلاف.
إذا شعر الناس بأنّ علماء الدين مختلفون فيما بينهم نتيجة الأهواء النفسانية، لو أحسّوا بأنّ طلبة العلوم الدينية مختلفون فيما بينهم نتيجة الأهواء النفسانية، فإنّهم سيشيحون بوجههم عنكم، ولو فعلوا ذلك فهذا يعني هزيمتكم، وهزيمتكم تعني هزيمة الإسلام.إنّ مسؤوليّتكم جسيمة، وينبغي لكم أن تكونوا دعاة للناس بأخلاقكم وبأعمالكم.
أنتم هداة الناس، وينبغي أن تكونوا منارة ونوراً. هذّبوا نفوسكم وأخرجوا حبّ الدنيا من أنفسكم، فحبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة. كلّ الخطايا من حبّ الدنيا وحبّ الشهرة، أخرجوا هذا الحبّ من قلوبكم وأميتوه وأحيوا قلوبكم بحياة الإسلام، بالحياة الإلهية كونوا إلهيين، توحّدوا، وكونوا صفّاً واحداً1.
سوء الظن ثمرة الاختلاف وطلب الدنيا
عندما يفقد رجال الحوزات وطلّابها المباني الأخلاقية والآداب الإسلامية، ويُصبح شغلهم الشاغل التعارك والشجار، ويتحوّلون إلى جماعات متنافرة ومتناحرة وغير مهذّبة، لا تتورّع عن الأعمال اللاأخلاقية والقبيحة، فمن الطبيعي أن تسوء نظرة الأمة الإسلامية إلى الحوزات الدينية وعلماء الدين، وتسحب دعمها وتأييدها لها، وفي النهاية يفتح الطريق أمام الأعداء لتحكيم سلطتهم وتسديد ضرباتهم. وإذا ما كنتم ترون الحكومات تخشى علماء الدين والمراجع وتحسب لهم حساباً، فهو لأنّهم يتمتّعون بدعم وتأييد الشعوب، وفي الحقيقة إنّ الحكومات تخشى الشعوب، ولهذا فهي تحتمل إذا ما أهانت وتجاسرت وتعرّضت إلى أحد علماء الدين، أنّ ذلك سوف يُثير سخط الأمة ويُفجّر غضبها ضدّها.. ولكن إذا ما كان علماء الدين مختلفين فيما بينهم ويُسيء بعضهم لبعض، ولم يكونوا متأدّبين بآداب الإسلام، فإنّهم سيفقدون اعتبارهم ويخسرون ثقة الأمة بهم. إنّ الأمة تتوقّع منكم أن تكونوا علماء دين
1 صحيفة الإمام، ج 6، ص 284.
72
57
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
ومتأدّبين بآداب الإسلام، أن تكونوا حزب الله، أن تنبذوا بهارج الدنيا وزخارفها ولا تهتمّوا بها، وأن لا تألوا جهداً في سبيل تحقّق الأهداف الإسلامية وخدمة الأمة الإسلامية.. تتوقّع منكم أن تخطوا على طريق الله تعالى، وأن لا يكون توجّهكم إلا لله وطلباً لمرضاته.
ولكن إذا رأت الأمة منكم خلاف ذلك، وكان كلّ همّكم الدنيا والمصالح الشخصية كما هو حال الآخرين، بدلاً من التوجّه إلى ما وراء الطبيعة، ورآكم الناس تتنازعون وتتخاصمون على حطام الدنيا، وجعلتم من الإسلام والقرآن ألعوبة بأيديكم والعياذ بالله، واتخذتم الدين دكّاناً ومتجراً للوصول إلى مطامعكم وأغراضكم الدنيوية الدنيئة.. إذا ما رأت الأمة ذلك منكم فسوف تبتعد عنكم وتُسيء الظنّ بكم، وستكونون أنتم المسؤولين عن كلّ ذلك. فإذا كان بعض المعمّمين العالة على الحوزات، يتكالبون فيما بينهم بدوافع شخصية ومنافع دنيوية، ويهتك بعضهم حرمة بعضهم الآخر، ويُفسّق هذا منهم ذاك، ويُثيرون ضجّة وجدلاً تافهاً، ويتنافسون على بعض الأمور الحقيرة، فإنّهم بذلك يكونون قد خانوا الإسلام والقرآن، وخانوا الأمانة الإلهية. فالله تبارك وتعالى وضع الدين الإسلامي المقدّس بمثابة أمانة بين أيدينا. هذا القرآن الكريم أمانة الله الكبرى، والعلماء والروحانيون هم المؤتمنون عليها، وإن واجبهم الحفاظ على هذه الأمانة الكبرى وعدم خيانتها. وما التشتّت والاختلافات الشخصية والدنيوية إلا خيانة للإسلام وللنبي الأعظم1.
اتباع سيرة الإمام علي عليه السلام وسلوكه
أنا لا أدري لم هذه الاختلافات والتحزّبات؟! فإن كانت من أجل الدنيا، فأنتم لا تملكون الدنيا! وإن كنتم تتمتّعون باللذائذ والمنافع الدنيوية، فإنّ ذلك لا يستدعي الاختلاف إلا إذا لم تكونوا علماء دين، ولم ترثوا من الروحانية غير العمامة والعباءة؟! إنّ عالم الدين الذي يرتبط بما وراء الطبيعة.. عالم الدين الذي يتحلّى بتعاليم الإسلام الحيّة وقيمه البناءة.. عالم الدين الذي يعتبر نفسه من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام.. إنّ عالم الدين هذا من غير الممكن أن يهتمّ بشهوات الدنيا، ناهيك عن أن يُثير الخلاف بسببها.
1 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 14 - 15.
73
58
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
أنتم الذين تُدعون أتباع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، تمعّنوا ـ على الأقل ـ في حياة هذا الرجل العظيم لتروا هل تقتدون حقّاً بسيرته وسلوكه؟ هل تعلمون شيئاً عن زهده وتقواه وحياته البسيطة والمتواضعة، وهل تلتزمون بشيء من ذلك في حياتكم؟ هل تعون شيئاً عن جهاد هذا القائد العظيم ضدّ الظلم والاستبداد والتفاوت الطبقي، ودفاعه الحازم عن المظلومين والمستضعفين، وإغاثته ودعمه لطبقات المجتمع المحرومة والمعذّبة؟ وهل تعملون وفق ذلك؟ هل إنّ معنى "الشيعة" هو مجرّد التحلّي بالزي الظاهري للإسلام. وبناءً على ذلك، فما هو فرقكم عن سائر المسلمين الذين هم أكثر تقدّماً وإفادة في هذه الأمور من الشيعة بكثير؟ وبماذا تمتازون عنهم؟1
خطط الشيطان الاستدراجية
إنّ أخوف ما أخافه عليَّ وعليكم أن يذهب الناس إلى الجنّة بسبب دعوانا نحن وأنتم لهم إلى الخير والصلاح، وسماعهم لكلامنا الذي يرون فيه ما يُقرّبهم من الله، وندخل نحن جهنّم لأنّنا لم نكن أنفسنا مهذّبين. وأكثر ما أخشاه أن أتواجه وإيّاهم هناك، نحن نكون في جهنّم، وهم في الجنّة يطلّون علينا. إلى أين يذهب الإنسان بهذا الخزي حيث وصل هؤلاء بسببنا إلى تلك المقامات ونحن بأهوائنا النفسانية تردّينا في الدرك الأسفل. إنّه خوف كثيراً ما يُساورني ويُراودني. وقد نقلوا لي قصة عن تاجر ذَهَبَ إلى أحد العلماء الكبار - لا أعلم من كان - وقال له: أيّها السيد! إن كان خلف المكتوب ما تخفونه عنّا فأطلعونا عليه، المكتوب معلوم لكن إن كان لديكم اطلاع على شيء خلفه فأعلمونا لأنّنا نراكم تدعوننا إلى الخير والصلاح، وأنتم بعيدون عن ذلك، فما هي القصة؟ فأجهش السيد بالبكاء لِما سمع وقال: أيها الحاج ليس ثمة شيء آخر، كل الأمر أنّنا نحن الفاسدون. فالمسألة ليست كما يتخيّل الإنسان بأن الشيطان يأتي إلى ابن آدم ويطلب منه أن يُصبح طاغوتياً، لا ليس الأمر كذلك. بل إنّه يجرّ ابن آدم إلى ذلك خطوةً خطوة، وشبراً شبراً. فإن وضعت له حدّاً منذ البداية انقطع طمعه فيك، وأمّا إذا تهاونت وتساهلت جرّك في اليوم التّالي خطوةً أخرى، وفي حين تجد هذا الطالب الزاهد العابد الذي يعيش في الحوزة، قد تحوّل إلى إنسانٍ طاغوتي على قدره، وانسلخ عن جوّ الطلبة
1 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 16.
74
59
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
الذي كان عليه مشايخنا العظام وتحوّل إلى إنسان همّه الدنيا فقط، فهكذا أمور تحصل بالتدريج. وعلى الإنسان أن يحسم أمرها منذ الخطوة الأولى. لأنّه إذا ما ابتُلي، فسيجرّه هذا البلاء إلى بلاء آخر وهكذا. وليس من المعلوم أن يستطيع الإنسان قلع جذور الدنيا من قلبه إذا ما ترسّخت فيه واستفحلت.
من مكايد الشيطان وأحابيله التي يصطاد بها عادةً الإنسان، أن يسوّل له بتبريرات كالقول إنك لا تزال شابّاً، وهذه أيّامك عشها، وإن شاء الله عندما تُصبح شيخاً تعوّض ما فاتك، وهذا ما لن يحصل أبداً. فإن هذّب الإنسان نفسه أيام الشباب، تهذّب، ولكن إن انتظر إلى الشيخوخة فلن يقدر على شيء لأن قواه تكون قد ضعفت، وتلك الشجرة التي زرعها الشيطان في قلبه قد قويت، ولا يمكن للإنسان أن يقتلع تلك الشجرة القوية بإرادة ضعيفة. هذه من الأمور التي تُقلقني، كما يجب أن تُقلِقَ السادة أيضاً وتدعوهم أينما كانوا إلى توصية أهل العلم بها وتحذيرهم لهم من الدنيا1.
مواجهة خطط الأعداء على ضوء تهذيب النفس
إنّ مستقبلكم مظلم، يُحيط بكم أعداء كثيرون من كلّ حدب وصوب، وقد وضعوا الخطط الجهنّمية الفتّاكة للقضاء عليكم وعلى الحوزات العلمية.. لقد وضعت الأيادي الاستعمارية خططاً محكمة للإحاطة بكم.. خططاً جهنّمية تستهدف الإسلام والمسلمين. إنّهم وتحت ستار الإسلام وضعوا لكم خططاً خطيرة، وإنّكم لن تستطيعوا أن تتخلّصوا من هذه المفاسد والصعوبات إلا في ظلّ التهذيب والإعداد والنظم والترتيب السليم. فبهذا وحده تستطيعون أن تُحبطوا خططهم الاستعمارية.
إنّني أقضي الآن آخر أيّام حياتي، وسأُفارقكم عاجلاً أم آجلاً، ولكنّي أتوقّع لكم مستقبلاً مظلماً وأياماً سوداء. فإذا لم تُصلحوا أنفسكم وتتجهّزوا وتجعلوا النظام والانضباط حاكماً على دراستكم وحياتكم، فإنّكم محكومون بالفناء والاندثار لا سمح الله. ففكّروا قبل أن تضيع الفرصة، وقبل أن يستولي الأعداء على جميع شؤونكم الدينية والعلمية. فكّروا وانتبهوا وتحرّكوا.. ففي المرحلة الأولى اهتمّوا بتهذيب النفس وتزكيتها، وإصلاح ذات بينكم. نظّموا
1 صحيفة الإمام، ج 18، ص 13 - 14.
75
60
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
أموركم، وابسطوا النظام والانضباط على كلّ شؤون الحوزات العلمية. لا تدعوا الآخرين يأتون لتنظيم هذه الحوزات. لا تسمحوا للأعداء أن يتسلّطوا عليها بذريعة أنّ العلماء ليسوا أهلاً ولا يقدرون أن يفعلوا شيئاً، أو أنّهم زمرة عاطلة عن العمل. الأعداء يريدون إفساد هذه الحوزات بذريعة إصلاحها وتنظيمها. يريدون أن يتسلّطوا عليكم، فلا تدعوا لهم عذراً. فإذا نظّمتم أموركم وهذّبتم أنفسكم وضبطتم كلّ أوضاعكم فلن يطمع الآخرون بكم، ولن يعود بمقدورهم النفوذ إلى حوزاتنا العلمية ومؤسّساتنا العلمائية. هذّبوا أنفسكم، وتجهّزوا واستعدّوا للحيلولة دون وقوع المفاسد التي يُمكن أن تعترضكم. حصّنوا الحوزات العلمية واجعلوها قادرة على التصدّي للمشاكل التي ستواجهها.
إنّ أيّاماً سوداء بانتظاركم لا سمح الله، ويبدو أنّ أياماً عجافاً ستواجهكم.. إنّ عملاء الاستعمار يتطلّعون للقضاء على الإسلام ومحو كلّ حيثية له. ولا بدّ لكم من الوقوف في وجه ذلك بثبات. ولن يتسنّى لكم ذلك مع وجود حبّ النفس والجاه والغرور والتكبّر. إنّ عالِم السوء، العالِم المتوجّه إلى الدنيا، العالِم الذي لا يُفكّر بغير البقاء في مركزه والحفاظ على زعامته، إنّ مثل هذا العالِم لا يستطيع مجاهدة أعداء الإسلام، وإنّ ضرره أكثر من غيره. فلتكن خطواتكم ربّانية. أخرجوا حبّ الدنيا من قلوبكم، وآنذاك يُمكنكم أن تُجاهدوا. فليحاول كلّ واحد منكم أن يُلقّن نفسه من الآن بأنّ عليّ أن أكون جندياً مسلّحاً إسلامياً يُضحّي من أجل الإسلام.. عليّ أن أخدم الإسلام حتى آخر قطرة دم في عروقي. لا تتشبّثوا بالذرائع وتخلقوا لأنفسكم الأعذار بأنّ المرحلة لا تقتضي ذلك.. جدّوا واجتهدوا لتكونوا في المستقبل نافعين للإسلام، وباختصار أن يكون كلّ واحد منكم إنساناً.
إنّ عملاء الاستعمار يخشون الإنسان.. المستعمرون الذين لا يُفكّرون بغير نهب ثرواتنا، لا يسمحون أن يتربّى في جامعاتنا "إنسان". إنّهم يخشون الإنسان. فإذا ما وجد إنسان في دولة ما فإنّه سوف يُهدّد مصالحهم.
إنّكم تتحمّلون مسؤولية بناء أنفسكم ليُصبح كلّ واحد منكم إنساناً كاملاً، يقف في وجه مخطّطات أعداء الإسلام المشؤومة. فإذا لم تُنظّموا أنفسكم وتعدّوا العدّة للتصدّي للضربات التي تُكال كل يوم للإسلام، فسوف تقضون على أنفسكم وكذلك على أحكام الإسلام، وستكونون مسؤولين عن ذلك كلّه. أنتم أيّها العلماء، وأنتم يا أهل العلم، أيّها الطلّاب، أيّها المسلمون،
76
61
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
كلّكم مسؤول. مسؤوليّتكم أيّها العلماء وطلبة العلوم الدينية تأتي في الدرجة الأولى، ثم من بعدكم مسؤولية بقية المسلمين: "كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته"1. أنتم أيّها الشباب، ينبغي لكم أن تقوّوا من إرادتكم لكي يتسنّى لكم مجابهة كلّ أنواع الظلم والاستبداد، ولا سبيل لكم غير ذلك.. إنّ كرامتكم وكرامة الإسلام وكرامة الدول الإسلامية منوطة بمدى ثباتكم وصمودكم ومقاومتكم2.
حذار من الخروج عن زيّ طلبة العلوم
على الإنسان أن ينتبه دائماً إلى أنّه راحل، وأنّه لم يُكتب على جبينه كم يُعمّر. قليلون هم الذين يصلون إلى سنّ الشيخوخة.
ولهذا عليه أن يتنبّه إلى هذا الأمر، وخصوصاً هذه الطبقة التي تأخذ على عاتقها مهمّة هداية الناس، فهؤلاء يجب أن توافق أعمالهم أقوالهم، أي أنتم الذين تُحذّرون الناس من الدنيا، إن كنتم، لا سمح الله، من المنشغلين بها والحريصين عليها، فإنّ مصداقيّتكم في أعين الناس ستتزلزل، وسيدبّ الانحراف في صفوفهم. إنّ تلك الكلمة التي قالها ذلك الحاج، بأنّه لعلّ خلف المكتوب شيء قد أُخفي، هذه الكلمة تهزّ الإنسان.
فلو لا سمح الله تسرّب الوهن إلى عقائد بعض الأشخاص الضعفاء جرّاء تصرّفات وأعمال رجال الدين فعندها أيّة مصيبة علينا أن نتحمّل وزرها نحن. إنّ هذا باب واسع ولذا يجب أن يتولّى تربية الطلبة في الحوزات العلماء الأتقياء والعارفون بحقائق الإسلام على امتداد البلاد وخارجها، ولا سيما الشباب وهدايتهم لئلّا يأتي يوم وإذا بهم لا قدّر الله قد انسلخوا عن زيّهم وهويّتهم العلمائية، ويكون هذا الانسلاخ سبباً لتزلزل عقائد الناس.
فأنتم يا من جنّدتم أنفسكم لهداية الناس، وأوردتم أنفسكم هذا السلك، حذار أن تؤدّي أعمال بعضكم وتصرّفاته إلى عكس ما كنتم ترغبون أن يتحقّق، إنّها مسألة تعلمون كم هي خطيرة وتحتاج إلى تنبّه ويقظة من الجميع3.
1 الإحسائي، عوالي اللئالي، ج1، ص129، الفصل8، الحديث3. كذلك انظر الجامع الصغير، ج2، ص45، و95.
2 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 45.
3 صحيفة الإمام، ج 18، ص 14 - 15.
77
62
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
إصلاح الناس من خلال السلوك والعمل
نحن أيضاً عندنا مسؤوليّات وتكاليف صعبة. يجب أن نكمّل أنفسنا أكثر من الناحية الروحية، ومن ناحية نمط المعيشة. يجب أن نترقّى في الصلاح والتقى أكثر فأكثر، وأن نُعرض عن حطام الدنيا. أنتم أيّها السادة عليكم أن تُجهّزوا أنفسكم لحفظ الأمانة الإلهية. أن تكونوا أمناء، وأن تُحقّروا الدنيا. صحيح أنّكم لا تستطيعون أن تكونوا مثل أمير المؤمنين الذي يقول إنّ الدنيا عنده كـ"عفطة عنز" لكن أعرضوا عن حطام الدنيا وزكّوا أنفسكم وتوجّهوا إلى الله تعالى وكونوا أتقياء. إذا كنتم لا سمح الله تدرسون لأجل نيل الوجاهة فلن تصبحوا فقهاء ولا أمناء للإسلام. جهّزوا أنفسكم لتكونوا مفيدين للإسلام. كونوا جنود إمام الزمان لتتمكّنوا من تأدية الخدمات ونشر العدالة. الأشخاص الصالحون هم الذين يكون وجودهم في المجتمع مصلحاً. ولقد رأينا مثل هؤلاء الأشخاص الذين بمجرّد معاشرتهم ومرافقتهم يصير الإنسان نزيهاً. اعملوا بحيث يصلح الناس جرّاء سلوككم وأخلاقكم وعملكم وإعراضكم عن الدنيا، بحيث يقتدون بكم، كونوا مقتدى الأنام1.
تهذيب الحوزات الدينية
على الحوزات العلمية أن تكون متيقّظة، اجعلوا التقوى، التقوى، التقوى، نصب أعينكم. أصحاب الفضيلة وطلّاب العلوم الدينية! ضعوا نصب أعينكم التقوى، التقوى، تنزيه النفس، وجهاد النفس. إنّ شخصاً واحداً يُجاهد نفسه يستطيع أن يحكم أمة. جاهدوا أنفسكم، هذّبوها... وكذا حوزاتكم2.
هزيمة الإسلام رهن بسلوك علماء الدين
في السابق عندما كان يقوم أحد طلّاب العلوم الدينية بعمل ما كانوا يقولون كلّ الطلبة هكذا، وإذا لا سمح الله اقترف أحد رجال الدين ذنباً ما، كانوا يقولون إنّ رجال الدين كلّهم هكذا. أمّا اليوم فإذا ما ارتكب عالم الدين مخالفة، فإنّهم سيوجّهون أصابع الاتهام
1 الإمام الخميني، ولاية الفقيه، ص 149.
2 صحيفة الإمام، ج 6، ص 278.
78
63
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
إلى الإسلام، وستكون هزيمة الإسلام على أيدينا. ولكن إذا ما أصلحتم أنفسكم لن يُهزم الإسلام. بصلاحكم يصلح حال الشعب، وبتهذيبكم أنفسكم يتهذّب الناس. فإذا تحدّثتم على منابركم عن أمر لم تلتزموا أنتم به، وإذا ذكرتم في المسجد شيئاً تعملون أنتم خلافه، فإنّ قلوب الناس ستنصرف عنكم، ويؤدّي ذلك بالتدريج إلى هزيمة الإسلام، وإنّ مسؤولية ذلك تقع على عاتقنا جميعاً1.
تهذيب النفس في شهر شعبان
هذّبوا أنفسكم، أنتم الذين تريدون هداية المجتمع وإرشاده. فالذي لا يستطيع إصلاح نفسه، كيف يتسنّى له هداية الآخرين وإرشادهم وإدارتهم؟ ها هو شهر شعبان شارف على الانتهاء، فاسعوا في هذا الأيام المعدودة لعلّ الله تعالى يوفّقكم للتوبة وإصلاح النفس، ولتستقبلوا شهر رمضان بنفوس صالحة سليمة2.
الوعظ والإرشاد من مسؤوليّات علماء الدين
من الممكن أن تحاول بعض الأيادي الخبيثة من خلال بثّ السموم ودعايات السوء، التقليل من أهمية البرامج التربوية والأخلاقية، وتصوير ارتقاء المنبر للوعظ والإرشاد على أنّه يتنافى مع المكانة العلمية، وتحاول من خلال نسبتها صفة "المنبرية" للشخصيات العلمية المرموقة التي تمارس دورها في إصلاح الحوزات وتنظيمها، أن تحول دون تأدية واجبها. فقد تجد اليوم في بعض الحوزات من يعتبر ارتقاء المنبر عملاً مشيناً، غافلين عن أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان منبرياً، وكان يعظ الناس ويُرشدهم من على المنابر. كان يوعّيهم ويُرشدهم ويوجّههم. كما أنّ سائر الأئمة عليهم السلام كانوا يفعلون ذلك أيضاً.
لعلّ عناصر خفيّة تُشيع هذه الأفكار الخبيثة في حوزاتنا لكي تُجرّدها من المعنويات والأخلاقيات، فتمسي حوزاتنا وضيعة ومنحطّة ينتشر فيها النفاق وتُسيطر على أفرادها الأنانية وتتّسع رقعة الاختلاف، وينشغل أفرادها بمحاربة بعضهم بعضاً، وينقسمون أحزاباً
1 صحيفة الإمام، ج 17، ص 494.
2 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 23.
79
64
الفصل الرابع الحوزة العلمية وتهذيب النفس
وشيعاً يُكذِّب كلٌّ منهم الآخر ويوجّه إليه التهم والإهانات، ويُسقط بعضهم بعضاً، لكي يتمكّن الأجانب وأعداء الإسلام من التطاول على الحوزات ويُسدّدوا ضربة قاصمة لها والقضاء عليها.
فسعاة السوء يعلمون أنّ الحوزات تتمتّع بدعم وتأييد الشعوب. وما دام هذا الدعم والتأييد قائمين فمن غير الممكن سحق الحوزات والقضاء عليها1.
1 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 47.
80
65
الفصل الخامس الجامعة وتهذيب النفس
الجامعة المهذّبة أساس سعادة البلد
إذا كانت الجامعة جامعة حقّاً، جامعة إسلامية بالفعل، أي إنّها إلى جانب التحصيل الدراسي كانت تزوّد طلّابها بالتهذيب والالتزام، فإنّ بإمكان الجامعات حينئذ أن توصل بلداً إلى السعادة. وكذلك الأمر لو كانت الحوزات العلمية صروحاً مهذّبة وملتزمة فإنّ بمقدورها إنقاذ بلد بأكمله. العلم وحده إن لم يكن ضارّاً فهو غير ذي فائدة. إنّنا حين نُلقي نظرة على العالَم وما فيه من جامعات نجد أنّ جذور كلّ المصائب التي عانت منها البشرية جمعاء إنّما هي من الجامعات ومن هذه الاختصاصات الجامعية. إنّ كلّ أدوات القمع والدمار هذه وكلّ هذا الذي يعدّونه تطوّراً في مجال الآلات الحربية إنّما هو نتاج علماء خرّجتهم الجامعة، الجامعة التي أغفلت الأخلاق وأهملت التهذيب. كما أنّ كلّ المفاسد التي استشرت في الأمم، كانت جرّاء عدم التزام الحوزات العلمية بالتعاليم الإسلامية، كلّ هذه الأديان التي شيّدها العلماء والمفكّرون هي أصل الشقاء.
لقد جرّت الجامعة العالَم إلى الفساد بالعلم الذي لم يكن التهذيب ولا الأخلاق ولا الالتزام الإسلامي إلى جانبه، وبإمكان الجامعة أن تسوق العالم إلى الصلاح. فلو قُدّر لجامعات العالَم أن تُعنى إلى جانب التعليم والتعلُّم بالموازين الإنسانية وبالأخلاق الإنسانية وبما تُمليه الفطرة لاستحال العالَم إلى عالَم نور. ولكن إذا ما أهملت التخصّصات والعلوم هذه الجوانب وابتعدت عنها فإنّها ستكون وبالاً على البشرية والعالَم.
ولهذا فإنّ هذين المركزين العلميين - الحوزة والجامعة - يُمكنهما أن يكونا مركزي كافة المصائب والبلاءات على البشرية ويُمكنهما أن يكونا مركزي كامل التطوّرات والترقيات المعنوية والمادّية. فالعلم والعمل، العلم والالتزام بمثابة جناحين يُمكن الوصول بهما إلى أعلى درجات السمو والرقي.
83
66
الفصل الخامس الجامعة وتهذيب النفس
في هذه الخمسين سنة الماضية من حكم الطاغوت، كانت هناك جامعات وكان هناك أساتذة جامعيون، ولكن هؤلاء الأساتذة أنفسهم وهذه الجامعات عينها جرّت البلاد لتقع فريسة القوى الكبرى. لقد كانت السيطرة على وسائل العلم والعمل من قِبَل أشخاص غير ملتزمين لا يعرفون مصالحهم كارثية ومدمّرة للأمة والبلاد. العلم لو كان قرين الالتزام والتهذيب فلا فرق بين الجامعة والحوزات العلمية فبجناحي العلم والأخلاق والعمل هذين يُحلِّقان بالأمة إلى ذرى المجد، ويُنقذانها من أن تقع فريسة لأولئك الطامعين بنهب خيراتها وثرواتها. وأمّا إذا اكتفت الجامعات والمدارس والحوزات العلمية بتقديم العلم مجرّداً عمّا ذكرنا، فإنّ هكذا علم سيجر الإنسان إلى الفناء وإلى الهاوية.
إنّ الجامعة والحوزة هما منشأ جميع المفاسد والشقاوات في أيّ بلد، وكذلك هما منشأ جميع السعادات المادّية والمعنوية. وإنّ المخطّطات الكبرى التي تُرسم لأجل اختراق الجامعات والنفوذ إليها لتُربّي شبابنا بخلاف مصلحة بلدهم ناشئة من هذا الاعتقاد، وهو أنّه لو فسدت الجامعة يفسد البلد1.
سعادة الشعب على عاتق الجامعة والحوزة
اجتهدوا أنتم الجامعيين أن تصنعوا الإنسان، فإذا صنعتم الإنسان أنقذتم بلادكم.إذا صنعتم الإنسان الملتزم، الإنسان الأمين، الإنسان المعتقدِ بالعالَم الآخر، الإنسان المعتقد بالله والمؤمن به، وإذا تربَّى هذا الإنسان في جامعاتكم وجامعاتنا، أنقذ بلادكم. وعليه فهذا العمل شريف جدَّاً، والمسؤولية عظيمة جدّاً، وهذه المسؤولية الآن على عاتقنا وعاتقكم، وهذه المسؤولية الكبرى هي أنْ نؤمِّن أنتم ونحن سعادة الشعب. عليكم أنتم رجال الدين والجامعيون أن توفِّروا سعادة الشعب التي أنِيطتْ بكم، فأنتم ما اخترتم الفلاحة، ولو كنتم فلّاحين، لكنتم مسؤولين، لكن ليس هذه المسؤولية. ولو كنتم كسبة، لكنتم مسؤولين أيضاً، لكن في نطاق أنفسكم. أمّا في حالكم، فالمسؤولية هي مسؤولية شعب، وبلد، مسؤولية لأجل الإسلام، وأمام الله. كلّنا الآن مسؤول، فيجب أن نسعى جميعاً، يجب على الجامعة أن تبذل الجهد، ويجب على
1 صحيفة الإمام، ج 13، ص 412 - 414.
84
67
الفصل الخامس الجامعة وتهذيب النفس
الجامعات الدينية أن تبذل الجهد، ويجب على جامعاتكم العلمية أن تبذل الجهد وتسعى لصنع الإنسان1.
العلم والتخصّص في خدمة البلد
...أن يشدّوا همّتهم في أن يجعلوا من الجامعات مراكز علم وتربية وتهذيب بحيث تكون جميع التخصّصات في خدمة البلد والأمة لا أن تتخصّص وتجرّنا بتلك التخصّصات إلى حضن أمريكا أو أن توجّه بتلك التخصّصات ضربة للبلاد، بحيث كلّما ازدادت التخصّصات، ازدادت سوءاً.
فالشخص الذي لم يُهذَّب، والشخص الذي لم يشعر يوماً بالانتماء إلى هذا البلد وأنه موجودٌ من أجله، وأنّه مدين له بعلمه وعليه أن يؤدّي له هذا الدين، هذا الإحساس إن لم يكن موجوداً، فعندها ستكون الجامعة أسوأ المراكز لأنّها ستجرّنا نحو الضياع والهاوية. وأمّا إذا وجد هكذا إحساس ووجد هؤلاء الأساتذة الجامعيون، الملتزمون، الذين كانوا في السابق يتحسّرون على واقع البلاد، عليهم أن يعدّوا أنفسهم من أجل تنشئة أجيال جديدة ملتزمة بدينها ومؤمنة بقضايا أمّتها وفي خدمة بلدها. فإن كانت الأمور كذلك، فسيكون للجامعات دور الريادة في إيصال البلاد إلى ذرى المجد والسعادة.
ليس أمام الجامعة إلا طريقان: إمّا طريق جهنّم وإمّا طريق السعادة، إمّا طريق الذلّ والمسكنة والعبودية وإمّا طريق العزّة والعظمة والإباء. فطالما كانت الجامعات على ما هي عليه عندنا، فلن تكون مفيدة. منذ خمسين سنة ونحن لدينا جامعات، ومن الجامعة نشأ كلّ ما في بلادنا من فساد، من هؤلاء الأشخاص الذين درسوا في الجامعة وربما حصلوا على اختصاصات أيضاً. فأحمدي ذاك الذي كان في عهد رضا خان والذي قُتل بحقنه السامة الكثير من رجال هذا البلد، كان من هذه الجامعات وصاحب اختصاص أيضاً، إلّا أنه سخر تخصّصه في طريق قتل الأبرياء من العباد، فهل أنّكم ترغبون بهكذا جامعات وبهكذا أساتذة ومتخصّصين؟!
1 صحيفة الإمام، ج 8، ص 67 - 68.
85
68
الفصل الخامس الجامعة وتهذيب النفس
ومن جهة ثانية فإنّ الجامعات تُخرّج الشرفاء كذلك، وطموحنا أن يكون جميع خرّيجيها شرفاء1.
تربية الإنسان مسؤولية الجامعة والحوزة
إنّ مقدّرات كلّ بلد في يد جامعاته سواء كانت جامعات العلوم الحديثة أو جامعات العلوم القديمة، والأساس أن يتخرّج منها بنوعيها، إنساناً، وليس دابة تحمل على ظهرها بعض الكتب. لا يكون التعلّم بحيث تكونوا أنتم في طرف العلوم الطبيعية، وطائفة في طرف العلوم الفقهية والإلهية. تبحثون في دقائق العلوم، ولكنّكم تغفلون عن جهالات أنفسكم وعن طغيانه. إنّكم إن غفلتم، فكلّ خطوة تخطونها في طريق العلم ستُبعدكم عن الإنسانية أكثر فأكثر، فالإنسانية طريق مستقيم وإذا سار أحدكم من هذه الجهة أو تلك سيكون معوجاً وسيكون سيره بخلاف الإنسانية. كلّ من انحرف ولم يسر على الطريق المستقيم فسيره ما دام مستمراً فإنّه يزيده بعداً عن الإنسانية. وكما لو أنّنا فرضنا خطاً مستقيماً وخطّين عن الجهتين، فكلّما تقدّم السير في أحد الجهتين يزداد البعد عن الخط المستقيم.
ومهما درستم ودرسنا، فما لم نكن على الطريق المستقيم وما لم نصقل معلوماتنا وعلمنا ونكبح جماح أنفسنا وما لم نُمِت أنفسنا في هذا الطريق المستقيم، فكلّما ازدادت المعلومات، ازداد الإنسان بعداً عن الإنسانية، وصار إرجاع النفس إلى الاستقامة أصعب2.
مسؤولية الجامعة صناعة الإنسان
يجب أن تكون الجامعة مصنع الإنسان سواء في ذلك جامعة علماء الدين أو جامعتكم، وهذا - صناعة الإنسان - ما أُمِرَ به الأنبياء عليهم السلام وجاءت به الكتب السماوية كلّها.
فإنّه إذا صُنعَ الإنسان صار كلّ شيء معنويّاً، يعني حتّى المادِّيات تصير معنويات.
وعلى العكس إذا كانت هذه الفئات شيطانية، وتَخرَّجَ من جامعتنا وجامعتكم أناس منحرفون، غَدَت المعنويّات مادِّيات وفنت فيها3.
1 صحيفة الإمام، ج 13، ص 419 - 420.
2 م.ن، ج 9، ص 3 - 4.
3 م.ن، ج 8، ص 61.
86
69
الفصل الخامس الجامعة وتهذيب النفس
وظيفة الجامعة تربية الإنسان المؤمن
أنتم اعملوا على تخريج المؤمن من الجامعة، ونحن نُخرّج المؤمن من مدارسنا، ليس العالِم، فالعلم وحده لا جدوى منه. ولا شك في أنّ الإيمان وحده لا يؤثّر كثيراً. ففي الفئات الأخرى مؤمنون أيضاً. ولكن عندما يُصبح العالِم مؤمناً، وعندما يُصبح العالِم متّقياً، سيكون منشأ للخيرات والبركات، وسيُحافظ على البلاد، وإذا كان خلاف ذلك لا سمح الله فسيجعل البلاد في مهبّ الريح. ولهذا يقع على عاتقنا معاً عبء ثقيل، ولا بد من قيامنا نحن وأنتم بما يقتضيه عملنا بشكل صحيح ونعمل على تقوية الإيمان إلى جانب العلم1.
أهمّية تربية الإنسان في الجامعة
نحن نريد إنساناً جامعياً لا مجرّد طالب أو معلِّم، يجب على الجامعة أن تُوجِد الإنسان وتُخرّج الإنسان منها. فإذا خرّجت الجامعة الإنسان منها فإنّ الإنسان لا يرضى بتسليم بلاده للغير، والإنسان لا يرضى أن يعيش أسيراً وذليلاً. وهم (الطغاة) أيضاً يخافون من الإنسان.
سابقاً كان رضاخان يخاف من (آية الله) مدرّس لأن مدرّس كان إنساناً (بحقّ)، فقد نُقل عنه أنّه قال في أحد اجتماعات المجلس: "في مجلسنا هذا مسلم واحدٌ، وهو السيد كيخسرو" فرضا خان كان يعتبر مدرّس منافسه وخصمه الشخصي ولم يكن يولي أية أهمية للآخرين. كان يعتبره منافسه الذي إذا وقف متكلّماً زلزل الأرض تحت أقدام الجميع. كان مدرّس إنساناً، وكانت حياته ما قد سمعتم أنتم وما رأيت أنا. عندما أصبح نائباً - لأنّه في البداية عُيّن بصفته فقيهاً حيث كان لا بد من تواجد فقيه في المجلس - وحسب ما يُنقل عنه فإنّه اشترى في أصفهان عربة وحصاناً وركبهما متوجّهاً إلى طهران، وعندما وصلها باعهما واشترى لنفسه منزلاً متواضعاً فيها. كان منزلاً كبيراً إلى حدٍّ ما ولكنّه كان وضيعاً من حيث البناء، عاش فيه عيشة ما دون العاديّة، حتى أنّ لباس الخيش الذي كان يرتديه صار خبره على كلّ لسان. كان يلبس ذلك الخيش الإيراني الصنع. فأيّ لباس من ألبسة مدّعي الوطنية هؤلاء إيراني الصنع؟
على جميع محبّي هذه البلاد والمحبّين للإسلام ولهذه الأمة وهذا الشعب أن يحشدوا
1 صحيفة الإمام، ج 7، ص 473.
87
70
الفصل الخامس الجامعة وتهذيب النفس
طاقاتهم لإصلاح الجامعات، فإنّ الجامعة الفاسدة خطرها أعظم من خطر القنبلة العنقودية، ولأنّ خطر الحوزات العلمية الفاسدة أعظم من خطر الجامعة، فلا بدّ من إصلاحها وتهذيبها أيضاً. يجب على جميع الأشخاص الملتزمين - سواء في الحوزات العلمية أم في الجامعات - أن يُشمّروا عن ساعد الجدّ والهمّة من أجل الإصلاح والتغيير1 .
انحراف أساتذة الجامعة سبب انحراف المجتمع
إذا انحرف الجامعي فإنّ انحرافه يختلف عن انحراف بائع أو مزارع. وانحراف عالِم الدين يختلف عن انحراف التاجر والعامل. إنّ العامل والتاجر والمزارع وأمثالهم فيما إذا انحرفوا فإنّ انحرافهم يبقى انحرافاً شخصياً، بينما انحراف أساتذة الجامعة لا يقتصر على أنفسهم فقط، بل يقود إلى انحراف فئة كبيرة، وأية فئة؟ الفئة التي تتطلّع إلى إدارة البلد، والذي يؤدّي انحرافها أحياناً إلى انحراف بلد بكامله. إنّ انحراف عالِم الدين ليس انحرافاً شخصياً فحسب بل هو انحراف أمة. ولهذا فإنّ هاتين الفئتين هما القادرتان على خدمة البلاد وإنقاذها، ومن الممكن أن يكون طريقهما غير طريق الحقّ فتسيران بالبلاد نحو الهلاك والضياع. ليس الأمر كما لو كانت فئة، مثلًا فئة التجّار، بحيث إذا صلحت كان صلاحها يختصّ بها دون غيرها، بل إنّهما فئتان بصلاحهما يتمّ إصلاح المجتمع.. إنّ صلاح المجتمع وفساده بيد مربّي ذلك المجتمع. وأولئك المربّون هم أنتم وعلماء الدين. علماء الدين بنحو وأنتم بنحو آخر2.
أثر الجامعي غير المهذّب في فساد المجتمع
ليس الأمر كما لو كانت فئة، مثلًا فئة التجّار، بحيث إذا صلحت كان صلاحها يختصّ بها دون غيرها، بل إنهما فئتان بصلاحهما يتم إصلاح المجتمع.. فئتان ينطبق عليهما "إذا فسد العالِم فسد العالَم". هذا "العالِم" ليس أنا، إنّما هو أنتم أيضاً، جميعنا، إنّكم جميعاً من العلماء، فإذا كنتم لا سمح الله فاسدين فسوف تجرّون العالم إلى الفساد، وإذا كنتم صالحين ستعملون
1 صحيفة الإمام، ج 13، ص 417 - 418.
2 م.ن، ج 7، ص 468 - 471.
88
71
الفصل الخامس الجامعة وتهذيب النفس
على إصلاح العالم. إن صلاح المجتمع وفساده بيد مربّي ذلك المجتمع. وأولئك المربّون هم أنتم وعلماء الدين. علماء الدين بنحو وأنتم بنحو آخر، ولكن كلتا الفئتين مربّية للمجتمع.
وإذا كان الفرض أن تكون تلك التربية العلمية فقط فتكرّس الجهود لإعداد طبيب دون الاهتمام بكيف سيكون هذا الطبيب، فإنّ هذا الطبيب سيُصبح غداً كاسباً! سوف يكون كاسباً يقوم بالمماطلة في علاج المريض ليتردّد عليه أكثر ويأخذ منه أجرة أكثر! وقد يكون طبيباً ماهراً، فهو متخصّص حاذق من الناحية الطبية ولكنّه افتقر إلى الأخلاق الفاضلة ولم يكن مهذّباً، لم يكن متّقياً، لم يعرف الله، فلذلك يقوم بالمماطلة في معالجة المريض، يُعطيه اليوم وصفة طبية ويكون متواطئاً مع صاحب الصيدلية ليؤمّن الوصفة بأغلى من قيمتها، ويتورّط هذا المريض بهذا الوضع، هذه الوصفة لم تكن مفيدة، غداً يُعطيه وصفة أخرى! وهكذا. فالطبيب طبيب جيّد من الناحية الطبّية. إنّكم تقومون بإعداد المهندسين، فيكون المهندس في مجال علمه متخصّصاً بشكل جيّد جداً، ولكنّه عندما يريد، فرضاً، أن يضع تصميماً لمشروع فإّنه وبسبب مهارته يحاول ابتزاز الجهة المسؤولة عن المشروع إلى أقصى حدٍّ ممكن. والشيء نفسه يمكن أن يكون في المجالات الأخرى. وكذلك بالنسبة لمن سار على دربنا، فإذا كان الفرض أن يكون الشخص "شيخاً" فقط، فقد يكون شيخاً مميّزاً وفهيماً بحيث يفهم الكتاب والسنَّة بشكل جيّد جدّاً، ولكن إذا لم يكن تقيّاً فإنّ هذا الفهم للكتاب والسنَّة سيكون سبباً لانحراف الناس1.
ضرر التحصيل العلمي بدون التهذيب النفسي
إنّ التعليم لوحده يبقى دون فائدة، يجب أن تكون التربية مقرونة بالتعليم. يعني إذا كان الشباب الذين يذهبون إلى الجامعات والمعاهد العلمية لا يتلقّون غير التعليم، فإنّ ذلك قد يكون مضرّاً للبلاد في بعض الأحيان، وإنّ الكثير من الأضرار التي لحقت ببلادنا كانت من قِبَل هؤلاء المتعلّمين، كما أنّ الكثير من المشاريع المتضادة مع مصالح البلاد كانت تصدر في معظم الأحيان عن هؤلاء المتعلّمين الذين حصّلوا العلم ولكنّهم لم يتلقّوا التربية، وكانوا لا يعملون شيئاً إلا لمصلحتهم.
1 صحيفة الإمام، ج 7، ص 470 - 471.
89
72
الفصل الخامس الجامعة وتهذيب النفس
إنّ الذي لا يخضع لتربية صحيحة حتى ولو كان تعليمه صحيحاً، ولو افترضنا أنّه على مستوى عال من التعليم، فإنّ الضرر الذي يُسبّبه لبلاده سيكون أكبر من الضرر الذي يُسبّبه الناس العاديّون. عامة الناس لا يستطيعون إيذاء بالنحو الذي يُسبّبه هؤلاء المتعلّمون للبلاد، لأنّ المتعلّمين هم الذين يتسنّى لهم تقديم المشاريع ليستفيد منها الآخرون. فالذين كانوا يحيطون بهذا الأب والابن1 كانوا من أولئك المتعلّمين الذين حصّلوا تعليمهم في أوروبا وأمريكا، لكنّه كان تعليماً فقط، ولم يكن لديهم تربية إسلامية أو تربية إنسانية، ولهذا فإنّ الأذى الذي لحق ببلادنا من قِبَل هؤلاء العلماء لا يوازيه أي أذى آخر حتى جهاز (السافاك) لم يُسبّب الأذى الذي سبّبوه، فهؤلاء دمّروا الأفكار وأفسدوا شبابنا2.
ضرر التعليم بدون التربية
إذا كان همّ أساتذة الجامعة إعطاء الدروس فقط- وبالطبع في جامعاتنا السابقة لم يكن حتى إعطاء الدروس صحيحاً، ولو أنه كان صحيحاً لما كنّا متأخّرين بهذا المقدار عن (مسيرة) العلم. الآن نحن نفترض أننا بتنا بوضع جيّد إن شاء الله - وكان اعتمادهم على التعليم، ولم يكن الى جانبه التزكية والتربية المعنوية، فإنّ الذين يتخرّجون من الجامعة سيفسدون3.
التهذيب في رأس البرامج التعليمية
الأخوات والإخوة في هذه المدرسة، نظّموا برنامجكم بحيث يظهر من بينكم عدد من أمثال مطهّري، أو مطهّري آخر، وليكن عزمكم حاسماً في هذا الأمر، ولتكن اهتماماتكم وأعمالكم خالصة لله تبارك وتعالى. جدّوا في أن تدرسوا في المدرسة التي أنتم فيها.
والأهم من الدراسة هو تهذيب الأخلاق. كونوا إسلاميين وكمّلوا العلوم الإسلامية بالنفوس الإسلامية. وإلى جانب الدراسة الجادّة للأحكام الإسلامية والمعارف الإسلامية ليكن لديكم تهذيب إسلامي. يجب أن يكون في الجمهورية الإسلامية في كلّ المدارس العلمية والدينية
1 يقصد الشاه الأب رضا بهلوي وابنه الشاه محمد رضا بهلوي.
2 صحيفة الإمام، ج 9، ص 74 - 75.
3 م.ن، ج 16، ص 500.
90
73
الفصل الخامس الجامعة وتهذيب النفس
وسواء التي تدرّس العلوم الدينية أو العلوم الأخرى، في رأس قائمة البرامج التعليمية أن يكون الطلّاب مهذّبين قبل أن يكونوا محصّلين (للعلم).
يجب أن يكون في جميع المدارس في كافة أنحاء البلاد أشخاص مهذّبون وعلماء وخطباء ساروا في طريق الحق قدر استطاعتهم، وعليهم أن يذهبوا إلى هذه المدارس ويؤسّسوا حوزات أخلاقية وحوزات تهذيب وحوزات معارف إسلامية بحيث يكون إلى جانب الدراسة العلمية تهذيب إسلامي وأخلاق إسلامية. يجب أن يكون هناك تهذيب إسلامي في المدارس سواء في المدارس الدينية أو في سائر الجامعات التي هي مدارس إسلامية ودينية. يجب أن ينتبهوا إلى المعلِّمين في هذه المدارس والأشخاص الذين يُبلّغون فيها أو يتحدّثون أن يكونوا أشخاصاً إسلاميين مائة بالمائة ومعتقدين بأحكام الإسلام والعقائد الإسلامية بحيث إنّ الأشخاص الذين يتربّون على أيديهم يتربّون تربية إسلامية مع تهذيب إسلامي1.
توصية الجامعيّين بالتهذيب
على طلّابنا الجامعيّين أن يُجسّدوا هم أنفسهم الموازين الإسلامية والأخلاقية قولاً وفعلاً وسلوكاً وعملًا، بحيث إذا دعوتم الناس إلى الإسلام، وينبغي عليكم أن تفعلوا، لا يكون فعلكم مخالفاً لقولكم. لا يكوننّ حالكم بحيث أنّكم حين تتكلّمون تتعرّضون للاستهزاء من قِبَلهم فيقولون فيكم أنّ هؤلاء يدعوننا إلى أشياء هم أنفسهم لا يلتزمون بها2.
التربية وكبح جماح النفس بالتلازم مع طلب العلم
اسعوا في كلّ خطوة تخطونها في سبيل العلم، في سبيل العمل الظاهري والأعمال الباطنية أن توجِدوا في نفوسكم التقوى والاستقامة والأمانة في نفوسكم، حتى تكونوا بعد تخرّجكم من الجامعة إن شاء الله أشخاصاً لديكم العلم والأمانة، وتكونوا أمينين على علمكم من جهة ومزكّين لنفوسكم ومتحكّمين بها من جهة أخرى، لأن النفس متمرّدة وتمرّدها يُسقط الإنسان أرضاً كما لو أنّه كان يمتطي حصاناً جامحاً بدون لجام فإنّ هذا الحصان يقضي على فارسه.
1 صحيفة الإمام، ج 14، ص 168 - 169.
2 م.ن، ج 13، ص 489.
91
74
الفصل الخامس الجامعة وتهذيب النفس
ونفس الإنسان هي الأكثر جموحاً، وتمرّدها يقضي على الإنسان. فلتكن كلّ خطوة تخطونها في طريق العلم مترافقة مع خطوة أخرى لكبح جماح أنفسكم ومنعها من التمرّد، لأنّه عندما يفلت عنانها تفقد السيطرة عليها آنذاك. اكبحوا جماح أنفسكم بأنفسكم1.
ضرورة تلازم التعلّم مع التهذيب
عليكم وعلى جميع أطفالنا وشبابنا الطلّاب في جميع أنحاء البلاد وفي أيّ مركز من مراكز التعليم كانوا، أن ينتبهوا إلى أنّ التعلّم بالترافق مع التهذيب والالتزام والأخلاق الإنسانية الفاضلة يُمكنه أن يوصلنا إلى الحياة الإنسانية الحقّة ويُمكنه أن يُنقذ بلدنا من ألوان التبعية2.
ضرورة تحصيل المراتب العالية من العلم والتهذيب في الجامعة
الجامعة يجب أن توصل العلم والتخصّص إلى أعلى المراتب في نفس الوقت الذي توصل فيه إلى أعلى درجات الالتزام والأخلاق والروحية الإسلامية. يجب أن تكون الجامعة مهذّبة، والحوزات العلمية كذلك3.
1 صحيفة الإمام، ج 9، ص 3.
2 م.ن، ج 14، ص 3.
3 م.ن، ج 13، ص 417.
92
75
الفصل السادس تأثير العلماء المهذّبين في إصلاح المجتمع
تأثير العالِم المهذّب في إصلاح المجتمع
محلّات هي منطقة كنت أذهب إليها في بعض فصول الصيف. في الصيف كنت هناك، وفي الوقت الذي حللت فيها شعرت بأنّ أهاليها يختلفون عن أهالي كثير من المناطق. كان اهتمامهم بالدين أكثر من بعض المناطق الأخرى، بل من معظم المناطق الأخرى، والذي أدركته هو أنّها كانت بفضل علمائها تتّسم بهذه الميزة. العلماء الذين كانوا في محلّات كانوا علماء يتمتّعون بأخلاق فاضلة، ويقومون بمسؤولياتهم العلمائية كما ينبغي، ويحسنون أداء واجباتهم الدينية. والناس أيضاً بتبعيتهم لهم صاروا صالحين. كانوا من أهل المسجد، وأهل الدعاء، وأهل العبادة والعمل. أنا منذ حوالي ما يقارب الثلاثين عاماً لم أر كمحّلات مكاناً آخر. ولا أعرف إن كانت الآن لا تزال على تلك الحال، آمل أن تكون. إذا تحوّل الإنسان نفسه إلى إنسان يتربّى بتربية الأنبياء فلا بد أن يصير إنساناً، والمجتمع أيضاً يرتقي بتبعه. قد يؤدّي فرد واحد إلى فساد مجتمع، وفي بعض الأحيان قد يؤدّي فرد إلى إصلاح مجتمع. هذا الفرد قد يكون من أصحاب السلطة الذين يوليهم الناس اهتمامهم، وقد يكون من علماء الدين الذين يسترعون انتباه الناس أيضاً.
قليلاً ما يُلحظ في أهل السلطة أشخاص متربّون، لا أستحضر الآن. لكنّه يحصل قليلًا أن نجد أمثال هؤلاء في علماء الدين. فإذا كان عالم الدين في مكان ما ملتزماً، فإنّه يُزكّي ذلك المكان، ولو كان في كلّ بلد عدّة علماء دين مثلما يجب على العالِم أن يكون، ومثلما يريد الإسلام، فإنّ الناس ومن خلال تبعيتهم للعلماء سيصلحون، وبإصلاح الناس يتشكّل المجتمع السليم أيضاً1.
1 صحيفة الإمام، ج 11، ص 394 - 395.
95
76
الفصل السادس تأثير العلماء المهذّبين في إصلاح المجتمع
التسبّب بالضرر والانحراف بالإسلام والمجتمع
إنّكم إذا ما رجعتم إلى كتاب أصول الكافي1 وكتاب الوسائل2، وتصفّحنا الأبواب المتعلّقة بواجبات علماء الدين فسوف تواجهون بواجبات عظيمة ومسؤوليات خطيرة ذُكرت لأهل العلم. ففي الحديث: "عن جميل بن درّاج قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: "إذا بلغت النفس ههنا (وأشار بيده إلى حلقه) لم يكن للعالم توبة، ثم قرأ: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ﴾3"4. وجاء في حديث آخر: عن حفص بن قياس عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "يا حفص، يُغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفر للعالِم ذنب واحد"5، لأنّ معصية العالِم تُسيء كثيراً للإسلام والمجتمع الإسلامي. فإذا ارتكب العامّي والجاهل معصية، فإنّه يُسيء إلى نفسه فحسب ويضرّها. ولكن إذا ما انحرف العالِم وارتكب عملاً قبيحاً فإنّه سيحرف عالَماً، ويكون قد أساء إلى الإسلام وعلماء الدين6، وإنّ ما ورد في الحديث من أنّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالِم التارك لعلمه7، راجع لأنّه يوجد فرق كبير في الدنيا بين العالِم والجاهل بالنسبة لنفع وضرر كلٍّ منهما للإسلام والمجتمع الإسلامي.
فإذا ما انحرف العالِم فمن الممكن أن يُضلّ أمّة بأسرها ويجرّها إلى الهاوية. وإذا كان مهذّباً يراعي الأخلاق والآداب الإسلامية، فإنّه يعمل على هداية المجتمع وتهذيبه.
ولقد كنت أرى في بعض المدن التي كنت أذهب إليها في فصل الصيف، أهالي تلك المدن ملتزمين بآداب الشرع إلى حدٍّ كبير. والسبب في ذلك كما اتضح لي، هو أنّه كان لديهم عالم صالح ومتّق. فإذا كان العالِم الورع والصالح يعيش في مجتمع أو مدينة أو محافظة ما، فإنّ
1 الشيخ الكليني، الكافي، "كتاب فضل العلم"، ج1, أبواب: صفة العلماء، بذل العلم، النهي عن القول بغير علم، استعمال العلم، المستأكل بعلمه والمباهي به، لزوم الحجّة على العالم، و"باب النوادر".
2 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج18، ص9 ـ 17، وص98 ـ 129، "كتاب القضاء"، "أبواب صفات القاضي"، باب4، 11، 12.
3 سورة النساء، الآية 17.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص59، "كتاب فضل العلم"، "باب لزوم الحجّة على العالم.."، الحديث3.
5 م.ن، الحديث1.
6 قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: "صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي وإذا فسدا فسدت أمتي. قيل: ومن هم؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: العلماء والأمراء", كتاب الخصال، "باب الاثنين"، ص37. وكذلك انظر ابن شيعة البحراني، تحف العقول، ص50.
7 عن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يُحدّث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في كلام له: "العلماء رجلان: رجل عالِم آخذ بعلمه، فهذا ناج. وعالم تارك لعلمه، فهذا هالك. وإنّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالِم التارك لعلمه" الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص55، "كتاب فضل العلم"، "باب استعمال العلم"، الحديث1.
96
77
الفصل السادس تأثير العلماء المهذّبين في إصلاح المجتمع
وجوده يبعث على تهذيب أهالي تلك المدينة وهدايتهم، وإن لم يكن يُمارس الوعظ والإرشاد لفظاً1. لقد رأينا أشخاصاً كان وجودهم يبعث على الموعظة والعبرة، مجرّد النظر إليهم كان يبعث على الاتعاظ والاعتبار2.
تأذّي أهل جهنّم من العالِم الفاسد
الآن مناطق طهران - وأنا لديّ اطلاع إجمالي - تختلف عن بعضها. فالمنطقة التي يقطنها عالِم ورع ومتّق، يكون أهاليها مؤمنين صالحين. وفي محلّة أخرى حيث أصبح أحد المنحرفين الفاسدين معمّماً وأصبح إماماً للجماعة وفتح دكّاناً له، تراه يخدع الناس ويلوّثهم ويحرفهم.
إنّ هذا التلوّث هو الذي يتأذّى من رائحة تعفّنه أهل جهنّم.. إنّه تعفّن هذا الذي يجترحه عالِم السوء والعالِم غير العامل والعالِم المنحرف في هذه الدنيا، وتؤذي رائحته مشام أهل جهنّم في الآخرة، لا أنه يضاف له شيء في ذلك المكان. فالذي يحدث في عالَم الآخرة هو الشيء ذاته الذي تمّ إعداده في هذه الدنيا، فلا يُضاف شيء إلى أعمالنا من خارجها.
فإذا ما اتّصف العالِم بالإفساد والخبث فإنّه سيجرّ المجتمع إلى الانحطاط والتعفّن، غاية الأمر أنّ حاسّة الشمّ في هذه الدنيا لا تشمّ رائحة تعفّنه، ولكن في الآخرة تشمّ. بيد أنّ الشخص العامّي ليس باستطاعته أن يوجد مثل هذا الفساد والتلوّث في المجتمع الإسلامي. الشخص العامّي لا يسمح لنفسه أبداً أن يدّعي الإمامة والمهدوية والنبوّة والألوهية. العالِم الفاسد هو الذي قاد عالَماً إلى الفساد. "إذا فسد العالِم فسد العالَم"3.
مبتدعو الأديان المنحرفة
إنّ غالبية الذين ابتدعوا الأديان وتسبّبوا في انحراف كثيرين وإضلالهم، كانوا من أهل العلم. فبعض هؤلاء درسوا في المراكز العلمية الدينية ومارسوا الرياضات النفسية4، حتى إنّ
1 ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع" الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص164، "كتاب الإيمان والكفر"، "باب الصدق وأداء الأمانة"، الحديث 10.
2 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 4 - 6.
3 الآمدي، غرر الحكم، ج7، ص269.
4 من أمثال محمد بن عبد الوهاب مؤسّس الحركة الوهّابية, والشيخ أحمد الأحسائي والسيد كاظم الرشتي مؤسسي الفرقة الشيخية، وأحمد كسروي، وغلام أحمد مؤسّس القاديانية.
97
78
الفصل السادس تأثير العلماء المهذّبين في إصلاح المجتمع
مؤسّس إحدى الفرق الضالّة قد درس في حوزاتنا العلمية هذه، ولكن نظراً لأنّ دراسته لم تكن مقترنة بتهذيب النفس وتزكيتها، لم يخط على صراط الله، ولم يتمكّن من إبعاد نفسه عن الرذائل، فكانت عاقبته كلّ تلك الفضائح. فإذا لم يتخلّص الإنسان من الخبائث، فإنّ دراسته وتعلّمه مهما بلغ ليس فقط لن يجديه نفعاً بل سيلحق به الأضرار أيضاً.
فالعلم عندما يكون في أرضية غير صالحة، سوف ينبت نباتاً خبيثاً ويُصبح شجرة خبيثة. وكلّما تكدّست هذه المفاهيم في القلب المظلم غير المهذّب، ازداد الحجاب أكثر فأكثر، "العلم هو الحجاب الأكبر". ومن هنا كان شرّ العالِم الفاسد بالنسبة للإسلام أخطر وأعظم من كلّ الشرور.
العلم نور، إلا أنّه في القلب المظلم والقلب الفاسد، يجعل الظلمة أكثر عتمة. كما أنّ العلم يُقرّب الإنسان من الله تعالى، إلا أنّه في النفس الطالبة للدنيا يبعث على الابتعاد أكثر عن محضر ذي الجلال. وعلم التوحيد أيضاً إذا كان لغير الله فإنّه يكون من الحجب الظلمانية لأنّه انشغال بما سوى الله. ولو أنّ شخصاً حفظ القرآن بالقراءات الأربع عشرة لما سوى الله تعالى وتلاها، فإنّه لن يجني سوى الحجاب والابتعاد عن الحقّ تعالى.
إنّكم لو درستم وتحمّلتم الصعاب في هذا السبيل، فقد تصبحون علماء، ولكن ينبغي أن تعلموا أن ثمة فرقاً كبيراً بين "العالِم" و "المهذّب"1.
خطورة ورود العلم على النفس غير المهذّبة
إذا لم تُزكّ الأنفس واذا لم تُطهّر ولم تتحرّر من تلك الصفات الفاسدة فإنّ العلم سيترك آثاراً سيّئة فيها. فكلّ المذاهب الباطلة اختلقها العلماء، وذلك أنّ العلم كان قد حلّ في نفس لم تتربَّ ولم تتزكَّ. فعندما يحلّ العلم في وعاء لم يلقَ تزكية فإن العالِم الذي يحمل هذا العلم ويفتقر للتزكية يُصبح خطراً، وبالنسبة للمجتمع لا يوجد فرق بين علماء الدين وعلماء الجامعات وغيرهم. فاذا افتقرت الحوزات العلمية وكذلك الجامعات إلى التزكية فإنّ العلوم التي يجري تكديسها هناك وتُصبح بمثابة مخزن وصفها الباري تعالى في القرآن بقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا
1 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 6 - 7.
98
79
الفصل السادس تأثير العلماء المهذّبين في إصلاح المجتمع
التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾1. وحتى من تلقّى علم التوحيد وعلم الأديان وعلم الأخلاق وحمل كلّ هذه العلوم ولكنّه لم يعمل على تزكية نفسه فإنّه يتحوّل إلى موجود خطر على المجتمع. والجامعة التي يردها الشباب لينظروا في علمها، فلا تعليمها تعليم ولا تربيتها تربية. وحتى لو كان التعليم فيها تعليماً صحيحاً فهو لا ينفع في ظلّ غياب التزكية، لأنّ الإنسان يحتاج إلى التعليم بعد التزكية فإذا افتقر إلى التزكية ودخل العلم قلباً لم يُزكّ فإنّ ذلك يكون مدعاة للفساد. ولا قدّر الله أن يصدر الفساد من قِبَل عالِم لم يُزكّ نفسه2.
ضرر العالم غير المهذّب على البلاد والشعب
من كان له علم غير مقرون بتهذيب الأخلاق وبالتربية الروحية كان ضرر علمه على الشعب والبلاد أكثر من ضرر أولئك الذين لا علم لهم، إذ يجعل هذا العلم سيفاً في يده، ويمكن أن يجتثّ به جذور بلادٍ، ويقطعها3.
ضرر العالم الفاسد على العلم والدين
أجل، فالأخلاق السيئة والصفات الذميمة تذهب بالحق أيضاً، وإذا صار العالِمُ جبّاراً متكبّراً بطلت خاصية علمه، وهذه أعظم خيانة للعلم والمعارف، لأنّها تُبعِد الناس عن الحقّ والحقيقة. فإذا لم يتعامل العالِم مع الناس بمقتضى العلم أي بالأخلاق الحسنة، يسقط الدين والعلم من أعين الناس، وتضعف عقائدهم، وتنفر قلوبهم من علماء الحقّ، وهذه من أشدّ الضربات التي تُوَجَّه للدين والحقيقة بأيدي العلماء غير المسؤولين، وقلّما تجد ضربة تُماثلها في هذا التأثير.
إن خُلُقاً واحداً فاسداً من عالِم أو عملاً واحداً مخالفاً للأخلاق من طالبٍ للعلوم الدينية يُؤثّرُ في إفساد أخلاق الناس وأعمالهم بمقدارٍ قَلّما نجد مثيلاً له (في آثار الأعمال الإفسادية الأُخَر الصادرة من غيرهم). لذا يجب على علماء الدين وطلبة علومه أن يتشدّدوا للغاية في
1 سورة الجمعة، الآية 5.
2 صحيفة الإمام، ج 12، ص 492 - 493.
3 م.ن, ج 8، ص 310.
99
80
الفصل السادس تأثير العلماء المهذّبين في إصلاح المجتمع
مراقبة أنفسهم وتصرّفاتهم، لكي يضمنوا سعادة الناس إضافة إلى سعادتهم هم، فالفساد والقبح منهم أشدّ إفساداً وقبحاً بكثير ممّا يصدر من غيرهم، والحجّة عليهم أتمّ1.
خسارة الدين من العلماء غير المهذّبين
إنّني أظنّ أنّ ما وجّه أكبر ضربة للإسلام هو عدم التربية الصحيحة وعدم تحقّق التهذيب والأخلاق الإسلامية. وإنّكم إذا ما نظرتم إلى تاريخ الإسلام بل إلى جميع الأنبياء، وبالطبع أنتم تفعلون، لوجّدتم أن الضربة التي تلقّاها الإسلام من المنحرفين وغير المهذّبين وكذلك جميع الأديان لم تتلقها من أيّ شيءٍ آخر. والأصل الأساس الذي ألحق الأضرار بالمدارس التوحيدية ومنعها من النمو هو عدم التهذيب، حيناً من العلماء غير المهذّبين وأحياناً من الجاهلين غير المهذّبين. ولا يعرف هل أنّ مقدار الضربات التي تلقّاها الإسلام من العلماء غير المهذّبين قد تلقّاه من الجهّال غير المهذّبين رغم كثرة عددهم أم لا. إنّ الذين أنشؤوا جميع المدارس المنحرفة هم رجال علم ورجال دين، وسواء في ذلك صناعة المذاهب المنحرفة أو المدارس السياسية فقد وضعت جميعها على أيدي العلماء2.
الأخلاق الاستكبارية تُهلك بلداً
في التعليم والتربية لو تشكّلت شخصية طفل فاسد وتمّت تربية طفل بأخلاق شيطانية، أخلاق استكبارية، فإنّ هذا الطفل ذا الأخلاق الشيطانية والأخلاق الاستكبارية من الممكن أن يُفسد كثيراً من الناس وأن يُفسد بلداً بكامله3.
تأثير فساد العالِم والجاهل على المجتمع
عندما يكون العلم في نفس غير سليمة سيكون شأنه شأن المطر الذي يهطل على مكان متعفّن، سيؤدّي إلى زيادة العفونة. نفس مطر الرحمة الذي ينشر العطر الفوّاح في مكان ينشر رائحة القذارة في مكان آخر. والعالِم الذي لم يُهذّب نفسه هو أشدّ خطراً من الجاهل
1 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 349 - 350.
2 صحيفة الإمام، ج 13، ص 503 - 504.
3 م.ن، ج 14، ص 36.
100
81
الفصل السادس تأثير العلماء المهذّبين في إصلاح المجتمع
بكثير. فالجاهل حتى لو كان فاسداً لا يؤدّي إلّا إلى إفساد نفسه. بينما العالِم إذا فسد فإنّه سيُفسد العالَم، ويجرّ البلاد إلى الفساد. فالتزكية تسبق التعليم والتعلم، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾. النبي جاء ليُزكّيهم، ليُربّيهم، ليعدّ النفوس، وبعد ذلك ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾1. فاذا لم يكن الكتاب والحكمة مقروناً بالتربية ولم يكن مشفوعاً بالتزكية، فسيكون الموجود الذي يخرج هو نفس الموجودات التي كانت في مجلس الشيوخ وفي مجلس الشورى قبل انتصار الثورة2.
العلم من دون التهذيب منشأ جميع المصائب
إنّ جميع أعمال التخريب التي تتعرّض لها البلدان منشؤه العلماء، علماء الجامعات. هؤلاء الذين يصنعون الصواريخ والطائرات، هؤلاء الذين مهما صنعوا هم مصدر كلّ هذه الخرائب. وكلّ مصائب البشر سببها العلم غير المقرون بالتهذيب3.
الضربات المعنوية أشدّ على الشعب
اعلموا أنّ العالِم أيّ عالِم كان، إذا لم يتحلَّ بتهذيب إسلامي وأخلاق إسلامية فهو ضارّ للإسلام وليس نافعاً. ولقد أصاب بلدنا من الضرر جرّاء ألسنة وأقلام الأشخاص الذين ليس لديهم التزام بالإسلام وكانوا منحرفين ما لم يصبه من ضرر المدافع والدبّابات ومن محمد رضا وأبيه. ضرر أولئك ضرر روحي. والضرر الروحي أشدّ من الأضرار الجسدية. فإذا لم يكن العالِم مهذّباً، حتى ولو كان عالِماً بأحكام الإسلام، ولو كان عالِماً بالتوحيد، فإنّه إذا لم يكن مهذّباً فإنّه مضرّ لنفسه ولبلده ولشعبه وللإسلام ضرراً لا نفع معه. إذا أردتم أن تكونوا خدّاماً للإسلام، وخدّاماً للمجتمع الإسلامي، وأن لا تكونوا أسرى القوى الكبرى وعملائهم، يجب أن يكون في رأس اهتمامات وبرامج الدراسة في الجامعة والفيضية (الحوزة) وجميع أولئك المرتبطين بالجامعة وجميع المرتبطين بالفيضية برنامج أخلاقي وبرامج تهذيبية حتى يقدّموا للمجتمع أمثال المرحوم مطهّري رحمه الله. ولا قدّر الله لو كان الأمر بالعكس لخرّجوا للمجتمع أفراداً على عكس أولئك فيقومون بجرّ المجتمع إلى الفساد والناس إلى الأسر4.
1 سورة الجمعة، الآية 2.
2 صحيفة الإمام، ج 12، ص 493 - 494.
3 م.ن، ج 16، ص 499.
4 م.ن، ج 14، ص 169.
101
82
الفصل السادس تأثير العلماء المهذّبين في إصلاح المجتمع
صلاح وفساد المجتمع رهين بخطاب العلماء
إذا لم يهتد الإنسان إلى الطريق المستقيم الذي وضعه الله تبارك وتعالى أمامه، واذا لم يسلك هذا الطريق فإنّ بقية الطرق جميعها انحراف واعوجاج. وإذا ما استولى المنحرفون والمعوجون في بلد ما على مقدّراته فإنّ ذلك البلد سيؤول إلى الانحطاط والانحراف. واذا ما وصل الأفاضل والعلماء ذوو الفضائل الإنسانية إلى السلطة فإنّ الفضيلة في ذلك البلد ستزداد لأنّه وبمقتضى مقامهم فإنّ الشعب يهتمّ بهم، وكلامهم يؤثّر في أفكار عامّة الناس. وكم من الممكن أن تؤدّي كلمة من شخص له مكانته ونفوذه في المجتمع إلى جرّ مجتمع نحو الفساد. وبالمقابل فإنّ كلمة تخرج من فم شخص له مكانته في المجتمع، قد تأخذ بمجتمع نحو الصلاح1.
تأثير فساد العالِم على المجتمع
يعلم الله أنّ هذه المصطلحات كلّما كثرت دون أن يُرافقها تهذيب للنفس، فإنّها ستؤدّي إلى ضياع دنيا وآخرة مجتمع المسلمين بأسره. الاصطلاحات ليس لها أثر يُذكر. علم التوحيد بحدّ ذاته إذ لم يقترن بصفاء النفس فإنّه سيُصبح وبالًا على الإنسان، وما أكثر أولئك الذين كانوا علماء بعلم التوحيد، ثم أضلّوا خلائق! وحرّفوا أناساً، في حين إنّهم كانوا علماء بعلم التوحيد! ما أكثر أولئك الذين فاقوكم علماً، لكنّهم بمجرّد انخراطهم في مجتمع ما، تسبّبوا في انحرافه لما كانوا يحملونه من الانحراف في داخلهم.
من الأمور التي ينبغي عدم الغفلة عنها، حساسية وضع العالِم بالنسبة لغيره، والسرّ في ذلك هو أنّ الناس يحكمون هكذا، فهم يقولون عن البقّال لو ارتكب معصية ما أو مخالفة ما إنّه شخص سيّئ، وهكذا بالنسبة للعطّار والموظّف وغيرهم، لكنّهم إذا رأوا مخالفة من معمّم فإنّهم يقولون: المعمّمون هكذا! لا يقولون: بأنّ هذا المعمّم هو كذا، فهم في هذه الحالة لا يُميّزون ولا يُفرّقون بين المعمّمين. لا يقولون مثلًا إنّ هؤلاء المعمّمين هم بشر أيضاً، وفيهم فئتان، فيهم الصالح وفيهم الطالح- والعياذ بالله. إنّهم لا يُميّزون في النظر إلى المعمّمين.
1 صحيفة الإمام، ج 14، ص 39.
102
83
الفصل السادس تأثير العلماء المهذّبين في إصلاح المجتمع
إذا اقترفت أنا عملًا سيّئاً قالوا: إنّ المعمّمين هكذا! والضرر في هذا يعود على الإسلام، وعلى الحوزات العلمية الدينية، وعلى أحكام الإسلام. إذا قمتم بتسقيط بعضكم البعض هكذا، وإذا اشتبكت المجامع العلمية فيما بينها، وحاولت إحداها تسقيط الأخرى، وقام البعض بقذف البعض الآخر بشائن الألفاظ وفسّقه وكفّره، ثار الهرج، وعمّت الفوضى. إذا حطّمنا أنفسنا بأنفسنا، وقضينا على أنفسنا، فلا يبقى لكلامنا الفاعلية في ترسيخ الإسلام في المجتمع، ولن نتمكّن من نشر الإسلام1.
العمالة والنهب جرّاء غياب التهذيب
لو أنّ الجامعات ومراكز التربية والتعليم الأخرى كانت تسير وفق برامج إسلامية ووطنية تصبّ في مصلحة البلاد، في تعليمها للأطفال والناشئة والشبّان وتهذيبهم وتربيتهم، لما أصبح وطننا أبداً لقمة سائغة للإنكليز ثم للأمريكان والروس، ولما أمكن مطلقاً فرض الاتفاقيات الجائرة على شعبنا المحروم المنكوب، ولما فُتحت أبداً الطريق أمام المستشارين الأجانب إلى إيران، ولما أُفرغت ثروات إيران والذهب الأسود للشعب الإيراني المضطّهد في جيوب القوى الشيطانية، ولما أمكن للأسرة البهلوية وعملائها نهب أموال الشعب وتحويلها إلى منتزّهاتٍ وقصور مشادةٍ على أجساد المظلومين في الداخل والخارج، أو ملء المصارف الخارجية بحاصل كدّ المظلومين لتُصرف بعد ذلك على المجون والفساد الذي يُمارسونه مع من لفّ لفّهم2.
الأساتذة غير المهذّبين سبب المصائب
إنّ المقدار الذي حثّ عليه الإسلام لأجل تهذيب أطفالنا وشبابنا لم يحثّ عليه في أيّ شيء آخر. الإسلام جاء في الأساس لبناء البشر. وهذه المدارس المنحرفة هي التي تُخرِج الإنسان عن إنسانيته، وتوصل بلدنا إلى حيث يلجأ إلى الشرق والشيوعية أو إلى الغرب وأمريكا. إنّ منشأ جميع هذه الشقاوات هو هؤلاء الأساتذة غير الملتزمين. ومن تحت أيديهم تخرّج أفراد
1 صحيفة الإمام، ج 2، ص 18 - 19.
2 م.ن، ج 21، ص 428 - 430.
103
84
الفصل السادس تأثير العلماء المهذّبين في إصلاح المجتمع
أوصلوا مجتمعنا إلى الهلاك وألحقوا بلدنا ورؤساء بلدنا بالشرق أو الغرب.
إنّ الأهمّ لبلدنا هو الالتزام الإسلامي والتهذيب الإسلامي. فإذا صلح هذا الخندق وكان خندق الجامعة والفيضية (الحوزة) خندقاً إسلامياً فإنّ سائر الشعب لن يميل إلى هذا الجانب أو ذاك. وسوف يسير على الصراط المستقيم، طريق الإنسانية وطريق الإسلامية وطريق الاستقلال وطريق الحرية1.
الفساد والعمالة من العلماء غير المهذّبين
إذا لم يكن العلم مقروناً بالتربية المعنوية ولم يكن هناك تربية روحية، فما أكثر ما سيكون هذا العلم نفسه- وقد كان- سبباً للفساد. وهذا العالِم وهؤلاء الأساتذة الجامعيون الذين لا يتحلّون بتهذيب النفس لا يمنحون البلد سوى الفساد. أنتم تعلمون إن شاء الله وينبغي أن تعلموا أن شعبنا قد تعرّض على مدى التاريخ للمصائب وفي الحقبات الأخيرة بشكل أكثر، ووصلت تبعيته حدّها الأعلى فقط لأنّ العلم لم يقترن بالتربية الأخلاقية والدينية والمعنوية2.
صلاح المجتمع من صلاح العاِلم
إنّنا حينما نُنادي بالجمهورية الإسلامية فلأن الإسلام يصنع الفرد المهذّب. إنّ القرآن هو كتاب بناء الإنسان، والأنبياء بُعثوا لصناعة البشر، ولم يكن لديهم طوال حياتهم مهمّة أخرى. إنّ الأنبياء العظام والأئمة الأطهار عليهم السلام كانوا يسعون لتربية الناس .. لقد أرسل الله تبارك وتعالى الأنبياء لأجل تهذيب الناس، ولأجل إصلاحهم. فإذا صلح إنسان يتولّى رئاسة المجتمع، (أو) وُجِد عالِمٌ صالح في مجتمع، فإنّ المجتمع سيكون صالحاً، وذلك لأنّ الجميع يتوجّهون إليه3.
1 صحيفة الإمام، ج 14، ص 170.
2 م.ن، ج 16، ص 497 - 498.
3 م.ن، ج 7، ص 285.
104
85
الفصل السادس تأثير العلماء المهذّبين في إصلاح المجتمع
إيجاد التحوّل من خلال العالِم المهذّب
يجب أن يقوم التعليم على أسس صحيحة. فالتعليم لا يكون مفيداً ما لم يكن هناك تزكية تعنى بالتربية الروحية والأخلاقية. فينبغي للجامعات وسائر مراكز العلم سواء في ميدان علماء الدين أو غيره من ميادين سائر العلماء، ينبغي أن يعملوا على التربية الأخلاقية لهؤلاء الأشخاص ولطلبة العلوم الدينية هناك والجامعيين هنا، وأن يعملوا على تزكية أنفسهم بالتزامن مع قيامهم بالتعلّم والدراسة.
إنّ وجود عالم مزكّى بكلّ ما للكلمة من معنى في المجتمع، قد يُسهم أحياناً في إيجاد نقلة نوعية في هذا المجتمع. كنت في أيام الشباب أزور أحياناً بعض هذه المدن وكنت ألاحظ أنّ أهالي بعض المدن متحلّون بالأخلاق الدينية. فحاولت أن أعرف سرّ ذلك، لماذا الحالة في هذه المدينة بهذا الشكل بينما لا نُشاهد هذه الظاهرة في باقي المدن، فوجدت أنّ هذه المدينة حظيت بعالم قد زكّى نفسه، عالم تمكّن من إصلاح نفسه فأصلح الناس.
عندما ينخرط العالِم في مجتمع، أو يقصد قرية أو مدينة، عليه أن يعمل على تزكية الأنفس قبل أن يشرع في تعليمها. فينبغي أن يكون إلى جانب أساتذة الجامعة الذين يريدون أن يُمارسوا نشاطهم في تربية وتعليم الجامعيين، عالم دين يعمل على تزكية الشباب، وأن يُعمَل على تطهير جامعاتنا من الذين يحاولون جرّ شبابنا إلى الانحراف.
ينبغي العمل على تطهير دوائرنا من هذه الأمور التي تجرّ شبابنا إلى الفساد والضياع، لنُمهّد الأرضية لتزكية الأفراد1.
1 صحيفة الإمام، ج 12، ص 496.
105
86
الفصل السابع الشباب وتهذيب النفس
سهولة تحصيل السعادة واستحكامها في الشباب
إنّ الحصول على السعادة أيسر وأسهل، واستحكامها أوكد، كلّما كان العهد أقرب من أيّام الحداثة والشباب، لأنّ صفحة النّفس تكون فيها أكثر خلوّاً من النقوش وأقرب إلى البساطة وعدم التعقيد، بل إذا كان الإنسان قد اكتسب إلى حينها أخلاقاً سيّئة أو عادات وأعمالاً قبيحة فإنّها لم تترسّخ في نفسه بعد، فيمكن التخلّي عنها واستئصال جذورها بشيء من المراقبة والانتباه، مثلما أنّ النبتة الفتيّة التي لم تترسّخ جذورها في أعماق الأرض بعد، يمكن قلعها بقليل من الجهد، ولكن إذا تهاون الإنسان مدّة ولم يُبادر إلى الإصلاح وقلع جذور الفساد من نفسه، ترسّخت جذور شجرة الفساد في نفسه، واستقوت ونمت في أعماق قلبه، ونفذت فيه بقوّة فيُصبح قلعها وتصفية القلب منها أمر قلّ من يوفّق إليه حتى مع الرياضات والمجاهدات الكثيرة وعلى مدى مدّة مديدة، بل ولعلّ العمر لا يتّسع لذلك، والأجل لا يُمهل الإنسان ولا يُتيح له الفرصة اللازمة للقيام بإصلاح نفسه.أجل إنّ الشجرة الكبيرة التي ترسّخت جذورها في الأرض لا يتيسّر قلعها حتّى مع تحمّل المشاق المضنية والمتاعب الكثيرة."إنّ النبتة التي غُرست حديثاً يُمكن لشخص واحد أن يقلعها فإذا ترسّخت جذورها على مرّ الأيام عجزت عن قلعها الأفلاك"1.
وما أكثر ما يحدث أنّ خُلُقاً سيّئاً ـ مثل البخل أو الحسد ـ يظهر مبكراً في الشاب، فيكون بالإمكان إصلاحه بقليل من المراقبة والسعي، بل واستبداله بالخلق الصالح المقابل له، لأنّه ما يزال ضعيفاً لم يترسّخ بعد، ولكن إذا غفل عنه صاحبه مدّة وتهاون في أمره احتاج الإصلاح إلى رياضات شديدة، ومجاهدات شاقّة طويلة، قد لا يمهل الأجل المحتوم الإنسان المجاهد لإكمالها، فيرحل إلى العالم الآخر بتلك الأخلاق المظلمة، والأرجاس المعنويّة، وهي علّة ومنشأ الضغطات والظلمات في القبر والبرزخ والقيامة.
1 مضمون بيتين شعر من "بستان سعدي".
109
87
الفصل السابع الشباب وتهذيب النفس
إذاً، فمن الواجب والضروري للشباب أن يُبادروا لتصفية نفوسهم وتزكيتها ما دامت فرصة الشباب بين أيديهم، وما دام الصفاء الباطني باقياً فيهم، والفطرة الأصلية لم تتلوّث بعد، فعليهم أن يجتهدوا في قلع جذور الأخلاق الفاسدة والصفات الظلمانيّة من قلوبهم، لأنّ سعادة الإنسان يتهدّدها خطرٌ عظيم ما دامت في قلبه الأخلاق القبيحة1.
أهمّية التربية وضرورتها منذ الطفولة
الإنسان موجود إذا لم يُضبط وأُطلِق له العنان لينشأ على رَسْله، وتُرك كالأعشاب الضارّة المهملة ولم يخضع للتربية، فإنّه كلّما كبُر في السن وزاد مقامه في المنصب فإنّ الجوانب الروحية فيه سينالها الضعف وتصير المعنويات تحت سلطة الشيطان، الشيطان الكبير- وهو شيطان النفس. إنّ الشباب حديثو عهد بملكوت العالم ونفوسهم أنقى. ومهما تقدّموا، فإنّهم، إذا لم يجاهدوا ولم يخضعوا للتربية، كلّما خطوا خطوة إلى الأعلى وكلّما مضى من أعمارهم مقدار، يبتعدون عن الملكوت الأعلى وتزداد كدورة أذهانهم أكثر. ولهذا فإنّ التربية يجب أن تكون من البداية. يجب أن يتربّى الإنسان من الطفولة. ثم في المراحل التالية يجب أن يكون الإنسان تحت إشراف مربّين أينما كان. الإنسان محتاج إلى التربية إلى آخر عمره2.
سهولة التهذيب في عمر الشباب وصعوبته في الشيخوخة
أنتم أيُّها الشباب تستطيعون أن تسلكوا على هذا الطريق بنحو أفضل، لقد فاتنا الأمر وذهبت قوانا إلى عُقباها. أنتم أيُّها الشباب تستطيعون بصورة أفضل أن تُهذّبوا أنفسكم، فأنتم أقرب للملكوت من كبار السن، وجذور الفساد أقلّ تأصّلاً فيكم، لم تمتدّ كثيراً بعد، لكنَّها تتجذّر وتتكاثر في كلّ يوم ما دامت باقية، ويصعب الأمر كلّ يوم مع كلّ تأخير (في اقتلاعها). فعسيرٌ جداً على الشيخ العجوز إصلاح حاله فيما لو أراد، ولكنّ الشاب يستطيع تحقيق ذلك أسرع. يتحقّق إصلاح آلاف الشباب ولا يتحقّق إصلاح عجوز واحد. لا تتركوا أمر الإصلاح لأيام الشيخوخة، ابدؤوا الآن سَيركم ما دمتم شباباً. اجعلوا الآن أنفسكم تابعة لتعاليم الأنبياء، وهذا هو مبدأُ المسيرة ومنه يجب الانطلاق. فالأنبياءُ أوضحوا الطريق
1 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 156 - 157.
2 صحيفة الإمام، ج 14، ص 152 - 153.
110
88
الفصل السابع الشباب وتهذيب النفس
وأرشدوا إليه. نحن لا نعرف الطريق، هم يعرفونه.فَهُم أطباء يعرفون سبيل السلامة،وقد أوضحوه وأرشدوا إليه، فإن أردتم السلامة فعليكم أنْ تَسْلكوه. عليكم أن تُقلّلوا شيئاً فشيئاً من التوجّه إلى النفس والاهتمام بها. وبالطبع فمثل هذه المهمّة لا يمكن إنجازها بسرعة، لكن عليكم التحرّر شيئاً فشيئاً. جميع آمالنا هذه ستُدفنُ وتنتهي، كلّ أشكال الاهتمام بالنفس ستنتهي وفي غير صالحنا. والذي يبقى هو المتعلّق بالله ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾1،2.
توصية الشبّان بالتهذيب في عمر الشباب
عليكم أيّها الشبّان أن تشرعوا من الآن بهذا الجهاد، لا تدعوا قوى شبابكم تتبدّد، فكلّما ذهبت قوى الشباب من الإنسان زادت جذور الأخلاق الفاسدة فيه وتعقّدت، وصار الجهاد أصعب. الشاب يستطيع أن ينتصر في هذا الجهاد سريعاً، ولا يستطيع الشيخ ذلك بنفس السرعة. لا تدعوا أمر إصلاح أحوالكم ينزلق من عمر الشباب إلى الشيخوخة، فمن مكائد النفس التي تكيدها لصاحبها ويحثّ عليها الشيطان هي التسويل بأن دَع إصلاح نفسك إلى آخر العمر، وتمتّع بشبابك الآن، وتُبْ في آخر العمر. هذا مخطّط شيطاني تُعِدّه النفس بتعليم الشيطان الكبير.
فالإنسان يستطيع إصلاح نفسه ما دامت قوى الشباب موجودة، وما دامت روح الشباب اللطيفة فعّالة، وما دامت جذور الفساد فيه قليلة. أمّا إذا ضربت جذور الفساد في نفسه واستحكمت، فلا إمكان للإصلاح في ذلك الوقت. أنتم الآن مهيّؤون أيّها الشباب للجهاد في طريق بناء النفس، وهذا الجهاد هو الجهاد الأكبر، لأنّه مبذول في بناء أنفسكم وهو مفيد لبلادكم، فكونوا خَدَمها، ويجب أن تبدؤوا من هذه السنين بصناعة أفراد يُمكنهم في المستقبل إنقاذ بلد بأكمله. فإذا بنيتم أنفسكم هكذا، وجذَّرتم الفضائل الإنسانية فيها، فإنّكم منتصرون حينذاك في كلّ المراحل، وتستطيعون أن تُنقذوا بلادكم. أولئك الذين قادوا بلادنا إلى البَوار ارتكبوا ذلك لأنّ بناء أنفسهم كان مُتداعياً، فقد كانوا ذوي أخلاق فاسدة وعقائد فاسدة وأعمال فاسدة. ولو كانوا قد طهّروا أنفسهم، لَما خانوا الشعب ولما خانوا الإسلام3.
1 سورة النحل، الآية 96.
2 الإمام الخميني، تفسير سورة الحمد، ص 126 - 127.
3 صحيفة الإمام، ج 8، ص 300 - 301.
111
89
الفصل السابع الشباب وتهذيب النفس
صعوبات التهذيب في الشيخوخة
حيث إنّكم الآن في ريعان الشباب فأنتم قادرون على التحكّم بقواكم ولم يدبّ الضعف بعد إلى أبدانكم، فإذا لم تفكّروا الآن بتزكية أنفسكم وبناء ذواتكم، فكيف ستتمكّنون من ذلك غداً عند الكِبَر حين يتغلّب الضعف عليكم ويسيطر الوهن وتفقدون العزم وتضمحل فيكم الإرادة وتنتهي المقاومة، ويكون ثقل الذنوب قد زاد في ظلمة القلب، عندها كيف يتسنّى لكم بناء أنفسكم وتهذيبها؟ إنّ كلّ نفس تتنفّسونه، وكلّ خطوة تخطونها، وكلّ لحظة تتصرّم من أعماركم، تزيد من صعوبة إصلاحكم أنفسكم، وربما تزيد في الظلمة والفساد. فكلّما يتقدّم العمر بالإنسان تزداد هذه الأمور التي تتعارض مع سعادة الإنسان، وتضعف القدرة على الإصلاح. فإذا بلغتم مرحلة الشيخوخة فمن الصعب أن توفّقوا لاكتساب الفضيلة والتقوى. ليس بمقدوركم أن تتوبوا، لأنّ التوبة لا تتحقّق بمجرّد لفظ "أتوب إلى الله"، بل تتوقّف على الندم والعزم على ترك الذنوب. وإنّ الندم والعزم على ترك الذنوب لن يحصلا للذين أمضوا عمراً في الغيبة والكذب وابيضّت لحاهم على المعصية والذنوب، فمثل هؤلاء يظلّون أسارى ذنوبهم إلى آخر أعمارهم.
فليتحرّك الشباب قبل أن يداهمهم المشيب. ـ لقد بلغنا هذه المرحلة ونحن أعلم بمعاناتها ومصائبها ـ. إنكم ما دمتم في عمر الشباب تستطيعون أن تفعلوا كلّ شيء. فما دمتم تملكون عزيمة الشباب وإرادة الشباب، باستطاعتكم أن تتخلّصوا من أهواء النفس ومشتهياتها الدنيوية ورغباتها الحيوانية. ولكن إذا لم تبادروا إلى ذلك، ولم تُفكّروا بإصلاح أنفسكم وبنائها، فسوف يكون ذلك ضرباً من المحال عندما تبلغون مرحلة الهرم.. فكّروا بأنفسكم ما دمتم شباباً ولا تنتظروا إلى أن تُصبحوا شيبة ضعافاً عاجزين.
إنّ قلب الشاب قلب رقيق وملكوتي، ودوافع الفساد فيه ضعيفة. ولكن كلّما كبر الإنسان استحكمت في قلبه جذور المعصية إلى أن يُصبح استئصالها من القلب أمراً غير ممكن. كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يُغطّي البياض، فإذا تغطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً"1.
1 الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص274، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، الحديث20.
112
90
الفصل السابع الشباب وتهذيب النفس
إنّ إنساناً قد سوّد قلبه بهذا النحو قد لا يمرّ عليه يوم أو ليلة دون أن يعصي الله تعالى، وحيث إنّه يكون قد وصل إلى سنّ الشيخوخة يصير من الصعب أن يرجع قلبه إلى حالته الأولى1.
القضاء على الانحراف بقوّة الشباب
تستطيع بقوّة الشباب التي أعطاك الحقّ أن تبتر أول خطوة انحراف ولا تدعها تنجرّ إلى خطوات أخرى.. فلكلّ خطوة خطوة تتبعها، وكلّ ذنب حتى إذا كان صغيراً يجرّ الإنسان إلى ذنوب كبيرة وأكبر بحيث تُصبح الذنوب الكبيرة في نظر الإنسان ليست شيئاً يُذكر، بل أحياناً يفتخر الأشخاص على بعضهم بارتكاب بعض الكبائر وأحياناً بسبب شدّة الظلمات والحجب الدنيوية يُصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً2.
اغتنام الشباب لتحصيل العبادة
ما دمتم قد هيّأتم أنفسكم أيّها الإخوة للتحصيل العلمي، فعليكم حيث إنّ نعمة الشباب بأيديكم أن تُنظّموا أوقاتكم، وتجعلوا القسم الأساسي منها للمباحثة والمطالعة والدراسة والبحث والتدريس، ولا تتوهّموا أنّكم تستطيعون إذا ضاعت منكم أيام الشباب أن تؤدّوا عباداتكم أو تحصّلوا العلوم في آخر العمر، فالإنسان لا قدرة لديه آخر عمره على العبادة ولا على التعلّم، ولا تكون طاقته الذهنية قوية مستقيمة ليتمكّن من إدراك المطالب العلمية3.
قرب الشباب من أفق الملكوت
أنتِ أيضاً لا تيأسي، لأنّ اليأس من الأقفال الكبرى، اسعي قدر الميسور في رفع الحجب وكسر الأقفال للوصول إلى الماء الزلال ومنبع النور. ما دام الشباب في يدك فجدّي في العمل وفي تهذيب القلب وكسر الأقفال ورفع الحجب، فإنّ آلاف الشباب الذين هم أقرب إلى أفق الملكوت يوفّقون لذلك ولا يوفّق هرم واحد. القيود والأغلال والأقفال الشيطانية إذا غفل عنها
1 الإمام الخميني، الجهاد الأكبر، ص 57 - 59.
2 صحيفة الإمام، ج 18، ص 520 - 521.
3 م.ن، ج 3، ص 217.
113
91
الفصل السابع الشباب وتهذيب النفس
في مرحلة الشباب تضرب جذورها في كلّ يوم يمضي مع العمر وتُصبح أقوى.
"إنّ النبتة التي غُرست حديثاً يمكن لشخص واحد أن يقلعها فإذا ترسّخت جذورها على مرّ الأيام عجزت عن قلعها الأفلاك"
من مكائد الشيطان الكبرى والنفس الأخطر منه أنّهما يعدان الإنسان بالإصلاح في آخر العمر وزمان الشيخوخة، ويؤخّران التهذيب والتوبة إلى الله إلى الزمان الذي تُصبح فيه شجرة الفساد وشجرة الزقوم قوية والإرادة والقدرة على التهذيب ضعيفتين بل ميتتين1.
ميّزات مرحلة الشباب بالنسبة للتهذيب
ألم يحن الوقت للتوجّه نحو إصلاح نفوسنا والسعي لعلاج أمراضها؟ لقد ضيّعنا دون مقابل رأسمال سنيّ الشباب الذي كان ينبغي أن نعّد به لأنفسنا سعادة الدارين، ضيّعناه بغرور النفس وتغرير الشيطان، وما نزال غافلين عن الإصلاح وعن الحيلولة دون ضياع فرصة الحياة، ثمّ الرحيل عن الدنيا بخسران تامّ وشقاء كامل.
إنّ أيام الشباب أنسب لإصلاح النفس، فالإرادة تكون في هذه الأيام أقوى، والكدورة والظلمة، ونكون نحن أقرب فيها إلى الفطرة السليمة، وثقل المعاصي لم يزدد إلى الدرجة التي يصعب معها تلافي الأمر.
ليعرف الشباب قدر هذه الأيام، فهي نعمة عظيمة لا ينبغي لهم تضييعها بالغفلة، فإنّ إصلاح النفس أيّام الشيخوخة صعبٌ للغاية، حيث تُحيط بالإنسان في أيّام شيخوخته مشاكل كثيرة لا أثر لها في أيام الشباب. لكن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء يُغرّران بالإنسان ويصدَّانه عن السعي في الإصلاح في شبابه إلى أن يستولي عليه ضعف الشيخوخة ووهنها، وتزداد المعاصي والكدورات النفسية، وحينئذٍ يُغرِّرانه أيضاً بالتسويف والتأجيل، حتى ينقضي أصل رأسماله (وهو عمره) وينتقل إلى دار الانتقام وهو حليف الخذلان والخسران: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾2.
1 صحيفة الإمام، ج 18، ص 446 - 447.
2 سورة العصر، الآيتان 1 و2.
114
92
الفصل السابع الشباب وتهذيب النفس
وأيُّ خسران أعظم من صرف الإنسان رأسمال السعادة السرمدية في استجلاب الشقاء الأبدي، واستخدامه وسيلة الحياة والنجاة في التهلكة والفناء دون أن يستيقظ من الغفلة إلى نهاية عمره!1.
الاستدراج من حيل الشيطان
بُنيّ، اسعَ في إصلاح نفسك ما دمت تحظى بنعمة الشباب، فإنّك ستخسر كلّ شيء في الشيخوخة. فمِنْ مكائد الشيطان ولعلّها أخطر مكائده التي سقط فيها أبوك وما زال - إلا إذا تداركته رحمة الحق تعالى - "الاستدراج". ففي أوائل الشباب يسعى شيطان الباطن - أشدّ أعداء الشاب - في ثنيه عن إصلاح نفسه ويمنّيه بسعة الوقت، وأنّ الآن هو آن التمتّع بالشباب ويستمرّ في خداعه بالوعود الفارغة ليصدّه عن فكرة الإصلاح تماماً.
وساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم يتصرّم الشباب ويرى الإنسان نفسه فجأة في مواجهة الهرم الذي كان يؤمل فيه إصلاح نفسه، وإذا به ليس بمنأى عن وساوس الشيطان أيضاً، إذ يُمنّيه آنذاك بالتوبة في آخر العمر. لكنّه حينما يحسّ بالموت في آخر العمر، يصبح الله تعالى أبغض موجود إليه، لأنه يريد انتزاع الدنيا التي هي محبوبه المفضّل منه.
وهذه هي حال أولئك الذين لم ينطفئ نور الفطرة فيهم تماماً2.
تيئيس الشباب وتأميليهم
ما أكثر ما يخدعنا شيطان النفس - نحن الشيّب وأنتم الشبّان - بوسائل مختلفة. فنحن الشيوخ يواجهنا بسلاح اليأس من الحضور وذكر الحاضر فينادي: لقد فاتكم العمر وتصرّم وقت الإصلاح ومضت أيام الشباب التي كان ممكناً فيها الاستعداد والإصلاح، ولا قدرة لكم في أيام ضعف الشيخوخة هذه على الإصلاح، فقد استحكمت جذور شجرة الأهواء والمعاصي في جميع أركان وجودكم وتشعّبت فروعها، فأبعدتكم عن اللياقة لمحضره جلّ وعلا، وضاع كلّ شيء! فما أحرى أن تستفيدوا من هذه الأيام الباقية من أعماركم أقصى ما يمكن الاستفادة من الدنيا.
1 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 345 - 346.
2 صحيفة الإمام، ج 20، ص 437 - 438.
115
93
الفصل السابع الشباب وتهذيب النفس
وقد يتصرّف معنا أحياناً بنفس الطريقة التي يتصرّف بها معكم أيّها الشبّان، فهو يقول لكم "أنتم شبّان وهذا هو وقت التمتّع والحصول على اللذّات، فاسعوا الآن لإشباع شهواتكم وإن شاء الله تتوبون في آخر أعماركم، فإنّ باب رحمة الله مفتوح والله أرحم الراحمين، وكلّما زادت ذنوبكم فإنّ الندم والرغبة في الرجوع إلى الحق سيزداد في آخر العمر، وسيكون التوجّه إلى الله تعالى أكبر والاتصال به جلّ وعلا أشدّ، فما أكثر أولئك الذين تمتّعوا في شبابهم ثم أمضوا آخر أيّامهم بالعبادة والذكر والدعاء وزيارة الأئمة عليهم السلام والتوسل بشفاعتهم، فرحلوا عن هذه الدنيا وهم سعداء!"1.
تذكير الشباب بشأن التهذيب
لا ينبغي للشيوخ أن يغفلوا عن السعي لإصلاح نفوسهم وتزكيتها، ولا ينبغي لهم أن ييأسوا، لأنّ الإنسان ـ رغم كلّ ذلك ـ يستطيع أن يُصلح نفسه ما دام في هذا العالَم ـ الذي هو دار التبدّل والتغيّر، ومنزل الهيولى والاستعداد، ويُمكنه بالجهد والاجتهاد الكامل لديه أن يصلح نفسه2.
نور الفطرة وصفاء النفس في عمر الشباب
ما دام الإنسان في عالم الطبيعة فإنّه قادرٌ على أن يُعدّل قواه الجامحة وأن يُخضع النّفس المتمرّدة العاصية لسيطرة العقل والشرع، وهذا الأمر هو في غاية اليسر والسهولة في أوّل الشباب، لأنّ نور الفطرة لا يكون قد غُلب بعد، وصفاء النّفس لم يذهب، والأخلاق الفاسدة والصفات القبيحة لم تترسّخ في النّفس3.
سهولة الإصلاح في عمر الشباب
إنّ عزم الإنسان وإرادته في سني شبابه تكون شابّة وقويّة، ولذلك يكون الإصلاح أيسر عليه حينها.أمّا في مرحلة الشيخوخة فالإرادة تضعف، والعزم يشيخ، لذا تكون السيطرة على القوى أصعب4.
1 صحيفة الإمام، ج 16، ص 221.
2 شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 157.
3 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 153 - 154.
4 م.ن، ص 157.
116
94
الفصل السابع الشباب وتهذيب النفس
مرونة أرواح الشباب
بُنيّ، أتحدّث إليك الآن وأنت ما زلت شابّاً. عليك أن تنتبه إلى أنّ التوبة أسهل على الشباب، كما أنّ إصلاح النفس وتربية الباطن يتمّ بسرعة أكبر عندهم. في حين أنّ الأهواء النفسانية والسعي للجاه وحبّ المال والغرور أكثر وأشدّ بكثير لدى الشيوخ منه لدى الشبّان. أرواح الشبّان رقيقة شفّافة سهلة القياد، وليس لدى الشبّان من حبّ النفس وحبّ الدنيا بقدر ما لدى الشيوخ. فالشاب يستطيع بسهولة نسبياً أن يتخلّص من شرّ النفس الأمّارة بالسوء ويتوجّه نحو المعنويات. وفي جلسات الوعظ والتربية الأخلاقية يتأثّر الشبّان بدرجة كبيرة لا تحصل لدى الشيوخ1.
1 صحيفة الإمام، ج 16، ص 222.
117
95
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
الذلّة والعبودية للآخرين
اعلم أنّ الإنسان إذا أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوة والأهواء النفسانية، كان رقُّه وعبوديّته وذلّته بقدر مقهوريّته لتلك السلطات الحاكمة عليه، ومعنى العبودية لشخص هو الخضوع التّام له وإطاعته. والإنسان المطيع للشهوات المقهور للنفس الأمّارة يكون عبداً منقاداً لها. وكلّما أمرت هذه السلطات بشيء أطاعها الإنسان في منتهى الخضوع، ويغدو عبداً خاضعاً ومطيعاً لتلك القوى الحاكمة، ويبلغ الأمر إلى مستوىً يُفضّل طاعتها على طاعة خالق السماوات والأرض، وعبوديّتها على عبودية مالك الملوك الحقيقي، وفي هذا الحال تزول عن قلبه العزّة والكرامة والحرّية ويحلّ محلّها الذلّ والهوان والعبودية، ويخضع لأهل الدنيا، وينحني قلبه أمامهم وأمام ذوي الجاه والسلطة، ويتحمّل لأجل بلوغ شهواته النفسية الذلّ والمنّة، ويستسيغ لأجل الترفيه عن البطن والفرج الهوان، ولا يتضايق من اقتراف ما فيه خلاف الشرف والفتوّة والحرّية عندما يكون أسيراً لهوى النفس والشهوة. وينقلب إلى أداة طيّعة أمام كلّ شارد ووارد، ويقبل منّة كلّ وضيع عنده لمجرّد احتمال نيل ما يبتغيه، حتى لو كان ذلك الشخص أحطّ وأتفه إنسان، وكان ذلك الاحتمال موهوماً، حيث يزعمون أنّ الوهم في دائرة الأطماع حجّة. إنّ عبيد الدنيا وعبيد الرغبات الذّاتية، والذين وضعوا رسن عبودية الميول النفسية في رقابهم، يعبدون كلّ من يعلمون أن لديه الدنيا أو يحتملون أنّه من أهلها، ويخضعون له، وإذا تحدّثوا عن التعفّف وكبر النفس كان حديثهم تدليساً محضاً، وإنّ أعمالهم وأقوالهم تُكذّب حديثهم عن عفّة النفس ومناعتها. وهذا الأسر والرقّ من الأمور التي تجعل الإنسان دائماً في المذلّة والعذاب والنَّصَب. فيجب على الإنسان الشريف والعزيز أن يلجأ إلى كلّ وسيلة ويسعى بجدّية لتطهير نفسه منها.
... وأما العلم فيتمّ بتلقين النفس وإبلاغ القلب بأنّ المخلوقات الأخرى يضاهونه في الفقر
121
96
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
والضعف والحاجة والعجز، وأنّهم يشبهونه أيضاً في الاحتياج إلى الغنيّ المطلق القادر على جميع الأمور الجزئية والكلّية، وأنّهم غير قادرين من أنفسهم على إنجاز حاجة أحد أبداً، وأنّهم أتفه من أن تنعطف النفس إليهم، ويخشع القلب أمامهم، وأنّ القادر الذي منحهم العزّة والشرف والمال والوجاهة، قادر على المنح لكلّ أحد1.
ازدياد القلق وعدم الاطمئنان القلبي
اعملوا على إزالة القلق والاضطراب، ولا تزيدوا منه. إنّكم كلّما سرتم للأمام ازداد القلق.
اعملوا على إزالة هذه الحجب الحائلة بينكم وبين الله تبارك وتعالى. أنتم حجاب أنفسكم السميك. الإنسان بنفسه حجاب. أنت نفسك حجاب نفسك. فكّروا في أنّكم تريدون تحصيل الاطمئنان القلبي، تريدون الراحة وليس الاضطراب والقلق. الإنسان وهو في هذه الدنيا يجعله القلقُ في جهنّم. هذا القلق هو للإنسان باب من أبواب جهنّم. اعملوا على إزالة هذا القلق ورفع هذه المخاوف. وليس ذلك بأن يكون عندكم منصب واحد فيصير اثنين، لا، فهذا زيادة في القلق. اعملوا بحيث يرتفع هذا الخوف النفسي الموجود في الإنسان، هذا القلق وهذه الأمور التي تتبع الأنانية. ارفعوها. أزيلوا أنفسكم. أنفسكم هي الحجاب. فإذا أزلتم أنفسكم من البين فإنّ القلق سيزول كلّه. يظن الإنسان في نفسه أنه يسعى ويريد الوصول إلى هذا المنصب في سبيل الله. هذه أوهام يتوهّمها الإنسان. إنّه وبسبب حبّه الشديد لنفسه يتخيّل أنّ أيّ عمل يقوم به فهو حسن وكلّ ما يقوم به فهو لله. لكنّه لو عرض نفسه على شخص عارف بالله، لأفهمه أن لا، لقد كان عملك لنفسك. جميع الأعمال هي لنفسك. فإذا وصلت إلى حيث تضع نفسك جانباً وتعمل، فإنّ ذلك العمل ليس للنفس. وبنحو قهري عندما لا تكون النفس موجودة فلن يكون هناك نزاع ولا خلاف. الأنبياء لم يكن بينهم نزاع. جميع الأنبياء لو اجتمعوا في مكان ما فلن يحصل بينهم أيّ خلاف، لأنّ لديهم وجهة واحدة وقد تنحّت أنفسهم جانباً فلم يعد هناك نفس. "جزنا وهي خامدة"2. هذه الرواية تقول جزنا هذا الصراط - الصراط الذي في قلب جهنّم وليس عليها كالجسر
1 الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص 301.
2 الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج2، ص971.
122
97
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
والماء يجري من تحته. إنه في الوسط. كالجسر الذي غرق في وسط الماء فإنّ جهنّم محيطة بالصراط. ويجب عليكم أن تعبروا من هناك. ليس أنه فوق ونحن نقع فيها. لا، هو وسطها. المؤمن عندما يريد أن يعبر ويجب أن يعبر، فإنّ جهنّم أيضاً له. ولكن جهنّم تصيح إنّك تكاد تقضي على نوري، جز بسرعة. في رواياتنا أنّ الأنبياء - والأئمة عليهم السلام ذكروا أن هذا يعمّ جميع الأولياء - (يقولون) إنّنا عبرنا الصراط وجهنّم خامدة، جزنا وهي خامدة، لأن هذا الخمود يشرع من النفس. عندما تكون جهنّم خامدة في ذات الإنسان فإن جهنّم تلك أيضاً ستكون خامدة. جهنّم تلك التي تصل إلينا هي التي صنعناها من أنفسنا. لا نرى أيّ شيء زائداً على ما فعلناه بأنفسنا ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾1. نحن بأنفسنا صنعنا جهنّم. في الرواية أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما ذهب إلى المعراج رأى في الجنّة مجموعة تشتغل: تعمل ساعة وتقف أخرى فسأل جبرائيل عن ذلك فقال له: هذه أعمال الناس، وهي كمواد البناء، فعندما تصل إليهم يعملون، وعندما يتوقّف الناس عن العمل يترك هؤلاء العمل أيضاً. لا شيء يأتيكم من الخارج. كلّ ما هنالك هو منكم. سعى الأنبياء وأرسل الله تبارك وتعالى جميع الأنبياء من أجل إنقاذكم من هذه الورطة، ممّا تصنعونه أنفسكم، ممّا تهيؤونه بأنفسكم لذلك العالم. جميع الأنبياء جاؤوا من أجل إنقاذنا من هذا الشيء الذي صنعناه بأنفسنا. وقلّما نجحوا في ذلك، لأنّ أهواءنا النفسية غلبت دعواتهم2.
إيجاد مرض رؤية النفس
منذ مدّة ليست بالقصيرة، جاءني أحد السادة المحترمين فوجدت أنّ أكثر كلامه عن الجمهورية الإسلامية هو أنّهم لا يعبؤون بأحكامه ولا يستمعون إلى فتاواه، وكلّ ما كان يُشغله هو نفسه وميزان حكم نفسه وليس الله. وهذا مرضٌ موجود لدى الجميع إلا من حفظه الله. والله لا يحفظ إنساناً ما لم يُهيّء الإنسان نفسه مقدّمات ذلك، فلا يجوز أن نجلس ونسأل الله أن يُربّينا ويُهذّبنا. فقد وضع الله بين أيدينا وسائل التربية والتهذيب، والتهذيب عملٌ علينا نحن القيام به، وليس موكلاً به شخصٌ آخر غيرنا3.
1 سورة الشورى، الآية 30.
2 صحيفة الإمام، ج 14، ص 211 - 212.
3 م.ن، ج 18 ، ص 18.
123
98
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
خطر العلم والمقام لغير المهذّب
إنّ التزكية هي من أجل أن يقع نور الهداية في الإنسان، فإذا لم تزكّوا أنفسكم فإنّكم ستطغون. إذا لم تتزكّوا فإنّ العلم يُشكّل خطراً عليكم، أخطر من كلّ شيء. إذا لم تتزكّوا فإنّ المنصب خطير عليكم ويجرّكم إلى الهلاك الدنيوي والأخروي1.
الأهواء النفسانية مانعة من فهم القرآن
الهدف من التزكية إنّما هو من أجل فهم الكتاب والحكمة.
لا تستطيع كلّ نفس أن تُدرك هذا النور المتجلّي والمتنزّل من الغيب والذي وصل إلى الشهادة. فإنّ تعليم الكتاب والحكمة غير ميسّر طالما لا توجد تزكية. يجب تزكية النفوس من كلّ التلوّثات والتي أكبرها عبارة عن تلوّث النفس وأهوائها النفسانية.
وما دام الإنسان في حجاب نفسه، لا يستطيع أن يُدرك هذا القرآن الذي هو نور وطبقاً لما ورد في القرآن فهو نور، ولا يستطيع الغارقون في الحجاب والمتستّرون بالحجب الكثيفة أن يُدركوا هذا النور. يظنّون أنّهم يستطيعون، ولكنّهم لا يستطيعون. فلا يكون الإنسان أهلًا لكي ينعكس هذا النور الإلهي في قلبه ما دام لم يخرج من حجابه الشديد الظلمة، وما دام أسيراً لأهوائه النفسية، وما دام أسيراً لأنانيّته، وما دام أسيراً لأشياء قد أوجدها في باطن نفسه من ظلمات بعضها فوق بعض. إنّ الذين يريدون أن يفهموا القرآن ومحتواه، وليس صورته النازلة الصغيرة، ويريدون أن يفهموا محتوى القرآن بحيث إنّهم كلّما قرؤوا أكثر كلّما ارتفعوا أكثر وكلّما قرؤوا أكثر كلّما اقتربوا من مبدأ النور والمبدأ الأعلى، فهذا لا يمكن إلا برفع الحجب وأنت حجاب نفسك فيجب رفع حجاب النفس حتى تستطيع أن تُدرك هذا النور كما هو وكما يليق بالإنسان أن يُدركه. إذاً فمن الأهداف هو أن يصير تعليم الكتاب بعد التزكية، وتُعلَّم الحكمة بعد التزكية2.
1 صحيفة الإمام، ج 14، ص 393.
2 م.ن، ج 14، ص 388 - 389.
124
99
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
العمى عن إدراك المعارف
إذا وُجّهت مرآة النفس الصافية شطر الكدورة والظلمة ودار الطبيعة - التي هي أسفل سافلين - أثّرت فيها كدورة الطبيعة بصورة تدريجية وجعلتها ظلمانية كدرة، حتى يستولي غبارُ وصدأ الطبيعة على وجه مرآة ذات النفس، بحكم أنّ عالم الطبيعة ضدّ عالم النور الذي يصدر منه جوهر ذات النفس. وحينئذٍ تعمى النفس عن فهم الأمور الروحانية، ويشتدُّ فيها هذا الاحتجاب والحمق حتى تصير نفساً "سجِّينية" من سنخ "سجِّين": - ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً﴾1، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾2، ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾3.4
تفسير الآيات الإلهية على حسب هوى النفس
إنّ القلوب المعوجة المنحرفة التي اختلطت بالأهواء النفسانية وحبّ النفس والدنيا، تعمد إلى تأويل الكتاب الإلهي الشريف وتأويل الآيات التدوينية5، لا بل الآيات التكوينية6 وفقاً لما تريده أهواؤها النفسانية، وهذا هو التفسير بالرأي المتأثّر بتصرّف الشيطان والنفس، وهو باطل وحرام7.
الانقطاع عن عالم النور والروحانية
ولكن هذه الفطرة نفسها إذا احتجبت عن روحانيّتها، وصارت مظلمة لانشغالها بعالم الطبيعة، وغلب عليها سلطان الشهوة والجهل والغضب والشيطنة، وأنست بالملذّات الدنيوية وبكثرات عالم الملك، حينئذٍ تعرض صفحتها الباطنية عن عالم الروحانية والملكوت، ويزول تناسبها وانسجامها مع تلك العوالم النورانية فتصير منسجمة مع عالم الجنّ والشيطان،
1 سورة البقرة، الآية 10.
2 سورة البقرة، الآية 257.
3 سورة الإسراء، الآية 46.
4 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 270 - 271.
5 المراد من الايات التدوينية الآيات التي أنزلت في الكتب السماوية وبالخصوص آيات القرآن الكريم.
6 المراد من الآيات التكوينية موجودات عالم الوجود التي تُمثّل كل منها آية وعلامة على الله تعالى.
7 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 311.
125
100
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
ويسيطر عليها سلطان الوهم ودعابات القوة المتخيّلة - وهي شيطان الإنسان الصغير - فلا تستسيغ بعد ذلك الحقائق والمعارف الإلهية وما ينزل من عالم النور والطهارة والقدس بل يُصبح مرّاً على ذائقتها ثقيلاً على سمعها1.
تسلّط النفس موجب لهلاك الإنسان
واعلم أنّه ما دام الإنسان يرزح تحت قيود النفس وشهواتها، وما دامت سلاسل الشهوة والغضب الطويلة على رقبته لا يستطيع أن يبلغ أيّاً من المقامات المعنوية والروحانية، ولا تظهر فيه السلطة الباطنية للنفس وإرادتها الثاقبة، ولا يحصل له مقام استقلال النفس وعزّتها، الذي هو من أرقى مقامات الكمال الروحاني، بل إنّ هذا الأسر والرقّ يُقيّده ولا يسمح له بالتمرّد على النفس في أيّ حال.
ولمّا قويت هيمنة النفس الأمارة والشيطان في الباطن، وانقادت القوى جميعها لهما في العبودية والطاعة وأبدت لهما الخضوع والتسليم التامّين، ما اقتصرتا على المعاصي بل دفعتا بالإنسان من المعاصي الصغيرة رويداً رويداً إلى المعاصي الكبيرة، ومنها إلى ضعف العقائد ومنها إلى الأفكار المظلمة ومنها إلى الطريق المسدود للجحود ومنه إلى بغض الأنبياء والأولياء وعداوتهم.والنفس الخاضعة لسلطتهما (النفس الأمارة والشيطان) وتعيش حالة الرقّ لهما، لا تستطيع أن تخرج على رغباتهما. وعليه تكون عاقبة أمر الطاعة والتقيّد ـ للنفس الأمارة ـ وخيمة جدّاً، وستدفع بالإنسان إلى أماكن خطيرة ومخيفة. إنّ الإنسان العاقل الروؤف بنفسه لا بدّ له من السعي واللجوء إلى كلّ سبيل لإنقاذ نفسه من الأسر، والنهوض أمام النفس الأمّارة والشيطان الباطني، ما دامت الفرصة سانحة، وقواه الجسدية سالمة وما دام أنّه على قيد الحياة وفي صحة موفورة وفتوّة موجودة، وأنّ قواه لم تتسخّر بنحو كلّي، ثمّ يُراقب حياته مدّة من الزمن، ويتأمّل في أحوال نفسه وأحوال الماضين، ويتمعّن في سوء عاقبة بعضهم. ويُفهِم نفسه أنّ هذه الأيّام القليلة تبلى، ويوقظ قلبه ويفهمه الحقيقة التالية المنقولة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث خاطبنا قائلاً: "الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ"2 فلو أننا لم نزرع في هذه
1 الإمام الخميني،شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 115.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج67، ص 225، فيمن عمل عملاً أشرك في غير الله.
126
101
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
الأيّام المعدودة، ولم نعمل عملاً صالحاً، لفاتتنا الفرصة، وإذا غشينا الموت، وحلّ العالم الأخر، لانقطعت أعمالنا جميعاً وذهبت آمالنا نهائياً. وإذا جاء ملك الموت ونحن لا نزال عبيد الشهوات وأسارى قيود أهواء النفس المتشعّبة ـ والعياذ بالله ـ لكان من الممكن للشيطان أن يسرق إيماننا الذي هو غايته القصوى وأن يحتال ويتراءى أمام قلبنا بصورة نخرج بها من الدنيا ونحن أعداء الحقّ المتعالي والأنبياء والأولياء عليهم السلام. والله سبحانه يعرف ماذا وراء هذا الحجاب من الشقاوات والظلمات والوحشة؟
فيا أيّتها النفس الدنيئة ويا أيّها القلب الساهي استيقظا وانهضا في وجه هذا العدو الذي ألجمكما منذ سنين وربطكما بأغلال الأسر وهو يجرّكما إلى حيث يريد، ويدفع بكما إلى كلّ عمل قبيح وسلوك بشع ويجبركما عليه. وحطّما هذه القيود، وكسِّرا هذه السلاسل، وكن أيّها الإنسان حرّاً، وادفع عن نفسك الذلّ والهوان، وضع في رقبتك طوق العبودية للحقّ ـ جلّ جلاله ـ حتى تتحرّر من كلّ عبودية وترقى إلى السلطة الإلهية المطلقة في العالمين1.
جرّ الإنسان إلى الكفر
علينا جميعاً نحن وأنتم أن نعلم أنّ شيطان الخارج والداخل والنفس الأمّارة يَجُرُّ الإنسان بالتدريج من الذنوب الصغيرة إلى الكبيرة والأكبر حتى يصل إلى الكفر أخيراً. فعليكم أن تعتبروا ونعتبر أيّ ذنبٍ صغيرٍ كبيراً وأن نجتثّ الفساد من جذوره، أسأل الله تعالى العون في أن يحفظنا جميعاً خاصة من شيطان النفس التي هي أمُّ الأصنام2.
انطفاء نور الفطرة
إذا غفل عن نفسه، ولم يسع في إصلاحها وتزكيتها، وربّاها على اتباع هواها، فإنّ حجبها تزداد كلّ يوم، بل كلّ ساعة، ويظهر له خلف كلّ حجاب حجاب آخر بل حجب أخرى حتى ينطفئ نور الفطرة بالكامل ولا يبقى فيها أثر من المحبّة الإلهية، بل وتُصبح مبغضة للحقّ تعالى، ولكلّ ما يرتبط به من القرآن الشريف وملائكة الله وأنبيائه العظام وأوليائه
1 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 258 - 259.
2 صحيفة الإمام، ج 19، ص 371.
127
102
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
الكرام عليهم السلام والدين الحقّ وجملة الفضائل.وتقوى جذور العداوة للحقّ - جلّ وعلا - ومقرّبي حضرته المقدّسة قي قلبه حتى تُغلق أمامه أبواب السعادة بالكامل ويسدّ طريق الصلح مع الحقّ تعالى والشفعاء عليهم السلام، فيخلد إلى أرض الطبيعة الذي يظهر باطنه (الإخلاد) في العالم الآخر بالخلود في عذاب جهنّم1.
مخالفة النواميس الإلهية والشرائع الحقّة
هذه القوى الثلاث (الشهوة والغضب والوهم) لا تُحدّ بحدٍّ.فلو أطلق الإنسان العنان لقوة الشيطنة لما وقفت عند أيّ حدٍّ ولما قنعت بأيّة مرتبة، ولصارت مستعدّة من أجل تحقيق ما تريد لأن تُخالف وتُعادي جميع النواميس الإلهية والشرائع الحقّة، ولأن تقتل الأنبياء والأولياء الصالحين والعلماء بالله أفواجاً أفواجاً من أجل الوصول إلى رئاسة محدودة، وقس على ذلك حال القوّتين الأخريين إذا أطلق لهما العنان وتركتا وشأنهما2.
العداوة مع الله عند الموت
كان شيخنا الجليل حضرة العارف بالله الشيخ محمّد علي الشاه آبادي3 ـ أدام الله ظلّه على رؤوس مريديه ـ يقول: "إنّ الحب الشديد للدنيا يؤدّي بالإنسان عند خروجه منها، وعندما يرى عياناً أنّ الحق تعالى وملائكته وسدنته ينتزعونه من الدنيا ويفصلونه عن محبوبته، إلى أن يغضب بالجبلّة والفطرة ويسخط عليهم، فيرحل عن الدنيا وهو في حال من العداء للحقّ تعالى وملائكته المقدّسين". وقريب من هذا المعنى ما ورد في الحديث الشريف المروي في الكافي وقد جعلناه الحديث السابع والعشرين من أحاديث كتاب "الأربعون حديثاً" التي شرحناها.
1 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل ص 83.
2 م.ن، ص 84.لا
3 الميرزا محمد علي بن محمد جواد الأصفهاني الشاه آبادي ولد عام 1292 وتوفي عام 1369 هجري قمري- هو الفقيه الأصولي والفيلسوف العارف الذي ذاع صيته في القرن الرابع عشر هجري. أنهى دراساته في حوزات أصفهان وطهران والنجف، ودرّس بداية في سامراء ثم في قم وطهران. حضر الإمام الخميني في الفترة الممتدة من 1347 و 1354 هجري قمري دروسه في العرفان والأخلاق في مدينة قم المقدسة. مدفون إلى جوار حضرة عبد العظيم الحسني في منطقة الري. من أهم آثاره: شذرات المعارف، رشحات البحار، الإنسان والفطرة، القرآن والعترة، الإيمان والرجعة، منازل السالكين.
128
103
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
وخلاصة الكلام أنّ السخط والغضب على الحقّ تعالى وأفعاله، من جنود إبليس والجهل ولوازم الفطرة المحجوبة، أعاذنا الله منه1.
العجز عن النطق بكلمة التوحيد
إذا لم يخضع الإنسان لتربية الحقّ تعالى في هذا العالم، ولم يُسلّم نفسه لمقام ربوبيته، ولم يُسخّر قلبه وسائر أعضائه للسلطنة الإلهيّة، ولم يُطهّر نفسه من التصرّفات الشيطانيّة، فمن غير المعلوم أنّه سيكون قادراً في عالم القبر والبرزخ على أن يقول: الله جلّ جلاله ربّي2.
صعوبة الانسلاخ عن الدنيا
إنّ الخطر العظيم محدقٌ بالإنسان حين يكون حبّ الدنيا في قلبه، من الممكن أن يرى عند معاينة عالم الغيب (حين الاحتضار) حيث تكون فيه بقايا من الحياة المكّية الدنيوية أيضاً لأن ما يُكشف له وهو في تلك الحال هو بعضُ حجاب الملكوت، فيرى عندئذٍ ما أُعدّ له في ذلك العالَم، وأنّ الحقّ تعالى وجنوده الموكلين (بقبض الروح) يفصلونه عن محبوبه (الدنيا) وينقلونه إلى دركات ذلك العالم وظلماته. فيخرج من الدنيا وهو مبغض ومعادٍ للحقّ تعالى وملائكته، ولا يخفى ماذا سيكون مصيرُ من يغادر الدنيا وهو على هذه الحال3.
بقاء الأمراض الروحية بعد الموت
اعلم أيّها العزيز أنّه مثلما يكون لهذا الجسد صحة ومرض، وعلاج ومعالج، فإنّ للنفس الإنسانية أيضاً صحة ومرضاً، وسقماً وسلامة، وعلاجاً ومعالجاً. إنّ صحة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق الإنسانية، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانية، وإنّ الأمراض النفسية أشدّ فتكاً وخطراً آلاف المرّات من الأمراض الجسمية. وذلك لأنّ هذه الأمراض إنّما تصل إلى نهايتها بحلول الموت. فما أن يحلّ الموت، وتُفارق الروح البدن، حتى تزول جميع الأمراض الجسمية والاختلالات المادّية، ولا يبقى أثر للآلام أو الأسقام في الجسد.
1 شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 165 - 166.
2 م.ن، ص 167.
3 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 273.
129
104
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
ولكن إذا كان ذا أمراض روحية وأسقام نفسية ـ لا سمح الله ـ فإنّه ما أن تُفارق الروح البدن، وتتوجّه إلى ملكوتها الخاص، حتى تظهر آلامها وأسقامها.إنّ مَثَل التوجّه إلى الدنيا والتعلّق بها، كمثل المخدِّر الذي يسلب الإنسان شعوره بنفسه. فعندما يزول ارتباط الروح بدنيا البدن، يرجع إليها الشعور بذاتها، ومن ثَمّ الإحساس بالآلام والأسقام التي كانت في باطنها، وصارت مهاجمة لها بعد أن كانت مختفية كالنار تحت الرماد. وتلك الآلام والأسقام إما أن تكون ملازمة لها (للروح) ولا تزول عنها أبداً، وإما أن تكون قابلة للزوال لكن زوالها يستلزم البقاء آلاف السنين تحت الضغط والعناء والنار والاحتراق قبل أن تزول، إذ إنّ آخر الدواء الكيّ. قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾1.2
شدائد وضغوطات عالم القبر
إذا رحل الإنسان عن هذا العالَم، وانتقل إلى العالَم الآخر وهو على الملكات الفاسدة والأوصاف الخبيثة ـ لا سمح الله ـ فإنّه يُسلب قدرة الاختيار للإصلاح وتزكية النفس وتصفيتها، حتّى لو كان نور الفطرة والإيمان ما يزال محفوظاً في باطنه.بل إنّ هذا الاختيار يُسلب منه قبل خروج الرّوح من البدن، وتستخدم طرق أخرى لإصلاحه مثل إنزال الشدائد وصعوبات حال الاحتضار وقبض الروح، وإيقاعه في أشكال الوحشة الحاصلة من رؤية الملائكة الموكلين بقبض الروح ـ وهم جند الله الغلاظ الشداد ـ ومثل ظلمات القبر وضغطاته، بل وأشكال العذاب في القبر، وهو من العوالم الغيبيّة، كما يُشير إلى ذلك الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، في قوله: "والقبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران"3.
ويُروى عن الإمام الصادق علأنّه قال: "يُسلّط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنّيناً.. لو أنّ تنّيناً منها نفخ على الأرض لم تُنبت زرعاً"4.5
1 سورة التوبة، الآية 35.
2 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 207.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6،ص205, باب أحوال البرزخ.
4"..ويُسَلَّطُ عَلَى رُوحِهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّيناً تَنْهَشُهُ لَيْسَ فِيهَا تِنِّينٌ تَنْفُخُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ فَتُنْبِتَ شَيْئاً" العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص218، باب أحوال البرزخ.
5 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 158.
130
105
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
عذابات القيامة وجهنّم الموجعة
إذا لم تنقطع جذور الأخلاق الفاسدة والظلمات والكدورات النفسانيّة بالكامل، لا سمح الله، فإنّ الإنسان سيعرّض لأهوال يوم القيامة وعذاباتها ومواقفها الخمسين1، وتنزل به شدائد أشدّ وعذابات أمضى، عسى أن لا يحتاج الأمر إلى إلقائه في عذاب جهنّم الصعب.ولكن إذا لم يتغلّب نور الفطرة حتّى بعد المرور بهذه المواقف المهولة فإنّ أمره سيؤول إلى جهنّم إذ إنّ "آخر الدواء الكيّ"، كما قالوا، فيُحبس في طبقات جهنّم وتنزل به أنواع العذاب حتّى يتخلّص باطن النّفس من الغلّ والغش، وتتطهّر الفطرة، ويظهر الذهب الخالص لفطرة الله، التي بها تليق الإقامة في دار كرامة الحقّ تعالى، بعد نقائها من كلّ غريب منها: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾2 وكيفية هذا النّزع لما في الصدور تختلف في الأشخاص باختلاف مراتب كمال الملكات ونقصها3.
الحشر على صورة الحيوان المنكوس
إذا كنّا كذلك من غير أن نكون في صدد إصلاح نفوسنا، فإنّ هذا الإخلاد إلى الأرض والتوجّه إليها والنظر إلى المرتبة الدنيا والإعراض عن الروحانية والمعنويات ستكون نتيجته أنّ الإنسان سيتحوّل في ذلك العالَم إلى حيوان منكوس بهذا النحو. كلّ ما قام به الإنسان هنا ستكون صورته موجودة هناك4.
التوجّه إلى الدنيا يكون تعفّناً في الآخرة
"إذا فسد العالِم فسد العالَم": اذا فسد العالمِ وتعفّن فإنّ العالَم بأسره سيتعفّن وإنّ أهل
1 عَنْ الإمام الصادقِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ: "أَلَا فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا فَإِنَّ أَمْكِنَةَ الْقِيَامَةِ خَمْسُونَ مَوْقِفاً كُلُّ مَوْقِفٍ مُقَامُ أَلْفِ سَنَةٍ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة". الميرزا النوري، مستدركالوسائل، ج12،ص155 ، باب وجوب محاسبة النفس كل يوم.
2 سورة الحجر، الآية 47.
3 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 159 - 160.
4 صحيفة الإمام، ج 15، ص 73.
131
106
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
جهنّم ليفرّون إلى النار من عفونة العالِم (الفاسد)، إنّ هذا التعفّن ناجم عن التوجّه إلى الدنيا والاهتمام بالمقام والرئاسة، لذا فاجتنبوا مثل هذه الأمور1.
إهلاك النفس لأجل إزالة المنافِس
خطباؤنا وكتّابنا مهما كانوا جيّدين وملتزمين فلا يظنّوا أنهم قد طُهِّروا من تلك الشرور الباطنية ومن شيطان الباطن. لينتبهوا أنّ الشيطان الباطني للإنسان يُرافق الإنسان إلى آخر عمره. أحياناً يقوم هذا الشيطان بعمل بحيث إنّ الإنسان يُهلك نفسه من أجل أن يُهلِك رفيقه. لقد سمعتم هذه القصة أنّ شخصاً كان عنده عبدٌ وكان يُحبّه كثيراً ويعتني به كثيراً ثم قال له (يوماً): في مقابل كلّ هذه المحبّة التي أكنّها لك، لي إليك طلب وهو أن تأتي إلى سطح دار جارنا الذي يُنافِسني وتقطع رأسي على سطحه! إنّ الإنسان كمثل هذا الموجود الذي هو مستعدّ أن يقطع رأسه ليهلك جاره. اصطلاحنا القديم هو (حمار ديزه) وهو نوع من الحمير الهائجة التي تُلقي بنفسها بالبئر من أجل الإضرار بصاحبها! الإنسان موجود من هذا القبيل! الإنسان موجود معقّد. موجود من هذا القبيل لم يتمكّن الأنبياء أن يجعلوا منه إنساناً (بمعنى الكلمة) إلا القليل. في كلّ مكان بُعث الأنبياء فيه كان هناك عدد قليل جدّاً قبلوا تربية الأنبياء السامية التي تليق بالإنسان ولم يتمكّن الأنبياء من إنجاز ما يريدونه. ولكن نحن يُمكننا أن نُقلّل هذه الشيطنات، نستطيع، وليس أنّنا مجبورون ولن نُعَاقب من باب أنّنا مجبورون، كلا! نحن مختارون. نوجد الفساد باختيارنا. باختيارنا نُمسك أقلامنا ونطلق لها العنان من أجل إراقة ماء وجه الآخرين. نُعمل أقلامنا وألسنتنا من أجل طرد منافسينا من الميدان. هذه جميعها مكائد في نفس الإنسان. الإنسان يتخيّل في نفسه أنّه يُحسن صنعاً في حين أنّه يعمل عملًا سيّئاً. يتخيّل أنّه يعمل من أجل الله في حين أنّه يعمل للشيطان.
وفّق الله تبارك وتعالى جميع الشعوب الإسلامية وأيّدهم للنجاة من شرّ الأجانب وشرّ الشياطين وخصوصاً شياطين أنفسهم. وليحفظ الله بلدنا من شرّ الشياطين والأجانب وشرّ الأقلام والأقدام والألسنة2.
1 صحيفة الإمام، ج 6، ص 285.
2 م.ن، ج 14، ص 149 - 150.
132
107
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
نفس الإنسان مبدأ الخلافات
لقد قلت تكراراً: لو اجتمع كافّة الأنبياء في طهران وأرادوا أن يقوموا بعمل ويتابعوا الشؤون لما وقع الاختلاف بينهم أبداً، لا يُمكن ذلك. ولكن لماذا؟ لأنّهم قتلوا أنفسهم، ونفس الإنسان هي مبدأ الاختلاف، إنّها مبدأ جميع الخلافات التي تحصل1.
الاعتداء على الضعفاء لضعف الإنسانية
إنّ أدعياء القوّة تعتريهم حالة جنونية في الأيام الأخيرة من أعمارهم. فهم عندما تكون القدرة والقوّة بأيديهم يتبجّحون ويبرزون عضلاتهم، لكنّهم يصبحون في غاية الضعف عندما يتعرّضون لأدنى هزيمة. إنّه الضعف الروحي هذا الذي يؤدّي بالإنسان إلى مهاجمة أناس أبرياء، أناس عاديين جالسين في منازلهم، طفل صغير لا شأن له به، يؤدّي ضعف الإنسانية وضعف القدرة بهذا الشخص إلى الاعتداء على هؤلاء الأبرياء لا لشيء إلّا لأنّهم وجّهوا له صفعة في جبهات القتال. لذا نرى أنّه (صدّام) يضطّر إلى إرسال ذخيرة عمره (التي تتمثّل في فرق الحرس الجمهوري) التي كان يحتفظ بها لحمايته، إرسالها إلى جبهات الحرب علّها تُنقذه، لكنّها تُمنى بالهزيمة أيضاً. ورغم تعرّضه لهذه الضربة المهلكة، ومعاناته من هذه الصدمة النفسية، إلّا أنّه لا يمتلك العقل الذي يُرشده الى تقييم الواقع كما هو، والتفكير بعمل ما يُعيد له ماء وجهه الذي أُريق أثر هزيمته في جبهات الحرب، حيث نراه يعمد الى مهاجمة مدن آمنة مثل بهبهان ومسجد سليمان وغيرها للتعويض عن هزائمه. وكلّ هذه الاعتداءات سببها ضعف المعنويات وانعدام الإيمان. فالذين يتحلّون بالإيمان لا يُصيبهم الضعف أو الانكسار لا من هذا الجانب ولا من ذاك، لا يتسرّب إليهم الضعف الروحي فيؤذون الناس حينما يمتلكون القوّة، ولا هم يضعفون حين يمنون بالهزيمة فيعتدون على غيرهم كما اعتُدي عليهم. لكن هذا هو جرّاء الضعف الذي فيهم، وضعفهم إنّما هو بسبب انعدام إيمانهم، لا يعرفون الله، لا يهتمّون بالمسائل الإلهية، لا يعنيهم المبدأ ولا المعاد. حياتهم أقلّ من حياة الحيوانات الأخرى، وجرائمهم أكثر من جرائمها. إنّهم مثلما نقل المرحوم المدرّس عن الشيخ الرئيس
1 صحيفة الإمام، ج 13، ص 198.
133
108
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
قوله له قرون وليس له عقل. نسأل الله تعالى أن يمنّ بالعقل على أصحاب القرون هؤلاء، ويجعل هؤلاء الأقوياء يتّصفون بالإنسانية أو يسلب منهم القدرة1.
أداء الإنسان الطاغوتي
لا فرق بين أن يكون الطاغوت محمد رضا أو أنا وأنتم، اتساع دائرة الطغيان ستكون مختلفة فقط، فأحدهم يكون طاغوتاً على أفراد أسرته وآخر يكون طاغوتاً على نفسه وجيرانه وآخر على منطقته وآخر على مدينته وآخر على محافظته وآخر على كلّ دولته. لا فرق في الطغيان، الكلّ طواغيت ولكن تختلف ظروفهم وأماكن تسلّطهم. إنّ الطاغوت على أفراد أسرته، هو طاغوت في منطقته إذا أُتيح له ذلك، ولو استطاع لأصبح طاغوتاً على كلّ البلاد أيضاً، لأنّه عندما يكون طاغوتاً، لا تهمّه المنطقة التي يُمارس فيها هذا الجبروت، فإن طالت يده كلّ شيء أو لم تطل لا يهم، فأعماله ستكون نفس أعمال محمد رضا(الشاه السابق). وطالما أنّ التربية غير إسلامية وإنسانية، والمربّون ليسوا هم الأنبياء، فإنّ الإنسان يطغى بمجرّد أن تُتاح له الفرصة، والحال أنه يتخيّل بأنّه لن يقوم بهذا، ولكن الذي يُمارس الظلم على أفراد أسرته وأولاده وخَدَمه فعندما يزداد عدد خدمه، وعدد أولاده وعدد تابعيه فإنّ ظلمه سيزداد بنفس المقدار، لأنّه إنسان ظالم. الظالم إن كان هناك عشرة أشخاص تحت سيطرته فإنّ ظلمه سيكون بمقدار عشرة أشخاص، وإذا كانوا خمس وثلاثين مليوناً فسيكون ظلمه بحجم خمس وثلاثين مليون نفر أيضاً. الإنسان هو الإنسان، فما لم يُصبح إنساناً فإنّه يكون موجوداً طاغوتياً شيطانياً، وإذا لم يخضع هذا الكائن الطاغوتي الشيطاني لسيطرة الأنبياء، ويتربّى وفق تعاليمهم وتربيتهم، فلا فرق بينه وبين ذلك الشخص الذي يعيث في العالم فساداً، لا العالم الروحاني بل في مقام العمل، لأنّه لا يد له في الروحيات وإنّما في العمل. فلو افترضنا أنّ أولئك الذين كانوا يسيطرون على إيران، كمحمد رضا مثلاً وصل نفوذه إلى العراق، فإنّ نفس الظلم الذي كان يُمارسه هنا سيُمارسه هناك، ولو وصلت سطوته إلى كلّ البلاد الإسلامية فإنّه سيقوم بنفس الأعمال، ولو أنّه بلغ بسيطرته كلّ العالَم فإنّ أعماله ستتكرّر في كلّ مكان. وأنتم ترون أنّ القوى العظمى تمدّ أيديها في كل مكان للنهب والسلب، وذلك الذي يسرق وينهب
1 صحيفة الإمام، ج 18، ص 212 - 213.
134
109
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
في منطقة معيّنة، ثمّ يُصبح رئيس دولة، فإنّ نفوذه سيُصبح أكبر وممارسة السلب والنهب عنده ستُصبح أكثر. ولا تظنّوا أنّني أنا وأنتم لن نفعل مثل أولئك عندما تحين لنا الفرصة، فطالما أنّنا لم نُصبح إنساناً فإن ما ذكرته يصدق علينا أيضاً1.
سراية فساد الوالدين إلى الأبناء
إنّ الفساد العملي للوالدين يسري أكثر من أيّ شيء آخر في الأطفال. وكم من طفلٍ، كان قد تربّى على يدي أب وأمٍّ فاسدين، لا يصلح حتى آخر عمره رغم المجاهدة وزحمات المربّين2.
الظلم وقبول الظلم
لو أنّ المسلمين دخلوا في ضيافة الله بشكل جماعي في شهر رمضان المبارك وهذّبوا أنفسهم، لما كان ممكناً أن يقبلوا بالظلم. فإنّ القبول بالظلم كالظلم نفسه يأتي عن عدم تهذيب النفس وتزكيتها. ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾، ومن المستحبّ تلاوة هذه السورة في صلاة العيد ففيها أمر بالتزكية وذكر اسم الله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾3. التزكية، وذكر اسم الله، والصلاة، هذه مراتب، لو كنّا قد تحقّقنا بها لما وجدنا في أنفسنا إحساس الخزي الذي يجعلنا نقبل بالظلم ولما ظلمنا. إنّ ذلك كلّه يأتي من عدم التزكية. إنّ الحكومات غير مهذّبة - ولن تتهذّب ما لم تنلها عناية الله - وظالمة. كما أنّ الشعوب التي لم تتهذّب ستنوء بنير الظلم ووزره4.
عدم الأمن في المجتمع
لن يصلح هذا البلد وكلّ البلاد إذا لم تحدث التزكية والتصفية للنفس في المستويات العليا. وإنّ أولئك الذين يعتبرون أنّ هذه الثورة مفيدة ويدعمونها ويعتبرونها من الشعب ويريدونها أن تصل إلى نتيجة فيجب أن يوجدوا الأمن والاستقرار بكلّ نحو في هذا البلد وهذا
1 صحيفة الإمام، ج 9، ص 13 - 14.
2 الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 155.
3 سورة الأعلى، الآيتان 14 و 15.
4 صحيفة الإمام، 18، ص 499.
135
110
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
يجب أن يبدأ من المستويات العليا. فما دام الأمن والاستقرار مفقوداً في الأعلى فلن يأمن من في الأسفل. وما دامت التزكية والتصفية وطلب الله والفرار من النفس مفقودة في المستويات العليا، بل توجد رؤية الذات بدلًا من التزكية وتوجد الأنانية بدلًا من التصفية فلن يكون هناك أمن واستقرار في المستويات الدنيا، ومهما صرختم لكي توقفوا النار فلن يكون هذا1.
مصائب البلد جرّاء عدم التهذيب
مباركٌ ذلك الوقت الذي نستطيع فيه أن نبني أنفسنا وبعد ذلك نبني بلادنا. إنّ منطلق أيّ إصلاح هو الإنسان نفسه. فإذا لم يُربِّ الإنسان نفسه لن يستطيع أن يُربّي الآخرين. ولقد رأيتم خلال حكم الملوك منذ البداية وحتى هذه الحكومات الملكية الأخيرة التي عشتم في الغالب فيها والبعض الآخر منكم عاش بعضاً منها، بأنّ الأمور كانت بأيدي الذين لم يتربّوا تربية إسلامية ولم يتمّ إصلاح نفوسهم، فإنّهم جرّوا بلادنا بسبب هذه النقيصة الكبيرة إلى حيث تُلاحظون، وجرّوا شعبنا إلى حيث نحتاج إلى سنوات طويلة حتى يتمّ إصلاحه إن شاء الله. لذلك فإنّ ما يجب علينا هو البدء بأنفسنا وعدم الاكتفاء بأن يكون ظاهرنا جيّداً، بل يجب أن نبدأ بقلوبنا وبأفكارنا وأن نُحاول أن نجعل كلّ يوم من أيّامنا أفضل من سابقه. وأرجو أن يتمّ لنا جميعاً هذا الجهاد مع النفس لننطلق بعده في المجاهدة لبناء بلدٍ بأكمله2.
مفاسد الحاكم غير الصالح
إنّ شخصاً واحداً غير صالح دمّر البلاد. لقد رأينا جميعاً بأنّ هذا الفرد غير الصالح المسمّى محمد رضا بهلوي حينما كان يُريد تعيين وزير في الحكومة فإنّه كان يختاره من بين غير الصالحين، لا بدّ أن يكون من نفس جنسه!- فالطيور على أشكالها تقع، واللصوص رفاق اللصوص! ليس بوسع اللصوص أن يكونوا رفاقاً للمقدّسين. وحينما كان يريد أن يُعيّن نائباً فإنّه يبحث عمّن ينسجم معه، فالنائب في البرلمان لم يكن معيّناً من قِبَل الناس، والناس لم يكونوا أحراراً خلال العقود الخمسة الماضية. لم يكن شيئاً مربوطاً بالشعب، لا نائباً ولا
1 صحيفة الإمام، ج 14، ص 393.
2 م.ن، ج 15، ص 491.
136
111
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
مجلساً ولا حكومة، كلّ شيء كان يستمدّ وجوده من الخارج. لقد جاؤوا بهذا الرجل الفاسد ووضعوه حاكماً على بلادنا، فرضوه على بلادنا، وبلغ الأمر بأن بدّد كلّ شيء فيها ولم يكن له من شغل سوى حثّ الآخرين على مدحه والثناء عليه، وقد أجبر الإذاعات والمطبوعات وألزمهم بترديد الثناء وكيل المديح له، فهم جميعاً ملزمون بهذا الثناء!1.
طغيان نفس الإنسان
اعلموا أنّ هذه الأشياء التي في أنفسكم وهذه الأوصاف التي فيها إن لم تلجموها فإنّها من الممكن أن تجعل منكم طغاة. لا يكن رأيكم في أنفسكم أنّ كلّ ما تقولونه هو الصحيح، ولا تعتدّوا بأنفسكم لدرجة أنّكم حتى لو فهمتم الخطأ تصرّون على عدم الاعتراف.
الإنسان الكامل هو الذي إن عرف أنّ كلامه صحيح فإنّه يُظهره بالبرهان ويُفهمه للآخرين بالبرهان. وما جاء في القرآن الكريم من أنه: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾2 فلأنّه لا يُمكن فرض العقائد بالقوّة. لا يُمكن أن يفرض إنسان عقائده على الآخرين هكذا، بل يجب أن يكون هذا بتمهيدات يصوّر من خلالها الشيء بأنّه حسن. وإلا لو كان إنساناً وقد تربّى بشكل صحيح فإنّه يُفهم ما عنده للآخرين من خلال البرهان3.
غير المهذّب يُعادي العدل
لو كانت هذه الحكومة الإسلامية بيد مجموعة أخرى مثلاً، لقالوا إنّها جيّدة جدّاً، وبما أنّها ليست في أيديهم الآن فهم يقولون إنّها سيّئة جدّاً. ولو كانت هذه السلطة القضائية التي قدّمت كلّ هذه الخدمات، بأيدي جماعة أخرى لقالوا لقد قدّمنا من الخدمة الكثير، أما إنّها اليوم بأيدي غيرهم فيقولون هذه ليست قوّة قضائية. هذا ظلم، وليس عدلاً. وكلّ هذا ناتج عن أنّ الإنسان لم يُهذّب ذاته حتى يطلب العدل من أجل العدل وليس من أجل نفسه. ونحن أيضاً إذا أردنا العدل فإنّنا نُنشده من أجل أنفسنا. نحن نُريد كلّ شيء لأجل أنفسنا. نحن لا نُحبّ العدل من أجل عدله، فإذا طُبّق العدل علينا وكان لا يروق لنا سوف
1 صحيفة الإمام، ج 6، ص 46.
2 سورة البقرة، الآية 256
3 صحيفة الإمام، ج 14، ص 92 - 93.
137
112
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
نرفضه. وإذا كان الظلم لصالحنا نقبل به. إنّ جذور كلّ ذلك تكمن في ذات الإنسان. فإذا تمّ اجتثاث هذه الجذور أو إضعافها على الأقل، فسوف تحلّ كلّ القضايا ويُصبح الجميع إخوة فيما بينهم ويُساعد بعضهم البعض الآخر. ولكن إذا ما استحكمت تلك الجذور الفاسدة في قلب الإنسان فإنّه يرفض العدل وإن كان يعلم أنه عدل خالص. وهذه الجذور الفاسدة تحرف الإنسان1.
وسوسة نفس أصحاب القدرة
بعضنا يدّعي أن ما يُنجزه من أعمال يصبّ في مصلحة المسلمين. اسألوا أنفسكم عند الخلوات، أنّه لو قام شخص آخر بما يخدم مصالح المسلمين بصورة أفضل هل ستبقون على نفس الرأي؟ هل تضعون أنفسكم جانباً وتُقدّمون ذلك الآخر؟ أم أنّكم تودّون أن تتحقّق مصالح المسلمين - باصطلاحكم - على أيديكم فقط فتقولون "على يدي أنا تتحقّق المصالح"؟
إنّه الشيطان نفسه، ذاك الذي يغوي الإنسان ويوسوس له بأنّك الآن مقتدر ولديك كذا وكذا، فما شغل الآخرين ودخالتهم؟ أنت الآن وزير، أنت الآن نائب، وطاعتك واجبة على الآخرين، بل يجب منهم لك الطاعة العمياء! إنّ السبب في كلّ هذا هو أنّ الإنسان لم يُهذّب نفسه ويُروّضها ولو كان فَعَلَ ذلك لما استاء من انتقاد الآخرين أبداً.
لو فرضنا انتقاد شخصين، أحدهما أنت، والثاني شخص آخر، والاثنان يتّصفان بصفة واحدة، فلو انتقد شخص رفيقك على الصفة التي يحملها، لانتابك الفرح لأنّك تعتبره ندّاً لك وهو الآخر سيسرّ عندما يرى الآخرين يوجّهون لك الانتقادات. ولو وجّهت الانتقادات له شخصياً لاستاء كثيراً.
إنّ هذا كلّه من حيل الشيطان الذي هو أكبر من كلّ الشياطين - حتى من هذا الشيطان الكبير المعروف - وهو شيطان نفس الإنسان الأمارة2.
1 صحيفة الإمام، ج 17، ص531 - 532.
2 م.ن، ج 13، ص 198 - 199.
138
113
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
الفاسد يختار الفاسد
الفاسد لا يستطيع أن يختار إنساناً صالحاً لرئاسة الوزراء، ولا أن يؤيّد مجلساً نيابياً صالحاً، إذ لو أصبح المجلس النيابي صالحاً لمنع المفاسد، حسناً هذا نفسه (الملك) هو مصدر كلّ المفاسد. ولو كان رئيس الوزراء أو مجلس الوزراء صالحين لما أصغيا لأقوال الملك الذي يريد التحرّك خلافاً للمصالح. فإذا كان الرأس فاسداً، فسيشكّل حكومة فاسدة ومجلساً نيابياً فاسداً، وتبعاً له تفسد الثقافة والجيش والاقتصاد، وكل هذا الفساد هو من فساد ذلك الرجل الذي يتصوّر أنّه في القمّة. أما إذا كان الذي في القمّة صالحاً جديراً بمقامه يُفكّر بالشعب ويعتبر التبعية للأجانب عاراً، وكان مسلماً خاضعاً لأمر الله الذي يحرم الخضوع للأجانب والانقياد لهم، فإنّه يُصلح كلّ شؤون البلاد التي يرأسها1.
الفاسد يجلب الفاسد
كانت الحكومات التي حكمت الشعب في النظام الطاغوتي حكومات غير مزكّاة، وعندما تكون الحكومة كذلك، عندما يكون الشخص الأول في حكومة غير مزكّى وأخلاقه غير مزكّاة وعقائده غير مزكّاة وأعماله غير مزكّاة فإنّ هذا الشخص يجرّ بلداً بأكمله نحو الفساد والهلاك. وقد رأيتم كيف أنّ تمام المفاسد كانت تنبع من رضا خان وجميع الذين التفّوا حوله كانوا على شاكلته. وعندما كنّا في باريس قال لي أحد الأشخاص - ولا أتذكّر اسمه الآن - نقلًا عن آخر، بأنّ محمد رضا إذا وجد خمس أشخاص فاسدين في إيران لجلبهم وأعطاهم الصلاحيات والمسؤوليات. فالذين لم يزكّوا أنفسهم لا يقتربون من الأفراد الصالحين الأمناء. فالشخص الفاسد وغير الأمين يبحث عمّن هم على شاكلته. وهكذا الصالحون يختارون من أمثالهم ليكونوا شركاءهم في بناء الأمة. ولهذا نرى أنّ الفساد منبعه الحكومة، فإذا كانت الحكومة عادلة فإنّها تحرص بمقدار قدرتها على تأمين جميع مصالح البلد، والحكومة الظالمة تجلب كل المساوئ والمشاكل لأبناء شعبها2.
1 صحيفة الإمام، ج 5، ص 319.
2 م.ن، ج 9، ص 135.
139
114
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
تأثير هوى النفس في اختيار الأفراد
نأمل من الله تبارك وتعالى، أن تكونوا أيّها السادة الذين انتخبكم الشعب لتطبيق هذه المادّة في الدستور، وهي انتخاب القائد أو مجلس القيادة، ملتفتين ومتنبهين جيّداً عند قيامكم بهذه المهمّة، فتسألوا أنفسكم، هل أنّ اختياري لهذا الشخص الذي في ذهني، هو من أجل الله أم أنّ الصداقة بيني وبينه هي التي دفعتني لذلك؟ وهل أنّ قول فلان بعدم كفاءة فلان يُقال لأجل رضا الله أم أنّ حميّة المنافسة هي التي دفعته إلى ذلك؟ لا تشكّوا بأنّه لا ينبغي أن نتعامى على أنفسنا، لا تشكّوا بأنّ أصل هذا التعامي والتجاهل له جذور ضاربة في أعماق النفس الإنسانية، ولن يفارق الانسان حتى في آخر ساعات حياته، بل ربما في ذلك الحين برز وظهر أكثر. فقد نقل لنا أحد علماء قزوين أنه وقف عند رأس أحد الاشخاص وهو في حالة الاحتضار فنظر إليه المحتضر وقال له: إنّ الظلم الذي ظلمنيه الله لم يظلمه أحد لأحد قط، فقد ربيت أبنائي على الدلال والنعيم، والآن يريد أن يأخذني منهم. إنّه لخطر جدّي على الانسان أن يظنّ أنّ الشيطان سيتركه بحاله في آخر العمر، فما دامت الفرصة بين أيديكم ولا زلتم تتمتّعون بقوّة الشباب - لأنّ الإنسان متى أصبح طاعناً في السن مثلي لا يستطيع أن يفعل شيئاً - ثابروا وجدّوا في تربية أنفسكم والتحرّر من أهوائها. فإنّ جميع المصائب منشأه هوى النفس. وليكن اختياركم للقائد والقيادة، على أساس الحقّ ورضا الله، لا على أساس الصداقات والمودّات وأنّ هذا أنسجم معه أكثر وذاك لا أنسجم معه، أو إرضاء لأنفسنا الشيطانية. إنّها مسألة مهمّة للغاية، إنّها مسألة مصيرية تقع على عاتقكم الآن، وأنتم قبلتم حملها. فتضرّعوا إلى الله واستغيثوا به حتى يثبّت أقدامكم من أن تزلّ في هذا الطريق ذي المسؤوليات الخطيرة، لأنّ أيّ زلل أو انحراف في ذلك من الممكن أن يؤدّي إلى انحراف الجمهورية الإسلامية بأسرها، وعندها وحدكم أيّها السادة من يتحمّل مسؤولية ذلك1.
1 صحيفة الإمام، ج 18، ص 19 - 20.
140
115
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
تأثير هوى النفس على النقد
لقد استودعكم الشعب البلاد لتحفظوها وتشخّصوا مصالحها وتؤمّنوها، فهل تبدؤون بالنزاع والقتال، لا لأجل اختلاف في تشخيص مصلحة البلد بل لأجل مصالحكم الشخصية؟! الكلّ يريد نفسه. فلو طلبت منكم مرةً القيام بعملٍ ما فيه المصلحة واعترضت عليكم أخرى لأنّكم تقومون بنفس العمل، فهذا من ظهورات النفس الأمارة، عندما يزن الإنسان الأمور بميزانين فيعترض تارة على عمل لأنّ فلاناً قام به ويدعو إليه طوراً لأن آخر تولّاه، ويقبل بهذا مرة ويرفضه أخرى، وذلك وفق مصالحه هو. هذه الحيل النفسانية الشيطانية دقيقة للغاية ويصعب جدّاً التعرّف عليها بحيث نقدر على كشفها. لكن حسناً إنّها ظهوراتها الأوضح التي تمكّن الإنسان من التفطّن لها1.
التنازع والطغيان بسبب طغيان النفس
كلّ الخلافات الموجودة بين البشر، الخلافات الموجودة بين السلاطين، الخلافات الموجودة بين الأقوياء، هي بسبب الطغيان الموجود في النفس.
ومردّ هذا إلى أن الإنسان رأى لنفسه مقاماً ما فطغى. ولأنّه لم يقتنع بذلك المقام، وبسبب طغيانه اعتدى. ولمّا اعتدى حصل التنازع. ولا يختلف هذا الطغيان في مرتبته الأدنى وصعوداً حتى تلك المرتبة العالية منه. فمن المرتبة الأدنى حيث يحصل التنازع ما بين الأفراد في قرية ما، إلى المرتبة الأعلى والأعلى، المنشأ هو ذلك الطغيان نفسه، وكلّما علت المرتبة ازداد الطغيان نفسه أكثر. إنّ فرعون طغى وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾2. وهذا الدافع موجود في الجميع لا في فرعون وحده. فلو وضعوا الإنسان فوق الرؤوس فسوف يقول: أنا ربّكم الأعلى. وغاية البعثة هي التحكّم بهذه النفوس الجامحة وهذه النفوس الطاغية وهذه النفوس المتمرّدة وتزكيتها.
إنّ كلّ الخلافات الموجودة في البشر هي لأنّ النفوس لم تزكَّ. فغاية البعثة هي تزكية الناس، لكي يتعلّموا بواسطة التزكية الحكمة والقرآن والكتاب أيضاً، وإذا تزكّت النفوس فلن يحدث الطغيان. فالشخص الذي زكّى نفسه، لا يعتبر نفسه مستغنياً أبداً. و ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى
1 صحيفة الإمام، ج 3، ص 201.
2 سورة النازعات، الآية 24.
141
116
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾1، عندما ينظر لنفسه ويعتبر لنفسه مقاماً ويرى لها عظمة، فإنّ هذه الرؤية لنفسه تكون سبب الطغيان.
إنّ أساس الخلافات التي بين كلّ البشر، الخلافات التي في سائر أنحاء الدنيا بين جميع البشر، هو الطغيان الموجود في النفس، وهذا ابتلاء للإنسان، ابتلاؤه بنفسه وبالأهواء النفسانية. فلو تزكّى الإنسان وتربّت نفسه سوف تنتهي هذه الخلافات2.
رؤية النفس سبب طغيانها
إنّ كلّ الخلافات الموجودة في البشر هي لأنّ النفوس لم تُزكَّ. فغاية البعثة هي تزكية الناس، لكي يتعلّموا بواسطة التزكية الحكمة والقرآن والكتاب أيضاً، وإذا تزكت النفوس فلن يحدث الطغيان. فالشخص الذي زكّى نفسه، لا يعتبر نفسه مستغنياً أبداً. و ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾3، عندما ينظر لنفسه ويعتبر لنفسه مقاماً ويرى لها عظمة، فإنّ هذه الرؤية لنفسه تكون سبب الطغيان.
إنّ أساس كلّ الخلافات التي بين كلّ البشر، الخلافات التي في كلّ الدنيا بين جميع البشر، هو الطغيان الموجود في النفس، وهذا ابتلاء للإنسان، ابتلاؤه بنفسه وبالأهواء النفسانية. فلو تزكّى الإنسان وتربّت نفسه سوف تنتهي هذه الخلافات4.
الاختلاف على "الأنا"
إنّ هذين الأمرين يُقلقاني، وإنّي لأتألم عندما أسمع أنّ في المكان الفلاني اختلافاً بين فلان وفلان. واعلموا أنّ الاختلاف ليس على الإسلام وإنّما على "الأنا". كلّ واحد يزعم أنّه يدعم الإسلام، لكن أنا أدعم الإسلام الذي أقبله وليس الذي يدعمه رفيقي، فذاك لا يحظى بثقتي. إنّ هذا دفينٌ في أعماق الإنسان وإن لم يذكره، ولا يسلم منه إلا من يوفّقه الله تبارك وتعالى لتهذيب نفسه5.
1 سورة العلق، الآيتان 6 و 7.
2 صحيفة الإمام، ج 14، ص 390 - 391.
3 سورة العلق، الآيتان 6 و 7.
4 صحيفة الإمام، ج 14، 390 - 391.
5 م.ن، ج 18، ص 18 - 19.
142
117
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
الاختلاف بسبب هوى النفس
بالطبع ثمّة أمر مهمّ آخر من الممكن أن يقود إلى الاختلاف وعلينا جميعاً أن نعوذ بالله من شرّه، ألا وهو حبّ النفس، وهو لا يُميّز بين هذا التيّار وذاك .. لا يُميّز بين رئيس الجمهورية ورئيس المجلس ورئيس الوزراء، والنائب والوزير والقاضي ومجلس القضاء الأعلى ومجلس صيانة الدستور ومنظّمة الإعلام ومكتب الإعلام، والعسكري وغير العسكري، والروحاني وغير الروحاني، والجامعي وغير الجامعي، والمرأة والرجل. ولا يوجد لمحاربته غير سبيل واحد وهو الرياضة (المعنوية) .. يكفي1.
الاختلاف والنزاع من باطن الإنسان
ومن الواجب هنا أن أنصحكم بأمر وهو أن تُحافظوا على وحدتكم وتلاحمكم. عليكم أن تعلموا أنّ مصدر كلّ اختلاف ونزاع ينشبان هو باطن الإنسان نفسه وأنّ الله هو مصدر كل تلاحم ووحدة2.
فساد وتسلّط أصحاب القدرة غير المهذّبين
السلطة عندما تقع بأيدي أناس غير مهذّبين تُصبح خطيرة. فالسلطة بحدّ ذاتها تُعدّ أحد الكمالات. والله سبحانه وتعالى هو القادر. لكن إذا وقعت السلطة بأيدي أشخاص فاسدين فإنّهم يحرفون هذا الكمال ويجرّونه إلى الفساد. والعالم كلّه مبتلى اليوم بهذه الآفّة وهي وقوع السلطة بيد أشخاص لا يحملون ذرّة من الإنسانية. فالقوى العظمى والدول السلطوية لا تُفكّر إلا بزيادة هيمنتها وتضييع حقوق المظلومين. وأولئك التابعون لها والمرتبطون بها يُمارسون نفس أعمالها لأنّهم من صنفها وجنسها. إنّ السلطة إذا كانت بيد إنسان كامل، فإنّه يُحقّق الكمالات للشعوب. وإذا كانت بيد الأنبياء والأولياء الصالحين فإنّ ذلك يبعث على انتشار الأمن والسلم في العالَم، وتحقّق الكمال في العالَم أجمع. لكن إذا وقعت بأيدي المتجبّرين الذين لا عقل لهم ولا أخلاق فإنّ ذلك سيجلب المصائب والويلات. واليوم حيث
1 صحيفة الإمام، ج 21، 179.
2 م.ن، ج 16، ص 247.
143
118
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
تُشاهدون هاتين القوّتين العظميين أو هذه القوى الكبرى التي تفرض هيمنتها وسلطتها على بلدان العالَم، وتدّعي أنّ لها الحقّ في أن تكون الأمم والبلدان الأخرى خاضعة لها، فإذا كان هذا التفكير مصاحباً للسلطة فإنّه سيجلب المصائب للشعوب. فالسلطة بيد الظالم تجرّ العالَم نحو الفساد. فالقوى الكبرى تجرّ العالَم إلى الفساد، وهي ليست سوى دولة واحدة أو دولتين. ولو نظرنا لمرتبة أدنى، فإذا كانت السلطة بيد شخص ما في إحدى المحلّات فإنّه سيجلب الفساد لتلك المحلّة. وكذلك إذا كانت بيد شخص في إحدى العوائل، فإنّه يجرّ تلك العائلة نحو الفساد. لكن السلطة حين تكون كمالًا ويُمكنها إبراز كمالها إنّما تكون بيد العالِم وبيد العاقل.
نُقل لي بأنّ المرحوم آية الله المدرّس - رحمة الله عليه - قال: إنّ الشيخ الرئيس (أبو علي سينا) قال يوماً: إنّني أخاف من البقرة، لأنّها تملك قرناً ولا عقل لها. وهذه نقطة تستحقّ الاهتمام. فحتى لو افترضنا أنّ الشيخ لم يقل ذلك، لكن المسألة ملفتة للنظر. فالبقرة لها قرون لكنّها لا عقل لها، تمتلك القدرة لكنّها لا تمتلك عقلًا. وهذه القوى المتجبّرة التي تنشر الفساد في العالَم في الوقت الحاضر هي من نفس ذاك الصنف الذي يمتلك قروناً لكن لا عقل له، تمتلك القوّة لكنّها بعيدة عن الإنسانية. وأنتم تُشاهدون بأعينكم ما تفعله أمريكا في العالَم، وما يفعله الإتحاد السوفيتي في الجانب الآخر. وشاء الله أن تتنافس هاتان القوّتان فيما بينهما، وتصارع إحداهما الأخرى، لأنّه لو تفرّدت إحداهما بالعالَم لكانت ابتلعته بأسره. فكلاهما مقتدرتان وتقفان إحداهما في مقابل الأخرى، تلك القوّة تخاف من هذه وهذه من تلك. ولو لم يكن هناك خوف بينهما فإنّهما سيلتهمان العالم برمّته. وليس صحيحاً ما يُطلقون من ادعاءات من أنّهم يريدون فعل كذا وكذا من أجل نشر السلام في العالَم. وقد شاهدنا كيف جاء هؤلاء إلى بيروت، بحجّة أنّهم يريدون أن يعمّ السلام والأمن في لبنان. (نقول لهم) أنتم لستم دعاة للسلام، وحتى لو افترضنا كونكم كذلك، فما الداعي لمجيئكم وتدخّلكم في دول أخرى؟ إنّ الأنظمة الحاكمة في بعض بلدان المنطقة ليست وطنية، ولا يوجد أي ارتباط بينها وبين شعوبها. فاذا كنتم بشراً تحملون صفات الإنسان وكان فيكم شيء من الإنسانية والمعايير الأخلاقية، لكنتم راعيتم حالة المحتاجين والشعوب الضعيفة. وليس مقبولًا منكم ان تدخلوا عنوة بلداً فرضت عليه حكومة غير منبثقة من الشعب بحجّة أنّكم تريدون تعضيد
144
119
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
وتدعيم ركائز هذه الحكومة. وكلّ ذلك سببه أنّ هؤلاء ليسوا مهذّبين، بعيدون عن الإنسانية، يمتلكون القوّة لكن لا عقل لهم.
وتلاحظون أنّه حيثما يتسلّل فساد في أيّ مكان من العالَم، فهذا لأنّ الذي يحكم هناك، يمتلك القوة والسلطة لكن لا عقل لديه، يُمسك بزمام الأمور لكنّه عديم الإنسانية. والعقل الذي أقصده هو "ما عُبِدَ بهِ الرّحمن"1، وإلّا فإنّ هؤلاء يمتلكون الحيل الشيطانية والتدبير. لكنّهم لا يمتلكون العقل السليم الذي يُمكن أن يصل بالإنسان إلى القيم الإنسانية السامية. فمجرّد العلم بأحد المعاني لا ينفع. فمن الممكن أن يكون أحد الأشخاص عالماً كبيراً إلّا أنّه يفتقد العقل، لذلك نراه يستخدم علمه في نشر الفساد وإفساد الشعوب وقتلهم تحت التعذيب2.
فساد وخراب الدنيا بسبب طغيان النفس
لو أنّ النفوس لم تُزكَّ ولم تُربَّ ثم دخلت أيّة ساحة، ساحة التوحيد، ساحة المعارف الإلهية، ساحة الفلسفة، ساحة الفقه، ساحة السياسة، أيّة ساحة دخلت، فالأشخاص الذين لم يُزكّوا نفوسهم ولم يُصفّوها ولم يتحرّروا من هذا الشيطان الباطني، يكون خطرهم على البشر خطراً كبيراً. فيجب على الأشخاص الذين يريدون أن يربّوا آخرين في هذا العالَم، أن يكونوا قد زكّوا أنفسهم سابقاً وربّوها. ويجب على الأشخاص الذين يأخذون زمام الأمور إذا لم يريدوا أن يطغوا وأن يفعلوا أعمالًا شيطانية، أن يزكّوا أنفسهم، والبعثة كانت لأجل هذا، لأجل تزكية الجميع.
إنّ هذا التهذيب ضرورة لرجال الدولة وللسلاطين ولرؤساء الجمهوريات وللدول وللمسؤولين أكثر منها للناس العاديين. فلو أنّ الأفراد العاديين لم يُزكّوا أنفسهم وطغوا فإنّ الطغيان يكون محدوداً جدّاً. ولو أنّ شخصاً في السوق أو شخصاً في القرية طغى فمن الممكن أن يُسبّب فساداً في نقطة محدّدة، لكن لو كان الطغيان في يد شخص قَبِلَه الناس، ولو حصل في عالِم قبله الناس، أو في سلطان قَبِله الناس، أو في رؤساء قَبِلهم الناس فهذا أحياناً قد يجرّ بلداً إلى الفساد وأحياناً قد يجرّ بلداناً. فهذا الطغيان يؤدّي إلى جرّ البلاد
1 "ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان"، الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص11، كتاب العقل والجهل، ح3.
2 صحيفة الإمام، ج 18، ص 206 - 208.
145
120
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
إلى الفساد والخراب لأنّ الشخص الذي يُمسك بزمام الأمور لم يُزكّ نفسه. فقارنوا أنتم بين صدّام وشخص عادي، فمهما طغى الشخص العادي ومهما كان فرعونياً لن يؤثّر إلا على أشخاص محدّدين أو على أسرته فيجرّهم إلى الفساد والهلاك، ولن يصدر منه غير ذلك، لكن صدّام كما ترون لقد طغى، وهو طاغية، وهذا الطغيان يوجب فساد بلد أو بلدين وربما المنطقة برمّتها. وإذا كان هذا الطغيان في رؤساء الدول الكبرى في العالَم، إذا طغى رئيس جمهورية أمريكا فإنّ طغيانه يؤدّي إلى فساد الكثير من الدول. فالحروب الكبيرة التي حصلت في الدنيا، كالحرب العالمية الأولى والثانية، كانت لأنّ الطغيان كان في تلك الطبقة العليا. تلك الطبقة العليا التي لم تكن مهذّبة طغت وجرّت دولًا كبيرة نحو الفساد. فلو أنّ رئيس الحزب الشيوعي السوفياتي يطغى فإنّ طغيانه غير محدود بهذه الحدود المعيّنة، إنّ طغيانه يجرّ بلداناً نحو الخراب والفساد.
والأشخاص المتواجدون في منصب ما، سواء منصب عادي أو منصب رفيع المستوى، إذا أرادوا أن يصلحوا البلد، إذا أرادوا أن يهدأ هذا البلد، فيجب أن يبدؤوا بالهدوء من الأعلى، ولا يمكن أن يحصل الهدوء من الأسفل. فيجب على الأشخاص الذين يمسكون بزمام الأمور في أيّ مقام كانوا أن يطلبوا الهدوء من هناك. فهدوؤهم يجرّ البلد نحو الهدوء وإذا - لا سمح الله - طغوا، فإنّ طغيانهم يجرّ البلد نحو الهلاك1.
ابتلاء البشرية بالعلم غير المهذّب
العلم والتخصّص بدون التهذيب والتربية، مصيبة تُعاني منها البشرية اليوم وتقود إلى تدمير العالَم، وهي تتجلَّى في السباق والتنافس بين القوّتين العظميين لامتلاك الأسلحة الحديثة الذرّية والنووية، وهذا ناشئ من الجذور الشيطانية والنفسانية، ويُهدّد البشرية جمعاء بكوارث جمّة ما لم تتدخّل اليد الغيبية وتنقذها2.
1 صحيفة الإمام، ج 14، ص 391 - 392.
2 م.ن، ج 17، ص 393.
146
121
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
الحرب وسفك الدماء من هوى النفس
إنّ هذه المفاسد التي نراها، وهذا النزاع الدائر في العالَم وتكالب البعض على البعض، إنّما هو وليد الأنانية وغياب التوجّه إلى الله تعالى، لأنّهم يفتقرون إلى الأخلاق الربّانية ويتّسمون بالطباع الحيوانية والتي هي في تزايد مستمر يوماً بعد آخر. وإذا ما شنّوا حرباً ضدّ إيران فليس ذلك من أجل تقوية الإسلام وإنّما هو بدافع هوى النفس لأنّه لا يروق لهم أن يروا بلداً آخر قويّاً.
وإذا ما احترق العالم بنار القوّتين العظميين، فهو نتيجة الأهواء النفسية المهيمنة على هاتين القوّتين وأياديهما. وإذا ما احترقت الدول الإسلامية بنيران هذه المفاسد، فالسبب أنّ المتصدّين للأمور تُسيطر عليهم الأهواء النفسية ولا يرون غير أنفسهم ويريدون أن يكون الجميع في خدمتهم1.
الانحراف الأخلاقي يُهدّد العالَم
إنّ ما يُهدّد الدنيا ليس الأسلحة والحراب والصواريخ وأمثال ذلك، بل إنّ ما يجعل كوكبنا هذا على طريق الانحدار نحو الانحطاط هو الانحراف الأخلاقي، ولولا هذا الانحراف فإنّ هذه الأسلحة الحربية لا تضرّ الإنسان، بل إنّ الذي يسوق الإنسان والبلدان إلى الهلاك والانحطاط، هو الانحطاط الموجود في رؤساء الدول وفي أعمال الحكومات والناجم أصلاً عن الانحطاط الأخلاقي الذي أخذ يسوق جميع أفراد البشرية إلى الانحدار الانحطاطي، ولا ندري ماذا ستكون عاقبة البشر ومصيرهم. وأدعوكم إلى ملاحظة الأسلحة الحديثة المتطوّرة الموجودة لدى الدول العظمى، وفي أيّ مجال يجري استخدامها؟ هل هي لخير الإنسان؟ وهل هي لإحلال السلام كما يدّعون؟ أم أنّها تُستخدم من أجل تدمير الإنسان ولأجل أنانية هؤلاء الرؤساء؟2.
1 صحيفة الإمام، ج 17، ص 494.
2 م.ن، ج 16، ص 161 - 162.
147
122
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
إشعال الحروب بسبب الأهواء النفسية
إذا كان تهذيب النفس موجوداً فلن يخاف الحربَ أحدٌ، ولن يأبى السلام، بل لن يخاف شيئاً. ولكن عندما ينعدم تهذيب النفس فإنّه سيقول: إذا لم نُقاتل فقد يُباغتنا الطرف الثاني. ونيران الحروب التي تشتعل في المنطقة كلّها إنّما هي من هذا المنطلق، من هوى النفس، فالأهواء النفسية هي التي تدفع البعض إلى الهجوم على بلد وهي التي تؤدّي ألى إحراق المنطقة بأكملها. فالإنسان يحترق بما صنعته أهواؤه، يحترق في هذا العالَم (قبل الآخرة)1.
شراسة البشر من عدم التهذيب
إذا لم يهتمّ الناس بأنفسهم ولم يُجاهدوا شيطانهم الذي بين جنبيهم، فليس أنّهم يعجزون عن إصلاح المجتمع فحسب، بل يفسدون فيه. فجميع المفاسد التي تحدث في العالَم مردّها إلى انعدام هذا الجهاد، وهو الجهاد الأكبر. جميع المشكلات التي يُعانيها البشر هي من قِبَل البشر أنفسهم. البشر هم الذين يرتكبون الجرائم بحقّ البشر. فسائر الموجودات، وكلّ الحيوانات حتى السباع منها لا ترتكب مقدار ما يرتكبه البشر من جرائم هذا البشري، لأنّه لم يتم إصلاحه ولم يقم ببناء ذاته، هو أشرس من كلّ الحيوانات، فلا وحش مثله، ولا يصل حيوان آخر إلى مستوى هذا الحيوان.
ما من موجود يفسد ويعيث في الأرض فساداً بقدر ما يفعل الإنسان، هذا الحيوان ذو القدمين2.
مفاسد تسلّح غير الصالحين
سمعت أنّ المرحوم المدرّس قال لرضا خان- والد الشاه محمد رضا - في زمان حكمه: سمعت أنّ الشيخ الرئيس قال: إنّني أخاف من البقرة لأنّها تمتلك أسلحة، ولا تمتلك عقلًا. هذا الكلام وإن لم يكن ثابتاً عن الشيخ الرئيس مثلًا، إلا أنّه يبقى كلاماً حكيماً. فالأسلحة حين تقع في يد غير الصالحين وغير اللائقين يكون لها مفاسد. منذ البدء كان الإنسان مبتلى
1 صحيفة الإمام، ج 18، ص 502.
2 م.ن، ج 11، ص 379 - 380.
148
123
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
بهذا، فالأسلحة كانت في يد ناس غير صالحين منذ نشوء الحضارة البشرية - كما يتصوّر الإنسان - كانت الأسلحة في أيدي غير الصالحين، وجميع مشكلات الإنسان من هذا الأمر. وما لم يُنزع السلاح من أيدي غير اللائقين هؤلاء، فإنّ الإنسان لن يتمكّن من تحقيق نتيجة تُذكر. والأنبياء جاؤوا لنزع السلاح من أيدي غير اللائقين به، الذين لا عقل لهم، لكنّهم لم يتمكّنوا، لأنّ أولئك كانوا متجبّرين. وفي كل زمان لم يوفّق الصالحون لنزع الأسلحة من أيدي غير اللائقين، وبقيت هذه الأسلحة في يد غير اللائقين وغير الصالحين الذين لا عقل لهم. جميع هذه المشكلات التي تلاحظونها هي نتيجة هذا الأمر. منذ أن جاء الإنسان إلى الدنيا، بدأ التنازع بين الصالح وغير الصالح، وفي جميع تلك العصور كانت الأسلحة في يد غير الصالحين، إلّا ما ندر. ويا للجرائم التي وقعت بهذه الاسلحة! ولن نحتاج إلى سبر غور التاريخ البعيد، فهذه الحروب التي وقعت خلال القرن الأخير في العالم، الحرب العالمية الأولى الحرب العالمية الثانية، هذه الحروب التي وقعت مؤخّراً في فيتنام، هذا القتل للناس قد عمَّ لكون الأسلحة في يد غير الصالحين1.
النفوس الخبيثة منشأ المفاسد
نحن نريد أن نمدّ يد الأخوة والصداقة إلى الحكومات الإسلامية ونريد أن نسيرمع الشعوب صفاً واحداً، وإنْ تحقّق الأمر على هذا النحو فلن ينال البلاد الاسلامية ظلم القوى الكبرى، ولكن الحكومات لم تتهذّب ولم تدخل الصيام ولم ترد إلى ضيافة الله. إنّها توسّع نطاق الحرب وهي لا تدري بأنّ توسيع نطاق الحرب يعني خراب بيتها. إنّ الذي يعيش حياة متوسّطة لا يخاف الحرب. إنّ حراس الثورة الذين يعيشون حياة أقل من العادية لا يخافون الحرب. إنّ جندينا الذي يعيش حياة عادية لا يخاف الحرب، فالحرب لا تضرّه. أصحاب القصور هم أولى أن يخافوا. فالضرر يصل إليهم. لقد أعددنا أنفسنا للعمل على إزالة الظلم، فنحن سنعمل بالنصيحة ومدّ يد الأخوة والمحبّة مع جيراننا من البلاد الإسلامية. إنّ مسؤولي النظام يتحدّثون دوماً عن المودّة والصداقة ولكن أولئك لكونهم لم يدخلوا في ضيافة الله يقضون على
1 صحيفة الإمام، ج 3، ص 297 - 298.
149
124
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
أنفسهم بأنفسهم، إذ على قلوبهم حجاب ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾1. إنّ جميع المفاسد من الإنسان، من النفس الإنسانية، فلا يصلنا شيء من مكان آخر، كلّ ما نناله هو منّا، "إنّما هي أعمالكم تردّ إليكم"2. إنّ أيّة مفاسد تُصيب البشر في الدنيا هي من فساد الإنسان نفسه، ومن فساد الحكومات والنفوس الخبيثة. وكلّ ما يصلنا في ذلك العالَم فهو منّا أيضاً3.
مفاسد المنحرفين سياسياً
ما جاء في الرواية من أنّه "إذا فسد العالِم فسد العالَم" إنّما ينطبق بشكل أوسع على هؤلاء أنفسهم، علماء السياسة الفاسدين الذين أفسدوا العالَم. العالَم الآن يتّجه نحو الفساد بسبب العلماء، أولئك الذين يصنعون أسلحة الدمار. وإنّهم رجال السياسة الذين هم منحرفون ويستخدمون هذه الأسلحة. إنّ العالَم الآن يشهد الفوضى والاضطراب بسبب هؤلاء العلماء، فإذا حذفناهم من العالَم فإن الناس سيعيشون في هدوء وسلام4.
نشوء الاختلاف بسبب حبّ النفس
إذا كان نهجنا بهذا النحو، فكونوا على ثقة من أنّ ضرراً لن يُصيبنا. إنّ الضرر يلحق بنا يوم نفسد من الداخل، يبدأ الفساد والتعفّن من داخل الأفراد ثم يسري هذا الفساد إلى مجموعة، ويصيبها بالفساد فتتعفّن. وهكذا ينتقل الفساد والتعفّن من هذه المجموعة إلى تلك، ومن تلك إلى أخرى ويدبّ في الكلّ. عند ذلك ينقلب حالكم ويُقضى عليكم، فعند ذلك تطمع القوى الكبرى بكم وتقضون على أنفسكم بأنفسكم5.
إفساد القلم غير الصالح
القلم سلاح من الأسلحة، وهو ينبغي أن يكون في أيدي الصالحين والأفاضل. فإذا وقع في أيدي الأراذل، فإنّ المفاسد ستزداد. وها هو بأيديهم فعلًا، في مجالات وأبعاد. وها هم أولاء
1 سورة البقرة، الآية 171.
2 الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج2، ص844.
3 صحيفة الإمام، ج 18، ص 500 - 501.
4 م.ن، ج 18، ص 238.
5 م.ن، ج 17، ص 124 - 125.
150
125
الفصل الثامن الآثار السلبيّة لعدم تهذيب النفس
يُظهرون كلّ ما يقوم به ذلك الرذيل الذي يقودهم، بصورة جميلة، ويعرضونه ببيان بديع. إنّهم يحسنون التجميل. وإنّها لجريمة أن يُنال من هذا الشعب بالقلم.
المفاسد التي يقوم بها هؤلاء، الجرائم التي يرتكبونها، ما يسفكونه من دماء، كلّ ذلك يُصوّره أصحابُ القلم غير الصالحين بشكل معكوس. إنّهم يجلسون في بيوتهم ويستخدمون أقلامهم المدمّرة لقلب كلّ الوقائع وعكس المجريات.
وهذا دليل آخر على أنّ القلم يجب أن يكون بأيدي الصالحين1.
عدم الاكتراث لمصير المسلمين
أينبغي أن أتحدّث إليكم الآن عن الأخلاق؟ إنّهم يقضون على أساس الإسلام ويدمّرون المسلمين، وأقعد أنا الآن لأتحدّث إليكم حول تهذيب النفس؟ لست مهذّباً إن لم أكترث لما يجري، ولو كنّا مهذّبين لاكترثنا بما يحصل2.
تأثير عمل الفرد على الكل
إنّ عمل الفرد الواحد له تأثيره على المجتمع ككل، إذ إنّ المجتمع هو هؤلاء الأفراد، وليس شيئاً آخر. فعمل كل واحد منكم له تأثيره، فعندما يقوم أحدكم بعمل قبيح فإنّه سيؤثّر في كلّ من يراه من الآخرين3.
خسارة الإنسان غير المهذّب
إنّ مقدار ضرر الإنسان غير المتربّي على المجتمعات لا يُضاهيه ضرر أيّ شيطان أو أيّ حيوان أو أيّ موجود4.
1 صحيفة الإمام، ج 3، ص 305 - 306.
2 م.ن، ج 2، ص 368.
3 م.ن، ج 13، ص 401 - 402.
4 م.ن، ج 14، ص 153.
151
126
الفصل التاسع الآثار الطيّبة لتهذيب النفس
تصرُّف الحق تعالى في نفس الإنسان
أنت إذا أخلصت الصورة الملكية الإنسانية لله، وجعلت الجيوش الظاهرة الدنيوية للنفس التي هي عبارة عن القوى المتشتّتة في ملك البدن في ملاذ الحقّ وطهّرت الأقاليم السبعة الأرضية أي البصر والسمع واللسان والبطن والفرج واليد والرجل من قذارات المعاصي وجعلتها تحت تصرّف ملائكة الله التي هي الجيوش الإلهية فتصير هذه الأقاليم بالتدريج حقّانية وتتصرّف بتصرّف الحقّ حتى يكون هو نفسه أيضاً من ملائكة الله أو مثل ملائكة الله: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾1. فتحصل المرتبة الأولى من الاستعاذة ويرحل الشيطان وجيوشه عن مملكة الظاهر ويتوجّهون إلى الباطن ويهجمون على القوى الملكوتية النفسانية2.
تنوّر القلب بنور جمال الحقّ
إذا قام الإنسان بالأمر وجاهد في سبيل الله، فالحقّ تعالى يؤيّده وينجّيه باليد الغيبية من ظلمات عالَم الطبيعة، وينوّر أرض قلبه المظلمة بإشراق نور جماله، ويبدله بها السماوات الروحية: ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾3.4
تسهيل المشكلات
(آمل أن) يُطهّروا قلوبهم من حبّ الدنيا وأهواء النفس التي تُعدّ رأس كلّ الخطايا، وذلك بالمجاهدة وتحكيم أسس التقوى لتسهل عليهم مواجهة مشاكل الحياة وتحلو في أفواههم مرارات السعي في خدمة الحقّ تعالى وأحكام الإسلام المقدّسة5.
1 سورة التحريم، الآية 6.
2 الإمام الخميني، آداب الصلاة، ص 224.
3 سورة الشورى، الآية 23.
4 الإمام الخميني، آداب الصلاة، ص 124 - 125.
5 صحيفة الإمام، ج 2، ص 55.
155
127
الفصل التاسع الآثار الطيّبة لتهذيب النفس
استلذاذ المرارات
يا أعزّاء الإسلام ورأسمال الشعب، جاهدوا لكي تُزيلوا الأنانية من قلوبكم، وعليكم أن تُدركوا وعلينا أن نُدرك بأنّ كلّ ما هو موجود فهو هو وتجليات جماله. إنّ الجسم والنفس والروح كلّها منه، فاسعوا أن تزيلوا حجاب الأنانية لتروا جماله الجميل، عند ذلك تنحلّ كلّ مشكلة وينتهي كلّ ألم ومشقّة ويصير الفداء في سبيله أحلى من العسل بل أسمى من كلّ شيء1.
عدم تأثير المقام على الشخص المهذّب
ما أكثر الذين يتغيّرون، لو أصبح أحدهم مختار قرية، نتيجة ضعفهم النفسي، سرعان ما يتأثّرون بالمنصب الذي ينالونه. وثمّة أشخاص يتأثّر المنصب والمقام ذاته بقوّة شخصيّتهم. والسيّدان رجائي وباهنر لم تؤثّر بهما قطّ رئاسة الجمهورية للأول ورئاسة الوزراء للثاني، بل هما اللذان أخضعا الرئاسة لتأثيرهما، أي جعلا الرئاسة في قبضتهما، ولم تضوهما الرئاسة تحت لوائها. وهذا درس منهما لا بدّ للإنسان أن يعتبره، والحمد لله هنالك الكثير من أمثالهم في هذه الجمهورية لم يكترثوا بالجاه والمقام. لم تتغيّر أحوالهم عندما نالوا مركزاً مرموقاً عنها لمّا كانوا طلبة للعلوم الدينية أو باعة في السوق، فلم يُصبهم الغرور والتكبُّر ولم يُثيروا ضجّة مفتعَلة في أعقاب ذلك ليبرزوا أنفسهم، وهذه قضية فائقة الأهمية2.
عدم تأثير القوّة المادّية على الروح
الأنبياء والأولياء مهما نزل بهم، ومهما ضغطت عليهم القوى العالمية، فلا تؤثّر فيهم شيئاً. إنّ ذاك الذي أخذ بزمام بلاد تمتدّ من الحجاز الى مصر وجميع هذه المناطق، إيران وسائر المناطق كانت تحت سلطته، وكانت قوّته البدنية والروحية بذاك النحو، نرى أنّه أكثر تواضعاً من المسحوقين والمتوسّطي الحال. وهذه القوى بأجمعها لم تؤثّر في روحه قطّ، لأنّ الروح كبيرة بالقدر الذي تستوعب فيه العالَم كلّه. إنّ روحاً مجرّدة عن هذه الكدورات لهي وسيعة سعة تجعل كلّ العالَم كنقطة فيها3.
1 صحيفة الإمام، ج 18، ص 333 - 334.
2 م.ن، ج 20، ص 124 - 125.
3 م.ن، ج 11، ص 268.
156
128
الفصل التاسع الآثار الطيّبة لتهذيب النفس
حرّية الإنسان في انعتاقه من اتباع النفس
إنّ مصدر جميع أنواع التبعية يكمن في تبعية الإنسان لنفسه. كلّ التبعيات تنشأ من الإنسان نفسه. فعندما يكون الإنسان تابعاً نجد (في الحقيقة) أنّ نفسه هي التابعة لبعض الجهات فيها، تابعة لأهوائه، تابعة لوضعه، كلّ تبعية للخارج مصدرها يكون من داخل نفسه. وعندما تكون له هذه التبعية للنفس فإنّه سيتقبّل أيّ نوع من التبعية تُفرض عليه من الخارج، لأنّه عندما يجد أمراً يتعارض مع الأهواء التي يحملها، فإنّه سيعمل خلافه. وإذا ما تحرّر الإنسان من تبعيته لذاته ونفسه، فإنّه لا يكون تبعاً لغيره ولا يخاف من أحد، حتى لو اجتمعت ضدّه جميع قوى العالَم فإنّه لن يخاف، لأنّ أقصى ما يُمكن أن يحصل هو أن يموت، وليس شيء أسمى من هذا1.
التقوى وعدم الاهتمام بالجاه والمقام
لقد شاهدت البرلمان آنذاك، كانوا كأنّما ينتظرون مجيء آية الله مدرّس، بالرغم من عدائهم له، لكنّهم كانوا يشعرون بالنقيصة إذا لم يحضر مدرّس. واذا ما جاء مدرّس كان الشعور بأن شيئاً جديداً حدث. لماذا كان الأمر هكذا؟ لأنّه كان غير مهتم بالمنصب ولا بالثروة وما شابه ذلك، لم يكن ينظر إلى هذه الأمور، فلا يشدّه المنصب ولا المال، كان على تلك الحالة.
كنت حاضراً عندما كتب أحدهم شيئاً، كان في زمن رئاسة رضا شاه للوزراء قبل أن يُصبح ملكاً وحينها كان رضا شاه طاغية جاهلاً يُصفّي جميع معارضية، جاء أحدهم وقال: كتبت شيئاً إلى العدلية (القضاء) أرجو أن تُعطيه ليأخذوه إلى معالي رئيس الوزراء- أو مثل هذا التعبير- ليطلع عليه. فقال مدرس: رضا خان الذي لا يعرف ما إذا كانت كلمة عدلية تكتب بالعين او بالألف، أنا أوصله له ليطلع عليه؟! لم يكن يقول هذا في غياب رضا خان، بل كان يواجهه بمثل هذا الكلام. هكذا كان مدرّس.
1 صحيفة الإمام، ج 16، ص 453.
157
129
الفصل التاسع الآثار الطيّبة لتهذيب النفس
لماذا كان مدرّس هكذا؟ لأنّه كان متّقياً، لم يكن متّبعاً لأهوائه، ما ﴿اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾1. لقد كان إلهه الله عزّ وجلّ. لم يكن يعمل ويتصرّف ليحصل على الجاه والمنصب أو ما شابه ذلك، كان يعمل في سبيل الله. والذي يعمل من أجل الله ستكون حياته بهذا الشكل، فلم يكن يتوقّع أن يواجه ما هو أسوأ من الوضع الذي يعيش فيه. فلماذا لا يقوم بمثل هذه الأعمال؟ هو لم يكن يخاف أحداً كذلك، وعندما دخل رضا شاه البرلمان وراح جلاوزته ينادون ويهتفون يعيش فلان ويعيش فلان، قام مدرّس ووقف أمامه وقال له: الموت لفلان وأعيش أنا! حسناً، أنتم لا تُدركون ماذا يعني الوقوف أمام ذلك الشخص، لكنّه وقف. هذا لأنّه كان متحرّراً من أهواء النفس، كان متقياً، ولم يكن يدين لأحد2.
التزكية ترفع أسباب الخلاف
لو اجتمع كلّ الأنبياء العظام في مدينة ما وفي بلد ما لن يختلفوا مع بعضهم أبداً، لأنّهم تزكّوا، فهم نالوا العلم والحكمة بعد تزكية نفوسهم. مشاكلنا جميعاً لأنّنا لم نُزكّ، لم نُربّ. أصبحوا علماء ولكن لم يتربّوا، تفكّرهم عميق ولكنّهم لم يتربّوا. وإنّ الخطر الناشيء عن العالِم الذي لم يُربّ ولم يُزكّ على البشر أكبر من خطر المغول3.
التزام الحقّ واجتناب الباطل
الذين يريدون التحدّث يجب أن ينظروا هل يريدون الحقّ من أجل الحقّ؟ إنّ أكبر شيء يُعدّ وجوده لدى الإنسان كمالًا عظيماً هو أن يطلب الحقّ من أجل الحقّ وأن يسرّ للحقّ لكونه حقّاً، وأن يكره الباطل لأنّه باطل، وإذا جرى الحقّ بيد عدوّه أن تكون عنده السيطرة على نفسه بحيث يمدح ذلك الحقّ، وإذا صدر الباطل من أبنائه أو أصدقائه أن تكون لديه السيطرة بحيث يُبغضه ويظهر كرهه له. الذين يريدون الحقّ من أجل الحقّ قليلون، قليلون جدّاً. وقليلون هم الذين يكرهون الباطل ويبغضونه لكونه باطلاً، هم قليلون جدّاً4.
1 سورة الفرقان، الآية 43.
2 صحيفة الإمام، ج 16، ص 451 - 453.
3 م.ن، ج 14، ص 391.
4 م.ن، ج 14، ص 145.
158
130
الفصل التاسع الآثار الطيّبة لتهذيب النفس
زيادة القوّة البدنية
(إنّها) الرياضة الروحية التي إذا مارسها الإنسان ضاعفت من قدرته البدنية. أنتم عليكم الجدّ والاجتهاد في تحصيل تلك القوّة والتي هي قدرة إلهية، ببركة الإسلام وببركة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان رجلاً قوياً روحياً وجسدياً، لتغدوا أقوياء في كلا الجانبين، الجانب الروحي، والجانب الجسدي1.
الاعتراف بالخطأ
العدل من أيّ شخص صدر فهو عدل. والجريمة والجور من أيّ شخص صدر فهو جور. الإنسان الكامل هو من إذا صدر عنه عمل باطل يسعى لإصلاحه، ولا يأبى الإقرار به. بالطبع لا أنّه يرتكب معصية في الخفاء ثم يأتي ليتجاهر بها في العلن، فهذا حرام. ولكن إذا حصل الخطأ، افترضوا صحيفتكم التي صدرت وانتشرت الان، إذا رأيتم مقالة، أو افتتاحية وكان فيها خطأٌ- والإنسان ليس مصوناً عن الخطأ- أو خلافٌ لما يقتضيه الميزان، فإنّ مقتضى القوّة الروحية للإنسان السليم هو أن يكتب أنّني أخطأت. القضية هي أنّ من كانت لديه هذه القوّة فهو مالك لنفسه. وإذا لم تكن هذه القوّة في الإنسان فهو ليس مالكاً لنفسه والشيطان هو الذي يملكها2.
عدم الخوف من الموت
ولو نزّهتم أنفسكم وطهّرتموها، ولو جعلتم أعمالكم منسجمة مع القرآن الكريم ومع أحكام الإسلام، وجعلتم أخلاقكم قرآنية، وطهّرتم أنفسكم فلن تخافوا شيئاً. إنّ الموت أمر يسير وليس ذي بال. وما كان عليه مولى الجميع أمير المؤمنين سلام الله عليه، حيث يقول: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه"3 فلأنّه فهم حقيقة الدنيا وحقيقة ما وراءها. لقد فهم معنى الموت. إنّ الموت هو الحياة4.
1 صحيفة الإمام، ج 10، ص 252 - 253.
2 م.ن، ج 14، ص 173.
3 السيد الرضي، نهج البلاغة، خطب الإمام علي، خطبة رقم 5، ص52، تحقيق الدكتور صبحي الصالح، ط1, 1967م، خلقه وعلمه.
4 صحيفة الإمام، ج 6، ص 311.
159
131
الفصل التاسع الآثار الطيّبة لتهذيب النفس
قدرة مواجهة الطاغوت
الشبّان الايرانيّون والنساء والرجال الذين تربّوا في العهد الطاغوتي تربية طاغوتية لم يتمكّنوا من مواجهة الطاغوت. ولكنّهم عندما تحوّلوا بيد القدرة الإلهية إلى أفراد ثوريين بعيدين عن الرغبات الشيطانية، استطاعوا دحر تلك القوّة العظيمة1.
إيجاد القوّة الإلهية
في انتصاركم كان الأمر معكوساً. لقد تخلّيتم عن آمالكم، في ذلك الوقت عندما كان يسألكم أحدهم عن حال عملكم أو وضع دكانكم لعلّكم كنتم تسخرون منه وتتساءلون أهو وقت هذه الأسئلة وهذا الاهتمام؟ لقد نبذتم آمالكم خلفكم، وتوجّهتم نحو الله. هذا الإقبال على الله والهجرة من النفس إلى الله هو أعظم الهجرات. الهجرة من النفس إلى الحقّ ومن الدنيا إلى عالم الغيب كانت السبب في تعزيز قوّتكم. فلم يعد مهمّاً عندكم عدد الأيام التي ستعيشونها، هذه القضايا لم تكن مطروحة. كان الشباب يرونهم يطلقون الرصاص، ويشاهدون الدّبابات آتية، والرشّاشات تعمل، ورغم ذلك يهجمون. هذه القوّة قوّة إلهية. وتلك القوّة الإلهية هي التي عزّزت الإسلام منذ البدء، وهي التي فجّرت فيكم نبذ الدنيا والتوجّه نحو عالم الغيب، نبذ الأنانية والتوجّه نحو الرحمة الإلهية، هذه هي القوّة الإلهية. فحافظوا عليها2.
الغلبة على العدو
إنّ التوجّه إلى الله تبارك وتعالى ومصدر القوّة هو الذي ينصركم. أنتم وكلّ الأصدقاء الذين يريدون الاستعداد لجيش العشرين مليون، وإن شاء الله يُوفّقوا لذلك، أوصيكم جميعاً بأن تُوجدوا في أنفسهم قوّة الإيمان. حصّلوا الاطمئنان القلبي، أوجدوا القوّة الإلهية في نفوسكم. هذه القوّة الإلهية والقدرة الإلهية تؤدّي إلى أن يُرهِب الله تبارك وتعالى أعداءكم ويُرعبهم، وتنتصروا عليهم مهما كثر عددهم3.
1 صحيفة الإمام، ج 18، ص 471.
2 م.ن، ج 11، ص 369.
3 م.ن، ج 12، ص 242.
160
132
الفصل التاسع الآثار الطيّبة لتهذيب النفس
خشية المستعمرين
إنّ عملاء الاستعمار يخشون الإنسان.. المستعمرون الذين لا يُفكّرون بغير نهب ثرواتنا، لا يسمحون أن يتربّى في جامعاتنا الدينية والعلمية "إنسان". إنّهم يخشون الإنسان. فإذا ما وجد إنسان في دولة ما فإنّه سوف يُهدّد مصالحهم1.
عدم التأثّر بالترغيب والترهيب
إنّنا بحاجة إلى الإنسان. إنّ دولتنا بحاجة إلى تنشئة الإنسان السليم. إنّ الذي يتخرّج من مؤسّستكم أو مؤسّستنا إذا كان مؤمناً فإنّه لن يرضخ لظلم الأجانب ولن يستطيعوا إخضاعه بالترغيب. إنّ الترغيب والترهيب إنّما يؤثّران في الذين لا إيمان لهم. أمّا الإنسان المؤمن التقي فلا الترغيب يؤثّر فيه فيرتكب خيانة في سبيل كسبٍ ما، ولا الترهيب، لأنّه يوازن بين التهديد ومخالفة التكليف (فيقول لا ينبغي أن أفعل)2.
ميل الكلّ إلى العدالة
إذا كان ذلك الشخص الحاكم على الشعب عادلًا ومتبنيّاً للعدالة، سيكون جهازه الحاكم متبنيّاً للعدالة في المجتمع. وسوف تميل كافة الفئات التي تتبعه إلى العدالة قهراً، بما في ذلك دوائر الدولة التي لن تجد لنفسها مخرجاً إلا بتطبيق العدالة. وهكذا تنتشر العدالة. هذا في حال حكم الشعب إنسان مزكّى، فإذا ما زُكّيت أنفس أبناء الشعب، تستحيل هذه الدنيا لهم جنةً وتزول من أمامهم جميع العقبات3.
تأمين سعادة البلد
البلد الذي فيه إنسان مهذّب لا يُعاني من مشاكل، لأنّ الانسان الواعي المهذّب يؤمّن جميع أبعاد السعادة للبلد. الإنسان المؤمن بالله تبارك وتعالى، الإنسان الملتزم، الإنسان المهذّب، يقطع يد الظالم4.
1 الجهاد الأكبر، ص 62.
2 صحيفة الإمام، ج 7، ص 472.
3 م.ن، ج 9، ص 135.
4 م.ن، ج 7، ص 531 - 532.
161
133
الفصل التاسع الآثار الطيّبة لتهذيب النفس
سراية تهذيب الحاكم إلى الرعية
إذا كان شخص، أو سلطان، أو رئيس دولة، مهذّباً وصالحاً، فإنّ المحيطين به سيصيرون بأجمعهم صالحين، ومنهم سيسري الأمر إلى الأدنى. ولذلك تلاحظون أنّه إذا تولّى حاكم عادل أمور الناس على مدى عشرين عاماً، فإنّه سيؤدّي إلى وجود دولة عادلة1.
إيجاد الوحدة بين الناس
يجب أن نكون يداً واحدة كما أمرنا الإسلام، المسلمون يد واحدة على من سواهم. يد واحدة لا يدان. أن نكون يداً واحدة يعني أن نقوم بعمل واحد، فلو قيل يدان فربما تؤدّي هذه اليد عملًا لا توافقه اليد الأخرى. يجب أن نكون يداً واحدة، واليد الواحدة تعني سحق أنفسكم، وتبديد الآمال التي تتصوّرون بأنّها تُشكّل شيئاً .. حاولوا أن تتأمّلوا فيمن نكون نحن وما هي هذه المنظومة الشمسية وهذه المجرّات السماوية في مقابل عظمة الله تعالى حتى تُدركوا بأنّنا نُعاني من شيطنة خبيثة، وليس أنّه يوجد شيطنة ويوجد أمر آخر. إنّنا مبتلون بشيطنات كامنة في نفوسنا وهي شيطنات خبيثة وحقيرة. ولا بدّ لكم من العمل على إنقاذ أنفسكم ولا بدّ لنا من العمل على إنقاذ أنفسنا. فإذا تحرّرتم من هذا القيد فما يلي ذلك سيكون سهلًا. ستكون الوحدة سهلة يسيرة. ولكن يجب أن نتخلّص من هذا القيد، من قيد الأنانية حيث كلّ ما هو موجود هو لي أنا لا غير. ومثل هذا تُعاني منه كلّ النفوس ما لم يتمّ تهذيبها2.
صحة مسار الإنسان المهذّب
لو أنّ العالَم بأجمعه سلك المسلك الخاطئ، فإنّ شخصاً واحداً تربّى على تعاليم الأنبياء لا يسلك الخطأ3.
1 صحيفة الإمام،ج 7، ص 285.
2 م.ن، ج 17، ص 530.
3 م.ن، ج 9 ص 14.
162
134