فرقة الأخيار - الجزء الثاني


الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2018-01

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدّمة الترجمة

 هي مذكّرات مقاتل، تختزنُ في تفاصيل أحداثها فلسفةً خاصة. يرويها تعبويّ معاندٌ صارَعَ لأجل غاية وأمل، .. تمرّس في الاستطلاع وعاين الأسماء والمواقع والخرائط، ووجّه الكتائب والسرايا، وهو جريحٌ رافقته هواجس وأوجاع، وعاشقٌ أحبّ واشتاق وانتظر.


انبعث من الأسرةِ والدراسة، وانجذب إلى عالم الجبهة ورفاق الصبا، وغاص في التدريبات والمهام والمتاريس والالتحام مع العدو، وشهود الموت.. وشهادة الرفاق.

منعطفات ومغامرات خاضها "مهدي قلي" في المحاور، ومقاساة الشدة في امتحان الصبر والبلاء، أفرزت تغيّرات صنعَها مع رجال الجبهة، وبانت صفاتٌ وملكات كشفت مدى ارتباطه بالله عز وجل.

هي رحلةُ شابٍّ اختزَن المعلومات والوجع والضحك والمشاكسة والدموع، ورائحة البارود، وعطر الشهداء، وملأ نفسه بحقائق أدركها وقرر نقلها لنا. نضعها بين يدي القارئ ليجول في دقائقها، ويكتشف عِبَرها.

وإن كانت خاتمة الثورات هي أكثر ما يوضح كم تركّز فكرُها في نفوس محاربيها، فهنا ستبدأ معالم هذا الفكر بالظهور. لتجيب عن السؤال: هل 
 
 
 
 
7

1

مقدّمة الترجمة

 كان "مهدي قلي" من المحاربين حُبًّا بالحرب أم بقرار عفوي، وهل كان في عداد اليائسين لما شاهد أو لما آلت إليه الأمور؟ أم هل تحرك ببصيرة لا تُضيِّع، وقناعات لا تموت؟ 


يسرّ مركز المعارف للترجمة أن يقدم الجزء الثاني من كتاب "فرقة الأخيار"، ضمن سلسلة "سادة القافلة" التي تصدر تباعًا عن دار المعارف الاسلامية الثقافية، استجابةً لهواجس الإمام القائد قدس سره في ما يتعلق بأدب الجبهة وثقافة الحرب، حيث عبّر سماحته: "هذه الحرب كنز. فهل سنقدر على استخراج هذا الكنز أم لا؟" وقال أيضا: "..ما أحمله في ذهني هو هاجس ضياع ثقافة الحرب وثقافة الثورة، وفي الحقيقة، روحية الثورة، ..التي أوجدت في الحرب ساحةً للرشد والتكامل".

ختامًا، لا بد من توجيه الشكر لكل من ساهم في إعداد النسخة العربية (الجزء الثاني)، ولا سيما:
- في الترجمة: إيمان صالح، حنان الساحلي.
- في التحرير والتبويب: نجوى الموسوي.
- في التدقيق اللغوي: عدنان حمّود.

ويبقى الشكر موصولاً لمعدي الكتاب الأصل، الكاتبة: معصومة سبهري، الراوي الغواص، ورجل الاستطلاع: مهدي قلي رضائي. وكامل الشكر للأخوة في مكتب "أدب وفن المقاومة" ومؤسسة "سوره مهر".
 
 
مركز المعارف للترجمة
13 رجب 1437
 
 
 
 
8

2

منطقة الخداع

 منطقة الخداع

ربيع وصيف 1986م
 
في "شط علي" عشنا ما يُشبه "استراحة المقاتل". عادت مجموعةُ المشاكسات و"المقالب" بين الشبان، ولم تخلُ من نفحات.

كأنَّ حيرتي لعدم توفيقي للشهادة، كان لها أفُقٌ لا بد من بلوغه، بدأ بسباحتِنا عكس التيار وإعلانِنا "الحرب" على "الرياء والغرور"، ولم ينتهِ في "خرمشهر"، حيث تجلت لنا الفروقات بين الناس سياسيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا.

حاولنا إيجاد الجزيرة المناسبة للمهمة، وغمرني الأسى لأخبار القنابل العراقية الكيميائية على مناطقنا، وما إن قوِيَتْ وتيرة العمل حتى "ظهرت نقاط سوداء عدة" في السماء، وفجأة..
 
 
 
 
 
9

3

منطقة الخداع

 1


اقترن اسم "شطّ علي" بذكرى استشهاد أفضل صديق لي "حسين محمديان". لم يسبق لي أن رأيت المكان من قبل، ركنتُ السيارة قرب بوابة الحراسة، أجريتُ مكالمة هاتفية وانتظرت قدوم من يرشدني إلى مقر الاستطلاع الكائن وسط مياه الهور.

اغتنمت الفرصة وجلتُ في الأرجاء متفقّدًا المكان. قال أحد الإخوة مشيرًا إلى نقطة: هناك استشهد "حسين محمديان"، تتبّعت إشارته بعيني واجتاحني شعورٌ عجيب، شعورٌ بلذةٍ نَبَعت من أعماق حزني الدفين. كان ربيع 1986م، وقد ازدانت طبيعة الهور بجمال لا يضاهيه أيّ مكان آخر، لا منطقة "والفجر8"، ولا نهر "أروند" ولا حتى "الفاو" و"مصنع الملح" ببهائها واتساعها. كانت الطبيعة في الهور تدعو الإنسان إلى العودة إلى مبدئه، وتقرّبه أكثر فأكثر من خالقه.

سلخني صوت محرّك القارب عن خيالاتي، وكان مؤذنًا بالفرج. وصل القارب إلى المرسى الذي كان مبنيًّا من جسرين مخصّصين لعبور السيارات، وُضع أحدهما بجانب الآخر. وقد أحيط بإطارات السيارات المطّاطيّة لمنع تضرّره عند اصطدام القوارب به. وقع نظري على قائد القارب فانفجرتُ بالضحك لا إراديًّا، كان يقوده صديقي "محمد بور نجف". وعلى حد قول الشباب، التقى "مُشاغِبا الوحدة" مجددًا! بعد التحية والسلام والسؤال عن الأحوال، نَقَلنا الوسائل والمؤن إلى القارب وانطلقنا نحو المقر.

يقع "شط علي" إلى يمين الطريق المعروف بـ"جادة الخندق". كنتُ
 
 
 
 
10

4

منطقة الخداع

 قد رأيتُ الهور أول مرة عند مشاركتي في عمليات "بدر" التي وقعت شمالي الجادة. تختلف طبيعة الهور بين يسار "جادة الخندق" ويمينها! أقصد بين منطقة عمليات "بدر" و"شط علي"! فهنا تكثر المجاري المائية مع غطاء نباتي خفيف، والبحيرات الواسعة والعميقة الخالية من الغطاء النباتي، وتعتبر بحيرة "أم النعاج" من أجمل بحيرات "شط علي".


وأكثر الظواهر الطبيعية التي جذبتني في "شط علي" ظاهرةُ الجُزر العائمة، الكبيرة منها والصغيرة، والمعروفة باسم "الطّحَل". تكوّنت تلك الجزر بفعل انسلاخ جزء من تربة حقول القصب الكثيفة، لتطفو على السطح بهذا الشكل. كان حجم بعضها كبيرًا جدًا لدرجة أن الإخوة بنوا عليها مقرّاتهم وركنوا فيها سياراتهم. وبعضها الآخر كان أصغر نسبيًّا من غيرها مثل "جزر الطحل"، لم تكن تلك الجزر لتتحرك من مكانها إلا إذا حرّكناها بأنفسنا، ذلك أن مياه الهور راكدة بعض الشيء، وكان ممكنًا تحريك بعض "الطحل" الصغيرة عند ربطها وجرّها بالقوارب.

توزّعت القوات في "شط علي" على محورين. بُني المحور الأول من جسور المشاة1، ونُصبت عليه الخيم وجُهّز المقر الذي تولّى مسؤوليته الأخ "رحمة الله أوهاني". أما مقرّ المحور الثاني فقد رُصف فيه عدد من الجسور على شكل مربع كبير ونُصبت عليه الخيم كذلك، وفيه تموضع عناصر وحدة الاستطلاع. قرب الخيم، رُصفت حوالي 10 جسور مشكّلةً
 

1- عبارة عن مكعب مستطيل الشكل بطول مترين وعرض متر واحد وارتفاع 40 سم، من مادة الفلّين الأبيض (يونوليت) المغلف بصفائح الألمونيوم، وتبقى طافية على سطح الماء.
 
 
 
11

5

منطقة الخداع

 ممرًا بطول 20 مترًا يصل إلى المرافق الصحية، كما أُضيفت 3 جسورٍ أُخرى منتصف الممر، نُصبت عليها خيمة التموين، و7 جسورٍ أخرى مرّت من أمام المرافق الصحية وصولًا إلى مجرى الماء، فتشكّل بذلك حوضٌ مائيّ في الوسط، استخدمه الإخوة للسباحة.


في هذا الجزء من الهور، يعيش نوع من الأسماك يقتات على القاذورات، حتى غائط الإنسان. وكأنها خلقت لتنقية وتصفية المياه. أطلق الإخوة عليها اسم "أبو الشنب". صحيح أن لتلك الأسماك فوائدَ متعددة، لكنها شكّلت خطرًا علينا، إذ كانت تلدغ كالعقرب، فيتورم مكان اللدغ ويسودّ لونه. كنت قد رأيت هذا النوع من الأسماك في منطقة عمليات "بدر"، لكنّها في الهور كانت كبيرة الحجم، وكان الإخوة يوصون الجميع، خاصة العناصر الجدد، بالابتعاد عنها في حال رؤيتها أو إطلاق النار عليها، إذ من الممكن أن تتسبّب بموت من يُصاب بلدغتها. لم أصدق كلامهم حتى صادفتها مرّةً، فقد أرعبتني حقًا! بلغ طول بعضها مترًا واحدًا، وقد ظهر من فمها 4 أو 5 أنياب حادة ذكّرتني بالمسلّة التي تستخدمها والدتي في خياطة اللحاف أو الفِراش. الفئران أيضًا كانت تعيش في حقول القصب المنتشرة في أرجاء الهور! ويا لها من فئران! أذهلتني سرعة غطسها ورشاقة سباحتها تحت الماء. كانت سريعة لدرجة أنها ما إن تشعر بوجود أحد، تغطس بسرعة وتسبح مسافة 10 أمتار، ثم تطفو مجددًا. سببت لنا تلك الفئران مشاكل عدة، إذ لم تُخلِ الميدان ليل نهار، ولم يكن من سبيل للخلاص منها، فأُضيفت مهمة جديدة إلى مهام "بلدية الوحدة" المؤلفة من رئيسٍ وعددٍ من العناصر
 
 
 
 
12

6

منطقة الخداع

 بصفة "منظّفي البعر" عمال التنظيفات، وقد تطوّعتُ لأكون واحدًا منهم. كنّا نستيقظ في الصباح الباكر ونخرج من الخيم حاملين الدلو، فنغرف المياه ونغسل الجسور وأرضيّات الخيم والقوارب والزوارق، ومن فوائد ذلك، إضافة إلى النظافة، ابتعاد الفئران عن المكان طوال النهار. حتى إنّنا كنّا نغسل أقدامنا قبل دخول القارب، إضافة إلى غسله يوميًا لعدم اطمئناننا بأن الجميع يحذون حذونا.


كان هذا عملي في الأيام الأولى، كما إنّني كنت أجول لأتعرّف إلى المنطقة عن كثب. كان معظم عناصر الوحدة حاضرين في المقر، منهم: "أصغر عباس قلي زاده، ناصر ديبائي، إبراهيم أصغري، عباس محمدي، منصور مسعودي، غلام علي كلانتري، محمد بور نجف، يوسف صارمي، أحد بيرامي، مير داوود حسيني، كريم آهنج" وغيرهم.

مع أن لقائي برفاق الدرب المشاغبين في الوحدة، قد أيقظ ميولي إلى المشاغبة والمشاكسة مجددًا، إلّا أنّ شعوري بالمسؤولية زاد بعد استشهاد صديقي "حسين محمديان"، ودفعني للانضباط أكثر وعدم التكاسل. وحين وجدت أن وقت الإخوة يذهب هدرًا، وأن الكسل قد دبّ فيهم، ذهبت إلى مسؤول الوحدة الأخ "عباس قلي زادة" وقلت له: "من المؤسف أن لا تكون لهذه النخبة من عناصر الوحدة برامج للتدريب والتعليم"، واقترحت تنظيم دورة تدريبية.

- هذه المرة الأولى التي أسمع فيها كلامًا كهذا يا "مهدي قلي"، يكاد الإخوة يعتادون على الرخاء والكسل، ولم يفكر أحد في هذا الأمر!
 
 
 
13

7

منطقة الخداع

 كان كلامه هذا يعني الموافقة على اقتراحي. لذا ومن دون أي تأخير، نظّمنا دورة للتدريب على الغوص وتعلّم أساليب الاستطلاع. فكنّا نتدرب على قيادة الزوارق قبل الظهر وعلى الغوص بعده. سُرعان ما شُكّلت صفوف تعلّم قراءة الخرائط، استطلاع المحاور، الدوريات العسكرية، إضافة إلى تبادل التجارب والخبرات. كان أهم صف بالنسبة لي، صف تبادل التجارب والخبرات، الذي كان يُديره في كل مرة أحد عناصر الوحدة متحدثًا عن تجاربه في الاستطلاع. وكنت أسجّل بشكل سرّي كل ما يدور في ذلك الصف.


*

تقدّمت عملية التعليم والتدريب مع الأيام، وقد ظهر إبداع الإخوة بقوة في الميدان، رغم ميلهم إلى المشاغبة والشقاوة. في إحدى المرات، وبعد أن شهدنا تصرفات الأخ "أوهاني" قررنا القيام بعمل ما لإغاظته:
- مذ أصبح مسؤولًا صار يتعالى علينا...

- كان حتى الأمس يأكل وينام معنا في متراسٍ واحدٍ، أمّا اليوم فأصبح يتكبّر علينا...

قرّرت مع "محمد بور نجف ورسول سعيدي" اللذين يشاركاني دائمًا الرأي، القيام بما ينبغي! وبما أن معرفتنا بالمحور الأوّل ضئيلة، قمنا بعملية استطلاع له مقدمةً لذلك. اغتنمنا هدوء ما بعد الظهر، ارتدينا بدلات الغوص ونزلنا الماء. انطلقنا من المجرى الذي يمرّ خلف خيمة القيادة، فوصلنا بعد دقائق. كان كلّ شيء هادئًا. خرجنا من الماء
 
 
 
 
 
14

8

منطقة الخداع

 واختبأنا خلف الخيمة. كانت محفظة الثلج المطاطيّة (الكاوتشوك) قريبة من حافة الخيمة بشكل يمكن الوصول إليها وإفراغها من محتوياتها فقط برفع جانب الخيمة قليلًا. أنجزنا المهمة بنجاح، لكن ذلك لم يكن ليرضيني فقلت: "هذا لا يكفي لتأديب "أوهاني" هذا!".


- ماذا تقترح إذًا؟

- ما رأيكم أن نقطع تواصله مع القيادة بشكل كامل؟

بدأنا بقطع كل سلك تصل أيدينا إليه. في هذه الأثناء، سمعنا صوتًا يقول: "هكذا إذًا! سأشي بكم إلى الأخ "أوهاني"!".

كان هذا صوت "أصغر نعمتي" الذي ارتاب من وجود 3 غواصين قرب خيمة القيادة، فجلس ينظر إلينا بهدوء، كان يعرفنا جيدًا. لكن "رسول سعيدي" لم يدعه يكمل كلامه، بل قال له بلهجة جادة محذّرًا: "سأقطع رأسك إن تفوّهت بكلمة!". غصنا داخل الماء بسرعة، وكان "رسول" يلتفت بين الحين والآخر مشيرًا إلى "أصغر نعمتي" بإشارات التهديد. كما نظّمنا أثناء العودة شعارات التنديد بأوهاني.

لم يصدر من قيادة المحور في ذلك اليوم أي ردّ فعل ينمّ عن معرفتهم بأننا الفاعلون، ما يعني أنّ "أصغر نعمتي" قد أخذ تهديدات "رسول" على محمل الجد. بعد ذلك اليوم، صرنا نردّد 
الهتافات المنددة بأوهاني أينما نلقاه وفي أي وقت من الأوقات: "النصر للدفاع الجوّي... الموت لأوهاني... السلام على حرّاس الحدود... الموت لأوهاني!".

كان المسكين يستشيط غضبًا من هذه الشعارات، فيتحاشى اللقاء بنا، وعند اضطراره للحضور إلى مقرنا متجاهلًا المخاطر التي يمكن أن
 
 
 
 
15

9

منطقة الخداع

 يتعرض لها، كنّا نقوم بواجب الاستقبال على أكمل وجه، فما إن يضع قدمه الأولى على الجسر محاولًا الخروج من القارب، حتى نقوم بحركة فجائية يتبعها اهتزاز الجسر، فيتأرجح المسكين ويسقط إلى الماء وهو يتمتم ببعض الكلمات التي تثير حفيظة الإخوة، ويلحق به 10 عناصر، لا لإنقاذه بالطبع! بل لرمس رأسه تحت الماء!


لقد وصل بنا الأمر إلى حدّ جعلنا نتربص ببعضنا بعضًا على الدوام. في بعض الأحيان وأثناء انشغالنا بقيادة الزوارق وسط الماء، يصل إلينا بقاربه ذي المحرك، كنّا نعرف تمامًا أنه ينتظر الفرصة للانقضاض علينا والانتقام منّا، فكان يمرّ بالقرب منّا بسرعةٍ كبيرةٍ تُحدث أمواجًا عالية، تؤدي إلى انقلاب زوارقنا رأسًا على عقب، فنسقط في الماء. كان "أوهاني" الشخص الوحيد الذي وصل مزاحنا معه إلى هذه الدرجة.

*

ارتبطت الحياة في المقر بالماء ارتباطًا وثيقًا، لدرجة أننا أصبحنا ماهرين جدًا في السباحة، فكنّا ننتقل في المقرّ من جانب إلى آخر سباحة، بسرعة وسهولة. كنّا على استعداد دائم للغطس والسباحة، لذا كنا نرتدي الثياب الخفيفة التي لا تثقل أوزاننا في الماء. من إيجابيات إقامتنا قرب الماء، اكتساب جميع عناصرنا اللياقة البدنية اللازمة، حيث صرنا نطوي مسافة 8 كلم تقريبًا سباحةً من دون أي مشكلة، في الحقيقة كان أحد أهم أهداف تموضع فرقة عاشوراء قرب الماء، هو جعل عناصرها أكثر استعدادًا وجهوزية للعمليات القادمة، التي ستجري في مناطق مشابهة.

*
 
 
 
 
16

10

منطقة الخداع

 حلّ شهر رمضان، وقد استنفدنا كلّ الطرق والحيل ليسمح لنا المسؤولون بالصوم، لكن من دون جدوى. ازدهرت مراسم التعزية، وكنّا نختتم دعاء التوسل بالتعزية واللطميّات، إضافة إلى دعاء كميل، ونقيم جميع الصلوات جماعة بإمامة أحد طلاب الحوزة الدينية ويدعى "حسن نصيري". كما كنّا نتلو دعاء العهد ونتأمل شروق الشمس الرائع على الهور كلّ صباح.


ترافقت ليالي فصل الصيف الحارة مع هجوم البعوض، لذا جعلنا من جسور المشاة خارج الخيم ما يشبه الأسرّة، وأحطناها بالناموسية لتقينا الحرّ ولسعات بعوض الهور اللجوجة. كان النوم خارج الخيم ممتعًا جدًا، حيث يهبُّ علينا الهواء العليل المنعش، وتُطْرِبُ آذاننا أصواتُ حفيف القصب، وتسحرُ أنظارنا سماءُ الهور الصافية المشعة بالنجوم. كان للحياة وسط المياه محاسن أخرى، إذ لم يكن على الإخوة الذين يريدون الاغتسال البحث عن الحمّامات والوقوف في الطابور انتظارًا لدورهم. كنا في بعض الأيام نستيقظ على صوتِ سقوط جسم في الماء، فنعلم أن أحدهم -حتى لا ينزل وحده إلى الماء- قد دفع باثنين آخرين ليسقطا معه.

وقفت في صباح أحد الأيام في صفّ انتظر دوري إلى بيت الخلاء، فهمس أحد الإخوة في أذني: "ادفعني يا "مهدي" إلى الماء كي أستفيق ويذهب عني النعاس".

- لِمَ أدفعك أنا، هيا اقفز بنفسك!

فما كان منه إلا أن دفعني إلى الماء أنا وعددًا آخر من الإخوة
 
 
 
 
17

11

منطقة الخداع

 المنتظرين، وكي لا يسبب هذا الأمر الإحراج للإخوة، كان يعلو صوت: "لا يبقى أحد على الجسر، ولينزل الجميع إلى الماء". لكن على سبيل المزاح والمشاكسة، كان بعض الشباب يرفضون ذلك، وكنت واحدًا منهم لأنني أكره أن تبتلّ ملابسي، لكن لا حيلة للفرار من ذلك، والويل كلّ الويل لمن لا ينفّذ الأمر. كان بعضهم يتعمّد الوقوف للصلاة فور سماعه للأمر، لكن حتى هؤلاء لم يرأف الشباب بهم، فكانوا يحملونهم وهم على تلك الحال، ويرمون بهم وسط الماء.


لجأتُ في أحد الأيام إلى أعمدة الخيمة فتسلّقتها وتشبثت بها. طال البحث عنّي من دون أن يجدني أحد. فجأةً علا صوتُ "يوسف صارمي" حين دخل الخيمة وانتبه لوجود ظلال شيء ما: "... من الذي تسلّق أعلى الخيمة؟... أنا أرى ظلّه من هنا...". وقبل أن أتمكّن من القيام بأي حركة، عاجلني بضربة شديدة على ظهري فأفقدني توازني ودفعني بعيدًا عن الخيمة، لكن لسوء حظّي، بدل أن أسقط في الماء سقطت بين القصب القريب من الجسر، فجُرحت جرحًا سطحيًّا، مع أنّ كلّ من شهد سقوطي توقّع أن لا أخرج حيًا.

*

من الحوادث التي اعتدنا عليها في المقر، فقدان بعض الأدوات والملابس الصغيرة، كسجادة الصلاة، والملابس الداخلية، أو أي شيء كنّا نضعه ليجفّ. ولأنّ ثقتنا بالإخوة أكبر من ثقتنا بأنفسنا، ولأن الأشياء الضائعة لم تكن مهمة أو ذات قيمة كي يُخفيها أحدهم بقصد المزاح، لم نشك في أيّ منهم.
 
 
 
 
18

12

منطقة الخداع

 في إحدى الليالي استيقظت مذعورًا على صوت شقّ (تمزّق) شيءٍ مطّاطي. كان الصوت صادرًا من جهة الجسور. لم تعدْ تلك الجسور آمنة، فالأصوات الصادرة منها مرعبة إلى درجة كبيرة، قررتُ أن أخبر الإخوة بما يجول في خاطري: "هذه الفئران لا تنام ليلًا، ولا تدع أحدًا ينام، أعتقد أنها تقوم بشيء ما داخل الجسور". في النهاية قررنا تعقّب الفئران وكشف سرّ الصوت.


دخل الفأر الذي كنّا نتعقبه تلك الليلة إلى داخل الجسر، وأخذ يُصدر الصوت نفسه الذي أفزعني ليلًا. أدركنا من الصوت أنه يتحرك داخل الجسر، وقمنا بإحداث فجوة في النقطة التي توقف فيها. كان الأمر غاية في الصعوبة واستغرق وقتًا طويلًا. أخرجنا من الفجوة قطعًا من ألبسة مختلفة: كوفية، لباس داخلي وسجادة الصلاة التي فقدها "أصغر" وبحث عنها في كل مكان، كان على السجادة خمسة فئران حديثة الولادة. أفرغنا ما كان على السجادة في الماء، فأصبحت تلك الفئران الصغيرة لقمة سائغة لأسماك الهور.

أصبحنا بعد ذلك أكثر حذرًا، ولم نعُد نتعجّب من فقدان أيّ شيء.

*

على الرغم من أنني أنِستُ الحياة مع الإخوة، حيث أنستْني بعضًا من أحزاني، إلا أنّني كنت ألجأ دومًا للاختلاء في الطبيعة بعيدًا عن الأنظار. لأراقب الطيور، البط، ضفادع الماء، الأسماك وغيرها وهي تنتقل في الماء وبين القصب. كنت أراقب سماء الهور التي تشعر بالأمان، وكأنما المنطقة لم تعرف الحروب ولا قصف المدافع ولا أزيز الرصاص منذ أمد
 
 
 
 
19

13

منطقة الخداع

 بعيد. أصبحت البحيرات ملجئي وملاذي، أقضي فيها ساعاتٍ طويلة، أقف في الماء أتأمل الحيوانات التي اعتادت وجودي وهي تمارس نشاطها بشكل طبيعي. كانت فرصة جيدة، تمكنت خلالها من سبر غور طبيعة الهور الخلابة.


قضينا أيامَ شهر رمضان المبارك بالتوسل والتضرع إلى الله عزّ وجلّ. كنت أعتقد في تلك الليالي أن صفاءَ الهور وجماله مدينان لجمال النفوس القاطنة فيه وصفائها. حلّت الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، يوم القدس العالمي، الذي أحييناه في مسيرة جُبنا خلالها الجسور ومحيط المقرّ مردّدين شعار "الموت لإسرائيل".

لم تُحدّد أي مهمة خاصة للوحدة، فقرر الأخ "أصغر" تنظيم برنامج جديد، يتمكن فيه الإخوة الجدد من تطبيق ما تعلّموه عمليًا، ويكون مذكّرًا للعناصر القدامى. لم نخبر الإخوة بالقرار الجديد بعد، حتى جاءت الأوامر بنقل عدد منهم إلى الأهواز: "أنا وكريم حرمتي، ناصر ديبائي، أصغر عباس قلي زاده، كريم آهنج، يوسف صارمي، حسين يوسفي، أمير أسد اللهي، حميد اللهياري ورضا سلطان زاده" وثلاثة آخرين. تقرر أن يقوم من بقي بتنفيذ البرنامج المتفق عليه إلى حين صدور أوامر جديدة.

2

كان الأخ "كريم فتحي" في الأهواز. منذ زمن بعيد لم ألتقِ به. لَكَمْ اشتقتُ لسماع نصائحه! عيّن الأخ "كريم فتحي"، "كريم حرمتي"، معاونًا للوحدة. قلّما كان الأخ "فتحي" يحضر في الوحدة على الرغم من مرور أشهر عدّة على عمليات (والفجر 8) وإصابته بجروح. لكن الأخ
 
 
 
 
20

14

منطقة الخداع

 حرمتي تمكّن من تيسير أمور الوحدة وتنظيم أعمالها. أُخبرنا هناك عن خصوصيَّات وميِّزات المنطقة المفيدة في التدريبات القادمة، بعدها استلمنا الوسائل اللازمة المقررة للوحدة، وخرجنا من القاعدة الجوية في الأهواز.


انطلقنا من مكان قريب من "هفت تبّة"1، على الطريق المؤدّي إلى مقر فرقة (كربلاء 25). يتراوح عرض النهر في تلك النقطة بين 600 و700م، ويجري الماء فيها بسرعة شديدة، ما جعلها المكان الأنسب للتدريب. لم نجد بقعةً مناسبةً على ضفّة النهر لإقامة المقر، لذا اخترنا جزيرة مناسبة وسط الماء ولا تحتاج إلى حراسة مشددة من جهة أخرى. أنزلنا إلى الماء 3 قوارب مجهزّة بالمحركات، نقلنا فيها تجهيزات 20 عنصرًا من خيم، وبطانيات ومؤن، إلى الجزيرة التي جهَّزنا فيها مرسًى خاصًا.

يبلغ طول الجزيرة 500م وعرضها200م تقريبًا، تغطيها الأشجار الصنوبرية والأعشاب التي ساهمت الحرارة والرطوبة في نموها بشكل كبير. على ضفة نهر "كارون" يوجد مجمّع " الزراعة والصناعة" التابع لـ "هفت تبّة". كانت مياه ريّ مزارع قصب السكر تصب في النهر، لذا كانت مياهه موحلة على الدوام.

وُضعت البرامج الأولية لتدريب القوات. في اليوم الأول جاءنا خبر نقل ما تبقّى من عناصرنا في "شط علي" إلى منطقة "الشيخ صالح"
 

1- التلال السبع.
 
 
21

15

منطقة الخداع

 غربي البلاد في مهمة استطلاع للمنطقة. بعدها مباشرة، وصلنا خبر نقل قوات كتائب فرقة "عاشوراء" إلى الجبهة الغربية. كان تحليلنا لهذين الخبرين - اللذين كان وقعهما علينا كالصاعقة - أنّ العمليات ستكون غربي البلاد، وأننا لن نشارك فيها هذه المرة. كيف لي أنا الذي شاركت في أغلب عمليات الاستطلاع، أن أبقى في جزيرة وسط المياه أتلهّى بالتدرّب والتعلّم، بينما باقي الإخوة منشغلون في جبهات الغرب بعمليات الاستطلاع والتمهيد للمعارك القادمة؟!


صحيح أنّ هذه الأخبار قد أثّرت سلبًا على معنويات الإخوة ونشاطهم، إلّا أنّ قلبي كان يحدثني "أن الدور الرئيس سيكون لنا في المعارك القادمة". فنخبة عناصر الوحدة ذوي الخبرة كانوا معنا. على الرغم من كلّ الشواهد الظاهرية التي تحكي عن إبعادنا عن العمليات القادمة، إلّا أنه كان لدي اطمئنان بأنّه سيعهد إلينا بدور خطير بالغ الأهمية، لم تُكشف أي معلومات عنه حتى الساعة! زاد ذلك الحدس من نشاطي وحماستي، فكنت أشارك في أي مهمة وأي تدريب حتى أكون على أتمّ الاستعداد والجهوزية للعمليات القادمة، وكي تشملني العناية الإلهية برحمتها.

أنساني حضوري بين الإخوة الشعور بالغربة الذي أحسستُ به بعد استشهاد "حسين محمديان"، ولو ظاهريًا، إلا أن ذلك الينبوع الفوار الذي تفجر في أعماقي كان يحرقني حينًا، ويبلسم جراحي حينًا آخر، ويعصف بي مخترقًا أعماق وجداني أحيانًا أخرى. كادت الأفكار التي اجتاحتني بعد عودتي سالمًا من عمليات (والفجر8) وعمليات "يا
 
 
 
 
22

16

منطقة الخداع

مهدي" أن تقتلني. هل كسلي وتهاوني في أداء واجباتي قد حجبا عني نعمة الاستشهاد؟! لذلك عاهدت نفسي على أن لا أتوانى عن القيام بأيّ عمل يخدم الجهاد والحرب، فتراني بعكس الأيام التي مضت، وفي مواقف مشابهة، لم أنبس ببنت شفة، ولم أرفع صوتي بالاعتراض والمطالبة بنقلي إلى حيث يجب أن أكون، بل بقيت صامتًا محاولًا استشعار قدر ممّا استشعره "حسين" قبل استشهاده. ألا وهو العمل في "منطقة الخداع".

*

تولّى "عباس قلي" مسؤولية القوات، وقررّنا العمل على محورين، وشكّلنا أربع فِرق (مجموعات). توليت مع "ناصر ديبائي" مسؤولية محور التعليم، وعيّنتُ كلًّا من "كريم آهنج ورضا سلطان زادة" مسؤولين عن الفرق التي تشارك في دورات التعليم في هذا المحور. لم يكن اختيار المسؤولين عن الفرق صعبًا نظرًا إلى اللياقة البدنية والتجارب التي تمتع بها أغلب العناصر. اتبعت وحدة الاستطلاع خلال الحرب سياسة خاصة أثبتت تفوقها طوال الحرب: إفساح المجال أمام جميع عناصرها للعمل والنشاط في مختلف المراحل، مهما تغيرت الأوضاع وتبدّلت القيادات والفرق..

أصبح همّي الوحيد بعد توزيع العناصر وتقسيمها، تنظيم البرامج التي من شأنها رفع قدرات الشباب وتحسين لياقتهم البدنية. فالسباحة والغوص وقطع الأنهار صارت مسائل سهلة وعادية بالنسبة إلى جميع الشباب، لذا رأيت أنّه من الأجدر التدرب على السباحة بعكس التيار.
 
 
 
 
23

17

منطقة الخداع

 تجاوزتْ سرعة جريان الماء في تلك النقطة 50 كلم/ساعة تقريبًا. كنّا نتدرب على السباحة ببدلات الغوص والزعانف. ترك هذا النوع الجديد من التمارين أثره الطيب في نفوس الإخوة. 

قمنا بخطوات عدّة من أجل الحفاظ على سرّية المكان، منها اختيار اسم مستعار للجزيرة، الأمر الذي أضحى تقليدًا معروفًا ومتبعًا في الوحدة طوال فترة الحرب، فقد اخترنا للجزيرة اسم "مثلث برمودا"، وكان الإخوة يستخدمونه حتى فيما بينهم كي لا يعتادوا على ذكر اسم المكان الواقعي فيزلّ به لسانهم حيث لا يجب1.

الخطوة الثانية كانت منع الإجازات إلا في حالات المرض الشديد الذي لا يمكن معالجته بالأدوية المتوافرة معنا في الجزيرة.

كان الإخوة إلى جانب قيامهم بتلك المهام، يترصدون أخبار الجبهة غربيّ البلاد. وكانوا يحصلون عليها من مسؤول التموين الأخ "أمان الله أماني"، الذي اعتبر مصدرًا موثوقًا للمعلومات الدقيقة بمجريات الأمور في جبهة الغرب مع أنه لم يكن يجيبنا إلا عن 50% من أسئلتنا، وكنا نرسم صورة عن وضع المنطقة من خلال إجاباته. وكلّ المؤشرات كانت تدلّ على اقتراب المعارك. كنّا نلجأ للصلاة من أجل تسكين آلامنا وتعبنا، آمالنا وأمانينا.

دفعتنا أخبار المدن، لا سيّما الأحوال الاجتماعية، والحصار
 

1- كان الشباب في تلك الأيام يطلقون على "الشيخ صالح" بندر عباس، ثم أطلقوا بعد ذلك على المنطقة المستهدفة بالاستطلاع في سردشت اسم "الأرض السوداء" وعلى ماووت "ميغ ميغاليخ".
 
 
 
 
24

18

منطقة الخداع

 الاقتصادي وغيرها من المسائل، للتعلّق أكثر فأكثر بالجبهة. حيث أننا كنّا في قلب الجبهة لكننا لسنا في العمليات، لم يكن يشعرنا بالسكينة ويؤنسنا غير الدعاء والتضرع إلى الخالق. لطالما امتزج توسلنا بالدموع والدعاء لنصرة الإخوة، حتى وصلنا إلى مرحلة من الخلوص، جعلتنا نكبّل أيدي "الرياء"، فلم يعد يلجأ أحدنا إلى زاوية منعزلة ليصلي صلاة الليل، بل أصبح يبسط كوفيته ويصلي حيث هو. جعلنا البعد عن ساح المعارك كسيري القلوب، وأكثر غمًا ورأفة في آن.


كانت تلفتنا بعض تصرفات الإخوة الجدد، الظريفة والساذجة، وتثير ضحكنا أحيانًا، كتصرفات حديثي العهد بالمسؤولية، الذين كانوا يصرّون على اصطحاب بعض الإخوة إلى زاوية ما، وتقديم النصائح لهم. هذه التصرفات أشعلت سوق المزاح والطرائف ولم أكن مستثنًى منها. فقد كنت أنا أيضًا أعتقد في البداية أنه يجب تقديم النصح لبعض الإخوة. قمت بجمعهم في مكان ما، وعندما انتبهت إلى نظراتهم المريبة، قلت بكل كبرياء قبل توجيه النصيحة لهم: "أنا لست ابن سعد ولا الشمر، أنا شخص عادي مثلكم...". بالطبع أخذ الإخوة كلامي على محمل الجد! 

فقد انتفخت أوداجهم واحمرت وجوههم لشدّة ما جاهدوا أنفسهم ليمتنعوا عن الضحك! سرعان ما انتشرت هذه "النهفة" في أرجاء "مثلث برمودا"، فكان كل من يراني يقول ممُازحًا: "نعم يا سيد "مهدي قلي"! أنت لست "ابن سعد" ولا "الشمر"...".

من الوجوه التي لفتت انتباهي "أمير أسد اللهي" ذو السبعة عشر ربيعًا، كان من الذين أبدعوا في معارك "يا مهدي". كان فتًى مؤدبًا
 
 
 
 
25

19

منطقة الخداع

 مخلصًا، حسن السلوك، وقد حاز احترام الجميع ومحبّتهم، خاصة لقيامه لصلاة الليل. كان "أمير" وعدد آخر من الإخوة ينشأون أمامنا ليكونوا مشاريع شهادة. من الخصائص المشتركة بين هؤلاء الفتية، أنهم كانوا يسعون جهدهم لكي لا ينزعج منهم أحد، وكانت ابتسامة حبٍ وحنان ترتسم على وجوههم باستمرار.


*

أصبحتُ من الأشخاص المدمنين على استماع الأخبار، سواء الأخبار المحلية أو الدولية. سمعت ذات يوم خبر تقديم وزارة الخارجية الإيرانية، شكوى لمجلس الأمن بسبب قصف العراق مناطق في غرب إيران بالقنابل الكيميائية. تنازعني شعوران: شعور بالحزن والقلق على الإخوة في الجبهة الغربية، وشعورٌ بالأمل أن تنقل العمليات إلى منطقتنا ما دامت جبهة الغرب قد قُصفت بالقنابل الكيميائية، فتجدّد أملي بالمشاركة في العمليات ثانية. شاركت الشباب التحليلات والتوقعات:
- يبدو أنهم قصفوا منطقة "الشيخ صالح" بالقنابل الكيميائية!

- كيف لك أن تعلم، فالأخبار لم تحدد أي منطقة قد قُصفت في الجبهة الغربية.

- في الواقع، إنّ جبهة الغرب تعني "الشيخ صالح"، وبما أن المنطقة قد قصفت بالكيميائي، فمن المحتمل أن تتوقف عمليات الاستطلاع والهجوم هناك.

انتهى الحوار بين مؤيد ومخالف، وتقرر في النهاية التوكل على الله والتسليم لمشيئته وقضائه.
 
 
 
 
26

20

منطقة الخداع

 لم يمضِ يومان على قصف جبهة الغرب، حتى جاءت الأوامر بمغادرة الجزيرة. جمعنا أغراضنا وعتادنا بسرعة وانطلقنا نحو المنطقة الجديدة.


3

كانت المنطقة الجديدة، منطقة عمليات (والفجر8) ذاتها، وقد تموضعنا في المقر السابق للفرقة. كان الهدف إجراء "التدريبات" في نهر "أروند". تمّ توزيع العناصر والمهام، وتوليت مسؤولية مساعد الطباخ. هناك أيضًا -وكما في "مثلث برمودا"- كان علينا إعداد الطعام بأنفسنا. ذلك أنّ الفرقة لم تكن موجودة بكاملها في المنطقة، وإعداد الطعام لمجموعة من 20 شخصًا لم يكن بالأمر الشاق كي ننتظر وصول الطعام من مطابخ الفرقة. كانوا يعطوننا أسبوعيًا 3 أو 4 خرافٍ مجلدةٍ، إضافة إلى بعض المواد الأخرى. كنت أساعد الطاهي على طهوها وإعدادها، وأتسلّى بتلك المهمة طوال اليوم. فأكسبني ذلك خبرةً في الطهو.

كانت التدريبات تجري ليلًا لتحاكي ليلة العمليات. كنا فيما مضى نغوص ونسبح في نهر "كارون" مسافة 3 كلم بعكس التيار. لكنّ السباحة مسافة 100 مترٍ فقط في نهر "أروند" كانت أصعب بكثير. فجريان مياهه سريع وأمواجه عاتية وتغيّر اتجاهها بسرعة. كان تيار الماء يتّجه أثناء حركة المدّ نحو مدينة البصرة وأثناء حركة الجزر نحو الخليج الفارسي، وتتلاطم الأمواج العاتية والتيارات خلال الدقائق التي يحصل خلالها "تغيّر الجهات"، فيتجه تيار وسط النهر نحو الخليج الفارسي والتياران الجانبيان نحو مدينة البصرة.
 
 
 
 
 
27

21

منطقة الخداع

 كنا نحتاج إلى الكثير من الوقت كي نتعرّف إلى طبيعة هذه التيارات والتغيّرات التي تحصل في نهر "أروند" ونتصارع معه كلّ ليلة، إلا أنه كان يلزمنا الكثير من القوة والوقت كي نتغلب على كبريائه!


أثناء التدريبات، نُقل "حميد اللهياري" وعنصر آخرَ من بيننا إلى "خرمشهر". لم نكن نعلم حتى ذلك اليوم، أنّه تمّ نقل القوات العاملة في منطقة "الشيخ صالح" إلى "خرمشهر"، وخلال خمسة أيام، نُقل جميع العناصر من منطقة "أروند" إلى هناك أيضًا.

*

حدّد للإخوة مقر خاص بهم في "خرمشهر". كان "حميد اللهياري" أول من التقيت بهم هناك. وقد جمع خلال الأيام التي مضت معلومات جيدة ومفيدة حول المنطقة، فزاد من ثقتي به، وأصبحنا خلال المدة الطويلة التي قضيناها معًا، وشاركنا فيها في عمليات الاستطلاع من الأخلّاء المقرّبين.

- ما الأخبار يا حميد؟ كيف تجري الأمور؟

- اصبر قليلًا!

قال هذا ثم اصطحبني إلى زاوية وهو يحمل ورقةً وقلمَ رصاص. جلسنا وشرح لي كل ما عاينه خلال الأيام الماضية في المدينة: "هنا "أم الرصاص"، وهنا "بوارين".... ،هنا نهر " أروند"، وهنا "أم الطويل"... هنا يقع المضيق، ويوجد احتمال كبير أن تبدأ عمليات الاستطلاع في هذا المكان..." لقد مدّني بالكثير من المعلومات المهمة والمفيدة في آن.
 
 
 
 
28

22

منطقة الخداع

 عند أول فرصة، ذهبت وجُلتُ في المدينة، خرمشهر مدينةٌ سيطرت عليها أجواء مدهشة وكانت مفعمة بالحزن، فقد تحولت شوارعها وأزقتها وبيوتها إلى ركام، ودُمّرت أشجارها وكل شيء فيها. لقد اتخذت فرقة "عاشوراء" بعض المنازل في الحيّ المرفّه منها مقرًّا لها. كان المنزل الذي ضمّ مقر الوحدة لا يتّسع لجميع العناصر، لذا اتخذنا من الطابق الأول في المبنى المجاور المؤلف من ثلاث طبقات، والذي دُمّر منه الطابقان الثاني والثالث مقرًّا لنا وفرشنا أرضه بـ"الموكيت".


كانت جميع المباني المؤلفة من طابقين أو أكثر قد دمرت بفعل القصف والقذائف. لكن بقيت الطوابق الأرضية منها سالمة نسبيًا. بالطبع، لم يكن هناك لا ماء ولا كهرباء، وإن وجد الماء كان آسنًا.

كانت جولة واحدة على مدينة "خرمشهر" كفيلة لاكتشاف وجود طبقتين اجتماعيتين، طبقة صغيرة جدًا من الأغنياء فاحشي الثراء، والطبقة الأكبر من الفقراء. ورغم مرور سنوات الحرب، إلا أنّ بعض أثاث تلك المنازل كان لا يزال موجودًا، ويظهر بوضوح الشرخ الواسع بين الطبقتين. كنّا نجد في بعض بيوت الأغنياء التي تضم الشقة الواحدة منها أربعة مراحيض كبيرة وأنيقة، بعض المجلات غير الأخلاقية. بينما نجد في منازل الفقراء ذات الجدران الطينية، محفظة من القماش للقرآن الكريم، مطرزة وموضوعة في كوّة الحائط.

كانت المدينة خالية تمامًا من المدنيين. وقد تعرّضت للسلب والنهب على أيدي البعثيين العراقيين، خلال سنة و7 أشهر من احتلالهم لها حيث أفرغوها من الأثاث والأدوات السالمة، ولم يبقَ فيها إلا ما
 
 
 
 
 
29

23

منطقة الخداع

 كان مدمرًا بشكل كامل أو جزئي. كنا نحرّم على أنفسنا استخدام الأثاث المتبقي في تلك المنازل من دون الحصول على الإذن الشرعي. كانت ثمار البلح تجف وتيبس على أمهاتها (نخلاتها) ولم نكن لنتناول منها شيئًا خلال عمليات (والفجر8)، إلا بعد إذن شرعي حصل عليه المسؤولون عنا. كانت القوات المستقرّة في المدينة - برغم وجود التمور والأثاث والمقتنيات الفاخرة - ممّن قد طلّقوا الدنيا ومتاعها منذ زمن طويل.


وضعنا الأثاث والمعدّات التي زوّدتنا بها الوحدة في المنزل، وأنشأنا حجرة للاستحمام في الفِناء كي نحصل على نوع من الاكتفاء الذاتي فلا نضطر للذهاب إلى المدينة باستمرار. جاء وقت تنظيم مسائل التدبير المنزلي والنظافة، فاختار كل عنصر المهمة التي يجيدها.

- مهمة إعداد الطعام وإحضاره إلى المائدة على عاتق "مهدي قلي".

- ترطيب وإعداد الخبز مهمة "عباس محمدي".

- يتولى "مهدي علي أكبري" توضيب المائدة وجمعها.

- تنظيف الغرف من مسؤولية...

ما إن يوضع الطعام على المائدة، حتى ترتفع الأيدي بالدعاء: "اللهم ارزقنا رزقًا حلالًا طيبًا واسعًا وطهّر بطوننا من الحرام والشبهة"، ثم نبدأ بتناول الطعام معًا. وبعد الانتهاء منه، كان كلّ عنصر يدعو بما يشاء من الأدعية بشكلٍ فردي، ويردّد الباقون كلمة "آمين". كانت بعض الأدعية رائعة ترفع المعنويات وتقوّي الروحية. في إحدى المرات وصل الدور إلى "مير داوود حسيني"، فقال بكثير من الجد: "اللهم اجعلنا من
 
 
 
 
30

24

منطقة الخداع

 الآدميين"، وبدل أن يردّد الباقون كلمة آمين، علت ضحكاتهم، فأردف "مير داوود" بلهجة أكثر جدّية: "أجل فنحن لم نصبح من الآدميين بعد وعلينا الدعاء لنصبح كذلك!".


*

كنت أقضي معظم أوقاتي وأنا أجول في مدينة "خرمشهر"، بهدف الحصول على معلومات حول تاريخ الثورة وما قبلها، بالاستفادة من المجلات، والكتب والمنشورات الموجودة داخل البيوت. كنت أجد في بعض المنازل، المجلات والمنشورات الخاصة بـ"منافقي خلق"، أو منشورات "خلق عرب" (الشعب العربي). كان يمكن معرفة التوجهات السياسية لكل منزلٍ من خلال الكتب والمجلات وحتى الأثاث الموجود داخله، كنت قد سمعت قبل بداية الحرب عن تيار سياسي يشقّ طريقه جنوب البلاد شبيه بتيار "خلق الإسلامي" في آذربيجان عُرف "بخلق العربي". ذهبت في أحد الأيام برفقة "محمد بور نجف" و"مير داوود حسيني" للتجوال في المدينة. ومن فوق سطوح المباني كان يمكننا الإشراف على كامل المدينة. فجأة! ظهرت عدّة نقاط سوداء في السماء، ما إن اقتربت أكثر حتى تيقنت أنها مقاتلات عراقية، كانت سبع مقاتلات فقلت: "إنها قادمة لقصف المدينة يا "محمد"! هيّا لنرحل من هنا". نزلنا الأدراج بسرعة، وبدأ الفِناء والزقاق وكل شيء من حولنا ينهار، وفي غمرة الانفجارات والانهيارات والغبار، رفعت رأسي لثانيةٍ إلى السماء، فجفِلتُ مما رأيت. كان الطيار العراقي قد اقترب منّا كثيرًا، وكأنّه يستهدفنا بصاروخ. وما هي إلا ثوانٍ حتى انفجر الصاروخ في الزقاق، وبدأ
 
 
 
 
31

25

منطقة الخداع

 كل شيء من حولنا يتهاوى: الجدران، النوافذ، البراميل على السطح، دعائم السقف الحديدية وكل شيء. 


شعرت أنني أرزح تحت ثقل هوى على رأسي وانغرس في الأرض. فجأة علا صراخ "مير داود": :آخ رأسي".

- ماذا حدث؟

- أعتقد أنّ شظية أصابت رأسي.

أسرعت نحوه، لم يكن الغبار قد انقشع بعد، رأيت الدماء تسيل من جرح عميق خلف رأسه. خلعت قميصي وربطت رأسه كي أخفف من حدّة النزف، ثم ساعدته مع "محمد" على الوقوف والسير، لم يهدأ قصف الطائرات لحظة واحدة، ولم يَكَدْ السرب الأول من الطائرات ينهي القصف، حتى أغار السرب الثاني... يبدو أن المقاتلات العراقية كانت تتعمد تسوية المدينة بالأرض. انعطفنا يمينًا وشمالًا مرات عدة إلى أن وصلنا إلى المقر، لكن الأوضاع لم تكن أفضل حالًا هناك. فقد ملأ الغبار والدخان الأرجاء. شعرت بالبرد، وقد تلطّخ القميص الذي ضمدت به رأس "مير داود" بالدماء. كان كل همي أن أصل به إلى "الطوارئ". لم يهدأ القصف لحظةً واحدة. غضبتُ وقلتُ في نفسي: "من الطبيعي عندما يزداد عدد القوات بشكل مفاجئ في المنطقة أن يصل الخبر إلى الأعداء...". فالجواسيس والأقمار الصناعية ما زالت ناشطة. قد تموضعت أغلب القوات والعناصر مع تجهيزاتها ووحدات فرقة "عاشوراء" في المدينة. لم تكن غارات العدو عبثية، بل كانت مدروسة، وحوّلت الطريق الرئيس الذي يبلغ عرضه 7 أمتار تقريبًا إلى أخدود بفعل تساقط القنابل عليه. لو كان لديكم الجرأة ونظرتم
 
 
 
 
32

26

منطقة الخداع

 إلى القنابل المتساقطة، لرأيتم وكأنها مقطورة شاحنة مغلقة بطول 6 أمتار تهوي إلى الأرض. لقد دمرت الانفجارات وسائل النقل وحطمت زجاجها، صرت أبحث هنا وهناك عن وسيلة تقلنا إلى المشفى، في تلك الأوضاع المتأزمة، فتح باب الحمام وخرج منه "حميد قلعة إي"، ولم يكن يرتدي سوى لباسه الداخلي، وفرّ راكضًا. كان "كريم فتحي" يعدو هنا وهناك ويصيح: " ادخلوا بسرعة! ادخلوا بسرعة!" كان قلقًا علينا بينما كان الأخ "أمين" قلقًا عليه:

- هيا ادخل أنت!

كان "كريم طريقت" معهم أيضًا. كم أسعدتني رؤية دراجة نارية "نوع 250" في تلك المعمعة! أدرت محركها واتجهت بها نحو "مير داود" الذي كاد يفقد وعيه من شدة النزف. رآنا " أصغر عباس قلي زادة" فجاء لمساعدتنا:
- اصبر سآتي معكما.

تولى "أصغر" قيادة الدراجة وركب "مير داود" في الوسط، وأنا في الخلف. كنّا هدفًا متحركًا، فأثرنا حفيظة المقاتلات التي زرعت الطريق بالقذائف. لم يعد يوجد في المدينة ما يصح أن يطلق عليه اسم شارع أو طريق. لكن كان علينا الاستمرار بالحركة لأنّ التوقف سيُعرّضنا للإصابة بالشظايا الحارة أو بالأحجار وحطام الزجاج المتطاير. وصلنا بعد دقائق عدة من المجازفة والاضطراب إلى المشفى الذي كان مزدحمًا، سلّمنا "مير داود" إلى المسعف وانطلقنا عائدين إلى المقر. وقد غطى الغبار والدخان والرماد المدينة.
 
 
 
 
33

27

منطقة الخداع

 عند المغيب، توقف القصف بعد أن استمر ثلاث ساعات متواصلة. كنت أهيّئ نفسي في طريق العودة إلى المقر، لرؤية الكثير من الخسائر والعديد من الجثث. لكنني شكرت الله عندما علمت أن "مير داود" هو المصاب الوحيد في وحدة الاستطلاع. جُرح أيضًا واستشهد عدد قليل من عناصر الفرقة.


مع حلول الظلام، ابتعد شبح مقاتلات العدو البعثي عن سماء المدينة، قيل إنّ 30 طائرة تناوبت على قصفها بدفعات متتالية.

لقد سُوّيت المنازل بالأرض، وأصبح المكان مدمّرًا بشكل كبير ما حدا بالمسؤولين لإعطاء الأوامر بنقل جميع القوات إلى منطقة محاذية لنهر "كارون"..
 
 
 
 
34

28

عمليات الشهادة

 عمليات الشهادة

خريف 1986م
 
وصلتُ إلى "رسول آباد"، وعلى الرغم من استعجالي وغضبي، كنّا حيث يجب أن نكون. بين روعة المشاهد وصفاء الرفاق. جاورت في نقاط عدة رجالًا يبكون إن قلّ تكليفهم، وشبانًا يضغطون على أنفسهم حُبًّا بالإسلام.

خُضتُ مهمة عبور المضيق، وكمائن الماء البارد والأمواج، وعدت وسط حقول القصب المسنّنة. فحصل ما هو أبعد من إنجاز المهمة. غُصنا بأدوات صعبة، وناوَرنا تحت المطر. 

حصلتْ أخطاءٌ أتذكّرها. وتعرّضتُ للجراح، ولكن لم يكن الوقت مناسبًا، لأُقيم وزنًا للإصابات.
 
 
 
 
 
35

29

عمليات الشهادة

 1


عُهد أمر دراسة حركتي المد والجزر في ذلك القسم من نهر "كارون" إلى "رسول كرمي"1، وكان طالبًا حوزويًّا، لم يبعد ذلك المكان أكثر من كيلومتر واحد عن نهر "أروند رود"، حيث حركتا المد والجزر في ذلك القسم من النهر هي امتداد لتلك التي في نهر "أروند". تبلورت ابتكارات وإبداعات شباب وحدة الاستطلاع مع انتقالهم إلى ذلك المكان، الذي كان مؤلّفًا من مبنيين وسط أشجار النخيل على ضفة النهر، فاستعار الإخوة اسم "رسول" من الأخ "رسول كرمي" وأسموا المكان "رسول آباد".

أُخفي المبنيان بسعف النخل بشكل جيد حتى لا يثير ريبة العدو وانتباهه، واستمرّت عمليات التدريب كما في السابق. أصبحت الحياة، بعيدًا عن مهمات الاستطلاع والمعارك، مملّة توحي بالخمول، إلى أن جاء مسؤول الوحدة في أحد الأيام، واختار عددًا من العناصر ليصحبهم معه: أنا، "ناصر ديبائي ومحمد بور نجف"، أمّا "حميد اللهياري، يوسف صارمي، أصغر عباس قلي زاده وإبراهيم أصغري" فبقوا هناك.

رغم هذا بقيتُ منزعجًا، إذ لا خبر عن عمليات الاستطلاع أو المعارك. لم أتحدّث إلى أي شخص عمّا يزعجني كي لا أؤثّر سلبًا على معنوياتهم، وأعتقد أنّ الأخ "ناصر ديبائي" كان يعاني ما أعانيه، فهو أيضًا قد بذل أقصى ما عنده أثناء التدريبات.
 

1- رسول كرمي: أخ من ثلاثة إخوة من أهل "مراغة" نالوا جميعهم شرف الشهادة.
 
 
 
 
36

30

عمليات الشهادة

 *


كان اسم المقر الجديد "قَجَرية" حيث تموضعت القوة البحرية وكتيبتا "حبيب" و"ولي العصر". اتخذنا من القرية الصغيرة المدمرة مقرًّا لوحدتنا. كانت ملامح "ناصر" كملامحي، توحي بخيبة الأمل والتململ. بدأت الحديث معه حول الموضوع فقال: "ما الأمر يا "مهدي قلي"، لماذا لم تبدأ عمليات الاستطلاع بعد؟! ماذا علينا أن نفعل؟".

لم يكن باليد حيلة، علينا القيام بالمهام التي أوكلت إلينا. لقد نُقِلنا إلى هناك من أجل تدريب عناصر كتيبتي "حبيب" و"ولي العصر" على الغوص.

خلال توزيع قوات كتيبة "حبيب"، اختيرت (السرية 2)، ومسؤولها "أصغر علي بور" للقيام بمهمة الغوص، واختاروني مع "أحمد بيرامي ومهدي حيدري" لتدريبهم. كنّا قد اختبرنا قساوة وبرودة نهر "كارون" في فصل الشتاء، خلال التدريب لعمليات (والفجر8)، لكنّ تجربتنا تلك لم تكن لتنفع في ترويض هذا النهر المتوحش!

كانت معظم بدلات الغوص التي أُعطيت للعناصر قديمة، وقد استخدمت في عمليات (والفجر8): لا سحّابات ولا جوارب، وحتى إن وجدت هذه لم تكن صالحة مطلقًا، إضافة إلى مقاساتها الكبيرة التي لم تناسب أعمار 16 أو 17 عامًا. لم يتجاوز أصحاب تلك المقاسات الكبيرة أصابع اليد، وحصل "علي برات اعتبار" على أسوئها وأكثرها ثقوبًا وتمزّقًا. كان يطوي أكمام بدلة الغوص طيّات عدة كي تصبح مناسبة له، لكن، لم يجد حلًا لمشكلة حجمها الواسع والفضفاض كثيرًا، كما لم
 
 
 
 
37

31

عمليات الشهادة

 يكن للبدلة ذلك الثقل المرفق بها ما اضطّر الأخ "فرج الله قلي زاده" إلى استخدام أحجار الآجر بدلًا عنها. وما زاد الطين بلة هو حمله للـ "آر بي جي"، فكان ما إن ينزل إلى الماء حتى يغرق إلى القعر مباشرة. حدث أن سحبته وأنقذته من الغرق مرات عدة، لكنه لم يكن ليترك سلاحه أبدًا.


كان الفتى "محمود" ذو الأربعة عشر ربيعًا يرتجف بردًا حتى قبل أن تلمس قدماه الماء، وما إن ينزل حتى تتشنج عضلات قدميه. في إحدى المرات تخدر كل جسمه وغاب عن الوعي، فأسرعت إليه وأخرجته إلى الضفة. استغرق وقتًا حتى استعاد وعيه، وما إن فتح عينيه ورأى نفسه ممدّدًا على الضفة حتى شرع بالبكاء بصوت مرتجف قائلًا: "أنتم لا تريدونني أن أصبح غواصًا!". لقد واجهت الكثير من الحالات المشابهة طوال مدة وجودي في الجبهة، إلا أنني لم أتوقع سماع هذه الكلمات في هذا البرد القارس.

كان برد آخر أيام فصل الخريف، والغوص في المياه المتجمّدة، من الأسباب التي تحمل الإنسان على التبوّل في بدلات الغوص داخل النهر. لم يكن باليد حيلة، وتوجب علينا الاستحمام مباشرةً بعد الخروج من الماء. كان الإخوة في وحدة الاستطلاع يمتلكون تجارب جيدة في هذا المجال، ويجدون الحلول السريعة لأي مشكلة تواجههم، فقد وجدوا في المقر صهريجًا للماء، وصلوا به أنبوبًا معدنيًا طويلًا، وجعلوا تحته موقدًا للنار، كانوا يشعلون الحطب تحته لتسخن المياه، وما إن يخرجوا من المياه حتى يسرعوا ويخلعوا بدلات الغوص ويستحمّوا في المياه الدافئة. لكن معظم عناصر السرية، كانوا يخلعون ثيابهم على المرسى
 
 
 
 
38

32

عمليات الشهادة

 الواقع أسفل كتيبة "وليّ العصر"، ويستحمّون في المياه الشديدة البرودة.


*

قمنا بتدريب مسؤولي سرايا الغوص والاقتحام في كتيبة "حبيب" أيضًا، وهم: "أصغر علي بور2، عبد العلي مطلق ومحمد سوداكر". كان "محمد سوداكر" شابًا قويّ الجسم لا مثيل له في الكتيبة، وكان من السهل عليه تحمل الظروف الصعبة للتدرب على الغوص، فهو "مسؤول"، وعليه أن يكون السبّاق والأفضل بين عناصره، بعكس "علي بور" الضعيف البنية الذي كان مصابًا بجروح عدّة بليغة إثر مشاركته في المعارك السابقة. فكان يعلق في المياه ويعجز عن الحركة ويتأخر عنّا كثيرًا. كان يظنّ أنّه هو المقصّر في تعلّم الغوص بشكل صحيح وفي بقائه في المياه! لكنني أعتقد أنّ رحابة صدره منعته من التخلي عن سرية الغوص والاقتحام رغم ضعفه الجسدي. كان دائمًا يسألني عما يمكن أن يفعله ليتعلم الغوص ويتمكن من الحركة في الماء، وكنت أسعى في كلّ مرة لأن أُفهمه أنه لا يتوجب عليه قيادة سرية الغوص والاقتحام وهو على تلك الحال، مع أننا تناقشنا مرات عدّة في هذا الأمر، إلا أنه لم يقتنع. في النهاية، ساءت حاله أكثر فأكثر، كان يضغط على نفسه، تصورًا منه أنه سينجح، فيبقى في المياه أكثر من غيره، لكنّ جميع جهوده ذهبت سدًى، وجروحه لم تلتئم بعد، فاضطررت لأن أقول له: "يا أخ علي بور"
 
 
 
 
 
39

33

عمليات الشهادة

 إذا لم تتمكن فعلًا من القيام بهذا العمل، فعليك أن تترك قيادة سرية الغوص والاقتحام وليتولّها شخص آخر"!


بدا الحزن واضحًا على وجهه، لكنه بدل أن ينفّذ ما نصحته به، زاد الضغط على جسمه.

*

على الرغم من جميع العقبات، حاول الجميع تنفيذ التدريبات بشكل متقن وناجح، وكذلك مقاومة التيارات المائية والمحافظة على الرتل من الانحراف يمينًا أو يسارًا. كان الأمر مشابهًا لعملية عبور المضيق الذي قد نضطر أثناء العمليات إلى عبوره. لذا تحتّم علينا التدرّب على ذلك. كان الرتل يتجه نحو المضيق بشكل منظّم، لكن ما إن يبتعد مسافة 200م، حتى ينحرف عن مساره بفعل حركة التيارات، فيرتطم الإخوة بالضفة. تكرر هذا الأمر أكثر من مرة، وكنت أسعى جهدي لحل هذه المعضلة.

أكملنا التدريب بجدية أكثر من باقي الكتائب. وقد تمكّن الرتل من عبور مضيق بطول 150 مترًا من دون أي انحراف أو إخلال في نظم الصفّ. انتبهت أثناء التدريب إلى أنّ بعض الإخوة يتراخون في استخدام زعانف السباحة، لذا جعلتهم في مقدمة الرتل ليضطروا إلى ذلك. كان "حميد غمسوار" من الوجوه البارزة التي جعلتها في أول الرتل بشكل دائم، فهو لم يرغب في استخدام الزعانف على الإطلاق. بعد أن جعلته كشّاف الرتل، أضحى يقول لي في كل مرة يراني فيها: "كاد يُقضى عليّ لكثرة ما سبحت بالزعانف!".

*
 
 
 
 
40

34

عمليات الشهادة

 لم أفكر بداية التدريب في استخدام وسيلة أخرى للحفاظ على نظم الرتل، لكن بعد البحث واستطلاع الآراء قرّرنا استخدام الحبل، بحيث يمسك به الغواصون كي لا يتشتّت صفّهم أو يختل نظمه، وكان طوله يبلغ 60 مترًا تقريبًا. لكن استعضنا عنه ليلة العمليات بالأنابيب البلاستيكية الواسعة القطر، ذلك أن الحبل ينحني ويخرج عن مساره بعكس الأنابيب. بالطبع، عارضت استخدام الأنابيب لأنها سبّبت لنا نوعًا آخر من المشاكل. أدّى استمرارُنا في التدريب وتشدّدنا فيه، إلى أن تثمر مساعي الإخوة وجهودهم، وأصبحوا بعد أسبوعين أو ثلاثة على أتم الاستعداد للمشاركة في العمليات، ولكن، بقي القلق يساورني!


عندما أتصور قواتنا في تلك المنطقة ليلة المعركة، لا أصدق أنه ستكون لهم القدرة على قطع مسافة (10-12) كلم من المسافة المقررة في المخطط الأوّلي للهجوم! لأنّهم بعد الغوص والسباحة مسافة كيلومتر واحد في النهر، وما إن يخرجوا من الماء حتى يتغلغل البرد إلى أجسامهم وينخر عظامهم وينهكهم التعب، فلا يتمكّنون حتى من تحريك أياديهم، فكيف ستتمكّن تلك الأيادي التي تجمّدت من البرد ولم تعد قادرة على تحريك أصابعها، من الضغط على الزناد وإطلاق النار عند وصولها إلى خط الأعداء؟! أجريت العديد من الحسابات لليلة العمليات في خلواتي، امتداد حركة القوات وسعتها، الظروف الجوية، ودقّقت في تفاصيل قدرات الإخوة الجسدية والروحية، لكن ذلك لم يساعدني على تكوين فكرة واضحة عن ليلة العمليات والمعارك.

في تلك الأيام، وصل إلى المقرّ عدد من شباب وحدة الاستطلاع
 
 
 
 
 
41

35

عمليات الشهادة

 الذين بقوا في "رسول آباد"، وهم: "إبراهيم أصغري، يوسف صارمي، أصغر عباس قلي زاده". إضافة إلى مسؤول الوحدة الأخ "كريم فتحي" ومعاونه "كريم حرمتي". تجددت أحزاني وزادت همومي عند رؤيتهم. فخلال المدة التي عملت فيها على تدريب العناصر على الغوص، كنت أظن أن الإخوة الذين بقوا في "رسول آباد" يمهدون للعمليات المقبلة، التي لن يكون لنا فيها أي دور غير تدريب العناصر. مهما حاولت، لم أستطع كبح جماح غضبي وحزني، وتفوّهت بألفاظ لطالما اعتبرت التفوه بها في الجبهة من الأمور المحرمة، وأفرغت مكنونات قلبي على رأس "كريم حرمتي" أولًا:

- ما الذي تظنه بنا؟ لِمَ لا تدعنا نشارك؟ .. أتتصور أنه...

كلّما زاد غضبي وانفعالي، زاد "كريم حرمتي" تبسّمًا وحنانًا. كان يحاول مواساتي، لكنني لم أكن لأنصت إليه بعد ذلك. ثم جاء دور "إبراهيم، يوسف، وأصغر"، أصدقائي المقربين الذين خاصمتهم تلك الأيام بحجَّة أنهم بقوا وحدهم هناك ولم يفكروا فيّ أبدًا!

لم يهتم "إبراهيم" بتصرفاتي وسلوكي، بل بقي يتودد إلي في كل آن ويقول: "ما بك يا "مهدي قلي"؟ تكلم! ماذا حدث؟ هل أنت مريض؟ لم أنتَ صامت؟ هل أصبت بنزلة برد؟!... هل تشعر بالتعب؟...".

- لا، دعني وشأني ولا تحاول التحدث إليّ ثانية!

وهذا ما قوبل به "يوسف صارمي" أيضًا. فقد اعتاد "كريم فتحي" أن يوجّه إلى محدثيه من الأصدقاء بضع لكمات على سبيل المزاح، وهذا ما فعله معي، فقد أوقفني عن التمادي بكلامي بلكمتين لطيفتين قائلًا:
 
 
 
 
42

36

عمليات الشهادة

 - ما بك؟ هل أنت منزعج كثيرًا؟


- يحقّ لي ذلك! إلى متى تريدون أذيتنا وإزعاجنا؟!

كنت أتحدث إليه بحدّة حتى ليخيل للناظر إلينا من بعيد، أنني قد تعرضت إلى ظلم وإجحاف كبير من جانبه!

كان قائدي يستمع إلى كلامي وشكواي بصبر وأناة، والابتسامة على محياه. وفي النهاية أجاب بكلام جعلني أخجل من نفسي:
- حسنًا! بما أن الأمر كذلك اذهب ونادِ "ناصر" وعودا مع عدّة الغوص لأرى ما يمكننا فعله.

قلت في نفسي، سيأخذني إلى مكان يلهيني فيه، أو إلى كتيبة أخرى لتدريب عناصرها! حملت عدّة الغوص، واتجهت مع "ناصر ديبائي" إلى السيارة. جلست في الخلف إلى جانب "إبراهيم أصغري، يوسف صارمي، حميد اللهياري وناصر ديبائي". كلّما تقدمت بنا السيارة، وصلت إلى أنفي رائحة نهر "أروند".

*

تبعد "رسول آباد" أكثر من 50 كلم عن مكان التدريب. ما إن وصلنا إليها حتى تأكّدت أنّ أمرًا ما يُدبّر. كان مقر "رسول آباد" فارغًا ولم يكن فيه غيرنا والأخ "حمزة"1. اجتمعنا وتحدّثنا عن مهمة الاستطلاع لتلك الليلة. تقرر الانطلاق من المدرسة على ضفة نهر "العرايض"، ومن هناك نتقدّم غوصًا ما بين "أم الرصاص" وضفّتنا حتى مضيق "بوارين"، ومنه
 

1- الأخ حمزة من تعبويّي أردبيل، يعمل في قسم التموين والتجهيزات، وهو سائق في الأساس، وكان يصّر بعض الأحيان على المشاركة في عمليات الاستطلاع وقد حظي بثقة المسؤولين.
 
 
 
 
43

37

عمليات الشهادة

 إلى مصنع البتروكيمياويات ونهر "بلجانيه"، على أن تتم العملية في ثلاثة محاور لتنتهي عند مصنع البتروكيمياويات العراقي. تبلغ المسافة التي علينا عبورها غوصًا حوالي 22 كلم. كانت ضفّتا نهر "أروند" إضافة إلى الجزر الصغيرة داخله، ما عدا جزءًا صغيرًا من الضفة، بيد الأعداء.


كان علينا اختراق خطوط الأعداء، وأن لا نحمل معنا غير المسدسات المصنوعة من الألومينيوم المخصصة لعمليات الاستطلاع داخل الماء.

في "رسول آباد"، ركبنا سيارة إسعاف لتنقلنا إلى الخطوط الأمامية. كانت الطرقات متعددة ومتشابهة، وبعد عناء كبير، وجدنا الطريق المؤدي إلى المنطقة المقصودة. بنظرة سريعة إلى المنطقة، أدركنا مدى أهمية وحساسية مهمتنا. قبل الانطلاق، ذهبنا إلى مقر "خاتم الأنبياء" حيث اتصلنا بـ"طهران"، وبعد الاطّلاع على الظروف الجويّة، حركة المد والجزر، وقراءة أجهزة القياس الأخرى التي تحدّد الزمان المناسب للقيام بعملية الاستطلاع في المنطقة، جرى تبادل الآراء، وصدرت الأوامر للقيام بالمهمة ثم أُلغيت، إلى أن صدر الأمر النهائي بتنفيذها.

كنا في الخط المتقدّم، وكان في المدرسة المدمرة القريبة، ما يشبه المنزل المدمّر، وقد حوّلناه إلى متاريس دفاعية. دخلنا أحد تلك المتاريس وارتدينا بدلات الغوص. عقدنا اجتماعًا ووزعنا المهام في المحاور. قال مسؤول عملية الاستطلاع الأخ "أصغر عباس قلي زادة": "ليذهب "إبراهيم أصغري ويوسف صارمي" إلى المرسى الواقع وسط جزيرة "بلجانية"... بينما يذهب الأخ "ناصر ديبائي والأخ "حميد اللهياري" إلى القسم الواقع خلف المنارة البحرية".
 
 
 
 
44

38

عمليات الشهادة

 يعتبر المسير الذي حُدّد لناصر وحميد للاستطلاع، الهدف الأول لهذه العملية. شعرت باضطراب وضيق شديدين لعدم ذكر اسمي مجدّدًا، وانعكست تلك المشاعر على وجهي بشكل فاضح، حتى إنّ السيد "أصغر" انتبه لذلك. رحتُ أفكر: "هل يا ترى علم بمدى انزعاجي وضيقي منه؟!".


- وسأذهب أنا و"مهدي قلي" إن شاء الله إلى مصنع البتروكيمياويات.

طأطأتُ رأسي خجلًا، فأصعب جزء من المهمة، كان استطلاع محور مصنع البتروكيمياويات. أدركتُ أنه قد اختارني لهذه المهمة بسبب جهوزيتي ولياقتي البدنية. كنتُ وإياه أول من سينزل إلى الماء وآخر من سيعود منه أيضًا. لقد حُفّ المسير إلى مصنع الكيمياويات، إضافة إلى بعد المسافة، بالكثير من المخاطر المتوقعة وغير المتوقعة.

غمرني شعورٌ عجيب، شعور امتزج فيه الخوف بالفرح والاضطراب بالحماسة... لم أكن قد شاركتُ بعد عمليات "بدر" في أي مهمة استطلاع داخل الماء. لكن وجود "أصغر عباس قلي" إلى جانبي منحني شعورًا بالقوة والشجاعة. حان وقت الانطلاق. ربطت ثقلين خاصّين بالغوص، وحملت معي قنبلتين يدويتين، وعلقت حزام المسدس في عنقي، كما حمل السيد "أصغر" مسدسًا، بالطبع لم تكن تلك الأسلحة لتؤثر سلبًا أو إيجابًا على مهمتنا، بل الأهم هو الحركة بهدوء من دون إحداث أي صوت أو ضجّة. كانت الآية القرآنية: "وليتلطّف ولا يُشعرنّ
 
 
 
 
45

39

عمليات الشهادة

 بكم أحدًا"1، شعار الأخ "أصغر"، ولم يكن حمل السلاح أو القنابل إلا ليقوّي قلوبنا شيئًا قليلًا.


انفصلنا عن باقي الإخوة، وانطلقنا نسير كتفًا إلى كتف صوب مركز حراسة الخط.

نسّقنا مع مركز الحراسة، إذ عليهم أن يتوقعوا عودتنا مع الخيوط الأولى للصباح. انطلقنا إلى المعبر الذي لا يبعد أكثر من 200م عن نهر "أروند". تابعنا سيرنا في حقل القصب المحترق والمشظّى بفعل القصف، وكان لدينا الوقت الكافي لنسير بهدوء وحذر على بقايا جذوع القصب الحادّة وشظايا القذائف الباردة.

جلسنا على حافة نهر "أروند" بانتظار حركة المد التي تغيّر حركة التيار باتجاه البصرة، فنسبح معه إلى هناك. كان كلّ شيء هادئًا، وقد انعكس نور القمر البازغ على صفحة الماء متأرجحًا على أمواجه، وحملت الرياح صوت ارتطام الماء بالضفة، ناهيك عن أصوات خافتة آتية من البعيد لضحكات حرّاس الأعداء وهم يتسامرون على الضفة الأخرى. عمّ الظلام الدامس، فحدّقت مليًا في عتمة الماء حيث تلألأ نور القمر كنقطة مشعّة متهادية على الأمواج، لدرجة خُيّل لي أنّ سقوط ريشة صغيرة كافٍ لتلاشيه.
- استعدّ!

قال "السيد أصغر" ذلك ونزلنا إلى الماء بهدوء. كان ضوء القمر
 
 

1- الآية 19 من سورة الكهف.
 
 
46

40

عمليات الشهادة

 يتراقص مع كل حركة لنا في الماء، هالني هذا المشهد كثيرًا بالرغم من جماله وروعته، لدرجة أنّني تمنيت أن لا تكون المياه هادئة إلى هذه الدرجة. وكنت كلّما اقتربتُ من خط الأعداء، وشعرت بفقدان الأمان، زاد اعتمادي على الخالق الواحد الأحد، توكلنا على الله، استجرنا به مردّدين آية "وجعلنا من بين أيديهم سدًّا"، التي لطالما ردّدتها أفئدةُ وشفاهُ عناصر الاستطلاع خلال لحظات وساعات الصمت والسكون التي رافقت كل مهمة. وصلنا إلى مضيق بين "أم الرصاص وبوارين".


- إلهي! أنّى لهذه المياه أن تضطرب أمواجها!

حدثت المعجزة. لم أكد أنهي الدعاء حتى شقت أمواج هادئة ركود وسكون النهر. هي جندٌ من جنود الله الذين لا نراهم والذين لطالما مدّنا بهم كلّما انقطع رجاؤنا، وهناك في نهر "أروند" كان جنود الله عونًا لنا في الليالي الأخيرة لخريف عام 1986. يا لها من وحدة وغربة ما بعدها وحدة وغربة. كنت أنا وأصغر فحسب. لا! لا لم نكن! لا أنا ولا هو! بل كنا مجرد غوّاصَيْن حملتهما الرحمة الإلهية. "وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون". إلهي إن تخلّيت عنّي لحظة واحدة أكُن من المغرقين... وكأننا لم نأتِ للاستطلاع في قلب الأعداء، وإنما لاكتشاف علاقتنا الروحية بالله.

يبلغ طول المضيق بين "أم الرصاص" وجزيرة "بوارين" حوالي 150 مترًا. وقد أقام الأعداء على رأس الجزيرة المشرفة عليه متراسًا مرتفعًا للحراسة، وتموضعوا بعد تلك النقطة على طول الضفتين، وكذلك على الجزر الصغيرة. ولكي نصل إلى هدفنا علينا العبور خلالها.
 
 
 
 
47

41

عمليات الشهادة

 وأثناء عبور المضيق، أنارت قنبلتان مضيئتان السماء. رأينا تحت نور القمر الخافت أشباح تحصينات العدو ومتاريسهم، لكن ضوء القنبلتين جعلنا نرى تحصينات العدو بوضوح. يوجد في القسم الأخير من "أمّ الرصاص" كمين آخر للعدو داخل المياه، كان يستخدم قبل الحرب منارةً للسفن، وتحوّل الآن إلى متراس مجهّز، عبرنا من أمام هذا الكمين ولم نغفل لحظة واحدة، لا عن حرّاسه، ولا عن حرّاس النقاط الأخرى على جزيرة "بوارين". تجاوزنا المضيق والمنارة. وفي سكون ذلك الليل وبرودة المياه، توغلنا مسافة 3 كلم في ساحل "بلجانية" ونفذنا إلى قلب جبهة العدو.


يتشعّب شطّ العرب عند اتصاله بجزيرة "بلجانية" إلى فرعين، يلتقيان في الجانب الآخر من الجزيرة. يبلغ عرض شط العرب المحاذي لجزيرة "بلجانية" حوالي 2 كلم أو أقلّ. أنهكني التعب والبرد، وشعرت أننّي أغرق، فتخلصت من أحد ثقليّ الغوص واستعدت توازني مجددًا. كان علينا بعد سباحة مسافة 3 كلم استطلاع الهدف المحدد على ساحل "بلجانية". مع اقترابنا منه رأيت تحصينات مشابهة لتلك التي كنت قد رأيتها سابقًا على ساحل نهر "أروند" في عمليات (والفجر8). لم أصدق عينيّ. كان العدو قد بنى -على بُعد عدّة كيلومترات خلف خطّه الدفاعي- تحصينات منظّمة، إضافةً إلى الكثير من العوائق. الأمر الذي أظهر مدى أهمية واستراتيجية مدينة "البصرة".
 

1- اختبرنا هذه الحال فيما مضى، فكنا نلصق ببدلة الغوص أوزانًا عدة لحفظ التوازن داخل المياه، ونربطها بطريقة تمكّننا التخلي عن بعضها عند الشعور بأن الماء يأخذنا إلى الأعماق فنصبح أقل وزنًا.
 
 
 
 
48

42

عمليات الشهادة

 كنت أسجّل في ذهني جميع مشاهداتي كلما اقتربت من الشاطئ: عدد المتاريس، المسافة الفاصلة بين المتراس والآخر، إضافة إلى عدد ومواقع العناصر. وصلنا إلى آخر جزيرة "بلجانية"، فظهر أمامنا الضلع الغربي لمصنع البتروكيمياويات العراقي الغارق بالسكون، كما رأينا نهرًا فصلته الجزيرة عن "أروند"، فاتجهنا إليه. يبلغ عرض النهر حوالي 15 مترًا. أرعبني المشهد. كانت الطريق التي تصل الجزيرة بمصنع البتروكيمياويات تمرّ وسط النهر. لقد تعثّرت جميع خططنا، إذ يفصل بيننا - حيث كنّا نقف - وبين الطريق، تجويف مليء بالعوائق. نظرت بدقة إلى تلك العوائق، كان أولّها صفًّا من الأسلاك الشمسية يليها صف من الأسلاك الشائكة ومن ثم صف آخر من العوائق الشمسية، تليها أيضًا الأسلاك الشائكة الحلقية ومن ثم صف من العوائق الشمسية. انتشر هذا النوع من العوائق على طول الساحل. لم نجد مكانًا أفضل من هذا المكان لاستطلاع "بلجانية". تجمدت أيدينا من شدة البرد، وبصعوبة بالغة كنّا نحركها. أمسكت العائق المتشعب بيدٍ ورحت أستطلع الساحل بدقة. كان هناك متراسان مشرفان على المكان الذي وقفنا فيه، أحدهما على ساحل "بلجانية" والآخر على ساحل مصنع البتروكيمياويات. بمقتضى مهمتنا، انصبّ اهتمامنا على استطلاع الجزيرة، اتفقت والسيد "أصغر"، على السباحة في عرض النهر وصولًا إلى الجزيرة. تابعنا الحركة ونحن ممسكان بالعوائق الشمسية، واقتربنا شيئًا فشيئًا من الجزيرة.


فَقَدَ الماء هدوءَه السابق، وارتفعت أمواجه في بعض الأحيان إلى
 
 
 
 
49

43

عمليات الشهادة

 ما يزيد عن المترين. كنا نتجه صوب متراس ملاصق للمياه على حافة الجزيرة، وهو عبارة عن عدد من أكياس الرمل التي كُدّست فوق بعضها البعض، ثبتت على عوائق الساحل بارتفاع المتر تقريبًا وعليها 4 قوائم، يعلوها منضدة تُظللها خيمة. كان هذا المتراس البسيط والبدائي، الذي يوجد فيه حارس عراقي واحد، كافيًا للإشراف على الساحل ومراقبته. لم يكن باليد حيلة، ولا بدّ من المرور أمامه للوصول إلى الهدف المنشود. ما إن اقتربنا من المتراس، حتى انتفض الحارس واقفًا، كانت قبعته المعدنية تلمع تحت نور القمر. التصقنا بالعوائق المتشعبة، وكان يفصل بيني وبين السيد "أصغر" مسافة نصف مترٍ تقريبًا. سمّرتُ عيني على وجه الحارس العراقي الذي كان يقترب منا، نظر نحونا، فتلوت آية السدّ مجددًا.


رآنا ورأيت نظرات التعجب في عينه تتبدل إلى اضطراب، لكنني كنت على يقين أن آية السدّ أعمته عنّا، نسيت البرد والوحدة، جهّزت مسدّسي وصوّبته نحوه بانتظار أي ردّ فعلٍ منه لأعاجله بطلقة تُرديه. قال شيئًا بالعربية لم أفهمه. لقّم سلاحه، فركّزت عينيّ على سبّابته لأرى إن كان سيضعها على الزناد ويُطلق النار. كنّا نتأرجح على الأمواج. مرّت لحظات من الصمت، والقلق والاضطراب يجاذباني. ارتدّ الحارس - فجأة - على عقبيه ورفع سماعة هاتفه السلكي وتحدّث بالعربية. اقترب السيد أصغر منّي وهمس في أذني: "يقول إنّ في الماء شيئًا مريبًا". هو إذًا إما أن يكون قد رآنا ولم يحرك ساكنًا من شدة الخوف، أو إنّه قد علم أنّنا غواصون إيرانيون. كان علينا التصرف بسرعة. تركنا العوائق
 
 
 
 
 
50

44

عمليات الشهادة

 المتشعّبة وسبحنا إلى وسط نهر "أروند". ابتعدنا خلال دقائق مسافة 15 مترًا عن المتراس، وقد ساعدتنا الأمواج على ذلك. حتى لو كان قد انتبه العراقيون لوجودنا، فلم يكن باستطاعتهم فعل شيء مع تلك الأمواج العاتية الصاخبة.


- ما العمل الآن؟

كان علينا التفكير وأخذ القرار المناسب بسرعة. لأننا لو بقينا في أماكننا فستسحبنا الأمواج نحو "البصرة". قررنا السباحة نحو الساحل المقابل أي ساحل جزيرة "أم الطويل" الواقعة بعد جزيرة "بوارين" مقابل مصنع البتروكيمياويات" العراقي. يبلغ طول الجزيرة أكثر من 10 كلم، بينما يضيق عرضها ليصل في بعض الأحيان إلى مجرّد طريق في بضعة أمتار. أدهشتنا تحصينات العدو على تلك الجزيرة، مع أنها كانت أقل كثافة وتراكمًا من غيرها، لكنها أظهرت مدى استعداد العدو وجهوزيته في تلك المنطقة بشكل يفوق التصور. انتشرت المتاريس المتباعدة نسبيًا على طول ساحل "أم الطويل" المُغطّى بحقول القصب. وصلنا إلى الجزيرة بعد جهد جهيد، وتغلغلنا داخل الحقل. اتفقنا أن أراقب الجزيرة، بينما السيد "أصغر" يراقب الماء. صحيح أن القصب أمّن لنا غطاءً عن نظر العدو، إلا أنه كان يمكن توقع أي شيء ونحن داخل خطوط العدو مسافة 12 كلم. شقّ العراقيون دربًا ضيقًا على الجزيرة، وكانت النقطة التي أوينا إليها في الجزيرة قليلة العرض حيث لا يبعد الدرب عن حافة المياه سوى بضع خطوات. فجأة! طرق سمعي صوت شخصين، سرعان ما ظهر في قلب العتمة شبحهما مع دراجة هوائية.
 
 
 
 
51

45

عمليات الشهادة

 اتضح لي تحت نور القمر أن أحدهما يركب الدراجة بينما الثاني يمسكه من الخلف، يبدو أن أحدهما يعلم الآخر على ركوبها. كانا يتقدمان نحونا وضجيجهما يسبقهما، ومن الممكن أن يسقط الراكب المتأرجح عن دراجته في أي لحظة على رؤوسنا، دعوت الله كثيرًا أن يمرا بنا بسلام ولا تنحرف دراجتهما. لم أكد أطمئن لعبورهما حتى هزني صوت السيد "أصغر".


- انتبه، انزل تحت الماء.

هبطنا بسرعة تحت الماء وأبقينا رأسينا فوق سطحه للتنفس. انتبهت حينها لوجود قارب عراقي يمر بالقرب منّا وقد سلط أنوار مصابيحه اليدوية نحونا. وككُلّ مرة نفتقد فيها أي مساعدة وعون دنيوي، تكون يد الغيب دائمًا في عوننا. توجهت إلى البارئ تعالى وتوسلت إليه!

- إلهي! لا تدعنا نقع في الأسر فيُفشَى أمر العمليات!

مرّ القارب بهدوء خلال لحظات بالقرب منّا، ومرّ الضوء على وجهينا، رأيناهم بوضوح! لكن، بدا وكأنهم كانوا يبحثون عن شيء آخر غير الغواصين الإيرانيين! صار قلبي يخفق لكل هذه الكرامات والألطاف الإلهية.

خمس ساعات متواصلة أمضيناها في مياه شط العرب الباردة، ما بين الغوص والسباحة مسافة 12 كلم وسط الأمواج الهائجة حينًا والهادئة حينًا آخر. لم تعد لدينا القدرة على متابعة الطريق، ولا الوقت كان يسمح لنا بالتعويض عن أي خطأ. وكان لأيّ قرار نتخذه تبعات ليس علينا نحن الاثنين فحسب، بل على مجرى العمليات والشباب ليلة
 
 
 
 
52

46

عمليات الشهادة

 الهجوم ككل. كسرنا إحدى القصبات بكل هدوء وحذر، غرسناها في النهر كمؤشر لقياس انخفاض منسوب المياه ومعرفة حركة الجزر، حتى نتمكن من العودة.


انتظرنا ساعة كاملة، ونحن نرتجف بردًا، في المياه. بدأ منسوب المياه بالانخفاض تدريجًا عند الساعة الثالثة فجرًا، ارتأينا حينها أن نعود أدراجنا إلى مكاننا السابق في ساحل "بلجانية"، كان مجرى التيار المائي قد تغير، وإذا سبحنا في خط مستقيم سنصل إلى ساحل مصنع البتروكيمياويات. عدنا إلى المكان السابق مع المحافظة على مسافة خمسة إلى عشرة أمتار بعيدًا عن المتراس الذي مررنا به سابقًا. استسلمنا لمجرى التيار، وركزنا جميع حواسنا على كلّ ما هو مهم للعمليات: المتاريس، التحصينات، المسافات الفاصلة بين المتاريس، أنوع الأسلحة، العوائق و...، وكنّا نسجّل جميع مشاهداتنا في ذهننا. حتى إنّنا كنا نقترب من العوائق ونعاينها عن كثب، وقد ساعدنا على ذلك انخفاض منسوب المياه بفعل حركة الجزر، ما جعل مجال الرؤية أوضح.

أنهينا المهمة واستطلعنا المنطقة المحددة. لكن حماستنا لاستطلاع جميع المناطق والعوائق والمعابر، لم تدعنا نعود أدراجنا من دون التدقيق فيها. اتجهنا نحو المرسى الواقع وسط ساحل جزيرة "بلجانية"، ما إن عبرنا ذلك المكان حتى سمعنا أصوات العراقيين بشكل واضح، مع صخب وضجيج تحميل وتفريغ القوارب العائمة. حوّلنا مسيرنا نحو المنارة البحرية. ابتعدنا قليلًا عن ساحل الأعداء، تشنجت عضلات السيد "أصغر" ولم يعد قادرًا على تحريك قدميه.
 
 
 
 
53

47

عمليات الشهادة

 لم أكن أحسن حالًا منه، أمسكته من ساعده وسحبته في الماء. كان التعب قد أخذ مني كل مأخذ، وشعرت أنني فقدت كل قواي. توقفتُ عن تحريك ساقيّ، مرت دقيقتان...


- نحن عائدان! والماء يساعدنا على ذلك... لم يبق الكثير، علينا ألا نستسلم!

تجاذبتني الأفكار وشعرت بغليانها في رأسي. كنت أردّد ذكرًا، وتجلّى "مهدي باكري" أمام ناظري وكأنه يقول:
- يا عباد الله، لا تنسوا تلاوة آية السدّ "وجعلنا". قولوا "لا حول ولا قوة إلا بالله".

عاودت السباحة. ستذهب جميع جهودنا هدرًا إذا تأخرنا. يوجد خلف "أم الرصاص" جزيرتان صغيرتان باسم "أم البابي"، وقد وصل العراقيون هاتين الجزيرتين بسدّ ترابي وبنوا سدًّا آخر يصلهما بجزيرة "أم الرصاص". تصبح المياه عند ذلك السدّ راكدة، ولو سحَبنا التيار المائي نحوها وعلقنا عند السدّ، ستصبح عودتنا من المستحيلات وسينتهي كل شيء مع الخيوط الأولى لأشعة الشمس. كان علينا بذل جهدٍ أكبر وبكل ما أوتينا من قوة للوصول إلى يسار المنارة البحرية، وأصغر يعرف ذلك أكثر مني. بدأنا السباحة بواسطة الزعانف ومع الوقت بدأت عضلات رجلينا تتعب، ولم نستطع إكمال السباحة بها، فساعد أحدنا الآخر بطريقة ما لمتابعة المسير...

فتحت عينيّ لحظة، فرأيت المنارة البحرية قبالتنا، ولا يفصلنا عنها أكثر من 10 أمتار. كان الحارس يقف هناك يقظًا مترقبًا. هاجت الأمواج
 
 
 
 
54

48

عمليات الشهادة

 مجددًا، فشعرتُ وكأنني سمكة هالكة عائمة على السطح، لا حول لها ولا قوة:

- إلهي! لا لأجلنا، بل لأجل الإخوة والشهداء والإمام والعمليات والناس...

لم أعد أفكر بأيّ شيء، شعرتُ وكأنّ طاقة خارقة تفجرت في جسدي ثانيةً، طاقة بعثت فيّ الدفء والأمل. بذلنا قصارى جهدنا خلال الأمتار العشرة المصيرية تلك التي كانت ستحدد نجاتنا أو أسرنا. في النهاية وصلنا إلى يسار المنارة البحرية واستسلمنا للتيار. سحبنا التيار نحو المضيق، وعبر بنا الخطر. في تلك اللحظات المضطربة، وفي ظل ذلك التوتر والقلق، بدأت أمعائي "تقرقر"، فقد قرصني البرد وأنهكني التعب وخارت قواي ولم أعد قادرًا على السباحة، ولا قدرة لي حتى على فتح قبضة يدي. تجمّدت أصابع قدمي وانسحب ذلك إلى باقي جسدي. لم يكن السيد "أصغر" أفضل حالًا مني. زاد قلقنا وفرحنا مع اقترابنا من خط العراقيين الأول. كانت الساعة الخامسة صباحًا، وأي تأخير يعني انبلاج الفجر وانتهاء أمرنا، ولم تنفك القنابل المضيئة تنير المكان بين الحين والآخر. نظرت إلى المضيق لا إراديًّا، جذبني المنظر الجميل تحت أضواء القنابل المضيئة! لكن، هناك شيء لم نكن نتوقعه وسط المضيق، سأل السيد "أصغر": "ما هذا يا مهدي قلي؟". فقد امتدّ مسطّح مائل من جزيرة "أم الرصاص" إلى جزيرة "بوارين"، وحتى منتصف المضيق تقريبًا بارتفاع حوالي المترين.
- كأنها أسلاك الجر الثقيل!.
 
 
 
 
55

49

عمليات الشهادة

 استنتجنا مما رأيناه أن العدو كان يحاول إغلاق المضيق وأننا لم نرَ تلك الأسلاك عند مجيئنا بسبب ارتفاع منسوب المياه مع حركة المد، وقد أصبحنا بسبب حالة الجزر قبالة الأسلاك. كلّ المشاكل والصعوبات كانت في كفّة وإغلاق المضيق في كفّة أخرى، إغلاق المضيق الاستراتيجي بالنسبة للعمليات القادمة يعني هلاك جميع القوات المهاجمة.


تحرّكنا بشكلٍ لا نصطدم معه بذلك العائق، وقد تملّكنا اليأس والقلق بسبب تفكيرنا باحتمال إغلاق المضيق. وكأن البرد قد شلّ تفكيرنا! شعرت أن رأسي يتجمد، دفعني ضغط بدلة الغوص والبرد الشديد للتبول عدّة مرات في المياه1، وكان ذلك يشعرني ببعض الدفء لفترة وجيزة، سرعان ما يتبدّل إلى برد شديد. تذكرت الأسماك التي تطفو على السطح بفعل أمواج انفجار القنابل في الماء، فتتقاذفها تلك الأمواج حيث تشاء رغم أنّها ما تزال حيّة، وشعرت كأنّني إحداها...

اقتربنا من رأس جزيرة "بوارين" المشرفة على المضيق ما بين "أم الرصاص وبوارين". في سيرنا نحو خطوط العدو، سبحنا في خط يبعد عن متاريس العدو الكائن على الجزيرة مسافة 50م، أما في طريق عودتنا، لم نستطع ذلك. اقترب موعد انبلاج ضياء الفجر، وكنت أفكر ماذا لو رآنا الحارس بالوضوح نفسه الذي أرى فيه المتراس؟ ماذا سيكون مصيرنا حينها؟ عبرنا بهدوء تام، وكنا على بعد 5 أمتار من المتراس،
 

1- كان ذلك يحدث أيضًا عند التدريب على الغوص نتيجة البرد الشديد وضغط اللباس الخاص، وكان الشباب يطلقون على هذه الحالة "مد".
 
 
 
 
56

50

عمليات الشهادة

 ويبدو أنّ الحارس كان إما نائمًا أو غير مكترث بحيث إنه لن يخطر بباله أن أحدًا في هذا البرد القارس، وقبيل انبلاج الصبح سيعود من مهمة استطلاع! مع عبورنا لذلك المتراس، زال كل قلق من وجود أيّ كمين أو متراس أو حراس. شكّلت العوائق الموجودة على ذلك الساحل الخط الأول للأعداء، وكانت أكثر استحكامًا، ومع عبورنا لها، نصير مقابل خطنا.


شعرت في تلك اللحظات باطمئنان وأمان وكأنني أتنزه في أحد شوارع مدينة "الأهواز"، بعيدًا كل البعد عن الخطر والمخاطر، لكن، فقدنا كل قدرة على تحريك أيدينا أو أرجلنا. حاولنا أن لا ينفصل أحدنا عن الآخر، استخدمنا سواعدنا وتابعنا المسير، وسبحنا في عمق لا يتجاوز نصف المتر وتيار الماء يسحبنا نحو الساحل. رأيت من البعيد المنطقة المحددة لنا للخروج من الماء. بذلنا آخر جهد للوصول إلى النقطة، والله وحده فقط من أوصلنا إليها. وأخيرًا ارتطم جسمي باليابسة. زحفنا على يدينا وقدمينا إلى الساحل. كنت أرتجف من برد آخر أيام فصل الخريف القارس. شكرت الله من أعماق قلبي لأنّه أعاننا على إنجاز مهمتنا بنجاح وثقة. هناك، قام السيد "أصغر" بأجمل فعلٍ معبرٍ عن حالنا ومشاعرنا، استجمع قواه وسجد سجدة الشكر للخالق الباري، سجدةً اقترنت بانبلاج الخيوط الأولى للفجر الصادق. تذكرت في تلك اللحظات، الإخوة الشهداء، لإيماني أننا نجحنا بفضل دعائهم، فانهمرت دموعي لا إراديًّا. لم أكبّد نفسي عناء الكلام ليقيني أنني مهما قلت لن أستطيع التعبير أفضل من السيد "أصغر". كان علينا عبور مسافة 200 متر تقريبًا، في حقول القصب المحترقة والمتشظية لنصل إلى نقطة
 
 
 
 
57

51

عمليات الشهادة

 الحراسة. نلنا حظّنا من الجراح بسبب ارتطام جسمنا بالقصب، لكن لشدة إعيائنا عجزنا عن تفادي السقوط أو الابتعاد عن الشظايا. فقدنا القدرة على الحركة أو حتى النطق، لكن اتفقنا، من خلال نظراتنا، على وجوب الحركة، إذ لا فائدة من البقاء هناك. نهضت بصعوبة، لكن سُرعان ما هويت إلى الأرض، وكأنها خانتني كما خانتني قدماي. فقدت الإحساس حتى بالجروح التي سببتها الأسلاك الشائكة وشظايا القصب. قطعنا تلك المسافة التي تكرّر فيها سقوطنا مرارًا، إلى أن وصلنا إلى نقطة الحراسة. عندما رأيت فرح وشوق الحراس لرؤيتنا، أيقنت أنهم كانوا قد فقدوا الأمل من عودتنا. وصلنا إلى دشمة المتراس بمساعدة الحراس، وكان الجميع ينتظرنا بقلق وحزن. الله وحده يعلم كيف قضوا ليلتهم حتى الصباح! ما إن وقعت أعينهم علينا، حتى بدأوا بالضحك، فاعتقدت أن أمرًا ما قد حدث، وهذا ما دفع السيد "أصغر" للسؤال عن الأمر، لكن خرج من حنجرته صوت غير مفهوم: إ...أُ...أ...".


انفجر "حميد اللهياري" ضاحكًا. تذكرت أن آخر كلمات تبادلناها أنا والسيد أصغر كانت حول إغلاق المضيق، لكن بعد أن تسلل البرد إلى جميع خلايا جسمنا لم نعد قادرين لا على النطق ولا حتى على تحريك فكينا.

جلس كل منا على جانبه، وتحلّق الإخوة حولنا. كان أول شيء قاموا به أن ألقمونا بضع ملاعق من العسل الذي أهداه أهالي "مراغة وأردبيل" لنا. شعرت، مع كل ملعقة عسل أبتلعها بشيء من الحرارة يدبّ في أوصالي. لم يبق الكثير لتشرق الشمس، فكان علينا تنظيف أنفسنا
 
 
 
 
 
58

52

عمليات الشهادة

 والوضوء للصلاة. كان الإخوة تلك الليلة وفي جميع المحاور قد ذهبوا في عمليات استطلاع، ولم يكونوا أفضل حالًا منا. أخبرونا أن المحروقات قد نفدت من حمام الوحدة، وعلينا إحضار النفط من المقرات الأخرى. لذا، ومن دون أن نخلع بدلات الغوص، ركبنا سيارة الإسعاف وانطلقنا نحو مقر الوحدة في "رسول آباد". كانت الساعة السادسة صباحًا، ولم يبقَ سوى ساعة واحدة لشروق الشمس. قطعنا الطريق بسرعة نحو "رسول آباد". فجأةً سقطت سيارة الإسعاف في حفرة ما وشعرت بألم شديد في ظهري. نزلنا من السيارة، ووجدنا حفرة قد أحدثتها وحدة الهندسة التي كانت تعمل على تأهيل الطريق، ولم يكن عملهم قد انتهى بعد، فتركوه حتى الصباح ظنًا منهم أن لا أحد سيعبره. لحسن الحظ، ساعدتنا الجرافة القريبة من المكان في إخراج سيارة الإسعاف من الحفرة التي لم تصب بضرر كبير، وتابعنا طريقنا.


وصلنا إلى المقر قبل الشروق بقليل، أسرعنا في خلع بدلات الغوص والاستحمام، ومن ثم الصلاة. ما أروعها من لحظات، أداء الحمد والشكر لله الذي أنجانا من التهلكة مرات ومرات، وأعاننا على تنفيذ مهمتنا ونجاحها. كنا نُصلي ونحن نرتجف من البرد الذي تغلغل في أبداننا وعروقنا.

بدا التعب والنعاس جليّين على ملامحنا. جهّز لنا الأخ "حمزة" سريرين، ووضع علينا ثلاث بطانيات جديدة عليها رسمة النمر، لكنني بقيت أرتجف من البرد.
 
 
 
 
59

53

عمليات الشهادة

 2


- أشهد أن لا إله إلا الله.

شهادة أيقنتها بكل وجودي وكياني وشهدتْ بها كلّ جوارحي. كان ذلك أذان الظهر، ما أحلى سماعه! استيقظت على صوت الأذان، وكانت الشمس في كبد السماء. خرجت من المتراس وعلمت أن الفرقة قد طلبت من السيد "حمزة" ذبح خروفين "أضحية" لعودة الإخوة في وحدة الاستطلاع سالمين من مهمتهم. تعاونّا على ذبح الخروفين وبدأ السيد "حمزة" بعملية الطهي.

قبل أي شيء، ذهبتُ إلى بدلات الغوص لأتفقّدها. نظّفت سلاحي وجلست مع السيد "أصغر" لنكتب التقرير حول مهمتنا ومشاهداتنا.

جاء إلينا "كريم فتحي" مبتسمًا، وقال لي: "هل ستقطب حاجبيك لنا ثانية؟"

- لا لن أفعل... لقد تبتُ عن ذلك!

ضحكنا كثيرًا. تناولنا الغداء في "رسول آباد"، وتوجهنا بعد الانتهاء من كتابة التقرير إلى "قجرية" حيث مقر الكتائب.

استدعيتُ غداة ذلك اليوم للذهاب إلى التدريب. وكما جرت العادة، إمّا أن نذهب نحن إلى حيث استقرت الكتائب. أو أن يأتي أفرادها إلى حيث مقرّ وحدة الاستطلاع. يوجد على مقربة من مقر الوحدة ساحل مناسب للتدريب والتعليم. ما إن خرجت ذلك اليوم من محيط الوحدة، حتى وجدت الإخوة ينتظرونني عند الساحل المواجه لمقرها، وعيونهم تلمع بنظرات الشقاوة. ارتاب بعض العناصر القدامى
 
 
 
 
60

54

عمليات الشهادة

 من أمر غيابي الذي استمر يومًا كاملًا، وما إن وصلت إليهم حتى انهالوا عليّ بأسئلتهم:

- لم ثيابك ممزقة بهذا الشكل؟

كانت بدلة الغوص قد تمزقت بسبب الأسلاك الشائكة والقصب، ما أثار فضول الإخوة، وسألوني عن سبب غيابي. فأجبت: "ذهبتُ إلى الأهواز".

- عجيب! وهل تُمزق ثيابه بهذا الشكل من يذهب إلى الأهواز؟!

انتهت الاستجوابات وسط الضحك والمزاح. وعبّر من وصلت أخبار العمليات إلى مسامعهم عن فرحتهم، من خلال بعض التعليقات الظريفة والنشاط الذي أظهروه خلال التدرب.

*

وصلنا في التدريب على الغوص إلى مرحلة استخدام الأنبوب1 الذي يساعد على التنفس تحت سطح الماء، وبدأت معها مرحلة شاقة وجديدة. بدايةً، يجب زيادة وزن2 الغواص ليتمكن من البقاء تحت سطح الماء، بما يتناسب والعمق المراد الوصول إليه، هنا واجهنا مشكلة جديدة، حيث إنّ أغلب بدلات الغوص كانت من مخلّفات العمليات السابقة، وهي إما متضررة بمعظمها، أو غير مناسبة لمقاسات الشباب فكانت تتسرّب المياه إلى داخلها ما يفقدها المواصفات المطلوبة في
 

1- (السنوركل) أنبوب خاص يشبه القصبة، يضع الغواص أحد طرفيه في فمه، والطرف الآخر يبقى خارج سطح الماء.
2- إحدى ميزات بدلة الغوص حتى تبقيه تحت سطح الماء وحتى يستطيع الغواص النزول إلى عمق المياه عليه استخدام الأثقال والوزن.
 
 
 
 
61

55

عمليات الشهادة

 بدلة الغوص، ناهيك عن عدم توافر الأثقال الخاصة بالغوص، ما اضطرنا للاستعاضة عنها بالأحجار (قطع الطوب). في تلك الأثناء وصلنا خبر استشهاد أحد عناصر كتيبة "حبيب" أثناء التدرب على استخدام قصبة التنفس1.


أول خطوة اتّبعتها في تدريب الإخوة على استخدام القصبة هي تعليمهم التنفس بواسطتها وهم ثابتون في أماكنهم. كنت أصحبهم إلى مكان عميق نسبيًا، فيقفون في الماء صفًا واحدًا، وبإشارة مني ينزلون رؤوسهم تحت سطح الماء محاولين التنفس بالقصبة. وبعد تكرار هذه العملية عدة مرات، بدأت الحركة داخل المياه. كانت جميع حركات الرتل تتمّ في خط مستقيم تحت سطح الماء، وبالطبع عندما تكون رؤوس الإخوة في الماء يكون رأسي خارجه لأراقب حركتهم كي لا ينحرف الرتل فيصطدموا بالساحل أو بالقوارب العائمة. كنت أوجّه الرتل، ولأجل الحفاظ على مسيره، طلبت من العنصر الأخير فيه رفع رأسه خارج الماء، ففي حال انحرف الرتل عن مسيره، يجذّف ويقوم بحركة سريعة ليصوّب المسير مجددًا. وفكّرت في الاستفادة من هذه الطريقة ليلة العمليات أيضًا لما لها من نتائج طيبة.

مع تقدّم التدريبات واقتراب موعد العمليات، استعادت مراسم الدعاء والتوسل بالأئمة الأطهار رونقها. وكان في جمعنا الحاج "أصغر
 

1- عندما كان الغواصون تحت الماء وهم ممسكون بالحبل الممتد من أول الرتل إلى آخره، علق أحد أطرافه بالقارب ولم يلتفت أحد إلى الأمر إلا بعد استشهاد "السيد فتاح فتاح". كان مسؤول التدريب "حميد اللهياري" الذي ظلّ يلوم نفسه حتى استشهاده.
 
 
 
 
62

56

عمليات الشهادة

 زنجاني" والأستاذ "كلامي" وهما من مداحي وشعراء أهل البيت عليهم السلام. وقد جرت العادة أن تجتمع القوات إما في مسجد كتيبة "حبيب" أو في مسجد كتيبة "ولي العصر".


كنا بعد كل صلاة نؤدي التعقيبات وننتظر صوت الأخ "نيكنفس" الذي اعتدنا عليه ليقول "لنؤدِّ سجدة الشكر جماعة أيّها الإخوة". كنا نؤدي السجدة ثم يتلو علينا الأدعية أو الأشعار العرفانية المناسبة.

يا حبيبي ومؤنسي ومفرّج كربتي يا رب
ارزقني طاعة الخاشعين يا رب
واجعلني من السالكين في درب الحق
وكن أنت الطبيب لجميع آلامي يا رب

كان للأشعار التي يلقيها أثرٌ عجيبٌ على روحية الإخوة، فكنّا نتمتم بها لوقت طويل:
امنحني قلبًا لا يسكنه سواك
ولا أدعوك إلا لِما فيه رضاك

وفي أغلب الليالي كنّا نختم الصلاة والدعاء، بمجالس عزاء أبي عبد الله عليه السلام. صحيح أننّا لم نكن في شهر محرم الحرام، لكن حلقات اللطم والعزاء كانت تقام بين الحين والآخر، وفي بعض الأحيان، كان الإخوة يأتون، حتى قبل نزع بدلات الغوص، للمشاركة فيها. لم يكن للتوسل والبكاء على الإمام الحسين عليه السلام وقت محدد. وربما كان الإخوة يقطعون المسير بين المقر ونهر "كارون" بالعزاء واللطم على الصدور. ولم تكن تتوقف حتى خلال المناورات، بل على العكس، كانت
 
 
 
 
63

57

عمليات الشهادة

  تقام بمزيد من الشوق والحماسة، كما استمرّت المراسم الخاصة داخل كل سرية وفصيل.


*

في أحد الأيام صدرت أوامر بزيادة مسافة مسير التدريب إلى خمسة أضعاف، والقيام بكل ما يلزم من أجل زيادة قدرات الإخوة على البقاء في المياه مدة أطول. كنت قد شعرت بلزوم هذا الأمر بعد عملية الاستطلاع، وأدركت أنّه كلما زادت اللياقة البدنية للإخوة، أصبحوا أكثر قدرة على تحمّل الصعاب ليلة العمليات والبقاء في المياه مدة أطول. وطالت مسافة الغوص حتى وصلت في النهاية إلى 6 كلم.

مع اشتداد التدريبات وقساوتها، خارت قوى بعض الشباب الذين صمدوا بصعوبة بالغة حتى ذلك اليوم. كانت جميع القوات عُرضة للأذى والإصابة في تلك المياه الباردة والمسير الطويل، وثبت لنا أن عددًا منهم لن يقدر على الصمود والاستمرار، ولا بد من دفعهم لصرف النظر عن الغوص. كان الأخ "أصغر علي بور" قائد إحدى سرايا الغوص يُظهر بهجةً وسرورًا مدهشًا للغوص، لكنه لم يملك اللياقات البدنية التي تؤهله لذلك، ولم يكن ليرضخ للأمر الواقع، فكان يبكي ويصرّ على المشاركة، لكنه في النهاية اقتنع بأنه غير مؤهل لذلك. دفعت روحيته وروحية العديد من الإخوة أمثاله، العناصر لبذل أقصى طاقاتهم من دون انتظار أوامر وتوجيهات المسؤولين. كان السيد "أحمد الموسوي"1
 

1- كان لدينا في الجبهة اثنان باسم السيد أحمد الموسوي، متفاوتان في العمر، السيد أحمد الموسوي الأصغر سنًّا كان أحد العناصر الستة الذين فُقدوا في عمليات كربلاء4 في كتيبة ولي عصر، ولم يصلنا خبر عنهم إلى أن تمّ اكتشاف جسده الطاهر في العام 1997 وأُعيد إلى وطنه وشُيّع ودُفن في مزار الشهداء.
 
 
 
64

58

عمليات الشهادة

 من الذين شغلوا تفكيري، فقد كان عندما ييأس يأتي إلي ويقول: "ماذا عليّ أن أفعل؟ تتشنج جميع عضلاتي وأفقد القوة عندما أنزل إلى الماء. لكنني لا أستطيع الاستسلام، عليّ البقاء مع الشباب بأي طريقة من الطرق للمشاركة في الغوص والعمليات، قل لي ما العمل؟".


في البداية، كنت أردّد على مسمعه أنه وفي هذه الظروف لا يتوجّب عليه البقاء في سرية الغوص، وأنه من الأفضل أن يخلي مكانه لشخص آخر، ويذهب للمشاركة في سرية البرمائيين، علمًا أنّ مهمة هؤلاء أهم وأخطر، إذ كان عليهم الانطلاق في العمليات بعد الغواصين مباشرة، ومتابعتها حتى تحقيق الأهداف.

لكن من دون جدوى، لم يكن السيد أحمد الوحيد الذي ينظر إلى "الغواص" نظرة مختلفة، فكان حلمًا دائمًا له بل كان جميع الإخوة يشاركونه الرأي، خاصة بعد عمليات (والفجر8). وحينها كان الأخ "صمد قاسم بور" قد نظم شعر "الغواص" الذي تردّد على كلّ لسان، حتى في العزاء واللطميات. عندما عجزتُ أمام توسّل وإصرار السيد "أحمد"، طلبت منه عندما يشعر بالتعب أن يمسك بالحبل ويتوقف عن السباحة بواسطة الزعانف، فيقوم الإخوة بسحبه.

استمرت التدريبات ليل نهار، وأصبحت المناورات الليلية هي الأساس في برنامجنا. كان الإخوة، ما إن يتلقّوا التعليمات حول المهام الموكلة إليهم ينزلون إلى الماء من النقاط المحددة. وقد تدربوا على: كيفية الخروج من الماء، استخدام زعانف السباحة وخلعها، الحركة من الساحل إلى السدّ، عبور الأسلاك الشائكة، كيفية التصرف عند مواجهة
 
 
 
 
 
65

59

عمليات الشهادة

 الأعداء، كيفية تسلق الساتر الترابي أو السدّ، وغيرها من الأمور اللازمة. كان السدّ في بعض المناطق يلامس الماء وفي مناطق أخرى، يبعد عنه مسافة 20 إلى 70 م.


شاركت السرايا في تلك المناورات، كلٌ حسب المهام الموكلة إليها، ولم تكن تتضمن إطلاق النار، إذ كان الهدف منها اكتساب الخبرة والاستعداد لأمور مشابهة قد يتعرضون لها ليلة الهجوم.

*

جاءت الأوامر بإجراء مناورة على مستوى اللواء وبإشراف الأخوين "شمخاني" و"شريعتي". حُدّد انطلاق المناورات من مكان بعيد نسبيًا عن مقر الكتائب، لذلك توجّب علينا الانتقال إلى هناك بواسطة الشاحنات. كان المطر يهطل بغزارة، والشباب يتوافدون إلى مكان الانطلاق وهم يلطمون الصدور ويردّدون اللطميات على صوت الرادود الحاج "علي أصغر زنجاني". ركبنا الشاحنات وقد رافقنا صوت الحاج "علي أصغر" طوال الطريق. كذلك أقمنا في الشاحنات مجلس توسل ودعاء على وقع تساقط الأمطار.

وصلنا إلى نهاية الطريق المعبّدة، ثم تابعنا سيرًا على الأقدام. توقف هطول المطر، وأصبحت الأرض موحلة زلقة، ما صعّب علينا المسير، وزلّت قدم مسؤول التبليغ في كتيبة "حبيب" الأخ "عبد الله زاده" وكُسرت، ما دفعنا للتفكير مليًّا في كيفية التصرف إذا حدث وأمطرت السماء ليلة الهجوم. في كل مناورة كان يتمّ اختيار الموقع المناسب لدراسة نقاط القوة والضعف والمشاكل والمسائل المحتملة.
 
 
 
 
 
66

60

عمليات الشهادة

 حُدّد مكان المناورات على قسم من مجرى نهر "كارون" وكان يبلغ 8 كلم تقريبًا. واقتضت المناورة قطع المسافة المحددة باستخدام قصبة التنفس.


يوجد في النهر عدد من الجزر الصغيرة التي لا تحمل أسماءً، وكان يمتدّ خط مسار المناورة في مضيق بين جزيرتين في وسط النهر، وصولًا إلى المراسي القائمة على الضفة الأخرى، ومن ثم إلى الساتر الترابي الذي يليها مباشرة، حيث تموضع العدو الافتراضي. كانت تلك المناورات تجري تحت قصف العدو الافتراضي، وكان علينا بعد السيطرة على الساتر الترابي متابعة التقدم نحو الطريق الممتد خلف أشجار النخيل، وهو طريق "قجرية" نفسه حيث مقر وتموضع القوات هناك أيضًا.

صحيح أن المسافة المتوجب علينا قطعها خلال المناورات كانت أقصر من تلك التي في منطقة العمليات، لكنني ظننت أن أغلب الإخوة سيستسلمون وسط الطريق بسبب البرد والأمطار الغزيرة التي زادت الطين بِلّة. جلسنا عند النقطة المحددة على ضفة "كارون"، بانتظار موعد الانطلاق. توليت مسؤولية إرشاد المجموعات التي تنفصل عن الكتيبة وتنطلق أولًا، كان معي: "رحيم صارمي، حسن كربلائي وأحد مقيمي". زاد الجلوس بلا أي حركة من تعرضنا للبرد، ولم يتوقف هطول المطر دقيقة واحدة، كنّا في الواقع نجلس على أكوام الوحل، شعرت ببعض الدفء، وقلت للإخوة من حولي، اجلسوا بين الوحل طلبًا للدفء. كاد وجهي يتجمد من شدة البرد، لذا دسَستُ رأسي في كوم الوحل فشعرت بتحسن. كنت كلّما قرصني البرد، أكرّر الأمر وأنغمس في الوحل، إلى أن ارتفع صوت: "انطلاق".
 
 
 
 
 
67

61

عمليات الشهادة

 كان هذا صوت "ميراب" معاون الاتصالات في الفرقة، فقلت: "اصبر قليلًا لنرى ماذا سيحدث".


سمع السيد "أمين" صوتي وعرفه لأنه قال: "قال الإخوة في فرقة "ثار الله" إنّهم يستطيعون سباحة مسافة 40 كلم ورؤوسهم تحت الماء!". أدركت أنه يوجه الكلام لي، انزعجت كثيرًا، إذ لا يمكن تصديق هذا الكلام. كنت أدرك أن قائد فرقتنا يريد تشجيعنا بهذا الكلام على تحمل الضغوط، لكنني شعرت في ذلك الوقت بالتحديد، أن جهودنا لم تُقدر كما تستحق. كانت ما تزال صور أجساد الإخوة المرتجفة من البرد، الذين لم يشتكوا بسبب عشقهم لسرية الغوص، ماثلة أمام عيني. كنا صارمين ومتشددين في تدريب العناصر، ولم يكن من داعٍ للتباهي بتفوق الفرق الأخرى علينا.

طلبت من العناصر الحذر أثناء عبور المضيق، كي لا يرتطم آخر الرتل بالجزيرة أو الساحل، ولأتأكد من عدم حصول ذلك، جعلت "أحمد بيرامي ومهدي حيدري"، في آخر الرتل وطلبت منهما - في حال انحراف المسير - أن يجدّفا بزعانف الغوص بعكس اتجاه الانحراف.

كانت المناورات على طول نهر "كارون" بكامل التجهيزات والسلاح. نزلت مع العناصر إلى الماء وانطلقنا. عبرتْ سبع سرايا المضيق، وكانت سريتنا الوحيدة التي لم ترتطم بالجزيرة. ركبتُ بعد عبور المضيق في القارب لأشرف بشكل كامل على حركة الإخوة. اشتدّ البرد، فقال "رضا موسى خاني" الموجود معي في القارب: "لا قدرة للسيد "محمد فقيه" على الحركة بتاتًا". نزلت إلى الماء ثانية. كان السيد "محمد" يرتجف
 
 
 
 
 
68

62

عمليات الشهادة

 بشدة، فسحبته إلى القارب، وقد صار عاجزًا عن الحركة والكلام. لم يكن في القارب غير كيس من الخيش، وضعته عليه، لكنّني كنت واثقًا أنّه لن يشعر بالدفء قبل مرور عدّة ساعات. فكرت أنه من الأفضل أن أعيده إلى الماء لأن البرد القارس خارجه أشدّ منه داخله. تركته في زاوية القارب وعدت إلى الماء لأرى إن كان أحد من الإخوة يعاني من مشكلة فأساعده. وصلنا إلى الجزيرة من دون أي مشكلة تذكر. ما إن وصلنا إلى الضفة، حتى نفّذ الإخوة جميع التعليمات كما تدرّبوا عليها وخبروها من قبل. بعد وصول الفصيل الأول من القوات، تتالى وصول الفصائل الأخرى، وتموضعوا إلى يسار الفصيل الأول، وهكذا إلى أن وصلت جميع القوات. خلعوا الزعانف من أقدامهم، وساروا على الضفة الموحلة بهدوء وحذر لدرجة أن العدو الافتراضي لم يشعر بوجودنا. كنت أسير مع فرقة "التخريب". فتحنا معبرًا لباقي القوات، وتسلقنا الساتر الترابي.


كان العدو الافتراضي المتموضع خلف الساتر الترابي، من العناصر الزنجانية1. أدركنا ذلك من لهجتهم. وقف أحدهم أمامي مباشرة لكنه لم يرني، لذا أعددتُ كرة طينية (قنبلة طينية) ورميته بها على وجهه، حينها أدركوا أن الغواصين قد حضروا إلى المكان، وكذا حال باقي الحراس، ولولا إطلاق القنبلة المضيئة لما علموا بوصولنا. تابعت القوات تقدمها على اليابسة، فلم أرَ من داعٍ لوجودي هناك، لذلك قفلتُ عائدًا إلى
 

1- نسبة إلى زنجان، وهي مدينة تقع شمال غرب البلاد، وعاصمة محافظة زنجان.
 
 
 
69

63

عمليات الشهادة

 مقرّ الوحدة. كان المطر لا يزال ينهمر، وانزلقت قدمي عدّة مرات في طريق العودة، فغضبت وسألت نفسي: "ماذا لو أمطرت السماء ليلة الهجوم؟!".


وصلتُ إلى الوحدة، استحممت وغسلت ملابسي ووضعتها على المدفأة لتجف. كنت أفكر بالشباب، الذين ما زالت أمامهم عدّة ساعات لإنهاء المهمة الموكلة إليهم. سيعودون بعدها ليستحمّوا ويغسلوا ثيابهم بالمياه الباردة، ويضعوها على سعف النخيل الصغيرة لتجف، فهم لا يمتلكون وسائل الراحة المتاحة لنا في الوحدة. بالطبع، لن تجف الثياب في هذا الطقس البارد، بل ستبقى مبلّلة ومتجمّدة، وسيضطرون لارتدائها صباح اليوم التالي من أجل المشاركة في التدريبات. كنت أغبطهم على إيمانهم وعزمهم.

*

لم تُشكَّل صفوف التعلم والتدرب صباح اليوم التالي، ما أتاح لي فرصة أن أتفقد الإخوة وأعرف منهم مجريات مناورات الليلة الماضية. ارتديت معطفي العسكري وانتعلت "الجزمة"، ثم اعتمرت القبعة وحملت المسبحة بيدي وانطلقت نحو مقر الكتيبة، دخلت إلى خيمة الأخ "سوداگر" في البداية:
- ما الأخبار؟ إلى أين ذهبتم الليلة الماضية؟!

تناولت قدحين من الشاي أثناء تبادل الأحاديث. كانت تلك المرة الأولى التي أرضخ فيها لدعوة الإخوة، وأفتح دفتر خواطري وذكرياتي عن العمليات السابقة. ذهبت من هناك إلى فصيل "رضا داروبيان"، ومن
 
 
 
 
70

64

عمليات الشهادة

 ثم إلى قيادة الكتيبة وبعد ذلك... كانت الحكاية ذاتها تتكرّر في كلّ خيمة أدخلها، من شرب الشاي والتحدث عن الذكريات، حتى أصبحت عرضة لتعليقات الإخوة الساخرة، خاصة "أمير خردمندي" الذي راح يقول بلساني: "... نعم يا 'أمير'! خذني إلى الفصائل لأحدثهم عن ذكرياتي!".


*

علمت في ذلك الصباح الساخر بامتياز1، أن الشباب برعوا في جميع مراحل المناورات، من إطلاق النار وتطهير المواقع إلى التقدّم في خطوط العدو الافتراضي، من دون أي مشكلة تُذكر. فرحت كثيرًا لأن الشباب قد أثبتوا جدارتهم واتّضح ذلك لقادة الفرقة أيضًا. شعرنا صباح اليوم التالي بارتفاع منسوب مياه نهر "كارون"، ذلك بسبب غزارة الأمطار التي شهدتها البلاد في الأيام الماضية. كما نفذت المياه من المناطق التي تفتقر للسدود والسواتر الترابية، لتغمر السهل والمناطق المجاورة.

كانت القرية المهجورة التي تضم مقرّنا مرتفعة نسبيًا عن سطح نهر "كارون"، وكذلك الطريق المُعبّد المؤدّي إليها، لكنّ المياه غمرت الأراضي المحيطة بهما. وظنًّا منا أن المياه ستصل إلى القرية، جمعنا أغراضنا وتجهيزاتنا ونقلناها إلى الطريق المُعبّد. كنّا واثقين أن المياه قد غمرت مقرّ الكتائب، وبالتالي إما ستتوقف التدريبات مدة من الزمان،
 

1- 1 أصبحت الذكريات التي رويتها للإخوة تُتناقل على ألسنتهم على نحو المزاح والفكاهة.
 
 
 
 
71

65

عمليات الشهادة

 أو نعود إلى مكاننا السابق، أي "رسول آباد". لكن سرعان ما أطلّ السيد "أمين" وأخبرنا أن المياه لم تغمر مقرّ الكتائب، ويمكننا العودة إلى غرفنا. في الواقع كان مقر الكتائب، بالإضافة إلى القرية المهجورة والطريق المُعبد، الأماكن الثلاثة الوحيدة التي نجت من طغيان المياه. لم أصدّق أن مقرّ الكتائب قد نجا، عندما ذهبت إلى هناك، علمت أن الإخوة عندما شعروا بارتفاع منسوب المياه، ومن دون انتظار وحدة الهندسة، بدأوا بكلّ ما لديهم من رفوش وأطباق وأوانٍ بصنع سدّ ترابي حال دون طغيان المياه.


استمرّ ارتفاع منسوب مياه نهر "كارون" وغمر جزءًا من الطريق أيضًا، حتى إنّ مجموعة الهندسة عجزت عن عبورها. ركب "أحد مقيمي" وعدد من العناصر "الجيب" قاصدين مقرّ الكتائب، لكنهم سقطوا في حفرة أحدثتها المياه في الطريق. بقيت سيارة "الجيب" هناك بينما عاد الإخوة إلى مقر الوحدة سيرًا على الأقدام. قصّ علينا مسؤول أركان اللواء الأوّل "أحد مقيمي" حادثة وقوعهم في حفرة المياه عدّة مرات، ولشدة طرافة وجاذبية أسلوبه في القصّ، لم نملّ من سماعها مرات ومرات. كان المزاح يكثر عندما ألتقي أنا و"أحد" في مكان واحد، ربما يعود السبب في ذلك، إلى حسن عشرته مع الإخوة في تلك المنطقة، وإلى المزاح الذي كان يدور في اللقاءات بحضور ومشاركة "أصغر عباس قلي"، قائد "اللواء 1"، "منصور عزتي، حميد اللهياري" وعدد آخر من الإخوة، والتي كانت مقدمةً لمدّ جسور الصداقة بين "أحد مقيمي" والإخوة في وحدة الاستطلاع. كان "أحد مقيمي وبهزاد برفين قدس" يشاركان
 
 
 
 
72

66

عمليات الشهادة

 في التدريبات مع عناصر الكتيبة، وكنت أبحث عنهما وأمُرُّ بالقارب ذي المحرّك بقربهما فأُحدِثُ أمواجًا كبيرة تزيد من ضغط المياه عليهما.


*

سُرعان ما بدأ منسوب المياه بالانخفاض. أتَوا بجرافة كبيرة لصنع سدٍ ترابي لمواجهة طغيان مياه النهر لكنّها علقت في الوحول، لأنّ التربة على ضفة نهر "كارون" تحوّلت إلى ما يشبه المستنقع. باءت جميع محاولاتنا لإخراجها بالفشل، فتركناها هناك حتى اليوم التالي، وعندما رجعنا وجدناها غارقةً في الوحل أكثر فأكثر. وبعد عدّة أيام، لم يبقَ ظاهرًا منها سوى المدخنة1!

بعد المناورات التي جرت في اللواء، عُقدت الاجتماعات التوجيهية للعمليات بشكل متتالٍ للعمليات. وحُدّد في الاجتماعات الأولية نطاق عمل كتيبة "حبيب" في النهر الذي يجري بمحاذاة مصنع البتروكيمياويات وساحل جزيرة "بلجانية"، وأعطيت لهم التوجيهات والتعليمات اللازمة للعمليات. لكن حدث تغيير في طبيعة مهام فرقة عاشوراء ككلّ، إذ أصبح نطاق عملها منتصف جزيرة "بلجانية" إلى بداية نهر "بلجانية"، أي إلى الأعلى قليلًا من جزيرة "أم الرصاص". قبل أن يُنشر خبر تغيّر المهام للكتائب والفصائل، عُقد اجتماع بدعوة من قيادة الفرقة أعلن فيه تقلص مساحة عملها. وظهرت الحاجة لتشكيل سرية من المظلّيين2، رغم أنّ عددهم لم يكن يتجاوز الفصيل الواحد.
 

1- علمنا فيما بعد أنّ شركة النفط استطاعت إخراجها في فصل الصيف، بمساعدة رافعة ضخمة (90 طنًا).
2- كنا نسمّي العناصر البرمائيّين بـ "المظلّيين"، وعليهم الذهاب إلى خطوط العدو بواسطة القوارب.
 
 
 
 
73

67

عمليات الشهادة

 عقد اجتماع آخر لقادة كتيبة "حبيب"، ودعاني قائد الكتيبة الأخ "السيد فاطمي" للمشاركة فيه. كان الهدف من الاجتماع اختيار العناصر "البرمائيين". كنت على يقين أن مهمة هذه السرية ستكون أصعب من غيرها، لكنّنا جُوبهنا برفض كلّ من طلَبْنا منه المشاركة فيها. كنت أستطيع أن أخمّن سبب رفضهم لها، فالجميع يريد أن يكون في سرية غواصي الاقتحام، حتى إنّهم كانوا على استعداد للتنازل عن مراكزهم القيادية شرط المشاركة في سرية الغواصين.


- الأخ سوداگر؟

- لا!

- ماذا عنك يا أخ "مُطلق"؟

- لا يا سيدي، اسمح لي البقاء في سرية الغواصين.

كلّما زاد إصرارنا زاد رفضهم، فالغواصون عرضة للاستشهاد أكثر من باقي القوات، وكان مسؤولو السرايا من العناصر القدامى الذين لم تكن قد بردت حرارة استشهاد إخوانهم في قلوبهم بعد، وقد رأوا في مشاركتهم في قوات الهجوم فرصة كبيرة أُتيحت لهم للحاق بركبهم. جاء دور "أصغر علي بور"، كنت قد تحدثت إليه عدّة مرات في السابق، وكان يعلم جيدًا أن لا طاقة له على تحمّل البرد الشديد. لكن أبدًا لم يستطع أحد -حتى ذلك الوقت -إقناعه بالعدول عن المشاركة، تقرر بعد الكثير من النقاش والتشاور أن يكون الأخ "أصغر علي بور" قائد سرية "البرمائيين"، فلم يستطع بعدها الاعتراض، لكنه حزن وبكى أثناء الاجتماع. كنت كلّما ألتقيه بعد ذلك أرى مسحة الحزن تلك في عينيه.
 
 
 
 
74

68

عمليات الشهادة

 *


بعد هذا الاجتماع مباشرةً، عقد اجتماع آخر موسّع شمل مسؤولي السرايا وقادة الفصائل، وشارك فيه أيضًا عناصر الاستطلاع الموزّعون على مختلف السرايا. اجتمع الكل في خيمة قيادة الكتيبة، وتوالى على الحديث كلّ من الأخ "منصور عزتي" والأخ "السيد فاطمي"، قدّم عناصر الاستطلاع خلالها التوجيهات والمعلومات الكافية عن منطقة العمليات. ثم عقد اجتماع جديد في الخيمة نفسها مع كتيبة "ولي العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف"، شارك فيه مسؤولو سرايا الكتيبتين، وعناصر الاستطلاع، وقائد الفرقة. قدّم جميع عناصر الاستطلاع وبطلب من السيد "أمين"، الشروحات الوافية حول طبيعة منطقة العمليات وما عاينوه هناك مستعينين بالخرائط. جاء دوري، فبدأت بالحديث عن كل مشاهداتي من لحظة نزولي إلى الماء حتى وصولي إلى الجزر، حتى يَطْمَئنّ فيه الإخوة إلى أنّني عاينت المنطقة بدقة، وهو أمر لطالما أكّدت عليه القيادة. تحدّثت عن العوائق والمتاريس وتفاصيل ساحل "بلجانية" بكل ثقة، وعندما وصلت بالكلام إلى مسألة إقفال المضيق، أسرّ السيد "أمين" في أذني قائلًا: "لا تخبر الإخوة بهذا الأمر كي لا يؤثّر ذلك سلبًا على روحيتهم". لذا عبرت عن هذا الموضوع بسرعة:
- لا شيء آخر غير ما ذكرت، إن شاء الله لن يعترض مسيرنا وحركتنا أي مشكلة، وسنصل إلى أهدافنا بعبور ذلك المضيق.

مع أنه لم يُطْرح في الاجتماع أي تساؤل أو تردّد حول أي مرحلة من مراحل العمليات، إلا أنني بقيت قلقًا من احتمال إغلاق المضيق. حاولنا
 
 
 
 
 
75

69

عمليات الشهادة

 مراقبة المضيق ورصده. في بعض الأحيان كانت تظهر لنا - أثناء حركة الجزر - السلاسل المعدنية لامعة تحت أشعة الشمس. فكّرنا باستخدام قاطعة أسلاك قوية لحلّ هذه المشكلة. بالطبع لم تكن لتعترضنا هذه المشكلة أثناء الهجوم بسبب ارتفاع منسوب المياه بفعل حركة المدّ، لكن ذلك لم يمنع من التفكير بعقلانية وبجميع الاحتمالات. كان علينا الأخذ بعين الاعتبار تجنّب التعرض للأخطار حتى ولو بنسبة واحد بالمئة. كنا نعلم أن منسوب مياه النهر قد ارتفع في المناطق التي استطلعناها، بسبب غزارة الأمطار الفصلية. لكن، كان من الممكن حدوث أمر ما يؤدّي إلى انخفاضه، فيشكل حينها عائقًا حقيقيًّا أمامنا.


لم يعقد أيّ اجتماع بعد ذلك، لكنّ مسؤولي الفصائل والسرايا والكتائب، ما فتئوا يقدمون الطروحات لإجراء المناورات التي كانت تُنفذ بعد إدخال التعديلات عليها من قبل التخطيط للعمليات أو قيادة اللواء والفرقة، وهدفها المحافظة على الجهوزية واللياقة البدنية للعناصر. تولّى مسؤولو الفصائل متابعة أمر التدريب، وبدأ عناصر الاستطلاع تجهيز أنفسهم للعودة إلى "رسول آباد".


في كل مرة ينتهي فيها عملنا في منطقة ما، وتصدر الأوامر بالانتقال إلى نقطة أخرى، كانت تتداعى إلى ذاكرتي صور وذكريات المكان الذي كنت فيه: محل رياضة ألعاب القوى التقليدية "زورخانة"1 الذي جُهّز بهمّة الأخ "داروبيان". كنا نمارس تلك الرياضة بعد صلاة الصبح. وكان
 

1- زروخانة (بيت القوة): رياضة تقليدية إيرانية عبارة عن حفرة دائرية في الأرض يجتمع فيها الرياضيون ويرافقهم قارع إيقاع على الطبل، ويترافق مع إنشاد أشعار خاصة بها.
 
 
 
 
 
76

70

عمليات الشهادة

 للزنجانيين أيضًا مكانهم الخاص في هذه الرياضة (زورخانه)، حيث كان أحد الإخوة ينقر على القدر وينشد الأشعار الخاصة بها، ويرافقه باقي الإخوة في الإنشاد. كما إنّ رياضة كرة القدم لم تتوقف في وحدة الاستطلاع، إضافة إلى الإغارة على الجوز التي برعتُ فيها أنا و"محمد بور نجف". كانت صناديق الجوز والعسل وسائر المواد المغذية والمقوية المتدفّقة على وحدتنا، توسوس لنا لإخفاء صندوق أو اثنين منها لقادم الأيام، عندما يفرغ الإخوة من حصصهم، فنجول نحن وجيوبنا مليئة بها، ونتقاسمها مع الذين يتلقون ذلك على أنه كرم وسخاء منا، غافلين عما دبرناه وندبره في الخفاء.


كانت مجالس الدعاء والعزاء تقام بعد كلّ صلاة جماعة في الكتيبة. وكان "حسن كربلائي" يتولّى قراءة العزاء واللطمية عندما يكون حاضرًا، وكنت أنا و"حسن وكيل زادة ومحمد مختاري وند"، المحرومون من إقامة تلك المجالس في وحدتنا، نسارع للمشاركة فيها أنّى ثقفناها.

3

انتقلنا إلى "رسول آباد"، حيث استؤنفت مجددًا برامج التعليم والتدريب على السباحة والغوص لعناصر الوحدة في نهري "بهمن شير" و"كارون". لم يكن موعد العمليات قد حُدّد فعليًا، وكان لا بد من الاستمرار بتلك التدريبات لتبقى أجسامنا على جهوزيتها واستعدادها.

استُحدث في تلك الأيام برج مراقبة لرصد منطقة الأعداء، وكان عبارة عن برج هرميّ الشكل تقريبًا ذي قاعة مربعة كبيرة، بُني في أعلاه غرفة صغيرة للمراقبة لا تتّسع لأكثر من ثلاثة عناصر. لم يكن ذلك البرج مثبتًا
 
 
 
 
 
 
77

71

عمليات الشهادة

 بشكل جيد، لذا كان يتمايل مع هبوب الريح. وكنا نستعين بحلقات البراغي المثبتة عليه للتسلق لأنّه لم يكن مجهّزًا بسلّمٍ للصعود إليه. أول مرة تسلّقته شعرت أنّني لا أملك القوة الكافية لذلك، بالرغم من كل تلك التمارين والتدريبات واللياقة البدنية التي أتمتع بها. فكنت عند صعودي إليه معتمدًا على البراغي المثبتة فيه، أشعر في كل لحظة يهتزّ فيها أنّني سأسقط مع كل ما فيه من محتويات، وخاصة مع فقدان بعض حلقات البراغي. ومن المؤكد أنه لو حدث وسقطت عن ارتفاع 75 مترًا طول البرج، سأتكسّر وأتناثر أشلاءً. كانت مشقة تسلقه توازي مشقة السباحة بواسطة الزعانف في نهر "أروند". كان وقت الاستطلاع يبدأ بعد تحمّل كل هذا الخوف والمشقّة. للإنصاف، إنّ هذا البرج قد ساعدنا في مهمتنا كثيرًا، فقد كان مشرفًا على: "خرمشهر، نهر "أروند"، أم الرصاص، بوارين، أمّ البابي، شلمتشه" وحتى "البصرة" ذاتها، وكان يؤمّن لنا صورة كافية ووافية عن المنطقة.


لقد سلبني تسلّق البرج طاقتي وأوهنني تمامًا، وكنت أشعر كأنّني تسلقت جبلًا بارتفاع 3000م. تسلّقته ثلاث مرات، وكنت في كل مرة أواجه المشكلة ذاتها. لكن، هذا الأمر كان عاديًا وسهلًا بالنسبة لبعض الإخوة الذين تولّوا مهمة الرصد من على تلك الأبراج، والذين كانوا يتسلقونها باستمرار.

*

في أواخر شهر كانون الأوّل فاح أريج عطر العمليات في المنطقة. وكالعادة حرص مسؤولو الوحدة على تصوير العناصر وتسجيل أصواتهم.
 
 
 
 
 
78

72

عمليات الشهادة

 طلب "كريم فتحي" من المصوّر تصوير جميع عناصر الوحدة، وكان لهذا الأمر مواقف معيّنة ولطافة خاصة، وكلما زاد إصرار الإخوة على الفرار من أمام عدسة المصور، كان يزيد إصرار المصور والمسؤولين على تصويرهم، مستخدمين لذلك شتى الحيل والوسائل. أدركت تمامًا روحية الإخوة وسبب فرارهم من هذا الأمر، وكنت على يقين أنه وبعد عدة أيام، سنفتقد وجود عدد منهم بيننا. جهدت لإقناعهم بالامتثال والتحدث أمام الكاميرا، وطال الأخذ والرد بينهم وبين المسؤولين والمصوّر، لكن النتيجة كانت تصوير جميع العناصر قبل انطلاقهم إلى عمليات (كربلاء 4)، والأسئلة هي نفسها:

- ما هي رسالتك لأمة "حزب الله"، ما هو شعوركم بالنسبة للعمليات؟ و...

تحاذق بعض الإخوة وأعطوا إجابات مقتضبة وقصيرة، فتخلصوا بذلك من براثن الكاميرا.

- ما هو شعورك مع اقتراب موعد العمليات؟

- ما من شيء خاص!

- كيف هي معنويات المقاتلين؟

- لِمَ لا تسأل المقاتلين أنفسهم؟!

كان عدم الرغبة في الظهور من بركات الجبهة. وقد شهدتُ مرات عديدة كيف خبت حماسة بعض الإخوة في مجالس التعزية عند حضور آلة التصوير. ولطالما كان الشباب المخلصون يفرّون من الكتائب والسرايا إذا ما رأوا أنه يتم تداول أسمائهم فيها، والحديث عن صفاتهم
 
 
 
 
 
79

73

عمليات الشهادة

 ومميزاتهم، كالأخ "رضا داروبيان"، الذي فرّ بدايةً إلى كتيبة "سيد الشهداء"، ومن ثم إلى كتيبة "القاسم"، فـ"علي الأصغر"، وكان حينها في كتيبة "حبيب". والجميع يعلم أنه لم يكن يقرّ له قرار في أيّ مكان.


تم توزيع عناصر الاستطلاع على الكتائب، وكالعادة حُرم عددٌ من الإخوة من المشاركة في المرحلة الأولى. كان واضحًا في الأيام الثلاثة الأخيرة قبل بدء العمليات، كيف تبدّلت أحوال الإخوة الذين شعروا أن لا دور لهم لا في ليلة الهجوم ولا في المراحل التالية، تراهم كسيري القلب، وعندها كنت أتيقّن من خلال خبرتي أنهم المسافرون الراحلون عن هذا العالم، قبل أيّ من العناصر المشاركين في المعارك.

*

كان مصلّى الوحدة غرفة طينية في تلك القرية المهجورة. وفي مقابله، على مسافة غير بعيدة، يقع المطبخ المتميّز بأحجاره الصفراء، ويجري في موازاته نهرٌ صغير يصب في مجرى نهر "كارون". بينما كانت منامة الإخوة تقع على الضفة الأخرى للنهر وقد أقيم عليه جسر لعبور المشاة يصل الضفتين الواحدة بالأخرى. لقد شهدت تلك البقعة وداع الإخوة، فهذا أخٌ يعانق صديقًا له ويصحبه إلى زاوية ويرجوه كي يسامحه على كلام صدر منه، من قَبيل جملة "وما شأنك أنت" قالها منذ عدة أشهر وآذاه بها. أيُّ كلام مهما كان بسيطًا، وأي هفوة مهما كانت صغيرة، كانا يُعتَبران خطيئة كبيرة في الجبهة. إنه لأمرٌ مدهشٌ أن يحفظ الإخوة جميع هفواتهم وزلّاتهم، وربما يكون الشخص المقابل لا يذكر منها شيئًا، ولا حتى أنه انزعج من أمر أو كلام ما! إلا أنه يرضخ لتوسلات ودموع طالب
 
 
 
 
 
80

74

عمليات الشهادة

 المسامحة فيقول لتهدئته: "أيًا كان، أنا أسامحك، وأسألك الشفاعة لي". وبالطبع لم يخلُ الأمر من مغرّدين خارج السرب، أولئك الذين لا يفوّتون أيّ فرصة للمشاكسة والمزاح أمثال: "محمد بور نجف، رسول سعيدي" وأنا.


في تلك الآونة، طُلب نقل طاقم (مسؤولي) الكتيبة إلى جانب نهر "أروند". فقد تقرّر وقبل الانطلاق، أن تستريح القوات خلف السواتر الترابية التي جُهّزت من قبل لهذا الغرض. أردنا بذلك تعريف طاقم الكتيبة إلى نقطة الانطلاق. تقرّر بدايةً نقلُ طاقم كتيبة "حبيب" إلى هناك، ما إن انطلقنا حتى علا صوت "رحيم صارمي" قائلًا: "أنت تسير في الاتجاه الخاطئ!". كنت أعلم من خلال صداقتي القديمة معه أنه يحاول مشاكستي:
- دعك من هذا، صحيح أنك هنا منذ زمن الشاه! لكنّه ليس معيارًا لتعرف كلّ أطراف المنطقة!

لم يكن هذا الجواب ليردع "رحيم" عن الاستمرار بتصرفاته. ما إن وصلنا إلى الجسر المكسور حتى أطفأنا مصابيح السيارات كي لا نلفت أنظار العدو، حتى إنّنا طلينا المصباح الذي يضيء عند استخدام المكابح بالطين. لطالما أكدنا على الإخوة في الخطوط الأمامية عدم تدخين السجائر كي لا يلفت ضوؤها الأنظار، وقد تسبّب إطفاء الأنوار بمشاكل عديدة، منها: الانحراف عن المسير والضياع، أو السقوط في الحفر والعوائق الأخرى. وكأنّ صعوبات السير في الظلام الدامس لم تكن كافية حتى يزيد مزاح "رحيم" المتتالي الطين بلّة:
 
 
 
 
81

75

عمليات الشهادة

 - أنت تسير في الاتجاه الخاطئ أنا أعرف ذلك.


بعد فترة وجيزة، شعرتُ أنني ربما ضللت الطريق فعلًا ، فعدنا على أعقابنا إلى أن وصلنا إلى المدرسة، حينها أيقنتُ أنّنا ضللنا الطريق.

كانت قد رُصفت أمام المدرسة ثلاثة صفوف من أكياس التراب المكدسة فوق بعضها البعض لتشكّل خطّنا الأمامي. عبرنا الخط بهدوء وحذر إلى أن وصلنا إلى حافة النهر، حيث أُقيم ساتر ترابي بارتفاع نصف المتر على طول الضفة، لاستقرار عناصر الغوص هناك إلى حين موعد الانطلاق.

كنّا قد شرحنا للإخوة المسؤولين وللقوات طبيعة المنطقة وقرب خطوط الأعداء منا، مؤكّدين عليهم أخذ أقصى درجات الحيطة والهدوء والحذر. ومع ذلك، لم يأخذ الإخوة كلامنا على محمل الجد ظنًّا منهم أننا نبالغ في التحذيرات بهدف الاحتياط فحسب. في تلك الليلة، سمع الجميع صوت سعال العراقيين، وحتى كلامهم، وهم يتبادلون أطراف الحديث بصوت مرتفع.

بعد عملية الاستطلاع التي قمت بها مع السيد "أصغر"، أدركنا تمامًا مدى تنبّه الأعداء وقرب خطوطهم من خطوطنا. لذا أدخلنا بعض التمارين الجديدة إلى التدريبات منها: النزول بهدوء شديد إلى الماء، السباحة من دون إحداث ضجة. كان معنا طاقم كتيبة "حبيب" التي كانت إحدى كتائب الهجوم، وقد أدركوا أهمية تلك التمارين والتدريبات.

تقرّر حفر قناة خلف الساتر المخصّص للغواصين، تُسهّل نزولهم إلى الماء فلا يضطرون للعبور فوقه.
 
 
 
 
82

76

عمليات الشهادة

 عدنا إلى المقرّ بعد الانتهاء من شرح أوضاع المنطقة للمسؤولين. وفي اليوم التالي نقل المسؤولون مشاهداتهم للعناصر. عقدنا نحن أيضًا اجتماعًا تمهيديًا للعمليات، وطُرحت - بسبب حساسية المنطقة - العديد من الإشكاليّات وطرق حلّها.


- من الذي سيشكّل الجناحين الأيمن والأيسر؟

- أين ومتى سيتم التحام القوات؟

- ما العمل بالنسبة لمختلف مشاكل "أروند"؟

- ما العمل إذا انتبه العدو لوجودنا قبل وأثناء نزول الإخوة إلى الماء، وبدأت المعارك؟ أو إذا تعرّض الإخوة داخل الماء لنيران الأعداء؟...

طُرحت جميع الإشكاليّات والتساؤلات، ووُضعت الحلول لكلّ منها. وتقرّر أن يبقى القرار الأخير في جميع الحالات الطارئة لقوات الاستطلاع.

أذكر أنه بعد الانتهاء من عملية الاستطلاع تلك، ودراسة جميع العوائق وأحوال المنطقة، وصلنا إلى نتيجة مفادها، أن العمليات غير ممكنة فيها، وستؤدّي إلى استشهاد جميع عناصر قوات الهجوم. نقلنا هواجسنا تلك إلى القادة، الذين اتخذوا بعض التدابير التي لم تقنعني. تحدثت إلى "إبراهيم أصغري" حول تلك الهواجس، وقمنا بتحليل وتقويم وضع العمليات. أزال "إبراهيم أصغري" هواجسنا وقلقنا بجملة: "إن تكليفنا اليوم يا "مهدي" هو الشهادة، وهذه العمليات هي عمليات الشهادة...".

*
 
 
 
 
 
83

77

عمليات الشهادة

 تقرّر موعد انطلاق العمليات، في ثاني أيام فصل الشتاء من عام 1986م، وحدّد موقع انطلاق قوات كتيبة "حبيب" من أطراف الجسر المنشأ على نهر "العرايض" بالقرب من مقر الفرقة. استقرّت القوات خلف السواتر الترابية المرتفعة، والتحقنا بهم ليلًا. تمددت أنا و"حسن كربلائي ومحمد سوداگر" على الساتر الترابي محدقًا في السماء، لكن كثافة القنابل المضيئة تلك الليلة لم تسمح برؤية النجوم، وكان من السهل التشكيك في العمليات عند رؤية غزارة تلك القنابل. كان الإخوة يحصون تزايد أعدادها خلال الشهر الفائت في كل ليلة، وكانت النتيجة مذهلة. أما خلال فترة وجودنا في المكان ورغم أنهم لم يطلقوا أي قنبلة في الليلة الأولى، إلا أنه وصل عددها ابتداءً من غروب ليلة العمليات وحتى صباح اليوم التالي إلى 300 قنبلة مضيئة.


جرت العمليات في قالب (على مستوى) ثلاثة مقرات، وقد عملت فرقة (عاشوراء 31) بإمرة مقرّ "كربلاء". كان هدف العمليات في المرحلة الأولى تأمين طريق عام "البصرة أم البحار"، ولتحقيق ذلك، وجب في الهجوم الأول، السيطرة على المنطقة ما بين السدّ والطريق. أما المرحلة الثانية للعمليات فقد قُسّمت إلى وجهتين، الأولى باتجاه "أم القصر" في عمق المنطقة، والأخرى باتجاه "البصرة". بدا خور1 "أم القصر" من خلال الصور الجوية على شكل أشجار ذات أغصان كثيرة2، لذا شكّل -نظرًا لشكله الطبيعي- خطًا دفاعيًّا طبيعيًّا مساعدًا لقواتنا العاملة بعد وصولها وتموضعها هناك.
 

1- أو "هور".
2- تسمى الفروع والتشعّبات التي تتفرع من خور أم القصر "خور عبد الله".
 
 
 
 
84

 


78

عمليات الشهادة

 في المحصّلة، الهدف هو السيطرة على الضفة الأخرى لنهر "أروند"، وتشكيل تهديد مباشر لمدينة "البصرة" العراقية، التي كانت هدفًا كبيرًا وهامًّا لعمليتنا. جعل حجم العمليات واتّساع نطاقها من جهة، والشواهد الدالة على جهوزية ويقظة العدو من جهة أخرى، جعل هذه العمليات أشبه بالمجازفة العسكرية. إن لم تنجح العمليات فلن نخسر المنطقة، لكن، إن نجحت فنبسط سيطرتنا على مناطق مهمة واستراتيجية تهدّد الوجود العراقي1.


*

صباح يوم العمليات، مُدّت مائدة الفطور في المصلّى، تناولنا الطعام معًا، ثمّ ألقى الأخ "كريم فتحي" كلمة بالجمع حول واجبات قوات الاستطلاع في العمليات، المتشابهة أساسًا في كلّ العمليات، باستثناء بعض التعليمات حول مناخ المنطقة، الظروف الجوية، العسكرية والسياسية. تحدث مسؤول الوحدة عن الشهادة والتضحية والمقاومة، وعن وجوب التسامح والصفح قبل النزول إلى الماء، لأن عنوان تلك العمليات: "عمليات الشهادة"، وقد أدرك الإخوة في وحدة الاستطلاع ذلك قبل غيرهم خلال تنفيذهم عمليات الاستطلاع. انتهى إلقاء الكلمة وبدأت مراسم الوداع والبكاء وطلب المسامحة داخل وخارج المسجد، وفي الغرف الطينية لتلك القرية المهجورة. وضع المصوِّر "كاميرته" على
 

1- في العمليات الكلاسيكية، تقوم قوات الاستطلاع العسكرية بعمليات محددة لجسّ النبض وكشف نقاط القوة والضعف عند العدو، تمامًا كما حصل في عمليات (كربلاء 4) التي مهدت للعمليات التالية، حيث تمّ كشف ضعف العدو عسكريًا في منطقتي "شلمتشه" و"المخمس"، فكانت عمليات (كربلاء 5) المظفرة.
 
 
 
 
85

79

عمليات الشهادة

 كتفه وجال بين الإخوة ليصطاد بعدسته وعينيه اللامعتين لحظات وداع وفراق الإخوة والأصحاب. امتزج بكاء الذاهبين بابتسامات الشوق، بينما حكت دموع وآهات المنتظرين حكاية الحسرة والألم. كنا على يقين أن الاستشهاد هذه المرة سيكون بطول وعرض نهر "أروند". أي من لحظة نزولنا إلى النهر حتى لحظة توغلنا في قلب جبهة العدو البعثي.


حتى ذلك اليوم، كانت سياسة الوحدة في كل العمليات: تقسيم وتوزيع قوات الاستطلاع وتجهيزها ليوم العمليات ولما بعده لأيام المراحل اللاحقة، وكان الجميع يعلم أن عمل الوحدة لا يقتصر على ليلة الهجوم فحسب، بل على التقدم لتحقيق الأهداف مرحلة تلو الأخرى. لكن تجربتنا في عمليات (كربلاء 4)، جعلتنا نؤمن - وبسبب طبيعة العمليات والمنطقة- أنّ كلّ من يسلّم قلبه لـنهر "أروند"، سينهل من كأس الشهادة لا محالة. لذا قلنا وكرّرنا مرّات ومرّات: "كلّ من لديه الجهوزية والاستعداد للشهادة فليبقَ في سرايا الغواصين، وليغادرنا كل من يشعر بشيء من الخوف، التردّد أو الشك، إذ لا سبيل للعودة أو التراجع بعد النزول إلى النهر!".

لم يكن بكاء المنتظرين لينتهي، هؤلاء الشباب الذين كان نصيبهم البقاء في الوحدة، ولم أكن أطيق أو أتحمّل رؤية كلّ تلك الدموع، لذا طلبت من السائق الإسراع في الحركة والابتعاد عنهم. تحرّكت السيارة تنهب الأرض نهبًا، رافَقْنا الإخوة بعيون دامعة باكية كأنّهم يودّعون أعزّ أعزائهم. أبعدتنا عنهم سرعة السيارة، وصوت الرياح والغبار الكثيف المتصاعد. ثم توقفنا عند الساتر الترابي حيث تموضعت الكتائب.
 
 
 
 
 
86

80

عمليات الشهادة

 ترجلنا منها وانتظرنا ريثما تجهز القوات، لنتوزع في الوقت المناسب على السرايا والكتائب المحدّدة لنا.


كانت تظهر روحيّة كل واحد من الإخوة بشكل مختلف عن الآخر. فبعضهم اختلى بعيدًا عن العيون، وآخرون تحلّقوا حول بعض ليسوّوا حساباتهم الدنيوية، ملتمسين العفو والشفاعة، أما نحن الذين أُلقيت على عاتقنا مسؤولية خطيرة، جلسنا نتذاكر المعلومات حول: مواقع الأعداء، أوضاع قواتنا، كيفية توجيه وإرشاد عناصرنا، حالة الماء وغيرها... تباحثنا حول تلك الأمور وتبادلنا الآراء والمعلومات مرّات ومرّات، ومع ذلك لم نرضَ بما توصلنا إليه، فكنا نستغل الاجتماعات الجانبية غير الرسمية، لتبادل المزيد من الآراء والحلول والإفادة من تجارب وابتكارات بعضنا بعضًا.

علم بعض أفراد طاقم الفرقة باجتماعنا هناك، فجاؤوا إلينا لوداعنا للمرة الأخيرة ولطلب المسامحة، كما جاء "رحمة الله أوهاني" الذي كان يكنّ له أفراد وحدة الاستطلاع محبة خاصة. كان من غير الممكن أن يمرّ بنا من دون أن يمازحنا. لكنّه كان شخصًا آخر ذلك اليوم، فقد ضمّني إليه بشدة وقال: "سامحني يا مهدي قلي!".

- سامحني أنت، من المؤكد أنك ستستشهد، سامحني لأنني آذيتك كثيرًا.

كان مكفهر الوجه دامع العين. التقط مصور الوحدة آخر اللقطات لوجوه الإخوة النورانية، وأجرى المقابلات مع عددٍ منهم كـ"حميد اللهياري، مجيد محمد زاده، كريم آهنج، حسين يوسفي وعلي رضا شاعري".
 
 
 
 
87

81

عمليات الشهادة

 اقتربت ساعة الانطلاق. سرنا نحو الساتر الترابي الذي كان بحكم خطّنا الدفاعي حيث تموضعت قوات كتيبة "حبيب" و "وليّ عصر". كانت الساعة الرابعة بعد الظهر، موعد توزّع عناصر الاستطلاع على مجموعاتهم. ودّع بعضنا بعضًا. وعدت إلى مركز قيادة كتيبة "حبيب"، فأشيائي وأغراضي هناك.


ارتديت بدلة الغوص وطلبت من الإخوة قبل افتراقنا أن يحذوا حذوي. أرسلت بعض الأفراد ليطلبوا من قوات الغوص الاستعداد وارتداء البدلات. جلت على أطراف الساتر وفي القناة مراتٍ عدّة طالبًا من الإخوة ضرورة ارتداء بدلات الغوص، إذ من المحتمل أن يبدأ العدو جولة أخرى من القصف بقذائف الهاون، ولا بدّ من الاحتياط والحذر.

ما أروع ما شهدته عيناي هناك! لم يرتدِ أحد بدلة الغوص قبل الوضوء، كانوا يعون تمامًا "طهارة" الثوب الذي من الممكن أن يصبح كفنًا لهم. وقد علت وجوههم البسمةُ والسكينة. عند الساعة الخامسة من بعد الظهر، وبينما كانت الشمس تميل إلى الغروب، وقعت عيناي على عنصر "تخريب" الكتيبة "مصطفى فخر ذاكري"، جالسًا وقد غاص عميقًا في أفكاره:
- انهض يا "مصطفى" وارتدِ بدلتك، فالوقت ضيّق.

نهض من مكانه، أحسست بنضارة عجيبة في ملامحه. حمل ثيابه وهو يبتسم وابتعد إلى مكان يختلي فيه ليرتديها، تابعت سيري على طول القناة، لم أبتعد كثيرًا حتى هزّني صوت انفجار قذيفة. وما هي إلا دقيقة، حتى رأيت الإخوة قادمين وهم يحملون عنصرًا غارقًا بدمائه،
 
 
 
 
 
88

82

عمليات الشهادة

 لم يكن قد أكمل ارتداء بدلة الغوص بعد، نظرت إليه بذهول، إنّه "مصطفى". لقد سار مبتسمًا إلى نقطة مقتله، كما أصيب عدد آخر من الإخوة بشظايا الانفجار. آلمني هذا الحادث وأثقل كاهلي، فـ"مصطفى" تخريبيّ الكتيبة، وكان من المفترض أن يرافقني في تلك الظروف، لذا تحتّم عليّ البحث عن تخريبيّ آخر لمرافقتنا. ذهبت إلى الإخوة وطلبت منهم تجهيز الحبل، ثم اتجهت نحو متراس السيد "فاطمي" قائد كتيبة "حبيب"، وكان قد عاد من مقرّ القيادة ولم يرتدِ بدلة الغوص بعد، فقال لي: "عدت للتوّ من مقر وحدة التكتيك والعمليات، لكنني لم أحصل على الجواب الشافي والقاطع حول كيفية حركتنا، أو كيف نتصرف إذا ما أُفشي أمر العمليات، اذهب أنت إلى السيد "أمين" لنلقي الحجة عليه للمرة الأخيرة.


علمت أن الشباب قد أخفوا بدلة الغوص الخاصة بالسيد "فاطمي" بقصد منعه من المشاركة المباشرة في العمليات، والاكتفاء بإدارة المعركة عبر جهاز اللاسلكي ، فانزعج كثيرًا لذلك.

انطلقتُ نحو مقر القيادة، وسمعته أثناء مغادرتي يقول لأخيه السيد "يونس": "أعطني ثيابك، وعندما تجد ثيابي ارتدِها واتّبعنا، وإلا..".

وصلت إلى مقرّ القيادة، كان الأخ "أمين" يجلس وأمامه عدد كبير من أجهزة اللاسلكي. سألني عن أوضاع الإخوة، فقلت له: "لقد استعدّ الإخوة وهم جاهزون للانطلاق...".

- ليكن الله معكم.

- أخ "أمين"!...
 
 
 
 
89

83

عمليات الشهادة

 ما إن قلت ذلك، حتى أدرك أنني لم آتِ عبثًا.


- في حال نزلنا إلى النهر وبدأت المعارك، كيف نتصرّف؟

- اخرجوا فورًا من الماء... ولا تتابعوا الحركة.

- ماذا لو كان وسط النهر؟!

- توجّهوا إلى أقرب ساحل، سواء كان "أم الرصاص" أو "بوارين"، وإذا كنتم أقرب إلى خطنا فعودوا أدراجكم بسرعة.

أجوبته تلك لم تُبقِ أي إبهام في الأمر، وقبل أن أغادر المكان قال لي الأخ "شريعتي": تم تأخير موعد الانطلاق ساعة واحدة!".

- لماذا؟

- يُحتمل أن يكون قد كُشف وقت العمليات.

شعرت باضطراب عجيب عندما غادرتهم، تأكدت أنه لم يُكشف مكان انطلاق العمليات فحسب، بل ساعة انطلاقها أيضًا. لقد نقل الجواسيس أدقّ التفاصيل حولها للأعداء، وكان علينا أن نهاجم عدوًا قد استعدّ أتمّ الاستعداد لمواجهتنا وهو في انتظارنا.

رتل الغواصين الذي تولّيت توجيهه كان أوّل النازلين إلى الماء، وهم من قوات سرية الأخ "سوداكر" من كتيبة "حبيب".

*

كان الظلام قد أرخى سدوله، وحان موعد الانطلاق. استعدّ الإخوة، لكنّ أمورًا عجيبة حدثت، شغلت تفكيري. أخبروني أن الحبل قد انقطع، فتوجّهت إلى المكان المحدد حيث تأخر فصيل بكامله عن الحركة بسبب انقطاع الحبل، جلست وربطت طرفيه بسرعة.
 
 
 
 
 
90

84

عمليات الشهادة

 - تحرّكوا بسرعة... .


لم أنتبه إلى الزعانف التي تركتها على الأرض أثناء ربط الحبل. انطلقت مع الإخوة، محاولًا الاطمئنان إلى تنفيذ التعليمات حول النزول والعوم في الماء من دون إصدار أيّ صوت أو ضجة، لقد استغرق التنسيق والتدريب الكثير من الوقت، وحان موعد القطاف. نزلنا إلى القناة وخرجنا منها من ناحية المدرسة. اتجهنا نحو الساتر الترابي على حافة النهر أي نقطة توقفنا الأخيرة، قطعنا حقل القصب المشظى والمحترق بفعل القذائف، حيث تنتشر أيضًا قطع من الأسلاك الشائكة التي تسبب جرح أقدام الإخوة. سرنا في منخفضٍ على شكل مجرًى مائيّ يقع بين خطنا وضفة نهر "أروند"، وتابعنا سيرنا إلى أن وصلنا إلى الفجوة التي أحدثها عناصر وحدة الخدمات في الساتر الترابي، ويمكننا من خلالها الوصول إلى الماء. جعلت الإخوة يتمدّدون في ذلك المنخفض المائي لحمايتهم والتقليل من الخسائر في حال اندلاع المعارك والقصف، سألني أحد عناصر الارتباط والتنسيق مع المقر التكتيكي عن سبب توقفنا، فأجبته إنني أنتظر الأوامر بالانطلاق.

حاولت المحافظة على هدوء الإخوة، رغم اشتعالي قلقًا واضطرابًا. هناك! التفتّ إلى فقدان الزعانف، سألت الإخوة المحيطين بي، لكنّ أحدًا لم يرها، فقلت لمهدي حيدري، وهو من عناصر الاستطلاع: "أعطني زعانفك، وابحث لك عن أخرى". انزعج كثيرًا، لكنّه لم يعترض وأعطاني إياها. في تلك الأثناء تناهى إلى سمعي صوت أعرفه تمامًا:
- مهدي قلي!... مهدي قلي!
 
 
 
 
 
91

85

عمليات الشهادة

 إنّه "علي حاجي بابائي" الذي كان يبحث عني حاملًا الزعانف معه. كانت فرحة "مهدي حيدري" أشدّ من فرحتي، قال "علي": "كنت في طريقي إليكم عندما وجدت هذه الزعانف، وهي تشبه زعانفك". أخذت الزعانف منه وانتعلتها. اطمأنّ بالي وألقيت النظرة الأخيرة على الإخوة الذين كانوا يحدقون بي في الوقت عينه. نزلت إلى الماء بهدوء ولم أُحدث أي ضجة، بقيت مكاني أراقب نزول جميع الإخوة إلى النهر، ثم قلت بصوت منخفض لـ"أحمد بيرامي" الذي كان بالقرب مني: "بما أن الإخوة ينزلون إلى الماء، تقدّمْ أمامهم ليتبعوك وانتظروا داخل حقل القصب". فقد شكّل القصب على ضفة "أروند" حاجبًا مناسبًا لنظر العدو حتى لو أُطلقت القنابل المضيئة.


كانت جميع قوات السرية تنزل بحذر وهدوء إلى الماء، الواحدة تلو الأخرى. كان السيد "فاطمي" و"أحمد داروبيان" يساعدان الشباب في النزول. في الوقت نفسه، كانت سرية أخرى من سرايا الغوص في كتيبة "حبيب" تنزل إلى الماء، إذ كان علينا الانطلاق معًا، وصلت السرية الأخرى إلى حقل القصب أيضًا بانتظار الأوامر. تقدمت أنا و"أحمد سوداکر" الرتل، وكنت أرسله باستمرار إلى السيد "فاطمي" لمعرفة ما إذا صدر الأمر بالحركة، فيعود بالنفي في كل مرة.

بقينا هناك حتى عمّ الظلام وسرى البرد إلى أجسامنا. لكن، لم يبق إلا القليل على بدء العمليات التي عُرفت بين عناصر الاستطلاع بـ"عمليات الشهادة"، وكان البرد أصغر وأقلّ من أن يؤثر سلبًا على روحيات الشباب العالية.
 
 
 
 
92

86

عمليات الشهادة

 تحدثت إلى الأخ "سوداكر" ونسّقت معه الخطوات للمرة الأخيرة، وكان الأخ "فرج قلي زاده" مسؤول أحد فصائل الغوص، بالقرب منّا يسمع كلّ ما نقوله. كانت القنابل المضيئة تنير سطح الماء بين الحين والآخر وتقلقني: "لربما فضحت هذه القنابل أمرنا وأمر هذا المحور". نادرًا ما أصابني هذا النوع من القلق قبل العمليات، لكنّ الظروف مختلفة هذه المرة، سواء لناحية صعوبة العمليات، أو لناحية جهوزية الأعداء، مع احتمال كبير في إفشاء أمر العمليات. لكنّ نظرةً واحدةً إلى وجوه الغواصين النورانية، كانت كفيلة بالقضاء على جميع هواجسي. على مسافة غير بعيدة عنا، نزل غواصو لواء "الإمام الرضا عليه السلام" إلى الماء. ذُهلت لسماع ضجيجهم وأصواتهم! كان أحدهم يقول: "إن رحلت يا رضا فسامحني!" كنت واثقًا أن العراقيين قد سمعوا الصوت بالوضوح نفسه الذي سمعته أنا، التفت بسرعة نحو "سوداكر" وقلت له:

- اذهب إليهم سيد "محمد" واطلب منهم عدم إحداث ضجيج.

ذهب "محمد" إليهم. لم أسمع صوته، لكنني سمعت من ردّ عليه بوضوح!

قلت في نفسي: "عجيب أمر هؤلاء، لم لا يعون الخطر؟!". لم أدر ماذا أفعل، عاد "سوداكر" وقال: "إنهم لم يأخذوا تحذيري على محمل الجد". فقلت له: "حسنًا سيرون!"، توقعت حدوث أمر ما في أيّ لحظة. فأصوات بضعة أشخاص كفيل بإفشاء أمر المحور بأكمله، ناهيك عن أنّ العدو يشكّ بتحركاتنا في المنطقة! كنت أحدق في المياه بانتظار الأمر بالحركة، فجأة أجفلني ما رأيته!
 
 
 
 
93

87

عمليات الشهادة

 - ما هذا؟!


- يا للهول! طلبوا منّا أن نضع رؤوسنا تحت سطح الماء! بينما هؤلاء ينقلون المعدات على جسر المشاة!

كان رتل من غواصي إحدى الفرق، ينقلون المعدات على جسر عائم للمشاة، ويقوم عدد منهم بدفعه في الماء. كنت واثقًا أن العراقيين قد رأوا ذلك، ولم يطل الأمر حتى أغارت طائرة عراقية مطلقة قنبلة مضيئة أنارت سماء المنطقة بأكملها، ترافق ذلك مع إطلاق كثيف للنيران. شكرت الله أنّ الإخوة داخل حقل القصب، لكن ذلك لم يخفف من حزني وانفعالي، فقد رأيت تحت الأضواء تلاشي أجساد الغواصين من الفرقة الأخرى، وسط مياه النهر، رأيت كيف جرحوا وتلونت المياه بلون دمائهم. کان مشهدًا محزنًا رهيبًا. قلت: "اذهب يا أحمد لنرى ما علينا فعله!". ذهب أحمد وعاد مسرعًا:
- يقول السيد: اسحب الإخوة من الماء.

كان إطلاق النار غزيرًا، شاهدت غواصي كتيبة "وليّ العصر" يتجهون نحو مضيق "بوارين"، بينما يتحرّك عناصر كتيبتنا نحو الساتر على ساحلنا، كان "رضا داروبيان"، وعدد آخر من الإخوة يساعدون البقية على الخروج من الماء. ما إن رآني السيد "فاطمي" حتى قال لي: "يقول السيد "أمين" انقطع الاتصال مع كتيبة "وليّ العصر"، إذا استطعت اذهب للبحث عنهم والعودة بهم". تعجبت وقلت في نفسي: "كيف لي أن أفعل ذلك وسط هذا القصف؟". لم أتفوّه بأيّ كلمة، ونزلت إلى الماء مجددًا بحثًا عنهم. انطلقت نحو جزيرة "أم الرصاص" التي كانت
 
 
 
 
94

88

عمليات الشهادة

 تتعرّض لإطلاق نارٍ وقصف كثيف، كان الجميع يتجه نحو الساحل. بينما أسبح أنا في الاتجاه المعاكس، وأسأل كل عنصر ألتقيه عن اسم وحدته. أصبحت في مرمى النيران التي كنت أشاهدها من بعيد، كانت المياه تتناثر مع كل قذيفة تسقط في النهر فيعلو الموج والزبد. كنت أتقدّم للأمام غافلًا عن مدى ابتعادي عن قواتنا وأرى العراقيين بوضوح وهم يطلقون النار من خلف ساترهم الترابي. اقتربت من جزيرة "أم الرصاص"، حيث خطوطهم الدفاعية، وحتى الآن لم ألتق أيًا من الإخوة في كتيبة "ولي العصر". في تلك الأثناء، نهض عراقي من خلف الساتر، صوّب سلاحه نحوي وأطلق النار، فأحسست بألم شديد في العنق والكتف. وقد ضاعف البرد من إحساسي بالألم، شعرت لوهلة أنني أغرق، لكنني استجمعت قواي للعودة إلى ساحلنا. رأيت وسط المياه مجموعة مع عدد من أجهزة اللاسلكي، فتوقعت أن يكونوا قادة كتيبة "ولي العصر". سبحت باتجاههم، وكأن الأمواج كشفت أمر إصابتي وصعّبت عليّ الأمر! تجاهلت إصابتي وأخذت أُجذف بالزعانف بكلّ قوتي حتى وصلت إليهم. لم أستطع التعرّف إليهم فسألتهم: "هل أنتم من كتيبة 'ولي العصر'؟".


- ها نحن يا "مهدي قلي".

كان صوت "أصانلو" قائد كتيبة "ولي العصر"، لقد تغيّر شكله، كان يبدو وكأنه قد حلق شعر رأسه بالكامل. لم يكن من وقت للحديث وإطالة الكلام، فقلت له: "يقول السيد "أمين" إنّ الاتصال قد انقطع بكم، وكُلّفت أن أجدك وأطلب منك العودة بالعناصر إلى القناة على ساحلنا.
 
 
 
 
95

89

عمليات الشهادة

 - خرجت إحدى سرايا كتيبتي من المياه، لكنّ السريّتين المتبقيّتين قد تشتّتتا وانقطع الاتصال بهما، إحداهما مشتبكة مع العدو في جزيرة "بوارين"، والأخرى في جزيرة "أم الرصاص".


غمرني شعور باليأس والانكسار، وبدأ النزيف يؤثر على قواي. استسلمت لتيار المياه وقد خنقتني العبرة:
- إنه انسحاب مشين لنا يا سيد "أصانلو"!

- لا تفكر بعواطفك...

كان يتحدث بينما كنت أفقد قواي شيئًا فشيئًا، لم أخبرهم بأمر إصابتي، إذ كانوا لا يعرفون الطريق، ويحاولون جاهدين الاتصال بالسريتين، لكن من دون جدوى:
- نحن لا نعرف الطريق يا سيد "مهدي قلي".

- تعالوا سأرشدكم إليه.

رسمت في ذهني خطًا وهميًا بين الساتر الترابي والمدرسة، وأرشدت الجميع باتجاه الساحل. خرجنا من الماء بسرعة وخلعنا الزعانف. كان علينا قطع مسافة 300 متر تقريبًا من عرض الساحل عبر شظايا القذائف والقصب المحترق، وتحت القصف الشديد وإطلاق النار الغزير، الأمر الذي أجبرنا على قطع تلك المسافة إما زحفًا أو ركضًا، وفي كلا الحالتين كانت شظايا القصب المحطّم تجرح أقدامنا. كان باطن قدمي يؤلمني كثيرًا ويشتد النزف، كنت أعلم أن الإخوة ليسوا أفضل حالًا منّي، فجميعهم من الغواصين الذين لا يمتلكون الأحذية لتحمي أرجلهم من تلك الشظايا. وصلت مع السيد "أصانلو" والبقية إلى القناة، لكنّ
 
 
 
 
 
96

90

عمليات الشهادة

 القلق ما زال يساورني على مصير الإخوة. ركضت نحو الساتر ورأيت "فرج قلي زاده" أولًا فسألته: "هل خرج جميع الإخوة من الماء؟".


- لقد خرجوا جميعهم، وقد جرح اثنان سننقلهما إلى الخطوط الخلفية.

عدت إلى القناة وشكرت الله لأنّ الإخوة تمكّنوا من النجاة بأنفسهم. التقيت داخل القناة "رضا داروبيان"، وكان منشغلًا بالدعاء بصوت خافت، جلست إلى جانبه:
- ماذا حدث يا رضا؟

- أصابت شظية قدمي.

لقد أصابت شظية مفصل ساقه، كنت أحدق في الجرح الذي أحدثته الشظية، فسألني: "ماذا عنك؟ هل أنت بخير؟".

- لقد أصابتني رصاصة.

- أين؟

فتحت سحاب بدلة الغوص، فنظر إلى الإصابة في كتفي وقال: "جرحك عميق، هيا انهض وانسحب للخلف".

- دعنا نرى ماذا سيحدث أولًا!

جلسنا إلى جانب بعضنا داخل القناة، وقد فقدنا قوانا بسبب النزف ولم نعد نستطيع مقاومة البرد. كنت أشعر بألم شديد في كتفي، وقدمي اللتين جرحتا أثناء السير على شظايا القصب المحترق، بالرغم من كل تلك المعاناة، لم تفارق روح الطرفة والدعابة "رضا داروبيان" الذي أخرج قدّاحة من جيبه، فأشعلها وقال: "هيا لنتدفأ عليها!".
 
 
 
 
 
97

91

عمليات الشهادة

 لم أكن قادرًا على مجاراته المزاح، لشدة الألم، جلسنا في تلك القناة، نتسامر مدّة من الوقت إلى أن انتبه "أمير خردمند" لحالنا. ذهب إلى المتراس الكائن على بعد خطوات منا، حيث السيد "فاطمي"، وعدد آخر من الإخوة هناك، أخرج منه عنصرين من العناصر السالمة وأدخلَنا إليه للاستراحة. قضيت ليلتي حتى الصباح في حالة هي بين النوم واليقظة. كنت أعتصر ألمًا وبردًا، إضافةً إلى صوت أنين "رحيم صارمي" الجالس بالقرب مني، والذي بقيَ يئنّ حتى الصبح من آلام جرح قدمه. لقد جرح القصب المشظّى والأسلاك الشائكة أقدام معظم الإخوة، وكانت الجروح عميقة بحاجة لعدّة "قطب" لمعالجتها، كما كان معنا في المتراس "حميد غمسوار"، وقد انتبهت لوجوده من صوت أنينه.


*

عند الفجر، لم أعد قادرًا على تحريك يدي، تيمّمت بمشقّة كبيرة وصلّيت صلاة الصبح من جلوس مع سائر الإخوة. عندما خرجت من المتراس علمت أن سرية من سرايا كتيبة "ولي العصر" قد وصلت إلى جزيرة "أم الرصاص" وكبّدت الأعداء خسائر كبيرة، بينما وصلت السرية الأخرى، التي فقد السيد "أصانلو" الاتصال معها الليلة الماضية، إلى جزيرة "بوارين"!1. وددتُ الذهاب إلى "أم الرصاص"، وكان عدد آخر من الإخوة على استعداد للذهاب إلى هناك. عندما علم "السيد
 

1- استشهد أغلب عناصر السرية وهم في عداد الشهداء المفقودي الأثر.
 
 
 
 
 
98

92

عمليات الشهادة

 فاطمي" بما أنوي القيام به، وبّخني وأمرني بالذهاب إلى المستوصف للمعالجة. كنت قد فقدت الحركة في يدي بشكل كامل. دخلت القناة الكبيرة الممتدّة إلى خلف الخط الأول والطريق العسكرية، سرت وأنا أشدّ على يدي المصابة. كان عدد آخر من الإخوة يسير نحو الخطوط الخلفية، فجأة أتت طائرة عراقية، ولاحظت أنّها تقصف المنطقة بالقنابل الكيمياوية عن بعد، ووصل القصف إلى محيط القناة أيضًا خاصة من جهة اتصالها بالطريق. الحمد لله نجا معظم الإخوة الموجودين في القناة من القصف، وأغلبهم من عناصر كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام". عندما وصلنا إلى الطريق، بحث الإخوة عن سيارة إسعاف فوضعوني داخلها إلى جانب عدد آخر من الجرحى، وتمّ نقلنا إلى قسم الطوارئ الواقع خلف خطّنا الأمامي.


ما إن رآني الأخ "علي فولادي"، وهو مسعف من أبناء حيّنا في مدينة تبريز، حتى بدأ بتضميد جروحي بسرعة، ورتب انتقالي إلى مدينة الأهواز. ومن هناك تمّ نقلي إلى مدينة أراك التي وصلنا إليها صباح اليوم التالي. التقيت في المستشفى بـ "حميد غمسوار"، وقد تمكّن المسعفون هناك من نزع بدلة الغوص بمشقة، فمن لا يعرف هذه البدلة صعبٌ عليه أن يلبسها أو ينزعها بسهولة. سحبت يدي منها بصعوبة، وقلبي يتألّم على البدلة التي قُطّعت أمام ناظريّ إربًا إربًا.

عندما رأى الطبيب جرحي أمر بنقلي إلى مدينة تبريز.
 
 
 
 
 
99

93

عمليات كربلاء الخامسة

 عمليات كربلاء الخامسة


شتاء 1986م
لا استراحة بعد الإصابة، وقَطع الإجازة صار عادة!

بعد تعاظم الشوق لساعة الصفر، قامت وحدة الاستطلاع بإرشاد المقاتلين في الدهاليز لبلوغ المراد.

كان ثمة شك في تسرّب المعلومات، وبات يقينًا مريرًا أكثر من عذابات الطقس وموانع الطبيعة. وتتالت صورُ عنادِنا، كلّ مدّة محددة لها هدف محدد.

وصلت كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" للدعم.

وأنا وصلت للخط الفاصل بين الحياة والموت، في قلب المتراس، فأظلمت الدنيا، وأطبق السكون...
 
 
 
 
101

94

عمليات كربلاء الخامسة

 1


خلال الأيام الخمسة التي أمضيتها في تبريز، وصلتني أخبار غير مطمئنة عن مكروه أصاب أحد أفراد عائلتي. لو أنّني سمعت هذا الخبر السيّئ في ظروف أخرى، لأحجمت عن مواصلة الطريق. في ذلك الوقت، لم تهدأ آلام جروحي بسبب استقرار الرصاصة في عظم كتفي وحسب، بل تضاعف الألم أكثر. ومع أنّ الجرح كان يبدو صغيرًا، إلّا أنّه كان عميقًا ومؤلمًا. ذهبت مرة أو مرتين لتغيير الضمادة، ولكن بعد أن سمعت بذلك المكروه الذي حصل لم تعد لي رغبة في ذلك.

أردت العودة إلى الجبهة، فقوة جاذبية ميدانها أَسَرَت لُبّي وشدّت فؤادي إليه. كنت متيقّنًا من صوابيّة الطريق الذي انتهجته، ففي تلك الظروف لا شيء يمكن أن يقف عائقًا أمامي، فالشهداء ومواصلة دربهم وأهدافهم هم خير معين لي على ذلك.

كالعادة كنت في المنزل ليلًا عندما جاء أحد رفاق المسجد.

- اتصل "مقصود نعلبندي" من الفرقة ويريدك في أمر.

لم يكن المسجد بعيدًا، المسجد الذي بدأنا فيه الصحوة مع دروس القرآن. اليوم وبعد مضيّ تسع سنوات على تلك الأيام، كان مسجد "شربت زاده" كغيره من المساجد العديدة في المدينة، قد أعدّ مئات الشبّان للذهاب إلى الجبهة، وقد ازدانت جدرانه بِصُوَر عشرات الشهداء الشباب.

في تلك الليلة، سأل مقصود عن حالتي، أخبره الإخوة أنّني بحالة جيدة، لكنّه أراد التحدّث إليّ. بعد السلام والاطمئنان عن الأحوال، سألته ذاك السؤال الذي بقي من دون إجابة.
 
 
 
 
 
 
102

95

عمليات كربلاء الخامسة

 - ماذا حدث؟ لمَ لم يأتِ أحد في إجازة؟


- حسنًا! الإخوة مشغولون... ألن تأتي أنت؟!

وبعبارته هذه، ملأ عبير العمليّات مشامّي.

*

عند الصباح، ودّعت العائلة وتوجّهت مباشرة إلى محطة القطار. منذ مدّة لم أذهب إلى الجبهة على هذا النحو، ذهبت أوّلًا إلى طهران بالقطار وبعدها إلى الأهواز، خلال الطريق كنت مستغرقًا في التفكير.

في الأهواز، ذهبت إلى مقرّ وحدة الاستطلاع الكائن في قاعدة الأهواز الجوية، ومن هناك ركبت سيارة ووصلت إلى مركز الوحدة في منطقة "قجرية".

كانت أخبار الإخوة متناقضة، فتارة يخبروننا عن إمكان شنّ العمليّات، وتارة أخرى يخبروننا خلاف ذلك. ورغم هذا كلّه، كان لديّ حدسٌ أنّ شيئًا ما سيحصل بالتأكيد.

كانوا قد نقلوا مجموعة من الشباب الذين شاركوا في عمليّات (كربلاء 4) إلى الأهواز.

وظنّ من بقي في مقرّ الوحدة في "قجرية"، أنّه تمّ نقل هؤلاء إلى محور آخر لإنجاز مهمة ما. ولكن قيل إنّ الأخ "كريم حرمتي" قد أعطاهم مأذونيات، وإنّهم غادروا إلى الأهواز للذهاب من هناك إلى مدنهم. أمّا أنا فقد ظننت مثل بعض الأصدقاء أنّهم اعتمدوا هذا الإجراء وأخرجوهم بهدف استطلاع منطقة العمليّات القادمة.

حين وصلت إلى قجرية في اليوم الأول وسمعت هذه الأخبار،
 
 
 
 
 
103

96

عمليات كربلاء الخامسة

 توجّهت إلى كتيبة "حبيب"، وهناك في دشمة القيادة التقيت الأخ السيد فاطمي وسألته عن الأوضاع. شعرت بالاطمئنان عندما عرفت أنّ كتيبة "حبيب" تتهيّأ للعمليّات. كان الإخوة في كتيبة "حبيب" يتدرّبون على الغوص بمقتضى حاجة المنطقة. ومع أنّه لا يوجد مدرب يواكبهم في التدريبات إلّا أنّهم كانوا يمارسون تمارين الغوص بانتظام. صدفةً، التقيت هناك بالحاج "صادق كمالي" الذي تعرّف إليّ لأوّل مرة، بَيْدَ أنّي كنت أعرف هذا المدّاح والمقاتل التبريزي من قبل. كنت قد تعرّفت إلى معظم الإخوة في كتيبة "حبيب" خلال تمرينات الغوص الخاصّة بعمليّات (كربلاء 4).


بعد أن شاهدت التدريبات والاستعدادات التي يقوم بها الإخوة للمشاركة في العمليّات، ومع معرفتي بأوضاع الوحدة لم أعد أتحمّل، فتوجّهت مباشرة إلى خيمة قيادة الكتيبة حيث السيد "فاطمي" ومساعدوه: "حسن كربلائي"، "رحيم صارمي"، مضافًا إلى الأخ الحاج "صادق كمالي" موجودون هناك.

- جناب السيد، أريد المشاركة في هذه العمليات مع كتيبتكم، لو تسمحون لي.

- أنت في وحدة الاستطلاع، ومشاركتك صعبة بعض الشيء.

- حاليًّا لستُ في الوحدة، أنا في فترة نقاهة علاجيّة، والآن أنا حر طليق1.
 

1- لا أنتسب إلى وحدة عسكرية.
 
 
 
104

97

عمليات كربلاء الخامسة

 أخيرًا، وبعد إصراري الشديد، وافق السيد كمالي على انضمامي إلى الكتيبة.


لم يكن لديّ أغراض شخصية سوى ملابسي، وضعتها في الخيمة واستلمت السلاح.

*

مضى يومان على وجودي في كتيبة "حبيب"، في خيمة القيادة برفقة "حسن كربلائي"، "رحيم صارمي"، "سيد يونسي" و"السيد فاطمي" نفسه. بدأت أنسى الشعور بالغربة والضيق. كالعادة، لأنني كنت بصحبة أفراد حالهم على الجبهة كحال من أدرك ضالّته، ووجدوا في تلاقيهم سكينة وطمأنينة لأرواحهم، نسيت معهم إلى حد ما الحوادث التي أصابت عائلتي في المدينة.

لم يطرأ على كتيبة "حبيب" أي تغييرات من حيث التشكيل (الهيكلية)، سوى أن مكان الجرحى الذين كانوا ملازمين للفراش لا يزال خاليًا. وقد بدت آثار الإرهاق والتعب على الشبان بسبب مشاركتهم بالتدرّب وعمليات (كربلاء 4)، لذا بدا الاستعداد لعملية أخرى في ظروف كتلك صعبًا بعض الشيء. ارتفعت أيضًا بعض الأصوات مطالبةً بالمأذونيّة. جرت العادة أن يأخذ التعبويون إجازة بعد كل عملية، لكن كانت تلك المرّة الأولى التي لم نسمع فيها أي خبر عن المأذونيات.

جرت مناقشات حول تسوية وضع الأفراد المتعبين الذين لا يستطيعون المشاركة في العمليات اللاحقة، وغير المرتاحين للوضع الراهن. ولحسن الحظ، لم نشهد سوى حالتين أو ثلاث في الكتيبة كانوا من هذا القبيل.
 
 
 
 
105

98

عمليات كربلاء الخامسة

 وشاء الله أن تكون العمليّة التالية أكثر نفوذًا وقوّة، وبدا ذلك من خلال أحوال الشباب وتحضيراتهم ما قبل الهجوم، فعبارة "الهزيمة مقدّمة للانتصار" كانت تتردّد على ألسنتهم جميعًا.


كانوا يتحدثون عن عزم واجتهاد من نوع آخر. وقد واظبوا على تمارين الغوص في نهر "كارون" بمحض إرادتهم من دون إكراه أو إجبار.

في عصر اليوم الثاني الذي أمضيته في كتيبة "حبيب"، جاءني "مهدي حيدري" من الوحدة وقال لي: "سيد مهدي، الأخ كريم حرمتي يطلبك".

- وهل أتى السيد كريم؟!

- نعم، إنّه يطلبك لأمر عاجل.

ذهبت مع مهدي. وكانت الجلسة قد عُقِدت في مقرّ الاستطلاع في أحد منازل القرية المهجورة والمدمّرة.

حضر الاجتماع الأخ "كريم حرمتي" الذي أصبح بعد عمليات (كربلاء 4) مسؤول وحدة الاستطلاع.

- أيّها الإخوة، سيُعطى الجميع مأذونيّة.

ما إن نطق مسؤول الوحدة بهذه العبارة حتى قاطعه الإخوة قائلين:
- وهل أُلغيت العمليّات؟!

- كلا! ثمّة بعض العقبات أهمّها أنّ البدر في السماء، حاليًّا لا خبر يلوح في الأفق.

لقد أثار كلامه الشك في قلبي ثانية. قلت في نفسي: سواء شُنّت عمليّات أم لا، إنّ مكاني في كتيبة "حبيب" مهمّ جدًّا، وأنا هنا على كلّ حال.
 
 
 
 
 
106

99

عمليات كربلاء الخامسة

 خُتِم الاجتماع بالصلاة على محمد وآل محمد، وبعد أن تفرّق الجميع سألني "كريم حرمتي" عن أوضاعي وأحوالي قائلًا: "أين أنت في هذه الأيام؟".


- أنا في كتيبة "حبيب" حاليًّا!

- لا حاجة لبقائك في كتيبة "حبيب"، اذهب واجمع أغراضك وتعالَ إلى الوحدة، فلدينا عمل.

أدخلت عبارته الأخيرة شعلة الأمل في قلبي. جمعت أغراضي بسرعة من دشمة قيادة كتيبة "حبيب"، وودعتهم من دون أن أوضح شيئًا.

كان ذلك صعبًا عليّ، شعرتُ حينها بالأسف لتركي ذاك الجمع الطيب والطاهر من الإخوة الغواصين في الكتيبة. في تلك الأيام، كان "الحاج رضا داروبيان" يعاني من إصابة في ركبته. رغم ذلك لم يستجب لطلب القيادة بأخذ إجازة مرضية، بل أصرَّ على الحضور في الكتيبة، وشيئًا فشيئًا أخذ بتكسير الجبيرة والتهيّؤ للعودة إلى العمل.

كان "منصور فرقاني" و"أصغر عباس قلي زاده" من مسؤولي المحور في الوحدة الذين بقوا في "قجرية".

أعطيت بطاقات المأذونيات إلى باقي أفراد الوحدة وذهبت مع البعض إلى الأهواز. أبلغنا الأخ "حرمتي" أن نحمل تجهيزاتنا الخاصة ونتوجّه إلى المكان الذي يعرفه "السيد أصغر عباس قلي زاده" الذي قام بناءً على طلب الأخ "حرمتي" بإرشادنا إلى المنطقة الجديدة.

*

كانت "شلمتشه" منطقة العمليّات الجديدة. في اليوم الأول تعرّفت
 
 
 
 
107

100

عمليات كربلاء الخامسة

 إلى الخط الأمامي وموقع العراق والمنطقة الخماسيّة الأضلاع (المخمّس) التي كانت ضمن نطاق عمل فرقة عاشوراء. لم أشهد على امتداد خط دفاعنا الثاني من السدّ وحتى طريق شلمتشه – خرمشهر، أيّ مكان خالٍ من المدافع والأسلحة الثقيلة. فكانت المدافع، بطاريات الصواريخ، صواريخ الكاتيوشا ومضادّات الطائرات قد غطّت المنطقة بشكل كبير، ما أوهم العدو أنّ هذا الكمّ من التجهيزات في المنطقة هو من مخلّفات عمليات (كربلاء 4)، إلا أنّ حقيقة الأمر أنّها أُحضرت ليلًا بعد انتهاء العمليات، وكانت هذه خدعة جيّدة لتضليل العدو.


لم يكن المتراس الذي كنّا فيه يبعد كثيرًا عن السد والخط الأمامي. فإذا ما خرجنا منه واتجهنا يمينًا، تتشعّب طريق تصل إلى السد الأول. وكانت المسافة الفاصلة بين السدّين تتراوح بين 3 و10 كلم تقريبًا، بينما بلغت مساحة الجزء الخاص بنا 3 كلم تقريبًا. وكلّ المنخفضات والحفر الموجودة في أنحاء المنطقة التي تموضعنا فيها ملئت بالمياه، وكذلك الأمر مقابل الخطّ الأمامي.

كان الحصن العراقي يبعد عن خطّنا الأوّل مسافة 1.5 كلم تقريبًا حيث مقرّ خفر حدود "كوت سواري وبوبيان". وقد استحدث العراقيّون في المسافة الفاصلة بيننا وبينهم حوضَ ماء كبيرًا. كان قسم من امتداد السدّ الأول، أو بالأحرى خط دفاعنا الأول إلى جهة الجنوب متلاشيًا، وقد تسرّبت المياه المتجمّعة خلفه إلى حيث تموضعنا. تبلغ الفجوة حوالي 10 أمتار تقريبًا، ليعود ويمتد السدّ ثانيةً، وقد جعل العراقيون عليه، وعلى مسافة غير بعيدة عنّا، أحد كمائنهم.
 
 
 
 
 
108

101

عمليات كربلاء الخامسة

 هذا يعني أنّ امتداد السد وخطّ دفاعنا ينتهيان حيث تبدأ خطوط العراقيّين، ويشكّل حيّزًا خماسي الأضلاع. كان هذا المخمّس النقطة الوحيدة التي تصل إلى اليابسة، وهو أيضًا نقطة اتّصالنا بأرض العراق، ومنها كان يمكننا التسلّل إلى عمق العراق حيث "البصرة" والمناطق المحيطة بها مثل "بوارين"، ساحل أروند، القناة المزدوجة بلدة "دوعيجي" و"تنومه". وبناءً على ذلك، يعتبر هذا المخمّس مفتاح النصر الأساس في العمليّات.


حُدّد مجال عمل فرقة "عاشوراء" ضمن محورين، محور باتجاه خفر "كوت سواري"، وآخر باتجاه السد الشرقي الخماسي الأضلاع المقابل لتحصينات حدودنا. يبلغ طول هذه المنطقة أكثر من 3 كلم، وهي الطريق الوحيدة للعبور إلى المخمّس. وبعبارة أخرى، كانت هذه المهمّة هي الأصعب والأخطر في عمليّات (كربلاء5) التي أُسنِدت إلى فرقة (عاشوراء 31).

وفي النقطة حيث ينتهي الطريق عند السد الأول، عملوا على هدم السد وبناء ما يسمّى رصيفًا رست فيه العديد من القوارب. وعند الجبهة الأماميّة للسدّ على مسافة 10 إلى 20 مترًا كان يوجد ما يشبه الطريق، تبدأ مرتفعة عن سطح الماء في ذلك المكان، وتنخفض شيئًا فشيئًا كلّما تقدّمت أكثر إلى الأمام حتى تصبح بمستوى الماء، حيث كانت تستتر قوارب كثيرة.

بعد أن تعرّفنا إلى المنطقة، عدنا أدراجنا إلى المقر. التقيت في الخط الأول بقوات الاستطلاع، التي أوكلت إليها مهمّة إرشاد كتيبتي غوص "حبيب" و"وليّ العصر".
 
 
 
 
109

102

عمليات كربلاء الخامسة

 بدا أفراد هذه القوات متعبين، وعلمت من أحدهم أن الإخوة في "شلمتشه" كانوا يعملون في منطقتين.


استطلعوا في البداية إحدى المناطق، إلا أنّ مهمتهم قد تبدّلت بعد مدة وجيزة، وبدأوا يستطلعون منطقة جديدة غير بعيدة عن المنطقة السابقة.

لقد أنهكهم ضيق الوقت وكثرة الأعمال والجو العام، فطبيعة المنطقة كانت صعبة جدًا من الناحية الجغرافية ما جعلهم يعتقدون أنّ العمليات فيها ستكون صعبة للغاية، إن لم تكن مستحيلة.

كما سمعت أنّ "يوسف حقائي" قال لـ"كريم حرمتي": "سيد "حرمتي"، لا يمكننا التقدّم هنا، إن قواتنا لا يمكنها عبور هذه المنطقة". إلا أن جواب السيد "حرمتي" جاء مطابقًا لسجاياه المعهودة: "بسم الله، إذا كنتَ لا تستطيع التقدم فأنا أستطيع". كنت أعشق هذه الروحية لديه وثقته بالله وتوكّله عليه. ارتدى بدلة الغوص، وانضمّ إلى الإخوة فاتحًا بذلك أول محور1.

واجهت الإخوة خلال عملية الاستطلاع مشاكل عديدة، المشكلة الأولى أنّ تلك المنطقة كانت جزءًا من عمليات (كربلاء 4)، وبالتالي
 

1- بالرغم من جراحاته المختلفة التي أصيب بها بعد عمليات بدر فقد ذهب مع بعض الإخوة لاستطلاع المنطقة، وفتح الطريق لبقية المجموعة. حتى إنّه تمّ في عمليات(كربلاء4) اقتراح تشكيل فرقة استطلاع يشارك فيها شخصان من كل مركز، وكان الأخ حرمتي من فرقتنا، وكانت هذه المرة الأولى التي يتم فيها استطلاع هذه المنطقة. وقد اقترب حرمتي والأخ الثاني في عملية الاستطلاع هذه من منطقة البترول الكيماوي العراقي كثيرًا. وقدّما استطلاعًا شاملًا تمهيدًا لإجراء استطلاع تفصيلي.
 
 
 
 
110

103

عمليات كربلاء الخامسة

 كان العدو فيها أكثر تأهّبًا واستعدادًا. أما المشكلة الثانية فكانت تتعلق بطبيعة المنطقة المغمورة بالمياه.


كان الإخوة يقولون: "المياه قرب ساحلنا وسدّنا وذات عمق لا بأس به وكلّما اقتربنا من ساحل العدو قلّ العمق. ونتيجةً لهذا، كانت تتشكّل الوحول، فتُصدر حركتنا عليه أصواتًا، كان باستطاعتنا التخفي عند الحاجة في العمق الجيّد، ولكن لا يمكننا الاستتار عن أعين العدو بالقرب من ساحلهم، خاصة مع عدم وجود حقول قصب أو أي غطاء نباتي. في العادة، كانت البرك والأحواض المائية الصناعية خالية من الغطاء النباتي، حيث لا يُرى سوى الأعشاب المتفرقة هنا وهناك قرب الساحل. بالإضافة إلى كل هذه الموانع الطبيعية، كان العدو قد هيّأ الكثير من العوائق كالأسلاك الشائكة الحلزونية الشكل والأفقية، والقضبان الحديدية الشمسية. كنا نطلق على هذه العوائق لعوائق السجادية1 الواسعة" بسبب امتدادها على طول مساحة شاسعة، يتفاوت اتساعها تبعًا لهاجس العدو وتحسّسه، وتراوحت ما بين 500 و 10000 متر تقريبًا. وعلى امتداد هذه المساحة الشاسعة كانت تنتشر حقول الألغام التي رغم بقائها مدة طويلة تحت الماء، والتي من الطبيعي أن تكون قد فسدت مع مرور الزمن، إلا أنّها كانت لا تزال سالمة، وقد انفجر عدد منها في بعض الأماكن. ومشكلة أخرى واجهتنا هي وجود البدر في السماء، حيث كان ينير المكان طوال الليل.
 

1- نسبة للسجادة.
 
 
 
111

104

عمليات كربلاء الخامسة

 أعطتنا هذه العوائق مجتمعة صورة قاتمة حول إمكان القيام بأيّ هجوم، ناهيك عن أنّ الفترة الزمنية بين الهجوم الأول (كربلاء4) والهجوم الثاني (كربلاء5) كانت قصيرة، ما يؤثّر على إسناد العمليّات، وحتى على استعداد القوات وجهوزيتها. رغم هذا كلّه، قام الإخوة باستطلاع محور عمليّات الفرقة، وقد زاد نقل التجهيزات والعتاد اللازم إلى المنطقة بشكل هادئ، من شعورنا باقتراب موعد العمليات.


خلال الليل، حُفرت عند تقاطع الطريق المثلّث المتقدّم الذي يلي مقرّنا، قناة بالقرب من الطريق، ليبقى الإخوة فيها بمأمن من القنص والقصف1 مدة يوم أو يومين. أما نهارًا فلم تصدر منّا أيّ حركة تُشعر العدو بأيّ شيء، وخاصة أنّهم كانوا يمتلكون أجهزة إلكترونية قادرة على التقاط أيّ حركة تصدر من جانبنا. لذلك، كان الليل ملاذنا الوحيد لتنفيذ كلّ مهامّنا. وإذا ما حافظنا على هدوء هذه المنطقة إلى ليلة ما قبل الهجوم، فإنّنا سنحرز نتائج أفضل.

سمعت أنّ طريق خرمشهر- الأهواز كانت تعجّ بالآليات ليلة عمليات (كربلاء 4) وكانت كلّ التجهيزات تصل عبر هذا الطريق فقط. كانت هذه نقطة ضعف بارزة في عملنا، إذ يمكن لطائرة واحدة من طائرات العدو أن تبيد كل شيء، وتعصف بقواتنا على طول هذه الجادّة. وقد أشارت جميع القرائن إلى استمرار الأمر على ذلك المنوال في هذه العمليات أيضًا.
 

1- كنا نحفر هذه الأقنية ليلًا قبل العمليات في الخط الخلفي، وكان عرضها يتراوح بين المتر والمتر ونصف تقريبًا. كانت تحمي الإخوة من رصاص القنص وقصف المدافع، إلا إذا سقطت القذائف مباشرة في وسط القناة، وهذا الأمر كان مستبعدًا بعض الشيء.
 
 
 
112

105

عمليات كربلاء الخامسة

 لقد كان الازدحام خانقًا، فكانت الآليات ملتصقة بعضها ببعض، وقد استغرق عبور الطريق أكثر من 5 ساعات. أما العدو فقد كان يعمل على مراقبة المنطقة بواسطة المناظير المثبّتة على أبراج الرصد. رغم القلق الذي أوجدته هذه الظروف، كان الشوق لبدء العمليات يُلهِب قلوبنا ويقوّي حماستنا لتمريغ أنف العدو الكاذب والمغرور بالتراب، خاصة بعد عمليات (كربلاء4).


2

ليلة 9 كانون الثاني كانت موعدنا مع العمليات. حاولت جاهدًا أن ألتقي بالإخوة في كتيبة "حبيب" قبل الهجوم، ولكن لم أفلح أبدًا. حتى إنّي لم أستطع توديع الإخوة في قوات الاستطلاع، فقد أخلوا متاريسهم ليلًا في الخطّ الأول، وتوزّعوا على كتائب الهجوم والاقتحام التي سيقودونها ليلة العمليات إلى خط العدو. في تلك الليلة، كان القمر متربّعًا على عرش السماء، ونوره ساطعًا أكثر من أيّ ليلة أخرى. وبنداء "يا زهراء" المقدّس بدأت عمليّات (كربلاء 5).

غادرت قوات الاقتحام، وبقينا نحن في مقرّ الاستطلاع متحلّقين حول الأجهزة اللاسلكيّة. استقرّ مسؤول التنصّت هناك أيضًا، واستطعنا من خلال مكالمات العدو والإخوة، متابعة مجريات العمليّات.

انطلق الإخوة تحت نور القمر. اتّجهت كتيبة "حبيب" إلى الجهة الشماليّة من "كوت سواري"، بينما اتّجهت كتيبة "ولي العصر" إلى جنوبي المخفر والسدّ حيث الفجوة، وما يعرف بكمين العدو.

سمعنا خبر انطلاق الإخوة، لكن سرعان ما انقطعت أخبارهم لدقائق،
 
 
 
 
 
113

106

عمليات كربلاء الخامسة

 وبعد مدة وجيزة علت أصوات طلقات ناريّة متقطّعة، وشيئًا فشيئًا، اشتدّت حدّة النيران إلى أن شعرنا ببدء إطلاق نار متبادل.


- تُرى هل نجح الإخوة في الاقتحام؟ وهل استطاعوا الوصول إلى ضفّة العدو؟ وهل اكتشف العدو وجودهم في هذه الليلة المقمرة؟

في الواقع، تمكّنت قوات الاقتحام من التسلّل عبر محورين. اقتحمت سريّة "محمد سوداكر" من كتيبة "حبيب" وإحدى سرايا كتيبة "ولي العصر" الخط الأوّل، أما السرايا الأخرى فلم تفلح بذلك.

واجهت سريّة الأخ "مطلق" من كتيبة "حبيب" صعوبات كثيرة في الماء، وتبادلت إطلاق النار مع العدو وهي على هذه الحال. ومع أنّنا سمعنا عبر جهاز اللاسلكي أنّ الاقتحام قد تمّ، إلّا أنّنا لم نصدّق ذلك!

عندما توّجهت مقاتلات ومروحيات جيش الجمهوريّة الإسلامية الإيرانيّة لقصف مواقع العدو، أدركنا أنّ المسؤولين العسكريّين قد حشدوا كثيرًا لإتمام هذه العمليات. طوال الليل، ومن لحظة بدء الاشتباكات، كانت المكالمات بين قادة الخط الأمامي والخط الخلفي في الجيش العراقي مليئة بعبارات التهديد والوعيد والإهانات تارةً، وعبارات الترغيب والتحفيز تارةً أخرى. وكالعادة، بعد كل عملية هجوم، بدأ المسؤولون العراقيّون يتبادلون الشتائم والسباب عبر أجهزة اللاسلكي حينًا، والتنويه والتشجيع أحيانًا أخرى.

- اصمدوا.. إذا حافظتم على الخط لكم المكافآت، وإلا فالويل لكم.. إذا انسحبتم ستعدمون.
 
 
 
 
 
114

107

عمليات كربلاء الخامسة

 ما إن بزغ الفجر حتى كانت المنطقة قد طُهرت بالكامل واشتدّ الخناق على العراقيّين.


كنت في المقرّ عندما أخبروني أنّ الأخ "حرمتي" يطلب منّي الذهاب مع اثنين من عناصر وحدة الاستطلاع إلى الأمام. وعلى الفور، طلبت من "غلام علي كلانتري ومنصور صعودي"1 الاستعداد، وركبنا نحن الثلاثة دراجة نارية متأهبين للانطلاق. أردت حينها مشاكسة الإخوة، فوجّهت كلامي إلى "ميكائيل نادري" وقلت بلهجة آمرة: "لقد تمّ تعييني مسؤولًا عليكم، ابقَ هنا أنت والأخ "بور نجف"، أنا ذاهب إلى المنطقة.. عندما أعود أصطحبكما معي!".

فردّ ميكائيل الصاع صاعين: "إليك عنّي يا ولد!".

أدار محرّك الدراجة وعلت معه أصوات القهقهة وعبارات التوديع.

كان صباح 10 كانون الثاني 1987م هادئًا، فلم يكن قد استفاق العدو بعدُ من صدمة الهجوم الصاعق جرّاء العمليات، ولم يستطع إعادة تنظيم قواته مجدّدًا. سطعت شمس ذاك الصباح الهادئ ورمت بجدائلها الذهبية على صدر سهل "شلمتشه" الرحب.

توجّهنا نحو مقرّنا في الخط الأوّل، ركنت الدراجة هناك، وذهبنا نحو الرصيف الذي تشكّل جراء هدم قسم من السدّ. وكانت قد جُرفت بعض الأجزاء المرتفعة من الطريق التي تبعد عنّا 30 مترًا، لتصبح بمستوى الماء، تسهيلًا لحركة القوارب. ركبنا القارب وقصدنا مخفر الحدود في "كوت سواري".
 

1- منصور صعودي: صديقي من محافظة زنجان استشهد في عمليات (نصر7).
 
 
 
 
115

108

عمليات كربلاء الخامسة

 انطلق قاربنا، وفي الوقت نفسه كانت آليّات شقّ الطرق في السدّ تعمل على وصل قسم من خطنا الذي كان العراقيّون قد كمنوا فيه. في الواقع، بعد وصل السدّ في خطّنا الدفاعي الأوّل بالسدّ شرقي الساتر "المخمّس"، أصبح تردّد الآليّات والإسناد ممكنًا.


كان العدو يتوجّس من تحرّكات الآليّات الثقيلة على الخط الأمامي فيصوّب نيرانه عليها بشكل دائم. لذلك كان سائقو وحداتنا الهندسيّة اللوجستيّة من أكثر الرجال جرأة وتضحية، وكانوا معروفين، فهم من التعبويّين المتطوّعين الذين التحق عدد منهم بركب الشهداء والجرحى. كما استنفر لحركة الجرّافات وآليّات الحفر، فصبّ حمم نيرانه وصواريخه على المنطقة. رغم كلّ هذه الأوضاع، انتهت عملية إعادة وصل السدّ والطريق عند الظهر.

عبر قاربنا من خلال العوائق التي كان قد عمل الإخوة على إزالتها طوال الليل وحتى الصباح، وتوقّف عندما ارتطمنا بسدّ العراقيّين. وهناك إلى الشمال منا، كانت أجساد الإخوة الغوّاصين ما تزال في الماء وبين العوائق وعلى السدّ، أجساد تروي حكاية حرب ضروس ومواجهة شرسة وتضحيات إخوة لنا امتزجت دماؤهم بالطين، فأينعت شقائق برائحة الخلود. دخلنا القناة خلف السدّ، وهناك رأينا الغوّاصين ممدّدين وقد أعياهم التعب، فسقطوا كالمغميّ عليهم. ظننتُ أنّهم قد يستطيعون مساعدتنا بمعلومة ما لنتمكّن من تنفيذ المهمّة الموكلة إلينا. تكلّمت معهم بضع كلمات سريعة ثم أكملنا المسير. كانت مهمّتنا تقتضي العثور على الأخوين "جمشيد نظمي ومير حجّت كبيري" ومساعدتهما.
 
 
 
 
116

109

عمليات كربلاء الخامسة

 كان "جمشيد نظمي" قائد كتيبة "سيّد الشهداء" من (اللواء 2)، بقيادة "مصطفى مولوي". أما "مير حجت كبيري" فكان قائد (اللواء 3). شارك (اللواء 1) بقيادة "منصور عزتي" ليلة البارحة في المرحلة الأولى للعمليّات إلى جانب كتائب "حبيب، ولي العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وعلي الأكبر". بينما تولّى كل من اللواءين (2) و(3)، باقي المراحل.


مررنا بالقرب من مخفر "كوت سواري" الحدودي، وتابعنا السير على طول الضلع الشمالي للمخمّس الذي حُرّر ليلة البارحة في محور فرقة (عاشوراء 31). يمتدّ هذا الضلع إلى قناة السمك1، ومن هناك يصل إلى رأسها. تقع اليابسة على يسار السدّ، وكانت قد غمرت المياه القناة ككلّ أقنية السمك. توجد إلى يمين السدّ حيث كنّا نسير، برك مائيّة كبيرة. يمكن أن ندرك، من خلال وجودها خلف خطوط الأعداء أن الرياح ليست كما تشتهي سفنهم. أي إنّه من غير الممكن أن يُغرق العدو خطوطه الخلفيّة بالمياه كما يفعل في خطوطه الأماميّة، لأنّ ذلك سيؤثّر سلبًا على حركة آليّاته وقواته.

كنت أتنقّل على طول السدّ وصولًا إلى قناة السمك، وقد آلمني ما شاهدت بأم عيني. يبدو أنّ قوات كتيبة "أمير المؤمنين" من (اللواء 2) كانت قد وصلت قبل شروق الشمس، وتموضعت في القناة الموجودة على السدّ الشمالي الخماسي الأضلاع. لقد انفطر قلبي لهول ما أصاب الإخوة في هذه الكتيبة.
 

1- قناة بطول أكثر من 25 كلم وعرض 1 كلم، وتم إنشاؤها قبل الهجوم العراقي بسنوات بين المدن الاستراتيجية (البصرة، مناطق زيد، كوشك وتشلمشة) لإعاقة أي هجوم على البصرة. كانت القناة قبل الحرب مكانًا لتربية الأسماك، وفي زمن الحرب غدت واقيًا من أيّ هجوم محتمل..
 
 
 
 
117

110

عمليات كربلاء الخامسة

 كانت أجساد شهدائنا مطروحة في القناة على طول مسافة تتراوح بين 200 إلى 250م. وقد عَلِمنا أنّ الليلة التي مضت كان قد سقط وابل من القذائف على تلك المنطقة وعلى القناة تحديدًا. لقد كان المكان تحت نظر العدو، ولم نستطع العبور إلّا من داخل القناة. لذا، اضطررنا للسير بين الأجساد الطاهرة. كنّا تقريبًا في منتصف الطريق إلى رأس قناة السمك، وكان على يسارنا ما يشبه المقرّ، حيث سمعنا أصوات اشتباكات. قال لي أحد الإخوة إنّ كتيبة "القاسم" ما تزال مشتبكة هناك. تقدّمنا أكثر فوجدنا كتيبة "بقيّة الله" من قضاء "ميانه" تخوض معارك عنيفة وباسلة مع العراقيّين محاولةً تطهير المنطقة يمين السدّ والحوض المائي من جنودهم الفارّين.


رأيت هناك "محمد رضا تشميدفر" و"حسين بهارلو". كان "تشميدفر" معاون قائد كتيبة بقيّة الله، أما "بهارلو" فقد كان مسؤول السريّة التي تنوي الهجوم في تلك المنطقة.

استمررنا في التقدّم حتى رأس قناة السمك التي تنتهي بقناة تمتدّ لجهة الجنوب. كان فوق القناة جسور عدّة، وكان الجسر الثالث هو مكان التحاق فرقة (عاشوراء 31) بقوات فرقة (فجر 19). كلّما تقدمنا إلى الأمام نرى قوات كتيبة "علي الأكبر" وهي تهاجم القناة بشكل متفرّق، بينما كان آخرون عائدين من هناك.

كانت الأوضاع مضطربة. وأخيرًا، التقيت قائد كتيبة "علي الأكبر" الأخ "صمدلويي". عندما رآنا أخبرنا أنّ مواجهات بالسلاح الأبيض والقنابل اليدويّة تجري على الجسر عند نهاية القناة وتحصد الكثير من الأرواح
 
 
 
 
 
118

111

عمليات كربلاء الخامسة

 من الطرفين. بدا واضحًا جدًا أنّ عديد كتيبته قد أصبح ضئيلًا. كانت مهمّة هذه الكتيبة الاستمرار في التقدّم والالتحاق بفرقة (الفجر 19). بعد مدّة، سمعت أنّ القوّات قد اشتبكت مع العدو عند الجسر الأوّل بعد قناة السمك. أقلقني هذا الأمر كثيرًا، لأنّه في حال تمكّن العدو من العبور من هناك والتسلّل إلى المخمّس سنواجه مشكلة كبيرة، لذا حاولت جاهدًا الوصول إلى تلك الناحية. يقع عند الجهة اليمنى للجسر حيث كانت الاشتباكات العنيفة لا تزال مستمرّة، تلّة كبيرة تستخدم للرصد. ويوجد على تلك التلة عنبر، وهي تشرف على أنحاء المنطقة كافة وعلى الجسر الثالث. كان العراقيون يصوّبون رصاص "الدوشكا" منها على الإخوة بشكل مستمر من دون توقف. ومع وجودهم عليها، أصبح الاستيلاء على الجسور مستحيلًا.


شيئًا فشيئًا، بدأت النيران والانفجارات بدخانها تخرق الهدوء الذي كان مسيطرًا على المنطقة صباحًا. وكلّما كان يقترب قرص الشمس من كبد السماء أكثر، كانت تشتدّ غزارة نيران الأعداء من أسلحتهم الثقيلة والخفيفة، الأمر الذي أشار إلى تموضع العدو في الجهة الأخرى للقناة ما عنى أنّ عملنا أصبح صعبًا.

كان الهدف الأساس من المرحلة الأولى من عمليّات (كربلاء 5) فتح المخمّس. وحتى اللحظة كان قد تحقّق الهدف، لكن لم تكن قد حقّقت باقي الأهداف بعد. أمّا المرحلة الثانية، فكان هدفها عبور القناة والوصول إلى نهر "أروند" حيث كان على الفرق الثلاثة: "عاشوراء، حضرة رسول الله، وكربلاء25" عبور قناة السمك.
 
 
 
 
119

112

عمليات كربلاء الخامسة

 كان على فرقة "عاشوراء" العبور من رأس قناة السمك، ثم الانقسام بعد الاستيلاء على المكان إلى مجموعتين. فالمجموعة الأولى تتّجه ناحية النخيل الذي يغطّي المنطقة في جهتنا اليسرى، والمجموعة الثانية تهاجم السواتر الهلاليّة الشكل التي شكّلت عائقًا أمام القناة المزدوجة. أما فرقة (كربلاء 25) فتتولّى، بعد عبور قناة السمك، تطهير الأقنية المزدوجة التي تقع بين نهر "أروند" و"قناة السمك". وإذا أُنجزت المهمّة في الوقت المناسب فإنّ فرقتنا ستكون في مأمن من نيران العدو من تلك الناحية. ولكنّ الإخوة في فرقة (كربلاء 25) لم يتمكّنوا من العبور، وقد كان العدو يحشد المزيد من القوات خلف قناة السمك، ما أدّى إلى زيادة غزارة النيران التي كان يطلقها نحونا، الأمر الذي جعل عبور القناة مستحيلًا ذلك اليوم.

فكرت أنه لن يفيد وجودي مع الإخوة في شيء، لذا عدت إلى مزاولة البحث عن السيد "كبيري"، فذهبت من القناة إلى السدّ. أخبرني الإخوة أنّ القيادة قد تموضعت في متاريس ودشم وسط السدّ1. ولحسن الحظ، عثرتُ في إحداها على السيد "كبيري" الّذي كان محاطًا بالإخوة. شرحت له أوضاع كتيبة "علي الأكبر"، وأخبرته عن كلّ مشاهداتي التي رأيتها خلال مسيري إليه. قال لي الأخ "كبيري": "لقد وصلت كتيبة
 

1- كانت الخنادق والمتاريس تُبنى جميعها من الباطون، وأكثرها يُطلى باللون الأصفر الغامق. كانت ترصف قطع الـ"بلوك" إلى جانب بعضها بعرض نصف متر، وكان شكل طلاقات هذه المتاريس شبيهًا بالتي كانت في متاريس الخط المتقدم في عمليات (والفجر8) بحيث يغطي هذا المتراس ذو الشكل العنكبوتي بنيرانه، كل المنطقة من الأرض إلى السماء ومن اليمين إلى الشمال من مسافة 20م.
 
 
 
 
120

113

عمليات كربلاء الخامسة

 "الإمام الحسين عليه السلام" إلى المنطقة، خذهم وتبادلوا المواقع مع كتيبة "علي الأكبر".


نزل شباب كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" من القوارب واصطفّوا منتظرين وصول عناصر الاستطلاع للتحرّك. توجَّهْتُ نحوهم، وكم سرّتني رؤية الإخوة في كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام": "مصطفى بيشقدم، محمد بالابور، ناصر يوسفي، ويونس بنائي".

انطلقنا بعد إرشاد الإخوة إلى منطقة المعارك، وإعطائهم التعليمات، وأنّ الهدف هو تأمين نقطة الالتحاق بفرقة (الفجر 19) بعد الجسر الثالث.

قبل الوصول إلى هدفنا، التقينا برتل قوّات كتيبة "علي الأكبر" وهم ينسحبون، فقد ترك عدد منهم المنطقة قبل وصول كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، وقد أزعجني هذا الأمر كثيرًا. لقد أدرك جيدًا "مصطفى بيشقدم" قائد كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" في عمليات (كربلاء 5)، صعوبة الأوضاع في المنطقة. أوصلتُ الكتيبة إلى النقطة المقصودة، أي إلى السدّ الذي يتّصل بالقناة. على طول المسافة الفاصلة حتى القناة، كان تساقط قذائف الأسلحة الثقيلة، خفيفًا بعض الشيء. لكنّه كان يشتدّ أكثر فأكثر من بداية القناة وحتى الجسر الأوّل، وقد عملت قوات العدو المتمركزة في الجهة الأخرى للقناة على صبّ حمم نيرانها من على تلّة الرصد، وكذلك ومن خطوطها الخلفية مستخدمة أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة كافّة، كنت أعلم سبب ذلك، حيث إنّ العدو قد تمركز في جزر "بوارين" و "أم الطويل" في نهر "أروند" الواقع لجهة
 
 
 
 
121

114

عمليات كربلاء الخامسة

 اليسار، وكان يصبّ جام غضبه وحقده علينا. على كلّ حال، لم يكن بإمكاننا فعل أي شيء سوى تحمّل كلّ هذه النيران لقطف ثمرة التوفيق والوصول إلى المرحلة الثانية ألا وهي التقدّم نحو نهر "أروند".


أوصلتُ كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" إلى رأس قناة السمك والجسر الأوّل. دخل الشباب في اشتباكات عنيفة مع العدو، واستطاعوا منذ اللحظات الأولى إسكات "الدوشكا" على التلّة، والاستيلاء على الجسر والتقدّم وتطهير المنطقة.

كنت متيقّنًا أنّ كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" ستتمكّن من تنفيذ عملية الالتحاق بسرعة حتى لو كان الثمن الشهادة حتى آخر مجاهد فيها. لقد كان الشوق إلى الشهادة والاندفاع لبذل المهج يزهران في صحيفة هذه الكتيبة، ووجود "مصطفى بيشقدم" أضفى على الكتيبة عزمًا وثباتًا وإشراقة لا تخبو. كانت هالة من الحزن لا تزال ترافق محيّاه، فمنذ شهادة أخيه الأصغر وفقده عددًا من الرفاق والأحبّة لازم الجوى فؤاده، وامتزج السكون والأرق مع حركاته.

عدت أدراجي إلى متراس الأخ "كبيري"، طُرِحَتْ مسألة العبور من رأس "قناة السمك"، وكان القرار أن ننقل كتيبة "إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف" و"الإمام السجّاد" إلى المنطقة ليتسنّى لنا البدء بالمرحلة الثانية من العمليّات بعد عبور القناة. كانت تلك المرة الثانية التي أرجع فيها من رأس قناة السمك ومن مخفر "كوت سواري". لقد تموضعت هاتان الكتيبتان بالقرب من مقرّ الأخ "كبيري"، وكان الليل قد حلّ عندما وصلتُ إليهم. انطلقت مباشرة بمساعدة "منصور صعودي وغلام علي
 
 
 
 
 
122

115

عمليات كربلاء الخامسة

 كلانتري" ومعنا قوات الكتيبتين، سالكين الطريق ذاته الذي كنت قد سلكته مع كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام".


كان قائد كتيبة الإمام السجّاد – الأخ "حاج حسين لو"- من مدينة "خوي"، وقائد كتيبة "إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف" الأخ "يزداني" من مدينة "أردبيل". معظم قوات الكتيبتين كانوا حديثي العهد بالجبهة والحرب، وكان لحجم النيران تأثيره على معنوياتهم، حيث أثارت حالتهم هواجس هيئة القيادة. كما ظهر تفاوت محسوس بين معنويات هذه القوات الحديثة العهد ومعنويات قوات كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" التي كان لها تجربة وحضور فاعل في ميادين الحرب والعمليات. وهكذا أوصلنا هذه القوات إلى رأس القناة، وانعطفنا من هناك نحو الجسر الأوّل حيث كانت نيران العدو ورصاصه "الخطّاط" تنتشر في السماء الحالكة فتومض مثيرة الذعر في قلوب الإخوة الجدد، فأصبحنا أمام مختلف أنواع العوائق التي كانت كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" قد عبرتها للوصول إلى الجسر الرئيس.

على مسافة 50 إلى 100م من الجهة الشماليّة لقناة السمك، أُنشئ ساتر ترابي، وقد غطّى المسافة بين هذا الساتر وقناة السمك نوع خاص من النباتات، شجيرات شبيهة بأشجار الصنوبر تنبت في المناطق المالحة والرطبة. إضافةً إلى هذا الساتر الترابي، أحيط سدّ قناة السمك بالسواتر الترابيّة الممتدّة طوليًّا على مسافة 200 إلى 250م بين الساتر وقناة السمك. وقد عمد العراقيّون سابقًا إلى تقسيم المنطقة إلى مربّعات أو مستطيلات، ويعتبر هذا التقسيم ضربًا من الأنظمة الدفاعيّة الجديدة
 
 
 
 
 
123

116

عمليات كربلاء الخامسة

 التي استفاد منها العدو خلال انسحابه. وبعد أن استولت قواتنا على هذه المنطقة، ساعدنا هذا الترتيب بالدفاع عن أنفسنا بشكل جيد وبصدّ أي هجوم محتمل1.


ومن أجل الوصول إلى الجسر، مشيت أعلى السدّ، بينما سارت القوات أسفله، اشتعل المكان حينها بنيران أنواع الأسلحة كافّة، وتسلّل الرعب إلى قلوب قواتنا، وعندما شعرت بدبيب الخوف يسري على وجوههم، صعدت أعلى السد وقلت للإخوة: "انظروا إنّه رصاص طائش". شعرت أنّ الموقف يحتاج إلى فعل أي شيء للحفاظ على معنويّاتهم، والعجيب في الأمر، أنّي لم أُصب ولا حتى بطلقة واحدة، وهذا ما جعل مصداقيّتي عالية في نظرهم. عندما وصلنا إلى الجسر الأوّل، ظنّ العدو أنّنا ننوي عبوره، لذا جُنّ جنونه وأشعل المكان بمختلف الأسلحة كي يحول بيننا وبين وذلك.

حدّدت لمسؤولي الكتيبتين جهة حركتهم إلى جانب الجسر. توجّهت إحدى الكتيبتين ناحية النخيل، والأخرى انطلقت ناحية السواتر الهلاليّة الشكل، وأوضحتُ لمسؤولي الكتيبتين والسرايا كلّ ما يتعلّق بتفاصيل التحرك في المنطقة. وبينما كنت أراقب حركة الإخوة، حدث ما لم يكن
 

1- لم تكن الحرب المفروضة علينا حربًا بين قوّاتنا والقوات العراقيّة، لقد كانت حربًا أمريكيّة وبريطانيّة بأيدٍ عراقيّة، حيث تمّ إهداء النظام الصدّامي منظومة خطط عسكريّة متطوّرة. وقد كانت مصادر تسليحنا الأساسيّة في الحرب مغانم من مخلّفات المعارك مع الجنود العراقيّين. وضعوا مختلف إمكانات الأقمار الصناعية والتجسّس ومختلف المعطيات الأمنية بيد العدو. على سبيل المثال، فقد شيّدت السواتر المثلثة الشكل بمساعدة الإسرائيليّين. كما إنّ خطة الدفاع المتحرك الرسمي اتبعها العراق بعد عمليات (كربلاء8) في محاور عدة، ومدّهم بمروحية متطوّرة. والعديد من الخطط التي استفاد منها في عمليات (كربلاء5).
 
 
 
 
124

117

عمليات كربلاء الخامسة

 يقع ضمن نطاق عمل فرقة (الفجر 19) وقامت بتطهيره أيضًا، وتمكّنت من الالتحاق بالفرقة في تلك النقطة.


رجعت مشيًا برفقة "منصور صعودي وغلام علي كلانتري" وعُدْتُ ثانية إلى المقرّ الذي فيه الأخان "نظمي وكبيري". أحسست بإعياء شديد، فقطع مسافة 6 كلم لخمس أو ست مرات بشكل متواصل في يوم واحد تحت نيران القصف المركّز، بالإضافة إلى أوجاع جروحي التي لما تلتئم بعد أرهق جسدي من رأسي إلى أخمص قدميّ. في تلك اللحظة تمنّيت أن تصيب قلبي "شظيّة ذهبيّة" وتريحني إلى الأبد! لقد آلمتني كثيرًا تلك الرضوض في قدمي المتورّمة.

عندما دلفتُ إلى مقرّ السيد "كبيري" قدّمت له اقتراحي حول كيفية العمل مبديًا وجهة نظري: "أخ كبيري، برأيي، إذا تابعت كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" العمليات فسيكون النصر حليفنا". ونظرًا إلى قدرة وكفاءة كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" والقيادة المثلى لـ"مصطفى بيشقدم" وقدرته على بثّ الشجاعة والمعنويات ورصّ صفوف المجاهدين ليصبحوا بنيانًا مرصوصًا كلفني الأخ "كبيري" ليلًا بمهمّة توجيه الإخوة في كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" لإكمال العمليات في الجهة الأخرى لقناة السمك.

قبل شروق الشمس سارعت إلى تنفيذ المهمّة، وقلت للإخوة: "آه ما أجملها الآن! طلقة الخلاص والحريّة". أجابني "منصور صعودي" بابتسامة ساخرة ففهمت القصد. كنّا في الجبهة نفهم كلّ شيء حتى لغة الجسد. كنت أعلم أنّ الإخوة استطلعوا المنطقة في أحلك الظروف، وكانوا يعلمون أنّ قيادة العمليّات في بادئ الأمر لم تسمح لي بالمشاركة
 
 
 
 
 
126

118

عمليات كربلاء الخامسة

 بسبب جروحي. ولكن، كلّ من صار بينه وبين تراب الجبهة وسواترها وخنادقها ودشمها خبز وملح يعلم علم اليقين أنّ المشاركة في العمليات لا جبر فيها ولا إكراه، خصوصًا التعبويين الذين كان لهم حرية المجيء إلى الجبهة أو عدمه. كنّا نستطيع في الجبهة أن نجلس ونقول لقد تعبنا أحضروا بديلًا عنّا. لكن لم يكن هناك مكان للأنا على الإطلاق!


وصلنا إلى مكان تموضع الإخوة الذين استقرّوا على الجسور التي حرّروها منتظرين الأمر بإكمال العمليات.

اختفت ملامح الإخوة تحت طبقة من الغبار الغليظ، كانوا بحالة يرثى لها. تشتت عناصر كتيبتي "إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف" و"الإمام السجاد عليه السلام" في الساعة الأولى للمعارك من دون تحقيق أي هدف، بينما قاتلت كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" طوال الليل وبذلت المهج لتصمد حتى الصباح. بحثت عن السيد "مصطفى بيشقدم"، ووجدته أخيرًا في أحد المتاريس. كان مساعده "محمد بالابور" يجلس بالقرب منه، وعلى رأس كل منهما خوذة، ووجهاهما معفّران بالتراب ويتوسطهما جهاز لاسلكي. عندما وقع نظري عليهما شعرت أنّ هذين الرجلين يتحضّران لهجرة ملكوتية. سلمت عليهما، ثم قال لي بيشقدم: "بالله عليك، إذا التقيت بالسيد "كبيري" أخبره أنّ مدافع قواتنا كادت تُجهز علينا أكثر من مدافع العدو، افعلوا شيئًا كي لا تصيبنا مدافعنا على الأقل".

بدا متعبًا ومنقبضًا. أحسستُ كأنّه يعلم بقرب هجرته، وأنّها معركته الأخيرة مع العدو، لأنه استخدم كلّ فنون القتال التي يجيدها. التقيت هناك بـ"يونس محمود زاده" و"ناصر يوسفي" وأعطيتهما التعليمات
 
 
 
 
 
 
127

119

عمليات كربلاء الخامسة

 حول هجوم منطقة السواتر الهلاليّة المقرّر ليلًا. وأخبرتهما أنّ كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" قد كُلّفت بمهمّة الهجوم، ولديهم فرصة استطلاع المنطقة ودراستها من الصباح وحتى العصر. تحدثت مع السيد "مصطفى بيشقدم" حول المنطقة وتفاصيل أخرى، وقد أبدى بدوره استعدادًا وجهوزية لتحمل كل المتاعب والصعوبات. عندما أنهينا كلامنا ناولني "ناصر يوسفي" ورقة مطوية وقال: "خذ، هذه وصيتي، سلمها لأحد أبناء محلّتنا".


- وكيف عرفت أنك سترحل قبلي؟

- خذ هذه الآن، احتفظ بها، وإذا التقيت أحد الأصدقاء سلّمه إياها.

وضعت الوصيّة في جيب معطف المطر الكحلي اللون، من دون أن أدري أني لن أستطيع إيصالها إلى أحد!

*

أنهيت عملي، ودّعت الإخوة واتّجهت صوب المقرّ. مع اقتراب وقت الظهر، أحسست بإعياء شديد، إذ لم أكن قد تناولت طعامًا جيّدًا وكافيًا خلال الأيام المنصرمة.

في قناة السد التي تصل إلى قناة السمك، كانوا يحضّرون الدعم والمؤن. تناولت القليل من الطعام، ثم التقيت الأخ "أصغر عباس قلي زاده" مع عدد من الإخوة في قوات الاستطلاع، منهم "محمد بور نجف"، أوضحت لهم تفاصيل أوضاع المحور والمنطقة، ثم تابعت سيري باتجاه المقرّ، هناك أبلغت السيد "كبيري" أني ذاهب إلى مركز القيادة.
 
 
 
 
 
128

120

عمليات كربلاء الخامسة

 عدت أدراجي وسلكت الطريق التي عمل الإخوة في جهاد البناء على وصلها في اليوم الأول من العمليات. كان السبب الرئيس لعودتي هو الحصول على دراجة نارية كي لا أقطع كلّ تلك المسافة سيرًا على الأقدام. عندما وصلت إلى مركز القيادة دخلت المتراس فوجدته مشيّدًا بشكل محكم جدًّا.


لفتني وجود مائدة الغداء ممدودة على الأرض، وكانت عبارة عن معلّبات التونا والباذنجان. سال لعابي، فجلست وأكلت حتى الشبع. كان حضوري في المقرّ فرصة لأرى أصدقائي، طلبت من "رسول سعيدي" مرافقتي لتفقّد "منصور عزتي"، لكنّه فضّل البقاء في الدشمة.

خرجت من الدشمة، ظانًّا أنّ قدومي إليها كان مَقْدم خير لي، فقد تناولت طعامًا شهيًّا وها أنا أقوم بتفقّد السيد "منصور" وأصدقائي في كتيبتي "حبيب وولي العصر"، وبالتأكيد كنت سأرى "أحد مقيمي"، فحيثما وُجد "منصور عزتي" كان "أحد مقيمي" إلى جانبه.

ما إن خطوت عدّة خطوات خارج المتراس حتى سمعت أصوات المضادات الجوية ترتفع بشدة. ورأيت فجأة إحدى مقاتلات العدو تهوي إلى الأرض بعد إصابتها.

كالعادة، عبّر الإخوة عن مشاعر الفرح والحماسة كلٌّ على طريقته، فاختلطت أصوات التكبيرات مع الهتافات والصفير، وكنت من زمرة المكبّرين.

حدّقت بالطائرة التي كانت تقترب من الأرض شيئًا فشيئًا.

خطر حينها في ذهني: الآن سترتطم بالأرض وتنفجر..
 
 
 
 
 
129

121

عمليات كربلاء الخامسة

 ما كانت إلا ثوانٍ حتى دوّى صوت انفجار آخر رجّ جسمي رجًّا وأحسست بحرارة الشظايا تخترق بطني، إنّها قنبلة عنقوديّة! إذا انبطحت أرضًا سأصاب بشظايا كثيرة.


مرّت هذه الفكرة في ذهني كومضة. استجمعت قواي لأبقى واقفًا على قدميّ، ثم دوّت الأصوات ثانية، لكن ما إن وقفت حتى أحسست أنّ شيئًا يمزّق خاصرتي ويقسمها إلى شقّين، كنت أشبه ببالون منتفخ أصابه ثقب وشرع بتفريغ الهواء من داخله. قبل أن أسقط أرضًا رأيت الدم يندفع بشدة من خاصرتي كمن يسدّ فوّهة خرطوم المياه ليندفع منه الماء بشدة!

وبينما كنت أهوي إلى الأرض رأيت قربي السيد "زعفراني" راكضًا والقذائف تسقط خلفي وتهزّ الأرض هزًّا. أردت مناداته فلم يخرج الصوت من حنجرتي. قلت بصوت ضعيف: "سيد.. لقد أُصبت!!".

بعدها، أظلمت أمامي الدنيا ولم أعد أرى شيئًا.. أحسست ببرودة التراب وتناهى إلى مسمعي أصوات الإخوة ينادون بعضهم بعضًا وينادونني.. فجأةً أطبق السكون على كلّ شيء، وشعرت بنفسي وحيدًا في ظلام دامس حيث لا أصوات ولا نور ولا انفجارات، لا مضادات ولا طائرات، وكأنّ بلاطات (رصائف) القبر تطبق على صدري. بحثت بين هذه اللجج عن إشعاع نور وتساءلت: "أأنا ميّت؟ إذًا لِم كلّ هذا الظلام!! ألا يرحل الشهيد إلى حيث النور؟!". وبقيت أنتظر قدوم أحد ليبشّرني ويأخذ بيدي. وغرقت في التفكير بكلّ حديث قرأته أو سمعته.. كان اشتياقي حتى لذرّة نور لا يوصف. شعرت وأنا في وحدتي وقلّة
 
 
 
 
 
130
 

122

عمليات كربلاء الخامسة

 حيلتي بيدٍ قد أمسكت يدي، تمسح عليّ وتحرّكني، بدأت ذبذبات الأصوات تتسرّب إلى عالمي المظلم رويدًا رويدًا.. كانت أصواتًا عجيبة غريبة مرتفعة وغليظة في آن، كانت أصوات بكاء ونحيب!! حاولت بعد ذلك أن أضغط على اليد الممسكة بيدي9.


*

كنت أتأرجح صعودًا وهبوطًا، كان جسمي مبلّلًا وحلقي يلتهب من شدة العطش. فتحت عينيّ وطال الوقت حتى فهمت أني في سيارة الإسعاف التي كانت تسلك طريقًا مليئًا بالحفر والمطبّات و"رسول سعيدي" يجلس فوق رأسي.

- ماذا حصل لي؟

- لا شيء، لا تخف.

تكلّم "رسول" كثيرًا لكني لم أفهم شيئًا من كلامه، كنت أفقد وعيي بين الحين والآخر. بقي "رسول" جاثمًا فوق رأسي. استيقظت في مكان شبيه بالعنبر. جاء رجلان يحمل أحدهما مقصًا ومن دون أن أنبس ببنت شفة قام بتقطيع ملابسي، وفقدت وعيي مرّة أخرى.

كدت أختنق، شعرت بغثيان شديد وأنّ أحشائي تغلي كالبركان، ما إن فتحت عينيّ حتى راحت معدتي تلفظ حممها، نعم لقد تطاير خليط التونا والباذنجان مع الدماء، فانبعثت في الأجواء رائحة كريهة، اشتعل
 

1- فيما بعد، أخبرني رسول سعيدي أنّه بعد قصف الطائرات انتبه لسقوطي أرضًا، وعندما وصل إليّ ظنّ أنّي قد لفظت أنفاسي الأخيرة. وبعد أن أمسك رسول بيدي وشرع في البكاء والنحيب أحسّ بضغطة من يدي على يده فأدرك حينها أنه ما زال يسري في عروقي رمق حياة.
 
 
 
 
131

123

عمليات كربلاء الخامسة

 حلقومي من الحمم المقذوفة إلا أنني لم أقوَ على شيء حتى على طلب الماء.. وقف طبيبان فوق رأسي وفي أيديهما صورة أشعّة، يمعنان النظر فيها، كان المكان يشبه غرفة طوارئ لمشفى ميداني. بحثت بعينيّ عن "رسول" لكني لم أعرف عنه شيئًا وأغمي عليّ.


استفقت على أيدٍ تصفعني على وجهي وخاصرتي تلتهب من الألم، والنعاس قد أثقل جفني. عندما أيقظوني، كان كل شيء مشوّشًا أمامي، وبدا لي كلّ شيء وكأنه أربعة. وقف إلى جانبي شخصان استطعت تمييز أصواتهما، ولكنّ رؤيتهما كانت متعذّرة عليّ.

سألني أحدهما عن اسمي، فأجبت بصوت هزيل: "مهدي قلي..".

- لقد استعاد وعيه.

تحدّثا معًا ثم غادرا الغرفة.

في غرفة لا أعرف فيها شيئًا سوى صورة الإمام التي كانت قريبة مني، ولكن يبدو وكأنني أنظر إليها من خلال منشور زجاجي، وكنت كلّما رفعت نظري إليه انهمرت دموعي لا إراديًّا.

لم أعلم متى أغمي عليّ ثانيةً!! ولكن، عندما فُتح الباب وأخرجوني من الغرفة وجدت نفسي في سيارة إسعاف ثانية. انطلقت سيارة الإسعاف، وتوقّفت بعد مسافة قصيرة، فُتِح الباب لندخل إلى فضاء واسع وكبير جدًّا، لعلّه المطار. اشتدّ عطشي، بينما امتصّ هدير الطائرات كل الأصوات من حولي. رأيت أشخاصًا مثلي، كلٌّ على نقّالته، جاء أحدهم وقال: "انقلوا هؤلاء بسرعة إنّ حالتهم متدهورة..".

وضعونا في طائرة خاصة لنقل الجرحى وكان معنا مسعف يجول
 
 
 
 
132

124

عمليات كربلاء الخامسة

 على الجرحى متفقّدًا حالهم. أخيرًا أقلعت الطائرة وأظنّ أنّها كانت من نوع 130C.


- ستهبط الطائرة في مطار مشهد.

سمعت هذه العبارة من أحدهم بينما كنت لا أزال أشعر بالدوار. لاحت في مخيلتي ذكرياتي مع "أحمد يوسفي ومحمد بور نجف"، وتراءت أمامي تلك الأيام التي كنا نأتي فيها معًا لزيارة الإمام الرضا عليه السلام. وهتف قلبي في سرّه: السلام عليك يا "علي بن موسى الرضا المرتضى"!

نزلنا من الطائرة، كاد العطش يُفقدني ما تبقّى من حول وقوة، طلبت من الممرّض مرات عدّة أن يناولني الماء، لكنّه لم يستجب لطلبي. عندما ابتعد المسعف عني قليلًا، خطرت على بالي فكرة فقمت بتنفيذها على الفور. فككت وصلة المصل ورميت بالسائل الذي بداخله في فمي.. كان مالحًا جدًّا.. لكنّه كان سائلًا. التفت إليّ المسعف، أسرع صوبي صارخًا في وجهي، وبينما كان يؤنبني على فعلتي عمل على إصلاح المصل. وكمن ألقى الزيت على النار.. ازداد عطشي أكثر. حملوني على النقالة ثانية وأخذوني إلى قاعة المطار، أحسست أني أتلاشى وأضمحلّ ولا أحد يعلم بحالتي!!

اقترب مني شخص، حدّقت به، فإذا هو "يوسف صارمي".. الذي كان قد أصيب في المرحلة الأولى من العمليات في صدره. سألني عن حالي فلم أجبه. كانت حالتي غير مطمئنة، جاؤوا بسرعة ليأخذوني وغادر يوسف. وضعوني مرة أخرى في سيارة إسعاف شقّت طريقها
 
 
 
 
 
133

125

عمليات كربلاء الخامسة

 باتجاه المستشفى. كانت السيارة تتحرّك في شوارع المدينة، بينما عيناي مغمضتان وقلبي يقظ يريد الورود إلى حرم الرضا عليه السلام، وكانت تراودني فكرة النهوض ما استطعت لرؤية قبة الحرم الذهبية من وراء زجاج النافذة. وصلنا في نهاية الأمر إلى المستشفى. وضعوني على كرسي متحرك داخل القاعة، قاموا بجرّه إلى إحدى زواياها ثم تركوني..


*

وكأنّ الزمن قد توقّف. كان الوقت يمرّ ثقيلًا، وشعرت أنّهم قد نسوني. لم أكن أشعر بأي ألم فقد كنت مخدرًا والعطش يحرق أحشائي. بقيت على هذه الحال أكثر من 3 ساعات. كلّما مرّ أحد كنت أتوقّع أنّه سينقلني أو سيتحدّث إليّ، ولكن بلا جدوى. قلت في نفسي، أيُعقل أن أكون قد فقدت وجودي الخارجي؟!

تفحّصت المكان جيّدًا، فشاهدت الضمادات الملوثة بالدماء وشتى أنواع الإفرازات، ربما كان المكان مكبًّا للنفايات الطبية أو مستودعًا لأدوات الأمصال وغيرها!! وقد عمّ الفضاء رائحة نتنة كنت مجبرًا على تنشّقها مع كلّ عمليّة شهيق وزفير.

اعتبرت ذلك كفارة لما سلف من ذنوبي. بعد ذلك، جاء أحدهم ونظر إلى قطرات المصل وهي تلج عروقي ثم أردف قائلًا: "خذوا هذا". كانت هذه آخر كلمة سمعتها قبل دخول غرفة العمليات، حيث جرى تخديري.

عندما فتحت عينيّ وجدت قربي ثلاثة أسرّة ومسعفًا خاصًّا أمضى الليل كلّه معنا. لم أستطع سوى تحريك رأسي إلى جهة اليسار فرأيت جريحًا قد غطّ في نوم عميق.
 
 
 
 
 
 
134

126

عمليات كربلاء الخامسة

 بعد إجراء العملية، بقي أنبوب كان قد أُدخل عن طريق أنفي إلى معدتي، انزعجت منه كثيرًا وشكوت منه وطلبت إزالته، لكن الجميع كان يجيبني: "لا نستطيع أن نحرّكه، حاول أن تتحمّله".


كنت أطلب من كلّ مسعف يأتي لمعاينتي أو يمرّ بغرفتي أن يخلّصني من شرّ هذا الأنبوب، ولكن بلا فائدة. رقد بجانبي جريح، كان يطلب الماء في كل لحظة، لكنّ المسعف لم يستجب لطلبه، واكتفى بترطيب شفاهنا بقطنة مبلّلة من دون أن تدخل قطرة ماء واحدة إلى فم أي منّا، ثم بعد دقيقة كان صوت "الماء.. الماء" يُسمع من كلينا.

كانت جراح الراقد قربي بليغة جدًّا في صدره وبطنه، كانت معدته دائمًا تفرغ الدم والقيح إلى أن خارت قواه وراح يهذي أحيانًا. في إحدى المرات استفقت على صراخه يطلب الماء، عندما نظرت إليه وجدت قربه إناءً معدنيًّا مليئًا بالدم والقيح فتناولها واجترعها اجتراعًا. وكم هزّ كياني هذا المشهد. فيما بعد كنت كلّما أنظر إليه، أتذكّر ما حصل فتنقبض أحشائي من الألم.

*

مرّت الأيام.. ولم أكن أدري شيئًا عن جروحي. الشيء الوحيد الذي كنت أعلم به هو أنني طُردت عن باب الشهادة.

في صباح أحد الأيام، وبعد تبديل الضمادات، جاءني أحدهم بالهاتف وقال:
- إذا كنت ترغب في إبلاغ أقاربك عن حالك، فيمكنك الاتصال بهم.
 
 
 
 
 
135

127

عمليات كربلاء الخامسة

 أعطيتهم رقم هاتف جيراننا وبقيت منتظرًا على السماعة، كان شبح تلك الحادثة المؤلمة التي حلّت في منزلنا يشعرني بالضيق بين الحين والآخر. تحدّثت إليّ زوجة أخي في البداية، ومن ثم أخي، قلت له بضع كلمات: "أنا في مشهد، في مستشفى الإمام الرضا عليه السلام".

 

 

 

 

136


128

حربٌ مع الجراح

 حربٌ مع الجراح

ربيع1986م
 
 
لم أستشهد.

صحوت على هذه الحقيقة المخيفة! لحظات لم يكن فيها شيء يبلسمها سوى سماحة ولهفة وجه أمي.

فراق ساحة طالما أنستها، والجسم المنخور، أنهكاني شهورًا بآلام وإغماءات ومعاينة جرحى آخرين. وبدل أن ألتزم فترة علاجي أصررت على مغادرة المشفى، فلم يكن فيه شيء ممّا أحب. خفف أشقائي عنّي عناءً يلوي الحديد، وآزرتني زيارات الإخوة.

لم أطِقْ أن تستمر حالي هكذا. فاقتضى التكتيك الآن بتحطيم حواجز الاستسلام وتخطي هدف المشي!.

وركبت قطار التصبر إلى أن أقترب من المحطة التالية..
 
 
 
 
137

129

حربٌ مع الجراح

 1


كانت الممرضة التي تعتني بنا ليلًا ونهارًا سيدة حنونة من "سردرود" في تبريز. أحيانًا كانت تُكلّمني بالتركية، وتُبدّل ضمّاداتي برفق ولين مراعاةً لحالتي. ذلك اليوم، عَلِمَتْ بأنّني اتصلتُ بعائلتي، غادَرَتْ عصرًا كعادتها وحلّ مكانها في اليوم التالي ممرّضة أخرى، لم أكن على معرفة سابقة بها. وبينما كانت تبدل ضماداتي، فُتح الباب، وفوجئتُ بخالي وخلفه أخي عبد الله وأمي وخالتي، قد دخلوا الغرفة ونحيب أمي يرافقهم، ما أغضب الممرّضة، فما كان منها إلا أن أخرجتهم ولم تسمح لهم بالدخول إلا بعد إنهاء عملها.

تململتْ روحي على السرير، ولم يُفلح شيء حينها في إزالة سحابات الأسى عن قلبي، أو تهدئة روعي سوى النظر إلى صفحة وجه أمي. كانت أمي تجهش بالبكاء، وتلطم بيديها. جهدت كي أهدّئ من روعها. حاولت لملمة كلمات قد هزلت مخارج حروفها على إيقاع أوتار حنجرة صدئة، فخذلتني وفرّت مع ذرّات الهواء. هالني نحيبهم وهم يتفرّسون في هيئتي وقيافتي وجسدي المثخن بالجراح. منذ مدة لم ألقِ نظرة على ملامحي في المرآة! ترى كيف غدوت بعد كل هذه الأيام والمحن؟

بقي أهلي وأقاربي يومين في مشهد. أمضوا جلّ أوقاتهم بالتناوب على المكوث قربي، إلا أنّ شبح تلك الحادثة المؤلمة بقي مخيّمًا على جوّ منزلنا في تبريز، فاضطرّوا إلى العودة. لم يطلعني الأطبّاء أو الممرّضون على تفاصيل حالتي، وبالتالي لم أشعر بضرورة وجود أخي قربي في المستشفى. كان وداعهم لي كأنهم عثروا عليّ للتوّ، غادروا بدموع غزيرة
 
 
 
 
 
138

130

حربٌ مع الجراح

 وقبلات نديّة على خدّي ودعاء أمي وخالتي بالشفاء، ونظراتهم الحانية استقرّت في صميم وجداني.


مضت أيام من دون أن يطرأ أي تحسّن على حالتي، لم أدرك ما ألمَّ بي، وقد فقدتُ القدرة على التركيز منذ إصابتي. كنت أتعرّض كلّ يوم لنوبات إغماء، وبقيت على هذه الحال أيامًا وأيامًا. في بعض الأحيان، كانت الممرّضة تبدّل الضمّادات وأنا في عالم آخر. خمسة عشر يومًا، تأرجحت روحي خلالها على حبال الوعي واللاوعي، إلى أن قرّر الأطبّاء إجراء عمليّة جراحيّة أخرى.

بعد خروجي من غرفة العمليّات وضعوني في غرفة تضم سبعة أسرّة، وخلال هذه الأيام لفت انتباهي أنّهم كانوا ينقلون الجرحى إلى غرفة العمليات صباحًا ويرجعونهم عصرًا وكنت أتوجّس خيفة ممّا أرى. وكلّ من يشكو منهم من طرف في جسمه ويتأوّه بشدّة ويصرخ من الألم، كان يؤخذ إلى غرفة العمليات كي يشخّص الأطباء سبب وجعه.

أحدُ الجرحى شابٌّ من محافظة "كرمان"، كان في "فيلق ثار الله"، وقد أصيب في قدمه، ولشدّة أنينه وصراخه نقلوه إلى غرفة العمليات، وفقد القدرة على المشي مطلقًا إلى أن خمدتْ أصداءُ نحيبه وتأوّهاته. وخُتم له بالشهادة.

رقد جريح آخر بجانبي في الغرفة، يبدو أنّه داس على لغم أرضي وحالته حرجة للغاية. لم تمضِ أيامٌ حتى سمعنا بنبأ شهادته.

أحد الجرحى أيضًا، أصيبَ إصابةً بليغة في رئتيه ومعدته وأمعائه، خرج لتوّه من غرفة العمليات وهو ينادي "الماء الماء". لم يدر والده
 
 
 
139

131

حربٌ مع الجراح

 الذي كان إلى جانبه، أنّ ابنه في وضعية1NPO، وكي يروي ظمأه أعدّ له الشاي عوضًا عن الماء. بعد ساعات، وبسبب جراحه البليغة، فاضت روحه إلى السماء.


نعم، لقد استشهد أربعة جرحى من سبعة كانوا في الغرفة. كانت أوضاع الجرحى فيها تتفاقم، ومصيرنا بات في مصيدة القدر المجهول، وكي لا يأخذوني مثل بقية الجرحى، كلَّ يومٍ إلى غرفة العمليات، فضّلتُ الصبر وتحمّل الأوجاع بصمت.

في أحد الأيام شعرتُ بإحساس مختلف، فقد اكتسح البرد كلّ عروقي، لم أستطع التفوّه حتى بكلمة واحدة، حاولتُ جاهدًا فتح فمي فلم أُفلح، والشيء الوحيد الذي كنت أسمعه في الغرفة صوتُ جريح من المجاهدين العراقيين. هرع الممرّضون إلى الغرفة بعد سماعهم صوته، ولما رأوني على تلك الحال، أحضروا كيسين من الدم وحقنوا بهما كلتا يدي. حضر الأطباء، وفهموا من لون عيني أن لا دماء في عروقي، لذا عملوا على تنظيم تدفّق الدم ليصل بسرعة إلى شراييني، وذلك عبر شق قدمي وإدخال الأنبوب في شرياني. بعد حقني بعدة أكياس من الدم شعرتُ بالتحسن. في عصر ذلك اليوم، اتصلتْ بي عائلتي، في البداية لم تسمحْ لي شهامتي أن أطلب من أحدهم المجيء والبقاء قربي في المستشفى، وأنا أصلًا لم أرغب في إيجاد همٍّ جديد لهم. لكن بعد الحادثة الأخيرة (الإغماء) طلبت من أمي إرسال أحد إخوتي للبقاء قربي بضعة أيام.

1- إجراءٌ يمنع المريض من خلاله تناول الغذاء عن طريق الفم. 
 
 
 
140

132

حربٌ مع الجراح

 في اليوم التالي، حضرتْ أمي ومعها أخي. آنسني وجودُهما قربي، بيد أنّ أخي "حسن" جاء في اليوم التالي واصطحب معه أمي إلى تبريز، وبقي أخي "حمد الله" إلى جانبي.


*

بعد قدوم أخي "حمد الله" وبقائه قربي طرأت على حالتي تغيّرات لافتة، بينما سلب الإرهاق الذي سبّبته له النوم من عينيه. كان يفترش الأرض ببطّانية عند سريري لينام، وقد وضع بجانبي عصا، فإذا احتجته في أمر ما، كنت أوكزه بها فيلبّي النداء.

طوال تلك المدة التي كنت أقتات فيها عن طريق المصل، لم يكن بمقدوري التغوّط. لقد تحمّل أخي "حمد الله" عبء ذلك كلّه، فكان يحضر لي وعاءً خاصًا للتبوّل، ويبقى قربي حتى أثناء تبديل الضمادة، وكان في معظم الأوقات يتشاجر مع بعض الممرّضين بسبب أدائهم غير المحترف. أحيانًا كان بعض الناس الذين يأتون لعيادة جرحى الحرب يتحدّثون ويعطون الوصفات والنصائح. كان أخي "حمد الله" يصغي إليهم ويعمل على تطبيق وصفاتهم. نصحه بعضهم بتدليك قدمي بزيت الزيتون لأتمكّن من طيّها. فحتى ذلك اليوم لم أستطع تحريك أيّ عضو من جسدي سوى يدي اليسرى. عندما نظرت إلى ذراعي تذوي وهي مثخنةٌ بالجراح أدركتُ أنّي أزداد نحولًا، وراودني شعور أنّ الجراح تطفو على كلّ جسدي. لم أقوَ على رفع رأسي أو يدي اليمنى، وقدمي اليسرى أصلًا لم تكن تتحرّك، لم أستطع تحريك سوى أصابع قدمي اليمنى فقط. لهذا السبب زارنا مرارًا أطباء متخصّصون بالعظام والمفاصل.
 
 
 
 
141

133

حربٌ مع الجراح

 غرز اختصاصي الأعصاب إبرة في كلتا قدمي، لم أشعر سوى بوخزة قدمي اليمنى. دوّن بعض المعلومات في ملفّي الطبي وغادر الغرفة.


كان ملفّي الطبّي يتضخّم مع كلّ فحص طبي جديد. لم أبح بمكنونات قلبي لأحد. في الحقيقة عصفت بذاكرتي الجبهة وأحوالها. وكثيرًا ما كنت أرى الإخوة في منامي لا سيما "حسن كربلائي"، "أحد مقيمي"، و"رضا داروبيان". سألني "حسن كربلائي": "هل تستطيع تحريك الزعانف؟"، قلت له: "أعطني لأجرب". أخذتها وحركتها وسبحت خلفهم، ارتدينا نحن الأربعة بدلات الغوص وغُصنا.

لم أكن أعرف شيئًا عن الشهداء والجرحى وبقيّة الشباب. كنت أرى أحلامًا أتذكّرها دائمًا، أحلامًا جميلة عذبة كانت تسهّل عليّ تحمّل آلام وهموم تلك الأيام الصعبة، ففي إحدى الليالي، رأيت "أحد مقيمي" في المنام يقول لي: "مهدي، يقول الإخوة إنّك أنت أيضًا استشهدت، لكن أين أنت؟" أجبته: "لا يا أحد أنت الذي استشهدت، وليس أنا!".

عندما انتبهت من نومي هجستُ بهذا الحلم مدة طويلة، فـ"أحد" كان لا يزال على قيد الحياة لحين إصابتي، وكأنّ الإخوة لما رأوا إصابتي اعتقدوا أنّ حياتي قد انتهت، كما إنّ "يوسف صارمي" عندما رآني في مطار مشهد أخبر الإخوة في الجبهة أنّ إصابتي لن تُبقيني على قيد الحياة، وهكذا انتشرت شائعة شهادتي على ألسن الإخوة. في المنام حدّثني "أحد" عن شهادتي وأنا بدوري أخبرته عن رحيله، لم أكن أدري أنّ "أحد مقيمي"، "حسن كربلائي"، "مصطفى بيشقدم" و"بالا بور" قد استشهدوا والتحقوا بقافلة الأصحاب.

*
 
 
 
 
 
142

134

حربٌ مع الجراح

 بينما أنا على تلك الحال، اشتغل أخي بزيت الزيتون، وراح كلّ يوم يمسّد قدميّ به عدّة مرّات. استجابت قدماي بعض الشيء، وفرحنا برؤية قدمي تتحرّك إلا أنّني لم أستطع التحكّم بقدمي اليسرى بشكل كامل. كنت أثني قدمي اليمنى بمفردي بينما يقوم أخي "حمد الله" بثني قدمي اليسرى بيده.


إضافةً إلى تدليك قدمي بزيت الزيتون، كان يضع وسادة صغيرة تحت رأسي، وصار بإمكاني كلّ يوم رفع رأسي بضعة سنتيمترات زيادة عن اليوم السابق، أخذ نطاق رؤيتي يتّسع يومًا بعد يوم وتحسّست طعم الانتصار. بعد ذلك صار بإمكاني تحريك رأسي إلى الجهتين، ومع مرور الوقت استطاعوا رفع مستوى السرير من جهة رأسي، وهكذا ولأول مرة استطعت رؤية ضمادتي. عندما شاهدت ضمّادة بطني لأول مرة لفت انتباهي شيء كالفطر يظهر منها:
- أهذه أمعائي؟!

- إنها "كولوستومي"1

لم أسمع بهذا الاسم من قبل، وأيضًا لفتني شيء آخر وهو جرح خاصرتي، رأيت الممرّضة تمسك بالمقرض لتعقّم الجرح. أحسست بفكّي المقرض يسبران غور جرحي فأدركت مدى عمقه وكان عليّ التأقلم معه وقتًا طويلًا.
 

في كلّ عمليّة تعقيم كانت الممرضة تحضر ثلاثة أكياس مصل
 

1- وهي عملية يتم فيها قطع الأمعاء الغليظة ووصلها بكيس خاص للتغوّط.
 
 
 
 
143

 


135

حربٌ مع الجراح

 تثقبها، ومن ثم تضغط عليها فيندفع محتواها إلى أحشائي. رغم كلّ هذه المحاولات الحثيثة إلا أنّ رائحة الالتهابات ما كانت لتزول لأكثر من ساعتين، لذا أوصى الأطباء بتعقيم جروحي خمس مرات يوميًّا. لم يستطع الأطباء خياطة الجرح بسبب عمقه، فإغلاقه سيؤدي إلى زيادة الالتهابات وبقائها في الداخل.


عندما سألت عن الكولوستومي أُخبرت أنّه بسبب إصابة الأمعاء بشظيّة اضطرّ الأطباء إلى قطع 30 سم من أمعائي الدقيقة. بعدما رأيت تلك المشاهد الفظيعة في معدتي وصدري وخاصرتي، أدركت أنّ حربًا جديدة قد بدأت مع الجراح.

*

منذ المراحل الأولى لإصابتي، أشرف على علاجي بروفسور، صاحب رتبة علميّة عالية، وعلاقتي به كانت للحظات محدودة، فقد كان يأتي لمعاينة جراحي وحسب. كان يرفع الضمّادات بمقراض، ينظر إليها ويذهب، وطوال تلك المدة لم يلمسني قط، ولم نتبادل الكلام أو السلام. في أحد الأيام دخل الغرفة، رفع الضمادة بفكّي المقراض، وسألني:
- أتشعر بخروج الريح من أمعائك؟

- نعم.

- إذًا، يحتمل أن تكون الأمعاء قد التأمت. من اليوم فصاعدًا يمكنك تناول ملعقتين من السوائل فقط.

تفوّه بهذه الكلمات وانصرف. ولَكَم فرحنا بهذا الإنجاز!! إلى ذاك
 
 
 
 
 
144

136

حربٌ مع الجراح

 اليوم، لم يكن قد دخل جوفي شيء حتى قطرة الماء، كنت أتقوّت بواسطة المصل فقط، والآن ولأوّل مرة شربت مقدار ملعقة من عصير الكرز الحامض. كان أطيب وألذّ عصير ٍشربته في حياتي! ازدادت حصّتي من السوائل، في اليوم التالي حصلتُ على مقدار ملعقتين من عصير الكرز، وفي اليوم الثالث شربت نوعًا آخر من العصير.. بعد مدّة وجيزة سُمح لي بتناول الحساء: ملعقتان في اليوم، ثم تزايد المقدار يومًا بعد يوم.


منذ اليوم الأوّل الّذي سمحوا لي فيه بتناول العصير، اشتهيت فاكهة "الطالبي"1، صحيح أنه فصل الشتاء، لكنني اشتهيتها بشدّة فقلت لأخي:
- هل يمكنك أن تحضر لي "الطالبي"؟

رمقني بنظرة متفهّمة، وخرج منذ الصباح يبحث عن هذه الفاكهة. عاد عصرًا متعبًا بخُفّي حنين.

- غدًا سأعاود البحث.

في صبيحة اليوم التالي خرج إلى السوق باحثًا عن "الطالبي". كنت أرقب عودته بعينين شاخصتين نحو الباب. عندما دخل الغرفة حاملًا اثنتين منها غمر السرور صميم قلبي. قطّع واحدة منها إلى قطعات صغيرة، وقرّب قطعة من فمي فتلقّفتها ومضغتها بتأنٍّ شديد.

الأمر الثاني الذي شعرت بميل شديد إليه هو العودة إلى تبريز،
 

1- نوع من الفاكهة المشهورة في إيران تشبه الشمام اللبناني في اللون والشكل لكنّه يختلف في الطعم يُقال له "طالبي" بالفارسيّة، يُباع عصيرًا في مختلف محال العصير.
 
 
 
145

137

حربٌ مع الجراح

 وتحيّنت الفرص لطلب ذلك. وكنت أستفيد من أي مناسبة لأقول: "افعل شيئًا ما لنعود إلى مدينتنا".


اتصل أخي بعائلتي في "تبريز" وأخبرهم عن رغبتي الشديدة بالعودة، وهم بدورهم اتصلوا بمسؤول مؤسسة الجرحى في المحافظة، فأخبرهم أنّه كتب رسالة تتضمّن هذا الطلب، وأرسلها إلى المعنيّين ليتم نقلي.

بعد عمليّة "كربلاء 5"، انقلبت الأمور لمصلحتنا، فعمد العدو إلى صبّ حمم نيرانه على المدن ليل نهار، ولهذا السبب كانوا يرسلون الجرحى إلى مناطق آمنة مثل مشهد، فكان عدد الجرحى في هذه المدينة كبيرًا جدًّا.

حينها كان الناس يأتون لعيادة جرحى الحرب بعد ظهر كلّ يوم، وبالتدريج بدأ حزني يظهر بأشكال مختلفة. اعتدتُ عصر كلّ يوم على حضور امرأة بين الزائرين، كثيرًا ما ذكّرتني بوالدتي، فكانت تجلب معها أشياء للجرحى الذين أحبّوها كثيرًا لا من أجل هداياها، بل لأجل عاطفتها الجياشة تجاهنا. أُخبرنا أنّها أم لثلاثة شهداء، وكان الجميع يناديها "أمي". كانت هذه الأم تدخل غرف الجرحى برفقة جمع آخر من الأمهات ويتطوّعن للعمل فيها.

أحيانًا، يكون دوام (مناوبة) بعض الممرّضات اللواتي يعارضن النظام والحرب ويؤدّين أعمالهنّ من غير رغبة، فعند تبديل الأغطية وشراشف الأسرّة كنّ يبدين انزعاجًا جليًّا، وإذا ما صادف حينها حضور تلك السيدة "الأم"، كانت تتشاجر معهنّ فتنتزع الشراشف من أياديهنّ، وتضع التشادور على كتفيها وتشمّر عن ساعديها وتنظفها بنفسها.
 
 
 
 
146

138

حربٌ مع الجراح

 كان المستشفى كأيّ مكان عام آخر، يوجد فيه أفراد مختلفو الآراء والتوجّهات. فبعض الممرضين كانوا يخدموننا بتفانٍ وإخلاص، وبعضهم الآخر كان يؤدّي عمله مكرهًا وبلا رويّة.


تناوب على تبديل الضمادة ممرّض وممرّضة. كان الممرّض نازحًا من خرمشهر، كان يأتي ليلًا ويعمل من دون كلل أو ملل، لم يهدأ لحظة واحدة. في المقابل، كانت الممرضة تأتي صباحًا، وعندما تشرع بتبديل الضمادة كانت تبدو متنفّرة وكأنّها تمسك بشيء نجس! كنت أشعر بوجع في قلبي أكثر من وجع جروحي. في تلك الأيام، تسلّم طبيب آخر متابعة وضعي بدلًا من البروفسور الذي ما عدت أراه.

منذ اللقاء الأول بالطبيب الجديد، الذي كان شابًا رشيدًا، أدركت الفرق بينه وبين البروفسور، كالفرق ما بين الأرض والسماء. لقد منحني سعيه الصادق قوّة لتتحسّن حالي ومعنويّة في روحي. كان جرّاحًا ومتخصّصًا، لم أعرف اسمه لكن كلامه كان يدخل البهجة إلى قلبي. لم يبارحني، وكان يدفعني إلى الحديث حتى في الأوقات الصعبة، ويحدّثني ويطمئنّ إليّ إلى أن تحسّنت حالي. بعد مدّة وبعد أن وثقت بصداقته، أصررت عليه ليسهّل خروجي من المستشفى. كم كنت ألحّ على أخي ليل نهار كي يرتّب مسألة خروجي من المستشفى، وأسأله دائمًا:
- متى سنرجع؟

لقد وصل بي الأمر إلى سؤال رئيس القسم عن موضوع خروجي!! نعم، لقد عِيْلَ صبري وسئمت تحمّل ذاك الوضع، لأي سبب أو ذريعة،
 
 
 
 
 
147

139

حربٌ مع الجراح

 إذ كنت مصدر إزعاج لأخي فهو لم يَذُق طعم النوم الهنيء طوال 25 يومًا، ورحت أدعو الله لتيسير عودتي إلى تبريز.


جاء طبيبي يومًا، أخذ السبحة من يدي، وضعها في معصمه ونزع خاتمي من إصبعي ووضعه في إصبعه ومن ثم نادى الممرضين: "خذوه".

أخرجوني من الغرفة وأدخلوني غرفة العمليات وبسرعة غبت عن الوعي.

عندما أفقت وجدت نفسي في حجرتي على سريري خلف النافذة، أحسست بشيء مشدود في بطني. سألت "حمد الله":
- ماذا فعلوا بي؟

- لقد خاطوا جرح بطنك ووسّعوا جرح خاصرتك بعض الشيء ليسيطروا على الالتهابات المترشّحة منها.

بعد هذه العملية لم أعد أرى شيئًا من أعضائي وأحشائي من خلال الجرح، بينما "الكولوستومي" والالتهابات بقيت على حالها.

في تلك الأيام وبسبب شدة إفرازات جرحي الملتهب كانوا يبدّلون الأغطية ثلاث مرات في اليوم. ورغم سماكة الضمادة التي وضعوها على جرح خاصرتي إلا أنّ الإفرازات كانت تنضح منها وتصل إلى غطاء السرير.

في تلك الأثناء، أحضروا طبيبًا آخر لاستشارته في موضوع قدمي اليسرى إلا أنّه اكتفى بالقول إنّ علاج قدمي يبدأ بعد أن تُشفى جروحي بالكامل. ولكن متى أتعافى بشكل كامل؟
سؤال بقي جوابه متأرجحًا بين الظن والتخمين!

*
 
 
 
 
148

140

حربٌ مع الجراح

 في إحدى الليالي رأيت في منامي "رضا داروبيان" يقول لي: "هيا انهض علينا الغطس في مهمّة استطلاع!".


ومرة ثانية هيّجت الجبهة وعمليات الاستطلاع وجموع الطيبين أشجاني. حلمت بالعودة إلى الجبهة، والمشاركة في عمليات الاستطلاع والتدريبات والعمليات، رؤيا، كانت كلّ آمالي في تلك الأيام.

كان شهر شباط، وغصة شوقي إلى الديار تثقل صدري يومًا بعد يوم، غصة لم تخفَ على الطبيب.

أخيرًا وبعد مساعي أخي وتعاون الطبيب معنا تمّت الموافقة على خروجي من مستشفى الإمام الرضا عليه السلام والانتقال إلى مستشفى "الإمام الخميني" في "تبريز".

دخل أخي الأكبر "عبد الله" الغرفة مسرعًا حاملًا بيده إذن الخروج، وبعد جهود حثيثة، ودّعتُ كلّ شيء، ودّعت غرفتي والغرف المجاورة وكذلك الأروقة والممرات.

وضعوني على نقالة وأخرجوني. وبعد 40 يومًا لامست مسامات جلدي نفحات الحرية وانتشى شميمي بعطر شذاها. كانت اللحظات التي مرّت عليّ، في الهواء الطلق، بين الدرج وسيارة الإسعاف التي تنتظرني، من أطيب لحظات وجودي في ذلك المستشفى.

قطعت سيارة الإسعاف طريقًا طويلًا إلى أن وصلنا إلى المطار، ومن هناك إلى تبريز بالطائرة.

ما إن أقلعت الطائرة حتى بدأ جرحي ينزف ويسيل من بطني! وضعتُ يدي على ضمادة بطني ونظرت إليها فإذا بالدماء لطّخت راحة
 
 
 
 
 
149

141

حربٌ مع الجراح

 يدي. عندها، فهمت أنّ سبب النزف ناتج عن اهتزازات سيارة الإسعاف والطائرة.


لم يكن أحد بجانبي، كان أخواي ينظران إليّ كلّ من على مقعده. عندما نظرا إليّ رفعت بيدي الملطّخة بالدماء، أسرعا نحوي وناديا طاقم الطائرة. تجمّع الناس حولي ولكن لا أحد بينهم يستطيع المساعدة. نادوا بمكبر صوت الطائرة وسألوا عن وجود طبيب بين المسافرين.

كدت أفقد وعيي حين شاهدت أحدهم قد التحق بالجمع حولي حاملًا حقيبة سوداء، فإذا بها أدوات إسعاف طبيّة، كما جاؤوا إليه بما وُجد في الطائرة من أدوات. التفتّ إليه لأرى ما يصنع فإذا به يضمّد مكانًا آخر في بطني لا جرح فيه! كان جرحي في الوسط وبقيت الدماء تنزف منه وتسيل إلى الجهة اليسرى من تحت الضماد واللصقات. وكان الطبيب قد ضمّد المكان الآخر في بطني بما لديه من أدوات وضمادات من دون أن يتوقف النزف. لحسن الحظ، بعد وقت قصير حطّت الطائرة في طهران، وموعد طائرة تبريز بعد ساعة. تمّ نقلي إلى مركز طوارئ مخصّص للجرحى في المطار.

حضر الطبيب بسرعة، نحّى الغطاء جانبًا، لا أدري ما الذي رآه حتى نادى: "إلى أين تذهبون به؟ لا يمكن أخذه إلى تبريز". دبّ الرعب في قلبي وأصبحت كمن "هرب من تحت الدلفة فوقف تحت المزراب"! وأي مزراب!! (مستشفى) طهران!!

قلت للطبيب: "من بعد إذنك أنا بحالة جيدة".

- كلا، عليك البقاء هنا في المستشفى.
 
 
 
 
150

142

حربٌ مع الجراح

 بعد ذلك توجّه بكلامه إلى أخوي، علمت أنه أُسقط في يدي وهما لا يستطيعان فعل شيء، لكن ما كان منهما إلا أن وضعاني داخل سيارة الإسعاف والدموع تنهمر من عيونهما. انطلقت سيارة الإسعاف باتجاه المستشفى، لم أسأل عمّا حدث إلا أنني اعتقدت أنّ الطبيب قد أبلغهما بأمر فظنّا أني سأموت في الحال.


*

وصلنا إلى مستشفى "جم" شمالي طهران وقد سيطر الضعف والاستسلام عليّ وأوهنني النزيف. ما هي إلا دقائق حتى أخرجوني من سيارة الإسعاف، ولكن أبلغنا أن المستشفى لا يستقبل جرحى الحرب! أخبرهم أحد مندوبي مؤسسة الجرحى الذي رافقنا، أنّه يتعيّن عليهم استقبال أربعة جرحى، وأنه يحق لهم إدخال جريح آخر غير الجريحين الموجودين سابقًا لكنهم رفضوا استقبالنا. كان جرحي لا يزال ينزف، وقد فهمت منذ البداية أجواء هذا المستشفى!

في نهاية المطاف، نقلوني إلى غرفة أشبه بغرفة استقبال! يفتح باب الغرفة على ممرّ فيه دورة مياه. في زاويتيّ الغرفة سريران، وفي وسطها وُزّعت عدّة مقاعد (كنبات) تتوسّطها طاولة وفي الجهة المقابلة حائط فيه خزانة مزخرفة لعرض التحف.

كنت أوّل جريح يرد هذه الحجرة، مضت عدة ساعات من دون أن يأتي أي طبيب أو ممرّضة لرؤيتي. أخيرًا، جاءت إحدى الممرّضات، عندما رأيتها تعجّبت كثيرًا وكأنّ الثورة لم تمرّ من هنا! كانت شبه سافرة وتعاملها أسوأ بعشرات الأضعاف من تلك التي كانت في مشهد.
 
 
 
151

143

حربٌ مع الجراح

 ألقت عليّ نظرة وغادرت، قلت لها: "أختاه عذرًا، هل يمكنك تبديل غطاء السرير؟".


حدجتني بنظرة غاضبة وكأنّي أهنتها من دون أن أدري، وأجابت بانفعال:
- لا تناديني أختاه، قل سيدة!

- أمرك يا سيدة!

كان غطاء السرير مبلّلًا بالدماء، لقد كان تقبّل منطق وأفكار هذه المرأة والكثير من أمثالها في المستشفى صعبًا عليّ. كيف لهنّ أن يرتدين لباس التمريض ويظهرن بمظاهر ملائكة الرحمة ويعبرن من أمام متهالك قد يقضي عليه النزيف في أي لحظة، من دون أن يحرّكن ساكنًا؟!

لحسن حظّهن أنّ الجبهة قد علّمتني التجاوز عن تحقيرهنّ لي هونًا، وأن أردّ على خطابهنّ الجاهل بالسلام. كانت كل حركاتهن وتعاملهن مع جرحى الجبهة ممزوجة بالاستخفاف واللامبالاة، وكنّ ينتظرن أوّل فرصة ليسجّلن على ملفه أنّه تعافى ويمكنه الخروج من المستشفى.

لم تَلفحْ نسائمُ الحنان والرفق جدران هذا المستشفى قطّ، إلا أنه يظهر من الناحية المادية أنّه راقٍ جدًّا. فوجبة الطعام في مستشفى مشهد كانت في أغلب الأيام عبارة عن حساء الآش1، مع طعام بسيط، بينما هنا في هذا المستشفى كانت وجبات الطعام غنيّة بالدجاج واللحم المطهو!!
 

1- آش: حساء إيراني، خليط من حبوب الفاصوليا الصغيرة الحمراء مع أنواع من النباتات الورقية ودقائق الشعيرية.
 
 
 
152

144

حربٌ مع الجراح

 في مشهد كان الحزب اللهيّون وعامة الناس يتدافعون إلى المستشفى خلال فترة ما بعد الظهر للاطمئنان إلى الجرحى وعيادتهم، أما هنا فالعيادة محدودة ومضبوطة جدًّا، وخلال المدة التي قضيتها هنا لم يسألني أحد عن حالتي برأفة وعطف!


اقتصر كلامي هنا على الإجابة عن أسئلة الأطباء والممرضين المقتضبة ولم يكن لديّ أي حديث آخر أو طلب، أما أخواي فكانا مثلي ينتظران العودة إلى تبريز.

طوال فترة وجودي في مستشفى مشهد، عرف أخي "حمد الله" كل طلباتي وحاجاتي وقام بخدمتي على الدوام، ففي الأيام الأخيرة هناك سمحوا لي بتناول الأطعمة، أما التغوط فكان يُدفع عبر "الكولوستومي"، وتبديل كيسه كان بمساعدة أخي. كانت تلك اللحظات صعبة جدًّا عليّ وتوازي كل معاناتي مع الجروح والالتهابات والشظايا التي فتكت بجسدي، فحركة أمعائي واضطراباتها والأصوات التي تصدرها كانت خارج السيطرة، فسماحة أخي ومروءته في تبديل كيس "الكولوستومي" كانت تبعث لديّ الراحة والطمأنينة.

في اليوم التالي، أحضروا إلى حجرتي جريحًا آخر، كان جسده مشظّى بالكامل، والمنطقة الوحيدة السالمة في جسده كانت خلف أذنه! لا أدري كيف أصيب بهذه الجروح الشديدة! عندما سألته أجاب ببساطة: "كنت في فرقة..، أرسلوني إلى كتيبة الغوص، كانوا يدرّبوننا، وكنت غير مبالٍ فأتنصّل من التدريبات وأتمشّى حول المقرّ، فوجدت قذيفة عبثت بها إلا أنها لم تنفجر، ذهبت إلى أعلى الساتر الترابي. وضعت
 
 
 
 
153

145

حربٌ مع الجراح

 القذيفة وطرقت عليها، وعندما انفجرت حلّ بي ما تراه!" مع مجيء هذا الشخص، اعتقدت أنّ الله تعالى منّ عليّ مرّة ثانية وأعطاني القدرة للتعرّف إلى أطياف الناس وتوجّهاتهم وأحصل على معرفة أعمق للطريق الذي اخترته.


كلّ الذين كانوا هناك (مستشفى جم) كانوا بعيدين عن الحرب وعن الثورة والإمام والشهداء. كنّا في جبهتين فكريّتين مختلفتين، في تلك اللحظات كان يمكن تلمّس صفاء وطهارة جبهة الإسلام مقابل الفهم السطحي والمعوجّ لما يسمّونه الحرب.

مضت خمسة أيام وفي كل يوم كنت أزداد ضجرًا وأصبح أقل قدرة على التحمّل. في أحد الأيام قام "عبد الله وحمد الله" بغسل رأسي. لقد كانت المرة الأولى التي أبلّل فيها شعري بالماء منذ إصابتي.

في مستشفى جم، تمّ تنظيف شعري من غبار الجبهة وترابها! فقد وضع أخواي طشتًا تحت رأسي وعند الامتلاء كانا يفرغانه ومن ثم يكملان الغسل حتى أصبح نظيفًا بالكامل، قاما أيضًا بغسل وجهي وشعري حتى غدوت نظيفًا وأنيقًا وأحسست براحة كبيرة.

خطرت في ذهني تلك الأيام التي أمضيتها تحت الماء، حينها لم أكن أخرج منها إلا للنوم وأداء الصلاة، ورحت أقارن تلك الأيام مع الخمسين يومًا هذه، كنت تمامًا مثل سمكة أُخرجتْ من الماء. خلال هذه المدّة، نقص وزني 30 كلغ وصرتُ عظامًا وعروقًا مكسوّة بالجلد، لم يتوقّف الالتهاب كذلك الألم والحمّى، فقدت الأمل من تعافي قدمي اليسرى، إذ لم تستجب في أي من الظروف، ولم أقوَ على طيّها ومدّها وكنت
 
 
 
154

146

حربٌ مع الجراح

 أتيمّم للصلاة كما في مستشفى الإمام الرضا عليه السلام في مشهد. لم تفلت مني لحظات سماع الأذان عدا تلك الأوقات التي كنت فيها أفقد وعيي، حيث كنت أدعو عندها للإخوة والمجاهدين وأدعو للعودة.


في اليوم الخامس استجيبت دعوتي. جاء الطبيب الذي أشرف على علاجي طوال هذه المدة بتردّد وتوجّسٍ، وخاطب الممرضة من دون أن يلتفت إليّ: "أخرجوه.. هذا لا يشكو من شيء!".

استلم أخي إذن الخروج من المستشفى، فاضت عيناي بدموع الفرح، ودّعت الجريح الراقد بقربي في الحجرة نفسها، وأخرجوني في سيارة الإسعاف إلى المطار ومن ثم إلى الطائرة.
*
فرحت كثيرًا. بطبيعة الحال لم يكن فرحي بلا سبب. عندما هبطت الطائرة في "تبريز" كنت أعرف كلّ الأشخاص الذين جاؤوا لنقلي، نظروا إليّ بدهشة فأنا لا أشبه مهدي الذي كان قبل شهرين، فخلال مدة 17 يومًا تعرضت مرتين للإصابة وما زالت رصاصة عمليات (كربلاء4) وشظايا (كربلاء5) في كتفي وصدري وخاصرتي وفقرات ظهري. أما الذين كانوا يعرفونني من قبل فقد رمقوني اليوم بنظرات مختلفة!!

توجهت سيارة الإسعاف إلى مستشفى "الإمام الخميني" مباشرة. بقيتُ حوالي الساعتين في قسم الطوارئ من دون أن يأتي أحد لرؤيتي، كانوا يقولون لي: "لقد طلبنا الطبيب الفلاني، كان من المقرّر أن يأتي الطبيب الفلاني..".

جاء الطبيب أخيرًا، واطّلع على ملفّي الضخم. مشى بضع خطوات
 
 
 
 
155

147

حربٌ مع الجراح

 وأطرق مفكّرًا ثم قال: "لقد قاموا حتى الآن بما يجب، ومراعاةً لحالتك هذه، فأنت لن تلقى الاهتمام والعلاج الجيّد، لذا أفضّل أن تذهب إلى المنزل.."، ولم أسمع بقيّة كلامه.


لقد حقّق الله أمنياتي التي طلبتها خلال تلك المدة.

2

انطلقت سيارة الإسعاف باتّجاه حيّنا في شارع: "الشهيد مفتح"، حي "شربت زاده". كان كل شيء يسير بوتيرة متسارعة حتى إنّ الفرصة لم تسنح لأخي كي يخبر أهلي.

عندما رأى الجيران وإخوة المسجد سيارة الإسعاف مشوا خلفها ولدى وصولنا، فُتح الباب وأنزلوني على النقالة على بركة الصلاة على محمد وآل محمد.

لم تصدّق أمي عودتي ولم يكن المنزل مهيّأ لاستقبالي، إلا أنّهم أحضروا سريرًا بسرعة ووضعوه في غرفة في الطابق الثاني. تمدّدت على الفراش وتحت اللحاف اللذين خاطتهما لي أمي فشعرت بالأمان والهدوء يملآن وجودي. لم يخلُ منزلنا من وفود الزائرين فكانت تأتي وفود وتذهب أخرى، وقد بعثت فيّ الأنس وعوّضت وحدتي التي أمضيتها في المستشفى في تلك الأيام. كان الأقارب والجيران وأصدقاء المسجد والجبهة يزورونني بانتظام. شيئًا فشيئًا صرت أسمع أخبار رحيل الإخوة، خبر استشهاد الأصدقاء في عمليات (كربلاء 5)، لقد استشهد "أحد مقيمي" حقًّا، استراح "مصطفى بيشقدم" أيضًا، وكذلك "إبراهيم أصغري، يوسف حقايي، مهدي علي أكبري، حسن كربلائي، بالا بور،
 
 
 
 
156

148

حربٌ مع الجراح

 وناصر يوسفي"، كلهم صاروا في عداد الشهداء، غبطتهم على ما وصلوا إليه وبكيت لذكراهم.


*

أصبحت والدتي هي ممرّضتي، تدرّبت سريعًا على تبديل كيس الـ"كولوستومي". ومنذ ذلك اليوم لم تسمح لأحد بفعل أي شيء لي. وبدأت الالتهابات في خاصرتي تزداد أكثر فأكثر، حيث بلل سائل كريه الرائحة أصفر اللون كان ينزف من جروحي الفراش واللحاف، أعدّت لي أمي فراشًا كفراش الأطفال غلّفته بالنايلون ووضعته تحت خاصرتي كي لا يبلل من إفرازات الالتهابات.

كنت أنام ليلًا وعند الصباح يكون فراشي قد تبلّل، وكنت أشعر أنّ قدمَيّ أيضًا قد وصلتهما الرطوبة. أمي هي أولى الوافدين صباحًا إلى غرفتي. كانت تغسل الدثار باكرًا قبل الصلاة وتضع آخر مكانه. في بعض الليالي، كان كيس "الكولوستومي" يُفتح ويسقط الغائط من الأمعاء على السرير من دون أن يشعر أحد فيتّسخ المكان بأكمله. كنت أستيقظ على رائحة كريهة فأفهم ما جرى. وبينما كانت أمي تنظّف الغائط من جسدي وتغيّر الكيس، كانت تتحفني بأحاديثها كي لا أتحسّس ممّا حدث معي فتنظّف السرير وتغسل وجهي ويديّ وتغيّر الغطاء حتى يغدو كل شيء نظيفًا كالفلّ. كانت تلك اللحظات تعذّبني وتؤرّق وجداني، لم أشعر في عمري بعذاب مثل عذاب تلك اللحظات التي كانت تمرّ عليّ عندما يُفتح كيس "الكولوستومي" ويلوّث المكان. في تلك اللحظات، كنت ألعن صدّام من كلّ قلبي وأدعو: "إلهي فليحلّ به ما حلّ بي!".
 
 
 
 
157

149

حربٌ مع الجراح

 كان برنامج والدتي الصباحي يبدأ بتنظيف السرير وتنظيفي شخصيًّا.


لم تقطّب حاجبيها قطّ حتى عندما كنت أتبرّم من رائحة الالتهابات الكريهة ورائحة الغائط، كانت تعطّر الأجواء وتفعل كلّ ما بوسعها كي لا يشعر أحد من الزائرين بأيّ شيء.

في بعض الأحيان عندما كنت ألوّث نفسي بحضور الأصدقاء، كانت أمي تلحظ ذلك فتطلب منهم الخروج من الغرفة لدقائق، وبسرعة كانت تغيّر أدثرتي وتؤنّقني، ومن ثم تتركني مع الأصدقاء من جديد. أمّا الذين كانوا يزورونني باستمرار فكانوا يعلمون كلمة السّر، فعندما تقول أمي "يا الله" كان عليهم ترك المكان لتقوم بتنظيفي ومعالجة الأمر.

*

تحسّنت حالتي المعنويّة كثيرًا بعد عودتي إلى المنزل، ولو تركتني التهابات خاصرتي وشأني لما شكوت شيئًا حتى من الناحية الجسديّة.

كانت تأتي ممرضة من قبل مؤسسة الجرحى لتضميد الجروح وتنظيم المصل والأدوية ثلاث مرات يوميًا، كما أخذوني مرتين في سيارة الإسعاف إلى المستشفى ليفحصني الطبيب، ورغم كل هذه الإجراءات لم يؤثّر أي دواء أو علاج في التخلّص من التهابات الجروح.

كان باب منزلنا مفتوحًا دومًا من الصباح حتى المساء، ويدخل الإخوة بلا استئذان، يطرقون برؤوسهم أرضًا ويصعدون مباشرة إلى الطابق العلوي، ومعظمهم كانوا من الإخوة الجرحى: "علي حاجي بابايي"، "مقصود نعلبندي"، "محمد بور نجف" و"رسول سعيدي"، وصرنا جرحى في غرفة واحدة. كان الوقت يمرّ بسرعة قرب الأصدقاء
 
 
 
 
158

150

حربٌ مع الجراح

 مع الذكريات والأخبار الجديدة. لم أشعر، مع مرور الوقت، بتغيّر ملموس، وكلّما تذكّرت كلام "قادر طهماسبي"1 أصل إلى نتيجة أنّه عليّ التفكير في نفسي وشقّ طريقٍ في هذا السكون، فـ"قادر" عاد إلى الجبهة حتى قبل تماثله للشفاء، كان يقول إنّ الإخوة الذين أصيبوا بجراح كجراحه ما زالوا على سرير المرض والكرسي المتحرّك وعندما كنّا نسأله: "كيف استطعت العودة إلى الجبهة؟" كان يجيب: "لقد أتعبت نفسي وأشغلتها كثيرًا، لم أهدأ أبدًا، وجهدت في ممارسة الرياضة والمشي، كنت أفعل كل ما يخطر على بالي من تمارين لأقف على قدمي، عندئذٍ تحسّنتْ حالي كثيرًا واستطعتُ العودة".


عندما تذكّرت كلام "قادر" قررت اغتنام الفرصة لأفعل شيئًا. خلال النهار وفي أوقات وحدتي كان قلبي ينقبض وكثيرًا ما كنت أشعر بحاجتي إلى الوحدة، كنت أطلب من الجميع النزول إلى الأسفل لأبقى وحيدًا. في تلك الساعات، إذا ما طرأ عليّ أمر ولم يسمعني أحد في الأسفل، كنت أقع في المشاكل! ذات يوم، جاء أصدقاء الجبهة لعيادتي وكان بينهم "عباس محمدي"، وأحضروا معهم علبة شوكولاتة وبوقًا. عندما كنّا صغارًا كان يأتي بائع الحليب على دراجته إلى حيّنا نافخًا ببوقه ليعلم الجميع بقدومه. حينها كنّا نسمّي البوق "بَبو" وها أنا اليوم أصبحت صاحب "بَبو". عندما تكون أمي منشغلة خلال النهار بالغسيل والتنظيف والطبخ، وما إن تسمع صوت "بَبو" تأتي إليّ. مع أنّها كانت
 

1- استشهد في عمليات بدر عام 1984م.
 
 
 
 
159

151

حربٌ مع الجراح

 تقوم بكلّ شيء بلا كلل أو ملل، ورغم ذلك كانت الغصّة تجثم على صدري.


كان شبح ذلك البلاء الذي حدّثني عنه "قادر" يخيّم عليّ. لقد كانت فكرة البقاء في الفراش لشهور وربما لسنوات شيئًا مرعبًا. لذا، اتّخذت القرار بالتغيير، وأقنعت نفسي أنّ ما سيحصل سيكون أفضل ممّا أنا عليه. أصبحت في لحظات الوحدة أحثّ نفسي على القيام والحركة وأخيرًا تحقّق القرار، ففي البداية جلستُ على طرف السرير وأسندتُ يدي للحائط وحاولت الوقوف، كان قرب السرير كرسي تجلس عليه أمي أغلب الأوقات، جعلته هدفًا لي، وببركة الصلاة على محمد وآل محمد وذكر "يا علي مدد"، نهضت وجلست عليه رغم المشقّة الكبيرة. لم أكد أتذوّق نشوة انتصار نهوضي عن السرير بعدُ حتى أحسست أني أدور في الفضاء وسقطت على الأرض، كان قد أصابني دوار. لم يكن البوق بمتناول يدي وخفت أن أنادي أحدهم فيأتي ويوبّخني على فعلتي. كنت أظنّ أني سأنهض في النهاية بمفردي لكني لم أستطع الحراك إلى أن أتت والدتي وأنا على هذه الحال. دبّ الرعب في قلبها، صرختْ فهرع إخوتي إلى الطابق العلوي، رفعوني عن الأرض ووضعوني على السرير. لقد هالهم منظر الدم الجاري على السجادة فقد كان جرح بطني ينزف. أراد كلّ واحد منهم إقناعي بعدم تكرار هذا الفعل ثانية. آثرت الصمت. ومع أني خفت كثيرًا إلا أني عاهدت نفسي: "مهما حدث، سأنهض وأمشي".

عاودت المحاولة ثانية، قبل التحرّك كنت أثني قدمي اليمنى وأمدّها
 
 
 
 
 
160

152

حربٌ مع الجراح

 لتصبح مرنة، ومن ثم أجلس قليلًا على السرير حتى أعتاد على ذلك ولا أشعر بالدوار. أخيرًا نهضت وتقدّمت خطوة بقدمي اليمنى، إلا أنّ قدمي اليسرى لوت وانحرفت وهويت أرضًا. وانتظرت ثانيةً كي يأتوا ويضعوني في السرير.


هذه المرة وبخوني بلحن التهديد والوعيد إلّا أنّ ذلك كان بداية المشوار وتوصّلت إلى نتيجة، أنّه عندما أجعل ثقلي على قدمي اليسرى وأهمُّ بالتحرّك ستلتوي وأسقط أرضًا، لذا ينبغي الاستعانة بيدي والاعتماد فقط على قدمي اليمنى. شرعت بالتحرك مرة أخرى، خطوة، خطوتان.. عدت إلى السرير لاهثًا، وحاولت إخفاء هذا السرّ. في عصر أحد الأيام جلس إخوتي بقربي، بدا القلق على وجوههم وكان محور حديثهم كيف يمكنني المشي ثانية. لقد اعتقدوا أني لن أستطيع ذلك أبدًا، وحان وقت كشف السرّ فقلت لهم: "يمكنني المشي أفضل منكم!".

- مهدي لا تنزعج من حديثنا، نحن نعلم أنّ قدمك..

- أنا جادٌّ في كلامي، إذا لم تصدّقوني انظروا!

ردّدت في قلبي "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم جلست على طرف السرير ليزول الدوار وأتهيّأ للنهوض، مع الانتباه لعدم الضغط على قدمي اليسرى، ونظرات الدهشة من أفراد عائلتي مسلّطة عليّ، خطوت الخطوة الأولى فزادت ثقتي، وبمساعدة يدي حرّكت قدمي اليسرى إلى الأمام، وبهدوء تتالت الخطوات. كان محيط الغرفة 6×3 أمتار، مشيت على طول الغرفة، أسندت يدي على حافة ديكور الحائط في آخرها،
 
 
 
 
161

153

حربٌ مع الجراح

 حدّقت في وجوه إخوتي ورأيت دموعهم تنهمر من دون أن ينبسوا ببنت شفة، إلا أني عرفت أنها دموع الفرح بعد أشهر من المعاناة. أردت أن أستدير فوقعت. حملوني بسرعة ووضعوني على السرير. لقد بثّ نسيم الأمل النشاط في روحي.


*

بعد أسبوعين من وجودي في المنزل كرّت سبحة الأحداث الجيدة، وتقرّر نزع "القُطَب" من جراح بطني. بدأوا بنزع القُطَب، بمعدل قطبة وسط قطبتين وبعد عدّة أيام تقرّر نزعها بالكامل. ولكن إفرازات الالتهابات ما انفكّت ترشح من خاصرتي ولم يستطع أي طبيب معرفة السبب. لم تتحسّن جراح خاصرتي وما زالت كأول يوم من إصابتي، فقد كان يصل بي الألم أحيانًا إلى حد الجنون، كنت أرمي أي شيء تصل إليه يدي. ذات يوم، رميتُ مسجّلة كانت بجانبي من شدة الألم فارتطمت بعرض الحائط وتناثرت قطعًا، ولم يوبّخني أحد على فعلتي. صارعت الألم من دون تأوّه أو أنين، لكن في بعض الأحيان، كان يطفح الكيل، فأقذف بأي شيء تصل إليه يدي.

مرّة، كانت سلّة مهملات حديديّة بقربي، رسم عليها صورة قطة مع وردة جوريّة. أمسكت بالسطل وضغطت عليه براحة يدي حتى انبعج. لقد أفقدتني آلام الالتهابات صبري وكان دعائي: "إلهي! وفّقني في هذا الامتحان، لا أريد لهذه الجراح أن تهزمني".

ذات يوم، جاء "مقصود نعلبندي" حاملًا معه نبأ مجيء طبيب ماهر
 
 
 
 
162

154

حربٌ مع الجراح

 إلى مستوصف الحرس يدعى "دكتور سارخاني"1. كنت في وضع يجعلني أتلقّف بجدّ أي وصفة للمعافاة والتحسّن، طلبنا موعدًا منه في ذلك اليوم نفسه.


بعد تفحّصه كل صور الأشعّة التي كنت قد أجريتها سابقًا، بشّرني بشرى طيّبة.

- لقد حان الوقت، ويمكنني إجراء عمليّة "الكولوستومي"، ووضعه داخل بطنك، وسنرى ما يمكن فعله لمعالجة جرح خاصرتك.

قال هذا ثم أوصى من كانوا برفقتي: "في الوقت الحاضر لن يقوى على تحمّل إجراء العمليّة، خذوه إلى المنزل وقوموا بتغذيته بشكل جيد". وعدت إلى المنزل. كان قد مضى على إصابتي قرابة الشهرين إلا أني لم أتحمّل انتظار الفترة التي طلبها الدكتور سارخاني. بعد خمسة أيام استحلفتهم بالله ورجوتهم كي يصرّوا على الطبيب لإجراء العمليّة بأسرع وقت ممكن لأستريح. لم يخيّب الطبيب أملي، ودخلت في اليوم نفسه قسم الجراحة في مستشفى "سينا"، كنت في الغرفة ذاتها مع "ناصر زماني وحسن هُدائي". كنت أعرف "ناصر زماني" عن طريق أخيه الشهيد "محمد زماني" الذي استشهد في عمليات (كربلاء 5). لم يكن "ناصر" يتيمّم مثلنا للصلاة، بل كان في كلّ مرة يريد النهوض فيها ليتوضّأ يهوي أرضًا إلا أنّه لم يتراجع عن ذلك.

من حسن حظّي أنّي كنت في الغرفة نفسها مع "حسن هدائي"
 

1- دكتور سارخاني: نائب وممثّل الشعب في تبريز في الدورة الرابعة لانتخابات مجلس الشورى.
 
 
 
 
163

155

حربٌ مع الجراح

 وهو أحد مسؤولي الدائرة الصحيّة في الحرس، كما كان "طيب شاهي" مسؤول الدائرة الصحية في الفرقة يأتي باستمرار لعيادته، ومن خلال هذين الشخصين، كان "الحرس" يهتم بي بشكل جيد. كان المستشفى في تلك الأيام يعاني من نقص في اللوازم الطبيّة كالضمادات وشاش التعقيم. إلا أنّ هذه الأشياء كانت تصلنا عبر الدائرة الصحيّة في الحرس.


ذات يوم، رأيت "عبد الرزاق ميراب" بين الزائرين الذين وفدوا إلينا. بعد السؤال عن الحال قال: "لقد جاؤوا من الفرقة لرؤيتك". ثم بعد دقائق دخل قائد الفرقة الأخ "أمين شريعتي" ومسؤول مكتب القيادة "غلام حسن سفيد كري". ما إن وقع نظر قائد فرقتنا عليّ حتى قال ما بين المزح والجدّ: "مهدي قُلي! كأنّك لن تستطيع فعل شيء بعد اليوم!!" عرفت أنّه قد دُهش عندما رآني على هذه الحال بعد شهرين من إصابتي وقد فقدت نصف وزني. فأجبته: "لا يا أخ "أمين" سأرجع إلى الفرقة بسرعة بإذن الله". قلت هذا وقد هيّأت نفسي لمواجهة أي مصير ينتظرني، مع أنّ تصوّر ذلك كان مؤلمًا، فلم أتصوّر أنّي سأتعافى من إصابتي يومًا ما!

حدّد الطبيب "سارخاني" موعدَ العمليّة، وانتظرت على أحرّ من الجمر، فقد ارتبط كل شيء بها. كان الطبيب نفسه مسؤول فريق الجراحة وفهمت من خطواته الحثيثة حسمه للأمر وجدّيته في العمل. وقد تبيّن لي خلال تلك المدة أنه محبّ لجرحى الحرب وودود معهم أيضًا.

سمعت أنّ بعض الأطباء كانوا يناقشونه حول جدوى العمليّة حتى اليوم الأخير بحجّة أنّه طبيب جراحة عامة، وليس متخصّصًا في تقويم
 
 
 
 
 
164

156

حربٌ مع الجراح

 الأعضاء، إلا أنّ الطبيب "سارخاني" أصرّ على إنقاذي من الالتهابات. لقد كان سعيه الدؤوب هذا محطّ احترام وتقدير عندي، وبقيت مناقشات الأطباء تتوالى تباعًا وأنا ممدّد على السرير. عقّموا بطني بسائل أصفر اللون ومع زيادة كمية التخدير في المصل، غبت عن الوعي وانقطعت علاقتي مع عالم الإدراك مدّة من الزمن.


*

كانت الرؤية مشوّشة والأصوات غير مفهومة، أمسكتْ بيدي يدٌ مسنّة، فتحت عينيّ متسائلًا أهو أبي؟ كلا لقد كانت يد أمي! كانت هي الأم والممرضة والأب. وكالعادة استعدت وعيي بهدوء وبلا ضجيج، عندما التفتّ إلى أنّ أطرافي الأربعة قد شُدّ وثاقها ورُبطت بالسرير، طلبت من أمي أن تفكّها. كانت جالسة بقربي، وعيناها القلقتان تحدّقان بي. ذهبتْ ونادت الممرّضة لتفكّها ودخل معها الطبيب أيضًا. فحصني الطبيب والفرح بادٍ على محيّاه وأكّد عليّ البقاء أسبوعًا في حالة NPO. لم يكن الدوار قد زال عنّي بعد حتى تقدمت إحدى الممرضات من والدتي حاملة قارورة مليئة بالسبيرتو، وضعتها قرب السرير. نظرت إليها والدتي وقالت: "انظر كم هي مليئة بالعظام".

- عظام؟!

تناولت القارورة وقرّبتها لأرى محتواها عن كثب، فرأيت فيها عظام حوضي النخرة والمتعفّنة.

قال الطبيب بعدها: "لقد انتزعنا عظام حوضك المهشّمة، ولو أنّنا تأخّرنا عن إجراء العمليّة لكانت عظامك قد تجوّفت أكثر وقضى
 
 
 
 
 
165

157

حربٌ مع الجراح

 الالتهاب وعمق الجرح عليها ولصرت في عداد الأموات". لقد ظهر مكان حوضي الأيسر في صورة الأشعة خاليًا، ولكن الطبيب قال لي إنّ عظامي ستترمّم تدريجيًّا.


كان الطبيب "سارخاني" يزورني مرتين يوميًّا لتضميد جروحي وتعقيمها وإذا لم ينزف الجرح خلال التضميد، كان يجعله ينزف عمدًا مؤكّدًا أنّ النزف الآن يدلّ على تحسّن الجروح. أحسست بأنّ الجروح أخذت تضمر يومًا بعد يوم. كذلك "الكولوستمي" الذي أجريت له عملية أخذ بالتحسن شيئًا فشيئًا. بعد أسبوع تقريبًا وقد أصبحت أفضل حالًا، جاء لعيادتي "كريم حرمتي". اتفقنا في المستشفى أنه سيتصل بي بعد خروجي لنذهب معًا إلى منطقة العمليات لأنني مللت القعود في المنزل.

كان المستشفى يغصّ بالزائرين فيمتلئ حينًا ويخلو حينًا آخر. كان الإخوة الجرحى يذهبون إلى غرفة الجراحة كلٌّ حين دوره. أما مشهد استعادتهم وعيهم بعد إجراء العمليّات فكان يستحقّ المشاهدة، فبعضهم كان يتفوّ بكلام لا يمكنه التفوّ به في اليقظة، فهذا "محمود نجاتي" مثلًا، وبينما كان يستعيد وعيه من التخدير شارك في عمليات شرسة جدًّا وعاد! كان يقول: "سيد أمين أنا لا أوافق على الكتيبة. تكفيني السريّة.. حسنًا بما أنّكم مصرّون على ذلك فأنا موافق.. أيّها الإخوة انطلقوا بسرعة.. أنتم من هذه الجهة.." بدأت عمليّات محمود ونحن أيضًا نلنا منها نصيبنا، وأخيرًا أصيب بشظيّة وجُرح وما إن فتح عينيه مستعيدًا وعيه بالكامل حتى بدأ بالتأوّ والأنين!
 
 
 
 
 
166

158

حربٌ مع الجراح

 *


خرجت من المستشفى، وفي المنزل انتقلت مهمة الاعتناء والمراقبة إلى عائلتي، ولكي أتمكّن من سدّ عجز قدمي اليسرى أحضروا لي عصا، وبدأت رحلة تجوالي الأولى في المنزل. كنت أتوكّأ على العصا من جهة وأسند يدي الأخرى على الحائط وأصعد الدرج وأنزل، ولم أعد بحاجة إلى البوقِ. وكلّما أكثرت من المشي كنت أشعر بتحسّن قدمي، لم يتمكّن متخصّصو الأعصاب من فعل شيء لها. أخبروا الدكتور "بزركر" عن حالتي وهو متخصص في تقويم الأعضاء. بعد إجراء فحوص عديدة قال لي: "قد تتحسّن بعد إجراء العملية".

- حسنًا فلنجرِ العمليّة

- يوجد العديد من الأشخاص من هم بحاجة إلى هذه العملية مثلك وأسماؤهم على لائحة الانتظار.

لقد كان كلامه هذا بمنزلة آخر المحاولات لعلاج قدمي في تلك الفترة. أحسست أنني ابتعدت عن الجبهة بما فيه الكفاية، ولم أعد أحتمل البقاء في المدينة من أجل إجراء عملية غير حتميّة النتائج. سجلت اسمي في لائحة الانتظار، وحاولت نسيان العمليّة فترة من الزمن.

*

مضت خمس سنوات على ذهابي الأوّل إلى الجبهة من دون علم أحد.

في المنزل، رقدت في الغرفة ذاتها ودارت في خلدي الأفكار ذاتها. تُرى كيف سأقنع عائلتي بالأمر؟ كيف يمكنني الذهاب من دون إزعاجهم وأكون مرتاح البال؟!
 
 
 
 
 
167

159

حربٌ مع الجراح

 كان مجيء "كريم حرمتي" إشارة إلى الرحيل، وضربنا موعدًا في اليوم التالي. عند العصر، استغللت الفرصة وبدأت الحديث مع عائلتي:

- لقد تحسّنت بحمد الله. لقد مللت البقاء هنا، أنتم تعرفون "كريم" فهو سيعتني بي حتمًا، سيذهب غدًا إلى المنطقة، وسأذهب معه إذا ما سمحتم لي.

وكان ردّ فعلهم:
- اخجل يا ولد! ما زال جرحك ملتهبًا وها هو ينزف، أتريد الذهاب وأنت على هذه الحال؟!

- لا تخف يمكنك الذهاب إلى الجبهة ثانية، ولكن، ليس الآن، ذهابك وأنت على هذه الحال لن يفيد الجبهة شيئًا!

- حتى في هذه الأوضاع يخطر على بالك الذهاب إلى الجبهة؟!

وهكذا، أدلى كلّ فرد من أفراد عائلتي بدلوه معارضين ذهابي إلى الجبهة وعملوا على ثنيي عن هذا الأمر بأدلّتهم وبراهينهم. إلا أنّ فكرة الذهاب لم تكن وليدة البارحة أو ما قبلها، بل كانت جذورها تمتدّ إلى الأيام الأخيرة من صيف عام 1981م، حيث ألهب عشق الجبهة كياني، وخلال هذه السنوات الخمس كانت جذوة نارها تشتدّ أكثر فأكثر، والآن كيف لي أن لا أبالي بعشقٍ روته دماء أعزّ الأصدقاء والإخوة؟!

*

في اليوم التالي، حضر "كريم" بسيارة إسعاف وحدة الاستطلاع، بدت أمي قلقة جدًّا ودعوت الله حينها أن يبيّن لها وللآخرين سبب مؤاثرتي الذهاب إلى الجبهة على البقاء في المنزل رغم كل تلك المتاعب.
 
 
 
 
 
168

160

عمليات النصر 7

 عمليات النصر 7


ربيع وصيف 1987م
 
 
في المحاور وجع واحد يتقاسمه الجميع.

رشح التهابات من جراحي عجّل بالعملية الجديدة في الإجازة. وتبين السبب الطبي.

أسرعت اللحاق، وحين لم يتمّ إشراكي كما أرغب في الاستطلاع الأمامي، وفّقني ربي لتحقيق إنجازات في اكتشاف الألغام ورصد قدرات كانت كامنة وعناصر جدد.

وما أعظمها من دهشة! استشهاد "كريم وأمير" في "حج بيت الله الحرام".
 
 
 
 
 
169

161

عمليات النصر 7

 1


بعد عمليات (كربلاء 5) انتقلت كل قوات الفرقة ووحداتها إلى "باختران" حيث مقرّ الفرقة.

وقد منحني السفر إلى الجبهة والعودة إليها ثقةً أكبر بنفسي. ها أنا عدت إلى المكان الذي أحببت، لطالما فكّرت في يومٍ أستطيع فيه العمل من جديد مع الإخوة والمشاركة في العمليات.

كان مقرّ الفرقة يبعد عن إسلام آباد1 ما يقارب 25 كلم ويقع داخل منخفض سُمّي باسم الشهيد "أحد مقيمي"2. طقس أواخر ربيع 1987م كان حارًّا، وفي أحوال كهذه كنّا نستفيد من الخيم، وكانت الجبال تحيط بالمقرّ من كل جانب.

يمرّ وسط هذا الوادي طريقٌ يتشعّب منه خط سير الكتائب، وقد أقيم في وسطه حمامٌ ومكان للاستراحة.

كان الاهتمام الذي لقيته من الإخوة أكثر ممّا لقيته من عائلتي. فلطالما مدّني "ممد عمي"3 الطاعن في السن بالعسل والفستق واللوز. وكان الشباب يأخذونني كل يوم إلى مقرّ الدائرة الصحية في الفرقة لتغيير الضمادة في موعدها.

يومًا بعد يوم، أخذ جرح خاصرتي يبرأ، وتقلّصت ترشّحات الالتهابات إلى حدّ كبير، ولم يعد يبلّل في اليوم أكثر من نصف ضمّادة. كان الإخوة يُدخلون فتيلة الضمادة داخل الجرح كي لا يلتئم ويسهّل خروج الالتهابات منه.
 

1- مدينة إيرانية تقع غرب محافظة باختران المحاذية للعراق.
2- مضيق "أحمد مقيمي": هو المضيق نفسه الذي تقدّم المنافقون تجاهه في عمليات "خروج جاويدان".
3- "محمد عمو" ويقولونه باللهجة التركية " ممد عمي" .
 
 
 
 
170

162

عمليات النصر 7

 في المقرّ، نسّقت مع الأخ "أبو الفضل فرهمند" كي نتسلّق المرتفعات المحيطة. كان أبو الفضل قد أصيب في "عمليات بدر" بشلل نخاعي وحالته أصعب من حالتي، فأعصاب قدميه تأثرت بالإصابة تأثرًا بالغًا، وكانت حركته أصعب من حركتي. اتفقنا أن نصعد كل يوم إلى مرتفع صخري من خمسة إلى عشرة أمتار متّكئين على عكازينا، وكلّ واحد منّا يسير بالنحو الذي يقدر عليه، مستفيدًا من تجربة الآخر، وقد أحسستُ أنّ قدمي، مع كلّ خطوة، تتحسّن وتقوى.


أحيانًا كنت أخطو "خطوة ناقصة" فأسقط أرضًا. تعلّمت الاتّكاء على قدمي اليمنى بشكل كامل عند الجلوس والنهوض والمشي. منذ اليوم الأوّل لعودتي إلى الجبهة كان اثنان من الإخوة يتبعاني خلسة كي يرفعاني إذا ما هويت أرضًا.

بعد عدّة أيام التأم الجرح بشكل كامل، ومنذ ذلك الحين لم أذهب لتبديل الضمادة، وانتهى ترشّح الالتهابات من خاصرتي. حسبتُ نفسي بطلًا مقارنة بالأيام التي كنت فيها طريح الفراش، ولكن في الحقيقة بدوت كهيكل عظمي متحرّك. وهذه المرة قيّض لي اختبار عواطف ومشاعر "الأمومة الصادقة" التي أظهرها الإخوة للمرضى والجرحى. لقد اهتمّ الإخوة بي أكثر من اهتمامي أنا بنفسي.

في الواقع، كان كلّ شيء في الجبهة يرمز إلى الوحدة والانسجام، فشفاء جريح واحد كان يعني شفاء الجميع، وألم أحدهم يتقاسمه الجميع1.
 

1- مثال الحديث: مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت سائر الأعضاء بالسهر والحمى".
 
 
 
 
171

163

عمليات النصر 7

 عندما رأيت صدق قلق الإخوة عليّ وإخلاصهم وتفانيهم في خدمتي ودقتهم في متابعة وضعي بحيث لم يخطر في بالي أبدًا هذا العطف وتلك الشفقة، خالجني سرور عميق وكدت أطير من الفرح، فها قد شرّعت طريق الجنة أمامي من جديد.


حضرت كلّ قوات الوحدة في هذا المكان، ولا شيء في الأفق عن أي عمليات قريبة، وبعد مضي عشرة أيام على وجودي هنا في مقرّ الشهيد "مقيمي"، جاء "كريم حرمتي" واختار عددًا من الإخوة ليأخذهم معه. جعلني، رغم حالتي، مسؤولًا عن الشباب الذين بقوا في المقرّ. أحضر الإخوة وسائلهم وعتادهم، مستعدّين للانطلاق. بعد الوداع، علمت أنّهم ذاهبون في مهمّة استطلاعيّة. ما إن انطلق الباص حتى رأيت "حميد اللهياري" يهرول خلفه مناديًا: "أنا ما زلت هنا! أنا ما زلت هنا!"، لم أعرف سبب تأخّره عن الشباب.

خفق قلبي لسماع صراخه. توقّف الباص واستطعت الوصول إليه، عانقته قائلًا:
- حميد، يبدو أنك راحلٌ أيضًا!

- إن شاء الله..

بدا وكأنّه يعلم شيئًا، ركب الحافلة ورحل.

*

بعد أربعة أيام وصل السيد "زعفرانشي" بسيارة الإسعاف إلى المقرّ عصرًا. ما إن رآني حتى قال: "مهدي قلي، أتعرف ماذا يوجد في الخلف؟"

ذهب تفكيري إلى لوازم الدعم والتجهيزات، وبينما أنا أفكّر قال لي:
 
 
 
 
172

164

عمليات النصر 7

 "ألقِ نظرة!". فتحت الباب الخلفي للسيارة، رأيت جثماني شهيدين راقدين بسكينة! نحّيت الغطاء عن وجهيهما فإذا بي أرى "حميد اللهياري" شهيدًا! أما الشهيد الثاني فكان أيضًا من وحدة التخريب ويبدو أنّهما داسا على لغم أرضي أثناء عملية الاستطلاع. جثوت فوق رأسيهما وبكيت كثيرًا حتى سكن قلبي. لطالما اعتبرت شهادة الأصحاب بارقة أمل لي، إلا أنّي كنت أشعر كلّما نظرت إلى وجه حميد أنّي لن أصل إليه وإلى الشهداء بهذه السرعة.


*

منذ أن بدأتُ بالمشي في المنزل، كنت أسعى لخدمة نفسي بنفسي. حتى في المقرّ رغم العلاقة الحميمة والقوية بين الإخوة، فقد جهدتُ أن لا أُثْقِلَ على أحد. فقد اعتنى بي الإخوة كثيرًا وساعدوني في حركة ذهابي وإيابي وفي توضيب الفراش وغسل الملابس، ونقلوني بالسيارة إلى الحمام الذي شُيّد أسفل المقر قرب الطريق، حيث إنّي وبسبب جراح خاصرتي لم أستحمّ منذ عدة أشهر.

في تلك الفترة، جاء العديد من الإخوة لزيارتي، "أحمد يوسفي" و"رضا عباس نجاد" و"مجيد لطفي" و"جلال زاهدي"، فوجودهم قربي أبعد عنّي الملل.

بعد شهادة "حميد اللهياري"، لم يصلنا أي خبر عن الشباب الذين يعملون في المنطقة. جاء "كريم حرمتي" بعد عشرة أيام تقريبًا وأخذني معه إلى كردستان، أما بقيّة الإخوة في قوة الاستطلاع فقد وصلوا فيما بعد على متن حافلة صغيرة.

*
 
 
 
 
173

165

عمليات النصر 7

 عبرنا طريق "باختران"، "كامياران"، "سنندج"، "ديوان درّة" بالسيارة ثمّ وصلنا "سردشت" مرورًا بـ"سقز" و"بانه". كان مقرّ وحدة استطلاع الفرقة في "سردشت" في بيت مستأجر أقام فيه الشباب، وكان مسؤولو الفرقة يأتون إليه أحيانًا.


كان عدد من عناصر البيشمركا– من سكان المنطقة الأكراد - يحرسون المقرّ ليل نهار، بقينا هناك بضعة أيام، وقد اهتم بنا الإخوة بشكل جيد.

أحيانًا كنت و"أبو الفضل فرهمند" و"علاء الدين نور محمد زاده" نتبادل أطراف الحديث، ونستفيد من تجارب بعضنا بعضًا، فقد تشابهت حالاتنا الصحيّة، وجميعنا مصابون بشظايا وجراح. أصيب علاء الدين في عمليات (والفجر 8) وتحسّنت حاله بعد عام تقريبًا، كان يمشي أمامي ضاربًا الأرض قائلًا: "انظر! حالتي أفضل من حالتك"، وأنا كنت أستعرض قوتي أمامه.

تعلّمت من تجربته حركات وتمارين رياضيّة عديدة. كان يقول: "لن يستطيع الأطباء فعل شيء لنا، علينا أن نعكّز ونحلّ أمورنا بأيدينا". عندما رأيت أنّه قد عاد ثانية إلى قيادة المحور ازداد أملي بالمشاركة مرة أخرى في مهمّات الاستطلاع والعمليات.

شيئًا فشيئًا أخذت نغمة الانتقال إلى المقرّ الجديد بالارتفاع، وغمرني السرور لاقترابنا يومًا بعد يوم من منطقة العمليّات. جمعنا أشياءنا واتّجهنا نحو مقرّ الفرقة في منطقة العمليات التي سُمّيت باسم الشهيد "مصطفى بيشقدم".
 
 
 
 
174

166

عمليات النصر 7

 *


كان هناك قريتان متاخمتان، الأولى "بويوران العليا" والثانية "بويوران السفلى". ويقع مقرّ الشهيد "بيشقدم" في القسم المرتفع من "بويوران العليا" وتبعدان عن "سردشت" ما يقارب 30 كلم.

في الجهة اليسرى للمقرّ يقع مرتفعٌ عالٍ يبدأ بوادٍ خصب سُمّي المرتفع بـ"كاني رستم". تليه سلسلة مرتفعات أخرى سُمّيت "كاني رش" حيث خطّ دفاعنا، وأمامها أيضًا مرتفعات "دوبازا" التي كانت بيد العراقيين. أما على الجهة اليمنى فيقع مرتفع آخر باسم "بو الفتح"، يحصر الوادي بين مرتفعي "كاني رش" و"دوبازا". و"بو الفتح" كان المرتفع الوحيد الذي كنّا فيه نحن والعراقيون، لذلك كان هدف العمليات القادمة السيطرة الكاملة عليه وعلى "دوبازا"، وتكفّلت بهذه المهمّة فرقتا "عاشوراء" و"حضرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم".

تميّز صيف كردستان بمناخه البهيج، كان الإخوة يذهبون كلّ ليلة من مقرّ "الشهيد بيشقدم" بالسيارة إلى "كاني رش" ومن هناك إلى "دوبازا" من أجل تنفيذ عمليات الاستطلاع ويعودون عند الصباح متعبين منهكي القوى. تجدر الإشارة إلى أنّ فرقة عاشوراء قد أوكل إليها مهمات عديدة في مناطق الجنوب، فعملت القوات الجبليّة -حسب حاجة المنطقة- شهورًا عديدة في الغوص وقيادة القوارب، أما الآن فقد انتقلت ثانية إلى الجبال والاستطلاع في الطرق الوعرة والسير الطويل في المرتفعات، وكان هذا عملًا صعبًا وشاقًّا. كان استشهاد العديد من قوات الاستطلاع خلال العمليات الأخيرة، والفراغ الذي خلفوه إلى جانب قلّة خبرة القوات الجديدة، من العوامل التي صعّبت الأعمال. كان "أمير
 
 
 
 
175

167

عمليات النصر 7

 أسد اللهي" –مسؤول المجموعة في تلك الأثناء- يذهب للاستطلاع من الليل حتى الصباح، ثم يأتي وينام ساعتين ليذهب بعدها إلى مرصد المراقبة في "كاني رش" حتى العصر، فيراجع ويحلّل تقارير الاستطلاع الخاصة بالليلة السابقة، ويعود ليلًا إلى الاستطلاع. كان يشقى ويتعب، فعديد القوات قليل والعمل كثير. والإخوة الذين لديهم خبرة وتجارب يعلمون جيدًا أنّ مهمة "الاستطلاع والمعلومات" ينبغي أن تنفّذ في مختلف الظروف، إذ إنّ نجاح أي عملية مرهون بهذه المعلومات.


لم يتمّ حتى ذلك الوقت فرز بعض الإخوة الموجودين هناك، على المحاور بشكل نهائي، وقد أرادوا استدعاء قوة جديدة كي تُنْجِزَ جزءًا من المهام.

في تلك الأيام طرح عليّ كريم حرمتي الموضوع قائلًا: "مهدي قلي! ماذا أفعل في هذه الظروف؟".

ذكّرته بوجود "محمد بور نجف" وأجبته: "استغلّ وجوده واستفد منه".

بدا لي أنّ الأخ "حرمتي" كان يريد لمحمد بور نجف ومجموعة من رفاقه أن يذهبوا في إجازة لأخذ قسط من الراحة، فقد نالوا نصيبًا وافرًا من التعب والجهد في منطقة الجنوب.

ردّ عليّ قائلًا: "لا أظنّ أنّه يستطيع تقبّل هذه المسؤولية!".

وأنا أيضًا ظننت مثله، كنت أعرف أنّ "محمد بور نجف" ليس لديه ثقة عالية بقدراته للعمل في تلك المنطقة. على أي حال، ذهبنا نحن الثلاثة أنا و"كريم حرمتي ومحمد بور نجف" إلى مرصد المراقبة، حيث
 
 
 
 
176

168

عمليات النصر 7

 عرّفه "كريم" إلى المنطقة. قلت لمحمد بور نجف: "محمد! يمكنك استطلاع هذه الطريق! في الأساس باستطاعتك أن تكون مسؤول المحور هنا".


- لا بالله عليك أنا لا أستطيع! من الجيد أن يأتي معي السيد "أصغر" أو السيد "منصور" كي أنجز المهمة.

كان "أصغر عباس قلي زاده"، و"منصور فرقاني" قد عملا سابقًا في هذه المنطقة ومحمد يعرف ذلك، وعدنا أدراجنا من المنطقة من دون أن نأخذ منه جوابًا. في الطريق كنت ألوم "محمد" على ذلك:
- لِمَ تستهين بقدراتك؟! قد تكون أقل علمًا من أولئك، لكن لمَ تتكلّم هكذا؟

تكلّمنا كثيرًا أثناء الطريق، وما إن وصلنا إلى المقرّ حتى وافق "محمد" وقبل المهمّة في ذاك المحور وسرعان ما أظهر لياقة واستعدادًا عاليًا. كان المحور الذي تسلّمه محمد ينجز مهامه أسرع من باقي المحاور. فقد كان نفسه خبير متفجرات، ولا يعيقه شيء في حقول الألغام، وقد ساعدته تجربته التي اكتسبها في منطقة الجنوب في العمل هنا أيضًا. خلال تلك المدّة، كان الذهاب سيرًا على الأقدام صعبًا وشاقًا بسبب حالتي الصحيّة، كنت أذهب إلى المرصد وأقطع المسافات الطويلة بالسيارة، وقد سعيت هناك لمساعدة قوات الاستطلاع قدر المستطاع، كإقناع محمد بور نجف بالذهاب إلى الاستطلاع وحلّ بعض المشكلات.

في إحدى المرّات عرّفوني إلى مكان استشهاد "حميد اللهياري" من خلال نقطة المراقبة. كان مسيرًا بين طريق مهجورة تبدأ من "سردشت"
 
 
 
 
 
177

169

عمليات النصر 7

 إلى "قلعة ديزه" العراقية، ويمرّ في السفح الغربي لمرتفع "بو الفتح". ومن المحتمل جدًّا وجود حقل ألغام فيه تسبب في استشهاد الإخوة هناك.


قال كريم: "رغم تلك الحادثة لسنا متيقّنين من وجود حقل ألغام في تلك الناحية، ومن المقرّر أن تعبر وحدة الهندسة ذاك المسير ليلة العمليات لفتح الجادة، ووجود الألغام سيصعّب مهمّتنا.

تجرّأت وقلت لكريم: "يمكنني الذهاب والتحقّق من الأمر واستكشاف المسير".

- كلا، الذهاب إلى هناك صعب، علينا إرسال الإخوة في التخريب.

فهمت عندها أنّ "كريم" لا يزال يشكّك في وضعي الجسدي.

تقرّر إرسال اثنين من وحدة التخريب. وقد ذهبتُ معهما وتوجّهنا بالسيارة إلى مقرّ الجيش القريب من هناك.

جلست هناك وقلت: "اذهبا وألقيا نظرة وارجعا".

كان الوقت نهارًا، ذهبا وعادا بسرعة وقالا إنه لا ألغام هناك.

لم أقتنع! فهما حديثا العهد في الوحدة، ولا خبرة لديهما. قلتُ في نفسي، بما أنّني جئت إلى هنا فمن الأفضل أن أذهب بنفسي وأتأكّد، دبّت الحماسة في قلبي.

لم أشعر بالقلق من التفات العدو للمنطقة وأن تكون عينه عليها. رغم أنّ العراقيّين يشرفون على الطريق من مرتفع "دوبازا" و"بو الفتح". صحيح أنهم يستطيعون رؤيتنا خلال عبورنا الطريق عند العصر، إلّا أنّه وبسبب تسيير الجيش لدوريّاته طوال النهار كان ذلك أمرًا طبيعيًّا بالنسبة
 
 
 
 
 
178

170

عمليات النصر 7

 للعراقيّين، وكان من المحتمل إظهار وجودهم بإطلاق عدّة رشقات ناريّة فقط. اتّخذت قراري وقلت لهما: "نعود معًا إلى هناك، سآتي معكما أيضًا ولكن الويل لكما إن أخبرتما "كريم حرمتي" أنّ "مهدي قلي" قد أتى معكما!"


قرأت في نظراتهما أنّه لا أمل لديهما من وصولي إلى الطريق فكيف بي أذهب وأكتشف ما لم يتمكّنا من اكتشافه من الألغام!

طلبت من السائق –وكان من زنجان- مرافقتنا ومساعدتنا عند الضرورة.

منذ مدة كنت قد استغنيت عن العصا، وصرتُ أتوكّأ فقط على قدمي السليمة. انطلقنا ونزلنا خطوة خطوة من مقرّ الجيش المرتفع نسبيًّا. خفتُ الانزلاق والسقوط مع أوّل خطوة، وأن أصبح محطّ سخرية وضحك الجميع، لذا احتطتُ أكثر خلال المسير نزولًا. كان الأصحاب يراعون حالي ويجاروني في المشي.

أخيرًا وصلنا إلى نهر عريض يفصلنا عن الجادة، كان علينا عبور النهر قفزًا على حجارة موجودة في وسطه لنصل إلى الطرف الآخر.

أنا الذي كنت أحتمل سقوطي أرضًا إذا ما سرت على أرض منبسطة، فكيف لي أن أقفز من حجر إلى حجر وسط الماء؟! أنا نفسي لم أصدّق أنّي أستطيع ذلك، قلت للإخوة بكلّ جدّيّة: "قفوا أمامي على الحجر وإذا مالت قدمي عند القفز أمسكوني كي لا أقع في الماء!" فعند كلّ قفزة كان الإخوة يمسكون بي، وكان السائق يلتقط أنفاسه ويصرخ: "يا إلهي.. سيقع الآن!".
 
 
 
 
 
179

171

عمليات النصر 7

 لحسن الحظ عبرنا النهر من دون أن أقع في الماء، سمعنا رشقات ناريّة متفرّقة من جهة العدو، لكن على أي حال وصلنا إلى الطريق الهدف. لم أصدّق نفسي، تفحصتُ الأرض بهدوء ودقّة. بدا لي أن لا شيء هناك. "ولكن لا! فكيف لهذه الجادة أن تُترك هكذا؟!".


كنت أستشعر وجود الألغام من دون أن أراها إلى أن ..

- إنها هنا! ألغام مضادة للدبابات.

كشفنا التراب فوجدت لغمًا ضدّ الدبابات. بدا لي أنّه زُرع منذ وقت طويل، وبدقّة وتروٍّ كشفنا التراب من حوله وتأكّدنا من عدم وجود أي "تشريكة" معه. رفع الإخوة اللغم ورحت أبحث عن "الواقي" الخاص به فلم أجده، نظرتُ إلى جانبي في زاوية قريبة على نحو متعرّج فوقع نظري على لغم آخر.

اعتقدت أنّ حقل الألغام قد زُرع على شكل شريط منظّم، كنت قد شاهدت من قبل وفي عمليات مختلفة ألغامًا كهذه، تقدّمت من تلك الزاوية المائلة نفسها في الاتجاه المعاكس، عددتُ الخطوات، وفي المكان الذي توقّعته وجدت اللغم الثالث.

أخبرت الإخوة بطبيعة الحقل، وأكملوا العمل. كان الظلام يخيّم على المكان شيئًا فشيئًا عندما عثرنا خلال مسيرنا على اللغم العاشر والأخير.

جمعنا الألغام وعدنا أدراجنا. بعد ذلك شعرت أنّ معاملة الإخوة قد تغيّرت، فقد ساعدوني أثناء سيري، وكانوا إلى جانبي فلم يصدر منهم أي تهكّم أو مزاح أو إشارة تدلّ على عدم ثقة بي.

وضعنا الألغام في الخلف، وركبنا السيارة متّجهين إلى المقرّ. خلال
 
 
 
 
 
180

172

عمليات النصر 7

 الطريق رأيت الخوف باديًا على وجه السائق من رؤية الألغام فشاكسته طوال الطريق قائلًا: "إذا انفجرت بنا هذه الألغام جرّاء المطبات، سنذهب معًا إلى السماء".


وصلنا إلى مقرّ الشهيد "بيشقدم" وكان "كريم حرمتي" بانتظارنا.

- ماذا فعلت؟

- ذهب الإخوة، جمعوا الألغام وأحضروها. كن مرتاح البال بشأن الطريق.

وتصرّف الإخوة بنحو طبيعي ولم يظهروا أي شيء. بعد تلك الحادثة، كثيرًا ما كان يأتي الإخوة في أثري، واشتدّت تدريجيًّا أواصر الصداقة فيما بيننا1. لم يدُم كتمان أمر هذا العمل لوقت طويل، مضت أيام على تلك الحادثة، ودار بين الإخوة حديث عن أنّ "مهدي قلي" أصبح ضعيف البنية ولا يمكننا الاعتماد عليه، كان الأخان اللذان شهدا جمع الألغام موجودين، فأجابا: "كلا، عندما ذهبنا في ذلك اليوم، جاء هو معنا، وهو من عثر على الألغام". الأمر الذي كان يهمّني في الموضوع هو أنّي عدت ثانية للاستطلاع، وما استطعت ذلك لولا عناية الله ولطفه.

*

كان الطقس صيفًا، والعمل في مقرّ الشهيد "بيشقدم" يتزايد، وبرغم ارتفاع عديد القوات إلا أنّه لم يتمّ وضع مخطّط لإقامة صلاة الجماعة وإحياء المناسبات. تشاورنا مع الإخوة واتّخذنا من إحدى
 
 

1- كان أحد هؤلاء الإخوة الشهيد إسماعيل من مدينة "سراب"، واستشهد في عمليات (نصر 7). 
 
 
 
181

173

عمليات النصر 7

 الدشم الكبيرة في المقرّ مصلّى جرى تجهيزه خلال وقت قصير وصلّينا أوّل صلاة جماعة فيه بإمامة أحد الإخوة، وتطوّرت الأمور تدريجيًّا حتى إنّنا صرنا نتناول الطعام فيه بشكل جماعي. وكان الإخوة في القيادة، التخطيط، الاستخبارات، والإخوة الأساسيّون الموجودون هناك، يأتون للصلاة وتناول الطعام، وبذلك أحيينا ذكرى وسيرة ذلك الجمع الطيب خلال سنوات الحرب التي مضت.


كان معاون الفرقة السيد "كاشاني" موجودًا أيضًا وهو المسؤول المباشر للقوات، وقد تعرّف إليّ بعد عمليّة "مصنع الملح"، وكان تعامله معي جيّدًا. وكان مولعًا بكرة القدم، وقد أعدّوا مكانًا للّعب إلى جانب المقرّ. شكّل الإخوة في فرقة الاستطلاع والعمليات والقوات الأخرى فرقًا للّعب، وكانوا يتبارون كل يوم بعد الساعة 4 عصرًا. وكان لها محبّون كثر. كنت و"كريم حرمتي" ننتهز الفرصة للتشويش والإزعاج. في أحد الأيام، جاء "مشهدي علي عمو" وهو رجل مسنّ ويمتاز بأعماله الخاصة به، ولا يشبهه أحد بها، وجلس قربنا. عندما احتدمت اللعبة وعلت أصوات اللاعبين خطرت فكرة على بالي، قلت لـ"كريم حرمتي" وفي نيّتي إسماع "مشهدي علي عمو": "سيد كريم، إنّ معاون فرقتنا لا يخجل من نفسه!".

- لماذا؟

- لا شيء، إنّه معاون الفرقة وها هو يلعب بالكرة!

لم أكد أنهي كلامي حتى نهض "مشهدي" وذهب إلى وسط الملعب وأخذ الكرة فارتفعت أصوات الإخوة فقال كاشاني: "اي اي لمَ أخذت الكرة؟ دعنا نكمل اللعبة؟".
 
 
 
 
182

174

عمليات النصر 7

 امتزجت عباراته بالابتسام والاحترام لكنّه لم يدرِ أي مكيدة دبرناها.


أجابه "مشهدي" بلهجة جادة ومرتفعة في قبال لهجة "كاشاني" الطيبة الودودة: "أولست معاون الفرقة؟ ألا تخجل من اللعب بالكرة!؟"

أخذت المسألة منحًى جدّيًّا، وبدا السيد كاشاني عصبيًّا بعض الشيء. عندما لاحظ "مشهدي علي عمو" ذلك تراجع وقال: "حسنًا، صلّوا على محمد وآل محمد حتى أعطيكم الكرة".

ومع ارتفاع الصلوات بدأت اللعبة من جديد.

"مشهدي علي عمو" من الرجال المسنّين في الجبهة، وكان يعمل في مقر قيادة الفرقة. كان يصرّ دائمًا على غسل الصحون بعد تناول الطعام، كنت أعترض على طريقة غسله، إذ كان يكتفي بصبّ الماء على الأواني، ثم يمسحها ويرمي بالماء خارجًا والسلام! وبهذه الكيفيّة يكون مشهدي قد أنهى غسل الصحون، ولم يكن لأحد حقّ الاعتراض وإعادة غسلها!! ناهيك عن ذلك كان بصره ضعيفًا، وعادة لا يميّز بين حذائه وحذاء غيره، فكان ينتعل أحذية الآخرين عن طريق الخطأ. وبسبب هذه المسألة كان على خلاف دائم مع "مصطفى مولوي"، ولم تكن خصاله هذه قابلة للتغيير. أحيانًا كانت تُعقد جلسات هامة بين المسؤولين في مركز القيادة كان "مشهدي" يحضر لهم الشاي ويبقى جالسًا معهم. عندها، كان المسؤولون يضحكون ويغيّرون مجرى أحاديثهم فينتبه لذلك وينصرف.

أما في بعض الأحيان، كان يبقى جالسًا فيخجل الإخوة من توجيه أمر الانصراف له بشكل مباشر، لذا كانوا يوكلون أحدهم ليطلب منه ذلك
 
 
 
 
183

175

عمليات النصر 7

 بطريقة لائقة. حصل ذلك مرات عديدة. عندما خرج ذات مرة اقتربت منه وقلت له: "يا والدي العزيز، إنّ المسؤولين هنا كلّهم في ريعان الشباب، إنّهم أولادك وأنت كبيرهم لماذا يُخرجونك من جلساتهم، هؤلاء ليسوا أصحاب خبرة أنت من يعلّمهم فنون الحرب".


لمّا سمع كلامي هذا عاد إليهم وتشاجر معهم: "أنتم ما زلتم صغارًا، فهل أنا ذو الشيبة أقلّ فهمًا منكم حتى لا تسمحوا لي بحضور الجلسات؟".

*

في تلك الأيام، كنت أذهب أحيانًا إلى مركز الرصد وأطّلع على تقارير الإخوة، وأحيانًا أبقى في المقرّ وأنظّم التموين وأعدّ لهم طعامًا ساخنًا ليتمكّنوا من الاستراحة بشكل جيد بعد عودتهم من الاستطلاع. عُقدت اجتماعات عدّة في المصلّى وتحدّث "كريم حرمتي" إلى الإخوة، ومع اقتراب أيام العمليات عملت على مراجعة البرامج التي كادت أن تُنْسى مثل تصوير الإخوة سواء صور فوتوغرافيّة أو فيديو وتسجيل أصواتهم. كنت أعلم أنّ تصوير هذه الأفلام عن المجاهدين والجبهة مهم جدًا وكنزُ ذكريات للمستقبل.

نفّذت أشياء كثيرة واقترحتُ أخرى إلا أنّني لم أتجرّأ على التصريح برغبتي. تمنّيت لو يقولون لي: "هيا اذهب واستطلع!"، لكنّهم أصلًا لم يكونوا بصدد التفكير في هذا الأمر، حتى إنّ مسألة عثوري على الألغام لم تعن لهم شيئًا.

كان الأفراد والكتائب يحضرون إلى المقر الواحد تلو الآخر لمعرفة
 
 
 
 
184

176

عمليات النصر 7

 مهامهم الموكلة إليهم. في تلك الأثناء وصلنا نبأ هجوم آل سعود على مسيرة البراءة من المشركين1. لم نصدّق الخبر بادئ الأمر وبُهتنا عند سماعه. كنا في الجبهة نبحث عن الشهادة بينما أُريقت دماء 500 شخص من حجاج بيت الله الحرام في شوارع مكة بشكل فظيع، وشربوا كأس الشهادة، كان من حجاج ذلك العام "كريم فتحي"، و"رحيم صارمي". غلى الدم في عروقنا لسماعنا هذا الخبر، وتناقل الإخوة الحديث عن أنّ العمليات القادمة ستكون وفاءً لدماء الشهداء.


2

يشارك في المرحلة الأولى ثلاث كتائب من فرقة "عاشوراء" هي "الإمام الحسين عليه السلام" وقائدها "ياسر زيرك"، وكتيبة "علي الأصغر" وقائدها الأخ "بني هاشم"، والكتيبة الثالثة كانت "أمير المؤمنين عليه السلام" وقائدها "حبيب اللهي". قمنا باستحداث مقرّ قتالي بالقرب من نقطة المراقبة في "كاني رش" وقريب من المكان المقرّر أن تشقّ فيه الطريق إلى منطقة العمليات.

ذهبنا قبل يومين من بدء العمليات إلى ذاك المقرّ، وحضر هناك معظم الإخوة المسؤولين في الفرقة، كنت أنا والأخ "كاشاني" و"نجم الدين" من زنجان، مصابين في القدم. أما الأخ الجريح "علاء الدين" فقد غادر المنطقة منذ مدة، ولو كان حاضرًا بيننا لكان جمعنا مكتملًا.

في ذاك المقرّ التكتيكي، شكّل الأخ "كاشاني" فريقًا له. كان أحيانًا
 

1- أذيع في الأخبار أنه في شهر مرداد 1366 (1987)م، هاجمت حكومة آل سعود مسيرة البراءة من المشركين التي قام بها الحجاج الإيرانيون.
 
 
 
 
185

177

عمليات النصر 7

 يذهب معهم حاملًا بيده عصا أشبه بعصا استعراضية، ويصعدون إلى مرتفع في أعلى المقر ويظهرون شجاعة لافتة.


أحضرنا إلى المقر التكتيكي أجهزة الاتصال ووسائل أخرى. كنا نتابع مجريات العمليات وتقدّم قواتنا عن طريق أجهزة اللاسلكي إذ لم يكن مجال رؤية المرتفعات متاحًا، وموقع المقرّ لم يكن مشرفًا على المعارك مع أنه كان محميًّا من نار العدو. لو استطعنا الوصول إلى مرتفعات أكثر علوًّا لرأينا أشياء كثيرة، لكن المسألة أنّه لا يمكننا الصعود، فتعلّقت آمالنا بالأجهزة اللاسلكية، وكنا نتصوّر كل ما نسمعه في آذاننا. تجهّزت القوات المقاتلة للانطلاق، تحركت كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" من ذاك المحور بالقرب من المقرّ التكتيكي وهناك كان آخر وداع لنا معهم.

في 15 آب 1987 وبنداء "يا فاطمة الزهراء" أُعلن أمر البدء بعمليات (النصر 7)، وما إن علت أصداء الاشتباكات حتى بدأت الأجهزة اللاسلكيّة بالعمل.

- إنّنا الآن نمشّط ... ووصلنا إلى أعالي "دوبازا".

كان هذا تقرير الإخوة في كتيبة "الإمام الحسين" عليه السلام. سررنا كثيرًا لسماعه.

طالت المواجهة في محور الشهيد همت أكثر من غيرها، وهو محور عمل كتيبة أمير المؤمنين، مكان أشبه بالمضيق، وتمرّ في وسطه طريق "سردشت" قلعة "ديزه". كما إنّ إحدى سرايا كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" كانت في حالة اشتباك أيضًا. في تلك الليلة، شاركت كتيبة "شهداء كربلاء" التي تشكّلت لقيادة قوات الاستطلاع
 
 
 
 
186

178

عمليات النصر 7

  في المعارك لأول مرة وكانت بقيادة الأخ "أمان اللهي". عبرت هذه الكتيبة خط الاشتباك وسدّت الطرقات الخلفية للعدو وتقدّمت إلى مثلّث الطرق الخلفية، ودمّرت العديد من آلياته.


ما إن تنفّس الصبح حتى تركتُ المقرّ بعد الصلاة وذهبت إلى مكان قريب من جادة العمليات. عمل الإخوة على إحضار الجرحى من المرتفعات بواسطة البغال. كانوا ينقلون على كل بغلٍ جريحًا واحدًا أو شهيدًا.

كنت قد أحضرت معي مطرة ماء وعددًا من الضمادات ووسائل الإسعافات الأولية، وحاولت قدر الإمكان مساعدة الجرحى. بدأ الإخوة في الاستطلاع يتوافدون شيئًا فشيئًا، وكلّ واحد منهم كان يحمل خبرًا جديدًا، لقد أخبرونا عن أوضاع الخط الأمامي.

عندما أتى "محمد بور نجف" سألته عن "أحمد يوسفي منير"، كان "أحمد" ضمن السرية التي أوصلها محمد إلى الخط الأمامي. كنت قد أوصيت "محمد" قبل العمليات أن استفيدوا كثيرًا من أحمد، فحتى ذلك اليوم لم يكن الإخوة يعرفونه جيدًا.

سألته: "هل استشهد أحمد أم أنّه لا يزال حيًّا؟".

- لا، ما زال حيًّا، لكنّه أكثر ممّا قلتَ عنه.

- كيف؟

- كان يتقدّم كالأسد من دون أن نطلب منه شيئًا ويبدأ بالتمشيط قبل الجميع، يا له من مقاتل!!

في ليلة ما قبل العمليات كان وجه أحمد يشعّ نورًا، وقد أسرّني
 
 
 
 
187

179

عمليات النصر 7

 وفرحت من أجله، لكني كنت أعلم أنه سيحترق حسرةً وشوقًا أكثر من ذي قبل، ما لم تتحقّق أمنيته. كانت تربطني به صداقة طيبة، وكل منا يعرف ما يدور في خلد الآخر. استشهد أخوه الأصغر بعد 3 أشهر من مجيئه إلى الجبهة، لذلك لم يقرّ له قرار بعد ذاك! كان يقول: "ماذا فعلت أنا كي لا أستشهد؟! ها أنا منذ عامين آتي إلى الجبهة وقد استشهد محمد قبلي خلال 3 أشهر!".


*

عند الظهر، وصلنا نبأ شهادة "أمير أسد اللهي".

- إذًا، كنّا على صواب.

قبل العمليات دار بين الإخوة حديث عن (احتمال) شهادة "أمير أسد اللهي" و"عباس محمدي". قال الجميع إنّ هذين الشخصين سيحلّقان سريعًا وسيرحلان قريبًا. خلال عملية استطلاع (النصر 7) رأيت "أمير" وكم كان مقدامًا وشجاعًا!! كان يافعًا، ولكنه وخلال هذه المدة الوجيزة تطور وبرز سريعًا.

في عمليات الاستطلاع الأخيرة بدا متعبًا جدًّا وكان يرتدي في المرة الأخيرة لباسًا يميل إلى اللون الأبيض، قلت له: "أمير، هذا اللباس لا ينفع للتخفّي".

فبدّل قميصه بقميص "جلال" واستشهد فيه. لم تفاجئنا شهادته، لكننا لم نصدّق عودة "عباس محمدي" سالمًا. عند الظهر قال "كريم حرمتي": "فلتعد كل قوات الاستطلاع إلى مقر الشهيد بيشقدم". عندما وصلنا إلى المقرّ كانت تنتظرنا ثلاث حافلات صغيرة لتنقلنا إلى
 
 
 
 
 
188

180

عمليات النصر 7

 "باختران". بقي في المقر ثلاثة أو أربعة إخوة، ومن تبقّى منهم حمل أمتعته وعتاده وركب الحافلات.


خلال الطريق وقبل وصولنا إلى "سردشت" انهمرت قذائف العدو علينا بغزارة، توقفت الحافلات مباشرة ونزل الجميع منها، أصيب في القصف اثنان من الأكراد المحلّيّين بجروح بليغة وسقطا هناك على الجادة. توجه عباس صوب الجريح الذي بُترت قدمه ليساعده. لم تمض دقيقة حتى عادت الطائرة العراقية وصبت قذائفها على الجادة، انتبهتُ فجأة لـ"أبي الفضل فرهمند" قد رمى عكازاه وشرع بالركض واختبأتُ أنا خلف صخرة كبيرة.

ما إن انتهى القصف وتأكدنا من ابتعاد الطائرات، هممنا بالتحرك وبحثنا عن عباس، فوجدناه لا يزال قرب الجريح الكردي. حينها صاح الإخوة:
- لقد أصيب عباس.. أصيب بشظيّة..

اخترقت الشظية صدره كان ما يزال بحالة جيدة، كان ساكنًا ومطمئنًا، انطلقنا بسرعة لنوصله إلى "سردشت"، لكنه سبقنا ووصل إلى لقاء الحبيب!

بعد مضي ستّة أعوام على حضورنا في الجبهة، أصبحنا ماهرين في معرفة الشهداء قبل شهادتهم، لقد صدق ما توقعناه لعباس.

توالت أنباء استشهاد الإخوة، لقد استشهد السيد "أحمد خياط نوري"، الذي كان يرتدي كفنه في كلّ عملية استطلاع، وفي كلّ هجوم ويرتدي تحت ملابسه قميصًا أسود صيفًا شتاءً في العزاء والأعياد. عندما
 
 
 
 
189

181

عمليات النصر 7

 سأله الإخوة عن سر ذلك أجاب: "حدادًا على نفسي، فقد متُّ". كان من العرفاء المجهولين الذين اعتبروا أنّ الحياة في هذا العالم موت. ومع أنه استشهد وهو في العشرين من عمره إلا أنّه بدا وكأنّه عالم كبير قضى عمره في السير والسلوك. كان يكتب أشياء بخط يده بلغة مختلفة لم نستطع تفسيرها، وطلب من صديقه أن يتخلّص منها بعد شهادته1.


*

قدم "كريم حرمتي" إلى "باختران"، أعطى كلّ الإخوة مأذونيّات، وعدت أنا معه بسيارة الإسعاف إلى تبريز.

3

في تلك المدة، كنت كثير التحرّك، ولأني حمّلت نفسي طاقة أكثر أحسست أنّ جرح خاصرتي قد تورّم وأنّه قد ظهر شيء إضافي في ذاك المكان. في أحد الأيام، سوّلت لي نفسي أمرًا، أحميتُ رأس إبرة بواسطة عود ثقاب (كبريت) وغرزته في وسط الجرح. فانثقب الجرح وسالت منه إفرازات الالتهابات بقوة وذهبتُ إلى المستوصف لتضميده. في تلك الأوقات، كان "إسماعيل فرهمند" هو من يضمّد الجروح. وكان عمله مؤلمًا جدًّا. عندما رأى جرحي تناول الملقط وأخذ يتفحّص جرحي قائلًا: "إنّ جرحك لم يتحسّن أصلًا! التأم سطحيًا فحسب".
 

1- بعد شهادته، اكتشف أحد الإخوة الرموز التي كان يكتب بها، وترجم بعضًا مما كتبه السيد أحمد فعرفنا أنه قد كتب تفاصيل شهادته، وكان على علم بكيفية وزمان شهادته. وقد استشهد في 6- آب- 1987م يوم عيد الأضحى.
 
 
190

182

عمليات النصر 7

 ثم تناول المقص وشكّه داخل الجرح، وضع أولًا مخدّرًا موضعيًّا لكي أتحمّل الألم.


فتح أطراف الجرح وعقّمه بواسطة القطن، وضرب لي موعدًا ثابتًا كل يوم كي آتي لتبديل الضمادة.

استمر ترشح الالتهابات والتضميد إلى أن تماثل الجرح للشفاء ابتداءً من اليوم العاشر، وفي المقابل حلّ مكانه تجويف بحجم قبضة اليد!

استغللت المدة التي قضيتها في تبريز من أجل إجراء عملية لقدمي. قال لي الدكتور "برزكر": "في مستشفى شهداء تبريز يجرون عمليات زرع أعصاب".

ذهبت في اليوم التالي إلى قسم زراعة الأعصاب في المستشفى، ولأني كنت مصرًّا ومستعجلًا على إجراء العملية قلت لهم عندما سألوني عن دوري: "لقد حان دوري في مستشفى الإمام".

تقرّر أن أدخل ذلك المستشفى وشاء القدر أن أكون مع "خليل مهدي زاده" في الغرفة نفسها، وكان في غرفتنا أيضًا رجل مدني طاعن في السنّ. لم يفقد قدرته على المشي كليًّا، ولكن تقرّر إجراء عمليّة له.

كانت الأفعال والتصرّفات العجيبة لأصدقائي في الغرفة تسلّينا وتروّح عن أنفسنا بعض الشيء. كان "خليل" لا يتوقف عن الكلام من الصباح وحتى المساء. وكان للرجل المسنّ عباراته وأفعاله الخاصة، فبعد العملية، كاد يصيبنا بالجنون بنياحه الذي تحوّل إلى هذيان بكلام بذيء خارج عن السيطرة ولم نستطع الحدّ منه.

أجرى "خليل" العمليّة قبلي. عندما عاد إلى الغرفة كان مقطّبًا
 
 
 
 
191

183

عمليات النصر 7

 ومضمّدًا من رسغ قدمه حتى الحوض. لقد أجرى له الدكتور "شربياني" عملية زراعة "عرق النسا" وقبل أن يستعيد "خليل" وعيه جاء الدكتور لمعاينته وأوصاني أن لا أدعه يتحرّك أبدًا، أي لا انحناء ولا نهوض بل كان عليه البقاء ممدّدًا على نحوٍ مستقيم إلى ما شاء الله، حتى تؤتي العملية نتائجها.


ولكن، عندما بدأ خليل باستعادة وعيه، كان يتحرّك صعودًا ونزولًا من الألم. وأنا كنت أعتقد أنّ عملية الزرع سهلة!! كادت تتقطّع كل عروق أعصابه حتى السالمة منها مع هذا التلوّي. 

ناهيك عن حركته المفرطة عند استعادته وعيه، فبعد يومين أو ثلاثة من ذلك، اتصل بأصدقائه وطلب منهم الحضور ليأخذوه للمشاركة في مسيرات اللطم والعزاء التي انطلقت مع بداية شهر محرم الحرام، وكان كلّ همّ "خليل" وفكره، المشاركة فيها، ولم يبقَ شيء مع عملية الزرع!

حان موعد عمليتي، لطالما انتظرت هذا اليوم وحسبتني بعد إجراء العملية سأصبح على أحسن حال!! حتى ذاك اليوم، لم أستطع التحكّم بقدمي، ومن الممكن أن تنثني في أي وقت وأقع. عبرت ممرّ غرفة العمليات بسرور، لكن من دون أن أعلم ماذا سيحصل لي. عندما استعدت وعيي على السرير، قال لي الطبيب الواقف فوق رأسي بالفارسيّة: "إنك محظوظ!".
- ماذا حصل؟

- لقد اتصلوا بالدكتور "شربياني" وسط العملية وهو من أجراها لك.
 
 
 
 
192

184

عمليات النصر 7

 في تلك الأيام رغبتُ كثيرًا أن يجري لي العملية الدكتور "شربياني". فهمت من خلال الشرح أنّ عضلتي قدمي العلويتين اللتين مهمتهما فتح القدم قد تقطّعتا وتمّ زرع إحدى العضلات السفلية بركبتي كي أستطيع التحكّم بحركتها. ووضعوا جبيرة لقدمي من الرسغ حتى خصري ما خلا أماكن القطب كي يتمكّنوا من تغيير الضمادات، فقد قُطِبت ساقي في الجهة اليسرى من الركبة حتى الحوض.


رقدتُ في المستشفى وأنا على هذا الوضع، وكان الأصدقاء يأتون لرؤيتي أحيانًا. عندما زارني "كريم حرمتي" تحدّثنا ثانية عن العهد والميثاق، ولكن أردت هذه المرة أن أحصل على نتيجة جيدة جرّاء العملية كي لا تعيق قدمي عودتي إلى الاستطلاع والعمليات. خرجت من المستشفى وعدت إليه بعد عشرين يومًا للمعاينة. قال لي الطبيب: "حرّك أصابعك، أرخِ قدمك، شدّها..". وأخيرًا أمر بفكّ الجبيرة.

فكّوا الجبيرة إلا أنّ قدمي لم تُثنَ! حتى ذاك الوقت لم يخبرني الطبيب أنّ قدمي ستعاني من المشاكل بعد العملية أيضًا. حزنت، إلا أنه لم يكن لديّ حيلة سوى الصبر والتوكّل. حاولت الالتزام بإرشادات الطبيب كي أتحسّن بشكل أفضل. طلب مني المجيء كل يومين، ذهبت وساعدني كلامه ونصائحه على التحكم في قدمي. أخبرني الطبيب أنّه حتى إذا تمكّنت من طيّ قدمي، لن أستطيع ذلك أكثر من 90 درجة فهذا أقصى ما يمكن أن نصل إليه في العملية.

إلا أنّي لم أستطع طيّها ومدّها ولو بمقدار قليل جدًّا. كلّما أردت مدّها كانت ركبتي تفعل العكس وتُطوى، وكلّما أردت طيّها كانت تستقيم!!
 
 
 
 
193

185

عمليات النصر 7

 وهذه المشكلة لم تكن بإرادتي. ففي الواقع، إحدى العضلات التي كانت وظيفتها طيّ القدم صارت تقوم بوظيفة العضلات المقطوعة التي كانت مهمّتها مدّ القدم.


خلاصة القول، إنّ قدمي كانت تعمل بعكس ما أطلب. بقيت يومين عند الطبيب، تمرّنت ونفّذت ما طلب منّي، بعد ذلك أرشدني إلى مركز علاج فيزيائي لأخضع لعدّة جلسات.

كان هذا العمل المخالف للإرادة يربكني، ولكن شيئًا فشيئًا اعتدت ذلك. كانت تفتح قدمي لغاية 180 درجة لكن كنت أعاني عند طيّها، وعند الجلوس كنت أمدّها. قضيت شهرًا كاملًا بين المستشفى والبيت ومركز العلاج أهتم بقدمي وقلبي يحترق شوقًا للذهاب إلى الجبهة. كان الإخوة الذين يأتون في مأذونيّة، يزورونني باستمرار. عندما أتى "كريم حرمتي" إلى منزلنا وقال إنّه سيعود إلى الجبهة اتّفقت معه وذهبنا ثانية إلى ثكنة الأهواز بسيارة إسعاف. وبما أني قُبلت في الجبهة وأنا على هذه الحال، فسأبقى فيها حتى نهاية الحرب!
 
 
 
 
194

186

ماووت

 ماووت

أواخر عام 1987م

 
 
(خريف وشتاء)
بعد تبديل التشكيلات والأماكن، قضينا أسابيع بين العمليات ومشكلات نقص الطعام وبلاءات أخرى، واكتشفتُ أن الجبهة في الجبال الغربية مختلفة عن جبهة الجنوب. وكان لا بد من المناورة. في قلعة "تشولان" وسط الثلج، لم أكن الجريح الوحيد مع ثلة من التعبويين والمنظّمين.

وهناك حين ترى لطف الله، بأم العين، لا يعود لك شأن بتفكير من يشكّك..
 
 
 
 
195

187

ماووت

 1


كانت الفرقة مستقرة في القاعدة الجويّة في الأهواز، وهناك التقيت صديقي العزيز "محمد حسين علي برستي" بعد وقت طويل، وقد التحق حديثًا بالفرقة وعيّن معاون وحدة الاستطلاع. تعود معرفتي به إلى الفترة التي عملنا فيها في منطقة "زيد". والآن وبعد مضي سنوات جذبتني نظرات اندهاشه بي، وها أنا قد تعافيت من الجراح والالتهابات.

بعد أيام على وجودنا في الأهواز جاء "كريم" وأخبرنا بضرورة تسليم القاعدة والانتقال إلى دزفول، قيل إنّ قوات الإسناد البريّة للحرس هي من سيستلمها.

إنّ مغادرة القاعدة الجويّة في الأهواز تعني وداعَ ذلك المكان الذي وُلدت فيه ذكريات لا تنسى، فما أكثر الشباب الذين عقدنا معهم عهد الأخوّة والشفاعة فيها! وها هم اليوم يرقبوننا من مقام الشهادة. كلّ بقعة من هذه القاعدة كانت محراب عبادة وكل زاوية تشهد على صلاة ليل شباب وحدة الاستطلاع، وما زلنا لغاية اليوم نتحسّس في هذا المكان عطر الحضور المعنوي لشهداء فرقة "عاشوراء"، خصوصًا السيد "مهدي باكري". لذا كان وداع هذا المكان المقدّس والابتعاد عنه مرًّا وقاسيًا كمن ينفصل عن جزء من وجوده.

لكن لا مناص من ذلك. بدموع منهمرة، أمضينا اللحظات الأخيرة في القاعدة وأودعناها عمق وجداننا وذاكرتنا واتجهنا ناحية دزفول.

نصبنا في دزفول خيمة خارج ثكنة الشهيد "باكري" كي تكون تحرّكات قوات الاستطلاع بعيدة عن أنظار حرس الثكنة والكتائب الأخرى. نصبنا
 
 
 
 
196

188

ماووت

 أوّلًا خيم كتيبة "شهداء كربلاء" ومن ثم خيمة لمصلّى كبير تحوّل إلى ملاذ ومأوى لجميع الإخوة. كما نصبنا لجهة المصلّى خيمتين متلاصقتين كانتا مقرًّا للقيادة. تمّ توزيعنا على الخيم، فكنت أنا في خيمة "كريم حرمتي" وكذلك أصدقائي "منصور فرقاني" و"أصغر عباس قلي زادة" و"محمد حسين علي برستي". ولأننا اعتقدنا أنّ موعد العمليات القادمة بعيد بعض الشيء، وضعنا برنامج تدريب للاستطلاع مع جدولة زمنية وذلك للحد من التراخي والبطالة. تقرّر أن ننفّذ هذا البرنامج في قوات "لواء زنجان" الذين شكّلوا أيضًا وحدة استطلاع. اقترحنا برنامجًا تدريبيًّا لكتيبة "شهداء كربلاء" التي كانت بتصرّف وحدة الاستطلاع، وهكذا امتلأت أوقات الإخوة بمختلف الدروس والبرامج التدريبيّة.


بعد ذلك، قمنا بتقسيم الإخوة في الخيم حسب فئات الدم1. وضعنا المشاغبين (كريم آهنج، يوسف صارمي، محمد بور نجف، حسن عبدي، مير داود حسيني) في خيمة، والمؤمنين (فريدون نعمتي، جلال خليل زاده، أبو القاسم وطن بور) في خيمة أخرى.

بالطبع كان الضحك والمزاح من سمات "حسن عبدي"، فكان يشغل الإخوة بمزاحه في كل متراس حضر فيه، ويطعّم كل أعمالهم بالضحك والمزاح من الصباح حتى المساء.

كان "حسن عبدي" يسمّي خيمة المؤمنين بخيمة "الطوارئ" لأنهم وضعوا في وسطها ستارًا، بحيث كان القسم الثاني من الستار مناسبًا جدًّا للاستراحة خلال النهار.
 

1- تعبير مجازي: يقصد به تقسيم الإخوة المشاغبين إلى مجموعات حسب سجاياهم وطبائعهم. (المترجم)
 
 
 
197

189

ماووت

 كذلك استمرّت الدروس، وكنت أذهب إلى صفوف: منصور فرقاني وأصغر عباس قلي زاده وكنت متيقنًا أنّ الدروس مفيدة وخاصة للإخوة الجدد. في تلك الأثناء، جاء "كريم حرمتي" مسؤول وحدة الاستطلاع في الفرقة بخبر يفيد أن فرقة "عاشوراء" ستنتقل من ثكنة الشهيد باكري في دزفول إلى ثكنة الشهيد "قاضي" في تبريز". كان السبب الرئيس لعمليّة النقل والانتقال هو استبدال منطقة مهمّة فرقة "عاشوراء" في الجنوب بمناطق غرب البلاد وأرادوا أن تكون قوات الدعم والإسناد في الفرقة قريبة من منطقة العمليات.


حزمنا أمتعتنا كباقي الإخوة في منطقة الجنوب الملأى بالذكريات واتجهنا ناحية ثكنة "الشهيد قاضي" في تبريز.

*

تمّ تخصيص أحد المباني الثلاثة الواقعة في مقدمة الثكنة لقوات الاستطلاع والمبنيين الآخرين للأركان والقضاء. استقرّت كتيبة "شهداء كربلاء" التي كانت تحت إمرة وحدة الاستطلاع في القسم الأخير للثكنة، في الأبنية القريبة من المطبخ.

توجد في هذا القسم أيضًا أربعة مبانٍ، استقرّ فيها إضافةً إلى كتيبة "شهداء كربلاء" كتيبتا "حبيب" و"الإمام الحسين عليه السلام" أيضًا.

بعد تبديل القوات، عيّنني "كريم حرمتي" الذي كان بدوره مسؤول كتيبة "شهداء كربلاء" نائبًا له، وطلب مني إعداد برنامج لتدريب القوات.

بدأت التدريبات وبدأت معها التمارين الرياضية والركض الصباحي،
 
 
 
 
198

190

ماووت

 وكذلك البرامج الليليّة التي كانت بمعظمها تُنفّذ في التلال الخلفيّة للثكنة، وقام بإدارة هذه الأنشطة والدروس مدرّبون عسكريّون، وقد زاد هذا الأمر من اللياقة البدنية لدى القوات.


إلى جانب هذه التدريبات، طغت الحالة الروحيّة لشباب الكتيبة وصفاء الجبهة وطهارتها على كل مباني "ثكنة الشهيد قاضي". إذ لا ينحصر عشق الإخوة للّطم وإقامة مجالس العزاء في منطقة معيّنة وكلّما سنحت الفرصة وفي أي مكان حضرنا كان يعلو ذكر "الحسين" و"صاحب الزمان" عليهما السلام. كانت المجالس تبدأ بذكر سيد الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام وأهل بيته، وتستمرّ بالتوسّل بالسيدة الزهراء عليها السلام وذكر الشهداء والأصحاب الذين هم زينة مجالسنا.

كان مسؤول الفصيل الأخ "عزيز بيكلر"1 من الإخوة السبّاقين إلى إقامة هذه المراسم، أما "أمان الله أماني" الذي تولّى مسؤوليّة (السريّة 1)، فقد كان يُحضِر القرّاء والرواديد من تبريز إلى الكتيبة والوحدة لقراءة العزاء واللطميات.

منذ أن تسلّمت منصب نائب قائد الكتيبة، جهدت لحضور كل التدريبات رغم أني واجهت الكثير من المشاكل في تسلّق المرتفعات. لم أستطع ثني ركبتي اليسرى، ولمّا كنت أتعثّر بحجر ارتفاعه 5 سم لا أستطيع رفع قدمي، وكان عليّ إما رفع جسمي بأكمله وإما الالتفاف حول الحجر. واجهت مشقة بالغة في صعود تلك الهضاب والروابي
 

1 استشهد في عمليات (بيت المقدس 3).
 
 
199

191

ماووت

 الصخرية، لكني لم أستسلم وجهدت كي لا أظهر أي ضعف. في إحدى المرات ذهبت مع قوات الكتيبة في مسير ليلي. كنت أسير في المقدمة وأساعد في سحب الإخوة والتسلّق للأعلى. سمعت أحدهم يقول لرفاقه: "لقد أنهك قوانا رغم وضعه هذا! ترى لو كان سالمًا ماذا كان فعل بنا؟!".


لا أدري، ربما لو بقيت سالمًا ولم تمرّ عليّ تلك الأيام، أيام برزخ الجراح والالتهابات والرقاد في المستشفى لما قمت بهذه الأعمال بذلك القدر من الهمة والحماسة!

*

ملأنا فراغ أيامنا ببرامج مماثلة لكنها لم تكن يومية ورتيبة، ففي كل حصة كنا ننقل للعناصر أمورًا وتجارب جديدة، إلى أن حدث في ثكنة "الشهيد قاضي" أمران في الوقت نفسه. الأول، ذهاب عدد من قوات الاستطلاع إلى منطقة العمليات هم: مسؤولا المحور "أصغر عباس قلي زاده" و"ناصر ديبايي" بالإضافة إلى الإخوة "جلال خليل زاده، غلام رضا محسن، حسن عبدي، أبو القاسم وطن بور، حسين سعادتي، وأمان الله أماني"، وقد ذهبوا قبل الجميع إلى هناك.

الأمر الثاني، تمّ إبلاغ كتائب: "حبيب بن مظاهر، شهداء كربلاء، سيد الشهداء، الإمام الحسين والقاسم" بالذهاب إلى "رحمانلو"، وهي منطقة قرب بحيرة "أرومية" في "آذربيجان الغربية"، وتجهيز أنفسهم للعمليات.

تألّمت كثيرًا لذهاب شباب وحدة الاستطلاع، وكنت أشعر أني
 
 
 
 
200

192

ماووت

 سأغدو من أولئك القاعدين الباقين دائمًا! لكنّني كنت أمنّي النفس بأنّهم سيوكلون إليّ مهمّة بالكتيبة، ومن المؤكد أنّي سأشارك في العمليات كوني مسؤولًا فيها.



*

في "رحمانلو"، ما إن عبرنا مخفر الشرطة العسكرية حتى وصلنا إلى أخدودين. حيث تموضعت كتيبة "شهداء كربلاء" في أعلى الأخدود، وكتيبة "حبيب" إلى يساره وكتيبة "بقية الله" إلى يمينه.

واجهتنا بعض المتاعب في تهيئة الخيم والتموين من قسم الدعم، ولكنّنا على كل الأحوال انتقلنا وأصبح المقرّ مكتملًا وعدنا ثانية إلى التدريبات التي تحاكي العمليات الجبلية، وحُدّت التدريبات في كتيبتنا بالمناورة والمسير.

ها قد حلّ الشتاء. ولم يخفّف انعدام الثلج من شدّة الصقيع، واستمرّت المناورات، لكن كان أمامنا الكثير كي نصل إلى المستوى الطبيعي. رغم الصقيع القارس، رافقت الإخوة في شتّى الظروف، حاولنا التعرّف إلى خصائص المنطقة الجبليّة من خلال السير الطويل في أوعارها والصعود إلى مرتفعاتها.

كانت الرياح تهبّ ليلًا من ناحية بحيرة أرومية فتزيد من شدة الصقيع، وأحيانًا كانت الحركة الليلية تترافق مع سقوط الثلج، حتى إنّ المناورة الأخيرة في المنطقة قد جرت تحت تساقط الثلوج.

في تلك الأوقات واجهت كتيبتنا عقبات إضافية غير معهودة عند الكتائب الأخرى. فقد اعتادت كتيبتنا على العمل في منطقة الجنوب
 
 
 
 
201

193

ماووت

 الحارة، وفجأة انتقلت إلى الغرب حيث الصقيع والجبال. وفي حين كانت مدفأة واحدة كافية لتدفئة الخيمة في الجنوب، لم تكن كذلك في صقيع ثلوج "رحمانلو"، وكانت 4 بطانيات لا تكفي لتُشعر أحدنا بالدفء سواء في الليل أو خلال النهار.


من جهة أخرى واجهت معظم الكتائب مشكلة في استهلاك الشاي، الشراب الساخن الذي يساعدنا على تحمّل الصقيع، والذي كان متوافرًا إلى حدّ ما، إلا أنّنا واجهنا نقصًا حادًا في وجود مكعّبات السكر. فقد حصّصت كميات السكر، وكانت تُبحث حصة الفرد اليومية منها، في بعض الجلسات على مستوى الكتائب. إضافةً إلى هذه المشكلات العامة، كان لكتيبتنا الحديثة التأسيس مشكلاتها الخاصة. لقد أعطوا كل الكتائب باستثناء كتيبتنا شاحنة "تويوتا" صغيرة لتأمين الحاجيات اللوجستيّة، أما سيارة كتيبتنا فكانت (لندروفر) شبه معطّلة، ولأنّه لم يكن بإمكاني القيادة فقد تولّى الإخوة ذلك. لم تكن هذه السيارة مناسبة لنقل الدعم، الذي لم يكن وضعه مقبولًا أصلًا، للكتيبة.

السبب الرئيس لهذا النقص هو أنّ كل كتيبة حديثة التأسيس كانت تعاني من هذه المشكلات في بداية عملها. بالتأكيد كان وجود إخوة أذكياء، و"خفيفي اليد" في الكتيبة مهمًّا جدًا ويعملون على تأمين وسدّ حاجياتنا إلى حد كبير.

كان مسؤول المراسلات (البريد) "كريم دهقان زاده" شابًا شجاعًا وماهرًا. في كل مرة يجري الحديث أمامه عن نواقص الكتيبة، يذهب بسرعة ويحضروها من أصدقائه على طريقته الخاصة! ففي أحد الأيام
 
 
 
202

194

ماووت

 أخبرونا عن عدم وجود مصباح لخيمتنا. قلت لثلاثة من الشباب وكان كريم حاضرًا بينهم: "الإخوة بحاجة إلى مصباح، ما العمل؟".


أجاب كريم دهقان زاده:
- لديّ صديق، سأذهب وآخذ منه مصباحًا، المسألة سهلة.

قال جملته هذه وذهب. لم تمض ساعة حتى أتى وفي يده صندوق مصابيح.

- كريم! من أين لك هذا؟

- من صديقي، أرأيت كم هو سخيّ!!

في اليوم التالي، وكالعادة ذهبت لتفقّد أصدقائي وتفقّد كتيبة "حبيب"، سمعت الأخ "محمد علي زينالوند" – مسؤول الدعم في كتيبة "حبيب"- يقول إنهم افتقدوا أحد صناديق مصابيحهم. لقد أصبح كريم حاذقًا في "النشل".

كانت كتيبة "حبيب" قد جمعت في أسفل مقطورة الدعم (كونتينر) الخاصة بها عددًا من عبوات المخلّل البلاستيكية، فعمل كريم بحذاقته على إحضار عبوة لكلّ فصيل.

- لقد خلق الله الأقوياء لإطعام الضعفاء!

وقد راجت أنواع الغزوات الإسلاميّة بين الكتائب، وعادة ما كانت تُستهدف كتيبة "حبيب" والكتائب المدعومة المجهّزة تجهيزًا جيّدًا.

وأصبحت خيمة "جلال زاهدي" في كتيبة "حبيب" مآبنا ومحلّ تجمّعنا. كانت محبّتي لكتيبة "حبيب" لا توصف، وبسبب صداقتي مع الأخ "سوداكر" و"فرج قليزاده"، كنت أحلّ ضيفًا عليهما مرّة كلّ
 
 
 
 
203

195

ماووت

 عدّة أيّام، وكنا خلال الفرص التي تتاح لنا أثناء اليوم، ننتقل من خيمة إلى خيمة، ضيوفًا وزائرين. أحيانًا كان "محمد بور نجف" و"حسن عبدي" يزوران خيمتنا، مصطحبين معهما المزاح والضحك. كنّا نلتقي كلّ الإخوة في صلاة الجماعة التي كانت تُقام في المصلّى المشيّد بجوار كتيبة "حبيب"، وقد شيّد بدمج عدّة خيم كبيرة (10x20م). وكانت تُقام فيه أيضًا مراسم العزاء والخطب وصلاة الجماعة والبرامج الخاصة للكتيبة. في الحقيقة، كانت وجوه بعض الإخوة والعناصر تشعّ بالنورانيّة في مجالس العزاء. فكانت حال "سعيد اعتدادي"1، "عزيز بيكلر"، "إبراهيم نجاد"، "جلال زاهدي" و.. في المجالس الحسينيّة لافتة ومشهودة فعلًا. فسعيد اعتدادي فتًى في السادسة عشرة من عمره، التحق حديثًا بجمع قوّاتنا، كان طيّبًا ودودًا وقد أحببته كثيرًا.


في كلّ ليلة كانت لدينا تدريبات ومناورة، كنت أعرف جيّدًا ماذا يعني التسلّق والصعود بأيدٍ متجمّدة تحت سياط الثلج والمطر وقساوة الرياح اللاذعة! إلّا أنّ ذكرى أخرى لم تغادر ذاكرتي، وهذا الصقيع والزمهرير ليس بشيء مقارنة بها، وهي ذكرى غوّاصي عمليّات (والفجر 8) و(كربلاء 4) و(كربلاء5). فقد كنت أرى بأس تجسّم العشق في وجودهم.

كان قادة اللواء والفرقة يراقبون ويقيّمون نتائج التدريبات الليلية، من خلال المناورات التي كانت تجري على مستوى اللواء. وكان مسؤول
 

1- التحق سعيد اعتدادي بركب الشهداء العظيم في عمليات (بيت المقدس 2) ولن أنسى وجهه الملكوتي ما دمتُ حيًّا.
 
 
204

196

ماووت

 المناورة الأخ "جمشيد نظمي". تقرّر أن تتحرّك الكتائب بشكل ثنائي، كل كتيبتين معًا، وقد تشاركنا المسير مع كتيبة "حبيب"، ومن أجل تقييم أفضل، أُجريت مناورة محاكاة للمنطقة. فقد اختاروا مرتفعًا يشبه إلى حدّ كبير ذلك المراد الاستيلاء عليه في العمليات القادمة، وباستخدام العوائق وسلسلة التشريكات المتفجّرة، إضافة إلى عناصر يقومون بدور العدو، وقد سمح لهم بإطلاق الرصاص العشوائي علينا كي تبدو أكثر واقعية.


كانت كلّ كتيبة تتحرّك في ثلاثة محاور على شكل مجموعات، وبعد تسلّق المرتفعات والاستيلاء على مواقع العدو الافتراضية، كانت تلتحق بالكتيبة التي هاجمت من الجهة الأخرى.

انطلقت الكتائب في أوقات محدّدة وعلى التوالي في المسير المحدّد لها، وكان تقييم المسؤولين النهائي أنّ أداء كتيبتي "حبيب" و"شهداء كربلاء" هو الأفضل من بين الكتائب. ومعنى هذا الكلام أنّ الجديّة وتحمّل المشاق والبرد خلال التدريبات والمسير الليلي كان لها الأثر الواضح والنتائج المطلوبة.

*

مضت أيام على انتهاء المناورة. قال الأخ "جمشيد نظمي" قائد اللواء: لدينا اجتماع في المنطقة وعليّ الذهاب إلى هناك. اعتقدت أنّ الجلسة ستكون من أجل تقسيم الكتائب وتوزيعها لتشارك في العمليات، ونظرًا لجهوزيّة واستعداد كتيبتنا توقّعت أن يتمّ اختيارها لتكون في خطّ الاقتحام والهجوم.
 
 
 
205

197

ماووت

 في اليوم ذاته، توجهت صوب المنطقة برفقة الإخوة "محمد سوداكر، حسين أبو القاسم زاده، سيد محسن موسويان، ياسر زيرك، كريم حرمتي، محمد حسين، والحاج مصطفى أكبري" الذي أوكل إليه قيادة كتيبة "القاسم"، بعد عمليات (النصر 7)، وبرفقة الأخ نظمي نفسه.


2

كانت هذه المرّة الأولى التي أذهب فيها إلى "ماووت".

كان الإخوة في استطلاع العمليات قد تموضعوا في مقرّ دشمة باطونية يقع على صدر مرتفع "سركلو" المتشعّب من مرتفع "كامو" وفيه مقرّ آخر باسم الشهيد "داوود آبادي"1 وقد استولت قوات الإسلام منتصف شهر نيسان 1987م على هذا المقرّ في عمليّات (كربلاء 100).

كانت القوات العراقية، حتى ما قبل عمليات (كربلاء 10) وعمليات (النصر 4)، لا تزال في الجهة الأخرى لنهر "تشومان" وقواتنا في هذه الضفة.

بعد هذه العمليات تمّ تحرير المرتفعات المشرفة على مدينة "ماووت" حتى نهر قلعة "تشولان". وكانت عمليات (النصر 8) التي جرت في تشرين الثاني من عام 1987م هي العملية التكميليّة الأخيرة، التي هدفت لعبور نهر "قلعة تشولان"، وبعد ذلك أضحت مرتفعات "كرده رش" تحت سيطرة قوات الإسلام.

كان مرتفع "كرده رش" مرتفعًا قاسيًا مليئًا بالمنحدرات، إذ يوجد 38
 

1- كان مقرّ "النجف" في تلك الأيام في حالة تغيير وتبدّل، وكان لديه مهمة في إطار "حرس النجف" حتى يستقرّ في غربي البلاد.
 
 
 
206

198

ماووت

 منعطفًا في طريق الدعم والإسناد الموصلة إليه، وهي منعطفات حادة جدًّا!


حمل المقرّ في "سركلو" اسم الشهيد "بني هاشم" وعرف من قبل باسم الشهيد "قهوه تشيان"، ويضمّ دشمة الاستطلاع والتخطيط للعمليات، التي تقع في نقطة أكثر ارتفاعًا من دشمة القيادة.

ما إن رأيت "كريم حرمتي" يتّجه إلى تلك الناحية حتى سألته: "ألن تذهب إلى الجلسة؟".

- كلا، اذهب أنت وانظر ما الأمر، سأنتظر هنا.

ذهبت إلى دشمة القيادة، وكالعادة افتتحت الجلسة بآيات من القرآن الكريم وأعلن الأخ "أمين شريعتي" بعد حديث ومقدمات عن الخطة الأولية لعمليّات الفرقة.

- ستهاجم فرق: "عاشوراء"، "سيد الشهداء"، "حضرة الرسول"، "كربلاء 25" و"النصر 5" العدو بشكل جبهوي1 وستستولي فرقتا "عاشوراء" و"سيد الشهداء" على مرتفع "قاميش"، وهو مرتفع المنطقة الأساس2.

إلى هنا كان الكلام ممتعًا للجميع، إذ إنّ فرقتنا ستقوم بأهم وأصعب مهمة.
 

1- الهجوم الجبهوي: نوع من التكتيكات العسكرية التي تعتمد على مهاجمة مقدمة قوات الأعداء بطريقة مباشرة، ومن مخاطره تعرّض القوات المهاجمة لنيران الأعداء مباشرة وعدم قدرتهم على المناورة، وهو آخر تكتيك يمكن أن يلجأ إليه قادة المعارك، (المترجم).
2- تحرّرت "كرده رش" في عمليات (نصر 8)، وتقرّر بدء العمليات من هناك، لكن بسبب عدم أهميّة مكانة كرده رش، أُلغيت المناورة وتقرّر أن تبدأ العمليات من "قاميش".
 
 
 
207

199

ماووت

 حان الوقت لتقسيم الكتائب. كانت إجراءات قيادة الفرقة على الشكل التالي: "ستتولّى كتيبتان من فرقتنا عملية الاقتحام، وتنطلق كتيبتا الإسناد من أخدود (منخفض) بين "كوجار" و"قاميش"، على أن ترافقهما كتيبتان أخريان وتدخلان ميدان المواجهة لاستكمال العمليّات في "الاغلو".


كان واضحًا على الخريطة أنّ مرتفع "كوجار" ضيّق مساحة العمليات وحدّدها، على أن تتواصل من هناك إلى اليسار وصوب مرتفعات "الاغلو" وأخدود "دلبشك" حيث يصل في النهاية إلى سهل السليمانيّة في العراق.

تقرّر أن تتولّى كتيبتا "حبيب" و"القاسم" الاقتحام، وأن تشارك كتيبتا "الإمام الحسين" و"بقية الله" عجل الله تعالى فرجه الشريف في المرحلة الثانية.

كنت كمن يجلس على شوك، سيطرتُ على نفسي بصعوبة. وقع نظري على السيد "محسن موسويان" –مسؤول كتيبة "سيد الشهداء"- كان منزعجًا بمقدار انزعاجي فلا مكان لكتيبتنا ولا لكتيبة السيد محسن لا في المرحلة الأولى ولا في الثانية من العمليّات.

قلت للأخ أمين1: "أخ أمين، لقد تعبنا كثيرًا في تأسيس هذه الكتيبة وقد وعدْنا الإخوة أنّهم سيكونون في الاقتحام، لكن بما أنّه..".
- سيد مهدي، ستذهبون إلى بغداد بالمروحيّة إن شاء الله!

ما كان من المتوقع تقبّل هذه المزحة الأخويّة مع ما أظهرته من إصرار
 
 

1- مسؤول فرقة عاشوراء
 
 
 
208

200

ماووت

 واعتراض، ولشدّة انزعاجي لم ألتفت ولم أفكّر بأنّ الجزء الأهم والحمل الثقيل يقع على عاتق الكتائب التي ستدخل المعارك بعد انتهاء المرحلة الأولى والثانية. فهجوم العدو وضغطه الأساس يبدأ عندما تكون القوات الهجومية وقوات المرحلة الثانية قد قامت بعملها، ولذلك فإذا ما كانت الكتيبة التي تتولى الدفاع عن الخط المتقدم في المراحل التالية للهجوم ثابتة وقويّة بإمكانها صدّ هجوم العدو الواسع والوقوف في وجهه، وفي غير ذلك فإنّ كل الجهود والتعب يذهب سُدًى.


كنت في ظروف لم أستطع معها تقدير المسائل حتى إنّ مزحة قائد الفرقة لم ترق لي.

انتهت الجلسة ولم أنفك منزعجًا وكلّ تفكيري هو ماذا سيحلّ بالكتيبة عندما يبلغها هذا الخبر!

خرجنا من هناك واتّجهنا صعودًا. فهم "كريم" ماذا حصل من خلال هيئتنا وحالنا فقال: "لقد وعدنا السيد أمين نفسه، إذا أخلف وعده فأنا لا أستطيع الحفاظ على الكتيبة ومع هذا الوضع لن يكون لدينا أي كتيبة في الوحدة".

- كما تشاء يا كريم! أنت قائد هذه الكتيبة. اذهب وقل كلّ ما لديك للسيد أمين.

هذه المرّة، بقيت هناك وذهب كريم إلى دشمة القيادة، ووقفت هناك أراقب المنطقة.

تموضع شباب الإسناد والهندسة أسفل مقرّ القيادة.

كان الجو باردًا، مع ذلك وقفتُ ورحت أنظر من مرتفعات "سركلو"
 
 
 
 
209

201

ماووت

 في العراق إلى وطني العزيز إيران. لقد عاينت نهر "تشومان" ومرتفعات "بانه" و"سردشت" بوضوح.


عندما عاد كريم فهمنا خلاصة الأمر، فبما أنّ كلّ شباب كتيبة "شهداء كربلاء" قد جاؤوا إلى المنطقة طلبًا للمشاركة في العمليّات وهم الآن ليسوا في مجموعات الاقتحام، ولتقوية كتائب الاقتحام ولتحقيق رغبة الإخوة سيتمّ توزيعهم على هذه الكتائب.

- أنا لا أستطيع تبليغ هذا القرار للإخوة، يعني لا أجرؤ على النظر إلى وجوههم في وضع كهذا. من يستطع ذلك فليذهب!

قلت هذا ونأيت بنفسي عن المسألة. وافق "محمد حسين علي برستي" على هذا الأمر وذهب إلى مركز الكتيبة، أما أنا فبقيت هناك إذ لم أرَ حاجة لذهابي.

بعد عدّة أيام علمتُ أنّ "عزيز بيكلر" قد انضمّ مع فصيله إلى كتيبة "حبيب"، وإن عددًا من الإخوة القزوينيّين التحقوا بكتيبة "القاسم" وعددًا آخر التحقوا بكتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، و"بقيّة الله عجل الله تعالى فرجه الشريف". مع هذا التقسيم، لم يعد للكتيبة وجود مستقلّ، والتحقت أنا مجدّدًا بوحدة استطلاع الفرقة.

لقد توافرت لي فرصة جيدة للاطلاع عن كثب على عمليات استطلاع المنطقة نوعًا وكمًا.

كان الإخوة في الاستطلاع قد عملوا مدّة من الزمن في منطقة "شاشو" و"تشكمة" الواقعة أعلى ماووت تقريبًا. ولكن المهمة هناك ألغيت، واستمرّ الاستطلاع في مرتفع "قاميش".
 
 
 
 
210

202

ماووت

 كان عمل الاستطلاع في المحورين بقيادة "أصغر عباس قلي زاده" في المحور الأول و"ناصر ديبايي" في الثاني. وعمل في محور "عباس قلي زاده" الإخوة: غلام رضا محسني، أمان الله أماني، حسين صفاشور، عبد الواحد محمدي وعدد آخر.


وفي محور "ديبايي" عمل الإخوة: حسين سعادتي، جلال خليل زاده، أبو القاسم وطن بور وغيرهم.

كان يمكن سماع بعض الهمسات والأمور التي سبق وسمعناها في عمليات (النصر 7). فتبديل منطقة المهمّة من الجنوب إلى الغرب كان يعني أنّه من الآن فصاعدًا ستنفّذ أكثر العمليّات في الجبال الغربيّة، وبالتالي كان على الإخوة الذهاب لاستطلاعها، ولكنّ بعضهم كان يتحجّج بأنّنا لسنا قوات جبليّة أو ليست لدينا خبرة لاستطلاع المناطق الجبليّة.

كنت أشعر بغربة شديدة في الوحدة، وبدت لي أيضًا معاناة الأخ حرمتي وغمه من هذا الأمر. عندما كنت أرى بعض الإخوة يتذرّعون بالحجج الواهية كي لا يذهبوا إلى الاستطلاع، أتذكّر الشهيد "أمير أسد اللهي" الذي كان يذهب للاستطلاع ليلًا ونهارًا في عمليّات (النصر 7)، فقد كان "مجموعة" في "رجل واحد"، وفي اليوم الذي انطلقت فيه العمليات بدا متعبًا ومغمومًا فلم يكن لشيء أن يداويه سوى الشهادة.

كنت أرى كلّ هذا ويكاد قلبي يتفطر من الحزن. لم يكن أحد مستعدًّا لسماع قولي "أنا أستطيع الذهاب إلى الاستطلاع".

من جهة أخرى، فإنّ بعض الإخوة الذين التحقوا بالوحدة منذ مدّة، وبعد فترة من التدريبات وصلوا إلى حدّ ينبغي عليهم الذهاب إلى
 
 
 
 
211

203

ماووت

  الاستطلاع، لكنّهم إما لم يتمتّعوا بالمقدرة واللياقة الكافيتين أو كانوا يكثرون من الحجج والذرائع:

- أنا مريض، بطني يؤلمني..

- أنا لا أستطيع العمل في الصقيع، إنّ قدمي ويدي تُشلّ من البرد..

- أنا لا أستطيع المجيء بسبب..

- الوضع هنا مختلف عن الجنوب كثيرًا.. لا أستطيع العمل هنا!

كان قلبي يشتعل غيظًا!

- أين غوّاصو (والفجر8)؟ أين شهداء (كربلاء4)؟ أين مفقودو الأثر في (كربلاء5)؟ أين أنتم أيّها الإخوة الذين كنتم حاضرين لتقديم كل ما تملكون في مقابل بقائكم في كتيبة الغوص تتجمّدون في التدريبات الليليّة كي يعثر دمكم الدافئ على لياقة واستعداد لهزيمة نهر "أروند"؟ أين أنت يا "إبراهيم أصغري"؟ وأنت يا "يوسف حقايي"؟ "عباس محمدي"؟ "حميد اللهياري"؟ "علي شيخ علي زاده"؟ "كريم وفا"؟ "محسن كياني"؟ أين البدريّون؟ أين الخيبريّون؟ أين الكربلائيّون؟ أين أنتم أيّها الأنصار الذين نلتم في الجهاد الأكبر أول وثيقة انتصار على برد نهر كارون المجمّد للعروق بلباس الغوص؟ أين أنت يا "أصغر علي بور" ببدنك المريض والمثخن بالجراح عندما حُرمتَ من المشاركة مع فصائل الغوص وكدت تموت من النحيب والبكاء؟ أين أنتم أيّها الشهداء؟ أين أنتم؟
 
 
 
 
212

204

ماووت

 كنت أكتوي لكني لم أستطع قول شيء. كنت أعرف كم ستضطرب قلوب الإخوة الذين يشاهدون هذا التبدّل في روحيّة البعض ويشاهدون تغيير الأوضاع في ميدان الجبهة وما وراء الجبهة وفي ميدان السياسة. العمل الوحيد الذي كان باستطاعتي القيام به هو أن أحمل على عاتقي قسمًا من عبء الاستطلاع مهما كلّف ذلك، لكن كلّما أصررت أكثر بدوا وكأنهم يزدادون رفضًا، حتى لم يؤيّد رأيي شخص واحد.


كان كلّ من نظر إليّ، وبنظرة أولى، من رأسي إلى أخمص قدمي يسعى لإفهامي أنّ عملي الذي أقوم به الآن لا يقلّ أهميّة عن الاستطلاع.

وصارت مهمتي رسم المخطّط وإجراء بعض التعديلات على الخريطة. كنت أرى كيف أنّ بعض الإخوة يقومون بتنفيذ عدد من الأعمال كي يملؤوا الفراغ الذي يتركه آخرون. فهذا "محمد بور نجف" الذي كان يخاف من العمل في المنطقة الجبليّة خلال عمليات (النصر 7)، ها هو يقوم بأعمال عدّة أشخاص.

اعتقدت أنّه حان الوقت كي أقوم بتقديم شخص آخر إلى كريم حرمتي. لم يكن أحد من بين عناصر الوحدة يعرف "حسين صفا شور" جيدًا سواي.

لم يكن يقبل أبدًا أن يقوم أحد بالتعريف عنه أو الثناء على أعماله وكنت أحترم فيه هذه الخصلة ولم أخبر أحدًا بذلك. ولكن عندما رأيت أنّ حسين صفا شور يعمل سائقًا وحسب، أسرعت وقلت لكريم أن يستفيد منه قدر المستطاع. أخبرته أنّ "حسين" كان مسؤول المحور في جبهة "شوش" في بداية الحرب وقد قُطعت أعصاب يده نتيجة إصابته
 
 
 
 
 
213

205

ماووت

 في تلك المرحلة من الحرب. بدأ "كريم" يعتمد على "حسين صفا شور" لإنجاز المهام، وبسرعة ظهرت قدراته المتميّزة للجميع.


في إحدى المرات ذهب كلّ من "أمان الله أماني"، "أصغر عباس قلي زاده" و"حسين صفاشور" إلى الاستطلاع. يقول "أمان الله أماني" إنّه في كلّ مرّة كان يحدث أمرٌ يحتاج إلى تدبير وحكمة، كنتَ ترى حسين في تلك اللحظة يتّخذ قرارًا بسرعة ويقترح على مسؤول المحور أنّه إذا قمنا بهذا العمل سنوفّق بشكل أكبر.

كان حسين محلّ ثقة الجميع في آرائه. وعلى هذا النحو أصبح أحد "المداميك" المهمّة في الوحدة رغم أنّه جريح يعمل بيد واحدة فقط. وكان حضوره وحضور أمثاله الفعّال في الوحدة يربط على قلبي ويشحنني بالقوة حتى أستطيع مرافقة الإخوة رغم جراحي. لكن الاعتراضات السابقة استمرّت وشاء القدر أن تعود إفرازات التهابات خاصرتي ثانية، ثم بالتدريج ومع الوقت، انفتق الجرح وانهمكت بتضميده.

3

بهدف ملء الفراغ الموجود في الوحدة، انتقل جمع من الإخوة الذين كانوا قد بقوا في ثكنة "الشهيد قاضي" في تبريز حتى ذاك الوقت إلى المنطقة التي نحن فيها كي يتعرّفوا إليها ويطّلعوا على مجمل العمليات ويساعدوا الشباب في المراحل التالية.

مع مرور الوقت أخذ الصقيع يشتدّ أكثر فأكثر، وما زاد الطين بلّه تساقط الثلج وتشكل الجليد، وأنا الذي كنت أسير بصعوبة بالغة على طريق عاديّة فإنّ حركتي في تلك الظروف لم تتيسّر إلا بلطف الله فقط.
 
 
 
 
 
214

206

ماووت

 ورغم الظروف الصعبة واشتداد البرد والرياح الحاملة للثلوج انتقلت الكتائب إلى المنطقة واستقرّت هناك.


دار حديث العمليات على الألسن وانتشر الكلام أن العمليات قد تحدث ما بين اليوم والغد.

واستدعت مشكلة عبور نهر "قلعة تشولان" التي ظهرت خلال عمليات الاستطلاع ووجود المنحدرات الحادّة لمرتفعات "قاميش" ومنطقة العمليات الثلجيّة وكذلك استخدام العدو لأحدث تجهيزات التنصّت والرادارات، عقد جلسة على مستوى المقر. ونتج عن الجلسة أن تذهب كلّ الكتائب في إجازة، وهكذا أشيع انكشاف أمر العمليات للجميع. انتشر خبر انكشاف أمر العمليات بسرعة بين الجميع، حتى كدنا نصدّق ذلك. أُعطيت مأذونيات لمعظم القوات، وكنّا في حيرة من أمرنا، ترى ما هي وظيفتنا وما هو تكليفنا؟! لكن لم يطل الانتظار، وفي ذلك اليوم نفسه أخرجنا الأخ "كريم حرمتي" من حيرتنا:
- مهدي قلي، لا تغادر، لدينا عمل.

ذهب الجميع وبقي تسعة أشخاص من قوّات الوحدة في المنطقة. عندما اجتمعنا في مكان واحد، طُرح الموضوع الأساس: "من الآن فصاعدًا، إنّ حصول العمليات أو عدم حصولها منوط بوجودكم وعملكم في المنطقة. اذهبوا إلى هناك ودقّقوا جيّدًا هل يمكن لكتيبة واحدة أن تعبر نهر "قلعة تشولان" أم لا؟ عليكم الوصول إلى الضفة الأخرى من النهر بأي شكل من الأشكال واستطلاع الأرض هناك".
 
 
 
 
215

207

ماووت

 مع توالي أيام الشتاء واستمرار تساقط الثلج ازداد تراكمه على المرتفعات، وشكّل تراكمه في بعض المناطق مثل "كوشار" جدارًا بارتفاع سبعة أمتار. وقد واجه شباب الاستطلاع أيضًا في "قاميش" نفسها وعلى طول الطريق مشاكل في العبور وتخطي الثلوج وظهور آثار أقدامهم عليها. المشكلة المهمّة الأخرى، كانت بُعد "الإسناد" عن محاور العمليات. فإنشاء جادة للإسناد في تلك الظروف غير ممكن تقريبًا، حيث ينبغي أن تمتدّ من وسط سفح "جاجيله" حتى الأخدود بين "قاميش" و"كرده رش" ومن خلال اتصالها بسهل "هرمدان" تصل إلى جادّات العدو وطرقه، بينما كانت هذه الطريق بتمامها تحت مرأى العدو ومرمى نيرانه، ولم يكن العدو يسيطر على مرتفعات "قاميش" فحسب، بل كان لديه كمائن في سفوح "كرده رش" أيضًا. لذلك، كان استحداث هذه الطريق من هناك غير معقول وغير ممكن حتى خلال الليل بسبب وجود رادارات "رازيت"1 على مرتفعات "قاميش"، فهي بالتأكيد ستكتشف الأمر، وقد قلّل وجودها من تردّد وسائل النقل والعناصر في المنطقة إلى حدّ كبير جدًّا.


رغم كلّ تلك العقبات، تابع تسعة أفراد، من عدّة نقاط، محاولاتهم لعبور نهر "قلعة شولان". كنت أنا والإخوة: "أصغر عباس قلي زاده، ناصر ديبايي، محمد حسين علي برستي، جلال خليل زاده، حسين سعادتي، أبو القاسم وطن بور، وغلام رضا محسن، نعمل في عدّة مجموعات على هذه المسألة.
 

1- نوع من الرادارات التي تكشف مرور الأفراد ووسائل النقل. 
 
 
 
217

208

ماووت

 كان نهر "قلعة شولان" شديد التدفق والانسياب، وتُرَاود الذهن فكرة عدم إمكانية عبوره، ولكن وصل أوّل خبرٍ سعيدٍ: "لقد عبر السيد أصغر النهر مع بضعة عناصر واستطلعوا المكان حتى كمائن "عروج" أيضًا!". فقد عبروا من مكان تتقارب فيه صفائح الصخور من بعضها وسط النهر.


بعد عبور النهر ذهبوا إلى أعلى مرتفع في المنطقة ويدعى على الخارطة "لوتكايي أحمد الرومي"، ونحن نطلق عليه اسم "عروج"، واستطلعوا الكمائن هناك من دون أي مشكلة تُذكر.
بالرغم من الغبطة والسرور اللذين رافقا فتح ذاك المحور، ولأنّه لم يتمّ حتى ذلك الوقت فتح المحور المشترك لفرقة "سيد الشهداء" وكتيبة "حبيب"، ساورنا القلق وتابعنا محاولاتنا لإيجاد حلّ، لذا كنّا نبحث ونستكشف المنطقة بأكملها. وقبل الوصول إلى نتيجة، وصلت أوامر أخرى: على قوات الاستطلاع الذهاب إلى "كرده رش" واستكشاف إمكانية بدء العمليات من هناك إلى "عروج" ومن ثم التقدّم صوب "همّت".

تقضي الخطّة ما يلي: أوّلًا، تقوم فرقة (نصر 5) بالهجوم في سهل "هرمدان" الواقع بين "كرده رش" و"قاميش" ومرتفعات "فيولان"، "شيخ محمد" و"كوجار". بعد ذلك، تكمل كتيبة "القاسم" هجومها على مرتفع "عروج" من "قاميش" وتتبعها كتيبة "حبيب" للهجوم على باقي مرتفع "قاميش" أي "همّت" وبعدها تكمل كتيبة "سيد الشهداء" سيرها وتقدمها! كان الوضع معقّدًا ومشوّشًا. لو كان العبور من جهة "قلعة تشولان" ميسّرًا لحُلّت المسألة، لكن بسبب عدم فتح المحاور
 
 
 
 
 
218

209

ماووت

 *


"قلعة شولان" نهر يعبر من بين مرتفعات "جاجيله" و"قاميش"، وبعد اتّصاله بنهر "ذاب الصغير" بالقرب من الحدود الإيرانيّة ومنطقة "سردشت" يشكّل نهر "ذاب الكبير".

تنضب مياه النهر في الصيف، إلا أنّه في فصل الشتاء، وبسبب الهطول الدائم للمطر والثلج، يرتفع مستواه ويتدفّق بسرعة إلى حدّ يستحيل عبوره بدون تجهيزات خاصة. من جهة أخرى، كانت وضعيّة المنطقة بسبب المطر تحدّ من إمكانيّة تحرّكنا بالسيارات. حتى شاحنات التويوتا الصغيرة وناقلات الجند يصعب مرورها، فقط المجنزرات مثل الدبابة والتراكتور كانت تستطيع ذلك.

حتى إنّ التنقّل على الطريق المعبّدة القديمة التي تمرّ من مخفر الشرطة1 ومن ماووت إلى حدود السليمانيّة تحوّل إلى نوع من المخاطرة. في إحدى المرات كنت أنا و"ناصر ديبايي" نسير على الجادة، وإذ بنا نرى الماء على بُعد عدّة أمتار قد غطّى جزءًا منها. كان ناصر يقود السيارة، فقال لي: "مهدي قلي! لمَ نعصّب رأسنا ما دام لا يؤلمنا؟!2 سأنتظر هنا حتى تأتي سيارة وتمرّ، وعندما أتأكّد من سلامة الجادة، أعبرها". كان الوقت صباحًا، وبعد مضي وقت جاءت إحدى السيارات وعبرت الطريق من دون توقف، وبعد لحظات، غرقت بمستنقع الوحل حتى النوافذ.

*

1- مخفر مهجور في مثلّث "ماووت" و"كرده رش".
2- مثل إيراني، بما معناه: لم نذهب إلى المشاكل بأنفسنا!
 
 
 
 
219

210

ماووت

 من جهة النهر، صار علينا تنفيذ الخطة الثانية للعمليّات التي تقتضي اقتحام خطّ العدو الدفاعي بالتتالي، وفي كل مرحلة من العمليات نصبح في مواجهة خط دفاعي آخر. أضف إلى ذلك صعوبة عبور الجدار الصخري لـ"قاميش" من جهة "كرده رش" ما جعل هذه العمليات برمّتها أشبه بالأسطورة!


وبناءً للأمر الصادر توجّهنا ناحية "كرده رش". كانت الطريق المستحدثة بالقرب من مخفر الشرطة حتى "كرده رش" تمرّ من طريق جسر "الإمام الرضا عليه السلام" على نهر قلعة تشولان لتصل إلى قمم "كرده رش" بعد ثمانية وثلاثين منعطفًا. كان صعود هذه الطريق يعادل تعب وعناء عمليّة استطلاع كاملة. فعند كلّ منعطف، كنّا نترجّل من السيارة ونقوم بدفعها. أحيانًا ومن أجل تفادي الانزلاق وانحرافها، كنّا ندفع بالسيارة على طول الطريق بين المنعطفين. كنت أنا وحسين صفا شور، كريم حرمتي نعمل على إيصال السيارة إلى المكان المقصود بكلّ ما أوتينا من قوّة. وكان العَرَق يتصبّب من رؤوسنا وجباهنا برغم البرد الشديد والهواء الجاف ولم يكن مستبعدًا أن نصاب بنزلة برد شديدة حيث إنّ أكثر الإخوة في المنطقة كانوا يعانون منها. لم أُشْعِر أحدًا، فها قد اشتدّ ألم قدمي وخاصرتي مجدّدًا.

وصلنا إلى مكان لا متراس فيه أو ملاذ. جلنا في المنطقة بحثًا عن مكان نلوذ به. كنت أظن أنّ متاريس العراقيّين ما زالت هناك منذ عمليات (نصر 8). دلفتُ إلى قناةٍ وهناك رأيت فيها جثثًا متجمّدة لجنود عراقيّين. وبسرعة وجدت خندقًا يتشعّب من القناة. لحسن
 
 
 
 
219

211

ماووت

 الحظّ، كان هذا الخندق خاليًا من الجثث على عكس معظم الخنادق الأخرى في المنطقة. ومن شدّة القرّ والبرد كانت الجثث متجمّدة ولم تنبعث منها الروائح الكريهة، ولكي لا تقع أنظارنا على عيونهم المتجمّدة ووجوههم المرتعبة، فقد غطّيناها بالتراب والثلج حتى دُفِنَتْ.


وجدنا مكانًا يوجد فيه متراسان مناسبان للإقامة فيهما عدّة أيام. مع التفكير بحالة الطريق، كان السؤال الأوّل الذي طرأ على أذهاننا: ترى كيف سنتمكّن من إيصال أبسط الإمكانات اللوجستيّة مثل المياه والطعام؟ ولكي نوفّر هذه الاحتياجات الأساسيّة بدأ البحث في أطراف المتاريس. وجدنا موقدًا نفطيًّا مليئًا بالكاز وقدرًا كبيرًا، وقد حُلّت مشكلة الماء إلى حدّ كبير. ففي كلّ صباح، كنّا نملأ القدر بالثلج النظيف ونضعه على الموقد لنستفيد منه في الوضوء وغسل الأواني والنظافة وغيرها.

كان "حسين صفا شور" من الإخوة الذين تكبّدوا كثيرًا عناء تهيئة هذا الماء، وكان الموقد النفطي يذيب الثلج وحسب، من دون التأثير على برودته، ومع ذلك فقد كنت أرى الإخوة مرارًا يغتسلون بذاك الماء البارد عند أوّل الصباح، لقد كان أداء الواجبات بالنسبة إليهم أهم من أي شيء آخر.

*

كانت مهمة قوات لواء "الغدير" الدفاع في "كرده رش"، وشكل عبورنا من منطقة عملهم بهدف الاستطلاع مشكلة تنطوي على خطر إضافي، فقوّاتهم لم تُبَلّغ بذلك أصلًا، ونحن الذين كان جلّ همّنا الحفاظ على سريّة أعمالنا لم نرغب بإشعارهم أنّ العمليات ستبدأ من هذه
 
 
 
 
 
220

212

ماووت

 المنطقة عمّا قريب، وكان علينا العبور للاستطلاع في المنطقة الواقعة تحت سيطرتهم ومراقبتهم. لم تنفع أي حيلة أو أي فكرة، وكانوا أحيانًا يطلقون علينا الرصاص فنبتعد عنهم. أخيرًا ارتأينا أنّ الحلّ هو اصطحاب شخصين من مجموعة استطلاعهم لعلّهم يدَعوننا وشأننا.


منذ استقرارنا في "كرده رش"، أُحيلت إليّ مسؤوليّة تنسيق استطلاع تلك المجموعة وأعمال أخرى. وكنت مطّلعًا على سير كلّ الأعمال إجمالًا.

حينما كنت أودّع الإخوة في فرقتنا، لم أكن أدري ماذا سيحلّ بهم. كانوا ذاهبين للاستطلاع برفقة اثنين من قوّات "الغدير" فأوضحت لهم كيفية التحرّك من "كرده رش" باتّجاه السهل في الأسفل _حيث كمائن العراقيين كثيرة هناك_ كما كنت أوضح لهم سير حركتهم من هناك إلى قاطع "قاميش". وقبل الانطلاق، كان الإخوة من لواء "الغدير" الذين اطّلعوا على المجرى العام للتحرّك والهدف من الاستطلاع ينظرون إلينا مندهشين قائلين: "هرمدان؟! الوصول إلى هناك صعب جدًّا، إنّ الذهاب إلى أسفل خط دفاعنا وعبور الكمائن العراقية صعب، فكيف وأنتم تفكّرون بالعبور من "هرمدان" وقاطع "قاميش". هذا محال!".

أرسلت معهما: حسين صفا شور، سعيد باقري، جلال خليل زاده، أبو القاسم ومقصود نعلبندي.

كنت أنظر إلى شكل المنطقة، وأشعر بطمأنينة وسكينة مقابل ذاك الجبل العظيم المليء بالثلوج، وكان ذلك ممتعًا لي.

في الصباح، عاد الإخوة وقد شملهم لطف الله ثانية وأبعد أنظار
 
 
 
 
 
221

213

ماووت

 العدو عنهم، فعندما وصلوا إلى كمائن العراقيّين في سفوح مرتفع "كرده رش"، صادفوا رتلًا عراقيًّا يتقدم أمامهم. تسمّر الإخوة رابضين في أماكنهم وعبرت الدوريّة العراقيّة بالقرب منهم، حتى إنّ أحد العراقيّين مسح على رأس مقصود ملاطفًا إيّاه، معتقدًا أنّ هؤلاء تابعون للكمين العراقي!!


أخبرني الإخوة من لواء الغدير أنّهم عندما رأوا الرتل العراقي أرادوا رميه بالرصاص ولكن هدوء أفراد فرقتك وصبرهم كان مدهشًا وعجيبًا، حتى إنّهم لم يُبدوا أي ردّ فعل عندما لاطف الجندي العراقي مقصودًا بيده بينما بُهتنا نحن من الفزع والتعجّب!

*

في عمليّة الاستطلاع تلك وفي العمليات اللاحقة، تقدم شباب الاستطلاع حتى قرية "شتيك" في سفح مرتفع "قاميش" حيث تمرّ من هناك طريق عراقيّة واستطلعوا كلّ الطريق والكمائن الموجودة هناك.

بقينا لليوم الرابع على التوالي في "كرده رش" وحتى ذاك اليوم كنّا نستفيد من الأطعمة والوسائل المتبقيّة للعراقيين. إلى أن جاءت سيارة الدعم إلى تلك الطريق الخلفية وأخذنا منها التموين ومعلّبات التونا. لقد واجهتنا مشكلة أخرى وهي الحفاظ على التموين الغذائي، إذ كان علينا العيش مع الفئران مجدّدًا والتأقلم معها. كانت وقحة وقويّة إلى حدّ أنّها كانت في ذاك الصقيع مشغولة بالإغارة على تمويننا.

في الصباح عندما كنّا نفتح باب البراد الكاوتشوكي، نشاهد كومة روث الفئران القذرة على الجبنة التي كنّا نحصل عليها بعد طول عناء
 
 
 
 
222

214

ماووت

 وعلى الأطعمة المتبقّية الأخرى التي كنّا نعتقد أنّها ستكون زوادتنا صباح اليوم التالي. حتى الخبز إذا بقي ليلة إضافيّة كان غير قابل للأكل عند الصباح لأنّ الفئران تكون قد لوّثته.


في الأيام الأخيرة التي كنّا فيها هناك، جاء إلينا "غلام رضا محسني" وهو أحد العاملين في محور السيّد أصغر، وقد توجّب عليّ إعطاؤه التوجيهات اللازمة للاستطلاع تلك الليلة.

ذهبت وإياه مع "أبو القاسم وطن بور" باتجاه خط الدفاع مقابل مرتفع "كرده رش" حيث تتموضع قوات الغدير وأنا لا أعرف إن كان الإخوة في اللواء سيرحّبون بوجودنا هناك أم لا، فهذه المرّة لم يكن أحدٌ من أفراد قواتهم معنا. عندما وصلنا إلى الخط بدأت ردود الفعل.

- إلى أين ذاهبون؟ ارجعوا..

تعجّب غلام رضا. شرحنا القضية، وفهم هو أنّه إذا تقدّمنا بلا مبالاة سينهمر علينا الرصاص! وشرع في المزاح والفكاهة.

- لا أعلم ماذا يخطر على بال الأخ محسن رضائي1 فأينما يجد مهمّة صعبة ومسؤوليّة شاقّة يكلّف بها فرقة عاشوراء؟

قلت هذا وأجابني غلام رضا محسني: "أجل أجل"، ففرقة "حضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" الطهرانيّة تعمل في سهل هرمدان، وفرقة (نصر 5) أيضًا الخراسانيّة تأتي وتكمّل في هرمدان.. أما فرقتا "سيد الشهداء عليه السلام" و"عاشوراء" فعليهما الهجوم على "قاميش"!".
 

1- قائد الحرس الثوري إبان الحرب المفروضة على إيران.
 
 
 
223

215

ماووت

 تكلّمنا بالفارسيّة وضحكنا حتى لمعت فكرة في ذهني.


- ما رأيك يا فتى أن نذهب ونقوم بحيلة على الإخوة في الخط؟

- يعني..

- نعم! أنا أصبح الأخ "رحيم صفوي"! وأنت من الآن مرافقي! اقتربنا من خط الدفاع بكل ثبات وطمأنينة وبحديث متزن ومرصوف، ما إن وصلنا إلى الخط خاطبني "غلام رضا محسني": "أخ صفوي تفضلوا..".

نجحت خطّتنا. تحلّق الشباب الموجودون على الخط حولنا.

وكأنّ أحدًا من هؤلاء الشباب لم يكن قد رأى الأخ رحيم صفوي عن قرب. عاملونا باحترام حتى كدت أصدّق أنّني رحيم صفوي نفسه! أخذونا إلى متاريسهم وأحضروا لنا الشاي أيضًا.
- تفضّلوا أخ صفوي .. ليس من قيمتكم، تفضلوا..

بعد فترة، خاطبت "أبو القاسم": "أخ شمخاني! ليس لدينا الكثير من الوقت.. الأفضل أن نقوم ونكمل التوجيهات والتعليمات". أنهينا عملنا وعدنا أدراجنا بعد توديعهم وداعًا حارًّا وفكّرت أنّه إذا ما افتضح أمرنا، فيستحيل بعدها السماح لنا بعبور الخط!

عاود الإخوة الذهاب عصرًا إلى هناك من أجل الاستطلاع، ولم يلتفت أحد إلى أنّ "غلام رضا محسني" يشبه كثيرًا أحد مرافقي الأخ صفوي الذي حضر صباحًا إلى هناك!

*

في الأيام الأخيرة لوجودنا في "كرده رش" جاء مسؤولو وقادة الكتائب
 
 
 
 
224

216

ماووت

 العاملة في الخطوط من أجل التعرف إلى معطيات المنطقة. أخذت كلًّا من: محمد سوداكر، عبد العلي مطلق، مصطفى أكبري وجمشيد نظمي إلى مواقع المنطقة المستهدفة في الاستطلاع.


عندما أخبرتهم بالإجراء الذي تقرّر أن يكون الهجوم على أساسه، ضحك الأخ سوداكر ضحكته الخاصة وقال: "لا أصدق"!

في الواقع كنّا كلّما تقدّمنا في الاستطلاع أكثر كان يتأكّد لنا عدم إمكانيّة الهجوم في تلك المنطقة. أخيرًا بعد عشرة أيام تمّ استدعاؤنا إلى مقرّنا في "جاجيله". ومعنى ذلك أنّه إذا ما تقرّر الهجوم، فسيكون من جاجيله مرورًا بـ"قلعة شولان" فقط!

في جاجيله فهمنا أنّ مشكلة العبور من النهر قد حُلّت. فقد أحضرت فرقة "سيد الشهداء" عددًا من متسلّقي الجبال إلى المنطقة وعمل هؤلاء على مدّ سلك رافعة معدني بين "بالوسة"1 و"قاميش"، وتمّ وصل حجرة حديديّة صغيرة بهذا السلك (تنزلق عليه إلى المقلب الآخر) وكان عبور القوات يتمّ بواسطة الحجرة. على هذا النحو، عبرت قوات استطلاع فرقتي عاشوراء وسيّد الشهداء من قلعة شولان.

كانت المشكلة الأساسية أنّ نقطة ركوب الحجرة وانطلاقها في منطقة "جاجيله" أعلى من نقطة المقصد في مرتفعات "قاميش"، ما أوجد منحدرًا حادًّا، جعل الحجرة تنطلق وتنزلق بسرعة كبيرة فترتطم بالجدار الصخري في "قاميش" نقطة الوصول، وربما أدّى هذا إلى قذف من فيها خارجًا أو في أقلّ تقدير أن يرتطم رأسه بجدارها ويتهشّم.
 

1- هي امتداد لمرتفعات جاجيله إلى جنوب المنطقة.
 
 
 
 
225

217

ماووت

 ولحلّ هذه المشكلة تمّ ربط الحجرة بحبل آخر يشرف عليه شخصان في جاجيله ويضبطان سرعة الحجرة في مسيرها التنازلي.


مرة أخرى أصررتُ على كريم حرمتي للذهاب مع الإخوة. لكن "كريم" وبعد بحث وجدل سمح لي بالذهاب إلى النقطة التي تمّ وصل السلك الجرّار فيها، وهناك أقوم بمراقبة الحبل. وذهبت عدّة مرّات وقمت بهذا العمل.

أحيانًا كان مزاحي يزهر، فعندما كانت الحجرة تقترب من "قاميش" وتصبح على بعد عدّة أمتار أُفلت الحبل وتصطدم الحجرة بالجدار بسرعة متوسّطة تقريبًا.

في إحدى المرات عندما أصبحت الحجرة وسط المسافة. أفلتت الحبل من يدي وخرج عن سيطرتي وبذلك اصطدمت الحجرة بالجدار الصخري بشدّة وعلى أثر ذلك أصيب رأس أحد الإخوة في قوات استطلاع فرقة سيد الشهداء بجروح ودبّ الرعب الشديد في قلوب الجميع.

في كلّ مرة كنّا نرسل الإخوة إلى تلك الجهة، كنت أرغب بحدوث أمر ما كي يطلبوا منّي الذهاب معهم ولكن لم يحصل شيء، غامرتُ وألححتُ على "ناصر ديبايي" أن يأخذني أيضًا بأي طريقة، إلا أنّه لم يوافق وقد منعهم كريم حرمتي من أخذي إلى تلك الناحية لأي سبب وأي ظرف.

- سيد ناصر، لن أخبر "كريم"، اطمئن لن أدعه يفهم شيئًا، "رحم الله أمواتك" خذني معك أيضًا.
 
 
 
 
 
226

218

ماووت

 بعد الاستعطاف والاستحلاف الشديدين ركبتُ الحجرة حتى "قاميش" المكان الذي تحسرت كثيرًا للوصول إليه في الأشهر الأخيرة. وعندما وصلنا ونزلنا من الحجرة، رأيت غارًا قريبًا، وقد خبأتْ فيه قوات استطلاع فرقة سيد الشهداء حصصًا غذائية للكتيبة التي ستكون هناك ليلة الهجوم.


لقد كان وجود الغار وحصص الطعام جيّدًا لشبابنا أيضًا. أحيانًا بعد الانتهاء من الاستطلاع وخلال العودة كانوا يذهبون إلى ذاك الغار للاستراحة وتناول الطعام. في تلك الليلة ذهبنا إلى الغار ولم يجيزوا لنا أكثر من ذلك.

لم يخبر أحدٌ "كريم" بما حدث تلك الليلة، هدأ عطشي قليلًا، مذّاك صار بإمكاني تخيّل "قاميش" بشكل أفضل، عندما كان الإخوة يتحدّثون عن الصعوبات الخاصة هناك حين الاستطلاع كانوا يشيرون إلى الكمائن المتنقلة والمتغيّرة، كان واضحًا أنّ العراقيّين قد أحسّوا بشيء ما وبسبب هذا الأمر قد زادوا من كمائنهم في المنطقة. وفي كلّ عمليات الاستطلاع التي أجريت في المنطقة صادف الإخوة كمائن العدو مرتين فقط وكان الله معهم ولم يحصل أي اشتباك.

الصعوبة الأخرى في المنطقة كانت الوصول إلى المرتفعات، فالثلج كان يغطيها بدءًا من أدنى سفوحها وحتى رؤوس قممها. ومع وجود كمائن العراقيين، لا ينبغي ترك الآثار على الثلوج.

وقد حلّت هذه المشكلة من خلال عبور طريق أخدودي يصل إلى "همت"، حيث كان خاليًا من الثلوج ويسهل العبور خلاله. لقد تمّ
 
 
 
 
227

219

ماووت

 استطلاع كلّ الكمائن في تلك الناحية، لكن الثلوج أعاقت عمل الإخوة وبات من غير الممكن إجراء استطلاع كامل في المنطقة. إضافةً إلى هذه المشكلات، واجه "السيد أصغر" مشكلة كبيرة في محوره، فالانحدار الشديد للمسير والثلج، والطريق المتجمّدة جعلت المكان بتمامه زلقًا، وكان الجميع يعلم أنّ في انتظارنا عمليات ومعارك صعبة جدًّا.


*

كان لدينا على مرتفع "جاجيله"، وعلى مسافة قصيرة متراسان أحدهما قريب إلى مدينة ماووت، وقد تموضع فيهما جميع عناصر الاستطلاع. بعد عودتنا من "كرده رش" وجدنا متراسًا على "جاجيله" بالقرب من مدينة ماووت، أسميناه جاجيله الثاني أو المتراس الثاني، وكان المحور الذي يقوم الأخ "ناصر ديبايي" باستطلاعه قريبًا من الغار. ولهذا السبب تموضعت قوات استطلاع المحور هناك وبقيت أنا معهم أيضًا.

شارفت مراحل الاستطلاع على النهاية. وقد جعل الثلج والمطر المنطقة وحليّة وزلقة وغطّى الوحل اللزج متراسنا. ولذلك خفّ التردد إلى مقرّ "بني هاشم" الذي هو المقر الأساس لوحدة الاستطلاع ووصل إلى الحد الأدنى. وأنا أيضًا لم أكن أذهب إلى هناك إلا في أوقات الحاجة إلى الاستحمام.

بعد غيابنا عن المقرّ عدّة أيام، لاحظنا بسرعة التغييرات التدريجية فيه، أي ازدياد عدد المتاريس والدشم. وكانت وحدة التخريب قد استحدثت مقرًّا لها هناك، وفي المقابل دُفن عنبر قوات التخطيط وعمليات الفرقة الذي كان بجانب دشمة الوحدة تحت طبقة من الوحل والطين.
 
 
 
 
 
228

220

ماووت

 وبسبب الأمطار المتواصلة لأيام، تدفّق سيل الوحل والطين من المرتفعات وكان قويًا جدًّا تكسّرت معه قضبان السقف ولحسن الحظ كان العنبر خاليًا ولم يصب أحد بأذًى.


وحصل حادث مشابه لعنبر وحدة الاستطلاع لكنّه صمد ولم ينهَر.

*

أخذت أعداد الإخوة في مقرّ بني هاشم تتزايد، فقد انضمّ إلينا "محمد بور نجف" و"حسن عبدي" وغيرهما، وأقيم عنبرٌ آخر إلى جانب عنبر الوحدة. استخدمنا فيهما "مدفأة الحطب". كما إنّ عناصر "الخدمات" في الفرقة استخدموا البراميل وصنعوا منها مدافئ حطب، ووزّعوها على كلّ الكتائب والوحدة أيضًا. لقد أدخل قدوم هذه المدافئ المبتكرة الدفء والدخان إلى العنبر معًا. ففي منتصف إحدى الليالي، استيقظتُ من النوم فجأة. فتحت عيني، فإذا فضاء العنبر مليء بالدخان الأسود. تعجّبت! غيمة سوداء في الدشمة! شعرت بحرقة في حلقومي بسببها، أدركت بسرعة أنّ فوّهة مدخنة المدفأة قد سُدّ فملأ العنبر بالدخان الغليظ.

كان ارتفاع العنبر3 أمتار وتكثّف الدخان في فضائه بحدود مترين. فتحت الباب والنافذة الصغيرة الموجودة في آخره، ثم أيقظت الإخوة الواحد تلو الآخر.

أطفأنا المدفأة وانتظرنا مدّة في البرد والظلمة كي يتبدّل هواء العنبر. لو أنّني لم أستيقظ في الوقت المناسب، الله وحده يعلم ما كان سيحلّ بنا!

*
 
 
 
 
229

221

ماووت

 كان مقرّنا في موقع الشهيد "بني هاشم" خلف المرتفع وبعيدًا عن أنظار العدو، حتى إنّ نيرانهم لم تكن تصل إلينا، ولولا وجود الغيوم في السماء لكانت الشمس تسطع علينا طوال النهار، لهذا السبب لم تتراكم الثلوج في تلك الناحية. أما أوضاع خيم الكتائب فقد كانت على نحو آخر. فعناصر الكتائب بعد انتهاء المأذونيات عادوا ثانيةً إلى المنطقة، وكان مقرّهم يبعد عن موقع الشهيد "بني هاشم" كيلومترًا واحدًا، لقد نصبوا خيمة هناك بدلًا من المتاريس والعنابر، وكانت مشكلتهم الأساسيّة هي تراكم الثلوج. نقل الإخوة أنهم عندما كانوا يستيقظون صباحًا كانوا يجدون الثلج قد وصل إلى مستوى سقف الخيمة خصوصًا في الليالي التي كان يستمرّ هبوب الرياح فيها حتى الصباح.


كما واجهوا مشكلة في التموين والطعام. رغم أنّ جميع شباب الاستطلاع كانوا مدعومين بالقوت، إلا أنّنا كنّا متأكّدين أنّ الشباب الباقين كانوا في ضيق من أمرهم.

مع ذلك الوضع، كان أمامنا مسير ثلاث ساعات من الدشمة في جاجيله حتى مقر الشهيد بني هاشم في شعب "سركلو". كنّا ننحدر نزولًا من المقرّ مسافة 3 كلم حتى نصل إلى أخدود "شانخص". كان هذا الأخدود من أعظم الأخاديد التي رأيتها، وينتهي عند مرتفع "كامو" الرئيس. لم يكن المواطنون الأكراد قد هجروا المكان بعد، وقد أنشأ جهاد البناء في هذا المنخفض حمّامًا انفراديًّا وتحوّل فيما بعد إلى حمّام عمومي. كنّا نقف في صفّ طويل كي نستطيع استخدام الحمام، هذا إن كان متوقّدًا ومياهه ساخنة.
 
 
 
 
230

222

ماووت

 في إحدى الليالي في مقرّ "بني هاشم" انتبهتُ إلى خروج "أبو القاسم وطن بو" من العنبر قرابة الساعة الثالثة والنصف ليلًا. وهو الذي كان مصابًا بوعكة صحيّة في أوّل الليل وها قد حمل أغراض الاستحمام وثيابه وخرج، حدست أنّه رغم مرضه هذا يريد الذهاب إلى الحمام ليغتسل ويتمكّن من أداء فريضة الصبح. كان الثلج يتساقط في الخارج وكالعادة كان عليه طي مسافة 3 كلم تحت الثلج ليصل إلى الأخدود.


عاد من هناك عند انبلاج الصباح، فهمت أنّه لم يستطع تسخين الحمام واغتسل بالماء البارد.

- أبو القاسم! الغسل ليس واجبًا وأنت على هذه الحال، فالقضية تحلّ بالتيمّم.

- لا، كان عليّ الذهاب حتمًا. إن لم أغتسل لا أرتاح.

*

كنّا في المتراس الثاني في جاجيله. ما هي إلا أيام حتى تبلّلت أرضه بشدّة. إلى أن غطّى الماء في أحد الأيام أرضه وأخذ بالارتفاع تدريجيًّا. لم يكن لدينا فرصة لإنشاء متراس آخر فكلّنا مشغول وكنّا نأتي إليه للاستراحة فقط.

جمعنا صناديق الذخائر والعتاد في قعره ووضعنا الأغطية والحرامات عليها. استمرّ انسياب الماء إلى أرض المتراس وكنّا أحيانًا جرّاء الكسل نزحزح صناديق العتاد من مكانها ونتوضّأ في ذاك المكان!

في أحد الأيام، كنت خارج المتراس عندما وصلت شاحنة تويوتا صغيرة تقلّ عددًا من الأفراد. كانوا قادة كتيبة "حبيب" وقد جاؤوا من
 
 
 
 
 
231

223

ماووت

 أجل التعرّف إلى أوضاع منطقة جاجيله. أخذتهم برفقة "ناصر ديبايي" إلى متراس الحراسة الواقع على امتداد جاجيله وهناك شرحت لهم أوضاع جاجيلة.


في تلك الأيام، سمعنا أنّ "جمشيد نظمي" قائد اللواء الثاني في الفرقة قد أحضر طاقم كتيبة "القاسم" إلى المنطقة من أجل التعرف إليها وأخذ التوجيهات، إلا أنّ السيارة انحرفت عن الجادة وهوت إلى الوادي. وفي النهاية، أوقفت السيارة والإخوة شجرة نبتت من بين الصخور. لقد قامت قوات الاستطلاع بتعريف قوات الاقتحام والهجوم وقوات العمليات والإسناد إلى المنطقة. كذلك حددتْ أفراد الاستطلاع لكلّ كتيبة. كما كانت مهمّتهم توجيه وإرشاد كتائب الاقتحام يوم العمليات إلى خط دفاع العدو.

كان السيد "منصور فرقاني" موجودًا في المنطقة منذ بداية عمليات الاستطلاع، وقد ارتأى القادة عدم مشاركته في إرشاد القوات ليلة العمليات. وكان قد ذهب إلى المدينة خلال الأيام التي أُعلن فيها أنّ أمر العمليات قد افتضح حيث أُعطيت مأذونيات إلى الجميع باستثنائنا نحن التسعة. لقد أُعطي إجازة لمدة 15 يومًا إلا أنّه عاد بعد مضي عشرة أيام فقط، عاد فرحًا مسرورًا وأخبرنا أنه أصبح أبًا. عندما رآني قال لي: "لقد أسميت ولدي مهدي أيضًا".

مضت أيام وإذ بحال السيّد منصور فرقاني تتبدل إلى الحزن والصمت محل السرور والبهجة، وكان إلى ذلك الحين قد أثبت جدارته في جميع الميادين والمواقف. عُيّن أكثر من مرة مسؤولًا للمحور وكان ذراع "كريم
 
 
 
 
232

224

ماووت

 حرمتي" الأيمن في مهمات وأعمال الوحدة. إلا أنّ فراق الأحبة والشوق إليهم قلبَ حال منصور، ولم نره حتى ذلك الحين يبكي في محضر أحد قطّ، لكن هناك في متراس جاجيله الثاني كنّا نشاهد دموعه وصلاته ودعاءه ونغبطه على حاله، فقد وصل تذلّله وتواضعه إلى الذروة. ولم يغفل ليلة عن صلاة الليل. كان يناجي ذارفًا الدموع. لو كان باستطاعته أن يجد بين الصخور والثلوج والجليد مكانًا يتوارى فيه عن أعيننا لذهب إلى تلك الخلوة، حاملًا معه غربته، لكنّنا وببركة الثلج والصقيع حصّلنا شرف مشاهدة لحظات أسمى أسرار وابتهال غربة عبد صالح يبتغي وصال معشوقه. تأكّدت حينها أنّ منصور تشبّث بأذيال الشهادة وأنّه يحيا على أمل الظفر بها، وإذا ما قُدّر له أن يتخلّف عن قافلة الشهداء فإنّه سيلفظ أنفاسه حسرة وغصّة. فها قد كُشف الغطاء وكان على الأكثر قربًا أن يفتح ذراعيه لسيل الضغوط ودفق الشدائد.


فعنصر الحرس الثوري هذا الذي يتقاضى راتبًا لا يتجاوز ألفي تومان شهريًّا وقد رُزِق مولودًا جديدًا ومنزله قيد البناء وغارق بالديون إلى أذنيه، عندما يأخذ إجازة لأسبوعين تراه يعود بعد 10 أيام ولا يستطيع تحمل الابتعاد عن الجبهة أكثر من ذلك. لقد جعله عشق الله يهيم في الجبال وصارت الحرب شغله الشاغل. ليس المهم ما يقوله البعض وليس مهمًّا أن يصاب البعض بالوهن، ويملّوا التعرّض للقصف ثم تصبح ألسنتهم مشغولة بحديث المساومة والصلح. فالجبهة ما زالت مليئة بالرجال الذين حصدوا على مدى سنوات الحرب أوسمة الفداء والتضحية، ما زالت مليئة بالرجال الذين لم يتراجعوا حتى في أصعب اللحظات، وعند
 
 
 
 
233

225

ماووت

 موت أحبائهم وأهلهم كانوا يفضلون الدفاع والجهاد على حضور مراسم التشييع والدفن. ومثالهم "مهدي باكري" الذي اكتفى بإرسال برقيّة تعزية عند شهادة أخيه الأصغر "حميد"، مثالهم "مصطفى مولوي" الذي فقد كلّ عائلته جراء حادث سير واكتفى بالمشاركة 3 أيام في العزاء. مثالهم "كريم حرمتي" الذي توفي والده قبل عمليات (كربلاء 5) وارتأى قائد الفرقة آنذاك عدم إبلاغه بالأمر، فغياب كريم ليوم واحد كان له أثر سلبيّ على سير العمليات.


مع أنّ كريم كان معيل (وتد) البيت وإخوته كانوا صغارًا لا يقوون على العمل وتحمّل أعباء الحياة والعائلة، إلا أنّه لم يترك الميدان، بل ترك العمل والارتزاق وانصرف لخدمة الحرب. 

مثالهم أيضًا "محمد سوداكر" الذي كانت إجازته أقلّ من إجازة العازبين. كان يردّد "اليوم أهم عمل هو الحضور في الجبهة، الحياة في الجبهة مجبولة بالعشق". كلّما اشتدت الصعوبات وقست غدت أفضل، وكلما اشتدت آلامها والانصهار فيها، غدت أكثر جمالًا وعشقًا، فالحياة في الجبهة لا تأذن للغرباء بالدخول إلى آتون العشق، وفي ميدان الجهاد الدامي "يُغربل" الإنسان، من يأت إلى الجبهة وفي قلبه أحدٌ غير الله، يتقهقر من منتصف الطريق، هذا ما علّمتنا إياه كربلاء!
 
 
 
 
234

226

عمليات بيت المقدس الجبليّة

عمليات بيت المقدس الجبليّة

أوائل 1988م
 
 
"جاجيلة" المطر والرصاص، والجليد الذي لا تذيبه إلا دموع عشق للحق في جوف الليل. تدفقت الشدائد، وأنا أجلس على الشوك بانتظار مكاني في العملية التكميلية.

فيما مضى كنت أحاول أن أثبت كفاءتي لأبقى في الجبهة. والآن أحاول نسيان الألم حيث لا مجال للتلكؤ. اندفعت للأمام وتنقلت على الحجارة في قلب نهر برِجلٍ واحدة. وصل الالتحام لدرجة الخلط بين سرايانا وجنود العدو الذي قاتلتْ معه أميركا وإسرائيل، واستفاد من إمكانيات الدول العظمى.

ومرة جديدة تقترب فرصة الشهادة! وإذا بالرصاصة تُخطئني، والتعبُ يضنيني، وصديقي يتركني.

وراح القلم المثقل بالوجع يكتب رسائل اللهفة عند الوداع..
 
 
 
 
235

227

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 1


أُنجزتْ عمليات الاستطلاع المطلوبة، ووُجّهت الكتائب وأُعطيت التعليمات حول منطقة "جاجيلة" ثم عدنا إلى موقع "بني هاشم". قُسّمت القوات ووزّعت المهام، فكان الأخ "عباس قلي زاده"، مسؤول توجيه محور كتيبة القاسم، ومعه الإخوة: "غلام رضا محسني، حسين صفا شور، أمان الله أماني، عبد الواحد محمدي، مقصود" وآخرون. وكان "ناصر ديبايي" مسؤول استطلاع محور كتيبة "حبيب"، وكان في ذلك المحور أيضًا "حسين سعادتي، أبو القاسم وطن بور، جلال خليل زادة"، وعدد آخر من الإخوة.

انتهى توزيع القوات وشارفت الجلسة على الانتهاء عندما أدركت أنه مع هذا الوضع لن يكون لي نصيب في ما يجري هذه المرة أيضًا. توجّهت إلى مسؤول الوحدة بالسؤال.

- أخ كريم، ما الذي يجري؟

- لقد طلب الأخ أمين أن لا ندعك تشارك في العمليات!

الآن فهمت ما يدور من حولي، كان الجميع قلقًا على وضعي وجسمي، ولم يكن أحد ليشعر بالنار التي تستعر في قلبي.

أجبت: "جيد! أنا حتى الآن ما زلت معكم، ولكنّي سوف أنصرف". جهّزت أغراضي الشخصية وعدّتي وذهبتُ إلى سيارة الأخ "سوداكر" الذي كان في المقر. فتحتُ الباب وجلستُ داخل السيارة. جاء الأخ "محمد سوداكر" مسرعًا، ما إن رآني حتى تبسّم وقال:
-إلى أين؟!
 
 
 
 
236

228

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 - أخ "محمد"! من الآن فصاعدًا أنا في عداد قوات كتيبتكم.


ضحك وقال: "لماذا؟ لا يصح هذا".

- أخ "سوداكر"، لا أريد الانتقال ولا شيء آخر. أنا تعبوي وأريد البقاء في كتيبة "حبيب". لن أبرح السيارة حتى نذهب معًا إلى الكتيبة".

عندما سمع جوابي، وقف أمام "كريم حرمتي" الذي كان ينتظر ما سيؤول إليه الأمر. عندما رأى "كريم" عزمي وإصراري ذهب إلى قيادة الفرقة. ثم جاء بعد وقت وقال لـ"محمد سوداكر": أخ "محمد"، لا بأس.. ليذهب مهدي قلي معكم. ولكن احرص على أن يرافقك أينما كنت".

- لا مشكلة... سنذهب معًا.

عندما رأيت أنّ المسألة قد حُلّت، قلت للأخ "سوداكر" الذي كان يستعدّ للانطلاق: "أخ "محمد" اذهب أنت إلى الكتيبة. وأنا أذهب سيرًا على الأقدام مع الشباب لاحقًا". فأنا لم أودّعهم، وقلبي لا يطاوعني على الانصراف عنهم بهذه الطريقة.

*

خرجنا إلى باحة الدشمة، والتقطنا صورًا تذكارية معًا. كان الأخ "أمين" قد وصل، كنّا قد وضعنا مجموعة ألواح1 بعضها فوق بعض وجلسنا عليها، فقد كانت الأرض موحلة والثلوج تغطّيها. جلسنا وتكلم
 

1- مغالق خشب تستخدم في بناء المتاريس والدشم.
 
 
 
237

229

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 الأخ "أمين". طرح الإخوة ما لديهم من أسئلة وعرضوا مطالبهم، وهو أجاب عنها.


كان اللحاق بفرقة "سيد الشهداء" أبرز معضلة واجهت مجمل حركة فرقة "عاشوراء"، وكان مسير كتيبة "حبيب" مشتركًا مع مسير فرقة "سيد الشهداء" حتى نقطة متقدمة قليلًا بعد غار "قاميش". وقد أُنجزت مسألة التنسيق في هذا المحور المشترك بعد جلستين لقادة الفرقة والكتيبة والاستطلاع، لكن كانت تطرق أسماعنا همسات تتحدث عن عدم ارتياح شباب فرقة "سيد الشهداء" لهذا الأمر، فهم يرون أنّ عبور المزيد من القوات في مسير واحد قد يسبّب مشكلة ًويفضح أمر العمليات، إلا أنّ هذه الإشكالية قد حلّت في نهاية المطاف على مستوى المقر.

حان الوقت المحدّد للتحرّك باتجاه الكتائب. ومرة أخرى حان وقت الافتراق، فراق يُختتم بشهادة عدد من الإخوة وجرح آخرين.

كان لدي شعورٌ عارمٌ بطلب المسامحة منهم. ودّعنا رفاقنا بقلوب ملؤها الألم والأمل بالشهادة، وذهب كل واحد منّا إلى المصير المقدّر له.

ركبتُ سيارة (بيك آب Toyota) متّجهة صوب كتيبة "حبيب" المتموضعة بالقرب من مخفر الشرطة، في منخفض قريب من الماء، بعيدًا عن نظر العدو وأذاه. وأكثر قوات الكتائب كانت ترتدي ثيابًا خاصة من نوع الألياف الزجاجية (fiber glass). وهو لباس يمنع تسرّب الهواء والماء إلى الداخل ويحفظ حرارة الجسم. كان الشباب مستعدّين منذ
 
 
 
 
238

230

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 الصباح وعليهم البقاء في حالة الاستعداد والتأهّب حتى العصر، موعد الانطلاق. ويعرفون أنّ عليهم البقاء على هذه الوضعية حتى ذلك الوقت فلا يمكنهم النوم أو الجلوس والاستراحة. وقد رأيت أول ما رأيت الأخوين الملازم أحدهما للآخر دومًا: "فرج قلي زادة وجلال زاهدي"، وبعد ذلك صافحت وسلمت على "السابقين" في كتيبة "حبيب"، واطمأننت عنهم، ثمّ رافقت الأخ "محمد" أينما ذهب.


أُنجزت التقسيمات والتشكيلات، وكانت قوات الاستطلاع إلى جانب السرايا التي تولّت مهمة إرشادها. استكمل الإخوة نواقصهم واحتياجاتهم، ولم أعرف بأي لسان أحدّثهم وألفت نظرهم لكي يهتموّا بوضعي، فأنا لا قدرة لي على حمل العتاد أو حقيبة الظهر الكبيرة، وقد تملّكني الخجل من أن أطلب منهم حمل أغراضي. كنت أعرف أنّنا سنكون في "قاميش" ليلًا، وهناك سنأخذ استراحة، ومهما حاولت إجبار نفسي على طلب المساعدة ما استطعت.

كانت أمنيتي ذلك اللباس الشتوي الذي كنا نطلق عليه "سبليت"1. كان من المقرّر أن تتسلّم جميع القوات هذا اللباس، إلا أنّ الأخ "محمد" أحجم عن ذلك ولم يقبل، لأنّه، إضافة إلى أنّ الكميّة الموجودة لا تكفي جميع الأفراد، فهو قد وصل متأخّرًا كثيرًا. على أي حالة، لم يستفد الإخوة في كتيبة "حبيب" من هذا اللباس السميك الذي يلبس فوق الثياب، مع أنّه لم يكن ليخفّف من شدّة الصقيع.
 

1- Dress Split (سبليت)
 
 
 
 
239

231

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 لا أعرف أي طعام قدّموه للشباب عند الغداء، إلا أنّه مع حلول العصر قدّموا لكلّ واحد وجبة طعام "عسكريّة" متواضعة، إلا أنّ أكثر الإخوة لم يتناولوا طعامًا جافًا باردًا لأنّه ليس لديهم الوقت الكافي لذلك بسبب التعجيل بالانطلاق، ولا طاقة لهم على ذلك من شدّة البرد.


كان على الإخوة السير مشيًا كل المسافة الفاصلة إلى نقطة قرب غار "قاميش" بسبب رادارات العدو المسلطة على المنطقة.

أصبحت الأرتال العسكرية مستعدة للحركة. قبل أن تصعد القوات من المنخفض باتجاه الجادة، سبقتهم إلى هناك وانتظرتهم إلى جانب الطريق وبرفقتي الأخ "محمد سوداكر". حان وقت الانطلاق، سارت قوات كتيبة "حبيب" في صفين متوازيين وكنت أنا و"محمد" في المقدمة. مع الخطوات الأولى للحركة، كانت أشعة الشمس الأخيرة تختفي وراء غيوم السماء الداكنة والغروب قد حلّ باكرًا وارتفعت أصوات التكبير "الله أكبر" حيث كان الإخوة يرفعون الأذان. كان لترنيمات الإخوة بالأذان تحت تساقط الثلج الخفيف وهجوم العتمة السريع، صورة رائعة ومشهد خلاب. تذكرت "الهور" وغروبه العجيب المدهش ولحظات استشهاد الإخوة، تذكرت شهادة الإخوة "مهدي باكري، حسين محمديان، السيد صادق عيوضي" و.. .

كنّا نصلّي أثناء المسير، دخلنا في صمت عميق وكان لركوع القلوب وسجودها لذّة أخرى. كان الرتل يسير ببطء، وكان على القوة التي تتقدّمه أن تتحرّك وتسير بشكل تستطيع العناصر التي في الخلف الالتحاق به من دون أن يضلّوا طريقهم. وكنت أمتلك مقوّمات تلك الحركة البطيئة،
 
 
 
 
240

232

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 فقد كنت أخطو باليمنى، ثم أضع الرجل اليسرى إلى جانبها ثم بعد ذلك أخطو باليمنى، وهكذا كانت الخطوة الواحدة بمنزلة نصف خطوة رجل سليم الجسم...


كنّا نطوي هذا المسير في البرد الشديد وفي هذه الظروف، وقد مررنا بالقرب من "جاجيلة" وهي مرتفعات متشعبة من مرتفع "كلان" العالي ومطلّة على منطقة "ماووت" العراقيّة. في الجهة المقابلة لـ"جاجيلة" تقع مرتفعات "قاميش" العالية والجرداء، حيث كان العدو، من خلالها كاشفًا لكل منطقة "جاجيله"، بما في ذلك المسير الذي كنا نتحرك فيه، لكن ظلام الليل كان يمنع هذه الرؤية، إلا أنّ شبكة الرادار فيها كانت ترصد حركة الآليات بشكل كامل، إضافة إلى وجود الأكراد العراقيين، وكنّا متيقّنين من أنّهم جواسيس يعملون لمصلحة العدو، ويخبرونه بأوقات حركتنا ومسيرنا وعبورنا. بدأت أشعر بالتعب والألم يسري شيئًا فشيئًا في كلتا قدميّ - من شدة الوهن والضعف الجسدي - ولكي أستطيع الاستراحة من حين إلى آخر خَطَرت في ذهني فكرة: بما أنّ الرتل يبطئ الحركة، أتقدّم إلى الأمام وما إن تصبح بيني وبينه فاصلة كبيرة أقف وأستلقي على الأرض إلى جانب الطريق وأنتظرهم حتى يصلوا إليّ. قلت لـ"إسماعيل وكيل زادة" ذلك ومشينا معًا. وجدنا في النقطة التي تنعطف فيها الجادة لناحية "ماووت" أنبوبًا ضخمًا موضوعًا إلى جانب الطريق، قطره كبير إلى حدّ يمكن لشخصين ملتصقين أن يدخلاه معًا ويعبرانه من دون انحناء. التجأنا إلى الأنبوب اتقاءً من البرد القارس واسترحنا داخله لحين وصول الشباب.
 
 
 
 
241

233

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 بعد ساعات من المسير، توقفنا لدقائق وكلانا يرتجف من شدة البرد، وكان المطر والثلج يتساقطان معًا ويبلّلاننا من رأسينا إلى أخمص قدمينا. كنت أرتجف، مع أنّني أرتدي البدلة الواقية من المطر، فما بالك بالذين لم يكونوا يرتدون حتى اللباس الشتوي، كان تصوّر هذا الأمر يعذّبني. شعرتُ أنّ وجهي قد ازرقّ وأنّ جلدي سيتشقّق مع أقل ضربة. كانت أزرار الثياب مقفلة وكذلك السحّابات محكمة الإغلاق، ومع ذلك كنت أشعر بالهواء المتسرّب من أصغر ثقب وكأنّه يثقبني.


تعرّق الجميع أثناء المسير وقد توافرت كلّ المقدّمات لتنتشر بين القوات نزلة برد جماعيّة. استرحنا 20 دقيقة داخل الأنبوب ونحن نرتجف من شدّة البرد، وانتظرنا وصول الرتل إلينا. ثم تحرّكنا مجدّدًا. في تلك الدقائق تقدّم "محمد سوداكر" و"ناصر ديبايي" الرتلين، وأتيحت لي فرصة لأتحرّك إلى جانب الرتل وعلى طوله ولأتحدّث مع الإخوة. ويعدّ الضحك والمزاح في تلك الظروف - حيث كانت شدّة البرد تتلف الأعصاب_ فنًّا كبيرًا وذوقًا رفيعًا، وكان جميع الإخوة يحوزون هذا الفن. كنّا نمزح ونشاكس بعضنا بعضًا، عندما نسمع أحدهم يردّد الأذكار: "لا إله إلا الله والحمد لله" ..

كنّا نردّد معه الذكر بهدوء.

حلَّت الليلة التي من المحتمل جدًا أن ينتظرنا فيها إما الجرح أو الأسر أو الشهادة أو الإعاقة والعطب، كانت الليلة الأخيرة لبعض الإخوة. وكان كل أخ يبرز مكنوناته وما يجول في خاطره على طريقته، فبعضهم بقراءة القرآن والذكر والدعاء، وآخرون بالسكوت والخلوة (مع النفس)،
 
 
 
 
242

234

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 وآخرون ممّن هم مثلي لم يتوانوا عن الضحك والمشاغبة. فمع كل الآلام والضغوط التي كانت تثقل كاهلي، كنت أشعر بنشاط مدهش وكأنّي حصلتُ على إذن العبور، لذا صرت محطّ تعليقاتهم.


- أخ "مهدي"! إذا ما حدث شيء، لا تنسانا من الدعاء والشفاعة.

- "مهدي قلي" كأنّ دورك قد وصل، إذا رحلت ادعُ واشفع لنا.

شرح حديثهم صدري وأنعش قلبي، مع أني عندما أفكّر وأرجع إلى حالي أرى أني لستُ لائقًا للشهادة ومجاورة خُلّص محضر الأحدية، وكان جُلّ همّي وكل شوقي وأملي أن أكسب مرة أخرى شرف الذهاب إلى العمليات، وأن أحصّل إذن الانضمام إلى ذاك الجمع. أعرف أنَّ كلام الإخوة ليس مجاملة أو إرضاءً لنفس أو تهدئة لخاطر وقلب. ففي الجبهة، لكل واحد الحق في أن يكوّن نفسه، وقد توافرت في هذا المسير إمكانية بناء النفس وتفتُّح الروح وانتعاشها.

- أنتم اشفعوا لي فأنا لستُ لائقًا بالشهادة، وإذا ما استشهدتم أنتم...

هكذا كنت أجيب الإخوة، وتراودني فكرة، أنّه لو كانت الشهادة من نصيبي فلِمَ خرجتُ سالمًا من تلك الجراح.

أثناء مسيرنا وصلنا إلى مدرسة، كلّ شيءٍ فيها مطليٌّ باللون الأخضر الكدر. كان هذا المكان إلى ما قبل عمليات (النصر4) مقرًّا للمنافقين. وبعد عبورنا ذلك المكان وصلنا إلى مفترق طريقين:

أحدهما يتّجه ناحية مدينة "ماووت" والآخر باتجاه مدينة "السليمانية" العراقية. أما الطريق الذي يصل إلى "السليمانية" فهو موازٍ تقريبًا
 
 
 
 
243

235

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 لمرتفعات "جاجيلة" ونهر "قلعة تشولان" بالقرب من مدينة "ماووت"، يتفرّع من هذه الطريق طريق أخرى باتجاه النهر وتمرّ بجسر حديدي على نهر "قلعة تشولان" معروف باسم "بالوسه" أو "الجسر المكسور" حيث أطلق عليه هذا الاسم بعد تدميره. وبعد جسر قلعة تشولان تمرّ الطريق في مضيق بين مرتفعي "قاميش" ودلبشك" ثم يصل إلى أخدود بين "أُلاغو" و"دُلبشك" ومن هناك يتصل بشبكة طرق مهمة لمحافظة السلمانية العراقية.


قمنا - طبقًا للخطة المرسومة - بتغيير مسيرنا من مثلّث الطرق هذا إلى نهر "قلعة تشولان"، وبعد قطع (2كلم) من هذه الطريق نفسها التي تصل إلى بالوسه، نصل إلى ساتر ترابي بشكل حذوة الحصان (U) حيث استُحدث إلى الجهة اليمنى للطريق لتموضع قواتنا من أجل الدفاع، كان ساترًا عاليًا وفيه دشم استراحة. ويقع إلى جانبه ساتر آخر أقل ارتفاعًا وقد استُحدث للدفاع من جهة "كاريزر".

كان العدو موجودًا في "كاريزر" ومع عبورنا لهذا الساتر الكبير، نصبح عمليًا وواقعًا في منطقة خطرة. كان علينا في هذا القسم بالذات أن نعبر النهر الممتد بموازاة قلعة تشولان. أثناء العبور عن الساتر أشرتُ إلى مسؤولي السرايا وكذلك إلى الأخ "محمد" أن يأمروا الشباب من الآن فصاعدًا بالتزام السكوت والصمت! وقد بعث فينا الالتزام بالصمت شيئًا من الراحة والاطمئنان وَخفّف من اضطرابنا، وكان الجميع في صمت تام أثناء عبورهم الساتر العالي. كان الإخوة في المعلومات والاستطلاع، في آخر استطلاع لهم، قد ألقوا في النهر جذوع أشجار
 
 
 
 
 
244

236

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 حتى لا تتبلّل القوات بالماء أثناء عبورها. ومع ذلك فقد انزلق عدد من الشباب خلال عبورهم على هذه الجذوع وسقطوا في الماء وتبلّلوا من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم، وإذا ما بقوا من دون حركة في هذا البرد القارس ستتجمّد عليهم ثيابهم.


في الجهة الأخرى للنهر، حاجزان ممتدّان على طول النهر، وكل من يعبره ويصل إلى هناك كان يجلس ويستريح. كنّا قد جلسنا وتجمّعنا متلاصقين وكل واحد كان يسعى لتدفئة نفسه بطريقة ما. فجأة، ظهر "حسن عبدي" و"محمد بور نجف" من قوات النخبة في الاستطلاع، يتّجهان نحونا، وكانا قد شاركا في المرحلة الثانية من عمليات الاستطلاع، وقد ذهبا في مهمة إلى المنطقة وهما الآن في طريق العودة. فرحتُ كثيرًا برؤيتهما. عندما علم "حسن" أنّني مع كتيبة "حبيب" (مشاركًا في العمليات) سألني عن فرج قلي زادة، فقلت له ارجع قليلًا إلى الخلف ستجده هناك. ودّعني وذهب في أثر فرج. ما إن ابتعد خطوات حتى سمعته: "آغا فرج... آغا فرج قلي زاده... فرج..."، ولم يلتفت إلى أنّ عمله هذا أسلوب خاطئ بالنسبة للإخوة! لاحظت أن الشباب كانوا ينظرون إليه باستغراب. ولعلهم يقولون له (في قلوبهم): "تفضلوا! هؤلاء شباب الاستطلاع أنفسهم يصيحون عاليًا ويصرخون، في حين يطلبون منا أن نخفت أصواتنا قائلين: "اسكتوا ولا تتحدثوا!". ثم شيئًا فشيئًا بدأت الهمهمات ترتفع وأدركت أن كلام "حسن" وصوته قد فتحا المجال أمام الشباب! وبعثا فيهم الانشراح! ولحسن الحظ في تلك اللحظات كان الرتل بتمامه قد عبر النهر وأصبح الجميع على استعداد للتحرك.
 
 
 
 
245

237

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 تحرّك الرتل، وقرّر المسير باتجاه بالوسه. هبطنا بالقرب من جسر بالوسه المكسور، كانت تلك المنطقة مغطاة بصخور صغيرة، وقد ألّفت مجتمعةً ما يشبه بلاطة صخرية كبيرة. من هناك، تابعنا النزول ومن ثم سرنا صعودًا من داخل الوادي نحو جاجيلة، وصلنا في النهاية إلى المكان الذي كنّا خلال الاستطلاع ننتقل منه بواسطة حجرة حديدية معلّقة بحبل الجرّ الفلزي ونتردّد ما بين جاجيلة و"قاميش". والآن حلّ مكانهما جسرٌ خشبيّ كان إلى ذلك اليوم من أكثر ظواهر الحرب إثارة للعجب والدهشة!


ففي الليلة الماضية قام الإخوة في فريق تسلّق الجبال في فرقة "سيد الشهداء" بنصب جسر خشبي لتسهيل مرور الإخوة من هناك. فأن يتمكّن هؤلاء الشباب من نصب هذا الجسر تحت نظر العراقيّين عملٌ يستحق الإكبار والثناء، فقد كان في دائرة رؤيتهم تمامًا سواء من جهة "قاميش" أو من الجبهة المقابلة لماووت، أي قرن "آمدين"، وهذا يعني أن شباب الفرقة قاموا بهذا العمل في ظروف صعبة وخطرة جدًا. كان تحت مرمى نيران العدو وعلى نهر قلعة تشولان الهائج، النهر الذي يقتلع الأنابيب المعدنية بطول 12م وبقطر متر واحد بلمح البصر، أما مستلزمات الجسر فكانت حبلًا وألواحًا بعرض 1م، رصفت بعضها إلى جانب بعض بطول 70 م وعرض متر واحد، وكل لوح خشبي فيه ثقبان من الجهتين. يمر الحبل في كل ثقب ويُعقد ليمرّ في اللوح التالي المجاور ويُعقد ثانيةً وهكذا دواليك حتى تتصل جميع الألواح ببعضها البعض، وتُثبّت. وعليه، فقد تمّ إنشاء الجسر بطريقة يدوية. كان على الأفراد الذين يريدون عبوره أن يمسكوا بحبل مشدود يرتفع قرابة 1م
 
 
 
 
246

238

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 فوق الجسر ومثبت من الجهتين ليساعدهم على حفظ توازنهم أثناء العبور. يرتفع الجسر عن مستوى الأرض والماء 35م تقريبًا، وكان يتعرّض للاهتزاز والتأرجح باستمرار، ومن يعبره كان عرضة للانزلاق والسقوط في أي لحظة. وبما أنّ جميع القوات كانت تعبر الجسر في الليل المظلم لأوّل مرة ولم تكن ترى - لحسن الحظ - ذلك المشهد المهول جدًا من فوق الجسر، إلا أنّ أصوات خرير مياه النهر المعربدة كانت تطرق الآذان وكنّا نشعر باهتزاز الجسر وتأرجحه مع كل نسمة هواء ودوسة قدم.


تقرّر أن يعبر الإخوة الجسر في مجموعات من خمسة أشخاص. فبعد أن تقطع المجموعة الأولى الجسر تتبعهما المجموعة الثانية، ولا ينبغي أن تعبر الجسر مجموعتان معًا. وقد اتبعنا هذه الطريقة لسلامة الإخوة وحتى لا يتضرر الجسر أو ينهار بسبب الوزن الإضافي للقوات العابرة، فنحافظ عليه من أجل عبور باقي القوات.

كم كانت فكرة مخيفة ومؤلمة أن تزلّ قدم أحدنا على الجسر إذا ما وضعها في المكان الخاطئ، فيهوي من أعلى ويتقطّع جسده ويذهب مع الماء.

ساور القلق والخشية الجميع، كما إنّ مسؤولي الكتيبة من جهة أخرى كان هَمُّهم وهاجسهم سلامة الجسر. فقد كان من المقرّر أن تعبره كتيبة أخرى من فرقة "سيد الشهداء"، لذا كنّا نحرص على أن نقوم بالعمليّة بمنتهى الدقّة والتأنّي حتى لا نلحق به أي ضرر. بالطبع، كنّا نحتاجه فيما بعد، لأنّه المعبر الوحيد لاتّصالنا بذلك المحور، ما دام أنّه لم يتم تشييد الجسر لعبور السيارات على نهر "قلعة تشولان".
 
 
 
 
247

239

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 اعترانا الخوف والأمل في آن، ونحن ننتظر عبور جميع القوات من على الجسر. كان مرور بعضهم سريعًا والآخر بطيئًا، إلا أنّ الكتيبة قد وصلت على أي حال إلى "قاميش". وقد استغرقت عمليّة الانتقال مزيدًا من الوقت، بعدها أخذ البرد يشتد شيئًا فشيئًا. فارتفاع "قاميش" واتجاه انحدار صخوره يسهمان في اشتداد الرياح، كانت منطقة وعرة. أحيانًا، كان مسيرنا يتبدّل ويصبح على الصخور فنضطرّ إلى تسلّقها بصعوبة وبمساعدة العناصر التي تقدمتنا والتي تلينا. وأحيانًا يسبّب وجود الحصى والرمل الانزلاق والسقوط. وفي كلّ تلك الظروف، كانت الرياح العاصفة تسلخ وجوهنا ورؤوسنا. كان الجميع يحملون على ظهورهم أحمالًا ثقيلة، كيس النوم، أسلحة وذخائر، أقنعة وطعامًا، إذ من المقرّر أن يبقى الإخوة يومًا كاملًا في المنطقة قبل الهجوم. ولا مناص من حمل عدّتهم وعتادهم الشخصي معهم، أما أنا فلم أكن أحمل شيئًا من هذه الوسائل. وبصعوبة بالغة، كنت أحمل نفسي على الصعود، وعندما كان من المفترض أن أتسلّق صخرةً أو أعبر أرضًا صخرية فكان ذلك بشق النفس، كانت آلام جراحي تنتشر وتتعاظم، وأحيانًا كنت أشعر أنّ جراح خاصرتي قد تفتّقت واتّسعت. فقد كنت لا أستطيع رفع قدمي لأعبر عن حجر أو صخرة ترتفع قليلًا لأنّي لا أستطيع طيّها، بل كنت أرفع كل جسمي وأحمل قدمي اليسرى بيدي وأنقلها إلى الأمام، لم أكن أرى في تلك العتمة الحالكة الشقوق ما بين الصخور، فكنت أحيانًا أعلق وأحيانًا أنزلق وأتعثر بحصاة تحت قدمي فأسقط أرضًا وكأنّ أحدًا قد دفعني. وهذه المعيقات والمشاكل قد واجهت بقية الإخوة بنسب متفاوتة،

 

 

 

248


240

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 حتى الإخوة ذوي البنى القوية والأجسام الرياضية. أما حركتي ومسيري بالنسبة لهم وأنا على هذه الحال فكانت أشبه بحلم.


*

استكمالًا للمسير، ينبغي قطع مسافة 1500م من الجسر حتى شقّ صخري (أخدود) ينتهى بقمة "همت"1. وكان محور عملياتنا هذا الشقّ الذي يتجه صعودًا من "قاميش" ويصل إلى "باليسا"، وباليسا هو الاسم المحلي للقمة التي أطلقنا عليها نحن اسم "همت". وصلنا إلى الشقّ، وهناك بعد أن عبرنا صخرتين كبيرتين نسبيًا وتقدمنا، وصلنا إلى واد وسيع وفسيح حيث من المقرر أن يكون ملاذنا خلال النهار. لم يبق لوصولنا إلى ذلك الوادي إلا مسافة قصيرة لكن الإخوة كانوا متعبين. وكان مسؤولو الكتائب المكلفون متابعة وإرشاد الرتل يرسلون البيانات والأوامر بشكل متتالٍ:
- على مهل، فالرتل قد انفصل.

- انتظروا ليصل الإخوة.

كان لانفصال الرتل عن بعضه أسباب عديدة. أولًا كنا نبطئ عندما نصعد بلاطة صخرية بارتفاع نصف متر، ومن ثم عندما نمضي عنها تصبح الحركة أسرع، وكان البطء في صعود البلاطة الصخرية يتكرر مع كل حركة بالنسبة للعنصر الواحد، وشيئًا فشيئًا كانت الفواصل والمسافات
 

1- كان لكل مرتفع من مرتفعات المنطقة اسم ولكننا أطلقنا نحن عليها أسماءً أخرى، فأعلى مرتفع اسمه "عروج" يليه "همت" ثم "ظفر"، "فتح"، "إيمان" و.... وهذه الأسماء حتى لو سمعها العدو بواسطة أجهزة اللاسلكي فلن يفهم منها شيئًا.
 
 
 
249

241

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 تتسع. ومن جهة أخرى ورغم الحركة والبرد الشديد، فقد غلب النعاس الشباب نتيجة التعب الشديد، وأيّ تأخير في السير حتى ولو بضع خطوات، كان معناه تقطيع أوصال الرتل.


مع انقضاء الليل، كانت طليعة قوات الرتل قد وصلت إلى الوادي، المكان الذي عدّته قوات الاستطلاع من الأماكن الآمنة نسبيًا للبقاء فيه ليوم واحد. على الرغم من أنّ المنطقة كانت بنحو ما تحت نظر العدو من جانبين، إلا أنّ أجزاءً من ذلك الأخدود كانت بمنأى عن نظره. وفي واقع الأمر فإنّ المنطقة ليست مريحة، لأنّه إذا ما تقدّمنا 100 قدم من الجهة الأمامية الآمنة فيصبح بإمكاننا رؤية العدو ونكون أيضًا تحت مدار نظره من "قاميش"، وإذا ما صعدنا إلى الأعلى من أطراف ذلك المكان فنصبح أيضًا تحت نظره. إضافةً إلى كل هذا فإنّ العدو متمركز أيضًا على قرن "آمدين"، المكان المقابل لماووت وكنا نراه بسهولة. لذا يمكننا تأكيد أنّ بإمكان العدو رؤيتنا.

- هل يُعقل أن نستريح يومًا كاملًا في قلب منطقة العدو وعلى مرأى منه حتى نكون مستعدين للهجوم الليلي؟

لم يكن لهذا السؤال جواب. إلّا أنّ العشق يقول إنه بمشيئة الله تعالى حُفظ "محمد" صلى الله عليه وآله وسلم داخل الغار (غار ثور) عن أعين العدو حتى يكمل رسالته.

*

لم يكن هناك ثلج في قعر (الأخدود)، إلّا أن محيطه ونتوء الجبل كان مكسوًّا ما عدا النتوء المعرض لأشعة الشمس. شيئًا فشيئًا دخلت
 
 
 
 
250

242

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 جميع الأرتال إلى هناك، وأُبلغ الإخوة التوجيهات والإرشادات وانشغل المسؤولون بتنظيم قواتهم في قعر الوادي.


- لا تتوغلوا كثيرًا إلى الأطراف، اسعوا للبقاء هنا في قعر الوادي.

- السرية الأولى في هذه الجهة ... والسرية الثانية في ذلك الجانب.

كان العدو يربض في أعلى الجبل، وكانت المسافة الفاصلة بيننا وبينه لا تتعدى الكيلومتر الواحد، وإذا ما سيّر دورياته في المنطقة فإنه من المؤكد سيصطدم بنا وينكشف كل شيء، وإنها لمجازفة كبيرة أن تبقى قواتنا المقبلة على العمليات ليوم كامل هناك، وقد تقبّل المسؤولون جميع أخطاره ورضوا بها. مع أن العدو بسبب الطقس البارد وتساقط الثلج والمطر الغزير، كان يقلّل من احتمال قيامنا في مثل هذه الأيام بعمل ما، لكن لو علا صوت أحد الإخوة أو ابتعد وتجاوز أطراف المنطقة الآمنة للأعلى قليلًا عن مكان تموضعنا، لأمكن للعدو أن يراه، وحينها لن يبقى مكتوف الأيدي.

مع ذلك، كانت تُسمع أصوات وضوضاء، فقد كانت إحدى سرايا "سيد الشهداء" تتموضع هناك. حتى إنّ بعض عناصرها كانت تشاهد عند أطراف الغار في "قاميش". كانت فرقة "سيد الشهداء" قد ادّخرت سابقًا كمّيات من "المرتديلا" في غار "قاميش"، في حين لم تحضر عناصرنا معها سوى الطعام الجاف، الذي لا يكفي سوى لسد الرمق، وخلال المسير في طقس بارد وماطر كهذا، وبما أنّنا سنبقى هناك مدة يومٍ كاملٍ، فسنتحمّل المزيد من البرد والصقيع. كان كل واحد مشغولًا
 
 
 
 
251

243

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 بإعداد مكان استراحته ونومه. أما أنا فلم يكن معي شيء، لا كيس نوم1 ولا وجبة غذائية. فكرت بالذهاب إلى بعض الإخوة في الوحدة ومشاركتهم أغراضهم إلا أنّ أوضاعهم كانت غنية عن التعريف. جلست قليلًا عند الأخوين "جلال زاهدي وحسن حسين زادة". لم أكن قد اتخذت قراري بعد، حتى رأيت أحد الإخوة مقبلًا ويسأل عني هذا وذاك:

- أين السيد "مهدي"؟... ألم تره؟

كان الأخ "جلال خليل زادة" من شباب الوحدة، وقد خمّن في تلك الليلة أنني لا أمتلك أي لوازم شخصية، وأراد استضافتي.

قبل وصوله كنت قد استطلعت موقع طاقم الكتيبة، وكنت أرغب كثيرًا بالبقاء معهم لكني كنت أستحي وأخجل، وهم أيضًا لم يدعوني، وقد أعدّوا مكانًا أعلى الجرف الثاني المشرف على الوادي، بحوالي 6م. وجلبوا معهم البطانيات وكأنهم جاؤوا إلى البرية في نزهةّ! مع أنني لو جلست متقوقعًا في زاوية من دون بطانية أو كيس نوم، لكان باستطاعتي النوم–بإذن الله-، لكن جلال خليل زادة قد غمرني بلطفه ومحبته وذهبنا معًا وقد أعد لي كيس النوم خاصته فنمت بداخله مدة وجيزة بينما كان هو يذرع الأرض رواحًا ومجيئًا، ثم بعد مدة نهضت وتبادلنا الأدوار نام هو وأنا مشيت، وهكذا بقي أحدنا في كيس النوم والآخر يتمشى حتى لا يقضي علينا البرد.

بقينا على هذه الحال حتى قبيل الفجر، ذهبت وتوضأت وأنا أرتجف من شدة البرد. خلعت الحذاء العسكري والجوارب، وشعرت بأنّ روحي
 

1- كيس النوم: فرشة فردية طولية الشكل بحجم شخص واحد تقريبًا، تحمل وتوضّب بسهولة هي على شكل كيسٍ كبيرٍ ويتم فتحها بسحاب طولي (المترجم).
 
 
 
 
252

244

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 تكاد تزهق وأن وجهي كاد ينسلخ ويتفسّخ من شدة البرد. ذهبت إلى المكان الذي أعدّه طاقم الكتيبة، كان هناك "السيد يونس، السيد فاطمي ويعقوب نيكبيران" وثلاثةٌ آخرون. صليت الصبح عندهم وكنت خلالها أتلوّى من شدة البرد. ما إن هممت بالخروج حتى سألوني ممازحين أو جادّين!: "إلى أين يا مهدي قلي


- سأذهب إلى الأعلى لأنام!

- لمَ لا تنام هنا!

لم يكادوا يتمّون كلامهم حتى دسست نفسي داخل البطانية

- يا لكم من أناس طيبين.

ثم تقدم "يعقوب وأمير" مباشرة، اندسّا تحت البطانية أحدهما من اليمين والآخر من الشمال، وقد كان "أمير" ينتظر إشارة "صاحب البيت" ليتدثر بالغطاء. تدثرنا بالبطانية إلى رؤوسنا، لكن ماذا عسى لساعة نقضيها متدثرين بغطاء أن تفعل ببرد لبس أبداننا طوال الليل. بقيت هناك حتى الساعة 8:30 صباحًا ولم يغمض لي جفن، لكن قدميّ ارتاحتا وسكتت آلام خصري. أخرجت رأسي من تحت الدثار فوجدت "محمد سوداكر" قائد كتيبة "حبيب" جالسًا على صخرة وينظر إلى الأسفل. ويبدو عليه أنّه بقي جالسًا هكذا حتى الصباح، كان الطقس غائمًا، كنت أنظر من مكاني وهو جالس على المرتفع، وقد ربط "سهم" القوس على ساقه، كما ارتدى معطف المطر
 
 
 
 
253

245

عمليات بيت المقدس الجبليّة

1 (pancho)، فتذكرت "زورو"، ذلك الفيلم الذي كنت شاهدته في طفولتي مرات ومرات. أردت النظر إلى وجهه. قلت له "زورو، هيا استرح ونم قليلًا!".


تبسّم وسكت. أما السيد "يونس" الذي كان حتى تلك اللحظة متظاهرًا بالنوم، لم يعد يتحمل فنهض من مكانه. وراح يعد طعام الفطور حيث كانوا قد أحضروا معلبات "سمك التونا".

نهضت لمساعدته. وكان كل أخ يخرج من جعبته ما لديه. قال "دلير أكبري": أعدّت والدتي معجونًا (خليط المكسرات والعسل)، فإذا ما تناولناه نتقوى به على البرد ونقاومه أكثر".

- جيد ! لم لا تحضره؟!

- ملعقة واحدة منه تقي من البرد، لكن الإكثار منه يصيب بالحساسية والحكاك.

نتيجة هذا الكلام، صار معلّب المعجون ينتقل من يد إلى أخرى وكل واحد يتناول منه ملعقة أو أقل. ما إن وصل الدور إليّ حتى قلت: "لأني أعاني من الضعف البدني الشديد، فإنّ مشكلتي تحلّ بثلاث أو أربع ملاعق"، أكلت، وقد شعرت واقعًا بالدفء، وعلى ما يبدو فالمعجون هو خليط: زهرة "لسان الثور" زهرة البنفسج، سكر النبات، واللوز والبندق. بعد تناول الفطور والمعجون عدت إلى جلال خليل زاده.

انبلج ضوء الصباح وأطلّت الشمس باستحياء من خلف الغيوم، وكان للجبال في ذلك الطقس المكفهر وتحت السماء القاتمة الزرقة، أبهة
 

1- Pancho: معطف سميك مع قبعة خاصة، من دون أكمام يقي المطر والبلل.
 
 
254

246

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 وجلال مدهشين. أمضينا يومًا مع القوات في الأخدود، وكان مسؤولو الكتائب وقوات الاستطلاع يوجهون إرشاداتهم وتعليماتهم إلى العناصر باستمرار. كنت و"جلال زاهدي، محمد رستمي، رضا فرجي، ناصر ديبايي وفرج قلي زادة" في حركة دائمة تارة، وتارة أخرى كنّا نتحدث مع الإخوة: "سوداكر وعبد العلي مطلق وناصر ديبايي" حول المنطقة واحتمالات التحرك ليلة الهجوم. لم أتناول ظهرًا أيّ طعام حتى أكون في الليل أكثر راحة وخفة، وكان الطعام حصةً قليلةً مجففةً. بعد صلاتي الظهر والعصر جاء شباب استطلاع فرقة "سيد الشهداء" إلينا، واقترحوا أن أصعد قليلًا إلى الأعلى وأراقب، في ضوء الشمس، المسير الذي سنعبره بالمنظار.


كان اقتراحًا جيدًا. حملنا سلاحنا والمنظار وصعدنا قليلًا إلى نتوء جبل "قاميش"، اتخذنا مكانًا لذنا به بين أكوام أعشاب ونباتات خرجت من قلب الصخور. وكانت الشجيرات والنباتات التي نَمَت بين الحجارة والصخور هنا وهناك قد اصفرت وجفت بسبب برودة الطقس. عند استطلاعنا المسير لم يلفت انتباهي شيءٌ سوى أنّنا لسنا في هذه المرتفعات تحت نظر العدو، واتضح لنا أن النتوء الصخري الذي سنتحرك عليه أو عن جانبه بعيد عن أنظار العدو نسبيًا لكن "أبو القاسم وطن بور" كان يقول إنّ للعدو مكمنًا عند نهاية هذا النتوء ولا يُستبعد أن يشرف منه على كامل المنطقة. بعد هذا الاستطلاع النهائي عدنا إلى حيث تموضعت قواتنا.

*
 
 
 
255

247

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 عند العصر، كان الإخوة قد تأقلموا مع المكان ونسوا الأوامر، فقد كانوا يذهبون ويتحركون أنّى يشاؤون، ولم يتقيدوا بحدود البقعة المطلوب عدم تخطيها. ولم يبالوا بمخاطرة الوقوع تحت نظر العدو. عندما شاهدت ثلاثة إخوة يتسلقون النتوء الصخري ذُهلت من ذلك وتعجبت! فلا يمكنني مناداتهم ولا أستطيع الجري مسرعًا لمنعهم وإعادتهم. أرسلتُ أحد الإخوة في أثرهم. رجعوا إلا أن أحدهم ذهب يتمشى في أطراف الوادي! فكل شيء كان على ما يرام وسارت الأمور بهدوء حتى كأن الإخوة لم يصدّقوا أننا تحت أقدام العدو ويمكنه الإطباق علينا من عدة جهات.


بعد دقائق، ذهبت إلى محل تموضع إحدى كتائب فرقة "سيد الشهداء"، وبعدها اجتمعنا بشباب الاستطلاع هناك: "ناصر ديبايي، جلال خليل زاده، أبو القاسم وطن بور وحسين سعادتي". بالرغم من أنه لم يكن لدي دور هناك في قوات الاستطلاع وقد جئت فقط للمشاركة في العمليات. فقد جرى حديث أثناء الاجتماع عن طريقة المسير والحركة، ومن هي العناصر التي تواكب تقدم الرتل في المقدمة والمؤخرة.

تحدثنا مع الأخ "سوداكر" كذلك، وتم الاتفاق على أن يتقدم "أبو القاسم وطن بور" الرتل و"حسين سعادتي" يكون آخر عناصره. أما أنا و"ناصر" فنسير أيضًا في المقدمة، إلّا أنه لم يكن هناك شخص يسير مع الرتل ويواكب حركته من أوله إلى آخره. كان نظرنا متجهًا إلى الإخوة الذين التحقوا حديثًا بالوحدة، وكان بيننا عناصر مناسبون لهذه المهمة
 
 
 
 
256

248

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 منهم: الأخ "مجاهد" الذي انتقل من كتيبة "شهداء كربلاء" إلى كتيبة "حبيب"، والأخ "سعيد سلطان زاده".


كان الأخ جلال مكلّفًا بإيصال السريّة الأولى إلى الكمين الذي سنشتبك فيه مع العدو، وكان منعزلًا مستقلًا عن باقي المنطقة، وكان على الإخوة الذين سيشتبكون بمعيّته الانفصال عن الكتيبة وسط المسير في الأخدود، وتمّ اختيار (السرية 1) من الكتيبة لهذه المهمة.

تتقدم (السرية 3) من كتيبة "حبيب" في طليعة حركة القوات من ذلك النتوء الصخري، على أن تنفصل (السرية 2) ومن ثم (السرية 1) عن الرتل في منتصف المسير، ويلي هذه القوات كتيبة من فرقة "سيد الشهداء".

وصل الأخ "جمشيد نظمي" قائد اللواء إلى المكان، فقد شاء أن يواكب قواته خطوةً بخطوة، لكن، تقرّر في النهاية بقاؤه مع بعض العناصر في المغارة بانتظار بدء المعارك، لينطلق مع انبلاج الصبح إلى الأعلى، وسيبقى برفقته أيضًا كل من: "صمد قاسم بور، هاشم تاري، رسول رضا زاده، محمد رضا تشميدي فر" وآخرون... بيد أن "هاشم" عامل الإشارة قد انطلق مع الرتل إلى الأعلى.

2

رويدًا رويدًا، أرخى الظلام ستائره واستعدّ الرتل للانطلاق، سكنت الرياح ليحلّ نسيم عليل مكانها محرّكًا الغيوم بهدوء في سماء مزدانة بوشاح الشفق الجميل. وبدأت العتمة تحيك ثوبها على الجبل والوادي، وها قد حانت لحظة الانطلاق.
 
 
 
 
257

249

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 خرج الرتل من الأخدود الذي قضى فيه يومًا كاملًا، وانطلق إلى النتوء الصخري. كنت أسير في مقدمة الرتل، وقد قطعنا قسمًا من المسير من دون مشكلة تُذكر. لكن أصبحنا دفعة واحدة في أرضٍ مليئةٍ بالحصى، ومع كل خطوة، كانت تنزلق وتتناثر تحت أقدامنا مصدرة أصواتًا ومسبّبة انزلاق الإخوة وسقوطهم، ما تسبب باختلال في حركة الرتل. كان الأخ "أبو القاسم" يسير في المقدمة ويردد خلال المسير على الحصى: لا سامحني الله، أنا من أتى بالإخوة من هذه الطريق وسبّبت لهم المشاكل، لن يسامحني الله على ذنبي هذا..". كانت حساسية أبو القاسم وشعوره بالمسؤولية واضطرابه كبيرة جدًا، اعتقدت أنه قد تغير كثيرًا عمّا قبل!


بعد طلبي وموافقة "ناصر ديبائي" تقدمت الرتل، وحجتي في ذلك أنني كنت وبسبب إصابتي في قدمي، أتفحص الأرض جيدًا قبل أي خطوةٍ أخطوها، فكنت أسير بتمهل وتمعن، أصبحت في المقدمة، وبعد ذلك قلّت الأوامر الصادرة مثل: تخفيف السرعة، وانقطاع الرتل، ولم تتعدّ الثلاثة.

كانت حواسي مركزة على الطريق الذي أقطعه، أردد الذكر الذي علّمنا إياه قائدنا الشجاع "مهدي باكري"، وكذا كان حال الإخوة، ففي هذا الصمت وهذه الظلمة لا شيء كالذكر يُيَسِّر الأمور.

مع سماعنا أصوات الضحك وتبادل الأحاديث، احتطنا أكثر، وأشار "ناصر" إلى كمين العراقيين فوقنا. لقد عبرنا تحته ووصلنا إلى ما يشبه الأخدود، وينتهي هذا الأخدود بمرتفع "همت" وتعلوه ثلاثة كمائن
 
 
 
 
 
258

250

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 للعراقيين. توقفنا عند بداية الأخدود، جلسنا والرتل على الأرض في ظل بلاطة صخرية كبيرة، كان القرار أن ينفصل فصيلان عن (السرية3)، واحد للقضاء على الكمائن، والآخر يتابع الصعود نحو "همت". كان مسؤول السرية "جلال زاهدي" ومعاونه "فرج الله قلي زاده". انطلق السيد "فرج" مع فصيلين نحو الأخدود، ورافقهما أبو القاسم وأحد عناصر الاستطلاع لإرشادهم. كان على "أبو القاسم" التوجه بأحد الفصيلين نحو الكمائن، على أن يقود السيد "فرج" وبمساعدة "حسين سعادتي" الفصيل الآخر، نحو "همت"، كان عليهم الصعود عن يسار المرتفع والاشتباك مع العدو هناك. بقيت أنا وسائر القوات في مكاننا، وحتى الساعة لم نسمع أي أخبار عن (السرية 1) التي انفصلت عن الرتل في منتصف الطريق واتجهت نحو الكمين، كما لم يصلنا أي خبر أو يردنا أي اتصال لا من كمائن الأخدود ولا من مرتفع "همت". وقد جلسنا والمكان غارق في سكون عميق. ومع أول طلقة سُمعت من جهة الكمين المستقل، كُسر هدوء الجبال والوديان. ظننتُ أنّ الاشتباك حصل في محور فرقة "سيد الشهداء" وكتائبنا. لم نعرف إذا ما اتصل السيد "فرج" بالأخ "سوداكر" أم لا، لكن الأخ "سوداكر" طلب من الفصيل المنتظر الانطلاق.


سار الأخ "جلال زاهدي" مع الفصيل وتقرر أن يقوده الأخ "ناصر ديبايي" إلى الأمام. بذهابهم لم يبق هنا غير (السرية 2)، ومهمتها الإسناد عند الضرورة، والتدخل بمعارك الكمائن. جلسنا بالقرب من أجهزة الاتصال اللاسلكية. أخذت الاشتباكات تشتد شيئًا فشيئًا خاصة.
 
 
 
 
259

251

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 في مناطق الكمائن. اعتقدت أنا و"سوداكر" أنّ "همت" لم يسقط بعد، ولذلك اتصل بواسطة اللاسلكي وطلب من قوة الإسناد المدفعي دكّ مرتفع "همت". جلس عاملو الإشارة والبريد حولنا، فأحدهم يتصل بالكتيبة وآخر بالمدفعية وآخر... وفي كل مرة كان شباب الكتيبة يتصلون، كنت أعرف أنهم ما زالوا مشتبكين في الكمين ولا خبر حتى الآن من الأعلى. سرعان ما وصل عبر جهاز اللاسلكي خبر وصول فصيل "جلال وناصر ديبائي" إلى قوات الفصيلين الآخرين.


- سيد جلال، اذهب إلى "همت".

هذا ما قاله قائد الكتيبة، ثم أعطى سرية علي رضا إشارة التحرك. حينها لم يبق في المكان إلا عاملو الإشارة، وأنا و"محمد سوداكر" نفسه. سُمع صوت إشارة الفرقة. كان السيد "أمين" هذه المرة وقال: "لقد أنهت كتيبة القاسم مهمتها، لكنكم لم تعطونا أي خبر!".

لم يكن لدينا حتى هذه اللحظة أي خبر، لا عن كتيبة "القاسم" ولا حتى عن سريتنا الأولى. انزعج السيد "محمد". أطفأ جهاز اللاسلكي. نهض بسرعة وقال: "أنا ذاهب".

- اصبر لآتي معك.

قلتُ ذلك وسعيتُ لألحق به، مشى بسرعة ومهما حثثنا الخطى ما استطعنا اللحاق به لا أنا ولا عاملو الإشارة. كنت أراه يقفز بسرعة وخفة مدهشة من على الصخور! كنت خلفه والإخوة عاملو الإشارة خلفي، ودوي أصوات القذائف المدفعية قد ملأ الآفاق. بعد دقائق أضعت "سوداكر"، وكذلك الإخوة الذين كانوا في أثره، إلا أن المسير الّذي كانت
 
 
 
260

252

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 قد رسمت معالمه أقدام الإخوة كان واضحًا فلم يساورني القلق. كنت أتتبّع أثر الأقدام على الثلج وأتقدم إلى الأمام صعودًا حيث وصلتُ إلى مكانٍ أخذ الأخدود فيه شكلًا حلزونيًّا. أردتُ التقدّم والصعود من هناك إلى أعلى وإذا بي أرى ثلاثة أشخاص جالسين في الأسفل، أحدهم يعتمر كوفية حمراء اللون ما أثار الريبة لدي، صحت بالفارسية:


- أيها الأخ! أيها الأخ!

فكّرتُ، لو كانوا إيرانيين لأجابوني، ولو كانوا عراقيين لشهروا سلاحهم باتجاهي، إلا أنّهم لم يأتوا بأي حركة أو ردّ فعل. جهزت سلاحي لأكون أول من يطلق النار إذا اضطرني الأمر، ثمّ ناديت مرة أخرى: أيها الأخ!

كانت يدي على الزناد. ولا جواب. مع أنه لم يفصلني عنهم أكثر من 10 أمتار، ما أثار دهشتي. صممت على إطلاق رشق ناري حولهم، وعندها سيظهر إن كانوا أصدقاء أم أعداء. أطلقت رشقًا ناريًا قرب أرجلهم، فتناثر الثلج والوحل على وجوههم ورؤوسهم عندها صاحوا: نحن إيرانيون، لا تطلق النار!

إنهم يتكلمون الفارسية. سألتهم: من أنتم؟ عرّفوا عن أنفسهم، فعرفت عندها أن الأخ "كبيري" قائد كتيبة الهجوم في فرقة "سيد الشهداء" جالس هناك. عرّفتهم عن نفسي أيضًا واستخبرت عن وضع كتيبتهم.

- الحمد لله، لقد اخترق الإخوة الخط.

قلتُ ممازحًا: "إذًا، لماذا أنتم جالسون هنا، هيا اذهبوا إلى قواتكم!"، وأكملت طريقي من دون أن أنتظر سماع جوابهم. غصت في الثلج الذي كان ارتفاعه على المنحدرات يصل إلى ما فوق الركبة،
 
 
 
 
261

253

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 وفي الأماكن المسطحة إلى 3 أمتار! وكانت الأخاديد والوديان المسطحة التي لا تصلها أشعة الشمس قد غمرتها الثلوج بالكامل. أما الثلوج التي تغطي النتوء الصخري للجبل فكانت تذوب وتتلاشى إثر تعرضها لأشعة الشمس.


بعد الأخدود ذي الشكل الحلزوني، وصلت مرة أخرى إلى مسطحٍ يظهر في آخره الكمين الذي ما زال الاشتباك فيه مستمرًا.

وصلت على بعد 50م من الكمين، إلى حيث مثلث الطرق، كانت آثار الأقدام في اتجاهين، الأول في خط مستقيم للأمام، واتجهتْ آثار أخرى نحو الأعلى. ظننت أنّ الفصيل الذي سيهاجم خط العدو قد سلك هذا الطريق، لذا حرفت طريقي وسرت فيه. كنت أحث الخطى وألاحظ أن آثار الأقدام على الثلج قد أصبحت شيئًا فشيئًا أكثر تشتّتًا وأقل عددًا، ما أثار دهشتي، لأنه لا تزال هناك مسافة طويلة للوصول إلى قمة الجبل، ومن المستبعد أن يكون الإخوة قد تفرقوا من هنا، إلا أنّني لم أتراجع وتابعت مسيري. كنت بمفردي، ولا شيء معي غير البرد والصقيع والظلام وأصوات الاشتباكات.

تملّكني إحساس بالوحدة، فلا إنسيٌّ يمشي على هذا الفرش الأبيض غيري. أصبحت على مقربة من رأس الجبل والصقيع يشتد ويأخذ مني كل مأخذ. ما إن شاهدت أشباحًا سوداء لأشخاص على رأس الجبل حتى هدأ روعي، وخُيّل لي بشدّة أنني أسير في الاتجاه الصحيح، وأنّ هؤلاء شبابنا في الأعلى. ما زالت تفصلني 5 أمتار عن بلوغ أعلى قمة "همت"، فقد مشيت وطويت مسافات، ولكنّي لم أكن أشعر بالتعب.
 
 
 
 
262

254

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 بل على العكس من ذلك، كلّما تقدمت وصعدت الجبل فكأنني ازددتُ قوّة وهمة لأنّني كنت أسمع صوت الشباب. فجأة راودني أمر، سكتُّ وأصغيت للأصوات التي كنت أسمعها، إنهم يتكلمون بالعربية!


لم أصدّق، فها أنا جئت لوحدي إلى هذا المكان المرتفع لأقع في أيدي العدو. فجأة أُطلقت باتجاهي قذيفة (آر بي جي) وتبعتها زخات من الرصاص... انبطحت بسرعة. ثم جلست وبدأت أتزحلق على الطريق نفسه الذي صعدت منه. وقد ساعدني الثلج على الانزلاق والوصول إلى الأسفل! عندما علمت أني لم أعد تحت نظر العدو، رتبت وضعي ونهضت. وقد تبين لي أني ضللت مسيري عند المثلث، وكان عليّ أن أرجع وأنزل إلى ذلك المكان وأسير في الطريق المؤدي إلى الكمين.

كان أمرًا صعبًا أن أهبط على الثلج إلى الأسفل وخاصة أنّ قدمي لا تطاوعني في السير كما يجب. شعرت بالبرد ولم أكن أعرف لماذا لم يذهب الإخوة إلى "همت". في نهاية الأمر وصلت إلى مثلث الطرق، وسلكت الطريق المؤدي إلى الكمين. كان الكمين قد طُهّر من العراقيين، ولم أرَ شيئًا غير أجساد قتلاهم الملقاة هنا وهناك. مع أني كنت أرتجف من البرد إلّا أنّني لم أستطع الدخول إلى الدشمة. حاولت أن أكمل طريقي على أمل أن ألتقي الإخوة، وعندما رأيت طلائع وجوه أعرفها شعرت بالأمان والسكينة تُبثّ في عروقي، وسررت جدًّا، فقد وجدتهم سالمين، كان أول من رأيت أحد شباب التخريب في الكتيبة، كان من أردبيل والكلّ ينادونه "بابا". عندما رآني أرتجفُ من البرد قال: "لقد استولى عليك البرد، اذهب إلى الأمام، فهناك خندق جيد للاستراحة".
 
 
 
 
 
263

255

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 - لا، بل أريد الذهاب إلى الأخ "سوداكر". أين هو؟


- الأخ "سوداكر" سلك الطريق نفسه الذي أتيت منه، ولا أعرف حاليًا أين هو.

كان في تلك المنطقة ثلاثة كمائن، وقد أبعد اتّساع المنطقة الكبير فكرة البحث عن "محمد" والعثور عليه في هذه المعمعة. كانت شدة البرد لا تطاق، خاصة إذا وقفت من دون حركة لدقيقة واحدة، فتشعر أنك ستتجمّد للتوّ. بصعوبة كنت أحرك أصابعي برغم القفازات. التجأت إلى أقرب دشمة. ما إن دخلتها حتى لفح وجهي هواءٌ دافئ نسبيًا، والتهب جلد وجهي الذي تناوبت عليه البرودة والسخونة معًا، كان في الدشمة مدفأة حطب شبيهة بالتي كنا نستخدمها في متاريسنا ودشمنا، كان الحطب قد احترق بالكامل، إلّا أن الحرارة ما زالت تنبعث من جمره المتقد تحت الرماد، والذي كانت تنبعث منه بعض الشرارات. كان الحظ حليفي، إذ لم يتسنّ للعراقيين تناول طعام عشائهم الذي أعدوه، فقد كنت جائعًا كثيرًا، لا أعرف كيف وصلت الخضار والبندورة إليهم في هذا الطقس البارد. على كل حال، تناولت الطعام ودعوتُ لمسؤول تموينهم!

كنت أشعر بالبرد ما إن أتذكّر برودة الطقس في الخارج، فتقوقعتُ حول المدفأة وحاولت تحريك الجمر تحت الرماد كي يتصاعد لهيبه.

كنت أستطيع النوم هناك، فيمر الوقت وأستشعر الدفء، لكن تذكّر الإخوة لم يكن ليفارقني:
- الإخوة موجودون في طقس بارد، 30 درجة تحت الصفر، بالتأكيد
 
 
 
 
 
264

256

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 هم تعرقوا خلال المسير والآن برغم التعب الشديد عليهم متابعة التحرك والنشاط وإلا استولى عليهم الصقيع وجمّدهم...


عندما سكن ارتجاف جسمي خرجتُ من الدشمة. كنت أفكر في الإخوة فلعلهم لم يجدوا متسعًا من الوقت لجمع الجرحى وإنقاذهم، ولعلّ جراح بعضهم ما زالت تنزف وفقدوا الوعي وهم مطروحون على الثلج، وفي هذه الحال سيكون مصيرهم الشهادة من شدة البرد حتى لو لم تكن جراحهم خطرة وبالغة.

كان الإخوة خارج الخندق يتحركون في كل اتجاه، وكلٌّ مشغول بعمله. كانت الحركة ما زالت مستمرة ما بين الكمائن ومن هناك إلى رأس المرتفع. وكانت أصوات الاشتباكات لا تزال تُسمع في الأجواء إلا أن الأوضاع في الكمائن كانت هادئة.

- ماذا فعلتم بالجرحى؟

- أدخلناهم إلى الدشمة.

- هل بقي أحدهم في الخارج؟

- لا، فقد جمعناهم وأدخلناهم إلى ذاك الخندق.

- وماذا عن الشهداء؟

- كل شهيد بقي في مكانه.

تقدمت نحو الدشمة التي أشاروا إليها، وكنت أسأل خلال الطريق كل من ألتقي به وأعرفه عن الإخوة.

- أين شباب المعلومات؟

- تقدموا إلى الأمام، وقد استشهد أحدهم.
 
 
 
 
 
 
265

257

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 - أين..؟


- لا أعرف. استشهد أحد الشباب، وقالوا إنه من الاستطلاع والمعلومات.

كنت أسأل وأبحث عن الإخوة الذين كان لدي حدس أنهم سيستشهدون. ما زالت العمليات مستمرة، ومن المحتمل أن يستشهد عدد آخر منهم. كنت أسأل وأستعلم عن شباب كتيبة "حبيب":
- أين "جلال زاهدي"؟

- لا نعرف شيئًا عنه

- الأخ "فرج قلي زاده"! تعرفون أين هو؟

- لا!

- هل رأى أحدكم "علي رضا سارخاني"؟

- ماذا عن "نيكنفس"؟

- في الأمام، داخل الكمائن.

وصلت إلى الدشمة التي جمعوا فيها الجرحى، كانت قد أُسدِلت بطانية على مدخلها لمنع دخول الهواء والبرد إليها. أزحتها جانبًا ودخلت. كانت الدشمة دافئة إلى حدّ ما إلّا أنّ نزيف جراح الإخوة وآلامهم لم يُبقيا لهم رمقًا، كان بعضهم ما زال يرتجف من شدة البرد، والمسعف ينتقل من جريح إلى آخر ليضمّد جراحهم ويقدم لهم الإسعافات الأولية. كانت عيناي تبحثان عن ضالتي من بين الجرحى. لم أكن أعرف عمّن كنت أبحث، ولكن بالتأكيد كان بينهم صديقٌ جذبتني محبّته إلى هنا. وأخيرًا رأيت ضالتي، إنّه صديقي الجريح "جلال زاهدي". جلست عند رأسه.
 
 
 
 
266

258

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 كان بدنه مشظَّى بكامله إلا أن الشظية التي أصابت عنقه كانت أقسى وأكثر فتكًا من سائر الشظايا. فقد كان يلفظ الدم مع كل نفس. قالوا: "إنه لا يجيب أحدًا وكأنه في غيبوبة".


أخذت رأسه بين يدي الباردتين وقربت شفتاي من وجهه، قلت له: "ما لك جلال... لا شيء بك، لا تخف". سمعني وفتح عينيه وحدق في عيني. وأجاب برجفة خفيفة وسكون: "قل لهم ليضمدوا جراحي!" ناديت المسعف. جاء وضمد جراحه العميقة وقد لف عليها الضمادات إلا أن جرح عنقه لم يكف عن النزف. مرة أخرى أغمي عليه. كم تمنيت لو أكون أنا مكانه. كم كنت أحبه وأعشقه وأعلم أن الشهادة تليق به إلا أني كنت أظن أنه لو نقل بسرعة إلى المستشفى فسيبقى على قيد الحياة. ما زلت بالقرب منه عندما فتح عينيه مرةً أخرى وقال: "أشعر ببرد!". دثرته بغطاء. ومرة أخرى ذهب في غيبوبة. كم كنت أتمنى أن يفتح عينيه ثانية ويطلب مني أي شيء لأساعده قدر استطاعتي. إلا أنه لم يقل شيئًا، كان يعود أحيانًا إلى وعيه فينظر إلى ما حوله وينظر إلي. لم أعرف ماذا أقول. كنت أتمنى أن أقول: "جلال! اذهب في أمان الله! لكن خذني معك". لم يكن وجودي هناك نافعًا لأحد. قلت للمسعف: خذوا الجرحى المصابين بجروحٍ طفيفة من دون انتظار وسيلة نقل مع اقتراب الصبح إلى خطوطنا الخلفية، وتابِع إسعافك للمصابين بجروح بليغة ريثما أذهب إلى حيث مواقع العراقيين لعلّني أجد بغلًا ننقل الجرحى بواسطته.

قبّلت "جلال" وخرجت من الدشمة وحثثت الخطى نحو قمة
 
 
 
 
267

259

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 قدمي اليمنى فيصبح الاسم "نورٌ على نور"1 وأبقى معلقًا عليها في الهواء! كما إنّ جزمتي امتلأت بالثلج. وتخشبت قدمي التي خضعت حديثًا لعملية زرع أعصاب، فلم أعد أشعر بها، فما بالك بألمها وألم خاصرتي!


أحيانًا كنت أصل إلى طريق صار كالجادة لكثرة ما تردد عليه الإخوة، هناك تصبح حركتي أسرع. وعندما كنت أصل إلى ركام الثلج، كنت أعاود السير ببطء شديد.

بدأت ظلمة الليل تنسلخ شيئًا فشيئًا والفجر شرع بالانبلاج، وها قد حان وقت الأذان، وأصوات الرصاص والقذائف تلعلِع ويتردّد صداها في الأجواء، ولا أذان ليُسمع. ردّدت الأذان وأقمت وأدّيت الصلاة أثناء تقدمي في المسير. هناك على سفح مرتفع شدّت انتباهي أجسادُ عدد من الشهداء بعضها إلى جنب بعض مضرجة بدمائها: "مير إبراهيم مير كاظم بور، أكبر جداري" وآخرون حوالي العشرة، وأظنّ أنهم قضوا نتيجة انفجار قذيفة.

أصبحتُ قاب قوسين أو أدنى من قمة "همّت"، وكلما صعدتُ ودنوت، اشتدت حدة الاشتباكات وازدحام القوات.

مرة أخرى وقعت عيناي على "محمد علي سوداكر"، وقد شدّ انتباهي، وهو يحمل رشاشًا ويطلق النار على دشم الأعداء في "ظفر". وقد اشتدت رمايته على دشمهم مؤمنًا غطاءً ناريًا للإخوة المهاجمين.
 

1- مثل يقال عندما تتكاثر المشاكل والأزمات على شخص، فلا يكاد يخرج من مشكلة حتى يقع في أخرى، كما يقال عندنا : .. زاد الطين بلة.
 
 
 
269

260

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 كنت ألهث وأشعر بقطرات العرق على جسمي المتجمد عندما دنوت منه. سألته عن الأوضاع فأجاب من دون أن يتوقف عن الرماية: "الإخوة يهاجمون الآن". كان غطاؤه الناري وتحرك الإخوة مجديًا. فقد استسلم عددٌ من العراقيين ووقعوا أسرى فسرنا نحوهم، بيد أن اثنين منهم قد شعرا أن "محمد" هو كبير هذا الجمع، فكانا كاليتيمين يتبعانه أينما ذهب. ورحنا نمازح "محمد":

- سيد "محمد"، أما الآن فقد أصبحت أبًا!

- سيد "محمد"، أين مرافقاك؟!

مع أن العراقيين في "ظفر" قاوموا بشدة وأخروا سيطرتنا عليه حتى الصباح، إلا أنّ الأخ "محمد" تعامل مع أسراهم برأفة ولطف، وهم أيضًا قد أعجبوا به كثيرًا.

تمت السيطرة على قمتي "همّت و"ظفر" وفرّ الأعداء إلى الخلف. وكان عددٌ كبير منهم يفرّ باتجاه "كوجار" ونيراننا تلاحقهم، ولبعد المسافة بيننا وبينهم لم تكن رماياتنا ذات جدوى. 

تقدم الشباب إلى أعلى القمة وسيطروا عليها وجرت الأمور لمصلحتنا.

على قمة "ظفر"، لفت نظري بغلان ضالان يتنقلان هنا وهناك غير مباليين بالقصف والنيران. طلبت من الإخوة أخذهما إلى الكمين حيث دشمة الجرحى في الأسفل، وأوصيتهم بنقل الأخ جلال بسرعة على أحدهما إلى الخلف.

اعتقدت حينها أنّ وقت الالتحاق (الإلحاق) بكتيبة "القاسم" قد حان. كان الأخ "محمد" لا يزال مشغولًا بتفقد أطراف قمة "همت".
 
 
 
 
 
270

261

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 كانت تراودني فكرة الذهاب إلى قمة "عروج" فهناك سأجد شبابًا من كتيبة "القاسم" بالتأكيد.


سرتُ وحيدًا، وشيئًا فشيئًا ابتعدت عن الإخوة، ما إن شاهدت من جهة "قمة عروج" بضعة شباب تعبويين يتقدّمون صوبي حتّى دبّت الحماسة فيّ وزاد اندفاعي للمشي والتقدّم. وصلتُ إلى منطقة عمليات كتيبة "القاسم"، وهناك شعرت بالغبطة وغمرني سرور، فها أنا أوّل شخص في كتيبة "حبيب" يلتحق بكتيبة "القاسم".

كنت وحيدًا ولم يلحق بي أحد. إلا أنّ هؤلاء التعبويين يتقدمون باتجاهي وهم يرتدون معاطف المطر الزرقاء اللون، وظننت أنهم من كتيبة "القاسم". فجأة رموني برشق ناري فجمدتُ في مكاني:
- يا إلهي! هذا أنا من كتيبة "حبيب"! "حبيب"!

لم يعيروني آذانًا صاغية. وبعد عدة رشقات قفلوا راجعين. انتابني خوف. ورجعت على أعقابي أيضًا. كانت السماء تشعّ بالضياء والساعة تقارب التاسعة عندما وصلتُ إلى حشد من شبابنا. وهناك ناداني هاشم تاري: "أخ مهدي! يريدك الأخ أمين في أمر1".

أمسكت سمّاعة اللاسلكي وأصغيت إلى الأخ أمين يتحدّث بلهجة فارسية خشنة حيث قال: "مهدي قلي! هذا أنت؟!".
 

1- فيما بعد قال لي الأخ السيد فاطمي: "بينما كنت أرصد بالمنظار مرتفعات "قاميش" وإذا بي أشاهد شخصًا يصعد نحو قمة "همت" وحدستُ أنّ إحدى قدميه معطوبة لأنه يعرج في مشيته، وقد ظننته أنت! فقلت للسيد أمين: "لقد ذهب الإخوة إلى هناك واستولوا على القمة"، أجابني: "كيف عرفت؟"، قلت له: "مهدي قلي هناك!" وحينها طلب أمين من عامل الإشارة أن يذهب ويجدك أينما كنت ليتحدث إليك.
 
 
 
 
271

262

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 - نعم أنا، أخ "أمين"؟ تفضّل


- كيف الوضع عندكم؟

- سيطرنا على قمة "همّت". وحررنا قمة "ظفر". ذهبت للالتحاق بكتيبة "القاسم" لكنهم أطلقوا النيران نحوي ولم يعيروا ندائي اهتمامًا.

- أيّ كتيبة "القاسم"؟!

- الإخوة الموجودون في "عروج".

- لكن كتيبة "القاسم" لم تتمكن أساسًا من التقدم إلى الأعلى! انظر ما يمكن فعله!

دهشتُ! والشيء الوحيد الذي تفوّهت به: "لا تقلقوا.. إن شاء الله سأسوّي الأمور!".

انقطع الاتصال. وها أنا من جديد أفكّر في نفسي وأضحك وأقول: "يا ولد كنتَ تفكّر بالالتحاق بالأعداء ظنًا منك أنهم كتيبة "القاسم"!.. أساسًا من قال إنّ كلّ من ارتدى معطف المطر الأزرق هو تعبويّ؟!".

بغضّ النظر عن هذه الأفكار، شعرت بالقلق. كنت أعرف أن طرق سير كتيبة "القاسم" صعبة العبور في أكثرها. فمن الطبيعي أنّه في مثل طقس بارد ومثلج كهذا، حيث يغطي الجليد مساحات واسعة مسبّبًا انزلاق الإخوة، فإنّه سيعيق حركتهم وتقدّمهم1.
 

1- بعد العمليات، كان شباب كتيبة "القاسم" يقولون إنّه بسبب الانزلاق والسقوط المتكرر على الجليد تعذّر الوصول إلى قمة "عروج". لكن الأخ أصغر عباس قلي زاده، كان كلما ازداد انزلاق الإخوة يجلس ويضع يديه على الأرض ويسند الإخوة أرجلهم عليه فيتمكنوا من متابعة المسير. لقد جرحت يداه لكننا تمكنا من الوصول إلى هدفنا. بالطبع قاسينا الكثير من التعب والصبر، وكانت كمائن العدو قد انتبهت لحدوث العمليات على وقع أصوات الاشتباكات فاستعدّت للمواجهة.
 
 
 
 
272

263

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 إذا ما سيطرنا على قمة "عروج" تصبح "قاميش" في متناول أيدينا ويكتمل انتصارنا. برغم أن كتيبة "القاسم" ما استطاعت الوصول إلى هناك، إلا أن الشعور بنشوة الانتصار في فتح مرتفعات "همت" و"ظفر" قد مدّنا بالمعنويات والاندفاع والقوة حيث كنّا نفكّر أنّ بإمكاننا الذهاب بأنفسنا من هذه الجهة نحو "عروج" وتحريرها. على أي حال أردنا الهجوم ثانية على "عروج". في بداية الأمر قمت بمراقبة المسير وشخّصت العوائق، وأبقيت اثنين من الشباب هناك.


- أنتما ابقيا هنا، العراقيون هنا في الأسفل، وإذا ما حاولوا التقدم إلى الأعلى اضربوهم.

تركتهما لأذهب وآتي بقوات الدعم والمساعدة. عدت إلى قوات الكتيبة المنتشرة هناك. قلت لهم: "بقيت قمة "عروج"، هيا لنذهب ونسوي الوضع هناك".

قلت ذلك ودعوتهم، إلا أنه لم يتبعني أحد باستثناء اثنين: "كاظم عبد الله زاده" والأخ "توانا". لم أفرّط بالوقت، وانطلقت مع هذين الأخوين. وكلما التقيت بأحد الشباب كنت أعرض عليه الأمر، ولكن الشباب كانوا متعبين لا حول لهم ولا قوة أيضًا، فما بالك بالاشتباك والمواجهة!

كان بعضهم يقول لي: "لقد تعبنا، لا نستطيع المجيء معك".

بقينا ثلاثة إلى أن التقينا بـ "عزيز بيكلر". كنت في السابق مسؤوله، فتبعنا مع عناصر فصيله، ووصلنا إلى صخرة، وإذ بالنيران تُطلق علينا من مكان قريب منها، أدركت أنّ للعراقيين متراسًا في الأسفل، عندها
 
 
 
 
273

264

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 تناولت قنبلة يدوية ورميتها فسقطت عليهم مباشرة، وسكتت نيرانهم. خطر في بالي أن أقسّم فصيل "عزيز بيكلر" إلى مجموعتين، وأن أرسل إحداهما إلى طرف النتوء الصخري للجبل الواقع على امتداد تلك الصخرة والمشرف على قسمٍ من "عروج" حيث احتشدت وتمترست القوات العراقية وأخذت تطلق نيرانها علينا.


أعطيت التعليمات وقلتُ: "أطلقوا النار بكل ما أوتيتم من قوة". تحركت المجموعة، والعراقيون ما زالوا يطلقون نيرانهم بغزارة. في تلك الأثناء التقيت الأخ "جمشيد نظمي" قائد محور العمليات والقوات التي ترافقه، وقفت أنا والأخ "صمد قاسم بور، رسول رضا زاده"، عاملو الإشارة وآخرون إلى جانب الصخرة. كان الأخ "صمد قاسم بور" إلى جانبي. ثبّتُّ الرشاش على الصخرة وأكدت عليه رمي العراقيين الفارين بشكل دقيق ومباشر.

وصلت المجموعة التي أرسلتها نحو نتوء الجبل إلى موقعها. وفي لحظةٍ صبّت حمَمُ نيران غزيرة على الأعداء الذين فضّلوا الانسحاب والهروب على المقاومة، وكنت أعلم أنهم إذا ما استطاعوا الفرار سالمين سيعيدون تشكيل أنفسهم بسرعة ويعيقون عملنا. ولهذا، فقد حثثتُ الجميع وطلبت منهم أن يستخدموا كل إمكاناتهم ولا يدعوهم يفرون:
- أخ مهدي، نفدتْ ذخيرتي!

كان "يوسف" عامل الرشاش في الفصيل ذلك، وكان رابضًا على الصخرة ويسدد رماياته بشكل دقيق.

كنت واقفًا مركزًا نظري على "عروج" عندما سمعته يخبر بنفاد ذخيرته.
 
 
 
 
274

265

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 - أخ "يوسف"! اذهب وخذ الذخيرة من الإخوة.


قلت ذلك فنهض "يوسف" من مكانه يريد إحضار الذخيرة، كان عليه المرور بالقرب مني، ما إن توجه صوبي حتى أصابت رأسه طلقة رصاص فلقته فخرّ ساجدًا على الأرض يتلوّى، ثم ما لبث أن فارق الحياة محلّقًا إلى الرفيق الأعلى. لقد التحق سريعًا بركب الشهداء، بصمت وهدوء تام من دون أن يدع لي الفرصة1... استولى الغمّ عليّ وجعلني بلا حولٍ ألوذ بحزني، فهذه الرصاصة كانت من نصيبي. ولو لم يعبر في تلك اللحظة من أمامي لما أصابته الرصاصة ولاستقرّت في صدري بدلًا منه، ولكنت الآن مكانه أرتع في سكينة وهدوء.. أخذ بعض شباب الفصيل الجدُد ينظرون إليّ وإليه، وكنت أعلم أن أيّ ردّ فعل سينعكس عليهم. قلت للشباب: "ضعوا الشهيد جانبًا"، ورحت أطلق النار. لم أدَع الثوران والاضطراب اللذين اجتاحا قلبي وعينيّ يظهران على وجهي أمام الجميع. قلقَ "صمد قاسم بور" عليّ، وكان قد ظنّ أنّي من أصابته الرصاصة!

أمضيت لحظاتٍ قاسية. كان صوت "يوسف" لا يزال يتردد في مسامعي: "أخ مهدي أخ مهدي... نفدت ذخيرتي"

كنت أقنص العراقيين الواحد بعد الآخر، ولم نعد نلقى منهم أيّ مقاومة، إما أنّهم لاذوا بالفرار، أو قتلوا، وحان وقت الحركة بسهولة أكبر. ومع انفجار قذيفة (B7) بالقرب من الأخ "نظمي" حيث كان على بعد خطوات منا في حفرة، لم نرَ من مصلحة في بقاء الإخوة هناك. لذلك
 

1- يقصد هنا أن يدع له فرصة الاستشهاد.
 
 
 
275

266

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 رجعنا باتجاه "ظفر"، وانطلقت أنا أيضًا، لكنني لم أستطع إبعاد نظري عن مكان استشهاد الأخ "يوسف"، محل عروجه وسقوطي أنا1. وصل "ناصر ديباني" وما إن رآني حتى سأل: "ما الذي تفعله هنا؟".


- حسنًا، أنا أقاتل!

- يا ولد! لا تسخّف نفسك! (لا تجعل من نفسك أضحوكة)

بصعوبة ارتسمتْ بسمة على شفتي. كان هذا من الاصطلاحات الخاصة بـ"ناصر"، التي كان يطلقها على أحبّائه في الوحدة.

- قال السيد "كريم" إنّ لدينا عملًا. فليأت "مهدي قلي" إلى هنا أينما كان.

كان التعب قد أخذ مني كلّ مأخذ، وكنت منهكًا جدًا. أردت النزول إلى المقر الذي يقع أسفل منّا. كان عبور الآليات العراقية قد أوجد ازدحامًا شديدًا على الطريق. وسلط الإخوة عليها كلّ ما بحوزتهم من سلاح خفيف ومتوسط وقذائف "الآر بي جي". كانت الجادة أشبه بجادة تبريز- طهران ساد فيها الازدحام والفوضى.

كنت عائدًا برفقة "ناصر ديبايي" حينما التقينا بقوات كتيبة "سيد الشهداء". فهم قد جاؤوا إلى ظفر. والتقيت هناك قائد الكتيبة السيد "محسن موسويان"، و"مقصود نعلبندي وعلي أكبر بوزش بذير" من عناصرها، وهم رفاق الصبا، في المدرسة والمسجد والحي والحرب. وكانت فرحة النصر قد ظهرت على وجوه الجميع، ولاحت
 

1- يقصد "بقاءه أسير الحياة الدنيا".
 
 
 
 
276

267

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 عليها ابتسامات الغبطة والحبور. كان كل من يعرفني يحاول مشاكستي ويقول: "أيها الأعرج ماذا تفعل هنا؟". لم أكن في حال جيّدة لأرد الصاع صاعين، فمشهد استشهاد "يوسف" لم يغادر ذاكرتي وبالي. كنت أرجع من المسير ذاته الذي طويته صباحًا. توقفت مرتين للاستراحة بين الدشم والمتاريس المتناثرة خلال الطريق. وقد أصابني عطش شديد في الطريق فكنت آخذ الماء من الشباب وأشرب، لم أدر كيف كنت أقطع الطريق وأمشي، كنت أنتبه فقط كي لا أسقط أرضًا، فقد فقدت الإحساس بقدمي. وصلت وأنا على هذه الحال إلى "همت"، ومنه رجعت إلى ناحية الكمائن. كنت أريد الاطمئنان إلى "جلال"، هل نقلوه إلى الخلف أم لا؟ لم أصل بعد إلى الدشمة التي جمعوا فيها الجرحى حتى التقيت "فرج قلي زاده". كان في يده مطرة ماء ووجهه مهموم حزين سألته: "إلى أين تذهب"؟


- طلب "جلال" الماء، وها أنا ذاهب إليه.

- كيف حاله؟

- .. ليس على ما يرام.

جفّت شفتاي، وجمدت أطرافي من البرد، وكان قلبي يتفطّر من الألم. ناولني "فرج" المطرة، شربت جرعة ماء، وأكملت المسير خلفه إلى الدشمة. وصل إلى باب الدشمة، أزاح البطانية جانبًا، وتسمّر في مكانه وسقطت المطرة من يده، كاد قلبي يتوقف، كنت في حالة أعجز عن وصفها والحديث عنها! كيف خطوت تلك الخطوات إلى الدشمة؟ أساسًا لمَ أتيت؟ ألِأشهد موت "جلال"؟!
 
 
 
 
 
277

268

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 قال أحدهم هيا ادخل، لا أدري هل كان "فرج" أم المسعف، جلست قرب "جلال" وكان يغُطّ في سبات عميق ويسبح في سكينة أبدية، فقد نزفت جراح عنقه حتى آخر قطرة، جلس "فرج" فوق رأسه، اختنقت بعبرتي، ولا أدري هل لم أصدّق رحيل "جلال"؟! أم كنت أرى أن لا مجال للدمع هنا؟!


أخرجت زجاجة عطر1 احتفظت بها في جيبي، مسحت وجهه بالعطر وشممته. ليس "جلال" أول شهيد أمشّط لحيته ورأسه، أعطّره وأشمّه، لكنه كان الشهيد الأول الذي لم أكن أعرف ماذا أفعل في محضره! كنت أشعر بأني صغير وضئيل أمامه. انتحبت وبكيته بصوت ضعيف، فقد عُجن بذاكرتي. ففي وقت لم أكن قد تنشّقت هواء الجبهة النقي بعد، عندما كنت أذهب إلى مسجد "شهيدي" وأتدرّب على سلاح (M1- أم11)، كنت أجد "جلال" هناك لا يبارح المسجد ولا ينفك حاضرًا فيه، فما إن يأخذ مأذونية من الجبهة حتى يأتي المسجد. لا أدري كم يومًا مكث في منزله منذ بداية الحرب! عندما كان في كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، وقد ذهب جميع الإخوة في مأذونيات، بقي جلال هناك في المقر. وعندما كان يريد الانتقال من كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" إلى مكان آخر كان يستشيرني إلى أين يذهب. قلت له حينها: "إما إلى وحدة الاستطلاع أو إلى كتيبة "حبيب".

كان يرجّح أن يكون في كتيبة "حبيب". تكلّمت حينها مع الأخ
 

1- بعد استشهاد "محمد محمد بور" أصبحت أرتدي بزّته العسكرية وأحتفظ في جيب السترة ناحية الصدر، بعدد من زجاجات العطر الصغيرة. كي أنثرها أثناء العمليات على أجساد الشهداء.
 
 
 
 
278

269

عمليات بيت المقدس الجبليّة

 "سوداكر" وحدّثته عن "جلال" وقلت إنّه من كنوز الحرب المكنونة، ونحن لم نكتشفه بعد، ولم نستفد من قدراته كما يجب.


انتقل "جلال" إلى كتيبة "حبيب" ولم يمضِ وقت حتى كلّف مسؤولية إحدى السرايا .. وكان "فرج قلي زاده" مساعده ورفيقه. أولئك الرفاق الذين وجدناهم في الجبهة، هم كل شيء بالنسبة لنا! وبعد شهادة "حسين محمديان" صرت أدرك جيدًا ماذا يحلّ بالشباب عند رحيل رفاقهم.

تركت الأخ "فرج" وحيدًا، حتى إنّي لم أودّعه. خرجت باحثًا عن أحد شباب الاستطلاع الذي أخبرنا الشباب الليلة الماضية عن شهادته.

سألت أول شخص التقيت به:
- أين مكان عنصر الاستطلاع الذي استشهد؟

- لقد سقط بالضبط عند أول ذلك المعبر.

نظرت إلى المكان الذي أشار إليه. فهناك معبر بعد الأسلاك الشائكة، وعند بدايته جسد شهيد ملقىً على الثلج منكبًّا على وجهه.

سألت: لماذا الجثمان هكذا؟

- أنا جعلته على هذا النحو حتى لا تضعف معنويات الشباب عند رؤيته.

- أصلًا الشباب يستمدّون معنوياتهم من هؤلاء الشهداء. فتأتي أنت...