دراسات في مناهج التفسير


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-02

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الدرس الأول: التفسير والتأويل

 أهداف الدرس
 
1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما
2- أن يدرك الحاجة إلى التفسير

11

1

الدرس الأول: التفسير والتأويل

 

 
التفسير

 
أ- لغة: التفسير من فَسَرَ، بمعنى أبان وكشف.

ويقال "فسّر" للدلالة على التكثير، تنزيلاً لما يعانيه المفسّر من كدّ الفكر لتحصيل المعاني الدقيقة.

ب- اصطلاحاً: هو: إزاحة الإبهام عن اللفظ القرآني المشكل، أي المشكل في إفادة المعنى المقصود، أو الكشف عن الإبهام في الجُمل والكلمات القرآنية، وتوضيح مقاصدها وأهدافها.

 

الحاجة إلى التفسير


إذا كان القرآن الكريم قد أنزله الله نوراً وهدىً وتبياناً لكلّ شيء ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾1، ﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾2، ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ﴾3، وإذا
 

1- سورة النساء، الآية: 174.
2- سورة آل عمران، الآية: 138.
3- سورة الجاثية، الآية: 20.

13

2

الدرس الأول: التفسير والتأويل

كان قد جاء ليكون بنفسه أحسن تفسيراً ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾1.
 
 

فما هي الحاجة إلى علم التفسير؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال بذكر الأسباب التالية:
1- إنّ القرآن الكريم جاء تشريعاً للأصول والمباني، وأَجْمَلَ في البيان إيكالاً إلى تبيين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تفاصيل ما نُزّل إليهم.

قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزلت عليه الصلاة ولم يُسمَّ لهم ثلاثاً، ولا أربعاً، حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الّذي فسّر لهم ذلك"2.

2- احتواء القرآن على معانٍ دقيقة ومفاهيم رقيقة، مثل أسرار الخليقة والوجود وصفاته تعالى، وهي فوق مستوى البشرية آنذاك، ليقوم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتبيينها وشرح تفاصيلها.
 


3- اشتمال القرآن على بيان حوادث غابرة وأمم خالية، جاء ذكرها لأجل العظة والاعتبار إلى جنب عادات جاهلية كانت معاصرة، عارضها وشدّد النكير عليها، مثل نهيه عن دخول البيوت من ظهورها3، ومسألة النسيء4... فقطعها من جذورها. وكل هذه الأمور جاءت مجملة بحاجة إلى شرح وبيان لا تتمّ إلّا من خلال التفسير بالمأثور.
 


4- جاء في القرآن الكريم كلمات عربية غريبة صعبةالفهم على عامة الناس وهي على أفصح وأبلغ وجه، فكانت بحاجة إلى شرح وبيان وتفسير.


1- سورة الفرقان، الآية: 33.
2- الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني، تحقيق: علي أكبر الغفّاري: ج 1، ص 286، دار الكتب الإسلامية، 1986م.
3- سورة البقرة، الآية: 189.
4- سورة التوبة، الآية: 37.
14

3

الدرس الأول: التفسير والتأويل

ولذا قال الراغب في المفردات: فالتفسير إمّا أن يستعمل في غريب الألفاظ نحو: "البحيرة" و"السائبة" و"الوصيلة" أو في وجيز كلام يبيّن ويشرح، لقوله: ﴿مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾1 أو في كلام مضمّن بقصّة لا يمكن تصوّره إلّا بمعرفتها، نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾2 وقوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا﴾3.
 
 

التأويل

حظي معنى التأويل باهتمام المحقّقين والمفسّرين منذ عهد بعيد، وقيل فيه كلام كثير. وجاءت لفظة التأويل سبع عشرة مرّة في القرآن، إحداها عند تقسيم آيات القرآن إلى مُحْكم ومتشَابَه4 , أي في الآية السابعة من سورة آل عمران، يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾ ففي هذه الآية يُبيّن الله تعالى أنّ من في قلوبهم زيغ يتّبعون الآيات المتشابهة طلباً للفتنة ورغبة في تأويل المتشابه.

وهناك موضوعات مهمّة في هذا البحث لا بدّ من التعرّض لها، وهي:
 

1- سورة المائدة، الآية: 103، والبحيرة هي الناقة إذا ولدت عشرة أبطن، شقّوا أذُنها وتركوها، فلا تُركب ولا يُحمل عليها، والسائبة: إذا ولدت خمسة أبطن، تسيّب في المرعى، فلا تردّ عن حوض ولا كلاء، والوصيلة: إذا ولدت الشاة توأمين ذكراً وأنثى، فلا يُذبح الذكر، ويقال وصلت أخاها فيتركونها لأجلها.
2- سورة التوبة، الآية: 37.
3- سورة البقرة، الآية: 189.
4- المحكم هو ما لا يحتمل إلّا معنى واحد، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً متعدّدة، وعرّف الشيخ الطوسي المحكم بأنه: ما أنبأ لفظه عن معناه من غير اعتبار أمر ينضمّ إليه.. والمتشابه: ما كان المراد به لا يُعرف بظاهره بل يحتاج إلى دليل، وذلك ما كان محتملاً لأمور كثيرة أو أمرين، ولا يجوز أن يكون الجميع مراداً فإنّه من باب المتشابه، وإنّما سمّي متشابهاً لاشتباه المراد منه بما ليس بمراد. التبيان، الشيخ الطوسي، ج 1، ص 9.

15

4

الدرس الأول: التفسير والتأويل

  أ- معنى التأويل:

 

في اللغة التأويل: من الأَوْل، وهو الرجوع إلى حيث المبدأ, فتأويل الشيء إرجاعه إلى أصله وحقيقته، فكان تأويل المتشابه توجيه ظاهره إلى حيث مستقرّ واقعه الأصيل.

والتشابه قد يكون في كلام إذا أوجب ظاهر تعبيره شبهةً في نفس السامع، أو كان مثاراً للشبهة. 

وقد يكون التشابه في عمل كان ظاهره مريباً، كما في أعمال قام بها صاحب النبيّ موسى عليه السلام ، بحيث لم يستطع النبيّ موسى عليه السلام الصبر عليها دون استجوابه، والسؤال عن تصرّفاته تلك المريبة!
 


 

 

ب- استعمالات التأويل في القرآن الكريم 

 

جاء استعمال لفظ "التأويل" في القرآن على ثلاثة وجوه:
1ـ تأويل المتشابه: بمعنى توجيهه حيث يصحّ ويقبله العقل والنقل، إمّا في متشابه القول، كما في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ1 أو في متشابه الفعل، كما في قوله: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا2 ، ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾3.

2ـ تعبير الرؤيا: وقد جاء متكرّراً في سورة يوسف في سبعة مواضع4.
قال تعالى: ﴿َيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾5.

3ـ مآل الأمر وعاقبته: وما ينتهي إليه الأمر في نهاية المطاف، قال تعالى:
 

1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة الكهف، الآية: 78.
3- سورة الكهف، الآية: 82.
4- الآيات: 6ـ 21ـ 36ـ 44ـ 45ـ 100ـ 101.

16

5

الدرس الأول: التفسير والتأويل

﴿وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾1، أي أَعوَد نفعاً وأحسن عاقبة.
 
4- المراد الحقيقي والواقعي من الآية: وهو ما يعبّر عنه ببطن القرآن، ولا يعتمد التأويل على ظاهر اللفظ ولا على القرائن اللفظية، ومن هنا كان خطاب النبي يوسف عليه السلام: ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾2 فإن تفسير الرؤيا أنّه رأى أحد عشر كوكباً ورأى الشمس والقمر كل ذلك رآه ساجداً له، ولكن بعد مرور الزمن والابتلاءات تمّ تأويل هذه الرؤيا بما لا يظهر من الألفاظ المستعملة في آية الرؤيا، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن"، سئل الإمام الباقر عليه السلام عن هذا الحديث فقال: "ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن يجري كما تجري الشمس والقمر"3.
 

 

الفرق بين التفسير والتأويل
 
كان التأويل في استعمال السلف مترادفاً مع التفسير، وقد دأب عليه أبو جعفر الطبري في "جامع البيان". لكنّه في مصطلح المتأخّرين جاء متغايراً مع التفسير، فالتفسير هو: رفع الإبهام عن اللفظ المشكل، فمورده: إبهام المعنى بسبب تعقيد حاصل في اللفظ.


وأمّا التأويل: فهو دفع الشبهة عن المتشابه من الأقوال والأفعال، فمورده حصول شبهة في قول أو عمل، أوجبت خفاء الحقيقة (الهدف الأقصى أو المعنى المراد) فالتأويل إزاحة هذا الخفاء.
 


 

فالتأويل هو: بيان المراد الحقيقي للآية التي لا تفهم من خلال الألفاظ، والتي تكون بعيدة عن القرائن اللفظية الظاهرة، والتفسير يكون برفع الخفاء
 


1- سورة الإسراء، الآية: 35.
2- سورة يوسف، الآية: 100.
3- بصائر الدرجات، محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار، ص 195، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1381هـ.
 
 


17

 


6

الدرس الأول: التفسير والتأويل

بالاعتماد على الظاهر من اللفظ والقرائن، بينما التأويل يكون بيان المعنى الحقيقي والواقعي من دون ذلك الاعتماد.
 
التأويل عند الطباطبائي

 

قال العلّامة الطباطبائي: "فسّر قوم من المفسّرين التأويل بالتفسير وهو المراد من الكلام... وقالت طائفة أخرى أنّ المراد بالتأويل هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ... وهذا المعنى هو الشائع عند المتأخّرين كما أنّ المعنى الأوّل هو الّذي كان شائعاً بين قدماء المفسّرين..."1 واستنتج العلّامة بعد ذكره وتفنيده لكلِّ الآراء، ما يلي:

"إنّ الحقّ في تفسير التأويل أنّه الحقيقة الواقعية الّتي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة، وأنّه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها، وأنّه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ، بل هي من الأمور العينيّة المتعالية من أن يُحيط بها شبكات الألفاظ، وإنّما قيّدها الله تعالى بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهي كالأمثال تُضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع...، ولم يستعمل القرآن لفظ التأويل... إلّا في المعنى الّذي ذكرناه"2.

ومن الشواهد على هذا الاستخدام لكلمة التأويل ما ورد في قصّتي "موسى والخضر" و"يوسف" وما شابه ذلك.

ففي قصّة النبيّ يوسف: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾3.
 

1- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 44 و49، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، ط 2، 1391هـ.
2- م.ن، ج 3، ص 49.
3- سورة يوسف، الآية: 4.

18

 


7

الدرس الأول: التفسير والتأويل

وبعد مضي سنوات طويلة وحوادث كثيرة، جاء تأويل هذه الرؤيا في السورة بالشكل التالي:
 
﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾1.

فما رآه النبيّ يوسف في الرؤيا يعود إلى سجود أبيه وأمّه وإخوته، وهذا التأويل والرجوع من قبيل رجوع المثال إلى الممثّل والواقع الخارجي.

 

هل يعلم التأويل غير اللّه؟


 

يثار السؤال المذكور في ضوء ما ورد في الآية السابعة من سورة آل عمران: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب﴾2. فقد وقع خلاف مهمّ حتّى في قراءة الآية وتلاوتها، وهو حسب قول البعض أهمّ اختلاف في القراءات وأعمقه معنى في القرآن كلّه. ويدور الاختلاف حول الوقف أو عدمه بعد كلمة "الله" في الآية الشريفة: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾.


فالقول بالوقف يعني أنّ علم التأويل عند الله وحده، وأما القول بالعطف فمعناه أنّ علم التأويل ليس لله وحده، وإنّما الراسخون في العلم لديهم علم بالتأويل أيضاً.

يعتقد العلّامة الطباطبائي أنّ العلم بالتأويل لا يختصّ بالله تعالى وذلك استناداً إلى أدلّة من الآيات والروايات.
 
 

1- سورة يوسف، الآية: 100.
2- سورة آل عمران، الآية: 7.

19

8

الدرس الأول: التفسير والتأويل

 

 فمن الآيات القرآنيّة:

﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾1 ولا شبهة في ظهور الآية في أنّ المطّهرين من عباد الله يمسّون القرآن الكريم، وهم آل البيت عليهم السلام: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾2.
 


 

ومن الروايات:

عن بريد بن معاوية قال: "قلت للباقر عليه السلام: قول الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ قال: يعني تأويل القرآن كلّه إلّا الله والراسخون في العلم، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد علّمه الله جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله منزلاً عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، فقال الذين لا يعلمون: ما نقول إذا لم نعلم تأويله؟ فأجابهم الله: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾3.

وعن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم﴾ نحن نعلمه"4.

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "نحن الراسخون في العلم، فنحن نعلم تأويله"5.
 

 
 
1- سورة الواقعة، الآيات: 77ـ 79.
 
 
2- سورة الأحزاب، الآية: 33. انظر: تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 55.
 
 
3- تفسير العياشي، مصدر سابق، ج1، ص293، الحديث رقم: 646.
 
 
4- م.ن، الحديث: 647.
 
5- م.ن، الحديث 648.
20

9

الدرس الأول: التفسير والتأويل

 

 خلاصة الدرس

التأويل في اللغة: الأوْل، وهو الرجوع إلى حيث المبدأ. والتشابه قد يكون في الكلام وقد يكون في العمل.

ـ التأويل في القرآن الكريم على ثلاثة وجوه: تأويل المتشابه، تعبير الرؤيا، مآل الأمر وعاقبته، والمعنى الرابع المفهوم العام المأخوذ من الآية الواردة بشأن خاص.

ـ الفرق بين التفسير والتأويل: كان التأويل في استعمال السلف مترادفاً مع التفسير، ولكنّه عند المتأخّرين يعني المعنى المخالِف لظاهر اللفظ.

ـ عند العلّامة الطباطبائي التأويل ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الأمور المتعالية من أن يحيط بها الألفاظ، فهي كالأمثال تُضرب ليقرب بها المقاصد.

ـ اختلف المفسِّرون في أنّه هل يعلم التأويل غير الله تعالى، من حيث اختلافهم في علامة الوقف على كلمة الله في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾، ولكن العلّامة الطباطبائي استدلّ من غير هذه الآية بغضّ النظر عن الخلاف في علامة الوقف بآيات أخرى وروايات، على إمكانية أن يعلم غير الله التأويل، بالإضافة إلى أنّ هناك دليلاً عقليّاً.
 
21

10

الدرس الثاني: أصول التفسير

 أهداف الدرس:

1- أن يتعرّف الطالب إلى أصول التفسير ومداركه
2- أن يميّز بين أقسام أخبار الآحاد
 
23

11

الدرس الثاني: أصول التفسير

 تمهيد
الظنّ على نحوين، ظنّ معتبر يمكن الاعتماد عليه، وظنّ غير معتبر منهيّ عنه لا يمكن الاعتماد عليه، لذلك لا يجوز أن يُعتمد في تفسير كلام الله تعالى إلّا على ما ثبت اعتباره وحجيّته كالظواهر الظنية، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنّ غير الحجّة، ولا على الاستحسان، ولا على غيرهما ممّا لم تثبت حجيّته، كقول المفسِّر قديماً كان أم حديثاً، موافقاً كان أم مخالفاً وذلك للنهي عن متابعة الظنّ.
 
فقد ورد الكثير من الآيات والروايات المانعة عن القول بغير علم واتباع الظنّ والافتراء على الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾1 وقال سبحانه: ﴿قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ2 ويقول سبحانه: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا3 ومن الروايات: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:


1- سورة الإسراء، الآية: 36.
2- سورة يونس، الآية: 59.
3- سورة يونس، الآية: 36.
 
25
 

12

الدرس الثاني: أصول التفسير

"ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي"1 وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار"2.
 
ما يلاحظه المفسِّر في عملية التفسير
وبالجملة: لا محيص عن الاعتماد في ذلك على ما ثبت اعتباره، وعُلمت حجيّته من طريق الشرع، أو من حكم العقل، فإذاً لا بدّ للمفسِّر لاستكشاف مراد الله تبارك وتعالى من ملاحظة الأمور التالية في عملية التفسير:
أوّلاً: اتّباع ظواهر الكتاب، الّتي يفهمها العارف بالعربية الفصيحة، فإنّ ظواهر الكتاب حجّة. 
 
ثانياً: الاستناد إلى ما ثبت عن المعصوم من نبيّ أو إمام في بيان مراد الله تبارك وتعالى.
 
ثالثاً: اتباع ما حكم به العقل الفطري الصحيح، الّذي هو المرجع لإثبات أساس التوحيد، واتّصاف الكتاب بالإعجاز المثبت للرسالة، فإنّه لا ريب في حجيّته.
 
ولا بدّ من التكلُّم في هذه الأمور الثلاثة الّتي هي أصول التفسير ومداركه.
 
1- أدلّة حجيّة ظواهر الكتاب
أ- لا ينبغي الارتياب في أنّ القرآن الكريم إنّما أُنزل، وأتى به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليفهم الناس معانيه، ويتدبّروا آياته، ويجعلوا أعمالهم مطابقة لأوامره ونواهيه.
 
ومن المعلوم أنّ الشارع المقدّس لم يخترع لنفسه طريقة خاصّة لإفهام


1- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 6.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 30، ص 512.
 
 
26

 

13

الدرس الثاني: أصول التفسير

مقاصده، بل خاطب الناس بالطريقة المألوفة المتداولة في فهم المقاصد من طريق الألفاظ والعبارات، وحينئذٍ فلا محيص عن القول باعتبار ظواهر الكتاب كظواهر سائر الكتب الموضوعة للتفهيم وإرادة المقاصد، كيف وقد حثّ الكتاب بنفسه الناس على التدبّر في آياته، واعترض على عدم التدبّر؟!
 
ب- إنّ القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة على النبوّة والرسالة، ولو لم تكن العرب عارفة بمعاني القرآن، ولم تكن تفهم مقاصده من ألفاظه وآياته، بل لو كان من قبيل الألغاز وغير قابل للفهم، لم يكن وجه لاتّصافه بالإعجاز.
 
ج- حديث الثقلين المعروف بين الفريقين، الدالّ على لزوم التمسّك بهما، ولا يكفي في ذلك مجرّد الاعتقاد بأنّه قد نزل من عند الله تعالى، بل للعمل بما فيه، وهذا يقتضي حجيّة ظواهره.
 
د- الروايات المتواترة، الدالّة على عرض الأخبار على الكتاب، وطرح ما خالف منها.
 
هـ- الروايات الكثيرة الدالّة على استدلال الأئمّة عليهم السلام بالكتاب في موارد كثيرة.
 
2- قول المعصوم
لا إشكال في أنّ قول المعصوم نبيّاً كان أو إماماً حجّة في مقام كشف مراد الله تبارك وتعالى من ألفاظ كتابه العزيز، وآيات قرآنه المجيد، أمّا النبيّ فواضح، وأمّا الإمام فلأنّه أحد الثقلين اللذين أُمرنا بالتمسُّك بهما، والاعتصام بحبلهما، فراراً عن الجهالة، واجتناباً عن الضلالة، فمع ثبوت قوله في مقام التفسير، ووضوح صدوره عنه عليه السلام لا شبهة في لزوم الأخذ به. وذلك مع ثبوت قوله إمّا بالتواتر، أو بالخبر الصحيح المعتبر أو المحفوف بالقرائن القطعيّة.

 
27
 

14

الدرس الثاني: أصول التفسير

 وهذه الأحاديث الّتي وصلتنا تنقسم إلى أقسام متنوِّعة، ولكنّ التقسيم الّذي يفيدنا هو ما يلي:
 
الأحاديث المتواترة: وهي عبارة عن خبر جماعة (يفيد بنفسه القطع وليس بانضمام القرائن) يستحيل تواطؤهم على الكذب، وفي النتيجة يوجب العلم بمضمون الخبر.
 
وبعبارة أخرى: هو نقل الروايات لإحدى القضايا بصور متعدِّدة وبطرق مختلفة بحيث يحصل الاطمئنان بعدم كذب مضمونها؛ لأنّه من غير الممكن عادة أن يتّفق جميع الرواة على الكذب. وتُعتبر الأحاديث المتواترة حجّة في التفسير؛ لأنّها تفيد العلم، فلا بدّ من الأخذ بها في التفسير والعمل بمضمونها1.
 
أخبار الآحاد: وهي الروايات الّتي لم تصل إلى حدّ التواتر (أي الروايات المنقولة بطريق أو بطريقين ونحو ذلك)، وتقسّم أخبار الآحاد إلى ثلاثة أقسام:
 
أ الخبر الواحد المحفوف بالقرائن: أي الخبر غير المتواتر والذي يصل عن طريق معتبر ومحفوف بقرائن وشواهد تفيد الصدق واليقين بصدوره عن المعصوم (كما في بعض خطب نهج البلاغة) أو تكون موافقة لظاهر القرآن، وهذا القسم حجّة في التفسير أيضاً.
 
ب أخبار الآحاد الضعيفة: وهي الأخبار غير المتواترة وليس لها سند معتبر، ولذلك لا يوجد اطمئنان بصدورها عن المعصوم، وهذا النوع من الأحاديث يرِد كثيراً في الروايات التفسيريّة، وربما يكون موضوعاً أو من الإسرائيليات، وهذا القسم غير معتبر في التفسير ولا يعتبر حجّة.


1- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 12، ص 261.

 
28
 

15

الدرس الثاني: أصول التفسير

ملاحظة: حاول بعض المفسِّرين دراسة هذه الأحاديث من ناحية المتن، والاستفادة منها كشاهد في التفسير، إذا كان هناك ما يدلّ على صدقها كموافقتها لظواهر القرآن مثلاً لأنّ المبنى عنده هو حجيّة الخبر الموثوق وقد يحصل الوثوق من نفس المتن، ومن هؤلاء العلّامة الطباطبائي، أمّا السيّد الخوئي فقد ذهب إلى حجيّة الأخبار القطعيّة في التفسير وعدم حجيّة الأخبار الضعيفة1 لأن المبنى عنده حجيّة خبر الثقة.
 
ج أخبار الآحاد المعتبرة: أي الأخبار غير المتواترة الّتي يكون لها طريق معتبر، والّتي تفيد الظنّ بالصحّة ولا تورث اليقين.
 
مكانة خبر الواحد المعتبر في التفسير
ثمّة خلاف بين علماء الشيعة بشأن حجيّة واعتبار خبر الواحد، فقد ادّعى الشيخ الطوسي الإجماع على حجيّته وكذلك كثير من المتأخّرين، وفي مقابل هذا الرأي هناك من ادّعى الإجماع على عدم حجيّة خبر الواحد كالسيّد المرتضى.

أمّا في الوقت الحاضر فإنّ مشهور علماء الإمامية ذهب إلى حجيّة خبر الواحد والعمل به في الأحكام الشرعية، ودليلهم الرئيس هو سيرة العقلاء.
 
أمّا ما نريده هنا فهو: هل أنّ خبر الواحد يكون حجّة في التفسير كما هو الحال في الأحكام الشرعية؟
 
وهل يجوز التفسير على طبقه أو لا؟ توجد ثلاثة آراء رئيسة:
 
الأوّل: الموافقة على حجيّة خبر الواحد في التفسير.


1- البيان في تفسير القرآن، السيّد الخوئي، ص 398. تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 184 185.

 
29

16

الدرس الثاني: أصول التفسير

الثاني: عدم الموافقة على حجيّة خبر الواحد في التفسير.
 
الثالث: التفصيل بين الموافقة عليه في ما إذا كان مفاد الخبر حكماً شرعياً، وعدم الموافقة على حجيّته في غير باب الأحكام الشرعية (كالاعتقادات مثلاً).
 
ومجمل القول في بيان هذه الآراء وتوضيح المراد هو أنّ القائلين بحجيّة الخبر الواحد في التفسير قالوا: إنّ جميع الأحكام وسنن الشريعة الّتي تفصّل مجملات القرآن، وتفسّر هذه الآيات الّتي وصلتنا عن طريق الخبر الواحد الجامع للشرائط تكون معتبرة، إلّا في الخبر المخدوش من حيث السند والمضمون فلا يعتبر حجّة في هذه الحالة1.
 
3- حكم العقل
لا إشكال في أنّ حكم العقل القطعي، وإداركه الجزمي من الأمور الّتي تعدّ من أصول التفسير، فإذا حكم العقل بخلاف ظاهر الكتاب في موردٍ لا محيص عن الالتزام به، وعدم الأخذ بذلك الظاهر، ضرورة أنّ أساس حجيّة الكتاب، وكونه معجزة كاشفة عن صدق الآتي به، إنّما هو العقل الحاكم بكونه معجزة خارقة للعادة البشرية، ولم يؤت، ولن يؤتى بمثلها، فإنّه الرسول الباطنيّ الّذي لا مجال لمخالفة حكمه ووحيه.
 
ففي الحقيقة يكون حكمه بخلاف الظاهر وإدراكه الجزمي لذلك بمنزلة قرينة متّصلة، موجبة للصرف عن المعنى الحقيقي، وانعقاد الظهور في المعنى المجازي.
 
فمثلاً قوله تعالى: ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا2 وإن كان ظهوره الابتدائي


1- التفسير والمفسّرون، محمّد هادي معرفة، ج2، ص 22- 23.
2- سورة الفجر، الآية: 22.
 
30

 

17

الدرس الثاني: أصول التفسير

في كون الجائي هو الربّ نفسه، وهو يستلزم الجسميّة الممتنعة في حقّه تعالى، إلّا أنّ حكم العقل القطعي باستحالة ذلك لاستلزام التجسّم للافتقار والاحتياج المنافي لوجوب الوجود، لأنّ المتّصف به غنيّ بالذات يوجب عدم انعقاد ظهور في هذا المعنى، وهو اتّصاف الرّب بالمجيء.
 
وهكذا قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾1 ، ومثله الآيات الظاهرة على خلاف حكم العقل.


1- سورة طه، الآية: 5.
 
31
 

18

الدرس الثاني: أصول التفسير

خلاصة الدرس

ـ يجب الاعتماد في تفسير القرآن الكريم على ما ثبت اعتباره وحجيّته، ولا يجوز الاعتماد على الظنّ، ولا على الاستحسان.

ـ لا بدّ للمفسِّر في استكشافه لمراد الله تعالى في كتابه الكريم من ملاحظة الأمور العامّة في عملية التفسير، والّتي تعتبر أصول التفسير للقرآن الكريم وهي:

أوّلاً: اتّباع ظواهر الكتاب الكريم، والّتي ثبتت حجيّتها من خلال الأمر بالتدبّر بآيات الله تعالى، وبكون القرآن هو المعجزة الخالدة للنبوّة، وحديث الثقلين، وبالروايات المتواترة الدالّة على عرض الأخبار على الكتاب الكريم.

ثانياً: قول المعصوم (النبيّ أو الإمام)، وهو حجّة في مقام كشف مراد الله تعالى من ألفاظ كتابه العزيز، وآيات قرآنه المجيد.

اختلف العلماء في حجيّة الخبر الواحد والاستدلال به في تفسير القرآن الكريم.

ثالثاً: حكم العقل القطعي وهو من أصول التفسير نظراً لإدراكه الجزمي، فإذا حكم العقل بخلاف ظاهر الكتاب في موردٍ فلا محيص عن الالتزام به.

32


19

الدرس الثالث: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسِّر وآدابه(1)

أهداف الدرس

1 ـ أن يتعرّف الطالب إلى بعضٍ من العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر في اللّغة العربية
2- أن يتعرّف إلى بعض المعارف المختصّة بعلوم القرآن
 
 
33

20

الدرس الثالث: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسِّر وآدابه(1)

من العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر
لا بدّ للمفسِّر من شروط ومؤهِّلات ومهارات ينطلق منها ويعتمد عليها تساعده على القيام بتلك المهمّة الجليلة.

فما هي تلك الشروط والمؤهِّلات والمهارات؟
في هذه المسألة جانبان:

الأوّل: الجانب العلمي والمعرفي: ويتضمّن أنواع العلوم الآلية والمعارف الّتي يجب أن تتوفّر في المفسِّر حتّى يكون أهلاً للتفسير.

الثاني: الجانب الشخصي النفسي1: ونقصُد به المؤهِّلات والمهارات الشخصيّة والمواصفات النفسيّة الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر.

الأوّل: الجانب العلمي والمعرفي
يحتاج المفسِّر إلى أنواع من العلوم والمعارف الآلية الّتي تعينه على القيام بمهمّة التفسير، وقد ذكرها العلماء في كتبهم تحت أبواب وعناوين متعدِّدة
 

 
1- الجانب الثاني يأتي تفصيله في الدرس اللاحق.
 
35
 

21

الدرس الثالث: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسِّر وآدابه(1)

أوصلها بعضهم إلى خمسة عشر علماً1. وأوجزها الراغب الأصفهاني بعشرة.
 
ويمكن لنا إيجاز العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر كما يلي:
 
1ـ معرفة اللغة العربية وعلومها
 ونقصد بها ما يتعلّق بها من نحو، وصرف، واشتقاق، وبلاغة، ومعاني مفردات، وهذه من أولى العلوم الّتي يحتاجها المفسِّر؛ فإنّ معرفة اللغة العربية وما يتعلّق بها أمر ضروري للمفسِّر فالقرآن نزل (بلسان عربي مبين). فلا سبيل لبيانه إلّا من جهة لسان العرب، لذا لا يجوز لأحد أن يدّعي فهماً لكلام الله تعالى فضلاً عن تفسيره ما لم يكن عالماً باللغة العربية وعلومها.
 
أ- علم النحو
وهو ضروري للمفسِّر ومن أهمّ ما يحتاجه في مقام التفسير، لأنّ المعنى يتغيّر ويختلف باختلاف الإعراب, أي يتغيّر بتغيّر الحركات.
 
وبعبارة أخرى: فإنّ المعنى التركيبي للكلمات، وبالتالي معنى الجملة من الآية لا يتّضح إلّا من خلال معرفة موقع ودور كلّ كلمة فيها. فمن لا يعرف أنّ الكلمة في موقع الفاعل أو المفعول، أو الصفة، أو الموصوف، أو المبتدأ، أو الخبر، وما إلى ذلك فليس بمقدوره أن يبيّن ويُحدِّد معنى ومراد الجملة والآية، فقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾2 لا يتّضح إلّا من خلال معرفة موقع كلّ كلمة من الآية. فإن لم نعرف موقع (يخشى) و(الله) و(العلماء) ونُحدِّد حركاتها لا يمكن لنا أن نبيّن معنى الآية ومراد الله منها.
 
وبناءً عليه فإنّ قراءة الآية وكلماتها بنصب هاء الجلالة، ورفع همزة


1- الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 1، المقدّمة.
2- سورة فاطر، الآية: 28.
 
36

 

22

الدرس الثالث: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسِّر وآدابه(1)

العلماء يؤدّي إلى المعنى والمراد الصحيح، لأنّ معنى الآية: الّذين يخشون الله من عباده هم العلماء دون غيرهم أي حصر خشية الله بعباده العلماء.

ولو عكس فقُرِأت بضم هاء الجلالة، ونصب همزة العلماء لفسد المعنى.

قصّة لطيفة
في تحقيق السبب الّذي دعا أمير المؤمنين عليه السلام إلى وضع أصول علم النحو وتحديد حدوده وتحقيق السبب الّذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو لأنّ الناس اختلفوا في المقامين وذكروا في المقام الأوّل وجوهاً، أحدها ما ذكره ابن الأنباري في خطبة شرح سيبويه قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع يوماً قارئاً يقرأ ﴿أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُه﴾ بجرّ لام الرسول، فغضب صلى الله عليه وآله وسلم وأشار إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: إنحُ النحو واجعل له قاعدة، وامنع من مثل هذا اللحن، فطلب أمير المؤمنين عليه السلام أبا الأسود الدؤلي وعلّمه العوامل والروابط وحصر كلام العرب وحصر الحركات الإعرابية والبنائية، وكان أبو الأسود كيّساً فطناً ذَهِناً، فألّف ذلك وإذا أشكل عليه شيء راجع أمير المؤمنين عليه السلام ورتّب وركّب بعض التراكيب وأتى به إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فاستحسنه وقال نِعْمَ ما نحوت أي قصدت فللتفاؤل بلفظ عليّ عليه السلام سمّي هذا العلم نحواً1.

ب- علم الصرف والاشتقاق
أمّا الاشتقاق فهو الّذي يبيّن لنا مادّة الكلمة وجذرها وأصلها حتّى نرجع في تبيين معناها إلى جذورها، وهذا أمر مهمّ جدّاً لمن أراد الخوض في مجال بيان كلام الله تعالى.


 
1- الشيعة وفنون الإسلام، السيّد حسن الصدر، ص155.
 

37


23

الدرس الثالث: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسِّر وآدابه(1)

وأمّا الصرف "فبه تُعرف الأبنية والصيغ وبه يتّضح المبهم من الكلمات"1. وبه يُعرف الماضي من المضارع وكلاهما من الأمر إلى غير ذلك.
 
ج- معاني المفردات
وهي من أولى وأهمّ الأمور الّتي يجب أن يقف عندها المفسِّر لآيات الله تعالى فإنّ الآيات تتركّب من عدّة مفردات، ولا يمكن له فهمها وبيانها ما لم يعرف معانيها.
 
د- علوم البلاغة: وهي، البيان والمعاني والبديع
 
2- معرفة بعض ما يختصّ بعلوم القرآن
 
ومن أهمّها:
أـ القراءات 
ومعرفتها ضروريّة للمفسِّر لأنّه بها يُرجِّح بعض الوجوه المحتملة على بعض. وبسبب اختلاف القراءات يختلف المعنى المراد من الكلمات والآيات القرآنية.
 
ومثال ذلك اختلاف تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾2 ، فمن قرأ (سُكِّرت) مشدَّدة، فإنّما يعني "سُدّت" ومن قرأ (سُكِرت) مخفَّفة فإنّه يعني "سُحرت".
 
ب- أسباب النزول
أسباب النزول: جمع سبب, ونقصد به: ما نزلت بسببه آية أو أكثر. وهو عبارة 


1- الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 4، ص 213.
2- سورة الحجر، الآية: 15.
 
 
38
 
 

24

الدرس الثالث: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسِّر وآدابه(1)

عن: واقعة أو أمر حدث في عصر الوحي اقتضى نزول الوحي لأجله وبشأنه، وهذه الأسباب قد تكون مدحاً أو ذمّاً لموقف، أو حلّاً لمشكلة، أو جواباً لسؤال، أو بياناً لحكم ونحو ذلك.
 
وفيما يلي مثالان على أهمّية معرفة أسباب النزول:
 
قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾1.
 
فمعرفة المراد من هذه الآية المباركة وفهمها فهماً صحيحاً يتوقّف على معرفة سبب وظروف نزولها، ومن المتواتر أنّها نزلت في غدير خم بعدما نزلت الآية المباركة: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾2 ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس في غدير خُمّ عند مفترق طرق، وأعلن عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، إلى آخر الحديث المعروف... وأخذ المسلمون يُهنّئون عليّاً عليه السلام بقولهم: بخٍ بخٍ لك يا عليّ أصبحت مولانا ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
 
وفي المقابل إنّ تجاهل الآخرين لهذا الحدث العظيم الّذي كان داعياً وباعثاً لنزول الآيات أدّى إلى تجافي الحقّ والخطأ في فهم كلام الله تعالى والعمل بخلاف مراده سبحانه وتعالى من هذه الآية المباركة.
 
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾3. فإنّ فهم الآية المباركة ومعرفة من هم أهل البيت عليهم السلام المقصودون فيها يتوقّف


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- سورة المائدة، الآية: 67.
3- سورة الأحزاب، الآية: 33.
 
 
39

25

الدرس الثالث: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسِّر وآدابه(1)

على معرفة الزمان والمكان والأشخاص والظروف الّتي نزلت فيها الآية المباركة، وبالوقوف على كلّ ذلك نفهم الآية فهماً صحيحاً ونقف على المراد الإلهي منها، فنعرف أنّ أهل البيت في الآية المباركة هم: محمّد، وعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم الصلاة والسلام، وليس أيّ أحد سواهم، كما ادّعى الآخرون حيث وقعوا في سوء الفهم والخطأ الكبير لأنّهم تجاهلوا أسباب وظروف نزول الآية المباركة.

ج- تمييز المكّي عن المدني
والمكّي من الآيات هو: ما نزل قبل الهجرة من مكّة إلى المدينة، أي فترة إقامة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة المكرّمة. سواء نزلت داخل مكّة أم خارجها.

والمدني من الآيات هو: ما نزل بعد هجرة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنوّرة، سواء نزلت داخل المدينة أم خارجها.

وجه الحاجة إلى التمييز بين المكّي والمدني
وأمّا الحاجة إلى التمييز بين المكّي والمدني، فلأنّه يساعد على جلاء الحقيقة في بيان معنى بعض الآيات، ويرفع الإبهام الّذي قد يقع فيه البعض، أثناء تفسيره لبعض الآيات المباركة بسبب عدم تمييزه بين المكّي والمدني ومثال ذلك:
تفسير قوله تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ الواردة في سورة الشورى وهذه السورة مكّية.

والآية المباركة حسب المتواتر نزلت في أهل البيت عليهم السلام وهم: الإمام عليّ عليه السلام والسيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام والإمامان الحسن والحسين عليهما السلام.

فربما يتوهّم البعض ويستبعد نزولها في حقّ أهل البيت عليهم السلام ، بحجّة أنّ 
 
40
 
 

26

الدرس الثالث: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسِّر وآدابه(1)

السورة مكّية، وأنّ الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام لم يكونا في مكّة.
 
ولكن هذا التوهُّم سرعان ما يرتفع إذا عرفنا أنّ الآية ثلاث وعشرون من سورة الشورى مدنيّة، وليست مكّية، وأنّ كون السورة مكّية لا يعني ضرورة كون جميع آياتها مكيّة، فكم من سورة مكيّة ضمّت بين آياتها مدنية وبالعكس. وسورة الشورى وإن كانت مكيّة إلّا أنّ بعض آياتها مدنية ومنه هذه الآية المباركة.
 
د- دلالة السياق
من الأمور الّتي تُعين المفسِّر على تحديد المراد دلالة السياق، فإنّها من أعظم القرائن الدّالة على مُراد المتكلِّم، فمن أهمله فَقَدَ واحدة من أهمّ الدلالات ووقع في الخطأ في كثير من الموارد، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ دلالة السياق إنّما تؤثِّر في الدلالة على المراد ما لم تقم قرينة أقوى منها على خلافها، كما هو الحال في آية التطهير.
 
أنظر: إلى قوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾1. كيف نجد أنّ سياق الآيات يدلّ على أنّ المراد من العزيز الكريم (الذليل الحقير). قال تعالى: ﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيم* ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ِ2.
 
ولزوم مراعاة السياق لا يعني أنّ القرآن الكريم يعتمد الأسلوب عينه الّذي تعتمده المؤلِّفات والكتب البشرية بحيث يأخذ البحث في موضوع محدَّد فإذا فُرغ منه يُبتدئ بموضوع جديد، وذلك بشكل متسلسل. بل نجد أنّ القرآن الكريم ربما يتعرّض للموضوع الواحد في عدّة موارد وفي كلّ مورد يأخذ طرفاً من الموضوع، وذلك بحسب الهدف والغاية الّتي اقتضت التعرُّض لهذا الموضوع أو ذاك.


1- سورة الدخان، الآية: 49.
2- سورة الدخان، الآيات: 47ـ 49.
 
41

 

27

الدرس الثالث: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسِّر وآدابه(1)

هـ- معرفة العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد
إنّ كثيراً من الآيات المتعرِّضة لأحكام الأفعال والموضوعات مجملة ورد تفسيرها في السنّة القطعيّة وأحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، كالصلاة، والزكاة، والحجّ وغير ذلك ممّا لا محيص للمفسِّر من الرجوع إليها في رفع الإجمال وتبيين المبهم، وهو أمر واضح.
 
وهناك سبب ثانٍ للرجوع إليها، وهو أنّه ورد في القرآن الكريم مطلقات ولكن أُريد منها المقيّد، كما ورد عموم أُريد منه الخصوص, وذلك وفقاً لتشريع القوانين في المجالس التشريعيّة، فإنّهم يذكرون قيودها ومخصِّصاتها في فصل آخر باسم الملحق، وقد حذا القرآن في تشريعه هذا الحذو فجاءت المطلقات والعمومات في القرآن الكريم والمقيِّدات والمخصِّصات في أخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.
 
يقول سبحانه: ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾1. وجاء في السنّة مخصِّصها، وأنّه لا ربا بين الزوج والزوجة، والولد والوالد، فقد رخّص الإسلام الربا هنا.
 
قال الإمام الصادق عليه السلام: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس بين الرجل وولده ربا، إنّما الربا فيما بينك وبين ما لا تملك"2.
 
وروى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: "ليس بين الرجل وولده، وبينه وبين عبده، ولا بين أهله ربا، إنّما الربا فيما بينك وبين ما لا تملك"3.
 

1- سورة البقرة، الآية: 275.
2- الوسائل، الحرّ العاملي، ج 12، ص 436.
3- م.ن.

 
42
 

28

الدرس الثالث: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسِّر وآدابه(1)

ولعلّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾1 ، يوحي إلى هذا المعنى.
 
وـ معرفة الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه
من الأمور الّتي لا بدّ للمفسِّر من معرفتها الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه.
 
فإنّه من لم يعرف من كتاب الله عزّ وجلّ الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله، كما جاء في المروي عن الإمام الصادق عليه السلام.
 
فقد جاء في تفسير النعماني بإسناده إلى إسماعيل بن جابر قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام جعفر بن محمّد الصادق يقول: "... اعلموا، رحمكم الله، أنّه من لم يعرف من كتاب الله عزّ وجلّ الناسخ من المنسوخ، والخاصّ من العامّ، والمحكم من المتشابه... فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله"2.
 
فمثلاً على الناسخ والمنسوخ: في بداية مبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أُمر المسلمون بمداراة أهل الكتاب في قوله تعالى: ﴿فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ﴾3.
 
وبعد مدّة أُنهي هذا الحكم وأُمروا بقتالهم في قوله تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَاب﴾4.

1- سورة الحشر، الآية: 7.
2- تفسير الميزان،العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 80.
3- سورة البقرة، الآية: 109.
4- سورة التوبة، الآية: 29.
 
43

29

الدرس الثالث: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسِّر وآدابه(1)

ومثلاً على الآيات المتشابهات: ظاهر قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾1 وقوله تعالى: ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا2 يدلّ على الجسميّة. وأنّ الله تعالى مادّة، ولكن لو أرجعناها إلى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾3 علمنا أن الاستواء والمجيء لا يراد منه المعنى المادّي.
 
خلاصة الدرس
من العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر:
1ـ معرفة اللغة العربية وعلومها: أ علم النحو، ب علم الصرف والاشتقاق، ج معاني المفردات، د علوم البلاغة: وهي: البيان والمعاني والبديع.
 
2- معرفة بعض ما يختصّ بعلوم القرآن:
أـ القراءات، ب أسباب النزول، ج تمييز المكي عن المدني، د دلالة السياق، هـ معرفة العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد، و معرفة الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه.
 

1- سورة طه، الآية: 5.
2- سورة الفجر، الآية: 22.
3- سورة الشورى، الآية: 11.
 
 
44

30

الدرس الرابع: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسّر وآدابه(2)

أهداف الدرس

1 ـ أن يتعرّف الطالب إلى بعضٍ آخر من العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر.
2- أن يدرك المؤهِّلات والمهارات الشخصية والمواصفات النفسيّة الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر.
 
 
45
 

31

الدرس الرابع: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسّر وآدابه(2)

تمهيد
قلنا في الدرس السابق أنّه لا بدّ للمفسِّر من شروط ومؤهِّلات ومهارات ينطلق منها ويعتمد عليها تساعده على القيام بتلك المهمّة الجليلة. وقلنا إنّ في هذه المسألة جانبين:

الأوّل: الجانب العلمي والمعرفي: ويتضمّن أنواع العلوم الآلية والمعارف الّتي يجب أن تتوفّر في المفسِّر حتّى يكون أهلاً للتفسير.

الثاني: الجانب الشخصي النفسي: ونقصُد به المؤهِّلات والمهارات الشخصية والمواصفات النفسية الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر.

الجانب الأوّل: الجانب العلمي والمعرفي
وقد ذكرنا في الدرس السابق بعضاً ممّا يتعلّق بهذا الجانب:

1ـ معرفة اللغة العربية وعلومها.

2ـ معرفة بعض ما يختصّ بعلوم القرآن. وبقي الكلام عن:

3ـ العلوم الّتي لها صلة بعلم التفسير

ومن العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر بالإضافة الى ما مرّ في الدرس السابق عدد من العلوم الّتي لها صلة بعلم التفسير، منها: 
  
47

32

الدرس الرابع: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسّر وآدابه(2)

أ- علم الكلام
وهو يهتمّ بأصول العقيدة كالتوحيد والعدل، والنبوّة، والمعاد، كما يهتمّ بالمسائل المرتبطة بها، كالجبر والتفويض، والحسن والقبح... وغيرها.
 
ب- علم أصول الفقه 
علم أصول الفقه ويفيد المفسِّر في مجال آيات الأحكام والبحوث الفقهية.
 
وصلة علم أصول الفقه بالتفسير باعتبار أنّ قسماً مهمّاً من آيات القرآن المباركة تناولت الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية، وهي الّتي جُمعت تحت عنوان آيات الأحكام، وهي موضوع لعلم الأصول.
 
ولقد وُضعت أسس هذا العلم اعتماداً على قواعد عقليّة، ونقليّة، وقد استمدّ العلماء الكثير من مباحث هذا العلم من علوم مختلفة منها علم التفسير نفسه.
 
وهذا العلم يزوِّد علم التفسير بضوابط وقواعد عامّة من شأنها أن تفيد المفسِّر إذا استعان بها، لا سيّما في مجال بيان آيات الأحكام.
 
ج- معرفة تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده
ومن الأمور الّتي لها صلة بعلم التفسير، ويستفيد منها المفسِّر دراسة تاريخ العرب، ونقصد دراسة الواقع أو الحال الّذي كان يعيشه الناس قبل الإسلام وفي زمن البعثة النبويّة الشريفة.
 
فقد نزل القرآن الكريم في جوّ مجتمع الجزيرة العربية، ولهذا المجتمع خصوصيّاته التاريخيّة والاجتماعيّة والجغرافيّة، كما له مميّزاته وخصائصه التربويّة والثقافيّة والدينيّة، حيث كان مجتمعاً متعدِّد الأديان والثقافات.
 
فقد كانت الجزيرة آنذاك موطن كلٍّ من الوثنيين والمشركين إضافة إلى أهل الكتاب من يهود ونصارى.
 
 
48

33

الدرس الرابع: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسّر وآدابه(2)

كما كانت تسود بين أهلها أعراف وقيم وعادات وتقاليد تحكم تصرّفاتهم وحركتهم الاجتماعية. فقد بُعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأمّة ولهؤلاء الناس جميعاً.
 
والقرآن الكريم خاطب كلّ هؤلاء وجادلهم وأقرّ لهم أموراً واعترض على أخرى، وعنّفهم في أشياء وزجرهم عن أخرى، وعمل على تغيير الواقع القائم وإقامة واقع جديد.
 
وهو يشير في أكثر من مورد من آياته المباركة إلى تلك الأمّة، ويتحدّث عن عاداتها وتقاليدها الجاهلية.
 
من هنا كانت الصلة الوثيقة بين علم التفسير ومعرفة التاريخ. فإنّ الاطلاع على تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام وتاريخ عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبعثة المباركة، له الأثر الإيجابي الكبير في عملية بيان وتوضيح مداليل ومقاصد كثير من الآيات المباركة.
 
فلا يعقل أن يُفسِّر أحد قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾1 وهو لا يعرف كيف كانت أحوالهم قبل ذلك، وسبب العداوة بينهم، ونوعها وحدودها، ثمّ كيف رفع الله تعالى العداوة والبغضاء من قلوبهم، وكيف ألّف بينهم، وكيف كانت مظاهر الأخوّة، إلى غير ذلك من الأمور الّتي لا بدّ من الاطلاع عليها حتّى يمكن له فهم واستيعاب ما ترمي إليه الآية المباركة.
 
وكذلك الحال بالنسبة إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت﴾2 فلا بدّ في تفسيرها من معرفة عاداتهم وتعاملاتهم مع نسائهم وبناتهم، لا سيّما المولودات حديثاً حتّى نقف عند مداليل هذه الآية المباركة.


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- سورة التكوير، الآيتان: 8 9.
 
 
49
 

34

الدرس الرابع: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسّر وآدابه(2)

وكذلك بالنسبة إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾1.
 
وقوله تعالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ* إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف﴾2.
 
فكيف يمكن فهم مداليل هذه الآيات، ما لم نطّلع على أحوال قريش، وتجارتها إلى اليمن في الشتاء، وإلى الشام في الصيف، وكيف كان حالهم قبل ذلك وبعدها، وكيف أطعمهم الله من جوع، وآمنهم من خوف، إلى غير ذلك من الأمور الّتي ترتبط بتاريخهم وعاداتهم وأعمالهم.
 
الجانب الثاني: الشخصي النفسي
ونقصُد به المؤهِّلات والمهارات الشخصيّة والمواصفات النفسيّة الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر، ومنها:
 
1ـ صحّة وصدق المعتقد: لا بدّ للمفسر من أن يملك معتقداً سليماً صحيحاً، لا سيّما الاعتقاد بولاية أهل البيت عليهم السلام ودورهم ومرجعيّتهم الفكريّة والدِّينية، لأنّهم عليه السلام الثقل الثاني بعد القرآن الثقل الأوّل الّذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتمسّك به وهم عليهم السلام القرآن الناطق الّذي يبيّن ويفسّر الحقائق القرآنية على أكمل وجه، "إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"3. فالّذي لا يملك اعتقاداً سليماً بهذه المسألة، لا يمكن له فهم القرآن فهماً صحيحاً.


1- سورة المائدة، الآية: 90.
2- سورة قريش، الآيات: 1 4.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج2،ص285.
 
50
 

35

الدرس الرابع: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسّر وآدابه(2)

2ـ الإخلاص وصحّة المقصد والغاية: ومن صفات المفسِّر وآدابه الإخلاص وصحّة المقصد فيما يقول، ليلقى التسديد والهداية إلى المراد، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾1. وقال سبحانه: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾2 ، فلا يُدرك حقائق القرآن الكريم إلّا أصحاب القلوب الطاهرة والنفوس الزكية.
 
قال الطبري: "وإنّما يخلص له القصد إذا زهد في الدنيا، لأنّه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوسّل به إلى غرض يصدُّه عن صواب قصده ويُفسد عليه عمله"3.
 
فينبغي للمفسِّر أن يبتغي فضلاً من الله ورضواناً، فلا يتوخّى من عمليّة التفسير متاع الحياة الدنيا، والوصول إلى مقامات دنيوية. ما يؤدّي به إلى الانحراف عن القصد الإلهي من التفسير، كما حدث مع وعّاظ السلاطين، وبعض المفسِّرين الّذين اعتمدوا منهجاً سياسيّاً للتفسير، أي كانوا يفسِّرون القرآن تفسيراً سياسيّاً منحرفاً.
 
قال في البرهان: "اعلم أنّه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة أو كبر أو هوى أو حبّ للدنيا، أو هو مصرّ على الذنب أو غير محقّق بالإيمان أو ضعيف التحقيق"4.
 
وفي هذا المعنى قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾5.
 

1- سورة العنكبوت، الآية: 69.
2- سورة الواقعة، الآية: 79.
3- أنظر: الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 4، ص 201.
4- البرهان، الزركشي،ج2،ص180.
5- سورة الأعراف، الآية: 146.

 
51

 

36

الدرس الرابع: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسّر وآدابه(2)

3ـ الموضوعية: بمعنى التجرُّد، أي أن يقرأ الآيات بتجرُّد فيسير إلى حيث تأخذه الآيات، ولا يأخذ الآيات إلى حيث أفكاره ومعتقداته المسبقة ويُلزِم القرآن بها، والموضوعيّة هنا مقابل التحيُّز.
 
4ـ قدرة المفسِّر على الجمع والربط بين الآيات: أي أن يكون عنده شمولية في فهم القرآن الكريم؛ فالقرآن لا يمكن أخذه وتفسيره كآيات متناثرة، لأنّه هناك وحدة موضوعيّة بين الآيات، وعلى المفسِّر أن يراعيها، ويربط بينها، وإلّا فإنّه لا يستطيع تفسير القرآن وفهمه فهماً صحيحاً. 
 
5ـ أن يملك المفسِّر عقلاً متدبِّراً واعياً لا عقلاً غافلاً وقارئاً: هناك نوعان من المفسِّرين: نوع يقرأ الآية ويقرأ ما يتعلّق بها من روايات ويقرأ آراء المفسِّرين ويجمعها ثمّ يكتب على ضوء ما رآه، وهذا ما يُسمّى "بالكاتب القارئ".
 
وهناك من يقرأ الآية والروايات وآراء المفسِّرين ويتدبَّر ويفكِّر ويستنتج فيأتي بمعنى جديد وهذه من أهمّ الصفات الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر الّذي يجب أن يملك عقلاً واعياً يمكنه من الاستنتاج والإتيان بالجديد كي لا يراوح مكانه.
 
يقول الشيخ محمّد جواد مغنيّة: "فإنّ أيّ مفسِّر لا يأتي بجديد لم يسبقه إليه أحد، ولو بفكرة واحدة في التفسير، هذا يعني أنّ هذا المفسِّر لا يملك عقلاً واعياً، وإنّما يملك عقلاً قارئاً، يرسم فيه ما يقرأ لغيره، تماماً كما ترتسم صورة الشيء في المرآة على ما هو من لون وحجم دون أيّ تأثُّر أو تأثير.
 
ذلك أنّ معاني القرآن عميقة إلى أبعد الحدود، لا يبلغ أحد نهايتها مهما بلغت مكانته من العلم والفهم وإنّما يكشف منها ما تُسعفه معارفه ومؤهِّلاته، فإذا وقف المفسِّر السابق عند حدٍّ من الحدود، ثمّ جاء اللاحق وترسّم خطاه لا يتجاوزها، ولو بخطوة واحدة كان تماماً كالأعمى يتوكّأ على عكّاز، فإذا فقدها جمد في مكانه"1.
 

1- التفسير الكاشف، الشيخ محمّد جواد مغنيّة، ج 1، ص 10.
 
 
52
 

37

الدرس الرابع: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسّر وآدابه(2)

6ـ النظر إلى القرآن باعتباره كتاب هداية وحياة: من تتبّع آيات القرآن الكريم، وتدبّرها جيّداً، يجد أنّ وراءها هدفاً جامعاً مشتركاً، وإطاراً عامّاً يربط بين كلّ آياته وسوره، وهو أنّ هذا القرآن يهدف إلى هداية البشرية إلى الّتي هي أقوم، وأنّه يحمل دعوة إلى الحياة الطيّبة يسودها الأمن والعدل والسلام، بحيث يعيش الناس فيها في كلّ سعادة وطمأنينة ورفاه.
 
قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾1.
 
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُم﴾2.
 
وعلى هذا الأساس ومن هذا المنطلق ينبغي للمفسِّر أن ينطلق في محاولة تفسيره لآي الذكر الحكيم وبيان مصادرها وأهدافها، بحيث يجعل هذا الهدف العام والمشترك حاكماً على كلّ ما يمكن أن يتوصّل إليه أثناء تفسيره فلا يُناقضه أو يُهمله.
 
7ـ الحضور والإحساس والانسجام القلبي والعقلي مع القرآن: يقول الشيخ محمّد جواد مغنيّة: وهنا شيء آخر يحتاج إليه المفسِّر، وهو أهمّ وأعظم من كلّ ما ذكره المفسِّرون في مقدّمة تفاسيرهم لأنّه الأساس والركيزة الأولى لتفهُّم كلامه جلّ وعلا. ولم أر من أشار إليه... وهو أنّ معاني القرآن لا يدركها، ولن يدركها على حقيقتها، ويعرف عظمتها إلّا من يحسّها في أعماقه، ويسلّم معها بقلبه وعقله، ويختلط إيمانه بها بدمه ولحمه، وهنا يكمن السرّ في قول أمير المؤمنين عليه السلام: "ذاك القرآن الصامت وأنا القرآن الناطق"3.

1- سورة الإسراء، الآية: 9.
2- سورة الأنفال، الآية: 24.
3- التفسير الكاشف، الشيخ محمّد جواد مغنيّة، ج 1، المقدّمة.
 
53
 

38

الدرس الرابع: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسّر وآدابه(2)

 خلا صة الدرس
ـ من العلوم الّتي لها صلة بعلم التفسير علم الكلام فيمكن للمفسِّر الاستفادة ممّا توصّل إليه هذا العلم الّذي يعتمد على محكم القرآن وما جاء صريحاً على لسان أهل الذكر عليهم السلام أثناء تفسيره وبيانه لتلك الآيات، وذلك لكي يكون على بيّنة ممّا يجوز على الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام وما يستحيل عليهم.
 
ـ وهناك علم أصول الفقه ويفيد المفسِّر في مجال آيات الأحكام والبحوث الفقهيّة وغير ذلك. وصلته بالتفسير باعتبار أنّ قسماً مهمّاً من آيات القرآن المباركة تناولت الأحكام الشرعيّة والمسائل الفقهيّة، وهي موضوع لعلم الأصول.
 
وهذا العلم يزوِّد المفسِّر بضوابط وقواعد عامّة من شأنها أن تفيده إذا استعان بها، لا سيّما في مجال تفسير آيات الأحكام.
 
ـ ومن الأمور الّتي لها صلة بعلم التفسير، ويستفيد منها المفسِّر معرفة تاريخ العرب قبل الإسلام وفي زمن البعثة النبويّة الشريفة.
 
هناك صلة وثيقة بين علم التفسير ومعرفة التاريخ، فإنّ الاطلاع على تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام وتاريخ عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبعثة المباركة، له الأثر الإيجابي الكبير في عمليّة بيان وتوضيح مداليل ومقاصد كثير من الآيات المباركة.
 
ـ من المؤهِّلات والمهارات الشخصيّة: صحّة وصدق المعتقد، صحة المقصد، الموضوعية، قدرة المفسِّر على الجمع والربط بين الآيات، أن يملك المفسِّر عقلاً متدبِّراً واعياً لا عقلاً غافلاً وقارئاً، النظر إلى القرآن باعتباره كتاب هداية وحياة، الحضور والإحساس والانسجام القلبي والعقلي مع القرآن.

54
 

39

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى نشوء وتطوّر مناهج التفسير
2- أن يميّز بين المناهج والاتجاهات التفسيريّة
3- أن يعدِّد تقسيمات المناهج والاتجاهات التفسيريّة
 
 
56
 

40

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

نشوء وتطوّر مناهج التفسير
بدأ علم التفسير منذ صدر الإسلام، وكان مصدره الوحي الإلهي الّذي عرّف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كمفسِّرٍ للقرآن1 ، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعتمد على القرآن نفسه في التفسير، ومن هنا نشأت طريقة تفسير القرآن بالقرآن، وقد تصدّى أهل البيت عليهم السلام وعدد من الصحابة لتفسير القرآن على ضوء المنهج السابق مع الاستفادة من المنهج الروائي، أي الاستناد إلى الروايات الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير آيات القرآن.

وقد تصدّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لتفصيل ما أُجمل في القرآن، وبيان ما أُبهم منه إمّا بياناً في أحاديثه الشريفة وسيرته الكريمة، أو تفصيلاً جاء في جُلّ تشريعاته من فرائض وسنن وأحكام وآداب... وهكذا فكلُّ ما جاء في الشريعة من فروع أحكام العبادات والسنن والفرائض، وأحكام المعاملات، والأنظمة والسياسات، كلّ ذلك تفصيل لما أُجمل في القرآن الكريم من تشريع وتكليف.

هذا وقد تورّطت مجموعة بتفسير وتأويل القرآن طبقاً لميولها وبدون رعاية
 

 
1- قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (سورة النحل، الآية: 44).
 
57

41

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

الضوابط والقرائن، ومن هنا نشأ التفسير بالرأي. وقد تصدّت الأحاديث الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام لهذا النوع من التفسير ومنعتهُ بشدّة، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تعالى: "ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي"1.

ثمّ ظهرت في القرن الثاني الهجري وما بعده مناهج وأساليب أُخرى بين المسلمين بشكل تدريجي، نتيجة ترجمة آثار وكتب الحضارتين اليونانية والفارسية ونفوذ أفكارهم وعلومهم.
 
وقد تكوّنت الاتجاهات التفسيريّة الكلاميّة بسبب ظهور المباحث الكلاميّة والفلسفيّة، فكانت كلّ فرقة من فرق المسلمين كالأشاعرة والمعتزلة و... تفسّر القرآن طبقاً لآرائها وعقائدها. 
 
وفي القرن الثالث وما بعده، بدأت تظهر أساليب جديدة في التفسير على يد العرفاء والمتصوّفة. ما أدّى إلى تطوّر المنهج الإشاري في التفسير2.
 
وأمّا محدّثو السنّة والشيعة فقد اكتفوا بنقل الروايات مُحدِثين بذلك المنهج والاتجاه الروائي في التفسير والذي ظهر في المرحلة الأولى (القرن الثالث والرابع الهجري) على شكل تفاسير مثل: تفسير العيّاشيّ، والقمّيّ، والطبري، وفي المرحلة الثانية (من القرن العاشر حتّى الحادي عشر) الدرّ المنثور، والبرهان، ونور الثقلين، وخلال هذه الفترة؛ أي بعد المرحلة الأولى من ظهور التفاسير الروائية بدأت تظهر التفاسير الفقهيّة بأسلوب موضوعي وعلى شكل تفسير آيات الأحكام. وبعد أن أخذت بعض التفاسير شكلها الطبيعي مثل أحكام القرآن للجصّاص الحنفي (ت 370هـ) وأحكام القرآن المنسوب إلى الشافعي (ت 204م) استمرّت كتابة هذا النوع من التفاسير فيما بعد مثل أحكام


1- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 6.
2- ستأتي الإشارة إلى المنهج الإشاري في الدرس الخامس عشر.
 
58
 

 


42

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

القرآن للراوندي (ت573هـ). ثمّ ظهرت في القرن الخامس والسادس الهجري التفاسير الجامعة الاجتهادية مثل: التبيان، ومجمع البيان؛ وذلك بالاستفادة من العقل والاجتهاد ومراعاة جوانب متعدّدة في التفسير، ولا تزال هذه الطريقة متداولة حتّى الآن. وقد بادر بعض الفلاسفة إلى كتابة التفسير أيضاً. كما ظهرت وتطوّرت في القرن الأخير أساليب ومناهج جديدة في التفسير مثل طريقة التفسير العلمي والاتجاه الاجتماعي1.
 
الفارق بين المناهج والاتجاهات التفسيريّة
المنهج التفسيري لكلّ مفسِّر هو تبيين طريقة كلّ مفسِّر في تفسير القرآن الكريم، والأداة والوسيلة الّتي يعتمد عليها لكشف الستر عن وجه الآية أو الآيات؟ فهل يأخذ العقل أداة للتفسير أو النقل؟ أو يعتمد في تفسير آيات القرآن على نفس القرآن الكريم، أو على السنّة الشريفة، أو على كليهما، أو غيرهما؟
 
وفي الجملة ما يُتّخذ مفتاحاً لرفع إبهام الآيات، هو ما نسمّيه المنهج في تفسير القرآن. 
 
وأمّا البحث عن الاتجاهات والاهتمامات التفسيريّة، فالمراد منها المباحث الّتي يهتمّ بها المفسِّر في تفسيره مهما كان منهجه وطريقته في تفسير الآيات، مثلاً تارة يتّجه إلى إيضاح المادّة القرآنية من حيث اللغة، وأُخرى إلى صورتها العارضة عليها من حيث الإعراب والبناء، وثالثة يتّجه إلى الجانب البلاغي، ورابعة يعتني بآيات الأحكام، وخامسة يصبّ اهتمامه على الجانب التاريخي والقصصي، وسادسة يهتمّ بالأبحاث الأخلاقيّة، وسابعة يهتمّ بالأبحاث الاجتماعية، وثامنة يهتمّ بالآيات الباحثة عن الكون وعالم

1- سنتعرض لكل هذه المناهج في بحوث هذا الكتاب بإذن الله تعالى.

 
59
 

43

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

الطبيعة، وتاسعة يهتمّ بمعارف القرآن وآياته الاعتقادية، وعاشرة بالجميع حسبما أُوتي من المقدرة.
 
ولا شكّ أنّ التفاسير مختلفة من حيث الاتجاه والاهتمام، إما لاختلاف أذواق المفسِّرين وكفاءاتهم ومؤهِّلاتهم، أو لاختلاف بيئاتهم وظروفهم، أو غير ذلك من العوامل.
 
وإن شئت أن تُفرِّق بين البحثين فنأتي بكلمة موجزة، وهي أنّ البحث في المناهج بحث عن الطريق والأسلوب، والبحث في الاهتمامات بحث عن الأغراض والأهداف الّتي يتوخّاها المفسِّر، وتكون علّة غائية لقيامه بالتأليف في مجال القرآن1.
 
وعرّف بعض الباحثين المنهج والاتجاه بما يلي:
 
المنهج: هو الاستفادة من الوسائل والمصادر الخاصّة في تفسير القرآن والّتي يمكن من خلالها تبيين معنى ومقصود الآية والحصول على نتائج مشخَّصة.
 
وبعبارة أخرى: إنّ كيفية كشف واستخراج معاني ومقاصد آيات القرآن الكريم هو ما يطلق عليه "منهج التفسير".
 
الاتجاه: هو تأثير الاعتقادات الدِّينية، الكلاميّة، والاتجاهات العصريّة وأساليب كتابة التفسير، والّتي تتكوّن على أساس عقائد واحتياجات وذوق وتخصُّص المفسِّر2.


1- المناهج التفسيريّة في علوم القرآن، الشيخ جعفر السبحاني، ج 4، ص 20 21، دار الولاء، بيروت، 1426هـ 2005م.
2- دروس في المناهج والاتجاهات التفسيريّة، محمّد علي الرضائي، تعريب قاسم البيضاني، ص 18ـ 19، المركز العالمي للدراسات الإسلامية، قم، 1426 هـ.

 
60
 

44

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

تقسيم المناهج التفسيريّة

قُسِّمت المناهج التفسيريّة تقسيمات متعدِّدة من جهات مختلفة، وسوف نختار التقسيم المشهور وذلك من خلال ما يلي:

صحيح ومعتبر

باطل وغير معتمد

تفسير القرآن بالقرآن

التفسير بالرأي

التفسير الروائي (على أساس السنّة)

بعض طرق التفسير الإشاري والعلمي

العلمي (العلوم التجريبية)

 

العقلي (الاجتهادي)

 

الإشاري (العرفان)

 

الكامل (جميع الطرق المتقدّمة)

 

 
المنهج الكامل في التفسير
المقصود بذلك هو المنهج الّذي يستفيد من جميع هذه الطرق (المناهج المذكورة سابقاً غير التفسير بالرأي، وبعض طرق التفسير الإشاري والعلمي) لكي يتبيّن مقصود الآيات بصورة كاملة من جميع الجوانب.

إنّ التفسير الصحيح والمعتبر هو الّذي يستفيد من جميع هذه المناهج (الخمسة) في مكانها المناسب. وقد لا يكون هناك استخدام لبعض المناهج في بعض الآيات، فمثلاً قد لا توجد رواية في تفسير بعض الآيات أو لا توجد إشارة علميّة (العلوم التجريبية) في بعض الآيات، فإذاً المنهج الكامل المستخدَم في مورد تلك المجموعة من الآيات هو الّذي يمكن أن يستفيد قدر الإمكان، من المناهج المناسبة والمتعدِّدة، ومن الطبيعي أنّ عدد المناهج المستخدَمة يرتبط بالآية وإمكانية الاستفادة من المناهج الصحيحة في هذا المجال.
 
 
61
 

45

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

ملاحظة: إنّ التفسير بالرأي لا يعتبر تفسيراً صحيحاً ومعتبراً؛ وفي الحقيقة لا يعتبر تفسيراً للقرآن (بيانه في بحث التفسير بالرأي). فذكره بين أنواع المناهج التفسيريّة هو من أجل رَدِّه والتنبيه على خطره, أي إنّنا إذا تعرّضنا للمناهج التفسيريّة بصورة عامّة (أعمّ من كونها صحيحة أو خاطئة)، فحينئذٍ سيدخل التفسير بالرأي في نطاقها، وسوف نقوم بدراسة وبحث كلّ من هذه المناهج وأقسامها الفرعية وكيفية اعتبارها فيما بعد.
 
تقسيم الاتجاهات التفسيريّة
يمكن تقسيم الاتجاهات التفسيريّة إلى أقسام فرعية على أساس الاعتقادات، والأفكار، والاتجاهات العصريّة، وطريقة الترتيب، والذوق والتخصّص العلمي للمفسِّرين، وإليك البيان:
 
1ـ المذاهب التفسيريّة
 فسَّرَ أصحاب المذاهب الإسلامية آيات القرآن على أساس العقائد الّتي يؤمنون بها فربّما يختار المفسِّر في تفسيره أحد المذاهب، أو يتّخذ طريقة خاصّة. فمثلاً اعتنى مفسِّرو الشيعة طبقاً لإرشادات أئمّتهم بظاهر وباطن القرآن والآيات المتعلّقة بأهل البيت، فقد راعوا عصمة الأنبياء في تفسيرهم لآيات القرآن و...
 
ومن هنا نشأ أسلوب خاصّ في التفسير. كما لجأت الفرقة الإسماعيلية إلى التفسير الباطني والرمزي، أمّا الخوارج فلهم أسلوبهم الخاصّ في التفسير. وعلى هذا فقد اتخذ كلّ منهم مذهباً خاصّاً في التفسير، ويمكن أن نلحق تفاسير الصوفية بالمذاهب التفسيريّة كذلك.

62

46

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

2- المدارس التفسيريّة (الاتجاهات الكلاميّة)
أقدمَ بعض أصحاب المدارس الكلاميّة كالمعتزلة والأشاعرة على تفسير القرآن على أساس ميولهم الفكريّة، فمثلاً كتب الزمخشري تفسيره الكشّاف بإسلوب كلامي.
 
3- الألوان التفسيريّة
ذهب المفسِّرون الّذين لهم تخصُّص أو اهتمام بعلم من العلوم إلى كتابة تفاسيرهم على أساس ذلك التخصُّص أو الاهتمام؛ فأكثروا من طرح المباحث الّتي تخصّصوا بها. ومن هنا ظهرت اتجاهات وألوان تفسيريّة متعدِّدة منها: اللون الأدبي، الفقهي، الاجتماعي، العرفاني، الأخلاقي، التاريخي و...
 
4- الاتجاهات العصريّة في التفسير
قد يذهب بعض المفسِّرين إلى أحد الاتجاهات في التفسير نتيجة للظروف المحيطة به ونتيجة لعامل الاحتياج والضرورة، فربّما تكون المسائل المعنويّة والتربويّة والأخلاقيّة من أهمّ المسائل في عصر المفسِّر؛ فيتوجّه إلى الآيات الأخلاقيّة والمعنويّة في تفسيره بصورة أكثر من غيرها (كما هو الحال في تفسير في ظلال القرآن و...).
 
وربّما تكون عناية المفسِّر بالأُمور الجهاديّة والسياسيّة ومناهضة الاستبداد فتحدو به هذه العناية إلى التركيز على الآيات المتعلِّقة بهذا الموضوع أكثر من غيرها.
 
وقد يكون هَمُّ المفسِّر هو الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب، فيأخذ تفسيره مثل هذا الطابع.

 
63
 

47

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

ملاحظة حول طرق كتابة التفسير
يختلف أسلوب الكتابة عند المفسِّرين, فهي تتفاوت على أساس الذوق ومراعاة حال المخاطَب. فقد يكون التفسير ترتيبيّاً؛ أي تفسير القرآن آية آية ومن أوّله إلى آخره، كما هو الحال في تفسير (الميزان، والأمثل، ومجمع البيان). أو قد يكون موضوعيّاً فيختار المفسِّر أحد المواضيع ويجمع كلّ ما يتعلّق به في جميع الآيات والسور ثمّ يخرج بنتيجة معيّنة مثل (تفسير نفحات القرآن، لآية الله مكارم الشيرازي, ومنشور جاويد لآية الله السبحاني و...).

وربَما يُكتَب التفسير بصورة مختصرة أو متوسطة أو مفصّلة, أي من حيث الحجم والكميّة كما هو الحال في التفاسير: الأصفى، والمصفّى، والصافي للمرحوم الفيض الكاشاني، وكذلك التفاسير: الوجيز، والجوهر الثمين، وصفوة التفاسير للمرحوم عبد الله شبّر، وأيضاً التفاسير الثلاثة للمرحوم الطبرسي وهي: جوامع الجامع، ومجمع البيان، والكافي الشافي، فالأوّل مختصر والثاني متوسّط والثالث مفصّل. وربَما يأتي التفسير على شكل متن وشرح فتكون الآية متناً والتفسير شرحاً للآية، وقد يختلط التفسير بالآيات بصورة مزجيّة مثل تفسير شُبَّر ونفحات الرحمن للنهاوندي.

وفي بعض الأحيان يكون التفسير شاملاً لجميع آيات القرآن مثل مجمع البيان، وأُخرى ناقصاً ومُشتملاً على سورة واحدة أو عدد من السور، أو حتّى مجموعة من السور مثل تفسير أحكام القرآن للراوندي الّذي يشتمل على الآيات الفقهية فقط وتفسير آلاء الرحمن للبلاغي وهو تفسير ناقصٌ. 

آراء المتخصّصين في تقسيم المناهج والاتجاهات
تعتبر هذه المباحث من العلوم الجديدة في مجال تفسير القرآن، وهي
 
64
 
 

48

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

 في حالة نمو وتطوّر، وفي كلّ سنة تُحرّر مقالات وتُدوّن كتب عديدة في هذا المجال، وتطرح آراء جديدة. فلا مانع من وجود بعض النواقص في تقسيم المتخصّصين في هذا المجال، باعتبارهم أصحاب الخطوة الأولى في هذا المجال، ونحن نشير هنا إلى أهمّ وأشهر هذه التقسيمات:
 
1- تقسيم جولدزيهر1
تناول هذا المستشرق التفسير أوّلاً، ثمّ التفسير بالرأي. وذكر الروايات الواردة في مذمّته. وبعد ذلك قسّم التفسير على ضوء العقائد؛ فذكر طريقة المعتزلة في التفسير ونماذج من كلامهم، وفي فصل آخر تناول طريقة الصوفية في التفسير والمنهج الإشاري وتأثّرهم بـ (فيلون)2 ، ثمّ ذكر تفسير إخوان الصفا والإسماعيلية الباطنية. وفي فصل آخر قسّم التفسير على ضوء الفرق الدِّينية. فذكر تفسير الشيعة، الخوارج، الغُلاة و... وأخيراً ذكر التفاسير الجديدة في العالَم الإسلامي: منهج سيد أمير علي في الهند بعنوان المعتزلة الجُدد، ومنهج السيّد جمال الدِّين الأفغاني والحركة الجديدة في مصر ومنهج محمّد عبده صاحب المنار3.
 
والمستشرق المذكور هو أحد المبدعين لهذا البحث وهو أوّل من خطا الخطوات الأولى في هذا البحث ومع هذا فإنّ كتابه لا يخلو من إشكالات؛ فليس هناك نظام منطقي حاكم على هذه المباحث، ولم يتناول بحث المناهج (مثل منهج التفسير بالمأثور) والاتجاهات بصورة كاملة. 


1- Ignaz Goldzhe عليهم السلام (1850ـ 1921م) مستشرق يهودي مَجريّ، دَرسَ في بودابست، وبرلين، والأزهر في مصر. 
2- فيلون: فيلسوف يهودي مولود ما بين عشرين وثلاثين سنة قبل الميلاد. أنظر: التفسير والمفسّرون، الدكتور الذهبي، ج4، ص 259.
3- جولدزيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: الدكتور عبد الحليم النجّار. تفسير المنار كان من أوّل القرآن إلى الآية 126 من سورة النساء بإنشاء الشيخ محمّد عبده ثمّ سار تلميذه السيّد رشيد رضا بإكمال هذا التفسير على نهج أستاذه حتّى سورة يوسف. أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 1011.

65

49

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

2- تقسيم الدكتور الذهبي
بعد أن تناول التطوّر التأريخي للتفسير من عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فما بعده، قام الذهبي بتقسيم التفسير إلى فرعين رئيسين، وهما:

- التفسير بالمأثور (الروائي).

- التفسير بالرأي.

ثمّ قسّم التفسير بالرأي إلى فرعين أيضاً: ممدوح (التفسير العقلي) ومذموم1. ثمّ اعتبر التفسير بالرأي المذموم هو تفسير الفرق والمذاهب وهي: المعتزلة الشيعة (الإثنى عشرية) والشيعة الإسماعيلية، والشيعة الزيدية، والبهائية والخوارج، والصوفية، والتفسير العلمي.

ويبدو أنّ تقسيم الدكتور الذهبي لا يتمتّع بنظام منطقي, لأنّه يستخدم التفسير النقلي (المأثور) في مقابل التفسير العقلي والاجتهادي، بالإضافة إلى أنّ تقسيم التفسير بالرأي إلى ممدوح ومذموم غير صحيح، وسيأتي بيان ذلك في بحث منهج التفسير بالرأي والمنهج العقلي في التفسير، كما أنّه خلط في تقسيمه المذكور بين المذاهب التفسيريّة والمدارس؛ لأنّ فرق الشيعة تقع في قبال فرق أهل السنة وليس في مقابل الفرق الكلامية (مثل المعتزلة)، إلّا إذا كان المقصود بالشيعة هم متكلّمو الشيعة.

3- تقسيم آية الله معرفة
قسّم سماحة الشيخ معرفة التفسير إلى فرعين:

أ- التفسير بالمأثور، ويشمل:

 
1ـ تفسير القرآن بالقرآن.
 

 
1- التفسير والمفسّرون، الدكتور الذهبي، ج 1، ص 255 284.
 
 
66
 

 


50

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

2ـ تفسير القرآن بالسنّة.

3ـ تفسير القرآن بأقوال الصحابة.

4ـ تفسير القرآن بأقوال التابعين.

ب- التفسير الاجتهادي (أي على أساس النظر والاستدلال العقلي).

ثمّ ذكر أنّ هذه الطريقة تقسّم على أساس القدرة العلميّة وأنواع العلوم الّتي يمتلكها المفسِّرون إلى ألوان مختلفة مثل: اللون المذهبي/ الكلامي/ الفلسفي/ الفقهي/ العلمي... ويعتبر هذا التقسيم أفضل من تقسيم الدكتور الذهبي بكثير، ولكنّه اعتبر طرق التفسير العلمي والعرفاني من الألوان التفسيريّة في حين يمكن أن نعدّها من المناهج ومن الألوان أيضاً.

خلا صة الدرس
ـ تتعلّق مناهج التفسير بالمصادر والأدوات وكيفيّة استخراج معاني ومقاصد الآيات، أمّا الاتجاهات التفسيريّة فتتعلّق بذوق وعقائد وعلوم المفسِّر وأسلوب الكتابة.

ـ بدأت بعض المناهج بالظهور في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كمنهج تفسير القرآن بالقرآن، وقد ظهرت وتطوّرت أساليب ومناهج جديدة في القرن الثاني الهجري نتيجة عوامل مختلفة.

ـ العوامل المؤثّرة في نشوء وتنوّع المناهج والاتجاهات التفسيريّة عبارة عن: طبيعة القرآن، الأمر القرآني باتباع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره مفسِّراً للقرآن، اعتقاد المفسِّرين، الآراء الشخصيّة، نفوذ أفكار غير المسلمين في الأوساط  
 
 
67
 

51

الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة

الإسلامية، اختلاف المصادر والوسائل، الاتجاهات العصرية، أسلوب الكتابة عند المفسِّرين.

ـ تُقسَّم المناهج التفسيريّة إلى قسمين: ناقصة وكاملة، والمناهج الناقصة ستة أقسام:

القرآن بالقرآن، الروائي، العلمي، الإشاري، العقلي، الاجتهادي، والتفسير بالرأي. والمنهج الكامل هو الّذي يراعي كلّ المناهج السابقة عدا التفسير بالرأي. 

ـ قُسِّمت الاتجاهات التفسيريّة على النحو التالي:

1ـ المذاهب التفسيريّة

تفسير الإسماعيليّة

 

تفسير الإثني عشرية

2ـ المدارس التفسيريّة

تفسير المعتزلة

 

تفسير الأشاعرة

3ـ ألوان التفسير

التفسير الفقهي

 

التفسير الأدبي أو الفلسفي أو الأخلاقي

4ـ الاتجاهات العصريّة

التفسير الجهادي

 

التفسير السياسي

5ـ أساليب كتابة التفسير

الترتيبي

 

الموضوعي

المختصر، المتوسط، المفصَّل المزجي

 

68

52

الدرس السادس: منهج تفسير القرآن بالقرآن (1)

أهداف الدرس
1- أن يتعرّف الطالب إلى المراد من منهج تفسير القرآن بالقرآن
2- أن يتعرّف إلى تاريخ هذا المنهج
3- أن يدرك الأدلّة على جواز تفسير القرآن بالقرآن
4- أن يتعرّف إلى رأي الأخباريّين في تفسير القرآن بالقرآن
 
 
 
69
 

53

الدرس السادس: منهج تفسير القرآن بالقرآن (1)

تمهيد
تعتبر طريقة تفسير القرآن بالقرآن من أقدم الطرق في تفسير القرآن، وهي إحدى أقسام المنهج النقلي, لأنّ الأخير ينقسم إلى قسمين: تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالرواية. وقد استحسن جميع المفسّرين والمتخصّصين إلّا ما شذّ هذه الطريقة في التفسير، واستفادوا منها في الكثير من الموارد، بل إنّ بعضهم اعتبرها من أفضل الطرق في التفسير.
 
المراد من تفسير القرآن بالقرآن
يعتمد هذا المنهج على توضيح آيات القرآن بواسطة آيات أخرى وبيان مقصودها. وبعبارة أخرى: تكون آيات القرآن بمثابة المصدر لتفسير آيات أخرى.
 
وعرّفه بعضهم بأنّه: "مقابلة الآية بالآية وجعلها شاهداً لبعضها على الآخر ليستدلّ على هذه بهذه لمعرفة مراد الله تعالى من القرآن الكريم"1.


1- أنظر: دروس في المناهج والاتجاهات التفسيريّة، محمّد عليّ الرضائي، ص 42.
 
 
71

 

54

الدرس السادس: منهج تفسير القرآن بالقرآن (1)

تاريخ منهج تفسير القرآن بالقرآن
يعتبر كما ذكرنا تفسير القرآن بالقرآن من أقدم طرق التفسير، ويرجع استخدامه إلى زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد استخدمه الأئمّة عليهم السلام وبعض الصحابة والتابعين.
 
وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك.
 
1ـ سُئل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن معنى "الظلم" في الآية الكريمة: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم﴾1 فأجاب صلى الله عليه وآله وسلم وبالاستناد إلى الآية ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾2 بأنّ المقصود بالظلم في الآية الأولى هو الشرك المذكور في الآية الثانية3.
 
يتبيّن من خلال هذا الحديث والأحاديث المشابهة أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استخدم هذا المنهج في التفسير، فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم قام بتعليم أتباعه عمليّاً على استخدامه.
 
2ـ استنتج الإمام عليّ عليه السلام من خلال الآيتين ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾4 ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾5 بأنّ أقلّ مدّة للحمل هي ستّة أشهر. باعتبار أنّ مدّة الرضاع سنتين كما تشير الآية الأولى، ومدّة الحمل والرضاع معاً ثلاثون شهراً6 كما تشير الآية الثانية، والجمع بينهما يقتضي كون أقلّ الحمل ستّة أشهر. وهذا نوع من تفسير القرآن بالقرآن.
 
وقد استخدم مفسِّرو الشيعة هذا المنهج بعد ذلك مع ظهور تفاسير مثل

1- سورة الأنعام، الآية: 82.
2- سورة لقمان، الآية: 13.
3- مسند أحمد،ج1،ص378.
4- سورة لقمان، الآية: 14.
5- سورة الأحقاف، الآية: 15.
6- أنظر: بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 40، ص 180، وبهذا الدليل دفع الإمام عليه السلام الرجم عن تلك المرأة الّتي حكم عليها عمر بن الخطّاب بالرجم وهي حامل وقد وضعت لستّة أشهر.

72
 

 


55

الدرس السادس: منهج تفسير القرآن بالقرآن (1)

التبيان للشيخ الطوسي ومجمع البيان للشيخ الطبرسي، وكذلك مفسِّرو أهل السنّة.
 
وقد ذكر العلّامة المجلسيّ في كتابه بحار الأنوار الآيات الّتي تتعلّق بموضوع معيّن في بداية كلّ فصل. وهذا يعني أنّه استفاد من الطريقة الموضوعية في تفسير القرآن بالقرآن. وقد حظي هذا المنهج باهتمام واسع خاصّةً عند المفسِّرين في القرن الأخير، كما يتّضح ذلك في تفسير الميزان للعلّامة الطباطبائي، وآلاء الرحمن للشيخ البلاغي و...
 
لماذا يجب تفسير القرآن بالقرآن؟
اعتمد أصحاب هذا المنهج على عدّة أدلّة للاستدلال على جواز ولزوم هذا التفسير، من القرآن والسنّة والسيرة.
 
1- الدليل القرآني
أ- قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ1.
 
استدلّ العلّامة الطباطبائي قدس سره بهذه الآية على تفسير القرآن بالقرآن فقال: "وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه"2.
 
ب- قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾3. قال العلّامة الطباطبائي قدس سره عند استدلاله بهذه الآية: "كيف يكون القرآن هدى وبيّنة وفرقاناً ونوراً مبيناً للناس في جميع ما يحتاجون إليه ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشدّ الاحتياج"4.

1- سورة النحل، الآية: 89.
2- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 1، ص 14ـ 15.
3- سورة النساء، الآية: 174.
4- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 1، ص 14.
 
 
 
73

 

56

الدرس السادس: منهج تفسير القرآن بالقرآن (1)

 ج- قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾1. فقد قسّمت هذه الآية آيات القرآن إلى مجموعتين: محكمات ومتشابهات.

وكلمة "المحكم" من "الإحكام" بمعنى "المنع"، ولهذا يقال للمواضيع الثابتة القويّة محكمة, لأنّها تمنع عن نفسها عوامل الزوال. كما أنّ كلّ قول واضح وصريح لا يعتريه أيّ خلاف يقال له "قولٌ محكم"، وعليه فإنّ الآيات المحكمة هي الآيات ذات المفاهيم الواضحة والّتي لا مجال للخلاف والجدل حولها.
 
أمّا الآيات المتشابهة فهي الآيات ذات المعنى المعقّد، أو الّتي تحتمل معاني متعدّدة، والّتي لا يتّضح معناها المقصود إلّا في ضوء الآيات المحكمة. وقد أطلق على الآيات المحكمة "أُمُّ الكتاب" أي هي الأصل والمرجع للآيات الأخرى، وبعبارة أخرى: لا بُدّ من إرجاع الآيات المتشابهات إلى المحكمات لكي يتّضح معناها. وهذه الطريقة هي إحدى أنواع تفسير القرآن بالقرآن.
 
د- إنّ تكرار الآيات يستلزم هذه الطريقة في التفسير: لأنّه لكي نفهم بعض الآيات لا بدّ من مراجعة الآيات المشابهة، فقد جاء ذكر قصّة النبيّ موسى عليه السلام وفرعون في سور: الأعراف: 105ـ 136، طه: 9ـ 98، الشعراء: 10ـ 67، النمل، ولا يمكن تفسير هذه الآيات ورفع الإبهام عنها ما لم يتمّ مراجعة هذه السور بآياتها المتعلّقة بموضوع النبيّ موسى عليه السلام وفرعون وإلّا فإنّه قد يؤدّي إلى وقوع المفسِّر في أخطاء.
 
2- الدليل الروائي
يمكن الاستدلال بالسنّة على مطلوبيّة تفسير القرآن بالقرآن من جهتين:
 
أ- السنّة العمليّة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ، حيث استخدموا هذه الطريقة عمليّاً.
 

1- سورة آل عمران، الآية: 7.
 
 
 
 
74

 

57

الدرس السادس: منهج تفسير القرآن بالقرآن (1)

ب- الأحاديث الخاصّة الّتي أشارت إلى هذا الأمر، ومنها: 
 
ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ القرآن ليصدّق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض"1.
 
وقال الإمام عليّ عليه السلام: "وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعي لسانه، وبيت لا تُهدم أركانه، وعزّ لا تهزم أعوانه.. كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله ولا يخالف بصاحبه عن الله"2 .
 
3- الدليل العقلي
من أجل فهم أيّ كلام لا بُدّ من مراعاة القرائن الموجودة فيه، فإذا جاء ذكر أحد المطالب بصورة مطلقة وعامّة، وفي مكان آخر بصورة مقيّدة وخاصّة، فلا بدّ من النظر إلى الكلام بصورة كلِّية باعتباره مجموعة كاملة، وهذه هي طريقة العقلاء في فهم أيّ كلام.
 
والقرآن الكريم غير مستثنى، من هذه القاعدة، وهذا هو نفس الشيء الّذي يُعرف باسم تفسير القرآن بالقرآن، يعني الاستفادة من بعض الآيات كقرائن لفهم وتفسير آيات أخرى، والشارع المقدّس لم يمنع من هذه الطريقة العقلائية، بل قام بتأييدها طبقاً للأحاديث السابقة. وعندما نراجع طريقة الأئمّة عليه السلام والصحابة والتابعين ومفسِّري القرآن على طول التاريخ نرى أنّهم استخدموا هذه الطريقة، أي الاستفادة من بعض الآيات في فهم آيات أخرى. ومن خلال استمرار طريقتهم هذه نستدلّ على جواز هذا المنهج بالإضافة إلى عدم وجود منع من الشارع.


1- كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين علي المتّقي بن حسام الدين الهندي (ت 975)، ج 1، ص619، ح 2861، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1399هـ.
2- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده، ج 2، ص 16. 
 
 
 
75

 


58

الدرس السادس: منهج تفسير القرآن بالقرآن (1)

حجيّة ظواهر القرآن
يتوقّف تفسير القرآن على بعض المسلَّمات ومنها حجّية ظواهر القرآن، حيث يمكن للمفسِّر أن يستدلّ بظواهره.
 
والمراد من ظاهر القرآن الكريم هو المعنى الّذي يفهمه العارف باللغة العربية بموجب القوانين الثابتة عند أهل العرف وأبناء اللغة من اللفظ.
 
ومذهب المشهور من علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام حجيّة ظواهر القرآن الكريم، واستدلّوا على ذلك بوجوه منها:
 
أ - أنّ القرآن نزل بلسانٍ عربي مبين.
 
ب - أنّ القرآن معجزة الإسلام الخالدة.
 
وقد تحدّى الباري عزّ وجلّ المشركين على الإتيان بسورة من مثله، ولا معنى للتحدّي إلّا إذا فرض أنّ الّذين تحدّاهم القرآن كانوا يفهمون معانيه من خلال ظواهره.
 
ج - حديث الثقلين
والقاضي بضرورة التمسّك بالقرآن والعترة، ومعنى التمسّك بالقرآن ليس مجرّد الاعتقاد بأنّه قد نزل من عند الله تعالى، بل الأخذ به والعمل بما فيه من أوامر ونواهي والاستناد إليه في كلّ اعتقاد أو قول أو فعل.
 
د- روايات العرض على القرآن
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ على كلّ حقٍّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق
 
 
 
76
 

59

الدرس السادس: منهج تفسير القرآن بالقرآن (1)

 كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه"1، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"2 فإنّ أخبار العرض على القرآن خير شاهد على إمكان فهم معانيه.
 
أمّا الأخباريون فقد استدلّوا على عدم حجّية ظواهر القرآن بما يلي:
 
1- إنّ فهم القرآن مختصّ بأهله، وهم المخاطبون الحقيقيّون به، وهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام.
 
2- إنّ القرآن يحتوي على مضامين عالية وعميقة لا يفهمها إلّا الراسخون في العلم، ولا تنالها الأفكار العاديّة للناس.
 
3- إنّ القرآن الكريم يشتمل على آيات متشابهة وهو ما يؤدّي إلى المنع عن اتباع ظواهر الكتاب.
 
4 - إنّنا نعلم علماً إجماليّاً بوجود مخصِّصات ومقيّدات لكثير من ظواهر القرآن الكريم ممّا يعني عدم إمكانيّة التمسّك بالظواهر القرآنية.
 
وأجاب علماء الأصول عن هذه الإشكالات بإجابات، منها:
 
1- المقصود من اختصاص فهم القرآن بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليه السلام ، وأنّهم المخاطبون الحقيقيّون هو الفهم الكامل للقرآن أعمّ من المحكم والمتشابه، والمنع من الاستقلال بالفتوى دون مراجعة الروايات، وأمّا بعد مراجعة القرائن النقلية، أو بعد البحث وعدم العثور على روايات معتبرة، فلا يوجد مانع من الأخذ بظواهر القرآن الكريم، إضافة إلى ذلك فإنّ الروايات نفسها قد أرجعتنا إلى القرآن والاستدلال به. كما في رواية عبد الأعلى مولى آل سام،


1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 69.
2- م. ن.
 
 

 
77

 

60

الدرس السادس: منهج تفسير القرآن بالقرآن (1)

قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال عليه السلام: "يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ، قال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ1 امسح عليه"2.
 
2- لا يوجد تعارض بين وجود مضامين عالية وصعبة الفهم في القرآن، والرجوع إلى الظواهر الواضحة والاستدلال بها.
 
3- إنّ ظواهر القرآن ليست من المتشابهات، أي إنّ المقصود من المتشابهات هنا هو الآيات المجملة، ولكن ظواهر القرآن ليست مجملة ولا متشابهة.
 
4- إنّ الأخذ بظواهر القرآن يكون بعد مراجعة المخصِّصات والمقيِّدات والروايات الأخرى، وعندها ينحلّ العلم الإجمالي ويرتفع حينئذ المانع من الأخذ بالظواهر.
 
خلاصة الدرس
ـ بدأ منهج تفسير القرآن بالقرآن منذ عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهناك نماذج متعدّدة في روايات أهل البيت عليهم السلام تشير إلى استعمالهم هذا المنهج، وقد استفاد الصحابة والتابعون من هذا المنهج أيضاً.
 
ـ إنّ أهميّة هذا المنهج تكمن في الاستفادة من الآيات والاستعانة بها في تفسير آيات أخرى من القرآن، وهذا الأمر يعتبر ضروريّاً في كلّ من التفسير الموضوعي والترتيبي لكي يتبيّن مقصود الآيات بشكلٍ واضح.
 

1- سورة الحج، الآية: 78.
2- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 1، ص 327.
 
 
78

 

61

الدرس السادس: منهج تفسير القرآن بالقرآن (1)

ـ كُتبت تفاسير متعدّدة على أساس تفسير القرآن بالقرآن على امتداد التأريخ منها في عصرنا الحاضر تفسير الميزان، بل بعضهم اعتبره من أفضل المناهج في التفسير.

ـ استدلّ الموافقون على هذا المنهج بالآيات والروايات وبناء العقلاء وأثبتوا جواز ومطلوبية هذه الطريقة في التفسير.

ـ استدلّ القائلون بتفسير القرآن بالقرآن بمضامين بعض الآيات مثل ما دلّ على أنّ القرآن تبيان، القرآن نور، ولزوم التدبّر في القرآن.

ـ ظاهر القرآن حجّة فلا يوجد إشكال على تفسير القرآن بالقرآن من هذه الناحية، بالإضافة إلى عدم تماميّة أدلّة الأخباريين على منع حجيّة ظاهر القرآن، على فرض ثبوت هذه النسبة إليهم.
 
 
79
 

62

الدرس السابع: تطبيقات عملية

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى الأنواع المتعدّدة من أنواع تفسير القرآن بالقرآن
2- أن يتعرّف إلى بعض النماذج التطبيقية لهذه الأنواع
 
 
 
 
81

63

الدرس السابع: تطبيقات عملية

تمهيد
يعتبر "تفسير القرآن بالقرآن" منهجاً كلّياً يتضمّن تحته مصاديق وطرقاً فرعية متعدِّدة يستفيد منها المفسِّرون في التفسير، وإنّ معرفة هذه الطرق تساعد المفسِّر على تقديم تفسير جامع لآيات القرآن الكريم.
 
ولكي تتوضّح صورة الاستدلال عند المفسِّر للقرآن بالقرآن، سوف نشير إلى أهمّ هذه الأنواع وأكثرها شيوعاً، مع الأمثلة والنماذج التوضيحية لهذا المنهج.
 
الطرق الفرعية لمنهج تفسير القرآن بالقرآن
1- إرجاع المتشابهات إلى المحكمات
تنقسم آيات القرآن إلى آيات محكمة ومتشابهة1 ، وتعتبر الآيات المُحكَمة هي الأساس والمرجع للآيات القرآنية، ولا بُدّ من إرجاع الآيات المتشابهة إليها لكي يتّضح معناها، أو يتعيّن أحد احتمالاتها.


1- أنظر: في بيان معنى المحكم والمتشابه الدرس السابق (الأدلّة على تفسير القرآن بالقرآن).
 
 
 
 
83

 

64

الدرس السابع: تطبيقات عملية

مثال: توجد بعض الآيات في القرآن يدلّ ظاهرها على التجسيم؛ مثل الآيات الّتي تصف الله سبحانه وتعالى بأنّه: "سميع" و"بصير"1 ، والآية الشريفة ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ2 ، ولا بد من إرجاع مثل هذه الآيات إلى الآيات المحكمة مثل الآية: ﴿َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ3 حيث يتّضح معناها في ضوء هذه الآية وأمثالها، فعندما نقارن الآيات المذكورة مع الآيات المحكمة، فسوف يتبيّن أنّ المقصود باليد هنا ليست هي اليد الجسمانية بل هي كناية عن شيء آخر كالقدرة مثلاً. وعلى هذا يمكن تفسير الآية ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ بمعنى قدرة الله.
 
2- الجمع بين الآيات المطلقة والمقيّدة
جاءت بعض الآيات بصورة مطلقة بدون قيد في حين ذُكرت آيات أُخرى مقيّدة ببعض القيود؛ فتفسير الآيات المطلقة بدون النظر في الآيات المقيّدة غير صحيح ولا يكشف عن المراد الجدّي للمتكلِّم، وبعبارة أخرى إنّ الآيات المقيِّدة مفسِّرة للآيات المطلقة، فمثلاً جاء ذكر الصلاة في بعض الآيات بصورة مطلقة ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾4 ، في حين قُيّد هذا الإطلاق بزمان خاص في آيات أخرى كما في الآية: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْر﴾5.
 
3- الجمع بين العام والخاص
جاءت ألفاظ بعض الآيات على جهة العموم والشمول لأفراد كثيرين، وذلك باستعمال بعض ألفاظ العموم، مثل كُلّ، في حين خصَّصَت آيات أخرى هذا

1- سورة الشورى، الآية: 11.
2- سورة الفتح، الآية: 10.
3- سورة الشورى، الآية: 11.
4- سورة البقرة، الآيات: 43، 83، 110 والنساء، 77 و..
5- سورة الإسراء، الآية: 78.
 
 
 
 
84

 

65

الدرس السابع: تطبيقات عملية

العموم. وبما أنّ تفسير القرآن هو تعيين المراد الإلهي وتوضيح الآية بصورة كاملة، فإنّ هذا لا يحصل إلّا بوضع الخاصّ بجانب العامّ. وبعبارة أخرى إنّ الآيات الخاصّة تُفسِّر وتبيِّن العموم في الآيات الأخرى، فمثلاً جاء ذكر الزواج بصورة مطلقة في الآية: ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء﴾1 واستثنيت موارد خاصّة في الآية الكريمة:﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ.......2 ففي الآيات الأولى وردت الرخصة في الزواج من جميع النساء، أمّا في الآيات الأُخرى فقد استثنيت الأم والأخت وزوجة الأب و...
 
4- توضيح الآيات المجملة بواسطة الآيات المبيّنة
وردت بعض الآيات في القرآن الكريم بصورة مختصرة ومجملة، فيما جاء بيان هذا الموضوع بصورة مفصّلة في مكانٍ آخر. فالمجموعة الثانية من الآيات تُفسِّر الآيات الأولى. وقد لا يُفهم المعنى والمراد من الآيات المجملة دون الرجوع إلى الآيات المبيّنة، وحينئذٍ لا يكون التفسير صحيحاً.
 
المثال الأوّل:أشار القرآن الكريم إلى مسألة أكل لحوم الحيوانات بقوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ3 وقال في آية أخرى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِير﴾4. ففي الآية الأولى جاء تحليل لحوم بعض الحيوانات بصورة مجملة، وأنّه سوف يأتي تحريم بعض أنواع اللحوم في المستقبل؛ وقد بُيّنت هذه الموارد في الآية الأخرى؛ فهنا تكون الآية الثانية مفسِّرة للآية الأولى.


1- سورة النساء، الآية: 3.
2- سورة النساء، الآيتان: 22ـ 23.
3- سورة المائدة، الآية: 1.
4- سورة المائدة، الآية: 3.
 
 
 
 
85
 

66

الدرس السابع: تطبيقات عملية

المثال الثاني: وردت ثلاثة تعابير في شأن ليلة القدر في القرآن الكريم وهي:
 
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ1.
 
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾2.
 
3ـ ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآن﴾3.
 
وعند وضع الآيات الثلاث معاً نستنتج أنّ القرآن نزل في ليلة القدر وهي ليلة مباركة من ليالي شهر رمضان. ومثل هذا التفسير الكامل لا يحصل بقراءة الآيات بصورة منفصلة، بل لا بُدّ من ضمّ الآيات بعضها إلى بعضها الآخر.
 
5- الاستفادة من سياق الآيات
السياق عبارة عن: نوع خاصّ للألفاظ أو العبارات أو الكلام يظهر على أثر اقترانه مع كلمات وجمل أخرى.
 
ويُعدّ اتصال الكلام وارتباطه واعتماد قرينة السياق على فهم كلام الأفراد من الأصول العقلائية المعتمدة في جميع اللغات. فالمفسِّرون يعتمدون على هذه القرينة أيضاً في فهم آيات القرآن ويعتبرونها قرينة ظنيَّة.
 
والسياق له عدّة أقسام: فربما يكون السياق سياق كلمات، أو سياق جمل، أو سياق آيات، وسنوضح ذلك بأمثلة:
 
المثال الأوّل: كلمة "الدِّين" لها معانٍ متعدّدة يتحدّد أحدها من خلال السياق ففي الآية: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، جاء الدِّين هنا بمعنى يوم الجزاء حيث يجزي
 

1- سورة الدخان، الآية: 3.
2- سورة القدر، الآية: 1.
3- سورة البقرة، الآية: 185.
 
 
86
 

67

الدرس السابع: تطبيقات عملية

الله العباد يوم القيامة، واستفدنا هذا المعنى من السياق، في حين جاء لفظ "الدِّين" في آيات أخرى بمعنى الشريعة1، لأنّ هذا المعنى هو مقتضى سياق تلك الآيات.
 
المثال الثاني: قال تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ2 وقد جاء في نهاية هذه الآيات: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ3.
 
فإذا أخذنا بظاهر هذه الآية دون الالتفات إلى سياق الآيات المتقدّمة لفُهِم منه أنّ الله سبحانه وتعالى يخاطب شخصاً محترماً وعزيزاً، أمّا إذا أخذنا بنظر الاعتبار الآيات المتقدّمة فسوف يتبيّن أنّ هذا الشخص (الذي اعتُبر عزيزاً كريماً في ظاهر الآية) ما هو إلّا ذليل حقير.
 
المثال الثالث: قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾4.
 
وللمفسِّرين رأيان في معنى اللهو:
 
اعتبر بعض المفسِّرين أنّ معنى اللهو في هذه الآية هو المرأة والولد وهي إشارة إلى نفي عقائد المسيحيين الّذين يعتقدون أنّ لله زوجةً وولداً.
 
والمجموعة الأخرى ذهبت إلى أنّ معنى اللهو التسلّي، أو الأهداف غير المعقولة. وعلى هذا يكون معنى الآية أنّ هدف الخالق ليس هو التسلّي.

 

1- ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (التوبة، الآية: 33)
2- سورة الدخان، الآيات: 43-48.
3- سورة الدخان، الآية: 49.
4- سورة الأنبياء، الآيتان: 16ـ 17.
 
 
 
 
 
87




 

68

الدرس السابع: تطبيقات عملية

وقد تمسّك أصحاب الرأي الثاني بالسياق لردّ الرأي الأوّل؛ لأنّ ارتباط الآية أعلاه بالآيات السابقة سينقطع على الرأي الأول، إضافةً إلى أنّ كلمة "اللهو" إذا جاءت بعد كلمة "اللعب" فتعني التسلّي وليس المرأة والولد.
 
6- تحديد معاني الاصطلاحات القرآنية بالاستعانة بالآيات الأخرى
 
توجد في القرآن الكريم اصطلاحات خاصّة خارجة عن معناها اللغوي، فلا يمكن تفسيرها بمراجعة كتب اللغة، بل يجب مراجعة الآيات الأخرى ومعرفة لغة القرآن. 
 
الأمثلة: مصطلح الجن: المعنى اللغوي هو "المستور، المخفي" وفي اصطلاح القرآن هي موجودات عاقلة لا تُرى بالعين.
 
"الكافر": بمعنى الساتر، أما في اصطلاح القرآن فتطلق على الشخص الّذي ينكر وجود الله، أو يوم القيامة أو.. وقد تأتي بمعنى عدم الشكر.
 
"الآية": تعني العلامة، أمّا في القرآن فقد تأتي بمعنى الآية القرآنية أو المعجزة وهناك اصطلاحات أُخرى مثل الصلاة، الزكاة، الجهاد.. ويفهم معناها الاصطلاحي بالتدبّر في آيات القرآن.
 
7- جمع الآيات الناسخة والمنسوخة
لقد جاءت بعض الآيات لتبيّن بعض الأحكام ثمّ أُنزلت آيات أخرى (على أساس المصلحة والشرائط الجديدة) ونسخت الآيات السابقة وشرّعت أحكاماً جديدة. وثمّة اختلاف بين المختصِّين في علوم القرآن في عدد الآيات المنسوخة.
 
وعلى المفسِّر حين يشرع في تفسير الآية أن يأخذ بنظر الاعتبار الآيات الناسخة والمنسوخة، وإلّا فسوف يكون تفسيره تفسيراً ناقصاً.
 
 
 
 
88

 

69

الدرس السابع: تطبيقات عملية

مثال: ورد الأمر في سورة المجادلة بأنّ على المؤمنين أن يتصدّقوا في حالة وجود كلام خصوصي لهم مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يعمل بهذا الحكم إلّا الإمام عليّ عليه السلام ، وقد نُسخ هذا الحكم في الآيات الأخرى1، وعلى هذا فبيان الحكم الأوّل بدون ذكر الناسخ في الآية الأُخرى يكون تفسيراً ناقصاً.
 
8- الالتفات إلى الآيات المشابهة (من حيث اللفظ أو المحتوى)
القرآن الكريم كتاب هداية وتربية، فقد يطرح الموضوع الواحد في عدّة سور وتتناول كلّ سورة من السور جانباً من جوانب هذا الموضوع بصورة قد تتشابه في التفسير، فإذا أراد المفسِّر الشموليّة في فهم الموضوع، عليه أن يضع الآيات بعضها مع بعضها الآخر حتّى يتّضح معناها.
 
فقد تأخذ هذه الطريقة في الواقع اسم التفسير الموضوعي كما فعل ذلك آية الله مكارم الشيرازي في كتابه التفسيري (نفحات القرآن) وآية الله السبحاني في كتاب (مفاهيم القرآن)، أو قد تأخذ طابع التفسير الترتيبي فيما إذا قام المفسِّر بجمع آيات الموضوع الواحد في موارد مختلفة من التفسير، كما استخدم العلامة الطباطبائي هذه الطريقة في تفسير الميزان.
 
المثال الأوّل: قام العلامة الطباطبائي في الآية (29) من سورة البقرة بدراسة المباحث المتعلّقة بإعجاز القرآن والآيات الّتي جاءت حوله. 
 
المثال الثاني: طريقة تفسير القرآن بالقرآن لها ثمرات عمليّة كثيرة في تفسير القصص القرآني فقد ذكرت قصّة النبيّ آدم عليه السلام وإبليس في الآيات (20ـ 38) من سورة البقرة، والآيات (11ـ 25) من سورة الأعراف، وكذلك وردت قصّة النبيّ موسى عليه السلام وإبليس في الآيات (103ـ 155) من سورة الأعراف،


1- وذلك في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  * أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ (سورة المجادلة، الآيتان: 12ـ 13).
 
 
 
 
89

 

70

الدرس السابع: تطبيقات عملية

والآيات (90ـ 98) من سورة طه، والآية (10) من سورة الشعراء فما بعد، فقد تناولت كلّ من هذه السور أحد المواضيع بصورة مختلفة ومن أبعاد وزوايا متعدّدة، فنضطر حينئذٍ لمراجعة جميع هذه السور للحصول على تفسيرها بشكل شمولي.
 
خلاصة الدرس
هناك أنواع متعدّدة من أنواع تفسير القرآن بالقرآن، ولكن أكثرها شيوعاً واستعمالاً هي:
 
1- إرجاع المتشابهات إلى المحكمات.
 
2- حمل الآيات المطلقة على المقيّدة.
 
3- حمل الآيات العامّة على الخاصّة.
 
4- توضيع الآيات المجملة بالمبيّنة والمفصّلة.
 
5- الاستفادة من السياق في التفسير.
 
6- تحديد معاني الاصطلاحات القرآنية بالاستعانة بالآيات الأخرى.
 
7- الجمع بين الآيات الناسخة والمنسوخة.
 
8- الالتفات إلى الآيات المتشابهة من حيث الموضوع.
 
 
 
90
 

71

الدرس الثامن: منهج التفسير الروائي للقرآن الكريم

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى منهج التفسير الروائي
2- أن يطّلع على الأدوار التاريخية للمنهج الروائي
3- أن يطّلع على الآراء الرئيسة بالنسبة إلى مكانة الأحاديث في تفسير القرآن
 
 
 
91
 

72

الدرس الثامن: منهج التفسير الروائي للقرآن الكريم

تمهيد
يُعتبر منهج التفسير الروائي من أقدم المناهج التفسيريّة وأكثرها شيوعاً. وهو أحد أقسام "التفسير بالمأثور" أو "التفسير النقلي". وللتفسير الروائي مكانة خاصّة بين المناهج التفسيريّة، وكان دائماً محطّ اهتمام المفسِّرين.

وقد اتّخذ في بعض الأحيان اتجاهاً متطرِّفاً حيث إنّ بعض المفسِّرين لم يرتضِ إلّا هذا المنهج في التفسير ورفض بقيّة المناهج. وفي الواقع إنّ هناك اتجاهات مُخالفة لهذه الطريقة المتطرِّفة ومُعتدلة في استخدام هذا المنهج.

وسوف نقوم هنا ببحث بعض الأمور المتعلِّقة بهذا المنهج وهي:

معنى التفسير الروائي
الرواية في الأصل تعني "النقل والحمل"، ورواية الحديث بمعنى نقل وتحمّل الحديث. وقد قسّم العلماء التفسير بالمأثور (التفسير النقلي) إلى أربعة أقسام:
 
 
 93
 

 


73

الدرس الثامن: منهج التفسير الروائي للقرآن الكريم

1- تفسير القرآن بالقرآن.
 
2- تفسير القرآن بالسُنّة.
 
3- تفسير القرآن بأقوال الصحابة.
 
4- تفسير القرآن بأقوال التابعين1.
 
ولكنّ المقصود من التفسير الروائي هو تفسير القرآن بالسُنّة والّتي تعني "قول وفعل وتقرير" المعصوم (النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام)، أي إنّه قد يصدر عن المعصوم كلامٌ في تفسير آية، وقد يقوم بعمل (كالصلاة) يكون تفسيراً للآيات المتعلّقة بالصلاة، وقد يكون تقريراً من المعصوم وذلك فيما إذا صدر عن شخص كلام أو عمل عملاً طبقاً لبعض الآيات في حضور الإمام وأقرّه على ذلك، أي إنّ المعصوم يؤيّد هذا الكلام أو الفعل بسكوته عن ذلك الفعل أو القول.
 
والحاصل: إنّ المقصود من منهج التفسير الروائي هنا هو استفادة المفسِّر من سُنَّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام ، والّتي تشمل قولهم وفعلهم وتقريرهم، لتوضيح معاني آيات القرآن ومقاصدها، وهذا المنهج يحقّق نتائج وآثاراً خاصّة أيضاً.
 
ملاحظة: رغم أنّه يمكن الاستفادة من روايات الصحابة والتابعين في تفسير القرآن في موارد خاصّة، وأنّ الكثير من أقوالهم في التفسير يُعتبر نافعاً ومفيداً ولكن هناك اختلاف بين علماء المسلمين في حجيّة سننهم ومساحة اعتبار رواياتهم.


1- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 21.
 
 
 
94
 

74

الدرس الثامن: منهج التفسير الروائي للقرآن الكريم

الأدوار التاريخية للمنهج الروائي 
يمكن تقسيم الأدوار التاريخية للتفسير الروائي إلى أربعة أدوار:
 
1- عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 
نشأ التفسير الروائي مُقارناً للوحي: لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو أوّل مُفسِّر ومُبيِّن للقرآن، وقد جاء الأمر الإلهي بهذا الخصوص في قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾1. الحقّ أنّ سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبيانهُ يرجع في جذوره إلى الوحي أيضاً، كما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا وإنّي أُوتيت القرآن ومثله معه"2. فقد كان الصحابة يرجعون إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير القرآن ويأخذون منه معانيه. روي عن ابن مسعود أنّه قال: "كان الرجل منّا إذا تعلّم عشر آيات لم يجاوزهُنَّ حتّى يعرف معانيهنَّ والعمل بهنّ"3.
 
وقد يكون عمله صلى الله عليه وآله وسلم تفسيراً للقرآن، كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال بشأن الصلاة: "صلّوا كما رأيتموني أُصلي"4 ، وروي عنه أنّه قال "خذوا عنّي مناسككم"5. وفي هذه الصورة تكون أفعال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تفسيراً لجزئيات الصلاة والحج.
 
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله أنزل على رسوله الصلاة، ولم يُسَمِّ لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الّذي فسَّر لهم ذلك"7. نعم لقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسائل الّتي ذُكرت بصورة كليَّة في القرآن الكريم مثل (الصلاة، الصوم، الحج و..)، وكذلك وضّح موارد تخصيص العمومات


1- سورة النحل، الآية: 44.
2- الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، ج 4، ص 174.
3- جامع البيان في تفسير القرآن، محمّد بن جرير الطبري، ج 1، ص 27- 28، دار المعرفة، بيروت، 1406هـ.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 85، ص 279.
5- الخلاف، الشيخ الطوسي، ج 2، ص 323. 
6- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 286.
 
 
 
95

 

75

الدرس الثامن: منهج التفسير الروائي للقرآن الكريم

وتقييد المطلقات، وبيَّن الاصطلاحات الجديدة في القرآن، والناسخ والمنسوخ. وجميع هذه الأمور كانت تفسيراً للقرآن وصلتنا بواسطة الروايات والسُنَّة ولا تزال موجودة كمصادر للتفسير الروائي.
 
2- عصر أهل البيت عليهم السلام 
استمرّت طريقة التفسير الروائي إلى عصر الأئمّة عليهم السلام. وكان الإمام عليّ عليه السلام تلميذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في التفسير يسمع ما يقوله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في تبيين آيات القرآن ويقوم بنقله وروايته، وقد اتّبع أهل البيت عليهم السلام هذا المنهج أيضاً، فكانوا ينقلون الأحاديث للناس عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام ويستدّلون بها، وقد وصل عدد الروايات المرويّة عنهم عليهم السلام إلى بضعة آلاف وقد تصدّى أهل البيت عليهم السلام لتفسير القرآن لاطلاعهم على العلوم الإلهيّة؛ ولذا اعتُبرت سنّتهم (قولهم وفعلهم وتقريرهم) من مصادر التفسير وجزءاً من التفسير الروائي؛ وفي هذا الإطار سأل رجل الإمام الرضا عليه السلام فقال: إنّك لتفسِّر من كتاب الله ما لم يُسمع. فقال: "علينا نزل قبل الناس ولنا فُسِّر قبل أن يُفسَّر في الناس، فنحن نعرف حلاله وناسخه ومنسوخه و.."1 وقال في حديث آخر: "فإنّما على الناس أن يقرؤا القرآن كما أُنزل، فإذا احتاجوا إلى تفسيره فالاهتداء بنا وإلينا"2.
 
وعلى هذا، قام أهل البيت عليهم السلام بتبيين مسائل متنوّعة في مجال الأمور الكليَّة الّتي وردت في القرآن وآيات الأحكام، المخصِّصات، المقيِّدات، الناسخ والمنسوخ، وكذلك تبيين باطن الآيات وتأويلها ومصاديقها.


1- تفسير نور الثقلين، عبد علي بن جمعة الحويزي، ج 4، ص 595، ح 19، المطبعة العلمية، قم، ط 2ـ 1383هـ.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 27، ص 197.
 
 
 
96

 

76

الدرس الثامن: منهج التفسير الروائي للقرآن الكريم

3- عصر الصحابة والتابعين
حظيت الروايات التفسيريَّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام باهتمام الصحابة والتابعين، حتّى أنّ بعض الصحابة الكبار أمثال ابن عباس وابن مسعود كانوا لا يروْن أنفسهم مستغنين عن الإمام عليّ عليه السلام، والاستفادة من علمه. وإنَّ كثيراً من أحاديث التفسير لابن عباس تلقّاها عن الإمام عليّ عليه السلام.
 
وفي الحقيقة إنّ الصحابة والتابعين قاموا بتفسير القرآن أيضاً، وقد وصلتنا روايات كثيرة عن ابن عباس وغيره.
 
يُذكر أنّ الروايات التفسيريَّة في هذه الفترة جُمعت بصورة تدريجيَّة باسم "كتب التفسير الروائي".
 
4- عصر جمع وتأليف الروايات التفسيريَّة
أوّل تدوين في هذه المجموعة عند الشيعة هو الكتاب المنسوب إلى الإمام عليّ عليه السلام ، والّذي ورد على شكل رواية مفصّلة في بداية تفسير النعماني1.
 
وهناك كتاب آخر، هو مصحف عليّ بن أبي طالب، الّذي جاء فيه تأويل القرآن والتفسير وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ وهو مرتّب على حسب النزول، وإن كان هذا الكتاب ليس في متناول أيدينا الآن2.
 
ثمّ التفسير المنسوب إلى الإمام الباقر عليه السلام (57 114هـ) المعروف بتفسير عليّ بن إبراهيم القمّي المنقول عن طريق أبي حمزة الثمالي وأبي الجارود، والتفسير المنسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام (83 148هـ)، وتفسير فرات


1- قد تُذكر هذه الرسالة بعنوان رسالة المحكم والمتشابه، وتُنسب إلى السيّد المرتضى، وقد رويت في بحار الأنوار (المجلّدات المختصّة بالقرآن).
2- نظر: بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 89، ص 40.
 
 
 
 
97
 

77

الدرس الثامن: منهج التفسير الروائي للقرآن الكريم

الكوفي (كان حيّاً في سنة 307هـ)، والتفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السلام (232 260هـ).
 
وقد جمعت الروايات الفقهيّة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام في مجاميع روائية مثل: الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار, كما دُوِّن في هذا الوقت تفسير جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري (ت 320هـ)، وكذلك الصحاح الستّة لأهل السنّة.
 
ثمّ واجهت حركة تدوين التفاسير ركوداً نسبيّاً من القرن الخامس إلى التاسع الهجري, فيما برزت التفاسير العقليّة والاجتهاديّة.
 
وفي عصر كتابة التفاسير الجديدة، برز الاهتمام بالروايات التفسيريّة والّتي عادة ما تُبحث خلال التفسير أو بصورة منفصلة؛ كما فعل العلّامة الطباطبائي حيث يذكر البحث الروائي بعد كلّ مجموعة من الآيات.
 
ملاحظة: لم تسلم الروايات التفسيريّة في عصر التدوين والجمع من ظاهرة الوضع، ووجود الإسرائيليات وتسلّل بعض الروايات الضعيفة؛ وهذا ما يستوجب الحذر والدقَّة عند الاستفادة من بعض الكتب الروائيّة.
 
مكانة الروايات في التفسير
يمكن تقسيم آراء العلماء حول مكانة وحدود الاستفادة من الروايات في التفسير إلى ثلاثة آراء:
 
1- استقلال القرآن وعدم احتياجه إلى الأحاديث في التفسير:
ومنشأ هذا الرأي هو أنّ القرآن نزل بلسانٍ عربي مبين، وأنّ العقل يكفي لفهم القرآن ولا يحتاج إلى الأحاديث لتفسيره.


 
99
 

78

الدرس الثامن: منهج التفسير الروائي للقرآن الكريم

2- عدم جواز تفسير القرآن إلّا بالروايات:
وهو الرأي المتطرِّف المنسوب إلى الأخباريين، وقد ناقشناه في مبحث تفسير القرآن بالقرآن.
 
3- اتخاذ الروايات وسيلة وقرينة لتفسير آيات القرآن:
وهو الرأي المعتدل والمختار، والّذي يعتبر الروايات الشريفة قرائن لتفسير القرآن، وأدوات لتوضيح معاني ومقاصد الآيات، ولها استخدامات متنوّعة في التفسير، كما هو الحال بالنسبة إلى القرائن العقلية وآيات القرآن. فأحاديث أهل البيت عليهم السلام لا يمكن أن تفترق عن القرآن لأنّه الأصل والروايات هي الفرع لذلك الأصل.
 
وفي الختام يُمكن أن يُقال إنّ سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام تعتبر مصدراً لتفسير القرآن من جهة، ومن جهةٍ أخرى تكون قرينة ووسيلة للتفسير ولا يوجد تنافي بين الإثنين.


1- سورة النحل، الآية: 44.
 
 
99
 

79

الدرس الثامن: منهج التفسير الروائي للقرآن الكريم

 خلاصة الدرس
ـ المقصود من الرواية في "منهج التفسير الروائي" هو السُنّة نفسها قول وفعل وتقرير المعصوم عليه السلام وتشمل سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام.
 
ـ بدأ التفسير الروائي في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم واستمرّ إلى زمن أهل البيت عليهم السلام والصحابة، الّذين نقلوا الروايات التفسيريّة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الكثير من أقوالهم، ثمّ جمعت في مجاميع تفسيريّة.
 
ـ هناك ثلاثة آراء رئيسة بالنسبة إلى مكانة الأحاديث في تفسير القرآن:
1- استقلال القرآن وعدم حاجته إلى الأحاديث.
 
2- عدم جواز تفسير القرآن إلّا بالأحاديث.
 
3- استخدام الروايات كوسيلة وقرينة في التفسير.
 
ولكلٍّ من هذه الآراء أدلّة خاصّة تعرّضنا لها بشكلٍ إجمالي.
 
 
 
 
100

 

80

الدرس التاسع: ملاحظات على التفسير الروائي

أهداف الدرس

1ـ أن يتعرّف الطالب إلى آفّات التفسير الروائي
2- أن يطّلع على بعض كتب التفسير الروائي
3- أن يطّلع على نموذج من أصحاب التفسير الروائي
 
 
 
101
 

81

الدرس التاسع: ملاحظات على التفسير الروائي

 تمهيد
علمنا أنّ التفسير النقليّ يشمل ما كان تفسيراً للقرآن بالقرآن، وما كان تفسيراً للقرآن بالسنّة، وما كان موقوفاً على الصحابة، أو المرويّ عن التابعين، أمّا تفسير القرآن بالقرآن بعد وضوح الدلالة فهو ممّا لا خلاف فيه، وكذلك بما ثبت من السنّة الصحيحة.

وأمّا ما أُضيف إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى أحد الأئمّة الأطهار عليهم السلام ، وكان في سنده ضعف أو في متنه وهن، فذلك مردود غير مقبول، ما دام لم تصحّ نسبته إلى المعصوم عليه السلام.

وأمّا تفسير القرآن بالمروي عن الصحابة والتابعين، فقد تسرّب إليه الخلل، وتطرّق إليه الضعف والوهن الكثير، إلى حدّ كاد يفقدنا الثقة بكلّ ما روي من ذلك.

أسباب الوهن في التفسير الروائي
وعلى أيّ تقدير فأسباب الوهن في التفسير الروائي تعود إلى الأمور الثلاثة التالية:
 
 
103
 
 

 


82

الدرس التاسع: ملاحظات على التفسير الروائي

1- ضعف الأسانيد
ممّا يوجب الوهن في التفسير الروائي، ضعف الأسانيد بكثرة المجاهيل أو ضعاف الحال أو الإرسال أو حذف الإسناد رأساً، وما إلى ذلك ممّا يوجب ضعف الطريق في الحديث المأثور. 
 
2- الوضع في التفسير
 كان الوضع والدسّ من أهمّ أسباب الوهن في التفسير الروائي، وكانت الدواعي متوفّرة للدّسّ والاختلاق في المأثور من التفسير، إلى جنب الوضع في الحديث، فهناك أسباب سياسيّة وأخرى: مذهبيّة وكلاميّة، وربّما عاطفيّة.
 
وقد تفعّل ذلك على يد معاوية، حيث كان يجعل الجعائل على وضع الحديث أو قلبه تمشية لسياسته الغاشمة ذلك الحين، وراج ذلك طوال عهد الأمويّين وبعدهم في عهد العبّاسيين.
 
وأمّا أهم أسباب الوضع بشكل عامّ:
وهذه الأسباب الّتي سنوردها لها تأثير بشكل ولو غير مباشر على الأحاديث الّتي تفسّر القرآن الكريم أو ترتبط به بوجه، وهي:
 
1ـ ما وضعه الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غِشّاً ونفاقاً، وقصدهم بذلك إفساد الدِّين وإيقاع الخلاف والافتراق بين المسلمين، قال حمّاد بن زيد: وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث1 ، وروى ابن الجوزيّ بإسناده إلى حمّاد بن زيد، يقول: وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة عشر ألف حديث2.
 
وهذا يعني أن هناك عدداً من الأحاديث لا يمكن الاستدلال بها في التفسير.
 

1- أضواء على السنّة المحمّدية، ص221.
2- الموضوعات لابن الجوزي: ج1، ص37 38.
 
 
104

 

83

الدرس التاسع: ملاحظات على التفسير الروائي

2ـ الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدِّين وفروعه، فقد جعل العديد من أصحاب المذاهب يستفرغ ما بوسعه لإثبات مذهبه ودعم عقيدته.
 
3ـ وضع الحديث تزلّفاً لدى الأمراء، فمثلاً كان الرشيد يعجبه الحمام واللهو به، فأُهدي إليه حمام، فروى له أبو البختريّ عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا سبق إلّا في خفّ أو حافر أو جناح. فزاد جناح1.
 
4ـ الوضع نزولاً مع سياسة الطغاة، فقد حثّ معاوية قوماً من الصحابة والتابعين، على رواية أخبار قبيحة في الإمام عليّ عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم أموالاً طائلة مقابل ذلك، ومن هؤلاء: أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.
 
5ـ الوضع نزولاً مع رغبة العامّة، ورغبة في ما بأيديهم من حطام الدنيا. وهذه مهنة القصّاصين. وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "قد كثرت عليّ الكذّابة وستكثر. فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار. فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنّتي، فما وافق كتاب الله وسنّتي فخذوه، وما خالف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به"2.
 
3- الإسرائيليات
كانت العرب منذ أوّل يومها تزعم أنّ أهل الكتاب، ولا سيّما اليهود القاطنين بين أظهرهم، أهل دين وثقافة ومعرفة بشؤون الحياة، ومن ثمّ كانوا يراجعونهم فيما تتوق إليه نفوسهم في معرفة شؤون الخليقة وتواريخ الأمم السالفة والأنبياء وما إلى ذلك.


1- تفسير القرطبي، ج1، ص79-80.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 2، ص 225.
 
 
105

 

84

الدرس التاسع: ملاحظات على التفسير الروائي

وبعد ظهور الإسلام حثّ القرآن الكريم العرب على مسائلة أهل الذكر والكتاب بالنسبة إلى علامات نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾1.
 
وقد حسب بعض المسلمين الأوائل، أنّ ذلك تجويز لهم أيضاً في مراجعة اليهود، وسؤالهم عن بعض شؤون الشريعة ومعارفها.
 
من هنا جاء النهي عن مراجعة أهل الكتاب من القرآن والسنّة2.
 
ومن أشهر من روى الإسرائيليات:
1ـ عبد الله بن سلام: كان حبراً من أحبار اليهود، فأسلم عند مقدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وكان عبد الله بن سلام ممّن يحوك الأحاديث ليستجلب أنظار العامّة ليرفع منزلته لديهم، من ذلك ما حاكه حول صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة، فكان يذكر من أوصاف الرسول الراهنة، ويقول: وجدتها كذلك في التوارة3 ، وكان يدّعي أنّه أعلم اليهود وأخبرهم بكتب السالفين.
 
2ـ تميم بن أوس الداريّ: جاء مع عشرة نفر من بني عبد الدار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد منصرفه من تبوك سنة (9هـ) فأسلم مع أخيه وكانا نصرانيّين، وقيل عنه: كان تميم راهب عصره وعابد فلسطين وقد بالغ أصحاب التراجم بشأنه وذكروا له كرامات ومناقب من نسج الخيال، وهذا الكاهن المسيحي والّذي بقيت معه نزعته المسيحيّة إلى ما بعد إسلامه هو أوّل من سنّ القصّ في المسجد، وذلك على عهد عمر بن الخطاب. 
 
3ـ كعب الأحبار: من كبار أحبار اليهود، كان أبوه كاهناً، ولد قبل الهجرة


1- سورة الأنبياء، الآية: 7.
2- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 596ـ 597.
3- أنظر: الطبقات، ابن سعد، ج1، ص 87.
 
 
 
106
 

85

الدرس التاسع: ملاحظات على التفسير الروائي

باثنتين وسبعين سنة، وأسلم بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل خلافة عمر، وهلك أيّام عثمان سنة (32هـ).
 
اصطفاه معاوية وجعله من مستشاريه، وأمره أن يقصّ في بلاد الشام، وبذلك أصبح أقدم الأخباريين في موضوع الأحاديث اليهوديّة والمتسرّبة إلى الإسلام والّتي تحتوي على طائفة من أقاصيص التلمود الإسرائيليّات وما لبثت هذه الروايات أن أصبحت جزءاً من الأخبار التفسيريّة والتاريخيّة في حياة المسلمين.
 
4ـ عبد الله بن عمرو بن العاص: أسلم قبل أبيه عمرو، وعمرو أسلم قبل الفتح سنة ثمان، ولد عبد الله قبل الهجرة بسبع سنين، ومات سنة (65هـ).
 
هو أوّل من أشاع الإسرائيليّات بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ويبرّر ذلك بما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: "حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"1.
 
5ـ أبو هريرة: لم يُعرف أصله ولا نسبه ونشأته، ولا شيء من تاريخه قبل إسلامه، غير ما ذكر هو عن نفسه، من أنّه كان يلعب بهرّةٍ صغيرة وأنّه كان معدماً فقيراً، يخدم الناس على شبع بطنه.
 
أخذ العلماء على أبي هريرة كثرة حديثه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، مع قلّة صحبته وقلّة بضاعته حينذاك، ومن ثمّ رموه بالتدليس والاختلاق. كان يسمع الحديث من أحد الصحابة ثمّ يدلّس، فيرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
 
وكان كثيراً ما يسمع الحديث من أهل الكتاب ولا سيّما كعب الأحبار، فيسنده إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد كبار صحابته تدليساً وتمويهاً على العامّة.
 
6ـ وهب بن منبّه: ولد سنة (34هـ) ومات سنة (110هـ).


1- صحيح البخاري، ج 4، ص 207.
 
 
107

86

الدرس التاسع: ملاحظات على التفسير الروائي

7ـ محمّد بن كعب القرطبي: ولد سنة (39هـ) ومات سنة (117هـ).
 
8ـ ابن جريج: من أصل رومي نصراني (80ـ 150هـ)1.
 
أهمّ كتب التفسير الروائي
أمّا عند الشيعة - غير ما تقدّم في ص 99- 100, تفسير فرات الكوفي (كان حيّاً سنة 307هـ)، وتفسير العيّاشي (ت: حوالي 320هـ)، تفسير النعماني (ت: 342هـ)، وتفسير الصافي (للفيض الكاشاني، ت: 1091هـ)، والبرهان (السيد هاشم البحراني، ت: 1107هـ)، ونور الثقلين (لعلي بن جمعة الحويزي، ت: 1112هـ).
 
أمّا عند السنّة فهناك جامع البيان لإبن جرير (ذهب البعض إلى كونه من الشيعة) (ت: 310هـ)، والدّر المنثور في التفسير بالمأثور (لجلال الدِّين السيوطي، ت: 911هـ)، وهذان التفسيران يحتويان على روايات ضعيفة وموضوعة فضلاً عن الإسرائيليات، وتفسير ابن كثير (ت: 774هـ).
 
نموذج عن أصحاب التفسير بالمأثور
الطبري صاحب جامع البيان
هو أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (224 310هـ) نسبة إلى طبرستان، ولد بآمل من بلاد مازندران إيران، رحل إلى بغداد واستقرّ بها ونشر علمه هناك حتّى توفّاه الله.
 
يعتبره بعضهم أباً للتفسير وكذلك للتاريخ لجامعيّة تفسيره واستقصائه لآراء السلف وأقوالهم وعلى الرغم من ذكره للإسرائيليّات، واحتوائه على الروايات 


1- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 621 627.

 
108

87

الدرس التاسع: ملاحظات على التفسير الروائي

الضعاف، يُعدّ من أهمّ المراجع التفسيريّة الجامعة لآراء السلف عند السنّة، ولولاه لربّما ضاعت أكثر تلكم الآراء.
 
منهجه في التفسير ونقد الآراء
إنّه يذكر الآية أوّلاً ثمّ يعقّبها بتفسير غريب اللغة فيها، أو إعراب مشكلها، وربّما يستشهد بأشعار العرب وأمثالهم، وبعد ذلك يتعرّض لتأويل الآية، أي تفسيرها على الوجه الراجح، فيأتي بحديث أو قول مأثور إن كان هناك رأي واحد، وأمّا إذا ازدحمت الآراء، فعند ذلك يذكر كلّ تأويل على حدة، وربّما رجّح لدى تضارب الآراء أحدهما وأتى بمرجّحاته. 
 
موقفه تجاه أهل الرأي في التفسير
إنّه يقف في وجه أهل الرأي في التفسير موقفاً عنيفاً، ويرى ذلك مخالفة بيّنة لظاهر دلائل الشرع، ويشدّد في ضرورة الرجوع إلى العلم المأثور عن الصحابة والتابعين، وأنّ ذلك وحده هو علامة التفسير الصحيح.
 
موقفه تجاه أهل الظاهر
كان الطبري إذا رأى من ظاهر النقل ما يتنافى مع العقل، يعمد إلى التأويل بوجهٍ مقبول، ويستنكر على أولئك الّذين يقتنعون بظاهر التعبير من غير تعقّل أو تحصيل.
 
نراه عند تفسير الاستواء من سورة البقرة1 يواجه آراءً يستنكرها ويؤوّل الآية بما لا يستدعي التحيّز في ذاته تعالى، الأمر الّذي استنكره عليه مشايخ الحنابلة ببغداد.


1- سورة البقرة، الآية: 29.
 
 
109

88

الدرس التاسع: ملاحظات على التفسير الروائي

موضع ولائه لآل البيت عليهم السلام 
لم نجد علماً من أعلام الأمّة إلّا وهو خاضع لولاء آل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا يقول عنه الذهبي: الإمام الجليل المفسّر، ثقة صادق، فيه تشيّع وموالاة لا تضر1 أي تشيّع من غير مغالاة. ومن ثمّ فآثار هذا التشيّع والولاء بادية أثناء تفسيره الجامع وكذا تاريخه الكبير، ومن الشواهد على ذلك تفسيره لآية التطهير (الأحزاب: 33) حيث يروي ستّة عشر حديثاً مسنداً مؤكّداً أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين خاصّة2، وصنّف كتاباً في مجلّدين بشأن حديث الغدير، وله تأليف آخر بشأن حديث "الطير المشوي" في فضل الإمام عليّ عليه السلام.
 
وذُكر أنّه دُفن ليلاً خوفاً من العامّة، لأنّه كان يُتّهم بالتشيّع، ومع ذلك اجتمع على جنازته من لا يُحصى عددهم.
 
خلاصة الدرس
ـ من الآفّات الكبيرة للتفسير الروائي تسرّب الخلل إليه، والضعف والوهن، حتّى كاد يصل الأمر إلى فقدان الثقة بكلّ ما روي في ذلك.
 
ـ أهمّ أسباب الوهن في التفسير النقلي:
 
ضعف الأسانيد.
 
الوضع في التفسير وأسباب الوضع كثيرة، منها:
 
1- ما وضعه الزنادقة اللابسون لباس الإسلام نفاقاً.
 
2- الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدِّين وفروعه.
 

1- ميزان الاعتدال، أبو عبد الله الذهبي، ج 3، ص 498 499، رقم 7306.
2- جامع البيان في تفسير القرآن، أبو جعفر بن جرير الطبري، ج 22، ص 5 7، دار المعرفة، بيروت، 1406هـ.
 
 
110
 

89

الدرس التاسع: ملاحظات على التفسير الروائي

3- وضع الحديث تزلّفاً لدى الأمراء.

4- الوضع نزولاً مع رغبة العامّة.

ج - الإسرائيليّات، ومن أقطاب مُحدّثي الروايات الإسرائيلية: عبد الله بن سلام، وتميم بن أوس الداري، وكعب الأحبار، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة، ووهب بن منبّه، ومحمّد بن كعب القرطبي، وابن جريج.

ـ ذكرنا أهمّ كتب التفسير الروائية عند الشيعة والسنّة.

ـ ذكرنا نموذجاً تطبيقياً لأشهر كتب التفسير الروائي وهو تفسير ابن جرير الطبري.ها.
 

 
 
111
 

90

الدرس العاشر: التفسير في عهد الصحابة (ابن عباس نموذجاً)

أهداف الدرس

1-أن يعدِّد الطالب إلى أهمّ الصحابة المعروفين في التفسير
2- أن يطّلع على ابن عباس نموذجاً في التفسير
 
 
 
 
113

91

الدرس العاشر: التفسير في عهد الصحابة (ابن عباس نموذجاً)

تمهيد
لا شكّ أنّ الصحابة، ممّن ﴿رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾1 كانوا هم مراجع الأمّة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانوا حاملي لوائه ومصادر شريعته إلى الملأ، نعم كانوا على درجات من العلم والفضيلة، ولا يشكّ أحد بأنّ الإمام عليّ عليه السلام الّذي ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير2 كان في صدارة هؤلاء الصحابة والتلامذة النجباء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعرف من أسباب النزول ما لا يعرفه أحد لملازمته للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
 
المفسّرون من الصحابة
اشتهر بالتفسير من الصحابة أربعة، لا خامس لهم في مثل مقامهم في العلم بمعاني القرآن، وهم؛ عليّ بن أبي طالب عليهما السلام: وكان رأساً وأعلم الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وعبد الله بن عباس، كان أصغرهم وأوسعهم باعاً في نشر التفسير.
 
ولهذا نرى أنّه من الضروري الإطلالة الإجمالية على دور هذه الشخصيّات في علم التفسير، ونختم الكلام بنموذج شبه تفصيلي.
 

1- أنظر سور: المائدة، الآية:119، المجادلة، الآية: 22، البيّنة، الآية:8، التوبة، الآية:100.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 3 (الشقشقية).
 
 
115

 

92

الدرس العاشر: التفسير في عهد الصحابة (ابن عباس نموذجاً)

من أعلم الصحابة بمعاني القرآن
1ـ الإمام عليّ بن أبي طالب عليهما السلام 
قال ابن عباس: جلّ ما تعلّمت من التفسير، من عليّ بن أبي طالب عليه السلام. وقال: عليٌّ عَلِمَ علماً علّمه رسول الله، ورسول الله علّمه الله فعِلم النبيّ من عِلم الله، وعلم عليّ من علم النبيّ، وعلمي من علم عليّ عليه السلام. وما علمي وعلم أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في علم عليّ إلّا كقطرة في سبعة أبحر1.
 
وقال ابن مسعود: إنّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلّا وله ظهر وبطن، وإنّ عليّ بن أبي طالب عنده من الظاهر والباطن2.
 
ويصف الإمام عليه السلام نفسه وموضعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: "سلوني عن كتاب الله، فإنّه ليست آية إلّا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار، في سهل أو جبل"3. "والله ما نزلت آية إلّا وقد علمت فيمَ نزلت، وأين نزلت إنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً"4.
 
2ـ عبد الله مسعود
هو من السابقين إلى الإيمان، وأوّل من جهر بالقرآن بمكّة، وأوذي في الله من أجل ذلك، وكان من أحفظ الناس لكتاب الله، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يُحبُّ أن يسمع القرآن منه، وكانت له مكانة سامية في التفسير لذا كان يقول: "والّذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلّا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت" وروي عنه الكثير لا سيّما من قبل كبار المفسِّرين من التابعين، والمتّفق عليه أنّه أخذ العلم من عليّ عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس من غيره بتاتاً. وكان ابن مسعود ممّن


1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 89، ص 105 106.
2- الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، ج 2، ص 509، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ.
3- تفسير العيّاشي، محمّد بن مسعود العيّاشي، ج 8، ص 283، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران.
4- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 1، ص 190.
 
 
 
116

93

الدرس العاشر: التفسير في عهد الصحابة (ابن عباس نموذجاً)

شدّ وثاقه بولاء آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لم يشذّ عن طريقتهم المُثلى منذ أوّل يومه إلى آخر أيّام حياته1.
 
3ـ أُبيّ بن كعب
أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار.
 
عدّه الشيخ الطوسي رحمه الله في رجاله2 بهذا العنوان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال يكنّى أبا المنذر شهد العقبة مع السبعين وكان يكتب الوحي، آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. شهد بدراً والعقبة وبايع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومثله بحذف اسم آبائه إلى كنيته ما في الخلاصة في قسم المعتمدين156 ، وقد نقل عنه في التفسير الكثير.
 
4ـ عبد الله بن عباس
حبر الأمّة وترجمان القرآن وأعلم الناس بالتفسير تنزيله وتأويله تلميذ الإمام عليّ عليه السلام ، وقد بلغ من العلم مبلغاً قال في حقّه الإمام عليّ عليه السلام: "كأنّما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق"3. ولا غرو في ذلك فإنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد دعا له بقوله: "اللهم فقّهه في الدِّين وعلّمه التأويل"4 وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ولكلّ شيء فارس، وفارس القرآن ابن عباس"5.
 
ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وتربّى في حِجر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ الإمام عليّ عليه السلام ،


1- التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 1، ص 193.
2- رجال الطوسي، ص22، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1415هـ.
3- خلاصة الأقوال، العلّامة الحلّي، ج1، ص66، مؤسّسة نشر الفقاهة، ط1، 1417هـ.
4- م. ن، ج 3، ص 19.
5- م. ن.
6- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 22، ص 343.
 
 
117
 

94

الدرس العاشر: التفسير في عهد الصحابة (ابن عباس نموذجاً)

ومن ثمّ كان من المتفانين في ولاء الإمام عليه السلام.
 
وكان يراجع سائر الاصحاب ممّن يحتمل عنده شيء من أحاديث الرسول وسُننه، فكان يأتي أبواب الأنصار ممّن عنده علم من الرسول، ويستطرق الأبواب لكبار الصحابة ليسأل عمّا يريد. قيل لطاووس1: لزمْتَ هذا الغلام يعني ابن عباس لكونه أصغر الصحابة يومذاك وتركْتَ الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: "إنّي رأيت سبعين رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذا تدارؤوا في أمر صاروا إلى قول ابن عباس"2.
 
وله في فضائل أهل البيت ولا سيّما الإمام عليّ عليه السلام أقوال وآثار باقية، إلى جنب مواقفه الحاسمة، ويكفيك أنّه من رواة حديث الغدير، مفسِّراً له بالخلافة والوصاية بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكان الإمام الباقر عليه السلام يحبّه حبّاً شديداً، وقد كُفّ بصره بعد واقعة الطّف، لكثرة بكائه على مصائب أهل البيت عليهم السلام ، وكانت وفاته سنة (68هـ)3.
 
أ- توسّعه في التفسير 
لم تمض العشرة الأولى من وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلّا ونرى ابن عبّاس قد تفرّغ للتفسير واستنباط معاني القرآن. بينما سائر الصحابة كانت قد أشغلتهم شؤون شتّى، نراه صارفاً همّته في فهم القرآن وتعليمه واستنباط معانيه وبيانه، فكان يستطرق أبواب العلماء من الصحابة الكبار ولا سيّما من الإمام عليّ عليه السلام باب علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان يعقد الحلقات القرآنية في مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الإمام عليّ عليه السلام.
 
لكن بموازاة انتشار العلم منه في الآفاق، راج الوضع على لسانه ونسبت إليه
 

1- هو طاووس بن كيسان اليماني، وروي أنّه أدرك خمسين من الصحابة. عدّة الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب السجّاد عليه السلام، مات رحمه الله تعالى سنة 106 هـ. أنظر: رجال الطوسي، ج3، ص 94.
2- أنظر: الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، ج 2، ص 330 334 رقم: 4781.
3- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 1، ص 198ـ 203.
 
 
 
118

95

الدرس العاشر: التفسير في عهد الصحابة (ابن عباس نموذجاً)

الكثير من الروايات، لمكان شهرته ومعرفته في التفسير. ومن ثمّ فإنّ التشكيك في أكثر المأثور عنه أمر محتمل.
 
ب- منهجه في التفسير
أخذ ابن عباس العلم عن الإمام عليّ عليه السلام وتتلمذ على يديه وتلقّى التفسير عنه سواء في أصول مبانيه أم في فروع معانيه. وسار على منهج مستقيم في استنباط معاني القرآن، ولم يَحد عن منهج السلف الصالح في تفسير القرآن وفهم معانيه.
 
وحدّد ابن عباس معالم منهجه في التفسير بقوله: "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذَر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلّا الله"1
 
فالقرآن فيه مواعظ وتكاليف يجب على المسلمين معرفتها والعمل بها، وفيه غريب اللغة ومشكلها، ممّا يمكن فهمها وحلّ مُعضلِها، بمراجعة الفصيح من كلام العرب، وفيه مسائل عن المبدأ والمعاد وفلسفة الوجود لا بدّ من الرجوع في تفسيرها إلى أهل العلم والمعرفة، وبقي المتشابه ما لا يعلمه إلّا الله أو من أطلعهم الله عليها وهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والصفوة من أهل بيته عليهم السلام.
 
وعلى ضوء هذا التقسيم الرباعي يمكننا الوقوف على مباني التفسير الّتي استند إليها ابن عباس في تفسيره للقرآن الكريم:
 
1- مراجعة ذات القرآن في فهم مراداته
إذ خير دليل على مراد أيّ متكلّم، هي القرائن اللفظيّة الّتي تحفّ كلامه، والّتي جعلها مسانيد نطقه وبيانه، وهكذا بالنسبة إلى القرائن المنفصلة (من دلائل العقل..)، والقرآن فيه من العموم ما كان تخصيصه في بيان آخر، أو
 

1- تفسير الطبري، أبو جعفر بن جرير الطبري، ج 1، ص 26.
 
 
119

96

الدرس العاشر: التفسير في عهد الصحابة (ابن عباس نموذجاً)

تقييد لمطلقاته، وليس لأيّ مفسِّر أن يأخذ بظاهر آية ما لم يفحص عن صوارفها وسائر بيانات القرآن الّتي جاءت في غير آية.
 
ومن هذا القبيل ما رواه السيوطي عن ابن عباس، في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾1 قال: "كنتم أمواتاً قبل أن يخلقكم؛ فهذه ميتة، ثمّ أحياكم, فهذه حياة، ثمّ يميتكم فترجعون إلى القبور؛ فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة؛ فهذه حياة. فهما ميتتان وحياتان، فهو قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾2.
 
2- رعايته لأسباب النزول
والّتي لها دورها الخطير في فهم معاني القرآن؛ حيث الآيات والسور نزلت نجوماً، وفي فترات وشؤون يختلف بعضها عن بعض، ولولا الوقوف على تلك الأسباب الواردة في شأن النزول لما أمكن فهم مرامي الآيات. ولهذا اهتمّ ابن عباس واعتمد لفهم معاني القرآن على معرفة أسباب النزول، وكان يسأل ويستقصي عن الأسباب والأشخاص الّذين نزل فيهم قرآن وسائر ما يمسّ شأن النزول.
 
عن ابن عباس قال: لم أزل حريصاً أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اللّتين قال الله تعالى بشأنهما: ﴿إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا.....﴾3 حتّى حجّ عمر وحججت معه... فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! هما: عائشة وحفصة4.
 
وبلغ به الأمر في تقصّيه لأسباب النزول أن يعرف الحضريّ من السفريّ، والنهاريّ من الليليّ، وفيم أُنزل، وفيمن أُنزل، ومتى أُنزل، وأين أُنزل، وأوّل ما نزل، وآخر ما نزل...5
 

1- سورة غافر، الآية: 11.
2- سورة البقرة، الآية: 28، وراجع الدّر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين السيوطي: ج5، ص347، دار الفكر، ط1، 1403هـ.
3- سورة التحريم، الآية: 4.
4- الدّر المنثور، جلال الدين السيوطي، ج 6، ص 242.
5- أنظر: الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 1، ص 51ـ 57 و60ـ 64، و68ـ 76 وغير ذلك.
 
 
 
 
120

97

الدرس العاشر: التفسير في عهد الصحابة (ابن عباس نموذجاً)

3- اعتماده المأثور من التفسير المرويّ
وهذا واضح من خلال تتبّعه آثار الرسول وأحاديثه، واستطراقه لأبواب الصحابة العلماء، ليأخذ منهم ما حفظوه من سنّة النبيّ وسيرته الكريمة، وقوله: "ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام "، إنّما يعني اعتماد المأثور من التفسير1.
 
4- اضطلاعه بالأدب الرفيع
فقد نزل القرآن بالفصحى من لغة العرب، فما أشكل من فهم معاني كلماته، لا بدّ لحلّها من مراجعة الفصيح من كلام العرب المعاصر لنزول القرآن.
 
وكان ابن عباس صاحب ذوق أدبي رفيع وثقافة لغويّة عالية، فكان يقول: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن، الّذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها، فالتمسنا معرفة ذلك منه2. فقد سُئِل ابن عباس عن قوله تعالى: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ﴾3. قال: العزون: الحِلَق الرقاق، وعن قوله تعالى: ﴿إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِه﴾4 قال: نُضجه وبلاغه، وعن﴿الْفُلْكِ الْمَشْحُون﴾5 ، قال: السفينة الموقرة الممتلئة، وعن ﴿جَدُّ رَبِّنَا﴾6 ، قال: عظمة ربّنا، وفي كلّ ذلك استشهد بقول الشعراء7.
 
تفسير ابن عباس
هناك تفاسير منسوبة إلى ابن عباس، منها: ما رواه مجاهد بن جبر برواية
 

1- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 1، ص 210.
2- م. ن، ص 212.
3- سورة المعارج، الآية:37.
4- سورة الأنعام، الآية: 99.
5- سورة الشعراء، الآية: 119.
6- سورة الجن، الآية: 3.
7- أنظر: الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 2، ص 56ـ 88.

 
121
 

98

الدرس العاشر: التفسير في عهد الصحابة (ابن عباس نموذجاً)

حميد بن قيس، وأبي نجيع يسار الثقفي، وقد طُبع أخيراً باهتمام مجمع البحوث الإسلامية بباكستان سنة (1367هـ)، والثاني: تفسير ابن عباس عن الصحابة، لأبي أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلوديّ المتوفى سنة (332هـ)، والثالث: تفسير ابن عباس الموسوم بـ "تنوير المقباس" من تفسير عبد الله بن عباس، في أربعة أجزاء، من تأليف محمّد بن يعقوب الفيروز آباديّ صاحب القاموس (729 817هـ)1
 
خلاصة الدرس
ـ كان الصحابة ممّن رضي الله عنهم مراجع الأمّة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى رأسهم الإمام عليّ عليه السلام في بيان معاني القرآن الكريم.
 
ـ اشتهر بالتفسير من الصحابة أربعة: الإمام عليّ عليه السلام وكان رأساً وأعلم الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن عباس.
 
ـ كلّ الشواهد التأريخية وما رواه ابن عباس تشير إلى أنّ ابن عباس أخذ علم التفسير عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليّ عليه السلام ، وهكذا عبد الله بن مسعود، وأُبي.
 
ـ أعتُبر ابن عباس حبر الأمّة وترجمان القرآن لسعة علومه واطلاعه على معاني القرآن وأسباب النزول.
 
ـ استند ابن عباس في تفسيره للقرآن إلى عدّة أمور هي:
 
1ـ مراجعة ذات القرآن في فهم مراداته.
 
2ـ رعايته لأسباب النزول.
 
3ـ اعتماده المأثور من التفسير المروي.
 
4ـ إضطلاعه بالأدب والشعر العربي الرفيع. 


1- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 1، ص 254ـ 256.
 
 
 
122
 

99

الدرس الحادي عشر: الدسائس الإسرائيلية في تفسير القرآن - نموذج تطبيقي

أهداف الدرس

1- أن يطّلع الطالب على نموذج من الإسرائيليات
2- أن يتعرّف إلى التفسير الصحيح للنموذج المذكور
 
 
 
 
123

100

الدرس الحادي عشر: الدسائس الإسرائيلية في تفسير القرآن - نموذج تطبيقي

الإسرائيليات في قصّة داوود عليه السلام 
من الإسرائيليات الّتي تحطّ من مقام الأنبياء عليهم السلام، وتُنافي عصمتهم، ما ذكره بعض المفسّرين في قصّة نبيّ الله داوود عليه السلام عند تفسير قوله تعالى:
 
﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾1.
 
فقد ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبغويّ، والسيوطيّ في الدّر المنثور2 من الأخبار ما تقشعرّ منه الأبدان، ولا يوافق عقلاً، ولا نقلاً، عن ابن عبّاس، ومجاهد، ووهب بن منبّه، وكعب الأحبار، والسدّيّ، وغيرهم ما مُحصَّلها: أنّ


1- سورة ص، الآيات: 21ـ 25.
2- الدر المنثور, جلال الدين السيوطي, ج5, ص300-302.
 
 
 
125

 

 


101

الدرس الحادي عشر: الدسائس الإسرائيلية في تفسير القرآن - نموذج تطبيقي

 
داوود عليه السلام حدّث نفسه؛ إن ابتُلي أن يعتصم، فقيل له: إنّك ستبتلى وستعلم اليوم الّذي تبتلى فيه، فخذ حذرك، فقيل له: هذا اليوم الّذي تبتلى فيه، فأخذ الزبور ، ودخل المحراب، وأغلق بابه، وأقعد خادمه على الباب، وقال: لا تأذن لأحد اليوم. فبينما هو يقرأ الزبور1، إذ جاء طائر مذهّب يدرج بين يديه، فدنا منه، فأمكن أن يأخذه، فطار فوقع على كوّة المحراب، فدنا منه ليأخذه، فطار، فأشرف عليه لينظر أين وقع، فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل...2، وكان زوجها غازياً في سبيل الله، فكتب داوود إلى رأس الغزاة: أن اجعله في حملة التابوت3، وكان حملة التابوت إمّا أن يُفتح عليهم، وإمّا أن يُقتلوا، فقدّمه في حملة التابوت، فقُتل.
 
وفي بعض هذه الروايات الباطلة: أنّه فعل ذلك ثلاث مرّات، حتّى قُتل في الثالثة، فلمّا انقضت عدّتها، خطبها داوود عليه السلام ، فتسوّر عليه الملكان، وكان ما كان، ممّا حكاه الله تعالى.
 
ولم يقف الأمر عند هذه الروايات الموقوفة على بعض الصحابة والتابعين، ومسلمة أهل الكتاب، بل جاء بعضها مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم !!
 
الكذب على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم 
ومن ثمّ يتبيّن لنا كذب هذه الرواية المنكرة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا نصدّق، بورود هذا عن المعصوم، وإنّما هي اختلاقات، وأكاذيب من إسرائيليات أهل الكتاب، وهل يشكّ مؤمن عاقل يقرّ بعصمة الأنبياء عليهم السلام ، في استحالة صدور هذا عن النبيّ داوود عليه السلام ، ثمّ يكون على لسان مَن؟ على لسان مَن كان حريصاً


1- كتاب داوود عليه السلام.
2- قمنا بحذف بعض العبارات مما لا يليق ذكره فضلاً عن نسبته إلى نبيّ عليه السلام.
3- صندوق فيه بعض آثار أنبياء بني إسرائيل، فكانوا يقدّمونه بين يدى الجيش كي ينصروا.
 
 
 
 
 
126
 
 


 

 

 
 
 
 
 
 


 

 


102

الدرس الحادي عشر: الدسائس الإسرائيلية في تفسير القرآن - نموذج تطبيقي

على تنزيه إخوانه الأنبياء عليهم السلام عمّا لا يليق بعصمتهم، وهو نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ومثل هذا التدبير السيّئ، والاسترسال فيه على ما رووا، لو صدر من رجل من سوقة الناس وعامّتهم، لاعتُبر أمراً مستهجناً مستقبحاً، فكيف يصدر من رسول جاء لهداية الناس، زكت نفسه، وطهرت سريرته، وعصمه الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو الأسوة الحسنة لمن أُرسل إليهم؟!!
 
ولو أنّ القصّة كانت صحيحة لذهبت بعصمة النبيّ داوود عليه السلام ، ولنفرت منه الناس، ولكان لهم العذر في عدم الإيمان به، فلا يحصل المقصد الّذي من أجله أرسل الرسل، وكيف يكون على هذه الحال من قال الله تعالى في شأنه: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾؟ قال ابن كثير في تفسيرها: "وإنّ له يوم القيامة لقربة يقرّبه الله عزّ وجلّ بها وحسن مرجع، وهو الدرجات العالية في الجنّة لنبوّته وعدله التامّ في مُلكه"1.
 
ولكي يستقيم هذا الباطل قالوا: إنّ المراد بالنعجة هي المرأة، وأنّ القصّة خرجت مخرج الرمز والإشارة، ورووا: أنّ الملكين لمّا سمعا حكم داوود، وقضاءه بظلم صاحب التسع والتسعين نعجة لصاحب النعجة، قالا له: وما جزاء من فعل ذلك؟ قال: يقطع هذا، وأشار إلى عنقه. وفي رواية: "يضرب من ها هنا، وها هنا، وها هنا وأشار إلى جبهته، وأنفه، وما تحته، فضحكا، وقالا،:أنت أحقّ بذلك منه، ثمّ صعدا".
 
وذكر البغويّ في تفسيره وغيره، عن وهب بن منبّه: أنّ داوود لمّا تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة، لا يرقأ دمعه ليلاً ونهاراً، وكان أصاب الخطيئة، وهو ابن سبعين سنة، فقسّم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيّام: يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسيح في الفيافي، والجبال، والسواحل،


 
1- تفسير ابن كثير، ج 4، ص 35.
 

 
127
 

103

الدرس الحادي عشر: الدسائس الإسرائيلية في تفسير القرآن - نموذج تطبيقي

ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه، فيساعدونه على ذلك. فإذا كان يوم نياحته يخرج في الفيافي، فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، ويبكي معه الشجر، والرمال، والطير، والوحش، حتّى يسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثمّ يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، وتبكي معه الجبال، والحجارة، والدوابّ، والطير، حتّى تسيل من بكائهم الأودية، ثمّ يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، ويبكي معه الحيتان، ودوابّ البحر وطير الماء والسباع1.
 
والحقّ: إنّ الآيات ليس فيها شيء ممّا ذكروا، وليس هذا في شيء من كتب الحديث المعتمدة والّتي عليها المعوّل، وليس هناك ما يصرف لفظ النعجة من حقيقته إلى مجازه، ولا ما يصرف القصّة عن ظاهرها إلى الرمز والإشارة.
 
وما أحسن ما قال الإمام القاضي عيّاض: "لا تلتفت إلى ما سطّره الأخباريّون من أهل الكتاب، الّذين بدّلوا، وغيّروا، ونقله بعض المفسِّرين، ولم ينصّ الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه، ولا ورد في حديث صحيح، والّذي نصّ عليه في قصّة داوود: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ وليس في قصّة داوود، وأوريا خبر ثابت2.
 
والمحقّقون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي، قال الداوديّ: ليس في قصّة داوود وأوريا خبر يثبت، ولا يُظنّ بنبيٍّ محبّةُ قتلِ مسلم، وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "من حدّث بحديث داوود على ما يرويه القُصّاص جلدته مائة وستّين جلدة"، وذلك حدّ الفرية على الأنبياء3، وهذا الكلام مرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً4.
 

1- تفسير البغوي، ج 4، ص 57 58.
2- الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عيّاض، ج 2، ص 158، دار الفكر، بيروت، 1409هـ 1988م.
3- لأنّ حدّ القذف لغير الأنبياء عليهم السلام ثمانين، فرأى عليه السلام تضعيفه بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام وفي الكذب عليهم رمي لهم بما هم براء منه، ففيه معنى القذف لداود بالتعدّي على حرمات الأعراض والتحايل في سبيل ذلك.
4- أنظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 8، ص 472؛ بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 14، ص 29.
 
 
 
128

 

104

الدرس الحادي عشر: الدسائس الإسرائيلية في تفسير القرآن - نموذج تطبيقي

التفسير الصحيح للآيات
وإذا كان ما روي في تفسير هذه الآيات من الإسرائيليات الباطلة، فما التفسير الصحيح لها؟
 
والجواب: إنّ الذي أوضحه القرآن المجيد في هذا الشأن لا يتعدّى أنّ شخصين تسوّرا جدران محراب النبيّ داوود عليه السلام ليحتكما عنده، وأنّه فزع عند رؤيتهما ، ثم استمع إلى أقوال المشتكي الّذي قال: إنّ لأخيه تسع وتسعون نعجة وله نعجة واحدة، وإنّ أخاه طلب منه ضمّ هذه النعجة إلى بقيّة نعاجه، فأعطى النبي داوود عليه السلام الحقّ للمشتكي، واعتبر طلب الأخ ذلك من أخيه ظلماً وطغياناً، فالتفت النبي داود عليه السلام إلى المدّعي قبل أن يستمع كلام الآخر، وقال: من البديهي أنّه ظلمك بطلبه ضمّ نعجتك إلى نعاجه. 
 
على أيّة حال، فالظاهر أنّ طرفي الخصام اقتنعا بكلام النبي داوود عليه السلام وغادرا المكان. ولكن النبي داوود غرق في التفكير بعد مغادرتهما، رغم أنّه كان يعتقد أنّه قضى بالعدل بين المتخاصمين ، فلو كان الطرف الثاني مخالفاً لإدعاءات الطرف الأوّل - أي المدّعي - لكان قد اعترض عليه، إذاً فسكوته هو خير دليل على أنّ القضية هي كما طرحها المدّعي. ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على النبي داوود عليه السلام أن يتريّث في إصدار الأحكام ولا يتعجّل في إصدارها، وكان عليه أن يسأل الطرف الثاني أيضاً ثمّ يحكم بينهما، فلذا ندم كثيراً على عمله هذا، وظنّ أنّما فتنه الباري عزّ وجل بهذه الحادثة. وهنا أدركته طبيعته، وهي أنّه أوّاب، إذ طلب العفو والمغفرة من ربّه وخرّ راكعاً تائباً إلى الله العزيز الحكيم.
 
وهنا تبرز مسألتان دقيقتان أيضاً: الأولى مسألة الامتحان ، والثانية مسألة الاستغفار. القرآن الكريم لم يفصّل الحديث بشأن هاتين المسألتين، إلّا أنّ الدلائل الموجودة في هذه الآيات والروايات الإسلامية الواردة بشأن تفسيرها
 
 
129
 

105

الدرس الحادي عشر: الدسائس الإسرائيلية في تفسير القرآن - نموذج تطبيقي

 تقول: إنّ النبي داوود عليه السلام كان ذا علم واسع وذا مهارة فائقة في أمر القضاء، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحنه، فلذا أوجد له مثل تلك الظروف غير الاعتيادية ، كدخول الشخصين عليه من طريق غير اعتيادي وغير مألوف، إذ تسوّرا جدران محرابه، وابتلائه بالاستعجال في إصدار الحكم قبل الاستماع إلى أقوال الطرف الثاني ، رغم أنّ حكمه كان عادلاً. ورغم أنّه انتبه بسرعة إلى زلّته، وأصلحها قبل مضي الوقت ، ولكن مهما كان فإنّ العمل الّذي قام به لا يليق بمقام النبوّة الرفيع، ولهذا فإنّ استغفاره إنّما جاء لتركه العمل بالأولى، وإنّ الله شمله بعفوه ومغفرته. والشاهد على هذا التفسير هو الآية التي تأتي مباشرة بعد تلك الآيات، والتي تخاطب النبي داوود عليه السلام: يا داوود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. وهذه الآية تبيّن أنّ زلة النبي داوود كانت في كيفية قضائه وحكمه. وبهذا الشكل فإنّ الآيات المذكورة أعلاه لا تذكر شيئاً يقلّل من شأن ومقام هذا النبي الكبير1.
 
خلاصة الدرس
ـ من الإسرائيليات الداخلة إلى التراث الإسلامي في تفسير القرآن الكريم قصّة النبيّ داوود عليه السلام وحاشا لنبيٍّ أن يقع بمثل ما ورد.
 
ـ إنّ التفسير الصحيح المتعلّق بالنبيّ داوود هو: أنّ النبي داوود عليه السلام كان ذا علم واسع في أمر القضاء، وأراد الله (تعالى) أن يمتحنه، فلذا أرسل إليه الشخصين من طريق غير اعتيادي، وابتلاه الله (تعالى) في إصدار الحكم قبل الاستماع إلى أقوال الطرف الثاني، رغم أنّ حكمه كان عادلاً. فاستغفاره عليه السلام كان لعدم استماعه إلى الطرف الثاني.
 

1- التفسير الأمثل،الشيخ مكارم الشيرازي،ج14،ص481و483.
 
 
 
130

 

 


106

الدرس الثاني عشر: منهج التفسير العقلي والاجتهادي للقرآن

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى المنهج العقلي في التفسير
2- أن يتعرّف إلى الآراء في بيان معنى التفسير العقلي
3- أن يطّلع على أدلّة المجوّزين للمنهج العقلي
 
 
 
 
 
131
 

107

الدرس الثاني عشر: منهج التفسير العقلي والاجتهادي للقرآن

تمهيد
يحظى منهج التفسير العقلي (الذي عُرِّف بتعاريف كثيرة) بمنزلة خاصّة بين مناهج التفسير، وقد اتّخذت المذاهب الكلامية (الشيعة، المعتزلة، الأشاعرة...) بأزاء هذا المنهج مواقف مختلفة، وقد يطلق عليه في بعض الأحيان منهج التفسير الاجتهادي، وقد يُذكر كأحد أقسام منهج التفسير بالرأي، وقد يُنظر إليه بنظرة مساوية للاتجاه الفلسفي في التفسير.
 
المراد من التفسير العقلي الاجتهادي
لكي يتوضّح المقصود من منهج التفسير العقلي الاجتهادي لا بدّ من بيان معنى هاتين المفردتين وهما:
 
أ- العقل:
في اللغة: هو بمعنى الإمساك، والحفظ، ومنع الشيء.
 
في الاصطلاح: يطلق على معنيين:
 
1- القوّة المستعدّة لحصول العلم، وهي نفس ذلك الشيء الّذي بفقدانه يرتفع التكليف عن الإنسان، وقد ورد مدح العقل في أحاديث كثيرة.

 
 
133
 

108

الدرس الثاني عشر: منهج التفسير العقلي والاجتهادي للقرآن

2- العلم الّذي يحصل عليه الإنسان بواسطة هذه القوّة، وقد ورد هذا المعنى في القرآن عندما ذمّ الكافرين بسبب عدم التعقّل، وقد استُدلَّ على هذا المعنى بأحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
 
والنتيجة: يستفاد ممّا تقدّم أنّ العقل قد يطلق على القوّة المفكّرة تارة، وأخرى على مدركات هذه القوّة، أي العلوم المكتسبة.
 
ولهذا فإنّ العقل ينقسم إلى العقل الفطري والعقل الاكتسابي، وقد يُقسّم إلى عقل نظري وعقل عملي1.
 
ب- الاجتهاد
المقصود بالاجتهاد هنا هو بذل الجهد الفكري واستخدام قوّة العقل في فهم آيات القرآن ومقاصده، وعلى هذا فاستعمال الاجتهاد هنا أعمّ من الاجتهاد الاصطلاحي في علم الفقه؛ لأنّه يشمل آيات الأحكام وغيرها، أي أنّ التفسير الاجتهادي يكون في قِبال التفسير النقلي؛ ففي التفسير النقلي يتمّ التأكيد على النقل أكثر من غيره، أمّا في التفسير الاجتهادي فيتمّ التأكيد على العقل والنظر.
 
تاريخ العمل بالمنهج العقلي للتفسير
يمتلك منهج التفسير الاجتهادي العقلي ماضياً قديماً، وقد حصل في وقتٍ مبكّر، في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي علّم أصحابه كيفيّة الاجتهاد العقلي في فهم النصوص الشرعية (من الكتاب والسنّة) ويمكن أن نجد نماذج من التفسير 


1- هناك تعاريف كثيرة للعقل النظري والعقل العملي، فقد يكون الاختلاف بينهما من حيث الإدراك، فإن كان الإدراك متعلّقاً بالعمل، وبما يجب أن يُعمل ويطبّق على الحياة كقولنا: العدل حسن والظلم قبيح فيكون العقل عملياً، وأمّا إذا لم يكن الإدارك متعلّقاً بالعمل، أو بإدراك ما يجب أن يُعمل، كحاجة الممكن إلى العلّة، يكون العقل نظرياً.
 
 
 
134

109

الدرس الثاني عشر: منهج التفسير العقلي والاجتهادي للقرآن

العقلي في الأحاديث التفسيريّة لأهل البيت عليهم السلام ، وكذا في عهد التابعين، حيث انفتح باب الاجتهاد وإعمال الرأي والنظر في التفسير، وشاع النقد والتمحيص في المنقول من الآثار والأخبار. ولم تزل تتوسّع دائرة ذلك مع مرور الزمن. نعم، كانت آفة ذلك لدى الخروج عن دائرة التوقيف، وولوج باب النظر وإعمال الرأي أن ينخرط التفسير في سلك التفسير بالرأي الممقوت عقلاً، والممنوع شرعاً.
 
ووصل هذا المنهج إلى أوج تطوّره فيما بعد على يد المعتزلة، وظهرت عند الشيعة تفاسير عقلية مثل تفسير التبيان للشيخ الطوسي (385 460هـ)، ومجمع البيان للطبرسي (ت: 548هـ)، وكذلك التفسير الكبير للفخر الرازي عند أهل السنّة، وقد بلغ هذا التطوّر مدىً بعيداً في تفسير الميزان للطباطبائي عند الشيعة وروح المعاني للآلوسي (ت: 1270هـ).
 
ومن الأمثلة على استخدام هذا المنهج في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما رواه عبد الله بن قيس، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾1 ، فقلت: له يدان هكذا وأشرت بيدي إلى يديه ـ؟ فقال: "لا، لو كان هكذا كان مخلوقاً"2
 
ففي هذا الحديث استفاد الإمام عليه السلام من العقل في تفسير الآية ونفي اليد المادّية عن الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ وجود مثل هذه اليد يستلزم الجسميّة والمخلوقيّة لله، وهو سبحانه منزّه عن هذه الصفات (فالمقصود من اليد هنا هو القدرة الإلهيّة).وهناك نماذج من التفاسير العقلية وصلتنا عن طريق أحاديث أهل البيت عليهم السلام بخصوص العرش والكرسي. وقد استفاد الإمام عليّ عليه السلام في بعض خطب نهج البلاغة من مقدّمات عقلية لتفسير آيات القرآن الكريم3.


1- سورة المائدة، الآية: 64.
2- تفسير نور الثقلين، الشيخ الحويزي، ج 1، ص 650، ح 279.
3- أنظر: نهج البلاغة، الخطبة: 152ـ 184ـ 228.
 
 
 
 
135

 

110

الدرس الثاني عشر: منهج التفسير العقلي والاجتهادي للقرآن

الاختلاف في معنى التفسير العقلي
تضاربت آراء العلماء حول مفاد منهج التفسير العقلي، وتعدّدت الأقوال بشأن معناه، فكلّ شخص يحكم على هذا المنهج على أساس فهمه، وسوف نستعرض أهمّ الآراء في هذا الموضوع: 
 
1ـ الاستفادة من القرائن العقلية كأداة في التفسير: وذلك لفهم معاني الألفاظ والجمل، ومن جملتها القرآن والحديث، فمثلاً عندما يقال: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ1، فالعقل يقول: بأنّه ليس المقصود من اليد هنا هو هذه الجارحة الّتي تحتوي على خمسة أصابع، لأنّ الله تعالى ليس بجسم، وإنّ كلّ جسم فهو محدود وفانٍ، والله ليس محدوداً ولا يفنى، وهو أزلي أبدي، بل المقصود من ذلك هو قدرة الله تعالى، فإطلاق اليد على القدرة إطلاق مجازي.
 
إذاً ليس المراد من التفسير العقلي الآراء والأذواق الشخصية أو الأفكار الخيالية الّتي لا أساس لها.
 
2ـ التفسير العقلي هو التفسير الاجتهادي نفسه: فقد ذكر البعض أنّ التفسير الاجتهادي يعتمد العقل والنظر أكثر ممّا يعتمد النقل والأثر؛ ليكون المناط في النقد والتمحيص هو دلالة العقل الرشيد والرأي السديد، وأنّ أحد خصائص تفسير التابعين هو الاجتهاد في التفسير والاعتماد على الفهم العقلي "فأعملوا النظر في كثير من مسائل الدِّين، ومنها مسائل قرآنية كانت تعود إلى معاني الصفات، وأسرار الخليقة، وأحوال الأنبياء والرسل وما شاكل. فكانوا يعرضونها على شريعة العقل ويحاكمونها وفق حكمه الرشيد، وربّما يؤوّلونها إلى ما يتوافق مع الفطرة الإنسانية"2. وهذا الرأي كما هو واضح يجعل التفسير العقلي والاجتهادي بمعنى واحد.
 

1- سورة الفتح، الآية: 10.
2- التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 249.
 
 
 
136

 

111

الدرس الثاني عشر: منهج التفسير العقلي والاجتهادي للقرآن

3ـ التفسير العقلي نوع من أنواع التفسير بالرأي: فقد جعل بعضهم التفسير العقلي في مقابل التفسير النقلي، وأنّه يعتمد على الفهم العميق والمركّز لمعاني الألفاظ القرآنية الّتي تنتظم في سلكها تلك الألفاظ وفَهْمِ دلالتها، ثمّ سمّى هذا البعض التفسير العقلي بالتفسير بالرأي1.
 
كما: أشار الدكتور الذهبي إلى نفس هذا الرأي فقال: "والمراد هنا الاجتهاد، وعليه فالتفسير بالرأي عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد"2.
 
ولكن سيتّضح في مبحث التفسير بالرأي أنّ هذا التفسير هو غير التفسير العقلي أو الاجتهادي، وأنّ هناك اختلافات رئيسة بينهما. ففي التفسير بالرأي يُقدم شخص المفسِّر على التفسير؛ على أساس الذوق والنظر الشخصي بدون مراعاة القرائن النقليّة والعقلية، أمّا بالنسبة إلى التفسير العقلي فإنّ المفسِّر يأخذ بنظر الاعتبار القرائن النقليّة والعقلية في التفسير. وكذلك بالنسبة إلى التفسير الاجتهادي فقد اتّضح أنّ الاجتهاد على نوعين:
 
1- هو الاستنباط دون مراجعة القرائن العقلية والنقلية وهو ما يعتبر نوعاً من التفسير بالرأي.
 
2- هو الاجتهاد الصحيح والمعتبر وهو الّذي يأخذ بنظر الاعتبار القرائن العقلية والنقليّة، وهذا التفسير لا يعتبر من التفسير بالرأي.
 
والحاصل أنّه مع تعدّد هذه الآراء من القول بأنّ التفسير الاجتهادي وفقاً للرأي المشهور يُعتبر من أقسام التفسير العقلي، لأنّه يستفاد في هذا النوع من التفسير من قوّة الفكر والعقل في تجميع المسائل والمواضيع.


1- أصول التفسير وقواعده، خالد عبد الرحمن العكّ، ص 167، دار النفائس، بيروت، ط 3، 1414هـ.
2- التفسير والمفسّرون، محمّد حسين الذهبي، ج 1، ص 255، دار الكتب الحديثة، ط 2، 1976م.
 
 
 
137

 

112

الدرس الثاني عشر: منهج التفسير العقلي والاجتهادي للقرآن

أدلّة جواز الاعتماد على المنهج العقلي في التفسير
اختلف العلماء حول جواز هذا المنهج في التفسير وعدمه، وقد استدلّ القائلون بالجواز بأدلّة متعدّدة منها:
 
1ـ القرآن الكريم
فقد اهتمّ القرآن الكريم كثيراً بدعوة الناس إلى التعقّل والتفكّر في آياته1، بل إنّه ذمّ الّذين لا يتدبّرون القرآن2. فإذا لم يكن للعقل اعتبار ومنزلة عند الله تعالى، فإنّ هذا الخطاب سيُصبح حينئذٍ عديم الفائدة وبدون معنى، وما نتيجة التدبّر والتفكّر في آيات الله إلّا التفسير العقلي والاجتهادي.
 
2ـ الروايات
يحتلّ العقل مكانة خاصّة في الأحاديث وله موقع متميّز فيها، فقد ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام أنّه قال: "يا هشام إنّ لله حُجّتين، حجّة ظاهرة وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول"3.
 
فإذا كان العقل حجّة باطنة، وجب أن يكون الشيء الّذي يُدركه ويحكم به بصورة قطعيّة، حجّة على الإنسان، وواجب الاتّباع، وإلّا فإنّ الحجيّة تصبح لا معنى لها.
 
3ـ السيرة
نسب بعض العلماء هذا المنهج إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام ، وهناك نماذج


1- راجع السور التالية: الأنبياء، الآية: 10، ويوسف، الآية: 2، والقمر، الآية: 17.
2- راجع سورة محمّد، الآية: 24.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص6.
 
 
 
138

 

113

الدرس الثاني عشر: منهج التفسير العقلي والاجتهادي للقرآن

من هذا المنهج في أقوال الأئمة، وإنّ فعل وقول المعصوم يدلّ على جواز ذلك في أقلّ التقادير، إضافة إلى السيرة المستمرّة لكبار المفسّرين.
 
4ـ بناء العقلاء
إنّ طريقة بناء العقلاء في التفسير الاجتهادي، هي التمسّك بظاهر كلام المتكلّم، واستخراج مقاصده ومعاني كلامه عن طريق القواعد الأدبيّة، والدلالات اللفظية والقرائن الموجودة، والمشرِّع الإسلامي لم يمنع من هذه الطريقة العقلائية ولم يخترع طريقة جديدة في التعامل.
 
وفي مقابل ذلك ذهب بعض آخر إلى عدم جواز الاعتماد على هذا المنهج في التفسير متمسّكاً بجملة أدلّة منها: ما روي عن الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: "إنّ دين الله لا يُصاب بالعقول"1، وببعض الروايات الّتي تشير إلى عدم جواز تفسير القرآن إلّا بالأثر الصحيح والنص الصريح.
 
فإذاً منهج التفسير العقلي والاجتهادي طريق لا يوصل إلى نتيجة.
 
وفي الجواب عن هذا الدليل نقول: إنّ هذا النوع من الأحاديث صدر في وجه المخالفين لأهل البيت عليهم السلام ، والذين لم يلتفتوا إلى القرائن النقليّة وكلام المعصومين عليهم السلام ، والذين يفتقدون شرائط الاجتهاد ويستخدمون التفسير بالرأي.
 
وهذا الرأي تبنّاه الأشاعرة أيضاً لكونهم يعتقدون بأنّ منشأ كلّ تكليف هو حكم الشارع وليس العقل، ولا يُعتمد على إدراكات العقل كالاعتماد على حكم الشارع.


1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 2، ص 303.
 
 
 
 
139

 

 


114

الدرس الثاني عشر: منهج التفسير العقلي والاجتهادي للقرآن

 ولكن فات هؤلاء أنّ عقل الإنسان كاشف عن الحكم الشرعي، أي أنّ عقل الإنسان لا يُصدر حكماً مخالفاً للحكم الشرعي، وقد اتّضح في أصول الفقه أنّه: "كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع".

خلاصة الدرس
ـ للتفسير العقلي مكانة خاصّة بين المناهج التفسيريّة وكان موضع مناقشة ونقض بين المذاهب الإسلامية (الشيعة، المعتزلة، الأشاعرة).

ـ أرجع بعض العلماء تاريخ هذا المنهج إلى عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجذوره موجودة في روايات أهل البيت عليهم السلام ، وقد عُني بهذا المنهج كثيراً في عصر التابعين.

ـ تضاربت الآراء في بيان معنى التفسير العقلي، وقد عرضنا لهذه الآراء بشيءٍ من الإيجاز. 

ـ اختلف العلماء حول جواز هذا المنهج في التفسير، واستدلّ المجوّزون بما يلي: 1-الدليل القرآني، 2- الدليل الروائي، 3- السيرة، 4- بناء العقلاء.

أمّا المانعون فقد استدلّوا بجملة روايات تشير إلى عدم جواز تفسير القرآن الكريم إلّا بالأثر الصحيح والنص الصريح.

ومن جملة المانعين لهذا المنهج الأشاعرة.
 
 
 
140

115

الدرس الثالث عشر: منهج التفسير بالرأي

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى التفسير بالرأي 
2- أن يطّلع على تاريخ التفسير بالرأي
3- أن يطّلع على أدلّة المانعين والموافقين للتفسير بالرأي
4- أن يعدِّد أقسام ومصاديق التفسير بالرأي
 
 
 
141
 

116

الدرس الثالث عشر: منهج التفسير بالرأي

تمهيد
من العوامل الأساس الّتي أدّت إلى إعاقة حركة التفسير عند علماء المسلمين، بل تحوّلت في كثير من الحالات إلى مانع يصدّ عن التعاطي مع كتاب الله وعقبة تردع المفسّرين من ارتياد معانيه والغوص في أعماقه، الخطأ في فهم النصوص المستفيضة بل المتواترة الواردة عند الفريقين عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام الّتي تحدّثت عن ظاهرة تفسير القرآن بالرأي، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من فسَّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب"1 ، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "من فسَّر في القرآن برأية فليتبوّأ مقعده في النار"2.
 
ويعتبر منهج التفسير بالرأي من المناهج المذمومة والمرفوضة في التفسير، وقد جاء بحث ودراسة هذا المنهج كما ذكرنا بسبب ورود الأحاديث في ذمّه، والأخطار المترتّبة على المفسّر في حالة استخدامه؛ والّتي قد تؤدّي به إلى الانحراف عن التفسير، وبالتالي يكون مصيره جهنّم كما ورد في الروايات، ولهذا السبب فإنّ معرفة هذا المنهج التفسيري والاحتراز عنه تحظى بأهميّة خاصّة عند المفسّرين.
 

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 27، ص 190.
2- تفسير الطبري، ج 1، ص 85.
 
 
 
143

 

117

الدرس الثالث عشر: منهج التفسير بالرأي

وإذا أخذنا التفسير بمعناه العام (الصحيح والخاطئ)، فإنّ هذا المنهج (التفسير بالرأي) سوف يعدّ جزءاً من المناهج التفسيريّة؛ أمّا إذا كان مقصودنا من التفسير هو الصحيح فقط، فحينئذٍ يكون إطلاق اسم التفسير على التفسير بالرأي من باب المسامحة في التعبير, لأنّ هذا المنهج لا يكشف ولا يبيّن المراد من آيات القرآن، بل يبيّن نظر ورأي المفسِّر.
 
المراد من التفسير بالرأي
الرأي: الأصل في معنى هذه الكلمة هو النظر بكلّ وسيلة، وتشمل النظر بالعين أو بالقلب أو عن طريق الشهود الروحاني أو بقوّة الخيال.
 
وكلمة "الرأي" بمعنى: اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن. ويرى بعض المفسّرين أنّ القرآن والسنّة لم يستعملا "الرأي" بمعنى الإدراك العقلي. فإذاً يمكن أن يقال إنّ معنى "الرأي" هو العقيدة أو الانطباع الشخصي الّذي يتكوّن على أساس1 وخلاصة القول في منهج التفسير بالرأي: إنّ الشيء المذموم أو الممنوع شرعاً، الّذي استهدفه حديث "من فسّر القرآن برأيه..."، أمران:
 
1- أن يعمد شخص إلى آية قرآنية، فيحاول تطبيقها على ما قصده من رأي أو عقيدة أو مسلك، تبريراً لما اختاره في هذا السبيل، أو تمويهاً على العامّة. 
 
وهذا قد جعل القرآن وسيلة لإنجاح مقصوده بالذّات، ولم يهدف إلى تفسير القرآن في شيء.  

2- الاستبداد بالرأي في تفسير القرآن، محايداً طريقة العقلاء في فهم معاني الكلام، ولا سيّما كلامه تعالى، فإنّ للوصول إلى مراده تعالى من كلامه
 
 

1- أنظر: المفردات في غريب القرآن، الحسين بن محمّد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت: 502هـ)، مادّة "رأي"، دار المعرفة، بيروت.

 
 
144
 

118

الدرس الثالث عشر: منهج التفسير بالرأي

 وسائل وطرقاً، منها: مراجعة كلام السلف، والوقوف على الآثار الواردة حول الآيات، وملاحظة أسباب النزول، وغير ذلك من شرائط يجب توفّرها في مفسّر القرآن الكريم، فإغفال ذلك كلّه، والاعتماد على الفهم الخاصّ، مخالف لطريقة السلف والخلف في هذا الباب. ومن استبدّ برأيه هلك، ومن قال على الله بغير علم فقد ضلّ سواء السبيل1.
 
الجذور التاريخية للتفسير بالرأي
لا يوجد تشخيص دقيق لبداية هذا المنهج في التفسير؛ ولكن روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعض الروايات في ذمّ هذه الطريقة في التفسير, ولعلّ ذلك يكشف عن أنّ هذا المنهج بدأ في زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, ولهذا فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر هذا التفسير وذمّ القائمين به.
 
ثمّ طرحت هذه المسألة بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في زمان الأئمّة عليهم السلام ، فصدرت عنهم روايات متعدِّدة في ذمّ التفسير بالرأي، بل روي عن الإمام عليّ عليه السلام ، أنّه خاطب بعض الأفراد ونهاهم عن هذا النوع من التفسير، ثمّ انتشر هذا المنهج في العصور التالية في بعض كتب التفاسير، فأخذ بعض المفسّرين والفرق باتّهام بعضهم بعضاً في استخدام هذا المنهج، كما أتّهم بعض الكتّاب الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير وإخوان الصفا، وبعض الصوفية، وأحياناً الأشاعرة والمعتزلة باستخدام التفسير بالرأي، لتأويلهم آيات القرآن طبقاً لعقائدهم. وقد بلغ هذا المنهج أقصى ما وصل إليه في العصر الحاضر، حيث سعى بعض المنافقين مع ظهور المدارس الإلحادية والتفسير بالرأي أن يجذبوا شباب المسلمين إلى صفوفهم، وإخفاء مقاصدهم الإلحادية تحت هذا الستار، وقد
 

1- التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 1، ص 63 64.
 
 
145

 

119

الدرس الثالث عشر: منهج التفسير بالرأي

أطلق الشهيد المطهّري على هذا المنهج تسمية "المادّية المغفّلة"، أو "المادّية المنافقة".
 
أدلّة المخالفين للتفسير بالرأي
1- آيات القرآن الكريم، مثل:
أ قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ1.
 
ب قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾2.
 
بيان الاستدلال: 
أ- إنّ التفسير بالرأي كلام غير علمي ينسب إلى الله تعالى؛ لأنّ المفسّر بالرأي لا يملك اليقين بالوصول إلى الواقع، وغاية ما يتوصّل إليه هو الظنّ.
 
ب- إنّ نسبة الكلام غير العلمي إلى الله حرام؛ للنهي عن ذلك في القرآن كما في الآيتين المتقدّمتين؛ فالنتيجة هي حرمة التفسير بالرأي3.
 
2- روايات المنع من التفسير بالرأي
 
ثمّة روايات متعدّدة في مصادر الشيعة والسنّة يمكن تقسيمها إلى عدّة مجموعات:
 
أ- الروايات الّتي تُدين وتذمّ التفسير بالرأي فقط وتذكر جزاءهم، منها:
 
 

1- سورة الأعراف، الآية: 33.
2- سورة الإسراء، الآية: 36.
3- الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 4، ص 210.

 
146
 

120

الدرس الثالث عشر: منهج التفسير بالرأي

ـ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار"1.
 
ـ عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من فسّر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر"2.
 
ـ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "قال الله جلّ جلاله: ما آمن بي مَنْ فسّر برأيه كلامي"3.
 
ب- الروايات الّتي تعتبر التفسير بالرأي نوعاً من أنواع الكذب والقول بغير علم، منها:
 
ـ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من فسَّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب"4.
 
ـ وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار"5.
 
ج- الروايات الّتي تدين التفسير بالرأي من جهة كونه ضلالاً، منها:
 
ـ عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "ويحك يا قتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت"6.
 
د- الأحاديث الّتي تدين التفسير بالرأي وإن كانت النتيجة صحيحة، منها:
 
ـ عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ فهو أبعد من السماء"7.
 
أدلّة القائلين بجواز التفسير بالرأي
1- الآيات القرآنية الّتي تحثّ على التفكّر والتدبّر، منها:


1- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي،ج 3، ص 75.
2- تفسير البرهان، هاشم الحسيني البحراني، ج 1، ص 19، المطبعة العلمية، إيران، 1393هـ.
3- عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج 1، ص116.
4- تفسير البرهان، هاشم الحسيني البحراني، ج 16، ص 7.
5- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 75.
6- تفسير البرهان، هاشم الحسيني البحراني، ج 16، ص 7.
7- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 89، ص 110.
 
 
147

 

121

الدرس الثالث عشر: منهج التفسير بالرأي

قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ1، ومنها الآية الّتي تشير إلى مسألة الاستنباط من القرآن وهي: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ2.
 
فقد ورد الحثّ في هذه الآيات على التفكّر والتدبّر في آيات القرآن، وأشارت الآية الأولى إلى أنّ أصحاب العقول والفهم يمكنهم الاستنباط من القرآن والوصول إلى المطالب القرآنية عن طريق الاجتهاد والعقل.
 
ولا معنى لأن يحثّنا الله سبحانه وتعالى على استخدام العقل والتدبّر ثمّ يقف حائلاً دون استعمال الاجتهاد والنظر والرأي.
 
والجواب: لقد خلط هؤلاء بين مورد التفسير بالرأي مع التفسير العقلي والتدبّر في فهم القرآن، فما ورد في هذه الآيات هو الترغيب والحثّ على التدبّر في فهم القرآن، وأنّه لا يجوز الاجتهاد والاستنباط من الآيات إلّا بعد مراجعة القرائن العقلية والنقلية والتدبّر فيها. أمّا بالنسبة إلى المفسّر بالرأي فإنّه يعلن رأيه الشخصي قبل الرجوع إلى هذه القرائن ويقوم بتحميل نظره الشخصي على الآيات، فالمنع من التفسير بالرأي لا يعني عدم جواز التدبّر والتفكّر في آيات القرآن.
 
2- إنّ المنع من التفسير بالرأي لا يعني عدم جواز الاجتهاد في التفسير:
 
لأنّ المنع من الاجتهاد يؤدّي إلى تعطيل الكثير من الأحكام، وهذا الأمر باطل بالضرورة؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يُفسّر جميع الآيات، فلا بدّ للمجتهد من استنباط الأحكام من القرآن وإذا ما أخطأ في ذلك فهو مأجور أيضاً.


1- سورة النساء، الآية: 82.
2- سورة النساء، الآية: 83.
 

148
 
 

122

الدرس الثالث عشر: منهج التفسير بالرأي

والجواب: إنّ الاجتهاد في الأحكام على قسمين: الاجتهاد قبل مراجعة القرائن العقلية والنقلية، والثاني: الاجتهاد بعد مراجعة القرائن العقلية والنقلية، والأوّل ممنوع؛ لأنّه اجتهاد وفتوى بغير دليل والآخر جائز لأنّه اجتهاد صحيح.
 
وكذلك الاجتهاد في التفسير فإنّه ينقسم إلى هذين القسمين أيضاً، فيطلق على القسم الأوّل التفسير بالرأي، وعلى الثاني التفسير الاجتهادي الصحيح.
 
3- لقد قرأ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم القرآن واختلفوا في تفسيره:
 
ولأنّ جميع أقوالهم الّتي اختلفوا فيها لم يؤخذ جميعها من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قطعاً بل اعتمدوا فيها على آرائهم الشخصية، واجتهدوا في مقابل بعضهم البعض، فإن كان التفسير بالرأي حراماً فهذا يعني أنّ الصحابة قد ارتكبوا الحرام.
 
والجواب: لا بدّ من الالتفات إلى عدّة نقاط في مسألة اختلاف الصحابة في التفسير: 
 
أ- يمكن أن يكون ذلك الاختلاف نتيجة لوصول أخبار مختلفة للصحابة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو يكون ناشئاً عن اختلاف فهمهم لكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
ب- يحتمل أن يكون تفسيرهم ناشئاً عن الاختلاف في فهم الآيات المتشابهة، أو الجمع بين الناسخ والمنسوخ أو العامّ والخاصّ وأمثال ذلك، وهذا أمر طبيعي ولا يعتبر من التفسير بالرأي. 
 
ج- لم يثبت أنّ الصحابة قاموا بتفسير القرآن في كلّ الموارد دون مراجعة المعايير المعتبرة في التفسير، أو دون مراعاة القرائن العقلية والنقلية والالتفات إلى الآيات المحكمة.
 
د- على فرض أنّ بعض الصحابة قد تورّط في التفسير بالرأي عن طريق الغفلة أو السهو أو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يوجد دليل على عصمتهم لكي

 
 
 
149

 

123

الدرس الثالث عشر: منهج التفسير بالرأي

يكون عملهم دليلاً على جواز التفسير بالرأي.
 
وعلى هذا فمن مجموع أدلّة المخالفين لهذا المنهج في التفسير القوية والمقبولة يتبيّن أنّه منهج خاطئ، وأنّ أدلّة القائلين بجوازه ضعيفة لا تنهض لأن تكون أساساً للعمل بهذا المنهج.
 
خلاصة الدرس
ـ إنّ منهج التفسير بالرأي منهج مذموم، ولا بدّ من معرفته والاطلاع عليه للاجتناب عنه.
 
ـ إنّ معنى "الرأي"، في منهج "التفسير بالرأي" هو العقيدة والرأي والذوق الشخصي الّذي ينبع من الظنّ.
 
ـ من مجموع الأحاديث يتّضح أنّ بداية هذا المنهج كانت في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، واستمرّ في زمن الأئمّة عليهم السلام ، واتسع وتطوّر في العصر الحاضر.
 
ـ استدلّ المخالفون للتفسير بالرأي بالآيات الّتي تدلّ على منع نسبة غير العلم إلى الله، وهو استدلال مقبول، وكذلك بالروايات الّتي تدلّ على منع التفسير بالرأي والّتي تنقسم إلى عدّة أقسام ذكرناها في البحث.
 
ـ استعرضنا عدّة أدلّة للموافقين لمنهج التفسير بالرأي، وبعد الجواب عنها تبيّن لدينا أنّها غير تامّة، ولا تُثبت هذا المنهج في التفسير.
 
 
 
150

 

124

الدرس الرابع عشر: الطباطبائي وموقفه من منهج التفسير بالرأي

أهداف الدرس

1-أن يتعرّف الطالب إلى أهمّية تفسير الميزان
2- أن يدرك معنى التفسير بالرأي عند العلّامة الطباطبائي
 
 
 
 
151
 

125

الدرس الرابع عشر: الطباطبائي وموقفه من منهج التفسير بالرأي

تمهيد
يعتبر كتاب الميزان في تفسير القرآن، للعلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي واحداً من أشهر وأهمّ كتب التفسير في واقعنا المعاصر، ونظراً لشهرته اخترنا هذا التفسير ليكون نموذجاً لبحثنا. 

حول تفسير الميزان
من تأليف العلّامة الحكيم السيّد محمّد حسين الطباطبائي المولود بتبريز سنة (1321هـ). والمتوفّى بقمّ المقدّسة سنة (1402هـ).

وهو تفسير جامع حافل بمباحث نظريّة تحليلية ذات صبغة فلسفية في الأغلب، جمع فيه المؤلّف إلى جانب الأنماط التفسيريّة السائدة، أموراً ممّا أثارته النهضة الحديثة في التفسير، فقد تصدّى لما يثيره أعداء الإسلام من شبهات، وما يضلّلون به من تشويه للمفاهيم الإسلامية، بروح اجتماعية واعية، على أساس من القرآن الكريم.
 
 
 
153

126

الدرس الرابع عشر: الطباطبائي وموقفه من منهج التفسير بالرأي

 مزايا تفسير الميزان
1- جمع بين نمطي التفسير: الموضوعي والترتيبيّ، فقد فسَّر القرآن آية فآية وسورة فسورة، لكنّه إلى جنب ذلك، نراه يجمع الآيات المتناسبة بعضها مع بعض، ليبحث عن الموضوع الجامع بينها، كلّما مرّ بآية ذات هدف موضوعيّ، وكانت لها نظائر منبثّة في سائر القرآن.
 
2- عنايته التامّة بجانب الوحدة الموضوعيّة السائدة في القرآن، كلّ سورة هي ذات هدف أو أهداف معيّنة، هي تشكّل بنيان السورة بالذّات، فلا تتمّ السورة إلّا عند اكتمال الهدف الموضوعيّ الّذي رامته السورة، ولذلك نجد السور تتفاوت في عدد آياتها.
 
3- الاستعانة بمنهج "تفسير القرآن بالقرآن"، فقد حقّق القرآن هذا الأمر وأوجده بعيان؛ إذ نراه يعتمد في "تفسيره" على القرآن ذاته، فيرى أنّ غير القرآن غير صالح لتفسير القرآن، بعد أن كان تبياناً لكلّ شيء فيا تُرى كيف يكون القرآن تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه؟!
 
يقول العلّامة الطباطبائي: "الطريقة المرضيّة في التفسير هي أن تفسّر القرآن بالقرآن، ونشخّص المصاديق ونعرّفها بالخواص الّتي تعطيها الآيات، كما قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾1 وحاشا القرآن أن يكون تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه"2 ويمكن القول بحقّ إنّ "الميزان في تفسير القرآن" هو من التفاسير الجامعة لكلّ مناهج وألوان التفسير حيث تجد أنّ السيّد الطباطبائي جمع إلى جانب منهج تفسير القرآن بالقرآن منهج التفسير الروائي والفلسفي والتاريخي والاجتماعي...

1- سورة النحل، الآية: 89.
2- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 1، ص 9.
 
 
 
154
 

127

الدرس الرابع عشر: الطباطبائي وموقفه من منهج التفسير بالرأي

بيان الطباطبائي لمنهج التفسير بالرأي
ذكر العلماء والمفسّرون آراء متباينة حول مفاد روايات التفسير بالرأي، وسنعرض لرأي العلّامة الطباطبائي وموقفه من هذا المنهج.
 
اعتبر السيّد الطباطبائي أنّ التفسير بالرأي يحتمل وجوهاً متعدّدة، أهمّها:
 
- تفسير المتشابه الّذي لا يعلمه إلّا الله.
 
- التفسير المقرّر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تبعاً، فيردَّ إليه بأيّ طريق أمكن وإن كان ضعيفاً. وهذا يحصل فيما لو كان للمفسِّر ميل إلى نزعة أو مذهب فيتأوّل القرآن على رأيه ويصرفه عن المراد، فيجرّ شهادة القرآن لتقرير رأيه.
 
- التفسير بأنّ مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل.
 
- التفسير بالاستحسان والهوى ومن دون الاستناد إلى نظر في أدلّة العربية ومقاصد الشريعة، وما لا بدّ منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول.
 
- القول بالقرآن بما يعلم أن الحقّ غيره.
 
- القول في القرآن بغير علم وتثبُّت، سواء علم أنّ الحقّ خلافه أم لا. ثمّ علّق عليها بقوله: "وربما أمكن إرجاع بعضها إلى بعض، وكيف كان فهي وجوه خالية عن الدليل، على أنّ بعضها ظاهر البطلان"1.
 
معنى "الرأي" عند الطباطبائي
ثمّ بعد أن استعرض النصوص الدالّة على النهي عن تفسير القرآن بالرأي قال: "قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من فسّر القرآن برأيه..."، الرأي هو الاعتقاد عن اجتهاد، وربما أطلق


1- م.ن، ج 3، ص 78.
 
 
155

128

الدرس الرابع عشر: الطباطبائي وموقفه من منهج التفسير بالرأي

على القول عن الهوى والاستحسان، وكيف كان لما ورد قوله برأيه مع الإضافة إلى الضمير، عُلِم منه أن ليس المراد به النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن حتّى يكون بالملازمة أمراً بالاتّباع والاقتصار على ما ورد من الروايات في تفسير الآيات عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام على ما يراه أهل الحديث. بل الإضافة في قوله: "برأيه" تفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال بأن يستقلّ المفسّر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس، فإنّ قطعة من الكلام من أيّ متكلّم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ونحكم بذلك: إنّه أراد كذا، كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما، كلّ ذلك لكون بياننا مبنيّاً على ما نعلمه من اللغة ونعهده من مصاديق الكلمات حقيقة ومجازاً.
 
والبيان القرآني غير جار هذا المجرى، بل هو كلام موصول بعضه ببعض في عين أنّه مفصول، ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض كما قاله الإمام عليّ عليه السلام ، فلا يكفي ما يتحصّل من آية واحدة بإعمال القواعد المقرّرة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها، دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ويجتهد في التدبّر فيها كما يظهر من قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾1.
 
التفسير المنهي عنه
فالتفسير بالرأي المنهيّ عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف وبعبارة أُخرى إنّما نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن تفهّم كلامه تعالى على نحو ما يتفهّم به كلام غيره وإن كان هذا النحو من التفهُّم ربما صادف الواقع، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية الأُخرى: "من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ"،


1- سورة النساء، الآية: 82.
 
 
 
156

129

الدرس الرابع عشر: الطباطبائي وموقفه من منهج التفسير بالرأي

فإنّ الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلّا لكون الخطأ في الطريق، وكذا قوله عليه السلام: "إن أصاب لم يؤجر"1.
 
وليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ وسرد الجمل وإعمال الصناعات اللفظية، فإنّما هو كلام عربيّ روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربيّ، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾2 وقال تعالى: ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾3 وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾4 وإنّما الاختلاف من جهة المراد والمصداق الّذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.
 
توضيح ذلك: إنّا من جهة تعلّق وجودنا بالطبيعة الجسمانية وقطوننا المعجّل في الدنيا المادّية، ألفنا من كلّ معنى مصداقه المادّي واعتدنا بالأجسام والجسمانيات، فإذا سمعنا كلام واحد من الناس حملناه على ما هو المعهود عندنا من المصداق والنظام الحاكم فيه، لعلمنا بأنّه لا يعني إلّا ذلك, لكونه مثلنا لا يشعر إلّا بذلك، وعند ذلك يعود النظام الحاكم في المصداق يحكم في المفهوم، فربما خصّص به العام أو عمّم به الخاصّ أو تصرّف في المفهوم بأيّ تصرّف آخر، وهو الّذي نسمّيه بتصرّف القرائن العقلية غير اللفظية.
 
مثال ذلك إنّا إذا سمعنا عزيزاً من أعزّتنا ذا سؤدد وثروة يقول: وإن من شيء إلّا عندنا خزائنه، وتعقّلنا مفهوم الكلام ومعاني مفرداته حكمنا في مرحلة التطبيق على المصداق أنّ له أبنية محصورة حصينة تسع شيئاً كثيراً من المظروفات، فإنّ الخزانة هكذا تتّخذ إذا اتّخذت، وأنّ له فيها مقداراً وافراً من

1- أنظر: تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 76ـ 77.
2- سورة إبراهيم، الآية: 4.
3- سورة النحل، الآية: 103
4- سورة الزخرف، الآية: 3.
 
 
 
 
 
157

130

الدرس الرابع عشر: الطباطبائي وموقفه من منهج التفسير بالرأي

الذهب والفضّة والورق والأثاث والزينة والسلاح، فإنّ هذه الأمور هي الّتي يمكن أن تخزن عندنا وتحفظ حفظاً. وأمّا الأرض والسماء والبرّ والبحر والكوكب والإنسان فهي وإن كانت أشياء لكنّها لا تخزن ولا تتراكم، ولذلك نحكم بأنّ المراد من الشيء بعض من أفراده غير المحصورة، وكذا من الخزائن قليل من كثير، فقد عاد النظام الموجود في المصداق وهو أنّ كثيراً من الأشياء لا يخزن، وأنّ ما يختزن منها إنّما يختزن في بناء حصين مأمون عن الغيلة والغارة، أوجب تقييداً عجيباً في إطلاق مفهوم الشيء والخزائن. 
 
ثمّ إذا سمعنا الله تعالى يُنزل على رسوله قوله: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾1 
 
فإن لم ترق أذهاننا عن مستواها الساذج الأوّلي فسّرنا كلامه بعين ما فسّرنا به كلام الواحد من الناس، مع أنّه لا دليل لنا على ذلك البتّة فهو تفسير بما نراه من غير علم.
 
وإن رقت أذهاننا عن ذلك قليلاً، وأذعنّا بأنّه تعالى لا يخزن المال وخاصّة إذا سمعناه تعالى يقول في ذيل الآية: ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ أيضاً: ﴿وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾2 حكمنا بأنّ المراد بالشيء الرزق من الخبز والماء، وأنّ المراد بنزوله نزول المطر لأنّا لا نشعر بشيء ينزل من السماء غير المطر، فاختزان كلّ شيء عند الله ثمّ نزوله بالقدر كناية عن اختزان المطر ونزوله لتهيئة المواد الغذائية. وهذا أيضاً تفسير بما نراه من غير علم؛ إذ لا مستند له إلّا أنّا لا نعلم شيئاً من السماء غير المطر، والّذي بأيدينا ها هنا عدم العلم دون العلم بالعدم.
 
وإن تعالينا عن هذا المستوى أيضاً واجتنبنا ما فيه من القول في القرآن بغير علم وأبقينا الكلام على إطلاقه التامّ، وحكمنا أنّ قوله: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا  
 

1- سورة الحجر، الآية: 21.
2- سورة الجاثية، الآية: 5.
 
 
158

 

 


131

الدرس الرابع عشر: الطباطبائي وموقفه من منهج التفسير بالرأي

 خَزَائِنُهُ﴾ يبيّن أمر الخلقة، غير أنّا لمّا كنّا لا نشكّ في أنّ ما نجده من الأشياء المتجدّدة بالخلقة كالإنسان والحيوان والنبات وغيرها لا تنزل من السماء، وإنّما تحدث حدوثاً في الأرض، حكمنا بأن قوله: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾ كناية عن مطاوعة الأشياء في وجودها لإرادة الله تعالى، وأنّ الإرادة بمنزلة مخزن يختزن فيه جميع الأشياء المخلوقة، وإنّما يخرج منه وينزل من عنده تعالى ما يتعلّق به مشيّته تعالى. وهذا أيضاً كما ترى تفسير للآية بما نراه من غير علم؛ إذ لا مستند لنا فيه سوى أنّا نجد الأشياء غير نازلة من عند الله بالمعنى الّذي نعهده من النزول ولا علم لنا بغيره.
 
وإذا تأمّلت ما وصفه الله تعالى في كتابه من أسماء ذاته وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله والقيامة وما يتعلّق بها وحكم أحكامه وملاكاتها، وتأمّلت ما نرومه في تفسيرها من إعمال القرائن العقلية، وجدت أنّ ذلك كلّه من قبيل التفسير بالرأي من غير علم وتحريف لِكَلِمه عن مواضعه.
 
من هنا يظهر أنّ التفسير بالرأي كما بيّناه لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير النبويّ: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار.
 
ومن هنا يظهر أيضاً أنّ ذلك يؤدّي إلى ظهور التنافي بين الآيات القرآنية من حيث إبطاله الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدّي إلى وقوع الآية في غير موقعها ووضع الكلمة في غير موضعها. ويلزمها تأويل بعض القرآن أو أكثر آياتها بصرفها عن ظاهرها، كما يتأوّل المجبّرة آيات الاختيار، والمفوّضة آيات القدر، وغالب المذاهب في الإسلام لا يخلو عن التأوّل في الآيات القرآنية وهي الآيات الّتي لا يوافق ظاهرها مذهبهم، فيتشبّثون في ذلك بذيل التأويل استناداً إلى القرينة العقلية وهو قولهم إنّ الظاهر الفلاني قد ثبت خلافه عند العقل فيجب صرف الكلام عنه1.
 

1- أنظر: تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 78ـ 81.

 
159
 

132

الدرس الرابع عشر: الطباطبائي وموقفه من منهج التفسير بالرأي

خلاصة الدرس
- يعتبر تفسير الميزان للعلّامة الطباطبائي من التفاسير المهمّة لكونه يعتمد المنهج الجامع.

- يعتبر السيّد الطباطبائي بأنّ التفسير بالرأي يحتمل وجوهاً متعدّدة، أهمّها ما يلي:

تفسير المتشابه الّذي لا يعلمه إلّا الله،التفسير المقرّر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تبعاً،التفسير بأنّ مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل،التفسير بالاستحسان والهوى ومن دون الاستناد إلى نظر في أدلّة العربية ومقاصد الشريعة، وما لا بدّ منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول،القول بالقرآن بما يعلم أن الحقّ غيره،القول في القرآن بغير علم وتثبُّت، سواء علم أنّ الحقّ خلافه أم لا. 

- عند العلّامة ليس المراد بالتفسير بالرأي النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن بل بأن يستقلّ المفسّر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس، فالتفسير بالرأي لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير النبويّ: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار.

ومن هنا يظهر أيضاً أنّ ذلك يؤدّي إلى ظهور التنافي بين الآيات القرآنية من حيث إبطاله الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدّي إلى وقوع الآية في غير موقعها ووضع الكلمة في غير موضعها. ويلزمها تأويل بعض القرآن أو أكثر آياتها بصرفها عن ظاهرها.
 
160

 


133

الدرس الخامس عشر: منهج التفسير الإشاري (1) منهج العرفاء والمتصوّفين

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى المنهج العرفاني الإشاري
2- أن يعدِّد على أهمّ التفاسير العرفانية والإشارية 
 
 
161

134

الدرس الخامس عشر: منهج التفسير الإشاري (1) منهج العرفاء والمتصوّفين

تمهيد
المنهج الإشاري هو أحد المناهج القديمة في التفسير. وقد عُرِف بأسماء متنوّعة، مثل التفسير الباطني، العرفاني، الشهودي، والرمزي، وكل من هذه الأسماء يشير إلى نوع خاص من هذا التفسير. وهناك اختلاف كبير في وجهات النظر بين المفسّرين والمحقّقين بالنسبة إلى هذا المنهج وأنواعه. فهناك من ارتضى بعض أقسامه واستفاد منه، ومنهم من رفضه واعتبره من التأويل والباطن. ولتوضيح هذه المسألة وتمييز المنهج الصحيح من غير الصحيح في التفسير الإشاري لا بدّ من دراسته بصورة دقيقة، وسوف نقوم في هذا الدرس بمناقشة التفسير الإشاري وأنواعه ومعاييره مع ذكر بعض الأمثلة المتعدّدة.
 
معنى المنهج الإشاري في التفسير
الإشارة لغةً بمعنى العلامة والإيماء والّذي يعني اختيار أمر من الأمور (من القول أو العمل أو الرأي). وقد وردت هذه الكلمة في القرآن، كما في الآية ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ1 أي اختيار شيء وإرجاع لهم إليه.
 

1- سورة مريم، الآية: 29. 
 
 
 
163

 

135

الدرس الخامس عشر: منهج التفسير الإشاري (1) منهج العرفاء والمتصوّفين

أما في الاصطلاح فالإشارة تعني أن يستفاد شيء من الكلام دون أن يكون موضوعاً له. والإشارة قد تكون حسّية كما هو الحال في ألفاظ الإشارة مثل (هذا)، وقد تكون ذهنية كالإشارة للمعنى في الكلام، بحيث لو أراد التصريح به للزمه الكثير من الكلام. ثمّ إنّ الإشارة قد تكون ظاهرة وقد تكون خفيّة.
 
وعلى هذا يكون المراد من التفسير الإشاري هو ما يطلق على الإشارات الخفيّة الموجودة في آيات القرآن، والّتي تعتمد على أساس العبور من ظواهر القرآن والأخذ بالباطن، أي استخراج وفهم وتوضيح نكتة من الآية لا توجد في ظواهر الآية عن طريق دلالة الإشارة1.
 
وبسبب تعدُّد أنواع التفسير الإشاري، كالتفسير الرمزي، العرفاني، الصوفي، الباطني، والشهودي، فقد تنوّعت التعاريف تبعاً لذلك، وهذا ما سيتبين لنا من خلال ما سيأتي.
 
الواقع التاريخي لهذا المنهج
يرجع تأريخ بعض أقسام التفسير الإشاري كالتفسير الباطني إلى صدر الإسلام، أي إنّ جذور هذا المنهج توجد في أقوال وكلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام حيث روي عنهم: أنّ القرآن له ظاهر وباطن2. وقد أشارت بعض الأحاديث إلى هذا النحو من التفسير فقد روي في الحديث: "أنّ كتاب الله عزّ وجلّ على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق؛ فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء"3.

1- دروس في المناهج والاتجاهات التفسيريّة، محمّد علي الرضائي، ص 192، نقلاً عن أصول التفسير وقواعده، خالد عبد الرحمن العكّ، ص 205ـ 206.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 92، ص 95.
3- م. ن، ج 92، ص20 وج 78، ص 278.

 
164
 

 


136

الدرس الخامس عشر: منهج التفسير الإشاري (1) منهج العرفاء والمتصوّفين

 وبسبب قبول جميع المسلمين بكون القرآن له باطن عميق، ومعانٍ دقيقة ويحتوي على الإشارات والكنايات، فقد أصبح الطريق مفتوحاً لهذا النوع من التفاسير، حتّى أنّ ابن عربي كتب: فكما أنّ تنزيل أصل القرآن على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان من قبل الله فإنّ تنزيل فهمه على قلوب المؤمنين من قبل الحقّ تعالى.
 
وقد اهتمّ بعض العرفاء والصوفيه ببعض الأنواع من التفسير الإشاري مثل التفسير الرمزي والشهودي والصوفي والعرفاني فيما بعد، ودوّنوا كتباً متعدّدة في هذا المجال.
 
واعتبر العلّامة الطباطبائي أنّ بداية هذا المنهج تعود إلى القرن الثاني والثالث الهجري، أي بعد ترجمة الكتب الفلسفية اليونانية إلى اللغة العربية1.
 
أهمّ تفاسير الصوفيّة وأهل العرفان
1ـ تفسير التستري
بدأ التفسير الباطني اعتماداً على تأويل الآيات منذ القرن الثالث على يد أبي محمّد سهل بن عبد الله التستري (200 283هـ). فإنّ له تفسيراً على طريقة الصوفية جمعه أبو بكر محمّد بن أحمد البلديّ، وطبع في مصر سنة 1908.
 
وكان التستري من كبار العارفين، وقد ذُكرت له كرامات، أقام في البصرة زمناً طويلاً، وتوفي فيها. لم يتعرّض لتفسير جميع القرآن، بل تكلّم عن آيات محدودة ومتفرّقة من كلّ سورة، ونجده أحياناً لا يقتصر على التفسير الإشاري وحده، بل ربّما ذكر المعاني الظاهرة ثمّ يعقّبها بالمعاني الإشارية. ومن ذلك تفسيره للآية ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ 
 

1- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 1، ص 705.

 
165
 

137

الدرس الخامس عشر: منهج التفسير الإشاري (1) منهج العرفاء والمتصوّفين

السَّبِيلِ1 حيث يقول بعد ذكره للتفسير الظاهر: وأمّا باطنها، فالجار ذي القربى هو القلب، والجار الجنب هو الطبيعة، والصاحب بالجنب هو العقل المقتدي بالشريعة، وابن السبيل هو الجوارح المطيعة لله2.
 
2ـ حقائق التفسير للسُّلَميّ
ثاني تفاسير الصوفيّة الّتي ظهرت إلى الوجود، تفسير أبي الرحمن السُّلَميّ، المسمّى بـ "حقائق التفسير". هو أبو عبد الرحمن محمّد بن الحسين بن موسى الأزدي السُّلَميّ (330ـ 412هـ). كان شيخ الصوفيّة ورائدهم بخراسان، وله اليد الأولى في التصوّف، وكان على جانب كبير من العلم بالحديث، أخذ منه الحاكم النيسابوريّ والقشيريّ صاحب التفسير.
 
وهذا التفسير من أهمّ تفاسير الصوفيّة، ويعدُّ من أمّهات المراجع للتفسير الباطني لمن تأخّر عنه، وهو امتداد للتفسير الصوفيّ الّذي ابتدعه التستري من ذي قبل.
 
غير أنّ الاقتصار على المعاني الإشاريّة، والإعراض عن المعاني الظاهرة في هذا التفسير، ترك للعلماء مجالاً للطعن عليه، ولقي معارضات شديدة من معاصريه وممّن أتوا بعده، فاتّهم بالابتداع والتحريف، ووضع الأحاديث على الصوفيّة.
 
فقد حكم بعضهم بأنّ هذا التفسير إذا كان صاحبه يعتقد أنّه تفسير للقرآن فقد كفر، وقال أخر بأنّ فيه وضعاً واختلاقاً، وما روي فيه عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام عامّته كذب على جعفر، وقال ثالث بأنّه جاء فيه بمصائب وتأويلات الباطنية3.


1- سورة النساء، الآية: 36.
2- تفسير التستري، ص 45، نقلناه عن التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 936.
3- أنظر: م. ن، ج 2، ص 964 965.

 
 
166
 

138

الدرس الخامس عشر: منهج التفسير الإشاري (1) منهج العرفاء والمتصوّفين

ومن تأويلات السُّلميّ قال في الآية ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾1، اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها، أو اخرجوا من دياركم، أي أخرجوا حبّ الدنيا من قلوبكم، ما فعلوه إلّا قليل منهم في العدد، كثير في المعاني وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة2.
 
وفي قوله تعالى: ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ﴾3 يقول: قال جعفر: جعل الحقّ تعالى في قلوب أوليائه رياض أُنسه، فغرس فيها أشجار المعرفة، أصولها ثابتة في أسرارهم، وفروعها قائمة بالحضرة في المشهد، فهم يجنون ثمار الأنس في كلّ أوان...4
 
3ـ لطائف الإشارات للقشيري
هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوريّ، ولد في نيسابور (376هـ)، طلب العلم فبرع فيه ولا سيّما في الفقه والحديث والأدب والأصول والتفسير، درس على يد عبد الرحمن السُّلَميّ. 
 
وتفسيره هذا امتداد للتفسير الصوفيّ الباطني، معتمداً في أكثر الأحيان على تأويلات قد ينبو عنها ظاهر لفظ الآية الكريمة، وحاول في هذا التفسير أن يبرهن على أنّ كلّ صغيرة وكبيرة في علوم الصوفيّة، فإنّ لها أصلاً في القرآن الّذي ورد فيه مصطلحات للصوفيّة مثل: الذكر والتوكّل والرضا، والوليّ والولاية والحقّ، والظاهر والباطن..


1- سورة النساء، الآية: 66.
2- تفسير السُّلَميّ، ص 49، تقلناه عن التفسير والمفسّرون، ج 2، ص 966.
3- سورة الرحمن، الآية: 11.
4- تفسير السُّلَميّ، ص 344، نقلناه عن التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 976.
 
 
167

 

139

الدرس الخامس عشر: منهج التفسير الإشاري (1) منهج العرفاء والمتصوّفين

من تفسيراته: يقول عند قوله تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ1 يقول: الأمر في الظاهر بتطهير البيت، والإشارة من الآية إلى تطهير القلوب. وتطهير البيت بِصَوْنه عن الأدناس والأوضار، وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار. وطواف الحجّاج حول البيت معلوم بلسان الشرع، وطواف المعاني معلوم لأهل الحقّ، فقلوب العارفين المعاني فيها طائفة، وقلوب الموحّدين الحقائق فيها عاكفة...2
 
4ـ كشف الأسرار وعدّة الأبرار (تفسير الميبديّ)
وهو المعروف بتفسير الخواجا عبد الله الأنصاري الّذي وضع هذا التفسير، ثمّ بسطه ووضّح مبانيه المولى أبو الفضل رشيد الدِّين الميبديّ.
 
والخواجا هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمّد بن عليّ بن محمّد الأنصاري الهروي، من ذريّة صاحب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أبي أيوب الأنصاري، ولد بهراة (396 481هـ) وقبره مزار مشهود هناك. يُعتبر هذا التفسير من أكبر وأضخم التفاسير الّتي كتبت على الطريقة العرفانيّة الصوفيّة، في عشرة مجلّدات ضخام (باللغة الفارسية).
 
وكان منهجه السير في ثلاث نوبات: الأولى: في التفسير الظاهري على حدّ الترجمة الظاهريّة، والثانية: في بيان وجوه المعاني والقراءات وأسباب النزول، وبيان الأحكام وذكر الأخبار، والثالثة: في بيان الرموز والإشارات العرفانية3
 
5ـ تفسير ابن عربي (560ـ 638هـ).
 
6ـ عرائس البيان في حقائق القرآن لأبي محمّد الشيرازي (ت: 666هـ).
 

1- سورة البقرة، الآية: 125.
2- لطائف الإشارات، ج 1، ص 136، نقلاً عن التفسير والمفسّرون، ج 2، ص 969.
3- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2ـ ص 971 973.
 
 
 
 
168
 
 

140

الدرس الخامس عشر: منهج التفسير الإشاري (1) منهج العرفاء والمتصوّفين

7ـ التأويلات النجمية لنجم الدِّين داية (ت: 654هـ) وأكمله علاء الدِّين السمناني (ت: 736هـ)1 
 
المؤاخذات على التفاسير الصوفية والعرفانية
أهمّ ما يؤخذ على هذه التفاسير، هو ابتناؤها على الذوق والسليقة والأذواق والسلائق، بما أنّها أحاسيس شخصيّة، فإنّها تختلف حسب المذاقات ومعطيات الأشخاص ولا تتّفق على معيار عام شامل.
 
وإن شئت قلت: إنّهم يرون مذاقاتهم في فهم النص، إلهامات وإشراقات لمعت بها خواطرهم أو سوانح وردت عليهم حسب استعداداتهم في تلقّي الفيوضات من الملأ الأعلى. 
 
والإلهام والإلماع، إدراك شخصيّ بحت. وهي تجربة روحية وشخصيّة لا مستند لاعتبارها سوى عند صاحب التجربة فحسب.
 
ومن ثمّ ترى تفاسير أهل الذوق العرفاني قلّما تتّفق ولو في تفسير آية واحدة على نهج سويّ وعلى تأويل متوازن لا تعريج فيه.. ولا مبرّر له سوى ما نبّهنا عليه أنّها ليست من التفسير ولا من التأويل، وإنّما هي واردات قلبيّة.
 
مثال على ذلك: نجد القشيري يفسّر البسملة في كلّ سورة غير تفسيرها في سائر السور.. بناءً منه على أنّها آية من كلّ سورة، وكلّ آية هي تجلّ لنعت من نعوته تعالى: ولا تكرار في التجلّي، فيجب أن تكون في كلّ سورة بمعنى غير معناها في سائر السور2.
 

1- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 984 998.
2- أنظر: م. ن، ج 2، ص 953 954.


169
 

141

الدرس الخامس عشر: منهج التفسير الإشاري (1) منهج العرفاء والمتصوّفين

خلاصة الدرس
 
ـ المنهج الإشاري في التفسير هو أحد المناهج القديمة في التفسير.

ـ المنهج الإشاري له أسماء متعدِّدة مثل: التفسير الباطني، العرفاني، الشهودي...

ـ المراد من التفسير الإشاري هو ما يطلق على الإشارات الخفية الموجودة في آيات القرآن الكريم، والّتي تعتمد على أساس العبور من ظواهر القرآن والأخذ بالباطن.

ـ المنهج الإشاري له امتداد في التاريخ حيث يرجع إلى صدر الإسلام، وله جذور في أقوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.

ـ تعود بداية هذا المنهج إلى القرن الثاني والثالث الهجري.

- أهمّ تفاسير الصوفية:

1ـ تفسير التستري.

2ـ حقائق التفسير للسُّلَميّ. 

3ـ لطائف الإشارات للقشيري.

4ـ كشف الأسرار وعدّة الأبرار (الخوجا عبد الله الأنصاري).

5ـ تفسير ابن عربي.

ـ من أهمّ المؤاخذات على التفاسير الصوفيّة والعرفانيّة هو ابتناؤها على الذوق والسليقة والّتي هي أحاسيس شخصيّة.
 
 
170
 

142

الدرس السادس عشر: أقسام منهج التفسير الإشاري (2) تفسير العرفاء والصوفيّين

أهداف الدرس
 
1- أن يتعرّف الطالب إلى أقسام التفسير الإشاري ونماذجه
2- أن يطّلع على نماذج من التفسير الباطني الصحيح
3- أن يدرك معايير التفسير الباطني الصحيح
 
 
 
171
 

143

الدرس السادس عشر: أقسام منهج التفسير الإشاري (2) تفسير العرفاء والصوفيّين

 العرفان والتصوّف
يمثّل العرفان نظاماً معرفياً متكاملاً، ينطوي على جانبين أساسين: عملي ونظري، وهكذا التصوّف الحقيقي فإنّه ينطوي على هذين الاتّجاهين، ففي الجانب العملي هو التجربة الحقيقيّة للعارف يمارسها عن طريق ترويض النفس، وتنقية القلب وصقله بواسطة المجاهدات الروحيّة، وبهذا يحصل على التقوى والزهد وغيرها من الدرجات الّتي يحصل عليها الصوفي.
 
وأمّا الجانب النظري فهو يشابه إلى جانب كبير منه العرفان النظري. وهذا التشابه جعل الكثيرين لا يميّزون بين العرفان والتصوّف.
 
وهذا ما يفرض علينا البحث في تعريف العرفان والتصوّف.
 
العرفان النظري: هو فرع من فروع المعرفة الإنسانية الّتي تحاول أن تعطي تفسيراً كاملاً عن الوجود ونظامه وتجليّاته ومراتبه، أو فقل: هو بصدد إعطاء رؤية كونية عن المحاور الأساس في عالم الوجود وهي: "الله الإنسان العالَم"، ولذا قيل بأنّه المعرفة الحاصلة عن طريق المشاهدة القلبيّة لا بواسطة العقل، ولا بفضل التجربة الحسّية1.
 

1- محاضرات في الأيديولوجية المقارنة، محمّد تقي مصباح اليزدي، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني، ص 20 21، دار الحق، قم، ط 1.
 
173
 
 

144

الدرس السادس عشر: أقسام منهج التفسير الإشاري (2) تفسير العرفاء والصوفيّين

 أما العملي: فهو عبارة عن طريقة للوصول إلى الحقّ تعالى عن طريق الاشتغال بالمجاهدات والرياضات حتّى يتقوّى الإنسان ويتمكّن من معرفة نفسه لتحريرها من علائقها وقيودها لتتّصل بالخالق تعالى. وهو يحتاج إلى العمل المخلص بأحكام الدِّين.

أمّا التصوّف فهو: منهج وطريقة زاهدة، مبتنية على أساس الشرع وتزكية النفس، والإعراض عن الدنيا من أجل الوصول إلى الحقّ تعالى (وهذا طبعاً بالنسبة إلى الصوفية المقبولة شرعاً).

فالفارق بينهما إذاً هو أنّ العرفان نظرية وسلوك، والتصوّف ظاهرة اجتماعية لا تستبطن التنظير أو الرؤية.

ويستعمل العرفان في كلمات جملة من العرفاء مرادفاً للتصوّف، ولكن يُراد به التصوف كطبقة اجتماعية فارغة من البُعد النظري.

أقسام التفسير الإشاري ونماذجه
ذكرنا سابقاً أنّ التفسير الإشاري ينقسم إلى أقسام مختلفة، فأحياناً يقسّم إلى تفسير إشاري نظري وفيضي، وأخرى إلى تفسير إشاري رمزي وشهودي. وهناك من قسّم التفسير الإشاري إلى باطني غير صحيح وباطني صحيح. ونحن سنتّبع هذا التقسيم.

1- التفسير الإشاري الباطني غير الصحيح
وهنا يقوم المفسّر بتأويل آيات القرآن بالاستفادة من الشهود الباطني، أو من خلال النظريات العرفانية، المنافية لظواهر القرآن وقواعد الاستنباط من الظاهر، ودون مراعاة الضوابط المعروفة للوصول إلى الباطن أو الاستفادة من القرائن النقلية أو العقلية، ومن الواضح أنّ هذه الطريقة تنتهي إلى التفسير بالرأي.
 
 
174
 

145

الدرس السادس عشر: أقسام منهج التفسير الإشاري (2) تفسير العرفاء والصوفيّين

وتنقسم هذه الطريقة إلى عدّة أنواع هي:
 
أ- منهج التفسير الإشاري الشهودي (الفيضي)
في هذه الطريقة يستفيد المفسّر من طريقة الكشف والشهود العرفاني، والتجليّات القلبية في تفسير القرآن، متجاوزاً حدود الظواهر.
 
مثال: ذكر التستري في تفسيره الباطني معنى "بسم الله" فقال: الباء: بهاء الله، والسين: سناء الله، الميم: مجد الله، الله: هو الاسم الأعظم الّذي حوى الأسماء كلّها، وقال بعض الصوفيين في تفسير الآية: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾: الأمر الظاهر بتطهير البيت، والإرشاد من الآية إلى تطهير القلب.. وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار"2.
 
ب- منهج التفسير الإشاري (النظري)
وهنا يقوم المفسّر باستخدام المباني النظرية للعرفان النظري في تفسير آيات القرآن متجاوزاً حدود الظاهر دون وجود أية قرينة عقلية أو نقلية على هذا التأويل.
 
مثال: نُقل عن الصوفية في تفسير الآية ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُون﴾ قال: نحن خلقناكم بإظهاركم بوجودنا وظهورنا في صوركم. وفي سورة المزمّل ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ قال: واذكر اسم ربّك الّذي هو أنت، أي اعرف نفسك واذكرها ولا تنسها فينساك الله3.

2- أنظر: هذه الأمثلة وغيرها بالتفصيل في: دروس في المناهج والاتجاهات التفسيريّة، محمّد علي الرضائي، ص 204 205، والتفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هاذي معرفة، ج 2، ص939 وما بعدها.

3- أنظر هذه الأمثلة وغيرها بالتفصيل في: دروس في المناهج والإتجاهات التفسيريّة، محمّد علي الرضائي، ص 204 205، والتفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 939 وما بعدها.

 
175
 

146

الدرس السادس عشر: أقسام منهج التفسير الإشاري (2) تفسير العرفاء والصوفيّين

 ج- منهج التفسير الإشاري( الباطني)
أنكر بعضهم ظواهر القرآن والشرع، وقالوا إنّ المقصود الحقيقي للقرآن هو الباطن فقط، بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك فقالوا إنّ ظواهر العبادات والجنّة والنار إشارات إلى أسرار المذهب وأشخاص معيّنين (رؤسائهم).

مثال: قالوا إنّ المقصود من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والمسجد الحرام أشخاص معيّنين (أئمّة الباطنية) وإنّ معرفة الدِّين تكمن في معرفة ذلك الشخص.

الملاحظات الأساس على هذه المناهج
1ـ إنّها تقوم على أساس الشهود (حالة روحية للشخص نتيجة الأذكار والتأمُّل) الّذي يمكن أن يشتمل على مصاديق إلهية وشيطانية، ومن الصعب تشخيص الحدود بين المكاشفات الشيطانية والإلهية، ثمّ إنّها لو كانت صحيحة فهي حجّة على أصحابها فقط وبمعونة الإيمان بصاحبها تصبح حجّة على اتباعه.

2ـ إنّ القرآن الكريم لم ينزل على الصوفيّة فقط ليفسّروه عن طريق مبانيهم، بل نزل لعموم الناس، ولهذا فإنّ ذلك يعتبر من منهج التفسير بالرأي ولا يمكن إقامة البرهان عليه.

3ـ إنّ هذه الطريقة خارجة عن حدود الدلالة اللفظيّة للقرآن، فهي ليست من باب التفسير بل هي صياغة لآراء ومباني التصوّف والعرفان النظري بقوالب قرآنية.

2- منهج التفسير الباطني الصحيح
أشارت بعض الأحاديث الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام إلى أنّ للقرآن
 
 
 
176
 
 

147

الدرس السادس عشر: أقسام منهج التفسير الإشاري (2) تفسير العرفاء والصوفيّين

ظاهراً وباطناً، بل بطوناً متعدّدة، وهذا ما دعا بعض المفسّرين إلى الاهتمام بباطن الآيات بالإضافة إلى التفسير الباطني المعتبر. وقد أيَّد هذا النوع من التفسير الإشاري الصحيح كلّ من الإمام الخميني والعلّامة الطباطبائي، لأنّه لا يتمّ فيه التأكيد على الإشراقات والشهودات القلبية والتأويلات الّتي لا تستند إلى أيّ دليل، ولا يقوم على أساس تحميل المباني النظرية على القرآن، ولا يسلك منهج الباطنية في التأويل.
 
نماذج من التفسير الباطني الصحيح
1ـ قال تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾1. فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من حرقٍ أو غرقٍ ثمّ سكت ثمّ قال: "تأويلها الأعظم أن دعاها فاستجابت له"2.
 
وفي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام قال: " من حرقٍ أو غرقٍ، قيل فمن أخرجها من ضلال إلى هدى، قال: تأويلها الأعظم"3.
 
إنّ ظاهر الآية المتقدِّمة يتحدّث عن قتل وإحياء الإنسان، فقتل وإحياء أحدهم يعني قتل وإحياء جميع البشر، أمّا تأويلها (الباطني) فهو أهمّ وأعظم، ويأتي ذلك عن طريق إلغاء الخصوصيّة (قتل وإحياء الجسم المادّي) والحصول على قاعدة كلّية تشمل كلّ أنواع الإحياء؛ فإذا ما نجا الإنسان من الضلال وهُدي إلى صراط مستقيم فإنّ روحه سوف تحيا بروح الإيمان والاستجابة لدعوة الحقّ؛ ومثل هذا العمل يعتبر إحياءً لجميع البشر.


1- سورة المائدة، الآية: 32.
2- تفسير الصافي، لطف الله الكلبايكاني، ج 2، ص 31، قم، منشورات إسلامي، 1370هـ.
3- م. ن.
 
 
177

 

148

الدرس السادس عشر: أقسام منهج التفسير الإشاري (2) تفسير العرفاء والصوفيّين

 وفي الحديث، عن عبد الله بن سنان، عن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّ الله أمرني في كتابه بأمر فأحبّ أن أعمله، قال: "وما ذاك"؟ قلت: قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ1 قال عليه السلام: "ليقضوا تفثهم لقاء الإمام وليوفوا نذورهم تلك المناسك، قال: عبد الله بن سنان فأتيت أبا عبد الله عليه السلام فقلت: جعلت فداك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ قال: أخذ الشارب وقصّ الأظفار وما أشبه ذلك، قال: قلت: جعلت فداك إنّ ذريح المحاربيّ حدّثني عنك بأنّك قلت له: ﴿لْيَقْضُوا تَفَثَهُم﴾ لقاء الإمام وليوفوا نذورهم تلك المناسك، فقال: "صدق ذريح وصدقت إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح"؟!2.
 
2ـ كتب الإمام الخميني قدس سره في مورد الاستفادة العرفانية والأخلاقية من آيات القرآن فقال: فلو أنّ شخصاً قرأ وتأمّل في المحاورة الّتي جرت بين موسى والخضر، وطبيعة التعامل فيما بينهما وقيام موسى بشدّ رحاله مع سموّ مقام نبوّته طلباً لعلم لم يكن عنده، وكيفية عرضه حاجته على الخضر بالنحو الوارد في الآية الكريمة: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾3، وجواب الخضر واعتذارات موسى المتكرّرة، ثمّ استفاد من كلّ ذلك عظمة مقام العلم وبعض آداب تعامل المتعلّم مع المعلّم الّتي قد يصل ما ورد منها في تلك الآيات إلى ما يقرب من العشرين أدباً..، ثمّ قال: إنّ الكثير من استفادات القرآن هي من هذا القبيل4.


1- سورة الحج: الآية: 29.
2- الكافي، ج4، ص549.
3- سورة الكهف، الآية: 66.
4- ﭙرواز درملكوت مشتمل بر آداب الصلاة (رحلة إلى الملكوت ضمن كتاب آداب الصلاة بالفارسية) الإمام الخميني، ج 2، ص 114.

 
178
 

149

الدرس السادس عشر: أقسام منهج التفسير الإشاري (2) تفسير العرفاء والصوفيّين

 3ـ ورد في قصّة النبيّ يوسف عليه السلام أنّ إخوته وفي سبيل إحكام خطّتهم لإبعاد يوسف عن أبيه قالوا لأبيهم: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ1. ظاهر الآية يحكي عن حياة يوسف ومكر إخوته لإبعاده عن أبيه، في حين أنّ هناك عبرة يمكن استخلاصها من هذه القصّة وهي أنّ المخالفين لطريقة الهداية يحاولون أن يسرقوا أولادكم بحجّة اللعب والقضايا المادّية، فلا بدّ أن تحذروا من ذلك. وهذه المسألة يمكن تطبيقها في كلّ وقت بعد إلغاء الخصوصيات الزمانية والمكانية والأفراد المذكورين في القصّة، واستخراج قاعدة كلّية وعبرة تصلح للجميع، ويمكن أن نجد لهذه القصّة مصاديق كثيرة في الوقت الحاضر، فالمستعمرون وعن طريق استخدام طرق متعدِّدة من اللعب يسعون إلى فصل جيل الشباب عن أمّتهم وإلقائهم في التيه والضياع. فالقرآن لم يقصّ علينا قصص لنتسلّى بها، بل للعبرة.
 
عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "إنّ رجلاً سأل أبا عبد الله عليه السلام: ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلّا غضاضة؟ فقال: لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة"2.
 
معايير التفسير الإشاري الصحيح
1ـ الالتفات إلى ظاهر الآية وباطنها في آنٍ واحد، أي يجب عدم إغفال ظاهر الآية في التفسير، فعلى المفسّر أن لا يدّعي بأنّ تفسيره (المعنى الإشاري) هو المراد الوحيد للآية، وهذه الضابطة تستفاد من كلام العلّامة الطباطبائي وغيره.
 

1- سورة يوسف، الآية:12.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 62، ص 15.
 
 
179

 

150

الدرس السادس عشر: أقسام منهج التفسير الإشاري (2) تفسير العرفاء والصوفيّين

2- رعاية المناسبة القريبة بين ظاهر الكلام وباطنه؛ أي ينبغي أن لا تكون الدلالة الباطينة أجنبية عن االظواهر، لا مُناسبة بينها وبين اللفظ، فإذا كان معنى التأويل هو المفهوم المنتزع من الكلام، فلا بدّ أن تكون هُناك مناسبة لفظية تستدعي هذا الانتزاع.
 
3ـ عدم منافاة التفسير الإشاري للأدلّة القطعية والآيات المحكمة في القرآن.
 
4ـ الاستفادة من القرائن المعتبرة العقلية والنقلية (الآيات والروايات).
 
خلاصة الدرس
ـ هناك تقسيمات متنوِّعة للتفسير الإشاري، وأفضلها تقسيمه إلى قسمين: التفسير الإشاري الباطني الصحيح وغير الصحيح.
 
ـ يعتمد التفسير الإشاري الباطني غير الصحيح على النظريات العرفانية أو الشهود العرفاني والأمر الذوقي والّذي لا يتمتّع بأيّ ضابطة؛ ممّا ينتهي بالمفسِّر إلى الوقوع في التفسير بالرأي. 
 
ـ يُقسّم التفسير الإشاري غير صحيح إلى ثلاثة أقسام: تفسير إشاري شهودي (فيضي)، وتفسير إشاري نظري، وتفسير إشاري باطني.
 
ـ معايير التفسير الإشاري الصحيح عبارة عن: الالتفات إلى الظاهر والباطن معاً، رعاية المناسبة القريبة بين الظاهر والباطن، الدقّة في إلغاء الخصوصية من الكلام، عدم مخالفة التفسير الإشاري لمحكمات القرآن والأدلّة العقلية.
 
 
180
 

151

الدرس السابع عشر: الاتجاه الكلامي في تفسير القرآن

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى أكثر ما يهتمّ به المفسِّر في الاتجاه الكلامي.
2- أن يعدِّد أشهر المدارس الكلامية
3- أن يدرك أهمّ الموضوعات الّتي كانت مورد بحث في التفاسير الكلامية.
 
 
 
181
 

152

الدرس السابع عشر: الاتجاه الكلامي في تفسير القرآن

 نبذة تاريخية
"الكلام" في اللغة بمعنى الحديث، أمّا في الاصطلاح فيطلق على علم العقائد. ولم يكن هناك اختلاف ملحوظ في المسائل العقائدية في زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وإنّما حدث ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم وخصوصاً في مسألة الإمامة. واتّسعت دائرة هذه الخلافات تدريجياً إلى مسائل صفات الله والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ تكوَّن علم الكلام في أواخر القرن الأوّل الهجري وبداية القرن الثاني، وظهرت المدرسة الاعتزالية في الكلام بواسطة واصل بن عطاء (80 131هـ). وتبلورت مدرسة الأشاعرة عن طريق أبي الحسن الأشعري (ت: 330هـ تقريباً) عاش في أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع الهجري، ثمّ بعد ذلك ظهرت الفرقة الماتريدية. وقد تكوّنت المدرسة الكلامية للشيعة عن طريق أهل البيت عليهم السلام في بداية ظهور الإسلام والّتي لها عقائد مستوحاة من القرآن الكريم وأحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة الإمامة والعصمة، ثمّ أصبحت أكثر ترتيباً وتنظيماً على يد بعض العلماء أمثال الشيخ المفيد (336 413هـ). وقد مارست هذه المدارس الكلامية التفسير أيضاً، فكانت تأخذ من الآيات ما يوافق آراءها وتؤوّل الآيات المخالفة أو تقوم بتوجيهها بحقٍّ أو بغير حقٍّ؛ ومن هنا ظهرت الاتجاهات الكلامية في
 
 
 
183
 

153

الدرس السابع عشر: الاتجاه الكلامي في تفسير القرآن

التفسير بأنواع مختلفة، وسوف نذكر بصورة مختصرة أهمّ هذه الاتجاهات مع ذكر كتبهم التفسيريّة.
 
الاتجاه الكلامي
أكثر ما يهتمّ به المفسِّر في الاتجاه الكلامي هو:
 
1ـ الاهتمام بتفسير آيات العقائد (التوحيد العدل النبوّة الإمامة المعاد).
 
2ـ الاهتمام بالآيات المتشابهة في القرآن.
 
3ـ إثبات عقائده ونفي عقائد الآخرين عن طريق تفسير الآيات.
 
4ـ إنّ بواعث المفسِّر هو الدفاع عن عقائد المسلمين أو الدفاع عن المدرسة الكلامية الّتي يتبنّاها.
 
5ـ الاستفادة من المنهج الاجتهادي والعقلي في التفسير، واتّباع الطريقة الاستدلالية، إضافة إلى استخدام الروايات والآيات أيضاً، ولهذا فقد تشتمل التفاسير الكلامية على مناهج واتجاهات متعدّدة.
 
أشهر المدارس الكلامية في التفسير
 
1ـ الاتجاه الكلامي الاعتزالي في التفسير
 
المعتزلة هم أتباع واصل بن عطاء (80 131هـ)، ومن أهمّ الشخصيات البارزة في هذه المدرسة هم: عمرو بن عبيد (ت: 143هـ)، أبو الهذيل العلّاف (ت: 235هـ)، إبراهيم النظّام (ت: 231هـ)، الجاحظ (ت: 255هـ)، القاضي عبد الجبّار المعتزلي (ت: 415هـ) والزمخشري (ت: 538هـ).
 
 
184

 

154

الدرس السابع عشر: الاتجاه الكلامي في تفسير القرآن

يعتقد المعتزلة أنّ الإنسان حرٌّ ومختار، وأنّ القرآن يمكن تفسيره عن طريق العقل، وأنّه يمكن إدراك كثير من الحقائق بواسطة العقل (دون هداية الشرع)، وفي حالة تعارض الحديث مع العقل فإنّهم يقدّمون العقل، وكذلك يعتقدون أنّ الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر (المنزلة بين المنزلتين)، وأنّه لا يمكن للإنسان الحصول على المغفرة دون توبة. وكذلك يعتقدون بالتوحيد الصفاتي، وينكرون التوحيد الأفعالي فهم من العدلية، حيث يعتقدون بعدالة الله وأنّ أفعاله لها غاية وهدف، وكلامه مخلوق، ويحصرون القدم بالله سبحانه وتعالى.

وقد استمرّت عقائد المعتزلة في الازدهار إلى زمن المتوكِّل، حيث نُكِّل بهم في زمانه بشدّة، ثمّ انتشر المذهب الأشعري من ذلك الزمان.

من أهمّ التفاسير الكلامية للمعتزلة هي:
1ـ متشابه القرآن، القاضي عبد الجبّار الهمداني (ت: 415هـ)، وهو شافعي في المذهب الفقهي، ومعتزلي في الكلام.

2ـ تنزيه القرآن عن المطاعن، عبد الجبّار المعتزلي.

3ـ الكشّاف، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت: 538هـ) وقد تعرّض إلى المسائل الأدبية واللغوية أيضاً.

4ـ أنوار التنزيل وأسرار التأويل (تفسير البيضاوي) القاضي ناصر الدِّين أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمّد بن عليّ البيضاوي الشافعي (ت: 685هـ)، وقد كتب هذا التفسير بالاعتماد على تفسير الكشّاف للزمخشري، والمشهور أنّ البيضاوي أشعريُّ المذهب، ولكن بعض المحقّقين يعتقدون أنّه معتزلي؛
 
185


155

الدرس السابع عشر: الاتجاه الكلامي في تفسير القرآن

لأنّه أعطى أهميّة كبيرة للعقل والعدل في تفسيره1.
 
5ـ جامع التأويل لمحكم التنزيل، أبو مسلم الأصفهاني (ت: 322هـ)، ولا يوجد أصل هذا التفسير ولكن الفخر الرازي نقل عنه في تفسيره، وكذلك الطبرسي في مجمع البيان، وقد طُبعت آراء أبي مسلم الأصفهاني التفسيريّة في مصر وإيران بصورة مستقلّة، ويتميّز أبو مسلم بمنهجه العقلي في التفسير.
 
6ـ وهناك تفاسير أُخرى للمعتزلة ليست في متناول اليد الآن، مثل: تفسير أبي بكر عبد الرحمن بن كيان الأصم (ت: 240هـ)، محمّد بن عبد الوهّاب بن سلام (أبو علي الجبائي (ت: 303هـ). وهناك تفسير كبير لعبد السلام بن محمّد بن يوسف (ت: 483هـ) شيخ المعتزلة.
 
2ـ الاتجاه الكلامي الأشعري في التفسير
الأشاعرة2 هم أتباع أبي الحسن الأشعري (ت: 330هـ تقريباً)، ومن أهمّ الشخصيات البارزة عندهم: القاضي أبو بكر الباقلاني (ت: 403هـ)، أبو إسحاق الأسفرايني، إمام الحرمين الجويني، الإمام محمّد الغزالي (ت: 505هـ)، والإمام الفخر الرازي.
 
من أهمّ التفاسير الكلامية المدوّنة للأشاعرة هي:
 
1ـ تأويلات القرآن، أبو منصور محمود الماتريدي (ت: 333هـ)، وهو في الفقه
 

1- التفسير والمفسِّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 430.
2- الأشاعرة لا يعتقدون بحرّية واختيار الإنسان، ويقولون بأنّ أعماله مخلوقة من قبل الله سبحانه وتعالى، ولا يذهبون إلى أنّ الإنسان خالق لأفعاله، بل يقولون بالكسب، ولا يعتقدون بالحسن والقبح الذّاتي للأفعال، بل إنّ الحسن والقبح عندهم هو ما حسّنه أو قبّحه الشارع، وكذلك يعتقدون بأنّ العدل شرعي وليس عقلياً (ولهذا السبب اعتُبروا من منكري العدل)، ويذهبون إلى أنّ الإنسان الفاسق يعتبر مؤمناً، وأنّه يمكن أن تشمل المغفرة العصاة دون توبة، ويعتقدون بالشفاعة ويرفضون التوحيد الصفاتي، ويؤكّدون على التوحيد الأفعالي، وأنّ القضاء والقدر الإلهي وإرادته عامّة في جميع الحوادث، وأنّ الشرّ والخير من الله سبحانه وتعالى، وكلام الله قديم (الكلام النفسي وليس الكلام اللفظي)، وأنّ أفعال الله ليست معلّلة وليس لها غاية، وأنّ الله سوف يُرى يوم القيامة بالعين المادّية، وأنّ العالَم حادث زماني، وأنّه يجوز التكليف بما لا يطاق.
 
 
186
 

156

الدرس السابع عشر: الاتجاه الكلامي في تفسير القرآن

من أتباع مذهب أبي حنيفة، ويميل إلى المدرسة الكلامية الأشعرية.
 
2ـ مدارك التنزيل وحقائق التأويل (تفسير النسفي)، عبد الله بن أحمد بن محمود بن محمّد النسفي (القرن السابع). وقد دوّن هذا الكتاب من أجل نقد آراء الزمخشري في الكشّاف، والنسفي من أئمة المذهب الحنفي في زمانه.
 
3ـ بيان المعاني، عبد القادر الملّا حويش آل غاري، حنفي المذهب، ومن أتباع المذهب الأشعري في الكلام.
 
4ـ مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) للفخر الرازي (ت: 602هـ)1 ويطلق عليه إمام المشكّكين، وقد أسرف في ذكر المباحث الكلامية حتّى قيل في تفسيره: فيه كلّ شيء إلّا التفسير. ورغم كونه أشعريّاً في الكلام، ولكنّه قد يتكلّم خلاف العقيدة الأشعرية في بعض الأحيان2.
 
3ـ الاتجاه الكلامي للشيعة في التفسير
الشيعة هم أتباع الأئمّة الإثني عشر - من الإمام عليّ عليه السلام إلى الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف -، وقد استفاد الشيعة من أئمّة أهل البيت عليهم السلام في القرون الأولى، وأخذوا عنهم أهمّ المسائل الكلامية، وقد شاع المذهب الكلامي للشيعة بعد انتهاء الغيبة الصغرى لإمام العصرعجل الله تعالى فرجه الشريف سنة (329هـ)، بواسطة علماء الشيعة الكبار أمثال: الشيخ المفيد، والسيّد المرتضى، والشيخ الطوسي، والخواجة نصير الدِّين الطوسي، و...
 

1- وهناك من قال أن سنة وفاته (606هـ)، أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص406.
2- م. ن، ص 414-415.

 
 
187
 
 

157

الدرس السابع عشر: الاتجاه الكلامي في تفسير القرآن

 تعتقد الشيعة بالتوحيد الصفاتي، والعدل الإلهي، وقد أعطوا أهمية لكل من العقل والنقل، وذهبوا إلى أنّ الإنسان مختار في أفعاله (ليس بصورة مطلقة ولكن أمر بين أمرين)، وينكرون التكليف بما لا يطاق، ويعتقدون بأنّ الله لا يُرى بالعين المادّية لا في الدنيا ولا في الآخرة. ومن أهمّ المسائل الكلامية للشيعة هو الاعتقاد بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام ، والأئمّة الإثني عشر عليهم السلام ، وكذلك الاعتقاد بعصمة الأنبياء والأئمّة عليهم السلام. وأمّا الاتجاه التفسيري للشيعة فهو الالتفات إلى كلّ من الظاهر والباطن للقرآن.

من أهمّ التفاسير الكلامية للشيعة هي:
1ـ غرر الفوائد ودرر القلائد (أمالي السيّد المرتضى)، الشريف المرتضى (ت: 436هـ)، والّذي جمع بين الظاهر والباطن.

2ـ تفسير التبيان، الشيخ أبو جعفر الطوسي (ت: 460هـ).

3ـ تفسير مجمع البيان، أبو علي الطبرسي (ت: 548هـ) رغم كون التفسيرين المذكورين من التفاسير الجامعة ولكنّهما كثيراً ما يهتمّان بالمباحث الكلامية. 

4ـ متشابه القرآن ومختلفه، ابن شهر آشوب المازندراني (ت: 588هـ)، وقد دوّن هذا التفسير بصورة موضوعية.

5ـ حدائق ذات بهجة، أبو يوسف عبد السلام القزويني (ت: 488هـ)، ويشمل جميع آيات القرآن وهذا التفسير كان موجوداً حتّى زمان الصفويّين.

6ـ بلابل القلاقل، أبو مكارم محمّد بن محمّد الحسني (القرن السابع) باللغة الفارسية. وقد بدأ بالآيات الّتي تبدأ بلفظ "قل".
 
 
 
188
 
 

158

الدرس السابع عشر: الاتجاه الكلامي في تفسير القرآن

 7ـ دقائق التأويل وحقائق التنزيل، أبو المكارم محمّد بن محمّد الحسني، وقد فسّر الآيات الّتي تشتمل على العبارات التالية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾.
 
8 جلاء الأذهان وجلاء الأحزان، أبو المحاسن حسين بن الحسن الجرجاني (القرن الثامن) باللغة الفارسيّة، وهو مأخوذ من تفسير أبي الفتوح الرازي الشيعي إلى حدّ ما.
 
9ـ لوامع التنزيل وسواطع التأويل، أبو القاسم الرضوي اللاهوري (ت: 1324هـ)، باللغة الفارسية، والمؤلِّف من علماء الهند.
 
10ـ آلاء الرحمن، محمّد جواد البلاغي النجفي (1282 1352هـ)، وآخر هذا التفسير هو الآية (57) من سورة النساء، وكثيراً ما يتعرّض إلى المسائل الكلامية بين الأديان.
 
11ـ الميزان في تفسير القرآن، محمّد حسين الطباطبائي (1321 1402هـ) باللغة العربية، وهو يتعرّض كثيراً إلى المباحث الاعتقادية (وخصوصاً في المجلّدات الأولى من تفسيره)، ورغم أنّ منهجه هو تفسير القرآن بالقرآن ولكنّه يهتم كثيراً بالمباحث الكلامية والفلسفية.
 
12ـ مواهب الرحمن، السيّد عبد الأعلى السبزواري (1328 - 1414هـ).
 
13ـ تفسير نمونه، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ومعاونوه (معاصر)، فارسي.
 
14ـ تفسير "كلامي قرآن مجيد"، بالفارسية، محمّد حسين الروحاني. تعرّض فيه إلى المباحث الاعتقادية للشيعة والدفاع عنها، وإن كان تفسيره جامعاً ذا اتجاه اجتماعي.
 
 
 
189

 

159

الدرس السابع عشر: الاتجاه الكلامي في تفسير القرآن

النماذج 

من أهمّ الموضوعات والآيات الّتي كانت مورد بحث ونقاش في التفاسير الكلامية هي:

1ـ التوحيد الصفاتي

2ـ التوحيد الأفعالي

3، عصمة الأنبياء عليه السلام 

 

4ـ العدل الإلهي

5ـ الإمامة وخلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم 

6ـ الهداية والضلال وعلاقتهما بحرية واختيار الإنسان

7ـ رؤية الله بالعين وعلاقة ذلك بمسألة التجسيم والتشبيه.

مثال: قال إسحاق المروزي، وهو من الحنابلة أشعري الكلام في الآية الكريمة ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا1. إنّ الله سبحانه يُقعِد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم معه على العرش وذلك جزاءً لهُ على تهجّده، في حين نفى المعتزلة هذا المعنى وقالوا: "إنّ حديث الجلوس على العرش محال، ووقعت الفتنة فقتل بينهم عدد كبير!! واضطر الجند إلى التدخّل لإيقافها"2.

وكذلك بالنسبة إلى الآية الشريفة ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾3 فقد ذهب بعض المفسِّرين إلى أنّ الله سوف يُرى في الآخرة،


1- سورة الإسراء، الآية: 79.

2- أنظر:تاريخ ابن أثير،ج5،ص121.

3- سورة القيامة، الآيتان: 22ـ 23.

 

 

190


 

 


160

الدرس السابع عشر: الاتجاه الكلامي في تفسير القرآن

وهناك روايات في صحيح البخاري تؤيّد هذا المعنى أيضاً1. وأما المعتزلة فقالت: إنّ ظاهر الآية يتعارض مع الآية الكريمة ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾2 وأنّ هذا المعنى رؤية الله في الآخرة هو من المعاني المجازية.
 
قال العلّامة الطباطبائي قدس سره في تفسير الآية السابقة: "والمراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسّي المتعلّق بالعين الجسمانية المادّية الّتي قامت البراهين القاطعة على استحالة في حقّه تعالى، بل المراد النظر القلبي ورؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان ويدلّ عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمة3.


1- صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ﴾.
2- سورة الأنعام، الآية: 103.
3- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 20، ص 198.
 

191

161

الدرس السابع عشر: الاتجاه الكلامي في تفسير القرآن

خلاصة الدرس
- أكثر ما يهتمّ به المفسِّر في الاتجاه الكلامي هو:
الاهتمام بتفسير آيات العقائد،الاهتمام بالآيات المتشابهة في القرآن، إثبات عقائده ونفي عقائد الآخرين عن طريق تفسير الآيات، إنّ بواعث المفسِّر هو الدفاع عن عقائد المسلمين أو الدفاع عن المدرسة الكلامية الّتي يتبنّاها، الاستفادة من المنهج الاجتهادي والعقلي في التفسير، واتّباع الطريقة الاستدلالية، إضافة إلى استخدام الروايات والآيات أيضاً، ولهذا فقد تشتمل التفاسير الكلامية على مناهج واتجاهات متعدّدة.

- أشهر المدارس الكلامية في التفسير عبارة عن:
الاتجاه الاعتزالي، الأشعري، الشيعي، وقد ذكرنا بعض كتب التفسير ذات الاتجاه الكلامي لكلٍّ من هذه المدارس.

- من أهمّ الموضوعات والآيات الّتي كانت مورد بحث ونقاش في التفاسير الكلامية هي: التوحيد الصفاتي،التوحيد الأفعالي، عصمة الأنبياء عليه السلام ، العدل الإلهي،الإمامة وخلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، الهداية والضلال وعلاقتهما بحرّية واختيار الإنسان، رؤية الله بالعين المادّية وعلاقة ذلك بمسألة التجسيم والتشبيه.
 
 
192

 
 


162

الدرس الثامن عشر: التفسير على ضوء المنهج الأشعري

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى نموذج تطبيقي للتفسير على ضوء المنهج الأشعري
 
 
 
 
193

163

الدرس الثامن عشر: التفسير على ضوء المنهج الأشعري

إنّ فخر الدِّين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (543 606هـ) ممّن فسّر كثيراً من الآيات القرآنية على ضوء مذهبه ومنهجه الّذي يتبعه وهو مذهب الإمام الأشعري، وهو أشعري في العقيدة، شافعي في الفقه، فلنذكر نماذج من تفاسيره.
 
1ـ جواز التكليف بما لا يطاق
إنّ جواز التكليف بما لا يطاق من مذاهب الأشاعرة ولقد احتجّ الرازي على مذهبهم بالآيات التالية:
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ1.
 
﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ2.
 
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ
 

1- سورة البقرة، الآية: 6.
2- سورة يس، الآية: 7.
 
 
 
195
 

 


164

الدرس الثامن عشر: التفسير على ضوء المنهج الأشعري

لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾1.
 
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ2.
 
ثمّ أخذ بتقرير دلالة هذه الآيات على جواز التكليف بما لا يطاق بوجوه:
 
1- أنّه تعالى أخبر عن أشخاص معيّنين أنّهم لا يؤمنون قط، فلو صدر منهم الإيمان، لزم انقلاب خبر الله تعالى الصادق كذباً.
 
2- أنّه تعالى لمّا علم منهم الكفر، فكان صدور الإيمان منهم مستلزماً لانقلاب علمه تعالى جهلاً.
 
3- أنّه تعالى كلّف هؤلاء الّذين أخبر عنهم بأنّهم لا يؤمنون بالإيمان البتة، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كلّ ما أخبر عنه، وممّا أخبر عنه أنّهم لا يؤمنون قط، فقد صاروا مكلّفين بأن يؤمنوا بأنّهم لا يؤمنون قط، وهذا تكلّف بالجمع بين النفي والإثبات3.
 
يلاحظ عليه: أنّ الوجدان السليم والعقل الفطري يحكم بامتناع تكليف ما لا يطاق، فلا تنقدح الإرادة في لوح نفس الآمر وضمير روحه إذا علم أنّ المأمور غير قادر على العمل، ولذلك فإنّ مرجع التكليف بما لا يطاق إلى كون نفس التكليف محالاً، ولذلك يقول سبحانه: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾4.
 
وأمّا الوجوه الّتي اعتمد عليها الرازي فموهونة جدّاً، وذلك لأنّ علمه تعالى الأزلي الّذي اعتمد عليه الرازي في الوجهين الأوّلين لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق، بل تعلّق علمه بصدور كلّ فعل عن فاعله حسب 
 

1- سورة المدثر، الآيات: 11ـ 17.
2- سورة المسد، الآية:1.
3- تفسير الرازي، محمّد بن إدريس، ج 2، ص 42، المكتبة العصرية، صيدا، د. ت.
4- سورة البقرة، الآية: 286.

 
196
 
 

165

الدرس الثامن عشر: التفسير على ضوء المنهج الأشعري

الخصوصيات الموجودة فيه، وعلى ضوء ذلك تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر، بلا شعور كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش، عالماً بلا اختيار، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية، فتعلّق علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً وصدور فعله عنه اختياراً فمثل هذا العلم يؤكّد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.
 
وإن شئت قلت: إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة، ومريدة ومختارة كالإنسان، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرّية، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية كان علمه سبحانه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه، وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور، أو بلا اختيار وإرادة، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.
 
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تحليل ما ذكره الرازي بلفظه، قال:
 
فلو صار منهم الإيمان لزم انقلاب خبر الله تعالى الصادق كذباً، فنقول:
 
إنّ هؤلاء لا يصدر منهم الإيمان إلى يوم القيامة قطعاً لكن لا من جهة إخباره سبحانه عنه بل لأجل اختيارهم وانتخابهم عدم الإيمان إلى يوم القيامة، فالإخبار عن عدم تديّنهم شيء، وكون الإيمان خارجاً عن الاختيار شيء آخر، والآية تخبرعن الأوّل دون الثاني.
 
ومنه يظهر ضعف كلامه الثاني حيث قال: "فكان صدور الإيمان منهم مستلزماً لانقلاب علمه تعالى جهلاً"، وذلك لأنّه سبحانه أخبر عن عدم صدور الإيمان وبما أنّه مخبر صادق لا يصدر منهم الإيمان لكن لا لأجل أنّ الله أخبر عنه، بل 
 
 
 
 
197
 
 

166

الدرس الثامن عشر: التفسير على ضوء المنهج الأشعري

لأجل مبادئ كامنة في أنفسهم تجرّهم إلى عدم الإيمان، فالإخبار عن عدم الإيمان شيء وكون الإيمان خارجاً عن اختيارهم شيء آخر، والآية تخبر عن الأوّل دون الثاني.
 
وبما ذكرنا من التحليل تقدر على تحليل الوجه الثالث إذ نمنع أنّهم كانوا مكلّفين بعدم الإيمان بل كان أبو لهب مكلّفاً بالتوحيد والرسالة فقط.
 
2ـ إمكان رؤية الله 
ذهبت الأشاعرة إلى جواز رؤيته سبحانه يوم القيامة، وهذا هو الأصل البارز في مدرستهم الكلامية، ثمّ إنّ هناك آيات تدّل بصراحتها على امتناع رؤيته سبحانه فحاولوا إخضاع الآيات لنظريّتهم، وإليك نموذجاً واحداً، يقول سبحانه: ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾1.
 
ومن المعلوم أنّ الإدراك مفهوم عامّ لا يتعيّن في البصري أو السمعي أو العقلي، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين، والإدراك بالسمع يراد منه السماع، هذا هو ظاهر الآية، وهي تنفي إمكان الإدراك بالبصر على الإطلاق.
 
ولمّا وقف الرازي على أنّ ظاهر الآية أو صريحها لا يوافق أصله الكلامي، لأنّها ظاهرة في نفي الإدراك بالبصر، قال: إنّ أصحابنا (الأشاعرة) احتجّوا بهذه الآية على أنّه يجوز رؤيته والمؤمنون يرونه في الآخرة، وذلك لوجوه:


1- سورة الأنعام، الآيتان: 102ـ 103.
 
 
 
198

167

الدرس الثامن عشر: التفسير على ضوء المنهج الأشعري

أ- أنّ الآية في مقام المدح فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل التمدّح بقوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ ألا ترى أنّ المعدوم لا تصحّ رؤيته، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا تصحّ رؤية شيء منها ولا يمدح شيء منها في كونها ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ فثبت أنّ قوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ لا يفيد المدح، إلّا إذا صحّت الرؤية.
 
والعجب غفلة الرازي عن أنّ المدح ليس بالجزء الأوّل فقط، أعني: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾، بل المدح بمجموع الجزأين المذكورين في الآية كأنّه سبحانه يقول: والله جلّت عظمته يدرك أبصاركم، ولكن لا تدركه أبصاركم، فالمدح بمجموع القضيتين لا بالقضية الأولى.
 
ب- أنّ لفظ "الأبصار" صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الاستغراق بمعنى أنّه لا يدركه جميع الأبصار، وهذا لا ينافي أن يدركه بعض الأبصار1.
 
يلاحظ عليه: أنّ الآية تفيد عموم السلب لا سلب العموم، بقرينة كونه في مقام بيان رفعة ذاته، وشموخ مقامه.
 
كأنّه سبحانه يقول: "لا يدركه أحد من جميع ذوي الأبصار من مخلوقاته ولكنّه تعالى يدركهم، وهذا نظير قوله سبحانه: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾2.
 
إلى غير ذلك من الوجوه الواهية الّتي ما ساقه إلى ذكرها إلّا ليُخضِعَ الآية، لمعتقده.
 

1- تفسير الرازي، محمّد بن إدريس، ج 13، ص 125. 
2- سورة غافر، الآية: 35.
 
 
199

 

 


168

الدرس الثامن عشر: التفسير على ضوء المنهج الأشعري

خلاصة الدرس

- إنّ فخر الدِّين الرازي ممّن فسّر كثيراً من الآيات القرآنية على ضوء مذهبه ومنهجه الّذي يتبعه وهو مذهب الأشعري وقد ذكرنا نماذج من تفاسيره:

1ـ جواز التكليف بما لا يطاق

2ـ إمكان رؤية الله 

وقد ناقشناه ورددنا عليه قوله.
 
 
 200
 

169

الدرس التاسع عشر: تفسير الآيات على ضوء مدرسة الاعتزال (نموذج تطبيقي)

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى نموذج تطبيقي للتفسير على ضوء المنهج الاعتزالي
 
 
 
 
201

170

الدرس التاسع عشر: تفسير الآيات على ضوء مدرسة الاعتزال (نموذج تطبيقي)

1ـ الشفاعة حطّ الذنوب أو رفع الدرجة
إنّ الشفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها، بل كانت فكرة رائجة بين جميع أُمم العالَم من قبلُ وخاصةً بين الوثنيّين واليهود. نعم إنّ الإسلام قد طرحها مهذَّبة من الخرافات. ومن وقف على آراء اليهود والوثنيّين في أمر الشفاعة يقف على أنّ الشفاعة حسب اعتقادهم كانت مبنيّة على رجائهم لشفاعة أنبيائهم أو أوثانهم في حطّ الذنوب وغفران آثامهم، ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ويرتكبون الذنوب، تعويلاً على ذلك الرجاء، فالآيات النافية للشفاعة والمثبتة لها تحت شرائط خاصّة كلّها راجعة إلى الشفاعة بهذا المعنى فلو نُفِيَت فالمنفي هو هذا المعنى، ولو قُبِلت فالمقبول هو هذا المعنى. إنّ الآيات الواردة في مجال الشفاعة على سبعة أنواع لا يصحّ تفسيرها إلّا بتفسير بعضها ببعض، وتمييز القسم المردود منها عن المقبول.

ومع ذلك نرى أنّ المعتزلة يخصُّون آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة ويرتكبون التأويل في موردها، وما هذا إلّا للموقف الّذي اتّخذوه في حقّ العصاة ومقترفي الذنوب، في أبحاثهم الكلامية، فقالوا بخلود أهل العصيان في النار إذا ماتوا بلا توبة.
 
 
203
 

171

الدرس التاسع عشر: تفسير الآيات على ضوء مدرسة الاعتزال (نموذج تطبيقي)

قال القاضي عبد الجبار: إنّ شفاعة الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا، (تتنزّل) منزلة الشفاعة لِمن قتلَ ولدَ الغير، وترصّد للآخر حتّى يقتله، فكما أنّ ذلك يقبح، فكذلك هاهنا1.
 
والّذي دفع القاضي إلى تصوير الشفاعة في حقّ المذنب بما جاء في المثال، هو اعتقاده الراسخ بالأصل الكلامي الّذي يعدّ أصلاً من أُصول منهج الاعتزال (خلود العاصي إذا مات بلا توبة في النار) وفي الوقت نفسه يعرب عن غفلته عن شروط الشفاعة، فإنّ بعض الذنوب الكبيرة تقطع العلائق الإيمانية بالله سبحانه كما تقطع الأواصر الروحية بالشفيع، فأمثال هؤلاء العصاة محرومون من الشفاعة، وقد وردت في الروايات الإسلامية شروط الشفاعة وحرمان طوائف منها.
 
ولو افترضنا صحّة ما ذكره من التمثيل فحكمه بحرمان العصاة من الشفاعة اجتهاد في مقابل نصوص الآيات وإخضاع لها لمدرسته الفكرية.
 
يقول الزمخشري في تفسير قوله سبحانه: ﴿أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾2: ﴿وَلاَ خُلَّةٌ﴾ حتّى يسامحكم أخلّاؤكم به، وإن أردتم أن يحطّ عنكم ما في ذمّتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حطّ الواجبات، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل لا غير3.
 
يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد نفي الشفاعة بالمعنى المتعارف بين اليهود والوثنيّين لأجل أنّهم من المشركين، وانقطاع صلتهم عن الله سبحانه، وبالتالي إثباتها في حقّ غيرهم بإذنه سبحانه ويقول في الآية التالية: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ﴾، وأمّا أنّ حقيقة الشفاعة زيادة الفضل لا حطّ الذنوب فهو


1- شرح الأُصول الخمسة، عبد الجبّار المعتزلي، ص 688.
2- سورة البقرة، الآية: 254.
3- الكشّاف، الزمخشري، ج 1، ص 291 في تفسير الآية رقم 254 من سورة البقرة، دار الكتاب العربي، مصر، 1385هـ 1966م
 
 
 
204
 

172

الدرس التاسع عشر: تفسير الآيات على ضوء مدرسة الاعتزال (نموذج تطبيقي)

 تحميل للعقيدة على الآية، فلو استدلّ القائل بها على نفي الشفاعة بتاتاً لكان أولى من استدلاله على نفي الشفاعة للكفّار، وذلك لأنّ المفروض أنّ الشفاعة بمعنى زيادة الفضل لا حطُّ الذنوب، وهو لا يتصوّر في حقّ الكفّار لأنّهم لا يستحقّون الثواب فضلاً عن زيادته.
 
2- هل مرتكب الكبيرة يستحقّ المغفرة أم لا؟
اتفقت المعتزلة على أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار إذا مات بلا توبة1 وفي ضوء ذلك التجأوا إلى تأويل كثير من الآيات الظاهرة في خلافه نذكر منها آيتين:
 
الأُولى: يقول سبحانه: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾2.
 
فالآية ظاهرة في أنّ مغفرة الربّ تشمل الناس في حال كونهم ظالمين، ومن المعلوم أنّ الآية راجعة إلى غير صورة التوبة وإلّا فلا يصحّ وصفهم بكونهم ظالمين، فلو أخذنا بظاهر الآية فهو يدّل على عدم جواز الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، لرجاء شمول مغفرة الربّ له، ولمّا كان ظاهر الآية مخالفاً للأصل الكلامي عند صاحب الكشّاف، حاول تأويل الآية بقوله: "فيه أوجه:
 
1ـ أن يريد بقوله ﴿عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ السيئات المكفّرة لمجتنب الكبائر.
 
2ـ أو الكبائر بشرط التوبة.
 
3ـ أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال3.
 
وأنت خبير بأنّ كلّ واحد من الاحتمالات مخالف لظاهر الآية أو صريحها.


1- أنظر: أوائل المقالات، الشيخ المفيد، ص 14، وشرح الأصول الخمسة، عبد الجبار المعتزلي، ص 659.
2- سورة الرعد، الآية: 6.
3- الكشّاف، الزمخشري، ج 2، ص 158.
 
 
205
 

173

الدرس التاسع عشر: تفسير الآيات على ضوء مدرسة الاعتزال (نموذج تطبيقي)

الثانية: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء1.
 
والآية واردة في حقّ غير التائب، لأنّ الشرك مغفور بالتوبة أيضاً، فيعود نتيجة ذلك عدم جواز الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبائر في النار، ولمّا كان مفاد الآية مخالفاً لما هو المحرّر في المدرسة الكلامية للمعتزلة حاول صاحب الكشاف تأويل الآية فقال:
 
الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين بقوله تعالى: ﴿لِمَن يَشَاء﴾ كأنّه قيل: "إنّ الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك" على أنّ المراد بالأوّل من لم يتب وبالثاني من تاب، نظير قولك: إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء، تريد لايبذل الدينار لمن لا يستأهله ويبذل القنطار لمن يستأهله2.
 
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره خلاف ظاهر الآية وقد ساقته إليه مدرسته الكلامية فنزّل الأوّل في غير مورد التوبة، والثاني موردها، حتّى تتّفق الآية ومعتقده.
 
كما أنّه لا دلالة في الآية على تقييد الثاني بالتوبة، لأنّه تفكيك بين الجملتين بلا دليل، بل هما ناظرتان إلى صورة واحدة وهي صورة عدم اقترانهما بالتوبة فلا يغفر الشرك لعِظَم الذنب ويغفر ما دونه.
 
ومن هذا القبيل أيضاً، تفسيره لقوله سبحانه: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾3.
 
فقد فسّره الزمخشري على ضوء مذهب الاعتزال من خلود أصحاب الكبائر


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- الكشّاف، الزمخشري، ج 1، ص 401 في تفسير الآية المذكورة.
3- سورة النساء، الآية: 93.
 
 
206

 

174

الدرس التاسع عشر: تفسير الآيات على ضوء مدرسة الاعتزال (نموذج تطبيقي)

إذا ماتوا بلا توبة في النار، وجعل هذه الآية من أدلّة عقيدته، فقال: هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد، والإبراق والإرعاد، أمر عظيم وخطب غليظ، إلى أن قال والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة، ثمّ لا تدعهم أشعبيتهم وطمّاعيتهم الفارغة، واتّباعهم هواهم، وما يخيل إليهم مناهم، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾1.
 
فإن قلت: هل فيها دليل على خلود من لم يتب من أهل الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل، وهو تناول قوله ﴿وَمَن يَقْتُلْ﴾ أي قاتل كان من مسلم أو كافر، تائب أو غير تائب، إلّا أنّ التائب أخرجه الدليل، فمن ادّعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله2.
 
إنّ ما ذكره الزمخشري بطوله قد ذكره القاضي عبد الجبّار على وجه الإيجاز، وقال: وجه الاستدلال أنّه تعالى بيّن أنّ من قتل مؤمناً عمداً جازاه، وعاقبه، وغضب عليه، ولعنه وأخلده في جهنّم3.
 
يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ دلالة الآية بالإطلاق، فكما خرج منه القاتل الكافر إذا أسلم، والمسلم القاتل إذا تاب، فليكن كذلك من مات بلا توبة ولكن اقتضت الحكمة الإلهية أن يتفضّل عليه بالعفو، فليس التخصيص أمراً مشكلاً.
 
وثانياً: أنّ المحتمل أن يكون المراد القاتل المستحلّ لقتل المؤمن، أو قتله لإيمانه وهذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات. ومثل هذا يكون كافراً خالداً في النار.


1- سورة محمد، الآية: 24.
2- الكشّاف، الزمخشري، ج 1، ص 416.
3- شرح الأصول الخمسة، عبد الجبار المعتزلي، ص 659.
 
 
 
207

175

الدرس التاسع عشر: تفسير الآيات على ضوء مدرسة الاعتزال (نموذج تطبيقي)

خلاصة الدرس
-إنّ المعتزلة كثيراً ما فسّروا من الآيات القرآنية على ضوء مذهبهم ومنهجهم الّذي يتّبعونه وقد ذكرنا نماذج من تفاسيرهم:

1ـ الشفاعة حطّ الذنوب أو رفع الدرجة
إنّ المعتزلة يخصُّون آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة ويرتكبون التأويل في موردها، وما هذا إلّا للموقف الّذي اتّخذوه في حقّ العصاة ومقترفي الذنوب، في أبحاثهم الكلامية، فقالوا بخلود أهل العصيان في النار إذا ماتوا بلا توبة.

2- هل مرتكب الكبيرة يستحقّ المغفرة أم لا؟
اتفقت المعتزلة على أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار إذا مات بلا توبة وفي ضوء ذلك التجأوا إلى تأويل كثير من الآيات الظاهرة في خلافه نذكر منها آيتين:

الأُولى: يقول سبحانه: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.

الثانية: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكروه خلاف ظاهر الآية وقد ساقتهم إليه مدرستهم الكلامية.
 
 
 
208
 
 

176

الدرس العشرون: الاتجاه الفقهي في تفسير القرآن

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى الاتجاه الفقهي في تفسير القرآن
2- أن يتعرّف إلى خصائص المفسِّر ذي الاتجاه الفقهي
3- أن يدرك الاتجاهات الفقهية المذهبية وبعض ما ألّف فيها
 
 
 
209

177

الدرس العشرون: الاتجاه الفقهي في تفسير القرآن

تمهيد
ذكرنا سابقاً بعض المسائل المتعلّقة بالمناهج والاتجاهات التفسيريّة والفارق بينها، وفي هذه المباحث كان لا بدّ من التعرّض لبعض الاتجاهات التفسيريّة والّتي منها الاتجاه الفقهي ولتوضيح المراد منه لا بدّ من الإشارة إلى هذه النقاط المهمّة:
 
نبذة تأريخية 
أشار القرآن الكريم في آيات متعدِّدة إلى الأحكام التكليفية للإنسان والّتي قيل إنّها تقارب الخمسمائة آية. وكان العمل بهذه الآيات قائماً في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان الصحابة يسألون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن أيّ إبهام حولها. 
 
ولمّا توفيّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الصحابة يستنبطون الأحكام من هذه الآيات ويعملون بها، وقد يختلفون حولها. 
 
من ذلك أنّه لمّا رفعت امرأة إلى عمر وكانت قد وَلَدَت لستّة أشهر، فَهَمّ عمر أن يرجمها لولا أن تداركها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وقال: "إنّ لها عذراً
 
 

211

178

الدرس العشرون: الاتجاه الفقهي في تفسير القرآن

في كتاب الله"، يقول تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾1. وقال: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ فإذا كان الفصال وهي مدّة الرضاع عامين، فالباقي للحمل ستّة أشهر، فاقتنع عمر بذلك وخلّى سبيلها. ثمّ قال: "اللّهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب"2
 
وبعد نشوء المذاهب الفقهية في القرن الثاني الهجري فما بعد، قام أتباع وعلماء المذاهب كالشيعة، والحنفية، والمالكية، والحنابلة و... بتفسير آيات الأحكام وتأليف الكتب في هذا المجال. وقد أفرط بعضهم بتأويل الآيات المخالفة لآرائهم إلى حدّ أنّ عبد الله الكرخي (ت: 340هـ) أحد متعصّبي المذهب الحنفي قال: "كلّ آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤوّل أو منسوخ"3. ومن الطبيعي فإنّ الكثير من المفسّرين الّذين كتبوا في هذا الاتجاه لزموا طريق الإنصاف. 
 
واليوم نحن بأشدّ الحاجة إلى كتب في تفسير آيات الأحكام تضمّ أدلّة جميع المذاهب بصورة مقارنة.
 
خصائص الاتجاه الفقهي
إنّ المفسّر ذا الاتجاه الفقهي غالباً ما يهتمّ بالعناصر التالية:
1ـ تفسير الآيات الّتي تتضمّن أحكاماً فقهية تخصّ حياة الإنسان، وتبيّن تكليفه عن طريق الواجب، المستحب، الحرام، المكروه، والمباح، في أبواب العبادات والمعاملات والأحكام (قصاص وحدود وديات). 
 
2ـ اهتمام المفسّر يكمن في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن طريق آيات القرآن. 
 

1- سورة البقرة، الآية: 233.
2- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 808.
3- م. ن، ج 2، ص 814 815.
 
 
212
 

 


179

الدرس العشرون: الاتجاه الفقهي في تفسير القرآن

3ـ عادة ما يكون المفسّر لآيات الأحكام مجتهداً في الفقه، حيث يقوم ببيان رأيه في نهاية المطاف.
 
4ـ عادة ما يستخدم المفسّر في هذا الاتّجاه المنهج الفقهي في التحليل ويستفيد من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.
 
5ـ يتنوّع التفسير الفقهي تبعاً للمباني الّتي يختارها المفسّر في الفقه والأُصول، فإذا ما ذهب المفسّر الفقيه إلى حجيّة الخبر الواحد، أو الإجماع، فإنّ نتائج التفسير سوف تختلف عن المفسّر الّذي لا يعتقد بحجّيّتها.
 
الأنواع والمصادر
إنّ الاتجاه الفقهي للتفسير يختلف تبعاً لاختلاف المذاهب الفقهية، والآن نشير إلى أهمّ هذه الاتجاهات:
 
1- الاتجاه الفقهي الشيعي 
يتحرّك فقهاء الشيعة على أساس مذهب أهل البيت عليهم السلام ، ويفسّرون آيات الأحكام بالاستفادة من الروايات الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام ، بالإضافة إلى القرائن العقلية والنقلية الأخرى، ويمكن ذكر بعض التفاسير الفقهية للشيعة:
 
1ـ أحكام القرآن (فقه القرآن)، الراوندي (ت: 573هـ).
 
2ـ زبدة البيان في أحكام القرآن، المقدّس الأردبيلي (ت: 993هـ).
 
3ـ كنز العرفان في فقه القرآن، السيوري، المشهور بالفاضل المقداد (ت: 826هـ).
 
4ـ تفسير شاهي، السيّد أمير الفتوح الحسيني الجرجاني (ت: 976هـ) باللغة الفارسية.
 

213

180

الدرس العشرون: الاتجاه الفقهي في تفسير القرآن

5ـ مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام، جواد الكاظمي (توفي في القرن الحادي عشر الهجري).
 
6ـ تفسير آيات الأحكام، السيّد محمّد حسين الطباطبائي اليزدي (ت: 1386هـ).
 
2ـ الاتجاه الفقهي الشافعي
يطلق على أتباع محمّد بن إدريس الشافعي (ن: 204هـ) في الفقه لقب الشافعية، حيث ذهبوا في تفسير آيات الأحكام طبقاً لآرائه الفقهية. ومن كتبهم في التفسير الفقهي:
 
1ـ أحكام القرآن، المنسوب إلى الشافعي.
 
2ـ أحكام القرآن، الهرّاسي (ت: 504هـ).
 
3ـ نيل المرام من تفسير آيات الأحكام، أبو الطيب سيّد محمّد صدّيق بن حسن خان القنوجي البخاري (ت: 1307هـ).
 
3ـ الاتجاه الفقهي المالكي
يطلق على أتباع مالك بن أنس (ت: 179هـ) لقب المالكية، وقد فسّروا آيات الأحكام طبقاً لآرائه الفقهية، ومن كتبهم في التفسير الفقهي:
 
1ـ أحكام القرآن، أبو بكر ابن العربي (ت: 543هـ).
 
2ـ الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (ت: 671هـ).
 
4ـ الاتجاه الفقهي الحنفي
يطلق على أتباع أبي حنيفة النعمان بن ثابت (80 153هـ) في الفقه لقب الحنفية، حيث كتبوا وفسّروا آيات الأحكام على أساس آراء أبي حنيفة الفقهية. ومن كتبهم في التفسير الفقهي:

 
214
 

181

الدرس العشرون: الاتجاه الفقهي في تفسير القرآن

1ـ أحكام القرآن، الجصّاص (ت: 370هـ).
 
2ـ التفسيرات الأحمدية، أحمد بن أبي سعيد بن عبد الله (ت: 1130هـ)، المعروف باسم "ملاجيون" الحنفي.
 
5ـ الاتجاه الفقهي الحنبلي
يطلق على أتباع أحمد بن حنبل (164 241هـ) في الفقه لقب الحنابلة، حيث ذهبوا في تفسير آيات الأحكام طبقاً لآراء أحمد الفقهية، ومن كتبهم في التفسير الفقهي: 
 
1ـ آيات الأحكام، محمّد بن الحسين بن محمّد بن الفرّاء (ت: 458هـ).
 
2ـ تفسير آيات الأحكام، شمس الدِّين محمّد أبو بكر الدمشقي المشهور بابن قيّم الجوزية (ت: 751هـ).
 
3ـ أحكام الرأي من أحكام الآلاء، شمس الدِّين محمّد بن عبد الرحمن ابن الصايغ (ت: 776هـ).
 
ملاحظة (1): هناك بعض الكتب تناولت تفسير آيات الأحكام بطريقة مقارنة مثل تفسير آيات الأحكام، محمّد علي السايس (ت: 1396هـ)؛ روائع البيان في تفسير آيات الأحكام، محمّد علي الصابوني؛ وتفسير آيات الأحكام، الطباطبائي اليزدي (ت: 1386هـ).
 
ملاحظة (2): تناولت بعض الكتب آيات الأحكام على الطريقة الموضوعية مثل: أحكام القرآن، الدكتور محمّد الخزائلي؛ آيات الأحكام، زين العابدين القرباني.
 
وهناك من دوّن آيات الأحكام على الطريقة الترتيبية مثل آيات الأحكام، الميرخاني؛ آيات الأحكام، السيّد محمّد حسين الطباطبائي اليزدي.
 
 
215
 

182

الدرس العشرون: الاتجاه الفقهي في تفسير القرآن

نماذج وموضوعات
ثمّة آيات مختلف في معناها في الاتجاه الفقهي، من أهمّها:
 
1ـ آية المتعة (النساء: 24).
 
2ـ آية الوضوء (المائدة: 20).
 
3ـ آية الخمس (الأنفال: 41).
 
4ـ حجّ التمتع و...
 
وقد صُنِّفت آيات الأحكام على أساس التقسيم الفقهي إلى العبادات (الصلاة، الصوم و...)، العقود (النكاح و...)، الإيقاعات (الطلاق و...)، الأحكام القضائية (القصاص و...) وهناك من أضاف إليها الأحكام الحكوميّة (الولاية، الجهاد و...)، والأحكام الاجتماعية (الإرث، الوصية و...).
 
 
216

 

183

الدرس العشرون: الاتجاه الفقهي في تفسير القرآن

(النساء: 24)، آية الوضوء (المائدة: 20)، آية الخمس (الأنفال: 41)، حجّ التمتع و...
 
وقد صُنِّفت آيات الأحكام على أساس التقسيم الفقهي إلى العبادات (الصلاة، الصوم و...)، العقود (النكاح و...)، الإيقاعات (الطلاق و...)، الأحكام القضائية (القصاص و...) وهناك من أضاف إليها الأحكام الحكوميّة (الولاية، الجهاد و...)، والأحكام الاجتماعية (الإرث، الوصية و...).
 
 
218

184

الدرس العشرون: الاتجاه الفقهي في تفسير القرآن

 خلاصة الدرس
- أشار القرآن الكريم في آيات متعدِّدة إلى الأحكام التكليفية للإنسان والّتي قيل إنّها تقارب الخمسمائة آية.
 
- لمّا توفيّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الصحابة يستنبطون الأحكام من هذه الآيات ويعملون بها، وقد يختلفون حولها. 
 
- إنّ المفسّر ذا الاتجاه الفقهي غالباً ما يهتمّ بالعناصر التالية:
 
1ـ تفسير الآيات الّتي تتضمّن أحكاماً فقهية تخصّ حياة الإنسان. 
 
2ـ اهتمام المفسّر يكمن في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن طريق آيات القرآن. 
 
3ـ عادة ما يكون المفسّر لآيات الأحكام مجتهداً في الفقه.
 
4ـ عادة ما يستخدم المفسّر في هذا الاتّجاه المنهج الفقهي في التحليل ويستفيد من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.
 
5ـ يتنوّع التفسير الفقهي تبعاً للمباني الّتي يختارها المفسّر في الفقه والأُصول، فإذا ما ذهب المفسّر الفقيه إلى حجيّة الخبر الواحد، أو الإجماع، فإنّ نتائج التفسير سوف تختلف عن المفسّر الّذي لا يعتقد بحجّيّتها.
 
إنّ الاتجاه الفقهي للتفسير يختلف تبعاً لاختلاف المذاهب الفقهية، نشير إلى أهمّ هذه الاتجاهات: الاتجاه الفقهي الشيعي، الشافعي، المالكي، الحنفي، الحنبلي. وذكرنا لكلّ اتجاه بعض الكتب.
 
ثمّة آيات مختلف في معناها في الاتجاه الفقهي، من أهمّها:آية المتعة 
 
 
 
217

 

185

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى نموذج المنهج النقلي (الروائي)
2- أن يتعرّف إلى نموذج الاتجاهين الأدبي والكلامي
 
 
 
 
221
 

186

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ1.
 

اسم الكتاب

مجمع البيان في تفسير القرآن

تأليف

أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (... - 548 هـ)

القرن

السادس الهجري

الاتجاه

الأدبي

المصدر

ج3 ص 322 - 323

 

 

اللغة
الوليّ: هو الّذي يلي النصرة والمعونة والولي هو الّذي يلي تدبير الأمر يقال فلان وليّ المرأة إذا كان يملك تدبير نكاحها ووليّ الدم من كان إليه المطالبة بالقود والسلطان ولي أمر الرعية ويقال لمن يرشحه لخلافته عليهم بعده وليّ عهد المسلمين قال الكميت يمدح عليّاً:

ونعم وليّ الأمر بعد وليّه                   ومنتجع التقوى ونعم المؤدّب 


1- سورة المائدة، الآية: 55.
 
 
223
 

 


187

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

وإنّما أراد وليّ الأمر والقائم بتدبيره قال المبرد في كتاب العبارة عن صفات الله: أصل الوليّ الّذي هو أولى أي أحقّ ومثله المولى. 

والركوع هو التطأطؤ المخصوص قال الخليل كلّ شيء ينكب لوجهه فتمسّ ركبته الأرض أو لا يمسّ بعد أن يطأطىء رأسه فهو راكع وأنشد لبيد:
أخبر أخبار القرون الّتي مضت       أدب كأنّي كلّما قمت راكع

وقال ابن دريد: الراكع الّذي يكبو على وجهه ومنه الركوع في الصلاة، قال الشاعر:
وأفلت حاجب فوق العوالي          على شقا تركع في الظراب 

وقد يوصف الخاضع بأنّه راكع على سبيل التشبيه والمجاز لما يستعمله من التطامن والتطأطؤ وعلى ذلك قول الشاعر:
لا تُهِنِ الفقير علّك أن              تركع يوماً والدهر قد رفعه 

الإعراب
لفظة (إنّما) مخصّصة لما أثبت بعده نافية لما لم يثبت، يقول القائل لغيره: "إنّما لك عندي درهم فيكون مثل أن يقول أنّه ليس لك عندي إلّا درهم"، وقالوا: "إنّما السخاء حاتم" يريدون نفي السخاء عن غيره والتقدير إنّما السخاء سخاء حاتم فحذف المضاف، والمفهوم من قول القائل إنما أكلت رغيفاً وإنّما لقيت اليوم زيداً نفي أكل أكثر من رغيف ونفي لقاء غير زيد.

وقال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى             وإنّما العزّة للكاثر 
 
 
224
 

188

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

 أراد نفي العزّة عمّن ليس بكاثر وقوله " وهم راكعون " جملة في موضع النصب على الحال من يؤتون أي يؤتون الزكاة راكعين كما يقال الجواد من يجود بماله وهو ضاحك...
 

اسم الكتاب

تفسير القمي

تأليف

أبو الحسن عليّ بن إبراهيم القمي رحمه الله (... - 307 هـ)

القرن

الرابع الهجري

الاتجاه

الروائي

المصدر

ج9 ص 11

وأما قوله ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ فإنّه حدّثني أبي عن صفوان عن أبان بن عثمان بن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام ، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وعنده قوم من اليهود فيهم عبد الله بن سلام، إذ نزلت عليه هذه الآية فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد فاستقبله سائل، فقال هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال نعم، ذاك المصلّي فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو عليّ أمير المؤمنين عليه السلام.

 

اسم الكتاب

تفسير العسكري

تأليف

منسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام

القرن

الثالث الهجري

الاتجاه

الروائي

المصدر

ج4 ص 101


قال (أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ): يا عبد الله بن سلام ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ﴾ ناصركم الله على اليهود القاصدين بالسوء لك (ورسوله) (إنما) وليك وناصرك (والذين

 

225


189

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

آمنوا الّذين - صفتهم أنّهم - يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) أي وهم في ركوعهم.

ثم قال: يا عبد الله بن سلام (ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا) من يتولّاهم، ووالى أولياءهم، وعادى أعداءهم، ولجأ عند المهمّات إلى الله ثمّ إليهم (فإنّ حزب الله) جنده (هم الغالبون) لليهود وسائر الكافرين، أي فلا يهمنك يا بن سلام، فإنّ الله تعالى (هو ناصرك) وهؤلاء أنصارك، وهو كافيك شرور أعدائك وذائد عنك مكايدهم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عبد الله بن سلام أبشر، فقد جعل الله لك أولياء خيراً منهم: الله، ورسوله، والذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم راكعون.

فقال عبد الله بن سلام: (يا رسول الله) من هؤلاء الّذين آمنوا؟ فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سائل، فقال: هل أعطاك أحد شيئاً الآن؟ قال: نعم ذلك المصلّي، أشار إلي بأصبعه: أن خذ الخاتم.

فأخذته فنظرت إليه وإلى الخاتم، فإذا هو خاتم عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الله أكبر، هذا وليّكم (بعدي) وأولى الناس بالناس بعدي.
 
 
226

190

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

 

اسم الكتاب

التبيان في تفسير القرآن

تأليف

شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (385 - 460 ه‍)

القرن

الرابع - الخامس الهجري

الاتجاه

الكلامي

المصدر

ج3 ص 557 - 562


الاتجاه الكلامي

واعلم أنّ هذه الآية من الأدلّة الواضحة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد النبيّ بلا فصل. ووجه الدلالة فيها أنّه قد ثبت أنّ الولي في الآية بمعنى الأولى والأحقّ. وثبت أيضاً أنّ المعني بقوله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ أمير المؤمنين عليه السلام فإذا ثبت هذان الأصلان دلّ على إمامته، لأنّ كلّ من قال: "إنّ معنى الولي في الآية ما ذكرناه قال إنّها خاصّة فيه".

 ومن قال باختصاصها به عليه السلام قال المراد بها الإمامة.

فإن قيل دلّوا أوّلاً على أنّ الولي يستعمل في اللغة بمعنى الأولى والأحقّ ثمّ على أنّ المراد به في الآية ذلك، ثمّ دلّوا على توجّهها إلى أمير المؤمنين عليه السلام. قلنا: الّذي يدلّ على أنّ الولي يفيد الأولى قول أهل اللغة للسلطان المالك للأمر: فلان ولي الأمر قال الكميت:

ونعم وليّ الأمر بعد وليّه        ومنتجع التقوى ونعم المؤدّب

ويقولون: فلان ولي عهد المسلمين إذا استخلف للأمر لأنّه أولى بمقام من قبله من غيره وقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" يريد من هو أولى بالعقد عليها.


227


 

 

 

 


191

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

 وقال تعالى: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾1 يعني من يكون أولى بحيازة ميراثي من بني العم.
 
وقال المبرد: الولي والأولى والأحقّ والمولى بمعنى واحد والأمر فيما ذكرناه ظاهر، فأمّا الّذي يدلّ على أنّ المراد به في الآية ما ذكرناه هو أنّ الله تعالى نفى أن يكون لنا ولي غير الله وغير رسوله، والذين آمنوا بلفظة "إنّما" ولو كان المراد به الموالاة في الدِّين لما خصّ بها المذكورين، لأنّ الموالاة في الدِّين عامّة في المؤمنين كلّهم.
 
قال الله تعالى ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾2 وإنّما قلنا: إنّ لفظة (إنّما) تفيد التخصيص، لأنّ القائل، إذا قال إنّما لك عندي درهم فُهِم منه نفي ما زاد عليه، وقام مقام قوله: ليس لك عندي إلا درهم. ولذلك يقولون إنّما النحاة المدقّقون البصريون ويريدون نفي التدقيق عن غيرهم.
 
ومثله قولهم: إنّما السخاء سخاء حاتم، يريدون نفي السخاء عن غيره، قال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى                     وإنّما العزّة للكاثر3 
 
أراد نفي العزّة عن من ليس بكاثر.

واحتجّ الأنصار بما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال (إنّما الماء من الماء) في نفي الغسل من غير إنزال.
 
وادّعى المهاجرون نسخ الخبر، فلولا أنّ الفريقين فهموا التخصيص لما كان

1- سورة مريم، الآيتان:5-6.
2- سورة التوبة، الآية: 71.
3- (كثر) والأكثر هنا والكاثر بمعنى العدد الكثير وليس هو للتفضيل.
 
 
228

 

 


192

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

الأمر كذلك ولقالوا (إنّما) لا تفيد الاختصاص بوجوب الماء من الماء.
 
ويدلّ أيضاً على أنّ الولاية في الآية مختصّة أنّه قال: "وليّكم" فخاطب به جميع المؤمنين ودخل فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وغيره، ثمّ قال ورسوله، فأخرج النبيّ صلّى الله عليه وآله من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته، فلمّا قال ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ وجب أيضاً أن يكون الّذي خوطب بالآية غير الّذي جُعلت له الولاية. وإلّا أدّى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه وأدّى إلى أن يكون كلّ واحد منهم وليّ نفسه، وذلك محال. وإذا ثبت أنّ المراد بها في الآية ما ذكرناه، فالّذي يدلّ على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو المخصوص بها أشياء: 
 
منها - أنّ كلّ من قال: أنّ معنى الولي في الآية معنى الأحقّ قال إنّه هو المخصوص به.
 
ومن خالف في اختصاص الآية يجعل الآية عامّة في المؤمنين وذلك قد أبطلناه.
 
ومنها - أنّ الطائفتين المختلفتين الشيعة وأصحاب الحديث رووا أنّ الآية نزلت فيه عليه السلام خاصّة.
 
ومنها - أنّ الله تعالى وصف الّذين آمنوا بصفات ليست حاصلة إلّا فيه، لأنّه قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ فبيّن أنّ المعني بالآية هو الّذي أتى الزكاة في حال الركوع.
 
وأجمعت الأمّة على أنّه لم يؤت الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين عليه السلام ، وليس لأحد أن يقول: إنّ قوله ﴿وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ ليس هو حالاً ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ بل المراد به أنّ من صفتهم إيتاء الزكاة، لأنّ ذلك خلاف لأهل العربية، لأنّ القائل إذا قال لغيره لقيت فلاناً، وهو راكب لم يفهم منه إلّا لقاؤه له في حال الركوب، ولم
 
229

 

193

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

يفهم منه أنّ من شأنه الركوب.
 
وإذا قال: رأيته وهو جالس أو جاءني وهو ماش لم يفهم من ذلك كلّه إلّا موافقة رؤيته في حال الجلوس أو مجيئه ماشياً. وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون حكم الآية مثل ذلك. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الركوع المذكور في الآية المراد به الخضوع كأنّه قال يؤتون الزكاة خاضعين متواضعين كما قال الشاعر:
ولا تهِنِ الفقير علّك أن                    تركع يوماً والدهر قد رفعه5 
 
والمراد علّك أن تخضع، قلنا الركوع هو التطأطأ المخصوص، وإنّما يقال للخضوع ركوعاً تشبيهاً ومجازاً، لأنّ فيه ضرباً من الانخفاض، يدلّ على ما قلناه نصّ أهل اللغة عليه، قال صاحب العين: كلّ شيء ينكبّ لوجهه فتمسّ ركبتيه الأرض أولا تمسّ بعد أن يطأطئ رأسه فهو راكع قال لبيد:
أخبر أخبار القرون الّتي مضت                   أدب كأنّي كلّما قمت راكع
 
... وإذا كانت الحقيقة ما قلناه، لم يجز حمل الآية على المجاز.
 
فإن قيل قوله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ لفظ جمع كيف تحملون ذلك على الواحد؟ قيل: قد يعبّر عن الواحد لفظ الجمع إذا كان معظّماً عالي الذكر قال تعالى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾2 وقال: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ وقال ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾3 ونظائر ذلك كثيرة.


1- قائلة الأضبط بن قريع الأسدي.
2- سورة الحجر، الآية: 9.
3- سورة ألم السجدة، الآية: 13.
 
 
230
 

194

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

وقال: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾1 ولا خلاف في أنّ المراد به واحد، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي.
 
وقال: ﴿أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾2 والمراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال ﴿الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾3 نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول.
 
فإذا ثبت استعمال ذلك كان قوله: "الذين يقيمون الصلاة" محمولاً على الواحد الّذي قدّمناه.
 
فإن قيل: لو كانت الآية تفيد الإمامة لوجب أن يكون ذلك إماماً في الحال ولجاز له أن يأمر وينهى ويقوم بما يقوم به الأئمّة. قلنا: من أصحابنا من قال: إنّه كان إماماً في الحال ولكن لم يأمر لوجود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكان وجوده مانعاً من تصرُّفه، فلمّا مضى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قام بما كان له.
 
ومنهم من قال – وهو الّذي نعتمده - أنّ الآية دلّت على فرض طاعته واستحقاقه للإمامة. وهذا كان حاصلاً له. وأمّا التصرُّف فموقوف على ما بعد الوفاة كما يثبت استحقاق الأمر لوليّ العهد في حياة الإمام الّذي قبله وإن لم يجز له التصرُّف في حياته.
 
وكذلك يثبت استحقاق الوصية للوصي وإن منع من التصرُّف وجود الموصي.
 
وكذلك القول في الأئمّة وقد استوفينا الكلام على الآية في كتب الإمامة بما لا يحتمل بسطه هاهنا.
 

1- سورة آل عمران، الآية: 173.
2- سورة البقرة، الآية: 199.
3- سورة آل عمران، الآية: 168.

231

 

195

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

 فإن قيل: أليس قد روي أنّها نزلت في عبادة بن الصامت أو عبد الله بن سلام وأصحابه؟ فما أنكرتم أن يكون المراد بالذين آمنوا هم دون من ذهبتم إليه؟ قلنا: أول ما نقوله: إنّا دللنا على أنّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام بنقل الطائفتين، ولما اعتبرناه من اعتبار الصفة المذكورة في الآية وأنّها ليست حاصلة في غيره بطل ما يروى في خلاف ذلك، على أنّ الّذي روي في الخبر من نزولها في عبادة بن الصامت لا ينافي ما قلناه، لأنّ عبادة لمّا تبرّأ من حلف اليهود أُعطي ولاية من تضمّنته الآية، فأمّا ما روي من خبر عبد الله بن سلام فبخلاف ما ذهبوا إليه لأنّه روي أنّ عبد الله بن سلام لمّا أسلم قطعت اليهود حلفه وتبرؤوا منه فاشتدّ ذلك عليه، وعلى أصحابه فأنزل الله تعالى الآية تسلية لعبد الله ابن سلام وأصحابه وأنّه قد عوّضهم من محالفة اليهود، ولاية الله وولاية رسوله وولاية الّذين آمنوا.

والّذي يكشف عمّا قلناه أنّه قد روي أنّها لمّا نزلت خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله من البيت، فقال لبعض أصحابه هل أعطى أحد سائلاً شيئاً فقالوا: نعم يا رسول الله قد أعطى عليّ بن أبي طالب السائل خاتمه، وهو راكع. فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله الله أكبر قد أنزل الله فيه قرآناً ثمّ تلا الآية إلى آخرها. وفي ذلك بطلان ما قالوه.
 
 
232
 

196

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

خلاصة الدرس
لقد أوردنا اتجاهات في تفسير آية الولاية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.
 
1- الاتجاه الأدبي من تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري.
 
اللغة: الولي هو الّذي يلي النصرة والمعونة والولي هو الّذي يلي تدبير الأمر وهو أولى أي أحقّ ومثله المولى. والركوع هو التطأطؤ المخصوص. وقد استشهد المؤلف لاستكشاف المعنى بكلام العرب. ثم أورد المؤلّف إعراب الآية.
 
2- المنهج الروائي: من تفسير القمّي لأبي الحسن عليّ بن إبراهيم القمّي.
 
ومن تفسير العسكري، المنسوب إلى الإمام أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري عليه السلام.
 
3- الاتجاه الكلامي من التبيان: للشيخ الطوسي 
 
حيث اعتبر المؤلّف أنّ هذه الآية من الأدلّة الواضحة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد النبيّ بلا فصل. ووجه الدلالة فيها أنّه قد ثبت أنّ الولي في الآية بمعنى الأولى والأحقّ. وثبت أيضاً أنّ المعني بقوله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ أمير المؤمنين عليه السلام فإذا ثبت هذان الأصلان دلّ على إمامته.
 
ويدلّ أيضاً على أنّ الولاية في الآية مختصّة أنّه قال: "وليّكم" فخاطب به جميع المؤمنين ودخل فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وغيره،ثم قال ورسوله، فأخرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته، فلمّا قال ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ وجب أيضاً أن يكون الّذي خوطب بالآية غير الّذي جعلت له الولاية. وإلّا أدّى إلى أن يكون 
 
 
 
233

 

 


197

الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية

المضاف هو المضاف إليه وأدّى إلى أن يكون كلّ واحد منهم ولي نفسه، وذلك محال. 
 
ومنها - أنّ الطائفتين المختلفتين الشيعة وأصحاب الحديث رووا أنّ الآية نزلت فيه عليه السلام خاصّة.
 
ومنها - أنّ الله تعالى وصف الّذين آمنوا بصفات ليست حاصلة إلّا فيه، لأنه قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ فبيّن أنّ المعني بالآية هو الّذي أتى الزكاة في حال الركوع. وأجمعت الأمّة على أنّه لم يؤت الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين عليه السلام. 
 
 
234

198

الدرس الثاني والعشرون: آية الوضوء (1)

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى نموذج ثان من المنهج (النقلي) الروائي
2- أن يتعرّف الطالب إلى نموذج من الاتجاه الفقهي
 
 
 
 
235
 

199

الدرس الثاني والعشرون: آية الوضوء (1)

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾1.

اسم الكتاب

 زبدة البيان في أحكام القرآن

تأليف

 المقدّس الأردبيلي، أحمد بن محمّد (... - 993 هـ)

القرن

 العاشرالهجري

المنهج

 النقلي (الروائي)

الاتجاه

النقلي (الروائي)

المصدر

ص 15 - 22

 

تخصيص المؤمن بالخطاب لأنّ الكافر لم يقم إلى الصلاة، ولأنّه المنتفع به كما في أكثر التكاليف ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ أي إذا صلّيتم فإنّ المراد
 

1- سورة المائدة، الآية: 6.
 
 
 
237
 

200

الدرس الثاني والعشرون: آية الوضوء (1)

بالقيام قيامها، والتقدير إذا أردتم الصلاة مثل ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ﴾فأقيم مسبّب الإرادة مقامها للإشعار بأنّ الفعل ينبغي أن لا يترك ولا يتهاون فيه، ويفعل سابقاً على القصد الّذي لا يمكن إلّا بعده، فظاهر الأمر الوجوب، فيجب الوضوء للصّلاة بأن يغسل الوجه. والغسل محمول على العرفيّ، وفسّر بإجراء الماء على العضو ولو كان بالآلة وأقلّه أن يجري ويتعدّى من شعر إلى آخر، وظاهرها يدلّ على وجوبه كلّما قام إليها لأنّ ظاهر "إذا" العموم عرفاً وإن لم يكن لغة، ولأنّ الظاهر أنّ القيام إليها علّة، ولكن قيّد بالإجماع والأخبار بالمُحْدِثين (من الحَدَث).
 
وقيل: كان ذلك في أوّل الأمر ثمّ نسخ، وقيل الأمر فيه للندب وردّ النسخ بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "المائدة آخر القرآن نزولاً فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها"1 ولي في النسخ تأمّل إلّا أن يقال المراد نسخ وجوب الوضوء على المتوضّئين المفهوم من عموم فاغسلوا، فعمومه منسوخ، وليس ذلك بتخصيص حيث كان العموم مراداً معمولاً به، وكذا في الندب إلّا أن يقال الندب بالنسبة إلى المتوضّئين فيكون المراد به الرجحان المطلق، فكان الندب بالنسبة إلى المتوضّئين والوجوب بالنسبة إلى غيرهم هذا صحيح ولكن ليس هذا قولاً بأنّ الأمر للندب فقط كما قاله في الكشّاف... 
 
الآية تدلّ على وجوب أمور في الوضوء:
الأوّل: غسل الوجه وهو العضو المعلوم عرفاً، وقد حدّ في بعض الأخبار المعتبرة بأنّه الّذي يدور عليه الإبهام والوسطى عرضاً، وطولاً من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، وهو أوّل فعل في الوضوء، فظاهر الآية لا يدلّ على اعتبار النيّة،
 

1- سورة النحل، الآية: 98.
2- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 2، ص 7.
 
 
238

 

201

الدرس الثاني والعشرون: آية الوضوء (1)

ولا على تعيين الابتداء، لكن اعتبار النيّة معلوم إذ لا يمكن الفعل الاختياريّ بدونها وفعلهم عليهم السّلام كان من الأعلى إلى الأسفل في أعضاء الغسل فهو أحوط، ولا على وجوب الترتيب بين أجزاء العضو، بل لا يمكن ذلك حقيقة، نعم ملاحظة العرفيّ حسن ولا على وجوب التخليل مطلقاً ويدلّ على عدمه الروايات الصحيحة1 ولا على وجوب المسّ والدّلك باليد لصدق الغسل مع الكلّ، فكلّما دلّ عليه دليل من خبر أو إجماع يقال به، والباقي يبقى على حاله.
 
الثاني: غسل اليدين والترتيب مستفاد من الإجماع والخبر ويمكن فهمه من الآية أيضاً بتكلّف بأن يقال يفهم تقديم الوجه لوجود الفاء التعقيبيّة ولا قائل بعدم الترتيب حينئذ فإنّ الحنفيّة لا توجب الترتيب أصلاً، بل تجوّز تقديم غسل الرجلين على غسل الوجه.
 
وأيضاً عطف الباقي على الوجه الّذي هو مدخول الفاء يفيد التعقيب في كلّ واحد فتأمّل فيه فإنّها تدلّ على فعل المجموع بعد القيام إلى الصلاة فكأنّه قال:
 
إذا قمتم إلى الصلاة فتوضّؤا ولا تدلّ على الموالاة أيضاً وفهمها بأنّه يفهم تعقيب الكلّ بلا فصل، وذلك غير ممكن فيراعى ما أمكن بعيد، فإنّ المراد مجرّد التعقيب لا بلا مهلة، وعلى تقدير كونها مرادة فلا يفهم إلّا كون غسل الوجه بلا مهلة.
 
نعم: يفهم وجوب الموالاة وبطلان الوضوء بتركها، مع جفاف جميع الأعضاء السابقة من الروايات الصّحيحة2 بل الإجماع ويمكن فهم أنّ محلّ الوجوب في غسل اليدين إلى المرافق، وإنّ سلّم أنّ ظاهرها كون الابتداء من الأصابع،
 

1- أنظر: وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، أبواب الوضوء، الباب 46.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 35.
 
 
 
239

 

202

الدرس الثاني والعشرون: آية الوضوء (1)

ولكن انعقد إجماع الأمّة على عدم وجوب ذلك فيكون إلى هنا لانتهاء غاية المغسول ومحمولة على معناها اللّغويّ لا الغسل بمعنى كونه منتهاه بعد الابتداء من الأصابع، وأنّه يكفي مسمّى الغسل فيه أيضاً كالوجه على أيّ وجه كان ولا يبعد وجوب غسل المرفق وإن كان غاية وخارجاً من باب المقدّمة لأنّه مفصل وحدّ مشترك، كما ثبت في الأصول فقول القاضي البيضاويّ: وجب غسلها احتياطاً غير مناسب.
 
الثالث: مسح الرأس مطلقاً، بما يصدق مقبلاً ومدبراً قليلاً أو كثيراً على أيّ وجه كان إلّا أنّ إجماع الأصحاب، على ما نقل، وفعلهم عليهم السّلام خصّصه بمقدّم الرأس ببقيّة البلل، لا بالماء الجديد اختياراً، وجوّزه بعض نادر، ودليله ليس بناهض عليه، فإنّه روايتان صحيحتان دالّتان على عدم جواز المسح بفضلة الوضوء والنّدى بل بالماء الجديد، وحملتا، على التقيّة لذلك مع ما فيه، وعلى غير الاختيار والاحتياط لا يترك وقد منع بأكثر من ثلاث أصابع استحباباً، ووجوباً كأنّه بالإجماع، وذهب البعض إلى وجوب ثلاث أصابع، ولا دليل عليه، وعموم الآية والأخبار بل خصوصها ينفيه.
 
الرابع: مسح الرّجلين بالمسمّى كالرأس وفي الرواية الصّحيحة أنّه بكلّ الكفّ ويفهم من الأخرى كلّ الظهر، وإلى أصل الساق ومفصل القدم1 وهو المراد بالكعب، ويدلّ عليه اللّغة، وهو مذهب العلّامة وكأنّه موافق لمذهب العامّة فافهم، ودليل مسحهما إجماع الإمامية وأخبارهم، وظاهر الآية، فإنّ قراءة الجرّ صريحة في ذلك لأنّه عطف على رؤوسكم لا يحتمل غيره، وهو ظاهر وجرّ الجوار ضعيف خصوصاً مع الاشتباه، وحرف العطف، ولهذا ما قاله في الكشّاف
 

1- أنظر: وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، أبواب الوضوء، الباب 15.

 
240
 

203

الدرس الثاني والعشرون: آية الوضوء (1)

وقال: المراد بالمسح حينئذ الغسل القليل. وقد عرفت ما فيه وقراءة النصب أيضاً كذلك، لأنّه عطف على محلّ رؤوسكم وأمثاله في القرآن العزيز وغيره كثيرة جدّا وعطفه على الوجه معلوم قبحه خصوصاً في مثل القرآن العزيز، وليس وجود التحديد في المغسول دليلاً عليه كما قاله البيضاويّ بل هو دليل على ما ذهب إليه أصحابنا لحصول التعادل بأن يكون العضو الأوّل من المغسول والممسوح غير محدود والثاني منهما محدوداً وللقاضي هنا مباحث ولنا كذلك، يطلب من الحاشية، وظاهر الآية عدم الترتيب بينهما، ولا دليل عليه أيضاً من الإجماع والأخبار، بل أكثر الأصحاب على عدمه والأصل مؤيّد، ولا شكّ في الصّدق مع فعله غير مرتّب فتأمّل...
 
وظاهر إذا قمتم كون الوضوء واجباً لغيره، وهي الصّلاة مثلاً و﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ﴾أي: فاغتسلوا كون الغسل واجباً لنفسه لأنّ الظاهر أنّه معطوف على قوله ﴿إِذَا قُمْتُمْ﴾ فتقديره يا أيّها الّذين آمنوا إن كنتم جنباً فاطّهّروا ويدلّ عليه الأخبار أيضاً...
 
﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى﴾ كأنّه عطف على محذوف هو كنتم صحاحاً حاضرين قادرين، أي إذا قمتم إلى الصّلوة وكنتم صحاحاً حاضرين قادرين على استعمال الماء فإن كنتم محدثين لغير الجنابة توضّؤوا، وإن كنتم جنباً فاغتسلوا وإن كنتم مرضى مرضاً يضرّكم استعمال الماء، أو مسافرين فلم تقدروا على استعمال الماء لعدمه أو للتضرّر به. ﴿أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ﴾ لعلّه هنا كناية عن الحدث الخارج من أحد السبيلين فأو، بمعنى الواو "أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ" لعلّه كناية عن الجماع الموجب لغسل الجنابة وهو الدخول حتّى تغيب الحشفة قبلاً أو دبراً ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ أي اقصدوا أرضاً طاهرة مباحة فامسحوا بأيديكم بعض وجوهكم وبعض أيديكم مبتدئاً من الصّعيد أو ببعض الصّعيد، بأن تضعوا
 
 
 
241

 

204

الدرس الثاني والعشرون: آية الوضوء (1)

أيديكم على بعضه، ثمّ تمسحوا الوجه واليد أو من بعض التيمّم كما ورد في الرواية أي ما يتيمّم به وهو الصّعيد فلا دلالة على تقدير كونها تبعيضيّة على وجوب لصوق شي‏ء من الصّعيد، فيجب كونه تراباً يلصق كما توهّم.
 
فالآية تدلّ على وجوب الغسل، وأنّ الجنابة موجبة له، وأنّ الغائط بل البول والريح أيضاً أحداث موجبة للوضوء وأنّ المرض والسفر مع عدم القدرة على الماء موجب للتيمّم بدلهما، ومشعرة بأنّه يبيح به ما يبيح بهما وعلى اشتراط طاهرية ما يتيمّم به، بل إباحته أيضاً بل طهارة الماء وإباحته أيضاً في الوضوء والغسل وأنّ كيفية التيمّم أنّ المسح يكفي ببعض الوجه مطلقاً وكذا ببعض اليد ولا يحتاج إلى الاستيعاب والتخليل وأنّ أوّل أفعال التيمّم مسح الوجه.
 
والوضوء والغسل والتيمّم مبيّنات في كتاب الفروع مع أحكامها وجميع واجباتها وموجباتها والفروعات الكثيرة ليس هذا محلّها إذا لمقصود هنا ما يمكن فهمه من الآيات الكريمة، ثمّ لا يخفى أنّ نظم هذه الآية مثل الّتي سيجي‏ء لا يخلو عن إشكال على حسب فهمنا مثل ترك الحدث في أوّلها وذكر الجنابة فقط بعده والإجمال الّذي لم يفهم أنّ الغسل بعد القيام إلى الصلاة أم لا، وترك كنتم حاضرين صحاحاً قادرين على استعمال الماء، ثمّ عطف إن كنتم عليه، وترك تقييد المرضى وتأخير فلم تجدوا عن قوله أو جاء وذكر جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم مع عدم الحاجة إليهما إذ يمكن الفهم عمّا سبق، والعطف بأو، والمناسب بالواو، وغير ذلك مثل الاختصار في بيان الحدث الأصغر على الغائط والتعبير عنه بجاء أحد منكم من الغائط والأكبر على لامستم والتعبير عن الجنابة به وكأنّه لذلك قال في كشف الكشّاف ونعم ما قال: والآية من معضلات القرآن ثمّ طوّل الكلام في توجيه "أو" في قوله: ﴿أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم﴾، ولعلّ السرّ في ذلك الترغيب على الاجتهاد، وتحصيل العلوم لتظفير السعادات الدائمة.
 
 
 
242

 

205

الدرس الثاني والعشرون: آية الوضوء (1)

ثمّ في الآية احتمالات وأبحاث أخر ستجي‏ء في الثانية إنشاء الله تعالى وقد استدلّ بقوله "فَلَمْ تَجِدُوا ماءً" على طلب الماء غلوة سهم في الحزنة، وغلوتين في السهلة ولا دلالة عليه فيها، ولا في الخبر1 والأصل ينفيه نعم ينبغي الطلب حتّى يتحقّق عدم الماء عنده عرفاً مثل رحله وحواليه مع الاحتمال فتأمّل.
 
﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ قيل: أي ما يريد الله الأمر بالوضوء للصلاة أو بالتيمّم تضييقاً عليكم ويحتمل أن يكون المراد ما يريد الله جعل الحرج عليكم بالتكاليف الشاقّة مثل تحصيل الماء على كلّ وجه ممكن مع عدم كون الماء حاضراً وإن كان ممكناً في نفس الأمر، ولا (يكلّف‏) بالطلب الشاقّ كالحفر وغيره بل بنى على الظاهر فقبل التيمّم ولا كلّف في التيمّم أيضاً بأن يوصل الأرض إلى جميع البدن أو أعضاء الوضوء بل التيمّم أيضاً وأن يطلب ما يمكن إيصاله بل يكفي مجرّد وجه الأرض، وهو مقتضى الشريعة السمحة.
 
﴿وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ﴾ أي من الذنوب فإنّ العبادة مثل الوضوء كفّارة للذنوب أو لينظفكم عن الأحداث ويزيل المنع عن الدخول فيما شرط فيه الطهارة عليكم فيطهّركم بالماء عند وجوده وعند الإعواز بالتراب، فالآية تدلّ على أنّ التيمّم رافع في الجملة وطهارة فيباح به ما يباح بالماء، ويؤيّده ما في الأخبار ويكفيك الصعيد عشر سنين والتراب أحد الطهورين وربّ الماء وربّ التراب واحد2 فيبعد منع إباحة التيمّم ما يبيحه الماء، وأنّه يجب لما يجب له.
 
ثمّ إنّه يزول التيمّم بزوال المانع لأنّه لا يرفع الحدث بالكلّية نعم يحتمل رفعه إلى أن يتحقّق الماء أو توجد القدرة على استعماله إذ لا استبعاد في حكم الشارع بزوال الحدث إلى مدّة فإنّه مجرّد حكم الشارع فلعلّ البحث يرجع إلى اللّفظيّ فتأمّل.
 

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، أبواب التيمم، الباب الأوّل، الحديث 2.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 63.
 
 
243
 

206

الدرس الثاني والعشرون: آية الوضوء (1)

 واللّام للعلّة فمفعول يريد محذوف وهو الأمر في الموضعين وقيل زائدة وليجعل وليطهّركم مفعول، والتقدير لأن يجعل عليكم ولأن يطهّركم وليس فيه قصور وضعف: لأنّ "أن" لا تقدّر بعد اللّام المزيدة كما قاله البيضاويّ. لأنّ الشيخ المحقّق الرضىّ قدّس سرّه قال في شرح الكافية: وكذا اللّام زائدة في لا أبا لك عند سيبويه، وكذا اللّام المقدّر بعدها أن بعد فعل الأمر والإرادة كقوله تعالى ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ على أنّه قال البيضاويّ أيضاً في تفسير قوله تعالى ﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ أنّ يبيّن مفعول يريد، واللّام مزيدة لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة، وهل هذا إلّا تناقض.
 
﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَه﴾ أي ليتمّ بشرعه ما هو مطهّر لأبدانكم ومكفّر لذنوبكم في الدِّين، أو ليتمّ برخصه إنعامه ﴿عَلَيْكُم﴾ بعزائمه ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمته ثمّ أمر الله تعالى بعد ذلك بذكر النعمة والميثاق والعهد الّذي عاهدتم به بقوله ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ﴾ الآية وأمر المؤمنين بكونهم قوّامين للّه شهداء بالعدل فأوجب عليهم ذلك، ونهاهم عن أن يحملهم البغض على العدول والخروج عن الشرع بقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ قال البيضاويّ في ﴿اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ إذا كان هذا مع الكفّار فما ظنّك بالعدل مع المؤمنين؟ ثمّ أمر بالتقوى ووعدهم بالامتثال وأوعدهم على تركه بقوله ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
 
ثمّ اعلم أنّ في حكاية ابني آدم على نبيّنا وآله عليهم السلام إشارة إلى أنّ التقوى شرط لقبول العمل "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ" صفة مصدر محذوف أي أتل واقرأ تلاوة متلبّسة بالحقّ أو حال من ضمير ﴿أَتْلُ﴾ أو من نبإ ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ ظرف بناء، أو حال منه، والقربان اسم لما يتقرّب به إلى الله من ذبيحة وغيرها كما أنّ الحلوان اسم لما يحلى أي يعطى وهو في الأصل مصدر ولهذا لم يثنّ مع أنّ المراد منه اثنان، وقيل
 
 
 
244


 

207

الدرس الثاني والعشرون: آية الوضوء (1)

تقديره إذ قرّب كلّ واحد منهما قرباناً فلا يحتاج إلى التثنية ﴿فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ﴾ قابيل ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ وعده بالقتل بعد عدم قبول قربانه وقبول قربان أخيه، لفرط الحسد على ذلك ولبقاء ما يريده له "قالَ" أخوه هابيل ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ أي إنّما أصابك ما أصابك من عدم القبول عند الله من قبل نفسك، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ فاقتل نفسك لا نفسي.
 
وفيه إشارة إلى أنّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره فيكون الذنب له لا للمحسود، فلا بدّ أن يجتهد في تحصيل ما صار به المحسود محسوداً ومحظوظاً لا في إزالة حظّ المحسود فإنّ ذلك يضرّه ولا ينفع الحاسد، بل يضرّه وهو ظاهر. وفيه دلالة على أنّ القبول يشترط فيه التقوى كما قلناه.
 
قال البيضاويّ: وفيه إشارة إلى أنّ الطاعة لا تقبل إلّا من مؤمن متّق وفيه إشكال ولهذا ما شرطه الفقهاء فإنّ الفسق لا يمنع من صحّة عبادة إذا فعلت على وجهها، ويمكن أن يقال المراد اشتراط التقوى في تلك العبادة أي لا يقبل الله العبادة إلّا من المتّقين فيها بأن يأتي بها بحيث لا يكون عصياناً مثل أن يقصد بها الرئاء أو غيره من المبطلات أو المراد تقوى عن ذنب ينافي تلك العبادة فيكون إشارة إلى أنّ الأمر بالشي‏ء يستلزم النهي عن ضدّه وهو موجب للفساد، وبالجملة يشترط في قبولها عدم كونها معصية ولا مستلزماً لها، الله يعلم ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.
 
قال في الكشّاف: كان هابيل أقوى من قابيل، ولكنّه تحرّج عن قتله واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأنّ الدفع لم يبح بعد أو تحرّياً لما هو الأفضل، قال عليه الصلاة والسلام: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، ويمكن أن يقال التسليم غير ظاهر، وكذا كونه مباحاً فانّ وجوب حفظ النفس عقليّ ولا يمكن إباحة التسليم الّذي هو ينافيه بل هو قتل النفس والآية لا تدلّ على التسليم، فإنّه
 
 
245

 

208

الدرس الثاني والعشرون: آية الوضوء (1)

قال ﴿مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ﴾ فإنّه يدلّ على عدم بسط اليد بقصد قتله لا للدفع أيضاً وهو ظاهر ويمكن فهم وجوب الدّفن من آخر الآية1 فافهم.
 
خلاصة الدرس
- أوردنا نموذجاً للمنهج النقلي الروائي ذات الاتجاه الفقهي من كتاب: زبدة البيان في أحكام القرآن، للمقدّس الأردبيلي، وذلك في تفسير الآية التالية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
 
الآية تدلّ على وجوب أمور في الوضوء:
 
غسل الوجه...، غسل اليدين... مسح الرأس مطلقاً، مسح الرّجلين...
 
ثمّ إنّ الآية تدلّ على وجوب الغسل، وأنّ الجنابة موجبة له، وأنّ الغائط بل البول والريح أيضاً أحداث موجبة للوضوء وأنّ المرض والسفر مع عدم القدرة على الماء موجب للتيمّم بدلهما... وأنّ أوّل أفعال التيمّم مسح الوجه.
 
والوضوء والغسل والتيمّم مبيّنات في كتاب الفروع مع أحكامها وجميع واجباتها وموجباتها والفروعات الكثيرة ليس هذا محلّها إذا لمقصود هنا ما يمكن فهمه من الآيات الكريمة.
 

1- يعني قوله تعالى ﴿ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ﴾( والآيات في سورة المائدة: 27- 31).
 
 
 
246




 
 

209

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

أهداف الدرس
 
1- أن يتعرّف الطالب إلى نموذج من المنهج العرفاني في التفسير
 
 
 
 
 
247
 

210

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾1
 

اسم الكتاب

تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم

تأليف

السيد حيدر الآملي (719 - 787 هـ)

القرن

الثامن الهجري

المنهج

العرفاني

المصدر

ج4 ص 18- 26 و ص 29 - 41

 
 
بعد أن يتحدّث السيّد حيدر الآملي عن وضوء أهل الشريعة يقول:

وأمّا وضوء أهل الطّريقة (طهارة النفس والعقل) فالطهارة عندهم
 

1- سورة المائدة، الآية: 6.
 
249

211

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

بعد القيام بالطّهارة المذكورة، عبارة عن طهارة النفس من رذائل الأخلاق وخسائسها، وطهارة العقل من دنس الأفكار الرديّة والشبه المؤدّية إلى الضّلال والإضلال، وطهارة السرّ من النظر إلى الأغيار، وطهارة الأعضاء من الأفعال الغير المرضيّة عقلاً وشرعاً.
 
وأمّا أفعال هذه الطهارة المعبّر عنها بالوضوء
فالنيّة فيه، وهي أن ينوي المكلّف بقلبه وسرّه أنّه لا يفعل فعلاً يخالف رضى الله تعالى بوجه من الوجوه، ويكون جميع عباداته لله خالصة دون غيره لقوله تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾1.
 
وغسل الوجه، وهو أن يغسل وجه قلبه عن حدث التعلّق بالدّنيا وما فيها، فإنّ الدّنيا جيفة وطلّابها كلاب، فالطالب والمطلوب نجسان، ولهذا قال عليه السلام: "حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة وترك الدّنيا رأس كلّ عبادة"2.
 
وقال عليّ عليه السلام: "يا دنيا غرّي غيري فإنّي قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها"3.
 
وغسل اليدين، وهو غسلهما وطهارتهما عمّا في قبضتهما من النقد والجنس والدنيا والآخرة، فإنّ طهارتهما حقيقة ليس إلّا بترك ممّا في تصرّفهما وحكمهما.


1- سورة الأنعام، الآيتان:162- 163.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 67، ص 315، الشطر الأوّل من الحديث: "حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة".
3- نهج البلاغة، الحكمة: 77.
 
 
 
250

 

212

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

ومسح الرأس، وهو أن يمسح رأسه الحقيقي المسمّى بالعقل أو النّفس، أي يطلع عليهما حتّى يعرف أنّه بقي عندهما شي‏ء من محبّة الدّنيا وما يتعلّق بها من المال والجاه.
 
ومسح الرّجلين وهو أن يمنعهما عن المشي بغير رضى الله وطاعته ظاهراً وباطناً، والمراد بالرجلين في الظاهر معلوم وأمّا في الباطن هما عبارتان عن القوّة النّظرية والعمليّة عند البعض وعن القوّة الشهويّة والغضبيّة عند الآخرين وإلى مثل هذا الوضوء المضاف إلى الوضوء الأوّل أشار النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقال: "الوضوء نور"
 
"الوضوء على الوضوء نور على نور"1.
 
أعني صفاء الظّاهر مع صفاء الباطن على الوجه المذكور فهو نور على نور، أي نور البصيرة على نور الشرع سبب صفاء الظاهر والباطن وموجب ثبات السّالك على الطّريق المستقيم في الدّنيا والآخرة لقوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾2.
 
رزقنا الله الجمع بينهما والإقامة على كلّ واحد منهما، لأنّه المستعان وعليه التكلان.
 
وأمّا وضوء أهل الحقيقة
فالوضوء عندهم المعبّر عنه بالطهارة عبارة عن طهارة السّرّ عن مشاهدة الغير مطلقاً.
 

1- ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الأوّل، ج 2، ص 195.
2- سورة إبراهيم، الآية: 27.
 
251
 

213

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

 والنيّة فيها وهي أن ينوي السّالك في سرّه أنّه لا يشاهد في الوجود غيره ولا يتوجّه إلّا إليه، لأنّ كلّ من توجّه في الباطن إلى غيره فهو مشرك بالشّرك الخفيّ المتقدّم ذكره المشار إليه في قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ1.
 
ولقوله:
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ2.
 
والمشرك نجس لقوله:
﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾3.
 
التوحيد الحقيقي:
فطهارته لا يكون إلّا بهذه النيّة الّتي هي عبارة عن التوحيد الحقيقي النافي للشرك مطلقاً، لأنّه معلوم،وبل مقرّر أنّ الخلاص من الشرك جليّاً كان أو خفيّاً لا يمكن إلّا بالتوحيد ألوهيّاً كان، أو وجوديّاً كما سبق ذكره مفصّلاً عند بحث الأصول.
 
وغسل الوجه فيها عبارة عن طهارة الوجه الحقيقي ونظافة سرّه عن دنس التوجّه إلى الغير، بحيث لا يشاهد غير وجهه الكريم المشار إليه في قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ4.
 
و لا يعرف غير ذاته المحيط المومئ إليه في قوله:
 

1- سورة الجاثية،الآية: 23.
2- سورة يوسف،الآية: 106.
3- سورة التوبة،الآية: 28.
4- سورة البقرة،الآية: 115.
 
 
252
 

214

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

"واللّه بكلّ شي‏ء محيط" وعن هذا التّوجّه أخبر من لسان إبراهيم عليه السلام ، بقوله:﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾1.
 
وغسل اليدين عبارة عن عدم الالتفات إلى ما في يديه من متاع الدّنيا والآخرة، من الدّنيا كالمال والجاه والأهل والولد، ومن الآخرة كالعلم والزّهد والطاعة وما يحصل منها كالثواب والجنّة والحور والقصور، لأنّ رؤية الطّاعة والعبادة واستحقاق التعظيم بهما عند أهل الله معصية، وفيه قيل:
"سيّئة تسوؤك خير من حسنة تعجبك"2.
 
وفيه قيل:
"خير الأعمال ذنب أحدث توبة، وشرّ الأعمال طاعة أورثت عجباً".
 
وإليه أشار صلى الله عليه وآله وسلم في قوله:
"الدّنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدّنيا، وهما حرامان على أهل اللّه"3.
 
ومسح الرأس عبارة عن تنزيه سرّه وتقديس باطنه الّذي هو الرأس الحقيقي عن دنس الأنانية وحدث الغيريّة الحاجب والحاجز بينه وبين محبوبه لقول بعض العارفين فيه:
 

1- سورة الأنعام،الآية: 79.
2- نهج البلاغة، الحكمة: 46.
3- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 4، ص 119.
 
 
 
253
 

215

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

 بيني وبينك إنّيٌّ ينازعني     فارفع بفضلك إنّيِّ من البينِ‏
 
وفيه قيل: "وجودك ذنب لا يقاس به ذنب".
 
وقد سبق أنّ كلّ من شاهد الغير فهو مشرك، وكلّ مشرك نجس، والنجس ليس له طريق إلى عالم القدس والحضرة الإلهيّة لقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾1.
 
ومسح الرّجلين، عبارة عن تنزيه قوّتي العملية والعلمية عن السير إلّا باللّه وفي اللّه، لأنّهما كالقدمين.
 
والرجلين في الظاهر لأنّه بهما يسعى في طلب الحقّ وبهما يصل إليه، وعند التّحقيق: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى2.
 
إشارة إليهما، أعني إذا وصلت إلينا بواسطتهما فدعهما فإنّك بعد هذا ما أنت محتاج إليهما، ومعلوم عند الوصول يجب طرح كلّ ما في الوجود سيّما القوى والحواسّ وما اشتمل عليهما ظاهراً وباطناً.
 
وعند البعض المراد بالنّعلين الدّنيا والآخرة. وعند البعض عالم الظاهر والباطن، وعند البعض النّفس والبدن، والكلّ صحيح، وفي مثل هذا الحال وهذا المقام ورد في الحديث القدسي:
 

1- سورة النساء، الآية: 48.
2- سورة طه،الآية:12.
 
 
 
254


 

216

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

"لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش وبي يمشي"1.
 
إشارة إلى السّير بالله الّذي هو مقام التكميل دون الكمال المشار إليه في قوله:
﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾2.
 
وأمّا بالنّسبة إلى اليدين كقوله:
﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾‏3.
 
وهاهنا أبحاث وأسرار يطول ذكرها، يكفي الفطن اللبيب هذا المقدار، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.
 
ثمّ بعد أن يتحدّث السيّد حيدر الآملي عن غسل أهل الشريعة يقول:
 
و أمّا غسل أهل الطريقة

(حبّ الدنيا جنابة)

 فالغسل عندهم بعد القيام بالغسل المذكور، طهارة من الجنابة الحقيقيّة الّتي هي البعد عن الله، دون المجازيّة الّتي هي الأحداث الشّرعيّة.
 
والجنابة الحقيقية على قسمين: قسم يتعلّق بهم، وقسم متعلّق بأهل الحقيقة.
 
أمّا الّذي يتعلّق بأهل الحقيقة فسيجي‏ء بيانه بعد هذا بلا فصل.
 

1- أنظر: عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 4، ص 103. مع اختلاف بسيط.
2- سورة التوبة،الآية: 122.
3- سورة الأنفال،الآية: 17.

256
 

 


217

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

وأمّا الّذي يتعلّق بهم فهي الجنابة الحاصلة من محبّة الدّنيا، فإنّ الدّنيا في الحقيقة كالمرأة الّتي لها كلّ ساعة بعل آخر كما أشار إليها الإمام عليه السلام في قوله: "قد طلقّتك ثلاثاً لا رجعة فيها"1
 
لأنّها لو لم تكن كالمرأة أو في حكمها ما خاطبها الإمام بهذا الخطاب، فكلّ من يلامس مثل هذه ويجامعها بالنّفس أو الروح أو القلب يكون جنباً بالحقيقة، والجنابة هي البعد عن الله تعالى، فكلّ من يحبّ الدّنيا على الوجه المذكور يكون بعيداً عن الله ضرورة، فإنّ محبّة الله وقربه، ومحبّة الدّنيا وقربها ضدّان لا يجتمعان، وإليه الإشارة في القول السّابق عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي قال: "الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدّنيا، وهما حرامان على أهل اللّه"2.
 
وكذلك ما قال تعالى في كتابه العزيز:
﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾3.
 
وكذلك ما أشار الإمام عليه السلام في قوله:
"إنّ الدّنيا والآخرة عدوّان متفاوتان وسبيلان مختلفان، فمن أحبّ الدّنيا وتولّاها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب، وماش بينهما كلّما قرب من واحد بعد من الآخر، وهما بعد ضرّتان"4


1- نهج البلاغة، الحكمة: 77.
2- عوالي اللئالي، ابن جمهور الأحسائي، ج 4، ص 119.
3- سورة الشورى،الآية: 20.
4- نهج البلاغة، الحكمة: 103.
 
 
256

 

218

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

فالغسل والطّهارة من هذه الجنابة يكون بترك الدّنيا وما فيها بحيث لا يبقى له تعلّق بها بمقدار شعرة، لأنّ في الغسل الشّرعي لو بقي على الجسد شعرة لم يصل الماء إليها: لم يصح غسله ولم يطهر صاحبه من الجنابة، فإنّ التعلّق من حيث التعلّق له حكم واحد وهو التعلّق سواء كان قليلاً أو كثيراً، كما قيل: "المحجوب محجوب سواء كان بحجاب أو ألف حجاب".
 
وترتيب هذا الغسل وهو أن يغسل السّالك أوّلاً رأسه الحقيقي- الّذي هو القلب هاهنا- بماء العلم الحقيقي النازل من بحر القدس، من حدث الأهواء المختلفة، والآراء المتشتّتة المتعلّقة بالدّنيا وبمحبّتها الموجبة للدّخول في الهاوية الّتي هي النّار لأنّ الهوى إذا أغلب انجذب صاحبه إلى عبادة الأصنام والأوثان الباطلة ذهناً كان أو خارجاً، أمّا الخارج فهو معلوم، وأمّا الدّاخل فذلك أيضاً قد سبق بحكم قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾1.
 
وكلّ من أطاع هواه لا بدّ وأن يدخل النار لقوله تعالى أيضاً: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾2.
 
أي من خفّت موازينه من العلم والعمل الصّالح الصّادران من العقل الصحيح والنفس الكامل، فهو في الهاوية الّتي هي أصلها وأمّها، لأنّ منشأ الهوى من النّفس الأمّارة، والنّفس الأمّارة منشأها ومنبعها الطبيعة الحيوانيّة، والقوى الشهويّة والغضبية اللّتان هما من جنودها وأعوانها، كذلك صادران من الطبيعة والنّفس، فلا تكون الهاوية في الحقيقة إلّا التوجّه إلى النّفس، الأمّارة والشّهوة
 

1- سورة الجاثية،الآية: 23.
2- سورة القارعة،الآيتان: 7- 8.
 
 
257

 

 


219

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

والغضب، وأسفل سافلين إشارة إليها في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾1.
 
أي رددناه بأفعاله إلى أسفل عالم الطبيعة والنّفس الأمّارة بمتابعة الهوى ومخالفة الحقّ في أفعاله وأقواله، لقول أهل النّار فيه: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾2.
 
ولهذا دائماً أهل الله الّذين هم أهل العلم الحقيقي والعمل الصّالح والعقل الصّحيح، موصوفون بالسّكينة والوقار، والطمأنينة والإخبات وأمثال ذلك لقوله تعالى فيهم:
﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾3 ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾4.
 
وأهل الأهواء والبدع موصوفون بالخفّة وقلّة العقل، وعدم السكينة والوقار، لقوله تعالى فيهم: ﴿َالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ﴾5.
 
وقد سدّ باب سؤال كلّ سائل في هذا المقام قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾6.
 
لأنّ هذا تحريض على منع النّفس عن الهوى، وتشويق إلى دخول الجنّة الّتي هي المأوى الحقيقي والموطن الأصلي من غير التراخي ولا التأخير وإليه أشار عليّ عليه السلام في قوله:

1- سورة التين،الآيتان: 4-5.
2- سورة الملك، الآية: 10.
3- سورة القارعة، الآيتان: 6- 7.
4- سورة الغاشية، الآية: 10.
5- سورة الأنعام، الآية: 71.
6- سورة النازعات، الآيتان: 40 - 41.
 
 
258

220

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

"تخففوا تلحقوا فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم"1، يعني تخفّفوا من أثقالكم الحاصلة من متابعة الهوى ومحبّة الدّنيا، فإنّ إلحاقكم بالحقّ وبالجنّة موقوف عليه، أي على تخفيفكم منها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ﴾2.
 

ثمّ يغسل ويطهّر روحه وسرّه الّذي هو من الجانب الأيمن المعبّر عنه: بالرّوحانيّات عن محبّة العلويّات، والرّوحانيّات المعبّر عنها بالآخرة والجنّة، لأنّ أهل الآخرة مخصوصون بأصحاب اليمين والعلويّات، لقوله تعالى في الأوّل: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ﴾3

 
و لقوله في الثّاني: ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه﴾4.
 
ثمّ يغسل جانبه الأيسر، أي يغسل ويطهّر نفسه وجسده الّذي هو الجانب الأيسر المعبّر عنه: بالجسمانيّات عن محبّة السّفليّات والنفسانيّات المعبّرة عنها بالدّنيا، بماء الترك والتجريد وعدم الالتفات إليه، فإنّ الدّنيا مخصوصة بأهل الشمال، كما أنّ الآخرة مخصوصة بأهل اليمين لقوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ﴾5 ،فانّ


1- نهج البلاغة، الخطبة: 21 و167.
2- سورة الصافات،الآيتان: 60-61.
3- سورة الواقعة، الآيات: 27- 31.
4- سورة الزمر، الآية: 67.
5- سورة الواقعة، الآيات: 41 43.
 
 
259

 

221

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

بهذه الطّهارة يحصل له استحقاق دخول الجنّة واستعداد قرب الحضرة العزّة، كما قال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾1.
 
رزقنا الله الوصول إليها، فانّ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
 
وأمّا غسل أهل الحقيقة
 
(البعد عن الحقّ سبحانه ومشاهدة الغير، جنابة عند أهل الحقيقة)
 
فالغسل عندهم عبارة عن طهارتهم من الجنابة الحقيقية الّتي هي مشاهدة الغير مطلقاً، لأنّ الجنابة كما سبق بيانها هي البعد، وكلّ من شاهد الغير فهو بعد عن الحقّ ومشاهدته، ولا يمكن إزالة هذا البعد إلّا بقربه إلى التوحيد الحقيقي الّذي هو مشاهدة الحقّ تعالى من حيث هو هو لقوله: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾2، و قد مرّ بيان هذا التّوحيد مراراً.
 
وترتيب هذا الغسل وهو أن يغسل رأسه الحقيقي الّذي هو هاهنا روحه المجرّد بماء التوحيد الذّاتي عن حدث مشاهدة الغير، لأنّ محبّة الله تعالى كما هو وظيفة الباطن المعبّر عنه بالنفس المطمئنّة، معرفته وظيفة القلب، ومشاهدته وظيفة الرّوح، كما أنّ الوصول إليه وظيفة (السّر) الّذي هو باطن الرّوح.
 
والى هذا الترتيب أشار جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام في بعض أدعيته وهو قوله:
 

1- سورة القمر، الآيتان: 54-55.
2- سورة آل عمران، الآية: 18.
 
 
 
260

 

 


222

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

"اللّهم نوّر ظاهري بطاعتك، وباطني بمحبتك، وقلبي بمعرفتك، وروحي بمشاهدتك، وسرّي باستقلال اتّصال حضرتك يا ذا الجلال والإكرام"1.
 
وهذا الغسل لا يمكن إلّا بفناء العارف في المعروف، والشاهد في المشهود المعبّر عنه بالفناء في التوحيد، وذلك يكون بمشاهدة الحقّ من حيث هو هو، أعني يشاهده بحيث لا يشاهد معه غيره، أعني لا يشاهد في الوجود إلّا وجوداً واحداً، وذاتاً واحدة مجرّدة عن جميع الاعتبارات والتّعيّنات، وإليه أشار الحقّ تعالى في قوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾2.
 
وكذلك في قوله:
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾3، وقد مرّ تحقيق هاتين الآيتين غير مرّة والتكرار غير مستحسن.
 
وحيث تقرّر هذا التّوحيد، هو الصّراط المستقيم الحقيقي، المأمور بالاستقامة عليه نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ4.
 
و الحدّ الأوسط المشار إليه في قوله:
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ5
 

1- أنظر: موسوعة مؤلّفي الإمامية، مجمع الفكر الإسلامي، ج 2، ص 600، لكن الدعاء منسوب إلى الإمام عليّ عليه السلام.
2- سورة القصص، الآية: 88.
3- سورة الرحمن، الآيتان: 26- 27.
4- سورة هود،الآية: 112.
5- سورة الانعام،الآية: 153.
 
 
261
 

223

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

 وتقرّر أنّ له طرفان: طرف إفراط، وطرف تفريط، اللّذان هما التّوحيد الإجمالي، والتوحيد التّفصيلي.
 
فالطّهارة من دنس جانب الإفراط المعبّر عنه بالأيمن يكون بخلاصه من التّوحيد الإجمالي، والطّهارة من دنس التفريط المعبّر عنه بالأسر يكون بخلاصه من التّوحيد التفصيلي، والاستقامة على الصّراط المذكور والحدّ الأوسط المعبّر عنه بالطّهارة الكبرى يكون بجمعه بين التّوحيدين، وقطع النّظر عن مشاهدة الغير أصلاً ورأساً مع اعتباره ومشاهدته من حيث الجمع المعبّر عنه بأحديّة الفرق بعد الجمع، وذلك صعب في غاية الصّعوبة، ولهذا وصفه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بـ "أحدّ من السّيف، وأدقّ من الشعر"1.
 
وقوله تعالى: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾3، إشارة إلى الطّرفين، وقوله: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾4, إشارة إلى التّوحيد الجمعي المحمّدي الجامع للتّوحيدات كلّها.
 
وبالجملة ليست الجنابة الحقيقية إلّا مشاهدة الغير على أيّ وجه كان، وليست الطّهارة الحقيقية عند التحقيق إلّا بعد الخلاص منها على أيّ وجه كان، وفيه قيل:
قنعتُ بطيفٍ من خيالٍ بعثتُمُ      وكنتُ بوصلٍ منكُمُ غيرَ قانعِ‏
 

1- أنظر: فتح الباري، ابن حجر، ج 11، ص 295.
2- سورة النجم، الآية: 17.
3- سورة النجم، الآية: 9.
 
 
 
 
262

 

224

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

إذا رمتَ من ليلى من البعدِ نظرةً
                            لتطوى جوى بين الحشا والأضالع‏ِ

تقول نساء الحيِّ تطمعُ أن ترى
                           بعينيكَ ليلى مُتْ بداءِ المطامعِ‏

وكيفَ تَرى ليلى بعينٍ ترى بها
                          سواها، وما طَهَّرتَها بالمَدامع‏ِ


وأمثال ذلك في هذا المعنى كثير، فليطلب من مظانّها.

والله أعلم وأحكم وهو يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.

هذا غسل الطّوائف الثّلاث بقدر هذا المقام.
 
 
 
263
 
 

225

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

خلاصة الدرس
أوردنا نموذجَ من المنهج العرفاني من كتاب: تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم،للسيد حيدر الآملي، وذلك تفسيراً للآية التالية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾1
 
بعد أن يتحدّث السيّد حيدر الآملي عن وضوء أهل الشريعة يقول: وأمّا وضوء أهل الطّريقة (طهارة النفس والعقل)، وأمّا أفعال هذه الطّهارة المعبّر عنها بالوضوء: فالنيّة فيه، وهي أن ينوي المكلّف بقلبه وسرّه أنّه لا يفعل فعلاً يخالف رضى الله تعالى بوجه من الوجوه، ويكون جميع عباداته للّه خالصة دون غيره.
 
وغسل الوجه، وهو أن يغسل وجه قلبه عن حدث التعلّق بالدّنيا وما فيها.
 
وغسل اليدين، وهو غسلهما وطهارتهما عمّا في قبضتهما من النقد والجنس والدنيا والآخرة، فإنّ طهارتهما حقيقة ليس إلّا بترك ممّا في تصرّفهما وحكمهما.
 
ومسح الرأس، وهو أن يمسح رأسه الحقيقي المسمّى بالعقل أو النّفس، أي يطلع عليهما حتّى يعرف أنّه بقي عندهما شي‏ء من محبّة الدّنيا وما يتعلّق بها من المال والجاه.


1- سورة المائدة، الآية: 6.
 
 
264

 

 


226

الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)

ومسح الرّجلين وهو أن يمنعهما عن المشي بغير رضى الله وطاعته ظاهراً وباطناً، والمراد بالرجلين في الظاهر معلوم وأمّا في الباطن هما عبارتان عن القوّة النّظرية والعمليّة عند البعض وعن القوّة الشهويّة والغضبيّة عند الآخرين. 

 

وأمّا وضوء أهل الحقيقة (طهارة السرّ عن مشاهدة الغير).
 
فالوضوء عندهم المعبّر عنه بالطهارة عبارة عن طهارة السّرّ عن مشاهدة الغير مطلقاً.
 
والنيّة فيها وهي أن ينوي السّالك في سرّه أنّه لا يشاهد في الوجود غيره ولا يتوجّه إلّا إليه. 
 
وغسل الوجه فيها عبارة عن طهارة الوجه الحقيقي ونظافة سرّه عن دنس التوجّه إلى الغير، بحيث لا يشاهد غير وجهه الكريم ولا يعرف غير ذاته المحيط.
 
وغسل اليدين عبارة عن عدم الالتفات إلى ما في يديه من متاع الدّنيا والآخرة، من الدّنيا كالمال والجاه والأهل والولد، ومن الآخرة كالعلم والزّهد والطاعة وما يحصل منها كالثواب والجنّة والحور والقصور، لأنّ رؤية الطّاعة والعبادة واستحقاق التعظيم بهما عند أهل الله معصية.
 
ومسح الرأس عبارة عن تنزيه سرّه وتقديس باطنه الّذي هو الرأس الحقيقي عن دنس الأنانية وحدث الغيريّة الحاجب والحاجز بينه وبين محبوبه. 
 
ثمّ بعد أن يتحدّث السيّد حيدر الآملي عن غسل أهل الشريعة يقول: 
وأمّا غسل أهل الطريقة (حبّ الدنيا جنابة)، وأمّا غسل أهل الحقيقة (البعد عن الحقّ سبحانه ومشاهدة الغير، جنابة عند أهل الحقيقة).
 
 
 
265

  

 


227

الدرس الرابع والعشرون: تفسير موضوعي لبحث: حبّ الدنيا

أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى نموذج من المنهج النقلي(القرآن بالقرآن)
2- أن يتعرّف إلى الاتجاه الموضوعي (نموذج حبّ الدنيا)
 
 
 
267

228

الدرس الرابع والعشرون: تفسير موضوعي لبحث: حبّ الدنيا

 

اسم الكتاب

 الأخلاق في القرآن

تأليف

الشيخ مكارم الشيرازي (1345 هـ -...)

القرن

عالم معاصر

المنهج

النقلي (تفسير القران بالقران)

الاتجاه

الموضوعي الأخلاقي

الموضوع

حبّ الدنيا

المصدر

ج2 ص 92 - 97 و ص 100 -101

... نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي من تعبيراتها الدقيقة ما يضيء لنا الطريق لدراسة هذه المبادئ والمواقف الأخلاقية المهمّة:

 1-  إنّ القرآن الكريم يرى أنّ الدنيا ما هي إلّا لعب ولهو كما يلهو ويلعب الأطفال، وقد ورد وصف ذلك في آيات متعدّدة، ففي قوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ1.

 


1- سورة الأنعام، الآية: 32.

 

269


229

الدرس الرابع والعشرون: تفسير موضوعي لبحث: حبّ الدنيا

وفي آية اُخرى قوله تعالى ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ1.
 
وفي الحقيقة: إنّ هذه الآيات الكريمة تشبّه أصحاب الدنيا بأنّهم كالأطفال الّذين يعيشون الغفلة والجهل عمّا يدور حولهم ولا همّ لهم إلّا الاشتغال بالتوافه والسفاسف من الأمور فلا يرون حتّى الخطر القريب المحدق بهم.
 
بعض المفسّرين قسّم حياة الإنسان إلى خمس مراحل (من الطفولة إلى أن يبلغ مرحلة الكهولة في سن الأربعين) وذكر أنّ لكلّ مرحلة ثمان سنوات وقال: إنّ السنوات الثمانية الأولى من عمر الإنسان هي مرحلة اللعب، والسنوات الثمانية الثانية هي مرحلة اللهو، والسنوات الثمانية الثالثة حيث يعيش الإنسان في فترة الشباب فإنّه يتجه إلى الزينة والالتذاذ بالجمال، والسنوات الثمانية الرابعة يقضي وقته وطاقاته في التفاخر، وأخيراً في السنوات الثمانية الخامسة يهتم بالتكاثر في الأموال والأولاد، وهنا يثبت شخصية الإنسان ويستمر على هذه الحالة إلى آخر عمره، وبالتالي فإنّ أصحاب الدنيا لا يبقى لهم مجال للتفكُّر في الحياة المعنوية والقيم الإنسانية السامية.
 
2-  ومن الآيات الأخرى في هذا المجال نرى مفهوم "متاع الغرور" بالنسبة إلى الحياة الدنيا حيث يقول تعالى ﴿وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾2.
 
ويقول في مكان آخر ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾3.
 
وهذه التعبيرات تدلّ على أنّ زخارف الدنيا وبريقها الخادع يُعد أحد الموانع
 

1- سورة الحديد، الآية: 20.
2- سورة آل عمران، الآية: 185.
3- سورة لقمان، الآية: 33.
 
270

230

الدرس الرابع والعشرون: تفسير موضوعي لبحث: حبّ الدنيا

المهمّة للتكامل المعنوي والصعود في درجات الكمال الإلهي للإنسان وما دام هذا المانع موجوداً فإنّه لا يصل إلى شيء من هذه الكمالات المعنوية.
 
إنّ الحياة الدنيا مثلها كمثل السراب الّذي يجذب العطاشى نحوه في الصحراء المحرقة ولكنهم لا يحصلون على شيء منه أخيراً، وهكذا حال التعلُّقات المادّية الدنيوية فإنّها تجذب أصحاب الدنيا نحوها طمعاً في إرواء ظمأهم وعطشهم إلّا أنّهم لا يجدون ما يطلبونه في هذا المسير المنحرف بل يزدادون ظمأً وحُرقة، وكما أنّ السراب يبتعد عن الإنسان كلّما مشى نحوه وهكذا يظلّ يركض وراء السراب حتّى يهلك، فكذلك الدنيا تبتعد عن الإنسان كلّما اتّجه نحوها فتزيده عطشاً لها وإرهاقاً حتّى يهلك.
 
ونرى هذه الحالة في الكثير من أصحاب الدنيا الّذين يركضون وراء متاع الدنيا وزخارفها سنوات مديدة من عمرهم وعندما يحصلوا على شيء منها فإنّهم يصرّحون بأنّهم لم يجدوا ضالّتهم ألّا وهي (الهدوء النفسي والطمأنينة الروحية) بل يعيشون الجفاف الروحي أكثر ويجدون أنّ ملذّات الحياة الدنيا تقترن دائماً مع الأشواك والمنغّصات وبدلاً من أن تورثهم الهدوء والطمأنينة فإنّها تعمل على إذكاء حالة القلق والاضطراب في جوانحهم وأعماق وجودهم وبذلك لا يجدون مبتغاهم فيها.
 
3- وهناك طائفة أخرى من الآيات الكريمة الّتي تقرّر لنا هذه الحقيقة، وهي أنّ الانجذاب نحو زخارف الدنيا وزبارجها يؤدّي إلى أن يعيش الإنسان الغفلة عن الآخرة، أي أن يكون الشغل الشاغل له وهمّه الوحيد هو تحصيل هذه الزخارف الخادعة، فتقول الآية الشريفة: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾1.
 

1- سورة الروم، الآية: 7.
 
 
 
271

231

الدرس الرابع والعشرون: تفسير موضوعي لبحث: حبّ الدنيا

 فهؤلاء يجهلون حتّى الحياة الدنيا أيضاً وبدلاً من أن يجعلوها مزرعة الآخرة وقنطرة للوصول إلى الحياة الخالدة ونيل المقامات المعنوية وميداناً لممارسة السلوكيات الّتي تصعد بهم في سُلّم الفضائل الأخلاقية ومدارج الإنسانية، يتخذون الدنيا بعنوان أنّها الهدف النهائي والمطلوب الحقيقي والمعبود الواقعي لهم، ومن الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص يعيشون الغفلة عن الحياة الأخرى.
 
ويقول القرآن الكريم في آية أخرى: ﴿أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ﴾1 ثمّ تضيف الآية ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾2 أجل فإنّ الأشخاص الّذين يعيشون ضيق الأفق ومحدودية الفكر فإنّهم يرون الدنيا كبيرة وواسعة وخالدة وينسون الحياة الأخرى الأبدية الّتي قرّرها الله تعالى لحياة الإنسان الكريمة والمليئة بالمواهب الإلهية والنعيم الخالد.
 
4- ونقرأ في قسم آخر من الآيات الكريمة أنّ الدنيا هي "عرض" على وزن "غرض" بمعنى الموجود المتزلزل والّذي يعيش الاهتزاز والتغيُّر والتبدُّل في جميع جوانبه وحالاته، ومن ذلك قوله تعالى ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾3.
 
وتقول الآيات في مكان آخر مخاطبة لأصحاب النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾4.
 
وفي آيات أخرى نجد هذا التعبير أيضاً حيث يدلّ على أنّ جماعة من المسلمين أو غير المسلمين وبدافع من الحرص والطمع تركوا الاهتمام بالمواهب الإلهية
 

1- سورة التوبة، الآية: 38.
2- سورة التوبة، الآية: 38.
3- سورة النساء، الآية: 94.
4- سورة الأنفال، الآية: 67.
 
 
272

232

الدرس الرابع والعشرون: تفسير موضوعي لبحث: حبّ الدنيا

الخالدة والحياة الأخرى والقيم الإنسانية العالية واشتغلوا في جمع زخارف الدنيا الزائله وإشباع الملذّات الرخيصة في حركة الحياة الدنيا. أجل فإنّ النعمة الحقيقية هي ما عند الله تعالى وما بقي فكلّه "عرض" يقبل الزوال والاندثار.
 
وهذا التعبير هو في الحقيقة إنذار لجميع طلّاب الدنيا بأنّهم ينبغي عليهم الاهتمام بما لديهم من طاقات ورأس مال عظيم وبإمكانهم استخدامها في سبيل حياة كريمة وخالدة فلا يضيّعونها في الأمور الرخيصة والزائلة.
 
5- ونقرأ في قسم آخر من الآيات التعبير عن المواهب المادّية بأنّها ﴿زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾1.
 
ووردت تعبيرات مشابهة لهذه الآية في آيات أخرى أيضاً في قوله ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾2.
 
وفي مكان آخر يخاطب القرآن الكريم نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾3.
 
وهذه التعبيرات توضح بصورة جيّدة أنّ هذا البريق لزخارف الحياة الدنيا ما هو إلّا زينة للحياة المادّية، وبديهي أنّ الإنسان لا يُعبّر عن الأمور الحياتية والمصيرية بتعبير "زينة" أو "زينة الحياة الدنيا" أي الحياة السفلى والتافهة.
 
ومن الجدير بالذكر أنّه حتّى أنّ مفهوم "الزينة" نجده في آيات أخرى مبنياً