المقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى آله الطاهرين، وبعد...
لقد بعث الله الأنبياء عليهم السلام لغرض تعليم الإنسان وتزكيته ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾1، فأدّى الأنبياء وأوصياؤهم هذه المهمّة متجرّعين الشدائد والمحن من أجلها، لأنّ تحقّق مفهوم الإنسانيّة الحقيقيّ وكمالها الواقعيّ متوقّف على أمرين أساسيّين، هما التربية والتعليم. وقد عبّر القرآن الكريم عن التربية في هذه الآية بمفردة "التزكية".
وبالعود إلى الإنسان، نلاحظ فيه ثلاث ميّزات مهمّة، فهو من جهة كائن عاقل مفكّر، وهذه القوّة فيه غذاؤها العلم. ومن جهة ثانية هو صاحب روح ونفس، كمالهما بالفضائل الأخلاقيّة والصفات الحميدة. ومن جهة ثالثة، وكما هو معلوم بالبداهة، الإنسان كائن مختار، بمعنى أنّ كلّ شخص يمكن أن يدرك أنّه مختار دون الحاجة إلى أيّ دليل وبرهان، وهذا الاختيار الإنسانيّ هو سرّ كرامة وشرافة الإنسان وعلوّ منزلته عند الله، لأنّه تعالى أبى أن يكون وصول الإنسان الذي اصطنعه الله لنفسه إلا بمحض إرادته واختياره، وذلك لعلوّ الكمال الإنسانيّ الموعود ورفعة درجته. فكانت الشريعة بمثابة الموجّه للفعل والاختيار الإنسانيّ لبلوغ غاية الشكر والوفاء لله تعالى على نعمه وإحسانه.
1- سورة البقرة، الآية 129.
9
1
المقدمة
ولأجل هذه الميزات كلّها، ولأجل ضمان وصول الإنسان إلى الغرض والهدف من جوده، جهّزه - عزّ اسمه - بكلّ ما يعينه على الوصول، وسخّر له ما في السماوات والأرض لهذا الهدف المأمول، وأرشده إلى نهج الصدّيقين والأبرار، بل وجعلهم قدوته وأئمّته يهدونه في سيره وسلوكه حتى يوم القرار، وجعل عماد هذا الطريق أمرين أساسيّين:
الأوّل: التعلّم وطلب العلوم والمعارف الإلهية ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ﴾1, والثاني: تربية النفس وتهذيبها من الأمراض الأخلاقية والمعنوية ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾2. ومن دون هاتين الدعاماتين لن يتحقّق المشروع الإلهيّ في الأرض، وسوف يصبح إرسال الأنبياء والرسل لغواً، وبتبعها تغدو التعاليم والأحكام الشرعية عبثاً، وينتفي الغرض من سنِّها وتشريعها.
فالحديث عن صناعة الإنسان الحقيقيّ والسويّ لا يفقه سوى لغةً واحدةً ولا يتّبع إلا منهجاً واحداً هو، تربية الإنسان وتعليمه وفق قوانين السماء السمحاء، لا الأرض المثقلة بالشهوات والأهواء...وهو ما نستهدفه من هذا الكتاب الذي يركّز على مبادئ التربية الإيمانية للفرد، وبناء العلاقة الصحيحة مع الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
1- سورة التوبة، الآية122.
2- سورة طه، الآية76.
10
2
الدرس الأوّل: القرب من الله
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يدرك أنَّ حبَّ الكمال أمرٌ فطري.
2- يعرف أنَّ الكمال الحقيقيّ في القرب من الله.
3- يبيّن أنَّ طريق القرب من الله وتحقيق السعادة يكمن في التقوى.
11
3
الدرس الأوّل: القرب من الله
فطريّة حبّ الكمال
هناك علاقة حقيقيّة وواضحة يكشفها لنا القرآن الكريم بين الدِّين الحنيف وبين الفطرة الإنسانيّة، حين يقول: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾1. فإقامة الوجه، والإقبال نحو الدين الحنيف، الذي هو دين التوحيد، ودين معرفة الله، ودين العبوديّة لله، يمرّ من خلال قناة الفطرة الإنسانيّة. فإذا أراد الإنسان أن يكتشف سرّ وجوده ومعنى وجوده في هذا العالم، عليه أن يرجع إلى خلقته وفطرته التي خلقه الله تعالى عليها. لذا نرى نبيّ الله إبراهيم عليه السلام عندما وجّه وجهه نحو الهدف الحقيقيّ لوجوده، بعد أن شخصّه بدقة، فإنّه استعان بهذه الفطرة الإلهيّة التي أودعها الباري أمانة في أعماق وجودنا لتهدينا إليه تعالى، فقال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾2.
وإذا رجعنا إلى هذه الفطرة لنتفحّصها ونعلم حقيقة مرادها ومبتغاها فسوف نكتشف أمرًا بالغ الأهمّيّة، إذ سوف نلاحظ بشكل لا لبس فيه ولا شكّ على الإطلاق أنّ ما تريده هذه الفطرة يمكن أن نحصره بكلمة واحدة هي "الكمال".
1- سورة الروم، الآية 30.
2- سورة الأنعام، الآية 79.
13
4
الدرس الأوّل: القرب من الله
فمن هذه الآيات الكريمة وغيرها يستفاد أنّ في نفس الإنسان استعدادًا للرقيّ والكمال، واستعدادًا للسقوط والانحدار، وأنّ الناس بأجمعهم ينشدون الكمال بشكل فطريّ، وليس ثمّة إنسان يسرّه الخلل بوجوده، بل إنّ كلّ إنسان يسعى بشكل غريزيّ وفطريّ لأنْ يزداد كمالًا يومًا بعد يوم، ولا يوجد شخص واحد في قلبه رغبة أن يتوقّف تكامله أو يزداد وضعه سوءًا يومًا بعد يوم.
فإذا ما علم الإنسان بأنّ هنالك إمكانيةً لبلوغ مرتبة من الكمال، فإنّه يتمنّى بلوغها، وهذه الرغبة والاندفاع الفطريّ نحو الكمال موهبة أودعها الله سبحانه وتعالى في كيان الإنسان، وواحدة من النعم الإلهيّة الكبرى، ولولا وجود هذه النزعة في كيان الإنسان، لانطوينا جانبًا، تسيطر علينا حالة من الخمود والخمول، دون أن نبدي أيّ حركة، فهذه النزعة نحو الكمال هي محرّكنا لمزيد من السعي والعمل، وإنّ غاية الباري تعالى من خلق الإنسان هي أن يسلك طريق التكامل بإرادته، لذلك فقد أودع في فطرته مِثل هذه النزعة.
إنّ بعض مصاديق الكمال جليّة وواضحة تمامًا، ولا شكّ لدى أيّ إنسان بكونها كمالًا، والعلم من بين هذه الموارد، فالجميع يعلم، ولا شكّ لأحد، بأنّ العلم حَسَنٌ وكمال، والجهل سيِّئٌ ونقص. من هنا، فإنّ الناس جميعًا جُبلوا على حبّ العلم وطلبه، ويسعون لأن يزدادوا علمًا يومًا بعد يوم، وتتّضح الحقائق أمامهم أكثر، وليس ثمّة إنسان يطلب الجهل، بل بالعكس، فهو يهرب ويتبرّأ منه ما استطاع.
والقوّة كالعلم أيضًا، فمن الواضح لكلّ إنسان أنّ القوّة كمال وأنّ الضَّعف والعجز يُعدّان نقصًا. ليس من أحد يرغب في أن يكون عاجزًا ضعيفًا، لا قدرة له على فعل شيء، فالناس جميعًا ينشدون القوّة والقدرة، والعلم والقدرة من صفات الله الكماليّة.
من الأمور الأخرى التي ينشدها الإنسان بفطرته هي "السعادة"، فالناس جميعًا مجبولون على حبّ السعادة، وليس من أحد يحبّ التعاسة والشقاء، وليس هنالك من
14
5
الدرس الأوّل: القرب من الله
يرغب بأن يُبتلى بالألم والعذاب والشدّة، وما يسعى من أجله الإنسان هي الدعة واللذّة والطمأنينة والسكينة والراحة، وبكلمة واحدة "السعادة". بناءً على هذا، فقد جعل الله سبحانه وتعالى في الإنسان أصل النزعة نحو الكمال من ناحية، وأودع لديه النزعة نحو مصاديق الكمال من ناحية أخرى.
ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ الإنسان قد يخطئ أحيانًا في مقام العمل عند تشخيص مصداق الكمال.
ولغرض التحصّن من مثل هذه الأخطاء، وهب الله الإنسان العقل. والعقل مرشدٌ في هذا المجال إلى حدٍّ بعيد، لكنّه لا يجدي نفعًا دون مددٍ من الوحي. من هنا فقد بعث الله الأنبياء ليبيّنوا للناس طريق الحياة الصحيحة، وإنّهم يستخدمون وسيلتَي "التبشير" و"الإنذار" لغرض إثارة الحوافز لدى الناس من أجل سلوك الطريق، والابتعاد عن المطبّات، ﴿فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾1.
الكمال الحقيقيّ في القرب من الله
وإذا كان الكمال فطريًّا وينشده كلّ إنسان، كما مرّ معنا، فما هو ذاك الكمال الذي ينبغي أن ينشده إذًا؟ ومتى يُمكن القول إنّ وجود الإنسان أصبح متكاملًا حقًّا؟
ما يُستفاد من تعاليم الأنبياء هو أنّ تكامل الإنسان يكون في القرب من الله، وهذا مفهوم علّمه جميع الأنبياء أتباعَهم، ويمكن اعتباره أمرًا فطريًّا، حتّى أنّ المشركين وعبّاد الأصنام كانوا ينشدون القرب من الله أيضًا، ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾2, وهذا الكلام دليل على شموليّة هذا المفهوم للمؤمن والمشرك، فعابد الوثن يطلب القرب أيضًا، لكنّه اختار مسارًا خاطئًا.
1- سورة البقرة، الآية 213.
2- سورة الزمر، الآية 3.
15
6
الدرس الأوّل: القرب من الله
لقد اعتدنا استخدام مفهوم (القُرْب) من الأمور المادّيّة، ومرادنا من ذلك القربُ المكانيّ أو القرب الزمانيّ، ولكن هل إنّ هذا المعنى من القرب متصوَّرٌ وممكنٌ بشأن الله أيضًا؟ وعندما نقول إنّنا نقترب من الله، فهل المراد تقلُّص بُعدنا المكانيّ أو الزمانيّ عن الله؟
مِن المسلَّم به أنْ لا معنى للقرب والبعد المكانيّ والزمانيّ فيما يخصّ الله سبحانه، فلا علاقة لله تعالى بالزمان والمكان كي يزداد قربًا أو بعدًا من زمان أو مكان ما. وبعض الناس يتصوّر أنّ الله في السماء، وكلّما ازددنا ارتفاعًا في السماء ازددنا قربًا من الله! وهذا التصوّر ناجم عن ضعف معرفتهم بالله سبحانه وتعالى، وهؤلاء يشيرون أحيانًا إلى معراج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتأييد كلامهم، حيث ارتقى الله سبحانه به صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماوات، ثمّ عرج من هناك، حيث يقول تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾1، فيقولون: إنّ القرآن صوَّر البُعد بعدًا مكانيًّا، وصرّح بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد اقترب من الله بحيث كانت المسافة بينهما أقلّ من قوسين!
في ضوء الأدلّة القطعيّة المتوفّرة لدينا فيما يخصّ عدم جسميّة الله وعدم محدوديّته بزمان أو مكان، فإنّ هذا الكلام يعتبر باطلًا، ومن المتيقَّن أنّ المراد من القرب في هذه الآية ليس قربًا مكانيًّا، وهذا التعبير من قبيل "تشبيه المعقول بالمحسوس" حيث تكثر نظائره في القرآن.
طريق القرب من الله
إنّ التمعّن في الروايات والآثار التي يرد فيها الحديث عن القرب من الله، يعيننا على إدراك المعنى الحقيقيّ لهذا القرب والطريق المؤدّية إليه.
ثَمّة رواية مشهورة في أصول الكافي، ولها أسانيد عديدة، وتحدّث عنها الشيخ البهائيّ أيضًا في كتابه "الأربعين"، تتضمّن هذه الرواية معارف سامية، وقد اهتمّ الأعلام من علماء الأخلاق بها كثيرًا. ونصُّ هذه الرواية طبقًا لنقل الشيخ الكلينيّ في أصول الكافي، عن الإمام الصادق عليه السلام عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كما يلي:
1- سورة النجم، الآيتان 8 – 9.
16
7
الدرس الأوّل: القرب من الله
"قال الله عزّ وجلّ: مَن أهان لي وليًّا فقد أرصد لمحاربتي، وما تقرّب إليَّ عبدٌ بشيء أحبَّ إليَّ ممّا افترضتُ عليه، وإنّه ليتقرب إليَّ بالنافلة حتّى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصِر به، ولسانَه الذي ينطِق به، ويَدَه التي يبطِش بها، إنْ دعاني أجبتُه، وإن سألني أعطيتُه..."1.
إنّ العبارات الواردة في هذا الحديث كناية عن شدّة قرب الله سبحانه وتعالى من العبد، هذا العبد الذي وصل إلى مرتبة الطاعة من خلال أداء الفرائض والواجبات الإلهيّة بإخلاص، فإنّه سيكون مؤهَّلا للفوز بمقام القرب من الله. والله تعالى حدّد لنا هذا الأمر في كتابه الكريم، فلم يكن أمره وطلبه سوى الطاعة والعبوديّة لله بقيد الإخلاص، حيث قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾2، وقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾3.
ومثل هذا الإنسان سوف يكون موضع عناية خاصّة من الله في كلّ آن، وسوف يكون الله إلى جانبه في كلّ مكان، وعلى كلّ حال، يهديه ويؤيّده ويفتح له باب القرب منه، فإنّ عنايات الله الخاصّة محدودة بالنسبة للعاديِّين من الناس، غير أنّ مثل هذا العبد يشمله لطف الله وعنايته، وهو عزّ وجلّ القائل ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾4.
إذًا، خُلق الإنسان ليصل إلى السعادة والكمال، والطريق الوحيدة التي تضمن للإنسان الوصول إلى هذا الهدف السامي هي الطاعة، والعبوديّة لله، وأداء ما افترضه على عباده، وهو الذي يُصطَلح عليه في الدين الحنيف بـ "التقوى"، ﴿وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ﴾5.
1- الكليني، الشيخ محمّد يعقوب، الكافي، تحقيق: عليّ أكبر الغفّاريّ، طهران-إيران، دار الكتب الإسلاميّة، ط4، ج2، ص352، باب الظلم، ح2.
2- سورة البيّنة، الآية 5.
3- سورة الإسراء، الآية 23.
4- سورة النور، الآية 54.
5- سورة محمّد، الآية 36.
17
8
الدرس الأوّل: القرب من الله
ونختم الكلام بما وصّى به أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام مالكَ الأشتر، حيث في وصيّته أبلغُ الكلام وأقلُّه، فقد وصّاه عندما ولّاه على مصر، فقال: "هذا ما أَمَر به عبدُ الله عليٌّ أميرُ المؤمنين مالكَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه... فقد أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتّباع ما أمر به في كتابه، من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلّا باتّباعها، ولا يشقى إلّا مع جحودها وإضاعتها..."1. التقوى والطاعة لله هي الطريق الوحيدة المؤدّية إلى كمال الإنسان وقربه من الله تعالى، وهذه الطاعة تتجلّى وتظهر من خلال اتّباع شريعته بكلّ تفاصيلها في حياة الإنسان.
1- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام عليّ عليه السلام-، تحقيق صبحي الصالح، لا.م، لا.ن، 1387-1967م، ط1، ص54.
18
9
الدرس الأوّل: القرب من الله
المفاهيم الرئيسة
1- إقامة الوجه، والإقبال نحو الدين الحنيف، يمرّ من خلال قناة الفطرة الإنسانيّة. يقول تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾1.
2- إنَّ في نفس الإنسان استعدادًا للرقيّ والكمال، واستعدادًا للسقوط والانحدار، وأنّ الناس بأجمعهم ينشدون الكمال بشكل فطريّ.
3- إنّ بعض مصاديق الكمال واضحة وجليّة كطلب العلم، والقوّة، والسعادة... لكنَّ الإنسان قد يخطئ أحيانًا في مقام العمل عند تشخيص مصداق الكمال. ولغرض التحصّن من مثل هذه الأخطاء، وهب الله تعالى الإنسان العقل، وبعث إليه الرسل والأنبياء عليهم السلام.
4- ما يستفاد من تعاليم الأنبياء هو أنّ تكامل الإنسان يكون في القرب من الله، وهذا مفهوم علّمه جميعُ الأنبياء أتباعَهم، ويمكن اعتباره أمرًا فطريًّا.
5- مِن المسلَّم به أنْ لا معنى للقرب والبعد المكانيّ والزمانيّ فيما يخصّ الله سبحانه، وذلك بناءً على الأدلّة القطعيّة على عدم جسميّة الله وعدم محدوديّته بزمان أو مكان.
6- خُلق الإنسان ليصل إلى السعادة والكمال، والطريق الوحيدة التي تضمن للإنسان الوصول إلى هذا الهدف السامي هي الطاعة، والعبوديّة لله، وأداء ما افترضه على عباده، وهو الذي يُصطَلح عليه في الدين الحنيف بـ "التقوى"، ﴿وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ﴾2.
1- سورة الروم، الآية 30.
2- سورة محمّد، الآية 36.
19
10
الدرس الثاني: عبوديّة الله
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يدرك أنَّ غاية التكامل هي التعلّق الكامل بالله.
2- يبيّن أنّ العبوديّة هي طريق الوصول إلى مقام التعلّق.
3- يحدّد سبيل الوصول إلى مرتبة العبوديّة ويذكر مراتب العبوديّة.
21
11
الدرس الثاني: عبوديّة الله
التعلّق الكامل بالله غايةُ التكامل
كلّما ازداد الإنسان رُقيًّا في مراتب القرب من الله، فإنّ روحه تزداد تكاملًا بالمستوى نفسه، وأسمى مراتب هذا القرب هي أن يبلغ الإنسان منزلة بحيث لا يرى حجابًا بينه وبين الله، بل لا يرى "نفسه" بتاتًا، وهي المرتبة التي وصفها الإمام عليٌّ عليه السلام في المناجاة الشعبانيّة: "إلهي هَبْ لي كمال الانقطاع إليك، وأنِر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصارُ القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك"1.
هذه المرتبة التي طلبها أمير المؤمنين وأئمّة الهدى عليهم السلام من الله تعالى في المناجاة الشعبانيّة: "إلهي وألحقني بنور عزّك الأبهج، فأكون لك عارفًا وعن سواك منحرفًا"، حيث يلتحق الإنسان بنور الله، وينقطع أمله عن كلّ ما سواه، ولا يرى شيئًا أو أحدًا غيره.
وحسب تعبير المناجاة الشعبانيّة، فإنّ أعلى المراتب الوجوديّة للإنسان هو "عين التعلّق"، "وتصير أرواحنا معلّقة بعزِّ قُدسك"، فإنّ أشدّ مرتبة وجوديّة للإنسان وأقواها تكون عندما يدرك أنّه لا استقلاليّة له، وهو متعلِّق وتابعٌ تمامًا، فإدراك غاية التبعيّة بلوغ قمّة الكمال الإنسانيّ، فإذا ما حصلت لدى الإنسان مثل هذه المعرفة بأن يلمس حاجته المطلقة للذات الإلهيّة المقدَّسة، حينها يكون قد نال أعلى مراتب كماله.
1- المجلسي، الشيح محمّد باقر، بحار الأنوار، تحقيق: إبراهيم الميانجي ومحمّد باقر البهبوديّ، بيروت-لبنان، دار إحياء التراث العربيّ، 1403ه-3891م، ط2، ج91، ص99، باب أدعية المناجاة، ح13.
23
12
الدرس الثاني: عبوديّة الله
العبوديّة طريق الوصول إلى مقام التعلّق
كيف يتسنّى للإنسان الوصول إلى حيث تصبح روحه "معلّقةً بعزِّ قدسك" وينال أعلى مراتب التقرّب إلى الله؟
في ضوء ما يستفاد من الآيات والروايات أنّ الطريق الأوحد لبلوغ مثل هذا الكمال هو "العبوديّة"، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾1، فإذا عبدنا الله، نكون قد بلغنا الهدف النهائيّ الذي يريده الله من خلق الإنسان، ولا وجود لطريق غير ذلك، وإنّ التعبير بـ "ما... إلّا..." في هذه الآية يفيد هذا المعنى.
فالعبادة إنّما تعني أن يؤدّي الإنسان أعماله كافّة، وتصرّفاته الاختياريّة، بدافع الطاعة لله، ومن أجل رضاه والتقرّب إليه. هذه هي الطريق الوحيدة، وما عداها طريق الشيطان، ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾2. فالصراط المستقيم وجادّة الصواب التي توصل الإنسان إلى الكمال، طريقٌ واحدة لا أكثر، وهي ﴿وَأَنْ اعْبُدُونِي﴾، وإذا لم تكن سبيلًا وطريقًا لعبادة الله فهي عبادة الشيطان.
فإذا ما أراد الإنسان الحصول على جدارة تلقّي أسمى فيوضات الوجود، فإنّ طريقه الوحيدة هي أن يكون أُذنًا صاغية لأوامر الله ويتحرّك وفقًا لمشيئته وإرادته.
سبيل الوصول إلى مرتبة العبوديّة
اتّضح لحدّ الآن أنّ الكمال النهائيّ للإنسان هو في قربه المتزايد من الله تعالى، وأنّ طريق تقرّبه إلى الله، هي العبادة والعبوديّة، وأنّ حقيقة العبوديّة - كما هو واضح من الكلمة نفسها - هي صيرورة الإنسان "عبدًا"، عبدٌ بالمعنى الذي يقول عنه الله في القرآن ﴿عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾3. وإنّ أوّل خطوة لبلوغ مرتبة كهذه هي أن نسعى لأن نجعل إرادتنا تبعًا لإرادة الله، من خلال اتّباع الشريعة الإلهيّة التي فيها أوامرُ الله
1- سورة الذاريات، الآية 56.
2- سورة يس، الآيتان 60 – 61.
3- سورة النحل، الآية 75.
24
13
الدرس الثاني: عبوديّة الله
ونواهيه، والتي من خلالها نتلمّس ونتعرّف إلى إرادة الله، وما يريده منّا. أمّا مَن يرى لنفسه إرادة مستقلّة في مقابل إرادة الله، فيقول: إنّ الله أراد هذا وإنّني أريد شيئًا آخر، إنّما يرى نفسه مستقلًّا، وهو مستعلٍ على الله الذي خلقه، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾1. فالعبد الحقيقيّ هو الذي يرجع إلى شريعة مولاه قبل اتّخاذ أيّ قرار أو موقف، ليتعرّف إلى مراده. وفي المقابل، من لا يسلك طريق العبوديّة لله، فإنّه يسرع إلى اتّخاذ القرارات، والقيام بالأعمال من تلقاء نفسه، ومن دون الرجوع إلى ربّه لمعرفة حلاله وحرامه. وهذا هو السبب الحقيقيّ لهلاك الإنسان، وهو الرجوع إلى النفس، والاجتهاد في اتّخاذ المواقف. أمّا العبد الحقيقيّ لله فلا يبيح لنفسه شيئًا إلّا بعد أن يعرضه على الأحكام الشرعيّة لله، فيتّخذ القرار الموافق لإرادة الله، ولا يخالفه، ليتسمّى عندها "عبدًا لله"، لا عبدًا لنفسه وأهوائه، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾2.
مراتب العبوديّة
إنّ العبوديّة في منظار التعاليم الإسلاميّة ليست ذات درجة واحدة بسيطة، فهي ذات مراتب متعدّدة لا حصر لها، وهي مراتب مطلوبة. ومن أشهر التقسيمات لتلك المراتب هو القول المعروف عن أمير المؤمنين عليه السلام الذي صنّف فيه عبادة العباد إلى عبادة العبيد وعبادة التجّار وعبادة الأحرار. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ قومًا عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التّجّار، وإنّ قَوْمًا عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قومًا عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار"3.
والإسلام لا يرفض أيًّا من تلك العبادات الثلاث، لأنّ المطلوب هو أن يجعل العبد إرادته تابعة لإرادة الله، وقد تحصل التبعيّة هذه طمعًا بالجنّة، أو خوفًا من النار أو أنّ العبد
1- سورة غافر، الآية 60.
2- سورة الجاثية، الآية 23.
3- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج41، ص14.
25
14
الدرس الثاني: عبوديّة الله
يجد ربّه أهلًا للعبادة فيعبده. فالمطلوب الطاعة والعبوديّة بأيّ درجة أو مرتبة، وعدم الاستقلال والتمرّد على إرادة الله، لأنّ الاستقلال يكشف عن عدم اكتراث الإنسان بإرادة الله، وهذا ما يعاكس العبوديّة تمامًا.
فالعبوديّة لله هي فقدان المشيئة والإرادة الذاتيّة، فثمّة إرادة واحدة هي التي تجري، ولا بدّ أن تجري، وهي إرادة الله تعالى. وعليه، فإنّ الاستقلال لا ينسجم مع العبوديّة، فكلّما تكامل الإنسان في العبوديّة، تضاءل الاستقلال الذي يراه لنفسه، حتّى يصل إلى العبوديّة المحضة، ويغدو عبدًا كاملًا، وفي تلك المرحلة لا يرى ذرّةً من الاستقلال.
من هنا، إذا أردنا سلوك طريق العبوديّة، فإنّ أوّل فعل نقوم به هو أن نُقْصي القلبَ ورغباتِه جانبًا، ونجعل إرادة الله محورًا لأعمالنا وسلوكنا. ولأجل هذا، جاء سَنُّ الواجبات والمحرّمات في الشريعة، فأداء الواجبات وترك المحرّمات تمرينٌ كي نستطيع شيئًا فشيئًا أداء أعمالنا على أساس إرادة الله، ولا نكترث لما سوى إرادته.
عدم حاجة الله إلى عبادة الإنسان
ماذا يعني قولنا إنّ الله خلق الإنسان ليعبدَه؟ هل هذا يعني أنّ الله بحاجة إلى عبادة، وهو متعطّش لأن يخشع المرء ويخضع أمامه، وقد خلق الإنسان ليفعل ذلك أمامه؟ ولو أنّنا لم نعبد الله، فهل سينزعج لأنّنا لم نكترث للهدف الذي يتوخّاه من الخلق؟ هل الحاجة إلى الاحترام والتقدير هي التي تسبّبت في أن يخلق الإنسانَ، كما يرغب الإنسانُ بأن يحترمه الآخرون، وإنّ الله يرغب بدوره بأن يتمرّغ أناسٌ بالتراب أمامه، وهكذا يُشبع الشعورَ بحبّ الاحترام لديه - والعياذ بالله -؟
إنّ مثل هذه التصوّرات بشأن الله سبحانه وتعالى، هي في غاية السذاجة والجهل، فالله كمال مطلق، ولا معنى لمفردة "الحاجة" بالنسبة إليه، فهو لا حاجة إليه كي يحاول سدّها بخلقه للإنسان، وهو، عزّ وجلّ، القائلُ ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾1.
1- سورة الزمر، الآية 7.
26
15
الدرس الثاني: عبوديّة الله
فلا ينقص من الله شيء أو يزيد نتيجة عبادة الخلق له، ولا تصيبه بهجة أو لذّة، وكذلك لا توحشه الوحدة وفقدانُ المؤنس والجليس، كي يخلق الإنسان ليكون أنيسًا له في وحدته، كما يقول الإمام عليّ عليه السلام: "وَلمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ، وَلَا لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَنُقْصَانٍ، وَلَا لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ، وَلَا لِلِاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ، وَلَا لِلِازْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ، وَلَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِهِ، وَلَا لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا، ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا، لَا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَتَدْبِيرِهَا، وَلَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْهِ، وَلَا لِثِقَلِ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ، لَا يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا، وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ، وَأَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ، وَأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ، ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا، وَلَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا"1.
فالله لا يحتاج إلى عبادتنا، ولا يضرّه تمرُّدنا، كما يقول الإمام عليّ عليه السلام أيضا في خطبة أخرى: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِنًا مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه"2.
إنّ الله لا يتلذّذ حينما نعبده، ولا ينقص من كبريائه شيء عندما نبرز لحربه ونتمرّد عليه! وإذا ما وردت مثل هذه العبارات في الآيات والروايات وبعض النصوص الأخرى، فينبغي إرجاعها إلى الله بعد تشذيب مواطن النقص عن هذه المفاهيم، كما في سائر الموارد، ففي أبحاث التوحيد والمواضيع ذات الصلة بصفات الله، يتمّ التذكير بهذه المسألة، وهي: إذا ما قلنا – مثلًا –: إنّ الله "عالم" أو "قادر"، فينبغي أن لا نتصوّر أنّ علم الله وقدرته كعلمنا وقدرتنا نحن البشر، فعلمُنا حصوليّ وطارئ على الذات، أمّا علم الله فهو عينُ الذات، و"القدرة" لدينا تعني امتلاك القوّة العضليّة والأعصاب الحسّيّة والحركيّة... إلخ، ولكن هل إنّ الله يمتلك يدًا وساعدًا وعضلات؟ من هنا فإنّنا نقول: إنّ علم الله ليس كعلمنا (عالمٌ لا كعلمنا)، وهكذا الأمر فيما يخصّ سائر المفاهيم التي ننسبها إلى الله سبحانه وتعالى.
1- خطب الإمام عليّ عليه السلام تحقيق صالح-، نهج البلاغة، الخطبة 186.
2- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج64، ص315.
27
16
الدرس الثاني: عبوديّة الله
وكذا تعبير "الرضا" و"الغضب" وما شابهها، التي نستخدمها بشأن الله، فإذا قلنا إنّ العمل الفلانيّ مدعاة لرضا الله، فليس معناه أنّ حالة من البهجة والسرور تحصل لدى الله سبحانه وتعالى! فنحن نقرأ في دعاء عرفة: "إلهي تقدّس رضاك أن يكون له علّةٌ منك، فكيف يكون له علّة منّي"، فليس الأمر أنك تفتقد الرضا في بادئ الأمر ثمّ تخلقه بنفسك لنفسك، ناهيك عن أن أكون أنا سببًا في رضاك، أو أن نقول إنّ شيئًا ما يثير غضب الله وسخطه، أو إنّ الله قد غضب على فلانٍ من الناس أو على قوم معيّنين، فليس معناه أنّ الله يغضب كغضبنا بحيث يتغيّر حاله! فليس لله حالة كي تتغيّر، فالإنسان وما سواه أعجز مِن أن يُحدث شيئًا بالنسبة لله سبحانه وتعالى، أو يؤثّر في ذاته، إنّما هي التي يقول عنها الإمام الباقر عليه السلام: "كُلُّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوقٌ مصنوع مثلكم مردود إليكم"1. فالكثير ممّا ننسبه لله سبحانه، وتصوّراتنا عنه تعالى، إنّما هي واهية وتأتي من باب المقارَنة مع النفس. فنحن إذا رأينا فعلًا ما، ربطْنا مباشرة بين الفاعل وغايته الشخصيّة ومصلحته الذاتيّة. وهذا في الحقيقة ينطبق على المخلوق، والمخلوقات التي نراها من حولنا، لا على الله خالقِ وبارئ كلّ شيء. وما الأمر بطاعته وعبوديّته واتّباع أحكامه إلّا لأنّ فيها كمال الإنسان، ورفعة مقامه، ووصوله إلى سعادته الحقيقيّة، فالله تعالى لم يأمر بشيء إلّا لمصحلة الإنسان ومنفعته، لأنه هو الذي أوجده وهو أعلم بتكوينه وما يناسب خلقته.
1- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج66، ص293.
28
17
الدرس الثاني: عبوديّة الله
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ أعلى المراتب الوجوديّة للإنسان هو "عين التعلّق"، كما ورد في المناجاة الشعبانيّة: "لتصير أرواحنا معلّقة بعزِّ قُدسك"، فإنّ أشدّ وأقوى مرتبة وجوديّة للإنسان تكون عندما يدرك أنّه لا استقلاليّة له، وهو متعلِّق وتابعٌ تمامًا، فإدراك التبعيّة التامّة يؤدي إلى بلوغ قمّة الكمال الإنسانيّ.
2- يستفاد من الآيات والروايات أنّ الطريق الأوحد لبلوغ أعلى مراتب التقرّب إلى الله هو "العبوديّة"، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾1.
3- العبادة تعني أن يؤدّي الإنسان أعماله كافّذذة، وتصرّفاته الاختياريّة، بدافع الطاعة لله، ومن أجل رضاه والتقرّب إليه.
4- إنَّ حقيقة العبوديّة هي صيرورة الإنسان "عبدًا" كما يقول عنه الله في القرآن ﴿عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾2. العبد الحقيقيّ لله فلا يبيح لنفسه شيئًا إلّا بعد أن يعرضه على الأحكام الشرعيّة لله، فيتّخذ القرار الموافق لإرادة الله، ولا يخالفه، ليُسمَّى عندها "عبدًا لله"، لا عبدًا لنفسه وأهوائه.
5- إنّ العبوديّة في منظار التعاليم الإسلامية ليست ذات درجة واحدة بسيطة، فهي ذات مراتب متعددة لا حصر لها، وهي مراتب مطلوبة. ومن أشهر التقسيمات لتلك المراتب هو القول المعروف عن أمير المؤمنين عليه السلام الذي صنّف فيه عبادة العباد إلى عبادة العبيد وعبادة التجّار وعبادة الأحرار.
6- إنَّ الله تعالى لا يحتاج إلى عبادتنا، ولا يضرّه تمرُّدنا، كما يقول الإمام علي عليه السلام: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِنًا مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه".
1- سورة الذاريات، الآية 56.
2- سورة النحل، الآية 75.
29
18
الدرس الثالث: عبوديّة النَّفْس
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يدرك أنّ مقابل الارتقاء والتكامل يوجد انحدار وسقوط.
2- يبيّن أنَّ عبادة الذّات هي مصدر سقوط الإنسان.
3- يوضّح الأثر السلبيّ لعبوديّة الذات.
31
19
الدرس الثالث: عبوديّة النَّفْس
سقوط الإنسان
في مقابل نقطة الارتقاء التي يرى فيها الإنسان أنّ كلّ شيء من الله، وتصير روحه معلَّقة بعزّ قدسه سبحانه وتعالى، هنالك نقطة انحدار، وإنّ غاية السقوط هي أن يحاول الإنسان أن يُخْضِعَ كلَّ شيء وكلَّ إنسان لإرادته، وأن لا يَتبع هو لأيّ شيء وأيّ أحد. فإنسان كهذا يسعى لأن يتسلّط على كلّ شيء وأن يصبح الجميع تابعين لإرادته ويتصرّفون وفقًا لرغبته، وأنّه يتصوّر بأنّ عليه أنْ لا يَخضع لأحد، وأن لا ينصت لكلام أحد، وأن لا يستسلم لأحد، وأن لا تتحكّم إرادتُه على مصيره بل على العالم والبشر. وقد يصل الإنسان بالرغم من علمه وإدراكه بأنّه "عبد" و"مملوك" إلى حالة ينكر معها هذه الحقيقة عمدًا وعن علم، فهو لا يرى سوى نفسه، وليس على استعداد لأن يرى غيره، وتلك هي "عبادة الذات"، فعبوديّة الذات تعني حبّ الذات والأنا، فلا يرى الإنسان في هذه الحالة غير نفسه، ولا يَتّبع إلّا الأوامرَ الصادرة عنها.
وبطبيعة الحال، فإنّ لعبادة الذات مراتب، أعلاها أن يضع الإنسان نفسه بديلًا عن الله بشكل كامل، وفي الأمور كافّة، وبإطلاقه لنداء ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾1. ومن النماذج البارزة على التمادي حتّى أقصى درجات السقوط، فرعونُ الذي اعتبر نفسه حائزًا على شؤون الربوبيّة كافّة، وبقوله ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ ادّعى الألوهيّة. وقد جاء موسى عليه السلام إلى فرعون ودعاه إلى الله وإلى الإيمان، فقال فرعون: مَن هذا الإله الذي تتحدّث عنه؟ وأين هو؟ فقال موسى عليه السلام: إنّه خالق السماوات والأرض، وله كلّ شيء. قال فرعون: ما
1- سورة النازعات، الآية 24.
33
20
الدرس الثالث: عبوديّة النَّفْس
هو دليلك على وجود مِثل هذا الإله، وعلى أنّك رسول منه؟ قال موسى عليه السلام: لقد وهبني اللهُ المعجزات، فأظهر موسى عليه السلام معجزة العصا واليد البيضاء أمام فرعون، وفي ذلك المحفل، حيث ألقى موسى عليه السلام عصاه على الأرض فتحوّلت إلى أفعى تتحرّك بهذا الاتّجاه وذاك، فلمّا رأى فرعون هذا المشهد استحوذت عليه الرهبة، وبما أنّه لم يجرؤ على إنكار كلام موسى عليه السلام ودعواه خلال ذلك المجلس، فقد طلب إمهاله للتفكير، ثم إنّه، ولغرض الإيحاء للناس على أنّه يزمع الكشف عن الحقيقة، أمر وزيره هامان بأن يبني له صرحًا كي يتحرّى الله في السماوات، ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾1.
ثمّ إنّه - كما يدّعي - قد تحرّى عن الله في السماوات، فلم يجد هنالك خبرًا عنه! من هنا قال للناس: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾2. وقد شهد موسى عليه السلام كلام فرعون هذا، فخاطبه: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾3، فهو عليه السلام يؤكّد لفرعون، وبتأكيدَين، قائلًا له: ? لَقَد? عَلِم?تَ ?، فكلٌّ مِن حرف "اللام" وحرف "قد" تُستخدمان في اللغة العربية للتأكيد. وفي هذه الآية يقول عليه السلام: حقًّا حقًّا تعلم أنّ هذه المعجزات التي أَريتُكها ليست سوى من ربّ السماوات والأرض.
إنّ قصة فرعون وما شابهها تدلّ على مدى إمكانيّة سقوط الإنسان، ومدى إمكانيّة أن يكون عبدًا لذاته ومخادعًا، فرغم انكشاف الحقيقة أمامه ناصعة، يُصِرُّ منكِرًا بدافع حبّ الذّات، وطمعًا بالمنصب والثروة وما شابه ذلك.
وبالطبع، إنّ عدد أمثال هؤلاء الذين يُبدُون مقاومة إلى هذا المستوى بوجه نداء ضمائرهم وإشراقة الحقيقة التي تسطع على وجودهم، ليس بالكثير، لكنّ القرآن يشهد على وجود هؤلاء الناس الذين انحدروا إلى أسفل السافلين بكلّ ما في الكلمة من معنى،
1- سورة غافر، الآيتان 36 – 37.
2- سورة القصص، الآية 38.
3- سورة الإسراء، الآية 102.
34
21
الدرس الثالث: عبوديّة النَّفْس
وهذه الطريق لم تُغلق بعدُ، وربّما هنالك مِن الناس حاليًّا - أو أنّهم سيأتون فيما بعد - ممّن يتفوّهون بما هو أكثر صلافة من فرعون!
مراتب رقيّ الإنسان وسقوطه
هناك قطبان متعاكسان في مسارهما يقفان أمام الإنسان: أحدهما قطب لا يَرى فيه الإنسان شأنًا له، ﴿عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾1.
وعلى الطرف الآخر، وفي أقصى القطب المعاكس، نقطة لا يرى الإنسان فيها شيئًا سوى نفسه، نقطة يضع فيها نفسه بديلًا عن الله، وبندائه ﴿رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾2 أَنَا يدّعي الألوهيّة! ويريد كلّ شيء وكلّ إنسان له ولخدمته، خاضعًا خاشعًا له، ولا يرتضي إرادةً أو رغبة سوى إرادته ورغبته.
وبين هذين القطبين مراتب لا حصر لها تشير إلى نقطة اللانهاية. فلو لم يكن الإنسان موحِّدًا في مقام "العبد الخالص"، وهو مقام التوحيد الخالص، فمن الطبيعي أنّه سيكون مزيجًا من التوحيد والشرك في أيّ مرتبة أخرى، وهكذا هو حال الكثير من الموحّدين المؤمنين بالله والأنبياء والكتب، أي تشاهَد في إيمانهم شوائب من الشرك.
وهذه المراتب من الشرك ليست بتلك المراتب التي تمسُّ أصل إيمان الإنسان وسعادته، لكنّها تؤثّر حتمًا في تدنّي درجات كماله. وعادةً ما يجهل البسطاء من الناس هذا الشرك، فيمضون حياتهم مشركين دون علمٍ منهم، يُغادرون الدنيا في خاتمة المطاف تلفُّهم حالة الغفلة والجهل بهذا الشرك الخفيّ، لكنّ العظماء والكُمَّل في إيمانهم ومعرفتهم يعرفون هذه القضيّة.
"عبادة الذّات" مصدر سقوط الإنسان
إنّ منبع ضروب السقوط كافّة هي "عبادة الذّات"، فلو تفحّصنا الإنسان في أيّ مرتبة من مراتب الشرك والكفر، سواء أكان خفيًّا أم جليًّا، سنجده مبتليًا بعبادة الذّات بالدرجة
1- سورة النحل، الآية 75.
2- سورة النازعات، الآية 24.
35
22
الدرس الثالث: عبوديّة النَّفْس
نفسها ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾1. وإذا ما أردنا أن نتّخذ ملاكًا يميّز لنا ما إذا كان أيٌّ من أفعالنا يسير على منحنى خطّ الرقيّ والتكامل أو على منحنى خطّ الانحدار والهبوط، فيجب أن نرى هل أنّنا نقوم بهذا الفعل لأنّ الله هو الذي أراده حقًّا، أم أنّنا نريده لأجلنا؟ ففي بعض مراتب الشرك الخفيّ ربّما تكون عبادة الذّات من الخفاء بحيث تنطلي علينا أيضًا.
على أيّ حال، لا ينبغي الغفلة عن تسويلات النفس، ومن تسويلات النفس أنّها ربّما تلج المنطق والاستدلال دفاعًا عن عبوديّة الذّات، وتحاول إقناع الإنسان بأنّ العمل الذي يقوم به هو عين العقل والمنطق، على غرار ما قام به إبليس لتبرير عبوديّته لذاته، فلغرض أن يتمرّد على خطّ العبوديّة ويسلك طريق الأنانية، انبرى مجادلًا اللهَ علميًّا - حسب زعمه - وجاء بدليل منطقيّ يُخطّئ سجوده لآدم! فقال مدّعيًا الأفضليّةَ بكلّ جرأة وصلافة، ونزعةُ الأنا والاستعلاء تفوح منه بشكل بغيض، ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾2، فكان عاقبته أنْ طُرد وأُبلِس من رحمة الله، وأصبح من الملعونين، ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾3.
الأثر السلبيّ لعبوديّة الذات
إذا ما وضع امرؤ نفسه موضع الله، واستبدل إرادته بإرادة الله، وأصبح تابعًا لهواه، فإنّ الله يضلّه على علم.
وبطبيعة الحال، إنّ الله لا يناصب أحدًا العداء، والمراد أنّ الله جعل الضلالة نتيجة طبيعيّة لاتّباع الهوى كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾4، فلقد أنذر اللهُ والأنبياءُ الإنسانَ بما فيه الكفاية، وحذّروه من الطغيان والعصيان، ونبّهوه إلى أنّه إن لم يلتزم الحيطة في خضمّ هذه التقلّبات، وسار عجولًا،
1- سورة الفرقان، الآية 43.
2- سورة ص، الآية 76.
3- سورة الحجر، الآية 34.
4- سورة يونس، الآية 44.
36
23
الدرس الثالث: عبوديّة النَّفْس
فسيفلت زمام نفسه من يديه، ويلقي به حصان النفس الجموح على الأرض فيحطّم رأسه، فمن لم يكترث لهذه التحذيرات، وأسرع مبادرًا دون مواربة في خِضمّ معاندة الله والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، والعصيان ضدّ الله سبحانه وتعالى، فستحيق به العواقب الطبيعيّة لذلك، ويصل إلى مرحلة يسلك معها طريق الإنكار بالرغم من العلم، ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾1.
إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، نبيّ رأفة ورحمة، وهو حريص على هدايتنا، ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾2.
ولكن لا جدوى من النبيّ ما لم يشأ الإنسان نفسُه، لأنّ هداية الإنسان اختياريّة. وإنّ الله يخاطب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن بأن يدع أمثال هؤلاء وشأنهم، ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾3. فهؤلاء، ونتيجة لاتّباعهم أهواءهم وعبوديّتهم لذواتهم، قد أوصدوا أمامهم جميع السبل، وجعلوا على أبصارهم وأسماعهم غشاوة لئلّا يَروا الحقيقة أو يسمعوها، وسواء بالنسبة إليهم أحذّرهم الله ورسوله أم لم يحذّرهم: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾4.
ما الذي يُمكن توقُّعه ممّن وصل به الأمر أن يقول بكلّ صراحة: إنّني أتقبّل وأرتضي كلام "الزعيم السياسي الفلاني" أكثر من كلام الإمام السجّاد عليه السلام! وكيف يهدي الله مثل هذا الإنسان؟ وأيّ أثر لإنذار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيه؟ فإنذار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إنّما يؤثّر في من يضمر في قلبه الخشية من الله سبحانه وتعالى، وليس مَنْ لا يأبى التمرّد على الله، ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ﴾5.
1- سورة الجاثية، الآية 23.
2- سورة التوبة، الآية 128.
3- سورة النجم، الآية 29.
4- سورة يس، الآيتان 9 – 10.
5- سورة فاطر، الآية 18.
37
24
الدرس الثالث: عبوديّة النَّفْس
وخلاصة القول: إنّ ذروة رقيّ الإنسان وتكامله هو القرب من الله، وليس لذلك سوى طريق واحد لا أكثر، هو عبوديّة الله، والنقطة المعاكسة له هي السقوطُ، حيث ينحدر إلى أسفل السافلين، وله طريق واحدة أيضًا هي عبوديّة الذّات.
38
25
الدرس الثالث: عبوديّة النَّفْس
المفاهيم الرئيسة
1- في مقابل نقطة الارتقاء التي يرى فيها الإنسان أنّ كلّ شيء من الله، هنالك نقطة انحدار وسقوط تتمثّل في محاولة الإنسان أن يُخْضِعَ كلَّ شيء لإرادته.
2- إنّ قصّة فرعون تدلّ على مدى إمكانيّة سقوط الإنسان، ومدى إمكانيّة أن يكون عبدًا لذاته، فرغم انكشاف الحقيقة أمامه ناصعة، يُصِرُّ مُنكِرًا بدافع حبّ الذّات، وطمعًا بالمنصب والثروة.
3- يوجد قطبان متعاكسان في مسارهما يقفان أمام الإنسان: أحدهما قطب لا يَرى فيه الإنسان شأنًا له، ﴿عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾1. وفي أقصى القطب المعاكس، نقطة لا يرى الإنسان فيها شيئًا سوى نفسه، ويضع فيها نفسه بديلًا عن الله، ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾2. وبين هذين القطبين مراتب لا حصر لها تشير إلى نقطة اللانهاية.
4- إنّ منبع ضروب السقوط كافّة هي "عبادة الذّات"، فلو تفحّصنا الإنسان في أيّ مرتبة من مراتب الشرك والكفر، سواء أكان خفيًّا أم جليًّا، سنجده مبتليًا بعبادة الذّات بالدرجة نفسها، ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾3.
5- إذا ما وضع امرؤ نفسه موضع الله، واستبدل إرادته بإرادة الله، وأصبح تابعًا لهواه، فإنّ الله يضلّه على علم.
6- إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، نبيّ رأفة ورحمة، وهو حريص على هدايتنا، ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾4. ولكن لا جدوى من إرسال النبيّ ما لم يشأ الإنسان نفسُه، لأنّ هداية الإنسان اختياريّة.
7- إنّ ذروة رقيّ الإنسان وتكامله هو القرب من الله، وليس لذلك سوى طريق واحد لا أكثر، هو عبوديّة الله، والنقطة المعاكسة له هي السقوطُ، حيث ينحدر إلى أسفل السافلين، وله طريق واحدة أيضًا هي عبوديّة الذّات.
1- سورة النحل، الآية 75.
2- سورة النازعات، الآية 24.
3- سورة الفرقان، الآية 43.
4- سورة التوبة، الآية 128.
39
26
الدرس الرابع: موانع العبوديّة لله (1) (الغفلة)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن أثر الغفلة في سلب الهويّة الإنسانيَّة.
2- يدرك عواقب وآثار البعد عن الله عزّ وجلّ.
3- يشرح العلاقة بين معرفة النفس وبين معرفة الله.
41
27
الدرس الرابع: موانع العبوديّة لله (1) (الغفلة)
مقدّمة
كما أنَّ عبوديّة الله عزّ وجلّ وعبوديّة الذات لا تجتمعان، كذلك فإنَّ التعلّق بالذات الإلهيّة مناقضٌ ومخالفٌ للغفلة عنها. فمن رغب عن الله وذهب إلى غيره، يُعتبَر في زمرة الغافلين، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين عليه السلام مخاطبًا الغافلين غير المغفول عنهم: "أيّها الناس غير المغفول عنهم، والتاركون المأخوذ منهم، مالي أراكم عن الله ذاهبين، وإلى غيره راغبين"1.
فأمثال هؤلاء عطّلوا أدواتهم المعرفيّة التي أودعها الله فيهم، وميَّزهم من خلالها عن سائر خلقه، وغرقوا في الغفلة عن الحقّ تعالى، لذلك هم يستحقّون العذاب الإلهيّ يوم القيامة، حيثُ توعّدهم به تعالى في كتابه الكريم، ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾2.
ومن المسلّم به أنّه ليس مراد الآية أنّ أدنى غفلة تطرأ على الجنِّ أو الإنس فإنّ هذا الحكم يصدق بحقّه، فنحن في معظم الأوقات نغفل عن الكثير من الأشياء، وإنّه لافتراض نادرٌ جدًّا أن يكون هنالك مخلوق ذو شعور، يتمتّع بحالة من الانتباه في جميع أوقاته وآناته ولا تتطرّق إليه الغفلة أبدًا.
ومن غير الممكن أن يكون مراد الآية الغفلةُ المطلقة، فإنّ الغفلة المطلقة تعني استمرار حالة الغفلة على امتداد حياة الموجود ذي الشعور، وعدم الانتباه ولو للحظة واحدة. ومن
1- خطب الإمام عليّ عليه السلام تحقيق صالح-، نهج البلاغة، الخطبة 157.
2- سورة الأعراف، الآية 179.
43
28
الدرس الرابع: موانع العبوديّة لله (1) (الغفلة)
الواضح أنّ هذا افتراضٌ شبه محال، إلّا أن نفترض أنْ يصاب الإنسان مثلًا بحالةٍ من الإغماء منذ بداية ولادته، ويبقى على هذه الحالة لمدّة ستين عامًا، ثمّ يرحل عن الدنيا!
بناءً على هذا، فإنّ المراد من الغفلة في هذا المقطع ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ غفلة خاصّة، وهي انعدام التوجّه إلى المقصد الحقيقيّ للإنسان، وهو الله سبحانه وتعالى، والانشغال بغيره.
من هنا كان تعجّبُ الإمام عليّ عليه السلام من حال الغافلين، حيث تاهوا عن المقصد الحقيقيّ رغم منحِهم نعمة الإدراك والفهم: "عجبت لغفلة ذوي الألباب عن حسن الارتياد، والاستعداد للمعاد"1.
الغفلة وأثرها في سلب الهويّة الإنسانيَّة
إنَّ تحصيل القرب من الله عزّ وجلّ يتمّ عبر مجاهدة النفس وتزكيتها، وهي أمر اختياريّ، يمارسه الإنسان بملء إرادته ووعيه، ومن دون جبر أو إكراه من أحد، ولا يحتاج من الإنسان إلّا قرارًا صريحًا وواضحًا، وثباتًا على الطريق.
وقد ثبت في الفلسفة، أنّ المعرفة والعلم هما من مبادئ صدور الفعل الاختياريّ من الانسان، والفاعل المختار لا يقوم بفعل شيء ما لم يمتلك تصوّرًا وتصديقًا إزاء ذلك الشيء. ومن هنا فإنّ التزكية منوطة بالعلم والمعرفة، وإنّ أوّل خطوة في طريق المباشرة بهذا الفعل الاختياريّ هي أن تتوفّر لدى الإنسان المعرفة بنفسه والمعرفة بمبدأ التزكية ونهايتها ومسارها، ولن تحصل هذه التزكية ما لم يتبلور هذا التصوّر والتصديق. فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "من عرف نفسه جاهدها، ومن جهل نفسه أهملها"2.
وعنه عليه السلام: "أفضل العقل معرفة الإنسان نفسَه، فمن عرف نفسه عقِل، ومن جهلها ضلّ"3.
1- خطب الإمام عليّ عليه السلام تحقيق صالح-، نهج البلاغة، ص398.
2- عليّ بن محمّد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، الشيخ حسين الحسيني البيرجندي، دار الحديث، لا.ت، ط1، ص453.
3- م.ن، ص116.
44
29
الدرس الرابع: موانع العبوديّة لله (1) (الغفلة)
وبالتالي فإنّ أوّل شرط لانطلاق الإنسان في حركته التكامليّة باتّجاه القرب من الله، هي أن يعلم بهذه المسألة، ويخرج عن حالة الغفلة والجهل بها. فعن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال: "من رعى قلبه عن الغفلة، ونفسه عن الشهوة، وعقله عن الجهل، فقد دخل في ديوان المُنَبَّهِينَ"1.
فما دام الإنسان لم يُزحْ حجاب الغفلة جانبًا، فلن يحصل لديه تكامل وتقرّب من الذات المقدّسة، بل لن يعثر على موقعه في خارطة الوجود، وسوف يبقى حيرانَ تائهًا في هذا العالم. لذلك اعتُبرت الغفلة في بعض آيات القرآن سببًا في فقدان الهويَّة الإنسانيَّة واستحقاق العذاب الإلهيّ. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾2.
في هذه الآية يصرّح تعالى أنّ مصير الكثير من الجنّ والإنس سيكون عذاب جهنّم، وأنَّهم فقدوا هويّتهم الإنسانيَّة وانحدروا إلى منزلة أدنى من الأنعام، وذلك لأسباب ثلاث:
1- إنَّ لهم قلوبًا، لكنّهم لا يستعينون بها لإدراك الحقائق.
2- إنّ لهم أعينًا، لكنّهم لا يستخدمونها لرؤية مسار البصيرة.
3- إنّ لهم آذانًا، لكنّهم يفتقدون السمع.
إنّ القلب والعين والأذن تُعرَّف في قاموس القرآن الكريم كأدواتٍ للمعرفة بالنسبة إلى الإنسان، وبها يتميَّز عن سائر خلق الله تعالى، ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾3. وما يؤدّي إلى شقاء الإنسان، أو ما يُعدُّ من أهمّ علل الشقاء وأسبابه على أقلّ تقدير، هو الاستخدام غير الصحيح لأدوات العلم والمعرفة، فالذين لا يستخدمون هذه الأدوات للوصول إلى الحقيقة
1- ميرزا حسين النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل، بيروت - لبنان، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1408 - 1987م، ط1، ج12، ص111.
2- سورة الأعراف، الآية 179.
3- سورة النحل، الآية 78.
45
30
الدرس الرابع: موانع العبوديّة لله (1) (الغفلة)
إنّما هم كالأنعام، لأنّ الحيوانات تمتلك آذانًا وعيونًا وقلوبًا، لكنّها لا تستطيع أن تنال بها المعرفة الإنسانيّة. وإذا لم يستخدم الإنسان آلات المعرفة هذه، التي تمثّل مصدر الاختلاف الحقيقيّ بينه وبين الحيوانات، فإنّه يتدنّى إلى مستوًى أدنى من الحيوان، ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾. فإذا لم يَنَل الحيوان معرفة الحقيقة، فعذره في ذلك أنّه لا يمتلك الأدوات الضروريّة لهذه المعرفة، بيْد أنّ الإنسان الضالّ، رغم امتلاكه لهذه الأدوات، فإنّه يتعمّد إغماض عينيه وسدّ أُذنيه وفهمه في وجه الحقيقة.
الأمر الجوهريّ في المقطع الأخير من الآية هو ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، فهؤلاء إنّما يقعون بهذا الابتلاء، وينحدرون، بحيث يصبحون أدنى من الحيوان بسبب تماديهم في الغفلة.
لذا ينبغي للعاقل الالتفاتُ إلى هويّته الإنسانيَّة، والحفاظ عليها، ووقايتها من الغفلة عن محضر الله عزّ وجلّ، حتّى لا ينحدر إلى ما دون البهائم، كما في حديث الإمام الصادق عليه السلام حيثُ سأله عبد الله بن سنان: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ قال عليه السلام: "قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ ركّب في الملائكة عقلًا بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كلتيهما، فمن غَلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم"1.
البُعد عن الله، وأثرُه على الإنسان
عندما يعتبر الإنسان أنّ الله تبارك تعالى غائب عنه وبعيد، ولا يدرك أنّ الله قريب منه، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾2، وأنّه معه أينما حطّ رحاله ويمّم وجهه، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾3، فإنّه سوف يغرق في الغفلة. وإذا غرق الإنسان في الغفلة تهاون في أداء واجباته، ولم يعتن باجتناب المحرّمات، أمّا لو أدرك أنّ الله معه، ووجد نفسه في محضر الله دائمًا، فإنّه سيسعى لأداء كلّ الأعمال طبق الإرادة
1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بقمّ المشرّفة، 1414هـ.ق، ط2، ج15، ص209.
2- سورة ق، الآية 16.
3- سورة الحديد، الآية 4.
46
31
الدرس الرابع: موانع العبوديّة لله (1) (الغفلة)
الإلهيّة. وهذه الأعمال التي تؤدّى وفق إرادة الله هي في الواقع أعمالٌ مقرِّبة إلى الله، كالصّلاة التي هي "قربان كلّ تقي"1.
والهدف من إرسال الأنبياء عليهم السلام هو إحياء النفوس وتوجيهُها نحو الحقّ، ليكون الإنسان ذاكرًا له في كلّ حركاته وسكناته. فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام في صفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "طبيب دوّار بطبّه، قد أحكم مراهمه، وأحمى أمضى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي، وآذان صمّ، وألسنة بكم، متتبّع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة"2.
فما من شيء إلّا ولله فيه حكم وإرادة وحضور. والإنسان الغافل هو الذي ينشغل بأمور لا قيمة لها عن أداء واجباته تجاه خالقه، تلك الأعمال الصالحة التي تؤهّله ليكون في مصافّ المشاهِدين لجمال وجهه الكريم وكمالاته اللّامحدودة، فنراه لا يخشع في صلاته، ولا يُقبل على تلاوة القرآن والدعاء، ولا يهتمّ بتزكية نفسه وتهذيبها، ولا يزداد علمًا ومعرفة، ولا يبحث عن تكليفه الشرعيّ بهدف خدمة المستضعفِين من المؤمنين، فيقضي معظم أوقاته في اللّهو واللّعب والانشغال بالأمور التافهة التي لا طائل لها، فيصبح مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾3.
العلاقة بين معرفة النفس وبين معرفة الله
قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾4. هذه الآية الكريمة توضّح لنا ارتباط النفس الإنسانيّة بالله، وعلاقة التلازم بين نسيان الله وبين نسيان الذات، فإذا ما غفل أحدٌ عن الله تعالى، فسيغفل عن نفسه كذلك، ويمكننا القول إنَّ عقوبة نسيان الله هي أن ينسى الإنسان نفسه! ولو أنّه لم ينس
1- الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص265.
2- نهج البلاغة، الخطبة 108.
3- سورة يونس، الآية 7.
4- سورة الحشر، الآية 19.
47
32
الدرس الرابع: موانع العبوديّة لله (1) (الغفلة)
الله لما ابتُلي بهذه العقوبة، والإنسان الذي لا يُرى فيه على امتداد حياته سوى الأكل والنوم واللذّة والشهوة، وفي بعض الأحيان قد تسوقه نفسه إلى القتل، ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾1.
ويعبّر أمير المؤمنين عليه السلام عن أمثال هؤلاء بقوله: "كالبهيمة المربوطة همُّها علفها"2، فالإنسان الذي هو كالحيوان، كلّ همّه الأكل والطعام، لا أفضلية له على الحيوان!
وفي المقابل، يوجد علاقة تلازميّة أخرى بين معرفة الإنسان نفسَه وبين معرفته ربَّه، فلو عرف الإنسان نفسه الحقيقيّة والإنسانيّة، ولم يَنْسها، فهو سيعرف الله حتمًا. قال الإمام عليّ عليه السلام: "من عرَف نفسه عرف ربّه"3.
وفي رواية: دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ اسمه مجاشع، فقال: يا رسول الله، كيف الطريق إلى معرفة الحقّ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "معرفة النفس"، فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى موافقة الحقّ؟ قال: "مخالفة النفس"، فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى رضا الحقّ؟ قال: "سخط النفس"، فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى وصل الحقّ؟ قال: "هجر النفس"، فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى طاعة الحقّ؟ قال: "عصيان النفس"، فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى ذكر الحقّ؟ قال: "نسيان النفس"، فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى قرب الحقّ؟ قال: "التباعد من النفس"، فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى أنس الحقّ؟ قال: "الوحشة من النفس"، فقال: يا رسول الله، فكيف الطريق إلى ذلك؟ قال: "الاستعانة بالحقّ على النفس"4.
1- سورة الأعراف، الآية 176.
2- "أأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثًا أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ وَكَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ إِذَا كَانَ هَذَا قُوتُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ وَمُنَازَلَةِ الشُّجْعَان". العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج33، ص475 الباب 29، ح686.
3- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج58، ص91.
4- م.ن، ج67، ص72.
48
33
الدرس الرابع: موانع العبوديّة لله (1) (الغفلة)
وخلاصة القول، إنْ عرف الإنسان نفسه فقد ظفر بالفوز الأكبر، ووصل إلى مقام معرفة الله عزّ وجلّ والقرب منه، أمّا لو غفل عنها وعن معرفتها حقّ المعرفة، فقد سلبها هويّتها الإنسانيّة، وانحدر بها إلى منزلةٍ أدنى من الأنعام، وضلَّ عن الحقّ تعالى، وخسر الخسران المبين.
ونختم القول بدعاء ورد عن الإمام الرابع عليه السلام: "واجعلنا من الذين عرفوا أنفسهم، وأيقنوا بمستقَرِّهم، فكانت أعمارهم في طاعتك تفنى"1.
1- الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجّاديّة، السيّد محمّد باقر الموحّد الأبطحي الإصفهاني، قم، إيران، مؤسّسة الإمام المهديّ عليه السلام / مؤسّسة أنصاريان للطباعة والنشر، 25 محرم الحرام 1411هـ، ط1، ص 475.
49
34
الدرس الرابع: موانع العبوديّة لله (1) (الغفلة)
المفاهيم الرئيسة
1- كما أنَّ عبوديّة الله عزّ وجلّ وعبوديّة الذات لا تجتمعان، كذلك فإنَّ التعلّق بالذات الإلهيّة مناقضٌ ومخالفٌ للغفلة عنها.
2- إنَّ تحصيل القرب من الله عزّ وجلّ يتمّ عبر مجاهدة النفس وتزكيتها، وهي أمر اختياريّ، يمارسه الإنسان بملء إرادته ووعيه.
3- وبالتالي فإنّ أوّل شرط لانطلاق الإنسان في حركته التكامليّة باتّجاه القرب من الله، هي أن يخرج من حالة الغفلة والجهل.
4- عندما يعتبر الإنسان أنّ الله تبارك تعالى غائب عنه وبعيد، ولا يدرك أنّ الله قريب منه، فإنّه سوف يغرق في الغفلة. وإذا غرق في الغفلة تهاون في أداء واجباته، ولم يعتن باجتناب المحرّمات.
5- يوجد علاقة تلازمية بين معرفة الإنسان نفسَه وبين معرفته ربَّه، فلو عرف الإنسان نفسه الحقيقية والإنسانية، ولم يَنْسها، فهو سيعرف الله حتمًا. قال الإمام علي عليه السلام: "من عرَف نفسه عرف ربه".
6- إنْ عرف الإنسان نفسه فقد ظفر بالفوز الأكبر، ووصل إلى مقام معرفة الله عزّ وجلّ والقرب منه، أمّا لو غفل عنها وعن معرفتها حقّ المعرفة، فقد سلبها هويّتها الإنسانيّة، وانحدر بها إلى منزلةٍ أدنى من الأنعام، وضلَّ عن الحقّ تعالى، وخسر الخسران المبين.
50
35
الدرس الخامس: موانع العبوديّة لله (2) (العقائد الباطلة)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يحدّد المعنى اللغوي والاصطلاحي للعقيدة.
2- يبيّن أهمّيّة العقيدة ويشرح دورها في تحديد المصير.
3- يدرك الآثار المختلفة للاعتقادات الباطلة، ويبيّن سبُل معالجتها.
51
36
الدرس الخامس: موانع العبوديّة لله (2) (العقائد الباطلة)
مقدمة
إنَّ أعظم الكمالات الإنسانيّة هي أن يصل الإنسان إلى الدرجة التي يصبح فيها الحقّ تعالى حاضرًا دائمًا في حياته، فلا يغفل عنه طرفة عين أبدًا، وهذا هو مقام اللقاء والشهادة، وأصحابه هم الشهداء، الذين وصفهم الله تعالى في كتابه الكريم بأنّهم أحياء عنده يرزقون، ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾1.
ولكن ما يحول بين الإنسان وبين بلوغه هذه المرتبة الإنسانيّة الرّفيعة، موانع ثلاثة هي: الغفلة عن الحقّ، والعقائد الباطلة التي يحملها الإنسان، والرضا بالحياة الدنيا.
تحدّثنا في الدرس السابق عن الغفلة، وسوف نتناول في هذا الدرس المانعَ الثاني، وهو العقائد الباطلة.
معنى العقيدة
العقيدة لغةً مشتقّة من المصدر "عَقْد" الذي يعني الإحكام والشدَّ والربط، وربْطَ الشيءِ بشيءٍ آخرَ أو شَدَّه.
والعقيدة في معناها الاصطلاحي هي مجموعة من المسائل التي تشكّل الرؤية الكونيّة للإنسان، والتي تُشكّل مجموعة من المعتقَدات والنظريّات الكونيّة المتناسقة حول الكون والإنسان، بل وحول الوجود بصورة عامّة.
ويمكننا تقسيم الرؤى الكونيّة، على أساس الإيمان بالغيب وإنكاره، إلى قسمين: الرؤية الكونيّة الإلهيّة، والرؤية الكونيّة المادّيّة.
1- سورة آل عمران، الآية 169.
53
37
الدرس الخامس: موانع العبوديّة لله (2) (العقائد الباطلة)
والعقائد الباطلة منشأُها الرؤية الكونيّة غير الإلهيّة، أو تطرُّقُ البِدع إلى الأديان بسبب الانحراف والجهل والعمل بالأهواء والمطامع.
ومن نماذج فساد العقيدة وبطلانها: الشرك بالله تعالى، وعدم الإيمان بيوم الحساب، وإنكار بعثة الرسل، وإنكار الرسالات الإلهيّة...
أهمّيّة العقيدة ودورها في تحديد المصير
إنَّ العقيدة التي يحملها الإنسان تؤثّر تأثيرًا مباشرًا على مصيره، وعلى مقامه عند الله، وعلى درجة قربه منه عزّ وجلّ، وذلك بسبب ارتباطها بسلوك الإنسان وحركته في الخارج، وبأسلوب تعامله مع الآخرين، وتفاعله مع الأحداث التي تجري من حوله. فهي تحثّ الإنسان وتدفعه للتصرّف والعمل بناءً على الخلفيّة الاعتقاديّة التي يحملها ويعتقد بها.. فكلّ إنسان في هذه الحياة إنّما يسير بحسب ما يعتقده. يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾1.
فمن كان يؤمن بالآخرة وأنّه لا محالة راحل عن هذا العالم، فسوف يسعى لها سعيها، وستكون الدار الآخرة نصب عينيه دومًا، ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾2.
ومن كان يؤمن بأنّ الله تعالى هو المؤثّر الحقيقيّ في هذا العالم، ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾3، وأنّه الرّازق الحقيقيّ، والمالك لكلّ شيء، والمدبّر لكلّ شيء، ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾4، فسوف يُسْلم وجهَه إليه، ويتوكّل عليه في كلّ أموره، ولن يخشى شيئًا على الإطلاق، لأنّه على يقين أنّه بين يدي ربّ رحيم، لا يريد إلّا الخير والصلاح لعباده.
1- سورة الإسراء، الآية 84.
2- سورة الإسراء، الآية 19.
3- سورة الأنفال، الآية 17.
4- سورة يونس، الآية 31.
54
38
الدرس الخامس: موانع العبوديّة لله (2) (العقائد الباطلة)
ومن كان يؤمن بأنّ الله تعالى معه دائمًا أينما يمّم وجهه، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾1، وأنّه تعالى أقرب إليه من مصدر حياته، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾2، وأنّه شاهد على كلّ أعماله وحركاته وسكناته، ﴿وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾3، فسوف يستحيي من ربّه، ولن يتجرّأ عليه، ولن يعصيه أو يخالف له أمرًا أبدًا.
ومن يعتقد بأنّه لا محالة راجع إلى ربّه، ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا﴾4، وأنّه كادح إليه كدحًا، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾5، فإنّه لن يغفل عنه أبدًا، ولن يهدأ له بال أو يسكن له قرار قبل أن يعدّ العدّة اللّازمة لهذا السفر الطويل، ويحضّر كلّ مستلزمات اللقاء بالمحبوب.
من هنا، كان صلاح الإنسان منوطًا في المرحلة الأولى بإصلاح معتقداته ونظرته إلى الخالق والعالم، ورؤيته التي يحملها فيما يتعلّق بالحياة والمصير والعلاقة مع الله سبحانه وتعالى، لأنّ للعقيدة التي يحملها الإنسان الدورَ الأساس في تحديد مصيره ومدى قربه وبعده عن الحقّ تعالى، وعن حقائق الإسلام ومعانيه الراقية.
آثار الاعتقادات الباطلة
للعقيدة التي يحملها الإنسان تأثير على أفعاله وسلوكه في هذه الدنيا، وبالتالي على مصيره في الآخرة، كما أسلفنا. ولو حاولنا الآن أن نعكس الصورة قليلًا، وأتينا بشخص لا يحمل هذه المعتقدات والمبادئ الإسلاميّة الأصيلة، التي ذكرنا بعضًا منها آنفًا، فماذا ستكون النتيجة؟
فالذي لا يؤمن بالله تعالى، ولا يعتقد بأنبيائه ورسله، ولا بالدار الآخرة، والذي لا يرى نفسه في سفر، وأنّه راحل عن هذا العالم إلى عالم الجزاء والحساب، فكيف ستكون عاقبته؟!
1- سورة الحديد، الآية 4.
2- سورة ق، الآية 16.
3- سورة آل عمران، الآية 98.
4- سورة يونس، الآية 4.
5- سورة الانشقاق، الآية 6.
55
39
الدرس الخامس: موانع العبوديّة لله (2) (العقائد الباطلة)
هذا الإنسان الذي لا يعتقد بالمعتَقدات الحقَّة، كالحساب الأخرويّ، والكمالات والنّعم التي وُعد بها في الدار الآخرة، سيتصرّف بطريقة يهمِل معها العقاب الإلهيّ، ولا يعطي أيّ أهمّيّة للحياة الآخرة، وللقائه تعالى فيها، وهذا الأمر لا يؤدّي إلى الجهل والفراغ فقط، بل يسمح أيضًا بدخول الآراء الفاسدة والمعتقدات الباطلة، ذلك أنّ النّفس لا تقبل الجهل أبدًا، ولا تستأنس به، وهي ترفض أن لا يكون لديها العلم بما تواجهه من مسائل وقضايا، فإذا لم تحصل على الأجوبة الصّحيحة عن تساؤلاتها، أسرعت إلى تعبئة الفراغ بما لديها من أهواء، وبما يزوّدها به أصحاب الشّبهات. ولا شكّ أنّ الأفكار الخاطئة ستكون سببًا للحرمان ولارتكاب الأخطاء واجتراح المعاصي.
ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الجهل أصل كلّ شرّ"1، وهو ما يكون سببًا في الابتعاد عن الله، والحرمان من فيضه العميم.
والله عزّ وجلّ، في ذكره الحكيم، يكشف لنا بعض ما سيؤول إليه حال أصحاب هذه الاعتقادات الخاطئة، ويحذّر من عواقبها الوخيمة، وهي:
1- العذاب الأليم، ﴿وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾2.
2- الخسران والندامة، ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾3.
3- بطلان أعمالهم، ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾4.
4- النسيان، ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾5.
1- الآمدي، غرر الحكم، ص73.
2- سورة الإسراء، الآية 10.
3- سورة الأنعام، الآية 31.
4- سورة الأعراف، الآية 147.
5- سورة الجاثية، الآية 34.
56
40
الدرس الخامس: موانع العبوديّة لله (2) (العقائد الباطلة)
5- العقاب الإلهيّ في الدنيا، ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾1.
6- الحرمان من المغفرة، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾2.
وما ينبغي التنبّه إليه جيّدًا أيضًا، أنّ العقائد الباطلة، مع ما لها من عواقب وخيمة على الإنسان المعتقد بها، إلّا أنّ آثارها السلبيّة ليست محصورة فيه، بل إنّ ضررها وتأثيرها السلبيّ قد يصل إلى الآخرين أيضًا، وذلك عندما تدفع هذه المعتقدات الخاطئة بصاحبها، من حيث يقصد أو لا يقصد، إلى الصدّ عن سبيل الحقّ وعن صراطه المستقيم. فعندما يعتقد شخص ما أنّ تهذيب النفس وتزكيتها من الأهواء والأمراض الباطنيّة ليس أمرًا ضروريًّا، أو ينكر، والعياذ بالله، مسألة لقاء الله والرجوع إليه، أو يعتقد بأنّ عبادة الله والعبوديّة له تعالى ليست أمرًا أساسيًّا، وأنّ الإيمان بأيّ دين أمرٌ صحيح ومقبول، وغيرها من الاعتقادات الخاطئة، فمثل هذه الاعتقادات إذا كان صاحبها ذا شأن أو تأثير في محيطه، فمن الممكن أن يكون سببًا في دفع الآخرين إلى الاعتقاد بمثل هذه المبادئ، وبالتالي الانحراف عن جادّة الصواب، والصدّ عن سبيل الله، ومنع الخير عن عباده، ﴿مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾3، وهو يحسب نفسه من المهتدين، ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾4, والحقّ أنّه من الضالّين، ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾5. والله عزّ وجلّ قد نهى عن الصدّ عن سبيله ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾6، بل ولعن الذين يصدّون عن صراطه، ووصفهم بأنّهم
1- سورة القصص، الآيتان 39 - 40.
2- سورة محمّد، الآية 34.
3- سورة القلم، الآية 12.
4- سورة الزخرف، الآية 37.
5- سورة إبراهيم، الآية 3.
6- سورة الأعراف، الآية 86.
57
41
الدرس الخامس: موانع العبوديّة لله (2) (العقائد الباطلة)
ظالمون، ﴿لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ﴾1.
علاج العقائد الباطلة
بعد معرفة دَور العقائد الفاسدة، وتأثيرها على سلوك الإنسان في الحياة الدنيا، وبالتالي على مصيره في الحياة الآخرة، على اللبيب أن يفكّر مليًّا في كيفيّة التخلّص من هذه الشبهات العقائديّة التي تحول دون ارتباطه بالله عزّ وجلّ، وتحرمه من لقائه، ولا يوجد طريق للتخلّص من هذا المانع والعائق الخطير سوى وسيلة واحدة، هي التعرّف على مبادئ هذا الدين الحنيف وعقائده وتعلّمها. فالعلم والمعرفة بأسس هذا الدين ومعتقداته الأصيلة هو الذي يهدي الإنسان إلى صراط الله المستقيم، وينجيه ويعصمه من الوقوع في المهالك والمزلّات. ومن الطبيعيّ أنّ العلم وحده لا يكفي، بل لا بدّ أن يصحبه العمل بهذه المبادئ والمعتقدات الإسلاميّة، حتّى لا يغدو مصداقًا لقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾2, ولأنّ العلم لا يثبت ولا يمكن أن يستقرّ في النفس إلّا بالعمل كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلّا ارتحل عنه"3. كما أنّ هناك بعض الآداب والأمور التي ينبغي للإنسان المتعلّم التنبّهُ إليها ومراعاتها، وهي:
1- أن يعلم أنَّ ما يعلمه فيما لا يعلمه قليل، لذا عليه أن لا يجيز لنفسه إنكار كلّ ما لا يرقى إلى مستوى فهمه وعقله، بل عليه أن يذره في بقعة الإمكان، فعسى أن يأتي عليه يوم يفتح الله عليه باب العلم به.
2- الاعتراف المسبق باحتمال وجود الأفكار الخاطئة، والآراء الفاسدة لديه، لأنّ الثّقة المطلقة بالنفس تكون عائقًا، في بعض الأحيان، دون الاطّلاع على حقائق الأمور،
1- سورة الأعراف، الآيتان 44 - 45.
2- سورة الصفّ، الآيتان 2 - 3.
3- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص33.
58
42
الدرس الخامس: موانع العبوديّة لله (2) (العقائد الباطلة)
كما في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "اتّهموا عقولكم، فإنّه من الثّقة بها يكون الخطأ"1.
3- الصدق والإخلاص في طلب المعارف الإلهيّة، حيث يقصد بعمله وجه الله تعالى، وامتثال أمره، وإصلاح نفسه، وإرشاد عباده إلى معالم دينه، ولا يقصد بذلك عرَض الحياة الدنيا من تحصيل مال أو جاه أو شهرة. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من تعلّم لله عزّ وجلّ، وعمل لله، وعلّم لله دُعي في ملكوت السماوات عظيمًا"2.
4- تبادل وجهات النّظر، بعيدًا عن التعصّب. فمن وصيّةٍ لأمير المؤمنين عليه السلام يقول: "اضربوا بعض الرأي ببعض يتولّد منه الصواب"3، وعنه عليه السلام أيضًا: "من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ"4، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من تعلّم العلم ليماري به السفهاء، أَو يباهي به العلماء، أو يصرف وجوه الناس إليه ليُرَئِّسُوه ويُعَظّموه، فلْيتبوّأْ مقعده من النار"5.
5- عدم التسرّع في إعطاء الرأي وإبداء وجهة النظر، والانتظار حتّى تتبلور وتتّضح الفكرة، فتكون قابلة للاعتماد عليها. فعن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "الرأي مع الأناة"6، وممّا أوصى به عليه السلام ولدَه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، "أنهاك عن التسرّع في القول والفعل"7.
6- الدعاء وطلب العناية من الله تعالى من خلال التوسّل بأهل البيت عليهم السلام. وهذا له تأثير كبير جدًّا في التوصّل إلى المعتقدات العلميّة والمعارف الحقّة.
1- الآمدي، غرر الحكم، ص56.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص35.
3- م.ن، ج1، ص1024.
4- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص29.
5- م.ن، ج2، ص31.
6- م.ن، ج75، ص81.
7- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج27، ص167.
59
43
الدرس الخامس: موانع العبوديّة لله (2) (العقائد الباطلة)
وعليه، نصل إلى هذه النتيجة، ومفادها أنّ سرّ السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة منوط بعلاقة الإنسان بربّه، وبحضوره تعالى في حياته. فكلّما كان حضور الله تعالى أقوى، كان القربُ منه أشدّ وأكثر. وشرط هذا الحضور الاعتقادُ السليم والصحيح بأنّه تعالى معنا دائمًا، وشاهد علينا، وقريب منّا إلى الحدّ الذي يَحوْل فيه تعالى بيننا وبين قلوبنا، ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾1، وأنّنا إليه راجعون. مثل هذا الاعتقاد، والعمل بمقتضاه، مقدّمةٌ ضروريّة وأساس، تؤهّل الإنسان للارتباط الصحيح والقويّ بالله عزّ اسمه، وتساعده على دوام استحضار وجوده، وعدم الغفلة عنه أبدًا.
1- سورة الأنفال، الآية 24.
60
44
الدرس الخامس: موانع العبوديّة لله (2) (العقائد الباطلة)
المفاهيم الرئيسة
1- العقيدة لغةً مشتقّة من المصدر "عَقْد" الذي يعني الإحكام والشدَّ والربط، وربطَ الشيءِ بشيء آخر أو شدَّه. والعقيدة في معناها الاصطلاحي هي مجموعة من المسائل التي تشكّل الرؤية الكونيّة للإنسان، والتي تُشكّل مجموعة من المعتقَدات والنظريّات الكونيّة المتناسقة حول الكون والإنسان، بل وحول الوجود بصورة عامّة.
2- إنَّ العقيدة التي يحملها الإنسان تؤثّر تأثيرًا مباشرًا على مصيره، وعلى مقامه عند الله، وعلى درجة قربه منه عزّ وجلّ، وذلك بسبب ارتباطها بسلوك الإنسان وحركته في الخارج، وبأسلوب تعامله مع الآخرين، وتفاعله مع الأحداث التي تجري من حوله.
3- إنَّ صلاح الإنسان منوطٌ في المرحلة الأولى بإصلاح معتقداته ونظرته إلى الخالق والعالم، ورؤيته التي يحملها فيما يتعلّق بالحياة والمصير والعلاقة مع الله سبحانه وتعالى. لأنّ للعقيدة التي يحملها الإنسان الدورَ الأساس في تحديد مصيره ومدى قربه وبعده عن الحقّ تعالى، وعن حقائق الإسلام ومعانيه الراقية.
4- من عواقب المعتقدات الباطلة: العذاب الأليم، الخسران والندامة، بطلان الأعمال، النسيان، الحرمان من المغفرة، العقاب الإلهيّ في الدنيا.
5- إنّ الضرر والتأثير السلبيّ للعقائد الباطلة قد يصل إلى الآخرين، وذلك عندما تدفع هذه المعتقدات الخاطئة بصاحبها إلى الصدّ عن سبيل الحقّ وعن صراطه المستقيم.
6- إنَّ سبيل التحصّن من المعتقدات الباطلة يكمن في التعرّف على مبادئ الدين الحنيف وعقائده وتعلّمها، والعمل بها. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلّا ارتحل عنه"1.
7- هناك بعض الآداب والأمور التي ينبغي للإنسان المتعلّم التنبّهُ إليها ومراعاتها، وهي: الصدق والإخلاص في طلب المعارف الإلهيّة، والدعاء وطلب العناية من الله تعالى من خلال التوسّل بأهل البيت عليهم السلام، وأن لا يجيز لنفسه إنكار كلّ ما لا يرقى إلى مستوى فهمه وعقله، بل الاعتراف المسبق باحتمال وجود الأفكار الخاطئة لديه، وتبادل وجهات النّظر، بعيدًا عن التعصّب، وعدم التسرّع في إعطاء الرأي وإبداء وجهة النظر.
1- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص33.
61
45
الدرس السادس: التوجّه للمبدأ والمعاد والنبوّة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن أهمّيّة معرفة المبدأ والمعاد والنبوّة.
2- يدرك كيفيّة التعرّف على المبدأ والمعاد والنبوّة.
3- يوضّح مراحل التعرّف على الأصول الثلاثة من خلال امتلاك المعرفة التصوّريّة، والتصديق والإذعان لأدلّتها الحقَّة.
63
46
الدرس السادس: التوجّه للمبدأ والمعاد والنبوّة
مقدّمة
إنَّ معرفة النفس سبيل إلى معرفة الله عزّ وجلّ، وقد أشرنا سابقًا إلى علاقة التلازم والارتباط بين المعرفتين، وورد في صحف إدريس: "من عرف الخَلْق عرف الخالق، ومن عرف الرزق عرف الرازّق، ومن عرف نفسه عرف ربّه"1.
ومعرفة النفس ليست مطلوبة لذاتها، بل إنّ الهدف الغائيّ للمعرفة والسير المعرفيّ بالشكل الكامل هو معرفة الله، وقد تناثرت الإشارات القرآنيّة إليها، وتضافرت البيانات الروائيّة في إبرازها وتصويرها. قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾2، حيث فُسّر ذلك بأنَّهم خُلقوا ليعرفوه. ويعضد هذا المعنى ما جاء في الحديث القدسيّ المستفيض، "كنتُ كنزًا مخفيًّا، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقتُ الخلق لأُعرف"3. وقد خرج الإمام الحسين عليه السلام إلى أصحابه، فقال لهم: "أيُّها النَّاس، إنَّ اللَّه جلَّ ذكره ما خلق الخلق إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنَوا بعبادته عن عبادة ما سواه"4.
1- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج92، ص456.
2- سورة الذاريات، الآية 56.
3- مولى محمّد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، مع تعليقات: الميرزا أبو الحسن الشعراني، ضبط وتصحيح: السيّد عليّ عاشور، بيروت - لبنان، دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، 1421هـ - 2000م، ط1، ج1، ص22.
4- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص312.
65
47
الدرس السادس: التوجّه للمبدأ والمعاد والنبوّة
ولأنَّ المعرفة هي الخير الكثير1، فإنَّ معرفته تعالى هي أبرز مصداقٍ للخير الكثير. والسبيل إلى ذلك الخير الكثير، كما أسلفنا، هو معرفة النفس. ومعرفة النفس الإنسانيَّة لا تقتصر على الوجود المادّيّ للإنسان، فمَنْ يفهم من وجوده المظاهرَ المادّيّة والحيوانيّة فقط، ويهتمّ بها وحدها خلال حياته، فقد غفل عن هويّته الإنسانيّة.
إنّ الفارق بين الإنسان والحيوان يكمن في أنّ الإنسان يتميّز ببُعد ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾2، الذي يفتقده الحيوان، وإنّ العناية بهذا البُعد هي التي تُخرج الإنسان عن الحيوانيّة، وإنّ تنمية هذا البُعد هي التي تجعل الإنسان "إنسانًا". فإذا ما أردنا أن نعرف حقيقة أنفسنا، فيجب أن نرى ما هي ? وَنَفَخ?تُ فِيهِ مِن رُّوحِي? وما هي مقتضياتها؟
ما هو مبدأ النفس؟ وأين منتهاه؟ وما هو السبيل إليه؟
معرفة المبدأ والمعاد والنبوّة
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "رحم اللَّه امرأً أعدّ لنفسه واستعدّ لرمسه وعلم من أين وفي أين وإلى أين"3.
فإذا ما اكتسب المرء ثلاث معارف، واستطاع الإجابة على ثلاثة أسئلة رئيسة، فقد عرف نفسه. والأسئلة هي:
1- من أين جئتُ؟ وأين مبدأي؟
2- أين أنا الآن؟ وأين أقف؟
3- إلى أين أذهب؟ وما هي غايتي؟
1- ورد عن الامام الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ سورة البقرة، الآية 269- قال: "المعرفة". أنظر: العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج1، ص215.
2- سورة الحجر، الآية 29، سورة ص، الآية 72.
3- الفيض الكاشاني، الوافي، تحقيق وتصحيح وتعليق ضياء الدين الحسيني الأصفهاني، أصفهان، مكتبة الامام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام العامّة، 1406ه.ق، ط1، ج1، ص116.
66
48
الدرس السادس: التوجّه للمبدأ والمعاد والنبوّة
إنّ الجواب عن هذه الأسئلة الثلاثة يُمثّل، في الحقيقة، المواضيع الثلاثة التي تؤلّف أصول الدِّين، وهي: التوحيد، النبوّة والمعاد. فمعرفة أين كنّا وأين يكمن مصدر وجودنا وأصله، إنّما هي التوحيد ومعرفة الله، ومعرفة إلى أين نُقبِل، وأيّ وجهة نتحرّك نحوها، إنّما هي معرفة المعاد، وما يجب علينا فعله في هذه الدنيا، ونحن ما بين المبدأ والمعاد، كي نصلَ إلى الغاية بسلام، إنّما هو يتعلّق ببعثة الأنبياء والنبوّة.
من هنا، ليس صدفةً أن أصبحتْ هذه الأصول الثلاثة أصولًا للدِّين، وهي منسجمة بشكل تامّ، فالدِّين قد جاء لتحقيق سعادة الإنسان، وإذا ما أراد الإنسان نيل سعادته الحقيقيّة، فلا بدّ أن يضع أمام نفسه الإجابةَ الصحيحة عن هذه الأسئلة الثلاثة.
إذا لم يدرك الإنسان علاقته مع الله، فلا مجال في أن يتمكّن من معرفة نفسه، ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾1، فنسيان الله متلازم مع نسيان "النفس" وضياعها، فليس الإنسان سوى فعل الله، بمعنى أنّه مخلوق من قبل الله تعالى، ومرتبط به، فهو تعالى أصل وجوده.
وبعد العلم بأنَّ الإنسان ليس سوى فعل الله، من الطبيعيّ أن يتبادر السؤال، وهو: لماذا خلق الله تعالى الإنسان؟ وما هو هدفه من إيجاد الخلق؟ والبحثُ عن الإجابة سيوصلنا إلى مسألة المعاد، فلا ريب بوجود الترابط المنطقيّ بين المبدأ والمعاد، لذا نرى أنّ "الإيمان بالله وباليوم الآخر"، أي المبدأ والمعاد، يُذكران معًا في القرآن الكريم2.
الله مبدأُنا، واليوم الآخر - وهو يوم القيامة - نهاية مسيرنا وغايتنا. فما هو العمل والقانون الذي يُبقينا على الصراط المستقيم ما بين المبدأ والمعاد، ويحول دون انحرافنا عن
1- سورة الحشر، الآية 19.
2- يقول تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ﴾ سورة البقرة، الآية 177-، ﴿مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، سورة المائدة، الآية 69-، ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ِ سورة التوبة، الآية 18-، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ﴾ سورة الأحزاب، الآية 21-، ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ سورة الحشر، الآية 22-، ﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ سورة الطلاق، الآية2-.
67
49
الدرس السادس: التوجّه للمبدأ والمعاد والنبوّة
الطريق؟ وأين تقع دنيانا التي نعيشها الآن من خارطة الوجود، وما هي خصائصها؟ هل هي ممرٌّ ومعبرٌ إلى العالم الآخر فقط، أم أنّها هي الغاية القصوى؟
هذه الأسئلة هي التي تقودنا إلى بحث النبوّة وبعثة الأنبياء ونزول الأديان السماويّة، فالأنبياء والأوصياء بعثهم الله ليمسكوا بأيدينا في مرحلة ما بين المبدأ والمعاد، ويشخّصوا لنا الطريق الصحيحة، والشريعة الإلهيّة هي البرنامج والقانون الذي بعثه الله تعالى إلى الإنسان عن طريق الأنبياء، ليأخذ بيده إلى الجنّة، وينأى به عن جهنّم، ويوصله إلى غايته بسلام.
إذًا، تبيّن لنا من خلال ما سبق، أنَّ معرفة النفس متلازمة مع معرفة الأصول الثلاثة: التوحيد، النبوّة والمعاد. والنتيجة المنطقية لذلك هي أنَّ الغفلة عن النفس متلازمة أيضًا مع الغفلة عن جميع هذه الأصول أو بعضها. بناءً على ذلك، فإنَّ اليقظة تتطلّب حاجة الإنسان إلى المعرفة بحقيقة نفسه، وقوام هذه المعرفة وأساسها ثلاثة أمور هي: معرفة الله، معرفة اليوم الآخر، ومعرفة طريق الأمان الذي ينتهي إلى الغاية.
كيفيّة التعرّف على المبدأ والمعاد والنبوّة
في طريقنا نحو التعرّف على أيّ مسألة من المسائل، هناك ثلاث مراحل ينبغي اجتيازها، وهي:
أوّلًا: امتلاك المعرفة التصوّريّة الأوّليَّة والمبدئيّة للمسألة.
ثانيًا: معرفة أهمّيّة المسألة، وأخذها على محمل الجدّ، والمبادرة والتحرّك لمتابعتها واستجلائها.
ثالثًا: التصديق بالمسألة، والإذعان لأدلّتها الحقَّة.
وبالتالي ربّما يكون ذنب بعض الغافلين بمستوى أنّهم يتذكّرون، لكنّهم لا يحملون الأمر على محمل الجِدّ، وبعضهم قد يكون ذنبه أكبر، إذ يتذكّرون ويعرفون أنّ القضية جدّيّة وحسّاسة جدًّا، لكنّهم يُعرِضون عنها. وهناك فئة ثالثة ذنبها أكبر من كلا القسمين
68
50
الدرس السادس: التوجّه للمبدأ والمعاد والنبوّة
الأوّلين، إذ يتذكّرون وتنكشف أمامهم أهمّيَّة القضيّة، ويتوصّلون إلى الإجابة الصحيحة عن السؤال، لكنّهم في الوقت نفسه يتظاهرون بالتجاهل، ويعيشون حياتهم وكأنّهم لا يعلمون بوجود الله والقيامة، ﴿وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ﴾1. وهذه المرتبة أعلى مراتب كفران النعم الإلهيّة، وهي التي يعقبها العذاب الأليم يوم القيامة.
فهذه المخاطر قد تعترض طريقنا نحو معرفة الله والقيامة والنبوة، فنغفل عن أصل الموضوع، أو لا نحمله على محمل الجدّ، أو نتشبّث بالعناد، بعد أن تنكشف أمامنا الإجابة الصحيحة، وننكره على علم منّا، بل ربّما يصل الإنسان إلى نقطة ينفر من اسم الله. قال الله تعالى بهذا الصدد: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾2. لذا لا بدَّ للإنسان من التعرُّف على ماهيّة الخطوات الثلاث الأساس لمعرفة المبدأ والمعاد والنبوّة، وسنفصّلها وفق الآتي:
1- تصوّر أصل القضيّة3:
إنّ أوّل خطوة في السير المعرفيّ هي أن يمتلك الإنسان تصوّرًا عن أصل الموضوع. ومن الطبيعيّ أنّنا ما لم نمتلك تصوّرًا عن أصل الموضوع، فلن نسأل عنه أبدًا. فعن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "لقاح العلم التصوّر والفهم"4. فهنالك الكثير من القضايا التي تنطوي عليها العلوم على اختلافها، ونحن نجهلها، والسبب هو أنّنا نجهل أساس وجود مثل هذه الموضوعات والقضايا. ويوجد ثلاثة عناصر تساهم في إعادة تصوّر الموضوع في ذهن الإنسان وتذكّره، وهي:
أ- الفطرة: قد يتبادر لبعض الناس بشكل فطريّ في مرحلة من النضوج الفكريّ،
1- سورة الصافات، الآية 13.
2- سورة الزمر، الآية 45.
3- أي تصوّر قضيّة المبدأ والمعاد والنبوّة.
4- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص419.
69
51
الدرس السادس: التوجّه للمبدأ والمعاد والنبوّة
هذا التساؤل: مِنْ أين جئتُ، وإلى أين أتّجه؟ ومن النماذج التي تبادر لهم هذا السؤال في مرحلة ما، وبشكل فطريّ، هو نبيّ الله إبراهيم عليه السلام حينما كان ينظر إلى الكون والوجود، فأخذ يسأل: مَنْ هو ربُّ هذا الكون، وربُّ هذه السماوات؟ وبمقتضى فطرة التوحيد كان يستنكر أن يكون الربّ أيّ من الكواكب والنجوم والأجرام، لنقصها ومحدوديّتها وفنائها. ولقد تبلورت هذه الأسئلة في ذهنه عليه السلام تلقائيًّا، وبشكل طبيعيّ، دون تدخُّل عوامل خارجيّة، بل من خلال أصل الخلقة والتكوين الفطريّ الإنساني. يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾1.
ب- المصاعب والابتلاءات: إنّ تعرض الإنسان للشدائد والمصاعب قد يؤدّي أحيانًا إلى إيقاظ الفطرة الكامنة لديه، فتدفعه إلى التوجّه نحو القوّة التي لها القدرة على حلّ مشاكله. وإذا ما بقي الإنسان مؤمّلًا ومعوّلًا على الأسباب الظاهريّة، فإنّه سيغفل عن عالم الغيب وعوامله، أمّا إذا قطع الأمل بالأسباب الظاهريّة والمادّيّة، عندها ستستيقظ فطرته ويتوجّه نحو القوّة والقدرة الحقيقيّة في هذا الوجود. ومن الأمثلة القرآنيّة التي تُلفت انتباه الإنسان إلى دور الابتلاء والأزمات في توجيه الإنسان نحو الله سبحانه وتعالى، هذه الآية الكريمة ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾2. فالرحلات في
1- سورة الانعام، الآيات 75 – 79.
2- سورة العنكبوت، الآية 65.
70
52
الدرس السادس: التوجّه للمبدأ والمعاد والنبوّة
السابق كانت عادة تجري بالسفن البسيطة بإمكانيّاتها ومعدّاتها، لذا كانت هنالك أخطار كثيرة تحيق بالرحلات البحريّة، وكان الكثير من السفن يتعرّض للغرق. ويصرّح القرآن في هذه الآية أنّ هؤلاء عندما كانوا يسيرون في وسط البحر أو المحيط، وتحاصرهم العواصف والأمواج العاتية، كانوا يتوجّهون إلى الله، فيدعونه ويتوسّلون إليه.
ومن الأمثلة القرآنيّة على علاقة التأثّر والتأثير بين الابتلاء وبين اليقظة، قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾1، وقوله ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾2. فهذه الآيات تشير بشكل واضح إلى أنّ الهدف من الابتلاءات والمصاعب هو توجّه الناس ورجوعهم إلى الله تعالى من جديد.
ج- الأنبياء والرسل عليهم السلام: إنّ لكلّ إنسان ميثاقًا فطريًّا مع الله، لكنّه يغفل عنه، فجاء الأنبياء ليطالبوا الإنسان بالوفاء بهذا الميثاق. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فبعثَ فيهم رسلَهُ، وواتَر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيَّ نعمته"3. فعملُ الأنبياء الأساس هو التذكير، والتذكير يتحقّق عندما يمرّ الإنسان بقضيّة لكنّه لا يهتمّ لها ويغفل عنها، فيصبح هناك حاجة لتذكيره بها من جديد. وفي آيات عديدة وصف القرآن الكريم الأنبياءَ والكتب بالذِّكر ِوالمذكِّر، وهذا التعبير إشارة إلى أنَّ دورهم يكمن في التوعية واستنقاذ الناس من الغفلة، ﴿قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾4.
فوُصف النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
1- سورة الأنعام، الآية 42.
2- سورة الأعراف، الآية 94.
3- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج11، ص60.
4- سورة الطلاق، الآيتان 10 – 11.
71
53
الدرس السادس: التوجّه للمبدأ والمعاد والنبوّة
بأنّه المذكِّر، كما عُبِّر عن سائر الكتب السماويّة باسم الذِّكر، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾1، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾2.
2- التوجّه إلى المبدأ والمعاد والنبوّة:
بعد الالتفات إلى أصل الموضوع وتصوّره، ينقسم الناس إلى فئتين: بعض الناس يأخذون قضيَّة المبدأ والمعاد والنبوّة على محمل الجدّ، فيهتمّون بمسائلها ويتوجّهون إليها، وتكبر فيهم روح المبادرة والاستعداد من أجل الوصول إلى النتائج، فإذا تحرَّك الانسان نحو القضيّة شملته الرحمة الإلهيّة، وازداد هدايةً في المرحلة اللاحقة، لأن السُنَّة الإلهيّة تقضي إذا ما قوبلت النعم الإلهيّة بجدّيّة وقُدّرت، فإنّ الله يزيدها، ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾3، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾4. وإنّ إرسال الأنبياء وطرحَهم مسألتَي المبدأ والمعاد، بهدف تذكير الخلق بهما، نعمة إلهيّة كبرى، وإذا ما تعامل الإنسان مع هذه النعمة بصدق ووفاء، وأخَذها على محمل الجدّ، ولم يُعرض عنها، فإنَّ الله يضاعف رحمته وهدايته له.
أما لو أعرض الإنسان عن هذه القضيّة، وتجاهلها ولم يحرّك ساكنًا أمام نداء الأنبياء عليهم السلام، أو نداء الفطرة، بل أعرض ونأى عن هذا الأمر، ففي مثل هذه الحالة لن تشمله الرحمة الإلهيّة والهداية الخاصّة، وسيحيط به العذاب الإلهيّ من كلّ حدب وصوب، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾5.
1- سورة الأنبياء، الآية 105.
2- سورة الحجر، الآية 9.
3- سورة إبراهيم، الآية 7.
4- سورة العنكبوت، الآية 69.
5- سورة طه، الآية 124.
72
54
الدرس السادس: التوجّه للمبدأ والمعاد والنبوّة
3- التسليم للأدلّة العقليّة والمنطقيّة:
يعتبر التسليم للأدلّة الخطوةَ الثالثة والأخيرة في رحلة السير المعرفيّ للإنسان نحو المبدأ والمعاد والنبوّة، إذ لا بدّ في هذه المرحلة أن يَتقبّل النتيجة النهائيّة للقضيّة المستندة إلى الأدلّة والحجج والبراهين الحقَّة. والقرآن الكريم ذمَّ في آياته مَن يرفض الأدلّة ولا يذعن للحقيقة، ويصدُّ أسماع قلبه وعقله عنها. قال تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾1، وفي مورد آخر نهى القرآن الكريم عن التقليد الأعمى، ودعا الإنسان إلى إعمال عقله، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾2.
فالتسليم للأدلّة والنتائج التي حصل عليها الإنسان جرّاء إعمال عقله هو من الأمور التي أوصى بها الأنبياء والأوصياء والأئمّة عليهم السلام، وكانت منهجًا إلهيًّا متَّبَعًا على مدى التاريخ الرساليّ. والتمسّك بالدليل الحقّ هو المعيار الفاصل بين الكفر والإيمان، فالمؤمن يتّبع سبل الحقّ، والصراط المستقيم، ويصل إلى الهداية الإلهيّة، متمسّكًا بالأدلّة الحقّة ومذعنًا لها، أمّا الكافر فيتّبع السبُل المضلّة والمعاكسة تمامًا لسبل الحقّ. قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾3.
وفي الختام نذكر ما ورد عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ حول إعمال العقل والتسليم لأدلّته، حيث قال عليه السلام: "إِنَّ أَوَّلَ الْأُمُورِ وَمَبْدَأَهَا وَقُوَّتَهَا وَعِمَارَتَهَا الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ إِلَّا بِهِ، الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ زِينَةً لِخَلْقِهِ ونُورًا لَهُمْ، فَبِالْعَقْلِ عَرَفَ الْعِبَادُ خَالِقَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ وَأَنَّهُ
1- سورة البقرة، الآية 171.
2- سورة البقرة، الآية 170.
3- سورة الأنعام، الآية 153.
73
55
الدرس السادس: التوجّه للمبدأ والمعاد والنبوّة
الْمُدَبِّرُ لَهُمْ وَأَنَّهُمُ الْمُدَبَّرُونَ وَأَنَّهُ الْبَاقِي وَهُمُ الْفَانُونَ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا رَأَوْا مِنْ خَلْقِهِ مِنْ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ وَشَمْسِهِ وَقَمَرِهِ وَلَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَبِأَنَّ لَهُ وَلَهُمْ خَالِقًا وَمُدَبِّرًا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزُولُ، وَعَرَفُوا بِهِ الْحَسَنَ مِنَ الْقَبِيحِ، وَأَنَّ الظُّلْمَةَ فِي الْجَهْلِ وَأَنَّ النُّورَ فِي الْعِلْمِ، فَهَذَا مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْعَقْلُ".
وقِيلَ لَهُ فَهَلْ يَكْتَفِي الْعِبَادُ بِالْعَقْلِ دُونَ غَيْرِهِ؟ فقَالَ عليه السلام: "إِنَّ الْعَاقِلَ لِدَلَالَةِ عَقْلِهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ قِوَامَهُ وَزِينَتَهُ وَهِدَايَتَهُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّهُ، وَعَلِمَ أَنَّ لِخَالِقِهِ مَحَبَّةً وَأَنَّ لَهُ كَرَاهِيَةً وَأَنَّ لَهُ طَاعَةً وَأَنَّ لَهُ مَعْصِيَةً، فَلَمْ يَجِدْ عَقْلَهُ يَدُلُّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَطَلَبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ إِنْ لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ، فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِهِ"1.
1- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص26.
74
56
الدرس السادس: التوجّه للمبدأ والمعاد والنبوّة
المفاهيم الرئيسة
1- إنَّ معرفة النفس متلازمة مع معرفة الأصول الثلاثة: التوحيد، النبوّة والمعاد. والنتيجة المنطقيّة لذلك هي أنَّ الغفلة عن النفس متلازمة أيضًا مع الغفلة عن جميع هذه الأصول أو بعضها. بناءً على ذلك، فإنَّ اليقظة تتطلّب حاجة الإنسان إلى المعرفة بحقيقة نفسه، وأساس هذه المعرفة ثلاثة أمور هي: معرفة الله، معرفة اليوم الآخر، ومعرفة طريق الأمان الذي ينتهي إلى الغاية.
2- هناك ثلاث مراحل ينبغي اجتيازها، وهي: امتلاك المعرفة التصوّريّة الأوّليَّة والمبدئيّة للمسألة. معرفة أهمّيّة المسألة، وأخذها على محمل الجدّ، والمبادرة والتحرّك لمتابعتها واستجلائها، والتصديق بالمسألة، والإذعان لأدلّتها الحقَّة.
3- يوجد ثلاثة عناصر تساهم في إعادة تصوّر الموضوع في ذهن الإنسان وتذكّره، وهي: الفطرة، المصاعب والابتلاءات، الأنبياء والرسل.
4- إذا تحرَّك الإنسان نحو القضيّة شملته الرحمة الإلهيّة، وازداد هدايةً في المرحلة اللاحقة، لأنّ السُنَّة الإلهيّة تقضي إذا ما قوبلت النعم الإلهيّة بجدّيّة وقُدّرت، فإنّ الله يزيدها، ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾1.
5- إنَّ إرسال الأنبياء وطرحَهم مسألتَي المبدأ والمعاد، بهدف تذكير الخلق بهما، نعمة إلهيّة كبرى، وإذا ما تعامل الإنسان مع هذه النعمة بصدق ووفاء، وأخَذها على محمل الجدّ، ولم يُعرض عنها، فإنَّ الله يضاعف رحمته وهدايته له.
6- يُعتبر التسليم للأدلّة الخطوةَ الثالثة والأخيرة في رحلة السير المعرفيّ للإنسان نحو المبدأ والمعاد والنبوّة، إذ لا بدّ في هذه المرحلة أن يَتقبّل النتيجة النهائيّة للقضيّة المستندة إلى الأدلّة والحجج والبراهين الحقَّة.
1- سورة إبراهيم، الآية 7.
74
57
الدرس السابع: التفكُّر ودوره في معرفة الله
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يدرك أنَّ التوجّه إلى الله والمعاد والنبوّة منوط بالمعرفة.
2- يبيّن أنَّ التفكّر مقدّمة المعرفة.
3- يشرح بماذا ينبغي أن يتفكَّر الإنسان؟
77
58
الدرس السابع: التفكُّر ودوره في معرفة الله
المعرفة مقدّمة التوجّه
لكي لا يقع الإنسان في الغفلة، يجب عليه، بالدرجة الأولى، معرفة أسبابها لكي يتمكّن من تجنّبها، ثمّ يقوم من بعدها بتنظيم برامجه للانتفاع بعناصر التوجّه في حياته، والعمل على ضوئها. ومن الطبيعيّ أنّ المعرفة مقدّمة التوجّه، فما دمنا لا نعرف الشيء ونجهله، فمن الطبيعيّ أن لا نتوجّه له، كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "الناس أعداء ما جهلوا"1.
من هنا، فإنّ التوجّه إلى الله والمعاد والنبوّة منوط بمعرفتها. والتوجّه إلى الله، بالدرجة الأولى، يؤدّي دورًا مركزيًّا من بين هذه الأصول الثلاثة. فما دمنا لا نعرف الله، فلن يكون هنالك معنًى للتوجّه إليه، وبالتالي لن يتحقّق التوجّه إلى المعاد، والطريق ما بين المبدأ والمعاد.
ممّا أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذرّ (رضوان الله عليه) أن قال له: "يا أبا ذرّ، إنّك منّا أهلَ البيت، وإنّي موصيك بوصيّة فاحفظها، فإنّها جامعة لطرقِ الخير وسُبلِه، فإنّك إن حفظتها كان لك بها كفلان. يا أبا ذرّ، اعبد الله كأنّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك، واعلم أن أوّل عبادة الله المعرِفةُ به"2. من هنا يتبادر السؤال الآتي: ما هو طريق بلوغ معرفة الله وصفاته وأفعاله التي تنتهي إلى معرفة المعاد والنبوّة؟
التفكّر مقدّمة المعرفة
الإيمان بالله والآخرة وصفات الله وأفعاله ليست من المعارف البديهيّة التي يحصل عليها الإنسان بشكل تلقائيّ، ومن دون جهد أو كسب، بل هي نوع من المعارف النظريّة
1- نهج البلاغة، ص501.
2- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص76.
79
59
الدرس السابع: التفكُّر ودوره في معرفة الله
التي نحتاج في تحصيلها إلى السعي والتفكير والتحقيق. والتفكير في الاصطلاح المنطقيّ ليس سوى ترتيب مبادئ معلومة للحصول على تصوّرات وتصديقات مجهولة.
من هنا، من الطبيعيّ أن نتّجه نحو التفكّر لبلوغ معرفة الله وسائر المعارف الضروريّة لنيل الكمال الإنسانيّ، وهو الأمر الذي جرى التأكيد عليه كثيرًا في القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾1، ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾2. وتضافرت الروايات الشريفة في الحثّ عليه. فعن الإمام الحسن عليه السلام: "التفكّر حياة قلب البصير"3، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "كان أكثر عبادة أبي ذرّ رحمه الله التفكّر والاعتبار"4، وعن الإمام عليّ عليه السلام: "التفكّر في آلاء الله نِعْمَ العبادة"5.
من خلال هذا التوضيح المتقدّم، يتجلّى السرّ في التأكيد المتعاظم من القرآن وأهل البيت عليهم السلام على التفكّر، فالتفكّر مفتاح خزائن المعرفة الإنسانيّة. وإذا لم يتفكّر الإنسان، فإنّه لن يعرف الحقائق الوجوديّة، وسوف يغفل أيضًا عن هويّته الحقيقيّة، وبالتالي لن ينال الكمال الإنسانيّ المطلوب.
وبسبب هذا التأثير المهمّ والمصيريّ للتفكّر في حياة الإنسان، اعتَبرت الروايات الإسلاميّة أنَّ "تفكّر ساعة أفضل من عبادة سنة"6 كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام. فتفكير ساعة ربّما يغيّر مصير حياة الإنسان بشكل تامّ، ولن يكون لعبادة سنة تأثير يُذكر في تكامل الإنسان إذا لم تكن معمّقة ومقرونة بالمعرفة والتعقّل والتدبّر الفكريّ. فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا عليّ، إذا تقرّب العباد إلى خالقهم بالبرّ، فتقرّب إليه بالعقل
1- سورة البقرة، الآية 219.
2- سورة الحشر، الآية 21.
3- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص28.
4- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج22، ص431.
5- الليثي، عيون الحكم والمواعظ، ص29.
6- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج68، ص337.
80
60
الدرس السابع: التفكُّر ودوره في معرفة الله
تسبقهم"1. فالتفكّر العقليّ في حقيقة النّفس وتوجّهاتها، وبالفطرة الإنسانيّة، من المتوقع أن يشرع لنا أبواب معرفة الله عزّ وجلّ، ومعرفة الهدف والغاية من وجودنا في هذا العالم. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ التفكّر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، يحسن التخلّص، ويقلّ التربّص"2.
بماذا نتفكّر؟
المراد من التفكّر هو التدبّر والتأمّل في الأمور التي لها دور أساس فاعل في سعادة الإنسان وتكامله. ومن المتوقع أن يولِد التفكّر ارتباطًا خاصًّا بالله تعالى، وبالتالي استحضار وجوده على الدوام. فالتفكّر بالله وصفاته وأفعاله ونعمه وآياته يحول دون غفلة الإنسان عن الله، وهو عامل مهمّ وأساس في زيادة توجّهه واندفاعه نحو عبادة الله سبحانه وتعالى.
1- التفكّر في صفات الله وأفعاله:
بعض الآيات القرآنيّة التي أمرت بالتفكّر، حثّت بقوّة على التفكّر في صفات الله وأفعاله. فالتفكّر في صفات الله وأفعاله، والمعرفة الدقيقة بها، يعصم الإنسان من الخلط بين الله وبين سائر المخلوقات، فلا ينسب إلى المخلوقات صفاتٍ وشؤونًا خاصّة بالله. فالإنسان، وإن كان موحّدًا وعارفًا بالله بفطرته، لكنّه ربّما يخطئ أحيانًا فيضع المخلوقات الأخرى موضع الله. والقرآن يصرّح بأنّ مشركي مكّة والجزيرة العربيّة، الذين كانوا يعبدون الأصنام، لم يكونوا ينكرون الله، بل إنّ مشكلتهم كانت في تحديد الصفات والأفعال الخاصّة بالله، ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾3. فالكثير منهم كانوا يعتقدون بوجوب عبادة هذه الأصنام للتقرّب إلى الله، ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾4.
1- عليّ الطبرسي، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، تحقيق مهدي هوشمند، نشر وطباعة دار الحديث، 1418هـ، ط 1، ص439.
2- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص135.
3- سورة العنكبوت، الآية 61.
4- سورة الزمر، الآية 3.
81
61
الدرس السابع: التفكُّر ودوره في معرفة الله
لقد كان خطؤهم في أنّهم كانوا يجهلون أنّ أصنامًا بهذه المواصفات لا يمكن أن تُعبد وتكون سببًا في قرب الإنسان من الله. ولو أنّهم كانوا يعرفون صفات الله جيّدًا، لعرفوا أنّ الله لا يأمر إطلاقًا بعبادة الصنم والسجود له. بناءً على هذا، يجب التفكّر في صفات الله كي نتجنّب الوقوعَ في الخطأ عند تحديد المصداق الصحيح. فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أفضل العبادة إدمان التفكّر في الله وفي قدرته"1.
2- التفكّر في نِعم الله:
تضافرت الآيات القرآنيّة والروايات الشريفة التي أمرت بالتفكّر والتدبّر في نِعم الله وآلائه. وثمّة آيات كثيرة في القرآن الكريم تحدّثت عن التفكّر في آلاء الله، نشير هنا إلى نماذج منها:
قوله تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾2. فلو قُدِّر لهذه الأرض أن تبقى هامدة على الدوام، ولم يُنزل الله الماء والمطر، فهل ستنمو الأشجار والنباتات على سطحها؟ وماذا سيحصل؟ فهل فكَّرنا جيّدًا في عواقب عدم وجود هذه النعمة البسيطة؟
ومنها أيضًا قوله عزّ وجلّ: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ﴾3.
فما الذي بمقدور الإنسان فعله لو كانت المياه التي على وجه الأرض مُرّة أو مالحة؟ هل فكّر الإنسان في هذا الأمر لمرّة واحدة؟
وقال عزّ اسمه أيضًا في آية ثالثة: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾4. فأيَّ بدائع أوجدها الله
1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج11، ص153.
2- سورة الروم، الآية 24.
3- سورة الواقعة، الآيات 68 - 70.
4- سورة النحل، الآيتان 68 - 69.
82
62
الدرس السابع: التفكُّر ودوره في معرفة الله
في هذا المخلوق الصغير! حقًّا كيف يمكن لحشرة صغيرة أن تقوم بإنتاج العسل بأسلوب مذهل، وعن طريق امتصاص رحيق الأزهار والنباتات؟! هذا العسل الذي يكمن فيه العلاج والشفاء لكثير من الأمراض.
والتفكّر في نِعم الله يُحفّز أكثر على عبادته وشكره على النعم التي أسبغها علينا. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "التفكّر في آلاء الله نعم العبادة"1. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديثه لمفضّل، وحثّه على التفكّر في النعم الكثيرة، ومنها الموارد المعدنيّة والطبيعيّة التي تخرج من الأرض: "فَكِّرْ يَا مُفَضَّلُ فِي هَذِهِ الْمَعَادِنِ وَمَا يُخْرَجُ مِنْهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُخْتَلِفَةِ مِثْلِ الْجِصِّ وَالْكِلْسِ وَالْجِبْسِ وَالزَّرَانِيخِ وَالْمَرْتَكِ وَالقونيا (التُّوتِيَاء) وَالزِّئْبَقِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ وَضُرُوبِ الْحِجَارَةِ، وَكَذَلِكَ مَا يُخْرَجُ مِنْهَا مِنَ الْقَارِ وَالْمُومِيَا وَالْكِبْرِيتِ وَالنِّفْطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَعْمِلُهُ النَّاسُ فِي مَآرِبِهِمْ، فَهَلْ يَخْفَى عَلَى ذِي عَقْلٍ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا ذَخَائِرُ ذُخِرَتْ لِلْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ لِيَسْتَخْرِجَهَا فَيَسْتَعْمِلَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.."2.
وخلاصة الأمر هي أنّ نعم الله سبحانه وتعالى تملأ حياة الإنسان بأسرها، وحسبُ الإنسان أن يفتح عينيه قليلًا ليرى المئات، بل الآلاف من النعم التي تحيط به ويتمتّع بها. والتفكّر في هذه النِعم يُعرِّف الإنسان إلى المبدع والمُوجد لكلّ هذه الروائع والنعم، ويسير به نحو العبادة الصحيحة له.
3- التفكّر في النفس الإنسانيّة:
ورد في القرآن الكريم طائفة من الآيات التي تدعو الإنسان إلى التفكّر، وموضوع التفكّر هو الإنسان: كيف يولد، وكيف ينمو ويترعرع، وكيف ينقذه الله من الشدائد والمصاعب، ويوصله إلى حيث الطمأنينة والاستقرار، وإلى ما هنالك من أمور مرتبطة بتكوين الإنسان وخلقته الوجوديّة. وهنا نستقرئ نماذج من هذه الآيات:
1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج11، ص158.
2- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج3، ص28.
83
63
الدرس السابع: التفكُّر ودوره في معرفة الله
﴿أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾1. في هذه الآيات، إلى جانب تذكيره تعالى بكيفيّة خلقه بيد قدرته لمخلوق معقّد كالإنسان، من نطفة من ماء مهين، يدعو الله الناس بصورة غير مباشرة إلى أن يتفكّروا في هذه القضيّة، وعبارة ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ تدلّ على أنّ الإنسان لو تمعّن فقط بقضيّة خلقه وإيجاده، لا يبقى أمامه أيُّ مجال للإنكار والتكذيب.
ولم تخلُ الروايات والأحاديث الشريفة عن ذكر خلق الإنسان، وكيفيّة بدء الخلق، ومراحل تطوّر الإنسان ونموّه في الأرحام، فعن الإمام الصادق عليه السلام في كتابه الذي أملاه إلى مفضّل: "نَبْدَأُ يَا مُفَضَّلُ بِذِكْرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَاعْتَبِرْ بِهِ، فَأَوَّلُ ذَلِكَ مَا يُدَبَّرُ بِهِ الْجَنِينُ فِي الرَّحِمِ، وَهُوَ مَحْجُوبٌ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ: ظُلْمَةِ الْبَطْنِ، وَظُلْمَةِ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةِ الْمَشِيمَةِ، حَيْثُ لَا حِيلَةَ عِنْدَهُ فِي طَلَبِ غِذَاءٍ، وَلَا دَفْعِ أَذًى، وَلَا اسْتِجْلَابِ مَنْفَعَةٍ، وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ. فَإِنَّهُ يَجْرِي إِلَيْهِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ مَا يَغْذُوهُ الْمَاءُ وَالنَّبَاتُ، فَلَا يَزَالُ ذَلِكَ غِذَاؤُه"2.
4- التفكّر في هدفيّة الخلق:
ذكر الله تعالى في أواخر سورة آل عمران ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً﴾3. يتّضح من مفهوم الآية أنَّ أولي الألباب هم الذين يدركون، من خلال التدبّر والتفكّر في خلق السماوات الأرض، أنَّ الخالق تبارك وتعالى قد وضع هدفًا وغاية من الخلق. وقال عزّ وجلّ في آية آخرى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾4. يصرّح تعالى في هذه الآية بأنّه لم يخلق السماء والأرض بدافع اللهو أو اللعب، بل رسم هدفًا وغاية من الخلق.
1- سورة المرسلات، الآيات 20 – 24.
2- المفضّل بن عمر الجعفي، التوحيد، تعليق: كاظم المظفر، بيروت - لبنان، مؤسّسة الوفاء، 1404هـ - 1984م، ط2، ص48.
3- سورة آل عمران، الآيتان 190 – 191.
4- سورة الأنبياء، الآيتان 16 – 17.
84
64
الدرس السابع: التفكُّر ودوره في معرفة الله
من هنا كانت الدعوة الإلهيّة للإنسان إلى التفكّر في هدفيّة الخلق. قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾1.
وتضافرت الروايات التي دعت إلى التفكّر في هدفيّة الخلق. فمن وصايا الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام: "اتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ، وَتَفَكَّرُوا وَاعْمَلُوا لِمَا خُلِقْتُمْ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثًا، وَلَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى، قَدْ عَرَّفَكُمْ نَفْسَهُ، وَبَعَثَ إِلَيْكُمْ رَسُولَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَهُ، فِيهِ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ وَحُجَجُهُ وَأَمْثَالُهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ، فَقَدِ احْتَجَّ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ فَقَالَ: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾2، فَهَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا تُكْلَانَ إِلَّا عَلَيْهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَآلِهِ"3.
وقَالَ عليه السلام: "يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ وَمَحَلَّ الْكِتْمَانِ، تَفَكَّرُوا وَتَذَكَّرُوا عِنْدَ غَفلَةِ السَّاهِينَ"4.
1- سورة الروم، الآية 8.
2- سورة البلد، الآيات 8 - 10.
3- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص131.
4- م.ن، ج 75، ص258.
85
65
الدرس السابع: التفكُّر ودوره في معرفة الله
المفاهيم الرئيسة
1- إنَّ المعرفة مقدّمة التوجّه، فما دمنا لا نعرف الشيء ونجهله، فمن الطبيعيّ أن لا نتوجّه له، كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "الناس أعداء ما جهلوا"1. من هنا، فإنّ التوجّه إلى الله والمعاد والنبوّة منوط بمعرفتها.
2- الإيمان بالله والآخرة وصفات الله وأفعاله ليست من المعارف البديهيّة التي يحصل عليها الإنسان بشكل تلقائيّ، ومن دون جهد أو كسب، بل هي نوع من المعارف النظريّة التي نحتاج في تحصيلها إلى السعي والتفكير والتحقيق.
3- التفكير في الاصطلاح المنطقيّ ليس سوى ترتيب مبادئ معلومة للحصول على تصوّرات وتصديقات مجهولة.
4- إنَّ التفكّر مسألةٌ ضروريّةٌ لبلوغ معرفة الله ونيل الكمال الإنسانيّ، وهو الأمر الذي جرى التأكيد عليه كثيرًا في القرآن الكريم، والروايات الشريفة.
5- المراد من التفكّر هو التدبّر والتأمّل في الأمور التي لها دور أساس فاعل في سعادة الإنسان وتكامله.
6- التفكّر بالله وصفاته وأفعاله ونعمه وآياته يحول دون غفلة الإنسان عن الله، وهو عامل مهمّ وأساس في زيادة توجّهه واندفاعه نحو عبادة الله سبحانه وتعالى.
7- التفكّر في صفات الله وأفعاله، والمعرفة الدقيقة بها، يعصم الإنسان من الخلط بين الله وبين سائر المخلوقات، فلا ينسب إلى المخلوقات صفاتٍ وشؤونًا خاصّة بالله.
8- إنَّ نعم الله سبحانه وتعالى تملأ حياة الإنسان بأسرها، وحسْبُ الإنسان أن يفتح عينيه قليلًا ليرى المئات، بل الآلاف من النعم التي تحيط به ويتمتّع بها. والتفكّر في هذه النِعم يُعرِّف الإنسان إلى المبدع والمُوجد لكلّ هذه الروائع والنعم، ويسير به نحو العبادة الصحيحة له.
9- ورد في القرآن الكريم طائفة من الآيات التي تدعو الإنسان إلى التفكّر في النفس الإنسانيّة، والتفكّر في هدفيّة الخلق.
1- نهج البلاغة، ص501.
86
66
الدرس الثامن: الإيمان وعلاقته بالمعرفة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يدرك حقيقة الإيمان بالله عزّ وجلّ.
2- يحدّد ما هو متعلَّق الإيمان؟ ويذكر المقصود من التبعيض في الإيمان.
3- يبيّن أنَّ الإيمان مراتب ودرجات، ويشرح علاقة الإيمان بمعرفة الله.
87
67
الدرس الثامن: الإيمان وعلاقته بالمعرفة
حقيقة الإيمان
الإيمان بالله يحصل في النفس من خلال التصديق المنطقيّ والاستدلاليّ، إلى جانب الإدراك والإحساس الفطريّ الذي يحصل بإرشاد الأنبياء الإلهيّين، وشرط تحققّه هو عدم وجود الموانع، ولو بنحو نسبيّ.
وإذا عمل الإنسان بلوازم الإيمان، التي هي تنفيذ القوانين الإلهيّة، وبذل تمام قدرته بإخلاص في تنفيذ هذه القوانين في حياته الفرديّة والاجتماعيّة، فسيحصل على مرتبة أعلى، إلى أن يصل إلى اليقين، كما يقول الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ الإيمان يبدو لُمظة بيضاء في القلب، فكلّما ازداد الإيمان عظمًا ازداد البياض، فإذا استُكمل الإيمانُ ابيضَّ القلب كلّه"1.
والإيمان أمرٌ اختياريّ، يجب أن يتحقّق باختيار الإنسان نفسه. والشاهد على اختياريّة الإيمان هو أنّ الله تعالى يأمرنا به، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ﴾2، ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾3. فإذا كان الإيمان أمرًا جبريًّا وخارجًا عن إرادتنا، فلا معنى لأمرنا به.
إنّ الإيمان بشيء يتبلور في القلب عندما نقرّر ونتعهّد بالالتزام والعمل بلوازمه، بعد إدراكنا لحقيقته. أمّا إذا علمنا بشيء ولكن لم نعزم على الالتزام بلوازمه، فهنا يكون لدينا علم فقط، ولا يتحقّق الإيمان.
1- الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، صحّحه وعلّق عليه: عليّ أكبر الغفاري، دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم، لا.ت، ط2، ج5، ص108.
2- سورة النساء، الآية 170.
3- سورة التغابن، الآية 8.
89
68
الدرس الثامن: الإيمان وعلاقته بالمعرفة
ويكفي لبيان حقيقة الإيمان ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: "الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان"1.
وعن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عليّ، اكتب، فقلت: ما أكتب: فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وَقَرَ في القلوب، وصدّقته الأعمال"2.
ما هو متعلّق الإيمان؟
من الأسئلة المهمّة التي يجدر طرحها فيما يخصّ الإيمان هي مسألة متعلّق الإيمان، بأيِّ شيء علينا أن نؤمن؟
إنَّ الله تعالى بيَّن متعلّق الإيمان في العديد من آياته الكريمة، منها قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾3.
الوارد في هذه الآية أنَّ متعلّق الإيمان هو الإيمان بالله ويوم القيامة والملائكة والكتاب السماويّ والأنبياء عليهم السلام. والإيمان بسائر الأمور التي تقدّم ذكرها هو في الواقع من لوازم الإيمان بالله وآثاره. وإذا ما آمنا بالله، فيجب أن نؤمن بصفاته أيضًا. ومن صفات الله الحكمة، ومقتضى حكمة الله بعث الأنبياء.
وعليه، فإنَّ الإيمان بالله يثمر الإيمان بالأنبياء، والإيمان بالأنبياء يورث الإيمان بالكتب السماويّة التي يأتي بها الأنبياء من عند الله، كما أنّ لازم الإيمان بالأنبياء القبول بالملائكة والإيمان بوجودهم، لأنّهم واسطة الوحي الإلهيّ، ومن لوازم الإيمان بالله والأنبياء والكتب السماويّة الإيمانُ بالمعاد ويوم القيامة.
1- نهج البلاغة، ص508.
2- ميرزا حسين النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل، بيروت - لبنان، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1408هـ - 1987م، ط1، ج5، ص111.
3- سورة البقرة، الآية 177.
90
69
الدرس الثامن: الإيمان وعلاقته بالمعرفة
ومن الموارد القرآنيَّة الأخرى حول متعلّق الإيمان نذكر:
- ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾1.
- ﴿مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾2.
- ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾3.
- ﴿وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾4.
- ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾5.
- ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾6.
هذه النماذج القرآنيّة يعضدها الكثير من الروايات الشريفة، منها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أربع لم يجد رجلٌ طعم الإيمان حتّى يؤمن بهنّ: أن لا إله إلّا الله، وأنّي رسول الله بعثني بالحقّ، وأنّه ميّت ثمّ مبعوث من بعد الموت، ويؤمن بالقدر كلّه"7.
التبعيض في الإيمان
المقصود من التبعيض في الإيمان أن يؤمن المرء ببعض الحقائق والأحكام الإلهيّة، وينكر أو يكفر ببعض، كالإيمان ببعض الأنبياء عليهم السلام وإنكار بعض، أو كالإيمان ببعض الأحكام وإنكار بعضها. ويُعتبر التبعيض في الإيمان من مصاديق الكفر، فمَن يكفر بالمعاد ويؤمن بالنبوّة مثلًا هو كافرٌ.
وللدلالة على هذه الحقيقة نعرض آيتين من آيات القرآن الكريم، يقول سبحانه في واحدة منهما: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ
1- سورة البقرة، الآية 285.
2- سورة المائدة، الآية 69.
3- سورة الأعراف، الآية 158.
4- سورة الأنعام، الآية 54.
5- سورة التغابن، الآية 8.
6- سورة التغابن، الآية 11.
7- ميزان الحكمة، ج1، ص201.
91
70
الدرس الثامن: الإيمان وعلاقته بالمعرفة
نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾1، وفي الآية الأخرى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾2.
يصرّح القرآن في هذه الآيات الشريفة أنَّ مَنْ يؤمن ببعض مضمون الوحي والرسالة وينكر بعضًا منه هو الكافر حقًّا، لأنَّ مقتضى الإيمان بالله تعالى هو الإيمان الكامل بجميع صفاته وأسمائه ورسله وملائكته، وبجميع مضامين الوحي والرسالات السماويّة.
وإذا كان المِلاك في قَبول بعض الحقائق الإيمانيّة وإنكار بعض، موافقتُه لهواه، فهذا في الحقيقة عبادة للنفس وليس عبادة لله! وهذا الإنسان يسعى لإرضاء نفسه، وليس لطاعة الله وعبادته.
والذي يؤمن في باطنه بأنّ بعض تعاليم الإسلام وأحكامه ليست صحيحة، وأنّ القرآنَ شأنه كسائر الكتب خاضع للانتقاد، فهو كافر في الحقيقة، وهذا الكفر كفر باطنيّ يجتمع مع الإسلام الظاهريّ.
والذي يستبطن الكفر هو من أهل جهنّم والنيران، وإنْ عومل في الدنيا معاملة المسلم حسب الظاهر، لأنّ التلفّظ بالشهادتين هو الملاك في ترتب الأحكام الظاهريّة للإسلام، فإذا تلفّظ شخص ما بالشهادتين، واعتنق الإسلام ظاهريًّا، لن يترتب خلل في الأحكام الظاهريّة، وإن لم يؤمن في باطنه، كالمنافقين في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بأنّهم لم يؤمنوا بالإسلام في قلوبهم، لكنّه كان يتعامل معهم ظاهريًّا كسائر المسلمين.
إنّ أوّل مراتب الإيمان هو أن نؤمن، بدون أدنى نقص وبدون أي قيد أو شرط، بجميع مضامين الوحي الإلهيّ الذي نزل على جميع الأنبياء، وبكلّ مضامين الشريعة الإسلاميّة وما نزل على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
1- سورة النساء، الآيتان 150 – 151.
2- سورة البقرة، الآية 85.
92
71
الدرس الثامن: الإيمان وعلاقته بالمعرفة
فتلك هي أدنى مراتب الإيمان كما ذكر أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: "أدنى ما يكون به العبد مؤمنًا أن يعرّفه الله تبارك وتعالى نفسَه، فيقرّ له بالطاعة، ويعرّفه نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم فيقرّ له بالطاعة، ويعرّفه إمامَه وحجّته في أرضه وشاهدَه على خلقه فيقرّ له بالطاعة". قال سليم: قلت له: يا أمير المؤمنين، وإن جهل جميع الأشياء إلّا ما وصفت؟ قال عليه السلام: "نعم، إذا أُمر أطاع، وإذا نُهي انتهى"1.
الإيمان مراتب ودرجات
للإيمان مراتب ودرجات متعدّدة، وليس المؤمنون على حدٍّ سواء في إيمانهم بالله. ويمكننا الاستدلال على هذه الحقيقة من خلال الآيات القرآنيّة والروايات والأحاديث الشريفة. ومن الآيات القرآنيّة نذكر:
- ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾2.
- ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾3.
- ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً﴾4.
- ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾5
استنادًا إلى مثل هذه الآيات، فإنَّ أصل القول بأنَّ الإيمان على درجات وهو خاضع للزيادة والنقصان، أمرٌ يقينيّ ولا مجال للشكّ فيه، ولكن ما هي مراتب الإيمان؟
لقد أشارت الروايات الشريفة إلى تفصيل ذلك الأصل، وذكرت درجات الإيمان المتعدّدة بشكل عامّ. فثمّة رواية عن الإمام الصادق عليه السلام يقول فيها: "إنّ الإيمان عشر درجات،
1- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص415.
2- سورة الأنفال، الآية 2.
3- سورة الفتح، الآية 4.
4- سورة آل عمران، الآية 173.
5- سورة الأحزاب، الآية 22.
93
72
الدرس الثامن: الإيمان وعلاقته بالمعرفة
وإنَّ سلمان في العاشرة، وأبو ذرّ في التاسعة، والمقداد في الثامنة"1.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لستَ على شيء، حتّى ينتهي إلى العاشر، فلا تُسقِط مَن هو دونك فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة، فارفعه إليك برفق، ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنَّ من كسر مؤمنًا فعليه جبره"2.
ومن الواضح أنّ مثل هذه الروايات في مقام بيان الأقسام والمراتب العامّة للإيمان، ولا تتعرّض للمراتب والتقسيمات التفصيليّة له. فالإيمان يمكن تقسيمه إلى ما لا نهاية، كما ينقسم جزءٌ من خطّ إلى أجزاء أصغر، ثمَّ إلى ما لا نهاية.
من هنا، ليس مبالغة إذا ما قيل إنّ مراتب الإيمان من الكثرة بحيث تميل إلى مراتب كثيرة جدًّا، فتلك الرواية - مثلًا - التي تقول إنّ الإيمان عشر درجات، يمكن افتراض الكثير من المراتب الجزئيّة ما بين كلٍّ من هذه المراتب العشر المذكورة فيها.
علاقة الإيمان بمعرفة الله
للوهلة الأولى يتبادر إلى الذهن أنّ الإيمان بالله يعني أن نعلم بأنّ الله موجود، ولكن من خلال الرجوع إلى القرآن الكريم يتّضح خطأ هذه النظريّة. فالقرآن لا يرى التماثل بين المعرفة والإيمان، بل يستفاد من القرآن أنّ المعرفة أوسع مدًى من الإيمان، فلا يُستنتَج من القرآن الكريم والروايات الشريفة أن كلّ مَن علم بوجود الله آمن به، أو إذا ما تبيّنت له نبوّة نبيّ من الأنبياء فذلك يعني إيمانه بذلك النبيّ، بل على العكس، القرآن الكريم يُشير إلى موارد متعدّدة حيث علم بعض الناس، بل أيقن بالنبوّة ووجود الله، لكنّه أصرَّ على كفره وجحوده:
1- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج99، ص292، ح2.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص45.
94
73
الدرس الثامن: الإيمان وعلاقته بالمعرفة
يقول تعالى عن آل فرعون: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾1، فهذه الآية صريحة بأنَّ أولئك كانوا يعلمون تمام العلم أنّ الله موجود وأنّ موسى عليه السلام نبيّ ذلك الإله، لكنّهم، ونظرًا لروح التعالي والظلم التي كانوا عليها، كانوا ينكرون هذه القضيّة. وفي آية أخرى يخاطب موسى عليه السلام فرعون قائلًا: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾2. وتدلّ أداتي التأكيد "اللّام" و"قد" في الآية الكريمة، أنّ فرعون كان يعلم أنّ هذه المعجزات التي تحقّقت على يدي موسى عليه السلام لم تنزل إلّا من عند الله مالك الملك وربّ السماوات والأرض.
إذًا، هذه الآية تصرِّح بأنّ فرعون كان متيقّنًا بوجود الله ونبوّة موسى عليه السلام، ولكن هل كان مؤمنًا؟ والجواب أنَّه ليس منكرًا فقط ولم يؤمن، بل ظلَّ مصرًّا على كفره، ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾3. ثم إنّه، ولغرض خداع الناس، أمر وزيره هامان بأن يبني له برجًا كي يبحث مِن أعلاه عن الله عزّ وجلّ في السماء، ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾4.
ومن الحوادث التاريخيّة الدالّة على عدم الملازمة بين المعرفة والإيمان، واقعة المباهلة التي حدثت في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، حيث جاءت مجموعة من النصارى الذين كانوا يعيشون في منطقة "نجران" لمحاورة النبيّ ومناظرته صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لهؤلاء في نجران قوّة وجاه ومركز اجتماعيّ وعلميّ ذائع الصيت، وكان يعيش بينهم كبار علماء النصارى، فأغراهم هذا الرصيد العلميّ، وظنّوا أنّهم قادرون على التغلّب على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في البحث والمناظرة، وظنوا أنَّهم قادرون أن يثبتوا له صلى الله عليه وآله وسلم حقّانيّة المسيحيّة ووجوب اتّباعها. وافق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على المناظرة، وعلى العكس ممّا كانوا يتصوّرون في
1- سورة النمل، الآية 14.
2- سورة الإسراء، الآية 102.
3- سورة القصص، الآية 38.
4- سورة غافر، الآيتان 36 – 37.
95
74
الدرس الثامن: الإيمان وعلاقته بالمعرفة
البداية، فإنَّهم غُلبوا وعجزوا أمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المحاورة، ولم يكن لديهم ما يقولون، لكنّهم، رغم ذلك، رفضوا اعتناق الإسلام، فبان كذِب دعواهم، ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾1.
بناءً على هذا، ليس من الضرورة أن يكون هنالك إيمان إذا ما وُجدت المعرفة، ولكن في المقابل لا بدّ من وجود نوع من العلم والمعرفة كي يحصل الإيمان، فالإنسان يعجز عن الإيمان بشيء وهو جاهل به جهلًا تامًّا.
فمجرّد علم الإنسان - مثلًا - بأنّ الله موجود، أو اتّضاح حقّانيّة وصدق دعوة نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم بالنسبة إليه، لا يُعدُّ كافيًا لإسعاده، بل بالإضافة إلى العلم، عليه أن يؤمن بقلبه أيضًا، ويعمد إلى العمل بلوازم هذا العلم، ولهذا السبب يتعذّر الإيمان دون عمل.
1- سورة آل عمران، الآية 61.
96
75
الدرس الثامن: الإيمان وعلاقته بالمعرفة
المفاهيم الرئيسة
1- الإيمان بالله يحصل في النفس من خلال التصديق المنطقيّ والاستدلاليّ، إلى جانب الإدراك والإحساس الفطريّ الذي يحصل بإرشاد الأنبياء الإلهيّين، وشرط تحققّه هو عدم وجود الموانع، ولو بنحو نسبيّ.
2- إنّ الإيمان بشيء، يتبلور في القلب عندما نقرّر ونتعهّد بالالتزام والعمل بلوازمه، بعد إدراكنا لحقيقته، أمّا إذا علمنا بشيء ولكن لم نعزم على الالتزام بلوازمه، فهنا يكون لدينا علم فقط، ولا يتحقّق الإيمان.
3- إنَّ الله تعالى بيَّن متعلّق الإيمان في العديد من آياته الكريمة، منها قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾1.
4- الإيمان بالله يثمر الإيمان بالأنبياء، والإيمان بالأنبياء يورث الإيمان بالكتب السماويّة التي يأتي بها الأنبياء من عند الله، كما أنّ لازم الإيمان بالأنبياء القبول بالملائكة والإيمان بوجودهم، لأنّهم واسطة الوحي الإلهيّ. ومن لوازم الإيمان بالله والأنبياء والكتب السماويّة الإيمانُ بالمعاد ويوم القيامة.
5- المقصود من التبعيض في الإيمان أن يؤمن المرء ببعض الحقائق والأحكام الإلهيّة، وينكر أو يكفر ببعض، كالإيمان ببعض الأنبياء عليهم السلام وإنكار بعض، أو كالإيمان ببعض الأحكام وإنكار بعضها. ويُعتبر التبعيض في الإيمان من مصاديق الكفر، فمَن يكفر بالمعاد ويؤمن بالنبوّة مثلًا هو كافرٌ.
6- للإيمان مراتب ودرجات متعدّدة، وليس المؤمنون على حدٍّ سواء في إيمانهم بالله. ويمكننا الاستدلال على هذه الحقيقة من خلال الآيات القرآنيّة والروايات والأحاديث الشريفة.
7- إنَّ مجرّد علم الإنسان بأنّ الله موجود، أو اتّضاح حقّانيّة وصدق دعوة نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم بالنسبة إليه، لا يُعدُّ كافيًا لإسعاده، بل بالإضافة إلى العلم، عليه أن يؤمن بقلبه أيضًا، ويعمد إلى العمل بلوازم هذا العلم، ولهذا السبب يتعذّر الإيمان دون عمل.
1- سورة البقرة، الآية 177.
97
76
الدرس التاسع: العمل الصالح ودوره في الإيمان بالله
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن المقصود من العمل الصالح.
2- يوضّح علاقة الإيمان بالعمل الصالح.
3- يشرح أثر الذنب على الإيمان.
99
77
الدرس التاسع: العمل الصالح ودوره في الإيمان بالله
المقصود من العمل الصالح
إنّ ما يمضي قدمًا بالإنسان في مسيرة القرب إلى الله هو العمل الصالح، والعمل الصالح هو العمل الذي فيه مرضاة الله، وهو حرث الآخرة كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الْعَمَلَ الصَّالِحُ حَرْثُ الْآخِرَة"1.
وورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام أنّه قَالَ: "إِنَّكُمْ لَا تَكُونُونَ صَالِحِينَ حَتّى تَعْرِفُوا، وَلَا تَعْرِفُوا حَتّى تُصَدِّقُوا، وَلَا تُصَدِّقُوا حَتّى تُسَلِّمُوا أَبْوَابًا أَرْبَعَةً لَا يَصْلُحُ أَوَّلُهَا إِلَّا بِآخِرِهَا، ضَلَّ أَصْحَابُ الثَّلَاثَةِ، وَتَاهُوا تَيْهًا بَعِيدًا، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى لَا يَقْبَلُ إِلَّا الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ وَالْعُهُودِ، فَمَنْ وَفى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِشَرْطِه، واسْتَعْمَلَ مَا وَصَفَ فِي عَهْدِه، نَالَ مَا عِنْدَه، واسْتَكْمَلَ مَا وَعَدَه. إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى أَخْبَرَ الْعِبَادَ بِطُرُقِ الْهُدَى، وشَرَعَ لَهُمْ فِيهَا الْمَنَارَ، وأَخْبَرَهُمْ كَيْفَ يَسْلُكُونَ، فَقَالَ: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾2.3
ويُطلَق العمل الصالح في المصطلح القرآنيّ على العمل الطيّب والصالح في نفسه، الذي يقوم به الفرد بنيّة التقرّب إلى الله ونيل رضاه، فمثل هذا العمل هو الذي يرتقي بالإنسان، ويتسلّق به سُلَّم الكمال، ويسمّى هذا العمل في الثقافة الإسلاميّة والقرآنيّة "عبادة".
ولا تُطلق العبادة على الصلاة والصيام والحجّ وما شابهها فقط، بل إنَّ كلّ عمل صالح وحَسَنٍ في ذاته ويُفعل بنيّة نيل رضى الله، سيكون عبادة، كما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام
1- الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص57.
2- سورة طه، آية 82.
3- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص445.
101
78
الدرس التاسع: العمل الصالح ودوره في الإيمان بالله
حيث قال: "مِن أشدّ ما فرض الله على خلقه ذِكرُ الله كثيرًا، ثمَّ قال: لا أعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، وإن كان منه، ولكنّ ذكر الله عند ما أحلّ وحرّم، فإن كان طاعة عمل بها، وإن كان معصية تركها"1.
وهذا المعنى هو المراد من العبادة في الآية الكريمة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾2. إنّ الهدف المرسوم للإنسان هو القرب من الله، وما يرفع الإنسان إلى مقام القرب هو أعماله الصالحة، ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾3.
الأعمال التي تقرّب من الله
إنّ الإيمان الكامل هو الذي يكون القلب معه لله وحده دون سواه، فتكون جميع تحرّكات هذا الإنسان إلهيّة، وعندها يصبح في أعلى درجات الاستعداد لاستقبال ألطاف الحقّ ومواهبه السنيّة.
أمّا الوسيلة الفضلى لنيل هذه الدرجة من الإيمان وتعميقها وترسيخها في القلب، فهي العمل الصّالح، ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾4. والسؤال هنا: ما هذه الأعمال المقرّبة إلى الله والهادية إليه؟
يمكن الإجابة على هذا السؤال من خلال معرفتنا أنّ أعمال الإنسان وأفعاله تُقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- الأعمال التي محورها الإنسان نفسه:
هناك فئة من الأعمال التي نقوم بها ليس لها علاقة بالآخرين، بل مردودها ومحورها الإنسان نفسُه. ومثال ذلك: تناول الطعام، وشرب الماء، وأفعال من هذا القبيل، فهي أفعال لا يلتفت الإنسان في أدائها إلى ما سواه، ويضع نفسه فقط في الحسبان.
1- المجلسي، محمد تقي، روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه، ج12، ص74.
2- سورة الذاريات، الآية 56.
3- سورة فاطر، الآية 10.
4- سورة طه، الآية 75.
102
79
الدرس التاسع: العمل الصالح ودوره في الإيمان بالله
2- الأعمال التي محورها مخلوقات الله والآخرون:
هذا النوع الثاني من أفعالنا يمكن تصنيفه إلى عدّة أصناف، مثل: التعامل مع العائلة والأقارب، التعامل مع الأصدقاء، التعامل مع مختلف طبقات الناس داخل المجتمع، والتعامل مع الأعداء، بل وحتّى التعامل مع الحيوانات ومع الأرض والطبيعة والبيئة وما شابه ذلك.
3- الأعمال التي محورها الله سبحانه وتعالى:
وهي تلك المجموعة من أعمالنا التي ترتبط بالله جلّ وعلا، ونحن لا نقوم بها من أجل أنفسنا أو من أجل الآخرين بالذّات، بل نضع الله في نظر الاعتبار. وأبرز مثال على هذه الأفعال أداء الصلاة التي نؤدّيها تعظيمًا لله وعبادة له.
ويمكن لأيّ فعل أو حركة تصدر عن الإنسان أن تكون محلّ تقرّب وسموّ، فيصدق على هذا الفعل مفهوم العبادة الحقّة، ويدخل في دائرة الأعمال المقرّبة من الله، والتي يكون محورها الله عزّ وجلّ وحده، وتصدر من الإنسان ابتغاء مرضاته.
علاقة الإيمان بالعمل الصالح
يُعتبر الإيمانُ بالله عزّ وجلّ والعملُ الصالح شرطين لنيل كمال الإنسان وسعادته. واقترن ذكرهما وجرى التركيز على تلازمهما في الكثير من الآيات القرآنيّة، والعديد من الروايات الشريفة.
ومن نماذج ذلك الاقتران في الآيات القرآنيّة:
- ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾1.
- ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾2.
- ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾3.
1- سورة البقرة، الآية 25.
2- سورة النساء، الآية 124.
3- سورة الرعد، الآية 29.
103
80
الدرس التاسع: العمل الصالح ودوره في الإيمان بالله
- ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾1.
- ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾2.
يتبيّن من التأمّل في الآيات الكريمة علاقةُ الملازمة بين الإيمان وبين العمل الصالح، فبعد أن يذكر الله عزّ وجلّ الإيمان، يردفه بالعمل الصالح. وهذا، إن دلَّ على شيء، فإنَّه يدلّ على ارتباط الإيمان بالله بالعمل الصالح، بل إنَّ العمل الصالح من لوازم الإيمان كما أسلفنا سابقًا، بل إنَّ الإيمان كلّه عَمَلٌ كما ذكر الإمام الصادق عليه السلام: "الإيمان عمل كلّه، والقول بعض ذلك العمل، بفرض من الله بيّنه في كتابه"3.
وفي السياق نفسه ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "الإيمان والعمل أخوان شريكان في قرن، لا يقبل الله أحدهما إلّا بصاحبه"4.
ولكن كيف يؤدّي القيام بالأعمال الصالحة إلى توطيد إيمان الإنسان؟
إنّ قيمة كلّ الأعمال الصالحة تكمن في ارتباطها بالله تعالى، وقد يتوجّه الإنسان إلى هذه الروح بشكل تامّ وعن قصد ومعرفة، وقد يكون توجّهه ضعيفًا وعن شبه معرفة. من هنا، فإنّ روح العمل الصالح هي التوجّه إلى الله، وهي التي تؤدّي إلى زيادة إيماننا بالله.
ومن المفاهيم التي يستخدمها القرآن بخصوص الإيمان، مفهوما النور والظلمة، ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾5.
إنّ الله جلّ وعلا يصوِّر للإنسان عالمًا من النور، يقابله عالمٌ من الظلام والعتمة، وبعض الناس ينتقلون من عالم الظلام إلى عالم النور، وآخرون على العكس ينتقلون من عالم النور إلى عالم الظلمة. ومَثَل الذي يحطّ أقدامه من عالم الظلام إلى عالم النور كالحائر في صحراء
1- سورة الكهف، الآية 30.
2- سورة الطلاق، الآية 11.
3- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص39.
4- جلال الدين السيوطي، الجامع الصغير، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401هـ - 1981م، ط1، ج1، ص479.
5- سورة البقرة، الآية 257.
104
81
الدرس التاسع: العمل الصالح ودوره في الإيمان بالله
مظلمة، وإذا ببصيص نور وضوء يشدّ انتباهه، وبرؤيته لذلك البصيص من النور يحيا في قلبه الأمل، وينطلق ويتحرّك نحو ذلك النور، وكلّما تقدّم إلى الأمام يزداد ذلك الشعاع حتّى يصل إلى مصدر النور نفسه.
فالمنتقل إلى الإيمان إنّما كان ميتًا أحياه الله بنور الإيمان، هذا اللطف الذي حَرم الكافرُ نفسَه منه بالظلام الذي خلقه بنفسه والطوق الذي فرضه عليها، ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾1.
وفي مقابل عالم النور يقف عالم الظلام، فكلّما تمادى الإنسان في سيره نحو الأهواء النفسيّة ونحو الشيطان، ابتعد عن مصدر النور وعالمه، وانغمر في عالم الظلمات. وإذا ما أردنا أن يأخذ الله بأيدينا ويخرجنا من عالم الظلمات إلى عالم النور، فإنّ شرطه هو الإيمان لقوله تعالى: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾2، أي إنّ المِلاك في أن يتعهّد الله ولاية بعضٍ وهدايتهم هو أنّهم "آمنوا به".
والعمل الصالح ضروريّ للمضيّ قدمًا في عالم النور، وهو الذي ينبض فيه روح الإيمان، ويكون منبثقًا عن الإيمان، فكلّما كانت هذه الروح قويّة كان العمل الصالح أكثر قوّة وقدرة على التقدّم، مانحًا الإنسان نورانيّة أكثر. يقول القرآن الكريم: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾3.
يقول العلّامة الطباطبائيّ رحمه الله معقِّبًا على هذه الآية: "الذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيّب، وهو الاعتقاد والعلم، وأمّا العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيّب والإمداد، دون الصعود إليه تعالى"4.
إنّ أولى الدرجات التي يرِدُها الإنسان هي الكلم الطيّب، أي الاعتقاد والعلم بالله. فالمقصود من الكلم الطيّب في الآية هي كلمة "لا إله إلّا الله"، كلمة التوحيد. قال رسول
1- سورة الأنعام، الآية 122.
2- سورة البقرة، الآية 257.
3- سورة فاطر، الآية 10.
4- العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص37.
105
82
الدرس التاسع: العمل الصالح ودوره في الإيمان بالله
الله صلى الله عليه وآله وسلم لجابر الأنصاريّ: "اذهب فنادِ في الناس أنّه من شهد أنْ لا إله إلّا الله، موقنًا أو مخلصًا، فله الجنّة"1.
والإيمان بالتوحيد يوجّه الإنسان نحو الله، وما يؤدّي إلى رفع هذا الإيمان هو العمل الصالح، لأنّ العمل الصالح متّحدٌ مع الإيمان، فجوهر العمل الصالح هو التوجّه إلى الله.
كما أنّ مراتب التوجّه نحو الله تعالى متفاوتة، فقد يكون التوجّه عن وعي تامّ ومتمركز، وفي هذه الحالة لا يتوجّه الإنسان إلى أيّ شيء سوى الله. والصلوات التي كان يؤدّيها الأئمّة الأطهار عليهم السلام من هذا القبيل، فهم كانوا يغفلون عن كلّ شيء، ويتوجّهون نحو الله وحده في مثل هذه المواقف. ومثل هذا العمل الصالح بمقدوره أن يسير بالإنسان أميالًا إلى الأمام في غضون لحظة واحدة.
أثر الذنب على الإيمان
إنَّ العمل الصالح ينسجم مع جوهر الإيمان، ويؤدّي إلى توطيده، وفي المقابل يؤدّي ارتكاب الذنوب والمعاصي إلى تبعيّة للشيطان، والابتعاد عن الله، والإعراض عنه. فبمجرّد إعراض الإنسان عن الله، يتغيّر مساره، ومع أوّل ذنب وإعراضٍ عن الله، يكون الإنسان قد انزلق خطوة واحدة، يليه الذنب الثاني والخطوة الثانية، وهكذا كلّما استمرّ الإنسان بالذنب والمعصية، يزداد الانحدار. وإذا ما تحوّل الذنب إلى مَلَكة، سيكون في حالة سقوط وانحدار دائم نحو جهنّم وأسفل السافلين، إلّا أن تدركه بارقةٌ ويناله توفيق، فيرجع إلى الله، وتشمله التوبة. على أيّ حال، مثلما أنّ العمل الصالح ينمّي الإيمان، فإنّ الذنب يُضعفه ويمهّد الأرضيّة للكفر.
إنّ الإنسان لا يقع فجأة، ودون مبرِّر، في الكفر بعد الإيمان، وإنّما الذنب هو الذي يمهّد لذلك تدريجيًّا. وهنالك موارد في القرآن الكريم تصرّح بأنّ الذين سقطوا بالكفر والنفاق إنّما كان سقوطهم نتيجة لارتكاب الذنب، ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ *
1- ميزان الحكمة، ج1، ص195.
106
83
الدرس التاسع: العمل الصالح ودوره في الإيمان بالله
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾1. فهنا يصرّح تعالى بأنّ النفاق إنّما ظهر في قلوب هؤلاء بسبب نكثهم للعهد، ونقضهم للميثاق الذي واثقوا به الله سبحانه وتعالى، وبسبب أكاذيبهم.
ويقول تعالى في آية أُخرى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾2، فنهاية الذنب وارتكاب المعصية تكذيبُ آيات الله والاستهزاءُ بها. والذين يرتكبون الذنب تلو الذنب ولم يتوبوا، لا يصل بهم الأمر إلى فقدان الرغبة والاندفاع للمسير نحو الله فحسب، بل يَنبرون لمواجهة الله والتكذيب بآياته والاستهزاء بها! ومن مظاهر الاقتراب من مثل هذه الحالة - مثلًا - أنّ المرء إذا ما أراد أداء ركعتي الصلاة، فذلك بالنسبة إليه كالجبل في ثقله! وفي المقابل لا يملّ إذا ما استغرق ساعات عديدة في مشاهدة فيلم أو الأحاديث البذيئة التي لا طائل منها، بَيْدَ أنّ دقيقتين يقضيهما لأداء الصلاة يُعدّ أمرًا ثقيلًا وصعبًا على نفسه! ويصف القرآن الكريم الصلاة فيقول: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾3. وهذه الحالة سببها الذنوب التي يرتكبها الإنسان.
1- سورة التوبة، الآيات 75 – 77.
2- سورة الروم، الآية 10.
3- سورة البقرة، الآية 45.
107
84
الدرس التاسع: العمل الصالح ودوره في الإيمان بالله
المفاهيم الرئيسة
1- العمل الصالح هو العمل الذي فيه مرضاة الله، وهو حرث الآخرة كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الْعَمَلَ الصَّالِحُ حَرْثُ الْآخِرَة"1.
2- يُطلَق العمل الصالح في المصطلح القرآنيّ على العمل الطيّب والصالح في نفسه، الذي يقوم به الفرد بنيّة التقرّب إلى الله ونيل رضاه، فمثل هذا العمل هو الذي يرتقي بالإنسان، ويتسلّق به سُلَّم الكمال، ويسمّى هذا العمل في الثقافة الإسلاميّة والقرآنيّة "عبادة".
3- إنَّ أعمال الإنسان وأفعاله تُقسم إلى ثلاثة أقسام: الأعمال التي محورها الإنسان نفسه، والأعمال التي محورها مخلوقات الله والآخرون، والأعمال التي محورها الله سبحانه وتعالى.
4- يُعتبر الإيمانُ بالله عزّ وجلّ والعملُ الصالح شرطين لنيل كمال الإنسان وسعادته، واقترن ذكرهما وجرى التركيز على تلازمهما في الكثير من الآيات القرآنيّة، والعديد من الروايات الشريفة.
5- إنّ قيمة كلّ الأعمال الصالحة تكمن في ارتباطها بالله تعالى. وقد يتوجّه الإنسان إلى هذه الروح بشكل تامّ وعن قصد ومعرفة، وقد يكون توجهه ضعيفًا وعن شبه معرفة. من هنا، فإنّ روح العمل الصالح هي التوجّه إلى الله، وهي التي تؤدّي إلى زيادة إيماننا بالله.
6- إنَّ العمل الصالح ينسجم مع جوهر الإيمان، ويؤدّي إلى توطيده، وفي المقابل يؤدّي ارتكاب الذنوب والمعاصي إلى تبعيّة للشيطان، والابتعاد عن الله، والإعراض عنه. فمثلما أنّ العمل الصالح ينمّي الإيمان، فإنّ الذنب يُضعفه ويمهّد الأرضيّة للكفر.
7- إنّ الإنسان لا يقع فجأة، ودون مبرِّر، في الكفر بعد الإيمان، وإنّما الذنب هو الذي يمهّد لذلك تدريجيًّا. وهنالك موارد في القرآن الكريم تصرّح بأنّ الذين سقطوا بالكفر والنفاق إنّما كان سقوطهم نتيجةً لارتكاب الذنب.
1- الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص57.
108
85
الدرس العاشر: طرق تعزيز الإيمان بالله
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يدرك عوامل تعزيز الإيمان بالله عزّ وجلّ.
2- يبيّن سُبل تعزيز العلم والمعرفة من خلال البحث عن الأدلّة الواضحة والمحافظة على العلم المكتسب.
3- يشرح تأثير العمل الصالح على الإيمان بالله، ويذكر نماذج قرآنيّة لتعزيز الإيمان.
109
86
الدرس العاشر: طرق تعزيز الإيمان بالله
عوامل تعزيز الإيمان بالله عزّ وجلّ
بعد أن تبيّن أنّ الإيمان مراتب ودرجات، وأنّ الإنسان بمقدوره ارتقاء هذه المراتب بالعمل على تكامل إيمانه، يتبادر إلى أذهاننا السؤال الآتي: ما هي طريق الارتقاء بالإيمان، وبلوغ مراتبه العليا؟ وما الذي علينا فعله إن أردنا الارتقاء بإيماننا، والسموّ دائمًا في مراتب القرب والتكامل؟
للإجابة على هذا السؤال، حريٌّ بنا أن نتعرّف إلى الأمور التي تؤدّي إلى تبلور الإيمان، لكي نعمل على تعزيزه أكثر فأكثر في نفوسنا.
لا بدّ من معرفة عناصر الإيمان من أجل تقويتها بشكل تدريجيّ، فننطلق من العوامل الأكثر بساطةً، وبعد تعزيزها نتحوّل تدريجيًّا إلى العوامل الصعبة والأكثر تعقيدًا، فنعمل على تقويتها.
لقد أشرنا آنفًا أنَّ في الإيمان عنصرين على الأقلّ: أحدهما يتعلّق بمقولة العلم والمعرفة، والآخر بالعمل الصالح، وتقوية الإيمان. والارتقاء في مراتب الإيمان ودرجاته رهنٌ بتقوية هذين العاملَين.
تعزيز العلم والمعرفة
على الإنسان المؤمن أن يعمل على توطيد معرفته وعلمه أكثر فأكثر بالله سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله، كي يزداد إيمانًا، كما أنّ تعميق المعرفة والارتباط بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام مؤثّرٌ في ازدياد الإيمان أيضًا، فكلّما تحوّلت معرفته الإجماليّة بهذه الأصول الدينيّة إلى معرفة تفصيليّة، يغدو متعلّق الإيمان أكثر شفافية ووضوحًا بالنسبة
111
87
الدرس العاشر: طرق تعزيز الإيمان بالله
إليه، ويكون بمقدوره الإيمانُ به بسهولة أكثر.
وللحصول على علم ومعرفة تفصيليّة بمقدّمات الإيمان، ينبغي القيام بأعمال عدّة لإنجاز هذا الأمر، ولكن ثمّة عملان ربّما يكونان الأهمَّ من بين سائر الأعمال، هما:
1- البحث عن الأدلّة الواضحة:
ينبغي أن نسعى لأن نعثر على أدلّة وبراهين أكثر وضوحًا وإتقانًا على الأمور التي نؤمن بها لنتعلّمها، عملًا بوصيّة الإمام أَبي جَعْفَرٍعليه السلام: "يَا أَبَا حَمْزَةَ، يَخْرُجُ أَحَدُكُمْ فَرَاسِخَ فَيَطْلُبُ لِنَفْسِهِ دَلِيلًا، وَأَنْتَ بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَجْهَلُ مِنْكَ بِطُرُقِ الْأَرْضِ، فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ دَلِيلًا"1.
إنّ اكتساب العلم، وإيجاد الأدلّة على متعلّقات الإيمان، أي العلم بالله والعلم بالقيامة والعلم بالحَسَن والقبيح، هي من آليّات تكامل الإيمان وسبل تعزيزه. ومن هنا، فإنّ طلب العلم يحظى بأهمّيّة فائقة. وقد خُصَّ العلم والعالِم وطالب العلم بمكانة وأهمّيّة متميّزة في المعارف الإسلاميّة. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"2. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "العلم رأس الخير كلّه، والجهل رأس الشرّ كلّه"3. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا قال: "طالب العلم تَبسط له الملائكةُ أجنحَتها رضًى بما يطلب"4.
2- المحافظة على العلم المكتسب:
يجب أن نولي المزيد من التوجّه للموارد التي عرفناها، ونحيطَها بالعناية الدائمة كي لا ننساها، فإنّ الكثيرين يغفلون عن هذا الأمر. فنحن نتصوّر أنّنا عندما نعالج قضيّة، ويتّضح الجواب عنها أمامنا، فقد انتهى الأمر، ولم تعد أمامنا أيّ مشكلة ومسؤوليّة، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، إذ ينبغي الحفاظ على هذه النتائج العلميّة المكتسبة والمحصَّلة.
1- العلّامة المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، قدّم له: السيّد مرتضى العسكري، - تصحيح السيّد هاشم الرّسولي، دار الكتب الإسلاميّة، 1404هـ - 1363 ش، ط2، ج2، ص320.
2- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج61، ص245.
3- م.ن.، ج 74، ص175.
4- جلال الدين السيوطي، الجامع الصغير، ج2، ص129.
112
88
الدرس العاشر: طرق تعزيز الإيمان بالله
من أسرار التأكيد على تكرار الألفاظ والمفاهيم في العبادات الشرعيّة هو أنْ تكون هذه العلوم والمعارف عرضة لاهتمامنا الفكريّ دائمًا. ففيما يخصّ ذكر "الله أكبر"، مثلًا، ثمّة افتراضان:
بأن نتوجّه مرّة واحدة في حياتنا إلى هذا الأمر ونثبت بالدليل والبرهان أنّ الله أكبر من كلّ شيء، أو أنّ الله أعلى وأعظم من أن يوصف، وأن تكون حقيقة صفاته ممكنة الإدراك، وفي هذه الحالة لن يكون للتكبير تأثير يُذكَر على روحنا وشخصيّتنا وسلوكنا.
والافتراض الآخر هو أن نكرّر هذا الذكر عدّة مرّات بوعي وتوجّه، بل وحتّى في كلّ صلاة وكلّ يوم، وسيكون حينها لذكر "الله أكبر" تأثيرات ملموسة جدًّا في حياتنا.
ومن هنا، وبما أنّ الله سبحانه وتعالى يريد تكامل الإنسان، فقد اختار الافتراض الثاني، فنحن نقول في بداية كلّ صلاة "الله أكبر"، ومن المستحبّ تكرارها عند الهويّ للركوع، وكذلك بعد رفع الرأس من السجود، وفي التسبيحات الأربعة. والخلاصة، إنّ هذا الذكر يتكرّر في عدّة موارد من الصلاة الواحدة.
إذًا، لتعزيز المعرفة والعلم، لا بدَّ من القيام بأمرين: البحث عن أدلّة وبراهين واضحة ومتقَنة، والمحافظة على تلك المعرفة حيّة طريّة. والأمر الأوّل يحظى بمزيد من الأهمّيّة، حيث تكثر وتزداد الشبهات العقائديّة على مدى العصور، ونحن نواجه مثل هذا الوضع في زماننا الراهن، إذ نشهد كلّ يوم شبهة تُثار في جريدة أو كتاب أو درس... حول الله أو القرآن أو النبيّ أو الأحكام أو معارف القرآن. ولو اكتفينا في هذا الزمان بما تعلّمناه لمرّة واحدة من علم واستدلال، فمن المحتمل جدًّا أن نعجز عن المقاومة في مواجهة عواصف الشبهات، وسوف تتزعزع قواعد عقائدنا، ويعترينا الشكّ إزاءها، وفي مثل هذه الحالة سوف يضعف الإيمان رويدًا رويدًا، وبالتالي يزول نهائيًّا.
تعزيز العمل الصالح
العامل الثاني لتقوية الإيمان هو تعزيز العمل الصالح، فمن خلاله يترسّخ الإيمان ويتجذّر في النفس لينمو ويقوى، ومعه يصبح الإنسان مؤهَّلًا للدخول إلى الجنَّة. فعن
113
89
الدرس العاشر: طرق تعزيز الإيمان بالله
الإمام الصادق عليه السلام: "الإيمان لا يكون إلّا بعمل، والعمل منه، ولا يثبت الإيمان إلّا بالعمل"1. ويمكننا تعزيز العمل الصالح من خلال تقوية الإرادة الإنسانيّة التي لا تُكتسب بالعلم والمعرفة فقط، بل تحتاج إلى التمرين والممارسة، ومن هنا جاءت الرياضة الشرعيّة، أي أنّ الإنسان يقوم بمجموعة من التمارين لتوطيد الأبعاد المعنويّة لديه.
ومِن فلسفة بعض الواجبات الشرعيّة وآثارها المهمّة تقويةُ الإرادة، كالصلاة الواجبة وصيام شهر رمضان. كما أنَّ سائر العبادات والواجبات الدينيّة وأعمال الخير إجمالًا تُعدُّ تمارينَ لتقوية إرادة السير نحو الكمال والقرب إلى الله.
إنّ إرادة التقرّب إلى الله، في الحقيقة، هي نوع من الحركة الذاتيّة، وهي أمر اختياريّ من شأنها تقدُّم روح الإنسان نحو مقصدها، وفي تقوية إرادة القرب من الله واستمرارها يحصل تغيّر تدريجيٌّ في داخل الإنسان، ويتوجّه قلبه نحو الله، ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا﴾2.
وهذا التوجّه يعني عزم الانسان على إحداث تغييرٍ في داخله، وتلك هي الحركة التكامليّة للروح. وكلّما تجلّت هذه الإرادة في صورة وهيئة أعمال متعدّدة، ستتّخذ تلك الحركة مدًى وسِعةً وسرعةً أكثر.
من هنا، إنّ أوّل عمل ينبغي على الإنسان القيام به خلال مسيرة حياته، ولغرض سلوك طريق القرب الالهيّ، هو أن يحدّد اتّجاه حركته، والطريق بطبيعة الحال لها اتّجاهان ليس أكثر: أحدهما الله، والآخر الشيطان، الجنّة أو النار، النور أو الظلام، وبمقدور الإنسان أن يتحرّك نحو الله، ﴿فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾3.
وبعد تحديد الاتّجاه الصحيح، تبدأ مسيرة القرب من الله عزّ وجلّ، وتبدأ التحدّيات، فلكي نجعل القلب يسلِّم للحقيقة، يتعيّن علينا إضعاف الرغبات والأهواء التي تخلق
1- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص81.
2- سورة الأنعام، الآية 79.
3- سورة المزّمّل، الآية 19، سورة الإنسان، الآية 29.
114
90
الدرس العاشر: طرق تعزيز الإيمان بالله
التزاحم في قلوبنا، ونعمل بشكل عامّ على إضعاف الحالات التي لا تنسجم مع الاعتقاد والقرب من الله.
من هنا، ولغرض تقوية العنصر الثاني، يتعيّن علينا السعي لكبح جماح النفس وضبطها وإضعاف منفِّرات الإيمان بالله، وهو ليس بالأمر السهل، بل يحتاج إلى توفير مقدّمات. ولإنجاز هذه المهمّة، لا بدّ من مباشرة الأعمال البسيطة والتقدّم تدريجيًّا. فإذا أرهق الإنسان النفس، منذ البداية، بالأعمال والممارسات الثقيلة، فإنّه حتّى لو نجح لأيّام عدّة، لكنّه لن يستطيع الاستمرار، وستطغى النفس وتجمح أكثر فأكثر، فيجب أن نقمع ونضعِّف الأهواء الحيوانيّة والشيطانيّة في نفوسنا تدريجيًّا لأنّها تُضِلُّ الإنسان عن اتّباع سبيل الله، كما ورد في قوله تعالى ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾1.
وطبقًا لبرنامج منظَّم ومدروس، نجعل النفس تشتاق للأنس بالله والذكر والقرآن والمناجاة. ولا بدَّ للمؤمن دومًا من طلب العون من الله تعالى للوصول إلى العمل الصالح والدخول في زمرة الصالحين، كما ذكر أبو عبد الله عليه السلام في دعائه "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيَّ لِقَاءَكَ، وَاجْعَلْ لِي فِي لِقَائِكَ خَيْرَ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَلَا تُؤَخِّرْنِي مَعَ الْأَشْرَارِ، وَأَلْحِقْنِي بِصَالِحِ مَنْ مَضى، وَاجْعَلْنِي مَعَ صَالِحِ مَنْ بَقِيَ، وَخُذْ بِي سَبِيلَ الصَّالِحِينَ، وَأَعِنِّي عَلى نَفْسِي بِمَا تُعِينُ بِهِ الصَّالِحِينَ عَلى أنفسهم"2.
القرآن ونماذج من عناصر تعزيز الإيمان
أشارت الآيات القرآنيّة في العديد من الموارد إلى تعزيز الإيمان وترسيخه في النفس، منها:
1- إرادة المؤمنين وتأثيرها في ازدياد إيمانهم:
من الموارد التي جرت الإشارة فيها إلى زيادة الإيمان وتعزيزه، هذه الآية الكريمة ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ
1- سورة ص، الآية 26.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص561.
115
91
الدرس العاشر: طرق تعزيز الإيمان بالله
الْوَكِيلُ﴾1. وهناك آية أخرى في سورة الأحزاب تشابه هذه الآية، تقول: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾2.
نزلت هذه الآية في معركة الأحزاب. فبعد ظهور الإسلام، قام المشركون وأعداء الإسلام بمختلف المؤامرات للقضاء على هذا الدِّين الجديد والفتيّ، وبطيِّ صفحة الإسلام والمسلمين، وكان من أهمّ مؤامراتهم ومخطّطاتهم تدبير معركة الأحزاب. وقد اتّحد في هذه المعركة أعداء الإسلام كافّة من مشركين ووثنيّين ويهود ونصارى ومنافقين، واجتمعوا تحت قيادة واحدة، وتضافروا لكي يطووا بساط الإسلام والمسلمين في هذه المرّة، وحشدوا في هذه الحرب إمكانيّاتهم وطاقاتهم كافّة، واستعانوا، بالإضافة إلى ذلك، بالحرب النفسيّة. هذه الاستراتيجيّة الرائجة اليوم في العالم كانت يومذاك ذات طابع بسيط.
كان أعداء الإسلام في عهد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على معرفة بهذا الأسلوب، وكانوا يستخدمونه. وتعويلًا على هذا الأسلوب، أشاع أولئك - لغرض زعزعة قلوب المسلمين وإرعابهم - أنّ جيش العدوّ وإمكانيّاته في هذه المرّة في غاية القوّة والكثرة، وإنّ هزيمة الإسلام والمسلمين أمر حتميّ في هذه المعركة، وأخذت الأفواه تتناقل هذه الشائعة، وأصبح هذا الكلام يُسمَع في كلّ الأرجاء، من أنّ هذه الأيّام هي الأيّام الأخيرة من حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وما أسرع أن يُقتل صلى الله عليه وآله وسلم على أيدي جيوش الأعداء، ويفنى الإسلام والمسلمون.
فخلقت هذه الشائعة جوًّا ثقيلًا لضعاف الإيمان، واستحوذ عليهم الرعب، وأذعنوا مسبقًا بهزيمتهم وهزيمة الإسلام، ولكن كان هنالك مؤمنون، وقفوا كالطود الشامخ، ولم تستطع هذه الإشاعات زرع الوهن والضعف فيهم، بل أدّت إلى أن تقوى أرواحهم، وأصبحوا أكثر قوّة واندفاعًا من ذي قبلُ، وأكثر استعدادًا لمواجهة العدوّ ومجاهدته. يقول القرآن الكريم بهذا الخصوص: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾، فلقد كان الناس يقولون لهم: إنّ الأعداء قد اجتمعوا عليكم بأسرهم، واتّحدوا ضدّكم،
1- سورة آل عمران، الآية 173.
2-سورة الأحزاب، الآية 22.
116
92
الدرس العاشر: طرق تعزيز الإيمان بالله
ومن المحتّم أنّكم لن تستطيعوا المقاومة في مواجهتهم، وأنّ هزيمتكم مُسَلَّمٌ بها، فكان ردُّ فعلهم إزاء هذا الكلام ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَاناً﴾ وَقَالُواْ ﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾. فهم ليسوا ثابتين فقط ولم يخافوا ولم تتدنَّ معنوياتهم، بل ازدادوا إيمانًا. ونتيجة لصمود هذه الثلّة من المسلمين، كانت الإمدادات الإلهيّة الغيبيّة تتوالى عليهم، وكانت النتيجة في هذه المعركة: ﴿فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾1.
2- ذكر الله وأثره في زيادة الإيمان:
يقول تعالى في محكم كتابه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾2. في البداية، تصف الآية المؤمنين الحقيقيّين، وليس أولئك الذين يدّعون الإيمان بالظاهر، فكلمة ﴿إِنَّمَا﴾ من أدوات الحصر، وتفيد الحصر في اللغة العربيّة، فيقول: إنّما المؤمنون، أي المؤمنين الحقيقيّين هم: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾، أي إنّ قلوبهم تهتزّ حينما يُذكر الله. فقد تبدُر منهم ذنوب، وبحلول ذكر الله يتذكّرون المعاصي التي ارتكبوها فيستحوذ الاضطراب عليهم، نتيجة معرفتهم بعظمة الله، ونحن بأجمعنا قد جرّبنا هذه الحالة نوعًا ما، فعندما نقف أمام شخصيّة كبيرة، يعترينا الاضطراب، وتزداد نبضات قلوبنا، ويستحوذ علينا الارتباك، وتنعقد ألسنتنا، وكلّ ذلك يحصل تأثّرًا بعظمة ذلك الشخص وهيبته، وهو لم يوجّه لنا توبيخًا أو تهديدًا، ولا مشكلة لنا معه، وإنّما هيبته وعظمته هي التي تترك مثل هذا التأثير فينا.
فالمؤمن الحقيقيّ يدرك العظمة الإلهيّة بما يتناسب مع معرفته، ولهذا السبب يستحوذ على فؤاده نوع من الاضطراب عندما يسمع باسم الله، ويتذكّر الله سبحانه وتعالى، ﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾. فهل نحن كذلك؟ لو أنّ حقيقة نور الإيمان قد أشرقت على قلوبنا لاهتزّت أبداننا إذا ما ذُكر الله!
1- سورة آل عمران، الآية 174.
2- سورة الأنفال، الآية 2.
117
93
الدرس العاشر: طرق تعزيز الإيمان بالله
ويواصل القرآن الكريم عَرْضه للمزيد من علامات الإيمان والمؤمن الحقيقيّ، ومن بينها: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾، فاستماع آيات الله من شأنها تقوية إيمانهم وزيادته. ويذكر القرآن علامة ثالثة أيضًا، ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾1.
ما يُعدّ شاهدًا على بحثنا في هذه الآية الكريمة، هذا المقطع من الآية، الذي يصرّح بأنّ من الأمور التي تؤدّي إلى زيادة الإيمان وتعزيزه هو الاستماع لآيات الله والقرآن، فالذين تتميّز أرواحهم بالتأهّب للإذعان للحقيقة والتسليم أمام الله، وليس إيمانهم قشريًّا ولا سطحيًّا، يزداد إيمانهم بسماع آيات القرآن. بناءً على هذا، فإنّ إحدى الطرق لتقوية الإيمان هو التوجّه إلى آيات الله ومعانيها وحقائقها.
لو تأمّلنا في الموارد السابقة لأدركنا أنَّ الجامع ووجه الاشتراك لجميع هذه الموارد القرآنيّة هو أنّها أسباب تزيد في توجّه الإنسان نحو الله. وإذا ما ازداد توجّه الإنسان نحو الله سيدرك وجوده أكثر وبشكل أفضل، وبالتالي سيزداد إيمانه. كما ينبغي أن لا ننسى سنّة الله من أنّ الذي يتقرّب إلى الله خطوة واحدة فإنّ الله سيتقرّب إليه أضعافًا مضاعفة، ويهيّئ له مقوّمات قربه، ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾2.
1- سورة الأنفال، الآية 2.
2- سورة الأنعام، الآية 160.
118
94
الدرس العاشر: طرق تعزيز الإيمان بالله
المفاهيم الرئيسة
1- على الإنسان المؤمن أن يعمل على توطيد معرفته وعلمه أكثر فأكثر بالله سبحانه وتعالى وصفاته، وتعميق المعرفة والارتباط بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام، فكلّما تحوّلت معرفته الإجماليّة إلى معرفة تفصيليّة، يغدو متعلّق الإيمان أكثر شفافية ووضوحًا بالنسبة إلى الانسان، ويكون بمقدوره الإيمانُ به بسهولة أكثر.
2- للحصول على علم ومعرفة تفصيليّة بمقدّمات الإيمان، ينبغي البحث عن الأدلّة الواضحة والمحافظة على تلك المعرفة المكتسبة حيّة طريّة.
3- لو اكتفينا في هذا الزمان بما تعلّمناه لمرّة واحدة من علم واستدلال، فمن المحتمل جدًّا أن نعجز عن المقاومة في مواجهة عواصف الشبهات، وسوف تتزعزع قواعد عقائدنا، ويعترينا الشكّ إزاءها، وفي مثل هذه الحالة سوف يضعف الإيمان رويدًا رويدًا، وبالتالي يزول نهائيًّا.
4- إنَّ العامل الثاني لتقوية الإيمان هو تعزيز العمل الصالح، فمن خلاله يترسّخ الإيمان ويتجذّر في النفس لينمو ويقوى، ومعه يصبح الإنسان مؤهَّلًا للدخول إلى الجنَّة.
5- يمكن تعزيز العمل الصالح من خلال تقوية الإرادة الإنسانيّة التي لا تُكتسب بالعلم والمعرفة فقط، بل تحتاج إلى التمرين والممارسة.
6- إنّ إرادة التقرّب إلى الله، في الحقيقة، هي نوع من الحركة الذاتيّة، وهي أمر اختياريّ من شأنها تقدُّم روح الإنسان نحو مقصدها، وفي تقوية إرادة القرب من الله واستمرارها يحصل تغيّر تدريجيٌّ في داخل الإنسان، ويتوجّه قلبه نحو الله، ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا﴾1.
7- أشارت الآيات القرآنيّة في العديد من الموارد إلى تعزيز الإيمان وترسيخه في النفس.
1- سورة الأنعام، الآية 79.
119
95
الدرس الحادي عشر: الصلاة ودورها في القرب من الله
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يدرك حقيقة الصلاة.
2- يبيّن أنَّ الصلاة أفضل وسيلة لذكر الله تعالى، وأنَّها أحب الأعمال إليه تعالى.
3- يحدّد العامل الرئيس في أفضليّة الصلاة.
121
96
الدرس الحادي عشر: الصلاة ودورها في القرب من الله
مقدّمة
من لوازم إيمان الإنسان بالله تعالى قيامُه بالأعمال الصالحة. وتُعتبر الصلاة في الشريعة الإسلاميَّة خير الأعمال وأفضلها وسيلة للتقرّب من الله عزّ وجلّ. وعندما سُئِل الإمام الصادق عليه السلام عن أفضل الأعمال وأحبّها إلى الله، قال عليه السلام: "ما أعلم شيئًا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم قال: "أوصاني بالصلاة..."1. وقد أوصى أمير المؤمنين عليه السلام بحفظها، ووصَفها بأنَّها خير العمل: "أوصيكم بالصلاة وحفظها، فإنّها خير العمل، وهي عمود دينكم"2. وعندما سأل أبو ذرّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "خير موضوع، فمن شاء أَقَلّ ومن شاء أكثر"3. وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ طاعة الله خدمته في الأرض، فليس شيء من خدمته يعدل الصلاة"4.
على مستوى الجهد والمشقّة البدنيَّة، نلاحظ أنَّ الصلاة أخفّ مؤونةً، وأقلُ وطأةً من سائر العبادات.
فالجهاد في سبيل الله، قياسًا للصلاة، عملٌ شاقٌّ جدًّا، يتخلّله الكثير من الآلام والجهد والأخطار، أمّا بالنسبة للصلاة، فإنَّ أقصى ما يقوم به المصلّي قراءةُ بعض الألفاظ، والانحناء والقيام، ومع ذلك صُنّفت الصلاة بأنَّها خير الأعمال وبأنَّها أوثق سبب لقرب العبد من الله. عن الإمام الرِّضَا عليه السلام: "أقرب ما يكون العبد من الله عزّ وجلّ وهوَ ساجد،
1- الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص264.
2- م.ن.
3- م.ن.
4- م.ن.
123
97
الدرس الحادي عشر: الصلاة ودورها في القرب من الله
وذلك قوله عزّ وجلّ ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾1،2 وعنه عليه السلام أيضًا قال: "الصّلاة قربان كلّ تقيّ"3. فما هي حقيقة الصلاة، ولماذا اعتُبرت خيرَ الأعمال وأحبّها إلى الله، وأفضل وسيلة لذكره تعالى، وأوثق أسباب القرب من ذاته المقدَّسة؟
حقيقة الصلاة
الصلاة عبادة من أهمّ العبادات التي يجب على كلّ مسلم أن يفقه معانيها وأحكامها، درسًا وتطبيقًا، لعِظَم قدرها، وسموّ مكانتها في الإسلام. وهي لغةً: الدعاء4، ومن ذلك قوله تعالى ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾5، واصطلاحًا: عرَّفها الفقهاء بأنَّها أفعال مفتتَحة بالتكبير، مختتَمة بالتّسليم، للقربة، مشروطة بطهور6.
الصلاة عمود الدين، إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدّت ردّ ما سواها، كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ عمود الدين الصّلاة، وهي أوّل ما يُنظَر فيه من عمل ابن آدم، فإن صحّت نُظِرَ في عمله، وإن لم تَصِحَّ لم يُنظَر في بقيّة عمله"7.
الصلاة عمود الدين بمعنى أنّها قوامه، وموضعها من الدين كموضع الرأس من الجسد. وهي أفضل الأعمال وأحبّها إلى الله سبحانه، وأفضل ما توسّل به المتوسّلون للتقرّب إليه، وهي معراج المؤمنين والعارفين، وسفر العاشقين. والصلاة أوّل ما افتَرض الله سبحانه على الناس، وأوّل ما يجب تعلّمه من الفرائض، وأوّل ما يُنظر فيه من عمل ابن آدم، وأوّل ما يُحاسب به، وآخر وصيّة للرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّه كان من آخر وصاياه: "الصلاة، الصلاة، الصلاة... "8.
1- سورة العلق، الآية 19.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص265.
3- م.ن.
4- انظر: محمّد بن مكرم بن منظور الأفريقيّ المصريّ، لسان العرب، ج14، ص464، طبعة1، دار صادر، بيروت.
5- سورة التوبة، الآية 103.
6- انظر: المحقّق الثاني الشيخ عليّ بن الحسين الكركيّ، جامع المقاصد في شرح القواعد، ج2، ص6، كتاب الصلاة، طبعة مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، وهو قول المحقّق الأردبيليّ أيضًا.
7- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج4، ص34.
8- الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج7، 51.
124
98
الدرس الحادي عشر: الصلاة ودورها في القرب من الله
والصلاة هي التي تطرد الشياطين، وتمنع من البَطَر والطغيان، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتزيل الكبر وأنواع الرذائل القلبيّة، وتُذهب السيّئات، وتطهّر النفس. وهي مفتاح كلّ خير، يُنوَّر بها الوجه والقلب، وتَطمئنّ بها النفس، وتُستنزل بها الرحمة، وتُبدّل بها السيّئات بالحسنات، ويُستعان بها على الجهاد الأكبر والأصغر.
وهي مثل عين الماء الزلال، تطهّر المصلّي الذي يصلّي خمس مرات في اليوم، فعن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّما مثل الصلاة فيكم كمثل السري (وهو النهر) على باب أحدكم، يخرج إليه في اليوم والليلة، يغتسل منه خمس مرّات، فلم يبق الدرن مع الغسل خمس مرّات، ولم تبق الذنوب مع الصلاة خمس مرّات"1.
الصلاة أفضل وسيلة لذكر الله تعالى
الصلاة هي ذكر العبد لله وحده، وهي رمز العبوديّة لله، ودليل التسليم، وعلامة الإيمان، وآية الإخلاص. لذا قال الله سبحانه مخاطبًا نبيّه الكليم موسى عليه السلام: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾2, وهذه آية من المحكَمات التي تُبيّن مصداقًا من أبرز مصاديق وجوه أهمّيّة الصلاة، وهي أنّ الإنسان يحتاج في حياته في هذا العالم إلى عمل يذكّره بالله والقيامة ودعوة الأنبياء وهدف الخلق، في فترات زمنيّة مختلفة، كي يحفظه من الغرق في دوّامة الغفلة والجهل، وتقوم الصلاة بهذه الوظيفة المهمّة.
إنَّ هذا الأمر يدلّ على عناية الله سبحانه بهذه الصلاة، وعِظَم قدرها عنده جلّ وعلا، وأنّ المسلم لا يُطالَب بفعل هذه الصلاة كيفما اتُّفق، وإنّما المطلوب من المسلم أن يُقيمها حقّ القيام، فيُصلّي الصلاة الشرعيّة بشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها ومستحبّاتها وروحها، حتّى يكون لها الأثر في حياته وسلوكه واستقامته على أمر الله عزّ وجلّ. لذلك قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾3، قال المفسّرون: المراد (بذكر الله) في هذه الآية الصلواتُ الخمس.
1- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج1، ص208.
2- سورة طه، الآية 14.
3- سورة المنافقون، الآية 9.
125
99
الدرس الحادي عشر: الصلاة ودورها في القرب من الله
فمع توزُّع الصلوات الواجبة على أوقات اليوم المختلفة، فإنّ العبد يغسل بها غبار الغفلة الذي استقرّ على قلبه. ومن هنا يقول الله سبحانه لنبيّه موسى عليه السلام في أوّل الأوامر في بداية الوحي: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾1، وفي آيات أخرى نقرأ: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾2، و﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾3.
فإذا جعلنا هذه الآيات الثلاث جنبًا إلى جنب، فسنفهم جيّدًا أنّ الصلاة تذكّر الإنسان بالله، وذكر الله يجعل نفسه مطمئنّة، ونفسُه المطمئنّة ستوصله إلى مقام العباد المخلصين، والجنّة الخالدة.
الصلاة أحبّ الأعمال إلى الله تعالى
إنَّ في الصلاة كثير من الأسرار والحِكَم والمقاصد والغايات التي لا يعقلها كثير ممّن يؤدّيها، ومن بين هذه الأسرار والحكم أنّ الصلاة أحبّ الأعمال إلى الله ورسوله وأوليائه، وخير الأعمال وأفضلها، فالمؤمن لا همّ لديه إلّا رضى الله تعالى، فلذلك تراه مسارعًا إلى كلّ عمل يُحبّه الله ورسوله.
قال عبد الله بن مسعود: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الصلاة لوقتها"، قُلتُ: ثمّ أيّ شيء؟ قال: "برّ الوالدين"، قُلتُ: ثمّ أيّ شيء؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"4. وروى أبو الأسود الدؤَليّ عن أبي ذرّ الغفّاريّ (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أبا ذرّ، إنّ الله جعل قرّة عيني في الصلاة، وحبّبها إليّ، كما حبّب إلى الجائع الطعام، وإلى الظمآن الماء، وإنّ الجائع إذا أكل الطعام شبع، والظمآن إذا شرب الماء روي، وأنا لا أشبع من الصلاة"5،
1- سورة طه، الآية 14.
2- سورة الرعد، الآية 28.
3- سورة الفجر، الآيات 27 - 30.
4- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص70.
5- الشيخ الطوسي، الأمالي، ص528.
126
100
الدرس الحادي عشر: الصلاة ودورها في القرب من الله
وروى زيد الشحّام عن حفيد سيّد المرسلين الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: "أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء عليهم السلام، فما أحسن الرجل يغتسل أو يتوضّأ، فيسبغ الوضوء، ثمّ يتنحّى حيث لا يراه أنيس، فيشرف عليه وهو راكع أو ساجد. إنّ العبد إذا سجد، فأطال السجود، نادى إبليس: يا ويلاه أطاع وعصيت، وسجد وأبيت"1.
وقال مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: ليس عمل أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من الصلاة، فلا يشغلنّكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا، فإنّ الله عزّ وجلّ ذمّ أقوامًا، فقال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾2 يعني أنّهم غافلون استهانوا بأوقاتها"3.
وفي حديث آخر ذكر فيه عليه السلام صفات لقمان الحكيم، ووصاياه لابنه، فقال عليه السلام: "قال لقمان: وصمْ صومًا يقطع شهوتك، ولا تصم صومًا يمنعك من الصلاة، فإنّ الصلاة أحبّ إلى الله من الصيام"4. وفي قوله دلالة واضحة على مكانة الصلاة عند الله تعالى مِن بين فرائض الإسلام. وعليه، فمَن صام وترك الصلاة، فقد ترك الأهمَّ في شِرعة الإسلام.
العامل الرئيس في أفضليّة الصلاة
ليس في العبادات ما يضاهي الصلاة، فهي مرهمٌ إلهيٌ جامعٌ يتكفّل بسعادة البشر، فإنّ تمام الصلاة بكلّ ما تحويه من ذكر وركوع وسجود وتوجّه، هو إذعان بالعبوديّة لربّ العالمين، حيث يلقي المصلّي جانبًا الأنانيةَ وعبادة النفس، ويسلّم كيانه بأجمعه لله تعالى، ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾5، فيقف المصلّي بين يدي الله متواضعًا، ويهوي برأسه إلى تراب الذلّ والمسكنة، ويعلن التسليم الكامل والإذعان والخضوع له تعالى.
1- الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص264.
2- سورة الماعون، الآية 5.
3- الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج4، ص107.
4- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج13، ص408.
5- سورة الأنعام، الآية 79.
127
101
الدرس الحادي عشر: الصلاة ودورها في القرب من الله
وهذه الخاصّيّة للصلاة هي ما يعطيها موقعها المميَّز بين سائر العبادات، فالصلاة بإمكانها أن تكرّس كيان الإنسان بأسره، بدءًا من البعد الظاهريّ، أي البدنيّ، وانتهاءً بالأبعاد الباطنيّة (كالعقليّة والقلبيّة) في ربقة العبوديّة، فليس من عبادة أخرى تُعنى بجميع أبعاد وجود الإنسان الظاهريّة والباطنيّة في برنامج يوميّ يغطّي جُلَّ أوقات المكلَّف غيرها. ولذا، فإنّ الصلاة هي خير وسيلةٍ تربط الإنسان بربّه، وهذا هو السرّ في كون الصلاة "خير العمل".
وهذه الخاصّيّة نفسها هي ما يجعل الصلاة أكمل وسيلة للتقرّب إلى الله تعالى، وأهمّ وسيلة لبلوغ الهدف الأعلى للإنسانيّة. وذلك أنّ الأنانية والعجب والزهوّ - وهي أمّ المصائب البشريّة - هي من مواريث الشيطان الذي طغى وعصى ربّه جلّ وعلا حين أبى الخضوع لوليّه وصفيّه، وخرج بذلك عن العبوديّة لله تعالى. وعلى كلّ إنسان أن يجاهد لقمع هذه المواريث في باطنه وظاهره، وهذا هو الجهاد الذي لو أفلح فيه فإنّ كلّ شيء سيصلح في الحياة.
والصلاة هي السبيل إلى بلوغ هذا الهدف، والسبب في ذلك أنّها تجلٍّ لحالة العبوديّة من جهة العبد، وتجلٍّ للربوبيّة من جهة الله سبحانه وتعالى: فبالصلاة تتحقّق العبوديّة، وتتجلّى الربوبيّة، كما يقول الإمام الرضا عليه السلام: "إنّما أُمروا بالصلاة لأنّ في الصلاة الإقرار بالربوبيّة"1، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة، فما فُقد في العبوديّة وُجد في الربوبيّة، وما خَفي من الربوبيّة أُصيب في العبوديّة"2.
1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج4، ص10.
2- الإمام الصادق عليه السلام منسوب -، مصباح الشريعة، الباب الأوّل في العبوديّة، ص5.
128
102
الدرس الحادي عشر: الصلاة ودورها في القرب من الله
المفاهيم الرئيسة
1- من لوازم إيمان الإنسان بالله تعالى قيامُه بالأعمال الصالحة. وتُعتبر الصلاة في الشريعة الإسلاميَّة خير الأعمال وأفضلها وسيلة للتقرّب من الله عزّ وجلّ.
2- الصلاة عبادة من أهمّ العبادات التي يجب على كلّ مسلم أن يفقه معانيها وأحكامها، درسًا وتطبيقًا، لعِظَم قدرها، وسموّ مكانتها في الإسلام. وهي لغةً: الدعاء، ومن ذلك قوله تعالى ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾1، واصطلاحًا: عرَّفها الفقهاء أنَّها أفعال مفتتَحة بالتكبير، مختتَمة بالتّسليم، للقربة، مشروطة بطهور.
3 - الصلاة هي ذكر العبد لله وحده، وهي رمز العبوديّة لله، ودليل التسليم، وعلامة الإيمان، وآية الإخلاص. لذا قال الله سبحانه مخاطبًا نبيّه الكليم موسى عليه السلام: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾2.
4- من أسرار الصلاة أنّها أحبّ الأعمال إلى الله ورسوله وأوليائه، وخير الأعمال وأفضلها، فالمؤمن لا همّ لديه إلّا رضى الله تعالى، فلذلك تراه مسارعًا إلى كلّ عمل يُحبّه الله ورسوله.
5- ليس في العبادات ما يضاهي الصلاة، فهي مرهمٌ إلهيٌ جامعٌ يتكفّل بسعادة البشر، فإنّ تمام الصلاة بكلّ ما تحويه من ذكر وركوع وسجود وتوجّه، هو إذعان بالعبوديّة لربّ العالمين، حيث يلقي المصلّي جانبًا الأنانيةَ وعبادة النفس، ويسلّم كيانه بأجمعه لله تعالى، وهذه الخاصّيّة للصلاة هي ما يعطيها موقعها المميَّز بين سائر العبادات.
1- سورة التوبة، الآية 130.
2- سورة طه، الآية 14.
129
103
الدرس الثاني عشر: الجهاد ودوره في القرب من الله
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يُدرك معنى الجهاد وحقيقته، وفضله وأهمّيّته في الآيات والروايات.
2- يبيّن العلاقة بين الإيمان بالله والجهاد في سبيله، ويشرح ما الحكمة من وجوب القتال مع كراهيته؟
3- يعرف الشروط العقائديّة والمعنويّة للجهاد.
131
104
الدرس الثاني عشر: الجهاد ودوره في القرب من الله
المقدّمة
تتجلّى مصاديق العبوديّة والعمل الصالح في محاور ثلاثة: علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته بالخلق وعلاقته بالله عزّ وجلّ. تحدّثنا في الدرس السابق عن الصلاة، وهي أحد مصاديق العبوديّة التي محورها العلاقة مع الله تعالى، وسوف نتناول في هذا الدرس مصداقًا عمليًّا آخر للإيمان بالله تعالى، وهو الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ، حيث يُعتبر الجهاد من أبرز مصاديق العبوديّة وأشرفها، ومن أفضل الأعمال الصالحة وأحبّها إلى الله تعالى. ففي روايةٍ أنّ رجلًا أتى جبلًا ليعبد الله فيه، فجاء به أهله إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فنهاه عن ذلك، وقال: "إنّ صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يومًا واحدًا خير له من عبادة أربعين سنة"1.
معنى الجهاد وحقيقته
الجهاد لغةً من الجهد، وهو بذل الوسع والطّاقة، أو تحمّل العناء والمشقّة. أمّا اصطلاحًا، فقد عرّف الفقهاء مصطلح الجهاد بأنّه: "بذل النفس وما يتوقّف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجهٍ مخصوص، أو بذل النفس والمال والوسع في إعلاء كلمة الإسلام، وإقامة شعائر الإيمان"2.
وقد استخدم القرآن المجيد في آياته التي تحدّثت عن موضوع بذل الجهد والوسع في قتال العدوّ، استخدم مفردتين اثنتين، هما: الجهاد والقتال، في قوله تعالى ﴿انْفِرُواْ خِفَافًا
1- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج11، ص21.
2- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، تحقيق وتعليق: الشيخ عبّاس القوچاني، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1365 ش، ط2، ج21، ص3.
133
105
الدرس الثاني عشر: الجهاد ودوره في القرب من الله
وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾1، وقوله عزّ وجلّ ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾2.
واعتبر بعضُ المفسِّرين أنّ آيات الجهاد الواردة في القرآن الكريم ناظرة في الواقع إلى نوعين من الجهاد: جهاد النفس وجهاد العدوّ. فعلى سبيل المثال، فسّر العلامة الطبرسيّ (قده) معنى الجهاد في قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾3 بجهاد الكفّار، وبمجاهدة أهواء النفس4. أمّا كلمة القتال فهي بمعنى الحرب، ولم تستعمل في القرآن المجيد سوى للإشارة إلى الحرب مع العدوّ الظاهريّ والخارجيّ.
فضل الجهاد وأهمّيّته في الآيات والروايات
عندما ننظر إلى آيات القرآن الكريم، نجد أنّه قَلّما نزلت آيات بشأن فرعٍ من فروع الدين الإسلاميّ كما هو الحال بشأن الجهاد، ثمّ نجد أنّه نزلَ بعضٌ منها بلسانٍ صريحٍ، ينصّ على الجهاد والقتال، وبعضٌ آخر بلسانٍ غير مباشر، يتعرّض إلى المسائل الجانبيّة المتعلّقة به.
ولأجل أن يبيّن القرآن المجيد أهمّيّة الجهاد، عمد إلى مقارنته بخدمة الحجاج وعمارة المسجد الحرام اللَّذَين كانا محلًّا للافتخار والمباهاة في الجاهليّة، ثمّ صرّح بأفضليّة الجهاد عليهما، حيث قال تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾5.
1- سورة التوبة، الآية 41.
2- سورة البقرة، الآية 244.
3- سورة العنكبوت، الآية 69.
4- الشيخ الطبرسي، تفسير مجمع البيان، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين الأخصّائيّين، بيروت - لبنان، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، 1415 - 1995م، ط1، ج8، ص41.
5- سورة التوبة، الآيتان 19 - 20.
134
106
الدرس الثاني عشر: الجهاد ودوره في القرب من الله
ويلاحِظ المرء أنَّ كل الآيات التي تحدّثت عن فضل وعلوّ منزلة المجاهدين في سبيل الله، تحكي في الوقت نفسه عن أهمّيّة الجهاد وفضله، حيث إنّ الجهاد يتقوّم بالمجاهدين، ولا ينفكّ عنهم، كما في قوله تعالى ﴿فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾1.
وفي آية أخرى، جعل الله تعالى نفسه مشتريَ أرواحِ المؤمنين المجاهدين وأموالهم، في صورةٍ تدلّل على قبول الله تعالى لجهاد المجاهدين المؤمنين، فهو تعالى يمتدحهم ويقدّم الوعد الجميل، حيث يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾2.
كما أشار تعالى إلى أنّ المجاهدين هم أحبّاؤه واقعًا، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾3، ووعدهم بالأجر العظيم والجزيل، ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾4، واعتبرهم الفائزين في هذا العالم، وبشّرهم برحمةٍ منه ورضوان، وجنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وخصّهم بها دون العالَمين، ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾5.
هذه الآيات القرآنيّة وغيرها من الآيات التي وردت في فضل وأهمّيّة الجهاد، يُعاضدها الكثير من الروايات، ففي حديث آخر رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: "الخير كلّه في السيف، وتحت ظلّ السيف"6.
1- سورة النساء، الآية 95.
2- سورة التوبة، الآية 111.
3- سورة الصفّ، الآية 4.
4- سورة النساء، الآية 74.
5- سورة التوبة، الآيتان 20 - 21.
6- الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص2.
135
107
الدرس الثاني عشر: الجهاد ودوره في القرب من الله
ورُوي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من لقي الله بغير أثرٍ من جهاد، لقي الله وفيه ثلمة"1.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا أنّه قال: "من مات ولم يغزُ، ولم يحدّث به نفسه، مات على شعبةٍ من نفاق"2.
العلاقة بين الإيمان بالله والجهاد في سبيله
إنَّ الجهاد في سبيل الله أحد أبرز مصاديق العمل الصالح وأحبّها إلى الله تعالى، ففي الرواية أنّ أبا ذرّ الغفّاريّ سأل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ؟ فقال: إيمان بالله، وجهادٌ في سبيله، قال: قلتُ: فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: من عقرَ جواده، وأُهريقَ دمُهُ في سبيل الله"3.
وعليه، فالعلاقة بين الإيمان وبين الجهاد علاقة تلازميّة، فالمجاهد في سبيل الله ينبغي أن يمتلك البصيرة والوعي والاعتقاد الصحيح، وهو الإيمان الصادق بالله تعالى. يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في خطبة يبيّن فيها حال المجاهدين الأوائل زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حملوا بصائرهم على أسيافهم، ودانوا لربّهم بأمر واعظهم"4.
إنّ المجاهدَ الذي ينظر إلى هذا العالم بعين مخلوقٍ يعترف ويُقرّ بوجود الخالق، لا يربط ظهور العالم بلطفه وفيضه فحسب، بل يعتبر أنّ ديمومة الوجود والحياة مرتبطة به تعالى في امتداد الزمن لحظة بلحظة أيضًا، لأنّه الخالق، ولا يوجد منبع للقدرة والكمال في العالم سواه، ولا معتمَد غيرُهُ، وهو الذي وصفَ نفسه بأنّه ناصرُ المؤمنين والمجاهدين في سبيله، هو عدوُّ الظالمين والمشركين في آنٍ... إلخ.
فالمجاهد الذي يمتلك مثل هذه الاعتقادات الواعية، سوف يكون من عشّاق الوصال، وتكون غايته قربَ الله وجلب رضاه. وما الإيمانُ، وأداءُ الأعمال الصالحة - ومن جملتها
1- الحاكم النيسابوري، المستدرك، إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، لا.م، لا.ن، لا.ت، لا.ط، ج2، ص79.
2- م.ن.
3- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج97، ص11.
4- نهج البلاغة، خطبة 150.
136
108
الدرس الثاني عشر: الجهاد ودوره في القرب من الله
ذهابُه إلى الجبهة وقتالُه - إلّا لأجل نيل جوار الحقِّ سبحانه، ولقائه.
ومن خلال هذا المفهوم الارتقائيّ، لا يسعى هذا المجاهد وراء الأهداف المادّيّة الرخيصة، ولا يحول شيء من مغريات الدنيا دون عشق الوصال إلى المحبوب، وتكون تطلّعاته دومًا منحصرة في سبيل الله تعالى، ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾1.
ومثل هذا المجاهد قد رضي بقضاء الله وقدره، لأنّه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأمله الوحيد في مصاعب الحرب وشدائدها هو الله الذي كتب على نفسه الرحمة، وعليه يتوكّل، وهو نعم المولى ونعم النصير، فلا يستمدّ العون من غيره، بل يعتقد أنّ كلّ ما يظهر في ساحة الوجود ليس سوى إرادة المولى تبارك وتعالى، ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾2، وهذا هو معنى التوحيد العمليّ في حياة الإنسان المؤمن المجاهد.
والمجاهدون في عقيدتهم التوحيديّة، لو نالوا نصرًا، فإنّهم يرونه من عند الله، ويعتبرون أنّ الله هو الناصر ومن وراء كلّ سببٍ، ولا سبيل إلى ذلك إلّا به، ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾3.
وعليه، فإنّ بصيرة هؤلاء المجاهدين قد أوصلتهم إلى مرحلة لا يُبتلَون معها بالغرور والعجب والمفاسد الأخلاقيّة، لأنّهم - وبناءً على التوحيد الأفعاليّ - يرون كلَّ الأسباب والمسبّبات في العالم تحت نظر الحقّ وسلطته، ويعتقدون بأنّ جميع الأمور هي بيد الله تعالى، وأنّهم ليسوا سوى وسائط قبِلها الله برحمته، فإن هَزموا العدوّ في الحرب، كانوا مجرّد عباد منفِّذين لإرادته، ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾4.
1- سورة النساء، الآية 76.
2- سورة التوبة، الآية 51.
3- سورة آل عمران، الآية 126.
4- سورة الأنفال، الآية 17.
137
109
الدرس الثاني عشر: الجهاد ودوره في القرب من الله
ما الحكمة من وجوب القتال مع كراهيته؟
قال تعالى في محكم كتابه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾1.
إذا كان الجهاد أحد أركان الشّريعة المقدَّسة، والأحكام الإلهيّة، فكيف أصبح مكروهًا في طبع الإنسان، مع أنّنا نعلم أنّ الأحكام الإلهيّة أمور فطريّة وتتوافق مع الفطرة؟! فالمفروض في الأمور التي تتوافق مع الفطرة أن تكون مقبولة ومطلوبة؟!
في البداية، يجب أن نعرف أنّ الأمور الفطريّة إنّما تنسجم وتتوافق مع طبع الإنسان فيما لو اقترنت بالمعرفة. فصحيح أنّ الإنسان يطلب النّفع ويتجنّب الضرر بفطرته، ولكنّ هذا يتحقّق في الموارد التي يعرف الإنسان فيها مصاديق النفع والضرر. أمّا لو اشتبه عليه الأمر في تشخيص المصداق، ولم يميّز بين الموارد النافعة والضّارّة، فمن الواضح في هذه الحالة أنّ فطرته، وبسبب هذا الاشتباه، سوف تكره الأمر النافع، والعكسُ صحيح أيضًا.
وفي مورد الجهاد، فإنّ الذين لا يرون فيه سوى الآلام والمصائب، والقتل والجرح، من الطبيعيّ أن يكون مكروهًا لديهم.
أمّا بالنسبة إلى الأفراد الّذين ينظرون إلى أبعد من هذا المدى المحدود، فإنّهم يعلمون أنّ شرف الإنسان وكرامته وحريّته تكمن في الجهاد، لذا هم يرحّبون به، ويستقبلونه بفرحٍ وشوق. كما هو حال الّذين لا يعرفون آثار الأدوية المرّة والمنفّرة، فهم في أوّل الأمر يُظهرون عدم رغبتهم فيها، إلّا أنّهم بعد أن يروا تأثيرها الإيجابيّ على سلامتهم وصحّتهم، يتقبّلونها برحابة صدر.
من هنا، يشير الحقّ تعالى في هذه الآية الكريمة إلى مبدأ أساسٍ حاكم على القوانين التكوينيّة والتشريعيّة الإلهيّة، فيقول: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾. فلا عبرة بكرهكم وحبّكم لأنّكم ربّما تخطئون الواقع لجهلكم، فلا تقدرون على الاهتداء بأنفسكم إلى حقيقة الأمر.
1- سورة البقرة، الآية 216.
138
110
الدرس الثاني عشر: الجهاد ودوره في القرب من الله
وفي ختام الآية الشريفة، يؤكّد الخالق جلّ وعلا بشكلٍ حاسم أنّه لا ينبغي للبشر أن يحكّموا أذواقهم ومعارفهم الخاصّة في الأمور المتعلّقة بمصيرهم، لأنّ علمهم محدود من كلّ جانب، وما علموه بالنسبة إلى ما يجهلونه كقطرةٍ في بحر، لذا يقول عزّ وجلّ: ﴿وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾. فالناس، لأنّهم لم يدركوا إلّا القليل من أسرار الخلقة ومن القوانين التكوينيّة الإلهيّة، تجدهم، في بعض الأحيان، يهملون أمرًا ما، ولا يعيرونه الاهتمام المطلوب، في حين أنّ أهميّته وفائدته قد تكون كبيرة.
وعليه، فلا يحقّ للإنسان، مع الالتفات إلى علمه المحدود والناقص، أن يعترض على علم الحقّ اللامحدود، ولا على أحكامه الإلهيّة، بل عليه أن يعلم يقينًا أنّ الله تعالى، الرحمن والرحيم، عندما يشرّع تشريعًا ما كالجهاد مثلًا، فإنّه لا يشرّعه إلّا لأنّه يرى فيه الخير والسعادة والنجاة. لذا، على المؤمن أن ينظر إلى الأوامر والأحكام الإلهيّة على أنّها كالأدوية الشافية له من كل علّة، وعليه أن يطبّقها بمنتهى الرضا والقبول والتسليم.
وإن التزم الإنسان بأحكام الحقّ، فالنفع يعود إليه لا إلى الحقّ، كما أخبر تعالى في قوله: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾1.
فاللّه تبارك وتعالى وجودٌ غير متناهٍ من جميع الوجوه، وهو الكمال المطلَق، وغير مفتقِر لأيّ شيء، ولا ينقصه شيء حتّى يكمله الآخرون، بل كلّ ما عندهم منه، وليس لهم شيء من أنفسهم. إذًا، فجميع منافع الجهاد ترجع إلى الشخص المجاهد نفسه، فهو بجهاده سيفوز بخير الدنيا والآخرة.
الشروط العقائديّة والمعنويّة للجهاد
إنّ الجهاد عمليّةٌ هدفها تحقيقُ إحدى الحسنيين: إمّا النَّصر والغلبة على العدوّ، وبالتالي رفع ظلمه، وردّ عدوانه، وبسط العدالة، ورفع لواء الحرّيّة عاليًا، وإمّا الفوز بوسام الشهادة في سبيل الله. ولكي تتمّ هذه العمليّة بأبهى صور النجاح والكمال، كان لا بدّ
1- سورة العنكبوت، الآيتان 6 - 7.
139
111
الدرس الثاني عشر: الجهاد ودوره في القرب من الله
من وجود مجموعة من الشروط والظروف المعنويّة والعقائديّة، بحيث يصير الوصول إلى الأهداف الإلهيّة الكبرى متيسّرًا بفعل هذه الشروط مجتمعة. وأبرز هذه الشروط هي:
1- الإخلاص لله تعالى:
المجاهد في سبيل الله، عند أدائه لواجباته وتكاليفه الشرعيّة، هو في حالة عبادة، ولأعماله بُعدٌ إلهيّ يمكن أن يرفعه إلى أعلى عليّين، ويقرّبه من الحق نجيًّا، في حال اتّسمت أعماله ونواياه بالإخلاص. أمّا إذا لم تكن النوايا خالصةً، ولم يكن الدافع الأساس من وراء الجهاد رضا الله وأداءَ التكليف الشرعيّ، فلن تكون الأعمال مقبولةً، وبالتالي لن ينال الأجر والثواب الذي يستحقّه. ففي الحديث القدسيّ المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "يقول اللَّه عزّ وجلّ: أَنا خير شريك، من أَشرك معي غيري في عملٍ عمله لم أَقبله، إلّا ما كان لي خالصًا"1.
2- التحلّي بالصبر:
من العوامل المهمّة للتوفيق في الجهاد هو تحلِّي المجاهد بالصَّبر، وقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "الصبر أن يحتمل الرجل ما يَنُوبه، ويكظم ما يُغضبه"2.
3- التحلّي بالشجاعة:
الشجاعة صفة في النفس تدفع بالمجاهد إلى الثبات في ميادين الحرب والجهاد في مواجهة أعداء الله تعالى وأعداء الإنسانيّة، وتؤهّله لتحمُّل الشدائد والصعاب وأعباء القتال ولوازمه.
قال تعالى ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾3.
4- طاعة الوليّ وأداء التكليف:
إنَّ الطاعة للإمام في زمن الغيبة هي للفقيه الجامع للشرائط المعتبَرة، وهي في مستوى
1- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص295.
2- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص56.
3- سورة الفتح، الآية 29.
140
112
الدرس الثاني عشر: الجهاد ودوره في القرب من الله
طاعة الإمام المعصوم نفسه. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾1.
والنظام العسكريّ الذي يقيمه الوليّ الفقيه قائم على وجود القائد لهذه المجموعة أو تلك، والطاعة للقيادة العسكريّة يكمن فيها سرُّ النَّجاح وتحقيق النَّصر، ومن دون الطَّاعة، لا بدّ أن يقع التنازع والفشل والخسارة2. من هنا، وجب على المجاهد طاعةُ الوليّ والالتزام بأداء التكليف.
5- امتلاك الوعي والبصيرة السياسيّة:
إنَّ معرفة الزمان والظروف الخاصّة لكلّ عصر، ومعرفة الصديق من العدوّ، ومعرفة خطط العدوّ الشيطانيّة، وامتلاك الوعي والبصيرة، تعدُّ كلُّها جزءًا من البرامج الأساس للمؤمن بصورة عامّة، والمجاهد بصورة خاصّة. يقول الإمام الرضاعليه السلام: "المؤمن العارف بأهل زمانه لا تهجم عليه اللوابس"3.
1- سورة النساء، الآية 59.
2- في سؤال وُجِّه للإمام الخمينيّ قدس سره: "يُلحظ أحيانًا أنّ بعض الإخوة المقاتلين لا يراعون بدقَّة المقرّرات المعيّنة من قبل القادة، ولا يستخدمون الوسائل المؤمِّنة والواقية كخوذتهم ونظّاراتهم الخاصَّة وما شابه ذلك. وعدمُ الاعتناء هذا يؤول أحيانًا إلى الشهادة وجرح هؤلاء أو مقاتلين آخرين غيرهم، وهم يتصوَّرون أنّ ذلك عملٌ صحيح لأنّه يؤدّي إلى الشهادة، فهل هذا العمل جائز أم لا؟ نتمنَّى بيان رأيكم المبارك. قال في الجواب: يجب على المقاتلين الأعزَّاء العمل بحسب مقرّرات الجبهة وأوامر مسؤوليها، ومراعاة الوسائل المؤمِّنة والواقية، ولا يجوز التخلُّف".
3- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص27.
141
113
الدرس الثاني عشر: الجهاد ودوره في القرب من الله
المفاهيم الرئيسة
1- الجهاد لغةً من الجهد، وهو بذل الوسع والطّاقة، أو تحمّل العناء والمشقة. أمّا اصطلاحًا، فقد عرّف الفقهاء مصطلح الجهاد بأنّه: "بذل النفس وما يتوقّف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجهٍ مخصوص، أو بذل النفس والمال والوسع في إعلاء كلمة الإسلام، وإقامة شعائر الإيمان".
2- عندما ننظر إلى آيات القرآن الكريم، نجد أنّه قَلّما نزلت آيات بشأن فرعٍ من فروع الدين الإسلاميّ كما هو الحال بشأن الجهاد، ثمّ نجد أنّه نزلَ بعضٌ منها بلسانٍ صريحٍ، ينصّ على الجهاد والقتال، وبعضٌ آخر بلسانٍ غير مباشر، يتعرّض إلى المسائل الجانبيّة المتعلّقة به.
3- إنَّ الجهاد في سبيل الله أحد أبرز مصاديق العمل الصالح وأحبّها إلى الله تعالى، وعليه، فالعلاقة بين الإيمان وبين الجهاد علاقة تلازميّة، فالمجهاد في سبيل الله ينبغي أن يمتلك البصيرة والوعي والاعتقاد الصحيح، وهو الإيمان الصادق بالله تعالى.
4- لا يحقّ للإنسان، مع الالتفات إلى علمه المحدود والناقص، أن يعترض على علم الحقّ اللامحدود، ولا على أحكامه الإلهيّة، بل عليه أن يعلم يقينًا أنّ الله تعالى، الرحمن والرحيم، عندما يشرّع تشريعًا ما، كالجهاد مثلًا، فإنّه لا يشرّعه إلّا لأنَّه يرى فيه الخير والسعادة والنجاة، لذا، على المؤمن أن ينظر إلى الأوامر والأحكام الإلهيّة على أنّها كالأدوية الشافية له من كلّ علّة، وعليه أن يطبّقها بمنتهى الرضا والقبول والتسليم.
5- إنّ الجهاد عمليّةٌ هدفها تحقيقُ إحدى الحسنيين: إمّا النَّصر والغلبة على العدوّ، وبالتالي رفع ظلمه، وردّ عدوانه، وبسط العدالة، ورفع لواء الحرّيّة عاليًا، وإمّا الفوز بوسام الشهادة في سبيل الله.
6- إنَّ أبرز الشروط العقائديّة والمعنويّة للجهاد هي: الإخلاص لله تعالى، التحلّي بالصبر، التحلّي بالشجاعة، طاعة الوليّ وأداء التكليف، امتلاك الوعي والبصيرة السياسيّة.
142
114