المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد
"ما عُبد الله بشيء أفضل من الزُّهد في الدّنيا"1، و"إنّ علامة الرّاغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الدّنيا"2. و"جُعِل الخير كلّه في بيت، وجُعِل مفتاحه الزُّهد في الدّنيا"3.
هذه التوجيهات وغيرها وردت عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام لتحذير الناس من خطر وقوعهم في أسر الدنيا، وما نراه في سيرة أهل البيت عليهم السلام نموذجاً ساطعاً لزهدٍ حقيقيّ ممزوج بالكدّ والسعي لإعمار الدنيا وخدمة عباد الله, مع الإعراض عن زخارفها وملذّاتها.
فإنّ من أخطر المكائد التي تصيب العاملين والمجاهدين، السعي للجمع بين الدنيا والآخرة لأجل الدنيا, وهذا ما حذّرت منه سيرة أئمتنا عليهم السلام.
ومن هنا، فإنّ الزُّهد يقع في مقابل النزعة الدنيوية، تلك النزعة التي
1- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج12، ص50، باب استحباب الزهد في الدنيا وحده، ح 25.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص129، باب ذم الدنيا والزهد فيها، مح6.
3- م. ن، ص128.
9
4
المقدمة
تشكِّل دوَّامة خطيرة, وهي أصل كلّ المعاصي والذنوب والانحرافات، حيث إنَّ: "حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة"1.
إنّ الزُّهد الصّحيح يَستنقذ المؤمنين من هذه الدوَّامة، ويَصونهم من التلوُّث بحطام الدّنيا البالي والرخيص.
وهذه حياة قادة المجاهدين، الإمام الخميني قدس سره والإمام الخامنئي والسيد عباس الموسوي وبقيّة القادة الشهداء، ماثلة ساطعة، تذكّرنا بزهد أئمتنا عليهم السلام ، وهي حجّة علينا.
إنّ طريق العزّة والنّصر ورضا الحقّ تعالى يكون بالإعراض عن الدنيا وزخارفها وترفها, والقناعة بالحياة البسيطة.
يرى الإمام الخامنئي دام ظله ببصيرته الحادّة حوادث التاريخ ماثلةً أمامه, فيعظ أصحابه, ناصحاً رؤوفاً, مبيّناً سيرة من كانوا سنداً لإمامهم فأصبحوا عبئاً عليه! فقط عندما عُرضت عليهم الدنيا في موقفٍ حسّاس, فركنوا إليها, وأصبحوا من طلّابها, وكانت النتائج مؤلمة، وآثارها حتى اليوم مشهودة.
حديث الزُّهد هذا, على لسان.. ومن قلب.. عارف بالزمان: لا تبدّلوا حياة الزخرف هذه بتلكم الحياة الطيبة.اليوم, عندما تُقبل الدنيا، يجب دعوة المجتمع إلى الزهد, من خواصّ الناس إلى عوامهم...
بين أيديكم - أيها الأخوة الأعزاء - باقة مختارة من كلمات الإمام الخامنئي دام ظله، تُبيِّن الحساسيّة التي ينظر بها قائدهم الحكيم إلى
1- الكافي، م. س، ص131.
10
5
المقدمة
الوساوس الخطيرة للدّنيا، وقلقه على أبنائه في ساحة الامتحان الكبير.
كلمات غاية في الصدق والجذب, يروي فيها وقائع من التاريخ ببيانه العذب, وبتوجيه يكتنفه الهمّ والحرص على أهل الولاية, حتى لا تتكرّر سيرة أولئك الذين انقلبوا.
وانطلاقاً من الخطاب القرآني الكريم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾, فقد رأينا من الجدير الإشارة بدايةً إلى زهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بلسان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، فوضعنا تلك الخطبة المفعمة بالعِبر كمقدّمة لهذا الكتاب، سائلين الله تعالى التوفيق للاقتداء به.
مركز نون للتأليف والترجمة
11
6
المقدمة
مدخل
قبس من حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كلام الإمام علي عليه السلام
"... فَتَأَسَّ1 بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَر صلى الله عليه وآله وسلم ، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى، وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ.
قَضَمَ الدّنيا قَضْماً2، وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ3 أَهْلِ الدّنيا كَشْحاً4، وَأَخْمَصُهُمْ5 مِنَ الدّنيا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدّنيا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ، وَصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ...
وَلَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وآله وسلم يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ بَيَدِهِ نَعْلَهُ6، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ7، وَيُرْدِفُ8 خَلْفَهُ، وَيَكُونُ
1- تأسّ: أي اقْتَدِ.
2- القَضْم: الأكل بأطراف الأسنان، كأنّه لم يتناول إلاّ على أطراف أسنانه، ولم يملأ من الطعام منها فمه.
3- أهْضَمُ: من الهضم وهو خمص البطن، أي خلوّها وانطباقها من الجوع.
4- الكَشْح: ما بين الخاصرة إلى الضِّلْع الخلفيّ.
5- أخْمَصُهم: أخلاهم.
6- خَصَفَ النعلَ: خرزها وأصلحها.
7- الحمار العاري: ما ليس عليه بَرْدَعة ولا إكاف.
8- أرْدَف خلفه: أركب معه شخصاً آخر على حمار واحد أو جمل أو فرس، وجعله خلفه.
13
7
المقدمة
السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ، فَيَقُولُ: "يَا فُلاَنَةُ ـ لْإِحْدَى أَزْوَاجِهِ ـ غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدّنيا وَزَخَارِفَهَا". فَأَعْرَضَ عَنِ الدّنيا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً1، وَلاَ يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، وَلاَ يَرْجُو فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وَأَشْخَصَهَا2 عَنِ الْقَلْبِ، وَغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ. وَكَذلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ.
وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَا يَدُلُّكَ عَلَى مَسَاوِىءِ الدّنيا وَعُيُوبِهَا: إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ3، وَزُوِيَتْ عَنْهُ4 زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ5.
فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ: أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً بِذلِكَ أَمْ أَهَانَهُ؟! فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ كَذَبَ - وَاللهِ الْعَظِيمِ - بِالْإِفْكِ الْعَظِيمِ, وَإِنْ قَالَ: أَكْرَمَهُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدّنيا لَهُ، وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ. فَتَأسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ، وَاقْتَصَّ أَثَرَهُ، وَوَلَجَ مَوْلِجَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ مُحَمَّداً عَلَماً لِلسَّاعَةِ6، وَمُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِراً بِالعُقُوبَةِ. خَرَجَ مِنَ الدّنيا خَمِيصاً7، وَوَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ.
فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وَقَائِداً نَطَأُ
1- الرِّياش: اللّباس الفاخر.
2- أشخصها: أبعدها.
3- خاصّته: اسم فاعل في معنى المصدر، أي مع خصوصيّته وتفضّله عند ربّه.
4- زُوِيَت عنه ـ بالبناء للمجهول ـ: قُبِضَت وأُبْعِدت، ومثله بعد قليل: زَوَى الدّنيا عنه: قبضها.
5- عظيمَ زُلْفَتِه: منزلته العليا من القرب إلى الله.
6- العَلَم بالتحريك: العلامة، أي إنّ بعثته دليل على قرب القيامة، إذ لا نبيّ بعده.
7- خميصاً: أي خالي البطن، كناية عن عدم التمتّع بالدّنيا.
14
8
المقدمة
عَقِبَهُ1! وَاللهِ، لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي2 هذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ: أَلاَ تَنْبِذُهَا عَنْكَ؟ فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي3، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى4!".
وهذا المثل "عند الصباح يحمد القوم السُرى". معناه: إذا أصبح النّائمون وقد رأوا السارين قد وصلوا إلى مقاصدهم حَمِدوا سُراهم، وندموا على نومهم.
أو إذا أصبح السارون وقد وصلوا إلى ما ساروا إليه، حَمدوا سراهم، وإن كان شاقّاً، حيث أبلغهم إلى ما قصدوا.
ومعنى هذا المثل هنا: أنّ المستقبل والسّبق لأصحاب الاستقامة.
1- العقِب ـ بفتح فكسر ـ: مؤخَّر القدم. ووطء العقب مبالغة في الاتّباع والسّلوك على طريقه، نقفوه خطوة خطوة حتى كأنّنا نطأ مؤخّر قدمه.
2- المِدْرَعة ـ بالكسر ـ: ثوب من صوف.
3- اغْرُبْ عنّي: اذهب وابعد.
4- السُرَى: السَّير ليلاً.
15
9
الفصل الأول
الفصل الأول:
عصرنا بين الزهد والنزعة الدنيويّة
17
10
الفصل الأول
بيانٌ وتبيانٌ:
روي عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام فيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى عليه السلام: "يا موسى، لا تركَنْ إلى الدّنيا ركونَ الظّالمين، وركون من اتّخذها أباً وأمّاً. يا موسى، لو وكَلتك إلى نفسك لتنظر لها، إذاً لغلب عليك حبّ الدّنيا وزهرتها. يا موسى، نافس في الخير أهله واستبقهم إليه، فإنّ الخير كاسمه، واترك من الدّنيا ما بك الغنى عنه، ولا تنظر عينك إلى كلّ مفتون بها وموكل إلى نفسه، واعلم أنّ كلّ فتنة بدؤها حبّ الدّنيا. ولا تغبط أحداً بكثرة المال، فإنّ مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق، ولا تغبطنّ أحداً برضى النّاس عنه حتى تعلم أنّ الله راضٍ عنه، ولا تغبطنّ مخلوقاً بطاعة النّاس له، فإنّ طاعة النّاس له واتّباعهم إيّاه على غير الحقّ هلاك له ولمن اتّبعه"1.
1- سند الحديث مُرسل، وهو: عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن بعض أصحابه، عن ابن أبي يعفور، قال: سمعت...، ولكن على ما يظهر فإنّه لا يضرّ إرسال السّند في الأحاديث التي تُبيِّن للإنسان الحكمة والأخلاق وتعرض له الحقائق، كما إنَّه لا يشتمل على حكم فقهيّ حتّى يناقش الإنسان في حُجِّيته، ويقال بعدم جواز التّعبّد بالخبر المرسل، بل إنّ مؤدّى هذه الأحاديث حقائق ما إن ينظر إليها المرء حتّى يرى صحّتها وإتقانها واعتبارها مندرجاً في ذاتها. ومن الواضح أنّها إمّا من كلام المعصوم عليه السلام ، أو متّخذة من كلامه وحديثه عليه السلام. وعليه، فإنّ الإرسال في سند هذا الحديث لا يجب أن يثير أيّ شبهة أو ريب أو تردّد فيما يتعلّق بالأخذ بمضمونه.ومع ذلك، وباستثناء هذا الإرسال، فإنّ رجال السند هم من الثّقاة والمحدّثين جليلي القدر، فالأصحاب "عليّ بن إبراهيم" و"إبراهيم بن هاشم" غنيّان عن التّعريف، وكذلك ابن محبوب هو "حسن بن محبوب السرَّاد" من الثّقاة والعظماء، وعلى قولٍ هو من أصحاب الإجماع. أمّا "ابن أبي يعفور" فهو رجل جليل القدر يُنقَل عنه أنّه قال مخاطباً الإمام الصادق عليه السلام: "والله، لو فلقتَ رمّانة نصفين، وقُلتَ هذا حرام وهذا حلال، لشهدْتُ أنّ الذي قلتَ حلالاً حلالٌ، وأنّ الذي قلتَ حراماً حرامٌ. وهو نفسه من قال له الإمام الصادق عليه السلام مرّتين في جوابه عليه "رحمك الله"، وبعد وفاته كتب الإمام الصادق عليه السلام كتاباً إلى "المفضَّل" في الكوفة ليعطيه الوكالة التي كانت عند "عبد الله بن أبي يعفور" وفيها يُورِد الإمام في أكثر من موضع عبارة "صلوات الله عليه" بعد اسم "عبد الله بن أبي يعفور".
19
11
الفصل الأول
(عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام فيما ناجى الله عزَّ وجلَّ به موسى عليه السلام)
من المسلَّم الواضح أنَّ الباري عزّ وجلّ بصدد بيان أسمى الحقائق والحِكَم لنبيّه العظيم الشّأن، لذلك عبّر في الحديث بلفظ "ناجى"، ولم يقل أوحى، فلعلّ التعبير بلفظ ناجى قرينة على أنّ الله تعالى شاء أن يطرح موضوعاً هامّاً جدّاً لموسى عليه السلام عن طريق الحوار بالمناجاة.
"يا موسى، لا تركن إلى الدّنيا ركون الظالمين"
ويُراد بالركون الميل القلبيّ والوثوق النفسي، وإن أردنا نقلها إلى لغتنا المعاصرة يمكن التعبير عنها بالتعلّق القلبيّ، فيكون المراد: "لا تُعلِّق قلبك بالدّنيا كما تَعلَّق بها الظالمون"، أي إنَّه لولا التعلُّق بالدّنيا لما صدر عن الإنسان ظلم، ولما آذى الإنسانُ عبادَ الله، فالظّلم هو ذروة التعلُّق بالدّنيا والرّغبة فيها.
"ركون من اتّخذها أباً وأمّا"
يعني أن يصبح كلّ تفكيره منحصراً بالدّنيا، فلا يفكّر بشيء غيرها، ولا يُظهر رغبةً أو ميلاً إلاّ لها، فتصبح شغله الشّاغل، كالطّفل الذي يلجأ إلى أبيه وأمّه، ويتعلّق بهما، ولا يفكّر بأحد غيرهما.
"يا موسى، لو وَكَلتُك إلى نفسك لتَنظُر لها، إذاً لغلب عليك حبّ الدّنيا وزهرتها"
20
12
الفصل الأول
فقوله "لتنظر لها" يختلف عن القول "لتنظر إليها"، لأنّ النّظر إلى الدّنيا ليس مذموماً، إنّما المذموم هو "النّظر للدّنيا"، أيّ التفكير والانشغال بها.
وهنا أشير إلى نقطة، وهي: إنّ المراد بالدّنيا في هذا الحديث والأحاديث المشابهة له، ليس الأرض وما يتعلّق بها، ولا إعمارها أو الانشغال بأمور النّاس، وأمثال هذه الأعمال، إنّما المقصود هو المظاهر الدّنيويّة (كالمال، والجاه، والمنصب) التي يريدها الإنسان لنفسه. لذلك فإنّ النعم الإلهيّة كلّها الموجودة على وجه الأرض، والطيّبات والحلي واللذائذ، التي تصبو إليها النّفس الإنسانية وتريدها لذاتها، يعبّر عنها في الروايات والأحاديث بـ (الدّنيا)، وهي مذمومة.
ومن الواضح أنّه كلّما ازداد تفكير الإنسان بالدّنيا وانشغل بها، ازداد رغبةً بها، وشوقاً إليها. وكلّما أعرضَ عنها، خرج حبُّ الدّنيا من قلبه بشكل تدريجيّ. وليس المقصود من هذه الرّواية وأمثالها أن يقعد الإنسان عن العمل والجدّ ويقبع في زاوية بيته - كما تصوَّر بعض الناس هذا المعنى المغلوط لسنوات، وبعضهم لقرون متمادية - فانتهجوا نهجاً خاطئاً، مختارين العزلة والانزواء بعيداً عن صخب الحياة وميادين العمل والجدّ والاجتهاد، ناسبين هذا اللّون الخاطئ من الفهم إلى الإسلام. وعليه، فليس المراد بالدنيا هذا الاستنباط الخاطئ.
"يا موسى، نَافِسْ في الخير أهله واستَبِقهُم إليه، فإنّ الخير كاسمه"
المنافسة هي الرّغبة الممزوجة بالتّسابق التي تظهر في الإنسان بإزاء
21
13
الفصل الأول
عمل ما. والمقصود من أنّ الخير كاسمه هو أنّ معاني الخير ومصاديقه كاسمه جميلة ومحمودة. ويبدو أنّ المراد من الخير هو تلك الأعمال الحسنة ذات الطّابع العامّ، من قبيل الإحسان إلى المؤمنين، ومساعدة الإخوان، والاتّحاد والتّعاون، وعبادة الله تعالى، والزُّهد في الدّنيا وغير ذلك من الصّفات الحميدة.
كما أنّ للفظة "خير" معنى أفعل التّفضيل أيضاً، وهي دلالة على الأفضل، وبذلك يكون معنى الحديث: أنّ أفعال الخير كاسمه أفضل من أيّ شيء آخر. فأعمال الخير التي يقوم بها الإنسان أفضل من كلّ ما يخطر بالذّهن، فعيادة المريض، الإحسان إلى الأخ المؤمن، التّعاون، طلب العلم، الإعراض عن الدّنيا وزخارفها، الجهاد في سبيل الله وعبادته عزّ وجلّ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، كلّ هذه الأعمال هي أعمال خير، وهي أفضَل من أيّ شيء آخر يمكن أن يخطر على بال الإنسان من قبيل المال والأبناء والجاه و المنصب، وما شابه ذلك من أمور مادّيّة ودنيويّة.
وقد أورد المرحوم العلاّمة "المجلسي" في شرحه لهذا الحديث، في كتاب "تحف العقول" عدّة احتمالات، أحدها المعنى الذي أشرنا إليه، وهناك مجموعة من الاحتمالات، يظهر أنّ هذا الاحتمال هو المتيقّن منها.
"واترك من الدّنيا ما بك الغنى عنه"
أي اترك كلّ ما لا تحتاجه من الأمور الدنيويّة، أو إنّه ليس من احتياجاتك، وهو زائد عليها.
22
14
الفصل الأول
"ولا تنظر عينك إلى كلّ مفتون بها"
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه العبارة يمكن قراءتها بأكثر من طريقة: "ولا تَنظُر عَينُك"، والعين هنا فاعلٌ للفعل (تنظر)، فيكون المقصود بذلك: امنع عينك من أن تنظر وترى. أو "ولا تُنظِر عَينَك"، فيكون المقصود لا تُرِ عينك ولا تَعرِض عليها، أو "لا تَنظر عَينَك"، فتكون كلمة (عينك) منصوبةً بنزع الخافض، أي: لا تنظر بعينِك، أو "لا تنظّر عينك"، أي: لا تعرض لعينك.
"وموكل إلى نفسه"
وهو الذي سُلب الحماية والتّوفيق الإلهيّين.
"واعلم أنّ كلّ فتنة بدؤها حبّ الدّنيا"
أي إنّ منشأ الفتن هو حبّ الدّنيا، وواقع الحال كذلك. فإذا نظرنا إلى الدّنيا، وعلى امتداد التّاريخ، نرى أنّ منشأَ وأساس الفتن والانحرافات والخلط بين الحقّ والباطل، كان مردُّه إلى حبّ الدّنيا. وهناك الكثيرون ممّن أثاروا الفتن، وافتعلوا العديد من المشاكل لأجل حبّ الدّنيا والمقام والجاه، وحبّ الأهل والرّفاق. والواقع أنّ هذا الأمر من الحِكَم العجيبة، لأنّه لو نظرت إلى أيّ مكان من الدّنيا لرأيت أنّ واقع الحال كذلك.
"ولا تغبط أحداً بكثرة المال"
وهذا من موارد الابتلاء الموجودة في مجتمعنا، والتي نلمسها بنسب متفاوتة في حياة بعض الأفراد ضعاف النّفوس، الذين يغبطون النّاس على القصور المنيفة، والرّفاهيَة الزّائدة، والسّيارات الكثيرة...
23
15
الفصل الأول
"فإنّ مع كثرة المال تكثر الذّنوب لواجب الحقوق"
أي عندما تكثُر أموال المرء تكثر الحقوق الواجبة عليه، ممّا يؤدي إلى كثرة الذّنوب. ومن المعلوم أنّ الحقوق والواجبات إذا كثرت فإنّ الإنسان يعجز عن تأديتها، وإلاّ لو كان قادراً لمَا ترتّب عليه ذنب من الذّنوب. هذا إن كان المال قد اكتُسب من الحلال، لأنّه إن كان من الحرام فسيكون الأمر أسوأ. ويُحتمل أن يكون المراد هنا إشارة الحديث إلى خصوص كثرة المال عن طريق الحرام، أي إنّ الإنسان عندما يحصل على المال عن طريق الحرام، فلا بدّ أنّه قد ضيَّع حقوقاً كثيرة حتّى أمكنه جمع الكثير من المال.
"ولا تغبطنَّ أحداً برضى النّاس عنه حتّى تعلم أنّ الله راضٍ عنه"
فإذا رأيت النّاس قد اجتمعوا حول شخصٍ ما, وأخذوا يهتفون له ويتقرّبون إليه, فلا تغبطه ما دُمت لا تدري هل الله راضٍ عنه أم لا، فما يُدريك لعلَّ في باطنه - لا سمح الله - خللاً أو فساداً أو عيباً يسلبه رضى الله عزّ وجلّ؟ وحينئذٍ ما نفع رضى النّاس عنه؟! وفي الواقع، ما فائدة رضا النّاس حتّى لو كان حقيقيّاً؟!
"ولا تغبطنّ مخلوقاً بطاعة النّاس له"
فلو رأيت النّاس يطيعون شخصاً ويقبلون أوامره وتوجيهاته، هنا أيضاً لا تغبطه، فليس هذا مَحلاً للغبطة.
"فإنّ طاعة النّاس له واتّباعهم إيّاه على غير الحقّ هلاك له ولمن اتبّعه"
24
16
الفصل الأول
نسأل الله تعالى بحرمة المعصومين عليهم السلام أنّ يصوننا من أن نكون من التّابعين أو المتبوعين على غير الحقّ، وأنْ لا يبتلينا بهذا الأمر.
عصرنا عصر الدعوة إلى الزهد:
لنفترض أنّه ليس لهذه الرّواية سندٌ أصلاً، إلا أنّها بلا شكّ تتضمّن حِكَماً عالية تهدينا سبيل الرّشاد، فهي عبارة عن قانون ونظام للمعارف الإلهيّة والإسلاميّة، فمن المناسب التمسّك بها.
والسبب في اختياري لهذه الرّواية بالذّات، هو أنّ مجتمعنا اليوم يمرّ في ظروف تحتّم علينا التعرّض بالبيان لروايات الزُّهد. فقد ورد في نهج البلاغة الكثير من الخطب والرّوايات الخاصّة بالزُّهد. لكن هذا لا يدلّ على أنّ الزُّهد أعلى تكاليف الإنسان. ففي بعض الأحيان نلاحظ أنّ مرتبة الزُّهد هي الأعلى، وفي مواضع أخرى تكون مرتبة العبادة أو الجهاد أو طلب العلم هي الأعلى.
فظروف الزمان هي التي تحدّد لنا متى يكون الزُّهد أفضلَ وأعلى درجة من غيره من الواجبات. وباعتقادي فإنّ هذا العصر هو الزّمان الذي يجب فيه دعوة النّاس والمجتمع إلى الزُّهد، لأنّ المجتمع يسير باتّجاه جمع المال. والثّروة في البلاد هي في ازدياد، بحيثُ لو وُجد في مكان ما أناس من أهل الدّنيا، فإنّ بمقدورهم أن يجمعوا الثّروات وينفقوها بطرق مختلفة و(على غير حلِّها). ولو فرضنا أنّهم انهمكوا في جمع المال والثّروة عن طريق الحلال، فسيُفتنون بالدّنيا وتسوء عاقبتهم، خاصّةً في الحوزات العلميّة والمجالات التي
25
17
الفصل الأول
يشغلها ويعيش فيها المعمّمون وعلماء الدّين وطلبة العلوم الدّينيّة1.
المسؤول قدوة الناس في الزهد:
الحكومة الإسلاميّة لها معنىً خاصّ. وهي ليست حكومة دنيويّة. وهي غير الحكومة الطاغوتيّة. هي ليست حكومة التسلّط على النّاس، والعيش لاغتنام الوصوليّين والمقتدرين فرص الشهوات. الحكومة الإسلاميّة تعني أن يعمل مسؤولوها للإسلام ولله، وليس للنّفس وميولها.
علينا أن نكون في خدمة النّاس، لا على سبيل المجاملة، بل بما تعنيه هذه الكلمة حقيقةً وواقعاً. علينا، وفي أيّ مستوى كنّا، أن نُبعِد تماماً مفهوم (بما أنّه يمكننا الاستفادة من الإمكانات الموجودة في تصرّفنا لتأمين احتياجاتنا وهَوَسنا الشّخصيّ، فعلينا القيام بذلك). على مسؤولي الدّولة أن يكونوا نموذجاً للزّهد بالنّسبة للآخرين بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، أي عدم الرّغبة بزخارف الدّنيا، وحدّ ذلك هو حدّ الورع.
... أعينوني بورعٍ واجتهاد:
يشير أمير المؤمنين عليه السلام في رسالته المعروفة إلى "عثمان بن حنيف"، عامله على البصرة - بعد الحديث عن إسراع عثمان إلى الوليمة التي دُعِي إليها - إلى أسلوب حياته الشّريفة، فيقول: "أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْه"2، ثمّ يضيف: "أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ".
1- حديث الإمام الخامنئي دام ظله عند افتتاح درس (بحث الخارج)، 05/09/1995.
2- نهج البلاغة، الرّسالة 45.
26
18
الفصل الأول
كيف لنا - أنا وأنتم - أن يخطر ببالنا أنّه يمكننا الوصول إلى ذلك المقام الشّامخ؟ هل الأمر بسيط؟ الموضوع ليس في رفع المسؤوليّة عن أنفسن، ما دمنا نستطيع فعلينا العمل، لا أن نُوجد لأنفسنا المبرّرات، لأنّ طريقة الحياة هذه لا يمكن تصنُّعها، إنّما تعتمد على روح فولاذيّة، تلك الرّوح الموجودة في أمير المؤمنين عليه السلام.
ثمّ يُضيف عليه السلام: "وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَعٍ وَاجْتِهَاد"، فعليكم بالورع قدر المستطاع، اسعوا في هذا الطّريق، فإن لم يكن ذلك ميسَّراً لكم، فليكن بالحدّ الذي تقدرون عليه.
عندما نقرّر ذلك ونُطلق الشّعارات، ونقول: إنّ مجتمعنا يجب عليه الابتعاد عن النّزعة الاستهلاكيّة، والانعتاق من المفاهيم التي يروِّج لها الغرب في ثقافاته، فإنّ هذا الأمر يتوقّف على عملنا، فنحن من يجب علينا تعليم النّاس، لأنّه هل يمكننا التوقّع من النّاس الابتعاد عن الكماليّات، وفي الوقت عينه نغرق في أشكال مختلفة من الكماليّات والتشريفات والزّخرفات الدّنيويّة؟! عندما نُطلق الشّعارات في أماكن أخرى، علينا العمل بها1.
الابتعاد عن النزعة الأرستقراطيّة:
أيّها الإخوة، يدعونا أمير المؤمنين عليه السلام إلى تسيير حياتنا باتّجاه الزُّهد.
في هذا العصر, إن أحسسنا أنّ الحياة تتّجه نحو النّزعة الأرستقراطيّة، فبالتّأكيد هو انحراف غير قابل للعودة عنه.
1- لقاء مع جمع من مسؤولي وموظّفي الجمهوريّة الإسلاميّة، 05/12/1990.
27
19
الفصل الأول
علينا التّحرّك إذاً نحو الزُّهد، ولا نعني بذلك الزُّهد المتعلّق بأولياء الله، كلاّ، فمسؤولو الدّرجة الأولى ومسؤولو الدرجة الثّانية، إلى أولئك المسؤولين في الدّرجات الأخرى، عليهم جميعاً أن يتحرّكوا نحو الزُّهد, كُلٌّ بقدره، حتى نصل إلى عامّة الشّعب. عليهم أيضاً ألاّ يُسرفوا ويَنساقُوا نحو التَّرَف والأُبّهة، فالزُّهد ليس محصوراً بالمسؤولين، فما نراه من المهور العالية التي يضعونها لزواج بناتهم أمرٌ خاطئ، لا نقول هو حرامٌ، ولكنّها ظاهرة سيّئة وقبيحة في المجتمع، لأنّها تضع القيم الإنسانية في دائرة قيمة الذّهب والأموال، ففي المجتمع الإسلامي القضيّة ليست كذلك.
المسألة هي أنّ هذا التّصرّف ليس صحيحاً، ولا ينمّ عن عقلانية، وهو خلاف العقل والحكمة السّليمة. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم زوَّج ابنته بمهرٍ قدره خمس وعشرون أوقية فضّة، بالمثقال المتعارف في ذلك الزمان، وكذلك فعل أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام.
الانحراف عن الدور الأساس خيانة:
إنّ مظاهر حياة الزّخرفة هذه، وازدياد ظواهر التَّرَف في الحياة الشّخصيّة، كلها أمورٌ خاطئة. أحياناً يكون من الضّروريّ إنشاء السّاحات وشقّ الطّرقات بشكلٍ جميلٍ وجيّد، وهذا ليس محلّ بحثنا، إنّما المقصود ما يتعلّق بأشخاصنا أنا وأنتم1.
إنّ المسؤولين مكلّفون بأداء وظائفهم، وكلّ من ينحرف عن أداء دوره
1-حديث الولاية (موسوعة خطابات الإمام الخامنئي)، ج7، ص40- 55.
28
20
الفصل الأول
الأساس، ويُشغِل نفسه ويتلهّى بأدوارٍ أخرى، يخون الأمانة، وسيكون مورداً للّعنة الأبديّة.
نحن المسؤولون، علينا إحياء الرّوح الإسلاميّة في داخلنا، والابتعاد عن روح النّزعة الأرستقراطيّة، والانعتاق من الاستفادة الشّخصيّة، ومن السّعي وراء المصالح الشّخصيّة وطلب الثّروات والكماليّات، وما شابهها. وإن وجدنا أنّ بعض مشاكلنا لا تُحلّ، فالسّبب هو هذا، وهو ما يجب علينا إصلاحه1.
آثار الذنوب:
انظروا إلى الذّنوب والمعاصي المتنوّعة التي يقترفها الإنسان، وإلى الأعمال النّاجمة عن الانسياق وراء الشّهوات وحبّ الدّنيا والطمع فيها، والحرص على مالها، والتّعلّق بمناصبها، وبُخل المرء بما يمتلك من إمكانات، إضافة إلى صفات الحسد والغضب. من المؤكّد أنّها تترك في الإنسان أثرين، أوّلهما: تأثيرٌ معنويّ يُسقِط من الرّوح طهارتها، ويُطفِئ فيها وهج النّور، فيخبو ذلك البعد المعنويّ في الإنسان، وينقطع أمامه سبيل الرّحمة الإلهيّة.
أمّا الأثر الثّاني: فيبَرُز في ساحة النّشاط الاجتماعيّ، حيث تتطلّب حركة الحياة الجدّ والحزم وصلابة الإرادة، هناك تكون الذّنوب لجاماً للإنسان، ويُسقط ما في يده، إذا لم تتوفّر له عناصر أخرى تعوّض هذا الضّعف.
بطبيعة الحال، قد تكون لدى الإنسان، أحياناً، عوامل أخرى تعوّض عن
1- لقاء مع عامّة أفراد الشّعب، 22/05/2002.
29
21
الفصل الأول
ذلك، كالسّجايا الحسنة والعمل الصّالح، إلاّ إنّها ليست موضع بحثنا، أمّا الذّنب بذاته فهذه آثاره1.
تعظيم العدو نتاج النزعة الدنيويّة:
أصبح الشُّغل الشَّاغل لبعض الأشخاص - وللأسف الشَّديد - تعظيم العدوّ واستصغار نفسه، وترديد مقولة عظمة العدوّ، وتكرار قول: (لا يمكننا)، وهذا يعني أنّنا - كالكثير من الدُّوَل والحكومات - يجب أن نُبتلع من الاستكبار العالميّ، وتُهضم حقوقنا.
هؤلاء مُخطئون، هم ضعفاء وفارغون من الدّاخل، فإمّا أنّهم كانوا كذلك، أو أنّهم أصبحوا فارغين، وملذّات الدّنيا ومتاعها هي ما جعلهم كذلك. النَّزعة الدُّنيويّة جعلتهم بلا قيمة وبلا هويّة، ولذلك فهم يتوهّمون أنّ الجميع مثلهم2.
ولهذا نجد أن بعض من يعمل في ميدان الفكر يتجاوز القانون. ولكن لميدان الفكر والعلم قوانينه التي يجب اتّباعها. فإذا كانت لدى أحدهم شبهةٌ ما حول أحد المباني الفكريّة، فمقتضى القانون أن تُطرح في المراكز التّخصّصيّة والمحافل العلميّة، فإمّا أن يقوم بحلّ هذه الشّبهة وإبعادها عن ذهنه، وإمّا أن يحوّلها إلى نظريّة، ويُقنع بها أهل العلم والنّظر في حال كانت إشكالاً حقيقيّاً. هؤلاء السادة لا يَتَّبِعون هذا القانون، بل بمجرّد أن تَعرُض لهم شبهةٌ يتزلزل إيمانهم، ونتيجة الابتلاءات والشدائد الكثيرة
1- خطبة صلاة الجمعة، طهران، 17/01/1997.
2- لقاء مع عامّة أفراد الشّعب، 22/05/2002.
30
22
الفصل الأول
والمتنوّعة، تنخر سوسة الهوى والهوس وطلب الدّعة وحب الدنيا أسس إيمانهم القلبيّ، فيقعون في الشبهة، ثمّ يقومون بنشر الشّبهة بين العامّة، ويسمّونها إعادة نظر، هذه خيانة لأفكار العامّة.
ما معنى إعادة النّظر؟ أحياناً تكون إعادة النّظر بمعنى العودة المستنيرة والمنصفة عن الأخطاء، فهذا الأمر غاية في الحُسن. أمّا إعادة النّظرة السياسيّة الناتجة عن مصالح ضَيّقة ناشئة من تغيُّر الظّروف والأوضاع وتغرير الأعداء، فليست إعادة نظر إنّما هي تفّلت وانحراف مسلكي.
لدينا في الإسلام مبدأ الاجتهاد الدائم، والمقصود منه سعي الإنسان صاحب الرأي لتكميل فكره ونظره.
في مسيرة التّكامل، يقوم الإنسان أحياناً بتصحيح خطئه، هذا أمر صحيح وحسن. وفي مسيرة الفكر الإسلامي، على أهل الرأي والعلماء والذين يملكون قدرة الاجتهاد والاستنباط في المباني الفكريّة والنظريّة للثورة - وليس كلّ من ادّعى ذلك، ولا الذي لم يحُز الكفاءات العلميّة والفكريّة اللاّزمة - التّفكير بشكلٍ دائم، واستكمال هذا الفكر. هذا أمر جيّد.
علينا أن لا نكون من أتباع حزب الرّيح، فنميل معها حيث تميل، أو أن ننظر إلى العدوّ وإلى أي موقف يتخذه, فنطابق مواقفنا معه، فإن عبس نظهر بمظهر الخائف، وإن تكلّم بقَسوة نُبدي له مظاهر الاعتذار، هذا الأمر غير مقبول9.
1- حديث الإمام الخامنئي في لقاء مع شباب أصفهان، 27/02/2002.
31
23
الفصل الثاني
ما أجود طلحة:
كان سعيد بن العاص من بني أُمَيَّة، ومن أقارب عثمان، وقد ظهر على الساحة بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ليصلح ما كان قد أفسده الوليد.
ذاتَ يومٍ, قال رجلٌ في مجلسه: "ما أَجوَدَ طلحة!". ولا بدّ أنّ طلحة كان قد وهب أحداً مالاً أو تكرّم على شخص، فقال سعيد بن العاص: "إنّ من له مثل النشاستج لحَقيقٌ أن يكون جواداً"، وكانت "النشاستج"1 ضيعةً كبيرةً ذات محاصيل وافرة قرب الكوفة، يملكها صحابيّ الرّسول طلحة بن عبد الله، الذي كان يعيش حينذاك في المدينة، ثمّ أردف قائلاً: "والله، لو إنّ لي مثله لأعاشكم الله به عيشاً رغداً".
فلا ضير أن تقولوا هو جواد، أي "ما أَجوَدَ طلحة!".
قارنوا هذا الوضع مع حالة الزُّهد في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفترة الأولى ما بعد رحيله، ولاحظوا طبيعة الحياة التي كان يعيشها الأكابر والأمراء والصّحابة في تلك السّنوات، وكيف كانوا ينظرون إلى الدّنيا.
وقد وصلت الأوضاع بعد مضيّ 10 سنوات أو 15 سنة إلى هذا الحدّ.
1- لعلّ كلمة "نشاسته" بالفارسية مشتقّة منها.
35
25
الفصل الثاني
أبو موسى الأشعريّ وبِغَالُه الأربعون:
المثال الآخر هو أبو موسى الأشعري والي البصرة, وهو الأشعريّ صاحب الموقف الشّهير في قضيّة التحكيم. صعد المنبر ذات يوم، وكان النّاس يستعدّون لإحدى الغزوات، فأخذ يحضّهم على الجهاد، وذكر أحاديثَ في فضل الجهاد والتّضحية. وكثير من النّاس لم يكن لديهم دوابّ يركبونها للذّهاب، وكلّ واحد كان عليه أن يمتطي جواده ويذهب، ولِحَثِّهم على الذّهاب مُشاةً، بالغ في ذكر فضل الجهاد مشياً، فقال: إنّ له قدراً كبيراً وأجراً جزيلاً! فما كان من كلامه الحماسيّ إلاّ أن دفع بعضهم فتركوا دوابّهم, وقالوا: لنخرج رجّالة، لماذا الخيل؟! طمعاً في الثواب. "فَحَمَلوا عل فرسهم"1, أيّ نهروها وأبعدوها عنهم لأنّها تحرمهم من الثّواب. إلاّ إنّ جماعة آخرين من العقلاء فضّلوا التأمّل ومشاهدة حقائق الأمور، وقالوا: لا نعجل في شيء حتى ننظر ماذا يصنع، "فإن أَشْبَهَ قولُه فعلَه"، فعلنا كما يفعل.
جاء في نصّ عبارة ابن الأثير: "فلمّا خرج، أخرج ثِقله من قصره على أربعين بغلاً"2. كانت تلك ممتلكاته الثّمينة، وكان مضطرّاً إلى اصطحابها حيثما حلّ وارتحل، حتّى إلى ميادين الجهاد. فلم تكن ثمّة مصارف أو بنوك في ذلك العصر، والحكومات لا اعتبار لها، فقد يأتيه الأمر من الخليفة بعزله من منصبه وهو في ساحة الجهاد، وإن حصل
1- ابن الأثير، الكامل في التاريخ المجلد الثالث, ص99-100 / والطبري, تاريخ الطبري، ج3, ص320, عبارة الطبري: "حتى حمل نفر على دوابهم...".
2- م. ن.
36
26
الفصل الثاني
ذلك فلا يمكنه الرجوع إلى البصرة وأخذ تلك الأموال، لذلك كان مضطرّاً لحملها معه، فحمل ممتلكاته الثّمينة على أربعين بغلةً إلى ميدان الجهاد!.
ولمّا خرج، جاءه قومٌ وتعَلّقوا بعنان فرسه، وقالوا: "احملنا على بعض هذه الفضول"، أَركِبنَا على هذه البغال الكثيرة، فقد خرجنا مشاةً، فما تلك الأشياء التي جلبتها معك إلى ميدان المعركة؟! "وارغبْ في المشي كما رَغّبتنا، فضرب القوم بسوطه، فتركوا دابّته... فمضى"1، ذهبوا وتفرقوا, إلاّ أنّهم طبعاً لم يتحمّلوا ذلك منه، بل ذهبوا إلى المدينة وشكوه إلى عثمان، فعزله. مع أنّ أبا موسى كان من صحابة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الخواصّ والكبار أيضاً، وكان على مثل تلك الحال.
سعد بن أبي وقاص ونهب بيت المال:
المثال الثالث، هو سعد بن أبي وقّاص، الذي عُيِّنَ والياً على الكوفة. كان قد اقترضَ مالاً من بيت المال. وفي ذلك العصر لم يكن بيت المال بيد الوالي، وكانوا ينصِّبون الوالي للقيام بأمور الحكومة وإدارة شؤون النّاس، وينصِّبون شخصاً غيره للشّؤون الماليّة، وهو مسؤولٌ أمام الخليفة مباشرة.
وحينما عُيِّن سعد بن أبي وقّاص والياً على الكوفة، كان خازن بيت المال عبد الله بن مسعود، وكان صحابيّاً جليلاً. وبعد أن اقترض الأوّلُ من بيت المال بضعة آلافٍ من الدنانير- لا أَذكُرُ كم على وجه الدّقّة -، ولم يفِ بدينه ولم يردّه, طالبه ابن مسعود فلم يتيسّر له قضاؤه، فارتفع
1- الكامل في التاريخ، م. س، ص99.
37
27
الفصل الثاني
بينهما الكلام، واشتدّ النّزاع، وكان هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص حاضرًا، وهو من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان رجلاً شريفًا، فقال: "إنّكما لصاحبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يُنْظَر إليكما"1، لا تتنازعا, وحلاّ القضيّة بينكما على نحو ما.
فخرج ابن مسعود وكان رجلاً أميناً، ثمّ استعان بأُناسٍ على استخراج المال من دار سعد - وهذا يعني أنّ المال كان موجوداً -، ولمّا علم سعد استعان بأناسٍ آخرين وطلب منهم صدّهم عن ذلك، ونتج عن مماطلة سعد بن أبي وقّاص في ردّ الأموال منازعةٌ شديدة.
فإذا كان سعد - وهو من أصحاب الشّورى الستّة - قد وصل أمره إلى هذا الحدّ بعد بضع سنوات، بحيث وصف ابنُ الأثير تلك الحادثة بالقول: "فكان أوّل ما نُزغ به بين أهل الكوفة"2، فأوّل نزاع يقع بين أهل الكوفة - بتعبير ابن الأثير - سببه رجل من الخواصّ، تغلّب عليه حبّ الدّنيا إلى هذا الحدّ، وأظهر خضوعه لها.
الوليد بن عقبة والي الكوفة, فاسق!
أما الحادثة التّالية، فهي أنّ عثمان عزل سعد بن أبي وقّاص عن الكوفة، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فعيّنه حاكماً عليها. وكان الأخير من بني أُمَيَّة، ومن أقارب الخليفة. ولمّا دخلها تعجّب أهلها من تولية هذا الشّخص عليهم، لأنّه كان معروفًا بالحماقة والفساد، وفيه نزلت الآية
1- الكامل في التاريخ، م. س، ص82.
2- م. ن.
38
28
الفصل الثاني
الشّريفة: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾1، أي إنّ القرآن وصفه بالفاسق لأنّه جاء بخبرٍ عاد بالضّرر على بعض الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
انظروا إلى المعايير والمقاييس وتَبَدُّل أحوال النّاس، فهذا الشّخص الذي سمَّاه القرآن - الذي كان النّاس يقرؤونه يوميّاً - فاسقاً، أصبح هنا والياً!
وحتّى أنّ سعد بن أبي وقّاص نفسه وعبد الله بن مسعود تعجّبا حين شاهداه قادماً إلى الكوفة والياً، وقال له عبد الله بن مسعود لمّا وقع نظره عليه: "ما أدري أصَلَحت بعدنا أم فَسدَ النّاس". وكانت دهشة سعد بن أبي وقّاص من بُعدٍ آخر، حيث قال له: "أَكِسْتَ بعدنا أم حمقنا بعدك"؟ فأجابه الوليد: "لا تجزعنّ أبا إسحاق، كلّ ذلك لم يكن، إنّما هو المُلك يتغدّاه قوم ويتعشّاه آخرون"2، أي لا تحزن، فأنا لم أُصبح فطِناً وأنتم لستم حمقى، بل إنّ المسألة مسألة الملك.
فقد كان لتبديل الحكومة الإلهيّة والخلافة والولاية بالمُلك والملكيّة قصّة عجيبة، "يتغدّاه قوم ويتعشّاه آخرون"، فاليوم هو لذاك وغداً لغيره. فتألّم سعد بن أبي وقّاص من هذا الكلام، فهو من صحابة رسول الله، وقال له: "أراكم جعلتموها مُلكاً!".
ذات يومٍ, سأل عمر بن الخطّاب سلمان: "أمَلِكٌ أنا أم خليفة؟" - وكان سلمان شخصيّة كبيرة ومحترمة، وهو مِن الصّحابة الكبار، ولرأيه وزنٌ -،
1- الحجرات، 6.
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص83.
39
29
الفصل الثاني
فقال له سلمان: "إن أنت جَبَيتَ من أرض المسلمين درهمًا أو أقلّ أو أكثر، ووَضَعتَه في غير حّقه، فأنت مَلِكٌ غير خليفة"1.
وعليه، فقد بَيَّنَ له المعيار، قال ابن الأثير: "فبكى عمر"، لأنّ الموعظة كانت عميقة المغزى حقّاً. فالقضيّة قضيّة خلافة، والولاية والخلافة معناها الحكومة المقرونة بالمحبّة والارتباط بالنّاس، والمقرونة بالعطف والرحمة بكافّة أفراد الشعب, وهي ليست تسلّطاً أو تحكّماً، في حين أنّ المُلكيّة لا تحمل مثل هذا المعنى، ولا شأن لها بالنّاس، فالمَلِك حاكمٌ متسلّطٌ، يفعل ما يشاء.
كان هذا مآل الخواصّ. وهؤلاء وصلت أمورهم إلى تلك الحال في بضع سنين. وهذا ما حصل طبعاً في عهد الخلفاء الرّاشدين الذين كانوا ملتفتين وملتزمين ويهتمّون بالأحكام، وقد أدركوا لسنواتٍ متماديةٍ عصر الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وصدى دعوته كان لا يزال يتردّد في المدينة، وكان شخص كعليّ بن أبي طالب عليه السلام حاضراً في ذلك المجتمع، ولكن بعد انتقال مركز الخلافة إلى دمشق، تجاوزت القضيّة مثل هكذا حديث بشكل كبير.
كانت هذه أمثلة متواضعة لما كانت عليه أحوال الخواصّ. ولو نَقّب شخصٌ في تاريخ ابن الأثير أو المصادر التاريخية الأخرى المعتبرة لدى إخواننا المسلمين، لعثر على آلاف الأمثلة من هذا القبيل.
فساد النفوس يُفرز كعب الأحبار:
من الطّبيعي حينما تُفتقد العدالة، وحينما تضمحِلّ العبودية لله،
1- الكامل في التاريخ، م. س، ص59.
40
30
الفصل الثاني
يصبح المجتمع مجتمعاً خاوياً وتفسد النّفوس، كالمجتمع الذي وصل فيه اكتناز الثروات والتهافُت على حطام الدنيا، إلى ذلك الحدّ، وأيضاً كالمجتمع الذي آلَ الأمر فيه لأن يَنقُل المعارف للنّاس شخصٌ مثل كعب الأحبار اليهوديّ الذي أَسلَمَ لاحقاً، ولم يُدرِك عهد الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ إنّه لم يدخل الإسلام في عهد الرّسول ولا في عهد أبي بكر، وإنّما في عهد عمر، وتوفّي في عهد عثمان.
بعضهم يقول هو "كعب الأخبار"، وهذا خطأ، والصّحيح هو "كعب الأحبار"، والأحبار جمع حَبْر، والحبر هو عالم اليهود، فكعب هذا, الذي كان قطب علماء اليهود، نجده قد دخل في الإسلام، ثمّ نهض وأخذ يتحدّث في مسائله.
ذات يوم, كان جالسًا في مجلس عثمان إذ دخل أبو ذرّ، فقال كعب الأحبار قولاً أغضب أبا ذرّ، فقال أبو ذرّ: "ما أنت؟ وما ها هنا؟!"1 أتُعلّمنا الإسلام وأحكامه ونحن سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!
حينما تُفتقد المعايير، وتتقوّض القيم، وتُفرغ القضايا من المحتوى وتقتصر على الظّواهر، وحينما يستولي حبّ الدّنيا وجمع المال على أناسٍ قضوا عُمراً مديداً بالعزّة، والزُّهد في زخارف الدّنيا، وقُيِّضَ لهم نشر تلك الرّاية عالياً، في ذلك الوقت يتصدّى لشؤون الثقافة والمعرفة مثل ذلك الشخص الذي اعتنق الإسلام لاحقاً، ويطرح باسم الإسلام ما يراه هو شخصيّاً، لا ما يقوله الإسلام، ثمّ يأتي بعضهم ليقدّم قوله على قول مسلِمٍ له سابقة في الإيمان.
1- الكامل في التاريخ، م. س، ص115.
41
31
الفصل الثاني
تقوى المسؤولين أن يحفظوا غيرهم أيضاً:
اعلموا يا أعزّائي، أنّ المرء لا يقف على حقيقة مثل هذه التطوّرات الاجتماعيّة إلاّ بعد وقت طويل، فيجب علينا الانتباه والحذر. والتّقوى هي هذه، فالتّقوى معناها أن يراقب نفسه من له سلطان على نفسه. وأولئك الذين حَاكِمِيَّتهم أوسع من سلطانهم على أنفسهم, عليهم أيضاً أن يراقبوا أنفسهم وأن ينتبهوا لغيرهم. أمّا الذين يقفون على رأس السّلطة فيجب عليهم التحرّز على أنفسهم وعلى المجتمع كّله، لكي لا ينزلق نحو التّهافت على الدّنيا والتعلّق بزخارفها، وبالتّالي لا يسقط في هاوية حبّ الذّات.
وهذا لا يعني طبعًا الانصراف عن بناء المجتمع، إذ يجب عليهم بناء المجتمع وإنماء ثرواته، ولكن لا أن يطلبوا ذلك لأنفسهم، فهذا مُستقبح، فكلّ من لديه القدرة على زيادة ثروة المجتمع والقيام بإنجازات كبرى ينال ثواباً عظيماً.
لقد استطاع بعض الناس خلال هذه السّنوات بناء البلد ورفع راية الإعمار عالياً وإنجاز أعمال كبرى - وهذه مفخرة لهم -، ولا يدخل عملهم هذا في إطار حبّ الدّنيا. وإنّما يصدق حبّ الدّنيا فيما لو كان المرء يطلب النّفع لِذَاتِه ويعمل لنفسه، أو يفكّر في جمع الثروة لنفسه من بيت مال المسلمين أو من غيره. هذا هو السّيِّئ.
يجب إذاً الحذر من الوقوع في مثل هذه المنزلقات، وإذا انعدم الحذر، فالمجتمع سينحدر تدريجيّاً نحو التخلّي عن القيم ويبلغ
42
32
الفصل الثاني
مرحلة لا يبقى (من الإسلام والقيم) سوى القشور الخارجية. وقد يأتيه ابتلاءٌ شديدٌ على حين غرّة ويُفاجئُه، كالابتلاء الذي تعرّض له ذلك المجتمع حين اندلاع ثورة أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، فلا يخرج منه ظافرًا.
بين الريّ والشهادة:
قالوا له (لعمر بن سعد) نعطيك ولاية الريّ. وكانت الريّ آنذاك ولاية شاسعة وغنيّة. ولم يكن منصب الإمارة - في ذلك الوقت - كمنصب المحافظ في وقتنا الحاضر، فالمحافظون اليوم موظّفون حكوميّون، يتقاضون مرتّبات، ويبذلون جهودًا شاقّة. ولكنّ الأمر لم يكن حينذاك على هذا النّحو، فالشّخص الذي يُنَصَّب والياً، يكون مُطلَق اليد في التصرّف بجميع الثروات الموجودة في المدينة، يتصرّف فيها كيفما شاء بعد أن يُرسل مقدارًا منها إلى عاصمة الخلافة، ولهذا كان لمنصب الوالي أهميّة عظمى.
وشَرَطُوا على عمر بن سعد لذلك، الذهاب لقتال الإمام الحسين عليه السلام. وهنا لا يتردّد الإنسان النبيل وصاحب القيم لحظة واحدة في رفض مثل هذا العرض، فكأنّهم يقولون له: مُت وخُذ الريّ. إذاً فما قيمة الريّ؟! لو أعطيتُ الدنيا كلّها على أن أَعبِس بوجه الإمام الحسين عليه السلام, لا أفعل، ولا أكفهرّ بوجهه، فما بالك بالنهوض لمحاربة عزيز الزّهراء عليها السلام، وقتله هو وأطفاله؟ هكذا يقف الإنسان الذي يحمل قيماً. ولكن حينما يكون المجتمع خاوياً ومجرّداً من القيم، وحينما تضعف هذه
43
33
الفصل الثاني
المبادئ الأساسية بين أفراد المجتمع، حينذاك ترتعد الفرائص. وأكثر ما يستطيع المرء عمله في مثل هذا الموقف هو أن يستمهلهم ليلة واحدة للتّفكير في الأمر الذي لو فكّر فيه سنة كاملة لوصل إلى النتيجة نفسها، ولاتّخذ القرار نفسه، فلا قيمة لمثل هذا النّمط من التفكير. إلاّ أنّ الرّجل فكّر في الأمر ليلة، وأعلن في اليوم التّالي عن موافقته على ذلك العرض. ولكنّ الله تعالى لم يمكّنه من بلوغ تلك الغاية، وكانت نتيجة ذلك - أيّها الأعزّاء - أن وَقَعَت فاجعة كربلاء1.
الخوارج, زهّاد بلا بصيرة:
إن أهمل الإنسان في عبادته الحضور القلبيّ وروح العبادة - وهي نفس العبوديّة والأُنس بالله والتّسليم له - فسيكون عُرضةً لأخطارٍ مختلفة، أحدها هو التحجّر.
بعض الخوارج، الذين سمعتم أسماءَهم كثيراً، كانوا في حالةٍ من العبادة، يُصلّون ويتلون آيات القرآن بخشوع، إلى درجة أنّ بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وقعوا تحت تأثيرهم.
ففي أيّام حرب الجمل نفسها، كان أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام مارّاً، فشاهد أحدهم يتهجَّد في منتصف اللّيل، ويتلو بصوت شجّي حزين قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ
1- خطبة صلاة الجمعة - طهران، 08/05/1998.
44
34
الفصل الثاني
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾1، فجاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام متحيّراً, منقلب المزاج. لذلك نرى أنّه حتى الأشخاص الأذكياء والعقلاء والمطّلعين - وكان أغلب أصحاب أمير المؤمنين المقرّبين كذلك - أيضاً يُخطئون، ومن هنا ندرك أنّ أمير المؤمنين لم يَقُل عبثاً: "أنا فقأتُ عين الفتنة، ولم يكن ليجرأ عليها أحدٌ غيري بعد أن ماج غيهبها"2، في خطبته المعروفة. والحقّ أنّ هذا الأمر يتطلّب سيفَ عليّ، وبصيرته، وثقته بنفسه، لأنّه حتّى الخواصّ أحياناً يتزلزلون.
وعلى ما ذُكر، فقد قال أمير المؤمنين لصاحبه: "سأنبئك فيما بعد"3. عندما انتهت حرب الخوارج، وبقي منهم أقلّ من عشرة أشخاص وقُتل الباقون، أراد أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه الاعتبار والاتّعاظ،
1- الزمر، 9.
2-نهج البلاغة،ج1، ص182. غيهبها: ظلمتها الشديدة.
3- المقصود في الرّواية هو كُميل بن زياد, وقد جاءت الرواية في بحار الأنوار,ج33، ص399، بطريقة أخرى مع بعض الاختلاف، وهذا نصّها: "خرج أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة من مسجد الكوفة متوجّهاً إلى داره، وقد مضى ربعٌ من اللّيل ومعه كُميل بن زياد، وكان من خيار شيعته ومحبّيه، فوصل في الطّريق إلى باب رجلٍ يتلو القرآن في ذلك الوقت، ويقرأ قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ بصوتٍ شجيٍّ حزين، فاستحسن كُميل ذلك في باطنه، وأعجبه حال الرّجل من غير أن يقول شيئاً، فالتفت صلى الله عليه وآله وسلم إليه، وقال: يا كُميل، لا تعجبك طنطنة الرّجل، إنّه من أهل النّار، وسأنبئك فيما بعد! فتحيّر كُميل لمكاشفته له على ما في باطنه، ولشهادته بدخول النّار، مع كونه في هذا الأمر، وتلك الحالة الحسنة. ومضى مدّة متطاولة إلى أن آل حال الخوارج إلى ما آل، وقاتلهم أمير المؤمنين عليه السلام ، وكانوا يحفظون القرآن كما أُنزل، فالتفت أمير المؤمنين عليه السلام إلى كُميل بن زياد، وهو واقفٌ بين يديه، والسّيف في يده يقطر دماً، ورؤوس أولئك الكفرة الفجرة مرمية على الأرض، فوضع رأس السّيف على رأسٍ من تلك الرؤوس، وقال: يا كُميل، ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾، أي هو ذلك الشّخص الذي كان يقرأ القرآن في تلك اللّيلة فأعجبك حاله، فقبّل كميل قدميه، واستغفر الله". (المترجم)
45
35
الفصل الثاني
فمشى بين القتلى، وهناك في تلك المواقع خاطب بعضهم، إلى أن وصل إلى أحد القتلى، فأشار لهم ليقلبوه، وكان ملقىً على وجهه، فقلبوه، ومن المحتمل أنّه قال لهم أجلسوه، عندها سأل صاحب: هل تعرفه؟ فلم يعرفه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام إنّه مَن كان يُرتِّل القرآن، وأَسَر قلبك.
إذاً، ما هذه التّلاوة؟! وما نوع هذه العبادة؟! إنّه ابتعاد عن روح العبادة.
إن أدرك الإنسان روح العبادة والصّلاة والقرآن، وفهم أنّ وجود وحقيقة الإسلام ولبّه - الذي تجسّد في عليّ بن أبي طالب عليه السلام - قد استقر في طرفٍ ما، يُبعِد عن نفسه كلّ الشّبهات ويلتحق به. هذا الابتعاد عن القرآن والابتعاد عن الدّين يؤدّيان بالفرد إلى التشخيص الخاطئ لهذا الموضوع، وبالتّالي إلى إشهار سيفه بوجه عليّ عليه السلام.
إذاً، فأحد أبعاد القضيّة هو هذا التّحجّر، وعدم التّفكّر، والأخطاء الجسيمة التي شاهدناها طوال فترة حكم بني أميّة وبني العبّاس.
بعض الأشخاص كانوا مقدّسين ومتديِّنين ومن أهل العبادة والزُّهد، وذُكروا في كتب التّاريخ بأنّهم من العُبّاد والزهّاد، وذوي عقل ورزانة، إلا أنّهم كانوا مشتبهين, وخطؤهم كان بمستوى عدم تمييز جبهة الحقّ من جبهة الباطل. وأعظم الأخطاء هو أن يشتبه الإنسان بين جبهة الحقّ والباطل، فلا يستطيع التمييز بينهما. الأخطاء الصّغيرة قابلة للعفو، أمّا خطأ الخلط بين جبهتي الحقّ والباطل، وعدم معرفة جبهة الحقّ فهو غير قابل للعفو.
عظمة الخواص في العبودية واجتناب المعاصي:
وهنا تكمن عظمة أمثال عمّار بن ياسر، فعظمة خواصّ أمير
46
36
الفصل الثاني
المؤمنين عليه السلام تكمن في أنّهم لم يرتكبوا الأخطاء تحت أيّ ظرف من الظروف، ولم يُضلُّوا جبهتهم. وقد ظهرت هذه العظمة في العديد من المواقف خلال حرب صفّين، كما إنّها لم تكن منحصرة في هذه الحرب فقط، بل في العديد من المواقع التي التبست فيها بعض الأمور على جمعٍ من المؤمنين، وكان عمّار بن ياسر هو من يرفع الشبهة ببصيرته النّافذة وبيانه الواضح. وهنا نرى هذا الإنسان - صاحب القلب النيّر وعظيم الشأن - في العديد من القضايا المتعلّقة بأمير المؤمنين عليه السلام ، ومن بينها حرب صفّين.
لقد استمرّت حرب صفّين لأشهرٍ عدّة، وكانت حرباً عجيبة، لأنّ النّاس كانوا يرون في مقابلهم أشخاصاً يُقيمون الصّلاة ويتعبّدون ويقرؤون القرآن، حتّى إنّهم رفعوا المصاحف على الرماح. وليكون باستطاعة إنسانٍ إشهار سيفه في وجه أفرادٍ يُقيمون الصلاة، يحتاج إلى قلبٍ شجاع وجرأة عالية.
جاء في الرّواية عن الإمام الصّادق عليه السلام "كان في قتال عليّ عليه السلام على أهل القبلة بركة، ولو لم يقاتلهم عليّ لم يدرِ أحد بعده كيف يسير فيهم"1، فعليّ بن أبي طالب عليه السلام هو من فتح الطريق، وأشار للجمع بكيفيّة التصرّف.
عندما كان أبناؤنا - أثناء الحرب المفروضة - يجتاحون مواقع الأعداء المهاجمين ويأسرونهم، كانوا يجدون في متاريسهم المسابح والسّجدات!
1- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام, ج6, ص145, ح250.
47
37
الفصل الثاني
تماماً كالذين وقفوا مقابل أمير المؤمنين عليه السلام ، وكانوا يُقيمون الصلاة، ولذلك وقعت مجموعة في الخطأ آنذاك، والشخص الذي تصدّى لهم كان "عمّار بن ياسر"، وهذا يحتاج إلى الفطنة والبصيرة، يحتاج إلى شخص مثل عمار.
فإذا لم تنجلِ للإنسان حقيقة الأعمال وروح العبادات - وهي هذا التوجّه والعبودية لله -، وإذا لم يَسعَ - في كلّ واحدة من هذه الواجبات - ليقرّب نفسه من العبودية لله، فأعماله تبقى سطحيّة. وإنّ العمل والإيمان السطحيّين معرّضان للخطر، وهذا ما نراه على امتداد تاريخ الإسلام.
الزُّهَّاد بلا بصيرة, ألعوبة بيد السلاطين:
ذكرتُ سابقاً أنّ بعض المتديّنين المقدّسين من العُبّاد والزهّاد، كانوا يذهبون إلى الخليفة الظالم الغاصب الفاجر الخبيث الكاذب والمتلوّن، فيجلسون عنده وينصحونه بعدّة كلمات، ويُحدّثونه بحديثٍ يَبكي له، وكان بكاؤه إمّا خداعاً ورياء، أو لعلّ شيئاً في زاويةٍ من قلبه كان يهزّه فيبكي. حتّى إنّ بعضهم يكون مخموراً وفي حالةٍ من السّكر الشّديد، فيقوم بإظهار بعض المشاعر, فيأتي بأحدهم ليحدّثه ببضع كلماتٍ فيبكي لها. في هذه الحال يصبح هؤلاء البسطاء الجهلاء - ولو كانوا عالمين بظواهر الدين - من مُريدي هذا الخليفة.
في تاريخ الإسلام, نرى الكثير من هذه الأمور العجيبة، فعمرو بن عُبيد، ذلك العابد الزّاهد المعروف، كان الخليفة العبّاسي (المنصور) يتظاهر بمحبّته له، فقال: "كلّكم طالب صيدْ، كلّكم يمشي رويدْ، غير
48
38
الفصل الثاني
عمرو بن عبيدْ"1، لكن إذا شاهدتم "عمرو بن عبيد" و"محمّد بن شهاب الزّهري" وأمثالهما، ترون أنّهم كانوا في زمانهم من المعوّقات الكبرى في طريق الحقّ، فهؤلاء كانوا بحضورهم يدعمون جبهة الباطل، ويتركون جبهة الحقّ - أي أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وحيدة مظلومة، وبسبب هذا الجهل كان الأعداء يتجرّؤون عليهم...
روح العبادة في العبوديّة لله سبحانه:
أيّها الإخوة والأخوات، علينا أن نسعى لإحياء روح العبوديّة في نفوسنا، لأنّ العبوديّة تعني التسليم لله، وتعني تحطيم تلك الأصنام الموجودة في أنفسنا. هذه الأصنام الداخليّة - أي الأنا - تبرز في الكثير من المواقع، ولا سيّما عندما تكون مصلحتك في خطر، أو عندما يخالفك أحد ما، أو يكون هناك شيء موافق لرغبتك، ولو كانت رغبتك مخالفة للشريعة، أو عندما تواجه مفترقَ طرق، فتكون المصلحة الشخصيّة في طرف والتكليف في طرف آخر، ففي هذه المضايق والميادين بالتّحديد تُخرجُ هذه "الأنا" رأسَها، وتُظهر نفسَها.
فإن استطعنا التحكّم بهذه الأنا الداخليّة - أي هوى النفس -، هذا الفرعون الباطنيّ، هذا الشيطان الموجود في داخلنا، أو على الأقلّ استطعنا كَبحها، فستصلح أمورنا كلّها، وقبل أيّ شيء سنرتقي نحن إلى مستوى الإنسانيّة، ونصل إلى الفلاح2.
1- السيد المرتضى، الأمالي, ج1, ص122.
2- كلمته في لقاء مع عامّة أفراد الشّعب، 26/04/1999.
49
39
الفصل الثالث
الفصل الثالث:
عليّ عليه السلام ... نموذج الزهد الأرقى
51
40
الفصل الثالث
الزُّهد زينة علي عليه السلام:
هناك العديد من الرّوايات الحاكية عن مناقب أمير المؤمنين عليه السلام وفضائله.
بدايةً أُشير إلى أنّ ما رُوي في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام لا يقتصر على الشّيعة فقط، بمعنى أنّ الشّيعة ليسوا وحدهم من يرويها أو يأنس بها1. الكثير من فضائل ومناقب أمير المؤمنين عليه السلام يرويه أيضاً غير الشّيعة في كتبهم، فالكثير من المسلمين همّ من المُحبّين والمُريدين والتّابعين لأهل بيت النبوّة الكرام عليهم السلام, ولا سيما ذاك الإمام عظيم الشأن.
إحدى الروايات هي عن "ابن المغازلي" الكاتب الشافعيّ المعروف، الذي يروي في كتابه - وراوي هذا الحديث ليس شيعيّاً - عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ عليّ بن أبي طالب يُضيء في الجنّة لأهل الجنّة، كما يظهر كوكب الصّبح لأهل الدّنيا"2، معناه أنّ نور ذلك العظيم يغلب في الجنّة أيضاً على سائر الأنوار. وهذا الكاتب نفسه، يروي عن عمّار
1- ونستثني من ذلك القلّة الذين يُعدّون على أصابع اليدّ، ولا يُعرف إذا ما بقي منهم أثرٌ أو أنّ لهم وجوداً - يعني النّواصب والخوارج-، وأمّا بقيّة المسلمين فهم من محبّي أمير المؤمنين عليه السلام.
2- ابن الغزالي, المناقب, ص140-185. وفي مصادر أخرى: شرح الأخبار والعمدة والإقبال والبحار.
53
41
الفصل الثالث
بن ياسر أنّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ بن أبي طالب عليه السلام: يا عليّ، إنّ الله قد زيّنك بزينة لم يُزيّن العباد بزينة أحبّ إلى الله منها، الزُّهد في الدنيا"1، أي عدم الرغبة بالدّنيا والإعراض عن تلك المظاهر الخادعة التي يلتذّ بها الإنسان، هذه هي الزينة التي أعطاها الله تعالى لعليّ عليه السلام. فليس المقصود هنا إعمار الدّنيا ولا إحياء الأرض وتزيينها بالزّينة الإلهيّة حتى يستفيد منها عباد الله - وهو ما كان أمير المؤمنين عليه السلام سبّاقاً إليه -، ولكن المقصود بالدنيا هو ما أعددناه - نحن وأنتم - ممّا هو في الأرض لحظوظ النفس ولذّاتها، من مأكل ومشرب ومركب (سيّارة)، أو من شهوات جنسيّة، وهذه هي الدنيا المُشار إليها في الرّوايات. ومن الطبيعيّ، فإنّ الاستفادة بمقدارٍ ما من هذه الأمور مباحٌ، ولعلّه ممدوحٌ أيضاً، أمّا ما نُهينا عنه فهو الغرق في تلك الدنيا السيّئة والخبيثة.
إذاً، الزُّهد في الدّنيا هو زينة عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
ثمّ يقول في بقية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّه قال لعليّ عليه السلام: "وَجعَل الدّنيا لا تنال منك شيئا".
والرواية الأخرى التي تُنير قلوب محبّي ذلك العظيم هي رواية "الموفّق الخوارزميّ الحنفيّ"، وهو أيضاً من كتّاب أهل السنّة، وله كتابٌ في المناقب.
ينبغي الاستعداد لنكون عمليّاً من أتباع تلك الشخصيّة العظيمة, وليس بالاسم فقط.
1- الموفق الخوارزمي، المناقب, ص113 / مناقب المغازلي، ص105، مع اختلاف بسيط.
54
42
الفصل الثالث
يروي الموفّق أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعليّ عليه السلام:
"يا عليّ، إنّي سألتُ ربّي فيك خمس خصال فأعطاني، أمّا أوّلهن فسألتُ ربّي أن تنشقّ عنّي الأرض، وأنفض التراب عن رأسي وأنت معي فأعطاني، وأمّا الثانية فسألتُ ربّي أن يوقفني عند كفّة الميزان وأنت معي فأعطاني، وأمّا الثالثة فسألتُ ربّي أن يجعلكَ حامل لوائي، وهو لواء الله الأكبر، عليه المُفلحون الفائزون في الجنّة، فأعطاني"، يتّضح من هذا الحديث النبويّ أنّ هناك في يوم القيامة ألوية، وأنّ كلّ جمع من الخلائق يُحشرون تحت أحد هذه الألوية، "وأمّا الرّابعة فسألتُ ربّي أن تسقي أُمّتي من حوضي فأعطاني، وأمّا الخامسة فسألتُ ربّي أن يجعلك قائد أُمّتي إلى الجنّة فأعطاني"، أي أنت في المقدّمة وأُمّتي خلفك تقودها إلى الجنّة، والله قَبـِل ذلك، ثمّ يختم الرواية بقوله: "الحمد لله الذي منَّ عَلَيَّ بذلك"1.
وهنا نرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشكر الله على ما منَّ به من المقامات المعنويّة على عليّ بن أبي طالب عليه السلام, والحقُّ أنّه لا مقام يرقى ليصل إلى هذا المقام2.
أمير المؤمنين عليه السلام قمّة الزهد:
وَقَعَ اختياري اليوم على رواية وَرَدَت في كتاب الإرشاد للشيخ المُفيد، إلا إنّني نقلتُ نصّها من كتاب "الأربعون حديثاً" للإمام الخميني قدس سره، وهو كتابٌ مهمٌّ جداً، وطابَقْتُهَا مع ما ورد في كتاب الإرشاد.
1- المناقب، م. س, ص 294.
2- من كلام الإمام القائد في خطبة صلاة الجمعة, 27/3/1992.
55
43
الفصل الثالث
يقول الراوي: "كنّا عند الإمام الصادق عليه السلام, فجرى ذكر أمير المؤمنين عليه السلام ومَدَحَهُ بما هو أهلُه" (أي الإمام الصادق عليه السلام).
ورأيتُ أنّ كلّ فقرة من الفقرات التي يستند إليها الحديث تشير إلى بُعدٍ من أبعاد شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام, كزهده وعبادته والخصوصيّات الأخرى التي سأعرضها. فالإمام الصادق عليه السلام يمتدح - طبقاً للرواية - أمير المؤمنين عليه السلام وأوّل جملة قالها، هذه: "والله ما أَكَلَ عليّ بن أبي طالب عليه السلام من الدّنيا حراماً قطّ حتى مضى إلى سبيله"1، أي إنّه لم يضع في فمه لقمةَ حرام، وكان يتجنّب أكل الحرام والمال الحرام, ويتجنّب المَنَال الحرام، أي إنّه كان يبتعد حتّى عمّا فيه شبهة. لاحظوا، لقد بيّن المعصومون عليه السلام هذه الأمور كأصولٍ للعمل، وكنموذجٍ وقاعدة, وأكثر من ذلك على مستوى الفكر والثقافة. وقد أقرّ الإمام الصّادق والإمام الباقر والإمام السجّاد عليه السلام بأنّهم لا يستطيعون تحمّل عيش أمير المؤمنين عليه السلام, فما بالك إذا وصل الدّور لأمثالي؟ فواويلاه!
ليس الكلام، هنا، أنّه هل يمكننا أنا وأنت العيش هكذا, لا، فتلك الحياة هي قمّة الحياة، والإمام يُشير إليها. ومعنى الإشارة إلى القمّة, أي على الجميع أن يسيروا في هذا الاتّجاه. ولكن من الذي يستطيع بلوغ تلك القمّة؟ في ذلك الحديث يقول الإمام السجاد عليه السلام: أنا لا أستطيع العيش على ذلك النحو.
1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة, ج1, ص68، باب استحباب الجد والاجتهاد في العبادة، ح18.
56
44
الفصل الثالث
زهدٌ لا يطيقه أحد:
"وما عَرَضَ له أمران كلاهما لله رِضَاً إلاّ أخذ بأشدّهما عليه في بدنه"، فإن عَرَضَ له شيئان كلاهما يرضى الله به، لا أنّ أحدهما حرام والآخر حلال، كأن يكون كلاهما مثلاً من العبادة، ولكن أحدهما أَشَقُّ على بدنه من الآخر، كان يختاره (أي الأشدّ)، وإن عَرَضَ له نوعان من الطّعام كان يختار أدناهما, وإن عَرَضَ له نوعان من الثياب كان يختار أردأهما, وإن عَرَضَ له عملان، كلاهما حلال، كان يختار أصعَبَهُما عليه. وهذا الكلام ليس صادراً عن متحدِّثٍ عادي, وإنّما المتحدِّث هنا - كما تُشير الرواية- هو الإمام الصّادق عليه السلام, أي إنّ كلامه في غاية الدّقّة. التفتوا كم أنّ التشدّد مع النفس مهمٌّ في الحياة الدنيا ومتاعها.
"وما نَزَلَت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نازلةٌ قطّ إلاّ دعاه فقدّمه ثِقَةً به"، أي إنّ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم متى ما ألمَّت به مُلمَّة كان يستدعيه وينتدبه لها ويُقدّمه فيها، وذلك أولاً: لعلمه بأنّه قادرٌ على أدائها على أحسن وجه, وثانياً: أنّه لم يكن يتهرَّب من الأعمال الشاقّة, وثالثاً: أنّه كان على استعداد للجهاد في سبيل الله.
ففي "ليلة المبيت"، مثلاً، حين هاجر رسول الله سرّاً من مكّة إلى المدينة, كان يجب أن يبيت أحد في سريره، وهناك قدّم الرسول عليّاً. وفي الحروب كان الرّسول أيضاً يقدّمه...
فالحديث هنا ليس من أجل أن أدّعي - أنا ومن هم أمثالي من المساكين والضِّعاف - أنّنا نريد العمل بهذا الشّكل، لا، ليس كذلك, إنّما
57
45
الفصل الثالث
القضيّة هي أنّنا يجب أن نسير في هذا الاتّجاه. والإنسان المُسلِم السّائر على نهج علي عليه السلام يجب أن يسير على هذا الخطّ، وأن يتقدّم إلى الأمام بأسرع ما يُمكن.
ثمّ قال: "وما أَطَاقَ أحدٌ عملَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأمّة غيره, وإنّه كان ليعمل عَمَلَ رَجلٍ كأنّ وجهه بين الجنّة والنّار"، أي رغم كلّ هذه الأعمال الكبرى وخشيته من الله وإيمانه به، كان سلوكُه سلوكَ إنسانٍ يعيش بين الخوف والرّجاء, فهو كان يخشى الله وكأنّه مُتأرجح بين الجنّة والنّار "يرجو ثواب هذه، ويخاف عقاب هذه".
وخلاصة هذا الكلام هي أنّه رغم كلّ هذا الجهاد والعناء والبذل والعبادة، لم يغترّ عليه السلام بشيء. في حين أنّه إذا صلّى أحدُنا ركعتيّ نافلة، وقرأ بضع جُملٍ من الأدعية, وأراق دمعتين, فإنّه يُصاب فوراً بالغرور! نعم، ويتصوّر نفسه وكأنّه أصبح طاووس العلّيّين. أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فلم يغترّ بأعماله الصّالحة على كثرتها.
أمّا لماذا يخافُ أشخاصٌ كالرّسول وكأمير المؤمنين والسّجّاد عليه السلام نارَ جهنّم، ويستعيذون بالله منها، وهم الذين خلق الله الجنّة من أجل أمثالهم, فهذا بحثٌ آخر. نحن أُناس ضعاف ونظرُنا قصير، ولا نُدرك عظمة الله. ومَثَلُنا في ذلك كطفلٍ صغيرٍ يلعب أمام شخصيّة علميّة كبرى، يجيءُ ويذهبُ غير آبهٍ لوجودها، لأنّه لا يعرف من هي. أمّا أنت فلأنّك والد ذلك الطّفل الذي يفوقُ عقلُه عقلَ طفله مئة مرّة، فتتواضع لتلك الشخصيّة. وهكذا حالنا أمام الله تعالى, فنحن لا ندرك عظمته،
58
46
الفصل الثالث
كأطفالٍ أو كأشخاصٍ غافلين وأُناس وَضِيعين، أمّا الذين انتقلوا من مرحلة العلم إلى مرحلة الإيمان, ومن مرحلة الإيمان إلى مرحلة الشّهود, ومن مرحلة الشّهود إلى مرحلة الفناء في الله, أولئك تتجلّى عظمة الله أمام أبصارهم، إلى الحدّ الذي لا يرون أيّ عملٍ صالح يعملونه قد صدر، ويقولون: أساساً، نحن لم نعمل أيّ عمل. هؤلاء يرون أنّهم دائماً مدينون للذّات الأحديّة المقدّسة.
"ولقد أَعتَقَ من ماله ألفَ مملوكٍ في طلب وجه الله والنّجاة من النّار، ممّا كدّ بيديه ورَشَحَ منه جبينه"، أي إنّ الأموال التي أنفقها على عتق أولئك المماليك لم يحصل عليها بالمجّان, وإنّما حصل عليها بتعب يديه، وعرق جبينه، وبالعمل الشاقّ المضني.
كان عليه السلام يعمل, سواء أفي عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, أم في السنوات الخمس والعشرين (بعد وفاة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم), أم في عهد خلافته، حيث يُستدلّ من بعض الآثار والدّلائل أنّه كان يعملُ أيضاً في زمن خلافته، فكان يحفر القنوات، ويحيي الأراضي ويزرعها، ويحصل على المال من هذا الطّريق، ثم يُنفقه في سبيل الله, وكان يشتري العبيد ويعتقهم, وأَعتَقَ على هذا المنوال ألف عبد.
"وإنّه كان ليقوت أهله بالزّيت والخلّ والعجوة"، أي إنّ طعامه العادي الذي كان في داره هو الزّيت والخلّ والتّمر من الدّرجة المتوسّطة أو الأقلّ. وكان طعامه يُشبه الخبز واللّبن، أو الخُبز والجُبن في عُرف مجتمعنا الحالي.
59
47
الفصل الثالث
"وما كان لِباسُه إلاّ كرابيس, إذا فضل شيء عن يده دعا بالجلم1 فقصَّه"، أي إنّه لم يكن يرتضي لنفسه حتّى الزّيادة في الأكمام، وإذا زاد القماش عن ذلك دعا بمقصٍّ فقصّه، يعني أنّه لم يرضَ حتّى بأن تكون أكمام قميصه طويلة، وكان يقول هذه زيادة، فليستخدم ذلك القماش في خياطة شيء آخر، لأنّ القماش كان قليلاً في ذلك العصر، وكان الناس يواجهون مشكلة في الحصول عليه، بحيث إنّ قطعة صغيرة من القماش تلزم، ويُستفاد منها.
ثمّ تحدّث بعد ذلك عن عبادته، فقد كان عليه السلام قمّة الإسلام وأُسوة للمسلمين. وجاء في هذه الرّواية: "ما أَشبَهَه من وُلدِه ولا أهل بيته أحدٌ أقرب شَبَهَاً به في لباسه وفِقهِه من عليّ بن الحسين"، أي إنّ الإمام الصّادق عليه السلام يقول: لم يشبه أمير المؤمنين عليه السلام في جميع أهل بيته عليه السلام, وأولاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في سلوكه وزهده وعبادته، إلاّ الإمام السجّاد عليه السلام2.
نخالة السويق درسٌ للوالي:
يُروى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أراد - على الأرجح - تعيين رجلٍ من ثقيف والياً على إحدى المناطق3، فقال عليه السلام له: "إذا صلّيت الظّهر غداً فعُد إليّ". والمتعارف عليه في زماننا عند تعيين محافظ أو مسؤول، إنّ الحاكم يستدعيه ليبلغه ما لديه من توصيات. يقول هذا الشخص: "فعُدت إليه في الوقت المعيّن، فلم أجد عنده حاجباً يَحبِسُني دونه،
1- كرابيس جمع كرباس، وهو الثوب الخشن, كلمة فارسيّة معرّبة. الجلم: المقراض.
2- من كلامه في خطبة صلاة الجمعة – طهران، 31/12/1999.
3- وهي منطقة "عكبرا".
60
48
الفصل الثالث
فوَجَدتُه جالساً وعنده قدح وكوز ماء، فدعا بوعاءٍ مشدودٍ مختوم، فقلتُ في نفسي: لقد أمّنني حتّى يُخرِج إليّ جوهراً، فكَسَر الختم وحلّه، فإذا فيه سُويق1، فأخرج منه فصبّه في القدح وصبّ عليه ماءً، فشرب وسقاني، فلم أَصبِرْ، فقلت: يا أمير المؤمنين: أتصنع هذا في العراق وطعامه كما ترى في كثرته؟ فقال: أمّا والله، ما أختم عليه بخلاً به - أي إنّني لا أخاف أن يأكل أحدٌ ما من هذا الطّحين الرّخيص - ولكنّي أبتاع قدر ما يكفيني من هذا الطّحين، وهو من أرخص الأنواع، فأخاف أن يَنقُص فيُوضع فيه من غيره - أيْ إنّني أخاف أن يضع فيه أحد من غير الطّحين الذي ابتعته - وأنا أكره أن أُدخل بطني إلاّ طيّباً - أيْ إنّني أريد أن آكل طعاماً طيّباً- اشتريتُه من مالي ولا مال فيه لأحد"2.
عندما أراد أمير المؤمنين عليه السلام أن يُعلّم هذا الوالي، استدعاه ليريه هذا المشهد، وليقول له هذا الحديث، في حين أنّه كان باستطاعته أن يوصيه في المسجد، لكنّه أحضره ليُفهِمه ويقول له: إنّك ذاهبٌ لتتولّى مدينة فيها جموعٌ من النّاس تكون تحت إمرتك، ولذلك عليك الانتباه لخَرَاجهم وأموالهم وأرواحهم وأعراضهم، فهذه السّلطة ليست مطلقة، فكونك والياً لا يعني أنّك مطلق اليد وحرٌّ في التّصرّف، فالتَفِت، وافهَم ما الذي تقوم به.
ثمّ قال له: "فإيّاك وتناول ما لا تعلم حِلّه"، والتناول لا يقتصر على الأكل. هذه حياة أمير المؤمنين عليه السلام, وهذا هو درسه وزهده.
1- السُّويق: نوع من الطّحين الخشن، أو نخالة الطّحين.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار, ج40, ص335، باب زهد الامام علي عليه السلام وتقواه وورعه، ح15.
61
49
الفصل الثالث
رداؤه سمل قطيفة، وبردٌ قارس!
يروي أحدهم1 حادثة عن أبيه، قال: "دخلتُ على عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو يرعد تحت سمل قطيفة2 - كان الجوّ بارداً، والإمام يجلس على قطيفة رفيعة ويرتجف- فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الله تعالى قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال ما يعمّ، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟!"، أي يا أمير المؤمنين، لماذا ترتجف والجوّ بارد؟ ضع شيئاً عليك، فأجابه عليه السلام: "والله ما أرزأكم من أموالكم شيئاً، وإنّ هذه لقطيفتي التي خرجتُ بها من منزلي من المدينة، ما عندي غيرها"3.
هذه حال أمير المؤمنين عليه السلام, كان في القمّة وعلى رأس السلطة، ونحن أقلّ منه بأربعة أو خمسة آلاف قدم، فعلينا التوجّه نحوه.
هذا هو درس أمير المؤمنين عليه السلام لنا. والواقع أنّنا كيفما جُلنا في أبعاد حياة هذا العظيم، رأينا المواعظ والدروس4.
يقول القطب الرّاونديّ، وهو من كبار علمائنا في القرن السّادس، عن زهد أمير المؤمنين عليه السلام:
"ومنها أنّ كلامه الوارد في الزُّهد والمواعظ والتّذكير والزّواجر، إذا فكّر فيه المفكّر ولم يدرِ أنّه كلام عليّ عليه السلام - وهو من كان يَبسط حكومته على جانبٍ كبيرٍ من الأمصار والبلدان، وانهالت عليه كلّ
1- وهو هارون بن عنترة، يروي عن أبيه حادثة رآها في إحدى الحروب أو الأسفار.
2- سمل قطيفة: ثوب خلق بالٍ.
3- بحار الأنوار، م. س، ج40, ص334، باب زهد الإمام علي عليه السلام وتقواه وورعه، ح15.
4- حديث الولاية (موسوعة خطابات القائد)، ج7، ص40- 55.
62
50
الفصل الثالث
تلك القضايا والمسائل الاجتماعيّة والسياسيّة - لا يشكّ أنّه كلام من لا شُغل له بغير العبادة، ولا حظّ له في غير الزّهادة". هذا هو زهد أمير المؤمنين عليه السلام, وكانت كلّ أبعاد شخصيّته كذلك في أوج عظمتها. ثمّ يضيف: "وهذه من مناقبه العجيبة التي جَمَعَ بها بين الأضداد"1 2.
عليّ عليه السلام, أكثر الناس إنتاجاً وزهداً!
... فأمير المؤمنين عليه السلام كان المَثَلَ في زهده وإعراضه عن الدّنيا. ولعلّ الزُّهدَ أبرزُ مواضيع نهج البلاغة أو أحدُ أبرزِها. ومع ذلك, فإنّه عليه السلام كان طوال فترة خمسٍ وعشرين سنة بين وفاة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم وتسلّمه الخلافة يُنفق من ماله الخاصّ في الإعمار، إذ كان يزرع البساتين والمزارع، ويحفر الآبار، ويشقّ الأقنية ويسوّي الحقول، والمدهش أنّه كان يتصدّق بكلّ ذلك في سبيل الله.
لا غَرَرَ في أن نعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان أكثر النّاس إنتاجاً، وقد نُقل عنه أنّه قال: "إنّ صَدَقَتي اليوم لو وُزِّعَت على بني هاشم لوَسِعَتهم"3. هكذا كان إنتاجه. لكنّ هذا الإنسان الثريّ كان يعيش الحياة الأكثر فقراً، لأنّه كان يُنفق كلّ تلك الثّروة في سبيل الله. كان بيديه يحفر الآبار في الأرض، ويقوم بكلّ الأعمال. ينقل الراوي: "رأيتُ الماء قد تدفّق من تلك البئر كأوداج الجمل، فخرج أمير المؤمنين عليه السلام منه
1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج40، ص 318, باب زهد الإمام علي عليه السلام وتقواه وورعه، ح 2.
2- كلام القائد في خطبة صلاة الجمعة – طهران، 05/04/1991.
3- ابن طاووس، كشف المحجّة, ص124.
63
51
الفصل الثالث
وهو مُلطّخ بالطّين، وجلس عند حافتّه، ودعا بورقٍ وكتب فيه بأنّ هذا البئر أوقفه عليّ بن أبي طالب على أشخاصٍ ذَكَرَهم".
والأمر الذي نلاحظه في عهد حكومة أمير المؤمنين عليه السلام كان امتداداً لحياته الخاصّة ومسيرته (قبل ذلك)، وكان أيضاً يظهر في أثناء خلافته هكذا.
إنّ الزُّهد بالدّنيا لا يتنافى مع بنائها الذي جعله الله واجباً على الجميع، عمّروا الدّنيا، وأحيوا الأرض وأوجدوا الثروة، ولكن لا تتعلّقوا بها، ولا تكونوا عبيداً لها، ولا تكونوا أسرى المال والثّروة، لتتمكنوا من إنفاقها في سبيل الله بسهولة.
هذا هو التّوازن الإسلامي. والأمثلة من هذا الطّراز كثيرةٌ، ولو أردتُ ذكر أمثلةٍ لها لاستغرقت وقتاً طويلاً1.
1- من كلامه في خطبة صلاة الجمعة – طهران، 31/01/1997.
24
52
الفصل الرابع
طوبى لمن هم دائماً في صلاة:
عندما تتعبّدون وتقرؤون دعاءً بروحيّة عالية، وتُقيمون الصّلاة بخشوعٍ وحضور قلب، أو تُنفقون على مستحقّ، عندها ترون أيّ لذّةٍ حصلتم عليها, وأيّ حظوة وُفّقْتم لها. هذه اللّذة لا يمكن إدراكها بالطّعام، فمن ذاق حلاوة العبادة، حيث يُوفّق لها الإنسان المؤمن في حياته بين الحين والآخر وبنسَبٍ متفاوتة بين شخصٍ وآخر، حاضرٌ للتخلّي عن الدّنيا وما فيها، لتبقى له هذه اللّذّة التي يُدركها في لحظة التوجّه إلى الله، وعبادته، ومناجاته، أو البكاء من خشيته.
من الطّبيعي أنّ الماديّات تُخرجُ الإنسان من تلك الحالات التي تحصل أحياناً، أي حالات اللّذّة المعنويّة، فالذين ليسوا على معرفة بالله والأهداف المعنويّة, لا يتذوّقون طعم هذه اللذّة. وما أكثر النّاس الذين قضوا أعمارهم في ظلّ الأنظمة المادّيّة المشؤومة! ولم تحصل لهم تلك الحالة من التوجّه إلى الله واللذّة الرّوحيّة ولو للحظة واحدة، فهؤلاء لا يُدركون ما نقوله.
يريد الإسلام أن يرفع الناس إلى مستوىً، وأن ينير القلوب إلى حدٍّ, ويخرج السيئات من صدورنا على نحوٍ، بحيث نصل فيه إلى حالة اللّذّة المعنويّة في جميع لحظات حياتنا، وليس فقط في محراب العبادة، بل
67
54
الفصل الرابع
أن نشعر بها حتى في بيئة العمل وأثناء الدرس، في ميدان الحرب وأثناء التعلّم والتعليم، وفي ساحة الإعمار.
"طوبى لمن هم دائماً في صلاة"، ومعنى ذلك أنّهم مع الله أثناء التّجارة، ومع الله أثناء الأكل والشّرب. فهؤلاء يشعُّون بالنّور في بيئتهم المحيطة، بل في العالم كلّه. وإذا استطاعت الدّنيا تربية هذا النّوع من البشر، فسيُقتَلع منشأ الحروب والظّلم والتّمييز والرّجس. هذه هي الحياة الطيّبة.
معنى الحياة الطيبة:
معنى الحياة الطيّبة إذاً، ليس أن يقوم المرء بالصّلاة والعبادة، وأن لا يتوجّه أصلاً إلى المادّيات وأمور الحياة. الحياة الطيّبة تعني جمع الدّنيا والآخرة معاً. فالحياة الطيّبة تجمع المعنى والرّوح والمادّة معاً، والحياة الطيّبة تعني تلك الأمّة التي تسعى، تبني وترتقي بالصّناعة والتّجارة والزّراعة إلى أعلى المستويات، وتمتلك القدرات العلميّة والتقنيّة في مختلف المجالات، وفي جميع هذه الحالات يكون قلبها مع الله وتعرف الله أكثر يوماً بعد يوم.
هذا هو هدف النّظام الإسلاميّ، وهذا هو الهدف الذي سعى إليه الأنبياء عليهم السلام ، وأعلنه مصلحو العالم، ودعت إليه الشخصيّات الإسلاميّة العظيمة خلال المئة والخمسين إلى المئتين سنة الأخيرة1.
1- حديث الإمام الخامنئي في حشد من سكّان مدينة مشهد، وزوّار الإمام الرّضا عليه السلام ، 18/04/1991.
68
55
الفصل الرابع
الزهد, أعظم مسألة في نهج البلاغة:
الزُّهد, أعظم مسألة مطروحة في نهج البلاغة.
في ذلك الزّمان, عندما تحدّث أمير المؤمنين عليه السلام عن الزُّهد، أشار إليه كعلاج لآفة المجتمع الإسلاميّ الأساسيّة. وقد قلتُ مراراً إنّنا اليوم أيضاً بحاجة لتلاوة آيات الزُّهد هذه، فأمير المؤمنين عليه السلام عندما يقول في ذلك الزمان: إيّاكم والانجذاب إلى ملذّات الدّنيا وحلاوتها، لم يكن المقصود الذين لا يَصِلُون إلى هذه الملّذات، وهم كثر، بل كانت أحاديثه لأولئك الذين قَوَّتهم الفتوحات الإسلاميّة، وآثرتهم السنون المتوالية لانتشار الإمبراطوريّة الإسلاميّة في العالم ومكّنتهم من الامتيازات، فهؤلاء مَن كان أمير المؤمنين عليه السلام يُحذّرهم.
مراتب الزهد, في الحلال والحرام:
اليوم، ما إن نقول كلمتين عن الزُّهد، أنّه عليكم الانتباه قليلاً، يقول بعضهم: مولانا إنّ أكثر النّاس لا يملكون ما تشيرون إليه، والجواب: إنّنا لا نقول لأولئك، إنّما نقول للمُتَمَكِّنين، للذين بَسَطت ملذّاتُ الدّنيا ذراعيها لهم، للّذين يقدرون أن يُوصِلوا أنفسهم عن طريق الحرام إلى حلاوة العيش ورَغَدِها. ومن المؤكد أيضاً, نقول ذلك في المرتبة الثانية، للّذين يستطيعون الوصول إلى تلك الملذّات عن طريق الحلال.
من المؤكد، أنّ اجتنابَ المحرّمات هو أَوجَب الزُّهد وأعلاه، الورع, وحفظ الباطن وطهارته، أمّا الزُّهد في الملذَّات الحلال فهو مرتبةٌ ساميةٌ. من الطبيعي أن يكون هذا الخطاب للشّريحة الأقلّ. فعَصرُنا
69
56
الفصل الرابع
الحاضر هو كتلك الأيام، مع الاختلاف في ظروف الزّمان والخصوصيّات التّاريخيّة المرتبطة بكلّ مرحلة، فيجب على المُتَمَكِّنين ومبسوطي اليد، والذين بإمكانهم تحصيل النِّعم والملذَّات والرَّفاهية والدَّعَة وجمع الأموال والثّروات، أن يتذكّروا خطابات الزُّهد هذه لأمير المؤمنين عليه السلام.
من الطبيعيّ أنّ هذا الأمر بالنسبة للمسؤولين هو أشدّ وأثقل، أمّا الذين ليست لديهم مسؤوليّات حكوميّة، فالخطاب نفسه موجه إليهم، إنّما بدرجةٍ أقلّ.
تحويل الزهد إلى ثقافة:
إذا استطاع مجتمعنا الإسلاميّ الذي يواجه كلّ هذه المخاطر وكل هؤلاء الأعداء، الالتفات إلى هذه المسائل بدقّة، وتحويلها إلى ثقافة، ليطّلع عليها الجميع، بحيث يتحدّثون عنها ويطلبونها، عند ذلك فإنّ إعمال هكذا عدل وزُهد لن يكون فيه أيّ إضعافٍ للنظام الإسلاميّ، لا بل يبعث فيه القوة أكثر، فهو يُقوّي النظام الإسلاميّ ويُحصّنه من الأضرار.
إنّ الأشخاص الذين لا ينخدعون بالملذّات والمطامع والشّهوات الدّنيويّة، ولا يغفلون عن أنفسهم، يستطيعون الوقوف مقابل الأعداء والعداوات، ويمكنهم إنقاذ المجتمع والنّظام في لحظة الخطر، في مقابل كلّ هذه العداوات مع النّظام الإسلاميّ.
والمسؤوليّة كبيرة على الجميع، وبالأخصّ على الشّباب والمسؤولين، وبالأخصّ العلماء والذين ينظر النّاس إليهم كقدوة.
فأمير المؤمنين عليه السلام أضاء هذين المشعلين لينير بهما التّاريخ كلّه، وما زال يُضيئه، فإن انحرف بعض النّاس فهم الخاسرون، أمّا اسم
70
57
الفصل الرابع
عليّ عليه السلام وذِكره ودروسه، فإنّها لا تُنسى في التّاريخ، وستبقى دائماً1.
الزُّهد, باب الارتقاء المعنوي:
من المتيقّن به أنّ أحد عوامل ارتقاء الإسلام هو الثّقة بالله وبالأحكام الإلهيّة، ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾2. لقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون في صدر الإسلام معتقدين بالإسلام في أعماق قلوبهم، آمنوا بالإسلام إيماناً عميقاً، واعتقدوا بكفايته للنجاة، وآمنوا بالشعارات والحقائق الإسلاميّة، وهذا الإيمان هو عامل مهمّ جدّاً.
ومن العوامل الأخرى، والذي كان بالحدّ الأدنى على رأس هذه الحركة، هو تَنَزُّه الإنسان عمّا هو متعلّقٌ بشخصه وبمنافعه المادّيّة التي تعود على نفسه، وهذا عاملٌ جدُّ مهمّ.
وكل ما لدينا في الرّوايات، في نهج البلاغة وفي الأحاديث الشّريفة للنّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليه السلام والعظماء، من وصايا حول الإعراض عن الدّنيا وعدم التعلّق بزخارفها والتّأكيد على ذلك، سببه التّأثير الكبير لهذا العامل.
من المؤكّد أنّ أعداء الإسلام ومنحرفي الفهم من المسلمين، اعتقدوا أو توهّموا أنّ المراد من الزُّهد في الإسلام هو عدم السعي وراء مظاهر عالم الوجود والحياة، بينما القضيّة ليست كذلك، إنّما المقصود هو الدّنيا المذمومة. فالمذموم أن نضع نصب أعيننا - أنا وأنتم - منافعنا
1- كلامه في لقاء مع عامّة أفراد الشّعب، 25/11/1996.
2- البقرة، 285.
71
58
الفصل الرابع
الشّخصيّة هدفاً لحركتنا وأن نسعى لها. هذا هو المقصود، وهذا هو الشّيء المُدمّر والمُخرِّب وأساس التّعاسة.
وأولياء الله الذين استطاعوا حمل هذه الرّاية، وطَوَوا هذا الطّريق الصّعب بلا تعبٍ ولا ملل، كانوا أشخاصاً عبروا هذا الامتحان.
لذلك نرى في بداية "دعاء النُّدبَة" العالي المضامين "الحمدُ لله على ما منَّ به على أوليائه". وأحد أجمل تلك المفاهيم وأكثرها عُمقاً، يندرج في الجمل الأولى للدّعاء، حيث يقول: "بعد أن شَرَطت عليهم الزُّهد في درجات هذه الدّنيا الدّنيّة وزُخرُفِها وزِبرِجِها"، أَوصَلْتَهُم إلى أسمى المراتب ومدارج التّكامل، وتلك نِعَمٌ "لا زوال لها ولا اضمحلال"، لكنّك وَضعتَ لهم شرطاً، فمقام الرّسول هو في أعلى مرتبة سموّ الوجود الإنساني، وهذا الأمر لا يُمكن دون العون الإلهي، ودون التّهيئة والإعداد من الله تعالى. هذا المقام هو مقابل شرط معيّن من قبل الله تعالى: "الزُّهدَ في درجات هذه الدّنيا الدَّنِيَّة وزُخرُفِها وزِبرِجِها، فَشَرَطُوا لكَ ذلك"، فنتيجة قبول هذا الشّرط كان وجودُ أشخاص كالرّسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ، أشخاص يمتلكون من الإرادة والتّصميم الرّاسخ ما يُمَكِّنُهم من تحمّل مسؤولية، وإيجاد حركة لا تنتهي بانتهاء أعمارهم.
هذه الحركة مستمرّة، وبإمكانكم أن تلاحظوا أنّه بعد انقضاء أربعة عشر قرناً لا يزال الإسلام مُتألِّقاً، وذلك كلّه يتمحور حول نفس هذا الوجود المبارك وجهاده. وهو ما أعطى لهذه الحركة هذه الاستمراريّة، وقد ساعد أيضاً على ما قام به المسلمون والمؤمنون والعظماء على امتداد هذه المسيرة1
1- كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في لقاءٍ مع مسؤولي الحكومة، 06/11/1999.
72
59
الفصل الخامس
الفصل الخامس:
كلمة إلى رجال الله راقبوا قلوبكم لتبقى القامات شامخة
73
60
الفصل الخامس
أنتم وعوائلكم الطاهرة قدوة:
لا ينبغي السّماح للتَّرف والرّفاهية والتّلّهي - البعيدة وبحمد الله عن بيئة (رجال الله) - بالنّفوذ تحت أيّةّ حجّة إلى تلك المجموعة الطّاهرة والمُضحّية. ولا ينبغي لعزيمة طلاّب الحقّ أن تُزلزلها الوساوس. أنتم وعوائلكم الطّاهرة المُضحيّة لائقون بأن تكونوا قدوةً لكلّ الأشخاص الخدومين والأعزّاء، لذلك عليكم الحفاظ على هذه اللّياقة.
ممّا لا شكّ فيه، أنّ المظاهر الرّخيصة والبرّاقة لن تستطيع أن تُسقِط القامات الشّامخة لرجال الله في الحُفَر، وأن تُبدِل القيم الأصلية بالقيم التقليديّة والفارغة1.
العدو يعمل على إذابة البنية الإسلامية:
لدي شعور بأنّ الخطَّة الأساس لأعداء الجمهوريّة الإسلاميّة، هي العمل على إذابة بُنية الجمهوريّة الإسلاميّة، وهي مهمّتهم الأصلية.
ولن يستطيعوا القيام بأيّ شيء، طالما أنّ هذا التشكيل بهذه البنية وهذه العناصر القادرة موجود داخل النّظام بشكل طبيعي. إذا أرادوا المواجهة والمعارضة، فالحلّ الوحيد هو التخطيط لإذابة هذه البنية.
1- رسالة الإمام الخامنئي إلى المؤتمر الرّابع لقادة ومديري ومسؤولي الحرس، 16/09/1991.
75
61
الفصل الخامس
وإن استطاعوا ذلك، يمكن للضّغوطات السياسيّة، من قبيل مسألة الطّاقة النوويّة، أن تطيح بالنّظام، كما يمكن لهجوم عسكريّ، لا على نحوٍ واسع، بل على النّحو التّقليدي، الإطاحة بالنّظام والتّشكيل العسكريين أيضاً، في حال تمكّنوا من إذابة هذه البُنية الأساسيّة.
فما لم يستطيعوا تضعيف هذه البُنية والقوى المُكَوِّنة لها وإذابتها، فلن تقدِرَ أيّة ضغوطاتٍ أو قوى أن تَقهَر النّظام وتتغلّب عليه.
الانحلال الثقافي, التحدّي:
ما هو السّبيل الذي يسعى الأعداء من خلاله إلى إضعاف بنية الجمهوريّة الإسلاميّة؟ وفي الواقع ما هو العمل الذي يقومون به لكي تَفقِد الجمهوريّة الإسلاميّة بنيتها الأساسيّة؟
العناوين الأربعة الآتية، والتي لها بالطبع الكثير من الفروع والحواشي، تُشكّل البنود الأساسيّة لعملهم:
- الانحلال الثّقافي.
- الضّغوطات الاقتصاديّة المستمّرة.
- إيجاد تشكيلات سياسيّة واجتماعيّة داخل الدّولة خاضعة لنفوذ العدوّ.
- تعطيل العَضُد المُقتدِر والفعّال للنّظام.
الانحلال الثّقافي ليس بالعمل الذي يستطيع الأعداء إنجازه بسهولة. هناك غزو ثقافي – كما قلتُ قبل سنوات، والآن الكلّ يعترف بهذا الأمر- لكنّ الغزو لا يعني بالضّرورة الانتصار فيه. ممّا لا شكّ فيه، أنّنا تعرّضنا لضربات عديدة من جانب الأعداء في ميدان الغزو الثّقافي، إلاّ إنّ ذلك
76
62
الفصل الخامس
كان سبباً أيضاً في إيجاد حركات ونشاطات, لم تكن لتَظهَر في الأوساط النخبويّة وفي السّاحات الجامعيّة والحوزويّة لولا اليقظة والوعي لوجود هذا الغزو.
وعليه، فباستطاعة العدوّ الهجوم، ولكن إيجاد الانحلال الثّقافي في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة عملٌ صعبٌ للغاية. وهذا هو هدف العدوّ، وهو يسعى لتحقيقه، ويستثمر الإمكانات لأجله بسخاء دون خجل، ويصرف الأموال علّه يستطيع القيام بهذا العمل.
هذه العناوين الأربعة، كلّ منها على حِدَة، يُسبّب لأعداء الجمهوريّة الإسلاميّة الكثير من الأعباء والمشاكل، لكنّهم يسعون لتحقيقها.
في المقابل، علينا المواجهة في جميع هذه الجبهات، ونحن نقوم بذلك... هناك جهود طيّبة وحثيثة تُبذل في هذه المجالات لمواجهة محاولات العدوّ والتّصدّي لها.
النزعة الدنيويّة تودي بتاريخ الإسلام:
لقد رَسَم نفوذ القوى العظمى وتدخّلها السياسي والعسكري تاريخاً لمصير عشرات الملايين من أفراد شعوب منطقة الشّرق الأوسط، وتَرَك آثاره بشكلٍ أو بآخر على العالم أجمع...
إنّ أحد أعظم الموانع في هذه المنطقة هو روح النّهضة الإسلاميّة، والتي تُشكّل إيران نُواتها ومركزها.
علينا أن ندرك اليوم -كلُّ واحدٍ منا - هذا الأمر، وأن نعرف أنّ استسلامنا في مقابل الأهواء النفسيّة، طلب الدّنيا، الرّفاهيّة، واللّذات
77
63
الفصل الخامس
المُنحَطَّة والحقيرة، لا يعني أن يخسر شخصٌ ما هويّته فقط، إنّما نساهم - بحسب حجم تأثير كلٍّ منّا - في خسارة العالم الإسلامي، وخسارة منطقة عظيمة من العالم، وبالتّالي سنخسر تاريخ الإسلام. علينا الالتفات جيّداً إلى هذا الأمر.
لا تسمحوا أن يُبتلى الحرس بفقدان الدّافع. لا تسمحوا بابتعاد الحرس عن الرّوحيّة الثّوريّة والدّينيّة التي تُشكِّل المُكوِّنات الأساسيّة له. فمن وجهة نظري، تعدّ هذه من أهمّ المسؤوليّات والمهامّ المُلقاة على عاتق مسؤولي الحرس.
لا تتورّطوا بالانتفاع والتفكير المصلحي:
البذخ داخل تنظيم الحرس غير مرغوب فيه أبداً. كما أنّ الاستفادة الشّخصيّة للقادة - أنتم بالذّات - والانتفاع والتفكير المصلحي أمور مرفوضة بالكامل. انتبهوا كي لا تتورّطوا، وكي لا تتلوّثوا.
قد يكون سماع هذه العبارات صعباً على بعض الآذان، لأنّهم يرون أشخاصاً في مجالات الاستفادة الشخصيّة يبذلون ماء وجوههم، وكلّ ما لهم من حيثيّة، ويبذلون شخصيّتهم وجهدهم الفكري والعملي للحصول على ربح مادّي حقير. في الواقع, هذا الأمر فيه الكثير من التحقير للإنسان المسلم، المجاهد، والمقاوم. هذا ما فعله أهل الدنيا على امتداد التّاريخ، استفادوا بمقدارٍ قليل، ثمّ تركوه بعد ذلك ورحلوا.
بالنسبة للأشخاص الذين يمتلكون فكراً راقياً، وآمالاً عظيمة إلهيّة وإسلاميّة, وتشرّفوا بالجهاد في سبيل الله, وتشرّفوا بالحضور في أهمّ
78
64
الفصل الخامس
ثورة تحمل راية الإسلام في هذا العصر وما زالوا، فإنّه لمن المُعيب بعد مرور هذه الأعوام، أن يسلكوا الطريق المعوج الذي سعى إليه طلاّب الدّنيا والمهووسون بها.
فالعزّة هي - وعندما ترون بعض الناس يتنازع على جيفة الدّنيا, وهم حاضرون لإنكار جميع الحقائق لأجلها- أن تقفوا وتنظروا باحتقارٍ لهذه الجيفة وتحفظوا أنفسكم من التلوّث بها. هذه هي العزّة، وهذا ما يُوجب الثواب الإلهي والأجر الإلهي، ويُورث العزّة الدنيويّة والأخرويّة، وثناء ملائكة الملأ الأعلى واغتباطهم. هذا ما يجب السّعي إليه.
ما له قيمة هو هذا الأمر.
إلاّ أنّه يجب أن أقول لكم أيضاً: أحياناً لا يُدرك الإنسان ولا ينتبه إلى أنّه يتحرّك في مثل هذا المسير الخاطئ، لذا يجب تنبيهه، والتحدّث إليه.
عندما نقول: البذخ، سيقول الكثيرون: كلاّ, الحمد لله، نحن لا نسعى وراءه، إلاّ أنّهم في الواقع غير مُلتفتين. وإذا ما دقّقنا في طبيعة عيشهم يمكن ملاحظة إشارات ونماذج تدلّ على هكذا خطأ وهفوة في حياتهم، في حين يكون الإنسان نفسه غير ملتفتٍ لذلك.
هذا النوع من الهَفَوات والسَّقطات التي يقع فيها الإنسان, لا تظهر تأثيراته بسرعةٍ، بحيث تجعله ملتفتاً ومدركاً لها.
على أيّ حال، نسأل الله أن يحفظنا بالبصيرة من الانزلاق في المزالق التي سقط الكثيرون فيها.
79
65
الفصل الخامس
عليكم أن تحفظوا الحرس بقدرته المعنويّة الخاصّة به. وهذه القدرة المعنويّة لا تحصل إلاّ بحفظ تلك الروحيّة التي تَشَكَّل الحرس على أساسها، عندها يصبح الارتباط بمعسكر الحسين بن عليّ عليه السلام ارتباطاً واقعيّاً، وتكون نوعيّة وقيمة انتسابكم لسيّد الشهداء أكثرَ واقعيّةً وفخراً من انتساب أبناء ذلك العظيم له، لأنّ الكثيرين كانوا أبناءً حقيقيّين لأولئك العظماء, لكنّهم لم يعرفوا حقّهم, وأحياناً رفعوا السيف في وجههم، أو تحرّكوا بعكس حركتهم.
أسألُ الله التّوفيق لكم جميعاً1.
راقبوا قلوبكم وقلوب من معكم:
والأمل الوحيد لدى هؤلاء (الأعداء) هو زرعُ الشكّ بهذه المفاهيم والمبادئ في قلوب الناس, وقَبلَ الناس في قلوب مسؤوليهم...
فالنظام الذي يدّعي قيادة العالم الآن, وتقف على رأسه أمريكا، لا يترشّح عنه سوى الظّلم، وسفك الدّماء، وإهدار الحقوق، والتمييز، وأعمال العنف التي نظير لها, ولا يمكنه أن يبرهن عن نفسه بأمرٍ آخر، ولا يمكنه إيجاد الثّقة في قلبِ أَحَد، لذا فَهُم يفتقرون إلى الاستدلال، وهم يحاولون من خلال الإعلام, وشراء الضّمائر, ورشوة هذا وذاك, زعزعة كيان النّظام الإسلاميّ من الدّاخل. فلا بدّ من الحذر إزاء ذلك. وليس ذلك مختصّاً بكم فقط, بل يشملنا جميعاً, وعلى كلّ منّا أن يراقبَ قلبَه
1- كلمة قائد الثورة الإسلامية الإمام الخامنئي دام ظله في المؤتمر السّنوي لقادة وضبّاط الحرس الثّوري الإسلامي، 18/9/2004.
80
66
الفصل الخامس
بالدّرجة الأولى, ومن ثمّ قلوبَ مجموعته والمُرتبطين به.
حياة الدّعّة والرّفاهية تنبت الشّكّ:
إنّ القلوب المفعمة بالإيمان والبصيرة والمعرفة لا تُهزم ولا يعتريها الخوف أبداً.
بالنسبة لهؤلاء (الأعداء)، لا بدّ أولاً من زرع الشكّ في القلوب من أجل بثّ الرّعب والانهزاميّة والخنوع والمهادنة. وهذا الشكّ لا يَرِد دائماً عن طريق العقل, فأحياناً يدبّ عن طريق البدن، حيث إنّ الشّهوات والأهواء البدنيّة وحبّ المال "المال الفتون" - في الدّعاء الوارد في الصّحيفة السّجّاديّة "اللّهم حصِّن ثغور المسلمين", هذا الدّعاء الذي كان الكثير من شبابنا يقرؤونه أيّام الجبهات، ورد فيه أن يُمحى عن قلوبهم خطرات المال الفتون1 - وطلب الجاه, والمقام, ورفاهيَة العيش والتّرف, كلّها من الأمور التي تُلقي الشكّ في قلب الإنسان وعقله من خلال بدنه وشهواته, فاحذروها.
إنّني لا أدعو أحداً للتحلّي بالزُّهد العلويّ، فالزُّهد العلويّ أعظم وأكبر من كلامنا وأذهاننا، لكنّني أدعو للقناعة, وأن لا تسمحوا للمطامع والمطامح أن تُباغتكم، فهذه تحتاج إلى المراقبة، فحبّ الدّعة والرّاحة والرّفاهية، أمورٌ تَترُك بالتّدريج آثاراً سيّئة على الإنسان، حيث لا يُدركها في بداية الأمر, فإذا همّ الإنسان بالحركة، سيجد أنّه لم يعد قادراً, وإذا أراد العروج فلا يستطيع.
1- "وامحِ عن قلوبهم خطرات المال الفتون"، الصّحيفة السّجّاديّة, دعاء الثغور.
81
67
الفصل الخامس
احرسوا العقول والقلوب والأذهان والإيمان بدقّة:
احذروا وحافظوا على جمعكم. احرسوا العقول والقلوب والأذهان والإيمان بدقّة. هذه هي وصيّتي الدّائمة. واعلموا في هذه الحالة, أنّه لا وجود لأيّ عاملٍ أو قوّةٍ تحت السماء يمكنها أن تقهركم. وهذه التّصريحات والحشود والتّهديدات التي تُمارَس ليست بالأشياء التي تَقوَى على أن تَقهَرَ شعباً مؤمناً - يَضُمُّ في أوساطه مجاميع صلبة مثلكم- أو أن تُلحِق الهزيمة بكم.
الهزائم تطال القلوب أولاً:
إنّ تأثير السّلاح المُدمِّر معروف, ولكن الهزيمة لا تَنزِل بأيّ شعب عن طريق ذلك، فالهزائم إنّما تطال القلوب أوّلاً, وعندئذٍ يُهزم البشر.
ففي بداية الحرب، كان بعضهم - بسبب قلّة الإمكانات التي كانت لدينا - يقول: "يجب مقابلة كلّ مئة دبّابة بمئة مثلها, ودون ذلك يستحيل خوض الصّراع". لكنّ هؤلاء الشّباب - وهم أنتم- أثبتوا عكس ذلك، فَلِمُقابلة كلّ مئة دبّابة يستلزم وجود مئة قلب, مئة إنسان مضحٍّ يضع روحه على كفّه. ولطالما تكرّر أن تَقَهْقَرَت مئات الدّبّابات أمام الشّباب البُسلاء ممّن كانوا يحملون سلاح "RBG"، أو سلاحاً مشابهاً, وبالتالي أفلحوا في دحر العدوّ الذي قَدِمَ مدجّجاً بما لديه من تجهيزات ودعمٍ دولي، والآن أخذوا يعترفون به شيئاً فشيئاً، فقد أُرغم على التقهقر والانسحاب خائباً ذليلاً إلى خلف الحدود.كان هذا التوفيق بفعل الاستبسال والإيمان، فلا بدّ من الحفاظ عليه جيّداً.
82
68
الفصل الخامس
حافظوا على وحدتكم، فمن المآرب التي يطمع بها الأعداء وأشباههم زعزعة الوحدة داخل الحرس، فحافظوا على وحدتكم وتآلفكم, وإذا وُجدت هنالك خلافات ثانويّة في مِفصلٍ ما، فعليكم تنحيتها جانباً, ونظِّمُوا جِهة مساركم, وامضوا إلى الأمام بكلّ شجاعة واقتدار متوكّلين على الله. فهذا واجبكم الأساس. وإنّ المحافظة على الثّورة إنّما تتحقّق من خلال هذا الطّريق1.
الفرق بين الإعمار والنزعة المادّيّة:
الإعمار هو ذلك العمل الذي كان يقوم به الإمام عليّ عليه السلام واستمرّ به إلى ما قبل خلافته - وربّما حتّى في عصر خلافته أيضاً، وإن كنت غير جازم به، أمّا قبل خلافته فهذا من المقطوع به - فلقد كان يزرع النّخيل بيديه، ويُصلح الأرض، ويغرس الأشجار، ويحفر الآبار، ويسقي المزروعات. هذا هو الإعمار. أمّا اللُّهاث وراء الدّنيا وطلب المادّة فهو عمل عُبيد الله بن زياد ويزيد، فهؤلاء ماذا قدّموا للنّاس وماذا صنعوا لهم؟ هؤلاء كانوا يخرّبون ويستهلكون، ويسرفون في الأمور الكماليّة الظاهريّة، وهنا ينبغي أن يُفرَّق بين هذين المفهومين.
اليوم، أغرق بعضُ الأشخاص أنفسهم، باسم الإعمار والبناء، في المال والدّنيا وعبادة المادّة، فهل هذا من الإعمار في شيء؟!
إنّ ما يُفسد مجتمعنا اليوم هو الانغماس في الشّهوة وفقدان روح التّقوى والتّضحية، تلك الروحيّة الموجودة في التعبويّين2.
1- كلام الإمام الخامنئي مع المجاهدين، 13/09/2002.
2- لقاء مع جمع من قوّات التعبئة وقادة الألوية والفرق، 13/07/1992.
83
69