المقدّمة
المقدّمة
الحمد لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، له الحمد، والحمد حقّه كما يستحقه، وصلّى الله على من لا نبيّ بعده، سيّدنا ومولانا رسول الله محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين الهادين المهديّين، وبعد:
نحن بصدد الحديث عن الأمومة الخالدة، التي عناها بكلماته الابن البارّ الرحيم رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك عندما قال وقوله الحق: "الزم رِجلها فثمّ الجنّة"[1]، أي أنّ "الجنّة تحت أقدام الأمّهات"[2].
ومما يحسن الإشارة إليه في هذا الموضع أنّ هناك مقولة متداولة نسمعها كثيراً مفادها أن "وراء كلّ رجلٍ عظيم امرأة"، إلّا أنّنا نؤكّد بعد دراستنا لسيَّر نساء الرسالة أن تلك الكلمة ما هي إلّا مقولة قاصرة ورثناها من الغرب الذي يتشدّق بالفضيلة وحقوق المرأة، وهي بعد مقولة مجحفة بحقّ المرأة. فالمقولة التي نراها صحيحة من الناحية التاريخية هي "وراء كلّ أمّة عظيمة امرأة". ونحن هنا لا نجامل النساء على حساب الرجال، وإنّما نؤكّد على استنتاجٍ توصّلنا إليه من خلال دراستنا لأحداث ومجريات
[1] محمد بن ماجة القزويني، ج4، ص325، حديث 2781، طبعة:1، دار الجيل، وأبو عبد الله الحاكم النبسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج2، ص114، كتاب الجهاد، وأحمد بن الحسين البيهقي، سنن البيهقي، ج2، ص401، حديث 18288، طبعة:1، حيدر آباد.
[2] وهذا المعنى من الاستعارة في الحديث كثير، كقوله عائدُ المَريض في مَخارِف الجنة، والجنةُ تحت بارقةِ السيوف، أَي أَن هذه الأَشياء تؤدّي إِلى الجنة، يراجع محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب، ج8، ص33، طبعة:3، دار الفكر، بيروت.
7
1
المقدّمة
التاريخ، فلولا وجود نساء عظيمات مثل السيّدتين أمّ كليم الله موسى عليه السلام، وآسية بنت مزاحم عليها السلام لافتقدت أمّة نبيّ الله يعقوب عليه السلام أساس قيامتها في عهد حكم الطاغية فرعون، ولولا العذراء مريم عليها السلام لما كان في ذلك الزمان وعاء يصلح لأن يحوي فيه روح الله وكلمته، ولولا وجود السيّدة آمنة بنت وهب وفاطمة بنت أسد، وأمنا الكبرى خديجة عليها السلام لما قامت أمّة الإِسلام! وكذلك لولا الطهر البتول فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وابنتها العقيلة زينب عليها السلام لما كان هناك أمل لأهل الإيمان بأن تُملأ الأرض قسطاً وعدلاً ولو بعد حين. فالمرأة في الرسالات الإلهية هي كلّ المجتمع، وليس نصفه كما يزعم بعض الناس.
نحن في هذا الكتاب النساء الرساليات على موعد مع تراجم لشخصياتٍ من النساء العظيمات، اللائي يعجز القلم وصاحبه عن وصفهنّ، وقد قدّمهنّ القرآن الكريم والسنّة النبوية أسوةً حسنةً وقدوةً عظيمةً لكلّ إمرأةٍ ترجو الله واليوم الآخر. وإنّ القيمة الإضافية لهذا الكتاب أنّه عمل علميّ ناتج عن جهود بحثية وتحقيقية مركّزة، ومستقاة من كتب الحديث والتفاسير، والمصادر التاريخية، وغيرها من أمهات الكتب.
والحمد للّه ربّ العالمين
مركز المعارف للمناهج والمتون التعليميّة
8
2
الدرس الأول: أمّ النبيّ موسى عليه السلام بين الحمل والولادة
الدرس الأول:
أمّ النبيّ موسى عليه السلام بين الحمل والولادة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى البلاء العظيم الذي حلّ ببني اسرائيل قبل ولادة موسى عليه السلام.
- أن يشرح حال أمّ موسى أثناء حملها.
- أن يبيّن حادثة ولادة أمّ النبيّ موسى عليه السلام لوليدها العظيم.
9
3
الدرس الأول: أمّ النبيّ موسى عليه السلام بين الحمل والولادة
يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾[1].
في الآيات الكريمة تصوير الظرف الذي ولد فيه نَبِيّ اللَّهِ موسى عليه السلام، وقد أحدقت به كلُّ أسباب الفناء، حيث "كان ظرف علوّ فرعون، وتفريقه بين الناس واستضعافه لبني إسرائيل استضعافاً يبيدهم ويفنيهم. والحال أنَّ الله عزّت آلاؤه يريد أنّ يُنعم على هؤلاء الذين استُضعفوا من كلِّ وجهٍ، نعمةً تثقلهم وذلك بأن يجعلهم أئمةً يُقتدى بهم،... ويُري فرعون، وهو ملك مصر، وهامان وهو وزيره، وجنودهما منهم، أي من هؤلاء الذين استُضعفوا، ما كانوا يحذرون، وهو أن يظهروا عليهم فيذهبوا بملكهم ومالهم وسنَّتهم.
إن هذا الظرف الهائل قضى على بني إسرائيل أن لا يعيش منهم مُتنفِّسٌ، وقد أحاطت بهم قدرة فرعون الطاغية وملأ أقطار وجودهم رعبه وهو يستضعفهم حتّى يقضي عليهم بالإبادة. هذا ظاهر الأمر وفي باطنه الإرادة الإلهيَّة تعلقت بأن تنجيهم منهم، وتحوّل ثقل النعمة من آل فرعون الأقوياء العالين إلى بني إسرائيل الأذلَّاء المستضعفين وتبدِّل من الأسباب ما كان على بني إسرائيل لهم، وما كان لآل فرعون عليهم، والله يحكم لا معقّب لحكمه"[2].
موسى عليه السلام بشارة يوسف عليه السلام
إنَّ البلاء قد يقع على الأفراد والجماعات، ولكنَّهم يتفاوتون في درجاته، لكنَّ البلاء الذي وقع على بني إسرائيل كان بلاءً عاماً قد تساوى جميعهم في درجاته. والحقُّ أن ذلك من أعظم البلاء، فقد قال الله ـ تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾[3].
[1] سورة القصص، الآيات 1-6.
[2] العلّامة السيّد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، سورة القصص، الآيات 1-14.
[3] سورة البقرة، الآية 49.
12
4
الدرس الأول: أمّ النبيّ موسى عليه السلام بين الحمل والولادة
وكان نبيُّ الله يوسف بن يعقوب عليه السلام قد أخبر بني إسرائيل بذلك من قبل أن يصيبهم هذا البلاء العظيم، ففي حديث طويل مروي عن الإمام عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لمّا حضرت يوسف عليه السلام الوفاة جمع شيعته وأهل بيته، فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ حدّثهم بشدّةٍ تنالهم، يُقتل فيها الرجال، وتُشقُّ بطون الحبالى، وتُذبح الأطفال حتّى يُظهر الله الحقَّ في القائم من ولد لاوي بن يعقوبَ عليه السلام..."[1].
وعن الإمام الصادق عليه السلام[2] قال: ".... اسمه موسى بن عمران عليه السلام، غلامٌ طوال جعد آدم، فجعل الرجل من بني إسرائيل يسمّي ابنه عمران ويسمّي عمران ابنه موسى"[3].
والدة النبي موسى عليه السلام وأولادها
اختلف المفسّرون والمؤرّخون في اسم السيّدة أم نبيّ الله موسى عليه السلام، فذُكر أنَّ اسمها عليها السلام: "يحيب ابنة شمويل بن بركيا بن يقسان بن إبراهيم عليه السلام"[4]، وذُكر أنَّ اسمها "أباحثة"[5] و"يوخابد"[6]، وقيل "يوكابد" بكافٍ بدل الخاء، وبدالٍ مهملةٍ بدل المعجمة والنطق بالكاف مفخمّاً، ومعناه بالعربيَّة "جليلة"[7]. وروي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "اسم أمّ موسى وهارون عليه السلام صافية"[8].
[1] الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمي، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص145، باب: في غيبة موسى عليه السلام، طبعة:2، الدار الإسلاميّة، طهران.
[2] عن ابن شبرمة قال: ما ذكرت حديثاً سمعته عن جعفر بن محمد عليه السلام إلا كاد أن يتصدّع قلبي، قال: حدّثني أبي عن جدّي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن شبرمة: وأقسم بالله ما كذب أبوه على جدّه ولا جدّه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يراجع أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، ج1، ص206، طبعة:2، دار الكتب الإسلامية، قم.
[3] الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص147، ورواه الفقيه المُحدّث قطب الدين الراوندي سعيد بن هبة الله، قصص الأنبياء عليهم السلام، ص148، طبعة:1، مركز الدراسات الإسلاميّة، مشهد.
[4] محمّد بن جرير الآملي الطبري، تاريخ الأمم والرسل والملوك، ج1، ص231، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[5] ابن قتيبة الدينوري عبد الله بن مسلم، المعارف، ص20، طبعة:2، دار المعارف، مصر.
[6] عليّ بن أبي الكرم محمّد الشيباني الجزري، الكامل في التاريخ، ج1، ص150، طبعة:1، دار الكتاب العربي، بيروت.
[7] محمّد بن أحمد بن سالم السفاريني، لوامع الأنوار البهية، ج2، ص266، طبعة:2، مؤسسة الخافقين ومكتبتها، دمشق.
[8] أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكي أخطب خوارزم، مقتل الحُسين عليه السلام، ص53، الفصل الثاني، طبعة: دار الهدى، قم، رواه بسند ضُعِّفَ بعض رجال إسناده، والأثر النبويّ وإن ضُعفَ بعض رجال سنده إلا أنَّ مراعاة مضمونه أحب إلى العلماء وأهل الإيمان من القول بالرأي.
13
5
الدرس الأول: أمّ النبيّ موسى عليه السلام بين الحمل والولادة
أما أولادها فهم: كلثم بنت عمران، وهي الشقيقة الكبرى للنبيّين العظيمَين موسى وهارون عليه السلام. وقد جاء عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "كلثم بنت عمران أُخت موسى وهارون التي قالت لها صافية: ﴿قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾[1]. أخبرني جبرائيل أنَّ - كلثمة - من أستر نساء العالمين، وأشدهنَّ حياءً، ماتت عذراء لحيائها وعبادتها"[2].
وهارون بن عمران، وهو نبيٌّ عظيمٌ من أنبياء الله الكرام، وُلد في عام ترك قتل الأبناء، وأرسله الله تعالى مع الكليم موسى عليه السلام فكان نِعم الأخ الصالح، والنبيّ المؤازِر، والوزير المؤتمن، والمعين بالرأيّ والبدن على تبليغ رسالة الله تعالى إلى خلقه. وكان شريك النبيّ موسى عليه السلام في الدعوة، والركن الآخر فيها، ولعظيم منزلته عند الله وعند النَبِيّ الكليم موسى بن عمران عليه السلام ولكثرة أوجه الشبه بينه وبين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال رسول الله مُحمّد صلى الله عليه وآله وسلم للامام عليّ عليه السلام: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيَّ بعدي"[3].
ثمّ كليم الله موسى بن عمران عليه السلام، وهو ثالث أولي العزم من رسل الله الكرام. وقد اعتنى القرآنُ الكريم بذكر قصّته اعتناءً كبيراً لما في قصّة هذا النبيّ الكريم من دروسٍ عظيمةٍ، وعبر جليلةٍ، خصوصاً مع ما واجهه في سبيل الدعوة إلى الله.
فإنَّ في ذلك من العِبَر والفوائد ممّا يضيق المقام عن حصره، غير أنّ جانب الصّبر في دعوته ظاهرٌ بارزٌ، بالإضافة إلى أن هذا النبيّ العظيم كان كإخوانه الرسل الكرام محلّاً للعنايةِ الإلهيّةِ التي ترفد مظاهرها الخلائق بأعظم روافد الإيمان.
بلاء بني إسرائيل العظيم
لم يبالِ فرعون بأيّ شيءٍ سوى ما يتعلّق بملكه والحفاظ عليه، فقتل أولاد بني إسرائيل
[1] سورة القصص، الآية 11.
[2] أخطب خوارزم، مقتل الحُسين عليه السلام، ص53، الفصل الثاني.
[3] مسلم بن الحجّاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، ج4، ص1870، باب من فضائل علي بن أبي طالب، طبعة: دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق: محمّد فؤاد عبد الباقي.
14
6
الدرس الأول: أمّ النبيّ موسى عليه السلام بين الحمل والولادة
دون رحمةٍ أو شفقةٍ، فقد كان جنده ينظرون كلَّ امرأةٍ حامل، فإذا وضعت حملها، فإن كان ذكراً ذبحوه، وإن كان أنثى خـلّوا عنها، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾[1].
وسعى فرعون سعيه في كسر شوكتهم حتّى لا يكون لهم قوّة من رجال قبيلتهم، واستحيا[2] نساء بني إسرائيل إهانةً واحتقاراً لهم، وكان يسومهم سوء العذاب والنكال، وهو مع ذلك يخافهم على نفسه ومُلكه، فيتعقّب نسلهم من الذكور خوفاً من أن يخرج الغلام الموعود الذي يكون سبب هلاكه على يديه، فعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "فلم يزل - فرعون- يأمر أصحابه بشقّ بطون الحوامل من نساء بني اسرائيل حتّى قُتل في طلبه نيف وعشرون ألف مولود، وتعذّر عليه الوصول إلى قتل موسى عليه السلام بحفظ الله تعالى إياه"[3].
وفي وصف هذا الحال ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "ما خرج موسى عليه السلام حتّى خرج قبله خمسون كذّاباً من بني إسرائيل كلّهم يدّعي أنّه موسى بن عمران، فبلغ فرعون أنّهم يُرجفون به ويطلبون هذا الغلام، وقال له كهنته وسحرته: إنَّ هلاك دينك وقومك على يدَي هذا الغلام الذي يولد العام من بني إسرائيل، فوضع القوابل على النساء، وقال: لا يولد العام ولدٌ إلّا ذُبح"[4].
حال أم موسى وحملها به عليه السلام
قال الإمام الباقر عليه السلام: "فلمّا رأى ذلك بنو إسرائيل قالوا: إذا ذبح الغلمان واستحيا النساء هلكنا، فلم نبقَ، فتعالوا لا نقرب النساء، فقال عمران أبو موسى عليه السلام: بل باشروهنّ فإنَّ أمر الله واقع ولو كره المشركون، اللهمّ من حَرَّمَهُ فَإِنِّي لَا أُحَرِّمُهُ، ومن
[1] سورة البقرة، الآية 49.
[2] أي يستبقى على حياة الإناث من الأطفال للاسترقاق والاستخدام، وكانوا يفردون النساء عن الأزواج، وذلك من أعظم المضار والابتلاء إذ الهلاك أسهل من هذا.
[3] الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، ص169، طبعة:1، دار المعارف الإسلامية، قم، إيران.
[4] الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص147، وقطب الدين الراوندي، قصص الأنبياء عليهم السلام، ص148.
15
7
الدرس الأول: أمّ النبيّ موسى عليه السلام بين الحمل والولادة
تركه فإنّي لا أتركه، ووقع على أمِّ موسى فحملت، فَوُضِعَ على أمّ موسى قابلةٌ تحرسها، فإذا قامت قامت، وإذا قعدت قعدت..."[1].
ولحكمة يريدها اللَّه تعالى لم تظهر على زوجة عمران علامات الحمل بنَبِيّ الله موسى عليه السلام، كما هو حال غيرها من النساء، ولم تفطن لها القابلة التي وُكّلت بمراقبتها. وفي هذا الشأن العظيم يطالعنا الحديث المنقول عن الإمام الباقر عليه السلام: "لمّا حملت به أمّه لم يظهر حملها إلّا عند وضعها له"[2].
كذلك روت السيّدة حكيمة بنت الإمام الجواد عن الإمام العسكريّ عليهم السلام أن مَثَل والدة الإمام المهديّ عليه السلام في حمله: "مثل أمّ موسى عليه السلام لم يظهر بها الحبل، ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها، لأنَّ فرعون كان يشقّ بطون الحبالى في طلب موسى عليه السلام..."[3].
ويقول الإمام الباقر عليه السلام: "فلمّا حملته أُمّه وقعت عليها المحبّة، وكذلك حجج الله على خلقه، فقالت لها القابلة: ما لك يا بنت تصفرين وتذوبين؟ فقالت: لا تلوميني فانّي إذا ولدت أُخذ ولدي فذُبح، قالت: فلا تحزني فإنّي سوف أكتم عليك، فلم تصدقها..."[4].
أم موسى والمولود المبارك
يعجز اللسان عن التعبير، والقلم عن الكتابة، في وصف حال تلك الأمّ الحنون، وهي حائرة قلقة وملهوفة خائفة على ولدها من بطش عدو الله فرعون وجنوده الظلمة، ولذلك نكتفي بإيراد بضع روايات تكشف عن جميل بلائها وجليل عنائها.
ومن تلكم الروايات: "أنَّ أمَّ موسى لما تقاربت ولادتها، وكانت قابلة من القوابل التي وكّلهنَّ فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأمِّ موسى، فلما ضربها الطلق أرسلت إليها،
[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص147، ورواه الفقيه المحدث قطب الدين الراوندي، قصص الأنبياء عليهم السلام، ص148-149، بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام.
[2] أبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، تفسير القمي، سورة القصص، ج2، ص135، طبعة:3، دار الكتاب، قم.
[3] الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج2، ص427.
[4] الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص148، وقطب الدين الراوندي، قصص الأنبياء عليهم السلام، ص149.
16
8
الدرس الأول: أمّ النبيّ موسى عليه السلام بين الحمل والولادة
فقالت: قد نزل بي ما نزل، ولينفعني حبّك إياي اليوم، قال: فعالجت قِبالها، فلمّا أن وقع موسى عليه السلام على الأرض هالها نورٌ بين عينَيْ موسى، فارتعش كلّ مفصلٍ منها، ودخل حبّ موسى في قلبها، ثمّ قالت لها: يا هذه ما جئت إليكِ حين دعوتني إلّا ومن رأيي قتل مولودك وإخبار فرعون، ولكن وجدت لابنك هذا حبّاً ما وجدت حبَّ شيءٍ مثل حبِّه، فاحفظي ابنك، فإنّي أراه هو عدّونا"[1].
وروي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "فلمّا وضعت أمُّ موسى بموسى عليه السلام نظرت إليه وحزنت عليه واغتمّت وبكت[2]، وقالت يُذبح الساعة، فعطف الله بقلب الموكّلة بها عليه، فقالت لأمِّ موسى: ما لك قد اصفرَّ لونك؟ فقالت: أخاف أن يُذبح ولدي، فقالت: لا تخافي، وكان موسى لا يراه أحدٌ إلّا أحبَّه، وهو قول الله: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾, فأحبَّته القبطيَّة الموكَّلةُ به"[3].
وقال الإمام الصادق عليه السلام: "ثمّ حملته، فأدخلته المخدع وأصلحت أمره، ثمَّ خرجت إلى الحرس وكانوا على الباب، فقالت: انصرفوا، فإنّما خرج دمٌ مقطعٌ، فانصرفوا"[4].
في ظل تلك الأوضاع القاسية والخطر المحدق ولد كليم الله موسى بن عمران عليه السلام، والموت يتلفَّت عليه، وأمُّه تخاف عليه القتل وتحاول إخفاءه عن العيون التي تراقب وتلاحق، فلمّا ضاقت عليها الأرض بما رحبت تداركتها رحمة الله تعالى، وفي ذلك يقول
[1] أحمد بن محمّد بن إبراهيم الثعلبي، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ج7، ص234، طبعة:1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، وشمس الدين القرطبي محمّد بن أحمد الخزرجي الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي، ج13، ص251، الطبعة:2، دار الكتب المصريّة، القاهرة، ومحمّد الحسين بن مسعود البغوي، معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي، ج6،ص191، طبعة:4، دار طيبة للنشر والتوزيع، وجار الله محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري، تفسير الكشاف،ج3، ص393، طبعة:3، دار الكتاب العربي، بيروت، والعلامة محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الائمة الاطهار، ج13، ص53، طبعة:2، مؤسسة الوفاء، بيروت.
[2] قدم عامر بن واثلة الكنانيّ الليثيّ يوماً على معاوية، فقال له: كيف وجدك على خليلك أبي الحسن؟-أمير المؤمنين علي عليه السلام- قال عامر: كوجد أم موسى على موسى، وأشكو إلى الله التقصير، يراجع ابن عبد البر، الاستيعاب، ج4، ص1697، طبعة:1، دار الجيل.
[3] علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، تفسير القمي، سورة القصص، ج2، ص135، بسنده عن الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام.
[4] الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص148، بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام، ورواه قطب الدين الراوندي، قصص الأنبياء عليهم السلام، ص149، بسنده عن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام.
17
9
الدرس الأول: أمّ النبيّ موسى عليه السلام بين الحمل والولادة
سبحانه: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾[1].
وفي طيّات الحديث عن أمّ النبيّ الكليم نجد أنَّ القرآن الكريم يدخل في سرد قصّة موسى وفرعون، ويتحدّث بالخصوص عن مراحل يكون فيها نَبِيّ الله موسى وأمّه العظيمة في أشدِّ حالات الضعف، وذلك من أجل رسم مَثَلٍ حيٍّ لانتصار المستضعفين على المستكبرين، وإحياءً لسنّة الله في عباده الصالحين.
[1] سورة القصص، الآية 7.
18
10
الدرس الأول: أمّ النبيّ موسى عليه السلام بين الحمل والولادة
المفاهيم الأساسية
- حملت أمّ النبيّ موسى عليه السلام بولدها في ظروف قاسية للغاية، حيث استحكم ظلم فرعون لبني إسرائيل وغدا يقتل الرجال والأولاد ويُبقي النساء على قيد الحياة من أجل الخدمة، وذلك بعد أن تتالت عليه الأخبار بأنّه سيولد طفل لبني إسرائيل يكون هلاك ملكه على يديه.
- حين وافت المنية النبيّ يوسف عليه السلام جمع وأهل بيته وأخبرهم بالذي سيحصل على بني إسرائيل وأنّ إنقاذهم سيكون على يد نبيّ اسمه موسى.
- اختلف والمؤرّخون في اسم السيّدة أم نبيّ الله موسى عليه السلام على أسماء متعدّدة.
- كان لأمّ النبيّ موسى عليه السلام ثلاثة أولاد، أكبرهم كلثم، ماتت عذراء لحيائها وعبادتها، ثم هارون النبيُّ والذي كان أخًا وعضدًا ووزيرًا لموسى عليه السلام، ثمّ موسى عليه السلام، ثالث أولي العزم من الرسل.
- سعى فرعون سعيه في كسر شوكة بني اسرائيل حتّى لا يكون لهم قوّة من رجال قبيلتهم، وكان يسومهم سوء العذاب والنكال، وهو مع ذلك يخافهم على نفسه ومُلكه، فيتعقّب نسلهم من الذكور خوفاً من أن يخرج الغلام الموعود.
- أوكل فرعون بنساء بني إسرائيل الحوامل قوابل يأتينه بأخبارهنّ وأخبار مواليدهنّ وحملهنّ في محاولةٍ منه لإبادة كلّ مولود جديد، فشاء الله أن تحمل أمّ النبيّ موسى عليه السلام به دون أن يظهر عليها شيء من علامات الحمل إلّا وقت الولادة، وقد سلم موسى عليه السلام إثر هذا التدبير الإلهيّ من القتل وهو جنين في بطن أمه عليه السلام.
- أُلقي في قلب قابلة أمّ موسى عليه السلام محبة لها ولمولودها، ولما قربت ولادتها، أرسلت إليها، ثمّ وُلد موسى عليه السلام، فأخفت أمره عن جلاوزة فرعون وأنقذت حياته.
- كانت أمّ موسى عليه السلام تعيش الهمّ والحزن على ولدها وتخاف عليه القتل والذبح كلّ ساعة، وأبقت أمره في خفاء حتّى جاءها الوحي الإلهيّ بالقائه في اليمّ.
19
11
الدرس الثاني: أمّ موسى عليه السلام والوعد الإلهيّ
الدرس الثاني:
أمّ موسى عليه السلام والوعد الإلهيّ
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى حادثة أمّ النبيّ موسى عليه السلام مع الوحي.
- أن يبيّن الأحداث التي تلت الوحي، من الإلقاء في اليمّ إلى إنجاز الوعد الإلهيّ في حقّها.
- أن يتعرّف إلى أهمّ صفتين اتّصفت بهما أمّ موسى عليه السلام وهما الثقة بالله والتوكّل.
21
12
الدرس الثاني: أمّ موسى عليه السلام والوعد الإلهيّ
تمهيد
إنَّ اصطفاء الله تعالى لخيرة خلقه من عباده سنَّةٌ إلهيّة بدأت مع أبي البشر الصفيّ آدم عليه السلام. وقد وصف الإمام عليٌّ عليه السلام طرفاً من الأحوال التي مرّ بها أنبياء الله تعالى ورسله الكرام، فقال: "فَاسْتَوْدَعَهُمْ (الله) فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ اَلْأَصْلاَبِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ اَلْأَرْحَامِ"[1].
وقد رسم القرآن الكريم نموذجاً لامرأة من مُطَهَّرَاتِ اَلْأَرْحَامِ نقيّات الجيوب، ورفع الله قدرها لما انتخبها لتكون والدة لثالث أولي العزم من رسله الكرام، ثمّ اختصّها من بين نساء العالمين في ذلك الزمان، فأكَرمها بأن أوحى إليها، وربط على قلبها لمَّا سارعت لتلبية أمر ربِّها، والتصديق بكلمات بارئها، ثمّ جعلها من الداخلين في سنن الاصطفاء الإلهيّ الحاصل في بيوتات الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
ما تلا مولد الكليم
بعد مولد كليم الله موسى عليه السلام حصلت جملةٌ من الحوادث التي تؤكِّد أنَّ هذا المولود العظيم ووالدته الطاهرة كانا محلّاً للعنايةِ الإلهيّةِ، ومنها ما روي عن ابن عبّاس حيث قال: "فلمّا خرجت القابلة من عندها (أمِّ موسى) أبصرها بعض العيون، فجاء إلى بابها ليدخلوا على أمِّ موسى، فقالت أخته: يا أمَّاه هذا الحرس بالباب، فلفّت موسى في خرقة، فوضعته في التنّورِ وهو مسجورٌ، فطاش عقلها، فلم تعقل ما تصنع، قال: فدخلوا فإذا التنّور مسجور، ورؤوا أمَّ موسى لم يتغيّر لها لون، ولم يظهر لها لبن، فقالوا: ما أدخل عليك القابلة؟
قالت: هي مصافية لي، فدخلت عليّ زائرة، فخرجوا من عندها، فرجع إليها عقلها،
[1] مجموع ما اختاره الشريف الرضيُّ، أبو الحسن محمد بن الحسين الموسويّ، من كلام سيّدنا أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، نهج البلاغة، ج1، ص185، شرح الشيخ محمد عبده، طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
23
13
الدرس الثاني: أمّ موسى عليه السلام والوعد الإلهيّ
فقالت لأخت موسى: فأين الصبيّ؟
قالت: لا أدري، فسمعت بكاء الصبيّ من التنورِ، فانطلقت إليه، وقد جعل الله سبحانه النار عليه برداً وسلاماً فاحتملته"[1].
الوحي إلى أُمِّ مُوسَى
إنَّ السيّدة أمّ نَبِيّ الله موسى عليه السلام لمَّا رأت إلحاح فرعون وجنوده في طلب ولدان بني إسرائيل للذبح خافت على ابنها وفلذة كبدها، وقد كان من "وحي الله تعالى لها"[2] أن أمرها سبحانه بقوله: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾[3].
فتلقَّت هذه المرأة العظيمة سلام الله عليها هذا الإيحاء المطمئن المبشِّر المثبِّت، ونزل على قلبها الواجف المحروق برداً وسلاماً، ولا يذكر لنا السياق القرآنيّ كيف تلقَّت أمُّ النبيِّ الكليم هذا الوحي العظيم إلّا أنَّ قبولها له وعملها به يؤكّد بما لا يدع مجالاً للشكّ عمقَ معرفتها بعصمة القناة التي كان من خلالها هذا الوحيُ الإلهيُّ.
وفي رواية عن الامام الباقر عليه السلام، قال: "وأنزل الله على موسى التابوت[4]، ونوديت
[1] الثعلبي، الكشف والبيان، ج7، ص234، والقرطبي، تفسير القرطبي، ج13، ص251، والبغوي، تفسير البغوي، ج6، ص191، والزمخشري، تفسير الكشاف،ج3، ص393، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج13، ص53، وغيرهم.
[2] أكثر ما وردت كلمة (وحي) في القرآن الكريم بمعنى إخبار وإعلام الله من اصطفاه من عباده كلَّ ما أراد إطلاعه عليه من أصناف العلم والهداية بطرقٍ عدّة منها الرؤيا الصادقة ومنها الإلهام، ولا ريب أنّ اطمئنان أُمّ نَبِيّ الله موسى عليه السلام بالوحي المذكور في هذه الآية دليلٌ على عظيم مقامها وسموّ مكانتها...
[3] سورة القصص، الآية 7.
[4] تابوت بني إسرائيل أو صندوق العهد؟ من آيات القرآن الكريم النازلة فيه قول الله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، وفي تفاسيرنا وأحاديثنا، وكذلك في العهد القديم كلاماً كثيراً عنه. إلاَّ أنّ أوضحها هو ما جاءنا في أحاديث أهل البيت عليهم السلام وأقوال بعض المفسّرين من أمثال ابن عبّاس، حيث قالوا إنّ التابوت هو الذي وضعت فيه أُمّ موسى ابنها موسى وألقته في اليمّ، وبعد أن التقط آل فرعون التابوت من البحر وأتوا به إليه وأخرجوا موسى منه، ظلّ التابوت في بيت فرعون ثمّ وقع بأيدي بني إسرائيل، فكانوا يحترمونه ويتبرّكون به، وإن موسى عليه السلام وضع فيه الألواح المقدّسة التي تحمل على ظهرها أحكام الله، ودرع موسى وأشياء أُخرى تخصّه، وأودع كلّ ذلك في أواخر عمره لدى وصيّه يوشع بن نون، وبهذا ازدادت قيمة التابوت عند بني إسرائيل، فكانوا يحملونه معهم كلّما نشبت حرب بينهم وبين الأعداء، لذلك قيل: إنّ بني إسرائيل كانوا أعزّة كرماء ما دام ذلك التابوت بمحتوياته المقدّسة بينهم...، وفي الحقيقة أنّ هذا التابوت كان أكثر من مجرّد لواء لبني إسرائيل وشعار لهم. كان يمثّل رمز استقلالهم ووجودهم وبرؤيته كانوا يسترجعون ذكرى عظمتهم السابقة"- بتصرف- نقلاً عن الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي، الامثل في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل، ج2، ص223، تفسير سورة البقرة، الآية 248، طبعة: قسم التّرجمة والنّشر لمدرسة الامام أمير المؤمنين عليه السلام.
24
14
الدرس الثاني: أمّ موسى عليه السلام والوعد الإلهيّ
أمُّه ضعيه في التابوت، فاقذفيه في الْيَمِّ، ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾[1], فوضعته في التابوت وأطبقت عليه وألقته في النيل"[2].
ويقول الإمام الصادق عليه السلام: "دفعته في الْيَمِّ، فجعل يرجع إليها وجعلت تدفعه في الغمر، وإنّ الريح ضربته فانطلقت به..."[3]. وجعل الله سبحانه وتعالى موج البحر لذلك الرضيع العظيم مستراحاً ومأمناً كما جعل من النار لجَدِّه الخليل إبراهيم عليه السلام برداً وسلاماً.
بشائر الله لأمّ موسى عليه السلام
كان من خطاب الله سبحانه لأمّ نَبِيّ الله موسى عليه السلام: ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾[4]. وإنّ المتدبّر للنصّ القرآنيّ يلاحظ أنّ الله عزّت آلاؤه بعد أن نهى أمّ نبيّ الله موسى عليه السلام عن الخوف والحزن ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾، فقد أراد سبحانه طمأنتها أكثر، وذلك من خلال المبشّرات التي أعقبت النهي لتقوية قلبها، وإزالة خوفها وحزنها، فكانت البشارة الأولى: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾، لأنّ ذهاب موسى عليه السلام من حضنها كان الهمّ الأكبر الذي يشغل بالها.
والبشارة الثانية هي البشارة بمستقبله عليه السلام بأنّه سيكون من الأنبياء المرسلين. ودلّت هذه الآية المباركة كذلك على التحديّ الإلهيّ لكلّ قوّة فرعون وقدرته وجبروته، ومن خلال طفل رضيع سيجعله الله سبحانه يقتحم كلّ حصون فرعون وقومه الخاطئين، ليجسّد انتصار مشيئة الله على إرادة الجبابرة العتاة في أعلى الصور وأحسن الوجوه.
ويظهر من خلال الآيات القرآنية: أنّ الله عزّت آلاؤه أوحى إلى أمّ نَبِيّ الله موسى بأن تُرضعه، فإذا خافت عليه، فما عليها إلّا أن ترميه في اليمّ، فالله سبحانه لا يكلّف نفساً إلّا وسعها، وعلى أهل الإيمان أن يبذلوا جهدهم، وهو إن كان قليلاً، فإنّ الله تعالى سوف يبارك فيه، وسوف يهيّئ من الأسباب التي يمكّن بها لدينه الذي ارتضى.
[1] سورة القصص، الآية 7.
[2] علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، تفسير القمي، سورة القصص، ج2، ص135، بسنده عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام.
[3] قطب الدين الراوندي، قصص الأنبياء عليهم السلام، ص149، بسنده عن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام.
[4] سورة القصص، الآية 7.
25
15
الدرس الأول: أمّ النبيّ موسى عليه السلام بين الحمل والولادة
عِبْرَةٌ لِأُولِي الألباب
من الملاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى أمر أمّ نبيّ الله موسى عليه السلام بأمر عكس ما هو جار في الأسباب العادية. فإنّ
إلقاء الرضيع في النهر أو البحر شيءٌ خطيرٌ ومستنكر، لأنّ ذلك سيعرّضه للموت غرقاً، وهذا خلاف القاعدة المتبعة التي يستخدمها الناس للمحافظة على أطفالهم، ولكنْ لأنّ لله سبحانه بما أمر أمّ موسى عليه السلام إرادة وحكمة ومشيئة، وهو: ﴿خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[1].
فقد أمر تلك السيّدة العظيمة بأن تفعل ما هو عادةً من أسباب الهلاك، لأنّه يريد بحكمته من إلقاء موسى عليه السلام أن يذهب به إلى بيت الطاغية فرعون ليتربّى فيه ويكبر، ويحصل ما كان يحذر منه فرعون وهامان وجنودهما.
وبالفعل فقد أوتي فرعون من قبل امرأته السيّدة آسيا بنت مزاحم (عليها السلام)، التي تولّت تربية نبيّ الله موسى في حجر فرعون، ليكون هلاكه بعد ذلك على يده، وما كان على أمّ نبيّ الله موسى عليه السلام إلا أن تمتثل لأمر الله، فَفعَلَت عليها السلام ما أمرها به، ولم تشكّك ولم تُخالِف، ولا تَرَدَّدت في إنفاذ أمر الله، مع أنّ الحالة تُؤذن بالهَلاك، فأكرمها الله بأن جعل التابوت -الذي هو رمز من رموز الموت- وسيلة لحياة رضيعها العظيم، وجعل عنصر الإغراق في الماء عنصر نجاة لنبيّه الكليم عليه السلام. ومن تأمّل قول الله لأمّ موسى عليه السلام: ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾[2]، وقوله سبحانه في بيان عاقبة فرعون: "﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾[3]، فسيجد أنّ "اليم" كان موضعاً مشتركاً بين موسى وفرعون، مع اختلاف الحال والخاتمة، فموسى عليه السلام كان في غاية الضعف، واليمّ لم يضرّه، وأمّا الطاغية فرعون، فقد كان في أقوى حالاته وأكثرها اقتداراً، فغمره اليمّ وكان من المغرقين، بسبب ذلك الوليد الذي جاء جنده يطلبونه ذات يوم ليقتلوه. فلنكن على يقين أنّ من
[1] سورة يوسف، الآية 64.
[2] سورة القصص، الآية 7.
[3] سورة القصص، الآية 40.
26
16
الدرس الثاني: أمّ موسى عليه السلام والوعد الإلهيّ
كان مع الله سبحانه، فلن يضرّه ضعفه، ومن لم يكن مع الله، فلن تنفعه قوّته مهما بلغت وعظمت.
فراغ فؤاد أم موسى
لقد كان من وحي الله تعالى لأم النبي موسى عليه السلام: ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ﴾[1]، والحق أنه لولا كمال ثقتها بربها لما قذفت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجريانه إلى أنْ يُلْقِهِ الْيَمُّ بالساحل المقابل لقصر فرعون ليلتقطه آل فرعون[2].
﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾[3]، هكذا هو مآل كليم الله موسى عليه السلام بعد أن التقطه آل فرعون.
وأما حال أم نبيّ الله موسى عليه السلام، فقد بيّنه الله عزت آلاؤه بقوله: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[4]، وقد اختلف أهل التفسير في بيان حال فراغ فؤاد أم نبي الله موسى عليه السلام، فقيل: أي خالياً من الصبر لشدة تهالكها عليه. وقيل: خالياً من كل شيء إلا من ذكر موسى، وقيل: فارغاً من الاهتمام بموسى لأن الله تعالى وعدها أن يرده إليها. وقيل: أنسيناها ذكره حتى احتملت أن تلقي فلذة كبدها في البحر، وهذا لا يقدر عليه بشر إلا بأن يقدره الله عليه، ويؤيد
[1] سورة طه، الآية 39.
[2] الالتقاط: إصابة الشيء وأخذه من غير طلب، ومنه اللقطة، واللام في قوله: "ليكون لهم عدوا وحزنا" للعاقبة - على ما قيل - والحزن بفتحتين. الحزن بالضم فالسكون بمعنى واحد كالسقم والسقم، المراد بالحزن سبب الحزن، فإطلاق الحزن عليه مبالغة في سببيته لحزنهم، وأما قوله تعالى: ?إِنَّ فِر?عَو?نَ وَهَ?مَ?نَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَ?طِ?ِينَ? أي: في ما كانوا يفعلونه في أبناء بني إسرائيل وموسى تحذراً من انهدام ملكهم وذهاب سلطانهم بيدهم إرادة لتغيير المقادير عن مجاريها، فقتلوا الجم الغفير من الأبناء ولا شأن لهم في ذلك، وتركوا موسى حيث التقطوه وربوه في حجورهم، وكان هو الذي بيده انقراض دولتهم وزوال ملكهم، يراجع العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، سورة القصص.
[3] سورة القصص، الآيتان 8-9.
[4] سورة القصص، الآية 10.
27
17
الدرس الثاني: أمّ موسى عليه السلام والوعد الإلهيّ
الآخر قوله تعالى: ﴿لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ بعد قوله: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾"[1].
ويقول العلامة الطباطبائي في تفسيره: "والمراد بفراغ فؤاد أم موسى فراغه وخلوه من الخوف والحزن، وكان لازم ذلك أن لا يتوارد عليه خواطر مشوشة وأوهام متضاربة يضطرب بها القلب، فيأخذها الجزع فتبدي ما كان عليها أن تخفيه من أمر ولدها، وذلك أن ظاهر السياق -يوضح أن سبب عدم إبدائها له فراغ قلبها، وسبب فراغ قلبها الربط على قلبها، وسبب الربط هو قوله تعالى لها فيما أوحى إليها: ﴿وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلخ.
وقوله: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا﴾ إلخ، ﴿إِن﴾ مخفّفة من الثقيلة أي: إنّها قربت من أن تظهر الأمر وتفشي السرّ لولا أن ثبتنا قلبها بالربط عليه، وقوله: ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي الواثقين بالله في حفظه، فتصبر ولا تجزع عليه فلا يبدو أمره.
والمجموع أعني قوله: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ إلى آخر الآية في مقام البيان لقوله: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا﴾. ومحصل معنى الآية أنّه صار قلب أم موسى بسبب وحينا خالياً من الخوف والحزن المؤديين إلى إظهار الأمر، لولا أن ثبتنا قلبها بسبب الوحي لتكون واثقةً بحفظ الله له لقربت من أن تظهر أمره لهم بالجزع عليه..."[2].
المتوكّلة على الله
إنّ التوكّل على الله سبحانه وتعالى هو الثقة بوعده، واليقين بقضائه، وهو الذي يقتضي من الإنسان تحقيق الإيمان والانتماء لله تعالى، وذلك من خلال معرفة الإنسان أنّ الله لا يخلف الميعاد، وأن وعده هو الحق لا ريبة فيه، وأنّه هو الذي في قبضته السماوات والأرض ومن فيهنّ. ولأنّ التوكّل على الله أعظم ما تُدفَع به الآفات، وأنفع ما تحصل به المطالب صار يُعدّ مفتاح الفرج، فمن توكّل على اللَّه كفاه أموره كلّها، وقد قَدم الله سبحانه لأهل
[1] شهاب الدين أحمد بن يوسف بن عبد الدائم المعروف بالسمين الحلبي، عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، ج3، ص220، الطبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[2] العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، سورة القصص.
28
18
الدرس الثاني: أمّ موسى عليه السلام والوعد الإلهيّ
الإيمان من خلال السيّدة العظيمة أمّ موسى وهارون عليها السلام أعظم مثلٍ عالٍ في اليقين، وأسمى المواقف في التوكّل على الله، وفي الثقة به سبحانه وتفويض الأمر إليه، فإنّه سبحانه هو الذي ربط على قلبها المبارك[1]، ففعلت ما فعلت، ومن خلال جهدها وجهادها عليها السلام لفت الباري سبحانه أنظارنا إلى أنّ العبد - ولو عرف أنّ القضاء والقدر ووعد الله نافذٌ لا بدّ منه- فإنّه لا يهمل فعل الأسباب التي أمر بها، ولا يكون ذلك منافياً لإيمانه بخبر الله سبحانه، فإنّ الله قد وعد أمّ موسى أن يردّه عليها، ومع ذلك، اجتهدت بالعمل على ردّه، وأوكلت هذا الدور لابنتها الطاهرة أخت نبيّ الله موسى عليه السلام: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[2]. فقد كانت بالأمس القريب تخشى على رضيعها من فرعون وملئه، فصارت تُرضع موسى آمنةً مطمئنةً، وبأمره ومن الخزينة نفسها التى كان يصرف منها ليقتل موسى عليه السلام كان يصرف منها أجر أمّ موسى مقابل إرضاعه عليه السلام وتربيته.
أمّ موسى وإنجاز وعد الله جلّ وعلا
لقد أولى الله سبحانه نبيّه العظيم موسى بن عمران عليه السلام نعماً لا تُحصى ولا تُعدّ، ومنها أن كتب عليه ألّا يرضع إلّا من أمّه، حتّى اضطرّ فرعون، ومن معه، إلى أن يردّوه إليها، وهم لا يشعرون، وبهذا التدبير الحكيم، واللطف الخفيّ، أنجز الله لأمّ موسى وعده، وأرجع إليها ولدها لينعم بحنانها، ويتمتّع بعطفها، وتقرّ به عينها ولا تحزن، ولتعلم أنّ وعد الله حق، وليجعلها سبحانه مثلًا يُستدلّ به على أن بناء أمّةٍ بأسرها يبدأ بالمرأة الأمّ، ومن خلال تضحياتها، فإنّ العبرة كلّ العبرة أن تترجم الأخوات الصالحات تلك المواقف العظيمة والسيَر المجيدة إلى حياةٍ عمليةٍ يتبعن فيها خطوات نساء الرسالة اللواتي بذلن
[1] الإبداء بالشيء إظهاره، والربط على الشيء شده، وهو كناية عن التثبيت.
[2] سورة القصص، الآيات 11-13.
29
19
الدرس الثاني: أمّ موسى عليه السلام والوعد الإلهيّ
ما بذلن لنيل مرضاة الله سبحانه، وليعلمن أنّ من المحن تأتي المنح، وأن تحت كلّ مصيبةٍ خيراً لصاحبها، ولا أدل على ذلك من قصة أمّ نبيّ الله موسى عليه السلام، فقد ابتلاها الله تعالى بما ابتلاها به، ثمّ انقلبت محنتها منحةً وخيراً. فلنكن على يقين أنّ الله عزّت آلاؤه مع أوليائه، وأنّه ناصر عباده المؤمنين، كما وعد في مُحكم كتابه: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾[1].
[1] سورة الصافات، الآيات 171-173.
30
20
الدرس الثاني: أمّ موسى عليه السلام والوعد الإلهيّ
المفاهيم الأساسية
- بعد مولد كليم الله موسى عليه السلام حصلت جملةٌ من الحوادث التي تؤكِّد أنَّ هذا المولود العظيم ووالدته الطاهرة كانا محلّاً للعنايةِ الإلهيّةِ، حيث جاء حرس فرعون في طلبه، فما كان من أمّه إلّا أن أخفته في التنّور وهو مسجر لكنّ العناية الإلهية سلّمته من كلّ سوء.
- لمَّا رأت السيّدة أمّ موسى عليه السلام إلحاح فرعون وجنوده في طلب ولدان بني إسرائيل للذبح خافت على ابنها فجاءها الوحي أن إذا خفت عليه فألقيه في اليمّ، وقد كانت على معرفة ويقين بعصمة ذلك الوحي فاستجابت له وأمثلت الأمر الإلهيّ.
- دفعت أمّ موسى وليدها الغالي في اليمّ، فبشّرها الوحي وطيّب خاطرها بأن ابنها سيُردّ إليها، بل وسيكون من المرسَلين.
- بعد أن أخذ اليمّ موسى عليه السلام أصبح فؤاد أمّ موسى فارغًا من الخوف والحزن بسبب الوحي الذي ربط على قلبها وإلّا كادت أن تفشي الأمر وتبديه بسبب الجزع.
- إنّ من توكّل على اللَّه كفاه أموره كلّها. وقد قَدم الله سبحانه لأهل الإيمان من خلال السيّدة العظيمة أم موسى وهارون (عليها السلام) أعظم مثلٍ عالٍ في اليقين، وأسمى المواقف في التوكّل على الله، وفي الثقة به سبحانه وتفويض الأمر إليه، ففعلت ما فعلت لثقتها بربّها وتوكّلها عليه.
- أرسلت السيّدة أمّ موسى ابنتها في إثر موسى، تتبع أخباره ومآله، وكانت هذه الحادثة هي السبب في استدلال آل فرعون على أمّ موسى بوصفها المرضعة التي ستتولّى أموره.
- أنجز الله لأمّ موسى وعده، وأرجع إليها ولدها لينعم بحنانها، ويتمتّع بعطفها، وتقرّ به عينها ولا تحزن، ولتعلم أنّ وعد الله حقّ، وليبقى في حضنها ريثما يعود إلى قصر فرعون.
31
21
الدرس الثالث: السيّدة آسية والنبيّ موسى عليه السلام
الدرس الثالث:
السيّدة آسية والنبيّ موسى عليه السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى قصة تبنّي آسية للنبيّ موسى عليه السلام ولدًا لها.
- يعدّد بعض خصال السيّدة آسية (عليها السلام).
- يشرح كيف رعت السيّدة آسية النبيّ موسى عليه السلام وحمته في بلاط فرعون.
31
22
الدرس الثالث: السيّدة آسية والنبيّ موسى عليه السلام
تمهيد
إنّ الذي يطلّ بناظريه على سيرة زينة الملكات، سيدة نساء أهل الجنّة، آسية بنت مزاحم عليها السلام، سيتيقن بأنّ سنن الله الكونية نافذةٌ بلا شكّ ولا ريب، رغم أنوف الطغاة وتظافر إراداتهم لمنع نفاذها، فهي التي قدّمت التضحيات في سبيل الله تعالى، وإنفاذ مشيئته مذ تعرفت على النبي موسى عليها السلام وإلى أن قبضها الله تعالى إلى جواره صدّيقةً شهيدةً، فدوّنت من خلال إيمانها وصبرها أعظمَ البطولات التي خلَّد التاريخُ ذِكْرَها، وسطَّرها الفرقان الحكيم بمداد من نور، لتتناقلها الأجيالُ المؤمنة جيلاً بعدَ جيل. ولهذا تحظى السيّدة الجليلة آسية بنت مزاحم عليها السلام بأهميةٍ كبيرةٍ ومكانةٍ عاليةٍ، حيث يقدّمها الإسلام مثلاً أعلى في التضحية والفِداء، وقدوةً عظيمةً لجميع أهل الإيمان وأسوةً كريمةً ثبتت على التوحيد الحقّ في أصعب الملمَّات.
آسية بنت مزاحم ومقامها
أولى الله سبحانه نبيّه الكليم موسى بن عمران عليه السلام رعايةً خاصةً قلّ نظيرها. وكان أحد أبرز تجلّيات ومظاهر تلك الرعاية في ما قدّمته له السيّدة آسية بنت مزاحم عليها السلام. ومن خلال مواقفها العظيمة التي وقفتها في الذبّ عن كليم الله يظهر أنّها قد كانت لها مقدّماتٌ معرفيةٌ وإيمانيةٌ، فمن ذلك ما رويَ أنّها عليها السلام كانت من ذراري الأنبياء[1]،
[1] أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص627.
34
23
الدرس الثالث: السيّدة آسية والنبيّ موسى عليه السلام
وأنّها أخت حزقيل[1] مؤمن آل فرعون الذي كان قد كتم إيمانه بالله ستمائة سنة[2]، وأنها عليها السلام كانت على دين بني إسرائيل تكتم إيمانها[3].
هذا وقد صرّحت الأحاديث المحمّدية الشريفة بفضلها وكمالها، وعظمتها وقدسيتها، فقد قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل نساء العالمين: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون"[4]. كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل نـساء أهل الجنّة: خـديجة ابـنة خـويلد، وفـاطـمة ابـنـة مُـحـمــد، ومــريـم ابـنـة عـمـران، وآسيـة امـرأة فرعون"[5].
وهذه الأحاديث تدلّ على أنّ السيدة آسية عليها السلام قد وصلت لمنتهى الفلاح، والصلاح والكمال، وإلّا لما كانت من أفضل نساء الجنّة ومن أفضل نساء العالمين. وفي حديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دخل على فاطمة عليها السلام يعودها، فقال: "أي بنيّة، لا تجزعي، فوالذي بعثني بالنبوّة حقّاً إنّك لسيّدة نساء العالمين، فوضعت يدها على رأسها ثمّ قالت: يا ليتها ماتت، فأين آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "آسية سيّدة نساء عالمها، ومريم سيّدة نساء عالمها، وخديجة سيّدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك، إنّكن في بيوت من قصب، لا أذى فيه ولا نصب"، فقالت عليها السلام: يا رسول الله ما بيوت من قصب؟ قال: درّ مجوّف من قصب، لا أذى فيه ولا صخب"[6].
[1] محمد بن حبيب البغداديّ، المحبر، ص 388، قال: وكان اسم مؤمن آل فرعون حزبيل أو خزبيل، وهو أخو آسية امرأة فرعون. وقال هشام: حزبيل زوج الماشطة، وكان فرعون قد جعله على نصف الناس.
[2] عن أبي جعفر عليه السلام، قال: "كان خازن فرعون مؤمناً بموسى، قد كتم إيمانه .."، يراجع علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي، ج2، ص137، بسنده عن أبيه عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام.
[3] علي بن الحسين المسعودي، إثبات الوصية، ص52، طبعة:3، أنصاريان، قم.
[4] الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج2، ص650، حديث 4160، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[5] أحمد بن شعيب النسائي، السنن الكبرى، ج5، ص93، حديث 8355، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت، والشيخ الصدوق بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الخصال، ج1، ص205-206، حديث 22-23، طبعة:1، جماعة المدرسين، قم.
[6] محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي، ج5، ص2198، حديث 1689، باب: بشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة (عليها السلام) بما أعد الله عز وجل لها في الجنة، طبعة:2، دار الوطن، الرياض، والحافظ ابن عساكر الدمشقي، تاريخ دمشق، ج42، ص134، طبعة: دار الفكر، بيروت، رواه بسنده إلى سعيد بن جبير عن عمران بن الحصين باختلاف ألفاظ.
35
24
الدرس الثالث: السيّدة آسية والنبيّ موسى عليه السلام
إلى الماء فتناولته بيدها، وكاد الماء يغمرها حتّى صاحوا عليها، فجذبته فأخرجته من الماء، فأخذته فوضعته في حجرها، فإذا غلام أجمل الناس وأسترهم، فوقعت عليها له محبّة، فوضعته في حجرها، وقالت: هذا ابني، فقالوا: إي والله يا سيدتنا والله مالك ولد ولا للملك، فاتّخذي هذا ولداً.."[1].
اتّخذت آسية عليها السلام هذا الرضيع العظيم ولداً، واقتضت مشيئة الله أن يتحدّى به جبروت فرعون وعظمته، وكلّ جنده وحصونه، ويفشل كلّ تدابيره، فجعل الله سبحانه هذا الطفل الموعود في متناول يد فرعون، وبين جنده وحراسه وفي قصره، ومع كلّ ذلك لا يستطيع أن يؤذيه، فقد زوّد الباري عزّ وجلّ هذا المولود الرضيع بسلاح ماضٍ لدفع الخطر عنه، وهذا السلاح لم يعهده الطغاة والحكّام الظلمة من قبل، وهو سلاح (الحبّ) الذي جعل السيّدة آسية (عليها السلام) تحامي عن كليم الله وتذبّ عنه، وقد قال الله تعالى فيما بعد مخاطباً موسى النبيّ عليه السلام: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾[2].
موسى عليه السلام قرّة عين آسية عليها السلام
ألقى الله سبحانه في قلب امرأة فرعون حبّ ذلك الطفل الرضيع، فوقفت سدّاً منيعاً بقلبها الحاني، ضدّ قوّة وقسوة وغلظة فرعون وجنده التي أبدوها من الوهلة الأولى اتّجاه موسى عليه السلام، فطلبت من الطاغية فرعون أن يُبقي عليه ليكون قرّة عينٍ لها وله، فوهبها إياه على كراهةٍ منه، حيث تقول الرواية: "فلما فتحته – التابوت - رأت فيه غلاماً، فألقي عليها منه محبةٌ لم يلقِ منها على أحد قط، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، فقالت لهم: أقرّوه فإنّ هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتّى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر
[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص148، ورواه قطب الدين الراوندي، قصص الأنبياء عليهم السلام، ص149، بسنده عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام.
[2] سورة طه، الآية 39.
37
26
الدرس الثالث: السيّدة آسية والنبيّ موسى عليه السلام
بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون[1]، فقالت: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾[2]". وفي روايةٍ أخرى تبيّن تتمّة الحادثة: "فقال فرعون يكون لك، فأمّا لي فلا حاجة لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي يُحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرّة عينٍ كما أقرّت امرأته لهداه الله كما هداها، ولكنّ الله حرمه ذلك"[3].
ولمّا رأت السيّدة آسية عليها السلام مبلغ عداء فرعون لموسى بن عمران عليه السلام استخدمت ذكاءها وفطرتها في منع قوّته الغاشمة من أن تنال ذلك الرضيع الذي أحبّته حباً عظيماً، فقدّمت عذر المنفعة قائلةً: ﴿عَسَى أَن يَنفَعَنَا﴾, وأردفته بعذرٍ آخر وهو: ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾, لأنّها تعلم أنّ فرعون كان بحاجةٍ ماسّةٍ إلى الولد، فأبقى عليه إرضاءً لها.
رعاية آسية لكليم الله عليه السلام
روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "قال - فرعون -: ومن أين هذا الغلام؟ قالت: ما أدري إلاّ أنّ الماء جاء به، فلم تزل به حتّى رضيَ، فلمّا سمع الناس أنّ الملك يربّي ابناً لم يبقَ أحد من رؤوس من كان مع فرعون إلاّ بعث امرأته إليه تكون له ظئراً أو تحضنه، فأبى أن يأخذ من امرأةٍ منهنّ ثدياً، قالت امرأة فرعون: اطلبوا لابني ظئراً ولا تحقّروا أحداً، فجعل لا يقبل من امرأة منهنّ..."[4]، فلم يقبل موسى الرضيع أن يرتضع من أيّ امرأةٍ منهنّ.
وكانت السيّدة العظيمة أمّ نبيّ الله موسى عليه السلام قد قالت لأخته الكبرى: قصّيه: انظري أترين له أثراً؟ فانطلقت حتّى أتت باب الملك، ولمّا نظرت أخته إلى حال أخيها وحالهم، وهم في حيرةٍ من أمره ودهشةٍ، حيث لم يقبل الرضاع، قالت لهم بطريق الاستفهام:
[1] أحمد بن شعيب النسائي، السنن الكبرى، ج6، ص396، حديث 11326، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت، ورواه أبن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد التميمي الرازي، تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم، ج9، ص2944، حديث 16698، طبعة:3، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ورواه أحمد بن علي بن المثنى أبو يعلى الموصلي التميمي، مسند أبي يعلى، ج5، ص10، حديث 2618، طبعة:1، دار المأمون للتراث، دمشق.
[2] سورة القصص، الآية 9.
[3] أحمد بن شعيب النسائي، السنن الكبرى، ج6، ص396، حديث 11326، ورواه أبن أبي حاتم الرازي، تفسير القرآن العظيم، ج9، ص2944، حديث 16698، وأبو يعلى الموصلي، مسند أبي يعلى، ج5، ص10، حديث 2618.
[4] الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص149، ورواه قطب الدين الراوندي، قصص الأنبياء عليهم السلام، ص149.
38
27
الدرس الثالث: السيّدة آسية والنبيّ موسى عليه السلام
﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾[1] فنكَّرت البيت الذي سيقوم بإرضاعه، ولم تكشف لهم عن حاله شيئاً، مع أنّها زكّت أهل ذلك البيت لمعرفتها بذلك، وهذا بعد توفيق الله من الفطنة بمكان، ويذكر الامام الباقر عليه السلام أنها: "قالت: قد بلغني أنّكم تطلبون ظئراً (أي امرأة ترضع ولد غيرها)، وههنا إمرأةٌ صالحةٌ تأخذ ولدكم وتكفله لكم، فقالت: أدخلوها، فلما دخلت قالت لها امرأة فرعون: ممّن أنتِ؟ قالت: من بني إسرائيل، قالت: اذهبي يا بنيّة فليس لنا فيك حاجةٌ، فقلن لها النّساء: انظري عافاكِ الله يقبل أو لا يقبل؟ فقالت امرأة فرعون: أرأيتم لو قبل هل يرضى فرعون أن يكون الغلام من بني إسرائيل، والمرأة من بني إسرائيل يعني "الظّئر" فلا يرضى، قلن: فانظري هل يقبل أو لا يقبل؟
قالت امرأة فرعون: فاذهبي فادعيها فجاءت إلى أُمّها، فقالت: إنّ امرأة الملك تدعوك فدخلت عليها، فدفعت إليها موسى، فوضعته في حجرها ثم ألقمته ثديها فازدحم اللبن في حلقه، فلمّا رأت امرأة فرعون أنّ ابنها قد قبل قامت إلى فرعون، فقالت: قد أصبت لابني ظئراً، وقد قبل منها، فقال: ممّن هي؟
قالت: من بني إسرائيل. قال فرعون: هذا ممّا لا يكون أبداً، الغلام من بني إسرائيل، والظئر من بني إسرائيل، فلم تزل تكلمه فيه، وتقول: ما تخاف من هذا الغلام؟ إنّما هو ابنك ينشأ في حجرك حتّى قلّبته عن رأيه ورضي"[2].
ويروي ابن عباس: "قالت - آسية لأمّ موسى- امكثي ترضعي ابني هذا، فإنّي لم أحبّ شيئاً حبّه قطّ، قالت أمّ موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه، فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً فعلت، فإنّي غير تاركةٍ بيتي وولدي، وذكرت أمّ موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أنّ الله منجزٌ موعوده، فرجعت إلى بيتها من يومها، فأنبته الله نباتاً حسناً، وحفظ لما قد
[1] سورة القصص، الآية 12.
[2] الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص149، ورواه قطب الدين الراوندي، قصص الأنبياء عليهم السلام، ص149.
39
28
الدرس الثالث: السيّدة آسية والنبيّ موسى عليه السلام
قضى فيه فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم"[1]، ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[2].
وهكذا نشأ نبيّ الله موسى عليه السلام وترعرع بين أحضان أمّه الرحيمة الواثقة بالله تعالى والمتوكّلة عليه. وقد أبدلها الله بعد خوفها أمناً في عزٍّ وجاهٍ ورزقٍ دارٍّ، وتحت رعاية تلك المؤمنة الصابرة التي هيّأها الله تعالى لحماية ثالث أولي العزم من الرسل، والدفاع عنه، فصرف الله بسبب السيّدة آسية عليها السلام عن نبيّ الله موسى عليه السلام صولة الظالمين وإنفاذ تهديدات رأس المجرمين.
ومن فوائد مواقف السيّدة آسية بنت مزاحم عليها السلام التي وقفتها دون نبيّ الله موسى عليه السلام نلحظ أنّ وجود الصالحين في المجتمعات الفاسدة يحدّ ويخفّف من أذى المفسدين وسطوتهم، فإنّ وجود السيّدة آسية (عليها السلام) في بطانة عدوّ الله فرعون كان سبباً رئيساً في إنقاذ سيّدنا موسى عليه السلام والله غالب على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.
تكريم آسية لكليم الله ودفاعها عنه
أتمّ نبيّ الله موسى عليه السلام مدّة الرضاع عند أمّه الكريمة، وبعدها انتقل إلى بيت فرعون، لتشرف السيّدة آسية عليها السلام على تربيته، وترعى شؤونه. وقد استخدمت ذكاءها وفطنتها مراراً في منع يد فرعون من أن تناله بسوء، فقد مكّن الله تعالى حبّ موسى عليه السلام من قلب زوجة فرعون، وأعطاها من القدرة على الجدل والنقاش بحيث أقنعت فرعون بتركه وكفّ يده عنه.
وقد جاء في حديث ابن عباس أنه: "لما ترعرع (موسى) قالت امرأة فرعون لأمّ موسى أزيريني ابني فوعدتها يوماً تزيرها إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخازنها وظؤورها وقهارمتها - الحاشية الملكية - لا يبقينّ أحد منّكم إلّا استقبل ابني اليوم بهديةٍ وكرامةٍ لأرى ذلك فيه، وأنا باعثةٌ أميناً يحصي كلّ ما يصنع كلّ إنسانٍ منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنِّحل تستقبله
[1] النسائي، السنن الكبرى، ج6، ص398، حديث 11326، وأبو يعلى، مسند أبي يعلى، ج5، ص10، حديث 2618.
[2] سورة القصص، الآية 13.
40
29
الدرس الثالث: السيّدة آسية والنبيّ موسى عليه السلام
من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته[1]، وأكرمته وفرحت به ونحلت أمّه بحسن أثرها عليه، ثمّ قالت: لآتين فرعون فلينحلنّه وليكرمنّه، فلما دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدّها إلى الأرض. قال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نَبِيَّهُ،- إشارة إلى موسى كونه من نسل إبراهيم - إنّه زعم أن يَرُبُّكَ وَيَعْلُوكَ وَيَصْرَعَكَ؟ فأرسل إلى الذّباحين ليذبحوه، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون، فقالت: ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال: ألا ترينه يزعم أنّه سيصرعني ويعلوني"[2]، لكنّه تركه وشأنه.
وفي ذلك قال الإمام الباقر عليه السلام: "فلمّا درج موسى كان يوماً عند فرعون، فعطس موسى، فقال: الحمد لله ربّ العالمين، فأنكر فرعون عليه ولطمه وقال: ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته وكان طويل اللحية فهلبها أي قلعها، فآلمه ألماً شديداً بلطمته إياه، فهمّ فرعون بقتله، فقالت امرأته: هذا غلام حدث لا يدري ما يقول، فقال فرعون: بل يدري، فقالت امرأته: ضع بين يديه تمراً وجمراً فإن ميّز بينهما فهو الذي تقول، فوضع بين يديه تمراً وجمراً وقال له كل، فمد يده إلى التمر، فجاء جبرئيل فصرفها إلى الجمر فأخذ الجمر في فيه، فاحترق لسانه وصاح وبكى، فقالت آسية لفرعون: ألم أقل لك إنه لا يعقل؟ فعفا عنه"[3]، وبذلك صرف الله فرعون عن نَبِيِّهِ موسى عليه السلام بعدما همّ بقتله، وكان الله بالغاً فيه أمره.
وبعد الرعاية الكبيرة التي قامت بها السيّدة آسية عليها السلام لخدمة نبيّ الله تعالى موسى بن عمران عليه السلام، يلاحظ أنّ الاختبارات الإلهية لم تفارق هذه السيّدة الجليلة، فكانت عليها السلام كلمّا دخلت امتحاناً نجحت فيه نجاحاً منقطع النظير، وسنتعرّض لبعضٍ من تلك الاختبارات والامتحانات والتي خاضتها بكلّ عزيمةٍ وثباتٍ سيدة النساء آسية بنت مزاحم عليها السلام.
[1] النِحلة: وهي الهِبة والعطية يُعطاها الإنسان، وتكون خالصة عن طيب نفس.
[2] أبو عبد الرحمن بن شعيب النسائي، السنن الكبرى، ج6، ص398-399، حديث 11326، وأبو يعلى الموصلي، مسند أبي يعلى، ج5، ص10-11، حديث 2618.
[3] علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي، ج2، ص136، بسنده عن أبيه عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام.
41
30
الدرس الثالث: السيّدة آسية والنبيّ موسى عليه السلام
المفاهيم الأساسية
- أولى الله سبحانه نبيّه الكليم موسى بن عمران عليه السلام رعاية خاصة قلّ نظيرها، حيث تولّت السيّدة آسية عليها السلام شؤونه وأنقذته من الموت مرارًا، وقد كانت مؤمنةً على دين بني إسرائيل تكتم إيمانها.
- صرّحت الأحاديث النبوية بفضل السيّدة آسية عليها السلام وكمالها، حيث إنّها من أفضل نساء العالمين، ومن أفضل نساء الجنة، وكذا هي من النساء الأربع اللواتي كملن حسب قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
- بعد أن ألقت أمّ النبيّ موسى عليه السلام به في التابوت ثم ألقته في اليمّ، كانت السيّدة آسية تتنزّه على الشاطئ، حين رأت التابوت يعوم فوق الماء، فالتقطته ووجدت فيه موسى عليه السلام الرضيع.
- منعت السيّدة آسية جلاوزة فرعون من قتل موسى وبقيت تقنع فرعون بالإقلاع عن قتله بأنّه سيكون ولدًا لهما وسيكون قرّة عين لهما، وأنّه سيتربّى تحت ناظريه فامتنع عن قتله.
- ألقى الله سبحانه في قلب امرأة فرعون حبّ ذلك الطفل الرضيع، فوقفت سداً منيعاً، بقلبها الحاني، ضد فرعون، على الدوام، ثم بدأت تطلب المراضع لابنها الصغير، وكان النبيّ موسى عليه السلام يمتنع عن كلّ النساء حتّى جاءت أخته وعرضت كفالته من قبل أمّها.
- عاد موسى عليه السلام الرضيع إلى أمّه كي تقرّ عينها، ثمّ بعد إتمام رضاعه رجع إلى قصر فرعون لينشأ في أحضان آسية عليها السلام، فترعرع بين حضنيهما.
- بعد أن عاد موسى عليه السلام الرضيع إلى القصر، ذهبت آسية به إلى فرعون لِيَحْبُوه ويكرمه، فإذا به يشدّ له لحيته نحو الأرض فغضب منه وأراد قتله، لكنّ السيّدة آسية عليها السلام حالت دون ذلك.
42
31
الدرس الرابع: السيّدة آسية عليها السلام من الإيمان إلى الشهادة
الدرس الرابع:
السيّدة آسية (عليها السلام) من الإيمان إلى الشهادة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى بعض معاناة وصبر آسية في قصر فرعون.
- يذكر بعض المواقف الايمانية للسيدة آسية (عليها السلام).
- يبيّن قصّة شهادة السيّدة آسية المؤلمة.
44
32
الدرس الرابع: السيّدة آسية عليها السلام من الإيمان إلى الشهادة
تمهيد
لقد استعرض الذكر الحكيم ألواناً وصوراً شتّى من المواجهة التي حصلت بين الحقّ والباطل، وكيف استطاع أهل الحق، بإيمانهم وصبرهم، الانتصار على أعتى قادة حزب الشيطان وأتباعهم. وفي طليعة هؤلاء المُضحّين من أهل الحقّ تأتي المرأة الراضية المرضية، آسية بنت مزاحم عليها السلام، التي جاءت بداية ذكرها في الفرقان الحكيم مقرونة مع كليم الله موسى بن عمران عليه السلام واقترنت عاقبتها على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أم المؤمنين الكبرى خديجة الغراء، وأم السبطين فاطمة الزهراء عليها السلام، وقدّمها القرآن الكريم مع العذراء مريم بنت عمران عليها السلام كقدوة ليس للنساء فقط بل: ?.. لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ..?، أي بصفتهما رمزاً للإنسان المؤمن لا رمزاً للمرأة المؤمنة.
يعني أنّ الله تعالى عندما أراد أن يذكر نموذجاً يندر مثيله بين بني الإنسان، ويكون هذا النموذج مثلاً لأعلى درجات الإنسانية والتكامل المعنويّ، لم يذكره من عظماء الرجال ولا من شخصياتهم العلمية والدينية بل ذكره من النساء، حيث ذَكَرَ امرأتين كقدوة أعلى للإنسانية إحداهما امرأة فرعون ﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[1].
صبر آسية ونشأة النبيّ الكليم
لا يُعرف في هذه الدنيا امرأةٌ ابتُليت بزوج سيّئ كالسيّدة آسية بنت مزاحم عليها السلام، فقد ابتليت بالطاغية فرعون وهو أسوأ الرجال خُلقاً وأكثرهم استعلاءً: فظٌّ غليظ، جلف
[1] سورة التحريم، الآية 11.
46
33
الدرس الرابع: السيّدة آسية عليها السلام من الإيمان إلى الشهادة
عنيد، متكبّر جبّار، لم يكن من الملوك الذين سبقوه من هو أقسى قلباً، ولا أشدّ غلظةً ولا أسوأ ملكاً منه، وكذلك ابتُليت بأسوأ بيتٍ في الدنيا، بيت فِرعون الذي حوى أفراداً كالأنعام بل هم أضلّ إذ يعتبرون فرعون ربّهم الأعلى.
ومع هذا أطاعت آسية عليها السلام بارئها وما عصته، وشكرت خالقها وما كفرته، وابتعدت عن الذنب وما رضيته، وصبرت على فرعون وظلمه وأذاه حتّى ضرب الله تعالى بها للمؤمنين مثلاً، فقال سبحانه: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[1].
وتحت أنظارها في بيت فرعون نشأ النَبِيّ الكليم دون أن يتأثّر بالجوّ الدينيّ والأخلاقيّ الذي كان سائداً داخل قصر الطاغية، فالإله الذي اصطفى موسى عليه السلام وحماه منذ ولادته، ونجاه من القتل وحفظه من الغرق، حال دون أن يصل إليه شيء من رذاذ الكفر والأخلاق السيئة التي كان يحملها فرعون وزبانيته. ولا يغيبنّ عنكم أنّ هذا النَبِيّ العظيم عليه السلام قد رضع عقيدة التوحيد والإيمان بالله سبحانه مع لبن أمه المصدّقة بوحي الله والعاملة بمقتضاه. وكان عليه السلام يتنقل في تربيته بين صدرَين من أملأ صدور العالمين حكمة، فكان مغداه على أمه الجليلة الطاهرة المتوكّلة على الله، ومراحه على العظيمة الكاملة آسية بنت مزاحم. وقد بقي نَبِيّ الله موسى عليه السلام على هذا الحال إلى أن بلغ أشده، وفي ذلك يقول الله سبحانه: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾[2]، ثم خرج كليم الله عليه السلام من المدينة تلقاء مدين التي يسكنها نَبِيُّ اللَّهِ شعيب عليه السلام، وكان ما ذكره الله لنا ضمن آياته البينات من سورة القصص[3].
عودة موسى إلى مصر، وإيمان آسية
إنّ موسى عليه السلام عاش فترةً زمنيةً مع خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام، حصل له فيها الكثير من المواقف والمشاهد[4]. والذي نعلمه من خلال النصّ القرآنيّ أنّه قضى أتم الأجلين
[1] سورة التحريم، الآية 11.
[2] سورة القصص، الآية 14.
[3] سورة القصص، الآيات 14-28.
[4] وقيل إنّه ليس شعيباً، لأنّ بينه وبين موسىعليه السلام زمناً معتدّاً به...
47
34
الدرس الرابع: السيّدة آسية عليها السلام من الإيمان إلى الشهادة
وأكملهما عشر سنوات، لأن الاتّفاق بين النبيّين الكريمَين كان على ثماني سنوات، فإن أكملها موسى عليه السلامعشراً فذلك كرم منه، وليس بإلزام، وقد قال الله سبحانه وتعالى حاكياً لنا ما شرطه نَبِيُّ اللَّهِ شعيب على الكليم موسى عليه السلام: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾[1].
ولما قضى نَبِيُّ اللَّهِ موسى عليه السلام أكمل الأجلين وأتمّهما ودَّع نَبِي اللَّهِ شعيباً وسار بأهله، ليعود إلى أهله وبلاده التي غادرها خائفاً، وليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولتبدأ مرحلة جديدة من حياة نَبِيّ اللَّهِ موسى عليه السلام يكرّسها هذا النبيّ العظيم للدعوة إلى الله عزّ وجلّ. ولما قام نَبِيُّ اللَّهِ موسى عليه السلام بأعباء الدعوة إلى الله فتحت السيّدة آسية عليه السلام مسامع قلبها للهدى والنور الذي جاء به، ولم تخشَ طغيان فرعون وغطرسته، فناصرت نَبِيَّ اللَّهِ موسى عليه السلام على عدوّ الله فرعون، ثم ثبتت على إيمانها بالله تعالى دون أن يصرفها عن ذلك أيّ صارفٍ، فكان ما فعلته في أسمى درجات الإخلاص وصدق اليقين خصوصاً أنّ الحال الذي كان فيه نَبِيُّ اللَّهِ موسى عليه السلام قد وصفه الله سبحانه في فرقانه العظيم، فقال: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ﴾[2]. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ثلاثة لم يكفروا بالوحي طرفة عين: مؤمن آلِ ياسين، وعلي بن أبي طالب، وآسية امرأة فرعون"[3].
الجهر بالدعوة، ودعاء آسية عليها السلام
رويَ عن الامام جعفر الصادق عليه السلام قال: "لما بُعث موسى عليه السلام إلى فرعون أتى بابه فاستأذن عليه، فضرب بعصاه الباب فاصطكّت الأبواب مفتحةً ثم دخل على
[1] سورة القصص، الآيتان 27-28.
[2] سورة يونس، الآية 83.
[3] الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي، الخصال، ج1، ص174، حديث 230، طبعة: 1، جماعة المدرسين، قم، ورواه أحمد بن علي الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج14، ص160، ترجمة 7468، طبعة:1، دار الكتب العلمية.
48
35
الدرس الرابع: السيّدة آسية عليها السلام من الإيمان إلى الشهادة
فرعون، فأخبره أنّه رسول ربّ العالمين، وسأله أن يرسل معه بني إسرائيل، فقال: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ﴾[1], - أي قتلت الرجل- ﴿وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾[2]، يعني كفرت نعمتي، فتجاوبا الكلام إلى أن قال موسى عليه السلام: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِإِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾, فلم يبق من جلساء فرعون شخص إلّا هرب، ودخل فرعون من الرعب ما لم يملك، فقال: أنشدك الله والرضاع إلّا كففتها عنّي، ثم نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ، فلما أخذ موسى العصا رجعت إلى فرعون نفسه وهمّ بتصديقه، فقام إليه هامان فقال: بينما أنت إله تُعبد إذ صرت تابعاً لعبد، ثمّ قال فرعون للملإ الذين حوله: ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾[3]. وكان فرعون وهامان قد تعلّما السحر، وإنّما غلبا الناس بالسحر وادّعى فرعون الربوبية بالسحر.
فلمّا أصبح بعث في المدائن حاشرين وجمعوا ألف ساحر واختار من الألف ثمانين، فقال السحرة لفرعون قد علمت أنّه ليس في الدنيا أسحر منّا فإن غلبنا موسى فما عندك؟ قال: أشارككم في ملكي، قالوا فإنّ غلبنا موسى وأبطل سحرنا علمنا أن ما جاء به ليس بسحر آمنّا به وصدقناه، فقال فرعون فإن غلبكم موسى صدّقته أنا أيضاً معكم، وكان موعدهم يوم عيد لهم، فلمّا ارتفع النهار جمع فرعون الخلق والسحرة، وكانت له قبة طولها في السماء سبعون ذراعاً وقد كانت لبّست بالفولاذ المصقول، وكانت إذا وقعت عليها الشمس لم يقدر أحد أن ينظر من لمع الحديد ووهج الشمس..."[4].
هكذا كان الموقف في تلك الساعة العظيمة، وأمّا الحال الذي كانت فيه السيّدة آسية بنت مزاحم عليها السلام، فكان كما جاء في حديث مشهور: "وأمرأة فرعون بارزة تدعو الله
[1] سورة الشعراء، الآيتان 18-19.
[2] سورة الشعراء، الآيات 30-32.
[3] سورة الشعراء، الآيتان 34-35.
[4] الثقة علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي، ج2، ص118-120، طبعة:3، دار الكتاب، قم.
49
36
الدرس الرابع: السيّدة آسية عليها السلام من الإيمان إلى الشهادة
بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظنّ أنّها إنّما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنّما كان حزنها وهمّها لموسى عليه السلام"[1].
ثمّ تتابعت الأحداث: "فقالت السحرة لفرعون إنا نرى رجلاً ينظر إلى السماء ولم يبلغ سحرنا السماء وضمنت السحر في الأرض، فقالوا لموسى ﴿إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾[2] ﴿قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ* فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ﴾[3] فأقبلت تضطرب مثل الحيّات ﴿وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾[4] ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى﴾[5] فنودي ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾[6], فألقى موسى العصا، فذابت في الأرض مثل الرصاص ثمّ طلع رأسها وفتحت فاها ووضعت شدقتها العليا على رأس قبة فرعون، ثم دارت والتقمت عصيّ السحرة وحبالهم، وانهزم الناس حين رأوا عِظمها... ودارت على قبة فرعون، فأحدث فرعون وهامان في ثيابهما وشاب رأساهما من الفزع، ومرّ موسى في الهزيمة مع الناس، فناداه الله ﴿خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾[7], فرجع موسى ولفّ على يديه عباءة ثم أدخل يده في فمها، فإذا هي عصا كما كانت ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا﴾[8], لما رأوا ذلك ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾[9]، فغضب فرعون من ذلك وقالَ ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ
[1] الحديث المشهور "بحديث الفتون" يراجع السنن الكبرى للنسائي، ج6 ص402، حديث 11326، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[2] سورة الأعراف، الآية 115.
[3] سورة الشعراء، الآيتان 43-44.
[4] سورة الشعراء، الآية 44.
[5] سورة طه، الآية 67.
[6] سورة طه، الآية 68.
[7] سورة طه، الآية 21.
[8] سورة طه، الآية 70.
[9] سورة طه، الآية 70.
50
37
الدرس الرابع: السيّدة آسية عليها السلام من الإيمان إلى الشهادة
خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾[1] فقالوا له ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا﴾[2], فحبس فرعون من آمن بموسى في السجن حتّى أنزل الله عليهم الطوفان والجراد والضفادع والدم..."[3].
ماشطةُ بنت فرعون وموقف آسية عليها السلام
انتشر أمر نبيّ الله موسى عليه السلام وأصبح المؤمنون برسالته خطراً يهدّد فرعون ومُلكه، فقرّر الطاغية أن يقبض على كلّ من يؤمن بدعوة موسى عليه السلام، وأن يعذّبه حتّى يرجع عن دينه، فصارت سجون فرعون وقصره مقابر للأحياء من المؤمنين باللَّه الموحّدين له، وشمل التعذيب جميع المؤمنين، فزاد بلاؤهم، واشتدّ كربهم مما اضطرّ كثيراً منهم إلى كتمان إيمانه، خوفاً من الطاغية وجبروته واستعلائه في الأرض. وكان في قصر فرعون حينئذٍ امرأة حزقيل "مؤمن آل فرعون" تقوم بتمشيط شعر ابنة فرعون وتجميلها، وكانت هذه الماشطة كزوجها من المؤمنين الذين كتموا إيمانهم في قلوبهم، وذات مرةٍ كانت تمشط ابنة فرعون كعادتها كلّ يومٍ، فسقط المشط من يدها على الأرض، ولما همَّت بأخذه من الأرض، قالت: بسم اللَّه، فقالت لها ابنة فرعون: أتقصدين أبي؟
قالت: لا، ولكن ربّي وربّ أبيك "اللَّه"، فغضبَتْ ابنة فرعون من الماشطة وهدّدتها بإخبار أبيها بذلك، ولكنّ الماشطة لم تخف، فأسرعت البنت لتخبر أباها بأنّ هناك في القصر من يكْفُر به، فلما سمع فرعون ذلك، استشاط غضباً، وأعلن أنّه سينتقم منها ومن أولادها.
فدعاها، وقال لها: أَوَلكِ ربٌّ غيري؟! قالت: نعم، ربّي وربّك اللَّه. وهنا جُنَّ جنونه، فأمر بإحضار وعاء ضخم من نحاس وإيقاد النار فيه، وإلقائها هي وأولادها فيه، فما كان من المرأة إلاَّ أن قالت لفرعون: إن لي إليك حاجة، فقال لها: وما حاجتك؟
[1] سورة الشعراء، الآية 49.
[2] سورة الشعراء ، الآية 51.
[3] الثقة علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي، ج2، ص118-120، طبعة:3، دار الكتاب، قم.
51
38
الدرس الرابع: السيّدة آسية عليها السلام من الإيمان إلى الشهادة
قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا، فقال: ذلك علينا. ثم أمر بإلقاء أولادها واحدًا تِلْوَ الآخر، والأم ترى ما يحدث لفلذات كبدها، وهي صابرةٌ محتسبةٌ، وأولادها يموتون حرقاً، وهي لا تستطيع أن تفعل لهم شيئاً، إلى أن انتهى ذلك إلى ابن لها رضيع كأنها تقاعست من أجله، فأنطقه الله، قال: يا أمه اقتحمي فإنّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت"[1].
وماتت ماشطة ابنة فرعون وأبناؤها شهداء في سبيل الله تعالى، "فلمّا قُتلت الماشطة رأت آسية عليها السلام الملائكة تعرج بروحها، وكشف الله عن بصيرتها.. فلمّا رأت الملائكة قوي إيمانها وازدادت يقيناً وتصديقاً لموسى عليه السلام، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون فأخبرها خبر الماشطة، فقالت له آسية: الويل لك ما أجرأك على الله، فقال لها: لعلّك اعتراك الجنون الذي اعترى الماشطة؟
فقالت: ما بي جنون، ولكنّي آمنت بالله تعالى ربّي وربّك وربّ العالمين، فدعا فرعون أمّها وقال لها: إنّ ابنتك قد أصابها ما أصاب الماشطة، فأقسم لتذوقنّ الموت أو لتكفرنّ بإله موسى، فخلت بها أمّها وأرادتها على موافقة فرعون، فأبت وقالت: أمّا أن أكفر بالله فلا والله، فأمر فرعون حتّى مدّت بين يديه أربعة أوتاد"[2].
وهكذا شرع عدوّ الله بتعذيب المؤمنة الطاهرة سيدة النساء آسية عليها السلام، فقد اعتبر أنّ أول من يجب عليه أن يؤمن به قد كفر بربوبيته المُدعاة، وكفى بذلك دليلاً على كذب فرعون وبهتانه.
شهيدة العقيدة
رفضت السيّدة آسية عليها السلام عيش هذه الحياة وهي متنعّمة ببهارج الملك جاحدة لباريها، وآثرت الإيمان بالله سبحانه وثبتت على إيمانها، ولم تفتنها دنيا فرعون ومباهجها
[1] وأصل مجريات هذه القصة في مسند أحمد بن حنبل، ج5، ص31، حديث رقم 2821، طبعة:2، مؤسسة الرسالة، وقد روى الحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه، وابن أبي شيبة في مصنفه، وجماعة غيرهم من رواية سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس رفعه إلى النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لما أسري بي مرت رائحة طيبة... الحديث"، وفيه قصة الماشطة.
[2] عز الدين علي الشيباني ابن الأثير الجزري، الكامل في التاريخ، ج1، ص161، طبعة:1، دار الكتاب العربي، بيروت.
52
39
الدرس الرابع: السيّدة آسية عليها السلام من الإيمان إلى الشهادة
الزائفة، وتحدّت الطاغية وجبروته وأوتاده، فانتصرت بإيمانها على الطاغوت الذي صار مضرب المثل بجبروته وعتوّه.
وقد ورد في الرواية عن الامام الصادق عليه السلام في تفسير قول الله عز وجل: ﴿وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ﴾[1], لأيّ شيء سُمّي ذا الأوتاد؟ قال: "لأنّه كان إذا عذّب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه ومد يديّه ورجليه، فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض"[2]، وبهذه الكيفية الفظيعة عُذّبت السيّدة آسية بنت مزاحم عليها السلام.
فإنها لما تمسّكت بما آمنت به متخلّية عن كلّ شيء سوى عقيدتها الراسخة كالجبال الرواسي قرّر عندئذ فرعون الانتقام منها ومن دينها، فألقاها في الشمس، ومنع عنها الطعام والشراب، وضربها ضرباً مبرحاً، وآذاها ووكَّل بها من يؤذيها. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "وتد فرعون لامرأته أوتاداً أربعة ثم جعل على بطنها رحىً عظيمة"[3]، فصبرت السيّدة آسية عليها السلام، وتحمّلت أنواع العذاب التي ابتكرها الطاغية، كلّ ذلك طمعاً بلقاء الله وجواره جل وعلا، والحصول على الجنة، وذلك لاعتقادها الكامل بأنّ الله لا يضيع أجر الصابرين، وقبل أن تلتحق روحها الطاهرة ببارئها، ولما أحسّت بدنو أجلها، دعت الله أن يتقبّلها في جواره.
في جوار الله سبحانه
على رغم كلّ فنون التعذيب التي استخدمها عدوّ الله فرعون، وما نتج عن ذلك من آلام كابدتها السيّدة آسية عليها السلام، إلّا أنّ ذلك لم يؤثّر على كمال عقلها، ووفور علمها، وممّا يدلّ على ذلك أدبها الجمّ في مخاطبة الربّ تبارك وتعالى، فإنّها لما قالت: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[4]. طلبت
[1] سورة ص، الآية 12.
[2] الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي، علل الشرائع، ج1، ص70، طبعة: 1، مكتبة داوري، قم.
[3] عبد الرزاق بن همام الصنعاني، مصنف عبد الرزاق، ج11، ص246، حديث 20445، طبعة:2، المكتب الإسلامي، بيروت، وأحمد بن الحسين البيهقي، شعب الإيمان، ج2، ص244، حديث 1638، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[4] سورة التحريم، الآية 11.
53
40
الدرس الرابع: السيّدة آسية عليها السلام من الإيمان إلى الشهادة
جوار الله سبحانه قبل أن تطلب ذلك المنزل في جنّة النعيم، فقالت عليها السلام: ?رَبِّ ?ب?نِ لِي عِندَكَ..?، ولم تقل: (رَبِّ ابْنِ لِي بيتاً عندك)، وبذلك تكون اختارت الجار عزّ وجلّ قبل أن تختار الدار. وقد روي عن سلمان المحمدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "كانت امرأة فرعون تُعذّب، فإذا انصرفوا أظلّتها الملائكة بأجنحتها، وترى بيتها في الجنة وهي تعذّب"[1].
وروي عن ابن عبّاس: "كشف الله عن بصيرتها، فرأت الملائكة وما أعدّ لها من الكرامة، فضحكت، فقال فرعون: انظروا الى الجنون الذي بها تضحك وهي في العذاب، ثم ماتت"[2]. ولا غرابة في هذا الأمر، فهنيئاً لآسية بنت مزاحم عليها السلام جوار الله عزّ وجلّ.
موضع قبرها الشريف
يقول الرحالة الشهير ابن جبير عن الجبّانة المعروفة بالقرافة (مقبرة موجودة في القاهرة في مصر): "هي أيضاً إحدى عجائب الدنيا، لِما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأهل البيت رضوان الله عليهم، والصحابة والتابعين والعلماء والزهّاد والأولياء... فمنها قبر ابن النبيّ صالح، وقبر روبيل بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم أجمعين، وقبر آسية امرأة فرعون رضي الله عنها، ومشاهد أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين، مشاهد أربعة عشر من الرجال وخمس من النساء"[3].
العاقبة للمتقين
السيّدة العظيمة آسية بنت مزاحم عليها السلام اختارت جوار ربّها والقرب منه على أن تكون أنيسة فرعون وعشيقته وهي ملكة مصر، وآثرت بيتاً يبنيه لها ربّها على بيت فرعون الذي فيه ممّا تشتهيه الأنفس وتتمنّاه القلوب ما تقف دونه الآمال، فقد كانت
[1] أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج1، ص205 - 206، طبعة:4، دار الكتاب العربي، بيروت، ورفع هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى لأن مثله لا يدرك بالرأي.
[2] عز الدين علي الشيباني ابن الأثير الجزري، الكامل في التاريخ، ج1، ص161، طبعة:1، دار الكتاب العربي، بيروت.
[3] محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، رحلة ابن جبير، ج1، ص19-20 ، دار ومكتبة الهلال، بيروت.
54
41
الدرس الرابع: السيّدة آسية عليها السلام من الإيمان إلى الشهادة
عزفت نفسها عمّا هي فيه من زينة الحياة الدنيا وهي لها خاضعة.
تعلّقت بما عند ربّها من الكرامة والزلفى فآمنت بالغيب واستقامت على إيمانها حتّى قضت، وهذه القدم هي التي قدمتها إلى أن جعلها الله مثلاً للذين آمنوا ولخّص حالها وما كانت تبتغيه وتعمل له مدى حياتها في مسير العبودية في مسألة حكى عنها وما معناها إلا أنّها انتزعت من كل ما يلهيها عن ربّها ولاذت بربّها تريد القرب منه تعالى والإقامة في دار كرامته"[1].
فلم يخرجها الله سبحانه من دار الدنيا إلّا وهي سيّدة نساء عالمها. وحريّ بكلّ مؤمن ومؤمنة أن يكون من دعائه الذي يبتهل به إلى الله أن يدعو بهذا الدعاء: ?رَبِّ ?ب?نِ لِي عِندَكَ بَي?ت?ا فِي ?ل?جَنَّةِ?، فرضى الله وجواره وجنّته أعظم ما طلبه المؤمنون من ربّهم عزّت آلاؤه، والسيّدة الجليلة آسية بنت مزاحم عليها السلام شهيدة العقيدة وشهيدة الحقّ، وهي نموذجٌ عظيم بقتدي به المؤمنون، ومثل عالٍ لكلّ امرأةٍ مؤمنةٍ صابرةٍ واثقةٍ بالله تعالى، ومصدّقة وعده عزّت آلاؤه.
فالسلام على السيّدة آسية بنت مزاحم في الأوّلين، والسلام عليها في الآخرين، والسلام عليها في الملأ الأعلى إلى قيام يوم الدين.
[1] العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، سورة التحريم، ج19، ص359، طبعة: مؤسسة الأعلمي، بيروت.
55
42
الدرس الرابع: السيّدة آسية عليها السلام من الإيمان إلى الشهادة
المفاهيم الأساسية
- ابتليت السيّدة آسية عليها السلام بالطاغية فرعون، وهو أسوأ الرجال خُلقاً وأكثرهم استعلاءً، وكذلك ابتُليت بأسوأ بيتٍ في الدنيا بيت فِرعون إذ كانوا يعتبرون فرعون ربّهم الأعلى.
- لكن آسية أطاعت بارئها وآمنت به وشكرته، ولم تنجرّ إلى المعاصي التي كانت تسود بيت فرعون، حتّى قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنها لم تكفر بالله طرفة عينٍ.
- لمّا عاد النبي موسى عليه السلام من مدين مع أهله، وأراد دعوة فرعون وملئه إلى توحيد الله، وجرى ما جرى بينهما من محاورة، اتّفقنا على المبارزة بالسحر في يوم العيد على أعين الناس أجمعين.
- لمّا اجتمع الناس والتقى موسى عليه السلام بالسحرة أخذت آسية تدعو بالنصرة لموسى عليه السلام على فرعون وأشياعه وكان حزنها وهمّها له عليه السلام.
- انتشر أمر نبيّ الله موسى عليه السلام وأصبح المؤمنون برسالته خطراً يهدّد فرعون ومُلكه، فقرّر الطاغية أن يقبض على كلّ من يؤمن بدعوة موسى عليه السلام، وأن يعذّبه حتّى يرجع عن دينه، فصارت سجون فرعون وقصره مقابر للأحياء من المؤمنين باللَّه الموحّدين له.
- كانت ماشطة بنت فرعون مؤمنة بالله، فلما تبيّن ذلك لفرعون قتلها حرقًا هي وأولادها. ولمّا علمت آسية بالخبر أنّبت فرعون على جرأته على الله، وكشفت عن إيمانها بالله وكفرها بفرعون.
- لمّا لم يستطع فرعون رد آسية عن إيمانها قرّر تعذيبها بطريقةٍ بشعةٍ، فربطها بالأوتاد ووضع على بطنها رحىً كبيرةً في حرّ الشمس، فكانت ترى الملائكة وترى بيتها في الجنة فتقوى عزيمتها وتضحك، حتّى قضت شهيدةً.
- قبر السيّدة آسية عليها السلام في مصر في منطقة معروفة بالقرافة، فيها قبور العديد من الأولياء والصالحين وأولاد الأنبياء عليهم السلام.
56
43
الدرس الخامس: السيّدة مريم عليها السلام ووالداها
الدرس الخامس:
السيّدة مريم عليها السلام ووالداها
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يبيّن أصول السيّدة مريم عليها السلام ومنبتها الطيب.
- يشرح قصة نذر أمّ السيّدة مريم عليها السلام وحملها بها.
- يتعرّف إلى حادثة ولادة السيّدة مريم عليها السلام.
58
44
الدرس الخامس: السيّدة مريم عليها السلام ووالداها
تمهيد
نحن في رحاب السيدة التي بمولدها قرّت العيون، وسُرّت قلوب الأبكار والعونْ، وافتخرت بيمن مطلعها الأسرة الداوودية. وخفقت بنود السعادة. ونُشرت أعلام الإفادة. وصُبت على شعب إبراهيم بركات الولادة، المنذورة التي على الرغم من عيشها بعد مجيئها فقيرةً في هذا العالم، إلّا أنّها أثرَتْ بفقرها أبناء آدم، فبوليدها ظهرت البركات العجيبة، وبهرت المعجزات الغريبة، وطربت الأرض فرحاً مع السماء، ورتّل كلام الربّ المجيد ترتيلاً لا عن أب للمسيح رعاه، ولا عن أسرة له أنجبته، ولكن عن أمّه التي خلّدت الأمومة في أنصع صفحات تاريخها الوضيء... تلك الأمومة الفذّة، التي تعرّضت لامتحانٍ رهيبٍ، فلم تهن، ولم تتهالك، وإنّما شمخت بكلّ ما في كيانها من إباء متحديةً تخرّص المتخرّصين، ولغط اللاغطين، ماضيةً على طريق المحامد، جاعلةً من الصفاء مادّة للمناهل والموارد، حتّى أذعن بعفافها كلّ ضالٍّ وماردٍ في يوم تحقّقت فيه بشائر النبيّين الأوائل، وأعطيت الطوبى من كلّ الأمم والقبائل لمولاتنا الطهر البتول سيّدة نساء العالمين مريم ابنة عمران عليها أزكى السلام والرضوان.
شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء
لما أراد الله تبارك وتعالى أن يضرب مثلاً لنوره - ولله المثل الأعلى- شبّهه بالمشكاة التي فيها مصباح في زجاجة كأنّها كوكب درّي شديد الإضاءة يستمدّ وقوده من شجر الزيتون لشدّة نقائه وصفائه، فقال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ
60
45
الدرس الخامس: السيّدة مريم عليها السلام ووالداها
لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[1].
ففي أيّ موضعٍ جعل الله تعالى هذه الأمثال التي ضربها لنا؟ قال: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾[2]. ورويَ أنه لما نزلت هذه الآية المباركة سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي بيوت هذه؟ فقال: "بيوت الأنبياء"[3]. من هذه البيوت العظيمة انتخب الله سبحانه مولاتنا الطهر البتول مريم العذراء عليها السلام.
فقد انحدرت عليها السلام من عائلةٍ عريقةٍ معروفة بالفضل والقداسة فيها الاصطفاء والاجتباء الإلهيّ حقيقةً لا يرقى إليها الشكّ أبداً، وتمتدّ جذور هذه العائلة الطيبة بكلّ طهرٍ وعفافٍ إلى أبي الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام. وقد تحدّث عن ذلك الفرقان الحكيم ناقلاً لنا قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ* وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[4].
وفي هذه الآيات المباركة ألحق الله تبارك وتعالى سيدنا المسيح عليه السلام بالخليل إبراهيم عليه السلام، فعيسى من ذريّته المباركة، وهذا الإلحاق كان من جهة اُمّه سيّدة النساء مريم ابنة عمران عليها السلام.
[1] سورة النور، الآية 35.
[2] سورة النور، الآية 36.
[3] فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها - وأشار إلى بيت علي وفاطمة؟ - قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم، من أفاضلها"، يراجع جلال الدين السيوطي، الدر المنثور، ج6، ص203، طبعة دار الفكر، وقال: أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة، ورواه الثعلبي النيسابوري، الكشف والبيان، ج7، ص107، عن أنس بن مالك، وبريدة الأسلمي، وذكره الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل، والآلوسي في روح المعاني، وغيرهم.
[4] سورة الأنعام، الآيات 83 - 87.
61
46
الدرس الخامس: السيّدة مريم عليها السلام ووالداها
هذا وقد جاء ذكر السيّدة مريم عليها السلام صراحةً في القرآن الكريم، حيث قدّمها لنا قدوةً ربانيةً وأنموذجاً إلهيّاً، ومنبعاً فياضاً بالقيم السامية، وذلك بعد أن صرح باسمها دون غيرها من النساء، وأفرد لها سورة كاملة باسمها.. من آيات ثماني وتسعين..، ومن قبلها كانت ثانية سور القرآن وعدد آياتها مائتان باسم أهلها "آل عمران"..
والد السيّدة العذراء مريم عليها السلام
ذكر الطاهر عمران في قول الله عزّت آلاؤه: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾[1]، وورد اسم عمران في آية ثانية قال الله تعالى فيها: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[2].
وعمران المذكور في هذه الآية هو والد السيّدة مريم بقرينة ما ذُكر في الآية التي بعدها، حيث قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾[3], ومن آية الاصطفاء نعرف عظمة الأب الذي انحدرت منه السيّدة مريم عليها السلام، فهو من الذين اصطفاهم الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[4].
وقد جاء في رواية عن ابن عباس: "وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم. وآل عمران وآل ياسين وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الله ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾[5], وهم
[1] سورة التحريم، الآية 12.
[2] سورة آل عمران، الآية 35.
[3] سورة آل عمران، الآية 36.
[4] سورة آل عمران، الآيتان 33-34.
[5] سورة آل عمران، الآية 68.
62
47
الدرس الخامس: السيّدة مريم عليها السلام ووالداها
المؤمنون"[1]. وقد حظي عمران بالاصطفاء الإلهيّ العظيم[2]، فهو صفوة الله في زمانه، وعلى هذا الأساس قدّمه القرآن الكريم لنا.
وقد سُئل مولانا الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام عن عمران عليه السلام أكان نبيّاً؟ فقال: "نعم كان نبيّاً مرسلاً إلى قومه، وكانت حنّة امرأة عمران وامرأة زكريّا أختين"[3].
والدة السيّدة العذراء مريم عليها السلام
السيّدة حنّة بنت فاقوذا امرأة عمران. أضافها الله سبحانه إلى عمران العظيم والد السيّدة مريم عليها السلام، فقال في محكم كتابه: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[4]. وهذه الإضافة يقصد منها في القرآن الكريم تشريف والدة مريم عليها السلام حيث جاءت إضافتها إلى عمران عليه السلام عقب ذكر اصطفاء الله له ولآله على العالمين، وهي أيضاً من آله من جهة نسبها، ومن جهة إيمانها.
وكانت عليها السلام امرأة دقيقة التأمّل كثيرة الدعاء والمناجاة معروفة بورعها واجتهادها في عبادة الله سبحانه، وقد عاشت في كنف زوجها سنواتٍ طويلةً ولم تُرزق ولداً فكانت تتألّم بمرارة من العقم، وتتحسّر على مولود تربّيه في أحضانها يكون خادماً لبيت الملك الديان، ويبقى به الذكر الطيب لآل عمران عليه السلام.
وكانت السيّدة حنَّةُ متميّزةً بين نساء قومها، معروفةً بعفّتها وفضلها، وقد أشار إلى
[1] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، ج3، ص1263، باب قول الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ (سورة مريم، الآية 16).
[2] وبعيد جداً أن يكون عمران المذكور في آية الاصطفاء هو والد كليم الله موسى عليه السلام، وذلك لأنّه لم يرد له ذكر في القرآن الكريم، وهو في كتب الأنساب والتاريخ عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوي ابن نبي الله يعقوب عليه السلام، وأما عمران والد السيدة مريم، فقد ذُكر في سورتين من كتاب الله تعالى، وبآيات ثلاث هي التي أوردناها. أضف إلى ذلك أنّ الفاصل الزمنيّ بين عمران والد نبيِّ الله موسى عليه السلام، وعمران والد السيدة مريم عليها السلام ثمانماية سنة على أقل الروايات التي وردت في هذا الشأن، وإنه ليقنعنا معشر المسلمين أن نقول: إن عمران والد السيدة مريم عليها السلام غير عمران والد النبيّيْن موسى وهارون عليه السلام، حيث أخبرنا بذلك القرآن المُنَزَّل من عند الله، فيجب علينا تصديقه، وعدم الالتفات إلى الشبهات.
[3] قطب الدين الراوندي سعيد بن هبة الله، قصص الأنبياء عليهم السلام، ص، طبعة:1، مركز الدراسات الإسلاميّة، مشهد.
[4] سورة آل عمران، الآية 35.
63
48
الدرس الخامس: السيّدة مريم عليها السلام ووالداها
ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾[1]. ففي هاتين الآيتين حكى القرآن الكريم ما كان عليه الناس من نظرة احترام وتقدير لطهارة وعفّة عمران وحنة عليهما السلام، ولذلك كانوا مستهجنين من ظاهر ما جاءت به السيّدة مريم عليها السلام، لأنّ منبت الطهر والعفّة لا يثمر إلاّ طهراً وعفّة.
حمل حنّة بالسيّدة مريم عليها السلام
روي في هذا الشأن العظيم عن عبد الله بن عباس[2] أنّه قال: "ذلك أنّ أمّ مريم حنّة كانت جلست عن الولد والمحيض، فبينما هي ذات يوم في ظلّ شجرةٍ إذ نظرت إلى طير يزقّ فرخاً له، فتحركت نفسها للولد، فدعت الله أن يهب لها ولداً، فحاضت من ساعتها، فلما طهرت أتاها زوجها"[3].
قال الإمام الصادق عليه السلام[4]: "إن الله تعالى أوحى إلى عمران إنّي واهبٌ لك ذكراً سوياً مباركاً يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل، فحدّث عمران امرأته حنّة بذلك، وهي أمّ مريم، فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلام"[5].
ويقول عبد الله بن عبّاس: "فلما أيقنت - إمرأة عمران - بالولد قالت: لئن نجّاني الله، ووضعت ما في بطني لأجعلنّه محرراً[6]، وبنو ماثان (والد عمران) من ملوك بني إسرائيل
[1] سورة مريم، الآيتان 27-28.
[2] الحديث موقوف على عبد الله بن عباس، ولكن مثل هذا الخبر لا يُدرك بالرأي، أي: لا يمكن لابن عباس أن يتفوه به لو لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتأمل.
[3] وإطلاق المحرّر على هذا المعنى إطلاق تشريف لأنّه لما خلص لخدمة بيت المقدس، فكأنّه حُرر من أسر الدنيا وقيودها إلى حرية عبادة الله تعالى.
[4] هو القائل: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ"، يراجع الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1، ص53، باب: رواية الكتب والحديث، وفضل الكتابة والتمسك بالكتب.
[5] الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1، ص535، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب: في أنه إذا قيل في الرجل شيء فلم يكن فيه، وكان في ولده أو ولد ولده، فإنه هو الذي قيل فيه، حديث رقم 1.
[6] علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج70، ص77.
64
49
الدرس الخامس: السيّدة مريم عليها السلام ووالداها
من نسل داوود، والمحرّر لا يعمل للدنيا ولا يتزوّج، ويتفرّغ لعمل الآخرة ويعبد الله، ويكون في خدمة المعبد.
ولم يكن يُحرّر في ذلك الزمان إلّا الغلمان، فقالت (حنة) لزوجها ليس جنس من جنس الأنبياء إلّا وفيهم محرّر غيرنا، وإني جعلت ما في بطني نذيرة، تقول: قد نذرت أن أجعله لله فهو المحرر"[1]. وعلم بنو اسرائيل ببشارة الله لصفيّه عمران وفرح جميع المؤمنين واستبشروا منتظرين قدوم هذا المولود العظيم.
وأمّا حنّة امرأة عمران عليها السلام فقد نذرت لله تعالى نذرًا مباركاً ميموناً، فخلّد الباري لها نذرها في قرآن يتلى أناء الليل وأطراف النهار: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[2]. والمتدبّر في قولها: ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ يجد حنَّة العظيمة في تفانيها، لم تُؤْثر نفسَها على ربّها، بل آثرت ربّها على ما تحبّ، فكلّ الدموع، والآهات، والحسرات، والقلب المتفطّر شوقاً للأمومة وحنانها، لم تحل بينها وبين أن تقدّم ذلك الأمل الذي كُرّمت به إلى أغلى من تحبّ، "ربّ العالمين"، مكتفيةً بأمومة تقدّم ولدها خدمةً لبيت الله، راجيةً التفضّل والقبول..
مولد سيدة نساء العالمين مريم عليها السلام
بعد أن بان الحمل على السيّدة حنة عليها السلام، واشتهرت بشارة عمران بين الناس، كانت السيّدة الجليلة على موعد مع الحزن، فهذا الصفيّ عمران عليه السلام على فراش الاحتضار قد نزل به الموت، وأمر الله أعلى وإليه المصير، فما لبث عمران عليه السلام أن فاضت روحه
[1] علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج70، ص77.
[2] سورة آل عمران، الآية 35.
65
50
الدرس الخامس: السيّدة مريم عليها السلام ووالداها
الطاهرة ولحقت ببارئها[1]، وكعادتها استسلمت حنة لقضاء الله وقدره، فلم تتذمر ولم تشتكِ، ولم تعترض ولم تفعل إلا ما يرضى الرب تبارك وتعالى، ووجدت في جنينها ما يخفِّف عنها عوائد كلّ الأحزان، فها هي تستمع إلى دقات قلبه المبارك، وتستشعر فيه السلوى عن والده الذي غيبه الموت، فلم تزل حنة على ذلك إلى أن جاء اليوم الذي تحققت فيه براهين الرجاء، وكانت حنة فيه قد أتمّت مدّة حملها.
فلمّا حضرت ولادتها وحان وضعها تولّت أمرها أختها زوجة نبيِّ الله زكريا عليه السلام، وقوابل من نساء آل داوود عليه السلام، فتباشرت الحور العين لتلك الولادة، واحتفت زمر الملائكة بزيادة التقديس والتسبيح، فلما لاح صباح المنقبة الغرّاء، أعاد الله تألق شمس البرارة مع مشرق سيدة النساء الطاهرة البتول، وولدت "مريم عليها السلام"، نذيرة الرب وابنة البيت المقدس، وهي مجلّلة بالنور والبهاء.
عظمة امرأة عمران وجلالة قدرها
وأمّا الجليلة حنة عليها السلام فبرحمة الله تعالى وبركته المصبوبة عليها وعلى ابنتها الميمونة مريم، فقد كانت لا تشكو وجعاً ولا مغصاً، ولا يعرض لها ما يعرض للنساء بعد الولادة، فكانت بمنتهى العزم والإقدام، والله تعالى يقول: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى﴾[2]، وجملة ﴿أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ هي من كلام الله الخالص لا من كلامه المحكيّ عن امرأة عمران، وهي جملة اعتراضية، وسرّها البلاغي الذي جيء بها من أجله هو: "دفع توهّم غير المراد" حتّى لا يقع في فهم أحد أن قول امرأة عمران: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى﴾ إخبار منها لله بأمر هو لا يعلمه- حاشا لله- بل إنّها تعتذر إلى الله عَزَّتْ آلاَؤُهُ، وتتحسّر على عدم استطاعتها الوفاء بنذرها، لأنها نذرت أن تهب ما في بطنها لخدمة بيت الله
[1] عدة من الاحاديث تشير الى أن مريم عليها السلام ولدت وهي يتيمة الأب، منها ما روي عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه السلام أنها: "ايتمت من ابيها"، يراجع محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي، تفسير العياشي، ج1، ص174، تفسير سورة آل عمران، طبعة المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، والعلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج14، ص192.
[2] سورة آل عمران، الآية 36.
66
51
الدرس الخامس: السيّدة مريم عليها السلام ووالداها
في أورشليم (القدس)، والذي يصلح لتأدية هذه الخدمة الذكور دون الإناث.
وقد أسلفنا أنّ حنّة لما حملت بمريم عليها السلام كانت تظنّ أنّ جنينها الذي تحمله في أحشائها ذكر، وفي ذلك يقول الإمام الصادق عليه السلام: "فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلام، ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى﴾ وليس الذكر كالأنثى، أي لا تكون البنت رسولاً، يقول الله عز وجل: ﴿وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾، فلما وهب الله تعالى لمريم عيسى كان هو الذي بشّر به عمران ووعده إياه، فإذا قلنا في الرجل منا شيئاً وكان في ولده أو ولد ولده، فلا تنكروا ذلك"[1].
وقد ردّ الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام على أحد الجاحدين، فقال: "أما علمت أنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ذكراً، فوهب له مريم، ووهب لمريم عيسى، فعيسى من مريم ومريم من عيسى، وعيسى ومريم شيء واحد..."[2].
وقد صوّر القرآن الكريم لنا عزم وإقدام السيّدة الجليلة حنّة بقول الله تعالى المنقول عنها: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾[3]. وهذا وصف يؤكّد نقاءَ روح حنَّة، وإيمانها المطلق بربّها، وهي تختار لمولودها اسماً مرضياً ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾[4], وهو اسم يرمز إلى الخدمة والعبادة[5]، وما كانت امرأة عمران تقصد من ذلك الاسم إلاّ الخادمة لبيت الله والعابدة، لأنّ الخدمة لا تنفكّ عن العبادة، وهذا هو الأحبّ إلى قلب الطاهرة حنَّة، فهي نموذج يقتدى به في علاقة العبد مع ربّه!
ثمّ توجّهت إلى الله بثقة المطمئنّ قائلة: ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ
[1] الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1، ص535، كتاب الحجة، أبواب التاريخ، باب: في أنه إذا قيل في الرجل شيء فلم يكن فيه، وكان في ولده أو ولد ولده، فإنه هو الذي قيل فيه، حديث رقم 1.
[2] الشيخ الصدوق محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص155، حديث رقم3564، باب: نوادر العتق،
[3] سورة آل عمران، الآية 36.
[4] سورة آل عمران، الآية 36.
[5] وقد قيل: مريم يعني الخادمة، وقيل: مريم يعني العابدة، وقيل: مريم هو اسم آرامي معناه (السيّدة) أو (الأميرة). وكل ما ورد في معاني اسم السيدة العذراء مريم عليها السلام يصرح بأنه اسم مبارك ميمون محفوظ في شغاف القلوب وفي مقل العيون.. ووصف السيادة قرين اسمها.. كلما نطقه المؤمنون الصادقون.
67
52
الدرس الخامس: السيّدة مريم عليها السلام ووالداها
الرَّجِيمِ﴾[1]. وما تعويذها لمريم عليها السلام وذرّيتها إلاّ ليبقى الطهر، ولتتحقّق البشارة بالمنقذ المُخلّص والموعود المنتظر. وقد قبل الله نذرها، وهذا ما دلّ عليه قول الله تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾[2]. هذه هي حنَّة أمّ مريم، وجدّة السيد المسيح عليه السلام: إيمان، وطهر، وتسليم، ويقين، وتوكّل، فيجب على كلّ من يذكر السيّدة العذراء مريم عليها السلام ألّا ينسى الدور العظيم لأمّها حنّة عليه السلام.
[1] سورة آل عمران، الآية 36.
[2] سورة آل عمران، الآية 37.
68
53
الدرس الخامس: السيّدة مريم عليها السلام ووالداها
المفاهيم الأساسيّة
- انحدرت السيّدة مريم عليها السلام من عائلةٍ عريقةٍ معروفةٍ بالفضل والقداسة فيها الاصطفاء والاجتباء الإلهيّ، وتمتدّ جذور هذه العائلة الطيبة إلى أبي الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام.
- أُلحق النبيّ عيسى عليه السلام بسلالة النبيّ إبراهيم عليه السلام من جهة أمّه السيّدة مريم عليها السلام.
- ذُكر الطاهر عمران في القرآن الكريم مرّاتٍ عدّة، وقد صرّح القرآن بأنّه مصطفًى هو وذرّيته على العالمين كحال آل إبراهيم عليه السلام.
- جاء في الروايات أنّ عمران عليه السلام كان من الأنبياء وكان من صفوة أهل زمانه.
- السيّدة حنّة بنت فاقوذا امرأة عمران عليه السلام هي أمّ السيّدة مريم عليها السلام، وكانت عليها السلام امرأةً دقيقة التأمّل كثيرة الدعاء والمناجاة معروفة بورعها واجتهادها في عبادة الله سبحانه، متميّزةً بين نساء قومها، معروفةً بعفّتها وفضلها.
- عاشت حنّة في كنف زوجها سنواتٍ طويلةً ولم تُرزق ولداً فكانت تتألّم بمرارة من العقم، وتتحسّر على مولود تربّيه في أحضانها يكون خادماً لبيت الملك الديّان، ويبقى به الذكر الطيّب لآل عمران عليه السلام.
- دعت حنّة ربّها أن يهبها مولودًا تنذره للمعبد، فاستجاب الله دعاءها، وكان ولدها لا يزال جنينًا في بطنها عندما لحق عمران عليه السلام بالرفيق الأعلى.
- لما حضرت حنّة تولّت أمرها أختها زوجة نبيِّ الله زكريا عليه السلام، وقوابل من نساء آل داوود عليه السلام، فتباشرت الحور العين لتلك الولادة، واحتفت زمر الملائكة بزيادة التقديس والتسبيح.
- تحسّرت السيّدة حنّة عند وضع طفلتها بعدم قدرتها على وفاء نذرها، فالأنثى لا تكون محرّرًا ولا تكون رسولًا، لكنّ ربّها تقبّلها بقبولٍ حسنٍ وقبلَ من حنّة وفاءها بنذرها بابنتها مريم عليها السلام.
69
54
الدرس السادس: حياة السيّدة مريم عليها السلام
الدرس السادس:
حياة السيّدة مريم عليها السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يذكر المراحل التي مرّت بها حياة السيّدة مريم عليها السلام.
- يتعرّف إلى قصّة حمل ووضع السيّدة مريم عليها السلام للنبيّ عيسى عليه السلام.
- يبيّن الأحداث التي جرت على السيّدة مريم عليها السلام عند مواجهتها لقومها حتّى وفاتها.
71
55
الدرس السادس: حياة السيّدة مريم عليها السلام
مريم في بيت الربّ تبارك وتعالى
روي عن ابن عباس أنّه قال: "خشيت حنّة أمّ مريم أن لا تُقبل الأنثى محرراً، فلفّتها في الخرقة ووضعتها في بيت المقدس عند القرّاء، فتساهمَ القراء عليها لأنّها كانت بنت إمامهم، وكان إمام القراء من ولد هارون، أيّهم يأخذها، فقال زكريا وهو رأس الأحبار: أنا آخذها وأنا أحقّهم بها خالتها عندي - يعني أمّ يحيى -، فقال القرّاء: وإن كان في القوم من هو أفقر إليها منك، ولو تُركت لأحقّ الناس بها تركت لأبيها، ولكنها محرّرة، غير أنّا نتساهم عليها، فمن خرج سهمه فهو أحقّ بها، فقرعوا ثلاث مرات بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي أيّهم يكفل مريم، يعني أيّهم يقبضها، فقرعهم زكريا عليه السلام، وكانت قرعة أقلامهم أنّهم جمعوها في موضع، ثمّ غطوها، فقالوا لبعض خدم بيت المقدس من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم: أدخل يدك، فأخرج قلماً منها، فأدخل يده فأخرج قلم زكريا، فقالوا: لا نرضى، ولكن نلقي الأقلام في الماء، فمن خرج قلمه في جرية الماء ثمّ ارتفع فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم في نهر الأردن، فارتفع قلم زكريا في جرية الماء، فقالوا: نقترع الثالثة، فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها، فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء، وارتفعت أقلامهم في جرية الماء، وقبضها عند ذلك زكريا عليه السلام"[1].
فتولّى شأنها كلّه، وأدخلها بيت الله، وبنى له فيه المحراب، ولئن غيَّب الموت عمران، وحُرِمت مريم عليها السلام عطف الأبوة، فهذه النبوّة بخدمتها في ظلّ الألطاف الإلهيّة والعناية الربّانيّة ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
[1] الحافظ ابن عساكر الدمشقي، تاريخ مدينة دمشق، ج70، ص78.
73
56
الدرس السادس: حياة السيّدة مريم عليها السلام
مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾[1]، وما ذُكر من كفالة زكريّا عليه السلام للطاهرة العذراء هو المنسجم مع طبيعة الأمور، فهي أُنثى نذرتها أمّها لبيت الله، فلا يُعقل أن تبقى الطفلة المنذورة من دون عناية ورعاية، وإلا كيف سيكون حالها في بيت الربّ تبارك وتعالى؟
صور من أحوال السيّدة العذراء
بعد رضا الربّ تبارك وتعالى بنذر حنة عليها السلام، وقبول المنذورة المباركة مريم جاء دور إنباتها عليه السلام بالعناية الإلهيّة، فنبتت نباتاً حسناً في بدنها وخَلقِها وأخلاقها، ونشأت برعاية الله وتربيته لها، وترعرعت على عين نبيّ الله زكريا عليه السلام، وفي ذلك يقول عزت آلاؤه: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾[2].
والإنبات هنا فيه إشارة إلى طريق الكمال الذي رسمه الله تعالى، وجعل السيّدة العذراء مريم عليها السلام تسلكه، وفيه إشارة أيضاً إلى الاستعدادات الكامنة فيها للسّير في طريق التناهي والتمام. وقد روي عن خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلّا أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم"[3].
وفي كفالة نبيِّ الله زكريا عليه السلام للسيدة العذراء مريم عليها السلام يقول ابن عباس: "ربّاها تربيةً حسنةً في عبادة وطاعةٍ لربّها حتّى ترعرعت، وبنى لها زكريا محراباً في بيت المقدس، وجعل بابه في وسط الحائط لا يُصعد إليها إلّا بسلّم، وكان استأجر لها ظئراً[4]، فلما تمّ لها حولان طعمت وتحرّكت، فكان يغلق عليها الباب والمفتاح معه لا يأمن عليه أحداً، لا يأتيها بما يصلحها غيره حتى بلغت"[5].
[1] سورة آل عمران، الآية 44.
[2] سورة آل عمران، الآية 37.
[3] قال الحافظ ابن عساكر في كتابه الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين، ص84، طبعة:1، دار الفكر، دمشق: روى ابن رزين في مجموع الصحاح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع"، وساق الحديث، وأحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ج9، ص335، طبعة:1، دار إحياء التراث العربي.
[4] الظئر: المرضع لولد غيرها في الناس، والظئر: هي المرأة الاجنبية تحضن ولد غيرها.
[5] ابن عساكر الدمشقي، تاريخ مدينة دمشق، ج70، ص79.
74
57
الدرس السادس: حياة السيّدة مريم عليها السلام
وقد روي عن ابن عباس أيضًا أنّه قال: "لمّا بلغت تسع سنين صامت النهار وقامت الليل، وتبتّلت حَتَّى أَرْبَتْ على الأحبار"[1] أي: تفوّقت عليهم، وقال المفسّرون: "اتّخذ لها زكريا مكاناً شريفاً من المسجد لا يدخله سواه، فكانت تعبد الله فيه، وتقوم بما يجب عليها من سدانة (خدمة) البيت إذا جاءت نوبتها، وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها حتّى صارت يُضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل، واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة والصفات الشريفة... ويقال إنّها كانت تقوم في الصلاة حتّى تفطّرت قدماها"[2].
وكان نبيُّ الله ذكريا عليه السلام قد كبرت سنّه، وليس له ولد، وامرأته عاقر. والذي يظهر أنّ سلوك السيّدة مريم (عليها السلام) وعبادتها وتفانيها في الحقّ ورزق الله إليها قد أثّرت في نبيّ الله زكريّا عليه السلام، فانطلق من جديد يدعو الله ويناجيه. وقد رويَ عنّ ابن عباس: "كان زكريا يستأذن عليها، فتأذن له فيدخل عليها يسلّم عليها، فتأتيه بمكتل عندها، فتضعه بين يديه، فيجد فيه زكريا عنباً في غير حين العنب، فيقول ﴿يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا﴾[3], فرغب زكريا في الولد، فدعا ربّه، فأوحى الله إليه يبشره بيحيى"[5]، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾[6].
ومرّت السنون على الصدّيقة الطاهرة مريم عليها السلام، وهي في انقطاعها، وفيّةً لنذر أمّها الصالحة، ملتزمةً بالعبادة، طائعةً، حتّى بلغت سنّ الشباب، وها هي ملائكة الله تخاطبها وتخبرها باصطفاء الله لها وتطهيره إياها واصطفاءها مرّةً بعد مرّةٍ، وحثّوها على مزيد من الطاعة والعبادة والصلاة، فقالوا لها: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ
[1] محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، تفسير البحر المحيط، ج3، ص121، طبعة: دار الفكر، بيروت.
[2] إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج2، ص58-59، طبعة: دار الفكر.
[3] سورة آل عمران، الآية 37.
[4] سورة آل عمران، الآية 37، أي من الجنة وهذه تكرمة من الله تعالى لها، وإن كان ذلك خارقاً للعادة، فإنه يجوز أن تظهر الآيات الخارقة للعادة على غير الأنبياء من الأولياء والأصفياء.
[5] ابن عساكر الدمشقي، تاريخ مدينة دمشق، ج70، ص83،
[6] سورة آل عمران، الآية 38.
75
58
الدرس السادس: حياة السيّدة مريم عليها السلام
وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾[1].
فانقطعت الطاهرة عن الناس وصارت قلمّا يُرى شخصها لانشغالها بعبادة الله سبحانه، فأكبرت الملائكة سيدتنا الطهر البتول مريم، وبشّرتها بأنّ الله أراد لها أمومةً فريدةً ما حدثت لامرأة قبلها ولا تحدث لامرأة بعدها، وتتحقّق بذلك بشارة أبيها الصفيّ عمران عليه السلام: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ...﴾[2].
حمل السيّدة مريم عليها السلام
ضربت السيّدة مريم عليها السلام على نفسها الحجاب، وابتعدت عن الناس، وأصبح لا يراها أحدٌ ولا ترى أحدًا، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا﴾[3].
وذات يوم وبينما مريم غارقةٌ في تفكّرها وتأمّلاتها، يتلألأ نورها، فإذا بها ترى إنساناً لا تدري كيف اخترق الحجاب ودخل عليها. وقد صوّر القرآن الكريم ما رأت بقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾[4], وإنّما ظهر لها في صورة البشر، فهو كذلك في ظرف إدراكها لا في نفسه، فخاطبته باستعاذتها، مستعملةً اسم الرحمن، لتكون الرحمة هي السبيل في مثل هذه المواقف الصعبة، فإن كان من أهل الرحمة، والتقى، تأثّر بالاستعاذة[5]، وكشف هويّته الصادقة، وما يحمل من رسالة، ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن
[1] سورة آل عمران، الآيتان 42-43.
[2] سورة آل عمران، الآيات 45-49.
[3] سورة مريم، الآيتان 16-17.
[4] سورة مريم، الآية 17.
[5] روي عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: "علمت أن التقيّ ينهاه التقى عن المعصية"، يراجع الفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج6، ص411، طبعة: مؤسسة الأعلمي، بيروت.
76
59
الدرس السادس: حياة السيّدة مريم عليها السلام
مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا﴾[1], فأجابها: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾[2].
والله تعالى أعلم بحالها في ذلك الوقت، إلّا أنّها ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾[3], ويتوجّه إليها الملاك: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾[4]، إشارةً إلى تحتّم القضاء في أمر هذا الغلام الزكيّ، فلا يردّ بإباء أو دعاء.
فتقدّم الملاك ونفخ فيها من روحه: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِين﴾[5], والأغراض الإلهية أعظم من أن يحيط بها فهم أو يفي بتمامها لفظ [6].
حمل السيّدة مريم عليها السلام
اختلفوا في حمل مريم عليها السلام، وهل حملتْ حَمْلًا كسائر النساء أخذ مدّته المعهودة، أمْ أنّ حَمْلَها كان على غير عادة النساء، فحملت في زمنٍ قريبٍ ليس بالفترة التي يعهدها النساء في حملهنّ.
لم يرد نصّ قطعيّ في تحديد فترة حملها بالسيد المسيح عليه السلام، وجُلّ ما ورد في ذلك اختلف فيه المفسرون والرواة، فقيل: حملت ساعةً واحدةً، وقيل: تسع ساعات وكلّ ساعةٍ بشهرٍ، وقيل: ستة أشهرٍ، وقيل إنها حملت به ثمانية أشهرٍ، وروي عن ابن عباس أنّه قال:
[1] سورة مريم، الآية 18.
[2] سورة مريم، الآية 19.
[3] سورة مريم، الآية 20.
[4] سورة مريم، الآية 21.
[5] سورة الأنبياء، الآية 91.
[6] ﴿وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ قد ذكر الباري عزت آلاؤه بعضاً من ماهية الغرض من خلق السيد المسيح عليه السلام على هذا النهج الخارق للعادة، وهو معطوف على مقدّر، أي خلقناه بنفخ الروح من غير أب لكذا وكذا، ولنجعله آية للناس بخلقته ورحمة منا برسالته، والآيات الجارية على يده، حذف بعض الغرض، وعطف بعضه المذكور عليه كثير في القرآن كقوله تعالى: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ (سورة الأنعام، الآية 75)، وفي هذه الصنعة إشارة إلى أن الأغراض الإلهية أعظم من أن يحيط بها فهم أو يفي بتمامها لفظ.
77
60
الدرس السادس: حياة السيّدة مريم عليها السلام
فما هو إلّا أن حملته فوضعته[1]، وروي عنه خلاف ذلك بروايتين متعارضتين[2].
وروي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنّ جبرائيل تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة، فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر، فخرجت من المستحمّ، وهي حاملٌ مُثقلٌ، فنظرت إليها خالتها، فأنكرتها، ومضت مريم على وجهها مستحيةً من خالتها، ومن زكريا"[3]. وهناك من قال: "إنّ الآية الكريمة دلّت صريحًا على أنّ الحمل والوضع كانا متقارَبيْن على الفور، من غير مهلةٍ، فالمولى سبحانه وتعالى استخدم حرف العطف الفاء ﴿فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾, فالآية حسمت الخلاف إذا نظر في استخدام الحروف العاطفة فيها، ولكنه رُدّ أيضًا على هذا الكلام"[4]، والله تعالى أعلم.
مولد السيّد المسيح عليه السلام
بعد أن أدّى الروح الأمين ما كلّفه الله تعالى به: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾[5], غاب الملاك عن عين الطاهرة البتول، فأدركت عليها السلام أنّها مقبلةٌ على أيّامٍ صعبةٍ، وأنّها تتحمّل مسؤوليّة كبرى. كيف ستجمع بين ما بشّرتها به الملائكة من أنّها تحمل في أحشائها روح الله وكلمته، وبين موقفها بين يدي الناس، قلقةً، مضطربةً، خائفةً.
يعزّ عليها أن لا تُصَدَّق! ومن يصدّق؟ حملٌ وطفلٌ من غير أبٍ، فتورات عن الأنظار، ومرّ وقت حملها، وأحسّت مريم بآلام الحمل وهي تسير إلى مكانٍ قصيٍّ ﴿فَحَمَلَتْهُ
[1] ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج2، ص65.
[2] المصدر نفسه.
[3] الفضل بن الحسن الطوسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج6، ص415-416، العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج14، ص225.
[4] ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج2، ص66.
[5] سورة التحريم، الآية 12، والنفخ فيها من الروح كناية عن عدم استناد ولادة عيسى عليه السلام إلى العادة الجارية في كينونة الولد من تصور النطفة أولاً ثم نفخ الروح فيها فإذا لم يكن هناك نطفة مصورة لم يبق إلا نفخ الروح فيها، وهي الكلمة الإلهية كما قال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ "سورة آل عمران، الآية 59، أي مثلهما واحد في استغناء خلقهما عن النطفة، يراجع العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، ج17، ص313.
78
61
الدرس السادس: حياة السيّدة مريم عليها السلام
فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾[1], وجلست تحت جذع نخلةٍ تفكّر في أمرها، وما سيكون عليه حالها بعد ولادتها، واقتربت ساعة الولادة وبشائر المولود.
إنّها وحيدةٌ في صحراء لا عشبَ فيها، ولا ماء، ولا ظلّ، ولا أحد، والحامل في لحظات الوضع، بحاجة إلى مساعدٍ. يا لها من لحظات، ﴿فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾[2], فتمنت أن لو كانت قد ماتت قبل أن يحدث لها ما حدث. ويصوّر القرآن الكريم هذا المنظر بقوله تعالى: ﴿قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا﴾[3]. - وروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: "لأنّها لم ترَ في قومها رشيداً ذا فراسة ينزهها من السوء"[4]،- وبينما هي على هذا الحال "ولد المخلّص، والسيّد العظيم" نفخةً نورانيّةً من أحشاءٍ نورانيّةٍ.
وإذا بمريم عليها السلام تسمع صوتاً رقيقاً، يدخل قلبها، وتلتفت. يا إلهي مَنْ صاحب الصوت؟ إنه يناديها من تحتها[5]، ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾[6]، قيل ضرب جبرائيل عليه السلام برجله، فظهر ماء عذب. والمرويّ عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: "ضرب عيسى برجله، فظهرت عين ماء تجري"[7].
[1] سورة مريم، الآية 22.
[2] سورة مريم، الآية 23.
[3] سورة مريم، الآية 23.
[4] علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي، النكت والعيون، ج3، ص364، طبعة: دار الكتب العلمية، بيروت، والفضل بن الحسن الطوسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج6، ص415-416.
[5] يقول أكثر المفسِّرين إنّ الذي ناداها من تحتها هو عيسى المسيح أو جبريل عليهما السلام، وعلّل بعضهم هذا القول بأن الفاعل مستتر، وقال آخرون إنّ الذي ناداها هو جبرائيلعليه السلام لأنّ العذراءعليها السلام لحظة ولادتها كانت أعلى الأكمة، وجبريل عليه السلام كان تحتها أسفل الأكمة، ولكن من تأمّل الآيات الواردة في هذا الشأن العظيم يعلم أنّ كلام جبريل قد خُتم بما نقله الله تعالى عنه: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾، وجاء بعده قول الله سبحانه: ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾ ومن استنطق سياق الآيات التي أتت بعد هذه الآية المباركة، وأعاد الضمائر إلى الآية السالفة الذكر يجزم أنّ الذي نادى البتول العذراء من تحتها هو ولدها العظيم عيسى المسيح عليه السلام، وذلك أشد إزالة لما خامر قلبها من الاغتمام.
[6] سورة مريم، الآيتان 24-25.
[7] الفضل بن الحسن الطوسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج6، ص415-416.
79
62
الدرس السادس: حياة السيّدة مريم عليها السلام
نظرت الطهر البتول فرأت من آيات الله ما يردّ إليها يقينها، ويملؤها ثقةً تواجه بها العالم، وتتحدّى الدنيا، إنّه السيد المسيح الذي بُشرت به يطلب منها هزّ جذع النخلة (وقيل إنها كانت يابسة) فتساقط عليها الرّطب، ﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا﴾[1], فأكلت وشربت وقرّت عيناً. ولكن هذا لم يكن آخر المطاف، بل علم الله الخبير بالهواجس التي تدور في نفس مريم وخوفها من مواجهة قومها بهذا المولود، ولذلك أمرها أن تصوم عن الكلام، ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾[2], فامتثلت لأمر الله تعالى.
عودة السيّدة مريم عليها السلام إلى قومها
بين ذراعيها الطاهرتين حملت السيّدة مريم عليها السلام ابنها الحبيب بكلّ اعتزازٍ وفخرٍ، مؤمنةً بأنّ الله الذي رأت فضله وقدرته لن يتخلّى عنها مصدّقةً بوعده، وعادت عليها السلام وهي تجرّ الخطى بثقلٍ متعبةً قاصدةً بيت الربّ في أورشليم (القدس)، ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾[3]. وبينما هي تسير، رآها قومٌ من اليهود، فتعجّبوا من ذلك وأقبلوا عليها لائمين ومعنفين بكلامٍ قد أُسقطت منه كلّ معاني الحياء والأدب.. شائعاتٍ واتهاماتٍ وأقاويل، ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾[4].
وكما هو الأمر في كلّ حدثٍ مفاجئٍ يلفّ الكهنة صمتٌ وذهولٌ.. لا كلام، ولا جواب أمام ثرثرة الناس.. وصلت مريم الساحة، وتعالت الأصوات ﴿قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾[5], ما كان هذا هو العهد ببيت الطهر. أما استوقفك إرثك، والمنبت الصالح، وجذورك الممتدّة إلى هارون،
[1] سورة مريم، الآية 26.
[2] سورة مريم، الآية 26.
[3] سورة مريم، الآية 27.
[4] سورة النساء، الآية 156.
[5] سورة مريم، الآيتان 27-28.
80
63
الدرس السادس: حياة السيّدة مريم عليها السلام
وأمك شمس العفّة التي تشرق على الدنيا[1]؟ ومن ثمّ تبدأ محاكمتها بالسخرية اللاذعة، والتوبيخ المهين، ولا يحرّك ذلك ساكناً فيها، ولا تهتزّ ثقتها بالله، ولا تزيد عن أن تشير إلى ابنها ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾[2], فجعلتهم واجمين حتّى كأنّ على رؤوسهم الطير، ولكنّها تحدّث قومها بما لم يعهدوه، فلا تقنعهم إجابتها، بل يرون فيها تهكّماً بهم، فيردّون عليها وهم في ذروة انفعالهم منكرين ذلك عليها: ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾[3] ؟!
عندها تكلم رسول الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم ليبرّئ ساحة أُمّه القدّيسة من كلّ اتّهام باطل نسبه إليها الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه، فها هو الكون يهتزّ، والناس يضطربون، والغطاء يُكشف، والحقّ يصْدَع، بلسانٍ لا يُرقى إليه، ومعجزة هي الجواب عن كلّ الافتراءات: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾[4].
حياة السيّدة مريم بعد ولادة المسيح عليه السلام
"تحدّث القرآن الكريم عن السيّدة مريم بصورةٍ اجماليّةٍ، ملقياً الضوء على مفاصل أساسيّةٍ وحسّاسةٍ من حياتها. وقد أظهرها بحُلَّتها المرصّعة بالعفّة والطهر، وأنّها دخلت التاريخ من باب الإعجاز الذي ما فارقها وهي تضمّ ولدها المسيح عليه السلام، وتقف مواقف العزّة والكرامة.
فبالمعجزة كانت تبرئتها، وبالإعجاز كانت حياتها وسيرتها، ولم يتحدّث القرآن الكريم
[1] اتخذ اليهود من مولد السيد المسيح عليه السلام، حيث لم تستطع عقولهم القاصرة وقلوبهم المنكرة أن تستوعبه،مدعاة للطعن فيه، واعتقدوا أن المسيح عليه السلام ولد من الفحشاء، وأن مريم أتت به بطريق بشري غير شرعي، وهذا الأمر ليس غريباً على اليهود الذين تطاولوا على خالقهم، وقتلوا أنبياءهم، ورموهم بالعظائم.
[2] سورة مريم، الآية 29.
[3] سورة مريم، الآية 29.
[4] سورة مريم، الآيات 30-34.
81
64
الدرس السادس: حياة السيّدة مريم عليها السلام
عن حياة السيّدة مريم بعد ولادة السيّد المسيح إلاّ بالقدر الذي أكّد أنّ المولود هو السيّد المسيح المخلّص، وهو بشارة الأنبياء، وولادته المعجزة، التي حارت بها العقول، فتقاذفتها أوهام، وتشكيكات، كان لا بدّ من ردّها بإيضاح الصورة الجليّة، والحقّ المنير طهراً، ونقاء، وعفّة، وكرامة، وألطافاً، وكلّ ذلك بفضل الله تعالى...
وفاة السيّدة مريم عليها السلام
ومع اختلاف التفاسير والتحاليل التي تناولت وفاة السيّدة مريم، فإنّ حدثاً تاريخيّاً عظيماً يتعلّق بامرأة حملت السرّ الإلهيّ، تجعل المرء يتسائل: كيف لا يُحفظ بأحرف من نور؟ كيف لا يُحفظ هذا الحدث بدقّة تفاصيله، وروعة مجرياته؟
ولكن مع كلّ أسفٍ، فإنّ هذا الحدث ككثير من القضايا التاريخيّة التي تناولتها الاجتهادات والتحاليل بعيداً عن الواقع، ضاعت حقيقته في زوايا الرغبات، والتقاليد، والعادات، والعصبيّات، حتّى أنّك لا تجد في أغلبها سبيلاً إلى موضوعيّة، أو أمانة تاريخية... وتبقى هذه القضيّة - موت السيّدة مريم - معلّقةً كسائر القضايا التاريخيّة الغامضة.
أمّا القدر المتيقّن الذي لا يُختلف فيه فهو أنّ مريم قد ماتت كما هو سبيل كلّ إنسان ومخلوق. عاشت مريم (عليها السلام) طيّبةً عزيزةً كريمةً، وماتت بأجمل صورةٍ. عرّجت روحها إلى خالقها، لتستقرّ وترتاح في واسع الرحمة، في ساحة قدسيّة العظمة، وقد قام السيّد المسيح عليه السلام بدفنها..."[1].
[1] الشيخ محمد حسن يزبك، عفّة وعبادة، مريم العذراء أمّ المسيح في القرآن الكريم. وفي ترجمتنا هذه للسيدة مريم (عليها السلام) قد استفدنا كثيراً من سفره العظيم.
82
65
الدرس السادس: حياة السيّدة مريم عليها السلام
المفاهيم الأساسيّة
- وُضعت مريم في بيت المقدس، وكان ينبغي لأحدٍ أن يتولّى أمورها ويرعاها، وقد وقع الخيار الإلهيّ على النبيّ زكريا عليه السلام.
- تنازع القوم في مسألة كفالة مريم عليها السلام فاقترعوا لذلك ثلاث مرات، وكانت القرعة تقع على زكريا عليه السلام في كلّ مرّةٍ.
- ربّى زكريا عليه السلام مريم عليها السلام تربيةً حسنةً في عبادةٍ وطاعةٍ لربّها حتّى ترعرعت، وبنى لها محراباً في بيت المقدس، وجعل بابه في وسط الحائط لا يُصعد إليها إلا بسلّم، واستأجر لها مرضعةً، فلمّا تمّ لها حولان طعمت وتحرَّكت، فكان يغلق عليها الباب والمفتاح معه لا يأمن عليه أحداً.
- بعد بلوغها كانت تصوم نهارها وتقوم ليلها حتّى صارت عبادتها مضرب مثلٍ في بني إسرائيل، وظهرت منها الكرامات والصفات الشريفة.
- خاطبت الملائكة السيّدة مريم عليها السلام وأخبرتها باصطفائها على نساء العالمين، فانقطعت الطاهرة عن الناس وصارت قلّما يُرى شخصها لانشغالها بعبادة الله.
- جاء الوحي إلى السيّدة مريم عليها السلام يبشّرها بكلمة الله عيسى، فحملت به عليه السلام. وقد اختلفت الأقوال في مدّة الحمل إن كان حمل ساعاتٍ أو أشهرٍ أو لحظاتٍ.
- ابتعدت مريم عليها السلام عن قومها، وقد حان موعد الولادة، وضعت ابنها المبارك في تلك اللحظات، وفجرت لها عين تشرب منها، وهزّت جذع النخلة وأكلت منها الرطب، وأُمرت بأن تصوم لله فلا تتكلّم مع أيّ بشرٍ.
- عادت السيّدة مريم عليها السلام إلى قومها تحمل وليدها المبارك، فأنكروا ذلك عليها واتّهموها، فأنطق الله تعالى نبيّه ليبرّئ ساحة القدّيسة أمّه ويعلن عن نبوّته أمام الملأ.
- اختلفت الأراء حول موت السيّدة مريم عليها السلام. ولا خبر قطعياً في كيفيّته. وقد قام السيّد المسيح عليه السلام بدفنها، ثمّ خاطبها كما في بعض الروايات، فأجابته.
83
66
الدرس السابع: ســيّدة الأمّهات، السيّدة آمنة عليها السلام أمُّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
الدرس السابع:
ســيّدة الأمّهات، السيّدة آمنة عليها السلام
أمُّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى نسب السيّدة آمنة عليها السلام وبعض خصالها.
- يذكر ومضاتٍ من نشأة السيّدة آمنة عليها السلام.
- يبيّن مكانة السيّدة آمنة عليها السلام عند الله تعالى وفي قومها.
85
67
الدرس السابع: ســيّدة الأمّهات، السيّدة آمنة عليها السلام أمُّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
تمهيد
هي من زمرة أولياء الله الذين شاء لهم الحقّ سبحانه وتعالى العظمة قبل أن يعرفهم أهل الأرض. فهي سلام الله عليها درّةٌ من الدرر المكنونة المصونة، وعظيمةٌ من العظيمات اللآتي بلغن أوج العظمة وذروة الشرف وقمّة الفضيلة. شخصيّة كلّما ازداد البشر نضجاً وفهماً للحقائق واطّلاعاً على الأسرار، ظهرت لهم عظمتها بصورةٍ أوسع، وتجلّت معانيها ومزاياها بشكلٍ أوضح، هي السيّدة آمنة بنت وهب.
وهي تمثّل أشرف ما في المرأة من إنسانيةٍ وكرامةٍ، وعفّةٍ وقداسةٍ، وحشمةٍ مرعيةٍ.. إلى ما كانت عليه من ذكاء وقّاد وفطنة حادّة ونفس طاهرةٍ مطهّرةٍ ونجابةٍ وكمالٍ، وحسبها من الشرف المتين، والكرم المبين، والفخر الممكن غاية التمكين أن أكرَمها الله تعالى بأن جعلها الوعاء المبارك لأشرف سلالةٍ عرفتها البشرية، فصارت أماً لصفوة الخلق رسول الله الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجدّة للسادة الأشراف نسل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كانت محلّ تقديسٍ وإكبارٍ من قبل أئمة العترة النبوية الطاهرة عليهم السلام.
نسبها الوضّاح
السيّدة الشريفة آمنة بنت وهب قرشية زهرية من سليلة بيت زُهرة، وهي أسرة قرشية كريمة يُشهد لها بنصاعة الحسب والنسب والفضل.
أبوها: وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب
87
68
الدرس السابع: ســيّدة الأمّهات، السيّدة آمنة عليها السلام أمُّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، القرشيّ سيّد بني زهرة شرفاً وحسباً[1]، وفيه يقول الشاعر:
يا وهب يا بن الماجدين زُهرة
سُدت كلاباً[2] كلها ابن مرة
بحسبٍ زاكٍ وأمٍّ حرّة[3]
ولم يكن نسب السيّدة آمنة من جهة أمها دون ذلك عراقةً وأصالةً، فأمها: برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، القريشية[4]. وعليه فالسيّدة آمنة عليها السلام من ناحية أبيها وأمّها من سلالة طيبة وأصلٍ أصيل، ونسبٍ يُعتزّ به، ويجتمع بوسائط قريبة مع نسب والد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إذا بلغا إلى كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وهو الجدّ الثالث لآمنة عليها السلام، وهو ملتقى نسب والد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بنسب أمه. والملاحظ أنّ السيّدة آمنة عليها السلام أقرب نسباً إلى كلاب من والد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله عليه السلام برجل واحد، فهي تجتمع مع والد النبيّ الأكرم في جدهما الأعلى: كلاب، وقد كان زهرة الولد البكر لكلاب بن مرة، والشقيق الأكبر لقصيّ الذي جمع قريشاً بعد تشتّت، كما أنّ جدة السيّدة آمنة لأبيها هي عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال السلمية، إحدى النساء اللواتي اعتزّ
[1] عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، السيرة النبوية، ج1، ص292، طبعة: دار الجيل، بيروت.
[2] كان مولعاً بالصيد بالكلاب وكان يجمعها، فيسأل عنها، فيقال هذه كلاب بن مرة، فلقب كلاباً، واسم كلاب: المهذّب، يراجع كتاب الثقات لمحمد بن حبان، ج1، ص22، طبعة:1، دار الفكر، وقيل: عروة. وقيل حكيم، وهو الجد الثالث للسيّدة آمنة عليها السلام، وهو ملتقى نسب والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنسب أمه، وقد كان سيداً كريماً مطاعاً في قومه يجير الملهوف ويدفع الظلم، وقد قال بعض العرب: حكيم بن مرّة ساد الورى... ببذل النّوال وكفّ الأذى، يراجع سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي، ج1، ص276، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[3] مصعب الزبيري، نسب قريش، ج1، ص261، طبعة:3، دار المعارف، القاهرة، إلا أنه قد يكون الأصل: " يا بن الماجد بن زُهرة".
[4] المصدر نفسه، ج 1، ص 20-21، حكاه عمدة أهل النسب ابن الكلبي، ومصعب الزبيري، وابن جرير الطبري، والبلاذري، وابن حزم الظاهري في جمهرته، وابن سعد في طبقاته، ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق، وغيرهم.
88
69
الدرس السابع: ســيّدة الأمّهات، السيّدة آمنة عليها السلام أمُّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
بهنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمّا قال: "أنا ابن العواتك"[1].
وجدُّ السيّدة آمنة عليها السلام: عبد مناف بن زهرة يقرن اسمه بابن عمه عبد مناف بن قصيّ جدّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فيقال: المنافان، تعظيماً وتكريماً. وزهرة[2] بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ، هو الأخ الشقيق "لِقصيّ" جدّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وبذلك التقى في مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمميراث آبائه الهاشميين، وأخواله الزهريين، وبه صلى الله عليه وآله وسلم شاع ذكر المنافين، فهو شرف الأشراف، وفخر آل عبد مناف، وقد شّد الله أركان مجدهم العريق العتيق بهذا النبيّ الأميّ، فاحتازوا المجدّ عن آخره، وفازوا من شرف الدين والدنيا بما تعجز ألسنة البلغاء عن أدنى مفاخره.
فنسب السيّدة آمنة عليها السلام نسب النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أشرف الأنساب قاطبةً، وحسبها حسبه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو خيارٌ من خيارٍ من خيارٍ.
فَيا لاِفتخارٍ فيهِ آمنةٌ عَلت
عَلى كُلِّ مَن تَعلوهُ شَمس وَكَوكَبُ[3]
وقد اعتنى النسابون والعلماء، والشعراء والأدباء بنسبه الشريف نثراً ونظماً، ونقّبوا عن آبائه الأمجاد وأمهاته الطاهرات الميلاد أباً فأباً، وأماً فأماً، فرادوا من ذلك الفخار حدائق غلباً، وسادوا من شرف تلك الآثار مراقيَ شُمّاً.
نسبٌ تحسب العلا بحُلاه
قــلّـدته نجومهــا الجوزاءُ
حبذا عقـدُ ســـــؤددٍ وفخــار
أنتَ فيه اليتيمة العصماء[4]
[1] ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج5، ص51، طبعة 4: دار الكتب الإسلامية، طهران، ورواه الطبراني في المعجم الكبير، ج7، ص168،، حديث رقم 6714، طبعة:2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، ورواه سعيد بن منصور في سننه، والحافظ ابن عساكر الدمشقي بسند رجاله ثقات،.....، وغيرهم.
[2] قال شيخ أهل النسب هشام الكلبي: إن اسم زهرة (المغيرة)، والزهرة في اللغة: إشراق في اللون، أيّ لونٍ كان.
[3] من قصيدة للشاعر عمر الأنسي.
[4] شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري.
89
70
الدرس السابع: ســيّدة الأمّهات، السيّدة آمنة عليها السلام أمُّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
نشأتها عليها السلام:
ولدت السيّدة آمنة عليها السلام في حدود منتصف القرن السادس الميلاديّ، في مكّة المكرّمة في جوار البيت العتيق، في ذلك المكان من أمّ القرى الذي يسعى إليه الناس من كلّ فجٍّ عميقٍ، ملبين الأذان الذي أمر الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام أن يرفعه.
هناك في البيئة التي لا يخفى عليها ما لآمنة عليها السلام من حسب ونسب[1]، وطيب محتد وأرومة، ولدت السيّدة آمنة ونشأت، فكانت عليها السلام أفضل بنات قريش، ومن ثمّ نسائها، وأكرم امرأة فيهم لا يجاريها في ذلك إلاّ سيّدة نساء أهل الجنة أمّ المؤمنين خديجة الكبرى، والسيّدة العظيمة فاطمة بنت أسد بن هاشم، وبنات شيبة الحمد سلام الله عليهنّ جميعاً. يقول العباس بن عبد المطلب: "كانت ـ آمنة ـ من أجمل نساء قريش، وأتمّها خُلقاً"[2]. وكانت على جانب عظيم من الفصاحة والبلاغة لم يسبقها إليه أحد من نساء العرب.
وقد كان الأنصار يفتخرون بأنهم أخوال آمنة وعبد الله عليه السلام ولسان حالهم ما نطق به حسان بن ثابت مادحاً للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومفتخراً بأنهم قد ولدوه من جهة أمه آمنة، وولدوه من جهة أبيه، فقال:
يا بِكْر آمنة المبارك بكرها
ولدته محصنة بسعد الأسعدِ
ولقد ولدناه وفينا قبر
وفضول نعمته بنا لم يجحد
نوراً أضاء على البرية كلها
من يهدِ للنور المبارك يهتدِ[3]
وقالت قتيلة بنت النضر القرشية أخت بني عبد الدار مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة، وعلى الرغم من أمره بقتل أخيها، ومع كل عداء قومها له صلى الله عليه وآله وسلم:
[1] الحسب: ما يعدّ من مفاخر الآباء والأمهات، والنسب: هو الوجه الذي يحصل به الإدلاء من جهة الآباء.
[2] الشيخ الصدوق محمد بن علي القمي، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص175، طبعة:2، الدار الإسلامية، طهران.
[3] ابن هشام، السيرة النبوية، ج6، ص92، والروض الأنف للسهيلي، ج4، ص458.
90
71
الدرس السابع: ســيّدة الأمّهات، السيّدة آمنة عليها السلام أمُّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
أَمُحَمّدٌ يَا خَيْرَ ضَنْءِ كَرِيمَةٍ
فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعَرّقُ[1]
نشأت السيّدة آمنة عليها السلام نشأة الخير، وعُرِفت بالعفّة والطهر، والشرف والكرامة، وكانت تتحلّى بالفضائل والمحاسن وضيّئَة الطفولة، طهورة الشباب، فلم يشب نقاء صباها ريبة، ولم تهف بقدس شبابها نزعة من هوى، وقد ظّلت في خدرها محجوبةً عن العيون مصونةً عن الابتذال حتى ما يكاد الرواة يتبيّنون ملامحها، وكانت عليها السلام في كل أطوار حياتها الكاملة في الأدب والخلق، ومع حكمة العقل وسموّ العاطفة اللذين كانت تتّصف بهما عليهما السلام، أبت إلا أن تزينهما بزينة التواضع، يشهد لها بذلك الذي قال الله تعالى في حقه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾[2], لما جاؤوه برجل ليكلّمه، فأرعد الرجل، فقال له رحمة الله المهداة صلى الله عليه وآله وسلم: "هوّن عليك إنّما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد[3] في هذه البطحاء"[4]، وهذا تواضع منه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً، وبيان لتواضع أمّه السيّدة آمنة عليها السلام.
كريمة قريش
إنّ من يتتبع سيرة هذه السيّدة العظيمة، والأمّ الرؤوم، يجد أنّها كانت زهرة قريش وكريمتها بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنًى. بهذا نطق عبد المطّلب عليه السلام لمّا قال له سيف بن ذي يزن بعد حديثٍ طويلٍ جرى بينهما: "إذا وُلد بتهامة غلام به علامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة، إلى يوم القيامة......، هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد، اسمه مُحمد، بين كتفيه شامة[5]، يموت أبوه وأمه، ويكفله جدّه وعمّه، وقد ولدناه مراراً، والله باعثه جهاراً، وجاعل له منّا أنصاراً، يعزُّ بهم أولياءه، ويذلّ بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم الأرض، يعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، ويكسر
[1] أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الأندلسي السهيلي، الروض الأنف، ج3، ص217.
[2] سورة النجم، الآيتان 3-4.
[3] القديد: من اللحم ما قطع طولاً ومُلّح وجُفف في الهواء والشمس، يراجع المعجم الوسيط، ج2، ص718.
[4] أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج2، ص506، طبعة دار الكتب العلمية، عن جرير بن عبد الله البجلي، ورواه الحسن بن الفضل الطبرسي، مكارم الأخلاق، ص16، طبعة:4، قم، رواه عن أبو مسعود البدري بلفظ القد.
[5] الشامة والشأمة: العلامة في الجسد، وتعرف بالخال ومنه: جميل الخال والقوام.
91
72
الدرس السابع: ســيّدة الأمّهات، السيّدة آمنة عليها السلام أمُّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
الأوثان[1]، ويخمد النيران، قوله فصل[2]، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله. فخَرّ عبد المطلب ساجداً، فقال له الملك: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست من أمره شيئاً؟ فأجابه عبد المطلب عليه السلام: "نعم أيها الملك، كان لي ابن، وكنت به معجباً وعليه رفيقاً, فزوجته كريمة من كرائم قومه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام سمّيته محمداً،.."[3].
هذا مع ما يعلمه من خصائلها المجيدة وشمائلها الحميدة صاحب كلّ ذوقٍ رفيع اطّلع على تاريخ نشأتها ونشأة ابنها العظيم الذي آوته أحشاؤها، وغذّاه لبنها، واتصلت حياته بحياتها، فهو صلى الله عليه وآله وسلم بضعة أمه وأبيه.
ذاكَ ابن آمنة البَشير المنذر
الصادِق المزمل المدثـر
السـابق المتقـدم المتأخـر
حاوى المَفاخر آخراً وَقَديما
صلوا عليه وَسَلموا تَسليما[4]
قالت كاهنة قريش سوداء بنت زهرة بن كلاب لبني زهرة: "إنّ فيكم نذيرةً أو تلد نذيراً، فاعرضوا عليّ بناتكم، فعرضن عليها، فقالت في كلّ واحدة منهنّ قولاً ظهر بعد حين، حتّى عرضت عليها آمنة بنت وهب، فقالت: "هذه النذيرة أو تلد نذيراً،.. ولما سئلت عن جهنم قالت: سيخبركم عنها النذير"[5].
[1] الأوثان: جمع وَثَن وهو الصنم، وقيل: الوَثَن كلُّ ما لَه جُثَّة مَعْمولة من الأرض أو من الخَشَب والحِجارة، كصُورة الآدَميّ تُعْمَل وتُنْصَب فتُعْبَد وقد يُطْلَق الوَثَن على غير الصُّورة.
[2] الفصل: البَيِّن الظاهر، الذي يَفْصِل بين الحقّ والباطل
[3] أحمد بن الحسين البيهقي، دلائل النبوة، ج2، ص 9-14، طبعة:1، دار الكتب العلمية، عن زرعة بن سيف بن ذي يزن، ورواه محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، ج1، ص120، طبعة:1، مكتبة الثقافة الدينية، والشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص180، ط2: دار الإسلامية، طهران، والكراجكي في كنز الفوائد عن عبد الله بن عباس، والخبر في دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، ورواه ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية.
[4] الشاعر الأديب، والقاضي الشيخ يوسف النبهاني.
[5] عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، الروض الأنف، ج1، ص364.
92
73
الدرس السابع: ســيّدة الأمّهات، السيّدة آمنة عليها السلام أمُّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
وهذه الحادثة تدل على ظهور سمات العظمة والجلال والفضائل في السيّدة آمنة منذ صغرها، لدرجة أنّ هذا اللقاء بين آمنة عليها السلام وسوداء كان كفيلًا بتبيان مستقبلها العظيم.
مقامها العظيم عند الله تعالى
عندما يأمر مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في حياته الشريفة أن يُحجّ لله تعالى بالنيابة عن شخص من الأشخاص، فلك عند ذلك أن تتصوّر أيّ منزلةٍ عظيمةٍ يحظى بها هذا الشخص المكرّم. وعندما تعلم أنّ مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام يعود فيوصي في وصيته أن يُحجّ لله تعالى بالنيابة عن ذلك الشخص، فلا بدّ أن تتساءل أيّ رتبةٍ خطيرةٍ لهذا الشخص المبجّل. وعندما يأمر مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بالطواف نيابةً عن شخص، والصلاة لله ركعتين كي تقضى الحوائج، فاعلم أن ذلك الشخص العظيم في قمة شمّاء تنخلع الرقاب عند عراها، إنّها الطاهرة التي خصها الله بأعلى الشرف، وسطع من جبينها نور سيد الأنبياء، فأضاءت به الأرض والسماء، ونزلت لأجلها الملائكة الكرام، وضربت لها الحجب، السيّدة آمنة بنت وهب عليها السلام.
فقد جاء في خبر عن الإمام الباقر عليه السلام، أنه قال: "كان والله أمير المؤمنين عليه السلام يأمر أن يُحجّ عن أب النبيّ وأمّه، وعن أبي طالب في حياته، ولقد أوصى في وصيته بالحجّ عنهم بعد مماته".
كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام ما يدلّ بوضوح على أنّ للسيّدة آمنة عليها السلام مقاماً عظيماً عند الله تعالى، وأنّها من صفوة أولياء الله الذين يتوسّل بهم إليه، حيث جاء في رواية أن رجلًا دائنًا لجأ إلى الامام الصادق عليه السلام ليرشده إلى تحصيل دينه، فقال: "دخلت على أبي عبد الله عليه السلام ولي على رجل مال قد خفت تواه، فشكوت إليه ذلك، فقال لي: "إذا صرت بمكّة، فطف عن عبد المطّلب طوافاً وصلّ ركعتين عنه، وطف عن أبي طالب طوافاً وصلّ عنه ركعتين، وطف عن عبد الله طوافاً وصلّ عنه ركعتين، وطف عن آمنة طوافاً وصلّ عنها ركعتين، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصلّ عنها ركعتين، ثمّ ادع أن يردّ عليك مالك". قال: ففعلت ذلك، ثمّ خرجت من باب الصفا وإذا غريمي واقف
93
74
الدرس السابع: ســيّدة الأمّهات، السيّدة آمنة عليها السلام أمُّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
يقول: يا داود حبستني تعال اقبض مالك".
كذلك فإنه عندما يزور أهل الإيمان نبيّ الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من القرب والبعد يخاطبونه قائلين: السلام عليك وعلى جدك عبد المطلب وعلى أبيك عبد الله، السلام عليك وعلى أمك آمنة بنت وهب. وفي هذه الأخبار وغيرها دلالة واضحة على علوّ منزلة السيّدة آمنة عليها السلام وسموّ مقامها عند الله عزّ وجلّ، وقد كانت خصالها تلك ومقام قربها من الباري سبحانه سبب اصطفائه تعالى لها بأن صارت أمًّا لخير خلق الله صلوات الله عليه.
من أرحام المطهّرات
لمّا كان أنبياء الله تعالى صفوة عباده، وأمناءه في بلاده، وخير خلقه، وحججه على بريته، فقد هيّأهم لما كلّفهم من القيام بحقّه، لذلك استخلصهم من أكرم العناصر، وأمدهم بأوكد الأواصر، حفظاً لنسبهم من القدح، ولمنصبهم من الجرح. ونبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمهم وقائدهم، فاختار الله تعالى لمصطفاه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل العشائر، وأكرم القبائل، وأشهر الفصائل، فأخرجه تعالى من الأصلاب الشامخة، والأرحام العفيفة، كان آخرها رحم السيّدة العظيمة آمنة بنت وهب عليه السلام كريمة قومها، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَفَرَّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ الْفِرْقَتَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ شُعُوباً فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ شُعْبَةٍ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ، ثُمَّ جَعَلَهُمُ بُيُوتاً فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ بَيْت"[1].
كما أنّه ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء"[2]. وفي ذلك بيان واضح لطهارة أمهات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجدّاته بقولٍ مطلق، وعدم اقتراب أيّ دنسٍ من
[1] محمد بن عيسى الترمذي، الجامع الصحيح، ج5، ص 584، حديث 3607، طبعة: دار أحياء التراث العربي، وقال : هذا حديث حسن، ورواه أحمد بن حنبل في المسند، وابن أبي شيبة في المصنف، والبزار في مسنده، وقال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد، ج8، ص397، حديث رقم 13824، طبعة دار الفكر :رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
[2] حدثنا عبد الرحمن بن سلم الرازي، حدثنا محمد بن أبي عمرو العدني المكي، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، قال أشهد على أبي حدثني عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "...".، رواه أبو القاسم الطبراني في المعجم الأوسط، ج5، ص80، حديث:4728، طبعة: دار الحرمين، القاهرة، وأبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي، الشريعة، ج3، ص1417، حديث 957، طبعة:2، دار الوطن، الرياض، وأبو نعيم الأصبهاني، وابن عساكر الدمشقي، وغيرهم من الحفاظ، وللحديث شواهد مروية عن ابن عباس، وعائشة، وأبي هريرة.
94
75
الدرس السابع: ســيّدة الأمّهات، السيّدة آمنة عليها السلام أمُّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
الجاهلية إلى محافلهنّ، كنّ نقيّات الجيوب، عديمات العيوب - والسيّدة آمنة عليها السلام على رأسهنّ - من هذه الأصول الطاهرة اصطفى الله تعالى خاتم النبيين، وأرسله هدىً ونوراً ورحمة للعالمين ليتم به الرسالات ويكمل به النبوات، فكان الله تعالى حافظه صلوات الله عليه، في أصلاب الرجال وأرحام النساء، حتّى خرج من صلب أبيه عبد الله بن عبد المطلب عليه السلام إلى رحم أمه آمنة بنت وهب عليها السلام، فوضعته سيّداً للأنبياء وخاتماً للمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
95
76
الدرس السابع: ســيّدة الأمّهات، السيّدة آمنة عليها السلام أمُّ النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
المفاهيم الأساسية
- السيّدة آمنة قرشية زهرية من سليلة بيت زُهرة، وهي أسرة قرشية كريمة يُشهد لها بنصاعة الحسب والنسب والفضل. أبوها هو وهب بن عبد مناف، وأمها هي برّة بنت عبد العزى.
- يجتمع نسبها عليها السلام مع نسب والد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند الجدّ كلاب بن مرة، وهو الجدّ الثالث لآمنة عليها السلام. وعليه فإنّ نسب السيّدة آمنة عليها السلام هو نفسه نسب النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أشرف الأنساب قاطبة.
- ولدت السيّدة آمنة عليها السلام في حدود منتصف القرن السادس الميلاديّ، في مكّة المكرمة في جوار البيت العتيق، وكانتعليها السلام أفضل بنات قريش ونسائها لا يجاريها في ذلك إلّا السيّدة خديجة الكبرى والسيّدة فاطمة بنت أسد.
- وكانت عليها السلام على جانب عظيم من الفصاحة والبلاغة. وكان الأنصار يفتخرون بأنهم أخوال آمنة وعبد الله عليه السلام، وعُرِفت بالعفّة والطهر والشرف والكرامة، وكانت تتحلّى بالفضائل والمحاسن، وقد ظلت في خدرها محجوبة عن العيون حتّى ما يكاد الرواة يتبيّنون ملامحها.
- للسيدة آمنة عليها السلام مكانةٌ عظيمةٌ ومقامٌ رفيعٌ عند الله سبحانه، حيث يأمر مولانا الامام عليّ عليه السلام في حياته بأن يُحجّ لله تعالى بالنيابة عنها كذا ويوصي بذلك في وصيّته، كما ويأمر الإمام الصادق عليه السلام بالطواف نيابة عنها، والصلاة لله ركعتين كي تقضى الحوائج. وفي هذه الأخبار وغيرها دلالة واضحة على علو منزلة السيّدة آمنة عليها السلام وسموّ مقامها عند الله عزّ وجلّ. وكانت خصالها تلك ومقام قربها من الله سبب اصطفائه تعالى لها بأن صارت أمًّا لخير خلق الله صلى الله عليه وآله وسلم.
96
77
الدرس الثامن: زواج السيّدة آمنة عليها السلام
الدرس الثامن:
زواج السيّدة آمنة عليها السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى بعض خصال عبد الله أب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
- يبيّن قصّة زواج السيّدة آمنة عليها السلام وعبد الله عليه السلام.
- يشرح حادثة وفاة عبد الله عليه السلام.
97
78
الدرس الثامن: زواج السيّدة آمنة عليها السلام
مقدّمة
"انتجب - الله تعالى - أحبّ أنبيائه إليه وأكرمهم عليه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم في حومة العزّ مولده، وفي دومة الكرم محتده، غير مشوب حسبه ولا ممزوج نسبه، ولا مجهول عند أهل العلم صفته، بشّرت به الأنبياء في كتبها، ونطقت به العلماء بنعتها، وتأمّلته الحكماء بوصفها، مهذّبٌ لا يدانى، هاشميٌّ لا يوازى، أبطحيٌّ لا يسامى، شيمته الحياء وطبيعته السخاء، مجبولٌ على أوقار النبوّة وأخلاقها إلى أن انتهت به أسباب مقادير الله إلى أوقاتها، وجرى بأمر الله القضاء فيه إلى نهايتها، أدّاه محتوم قضاء الله إلى غايتها، تبشّر به كلّ أمة من بعدها، ويدفعه كلُّ أبٍ إلى أب من ظهرٍ إلى ظهر، لم يخلطه في عنصره سفاح، ولم ينجّسه في ولادته نكاحٌ من لدن آدم إلى أبيه عبد الله، في خير فرقة وأكرم سبط وأمنع رهط، وأكلأ حَمل وأودع حجر، اصطفاه الله وارتضاه واجتباه، وآتاه من العلم مفاتيحه، ومن الكرم ينابيعه، ابتعثه رحمة للعباد، وربيعاً للبلاد..."[1].
الزواج المبارك الميمون
لقد عَرفت السيّدة آمنة في طفولتها وحداثتها ابنَ عمّها عبد الله بن عبد المطّلب عليهم السلام، حيث إنّ بني زهرة كانوا أقرب الأُسر إلى بني هاشم، ولكنها لم تكن تدري أثناء فداء عبد الله بن عبد المطلب بتلك الإبل أن الله تعالى قد اختارها لتكون أماً لخاتم
[1] الإمام أبو عبد الله جعفر بن مُحمد الصادق عليه السلام في خطبة له خاصة يذكر فيها حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمةعليهم السلام وصفاتهم، يراجع الكافي، لثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص444-445، طبعة:4، الدار الإسلامية، طهران.
99
79
الدرس الثامن: زواج السيّدة آمنة عليها السلام
النبيّين وقائد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم. ومَن أجدر من آمنة بنت وهب عليها السلام أن تحتلّ هذه المكانة العظيمة، والمنزلة المرموقة، وأن تكون المرأة المنتخبة التي ادّخرها القدر لأعظم أمومة في التاريخ؟ فبعد مدّة من فداء عبد الله عليه السلام بالإبل[1] توجّه سيّد مكّة عبد المطّلب بن هاشم بولده الحبيب عبد الله ميمِّماً وجهه تلقاء وهب بن عبد مناف سيد بني زهرة خاطباً كريمته آمنة عليها السلام لأكرم فتىً في ذلك الزمان. وقد ذكرت ذلك بعض المصادر التاريخية، ومنها ما رواه الأزرقي في كتابه المعتبر الذي فرغ من تأليفه سنة (244هـ) "أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار" عن محمد بن إسحاق بروايةٍ كاملةٍ، وهي مجزّأة في سيرته، وسيرة ابن هشام، وموضع الشاهد الذي سنورده هو:
قال ابن إسحاق: وسمعت أيضاً من يحدث في أمر زمزم، عن علي بن أبي طالب عليه السلام: ".... وذكر حفر زمزم، ونذر عبد المطلب، وفداء عبد الله عليه السلام.. إلى أن قال: ولمّا انصرف عبد المطلب ذلك اليوم إلى منزله مر بوهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهو جالس في المسجد، وهو يومئذ من أشراف أهل مكة، فزوّج ابنته آمنة عبد الله بن عبد المطلب"[2].
وآمنة عليها السلام يومئذ زهرة بني زهرة وأنجب نساء قريش وأفضلهنّ، وأزكاهنّ أخلاقاً وفرعاً وأطيب، فتمت خطبة عبد الله بن عبد المطلب عليه السلام لأشرف عقيلة في قريش آمنة بنت وهب عليها السلام.
وقد كان عبد الله أحسن رجل رُئيَ قطّ، خرج يوماً على نساء قريش، فقالت امرأة منهنّ: أيتكنّ تتزوّج بهذا الفتى، فتصطحب النور الذي بين عينيه، فإني أرى بين عينيه نوراً؟ فتزوّجته آمنة بنت وهب[3].
وقد كان وجهاء قريش وأشراف مكّة وسدنة البيت الحرام ورؤساء القبائل يتمنّون
[1] قول لبعض أصحاب السير.
[2] محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي، أخبار مكة، ج2، ص45، طبعة:1، مكتبة الثقافة الدينية، وتاريخ الطبري، والروض الأنف للسهيلي، والسيرة النبوية لابن كثير، والمختصر في أخبار البشر لإسماعيل بن أبي الفداء ملك حماة.
[3] أحمد بن عبد الله أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة، ج1، ص133، طبعة:2، دار النفائس، والبيهقي في دلائل النبوة.
100
80
الدرس الثامن: زواج السيّدة آمنة عليها السلام
مصاهرة عبد المطّلب بوساطة أحبّ ولده إليه، فكانوا يعرضون بناتهم بلا مهر ولا عوض، بل كانوا يبذلون المهر لعلّهم يشرّفون أسرهم بهذا الفخر، فلمّا تزوّج عبد الله السيّدة آمنة عليها السلام خابت آمالهم وملأت الحسرة قلوبهم، "وقيل إنّه لم تبق امرأة من قريش من بني مخزوم وعبد شمس وعبد مناف إلا مرضت"[1]. ولا عجب في ذلك، فقد كان عبد الله بن عبد المطّلب مطمع الآمال، وغاية الأماني، من الغيد الكواعب الحِسان.
يحمي الكريم عرضه ودينه
قال البلاذري المتوفّى (279 ه): حدّثني عباس بن هشام، عن أبيه، عن جده قال:.. ولمّا خطبها عبد المطلب على عبد الله، فأجيب إلى تزويجه إياها، انطلق به ماضياً إلى بني زهرة، فمرّ بامرأة من خثعم، يقال لها فاطمة - وكان فتيان قريش يحدثون إليها، وكانت عفيفة، ويقال إنها كانت من بني أسد بن خزيمة، وكانت تعتاف[2]، وتنتظر وتقرأ الكتب - فقالت لعبد الله، وجلس إليها منتظراً لأبيه، وقد عرج لبعض شأنه: هل لك في موافقتي على أن أعطيك مائة من الإبل؟ (وكانت موسرة)، فقال عبد الله:
أمـا الحـرام فالممـات دونـه
والحلّ لا حلّ فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تنوينه
يحمي الكريم عرضه ودينه[3]
ثم إنه مضى مع أبيه إلى بني زهرة، فزوّجه آمنة. وأقام عندها ثلاثاً، وكانت تلك سنّتهم. ثمّ إنّ عبد الله أتى المرأة بعد ذلك، فقال لها: هل لك فيما كنت عرضت "على أن يكون بيننا تزويج"؟ فقالت:
لا تطلبن الأمر إلا ميلا
قد كان ذاك مرة فاليوم لا
[1] إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون، ج1، ص58.
[2] الاعتياف: عمل العيافة أي: زجر الطير، والتشأم أو التفأل بطيرانها، بحار الأنوار، ج15، ص 277.
[3] البيتان في الروض الأنف للسهيلي، ج1، ص180، والبداية والنهاية لابن كثير، ج2، ص250، وغيرهم
101
81
الدرس الثامن: زواج السيّدة آمنة عليها السلام
إني رأيت في وجهك نوراً ساطعاً، وقد ذهب الآن، فما الذي صنعت؟ فحدثها حديثه، فقالت:
إني لأحسبك أبا النبي الذي قد أظل وقت مولده، وقالت:
لله ما زهرية سلبت
ثَوْبَيْكَ ما سكنت وما تدري"[1]
بيان وتوضيح
أتينا بهذه الرواية مع علمنا بضعف إسنادها على مباني أهل الجرح والتعديل، ولكنّا وجدنا متنها أليق المتون المروية في هذا الشأن. وقد جاء المؤرخون بروايات تروي هذه الحادثة دون شرط عبد الله بن عبد المطلب عليه السلام الذي اشترطه على تلك المرأة بقوله: "على أن يكون بيننا تزويج". وقد تتبّعنا مرويّات أهل السيَر التي جاؤوا بها في هذا الشأن، وأسانيد تلك المرويات سنداً سندا، فوجدنا أسانيدها تالفة لا تخلو من رجل اتّهم بالكذب، أو رجل أجمع علماء الحديث على ضعفه، أو مدلّس مشهور، فمروياتهم في هذه الحادثة لا يُستشهد بها فضلاً عن أن يُحتجّ بها.
وللأسف الشديد أن جُلّ المؤرخين وأصحاب السيَر قد تناقلوها خلفاً عن سلفٍ دون تأمّل وتمحيصٍ، مع أن ابن اسحاق وهو أقدمهم قد استعمل لما رواها لفظ: "فيما يزعمون، وزعموا". كما أنّ المتأمّل لمتن رواياتهم يجد فيها أنّ المرأة طلبت من عبد الله الفاحشة فأبى، وفي اليوم التالي عرض هو عليها فأبت، ومن يقرأ الروايات المختلفة في هذا الشأن[2] يدرك مدى الاختلاف والاضطراب في تعيين المرأة، إذ مرّة هي خثعميّة، وأخرى أسديّة قرشيّة اسمها قتيلة، وثالثة عدويّة اسمها ليلى، وكذلك في صفة عبد الله عندما التقته، فمرّةً هو مطيَّن الثياب، وأخرى هو في زينته.
وليس صعباً على من تتبّع رواياتهم في هذا الشأن أن يراها جاءت للذمّ في صورة المدح، ولم ينتبهوا إلى أنّ هذه الروايات فيها اتّهامٌ لوالد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعفّته. وعبد الله بن عبد
[1] البَلَاذُري، أنساب الأشراف، ج1، ص80، حديث 139.
[2] بإمكان القارئ الكريم العودة لثلاث صفحات من كتاب ابن سعد الطبقات الكبرى، ج1، ص95-98، ليرى بأم عينه كيف تضطرب الروايات في هذا الشأن.
102
82
الدرس الثامن: زواج السيّدة آمنة عليها السلام
المطلب قد كان صورةً طبق الأصل عن والده شيبة الحمد، ولو أمهله الزمن لتولّى مناصب الشرف التي كانت بيد عبد المطلب وهاشم، وكان شعاره الذي التزمه طيلة حياته "أمّا الحرام فالممات دونه".
وبغضّ النظر عن صحّة هذه الرواية من عدمها، فهو قد شُبّه في بعض الأخبار "بالناسك"، وأبياته التي أنشأها قد رويت عنه في غير هذا المورد، وهي أيضاً ممّا ينسف كلّ ما جاء في طيات مروياتهم نسفاً، فرجل هذا شأنه هل نطمئنُّ الى هذه الروايات المزعومة، التي تطعن بطهارته وعفته التي هي أوضح من الشمس في رابعة النهار، والله تعالى يقول في محكم كتابه: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾[1] وقد أجاد وأفاد الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله تعالى بقوله:
تجلّى له التاريخ بحراً فخاضه
وغاص الى الأعماق فانكشف القعرُ
وأبصر أشتاتاً تغاير نعتها
وراعته أغوارٌ ومنعطف وعرُ
وشاهد زيفاً يستطيل وواقعا
يذاد ومقياساً إلى الخلط ينجرُ
وأخبار يرويها الهوى وصحائفا
تحكم فيها الحب والبغض والتبرُ
ومرّت به الأقلام منهن قانع
بفضل فتات الظالمين ومعتــــــرُ
دار عبد الله وآمنة عليها السلام
تزوج عبد الله بن عبد المطلب والد ملاذ المقترب وعياذ المغترب آمنة أمّ إمام الخلائق الأعظم الذي وفر الله من الكرامة قسمه وبحياته أقسم، واستغرقت أفراح زواجهما المبارك ثلاثة أيام بلياليها، وكان عبد الله أثناءها يقيم مع عروسه الميمونة في دار أبيها على عادة القوم يومئذٍ، "وكانت تلك السنّة عندهم إذا دخل الرجل على امرأته في أهلها"[2]، ومن ثم نقلها عبد الله عليه السلام إلى داره عند الجمرة الوسطى، وهي الدار التي
[1] سورة الأنعام، الآية 124.
[2] ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص95، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وعن أبي الفياض الخثعمي.
103
83
الدرس الثامن: زواج السيّدة آمنة عليها السلام
وُلد فيها مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[1]، وكانت تشتمل على سلّم حجريّ متّصلٍ بباب يفتح نحو الشمال، ومن هناك كانوا يستطيعون الدخول إلى غرفة طولها 12 متراً، وعرضها 6 أمتار، وعند الجدار الأيمن كان بابٌ يفتح تجاه قبّة، وفي الوسط باتجاه الجدار الغربي هناك غرفة مصنوعة من الخشب - وهي في الحقيقة كانت غرفة نوم العروسين - داخلها رخامة قد قُعرّ جوفها لتعيين مولد السيد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم"[2].
كانت هذه الدار "في الزقاق المعروف بزقاق المولد، وكانت في مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يد عقيل بن أبي طالب ثم في أيدي ولده، ثم اشتراها منهم محمد بن يوسف الثقفي، فأدخل البيت في دارٍ بناها، وسمّاها البيضاء، فكان الحال هكذا إلى أن حجّت الخيزران، فأخرجت البيت وجعلته مسجداً يصلّي الناس فيه"[3].
قال السيد الأمين: "وبقي المسجد في حالته تلك حتى استولى الوهابيون على مكة، فهدموه ومنعوا من زيارته، على عادتهم في المنع عن التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين، بل جعلوه مربضاً للدواب"[4].
قال إسحاق بن جعفر: سمعت أبي (الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام) يقول: "الأوصياء إذا حملت بهم أمهاتهم أصابها فترة شبه الغشية، فأقامت في ذلك يومها ذلك إن كان نهاراً، أو ليلتها إن كان ليلاً، ثم ترى في منامها رجلاً يبشّرها بغلامٍ عليمٍ حليمٍ، فتفرح لذلك، ثم تنتبه من نومها، فتسمع من جانبها الأيمن في جانب البيت صوتاً يقول: حملت بخيرٍ، وتصيرين إلى خير، وجئت بخير، أبشري بغلامٍ حليمٍ عليمٍ،...، وكذلك الأنبياء إذا ولدوا، وإنما الأوصياء أعلاقٌ من الأنبياء"[5].
ولما أراد الله سبحانه إبراز الحقيقة المحمدية وإظهاره صلى الله عليه وآله وسلم جسماً وروحاً بصورته ومعناه نقله إلى مقره من صدفة آمنة الزهرية، وخصها القريب المجيب بأن تكون أماً
[1] الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1، ص439، طبعة:4، دار الكتب الإسلامية، طهران.
[2] بتصرف يسير نقلاً عن محمد لبيب البتنوني، الرحلة الحجازية، ص52، الطبعة:2، مكتبة الجمالية، مصر.
[3] الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص439، والأزرقي في أخبار مكة، ج2، ص191، والقرطبي في الأعلام، وغيرهم.
[4] السيد محسن الأمين العاملي، أعيان الشيعة، ج3، ص7.
[5] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص387 - 388، باب مواليد الأئمة عليهم السلام.
104
84
الدرس الثامن: زواج السيّدة آمنة عليها السلام
لمصطفاه، حملت بالجنين الأكرم، وتوالت عليها البشائر بفضل الله، وأضحت عليه السلام على معرفة تامة ويقين كامل أنّها أمّ النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من الأيام الأولى لزواجها، وقد روت عليها السلام أنها رأت في المنام أن آتياً أتاها، فقال لها: "قد حملت بخير الأنام..."[1]، و"قد حملتِ بسيّد هذه الأمة.."[2].
بقي والد رسول عبد الله بن عبد المطلب مع عروسه السيّدة آمنة عليها السلام أيّاماً قلائل قيل إنّها لم تتجاوز عشرة أيام، وقيل أكثر من ذلك، وكان يجب عليه أن يلحق بقافلة قريش التجارية المتّجهة إلى غزّة هاشم حيث كان منوطاً بأفراد تلك القافلة أن يمتاروا[3] القمح من الشام، وعلى عبد الله أن يمتار التمر لبني هاشم من المدينة[4] كما أوصاه والده عبد المطلب الذي أنفذه لأداء هذه المهمة[5]، فخرج عبد الله عليه السلام مسافراً بعد أن ودّع امرأته آمنة عليها السلام، وقد خلّف في أحشائها أعظم جنين.
وفاة والد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
روي عن محمد بن كعب، وأيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قالا: فرغ القوم من تجاراتهم ثمّ انصرفوا، فمروا بالمدينة، وعبد الله بن عبد المطّلب يومئذ مريض، فقال: أنا أتخلف عند أخوالي بني عديّ بن النجار - ريثما يستردّ صحّته وعافيته - فأقام عندهم مريضاً شهراً، ومضى أصحابه فقدموا مكّة، فسألهم عبد المطّلب عن عبد الله، فقالوا خلّفناه عند أخواله بني عديّ بن النجار وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب أكبر وُلده الحارث، وقيل الزبير بن عبد المطلب، فوجده قد توفّي، ودفن في دار النابغة الجعدي، وهو رجلٌ من بني عديّ بن النجار، وأخبره أخواله بمرض عبد الله عليه السلام، وبقيامهم عليه، وما
[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص196، طبعة:2، الدار الإسلامية، طهران،
[2] أحمد بن الحسين البيهقي، شعب الإيمان، ج2، ص134، فصل في شرف أصله وطهارة مولده صلى الله عليه وآله وسلم، طبعة:1، دار الكتب العلمية، وسيرة ابن هشام، والروض الأنف، والتحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للحافظ السخاوي، وغيرهم.
[3] يمتارون أي يحملون الطعام، يقال: فلان يمتار اهله إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلدهم، وقد وصف إمامنا الباقر جده أمير المؤمنين عليه السلام بأنه: "ميرة العلم يمتار منه، ولا يمتار من أحد غيره"، علل الشرائع للشيخ الصدوق، ج1، ص160.
[4] البلاذري، أنساب الأشراف، ج1، ص92، وابن سعد في الطبقات الكبرى، وغيرهم.
[5] أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، دلائل النبوة، ج1، ص88، وأنساب الأشراف للبلاذري، والطبقات الكبرى، وغيرهم.
105
85
الدرس الثامن: زواج السيّدة آمنة عليها السلام
ولوا من أمره وأنهم دفنوه - هناك في ثرى يثرب -، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجداً شديداً، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئد حمل[1].
وحال عبد الله بن عبد المطّلب عليه السلام كحال جدّه عمرو العلا هاشم، ينطبق عليه قول الشاعر:
يا كوكباً ما كان أقصر عمره
وكذا تكون كواكب الأسحارِ
وقد نزل الخبر المفزع على آمنة عليها السلام نزول الصاعقة، فسكبت عيناها الدموع، وبكت بكاءً مراً على غصن بني هاشم، ومنار فتيان قريش، والذي خلّفها وراءه في مكّة عروساً تحمل له في أحشائها أعظم جنين، وتضمّ له في قلبها حباً وحنيناً، فتسربلت بأبراد العزاء بعد أن انطفأت شعلة السعاة المتوهجة في صباها الريّان، فأقامت على لوعةٍ مريعةٍ وألمٍ ليس فوقه ألم، عاكفة على آلامها الممضة، منطوية تحت سماء الحزن القاتم، وفي إطار من الألم المرير رثت زوجها عبد الله عليه السلام مُبينة بعضاً من فضائله، فقالت:
عفا جانب البطحاء من قرم هاشم
وحل بلحد ثاوياً غير رائم
عشيّة راحوا يحملون سريره
يفلونه عن عبرة وتزاحم
دعته المنايا دعوةً فأجابها
وما غادرت في الناس مثل ابن هاشم
فإن يَكُ غالته المنايا وريبها
فقد كان مفضالاً كثير التراحم[2]
[1] البلاذري، أنساب الأشراف، ج1، ص92، وتاريخ الطبري، والكامل في التاريخ، وجل أصحاب السيّر.
[2] البلاذري، أنساب الأشراف، ج1، ص92.
106
86
الدرس الثامن: زواج السيّدة آمنة عليها السلام
وقالت عليها السلام أيضاً:
أضحى ابن هاشم في مهماء مظلمة
في حفرة بين أحجار لدى الحصر
سـقى جوانب قبرٍ أنت سـاكنه
غيثٌ أحمّ الذرى ملآن ذو درر[1]
والذي عليه معظم أهل السير، أنّ والد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن عبد المطلب عليه السلام مات وهو في الخامسة والعشرين من العمر على أشهر الأقوال، وكانت أم النبي حاملاً به صلى الله عليه وآله وسلم[2]. وممّا يؤيد ذلك أنّنا لا نعثر على أيّ خبر أو أثر عن عبد اللّه عليه السلام حين ميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّما وجدنا جّده عبد المطلب حاضراً، وعمّه أبا طالب عليه السلام، وبقية أعمامه وعمّاته من آل عبد المطلب عليه السلام
أخذ الإله أبا الرسول ولم يزل
برسوله الفرد اليتيم رحيما
نفسي الفداء لمفرد في يتمه
والدرّ أحسن ما يكون يتيما
ترك عبد الله بن عبد المطلب وراءه من الميراث مولاته أم أيمن، وخمسة أجمال، وقطعة غنم، فورث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك. وكانت أم أيمن تحتضنه، واسمها بركة، وقد أعتقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما بعد، وزوّجها مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، ولها من الأولاد أيمن الذي ثبت مع الهاشميين الذين ثبتوا حول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم حُنين، واستشهد فيها، وولدت لزيد أسامة بن زيد، وتوفّيت أمّ أيمن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
[1] محمد بن يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، عن القاسم الوزيري المغربي.
[2] يروي قيس بن مخرمة المطلبي، وهو صحابي كبير السن، وقد ذكر ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "توفي أبوه، وأمه حبلى به" يراجع المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوي، ج2، ص661، ح 4191، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
107
87
الدرس الثامن: زواج السيّدة آمنة عليها السلام
المفاهيم الاساسية
- شهدت السيّدة آمنة عليها السلام حادثة فداء عبد الله عليه السلام الذي عزم أبوه على تقديمه قربانًا ليفي بنذره الذي نذره لله تعالى إذا رزقه عشرةً من الفتيان.
- بعد مدّة من فداء عبد الله عليه السلام بالإبل توجّه سيد مكة عبد المطلب بولده ميمّماً وجهه تلقاء وهب خاطباً كريمته آمنة عليها السلام فتمت الخطبة. وقد كان عبد الله أحسن رجل رُئي قطّ، وقد كان الوجهاء والأشراف يتمنّون مصاهرة عبد المطّلب به، فلمّا تزوّج عبد الله السيّدة آمنة عليها السلام خابت آمالهم وملأت الحسرة قلوبهم، "وقيل إنه لم تبق امرأة من قريش إلّا مرضت".
- تمّ الزواج المبارك واستغرقت الأفراح ثلاثة أيام بلياليها، وكان عبد الله أثناءها يقيم مع عروسه في دار أبيها على عادة القوم يومئذٍ، ثم انتقل العروسان إلى بيتهما.
- بقي عبد الله مع عروسه أياماً قلائل، وكان يجب عليه أن يلحق بقافلة قريش التجارية المتّجهة إلى غزة هاشم ليحمل التمر لبني هاشم فخرج مسافراً وقد خلّف في أحشاء زوجته أعظم جنين.
- بعد أن فرغت قافلة قريش من تجارتها انصرفوا نحو مكة ومروا بالمدينة وقد مرض عبد الله عليه السلام في هذه الأثناء، فلم يكمل الطريق معهم وبقي عند أخواله في المدينة.
- بعث عبد المطلب ولده الأكبر الحارث إلى حيث أقام عبد الله ليستعلم حاله، فوجده قد توفّي ودفنه أخواله وهو في الخامسة والعشرين من عمره الشريف على أشهر الأقوال، ثم رجع إلى أبيه فأخبره فوجَد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجداً شديداً، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذٍ حمل.
- نزل الخبر المفزع على آمنة عليها السلام نزول الصاعقة، فسكبت عيناها الدموع، وبكت بكاءً مراً على منار فتيان قريش، وتسربلت بأبراد العزاء وعكفت على آلامها الممضّة، وقد رثت زوجها الشابّ بأبيات من الشعر الحزين.
108
88
الدرس التاسع: السيّدة آمنة عليها السلام تصبح أمًّا
الدرس التاسع:
السيّدة آمنة عليها السلام تصبح أمًّا
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى الظروف التي سادت الجزيرة العربية إبّان حمل السيّدة آمنة وقبل الولادة.
- يذكر بعض كرامات حمل آمنة عليها السلام.
- يبيّن بعض الأحداث التي رافقت ولادة السيّدة آمنة عليها السلام للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وما تلاها.
109
89
الدرس التاسع: السيّدة آمنة عليها السلام تصبح أمًّا
حمل السيّدة آمنة عليها السلام المبارك
لمّا توفّي عبد الله عليه السلام كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال حملًا في أحشاء والدته الكريمة. وقد وتوالت عليها البشائر بفضل الله الذي أكرمها به. وقد أضحت عليها السلام على معرفة تامة بأنّها أمّ النبيّ الخاتم من الأيام الأولى لزواجها، وفي رواية عن الامام الصادق عليه السلام في حديثه عن حمل الأنبياء والأوصياء، يقول: "الأوصياء إذا حملت بهم أمهاتهم أصابها فترة شبه الغشية، فأ قامت في ذلك يومها ذلك إن كان نهاراً، أو ليلتها إن كان ليلاً، ثم ترى في منامها رجلاً يبشرها بغلام عليم حليم، فتفرح لذلك، ثم تنتبه من نومها، فتسمع من جانبها الأيمن في جانب البيت صوتاً يقول: حملت بخير، وتصيرين إلى خير، وجئت بخير، أبشري بغلام حليم عليم،... وكذلك الأنبياء إذا وُلدوا، وإنما الأوصياء أعلاق من الأنبياء"[1].
وقد جاءت البشارة للسيدة آمنة عليها السلام، فقد حَدَّثَتْ سلام الله عليها أَنَّهَا أُنْبِئَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فقيل لَهَا: "إِنَّكِ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِذَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَقُولِي أُعِيذُهُ بِالْوَاحِدِ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ فَإِنَّ آيَةَ ذَلِكَ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ نُورٌ يَمْلَأُ قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَإِذَا وُلِدَ فَسَمِّيهِ مُحَمَّداً[2] فَإِنَّ اسْمَهُ فِي التَّوْرَاةِ أَحْمَدُ يَحْمَدُهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاسْمَهُ فِي الْإِنْجِيلِ حَمِيدٌ يَحْمَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاسْمَهُ
[1] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص387 - 388، باب مواليد الأئمة عليهم السلام.
[2] مُحمد: اسم علم منقول من صفة من قولهم رجل مُحمد أي كثير الخصال المحمودة، والمُحمد في اللغة هو الذي يحمد حمداً بعد حمد. مرة بعد مرة. فيه معنى المبالغة والتكرار، وهو في معنى محمود، فاسمه مطابق لمعناه، والله تعالى سماه به قبل أن يسمى، فهذا علم من أعلام نبوته إذ كان اسمه صادقا عليه، فهو صلى الله عليه وآله وسلم محمود في الدنيا والآخرة، في الدنيا بما نفع به من العلم والحكمة..، وفي الآخرة بشفاعته صلى الله عليه وآله وسلم...، فقد تكرر معنى الحمد، ثم إنه لم يكن مُحمداً حتى كان أحمد حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على مُحمد فذكره المسيح عليه السلام في قوله: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ﴾, فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بمُحمد لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان مُحمداً بالفعل، وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الناس لربه، وهو صلى الله عليه وآله وسلم أجل من حمد، وأفضل من حمد، أحمد المحمودين، وأحمد الحامدين، ومعه لواء الحمد يوم القيامة ليتم له كمال الحمد ثم يشفع فيحمد على شفاعته، فانظر كيف ترتب هذا الاسم الآخر في الذكر والوجود في الدنيا والآخرة.
111
90
الدرس التاسع: السيّدة آمنة عليها السلام تصبح أمًّا
فِي الْفُرْقَانِ مُحَمَّدٌ قَالَتْ فَسَمَّيْتُهُ بِذَلِك"[1]. وهذا يقتضى أنّها رأت حين حملت به صلى الله عليه وآله وسلم كأنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، ثمّ لمّا وضعته رأت عياناً تأويل ذلك كما رأته قبل ذلك ها هنا. والله أعلم[2].
هذا ولم يكن حمل السيّدة المباركة آمنة عليها السلام يشبه حمل النساء، فلم تكن ترى من جرائه أيّ تعب أو نصب، بل كان مصدر سعادة وراحة لها، حيث روي عنها أنّها قالت: "لما حملت به لم أشعر بالحمل، ولم يصبني ما يصيب النساء من ثقل الحمل، فرأيت في منامي كأنّ آتياً أتاني، فقال لي: قد حملت بخير الأنام.."[3]. وفي رواية أخرى قالت: "لقد علقت به، تعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما وجدت له مشقّةً حتّى وضعته.."[4].
إرهاصات الولادة الميمونة
كانت الجزيرة العربية تعيش إرهاصاتٍ كثيرةً قبل ولادة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وكلّ البشارات والكرامات التي سبقت ورافقت وتبعت مولده الشريف إنّما كانت تَبعاً لدعوة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إذ قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾[5], وبشارة السيد المسيح عليه السلام إذ يقول الله عنه: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾[6], وتبعتهما بشارات أجداد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وآبائه الكرام، وغيرهم من الحكماء والعرفاء، وهذا ممّا لا يخفى على كل من قرأ تاريخ جزيرة العرب بتأمّلٍ وتمعّنٍ، فالجميع كان ينتظر ولادة الرسول الخاتم الذي كثرت روايات اليهود والنصارى حوله.
وإنّ أكثر البشارات والكرامات والأنوار التي صاحبت حمل وولادة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
[1] كشف الغمة في معرفة الأئمة (ط - القديمة)، ج1، ص 20.
[2] أبو الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي، السيرة النبوية، ج1، ص207، طبعة دار المعرفة، بيروت.
[3] الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص196، طبعة:2، الدار الإسلامية، طهران،
[4] ابن كثير، السيرة النبوية، ج1، ص207، طبعة دار المعرفة، بيروت، ورواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق.
[5] سورة البقرة، الآية 129.
[6] سورة الصف، الآية 6.
112
91
الدرس التاسع: السيّدة آمنة عليها السلام تصبح أمًّا
هي التي كانت تشاهدها الأم المباركة للوليد المبارك، فالسيّدة آمنة عليها السلام صاحبة القسط الأكبر، والنصيب الأوفر من البشائر التي تدلّ على جلال قدر جنينها، وما كانت هذه الرؤيا ومثيلاتها ليخفى تأويلها على السيّدة آمنة وهي من هي ذكاء وفطنة، فقد فهمت أنّ من حملت به سيملأ الأرض نوراً وضياء، وهدى ورحمة، وسيكون له شأن وذكر.
فصاحب النور هو من تغذى في أحشائها تسعة أشهر كمّلاً، وهي لا تشكو وجعاً ولا مغصاً، ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء، وقد وجدت سلام الله عليها في هذا الجنين العظيم أعظم المواساة لها بعد فقدها زوجها الغالي، فها هي تستمع إلى دقات قلب جنينها الغالي، وقلبها تغمره السعادة والمسرّة.
ولادة سيد البشرية صلى الله عليه وآله وسلم
روي عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عن آبائه الكرام عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: "... ومحمّد صلى الله عليه وآله وسلم سقط من بطن اُمّه واضعاً يده اليسرى على الأرض، ورافعاً يده اليمنى إلى السماء، ويحرّك شفتيه بالتوحيد، وبدأ من فيه الطاهر نور رأى أهل مكّة منه قصور بُصرى من الشام وما يليها، والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها، والقصور البيض من اصطخر وما يليها، ولقد أضاءت الدنيا ليلة وُلد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى فزعت الجنّ والإنس والشياطين.."[1].
وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "وأصبحت الأصنام كلّها صبيحة وُلد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليس منها صنم إلّا وهو منكبّ على وجهه، وارتجس في تلك الليلة إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نيران فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى المؤبذان[2] في تلك الليلة
[1] أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، الاحتجاج، ج1، ص223، طبعة مركز الأبحاث العقائدية، ورواه بالإسناد الشيخ المحدث محمد بن الحسن الحُر العاملي، إثبات الهداة، ج1، 261-262، طبعة:1، مؤسسة الأعلمي.
[2] والمؤبذان بضم الميم وفتح الباء: فقيه الفرس وحاكم المجوس، ذكره الفيروز آبادي، وقال الجزري: المؤبذان للمجوس كقاضي القضاة للمسلمين، يراجع بحار الأنوار، ج15، ص259.
113
92
الدرس التاسع: السيّدة آمنة عليها السلام تصبح أمًّا
في المنام إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً[1] قد قطعت دجلة، وانسربت في بلادهم، وانقصم طاق الملك كسرى من وسطه، وانخرقت عليه دجلة العوراء، وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ثمّ استطار حتّى بلغ المشرق، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلّا أصبح منكوساً، والملك مخرساً لا يتكلم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة، وبطل سحر السحرة، ولم تبق كاهنة في العرب إلّا حجبت عن صاحبها، وعظمت قريش في العرب، وسموا آل الله تعالى - قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام - إنما سموا آل الله لأنهم في بيت الله الحرام، وقالت آمنة: إنّ ابني والله سقط فاتّقى الأرض بيده، ثمّ رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثمّ خرج منّي نور أضاء له كلّ شيء، وسمعت في الضوء قائلاً يقول: إنّك قد ولدتِ سيد الناس فسميه محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم.."[2].
وبعد أن أطلّ صلى الله عليه وآله وسلم على الوجود بنوره أُتي به جدّه عبد المطلب لينظر إليه، وقد بلغه ما قالت أمّه، فأخذه ووضعه في حجره، ثم قال:
الحمد لله الذي أعطاني
هذا الغلام الطيب الأردان[3]
قد ساد في المهد على الغلمان
أعيذه بالله ذي الأركان
حتى يكون بلغة الفتيان
حتى أراه بالغ البنان
أعيذه من كل ذي شنآن
من حاسد مضطرب العنان
[1] خيل عراب: كرائم سالمة من الهجنة. يراجع المصدر السابق، ص258.
[2] الشيخ الصدوق، الآمالي، ص286، المجلس الثامن والأربعون، يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول من سنة ثمان وستين وثلاثمائة، طبعة:6، كتابجي طهران، بسنده إلى محمد بن أبي نصر البزنطي، عن أبان بن عثمان، عن الإمام الصادق عليه السلام، وروي نصفه الأول عن مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه- وقد أتت عليه خمسون ومائة سنة- يراجع دلائل النبوة للبيهقي، ج1، ص126، وتاريخ الأمم والملوك لمحمد بن جرير الطبري، والإصابة لابن حجر العسقلاني، وغيرهم.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص286، المجلس الثامن والأربعون.
114
93
الدرس التاسع: السيّدة آمنة عليها السلام تصبح أمًّا
ذي همة ليس له عينان
حتى أراه رافع اللسان
أنت الذي سميت في الفرقان
في كتب ثابتة المثاني
أحمد مكتوباً على اللسان[1]
هذا وقد اختلف الرواة والمؤرخون، وأصحاب السيَر في تحديد يوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم، واتّفقوا جميعهم على أنّ مولده كان عام الفيل سنة (53) قبل الهجرة في شهر ربيع الأول. قـال السيد ابن طاووس: إنّ الّذين أدركناهم من العلماء كان علمهم على أنّ ولادته المقدّسة صلّى الله عليه وعلى الحافظين لأمره أشرقت أنوارها يوم الجمعة السابع عشر من ربيع الأول في عام الفيل عند طلوع فجره[2].
ما تلا مولد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
قد خُصّت ليلة ظهوره، ويوم سطوع ضوء نوره بخصائص لا تتناهى ومزايا لا تضاهى إذ هو سيد ولد آدم ومعولهم وخاتم النبيين وأوّلهم، فصلّى الله عليه وعلى آله الطيبين الذين روت كريمتهم السيّدة فاطمة بِنت الْحُسينِ، عَن عمَّتِها عقيلة الهاشميين السيّدة زينب بنت عليٍّ، عن أبيها الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام قَال: "سمعتُ أَبا طالب، يُحَدِّثُ أنَّ آمِنةَ بنت وهب، لمّا ولدت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، جاءَهُ عبد الْمُطَّلب، فأخذه وقبّلهُ، ثُمَّ دفعه إلى أبي طالب، فقال: هو وديعتي عندك ليكُوننَّ لِابْنِي هذا شَأنٌ. ثُمَّ أمر فنُحرت الجزائر، وذُبِحت الشَّاء، وأُطعِمَ أهلُ مكة ثلاثاً، ثم نُحِرَ في كُل شعب من شعابِ مكَّة جزُور، لا يُمنعُ مِنهُ إِنسان، ولَا سبعٌ، وَلَا طائِرٌ"[3].
[1] محمد بن اسحاق، السيرة النبوية، ج1، ص22، وابن سعد في الطبقات الكبرى، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن كثير في السيرة النبوية، والبداية والنهاية، والسهيلي في الروض الآنف، وغيرهم.
[2] السيد علي بن موسى "ابن طاووس"، إقبال الأعمال، ج2، ص603، طبعة:2، دار الكتب الإسلامية، طهران.
[3] أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، دلائل النبوة، ج1، ص138، حديث 81، طبعة:2، دار النفائس، بيروت.
115
94
الدرس التاسع: السيّدة آمنة عليها السلام تصبح أمًّا
وروي أن أبا طالب عقّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم السابع ودعا آل أبي طالب، فقالوا: ما هذه؟ فقال: "هذه عقيقة أحمد"، قالوا: لأي شيء سمّيته أحمد؟ قال: "سمّيته أحمد لمحمدة أهل السماء والأرض له"[1].
وقد روي عن الامام الصادق عليه السلام أنّه قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فُتح لآمنة بياض فارس، وقصور الشام، فجاءت فاطمة بنت أسد إلى أبي طالب ضاحكةً مستبشرةً، فأعلمته ما قالته آمنة، فقال لها أبو طالب: "وتتعجّبين من هذا؟ إنّك تحبلين، وتلدين بوصيّه ووزيره"[2].
وفي ذلك اليوم المبارك روى الامام الصادق عليه السلام حادثةً حصلت في مكّة فقال: "لما ولد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جاء رجل من أهل الكتاب إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة، والوليد بن المغيرة، والعاص بن هشام، وأبو وجزة بن أبي عمرو بن أمية، وعتبة بن ربيعة، فقال: أوُلد فيكم مولود الليلة؟
فقالوا: لا. قال: فولد إذاً بفلسطين غلام اسمه أحمد به شامة كلون الخزّ الأدكن، ويكون هلاك أهل الكتاب واليهود على يديه قد أخطأكم والله يا معشر قريش. فتفرّقوا وسألوا فأُخبروا أنّه وُلد لعبد الله بن عبد المطلب غلام، فطلبوا الرجل فلقوه، فقالوا: إنه قد وُلد فينا والله غلام، قال: قبل أن أقول لكم أو بعد ما قلت لكم؟ قالوا: قبل أن تقول لنا، قال: فانطلقوا بنا إليه حتّى ننظر إليه، فانطلقوا حتّى أتوا أمه، فقال: أخرجي ابنك حتّى ننظر إليه، فقالت: "إن ابني والله لقد سقط وما سقط كما يسقط الصبيان. لقد اتّقى الأرض بيديه ورفع رأسه إلى السماء، فنظر إليها، ثم خرج منه نور حتّى نظرت إلى قصور بصرى، وسمعت هاتفاً في الجو يقول: لقد ولَدتِه سيّد الأمة، فإذا وضعتِه فقولي: أعيذه بالواحد من شرّ كلّ حاسدٍ، وسمّيه محمّداً".
قال الرجل: فأخرجيه فأخرجته، فنظر إليه ثم قلبه ونظر إلى الشامة بين كتفيه، فخرّ
[1] الشيخ الكليني، الكافي، ج6، ص34، وروى البيهقي ذلك في دلائل النبوة، ج1، ص113، عن عبد المطلب عليه السلام، والخبر عند ابن عساكر في تاريخ دمشق، ج3، ص81، ونقله ابن كثير في البداية والنهاية، ج2، ص264.
[2] الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص454.
116
95
الدرس التاسع: السيّدة آمنة عليها السلام تصبح أمًّا
مغشياً عليه، فأخذوه صلى الله عليه وآله وسلم فأدخلوه إلى أمه، وقالوا: بارك الله لك فيه، فلمّا خرجوا أفاق، فقالوا له: مالك ويلك؟ قال: ذهبت نبوّة بني إسرائيل إلى يوم القيامة هذا والله من يبيرهم، ففرحت قريش بذلك، فلمّا رآهم قد فرحوا قال: (قد) فرحتم أمّا والله ليسطونّ بكم سطوةً يتحدّث بها أهل المشرق والمغرب"[1].
قال الله العظيم في محكم كتابه وجليل خطابه: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[2].
وقال مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته[3]، وسأنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وكذلك ترى أمّهات النبيين صلوات الله عليهم"[4].
ورؤيا السيّدة آمنة عليها السلام رواها الأئمة الطاهرون عن جدّهم الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، وروتها والدته العظيمة السيّدة فاطمة بنت أسد بن هاشم عليها السلام، وروت ذلك أيضاً مرضعة رسول الله حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية عن السيّدة آمنة بنت وهب عليها السلام، وحكاه من حضره، ورأى من بركته وعجائبه، كالسيّدة فاطمة بنت أسد، كذلك نقل هذا الحديث عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عدّة من الصحابة عنه صلى الله عليه وآله وسلم[5].
[1] الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص300-301، ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى، ج، ص129، طبعة:1، دار الكتب العلمية، والحاكم في المستدرك، ج2، ص657، حديث 4177، طبعة:، دار الكتب العلمية، والبيهقي وأبو نعيم في دلائل النبوة عن عائشة زوج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم باختلاف ألفاظ.
[2] سورة المائدة، الآيتان 15 - 16.
[3] أي ملقى على الجدالة، وهي الأرض، وكان بعد جسداً بلا روح.
[4] أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج28، ص395، حديث 17163، طبعة:1، مؤسسة الرسالة، بيروت، ورواه محمد بن حبان، صحيح ابن حبان، ج14، ص312، حديث 6404، باب: ذكر كتبة الله جل وعلا عنده محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، الطبعة:2، مؤسسة الرسالة، بيروت، والبخاري في التاريخ الكبير، والتاريخ الصغير، وأبو عبد الله الحاكم في مستدركه، وأبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير، والآجري في الشريعة، والبيهقي في شعب الإيمان والدلائل، وغيرهم من الحفاظ والمحدثون.
[5] الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص300- 303، عن الإمامين الباقر، والصادق صلى الله عليه وآله وسلم، والطبرسي في الاحتجاج عن الإمام الكاظم عن آبائه الكرام عن أمير المؤمنين عليه السلام، وسيرة ابن إسحاق، وما لا يسع حصره في هذا المختصر.
117
96
الدرس التاسع: السيّدة آمنة عليها السلام تصبح أمًّا
وحدثت السيّدة آمنة عليها السلام وحيدها وأثيرها محمداً صلى الله عليه وآله وسلم برؤياها قريرةً متفائلةً بمستقبل ولدها، وهو صلى الله عليه وآله وسلم بدوره أخبرنا بذلك كما تقدّم. ومن تتبّع هذه الحوادث وما يشبهها من إرهاصات النبوّة، فسيجد فيها سنّة من سنن الله تعالى في أعداد أنبيائه ورسله.
وهذا النور العظيم الذي خرج من آمنة عليها السلام، وأضاءت لها منه قصور الشام هو من نور النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الذي فاض على البرية برسالته، وهو أنفع للعباد من الغيث الكثير المنهمر، نور استنارت منه المشارق والمغارب والأقطار.
118
97
الدرس التاسع: السيّدة آمنة عليها السلام تصبح أمًّا
المفاهيم الأساسيّة
- توالت البشائر على السيّدة آمنة عليها السلام بفضل الله الذي أكرمها به، وقد أضحت عليها السلام على معرفةٍ تامّةٍ بأنّها أمّ النبيّ الخاتم حيث بشّرت في منامها وقيل لها: إِنَّكِ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
- لم يكن حمل السيّدة المباركة آمنة عليها السلام يشبه حمل النساء، فلم تكن ترى من جرائه أيّ تعبٍ أو نصبٍ، بل كان مصدر سعادة وراحة لها، ولم يصبها ثقل الحمل، وما وجدت له مشقةً حتّى وضعته صلى الله عليه وآله وسلم.
- عاشت الجزيرة العربية إرهاصاتٍ تبشّر بقرب ولادة النبيّ الذي ستتجلّى فيه دعوة إبراهيم وعيسى عليه السلام وتبعتها بشارات أجداد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وآبائه الكرام، وغيرهم من الحكماء والعرفاء. وقد حظيت السيّدة آمنة عليها السلام بالقسط الأكبر من البشارات والكرامات لهذا الحمل المبارك.
- جاء في الخبر أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لمّا وُلد سقط من بطن اُمّه واضعاً يده اليسرى على الأرض، ورافعاً يده اليمنى إلى السماء، ويحرّك شفتيه بالتوحيد، وبدا من فيه الطاهر نور رأى أهل مكّة منه قصور بُصرى من الشام وما يليها، والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها، والقصور البيض من اصطخر وما يليها. ولقد أضاءت الدنيا ليلة وُلد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى فزعت الجنّ والإنس والشياطين.
- اختلف الرواة والمؤرخون في تحديد يوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم، واتّفقوا جميعهم على أنّ مولده كان عام الفيل سنة (53) قبل الهجرة في شهر ربيع الأوّل، وعن ابن طاووس أنّه كان يوم الجمعة السابع عشر من ربيع الأول في عام الفيل عند طلوع فجره.
- بعد الولادة المباركة نُحرت الجزائر وذُبحت الشياه وأُطعِمَ أهلُ مكة ثلاثاً، ثم عقّ أبو طالب عليه السلام عنه في اليوم السابع لولادته صلوات الله عليه.
119
98
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
الدرس العاشر:
السيّدة آمنة عليها السلام
من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يذكر مقتطفات من دور السيّدة آمنة عليها السلام في سنيّ النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الأولى.
- يبيّن حادثة إرضاع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في البادية.
- يشرح حادثة وفاة السيّدة آمنة عليها السلام ومجرياتها.
121
99
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
أمّ الهدى
بعد مولد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم تعد السيّدة آمنة عليها السلام تشعر بالوحدة التي كانت تشعر بها من قبل، فلقد نعمت الأمُّ التي ترملت في شبابها بالوليد الجميل المشرق الجبين، الذي ملأ البيت من حولها نوراً وسروراً، ورأت فيه السلوى عن والده الذي غيّبه الموت، ولم يرَ هذا الوليد الذي يملأ العيون بهاءً، والقلوب محبة.
والسيّدة آمنة عليها السلام تستشعر الآن أنّ عليها اتّجاه زوجها عبد الله واجباً يجب أن تؤدّيه، ولا يمكن لها بأيّ حالٍ من الأحوال أن تنسى، وهي التي أحست أنَّ رسالتها بالنسبة لابن عمها لم تنته بعد، فعليها أن تعيش من أجل مولودها الذي هوَّنَ عليها مرارة الفراق، ورأت في حمله ووضعه ما يؤنس كلَّ وحشة، وكان حالها كحال والدتَي النبيين إسماعيل وموسى عليهما أزكى الصلاة والسلام، وقد شاء الله سبحانه لهنَّ أن يتحمَّلن عبء رعاية هؤلاء العظام بمفردهنَّ دون مشاركة الآباء، رغم اختلاف الأسباب.
وأقبلت السيّدة آمنة عليها السلام ترضع ولدها سيّد الأنام، وتغذوه من لبنها الأطهر، وقد اكتملت فرحتها وبِشرها، فهي التي لم تنجب امرأة قطَّ مضارع من أنجبت، ولا فرعت في نساء الدنيا مشابه من فرعت
لَو كانَ مِثلَكِ كُلُّ أُمٍّ بَرَّةٍ
غَنِيَ البَنونَ بِها عَنِ الآباءِ[1]
[1] أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي المشهور بالشريف الرضي.
123
100
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
ولكن للأسف الشديد قد بالغ الكثير من أصحاب الأقلام القاسية - التي تشبه جلافة طباعهم - فقصَّروا في حقّ هذه السيّدة العظيمة أيّما تقصير، ثمّ حرموها من أقدس علاقة بين الأمّ ووليدها، فقالوا إنّها أرضعت ولدها المصطفى يومين أو ثلاثة ثم دفعت وليدها إلى ثويبة مولاة أبي لهب، فأرضعته بلبن ولدها مسروح. وقد ردَّ هذا الأمر جملةً وتفصيلاً العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي[1]، فكفانا مؤنة الاستقصاء الذي يضيق عنه الوسع في هذا الإملاء، فجزاه الله عنّا أحسن الجزاء.
كذلك ذكر القوم وجوهاً لتبرير مزاعمهم، فقالوا لجفاف اللبن عند أمِّه آمنة. هذا مع أنّ حليمة السعديَّة، وهي مرضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا خلاف، تروي فيما بعد أنَّ صدرها كان جافاً من اللَّبن، فلم تستطع إرضاع ولدها حتّى ألقمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثدي فدرّ لبنها، وذلك من بركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعلام تصيب هذه البركة حليمة السعدية، ولا تشمل والدة خير البريَّة، وهي التي خرج منها نورٌ أضاءت لها منه قصور الشام، وأنت ترى أنَّ موسى بن عمران عليه السلام ولد في أصعب الظروف حيث كان فرعون يقتـِّل أولاد بني إسرائيل ويستحيي نساءهم، وأوحى الله تبارك وتعالى إلى أمه أن تجعله في تابوت وتلقيه في اليمّ، ومع ذلك لم يحرم أمّه من هذه الرابطة المقدّسة[2] قال تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[3], ونبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ليس بدعاً من الرسل، بل هو سيدهم.
وفاة وهب والد آمنة عليها السلام
كانت السيّدة آمنة ترى في وليدها العظيم حصناً ورصيداً لها في مستقبل أيامها، وكانت تستمدّ من وجوده العزيمة والمضاء، فلمّا أتى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهران مات جدُّه وهب بن عبد مناف والد أُمّه آمنة، وجاء عبد المطّلب، وجماعةٌ من قريش وبني هاشم،
[1] الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج2، ص 70- 75، طبعة: 4، دار الهادي، بيروت.
[2] آية الله الشيخ محمد بن موسى اليعقوبي خلال لقاءه طلبة جامعة الصدر الدينية، يوم المولد النبوي الشريف، عام 1430ه.
[3] سورة القصص، الآيتان 12 - 13.
124
101
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
وغسَّلوا وهباً وحنَّطوه وكفَّنوه، ودفنوه على ذيل الصفا[1]. فبكته ابنته آمنة عليها السلام ورثته بمراثٍ تشيد فيها بالصّفات النبيلة التي كان يتمتع بها الجدُّ الثاني لخاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت عليها السلام[2]:
أني لباكية وهباً فمعولةٌ
وهب بن عبد مناف سيد الناسِ
فقد رزئت كريماً غير مؤتشبٍ
ضخم الدسيعة حناساً لحناسِ
ماضي العزيمة لا يخشى غوائله
من جوهر من قريشٍ غير أنكاسِ.
رضاعه صلى الله عليه وآله وسلم في البادية
بعد مولد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت تمضي الأيام والسيّدة آمنة عليها السلام عاكفة على ولدها الغالي تعطّره بأريج الحنان، وتحوطه بأجواء المحبَّة، والرحمة الباهرة، وذلك بعد أن حُرم من رحمة الأبوَّة، فنزعت السيّدة آمنة عليها السلام الراحة من نهارها، والنوم من ليلها تحوطه بأنفاسها إلى أن جاء وقت إرساله للبادية على العادة التي اعتادها أشراف مكة، وكانوا يعلّلون ذلك بوجوب تعلم أولادهم آداب العربيَّة وخصال العرب، ويرون أيضاً أنَّ أطفالهم ينشؤون أصحَّ أبداناً، وأفصح لساناً، وأقوى جناناً، وأصفى فكراً وقريحة، وهذا الأمر بالطبع لا ينطبق على الأمين الصادق الذي روي عنه أنَّه قال: "إنَّ الله أدَّبني فأحسن تأديبي"[3]، وسلَّم له العرب أنَّه أفصح من نطق بضادهم، فمن ذا الذي يتعلّم عنده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، وهو الذي اختاره الله تعالى وانتخبه من البقيَّة الباقية التي تدين بدين
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج15، ص293، الطبعة:2، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1403ه - 1983م .
[2] المطهر بن طاهر المقدسي، البدء والتاريخ، ج4، ص116، طبعة: مكتبة الثقافة الدينية، بور سعيد، مصر.
[3] شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، المقاصد الحسنة، ج1، ص73، طبعة دار الكتاب العربي، وقال: رواه العسكري في الأمثال عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، ورواه أبو سعد بن السمعاني في أدب الأملاء عن عبد الله بن مسعود، وكلُّ من ضعَّف سنده سلّم بصحَّة معناه، كذلك رواه القطب الراوندي في لب اللباب، وروى الحسن بن الفضل الطبرسي في مكارم الأخلاق عن عبد الله بن عبَّاس، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أنا أديب الله وعليٌّ أديبي".
125
102
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
خليله إبراهيم عليه السلام، واجتباه من بني هاشم خير بطون العرب، وهم أفصحهم لساناً، وأوضحهم بياناً، وأرجحهم ميزاناً وأصحِّهم إيماناً، وأعزِّهم نفراً، وأكرمهم معشراً، وقد قالت أمّه آمنة عليها السلام لحليمة السعديّة[1]: "يا ظئر سلي عن ابنك، فإنَّه سيكون له شأن، وأخبرتها ما رأت، وما قيل لها فيه حين ولدته، وقالت: قيل لي ثلاث ليالٍ: استرضعي ابنك في بني سعد بن بكر، ثمَّ في آل أبي ذؤيب"[2].
وكلام السيّدة آمنة عليها السلام يدلُّ على أنَّها كانت مأمورة في أن لا تدفعه إلَّا لحليمة بنت أبي ذؤيب السعدية.
والروايات في أنَّ حليمة قد ارضعت النبيّ الأكرم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد بلغت حدّ التواتر، ولا يمكن ردُّها لمجرد الظنون، فلا بدَّ من القول إن حليمة السعديَّة كانت امرأةً عظيمة الشأن جليلة القدر، والرواية السابقة تعتبر من الشواهد على عظم شأنها:
دفعت آمنة عليها السلام بخير مولود إلى حضن حليمة السعديّة، وذلك بعد أن تنعّمت بمحيّاه، وأنشأت تقول:
يا ربي بارك في الغلام الأصغرِ
في ابن الذبيحين الكريم العُنصرِ
الهاشميّ القرشيّ الأزهرِ
مبارك اليمن كثير المفخَرِ
ربّ منى والبيت ثم المشعرِ
احفظه رّبي من جميع الضّررِ[3]
وقال أصحاب السيّر إنَّ حليمة رفضته في أولَّ الأمر ليُتمه، ولمَّا لم تتمكَّن من أن تحصل
[1] هي حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية مرضعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، من بني سعد بن بكر من هوازن.
[2] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص111.
[3] الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم، ص394، عن العزفيّ أحمد بن مُحمَّد بن أحمد اللّخميّ الفقيه الْمُحدّث الرئيس أَبي العباس بن الخطيب أبي عبد الله السبتي الْمعرُوف بالعزفي كان ذا فضل وصلاح صنف كتاباً في مولد النَّبِيّ وجوده صلى الله عليه وآله وسلم وكان ذا فنون وألّف في الحديث أجزاء مفيدة، وتوفّي سنة ثلاث وثلاثين وست مائة، يراجع الوافي بالوفيات للصفدي، ج7، ص228، طبعة دار أحياء التراث.
126
103
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
على غيره - في الوقت الذي حصلت فيه باقي المرضعات على أطفالٍ أغنياءٍ وليسوا بإيتام - قبلت أن ترضعه صلى الله عليه وآله وسلم!!
والحقيقة إنَّ هذا القول يصحُّ بالنسبة ليتيمٍ لا أهلَ له، ولا كافلَ، ولا معيلَ، وأما بالنّسبة للمولود الذي رأت قريش من بركات مولده ما رأت، فإنَّ كافله هو عبد المطّلب سيد مُضَر وساقي حجيج بيت الله الحرام ومطعمهم، ووارث أبيه عمرو العلى الذي هشم الثريد لقومه، ورجال مكّة مسنتون عجافُ.
من يباريهم وفي الشمس معنى مُجهد مُتعب لمن باراها
وأمُّ مُحمد آمنة بنت سيّد بني زهرة وهب بن عبد مناف الذي كان مضرب المثل بجزيل عطيته، وعظيم قصعته التي كان يقدمها للضيفان، وهما (آمنة وعبد المطلب) أشرف العرب في الحسب، وأعرقهما في النسب، وأنضرهما عوداً، وأطولهما عموداً، فمثَلهما من يطمع في عطائه، فأيُّ حظوة بعد ترجوها حليمة؟
هذا إذا لم نأتِ برواية شاذان عن الواقدي الذي روى فيها أنَّ عبد المطّلب هو الذي استدعى والد حليمة، فأخبرها أبوها قائلاً: اعلمي أنّ عبد المطّلب رئيس قريش وسيّد بني هاشم سألني إنفاذك إليه لترضعي ولده، وتبشري بالعطاء الجزيل، ففرحت حليمة بذلك، وقامت من وقتها وساعتها، واغتسلت وتطيبت وتبخرّت وفرغت من زينتها، وقصدت هي وأبوها بيت سيّد مكة...[1].
وداع آمنة وعبد المطلب لقرّة العينين
إنّ الذي التمس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المراضع هو جدُّه العظيم عبد المطّلب، وفي ذلك يروي داوود بن هند أنَّ سيّد مكة ذهب يطلب ظئراً، فوافق حليمة السعديّة، فجاء بها، فدفعه إليها، وشيّعها، وهو يقول:
[1] أبو الفضل شاذان ابن جبرائيل القمي، الفضائل، ص27، طبعة:2، الرضي، قم.
127
104
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
يَا رَبَّ هَذَا الرَّاكِبِ الْمُسَافِرِ
مُحَمَّدٍ فاقْلِبْ بِخَيْرِ طَائِرِ
وَازْجُرْهُ عَنْ طَرِيقَةِ الْفَوَاجِرِ
وَاخْلِ عَنْهُ كُلَّ خَلْقٍ فَاجِرِ
أَخْنَسَ لَيْسَ قَلْبُهُ بِطَاهِرِ
وَجِنَّة تَصِيدُ بِالْهَوَاجِرِ
إِنِّي أُرَاهُ مُكْرِمِي وَنَاصِرِي[1]
وروى محمد بن سعد والحسن بن الطراح في كتاب الشواعر عن زيد بن أسلم أنَّ حليمة لمّا أخذت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قالت لها السيّدة آمنة عليها السلام: "اعلمي أنّكِ قد أخذت مولوداً له شأن، والله لحملته فما كنت أجد ما تجد النساء من الحمل، ولقد أتيت فقيل لي إنك ستلدين غلاماً، فسمِّيه أحمد وهو سيّد العالمين، ولقد وقع معتمداً على يديه رافعاً رأسه إلى السماء، فخرجت حليمة إلى زوجها، فأخبرته فَسُرَّ بذلك.."[2].
وَدّعت السيّدة آمنة عليها السلام ولدها العظيم، وقد أودعتْ روحها معه، فجسم آمنة قد بقي في مكة، ولكنَّ روحها حيث مُحمدٌ غادية عليه رائحة
يا راحِلاً وَجَميلُ الصَّبْرِ يَتْبَعُهُ
هَلْ من سبيلٍ إلى لُقْياكَ يَتَّفِقُ
ما أنصَفَتْكَ جُفوني وهيَ دامِيَةٌ
ولا وَفى لكَ قلبي وهو يحترِقُ
و"شرّف الله تعالى حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية برضاعه وخصّها بتربيته، وكانت ذات عقلٍ وفضلٍ فروت من آياته ما يبهر عقول السامعين، وأغناها الله ببركته في الدنيا والدين"[3].
[1] أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة، ج1، ص162-163.
[2] جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، الخصائص الكبرى، ج 1، ص103، طبعة: دار الكتب العلمية، 1405 ه.
[3] الشيخ الجليل محمد بن علي أبو الفتح الكراجكي، كنز الفوائد، ج1، ص167، الطبعة 1: دار الذخائر، قم.
128
105
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
اليتيم العظيم في كنف حليمة
منذ أن ضمّت هذا اليتيم العظيم بدأت تشعر بأنَّها تحمل معها كنزاً ثميناً دونه كلُّ الكنوز، فخرجت على أتانها منطلقة، وزوجها على شارفهم[1]، وقد درّت باللَّبن، فكانوا يحلبون منها مساءً وصباحاً، فمرَّ بحليمةَ نفرٌ من اليهودِ (وهي راجعةٌ إلى بادية بني سعد)، فقالت: ألا تحدّثوني عن ابني هذا، فإني حملته كذا، ووضعته كذا، ورأيت كذا كما وصفت أمّه، فقال بعضهم لبعض:
اقتلوه، فقالوا: أيتيم هو؟ فقالت: لا، هذا أبوه وأنا أمُّه، فقالوا: لو كان يتيماً لقتلناه!
فذهبت به حليمة، وقالت: كدت أخرب أمانتي[2].
وكانت حليمة تتعرَّف من الله تعالى الزيادة والفضل والنعمة في كلّ شيء طيلة مدة رضاع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في بني سعد، فعمَّت البركة جميع الحيّ وتزايد الخير بالزاد والمال، وقد أفضت بما تراه لزوجها ونبّهته إلى بوادر الخير التي أخذت تلوح لهم، فقال لها: عسى أن يكون لهذا الغلام شأنٌ عظيم، وأوصاها بالعناية به والحرص عليه، ولكنَّ حليمة لم تكن تحتاج الى أيّ توصية، فقد ازدحمت في قلبها جميع عواطف الأمومة تجاه هذا اليتيم العظيم، وتفجّر في فؤادها ينبوعٌ من الحنان لا يمكن له أن ينفذ أبداً، وقد كانت تقدّمه على أولادها، وتحلّه في أعلى منزلةٍ من قلبها ورعايتها وبرّها وكرمها.
لقد بلغت بالهاشميّ حليمةٌ
مقاماً علا في ذروة العز والمجدِ
وزادت مواشيها وأخصب ربعها
وقد عمَّ هذا السعد كلَّ بني سعدِ
[1] الشارف: هي الناقة المسنة التي لا تسيل منها قطرة لبن.
[2] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص113.
129
106
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
وقد روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رفض أن يأكل من الصدقة، وهو ابن سنة، وأنه كان يعلّمها فيما بعد أن لا تأكل من الصدقة، فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يكن فطيماً وقتئذٍ إلَّا أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان مُسدَّداً من الله تعالى، فإذا كان في بيت أمّه السعدية ما لا يجوز عليه كان هو المعلمَ لهم، والمانع لنفسه من تناول ما لا يليق به.
وقد روي أنَّ حليمة قد رأت الأصنام تتساقط عند ذكر اسم محمّد، وهذا إن ثبت فلا بدّ أنه يجعل حليمة السعدية لا تعتقد بالأصنام، ولا تعبدها بعدما رأتها تتساقط على وجوهها. هذا بالاضافة لما رأته من معاجز كثيرة حال تربيتها له من تظليل الغمامة له، واخضرار الاشجار ببركة وجوده، وشفائه لبعض الحيوانات ونزول البركة فيها، وغيرها من المعاجز، وما سمعته من أمّه وجّده عبد المطّلب ومنه صلى الله عليه وآله وسلم من كرامات توضح عظم شأنه يجعلها من الموحدين لله تعالى، وقد جعل الله بهذا النبيّ كلّ المحيط الذي تتعامل معه حليمة موحّداً لله، فلا بدّ بعد رؤيتها لذلك كلُّه أن تكون موحدةً. وفيما بعد "لمّا بلغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نبأ وفاتها فاضت عيناه، وذرف عليها الدموع"[1]. وقد روي عن الإمام الصادق جعفر بن محمد عن آبائه الكرام عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه شافعٌ لها يوم القيامة[2].
وكانت حليمة تأتي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلَّ مدةٍ لتجديد العهد بأمّه آمنة عليها السلام، وهي (حليمة) أحرص الخلق على مكثه صلى الله عليه وآله وسلم فيهم لما رأوه من بركته، فتخبر أمّه بذلك، ومن ثمّ تختلق كثيراً من المعاذير والحجج لتتمكّن من استبقائه عندها أكبر مدةٍ ممكنةٍ، فما كانت تتمكّن أن تنفصل عنه أو أن يفارق أحضانها ويبعد عن ساعديها، فقد كان بالنسبة لها ينبوعاً للخير والبركة والسعادة والهناء، فلا تزال تلحّ على السيّدة آمنة عليها السلام حتّى تسرّحه صلى الله عليه وآله وسلم معهم، وقد أجاد القائل:
[1] أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري، جمل من أنساب الأشراف، ج1، ص95، من الطبعة:1، دار الفكر.
[2] الحافظ السيد الرضي شمس الدين فخار بن معد بن فخار بن أحمد الموسوى الحائري، الحجة على الذاهب إلى كفر أبي طالب، ص46-48، طبعة:1، دار سيد الشهداء، طهران.
130
107
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
أضحت حليمة تزدهي بمفاخر
ما نالها في عصرها إنسان
فلها الكفالة والرضاع وصحبة
وكذا جزاء المحسن الإحسان
رجوع حليمة بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
ولما رجعت به آخر مرّةٍ مرّت بذي المجاز[1]، وكان بهذا السوق عرّاف، أي منجّمٌ، يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاح:
يا معشر العرب اقتلوا هذا الصبيّ، فليقتلنَّ أهل دينكم، وليكسرنَّ أصنامكم، وليظهرنَّ أمره عليكم، وجعل يغري بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فانسلّت به حليمة، فجعل الناس يقولون أيّ صبيّ هو؟[2].
يقول ابن إسحاق: "وكانت الأحبار من يهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدّثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه لمّا تقارب زمانه. أمّا الأحبار من يهود والرهبان من النصارى، فَلِمَا وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه لما كان في عهد أنبيائهم إليهم فيه، وأمّا الكهان من العرب، فتأتيهم به الشياطين من الجنّ فيما تسترق به من السمع، إذ كانت لا تُحجب عن ذلك بالقذف والنجوم، كما حُجبت عند الولادة والمبعث، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره، ولا تلقي العرب لذلك بالاً حتّى بعثه الله عزّ وجلَّ، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرونها فعرفوها، فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها فرموا بالنجوم، فعرفت الجنّ أنّ ذلك لأمر حدث من الله عزّ وجلّ في العباد. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثه، وهو يقصُّ عليه خبر الجنّ إذ حجبوا عن
[1] ذي المجاز: سوق كان يقام في الجاهلية على فرسخ من عرفة، وكانت العرب تنتقل إليه، فتقيم به إلى أيام الحج.
[2] أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة، ج1، ص159،
131
108
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
السمع، فعرفوا ما عرفوا وما أنكروا من ذلك حين رأوا ما رأوا: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾[1]".[2]
ولما كثرت مشاهدات العرافين والكهّان واليهود للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في البادية، ونداءاتهم بوجوب قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرّرت حليمة ردَّه على أمّه وجدّه، فرآه معها نفرٌ من نصارى الحبشة حين رجعت به إلى أمّه بعد فطامه، فنظروا إليه وقلَّبوه، أي رأوا خاتم النبوة بين كتفيه وحمرة في عينيه، وقالوا لها هل يشتكي عينيه؟ قالت، لا ولكن هذه الحمرة لا تفارقه، ثم قالوا لها: لنأخذنَّ هذا الغلام، فلنذهبنَّ به إلى ملكنا وبلدنا، فإنَّ هذا الغلام كائنٌ له شأن، نحن نعرف أمره، فلم تكد تنفلت به منهم.
وهذا مما هاج أمَّه السعديَّة على ردّه الى أمَّه آمنة بنت وهب عليها السلام[3]، وتركته عندَها، وهو دونَ الثالثة كما قد نقل عنها[4].
الأم الرؤوم[5]
يرجع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كنف أمِّه آمنة عليها السلام لكي يحظى برعاية الأمّ الحنون في أهمِّ حُقْبَةٍ من صباه، ولكي ينشأ في ظلِّ جدِّه العظيم. ولقد كانت لحظات مفعمةً بالمشاعر الفياضة لمّا عاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى حضن أمّه الدافئ، فوجد فيه كلّ الطمأنينة والسكينة، والرأفة والرحمة التي كانت تحملها نظرات أمّه النورانيَّة إليه، ولقد كان غياب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عينيها للحظات، يشكّل لها أعظم المصائب وآلمها، فقد غاب عن ناظريها ذات يوم، فكان يوم مصيبتها، وخرج بنو هاشم، ونفر من قريشٍ يبحثون عنه صلى الله عليه وآله وسلم في كل
[1] سورة الجن، الآيات 1-10.
[2] محمد بن إسحاق، سيرة ابن إسحاق، ج1، ص111-112، طبعة:1، دار الفكر، بيروت.
[3] ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص304، والسهيلي في الروض الأنف.
[4] ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص167، طبعة:2، مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، وتاريخ الطبري، والروض الأنف للسهيلي، وعيون الأثر، والبداية والنهاية، والسيرة النبوية لابن كثير، وغيرهم من أصحاب السيَر.
[5] الرؤوم: العطوف الحنون، ويقال للأنثى إذا أحبت ولدها وعطفت عليه ولزمته، فهي رائمة ورائم ورؤوم، يراجع المعجم الوسيط، ج1، ص320، طبعة: دار الدعوة، تحقيق مجمع اللغة العربية.
132
109
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
حدبٍ وصوب. يقول ابن مسعود: أتينا الوادي، فرأيناه يأكل الرطب من شجرة أمِّ غيلان، وحوله شابَّان، فلمَّا قربنا منه ذهب الشابَّان، وكانا جبرئيل وميكائيل عليهما السلام، فسألناه من أنت؟ وماذا تصنع؟ قال: أنا ابن عبد الله بن عبد المطّلب، فحمله عبد المطّلب على عنقه، وطاف به حول الكعبة، وكانت النساء اجتمعن عند آمنة على مصيبته، فلمّا رآها تمسّك بها، وما التفت إلى أحدٍ[1].
يا نعم بطـــنٍ قد حـــــواك ويا لـهُ
نســــبٌ له أهل الســـما خُـــدامُ
إن عاطفة الحنوّ والشفقة التي أودعها الله في قلب آمنة لولدها قد بلغت الغاية القصوى، وبها احتملت ما احتملت من فراق زوجها عبد الله بن عبد المطّلب، وأبيها وهب بن عبد مناف، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يرى كيف أنَّ أمّه آمنة عليها السلام تمضي الليل حانيةً عليه، وساهرةً على حفظ صحَّته، وسلامته، وتمضي النهار لا شغل لها إلا رعايته، فقد كانت عليها السلام مثلاً رائعاً للأمومةِ الحيَّة النابضة التي استطاعت رغم انعتاقها الوامض من رحلة الزمن، أن تهب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مدةٍ زمنيةٍ خاطفةٍ، كلَّ ما يمكن أن تهبه الأمُّ الرحيمة لولدها من عطفٍ، ومن حبٍّ وحنان.
ذهاب آمنة عليها السلام إلى يثرب
لا زالت السيّدة آمنة عليها السلام تتقلّب في كرامات الله وأفضاله ورحمته وبركاته المصبوبة على ولدها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وعليها إلى أن وافتها المنيّة. وفي ذلك يروي جُلُّ المؤرخين وأصحاب السيّر رواية موجزة مفادها أنَّ السيّدة آمنة عليها السلام كانت قدمت بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة على أخواله من بني النجّار[2] تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة.
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج15، ص334، نقلاً عن مناقب آل أبي طالب.
[2] إضافة الأخوال إليه مجازاً لأنهم اخوال جدّه عبد المطّلب عليه السلام.
133
110
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
وقيل: إنّها أتت المدينة تزورُ قبر زوجها عبد الله بن عبد المطّلب، ومعها ولدها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأمّ أيمن حاضنته، وبعد إقامتها في يثرب لشهرٍ من الزمان عادت الى مكّة، فماتت بالأبواء ودفنت هناك[1]، وللنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من العمر ستّ سنين[2].
وفي هذا الموضع يحقُّ لأيِّ متدبرٍ أن يسأل هل يرضى سيّد مكة أن تخرج السيّدة آمنة، ومعها ولدها المبارك الميمون على هذا الحال؟! ويحقُّ لسائل أن يسأل أين أبو طالب وإخوانه الكرام من آل عبد المطّلب عن كريمة قريش، وولدها العظيم الذي هو بقيَّة حبيبهم عبد الله بن عبد المطّلب؟!
أين هم، وقد شهدوا وسمعوا مرةً بعد مرة كم قد تعرض ابنهم للاغتيال؟! أين هم حتَّى يتركوا كريمة قريش تخرج به من مكَّة إلى يثربَ قاطعةً رحلةً تبلغ مسافتها أكثر من أربعمائة كيلو متر في وسط تلك الصحراء الموحشة !! وليس معها غير أم أيمن؟!
الحقُّ أنَّ هذا أمرٌ لم نعهده من صغار صعاليك الأعراب، فكيف يُقبل في حقّ سراة العرب، وسادة البطاح، ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب! ويؤسفنا القول أنَّ نفراً من العلماء لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة هم الذين ذكروا أنها كانت بمعيَّة عمها سيد مكة عبد المطلّب بن هاشم، فتأمل قولهم: "ولما أتى لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ست سنين، زارت أمه قبر زوجها بالمدينة، كما كانت تزوره، ومعها عبد المطّلب، وأم أيمن حاضنة رَسُول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فَلَمَّا صارت بالأبواء منصرفةً إلى مكةَ، ماتت بها ودفنت، ويقال إن عبد المطّلب زار أخواله من بني
[1] الابواء: قرية تاريخيّة عظيمة، فيها ضريحُ السيّدة آمنة بنت وهب أمّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وفيها ولد إمامنا الكاظم موسى بن جعفر عليه السلام، وهي اليوم مركزٌ يتبع محافظة رابغ، وتقع شرق شمال المحافظة، وتبعد عن مكّة المكرّمة 200 كلم، وعن المدينة المنوّرة 170 كلم، وعنّ جدّة من ناحية الشّمال 190 كلم، وهي على يمين القادم من مكّة المكرّمة باتّجاه المدينة المنوّرة، ويستفاد من المروي في كتب التاريخ والسيّر أنَّ قَدَمَي مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد وطئتاها ثماني مرّات، الأولى مع والدته العظيمة (عليها السلام)، والثّانية مع عمّه أبي طالب عليه السلام وكان عمره صلى الله عليه وآله وسلم اثني عشر عاماً، والثّالثة عندما خرج صلى الله عليه وآله وسلم في تجارة أمّ المؤمنين السّيّدة خديجة الكبرى (عليها السلام)، والرّابعة في غزوة الأبواء، والخامسة في غزوة الحُديبية، والسّادسة في عمرة القضاء، والسّابعة عام الفتح، والثّامنة في حجّة الوداع، وقد سمّيت هذه القرية بالأبواء لأنّ السيول تبوء بها أَيْ: تَحِلّ بِهِا.
[2] طبقات ابن سعد، ج1، ص31، و ص58، و ص60، و ص73، وسيرة ابن هشام، وتاريخ الإسلام للذهبي، وتهذيب الاسماء واللغات، والدر المنثور، وسفينة البحار، وعيون الأثر، وغيرها.
134
111
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
النجار، وحمل معه آمنة ورسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رجع منصرفاً إلى مكة، ماتت آمنة بالأبواء"[1].
إقامة آمنة في يثرب
إذاً رأت السيّدة آمنة عليها السلام أن تزور قبر زوجها الراحل بيثرب، كما كانت تزوره، وتصحب معها ولدها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فخرجت بمعيَّة عبد المطّلب بن هاشم جدّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ومعهم بركة أمُّ أيمن[2]، تحضنه، فلما وصلوا إلى المدينة نزلت السيّدة آمنة عليها السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلمفي الدار التي دفن فيها عبد الله ابن عبد المطلب عليه السلام، فأقامت شهراً.
روى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يكون مع أمّه، فلما بلغ ستَّ سنين خرجت به أمّه إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزور أخواله، ومعه أمُّ أيمن، فنزلت به في دار النابغة - رجلٌ من بني عدي بن النجار - فأقامت به شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر أموراً كانت في مقامه. ذلك لمَّا نظر إلى أطم بني عديّ بن النجار عرفها"[3]، وقال: "كنت ألاعب أنيسة جاريةً من الأنصار على هذا الأطم، وكنت مع غلمانٍ من أخوالي نطيّر طائراً كان يقع عليه، ونظر إلى الدار، فقال: ههنا نزلت بي أمّي، وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله بن عبد المطلب، وأحسنت العوم في بئر بني عديّ بن النّجار.."[4].
كما يروى عن أمُّ أيمن أنها قالت: فجاءني ذات يوم رجلان من يهود المدينة، فقالا لي أخرجي إلينا أحمد ننظر إليه، فنظرا إليه وقلباه، فقال أحدهما لصاحبه: هذا نبيُّ هذه
[1] أحمد بن يحيى البَلَاذُري، جمل من أنساب الأشراف، ج1، ص94، حديث164، وياقوت بن عبد الله الحموي، معجم البلدان، ج1، ص79، طبعة دار الفكر، ونور الدين علي بن عبد الله بن أحمد الحسني الشافعي السمهودي، وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، ج4، ص7، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[2] وكان من شأن أمّ أيمن، أمّ أسامة بن زيد، أنَّها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطّلب، وكانت من الحبشة، فلما ولدت السيّدة آمنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعد ما تُوفي أبوه، فكانت أمُّ أيمن تحضنه.
[3] أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة، ج1، ص163.
[4] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص116، عن الله بن عباس.
135
112
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
الأمَّة وهذه دار هجرته، وسيكون بها من القتل والسبي أمرٌ عظيمٌ، فلما سمعت أمُّه خافت، وانصرفت به[1].
وفي رواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "نظرت إلى رجلٍ من اليهود يختلف إليَّ، ينظر إليَّ ثمَّ ينصرف، فلقيني يوماً خالياً، فقال: يا غلام ما اسمك؟ قلت: أحمد، ونظر إلى ظهري، فأسمعه يقول: هذا نبيُّ هذه الأمَّة، ثم راح إلى أخوالي، فأخبرهم، فأخبروا أمّي، فخافت عليَّ، فخرجنا من المدينة"[2].
وهذه الروايات التي أوردناها وغيرها من النصوص تبيّن أن الداعي لخروج السيّدة آمنة عليها السلام بولدها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من "يثرب" هو الخوف عليه من اليهود الذين كانت لهم اليد الطولى في المدينة آنذاك.
والمتأمّل في السيرة النبوية المباركة يعلم أن ظاهرة بشارة أهل الكتاب والكهان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بلغت حدّ التواتر، ومعرفتهم بشخصه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه نبيّ هذه الأمة، ومحاولات اليهود والكهّان قتله، أمر أصبح من الشهرة والاستفاضة بحيث لا يغيب عن أيّ باحثٍ. وقد شهد بعضهم له صلى الله عليه وآله وسلم أنّه رسول الله المبشّر به، والموعود به على ألسنة الأنبياء المتقدّمين. وقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن الكريم، وأقرّ بعضهم بذلك في وجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنّ فريقاً منهم يكتمون هذا العلم اليقينيّ مع علمهم بأنّه حقّ، وفي هذا ما فيه من البشاعة والجحود، فقال الله تعالى عنهم: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[3].
نعم كانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معرفةً جليةً يميّزون بينه وبين غيره بالوصف المعيّن المشخّص ?كَمَا يَع?رِفُونَ أَب?نَا?ءَهُم??? لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم، وبعد شهادة الله تعالى ليس هناك شهادة، فهو سبحانه أصدق القائلين وخير الشاهدين.
[1] ابن كثير الدمشقي، السيرة النبوية، ج1، ص235.
[2] أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة، ج1، ص163.
[3] سورة البقرة، الآية 146.
136
113
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
وفاة السيّدة آمنة عليها السلام
رجعت السيّدة آمنة عليها السلام مسرعةً قاصدةً مكةَ المُكَرَّمة خوفاً على النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من اليهود، فلمَّا وصلت الأبواء توعَّكت، ثمَّ مرضت عليها السلام، وحينما أحسَّت بالفراق المحتوم، الذي له وقعٌ عظيمٌ في القلوب، لا يعلمه إلّا الله عزَّ وجلَّ، انهمرت دموعها، وهي تنظر إلى وجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فكلّمته بكلمات نقلها لنا الحافظ المحدِّث أبو نعيم الأصبهاني من حديث عبد الله بن العلاء، عن الزهريّ عن أمّ سماعة بنت أبي رهم، عن أمّها، قالت:
"شهدتُ آمنةَ أمَّ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في علَّتها التي ماتت بها، ومحمدٌ غلامٌ يفع له خمس سنين عند رأسها، فنظرت أمّه إلى وجهه، ثمَّ قالت:
بَارك فِيك الله من غُلَام
يَا ابْن الَّذِي من حومةِ الْحمامِ
نجا بعون الْملِك العلاَّمِ
فوديَ غَدَاةَ الضَّرْبِ بِالسِّهَامِ
بِمِائَةٍ من إبلٍ سوامِ
إِن صَحَّ مَا أَبْصرتُ فِي الْمَنَامِ
فَأَنت مَبْعُوثٌ إِلَى الْأَنَامِ
من عِنْد ذِي الْجلَالِ وَالْإِكْرَامِ
تُبْعَثُ فِي الْحِلِّ وَفِي الْحَرَامِ
تُبْعَث بالتحقيق وَالْإِسْلَامِ
دين أَبِيك الْبرِّ إبراهامِ
فَالله أَنهَاك عَن الْأَصْنَامِ
أن لَا تُواليها مَعَ الأقوامِ
137
114
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
ثم قالت عليها السلام: "كلُّ حَيّ ميِّت، وكلُّ جَدِيدٍ بَال، وكلُّ كَبِيرٍ يفنى، وَأَنا ميتَةٌ وذكري بَاقٍ، وَقد تركت خيراً وَولدتُ طُهراً، ثمَّ مَاتَت، فَكُنَّا نسْمعُ نوحَ الْجِنِّ عَلَيْهَا"، فحفظنا من ذَلِك:
نبكي الفتاة البرَّة الأمينة
ذات الجمال العَفَّة الرزينة
زوجة عبد الله، والقرينة
أمَّ نبيِّ اللهِ ذي السَّكينة
وصاحب المنبر بالمدينة
صارت لدى حفرتها رهينة[1]
وهكذا رحلت أمُّ الهدى عليها السلام بعد رحلةِ حياةٍ قصيرةٍ انطوت كلمح البصر، ولكن هل تقاس الحياة بطولها وقصرها، أم بالأثر الذي يتركه الأحياء قبل رحيلهم؟ فانظر إلى الأثر الذي خلّفته سيّدة الأمَّهات بولادتها لرحمة الله المهداة صلى الله عليه وآله وسلم
وَمَن غَدا اِسمُ أُمِّهِ نَعتاً لِآمنِهِ
فَتلِكَ آمِنَةٌ مِن سائِرِ النِّقَمِ
[1] هذا الأثر الوارد في وفاة أمِّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لم أعثر عليه في النسخة التي اعتمدناها من دلائل النبوَّة لأبي نعيم الأصبهاني، ورجعت إلى ثلاث نسخ أخرى، فلم أجدها تحتوي على هذا الأثر البالغ الأهمية. مع أنَّ الحافظ جلال الدين السيوطي في (الحاوي للفتاوي) وفي الخصائص الكبرى، قد عزاه لأبي نعيم في دلائل النبوَّة، والفاضل محمّد بن يوسف الصالحيّ الشاميّ في (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد)، وشهاب الدين القسطلاني في المواهب اللدنيَّة بالمنح المحمّديَّة، وأبي عبد الله الزرقانيّ المالكيّ في شرحه على (المواهب اللدنيَّة)، وعبد الملك بن حسين بن عبد الملك الشافعي العاصمي المكي في (سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي)، وحسين بن محمّد بن الحسن الدِّيار بَكْري في (تاريخ الخميس)، والسيوطي في الخصائص الكبرى. كلّهم قد عزوا هذا الأثر لأبي نعيم، فبحثنا في كلِّ مؤلفات أبي نعيم الأصبهاني، فلم نعثر على هذا النص، ثمَّ وفقنا الله تعالى، فوجدنا أنَّ هذا الأثر قد ذكره ونسبه إلى أبي نعيم من هو أقدم من كل الذين نقلوا هذا النص جميعاً، وبقرونٍ عدةٍ الحافظ (مغلطاي) علاء الدين مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجريّ البصريّ الحنفيّ، المتوفى عام 762، في كتابه (الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم) ص412، من الطبعة الأولى، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، مصر، باب في ميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونشأته، بلفظ: وعند أبي نعيم من حديث عبد الله بن العلاء، عن الزهري، عن أم سماعة بنت أبي رهم، عن أمها قالت: شهدت آمنة في علتها التي ماتت فيها،..الخ الحديث، فثبتت لدينا صحَّة النسبة التي نسبها هؤلاء الأعلام لأبي نعيم الأصبهاني، على الرغمِ من عدم معرفتنا بالأيادي التي مرت على مؤلفات أبي نعيم الأصبهاني، وكم صنيعٍ كهذا الصنيع صنعته تلك الأيادي.
138
115
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
المفاهيم الأساسيّة
- لمّا أتى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهران مات جدّه وهب فتولّت جماعة من قريش وبني هاشم تغسيله وتحنيطه وتكفينه ودفنوه على ذيل الصفا، فبكته ابنته آمنة عليها السلام ورثته بمراثٍ تشيد فيها بصفاته النبيلة.
- عكفت السيّدة آمنة عليها السلام على ولدها الغالي تعطّره بأريج الحنان، وتحوطه بأجواء المحبَّة وترضعه لبنها الطاهر، ثمّ جاء وقت إرساله للبادية على العادة التي اعتادها أشراف مكّة، فتكفّلته حليمة السعدية.
- كانت حليمة تأتي بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلَّ مدّةٍ لتجديد العهد بأمّه، وقد كانت شديدة الحرص على بقائه معها أطول مدّة ممكنةٍ. ولمّا كثرت مشاهدات العرّافين والكهّان واليهود للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في البادية، ونداءاتهم بوجوب قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قررت حليمة ردَّه على أمّه وجدّه، فعاد إليهم وهو دونَ الثالثةِ.
- كانت العلاقة بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمّه شديدة التوقّد حتّى أنّ غيابه عن عينيها للحظات كان يسبّب لها القلق والغمّ.
- خرجت السيّدة آمنة عليها السلام بمعية عبد المطلب تريد أن تزور قبر زوجها واصطحبت معها ولدها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ومعهم أمُّ أيمن تحضنه، وأقاموا في المدينة شهراً. ثم جرت بعض الأحداث مع اليهود جعلت السيّدة آمنة عليها السلام تخاف على حياة ابنها، وكان ذلك سبب خروجها من المدينة.
- لمَّا وصلت السيّدة آمنة عليها السلام منطقة الأبواء توعَّكت، ثمَّ مرضت عليها السلام، وحينما أحسَّت بالفراق المحتوم قالت عليها السلام: كلُّ حَيّ ميِّت، وكلُّ جَدِيدٍ بَال، وكلُّ كَبِيرٍ يفنى، وَأَنا ميتَةٌ وذكري بَاقٍ، وَقد تركت خيراً وَولدتُ طُهراً، ثمَّ مَاتَت، ودُفنت بالأبواء.
139
116
الدرس الحادي عشر: وقفةٌ مع السيّدة آمنة عليها السلام
الدرس الحادي عشر:
وقفةٌ مع السيّدة آمنة عليها السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يشرح عظمة مكانة الأمّ وبرّها بالنسبة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
- يتعرف إلى مكانة السيّدة آمنة عليها السلام عند النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
- يستدل على أنّ آمنة عليها السلام كانت موحّدة على دين إبراهيم عليه السلام.
141
117
الدرس الحادي عشر: وقفةٌ مع السيّدة آمنة عليها السلام
مكانة الأمّ وبرّها
لأنّ الأمومة عطفها لا ينقضي، ومقامها في التضحيات كبير، فقد انعكس حبُّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأمّه آمنة عليها السلام على كلّ أمّ في هذا الوجود، فدأب على توعية أمَّته حول ما للأمومة من حرمةٍ، وما لمكانتها من جلال، فلما سُئل صلى الله عليه وآله وسلم من أبرُّ؟ - من أحقُّ الناس بحسن صحابتي[1] يا رسول الله؟ قال: "أمُّك"، قال: ثم من؟ قال: "أمُّك"، قال: ثم من؟ قال: "أمُّك"، قال: ثم من؟ قال: "أباك"[2].
وجاءه رجلٌ كان في الطواف حاملاً أمَّه (على عاتقه) يطوف بها (حول البيت الحرام)، فسأله: هل أديت حقَّها؟ فقال له النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا، ولا بزفرةٍ واحدةٍ"[3].
وحين يستأذنه رجلٌ في الجهاد يسأله النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أحيةٌ أمُّك؟" فيقول الرجل: نعم، فيقول له: "اذهب فجاهد في برّها"، فيعاود الرجل الإلحاح، فيقول له النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ويحك الزم رجلها فثمَّ الجنَّة"[4].
وتروي أسماء بنت أبي بكر فتقول: قَدِمَتْ عليّ أمّي، وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستفتيته قلت: قدمت علي أميّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: "نعم صِلي أمَّك"[5].
[1] أي من أولى الناس بمعروفي وبري، ومصاحبتي المقرونة بلين الجانب، وطيب الخلق وحسن المعاشرة.
[2] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص159-160، باب البرُّ بالوالدين، ورواه البخاري في صحيحه، ج5، ص2227، طبعة:3، دار ابن كثير- اليمامة.
[3] ولا بزفرة واحدة: بفتح الزاي وسكون الفاء: المرة من الزفير، وهو تردد النفس حتى تختلف الأضلاع، وهذا يعرض للمرأة عند الوضع، والحديث رواه أحمد بن عمرو البصري البزار صاحب المسند الكبير" البحر الزخار"، ج10، ص276، حديث، 4380، من طبعة مكتبة العلوم والحكم،المدينة المنورة.
[4] أبو عبد الله محمد بن ماجة القزويني، ج4، ص325، حديث 2781، طبعة:1، دار الجيل.
[5] محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح،، ج2، ص924، حديث2477.
143
118
الدرس العاشر: السيّدة آمنة عليها السلام من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاتها
ويحذِّر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من تعريض الأمومة للونٍ من ألوان الهوان، أو السباب، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ أكبر الذنب أن يسبَّ الرجل والدَيه، قيل له: يا رسول الله، وكيف يسبُّ الرجل والديه؟ قال: يسبُ الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه"[1].
ويأمر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الأبناء بالتواضع للأمّهات لأنّ التواضع لهنّ سببٌ كافٍ لدخول الجنّة، فيقول لأحد أصحابه مرةً، وثانيةً، وثالثة، وفي مجالس شتّى: "هل لك من أمّ؟" قال نعم، فقال: "الزمها فإنَّ الجنَّة عند رجليها"[2].
وهكذا نجد أنَّ الأمومة قد استوعبت في حديث النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كلّ هذه الأبعاد، مما يؤكّد لنا أنَّ لها في أعماقه وتعاليمه جميعاً مكاناً يشبه الواحة الغنَّاء التي تأتلق في كل أرجائها روح الربيع الأخضر الجذلان، مُزَيَّنَةً بأسمى العواطف وأنبل المشاعر. وكما كان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلميقدّس الأمومة في أمّه آمنة عليها السلام، فكذلك كان في موقفه من كلِّ الأمّهات، لذلك يسلّمنا النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلال سيرته العطرة مفاتيح البرّ بهذه الأمومة الرحيمة حتَّى لا نستحيل في حياتنا الصاخبة إلى قطيعٍ ذاهلٍ منكودٍ لا تربطه بأعماق حياته أيّ رابطةٍ مع العاطفة والحنان، ولا سبب من أسباب البنوّة اللائقة بالخيّرين من الأبناء.
برّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأمّه آمنة عليها السلام
كان الجميع يعلم ويشهد برَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأمّه ومحبّته لها، حتّى أنّ أعداءه من المشركين حملهم حقدهم وغيظهم وبغضهم ودناءة نفوسهم بعد انتصار المسلمين في بدر إلى أن يفكّروا في نبش قبر السيّدة آمنة عليها السلام بالأبواء ليؤذوا النبي ويأخذوا جثمانها الطاهر رهينةً إذا أسر لهم أسرى وذلك في طريقهم للهجوم على المسلمين في معركة أُحُد. وقد كانت تلك فكرة هند بنت عتبة ثمّ لم يوافق بعضهم على ذلك خوفًا من أن تُنبش قبور
[1] أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بالطحاوي، ج13، ص339، حديث 5312، طبعة:1، مؤسسة الرسالة.
[2] أحمد بن الحسين البيهقي، سنن البيهقي، ج2، ص401، حديث 18288، طبعة:1، حيدر آباد، وأبو عبد الله الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين، وغيرهما.
144
119
الدرس الحادي عشر: وقفةٌ مع السيّدة آمنة عليها السلام
موتاهم[1]، فكفَّهم اللَّه تعالى عن ذلك إكراماً لنبيّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فأمسكوا، وساروا إلى أن أتوا المدينة، فخرج لهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم برجالاتِ أهل بيته وأصحابه، ووقعت معركة أُحد.
أضف إلى ذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رويَ عنه أنّه قال: "قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فقد أذن الله تعالى لنبيّه في زيارة قبر أمِّه"[2]، فزارها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقام على قبرها وجدَّدَ بها العهد، وكلّ ذلك يدلّ على عظم شأن السيّدة آمنة عليها السلام ومكانتها عند نبيّ الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهو إبرازٌ لجلالة كرامتها عند الباري تعالى.
الذريّة المسلمة من وُلد إبراهيم
بعد أن وهب الله تعالى لخليله إبراهيم على الكبر إسماعيل وإسحاق عليهم السلام حمد الله تعالى، وتوجَّه إليه مبتهلاً بابتهالاتٍ عديدةٍ كان منها: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء﴾[3]، وقوله عليه السلام: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾[4], ومنها ابتهاله: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾[5], فكان من استجابة الباري لأبي الأنبياء أن قال: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[6], أي في عقب إبراهيم عليه السلام. وهذا يدلُّ على أنَّه لا بدَّ أن تبقى كلمة الله في ذريَّة إبراهيم عليه السلام، فلا يزال ناس منهم على الفطرة يعبدون الله تعالى، ويوصي بعضهم بعضاً في ذلك، ويتوارثون البراءة من عبادة غير اللّه حتَّى تقوم الساعة، وذلك استجابةً منه تعالى لابتهالات خليله الحليم إبراهيم عليه السلام، فغير جائزٍ أن تنقطع هذه الأمَّة المسلمة - أمَّةُ إبراهيمَ وإسماعيل - إلى يوم القيامة، فمن زعم بعد تلاوة هذه الآيات من كتاب الله تعالى أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
[1] محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي، أخبار مكة، ج2، ص270، وأحمد بن يحيى البَلَاذُري، جمل من أنساب الأشراف، ج1، ص95، حديث165، و صفيّ الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، ص183، طبعة:1، دار العصماء، دمشق.
[2] محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج1، ص530، حديث 1385، طبعة 1: دار الكتب العلمية، بيروت،
[3] سورة ابراهيم، الآية، 40.
[4] سورة إبراهيم، الآية 35.
[5] سورة البقرة، آية 128.
[6] سورة الزخرف، الآية 28.
145
120
الدرس الحادي عشر: وقفةٌ مع السيّدة آمنة عليها السلام
ولد من كفَّارٍ، فقد زعم أنَّ الأمَّة المسلمة من ذريَّة إسماعيلِ قد انقطعت في وقت من الأوقات، ومن زعم أنّها انقطعت في وقت من الأوقات فقد زعم أنَّ دعوة إبراهيمَ وإسماعيل عليهم السلام لم تُستَجب، ومن قال بذلك فما عرف حقَّ أنبياء الله ولا منازل حججه، وكفى بهذا ضلالاً لمن اعتقده.
ومن الواضح أنَّ الله تعالى لو استجاب لإبراهيم عليه السلام في جميع ذريّته لما كان أبو لهبٍ وأمثاله من أعظم المشركين وأشدِّهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما يفسِّر الإتيان بمن التبعيضيَّة في قوله: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾[1], وبذلك يتبيّن أنَّ عقب الخليل إبراهيم عليه السلام الذي جعل الله فيه الكلمة بقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾[2] يُقصدُ به الموحدون أصحاب الأصلاب الكريمة والأرحام المطهَّرة المصطَفَوْنَ من إسماعيل ثمَّ من كنانةَ ثمَّ من قريشٍ ثمَّ من بني هاشم إلى أن تمَّت كلمة الله صدقاً وعدلاً لا مُبدِّل لكلماته، فأطلَّ على الوجود بنوره خاتم النبيّين وقائد المرسلين مُحمّد بن عبد الله صلَّى الله عليه وآله الطيّبين الطاهرين.
قـد بـراك الله مـن نـورٍ جـلـيـل
باهي الأنوارِ ذا خلقٍ نبيل
أنت يا سرُّ ابتهالات الخليل
لك من ربِّكِ خير ما يشاء
إيمان والدَي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
إنّ ما عليه إجماع أهل البيت عليهم السلام وكلِّ علماء الاِماميّة والزيديّة، وجملةٍ من محقّقي أهل السنَّة أنَّ والدَي النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كانا موحّدَين لله تعالى قطعاً، وذهب الكثير من علماء أهل السنة للقول بنجاة والدَي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كونهما من أهل الفترة لأنَّ الله تعالى ينفـي- فـي وضـوح تامٍّ لا لبس فيه ولا غــموض- عذاب الأ?مم التي لم يأتِها رسول فيقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾[3], ولأنَّ الله سبحانه يؤكّد في وضوحٍ تامٍ
[1] سورة إبراهيم، الآية 40.
[2] سورة الزخرف، الآية 28.
[3] سورة الإسراء، الآية 15.
146
121
الدرس الحادي عشر: وقفةٌ مع السيّدة آمنة عليها السلام
أيضاً أنَّ العرب لم يأتِهم رسولٌ قبل المصطفى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول عزّت آلاؤه: ﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾[1], وذلك لبيان الله تعالى أنَّه لو أهلك العرب قبل رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لكانت لهم بين يديِّ الله حجةٌ، فيقول سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾[2], وبعد ذلك كلّه يأتي من يقول لك: إنّ النبيّ مع كثرة ما أنعم اللّه عليه ووفور إحسانه إليه لم يرزقه إحسان والديه، وعليه إنَّ أبَوَي الرسول الكريمين في النار!
والحقُّ أنَّ أصحاب هذه الكلمة، وأمثالها، يعتقدون بكفر آباء وأمَّهات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صراحةً مستندين في ذلك إلى رواياتٍ غريبةٍ واهيةٍ، وتأويلاتٍ تأباها العقول السليمة، ولا تقوم بها حجةٌ.
ثم كيف يركن القائلون بكفر والدي نبيِّ الله الأكرم إلى الركام الذي أراد أعداء الإسلام أن يغطوا به طريق النبوة والولاية، ومسلك النور والهداية، وأريد به وأد الإحساس الحقيقيّ بقيمة هذا الدين الذي نطق فرقانه المبين بقوله تعالى: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾[3], وصرح بمبدأ الاصطفاء الإلهي في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[4], وقد قال النبيُّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"[5]، فهل لهذا الاصطفاء الإلهيّ من معنى إذا لم يكن آباء النبيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من المؤمنين، والله يقول مخاطباً مصطفاه:
﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾[6] وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "نزل جبرئيل عليه السلام
[1] سورة القصص، الآية 46.
[2] سورة طه، الآية 134.
[3] سورة الأنعام، آية 124.
[4] سورة آل عمران، الآيتان 33-34.
[5] مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، ج7، ص58، حديث 6077، باب فضل نسب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتسليم الحجر عليه قبل النبوّة، طبعة: دار الجيل بيروت ودار الأفاق الجديدة، بيروت.
[6] سورة الشعراء، آية 219.
147
122
الدرس الحادي عشر: وقفةٌ مع السيّدة آمنة عليها السلام
على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد إنَّ ربَّك يقرئك السلام ويقول: إنِّي قد حرّمت النار على صلبٍ أنزلك، وبطنٍ حملك، وحجرٍ كفلك، فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطّلب، والبطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأمَّا حجرٌ كفلك فحجرُ أبي طالب"[1].
هكذا اختار الله لنبيّه آباءه وأمهّاته من طاهرٍ إلى طيِّب، ومن طيّبٍ إلى طاهرِ، إلى أن أوصله الله إلى صلب عبد الله بن عبد المطّلب، ومنه إلى رحم أمِّه آمنة عليها السلام، فأخرجه منهما إلى الدّنيا وجعله سيّد المرسلين وخاتم النبيّين ورحمةً للعالمين. بل إنّ ما عليه عقيدة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم أنَّ المستودع الذي أودع الله سبحانه وتعالى فيه هذا النبيّ الكريم والرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، والمعصومين من أهل بيته عليهم السلام هو المستودع الأطهر، فإنَّهم لم يتنقّلوا إلّا من صلبٍ طاهرٍ إلى رحمٍ مطهّرٍ، وذلك من لدن أبينا آدم عليه السلام وأمّنا حوَّاء عليها السلام حتّى قدموا إلى هذه الحياة الدنيا، فلا يمكن أن يُودَع المعصوم، والعياذ بالله، في صلبٍ غير طاهر أو ليس بموحّد، أو أنّه يبقى في رحم غير مطهَّر، لقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾[2]، وفي هذه الآية الكريمة حكم الله تعالى على الكفّار بالنجاسة، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطهارة آبائه كلِّهم واصطفاهم على بقيَّة الخلق أجمعين أئمة أهل بيت خاتم النبيّين.
السيّدة آمنة عليها السلام المؤمنة الموحّدة
إنَّ الله تعالى اختار من هذا النوعِ الإنسانيِّ مَن جعله معدن نبوَّته، ومحلَّ رسالته، فأوَّلهم: آدم عليه السلام، ثمَّ إنَّ الله تعالى اختار من نطفته نطفةً كريمةً، فلم يزل ينقلها من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، فكان منها الأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله على العالمين كولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل وإسحاق والنبيّين. وكان الناسُ بعدَ نبيِّ الله إسماعيلَ عليه السلام على الإسلامِ، إلى أن انساقَتِ العربُ في البِدعِ حتّى انسلَخَتْ من دين خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، اللهم إلّا النزرُ اليسيرُ الذي كان يتألّم على اختفاء معالمِ الحنيفيةِ الغراء.
[1] ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1، ص446.
[2] سورة التوبة، الآية 28.
148
123
الدرس الحادي عشر: وقفةٌ مع السيّدة آمنة عليها السلام
فيقول مولانا الإمام أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام: "فلم يزل على وجه الارض سبعة مسلمون فصاعداً، فلولا ذلك، هلكت الأرض ومن عليها"[1]. وكان من هؤلاء آباء النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وجماعةٌ من قريش تحنَّفوا وتركوا ما كان عليه أهل الشرك، وتمسَّكوا بدين نبيّ الله إبراهيم عليه السلام، وبعضهم محكومٌ بإيمانه في أحاديث نُقلت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومشهود لهم في الأحاديث بأنهم من أهل الجنّة كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، ولكن ما إن يصل الأمر إلى أن يُشهد لأمِّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وجدِّه وعمِّه وأبيهِ أنّهم من أهل الإيمان حتّى تضيق صدور البعض، وتتوقَّف عقولهم عن التفكير، وتنطلق ألسنتهم بأذيَّة النبيِّ الأكرمِّ صلى الله عليه وآله وسلم، من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون.
ومن يتأمل ما ورد في تاريخ الجزيرة العربية قبل المولد النبويّ الشريف فسيعلم أنَّ أكثر مَن تحنَّف (أي كان على دين الحنيفية) إنّما كان سببُ تحنُّفه ما سمعه من أهل الكتاب أنَّه قربَ بعث نبيٍّ من الحرم صفته كذا وكذا. والحقُّ أنَّ أمَّ النبيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم تسمع ما سمعه غيرها فقط، بل شاهدت في حمله وولادته من الآيات الباهرة ما لم يشاهدوا، ورأت النور الذي خرج منها أضاء له قصور الشام، حتَّى رأتها كما ترى أمَّهات النبيِّين. ولا يغيبنَّ عنا كيف أضاف الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا أمِّه آمنة في اليوم الذي ولدته فيه لدعوة إبراهيم الخليل، وبشارة عيسى المسيح، وما أعظمها من منقبةٍ لأُمِّ النبي القائل: "إني عند الله مكتوبٌ بخاتم النبيِّين، وإنَّ آدم لمنجدلٌ في طينته[2]، وسأخبركم بأوَّل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمِّي التي رأت حين وضعتني أنَّه خرج منها نورٌ أضاءت لها منه قصور الشام"[3].
كما أنَّ من استقرأ ما جاء في أمَّهات الأنبياء (عليهم السلام)، فسوف يجد أنهنَّ كنَّ موحِّداتٍ مؤمناتٍ، فأمُّ إسحاق، وموسى، وهارون، وعيسى، وحواء أمُّ شيث مذكورات في القرآن
[1] عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المصنف، ج5، ص96، حديث 9099، طبعة:3، المكتب الإسلامي، بيروت.
[2] أي ملقى على الجدالة، وهي الأرض، وكان بعد جسداً بلا روح.
[3] محمَّد بن حبَّان، صحيح ابن حبَّان، ج14، ص312، حديث 6404، باب: ذكر كتبة الله جلَّ وعلا عنده محمداًصلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيِّين، الطبعة:2، مؤسَّسة الرسالة، بيروت، والبخاري في التاريخ الكبير والصغير، وأحمد بن حنبل في مسنده، وأبو عبد الله الحاكم في مستدركه، وأبو الفاسم الطبراني في معجمه الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان والدلائل، وغيرهم.
149
124
الدرس الحادي عشر: وقفةٌ مع السيّدة آمنة عليها السلام
الكريم، ووردت الأحاديث بإيمان هاجر أمّ إسماعيل، وأمِّ يعقوب، وأمهاتِ أولاده، وأمِّ داوودَ، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وكذلك أمّ نوح لقوله عليه السلام: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ﴾[1], وأمَّ إبراهيم الخليل لقوله بعد أن وهب الله له على الكبر إسماعيل وإسحاق عليهم السلام: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾[2].
وفي الرواية عند وفاة السيّدة آمنة عليها السلام قول لها صريح في أنّها كانت موحّدة، إذ ذكرت دين إبراهيم عليه السلام وبشّرت ابنها بالإسلام من عند ذي الجلال والإكرام، ونهته عن عبادة الأصنام وموالاتها مع الأقوام. وهل التوحيدُ شيءٌ غير هذا؟ فهو الاعتراف بالله، وانّه لا شريك له، والبراءة من عبادة الاَصنام..، وهذا القدرُ كافٍ في التبرِّي من الكفرِ، وصفة ثبوت التوحيد في الجاهلية قبل البعثةِ، وإنَّما يُشترط قَدرٌ زائدٌ على هذا بعد البعثة[3]؟ وهل يُفهم من كلامها يوم وفاتها سوى إيمانها وإسلامها، واتّباعها لملَّة جدِّها إبراهيمَ!؟
أضف إلى ذلك أنَّ هناك الكثير من الروايات التي يُبنى عليها وتوضح إيمان السيّدة آمنة عليها السلام - وقد استعرضنا بعضها في طيَّات حديثنا عنها - مع وجود نصوص أخرى نستنتج منها أنَّ السيّدة آمنة بنت وهب كانت مؤمنةً وموحدةً، ولديها معرفة تامة بأنها أمُّ النبيِّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، وبالتالي بطلان الرأي الذي يقول إنَّها ماتت كافرة، ذلك الرأي الغريب الذي ذهب إليه جماعة من المسلمين، والذي يرفضه العقل رفضاً قاطعاً لأنَّ فيه خدشاً ومنقصةً للنبيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأنبياء الله منزّهون عن كلِّ نقصٍ يمكن أن يُعيّروا به، ولا بُدّ من جعل ذلك معياراً وميزاناً لأيّ نصٍّ يُروى بشأنهم، أو بشأن آبائهم الكرام وأمَّهاتِهم الطاهرات.
ولأجل كلِّ ما تقدم شهد لهم أعاظم أولياء الله تعالى بأنَّهم كانوا "نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهَّرة لم تنجّسهم الجاهليَّة بأنجاسها، ولم تلبسهم من مدلهمّات
[1] سورة نوح، الآية 28.
[2] سورة إبراهيم، الآية 41.
[3] محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المالكي، شرح الزرقاني على المواهب اللدنيّة بالمنح المحمديّة، ج1، ص312، طبعة:1، دار الكتب العلمية.
150
125
الدرس الحادي عشر: وقفةٌ مع السيّدة آمنة عليها السلام
ثيابها"، وأنَّ السيّدة آمنة بنت وهب عليها السلام من خير هذه الأرحام المطهرة التي وحّدت الله، وعكفت على طاعته وعبادته، ولم تتلوّث بأدران الجاهلية وموبقاتها، فتمعّن في سيرتها المباركة الميمونة، أيّام حملها وولادتها، فإنَّك لن تجد إلّا الكرامات الظاهرة، والمعاجز الباهرة، والمعرفة بشأن ولدها خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم الذي خاطبه الله في مُحكم كتابه وجليل خطابه آمراً له: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾[1]. فسلام الله على أمِّ مُحمّد صلى الله عليه وآله وسلم سيّدة الأمّهات وجَدّة الهداة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والسلام عليها يوم ولدت، ويوم ماتت، ويوم تبعث آمنة، فإن لم تأمن آمنة، فلا أمِن يوم الحشر أحد.
[1] سورة الإسراء، آية 24.
151
126
الدرس الحادي عشر: وقفةٌ مع السيّدة آمنة عليها السلام
المفاهيم الأساسيّة
- انعكس حبُّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأمّه على كلّ أمّ في هذا الوجود، فدأب على توعية أمَّته حول ما للأمومة من حرمةٍ، وما لمكانتها من جلال، وكان يوصي ببرها على الدوام، فالجنة تحت قدميها. هذا وقد كان الجميع يعلم ويشهد برَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأمّه ومحبته لها، حتّى أعداؤه من المشركين. كما أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يزور قبر أمّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن رُفع النهي عن زيارة القبور.
- لا يزال ناس منذ دعوة النبيّ إبراهيم عليه السلام على الفطرة يعبدون الله تعالى، ويوصي بعضهم بعضاً في ذلك، ويتوارثون البراءة من عبادة غير اللّه حتَّى تقوم الساعة، وذلك استجابةً منه تعالى لابتهالات خليله الحليم إبراهيم عليه السلام، وكان من عقبه عليه السلام الموحّدون أصحاب الأصلاب الكريمة والأرحام المطهَّرة المصطَفَوْنَ من إسماعيل وصولًا إلى بني هاشم فأطلَّ خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم على الوجود بنوره.
- إن ما عليه إجماع أهل البيت عليهم السلام وكلِّ علماء الاِماميّة والزيديّة، وجملةٍ من محققي أهل السنَّة أنَّ والدي النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كانا موحدَين لله تعالى قطعاً، وأنهما من أهل الجنّة، هذا مع وجود من يدّعي أنّ والدَي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مشركان ومآلهما إلى النار.
- إنَّ الله تعالى اختار من هذا النوعِ الإنسانيِّ من جعله معدن نبوَّته، ومحلَّ رسالته، فأوَّلهم آدم عليه السلام، ثمَّ إنَّ الله تعالى اختار من نطفته نطفةً كريمةً، فلم يزل ينقلها من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، وصولًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس فيه أيّ دنس أو رجس من شرك أو سفاح أو غيره.
- من استقرأ ما جاء في أمَّهات الأنبياء عليهم السلام، فسوف يجد أنهنَّ كنَّ موحِّداتٍ مؤمناتٍ. وقد ورد الكثير من الروايات التي يُبنى عليها وتوضح إيمان السيّدة آمنة عليها السلام ونصوص أخرى نستنتج منها أنَّ السيّدة آمنة بنت وهب كانت مؤمنةً وموحدةً، ولديها معرفة تامة بأنها أمُّ النبيِّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم.
152
127
الدرس الثاني عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام من نشأتها إلى زواجها
الدرس الثاني عشر:
السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام من نشأتها إلى زواجها
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى نسب السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام.
- يشرح حادثة زواج السيّدة فاطمة عليها السلام.
- يذكر أولاد السيّدة فاطمة عليها السلام وبعض مناقبهم.
153
128
الدرس الثاني عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام من نشأتها إلى زواجها
نسبها الوضّاح
هي امرأة من أعظم نساء الرسالة. هي السيّدة التقيّة النقيّة، والكريمة الرضيّة المرضية فاطمة بنت أسد بن هاشم عليها السلام صاحبة التضحيات الكبيرة والمنزلة الرفيعة عند ربّ العالمين.
اكتنف المجد فاطمة بنت أسد من كلِّ جانب
فأبوها، هو أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.
فنسب السيّدة فاطمة بنت أسد هو نفسه نسب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أشرف الأنساب قاطبةً، وهو خيار من خيار من خيار، وتعدّ هي والنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من ذؤابة هاشم[1]، أي أشرف فروع هاشم.
أمّا أمّها فهي فاطمة بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب[2]، وتعرف بحُبّى بنت هرم بن رواحة[3]. فالسيّدة فاطمة بنت أسد، وأمّ المؤمنين خديجة عليها السلام تلتقيان من قِبَل الأمهات في جدهما رواحة بن حجر وهو أحد أجداد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
[1] أسمى أنساب الناس وأرفعها، وهما من هاشم كالظفائر من الشعر القريبة من أعلى الرأس.
[2] سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ج1، ص92، نسبة علي بن أبي طالب، طبعة:2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، ونور الدين علي الهيثمي، مجمع الزوائد، ج9، ص121، طبعة دار الفكر، ومحمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص51، ومحمد بن حبيب البغدادي، المحبر، ج1، ص16.
[3] أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري، جمل من أنساب الأشراف، ج4، ص314، طبعة:1، دار الفكر، بيروت. وعلي بن الحسين بن محمد المرواني أبو الفرج الأصبهاني، مقاتل الطالبيين، ج1، ص26، طبعة دار المعرفة، بيروت.
155
129
الدرس الثاني عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام من نشأتها إلى زواجها
فضائل أسد وهاشم
هو والد السيّدة فاطمة عليها السلام. وقد ورد أنّه هو السبب في سَنّ والده هاشم لرحلتي الشتاء والصيف، وإبطال عادة الاعتفاد السيئة، وقد كانت تلك الرحلات مصدر خيرات قريش وغيرها في الجزيرة العربية آنذاك. وقد رُوي عن ابن عباس في عادة الاعتفاد أنّه قال: "وذلك أن قريشاً كانوا إذا أصابت واحداً منهم مخمصة (أي مجاعة)، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا، حتّى كان عمرو بن عبد مناف (هاشم)، وكان سيداً في زمانه، وله ابن يقال له أسد، وكان له تِرب[1] من بني مخزوم، يحبّه ويلعب معه، فقال له: نحن غداً نعتفد[2]، قال: فدخل أسد على أمّه يبكي، وذكر ما قاله تربه، فأرسلت أمّ أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أياماً. ثم إنّ تربه (بعد أيام) أتاه أيضاً، فقال: نحن غداً نعتفد، فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبّره خبر تربه، فاشتدّ ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيباً في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنّكم أحدثتم حدثاً تقلّون فيه وتكثر العرب، وتذلّون وتعزّ العرب، وأنتم أهل حرم الله عزّ وجلّ، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم (أي يقضي عليكم). فقالوا: نحن لك تبع. فقال: ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب أسد - فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا.
ثم إنه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثمّ هشم الثريد، وأطعم الناس، فسُمّي هاشماً، وفيه قال الشاعر:
عَمرو الَّذي هَشَمَ الثَريدَ لِقَومِهِ
وَرِجالُ مَكَّةَ مِسنِتونَ عجافُ[3]
[1] الترب بالكسر: مساويك في السن، ومن ولد معك.
[2] نعتفد: قال ابن فارس: هذه لفظة في هذا الخبر لا أدري: بالدال هي أم بالراء، فإن كانت بالراء فلعلها من العفر، وهو التراب، وإن كان بالدال، فما أدري معناها، وتأويله على ما أظنه: ذهابهم إلى ذلك الخباء، وموتهم واحداً بعد واحد، وفي لسان العرب مادة عفد: "الاعتفاد": أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل أحداً حتى يموت جوعاً.
[3] مسنتون: أي أصابتهم السِنة، والسِنة: الجدب والقحط.
156
130
الدرس الثاني عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام من نشأتها إلى زواجها
ثم جمع كلّ بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغنيّ قسمه بينه وبين الفقير، حتّى صار فقيرهم كغنيهم..."[1]. وقد ذكر صاحب نسب قريش أنّه قد انقرض ولد أسد بن هاشم[2]، فلم يبقَ له ذرية إلّا من النسمة الطاهرة المباركة ابنته السيّدة فاطمة عليها السلام.
نشأة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
لم يَذكر لنا التاريخ اليوم الذي ولدت فيه السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام، والسنَة التي وُلدتْ فيها، بل تُركت تدوِّن وتصنع تاريخها بيدِها وجهادِها، وبلسان ولدها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الذي تربّي في حجرها.
وإذا كانت ركائز الفرد الروحية والأخلاقية تستند إلى بوادر تربيته وبيئته، وبيته الذي نشأ فيه، فالسيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام سليلة بيت المكارم، ومعدن الفهم وينبوع العلم. وقد ولدت السيّدة فاطمة بنت أسد ونشأت في بيوتات بني هاشم، تحُوطُها العِزّةُ والكرامةُ، فحازت من مكارم الأخلاق أعلاها، ومن الآداب أفضلها وأسناها، وحوت من الشمائل أزكاها وأنداها، فعرفت بين العرب والمسلمين بسمو الروح وعلو الهمة، ونباهة الفكر، وقوة الإرادة ومضاء العزيمة، وجلال الشرف، إلى الكثير الكثير من خصائلها الحميدة وشمائلها المجيدة.
زواجها سلام الله عليها
بعد أن أمضت السيّدة فاطمة عليها السلام سنوات طفولتها، وأول سنوات شبابها، في بيت أبيها أسد بن هاشم بمكّة المكرّمة في جوار البيت الحرام، تقدّم أبو طالب إلى عمه أسد بن هاشم خاطباً إليه كريمته فاطمة، وهي في زهرة شبابها، وريعان صباها.
وكان مع أبي طالب ولد أبيه عبد المطلب، فعقدوا النكاح، وأجمعوا على شهر يجتمعون
[1] شمس الدين القرطبي محمد بن أحمد الخزرجي الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن= تفسير القرطبي، ج20، ص205، طبعة:2، دار الكتب المصرية، القاهرة.
[2] أبو عبد الله مصعب بن عبد الله الزبيري، نسب قريش، ج1، ص16، طبعة:3، دار المعارف، القاهرة.
157
131
الدرس الثاني عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام من نشأتها إلى زواجها
فيه (أي أنّهم سيجتمعون بعد شهر من عقدهم للنكاح)، ثمّ عاد القوم إلى منازلهم، وأقبل أبو طالب إلى الكعبة، فطاف حولها، ثمّ عاد إلى منزله، وبعث إلى القوم فأخبرهم بكلّ ما عقدوا من المهر وغيره، وأعدّ في منزله الذبائح والطعام.
فلمّا بلغ الوقت أقبل رهطه (أي أهله وعشيرته) إلى الكعبة، وقريش مجتمعة وجماجم العرب (قبائل العرب) مختلفة، فسلّم أبو طالب وجلس، فلمّا استقرّ به المجلس ابتدأ خطيباً، وقال:
الحمد لله ربّ العالمين، ربّ العرش العظيم، والمقام الكريم، والمشعر والحطيم، الذي اصطفانا أعلاماً، وسدنة، وعرفاء، وخلصاء وحجّته، بهاليل أطهار من الخنى والريب، والأذى والعيب، وأقام لنا المشاعر، وفضّلنا على العشائر، نخب آل إبراهيم وصفوته، وزرع إسماعيل، ثم قال: وقد تزوّجت فاطمة بنت أسد، وسقت المهر ونفذت الأمر، فاسألوا واشهدوا، فقال عمه أسد بن هاشم: قد زوّجناك ورضيناك[1].
ثم زُفّت السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام إلى ابن عمّها سيد البطحاء، وانتقلت إلى داره الواقعة في الشعب المسمّى بشعب أبي طالب عليه السلام، فتحمّلت أعباء المسؤولية في إدارة شؤون بيت أبي طالب، وإكرام ضيوفه الكثر سواء كانوا من أهل مكّة، أو من سائر العرب الوافدين لحجّ البيت الحرام. وكانت تقوم بذلك بكلّ طيب نفس، ورحابة صدر، وكان أبو طالب عليه السلام يقدّرها ويجلّها، ويكرمها ويحبّها حبّاً جمّاً، ولم يستبدل بها سواها مدّة حياته، وقد ولدت السيّدة فاطمة لأبي طالب عليها السلام علياَ وجعفراً وعقيلاً وطالباً، وهو أكبرهم، وأم هانئ وجمانة[2].
وبذلك كانت عليها السلام "أول هاشمية ولدت لهاشميّ"[3]،
[1] محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني، مناقب آل أبي طالب، ج2، ص171-172، طبعة:1، علامة، قم، ويوسف بن حاتم الشامي، الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم، ص226-227، ط:1، جماعة المدرسين، قم، ومن تأمل كلمات هذه الخطبة، والخطبة التي خطبها أبو طالب عليه السلام في زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أم المؤمنين خديجة (عليها السلام) عرف أنهما قد صدرا عن مشكاة واحدة.
[2] النعمان بن محمد بن حيون القاضي المغربي، شرح الأخبار، ج 3، ص214، نشر جماعة المدرسيين بقم، والأربلي في كشف الغمة، ج1، ص64، طبعة:1، بني هاشمي، تبريز، وابن عبد البر في الاستيعاب، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وتفرد محمد بن سعد بذكر ابنة أخرى لأبي طالب عليه السلام وأطلق عليها "ريطة"، وقال هي التي كناها النسابة الكلبي بأم طالب.
[3] الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص116، رقم: 4573، وجُل من ترجم لها من علماء الأمة.
158
132
الدرس الثاني عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام من نشأتها إلى زواجها
وكان ولدها أول الهاشميين الذين ولدهم هاشم مرّتين، مرة من جهة أبيهم ومرة من جهة أمّهم، أفبعد هذا الشَّرف شرفٌ تطمح إليه النُّفوس.
أولادها عليهم السلام
أولهم طالب، وهو أكبر وُلد أبي طالب، وكان محباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وله فيه مدائح. وكان المشركون أخرجوه، وسائر بني هاشم إلى بدر كرهاً ليقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رجال من قريش: والله لقد عرفنا يا بني هاشم، وإن خرجتم معنا أن هواكم مع محمد[1]، فخرج طالب، وهو يقول:
اللهم إما يغزون طالب
في مقنب من هذه المقالب
فليكن المغلوب غير الغالب
وليكن المسلوب غير السالب[2]
فقالت قريش: إنّ هذا ليغلبنا (أي يريد غلبة الخصوم علينا)، فردّوه، وفي رواية عن الإمام أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام: أنه أسلم[3]. هذا وقد اختلفوا في أمر طالب وموته بين قائل إنّه رجع إلى مكة ومات هناك، وقائل إنّه أتى إلى الشام ومات هناك[4]، ولا يستبعد أن يكون أجلاف قريش قد اغتالوه حينما عرفوا منه الإسلام ومصارحته بالتفاؤل بمغلوبيتهم.
ثمّ عقيل، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُكنّ له حبّاً عظيماً، وقد روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول لعقيل: "إنّي لأحبك يا عقيل حبّين حباً لك، وحبّاً لحبّ أبي طالب إياك"[5].
[1] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص29، طبعة:1، دار الكتب العلمية، والكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري، ج2، ص19، ذكر غزوة بدر الكبرى، طبعة:دار الكتب العلمية، والبداية والنهاية لإبن كثير الدمشقي.
[2] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص121، وتاريخ الطبري، والكامل في التاريخ لإبن الأثير الجزري، وغيرهم.
[3] ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج8، ص375.
[4] أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، أنساب الأشراف، ج2، ص42.
[5] الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص667، حديث رقم: 6465، طبعة دار الكتب العلمية، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، كما رواه الطبراني في المعجم الكبير، وابن سعد في الطبقات الكبرى، وابن عساكر في تاريخ دمشق، عن أبي إسحاق مرسلاً.
159
133
الدرس الثاني عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام من نشأتها إلى زواجها
وكان عقيل أنسب قريش وأعلمهم بأيامها (أي أنّه كان عالمًا بأنساب قريش)، ولكنّه كان مبغوضًا إليهم لأنّه كان يعدّ مساويهم، وكانت لَهُ بساط يُطرح لَهُ في مسجد رسُول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، يصلّي عليه، ويجتمع إِلَيْهِ فيُسأل عن أنساب العرب وأيامهم، وكان أسرع الناس جواباً وأحضرهم مراجعة في القول، وأبلغهم في ذلك، فكان ممن يُتحاكم إليه في الأنساب[1].
وكان عقيل رضوان الله عليه ممّن ثبت مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم حُنين، وكان تحت راية أخيه جعفر الطيار يوم مؤتة، وهو أكبر منه بعشر سنين.
ثمّ جعفر وهو أبو عبد الله الُملقّب بجعفر الطيّار (ذو الهجرتين وذو الجناحين) من السابقين إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ألصق الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ثالث من صلّى لله تعالى بعد أم المؤمنين خديجة، وأمير المؤمنين علي عليه السلام، وهو أوّل سفير في الإسلام، وقد أسلم على يديه ملك الحبشة النجاشيّ، وعدد من أهلها، وكان له في الحبشة موقف متميّز دافع فيه عن الإسلام دفاعاً مؤثراً.
وكان لجعفر من الأولاد عبد الله، وبه يُكنَّى، وهو زوج عقيلة الهاشميين السيّدة زينب بنت علي عليه السلام، وأما أخواه محمَّد وعون فلا عقب لهما، وقد وُلدوا جميعاً لجعفر بأرض الحبشة في المهاجرة إليها، وأمُّهم جميعاً أسماء بنت عُميس رضوان الله عليها.
ولمّا قدم إلى المدينة المنورة بعد فتح خيبر، تلقّاه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فعانقه، وقبّل ما بين عينيه، وقال: "ما أدري بأيّهما أنا أسرّ بفتح خيبر أو بقدوم جعفر؟"[2]. وقد كان جعفر عليه السلام من أشبه الخلق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، شهد بذلك خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال له: "أشبهت خلقي وخُلقي"[3].
وكان عليه السلام قائداً لجيش المسلمين لمّا استشهد بمؤتة من أرض الشام في جمادى الأولى سنة ثمانٍ من الهجرة في أول جهاد ضدّ الروم، وذلك في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فوجدوا فيما "أقْبَل
[1] يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص1079، ط1، دار الجيل.
[2] الشيخ محمد بن الحسن أبو جعفر الطوسي، تهذيب الأحكام، ج3، ص186، طبعة:4، دار الكتب الإسلامية، طهران، ورواه أبو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ج 2، ص 108، حديث رقم: 1470، والبزار في مسنده، وغيرهم الكثير.
[3] محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح، ج2، ص960، حديث: 2552 و4005، طبعة:3، دار ابن كثير، اليمامة، والنعمان القاضي المغربي، شرح الأخبار، ج 3، ص548، والطبراني في المعجم الكبير، وغيرهم الكثير.
160
134
الدرس الثاني عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام من نشأتها إلى زواجها
مِن جسمه بضعاً وتِسْعِين جرحاً ما بَين ضَربَة سَيْف أو طَعْنَة رُمح أو رَميَة سَهمٍ"[1]. وهو يكبر أمير المؤمنين علياً عليه السلام بعشر سنين، وكان عمره عند شهادته أربعين سنة أو أكثر[2]، فسلام الله عليه وعلى والديه.
أمّا الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام فلا يمكن للمرءِ الحديث عن أيٍّ من مناقبه في بضع جملٍ وهو الذي:
قالوا فضائله تحصى فقلت لهم
من ذا سوى الله رمل الأرض يحصيهِ
وسوف نتعرّض لبعض الفضائل للأمير سلام الله عليه عند حديثنا عن ولادة أمّه عليه السلام إياه في الكعبة.
أيضًا فقد ولدت السيّدة فاطمة عليها السلام من البنات أم هانئ واسمها فاختة، وقيل هند، وتعرف بكنيتها التي اشتهرت بها "أم هانئ". خطبها وتزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي، فولدت له أولاداً أكبرهم جعدة، وقد بات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليلة عندهم في بيتهم، فكان ما كان من حادثة الإسراء والمعراج، وبعد ذلك كانت أم هانئ تحدّث بحديث الإسراء والمعراج، حتّى قيل: ما ذكر الإسراء والمعراج إلّا وذُكر معه اسم أم هانئ.
وقد بقي زوجها مشركًا بعد فتح مكّة ففرّ إلى اليمن، فأقام في نجران شريداً طريداً، إلى أن مات، وبقيت أم هانئ صابرة محتسبة، وهي حانية[3] على أولادها ترعاهم وتحافظ عليهم، وتدبّر شؤونهم إلى أن توفيت رضوان الله عليها. وأما ولدها جعدة بن هبيرة، فقد شهد مع خاله الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام صفّين، وأبلى بها بلاءً حسناً، وقد جمع الفقه إلى الشجاعة، فكان فقيهاً فاضلاً ولّاه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على خرسان.
كذا ولدت السيدة فاطمة بنت أسد عليها السلام بنتًا ثانية هي جمانة، وقد تزوجها ابن عمها أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وولدت له جعفر وأبا الهياج، لكن لم يبقَ
[1] أبو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ج 2، ص107، رقم: 1464، باب الجيم، جعفر بن أبي طالب الطيار.
[2] أحمد بن علي "ابن حجر العسقلاني"، الإصابة في تمييز الصحابة، ج1، ص487، طبعة:1، دار الجيل، بيروت.
[3] الحانية: هي التي تقيم على ولدها ولا تتزوج، فإن تزوجت فليست بحانية.
161
135
الدرس الثاني عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام من نشأتها إلى زواجها
لها عقب[1]، وقال جمع من العلماء إنّها أسلمت وكانت من جملة المهاجرين إلى الله ورسوله، ومن النساء المؤمنات اللواتي فارقن أزواجهن حفاظاً على دينهن لأن زوجها أبا سفيان بن الحارث لم يُسلم إلا يوم فتح مكة، ثم شهد بعد ذلك مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حنيناً، هو وولده جعفر[2].
[1] علي بن هبة الله بن علي بن جعفر "ابن ماكولا"، إكمال الكمال، ج2، ص523، طبعة:1، دار الكتب العلمية.
[2] محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي، الثقات، ج3، ص50، طبعة:1، دار الفكر.
162
136
الدرس الثاني عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام من نشأتها إلى زواجها
المفاهيم الأساسيّة
- السيّدة فاطمة بنت أسد، أبوها هو أسد بن هاشم بن عبد مناف، ونسبها لجهة أبيها هو نفسه نسب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أمّا أمّها فهي فاطمة بنت هرم بن رواحة وتعرف بحُبّى بنت هرم بن رواحة. وتلتقي السيّدة فاطمة مع السيّدة خديجة عليها السلام من قبل الأمّهات في جدّهما رواحة بن حجر وهو أحد أجداد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
- جدّ السيّدة فاطمة عليها السلام هو العظيم هاشم.
- بعد أن أمضت السيّدة فاطمة عليها السلام سنوات طفولتها، وأول سنوات شبابها في بيت أبيها تقدّم أبو طالب إلى عمه أسد بن هاشم خاطباً إليه كريمته فاطمة، وهي في زهرة شبابها، وريعان صباها.
- وكان مع أبي طالب ولد أبيه عبد المطلب، فعقدوا النكاح، وأجمعوا على شهر يجتمعون فيه، وأقبل أبو طالب إلى الكعبة، فطاف حولها. ثمّ عاد إلى منزله، وبعث إلى القوم فأخبرهم بكلّ ما عقدوا من المهر وغيره، وأعدّ في منزله الذبائح والطعام.
- زُفّت السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام إلى ابن عمّها وانتقلت إلى داره الواقعة في شعب أبي طالب.
- ولدت السيّدة فاطمة خمسة أولاد، أوّلهم طالب وكان محبّاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أخرجه المشركون عنوة ثمّ ردوه لأنّه يريد نصر محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ومات بطريقة غامضة.
- وعقيل الذي كان أنسب قريش وأعلمهم، ولكنّه كان مبغوضًا إليهم لأنّه كان يعدّ مساويهم، ومحبوبًا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
- ثمّ جعفر الطيار وهو ثالث من صلّى، وقد أسلم على يديه ملك الحبشة النجاشي، وعدد من أهلها.
- ثمّ أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وأم هانئ التي بقيت صابرةً محتسبةً، حانيةً على أولادها. كذا ولدت السيدة فاطمة بنت أسد عليها السلام بنتًا ثانية هي جمانة، التي أسلمت وكانت من جملة المهاجرين إلى الله ورسوله.
163
137
الدرس الثالث عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام بين رعاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وولادة الأمير عليه السلام
الدرس الثالث عشر:
السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
بين رعاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وولادة الأمير عليه السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى حادثة انتقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزل فاطمة بنت أسد عليها السلام.
- يبيّن العلاقة التي سادت بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة فاطمة عليها السلام.
- يشرح مجريات ولادة السيّدة فاطمة لابنها عليه السلام في الكعبة.
165
138
الدرس الثالث عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام بين رعاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وولادة الأمير عليه السلام
علاقة السيّدة فاطمة عليها السلام بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
حفل التاريخ الإسلاميّ بالخيّرات الصالحات اللواتي نهجن طريق الجدّ عن علم ويقين، ورسوخ إيمان لا يتزعزع. ومن هؤلاء النساء الصالحات المصلحات اللواتي أشعلن مصابيح الهدى في كلّ الطرقات التي غطّاها الظلام كانت أم الكرام السيّدة الطاهرة فاطمة بنت أسد عليها السلام. فقد كانت من خير نساء عصرها كمالاً وجمالاً ومكانة، وكرامة، حظيت بشَرَف وحَسَبٍ، وطهارة نفسٍ، وكانت امرأة لبيبة، صلبة العقيدة، فتيّة القلب، بَرّة مبجَّلة من فُضليات النساء، وقد زادها الله تعالى فضلًا إذ أُوكلت إليها مهمّة رعاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة أمّه وجدّه.
وروت عقيلة الهاشميين السيّدة زينب بنت عليٍّ عليهما السلام، عن أبيها الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام قَال: "سمعتُ أَبا طالب، يُحَدِّثُ أنَّ آمِنةَ بنت وهب، لما ولدت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، جاءَهُ عبد الْمُطَّلب، فأخذه وقبّلهُ، ثُمَّ دفعه إلى أبي طالب، فقال: هو وديعتي عندك ليكُوننَّ لِابْنِي هذا شَأنٌ،.."[1].
كانت هذه الوصية الأولى التي أوصى بها سيّد مكة ولده أبا طالب عليه السلام، وبالمحصّلة كانت السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام الشخص الثاني المعنيّ بحضانة ورعاية وديعة عمّها عبد المطّلب عليه السلام، فكانت بعد أبي طالب أحسن خلق الله صنيعاً للنبيّ المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم[2]، فهي الكافلة بتربيته، المشفقة على نفسه، والواقفة على خدمته، والمختارة رضى الله تعالى ورضاه صلى الله عليه وآله وسلم.
وممّا يؤسف له أنّ العديد من أصحاب السّير قد ذكروا قائمة لأسماء مراضع عدوّهنّ
[1] أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، دلائل النبوة، ج1، ص138، حديث 81، طبعة:2، دار النفائس، بيروت.
[2] أبو القاسم الطبراني، المعجم الأوسط، ج7، ص87، حديث:6935، طبعة: دار الحرمين، القاهرة، ورواه ابن عبد البر، الاستيعاب، ج4، ص1891، طبعة:1، دار الجيل، ورواه أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة، ج1، ص76،
167
139
الدرس الثالث عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام بين رعاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وولادة الأمير عليه السلام
ممّن أرضعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك أسماء لحواضن عدوّهنّ ممّن تولّين رعاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحياطته، ولكن لم يأتوا على ذكر للسيدة العظيمة فاطمة بنت أسد ضمن تلك القائمة، مع أن بعض الحفّاظ والمحدّثين رووا قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "كانت أمّي بعد أمّي التي ولدتني"[1]. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يوجب حقّها كما يوجب حقّ الأمّ.
آخر وصايا عبد المطلب عليه السلام
عندما حضرت عبدَ المطلب الوفاة، استدعى ابنه النجيب أبا طالب، وأخذ منه عهداً وأودعه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وطلب منه الاهتمام به كما كان يفعل هو. وافق أبو طالب واصطحب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزله واحتفى به حفاوة لا نظير لها ولا مثيل. وقد كان اختيار عبد المطّلب لأبي طالب من بين أبنائه لكفالة النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعده لأنّ أبا طالب كان أخاً لوالد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أمّه، فإنّ أمّهما هي فاطمة بنت عائذ المخزومية، ومن الطبيعيّ أن يكون أبو طالب أكثر حناناً وعطفاً وحبّاً لابن أخيه من أبيه وأمّه من بقية إخوانه الذين كانوا من أمّهات شتّى، كذا ولأن أبا طالب كان أنبل إخوته وأكرمهم، وأعظمهم مكانة في قريش، وأجلّهم قدراً، وقد ورث زعامة أبيه عبد المطلّب، وخضع لزعامته القريب والبعيد[2]. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن ثمان سنين، وكان أبو طالب لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار، وكان ينام معه حتّى بلغ، لا يأتمن عليه أحداً[3].
النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أبي طالب عليه السلام
نهض أبو طالب بحقّ ابن أخيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم على أكمل وجه، وضمّه إلى وُلده، وقدّمه عليهم، واختصّه بفضل احترام وتقدير، وظلّ طيلة حياته يعزّ جانبه، ويبسط عليه حمايته، ويصادق ويخاصم من أجله. وقد تولّت السيّدة فاطمة بنت أسد مع أبي طالب عليهما السلام كفالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخدمته.
وكانت السيّدة فاطمة بنت اسد عليها السلام تحلّه في المحل الرفيع من قلبها ورعايتها وتمدّ له
[1] الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج3، ص116، حديث4574، طبعة1: دار الكتب العلمية، وعنه ابن حجر العسقلاني في اتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة، ج11، ص351، حديث14180، طبعة:1، مركز خدمة السنة والسيرة النبوية بالمدينة.
[2] الشيخ الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وإتمام النعمة، ص171.
[3] الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص171-172، بسنده إلى عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.
168
140
الدرس الثالث عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام بين رعاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وولادة الأمير عليه السلام
يد العون بكلّ ما تستطيع، وكانت تشعر بأنّ لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم شأناً يخوله أن يحتلّ الصدارة في قلبها وعواطفها، فكانت بحقّ أمّه التي كفلته بعد أمّه حيث كانت تنصرف إلى خدمته في ليلها ونهارها، وكانت عليها السلام تتابعه بعينها وهو ينمو إلى الشباب الزاهر لأكثر من عقدين من الزمن، "يصبح فيها ولد عبد المطلب وأبو طالب غمصاً، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دهيناً صقيلا"[1]، أي أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانت له رعاية خاصة تميّزه عن الجميع حتّى أنّ هيئته كانت دائمة الترتيب وكان شعره عليه دهن ومسرحاً على الدوام، وفي ذلك دلالة على مزيد العناية التي كان يحظى بها صلوات الله عليه من قبل السيّدة فاطمة عليها السلام.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في وصف حاله عند السيّدة فاطمة عليها السلام وحال أولادها: "فكانت تُشبعني وتجيعهم، وتكسوني وتعريهم، وتدهنني وتشعثهم"[2].
ولعلّ منشأ هذه الرعاية من قبل السيّدة فاطمة عليها السلام هو معاينتها للخُلق العظيم الذي يتلألأ من حركاته وسكناته صلوات الله عليه، واستبصارها بنعمته وبركته، ومعرفتها بحقّه، وإيمانها بصدقه، واعترافها بنبوّته صلى الله عليه وآله وسلم. هذا وقد كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أعظم الأبناء البررة في معاملته للسيدة فاطمة عليها السلام، وقد برز ذلك في مواضع شتّى سنتعرض إلى بعضها في ما يأتي.
السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام ووليد الكعبة عليه السلام
روي عن الامام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إن فاطمة بنت أسد رحمها الله جاءت إلى أبي طالب رحمه الله تبشّره بمولد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لها أبو طالب: اصبري لي سبتاً آتيك بمثله إلّا النبوّة، وقال: السبت: ثلاثون سنة، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ثلاثون سنة"[3]، وتحقّقت تلك البشارة بعد ثلاثين سنة.
فبعد أن حملت السيّدة العظيمة فاطمة بنت أسد بمولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام، ولمّا قربت ولادته أتت إلى بيت الله الحرام تجدّد عهدها به. وقد روى الامام الصادق عليه السلام تلك الحادثة فقال: "كان العباس بن عبد المطلب،
[1] أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة، ج1، ص167، باب وفاة عبد المطلب وضم أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص314، المجلس الحادي والخمسون، حديث:14، ورواه أبو جعفر عماد الدين محمد بن القاسم الطبري الآملي، بشارة المصطفى، ص242، تلقين النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بنت أسد...، طبعة:2، المكتبة الحيدرية، النجف.
[3] الشيخ الصدوق مُحمد بن علي بن بابويه القمي، معاني الأخبار، ص403، الطبعة:1، جماعة المدرسين، قم.
169
141
المقدّمة
أسد بن هاشم أم أمير المؤمنين عليه السلام، وكانت حاملة بأمير المؤمنين تسعة أشهر، وكان يوم التمام، قال: فوقفت بإزاء البيت الحرام، وقد أخذها الطلق، فرمت بطرفها نحو السماء، وقالت: أي ربّ إنّي مؤمنة بك، وبما جاء به من عندك الرسل، وبكل نبيّ من أنبيائك، وبكلّ كتاب أنزلته، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل، وإنه بنى بيتك العتيق، فأسالك بحق هذا البيت، ومن بناه، وبهذا المولود الذي في أحشائي الذي يكلّمني ويؤنسني بحديثه، وأنا موقنة أنّه إحدى آياتك ودلائلك، لما يسّرت عليّ ولادتي"[1]. قال العباس بن عبد المطلب، ويزيد بن قعنب: فلما تكلمت فاطمة بنت أسد ودعت بهذا الدعاء، رأينا البيت قد انفتح من ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا، ثم عادت الفتحة والتزقت بإذن الله، فرمنا أن نفتح الباب لتصل إليها بعض نسائنا فلم ينفتح الباب، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله تعالى، وبقيت فاطمة في البيت ثلاثة أيام، قال: وأهل مكة يتحدّثون بذلك في أفواه السكك، وتتحدّث المخدّرات في خدورهنّ، قال: فلما كان بعد ثلاثة أيام انفتح البيت من الموضع الذي كانت دخلت فيه، فخرجت فاطمة بنت أسد، وعلي عليه السلام على يديها..."[2].
وكانت أم علي عليه السلام سمّته أول ولادته أسدا[3]، باسم جده لأمه أسد بن هشام بن عبد مناف، وسمّاه أبوه علياً، فغلب عليه عليّ، وحيدرة اسم من أسامي الأسد، وهو أشجعها، "فذَكر يوم خيبر ما سمّته به أمّه لمناسبة ما بين الحرب وصوّلة الأسد"[4]، فقال عليه السلام:
أَنا الَّذي سَمَّتني أُمي حَيدَرَه ضِرغامُ آجامٍ وَلَيثُ قَسوَرَه
كَلَيثِ غاباتٍ كَريهِ المَنظَرَه أَكيلُكُم بِالسَيفِ كَيلَ السَندَرَه
[1] قال الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "فلم يزل على وجه الارض سبعة مسلمون فصاعداً، فلولا ذلك، هلكت الارض ومن عليها"، يراجع المصنف، لعبد الرزاق بن همام الصنعاني، ج5، ص96، حديث 9099، طبعة:3، المكتب الإسلامي، بيروت، وقال عبد الله بن عبّاس: "ما خلت الأرض من بعد نوح من سبعة يدفع الله بهم عن أهل الأرض" يراجع كرامات الأولياء، للحسن بن محمد بن الحسن بن علي البغدادي الخَلَّال، ج1، ص24، حديث 8، طبعة:1، دار المشاريع، بيروت.
[2] الشيخ الطوسي، في الأمالي، ص707، مجلس يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وخمسين وأربع مائة، بسنده إلى الإمام الصادق عن آبائه الكرام عليهم السلام، عن العباس بن عبد المطلب، ويزيد بن قعنب، ورواه باختلاف ألفاظ الشيخ الصدوق، الأمالي، ص132، المجلس السابع والعشرون، وكذلك في علل الشرائع، ج1، ص135-136، ومعاني الأخبار، ص68، عن مالك بن دينار عن سعيد بن جبير عن يزيد بن قعنب، قال:...... الحديث.
[3] أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم، ج14، ص50، طبعة دار إحياء التراث، والحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، ج42، ص17، والسهيلي في الروض الآنف، ج7، ص107، وغيرهم.
[4] أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، كشف المشكل من حديث الصحيحين، ج2، ص310، طبعة دار الوطن، الرياض.
170
142
الدرس الثالث عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام بين رعاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وولادة الأمير عليه السلام
والحق أنه لم يشغل الأم الطاهرة ولادتها لأمير المؤمنين عليه السلام، ولا لمن سبقه من إخوانه عن الاهتمام بالمصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانت تزداد اهتماماً وعناية به، وهو يوليها كلّ الاحترام والتقدير، فكان لها كولدها في كل أدوار حياته صلى الله عليه وآله وسلم.
الولادة في الكعبة، الفضيلة المنفردة
إنّ ولادة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جوف الكعبة الغرّاء فضيلة جزيلة، ومنزلة عظيمة، وهي واحدة من كرامات الله الكثيرة التي تفضّل بها على هذه الصدّيقة المرضيّة سلام الله عليها. وقد ذكر العشرات من العلماء من الفريقين من الشيعة والسنّة[1] تلك الفضيلة وانحصارها بولادة السيّدة فاطمة عليها السلام للامام عليّ عليه السلام، وهو أمر يدلّ على عظيم شأنها ورفعة منزلتها عند الله تعالى، هذا مع وجود بعض الآراء المنحرفة التي سنشير إليها سريعًا. ومن أقوالهم:
"ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بمكّة في بيت الله الحرام ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه إكراماً له بذلك، وإجلالاً لمحلّه في التعظيم"[2]، وقال آخر: "فقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أســد ولـدت أميـر المؤمنيـن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في جـوف الكـعـبة"[3].
وقال ثالث: "ولد عليّ عليه السلام بمكّة المشرّفة بداخل البيت الحرام، في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر الله الأصم رجب الفرد، سنة ثلاثين من عام الفيل قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة، وقيل بخمس وعشرين، وقبل البعث باثنتي عشرة سنة، وقيل بعشر سنين. ولم يولد
[1] محمد بن إسحاق بن العباس المكي، أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، ج3، ص198، الطبعة:2، دار خضر، بيروت. أبو الحسن علي بن الحسين بنِ علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص349، طبعة دار الهجرة، قم. أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـالشاه ولي الله الدهلوي، إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء، ص251، طبعة باكستان. شهاب الدين محمود بن عبد الله الألوسي الحسني، سرح الخريدة الغيبية في شرح القصيدة العينية، ص15.
[2] الحافظ فخر الدين محمد بن يوسف بن محمد النوفلي الكنجي الشافعي، كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب، ص407، الباب السابع في مولده عليه السلام، الطبعة:3، فارابي، نشر دار إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام، طهران.
[3] محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه الضبي الطهماني النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص550، وهو قول العلامة نور الدين علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي في السيرة الحلبية، ج1، ص203، طبعة:2، دار الكتب العلمية، وحسين بن محمد بن الحسن الدِّيار بَكْري تاريخ الخميس، ج1، ص279، طبعة دار صادر، بيروت، وغيرهم الكثير.
171
143
الدرس الثالث عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام بين رعاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وولادة الأمير عليه السلام
في البيت الحرام قبله أحد سواه، وهي فضيلة خصه الله تعالى بها إجلالاً له، وإعلاءً لمرتبته، وإظهاراً لتكرمته"[1]. هذا وقد ادّعى البعض ممن عُرف بعدائه لأمير المؤمنين عليه السلام وبغضه لسلالته أنّ الأمير عليه السلام ليس الوحيد الذي ولد في الكعبة الشريفة[2]، وقد ورد عن مدّعي هذا القول انحرافه عن علي عليه السلام[3]، فكيف لا يتقوّل الأقاويل عليه، وما قوله في ولادة غير الأمير عليه السلام في جوف الكعبة إلّا واحد من تلك الأقاويل.
[1] نور الدين علي بن محمد الصفاقسي المالكي المكي المشهور بابن الصباغ، الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة، ص29، الفصل الأول، الطبعة:2، دار الأضواء، بيروت.
[2] إن بعض آل الزبير ادّعوا أن أم حكيم بن حزام قد ولدته في الكعبة، ولم يولد قبله، ولا بعده في الكعبة أحد، وتناقل هذه الكلمات عنهم العشرات من الحفاظ والمؤرخين وأصحاب السيَر دون أن يمعنوا النظر في انحراف الذين أوجدوا هذه الفضيلة المُدعاة عن وزير مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم وكفؤ سيدة نساء العالمين (عليها السلام)، الذي قال في حقه خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم: "من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه" ( أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج4، ص370، حديث رقم19321، طبعة: مؤسسة قرطبة، القاهرة، ومحمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج4، ص330، حديث 1750، طبعة:1، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض)، وأول الذين ادعوا ولادة حكيم في الكعبة هو مصعب بن عبد الله الزبيري الذي رماه الحافظ أبو عبد الله الحاكم بالوهم، وقال عز الدين بن الأثير الجزري في بيان حاله: "وهو عم الزبير بن بكار، وكان عالماً فقيهاً، إلا أنه كان منحرفاً عن علي عليه السلام" (علي بن أبي الكرم محمد بن محمد الشيباني المشهور بعز الدين بن الأثير الجزري، الكامل في التاريخ، ج6، ص122، طبعة:1، دار الكتاب العربي، بيروت)، فبدل أن يكون مولى لعلي عليه السلام كان منحرفاً عنه، فكيف لا يتقول الأقاويل عليه، وما قوله في ولادة حكيم في جوف الكعبة إلا واحد من تلك الأقاويل.
وقد كشف لنا الحافظ ابن حجر العسقلاني شخصية أول من حكاها عن مصعب الزبيري، فقال: "وحكى الزبير بن بكار أن حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة، وكان من سادات قريش في الجاهلية والإسلام" (أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج2، ص447، طبعة:1، مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، وذكر ذلك في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة، ج2، ص98، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت).
وقد دلت النصوص التاريخية على أن الزبير بن بكار كان معروفاً في المدينة المنورة بعدائه وذمه لذرية أمير المؤمنين علي عليه السلام، فقد روى عز الدين بن الأثير الجزري عن أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال: "قدم الزبير بن بكار العراق هارباً من العلويين لأنه كان ينال منهم، فتهددوه، فهرب منهم، وقدم على عمه مصعب بن عبد الله، وشكا إليه حاله وخوفه من العلويين، وسأله إنهاء حاله إلى المعتصم- الخليفة العباسي- فلم يجد عنده ما أراد وأنكر عليه حاله ولامه، قال أحمد: فشكا ذلك إليّ وسألني مخاطبة عمه في أمره، فقلت له في ذلك وأنكرت عليه إعراضه عنه، فقال لي: إن الزبير فيه جهل وتسرّع، فأشر عليه أن يستعطف العلويين، ويزيل ما في نفوسهم، أما رأيت المأمون ورفقه بهم، وعفوه عنهم، وميله إليهم؟ قلت: بلى، فهذا أمير المؤمنين، والله، على مثل ذلك أوافقه، ولا أقدر أذكرهم عنده بقبيح، فقل له ذلك حتى يرجع عن الذي هو عليه من ذمهم" (ابن الأثير الجزري، الكامل في التاريخ، ج6، ص77). وقد عَدهُ الحافظ أحمد بن علي السليماني ــ صاحب كتاب العالم والمتعلم ــ (الزبير بن بكار) من الوضاعين، وقال ــ مرة ــ: منكر الحديث، وهو عين ما نقله الحافظ الذهبي في ميزانه، ولكنه قال: لا يلتفت إلى قول أحمد بن علي السليماني حيث ذكره في عداد من يضع الحديث، وقال - مرة: منكر الحديث" (محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ميزان الاعتدال، ج2، ص66، طبعة:1، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت)، مع أن الذهبي قال في الجزء الأول من ميزانه: "بكار بن رباح، مكي. عن ابن جريج - جاء- بخبر منكر في المزاح، رواه الزبير بن بكار" (محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ميزان الاعتدال، ج1، ص340، طبعة:1، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.ومن كان هذه حاله، وكان معروف لدى الناس بذمه للعلويين كيف لا يدّعي أنّ الولادة في جوف الكعبة كانت لحكيم بن حزام الأسدي، ويحاول التشكيك في ما ثبت لجد العترة النبوية الطاهرة أيضاً.
[3] علي بن أبي الكرم محمد بن محمد الشيباني المشهور بعز الدين بن الأثير الجزري، الكامل في التاريخ، ج6، ص122، طبعة:1، دار الكتاب العربي، بيروت.
172
144
الدرس الثالث عشر: السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام بين رعاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وولادة الأمير عليه السلام
المفاهيم الأساسية
- كانت السيّدة فاطمة عليها السلام ملازمةً لآمنة عليها السلام بعد وفاة والد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كما كانت إحدى قابلاته عند ولادته صلى الله عليه وآله وسلم، فشهدت ولادته ورأت النور الذي أضاء على البرية عند وضعه صلى الله عليه وآله وسلم.
- جاءت السيّدة فاطمة عليها السلام تبشّر أبا طالب بما عاينته في ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فبشّرها بأنّها تحبل وتلد بوصّيه ووزيره بعد ثلاثين سنة.
- عندما حضرت عبدَ المطلب الوفاة، استدعى ابنه أبا طالب، وأخذ منه عهداً وأودعه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وطلب منه الاهتمام به كما كان يفعل هو، فكانت السيّدة فاطمة عليها السلام الشخص الثاني الموكل برعاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والاهتمام بشؤونه.
- كانت السيّدة فاطمة عليها السلام تحلّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المحلّ الرفيع من قلبها ورعايتها وتمدّ له يد العون بكل ما تستطيع، وتقدّمه على وُلدها أجمعين.
- بعد أن حملت السيّدة فاطمة عليها السلام بالامام عليّ عليه السلام، وقربت ولادته أتت إلى بيت الله الحرام تجدّد عهدها به، وأخذت تدعو وتناجي ربها ليسهل عليها ولادتها فانشق جدار الكعبة ودخلت السيّدة فاطمة عليها السلام ثم التزقت الفتحة وبقيت عليها السلام في الكعبة ثلاثة أيام، ثم انفتح الجدار ثانية وخرجت عليها السلام وعلى يديها وليدها المكرم علي عليه السلام.
- ذكر العشرات من العلماء من الفريقين من الشيعة والسنّة فضيلة ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام في جوف الكعبة وانحصارها بها، هذا مع وجود بعض الآراء المنحرفة التي قالت بولادة غير الامام عليّ عليه السلام في الكعبة وهم معروفون بكرههم لعليّ عليه السلام وحنقهم على ذرّيته عليه السلام.
173
145
الدرس الرابع عشر: فاطمة بنت أسد عليها السلام بين مكّة والمدينة
الدرس الرابع عشر:
فاطمة بنت أسد عليها السلام بين مكّة والمدينة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يستدلّ على إيمان وتوحيد السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام.
- يتعرّف إلى الأحداث التي جرت مع السيّدة فاطمة عليها السلام في مكّة والمدينة.
- يذكر بعض فضائل السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام.
175
146
الدرس الرابع عشر: فاطمة بنت أسد عليها السلام بين مكّة والمدينة
إيمان السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام وإسلامها
ابتهلت فاطمة بنت أسد عليها السلام إلى الله تعالى يوم ولدت أمير المؤمنين عليه السلام، فقالت: "ربّ إنّي مؤمنة بك، وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل عليه السلام وإنه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت، وبحقّ المولود الذي في بطني لما يسّرت عليّ ولادتي"[1].
ويستفاد من رواية دعائها هذا، وغيره من الروايات، إنّ السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام كانت مؤمنة بالله عزّ وجلّ وموحّدة له تعالى على دين جدّها خليل الله إبراهيم عليه السلام ولم تكن تعبد الأصنام كسائر أهل الجاهلية الجهلاء، فهي عليها السلام من أُناس لم تترك عليهم البيئة صبغتها حيث إنّها من البيت الذي يمثّل الامتداد الطبيعيّ للحنيفية الغراء.
ولما ابتعث الله تعالى صفوة أنبيائه وخاتم رسله كانت السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام أوّل من آمن به من النساء بعد مولاتنا أم المؤمنين خديجة الكبرى? عليها السلام، فقد روي عن ابن عبّاس أنّه قال: "وهي أوّل امرأة بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكّة بعد خديجة عليها السلام"[2].
وورد في حديث مرويّ عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "كانت فاطمة بنت أسد أمّ علي بن أبي طالب حادية عشرة - يعني في السابقة إلى الإسلام - وكانت
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص132، المجلس السابع والعشرون، ورواه في علل الشرائع، ج1، ص135-136، ورواه الشخ الطوسي، في الأمالي، ص707، مجلس يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وخمسين وأربع مائة.
[2] يوسف بن قزعلي بن عبد الله سبط ابن الجوزي، تذكرة خواص الأمة، ص20، طبعة مؤسسة أهل البيت عليهم السلام، بيروت.
177
147
الدرس الرابع عشر: فاطمة بنت أسد عليها السلام بين مكّة والمدينة
بدرية"[1]، أي أنّها كانت المسلمة الحادية عشرة[2] فقد سبقها عشرة للاسلام فقط، وكانت قد شهدت معركة بدر.
ولم يكن غريباً أن تؤمن السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام بدعوة الصادق الأمين بهذه السرعة، فهي من أعلم الناس وأخبرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد واكبت حياته صلوات الله عليه منذ البداية، وعرفت منه الإيمان والصدق، ورأت الكثير من المعاجز والكرامات التي أكرمه الله بها، وكانت ترى زوجها أبا طالب عليه السلام كيف كان يحث أولاده على نصرة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم[3].
هذا وقد سُئل حفيدها الإمام علي بن الحسين عليها السلام عن أبي طالب أكان مؤمناً، فقال: "نعم"، فقيل له: إن ههنا قوماً يزعمون أنه كافر، فقال: "واعجباً أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نهاه الله أن يقرّ مؤمنة مع كافرٍ في غير آية من القرآن؟ ولا يشكّ أحد أنّ فاطمة بنت أسد من المؤمنات السابقات، وأنّها لم تزل تحت أبي طالب حتّى مات أبو طالب رضي الله عنه"[4].
حصار المسلمين في شعب أبي طالب عليه السلام
لما رأت قريش أنّ دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تتعاظم يوماً بعد يوم، ويعلو شأنُها، وأنّ المسلمين انتقلوا من مرحلة الكتمان والاستخفاء، إلى مرحلة الجهر بالتوحيد علانيةً، طاش من قريش صوابها، فأجمعت أمرَها على قتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فبلغ ذلك عمه أبا طالب عليه السلام، فجمع بني هاشم وبني المطلب، وأخبرهم بمكيدة قريش، فتعاهدوا على أن يلاقوا الحتوف دون المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد أن رأت قريش هذه الحمية والمنعة، عرفت أن دون ذلك ذهاب نفوس بني هاشم وبني المطّلب، وأهل الإسلام، فقررت قريش معاقبة هذه الفئة المسلمة، ومن تعاطف معها، فاجتمع رؤساؤهم، وأجمعوا على مقاطعة بني
[1] علي بن الحسين بن محمد المرواني أبو الفرج الأصبهاني، مقاتل الطالبيين، ج1، ص28.
[2] عز الدين بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج1، ص14، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص508، المجلس السادس والسبعون، حديث:4، بسنده إلى مولانا الإمام الصادق عليه السلام.
[4] الحافظ المُسنِد السيد فخار بن معد بن فخار بن أحمد الموسوى الحائري، الحُجة على الذاهب إلى كفر أبي طالب، ص123-124، ورواه عنه المجلسي في بحار الأنوار، ج35، ص115، وذكره ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة.
178
148
الدرس الرابع عشر: فاطمة بنت أسد عليها السلام بين مكّة والمدينة
هاشم وبني المطّلب اقتصادياً واجتماعياً، وكتبوا في ذلك كتاباً: "ألا يزوّجوا إليهم، ولا يتزوّجوا منهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم شيئاً، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم"[1]، حتى يسلّموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعُلقت هذه الصحيفة الظالمة في جوف الكعبة تأكيداً على التزام ما فيها. وقد واجه بنو هاشم، وبنو المطلب، هذه الحرب الاجتماعية والاقتصادية، بشجاعة وصبر وإباء، فلجأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبنو هاشم إلى شِعب أبي طالب، وانحاز معهم بنو المُطلب، والمستضعفون من المسلمين.
وحلّ الجميع ضيوفاً على السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام[2]، فقامت بخدمتهم وإكرامهم جميعاً حتّى نفد كلّ ما يملكه آل أبي طالب. والحقّ أنّها كانت شريكة أبي طالب في كلّ خدماته الجليلة التي قدّمها للإسلام وأهله، منذ بدء البعثة إلى أن توفّاه الله تعالى، بل وزادت عليه بعد وفاته.
ولم تترك السيّدة فاطمة عليها السلام خلال حصار قريش القيام على شؤون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورعاية أموره ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وكانت هي وزوجها أبو طالب يبذلا الغالي والنفيس كي لا يصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأيّ أذى، فقد كانا يخافا من أن يغتاله المشركون ليلاً[3]. وحتّى بعد زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأمّ المؤمنين خديجة عليها السلام، لم تعتبر السيّدة فاطمة بنت أسد أنّ رعايتها لشؤون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد انتهت، بل كانت هي هي، وكان هذا دأبها طيلة بقائها في مكة. ولمّا توفّيت أم المؤمنين خديجة عليها السلام خلفتها على رعاية النبيّ وتأييده السيّدة فاطمة بنت أسد، وكانت كذلك خلفاً من أبي طالب في الذود
[1] محمد بن إسحاق، سيرة ابن إسحاق، ج2، ص147، وكل أصحاب السيَر الذين ذكروا حصار قريش لبني هاشم،...
[2] لقد كان الكرم سجية ملازمة لها ولأهل بيتها، ومما يروى في أحوالهم عليه السلام ما ورد عن السيد الشهيد زيد بن علي عن أبيه عليه السلام عن عمته العقيلة زينب بنت علي: عن أسماء بنت عميس قالت: حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب قالت: "كان علي من أجود الناس لقد كان أبوه يوجه معه باللطف (الهدية) إلى بعض أهله، فيقول: يا أبه هذا قليل فزده. ثم يأتي أمه فاطمة بنت أسد، فيقول: يا أمه زيدي عليه من نصيبي، فتفعل" يراجع مناقب أمير المؤمنين عليه السلام للحافظ المُسند محمد بن سليمان الكوفي القاضي، ج2، ص69-70، تحقيق محمد باقر المحمودي، طبعة مجمع احياء الثقافة الإسلامية.
[3] محمد بن إسحاق، سيرة ابن إسحاق، ج2، ص141، وابن كثير، البداية والنهاية، ج4، ص208، طبعة:1، دار هجر.
179
149
الدرس الرابع عشر: فاطمة بنت أسد عليها السلام بين مكّة والمدينة
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مهبط أمنه، ومستقرّ أنصاره، فتبعته في هجرته إلى المدينة المنورة.
هجرة السيّدة فاطمة إلى الله ورسوله
في تلك الليلة التي غيّرت وجه العالم أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخاه علياً عليه السلام بالمبيت على فراشه، وردّ الأمانات التي كانت عنده إلى أصحابها، ثمّ هاجر الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم من مكّة إلى المدينة، فأنفَذ أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومكث حتّى كتب إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً يأمره فيه بالمسير إليه. وكانت السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام أوّل من تهيّأ للهجرة إلى المدينة، فخلَّفت السَّيِّدة الهاشميَّة وراءها مكَّة بكل ما لها فيها من طيوب الذِّكريات، وضروب المفاخر والمآثر ويمَّمت وجهها شطر المدينة، مهاجرةً إلى الله ورسوله.
فقد روي أنه لمّا أتى كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليّ عليه السلام تهيّأ للخروج والهجرة، فآذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين، فأمرهم أن يتسلّلوا، ويتخفّفوا إذا ملأ الليل بطن كلّ وادٍ... إلى ذي طوى، وخرج عليّ عليه السلام بفاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وأُمّه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب، - وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب -، ... وسار بهم أمير المؤمنين عليّ عليه السلام... ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، وفيهم اُمّ أيمن مولاة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فظلّ ليلته تلك هو والفواطم طوراً يصلّون وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فلم يزالوا كذلك حتّى طلع الفجر، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ إلى قوله ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى﴾[1]. فالذَكَر عليّ، والأنثى الفواطم المتقدّم ذكرهنّ...[2]. وظلّوا على تلكم الحالة إلى أن وصلوا إلى حيث كان ينتظرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
[1] سورة آل عمران, الآيات 191- 195.
[2] شيخ الطائفة الإمامية أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الأمالي، ص470-472، المجلس السادس عشر.
180
150
الدرس الرابع عشر: فاطمة بنت أسد عليها السلام بين مكّة والمدينة
السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام في المدينة
كانت السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام أوّل الواصلين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان ينتظرهم في قباء[1]. ويظهر أنّها قد آثرت غيرها من النساء بركوب المحامل في الطريق إلى المدينة، فهاجرت وهي تقطع تلك الصحراء الموحشة على قدميها الشريفتين. وقد قال حفيدها الإمام الصادق عليه السلام: "إِن فَاطمةَ بنت أَسد أُمّ أمير المؤمنين كانت أَوَّل امرأَةٍ هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكّة إِلى المدينة على قدميها.."[2].
وبعد أن وصلت السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام إلى المدينة المنوّرة نزلت عند ابنها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في دار أبي أيّوب الأنصاريّ، فكانت ملازمة له صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كانت تقوم مع البضعة الزهراء عليها السلام على خدمته، فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "كانت فاطمة بنت محمد تكفيه صلى الله عليه وآله وسلم الداخل (الدار)، وفاطمة بنت أسد تكفيه الخارج"[3].
ولمكانتها المرموقة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يخصّها والفواطم بهداياه[4]. ومن الروايات في ذلك ما أورده ابن حجر وغيره من قول مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "أُهدي إلى رسول الله حلة إستبرق، فقال: اجعلها خُمُراً بين الفواطم"[5].
السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام والسيّدة الزهراء عليها السلام
انتصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في غزوة بدر، وبعد ذلك بمدّة من الزمن، فرحت السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام بزواج ابنها عليّ من الطهر البتول فاطمة الزهراء عليه السلام، حيث كان قلبها الشريف ينبض بحبّ بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفلذة كبده، وهي التي لم تفارقها منذ وفاة أمّها السيّدة خديجة في السنة العاشرة من البعثة النبويّة، حيث كان عمرُ
[1] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص470، المجلس السادس عشر.
[2] ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1، ص453.
[3] أبو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ج24، ص353، باب الفاء فاطمة بنت أسد، طبعة:2، مكتبة العلوم والحكم.
[4] الفواطم: قال القتيبي إحداهن سيّدة النساء فاطِمةُ بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعليها زَوْجُ علي عليه السلام، والثانية فاطِمةُ بنت أَسد بن هاشم أُم علي بن أبي طالب عليه السلام، وكانت أَسلمت وهي أوّل هاشمية ولَدت لهاشميّ. قال ولا أَعرف الثالثة، قال ابن الأَثير هي فاطمة بنت حمزة عمِّه سيد الشهداء رضي الله عنهما، يراجع لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، ج12، ص454، طبعة:1، دار صادر، بيروت.
[5] أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ج8، ص62، طبعة:1، دار الجيل.
181
151
الدرس الرابع عشر: فاطمة بنت أسد عليها السلام بين مكّة والمدينة
الصدّيقة الزهراء عليها السلام يومئذٍ لا يتجاوز خمس سنوات.
وبعد أن زوّج الله تعالى بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للامام عليّ عليه السلام عاشت السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام معهما في الدارين، الدار التي بناها أمير المؤمنين عليه السلام وسط حجرات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد النبويّ، وكذلك في الدار التي بناها عليّ عليه السلام بجنب البقيع، فكانت ابنة أسد عليها السلام مثالاً للرأفة والرحمة في معاملة الزهراء عليها السلام، إذ كانت تقوم بمساعدتها براً بها، وبوالدها العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: "قلت لأمي فاطمة بنت أسد بن هاشم اكفي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سقاية الماء والذهاب في الحاجة، وتكفيك خدمة الداخل الطحن والعجن"[1]، فقامت بذلك حباً وكرامة.
بعض فضائلها
1- شهودها ولادة أصحاب الكساء: روى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام عن أمّه فاطمة بنت أسد عليها السلام قالت: "لما وُلد الحسن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُحلق رأسه، ويُتصدّق بوزنه ورقا"[2]. إذاً شاء الله تعالى للسيدة فاطمة بنت أسد عليها السلام أن تحضر مولد حفيدها سيد شباب أهل الجنة السبط الأكبر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما شاء أن تحضر أمه ولادة الطهر البتول فاطمة الزهراء عليها السلام من قبل، فهي التي لم تقاطع أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام كما فعلت سائر نساء قريش. وكذلك شاء الله لها أن تحضر وتشهد ولادة ثاني السبطين السعيدين الامام الحُسين عليه السلام، وهذه فضيلة لم يشاركها فيها غيرها. وتبقى السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام المرأة الوحيدة من بين نساء بني هاشم التي تفرّدت بفضيلة شهودها لولادة الخمسة أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً من شهودها لولادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حضورها لمولد الامام الحسين عليه السلام.
2- من الأرحام المطهرة: وكما لا يخفى فإنّ السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام هي من
[1] أبو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ج24، ص353، باب الفاء فاطمة بنت أسد بن هاشم.
[2] أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تلقيح فهوم أهل الأثر، ج1، ص519، طبعة:1، دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت.
182
152
الدرس الرابع عشر: فاطمة بنت أسد عليها السلام بين مكّة والمدينة
جملة الأرحام المطهرة التي حكى عنها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: ".. نقلنا إلى صلب آدم، ثم نقلنا من صلبه في أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات.."[1]. بل هي من خيرات تلك الأرحام. وهي أيضًا ممّن عناهم الإمام الصادق عليه السلام عندما خاطب جدّه الإمام الحُسين عليه السلام قائلاً: "أشهدُ أنك كُنتَ نُوراً في الأصلابِ الشَّامخةِ، والأرحام المُطهَّرة لم تُنجِّسك الجاهليَّة بأنجاسها، ولم تُلبسك من مُدلهمات ثيابها"[2]. فهي عليها السلام من مُطهرات الأرحام نقيات الجيوب عديمات العيوب.
3- رحم ارتكض فيه 17 شهيدًا: هذا وقد كان رحمها الطاهر مولدًا لسبعة عشر شهيدًا في كربلاء. قالت الرواة كنا إذا ذكرنا عند محمد بن علي الباقر عليه السلام قتل الحسين عليه السلام قال: "قتلوا سبعة عشر إنسانا كلّهم ارتكض (أي تحرّك الجنين) في بطن فاطمة بنت أسد أم علي عليها السلام". كما روي أنّه كان إذا ذُكر قتل الحسين بن عليّ عليه السلام عند محمد بن الحنفيّة قال: "لقد قُتل معه سبعة عشر ممّن ارتكض في رحم فاطمة"[3]، وهم أولاد عليّ وجعفر وعقيل عليهم السلام.
4- صاحبة مكانة سامية عند العرب: ولقد كان لفاطمة بنت أسد عليها السلام مكانة سامية في نفوس العرب، فعندما قتل الامام علي عليه السلام صاحب لواء المشركين يوم أُحد، مدحه أحدهم وذكر فاطمة بنت أسد فقال:
لِلِهِ أَيُّ مُذَبِّبٍ[4] عَنْ حُرْمَةٍ
أَعْنِي ابْنَ فَاطِمَةَ الْمُعَمَّ الْمُخْوَلَا[5]
جَادَتْ يَدَاكَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ
تَرَكَتْ طُلَيْحَةَ لِلْجَبِينِ مُجَدَّلَا
[1] علي بن محمد بن علي الخزاز الرازي، كفاية الأثر في النص على الائمة الاثني عشر، ص2، مطبعة الخيام، قم، ورواه
[2] شيخ الطائفة الإمامية أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، زيارة الأربعين، تحقيق وتعليق السيد حسن الموسوي الخرسان، طبعة:4، 1365هـ، نشر دار الكتب الإسلامية، طهران، مطبعة خورشيد.
[3] الطبراني، المعجم الكبير، ج3، ص103 + 119، رقم:2805+2854، طبعة:2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل.
[4] المذبب: المدافع عن الشيء يقال ذبب عن حرمه إذا دفع عنها.
[5] المعم: الكريم الأعمام، والمخول: الكريم الأخوال.
183
153
الدرس الرابع عشر: فاطمة بنت أسد عليها السلام بين مكّة والمدينة
وَشَدَدْتَ شِدَّةَ بَاسِلٍ فَكَشَفْتَهُمْ
بِالْحَقِّ إِذْ يَهْوُونَ أَخْوَلَ أَخْوَلَا[1]
وَعَلَلْتَ سَيْفَكَ بِالدِّمَاءِ وَلَمْ تَكُنْ
لِتَرُدَّهُ حَرَّانَ حَتَّى يَنْهَلَا[2]
5- تقواها وخشيتها من الله: وليست آخر فضائلها ما روي عنها من أخبار تدل على مدى تقواها وخشيتها من الله تعالى، حيث إنّها لمّا سمعتْ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: "إنّ الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما وُلدوا"، فقالت: واسوأتاه!، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "فإنّي أسأل اللَّه أن يبعثك كاسية". وسمعته يذكر ضغطة القبر، فقالت: واضعفاه! فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "فإنّي أسأل اللَّه أن يكفيك ذلك".
وقالت لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يوماً: "إنّي اُريد أن اُعتق جاريتي هذه، فقال لها: "إن فعلت أعتق اللَّه بكلّ عضو منها عضواً منك من النار"[3].
وبناءً على كل ما تقدّم فإننا نرى أن السيّدة فاطمة عليها السلام عاشت منقطعة إلى الله تعالى، تلتزم أوامره وتنتهي عن نواهيه، وجعلت من دنياها كلها معبداً يطيب بذكر الله وحده، فعاش قلبها أحاسيس الهداية، وسارت بخطاها راضية مرضية، ووقفت أمام المحن معتصمة بحبل الله، فطوبى لذلك الإيمان، وطوبى للصدق في العبودية للرحمن.
[1] أَخْوَلَ أَخْوَلَا: أي واحداً بعد واحدٍ.
[2] أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج11، ص38، حديث المؤاخاة، طبعة:1، دار هجر.
[3] الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1، ص453.
184
154
الدرس الرابع عشر: فاطمة بنت أسد عليها السلام بين مكّة والمدينة
المفاهيم الأساسية
- يستفاد من رواية دعاء السيّدة فاطمة عليها السلام عند ولادتها للامام عليّ عليه السلام في الكعبة وغيرها من الروايات أنّها عليها السلام كانت مؤمنة بالله عزّ وجلّ وموحّدة لـه تعالى على دين جدّها خليل الله إبراهيم ولولا ذلك لما كانت محلًّا للاصطفاء.
- كانت السيّدة فاطمة عليها السلام أوّل من آمن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم من النساء بعد مولاتنا أمّ المؤمنين خديجة الكبرى? عليها السلام، فكانت المسلمة الحادية عشرة.
- بعد تعاظم دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قرّرت قريش معاقبة المسلمين ففرضوا عليهم حصارًا وأجمعوا على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب اقتصادياً واجتماعياً، فلجأوا إلى شِعب أبي طالب، وحلّ الجميع ضيوفاً على السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام.
- كانت السيّدة فاطمة عليها السلام هي وزوجها أبو طالب يبذلان الغالي والنفيس كي لا يصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأيّ أذىً، فقد كانا يخافا من أن يغتاله المشركون ليلاً، وبقيت عليها السلام تقوم برعاية شؤونه صلى الله عليه وآله وسلم حتّى بعد زواجه بأمّ المؤمنين خديجة عليها السلام.
- هاجرت السيّدة فاطمة عليها السلام مع أمير المؤمنين عليه السلام والسيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام وفاطمة بنت الزبير إلى المدينة، فكانت عليها السلام من أول الواصلين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان ينتظرهم في قباء.
- بعد أن زوّج الله تعالى بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام عليّ عليه السلام عاشت السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام معهما في الدارين، الدار التي بناها أمير المؤمنين عليه السلام وسط حجرات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد النبويّ، وكذلك في الدار التي بناها عليّ عليه السلام بجنب البقيع، وكانت تكفيها أمور المنزل الخارجية من سقاية وحاجات وفاطمة الزهراء عليها السلام تكفيها ما داخل المنزل.
- تفرّدت السيّدة فاطمة عليها السلام بفضيلة شهودها لولادة الخمسة أصحاب الكساء من ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الامام الحسين عليه السلام. وكان من فضائلها عليها السلام ما روي عنها من أخبار تدلّ على مدى تقواها وخشيتها من الله تعالى.
185
155
الدرس الخامس عشر: وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
الدرس الخامس عشر:
وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى حادثة وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام.
- يشرح سلوك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التكريميّ لها عند موتها عليها السلام.
- يبيّن رفعة مقامها وعلوّ منزلتها عند الله تعالى.
187
156
الدرس الخامس عشر: وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
وصية السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
تركت السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام مسيرة حياتها المفعمة بالفداء والتضحية والثبات على المبدأ، وهرعت صوب خالقها الودود الذي أكرمها في حياتها وبعد مماتها عليها السلام. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حاضرًا بين يديها في آخر أيامها من الدنيا، وأوصت إليه صلوات الله عليه خاصّة، حيث إنّها لم توصِ لابنها الإمام المرتضى عليه السلام، وفي ذلك يقول حفيدها الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "وأوصت إليه صلّى الله عليه وآله حين حضرتها الوفاة، فقبل وصيتها"[1].
وجاء في خبر عن الامام عليّ عليه السلام قال: لما استقرّ بفاطمة، وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا توفّيت فأعلموني،.."[2].
وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام ودفنها
كما كانت السيّدة فاطمة بنت أسد في نصرة الله وتأييد رسوله، منقطعة القرين، كذلك كان لها رسول الله يوم لحقت بربّها، فتولّى أمرها بنفسه. ففي روايةٍ عن ابن عبّاس قال: أقبل عليّ بن أبي طالب عليه السلام ذات يوم الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم باكياً، وهو يقول: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مه يا علي؟!" فقال عليّ عليه السلام: "يا رسول الله ماتت أمّي فاطمة بنت أسد".
[1] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج2، ص469، والقاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار، ج3، ص215، والشيخ محمد بن الحسن "الحُر العاملي"، وسائل الشيعة، ج3، ص49، طبعة:1، مؤسسة آل البيت عليه السلام، قم، وقال أبو الفرج الأصبهاني: وأوصت إليه حين حضرتها الوفاة فقبل وصيتها، وصلّى عليها ونزل في لحدها واضطجع معها فيه، وأحسن الثناء عليها، يراجع مقاتل الطالبيين، ج1، ص27، وقال ابن أبي الحديد المدائني: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكرمها ويعظمها، ويدعوها أمي، وأوصت إليه حين حضرتها الوفاة، فقبل وصيتها، يراجع شرح نهج البلاغة، ج1، ص14، وغيرها من الكتب.
[2] عمر بن شبة، واسمه زيد بن عبيدة بن ريطة النميري البصري، تاريخ المدينة، ج1، ص123، طبعة جدة.
189
157
الدرس الخامس عشر: وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
فبكى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ قال: "رحم الله أمّك يا عليّ أما إنّها كانت لك أمّاً، فقد كانت لي أمّاً، خذ عمامتي هذه، وخذ ثوبيّ هذَين فكفّنها فيهما، ومُر النساء فليُحسنّ غُسلها، ولا تُخرجها حتّى أجيء فَإِلَيَّ أَمْرُهَا"[1].
قال: وأقبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد ساعة، وأُخرجت فاطمة أم عليّ عليه السلام فصلّى عليها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلاة لم يصلّ على أحدٍ من قبلها مثل تلك الصلاة، ثمّ كبّر عليها أربعين تكبيرةً، ثم دخل الى القبر، فتمدّد فيه، فلم يُسمع له أنين ولا حركة، ثم قال: "يا عليّ ادخل، يا حسن ادخل"، فدخلا القبر، فلما فرغ ممّا احتاج إليه قال: "يا عليّ اخرج، يا حسن اخرج"، فخرجا.
ثمّ زحف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى صار عند رأسها، ثمّ قال: "يا فاطمة أنا محمّد سيّد وُلد آدم ولا فخر، فإن أتاكِ منكر ونكير، فسألاك عن ربك، فقولي: الله ربي، ومحمد نبييّ، والإسلام ديني، والقرآن كتابي، وابني إمامي وولييّ، ثمّ قال: اللهم ثبت فاطمة بالقول الثابت، ثمّ خرج من قبرها وحثا عليها حثيات، ثمّ ضرب بيده اليمنى على اليُسرى فنفضهما، ثمّ قال: "والذي نفس محمد بيده لقد سمعت فاطمة تصفيق يميني على شمالي".
فقام إليه عمار بن ياسر، فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله، لقد صليت عليها صلاة لم تصلِّ على أحد قبلها مثل تلك الصلاة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أبا اليقظان وأهل ذلك هي منّي، لقد كان لها من أبي طالب ولد كثير، ولقد كان خيرهم كثيراً، فكانت تُشبعني وتُجيعهم، وتكسوني وتعريهم، وتدهنني وتشعثهم".
وقال: فلم كبّرت عليها أربعين تكبيرةً يا رسول الله؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم يا عمار التفتُّ عن يميني فنظرت إلى أربعين صفاً من الملائكة فكبّرت لكلّ صفّ تكبيرةً".
قال: فتمددك في القبر، فلم يسمع لك أنين ولا حركة، قال: "إن الناس يحشرون يوم القيامة عراة فلم أزل أطلب إلى ربّي عزّ وجلّ أن يبعثها ستيرة، والذي نفس محمد بيده ما خرجت من قبرها حتّى رأيت مصباحين من نور عند رأسها، ومصباحين من نور عند
[1] فَإِلَيَّ أَمْرُهَا: هكذا عند الطبري الآملي في بشارة المصطفى، وعند الشيخ الصدوق في الأمالي:(فأليَ أمرَها).
190
158
الدرس الخامس عشر: وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
يديها، ومصباحين من نور عند رجليها، وملكيها الموكّلين بقبرها يستغفران لها إلى أن تقوم الساعة"[1].
وهذا التكريم الإستثنائي والاهتمام الكبير وعِظم التجليل ورفعة التبجيل الذي أولاه مولانا رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأمه فاطمة بنت أسد عليها السلام عند وفاتها وتشييعها ودفنها يدلّ بوضوح على جلالة قدرها، وعظيم منزلتها، ورفعة مقامها المرموق عند الله تبارك وتعالى، هذا وإن ظلمها التاريخ وأصحاب السير الذين لا يروون عن حياتها سوى أقلّ القليل.
تشييع جنازتها
روي أنه لمّا توفّيت السيّدة فاطمة بنت أسد وخرجوا بجنازتها جعل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مرةً يحمل، ومرةً يتقدم، ومرةً يتأَخر حتّى انتهوا إِلى القبر، فتَمَعّك (أي تمرّغ) في اللحد ثم خرج، فقال: "أَدخلوها باسم الله، وعلى اسم الله".
كفنها
فلما أَن دفنوها قام قائماً، فقال: "جزاكِ الله من أمٍّ وَرَبيبَة خيراً، فنِعْمَ الأُم، ونِعْمَ الربيبةُ كنتِ لي"، فقيل له: يا رسول الله، لقد صنعتَ شيئين ما رأَيناك صنعتَ مثلهما قط. قال: ما هو؟ قلنا: بنزعك قميصك، وتَمَعُّكك في اللّحد.
قال: "أَما قميصي، فأَردت أَلّا تمسَها النار أَبداً إِن شاءَ اللّه، وأَما تمعُّكي في اللحد، فأَردت أَن يوسع الله عليها قبرها"[2]. وكذا روي عن الامام علي بن أبي طالب، أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كفّن فاطمة بنت أسد في قميصه، وقال: "لم نلق بعد أبي طالب أبرّ بي منها"[3].
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص314، المجلس الحادي والخمسون، حديث:14، ورواه أبو جعفر عماد الدين محمد بن القاسم الطبري الآملي، بشارة المصطفى، ص242، تلقين النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بنت أسد...، طبعة:2، المكتبة الحيدرية، النجف.
[2] ابن شبة، تاريخ المدينة النبوية، ج1، ص124.
[3] ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ج8، ص269، نقلاً عن أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الشيباني.
191
159
الدرس الخامس عشر: وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
صلاة الملائكة عليها
كما روي عن علي بن الحسين عليه السلام أنه نقل عن الامام عليّ عليه السلام أنّه قال: "لمّا ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم كفّنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قميصه وصلّى عليها... وإنّ جبريل عليه السلام أخبرني عن ربي عزّ وجلّ أنّها من أهل الجنّة، وأخبرني جبريل عليه السلام أنّ الله تعالى أمر سبعين ألفاً من الملائكة يصلّون عليها"[1].
قبرها روضة من رياض الجنة
كذلك فإنّ قبرها سلام الله عليها هو روضة من رياض الجنة يشهد لذلك ما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "لمّا خرج - رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبر فاطمة بنت أسد - قال:.... وأمّا دخولي في قبرها، فإنّي قلت لها يوماً: إنّ الميت إذا أُدخل وانصرف الناس عنه دخل عليه ملكان: منكر ونكير، فيسألانه، فقالت: واغوثاه باللّه، فما زلت أسال ربّي في قبرها حتّى فتح لها روضة من قبرها إلى الجنّة, فقبرها روضة من رياض الجنة"[2].
السيّدة فاطمة عليها السلام مأمونةٌ من ضغطة القبر
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ السيّدة الطاهرة فاطمة بنت أسد عليها السلام سمعت مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر ضغطة القبر، فقالت: واضعفاه! فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "فإنّي أسأل اللَّه أن يكفيك ذلك"[3].
وقال ابن عبّاس: "لما ماتت فاطمة أمّ عليّ خلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قميصه وألبسها إياه واضطجع في قبرها... وقال: "إنّي ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنة، واضطجعت
[1] الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص116، حديث4574، باب: ومن مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في اتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة، ج11، ص351، حديث14180،.
[2] شيخ القميين أبو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفار من أصحاب الإمام الحسن بن علي الزكي العسكري عليه السلام، بصائر الدرجات، ج1، ص287، طبعة3: مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم.
[3] الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج1، ص453.
192
160
الدرس الخامس عشر: وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
معها في قبرها لأخفّف عنها من ضغطة القبر، إنها كانت أحسن خلق الله صنيعاً إليّ بعد أبي طالب"[1].
وفي حديث عن محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما عفي أحد من ضغطة القبر إلّا فاطمة بنت أسد، فقيل يا رسول الله: ولا القاسم ابنك؟ قال: ولا إبراهيم"[2]، وكان إِبراهيم أَصغرهما.
وقد أكد العلماء هذه المسـألة تبعًا للأحاديث الشريفة، فقال الشيخ المفيد: ولمّا قبضها الله تعالى إليه كفّنها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقميصه ليدرأ به عنها هوام الأرض، وتوسّد في قبرها لتأمن بذلك من ضغطة القبر[3]. وجاء في بعض الكتب: لا ينجو من ضغطة القبر صالح ولا طالح، والمراد غير من استثناه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهو فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف أمّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وذلك لأنّها ضمّت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولما ماتت سكب عليها الماء الذي فيه الكافور، وألبسها قميصه واضطجع في قبرها، وقال: "الحمد لله الذي يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت، اللهمّ اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقِّنها حُجّتها ووسِّع عليها مدخلها"[4].
تاريخ وفاتها
جاء في بعض الروايات: سمعت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو النساء إلى البيعة، حين أنزلت هذه
[1] أبو القاسم الطبراني، المعجم الأوسط، ج7، ص87، حديث:6935، طبعة: دار الحرمين، القاهرة، ورواه يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، الاستيعاب، ج4، ص1891، طبعة:1، دار الجيل، ورواه أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة، ج1، ص76، وأورده نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج9، ص257، حديث:15400، طبعة مكتبة القدسي، القاهرة، وقال: رواه الطبراني في الاوسط، وفيه سعدان بن الوليد السابري، لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.- وسعدان بن الوليد هذا ذكره جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزّي في شيوخ الحسن بن بشر الهمداني من تهذيب الكمال، ج6، ص58، طبعة: مؤسسة الرسالة، وأخرج الحاكم حديثه في المستدرك على الصحيحين، وقال: سعدان بن الوليد البجلي كوفي قليل الحديث، وقال علي بن حسام الدين المتقي الهندي: رواه أبو نعيم في المعرفة، والديلمي، وسنده حسن، يراجع كنز العمال، ج13، ص636، حديث: 37608، طبعة:5، مؤسسة الرسالة، بيروت.
[2] محمد بن أحمد بن سالم السفاريني، لوامع الأنوار البهية، ج2، ص15، طبعة:2، مؤسسة الخافقين ومكتبتها، دمشق. عمر بن شبة، تاريخ المدينة، ج1، ص123، طبعة: جدة، وفي ج1، ص79، من طبعة: دار الفكر.
[3] الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري، الإرشاد، ج1، ص5، طبعة:1، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.
[4] السفاريني الحنبلي، لوامع الأنوار البهية، ج2، ص15.
193
161
الدرس الخامس عشر: وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
الآية ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ﴾[1]، وكانت فاطمة بنت أسد أوّل امرأة بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[2]. وذكر عبد الله بن عباس طرفاً من أحوالها فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزورها، ويقيل عندها في بيتها، وكانت صالحة[3]. قال: وفيها نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ﴾[4].
هذا، وقد نزلتْ هذه الآيةُ الكريمة موافقةً لعمل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبايعُ أصحابَه سابقاً على بيعةِ النساءِ قبلَ نزولِ آيةِ مبايعتهنَّ. وقد نقل اتّفاق المفسّرين على زمن نزول هذه الآية من سورة الممتحنة، "اتَّفقوا على نزولها بعد الحديبية"[5]، وصلح الحديبية هو من حوادث شهر ذي القعدة من العام السادس الهجريّ، وبناءً عليه تكون السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام قد توفّيت بعد ذلك لا كما ورد في بعض المصادر أنّها توفّيت في السنة الثالثة أو السنة الرابعة للهجرة.
ومما يؤيد ذلك الرواية التي ذكرناها سابقًا في وضع السيّدة فاطمة عليها السلام في لحدها، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن دخل الى قبرها عليها السلام وتمدّد فيه: "يا عليّ ادخل، يا حسن ادخل.."[6]. فإذا تأمّلنا الرواية نجد فيها أنّ مولانا الإمام الحسن عليه السلام كان في سنّ يتمكن فيها من النزول إلى قبرها والخروج منه، ولا يغيبنّ عنك أنّه قد ولد في السنة الثالثة من الهجرة.
موضع قبرها الشريف
قبرها الشريف في بقيع الغرقد في أول مقابر بني هاشم في قطعة كانت تابعة لدار
[1] سورة الممتحنة، الآية 12.
[2] علي بن الحسين أبو الفرج الأصبهاني، مقاتل الطالبيين، ج1، ص28-29، والقاضي النعمان بن محمد المغربي، شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار، ج3، ص214-215، طبع مؤسسة النشر الإسلامي، قم، وكشف الغمة للإربلي.
[3] يظهر أن محمد بن سعد أخذ هذا القول عن عبد الله بن عباس، يراجع الطبقات الكبرى، ج8، ص222.
[4] يوسف بن قزعلي بن عبد الله سبط ابن الجوزي، تذكرة خواص الأمة، ص20.
[5] أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج8، ص636، طبعة: دار المعرفة، بيروت.
[6] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص314، المجلس الحادي والخمسون، حديث:14، ورواه أبو جعفر عماد الدين محمد بن القاسم الطبري الآملي، بشارة المصطفى، ص242، تلقين النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بنت أسد...، طبعة:2، المكتبة الحيدرية، النجف.
194
162
الدرس الخامس عشر: وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
ولدها عقيل بن أبي طالب، في موضع كان يعرف "بالرّوحاء مقابل حمام أبي قطيفة"[1]. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفن فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت مهاجرةً مبايعةً بالروحاء، مقابلها حمام أبي قطيفة[2].
وجاء في خبر عن الامام عليّ عليه السلام قال: لما استقرّ بفاطمة، وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا توفّيت فأعلموني، فلمّا توفّيت خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر بقبرها فحفر في موضع المسجد الذي يقال له اليوم قبر فاطمة، ثم لحد لها لحداً، ولم يضرح لها ضريحاً، فلمّا فرغ منه نزل، فاضطجع في اللحد، وقرأ فيه القرآن،.."[3].
ولما توفّي العباس بن عبد المطلب عمّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم دفنه بنو هاشم عند قبر فاطمة بنت أسد[4]، ودفن عندها سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مولانا الإمام المُجتبى الحسن بن علي عليهما السلام، بعد أن منع بنو أمية دفنه عند جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[5]. وكذلك دفن عند السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلاممولانا الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام، وولده الإمام مُحمد بن علي الباقر عليهما السلام، وولده الإمام جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام، "وقد روي في بعض الأخبار أنهم أنزلوا على جدتهم فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف رضوان الله عليها"[6].
[1] نور الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الحسني السمهودي، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ج3، ص85، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[2] محمد بن محمود بن الحسن المعروف بابن النجار، الدرة الثمينة في أخبار المدينة، ج1، ص168، طبعة: دار الأرقم.
[3] عمر بن شبة، واسمه زيد بن عبيدة بن ريطة النميري البصري، تاريخ المدينة، ج1، ص123، طبعة جدة.
[4] المصدر السابق، ج1، ص127.
[5] الشيخ المفيد مُحمد بن مُحمد بن النعمان العكبري، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ج2، ص15-19، وأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي المكي، الصواعق المحرقة، ج2، ص414، طبعة:1، مؤسسة الرسالة، بيروت، وغيرهم الكثير.
[6] شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي، تهذيب الأحكام، ج6، ص78، باب نسب أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام.
195
163
الدرس الخامس عشر: وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
المفاهيم الأساسية
- كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاضراً بين يدي السيّدة فاطمة عليها السلام في آخر أيام حياتها. وقد خصّته سلام الله عليها بالوصية دون غيره من أبنائها.
- جاء الإمام عليّ عليه السلام للنبيّ يخبره بوفاة أمه فاطمة عليها السلام، ثمّ أمر الرسول بأن يحسن غسلها وأن تكفّن بقميصه، وأُخرجت جنازتها سلام الله عليها فصلّى عليها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلاة لم يصلّ على أحدٍ من قبلها مثل تلك الصلاة، ثمّ كبّر عليها أربعين تكبيرةً، ثمّ دخل الى القبر، فتمدّد فيه، فلم يُسمع له أنين ولا حركة.
- لقّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السيّدة فاطمة عليها السلام الشهادة ودعا لها، وأخبر الناس أنه رأى الملائكة في قبرها وملكين موكلين يستغفران لها حتّى قيام الساعة، ورأى مصباحين من نور عند رأسها، ومصباحين من نور عند يديها، ومصباحين من نور عند رجليها يسترانها يوم المحشر.
- أخبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن قبر السيّدة فاطمة بنت أسد هو روضة من رياض الجنة.
- جاء في خبر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه ليس أحد مأموناً من ضغطة القبر إلّا السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام.
- توفّيت السيّدة فاطمة عليها السلام في العام السادس للهجرة، ويدلّل على ذلك كونها من مصاديق آية مبايعة النساء والتي نزلت بعد صلح الحديبية باتّفاق المسلمين.
- قبر السيّدة فاطمة عليها السلام الشريف في بقيع الغرقد في أول مقابر بني هاشم في قطعة كانت تابعة لدار ولدها عقيل بن أبي طالب. وقد دُفن العباس بن عبد المطلب عمّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام المُجتبى الحسن والإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، وولده الإمام مُحمد بن علي الباقر عليه السلام، وولده الإمام جعفر بن مُحمد الصادق عليه السلام، في تلك البقعة.
196
164
الدرس الخامس عشر: وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
الدرس السادس عشر:
أصول السيّدة خديجة عليها السلام ونشأتها
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى نسب السيّدة خديجة عليها السلام ومكانة عشيرتها.
- يذكر بعض فضائل والد السيّدة خديجة عليها السلام.
- يشرح الظروف التي رافقت نشأة السيّدة خديجة عليها السلام.
197
165
الدرس الخامس عشر: وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
تمهيد
بدايةً لا بدّ لنا من القول إنّه ليس في وسع أحد أن يأتي بكمال وصف ما أوتيت سيدتنا ومولاتنا أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام من الفضائل والرفعة، ولا أن يأمل أحد الوصول إلى شأو ما منحه الله تعالى إياها، فيبرز نواحي ذلك ويوفيه، فإذاً لا مناص إلّا بسط الذراع بوصيد بعلها سيد النبيين، وصهرها عليّ أمير المؤمنين والأئمة من أولادها المعصومين عليهم السلام، والاقتباس ممّا أشادوا به في شأنها، لأنّ كلّ ما ذكره العلماء والأدباء والكتّاب والشعراء عن خصالها الحميدة، وكلّ ما قيل في شمائلها المجيدة هو في الحقيقة دون شأنها ومقامها الرفيع، فهي شخصية في أوج العظمة وذروة الشرف وقمّة الفضيلة. وماذا يمكننا أن نقول في حقّ سيّدة نساء الرسالة صلوات الله وسلامه عليها، والتي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "سيدات نساء أهل الجنّة أربع: مريم بنت عمران، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخديجة بنت خويلد، وآسية"[1].
نسبها الوضّاح
هي أم القاسم صفوة النسوة الطيّبات، وفخر العفائف المطهّرات، أميرة عشيرتها، وسيّدة قومها، ووزيرة الصدق عند الصادق الأمين، أمّ المؤمنين خديجة الكبرى الأسدية
[1] الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص205، حديث 4853، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
199
166
الدرس الخامس عشر: وفاة السيّدة فاطمة بنت أسد عليها السلام
القرشية[1] المكية، أوسط نساء قريش نسباً[2]، لا يجاريها في ذلك إلّا بنات شيبة الحمد (عبد المطلب)، وعمرو العلا (هاشم).
أبوها هو خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة[3] بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.
وأمها هي فاطمة ابنة زائدة بن الأصمّ بن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة[4].
وكانت والدة خديجة عليها السلام سيّدة جليلة القدر مشهوداً لها بالفضل بين النساء، وتعدّ هي وأمّها، وجدّتها الأولى والثانية، والثالثة والرابعة كلهنّ من نسل لؤيّ بن غالب[5]، جدّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. ومن الأشياء المتّفق عليها في نسب رسول الله مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم طهارة آبائه وأمهاته. وعليه يمكننا القول إن السيّدة أم المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام، قد شاركته
[1] كان العرب خاضعين لقريش ومنقادين لها، وكانوا يعتبرونها أشرفهم، وقد قال أبو طالب في خطبته المعروفة عند خطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة (عليها السلام): "الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذريّة إسماعيل أَنْزَلَنا حرمًا آمنًا وجعلنا الحكّام على الناس"، أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري، الأوائل، ج1، ص13، طبعة:1، دار البشير، طنطا، مصر، ومن دقق في الجملة الأخيرة. تبيّن له أنّ قريشًا كان لها الحكم والأمر على العرب. وقد خطب جدّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هاشم بن عبد مناف في اليوم الأوّل من ذي الحجّة خطبة في قريش جاء فيها: "يا معشر قريش! ألستم سادة العرب وأحسنها وجوهاً وأعظمها أحلاماً وأوسطها أنساباً". يراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المدائني، ج15، ص211، الطبعة:1، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم.
[2] ـ يقال فلان أوسط القبيلة: أعرفهم وأشرفهم نسباً، وأرفعهم محلاً، وأكرمهم موضعاً، ويقال: إنّ الوسيط هو الشريف في قومه، لأنّ النسب الكريم دار به من كل جهة وهو وسط، فالوسط في ذكر النسب من أوصاف المدح والتفضيل.
[3] محمد بن إسحاق بن يسار المدني، سيرة ابن إسحاق "السيّر والمغازي"، ج1، ص82، طبعة:1، دار الفكر، بيروت.
[4] م. ن، وجُل من ترجم لأم المؤمنين خديجة الكبرى (عليها السلام) من المؤرخين وأصحاب التراجم والسيَر.
[5] الحافظ أبو بِشْر محمد بن أحمد الدولابي الرازي، الذرية الطاهرة، ج1،ص24، طبعة:1، الدار السلفية، الكويت، والحافظ علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر، تاريخ دمشق، ج3، ص192، طبعة:1، دار الفكر.
200
167
الدرس السادس عشر: أصول السيّدة خديجة عليها السلام ونشأتها
بذلك أيضاً، فهي تلتقي معه في نسبه الطاهر عند جدّهما المشترك قصيّ[1] بن كلاب، كما أنّها أقرب منه صلى الله عليه وآله وسلم إلى قصيّ برجل واحد، وتعدّ السيّدة خديجة عليها السلام أقرب نسائه صلى الله عليه وآله وسلم إليه نسباً، وأمسّ أزواجه به رحماً كون جدّها أسد وجدّه هاشم وَلَدَيْ عم.
بعض فضائل والد السيّدة خديجة
يلقب والد السيّدة خديجة بأبيّ الخسف[2]، والْخَسْف: الذل. وآب: اسْم فَاعل، أَبى الْخَسْف: إِذا امْتنع من قبُوله، فإنه كان رجلاً ماضي العزيمة، حميّ الأنف فارساً شجاعاً وشاعراً مرهفاً، وسيداً كريماً، رفيع المقام يتحلّى بأخلاق طيّبة وكان شيخ بني أسد ووجيههم. ومن المواقف التي تشهد له أنه كان بطلاً مغواراً لا تُرهبه كثرة الفرسان دفاعه عن الكعبة المشرّفة في يوم لا ينسى، فقد روى ابن عبّاس أيضاً أن والد السيّدة خديجة عليها السلام هو الذي نازع تُبّعاً الآخِر[3] - أخر تبابعة اليمن - حين حجّ وأراد أن يأخذ الحجر الأسود معه إلى اليمن، فقام في ذلك خويلد بن أسد، وقام معه جماعة، وواجهوه ومنعوه من ذلك. ثمّ
[1] روي عن ابن عباس أنه قال: كان قصي بن كلاب أول ولد كعب بن لؤي، أصاب ملكاً أطاع له به قومه، فكان شريف أهل مكة لا ينازع فيها، فابتنى دار الندوة وجعل بابها إلى البيت، ففيها كان يكون أمر قريش كله وما أرادوا من نكاح أو حرب أو مشورة فيما ينوبهم، حتى إن كانت الجارية تبلغ أن تدرع فما يشق درعها إلا فيها، ثم ينطلق بها إلى أهلها، ولا يعقدون لواء حرب لهم ولا من قوم غيرهم إلا في دار الندوة، يعقده لهم قصي، ولا يعذر لهم غلام إلا في دار الندوة، ولا تخرج عير من قريش فيرحلون إلا منها، ولا يقدمون إلا نزلوا فيها تشريفاً له وتيمناً برأيه ومعرفةً بفضله، ويتبعون أمره كالدين المتبع لا يعمل بغيره في حياته وبعد موته، وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة وحكم مكة كله، وكان يعشر من دخل مكة سوى أهلها، قال: وإنما سميت دار الندوة لأن قريشاً كانوا ينتدون فيها، أي يجتمعون للخير والشر، والندي: مجمع القوم إذا اجتمعوا، وقطع قصي مكة رباعاً بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم التي أصبحوا فيها اليوم، وضاق البلد وكان كثير الشجر العضاه والسلم، فهابت قريش قطع ذلك في الحرم، فأمرهم قصي بقطعه، وقال: إنما تقطعونه لمنازلكم ولخططكم، بهلة الله على من أراد فساداً! وقطع هو بيده وأعوانه فقطعت حينئذ قريش وسمته مجمعاً لما جمع من أمرها، وتيمنت به وبأمره، وشرفته قريش وملكته، يراجع الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد، ج1، ص70-71، طبعة:1، دار صادر، بيروت.
[2] أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، نزهة الألباب في الألقاب، ج1، ص51، طبعة مكتبة الرشد، الرياض، وتقي الدين المقريزي أحمد بن علي، أبو العباس الحسيني، إمتاع الأسماع، ج6، ص175، وغيرهما.
[3] تُبّع: بضم الميم وتشديد الباء لقب لِمَن يملك جميع بلاد اليمن حِمْيراً وسبأ وحضرموت، فلا يطلق على الملك لقب تُبّع إلا إذا ملك هذه المواطن الثلاثة، يراجع التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر بن محمد بن عاشور التونسي، ج25، ص333-334، طبعة:1، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت.
201
168
الدرس السادس عشر: أصول السيّدة خديجة عليها السلام ونشأتها
إن تُبّعاً روّع ترويعاً شديداً حتّى ترك ذلك وانصرف عنه[1].
هذا بالاضافة إلى رواية جاءت عن عبد المطلب يشهد فيها بمشاركة خويلد إياه في فضل حفر بئر زمزم[2]، وقد أنشد فيه أبياتًا أبرزت أن خويلد كان على الحنيفية الغرّاء والتوحيد الابراهيميّ[3].
علاقة عشيرة خديجة عليها السلام ببني هاشم
كانت عشيرة السيّدة خديجة عليها السلام - بنو أسد بن عبد العزّى - وهم أصحاب المشورة[4] في قريش إلى جانب بني عبد مناف في حلف المطيبين[5] مؤازرين مناصرين[6] لهم في وجه حلف لعقة الدم. وكان أسد بن عبد العزّى جدّ السيّدة خديجة عليها السلام من المبرّزين في حلف الفضول، فأجاب هو وبنوه نداء الهاشميين، وتحالفوا معهم، ومع بني المطلب، وبني زهرة، وتيم بن
[1] أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، الروض الأنف، ج2، ص155، طبعة:1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، وأبو الفداء بن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج2، ص362، طبعة:1، دار إحياء التراث العربي.
[2] روي عن عبد الله بن عثمان بن سليمان قال سمعت أبي يقول: لما حُفرت زمزم، وأدرك منها عبد المطلب ما أدرك وجدت قريش في أنفسها مما أعطي عبد المطلب، فلقيه خويلد بن أسد بن عبد العزى، فقال: يا ابن سلمى لقد سقيت ماء رغداً ونثلت عادية حسداً، فقال (عبد المطلب): يا ابن أسد أما إنك تُشرك في فضلها، والله لا يساعدني أحد عليها ببر، ولا يقوم معي بارزاً إلا بذلت له خير الصهر.
[3] أقول وما قولي عليهم بِسُبَّةٍ إليك ابن سلمى أنت حَافِرُ زَمْزَمَ
حَفِيرَةُ إبراهيم يوم ابن هَاجَرَ ورَكْضَةُ جِبريل على عهد آدم
فقال عبد المطلب: "ما وجدت أحداً ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد"، (علاء الدين مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجري البصري الحنفي، إكمال تهذيب الكمال، ج5، ص51، طبعة:1، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، وسليمان بن موسى بن سالم بن حسان الكلاعي الحميري، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ج1، ص104، طبعة:1، دار الكتب العلمية، وتقي الدين المقريزي أحمد بن علي بن عبد القادر، إمتاع الأسماع، ج6، ص177، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت، وأبو بكر بن عبد الله بن أيبك الدواداري، كنز الدرر وجامع الغرر، ج3، ص30، مطبعة عيسى البابي الحلبي، وغيرهم).
[4] المشورة: يريدون بها رئاسة الشورى, وليس ببعيد عن الصواب إذا شبهناها من بعض الوجوه برئاسة مجلس الأعيان، وكانت هذه الوظيفة من خصائص بني أسد قوم أم المؤمنين خديجة عليها السلام، ومن شأنهم في هذه الوظيفة أن رؤساء قريش كانوا لا يجتمعون على أمْر حتى يعرضوه على صاحب هذه الوظيفة, فإن أعجبه وافقهم عليه، وإلا تخيَّر وكانوا له أعوانًا.
[5] نسبة للطيب الذي حوته الجفنة التي أخرجتها لهم عاتكة أو البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتوأمة أبيه، ووضعتها في الحجر (حجر اسماعيل)، وقالت: من تطيب بهذا فهو منا، فتطيب منها مع بني عبد مناف، بنو زهرة بن كلاب، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو تيم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر، غمسوا أيديهم فيها، وتعاقدوا، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيداً على أنفسهم، فالمطيبون من قريش خمس قبائل، والذين في مقابلهم هم: الأحلاف أو لعقة الدم.
[6] نور الدين علي بن برهان الدين إبراهيم بن أحمد الحلبي، السيرة الحلبية أو إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون، ج1، ص22، ط2: دار الكتب العلمية.
202
169
الدرس السادس عشر: أصول السيّدة خديجة عليها السلام ونشأتها
مُرة، في هذا الحلف الشهير[1]. وكانت هناك مصاهرات[2] عديدة قد جرت بين قوم السيّدة خديجة وبني هاشم قبل أن يتزوجها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وبقيت العلاقة الطيبة سائدةً بين بني هاشم وبني أسد إلى أن سعى بخرابها مراراً وتكراراً عبد الله بن الزبير، وكان الأمر كما رويَ عن أمير المؤمنين والإمامين الباقر والصادق عليه السلام[3].
نشأة السيّدة خديجة عليها السلام
ولدت السيّدة خديجة بنت خويلد عليها السلام وسط اُسرة عريقة النسب كانت تتمتّع بالذكر الطيب والخلق الكريم، ونشأت في ذلك البيت الطيب يرعاها والدها خويلد وأمها الفاضلة فاطمة، فتربّت السيّدة خديجة عليها السلام على أكمل السير المحمودة وأحسن الأخلاق، وجَمَعت خِصال الخير دون نساء قومِها، وكانت تمتاز من صغر سنِّها بالنضج الفكريّ والرشد العقليّ المبكر، وقد وهب الله لها أوفر نصيب من الحسن والجمال، وقد عرفت عليها السلام بكثرة السجايا والفضائل والصفات الانسانية الرفيعة التي تؤكّد جلالة قدرها. وممّا يؤكد مكانتها المرموقة التي كانت تحظى بها في المجتمع العربيّ الذي كان يعيش عصر الجاهلية أن أهل مكّة أطلقوا عليها لقباً يناسب تلك المكانة السامية، فنعتوها "سيدة نساء قريش"[4]، وهذا ما جعل كلّ واحدٍ من رجال قومها حريصاً على الاقتران بها لو كان ذلك مقدوراً عليه[5].
[1] حلف الفضول، هو الحلف الذي تعاقدت وتحالفت عليه قبائل من قريش اجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وهم: بنو هاشم، وبنو المطلب، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو أسد بن عبد العزى، وتيم بن مرة، فتعاقدوا وتحالفوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها، ومن غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى يردوا عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب.
[2] مصعب بن عبد الله بن مصعب الزبيري، نسب قريش، ج1، ص312، طبعة:3، دار المعارف، القاهرة.
[3] : "ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله"، يراجع الأصول الستة عشر، ص151، طبعة: 1، دار الحديث الثقافية، قم، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج2، ص167، طبعة: مكتبة المرعشي النجفي، قم.
[4] نقل لنا هذا اللقب العباس بن عبد المطلب عم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فراجعه عند سليمان بن أحمد بن أيوب أبي القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ج22، ص452، حديث رقم: 1103، طبعة:2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل.
[5] محمد بن إسحاق، سيرة ابن إسحاق، ج1، ص82، طبعة:1، دار الفكر، بيروت، وعبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، السيرة النبوية، ج1، ص189، طبعة:2، مصطفى البابي الحلبي، مصر، ومحمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص131، طبعة: دار صادر، ومحمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج1، ص521، وأحمد بن الحسين البيهقي، دلائل النبوة، ج2، ص66، طبعة:1، دار الكتب العلمية + دار الريان للتراث، وغيرهم الكثير من المؤرخون.
203
170
الدرس السادس عشر: أصول السيّدة خديجة عليها السلام ونشأتها
وقد تزاحم وجهاء قريش وأعيانها على خطبة خديجة بنت خويلد عليها السلام والتقرّب إليها، "وقد طلبوها وبذلوا لها الأموال"[1]. لقد رغبوا فيها لخلقها وشرفها وحسبها ونسبها في قومها، فضلاً عن يسارها وثرائها من تجاراتها الرابحة، لكنها قد ردّتهم جميعاً لأنها كانت تقيس الأمور بمقاييس نفسها العالية...[2].
وعلى الرغم من أنّ السيّدة خديجة عليها السلام كانت عظيمة الشأن في مكّة إلّا أنّ التاريخ لم ينقل لنا إلّا أقل القليل عن سيرتها وحياتها قبل الإسلام، ولكن هذا اليسير يدلّ على أنّها كانت أعقل وأكمل امرأة في قريش، وأنّها ذات بصيرة بين أبناء زمانها، فقد عرفت عليها السلام بِحِدَّة الذَّكاء والسَّخاء، والحزم والعفاف، ولشدّة عفافها وصيانتها، وشرفها وكمالها، ولطهارة سريرتها وسيرتها دعاها أهل مكة في الجاهلية "الطاهرة"[3].
ومن تأمّل هذا اللقب ظهر له جلياً كيف كانت نشأتها سلام الله عليها، فإنّ المرأة التي تحمل هذا اللقب في مجتمع جاهليّ... لهي امرأة بلغت من العفّة والنقاء مبلغاً رفيعاً يؤكّد أنّها أهل لذاك الاصطفاء الربانيّ، والخيار الإلهيّ بأن تكون حليلةً لسيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّ الله تعالى أكرمها بذلك، وادّخرها لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد شرّفها الله بالولد منه، وجعل منها الذرّية الطاهرة المباركة. والأحاديث النبوية الواردة في حقّ السيّدة خديجة عليها السلام تُظهر لكلّ مسلمٍ رفعة درجة أمّ المؤمنين الكبرى واصطفاءها على نساء العالمين، حيث قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا ثلاث مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد"[4].
[1] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص131، ذكر تزويج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خديجة بنت خويلد، وأبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في صفة الصفوة، وابن سيد الناس اليعمري في عيون الأثر، وتقي الدين المقريزي في إمتاع الأسماع، وغيرهم.
[2] الزبير بن بكار بن عبد الله الأسدي القرشي المكي، المنتخب من كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ج1، ص32، طبعة:1، مؤسسة الرسالة، بيروت.
[3] أبو نعيم الأصبهاني، معرفة الصحابة، ج6، ص3200، طبعة:1، دار الوطن، الرياض، وابن عبد البر في الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج4، ص1817، ترجمة رقم: 3311، طبعة:1، دار الجيل، بيروت، وابن عساكر في تاريخ دمشق، ج3، ص131، وابن كثير في السيرة النبوية، ج4، ص608، طبعة دار المعرفة، بيروت، ونقل ذلك غيرهم الكثير.
[4] ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج3، ص159، طبعة:1، دار إحياء التراث العربي، وقال ابن كثير: رواه ابن مردويه في تفسيره وهذا اسناد صحيح إلى شعبة وبعده، قالوا والقدر المشترك بين الثلاث نسوة آسية ومريم وخديجة أن كلا منهن كفلت نبياً مرسلاً، وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته، فآسية ربت موسى وأحسنت اليه وصدقته حين بعث، ومريم كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين أرسل، وخديجة رغبت في تزويج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها وبذلت في ذلك أموالها كما تقدم وصدقته حين نزل عليه الوحي من الله عز و جل.
204
171
الدرس السادس عشر: أصول السيّدة خديجة عليها السلام ونشأتها
المفاهيم الأساسية
- السيّدة خديجة عليها السلام أسدية قرشية، أبوها هو خويلد بن أسد وأمها هي فاطمة ابنة زائدة، ويجتمع نسبها لأبيها مع نسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جدّها قصيّ، فنسبها أشرف الأنساب كمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
- كانت والدة خديجة عليها السلام سيّدة جليلة القدر مشهوداً لها بالفضل بين النساء، كما أنّها تنحدر من نسل لؤيّ بن غالب، أحد أجداد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
- عُرف والد السيّدة خديجة عليها السلام بأنه يأبى الخسف، أي الذلّ، وقد كان شجاعًا كريمًا، يعزى الفضل له في مواجهة آخر تُبّع، حيث أراد أن يأخذ معه الحجر الأسود إلى اليمن فواجهه هو وجماعة ومنعوه من ذلك. وكان موحّداً على الحنيفية الابراهيمية.
- كانت عشيرة السيّدة خديجة عليها السلام أصحاب المشورة وكانوا ممن لبّى نداء الهاشميين إلى حلف الفضول، وكان بينهم العديد من المصاهرات.
- نشأت السيّدة خديجة عليها السلام في ذلك البيت الطيب يرعاها والدها خويلد وأمها الفاضلة فاطمة، فتربّت السيّدة خديجة عليها السلام على أكمل السير المحمودة وأحسن الأخلاق، وجَمَعت خِصال الخير دون نساء قومِها.
- كانت السيّدة خديجة عليها السلام تمتاز من صغر سنِّها بالنضج الفكريّ والرشد العقليّ المبكر. وقد وهب الله لها أوفر نصيب من الحسن والجمال. وقد عرفت عليها السلام بسيدة نساء قريش والطاهرة، وفي ذلك دلالة واضحة على سمّو نفسها وترفّعها عن كل أدران الجاهلية، وكانت مؤمنة موحّدة على الحنيفية الابراهيمية.
- تزاحم وجهاء قريش وأعيانها على خطبة خديجة بنت خويلد عليها السلام والتقرّب إليها، وبذلوا لها الأموال لكنّها رفضت الجميع وكانت بانتظار قدرها الذي رسمه الله تعالى لها ورضيته عليها السلام.
205
172
الدرس السابع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
الدرس السابع عشر:
السيّدة خديجة عليها السلام
والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يشرح حادثة مضاربة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمال خديجة عليها السلام.
- يذكر مقدّمات الزواج المبارك وكيفية حصوله.
- يتعرّف إلى قصة زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام.
207
173
الدرس السابع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
لمحة عن تجارتها عليها السلام
كانت السيّدة خديجة عليها السلام امرأةً شريفةً ذات فراسةٍ قويةٍ، وهمّة عالية، لها نظر ثاقب، ومعرفة دقيقة بالعواقب، أغناها الله تعالى بسعة النعم، ومّن عليها ذو الجلال بكثرة الأموال، ولم تشارك قومها لهوهم وخيلائهم، وما عُرف عنها تبرّج ولا اختلاط، فإنها كانتْ تُوكل مَحَارِمَها من الرجال لشراء حاجاتها، وقد لزمت بيتها وآثرت إرسال أموالها في التجارة على الإتجار بالنقود في مكّة كما كان يفعل المرابون.
ولَعَلَّ أباها نحلها رأس المال بَادِئَ ذي بَدْءٍ، فإنه كان من ذوي الثراء في قريش، ولم يكن اشتغال السيّدة خديجة عليها السلام بالتجارة شيئاً غريبًا في قومها، فإنهم كادوا يكونون كلهم تجاراً، تقضي بذلك طبيعة مقامهم في ذلك البلد وموقعه وإمكاناتهم.
تاجرت أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام بمالها من دون أن تحتكّ بنفسها مع الرجال، وكان مَن خَبِرَها يعلم أنّها توكل الرجال في التجارة بمالها مضاربةً[1]، فلذلك لم تصعب التجارة عليها، وهي التي كان لها الاستقلال في أموالها، ولم يكن لأحد سلطان على ذلك المال الذي كانت تبعث به إلى التجارة مع ذوي الأمانة، وكانت عليها السلام تشرف من بيتها على إدارة عجلة تجارتها بفكرها الوقَّاد ومعرفتها.
وقد ذكر جملة من المؤرخين أنها كانت كثيرة المال وافرة الثراء، لها تجارة واسعة ترسلها إلى أسواق العرب كسوق عكاظ بين مكّة والطائف، وسوق ذي المجاز عند عرفات، وغيرها في مكة واليمن والشام، "وكانت قريش إذا رحلت عيرها في الرحلتين يعني رحلة الشتاء
[1] المضاربة: وهي أن يدفع مالاً إلى غيره ليعمل فيه بحصة معينة من ربحه، يراجع الشهيد الأول محمد بن جمال الدين مكي العاملي، اللمعة الدمشقية، كتاب المضاربة.
209
174
الدرس السابع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
والصيف كانت طائفة من العير لخديجة عليها السلام"[1]. وفي بعض الأحيان كانت قافلتها منفردة تعدل قوافل قريش بأجمعها[2].
تجارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمال خديجة عليها السلام
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمساً وعشرين سنة، واشتُهرت أمانته وصدق حديثه وظهرت بركته، عرضت عليه السيّدة خديجة بنت خويلد عليها السلام مالاً يخرج به مسافراً إلى الشام لغرض التجارة، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجّار مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتّى قدم الشام[3].
وروي أنّ عم النبيّ أبا طالب هو الذي رغّبه بالخروج في تجارة خديجة عليها السلام إلى الشام، وقال له: "يا محمد إنّي أريد أن أزوّجك، ولا مال لي أساعدك به". وعندما أخبر أبو طالب خديجة بقبول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فرحت، وقالت لغلامها ميسرة: "أنت وهذا المال كلّه بحكم محمّد"[4].
هذا وقد جاء في خبر أنّ أبا طالب هو من حثّ النبي على المضاربة بمال خديجة بدايةً، فقال: "يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي، وقد اشتدّ الزمان علينا وألحّت علينا سنون منكرة، وليست لنا مادّة ولا تجارة[5]، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيرانها، فيتجرون لها في مالها، فيصيبون منافع فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضّلتك على غيرك لما يبلغها من طهارتك، وإنّي كنت أكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من اليهود، ولكن لا نجد من ذلك
[1] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص468، المجلس السادس عشر.
[2] أبو نعيم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني، دلائل النبوة، ج1، ص177-178، حديث 227، طبعة:1، دار طيبة، الرياض، من حديث نفيسة بنت أمية.
[3] محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني، سيرة بن إسحاق، كتاب السير والمغازي، ج1، ص81، طبعة:1، دار الفكر.
[4] أبو الحسين سعيد بن عبد الله بن هبة الله بن الحسن المشهور بقطب الدين الرواندي، الخرائج والجرائح، ج1، ص139-140، طبعة:1، مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام، قم.
[5] روي عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: "أبي ساد فقيراً، وما ساد فقير قبله"، يراجع تاريخ اليعقوبي لأحمد بن إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبي، ج2، ص14، طبعة: دار صادر، بيروت.
210
175
الدرس السابع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
بداً....." فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فلعلّها أن ترسل إليّ في ذلك....".
وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمّه له، وقبل ذلك ما قد بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه، فقالت: "ما دريت أنّه يريد هذا"، ثمّ أرسلت إليه، فقالت: "أنّه قد دعاني إلى البعثة إليك ما قد بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك"، ففعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولقي أبا طالب، فقال له ذلك، فقال "إن هذا لرزق ساقه الله إليك..."[1].
ويمكننا الجمع بين الروايتين أنّ الحادثة الثانية، وهي حثّ أبي طالب للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان في البداية ثم وبعد أن وصل الخبر إلى خديجة عليها السلام بادرت وطلبت منه صلوات الله عليه أن يضارب بمالها لما قد علمته من فضائله وصدقه ورغبته في ذلك، فلعلها لم تعرض إتجاره بمالها قبلًا ظنًّا منها أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا رغبة له في ذلك ولا باع، فهو لم يعرف بالتجارة سابقًا، وكانت تلك المضاربة أول خطوة له في التجارة.
خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشام
تهيّأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للسفر إلى الشام ومعه ميسرة غلام خديجة عليها السلام، وجعل عمومته يوصون به أهل العير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكّة المكرمة والغمامة تعلو رأسه الشريف تظلّله، وفي ذلك يروي الإمام الحسن الزكيّ العسكريّ عن أبيه الإمام الهادي عليهما السلام قال: "يا بنيّ أما الغمامة، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسافر إلى الشام مضارباُ لخديجة بنت خويلد، وكان من مكّة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، فكانوا في حمّارة القيظ يصيبهم حرّ تلك البوادي، وربّما عصفت عليهم فيها الرياح، وسفت عليهم الرمال والتراب، وكان الله تعالى في تلك الاحوال يبعث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غمامة تظله فوق رأسه، تقف
[1] أبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة،ج1، ص177-178، حديث 227، ومحمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص129-130، وابن عساكر الدمشقي، تاريخ دمشق، ج3، ص15، وأبو الفتح اليعمري محمد بن سيد الناس، عيون الأثر، ج1، ص62، طبعة:1، دار القلم، بيروت، وقال: وقد رويناه ايضاً من طريق أبي علي بن السكن - الحافظ سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن صاحب الصحيح -، وحديث أحدهما داخل في حديث الآخر مع تقارب اللفظ، وربما زاد أحدهما الشيء اليسير على الآخر، وكلاهما ينمى إلى نفيسة.
211
176
الدرس السابع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
بوقوفه، وتزول بزواله، إن تقدّم تقدّمت، وإن تأخّر تأخّرت، وإن تيامن تيامنت، وإن تياسر تياسرت، فكانت تكفّ عنه حرّ الشمس من فوقه، وكانت تلك الرياح المثيرة لتلك الرمال والتراب تسفيها في وجوه قريش ورواحلها، حتّى إذا دنت من محمد صلى الله عليه وآله وسلم هدأت وسكنت، ولم تحمل شيئاً من رمل ولا تراب، وهبت عليه ريح باردة لينة، حتّى كانت قوافل قريش يقول قائلها: جوار محمد أفضل من خيمة، فكانوا يلوذون به، ويتقرّبون إليه، فكان الروح يصيبهم بقربه، وإن كانت الغمامة مقصورة عليه.."[1].
ويذكر لنا جملة من أصحاب السيَر رواية مفادها أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وميسرة قدما بصرى من الشام، فنزلا في ظلّ شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطّ إلّا نبيّ، ثمّ قال لميسرة: أفي عينيه حمرة؟ قال: نعم لا تفارقه، قال: هو نبيّ وهو آخر الأنبياء.
ثمّ باع النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلعته فوقع بينه وبين رجل خلاف، فقال له الرجل: احلف باللات والعزّى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما حلفت بهما قطّ، وإنّي لأمرّ فأعرض عنهما"، فقال الرجل: القول قولك.
ثمّ قال لميسرة: هذا والله نبيّ تجده أحبارنا منعوتاً في كتبهم - ذلك أنّه عليه الصلاة والسلام كان منعوتاً وموصوفاً بأجمل وأكرم النعوت وأطيب الصفات -. وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الشمس، فوعى ذلك كله ميسرة، وكان الله قد ألقى عليه صلى الله عليه وآله وسلم المحبة من ميسرة، فكان كأنّه عبد له وذلك لما رآه ميسرة من صبوح وجهه، ومرضيّ أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم.
ثمّ إنّهم باعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، فلما أن فرغوا من تجارتهم، وانتهوا منها، أزمعوا العودة، فقفلوا راجعين إلى مكّة، فلما كانوا بمرّ الظهران[2]، قال ميسرة: يا محمّد، انطلق إلى خديجة فأخبرها بما صنع الله على وجهك، فإنّها تعرف لك ذلك.
وتقدّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى دخل مكّة في ساعة الظهيرة، وكانت خديجة وقتئذٍ في علّية لها، فرأته وهو على بعيره، ونظرت بعينيها مَلَكَين يظلّان عليه، فأرته نساءها، فعجبن
[1] الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام، تفسير الإمام العسكري، ص155، طبعة:1، مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام، قم.
[2] هو وادٍ بين مكة وعسفان.
212
177
الدرس السابع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
لذلك، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى صحن الدار وحدّث خديجة عليها السلام بما كان من أمر الرحل، وأخبرها بما ربحوا من تلك الرحلة، فسُرّت بذلك سروراً عظيماً. ثمّ إنّ غلامها ميسرة دخل عليها وأخبرها بما رأى من حسن أخلاق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وحلمه واتّزانه، وأخبرته هي الأخرى بما رأت، فقال ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام. ثم أخبرها ميسرة بما قال الراهب نسطور، كذلك أخبرها بما قاله الرجل الآخر الذي خالفه في البيع، وقد أبدت إعجابها بذلك، فأضعفت له ما وعدته به من الربح[1].
محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام
نشأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورعاً فاضلاً رشيداً بعيداً كلّ البعد عمّا كان عليه عامّة أهل مكّة. وكانت تبدو عليه آثار التفكّر والتأمّل، وقد أحيط صلى الله عليه وآله وسلم برعاية إلهيةٍ خاصّةٍ، رسمت حياته وفق قدرٍ ربّانّي متناسب مع ما ينتظره من عِظم المسؤولية، وما يمكّنه من حمل أعباء الرسالة. وقد تأخّر في الزواج لأسبابٍ عدّةٍ فبالاضافة إلى أنه لم يكن بذي اليد المبسوطة للزواج، فقد كان يبحث عن امرأة تختلف عن الأخريات، وتحمل صفاتٍ خاصّةً ترتقي الى عظمة نفسه، وتلائم مستواه الروحيّ والفكريّ، فبالنسبة له ما هي الفائدة من امرأة تتقرّب إلى الأصنام التي كان يبغضها من مولده، أو تؤمن بما تؤمن به غالبية المجتمع المكّي؟ لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يبحث عن امرأة تسانده في ما ألهمه الله من أفكار، لذلك إذا كان لا بدّ من الزواج، فيجب أن تكون تلك المرأة المختارة لهذا الارتباط المقدّس، ولم يكن في دنيا المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم من امرأة تصلح لهذه المهمّة غير صاحبة المَلَكات الفاضلة خديجة بنت خويلد، ولكن هل إلى الزواج بخديجة من سبيل؟!
كانت أم المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام امرأة سادتْ نساء أهل زمانها، وفاقتهنَّ رجَاحَةَ عقْل، وجمال خِلْقة، وكَرَم أصل ونسَبٍ، ووَفرة مال. وكانت مع كل ما آتاها الله من فضله سيّدة ثاقبة البصيرة، خبيرة بأغوار الرجال، تعرف طبائعهم فلا يخفى عليها
[1] محمد بن سعد، الطيقات الكبرى، ج1، ص131-132، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ج3، ص15، وابن سيد الناس، عيون الأثر، ج1، ص63، وابن الجوزي، المنتظم، ج2، ص314، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت، وغيرهم الكثير.
213
178
الدرس السابع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
معدنٌ نفيس، ولم يكن الأمين محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجهولاً لدى جمهور العرب، بل كانت خلائقه الزاكية موضع إجماع وحبّ، ولكن ما تتحلَّى به خديجة من حياء وخجل منعاها بداية من التصريح أو حتّى التلميح له برغبتها بالارتباط به صلى الله عليه وآله وسلم عندما أرادت أن يكون الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم زوجاً لها، ولكن ماذا تفعل؟ أتتقدّم هي بهذا الطلب، أم ترسل له من تتحسّس الأمر وتتعرّف رغبته؟
مقدّمات الزواج المبارك
أوحت السيّدة خديجة عليها السلام إلى إمرأة مقربةٍ لها لتقوم بمهمّة الاطّلاع على أوضاع النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستعلام حاله حيال الزواج، وحثّه على الارتباط بخديجة عليها السلام. فالسيّدة أم المؤمنين خديجة عليها السلام كانت ذات أصل راقٍ، ونَسَب شريف، ترسَّخت في فِكرها قاعدة هامة، وهي أنّ الحرّة تُطلَب ولا تَطلُب، ولذلك ساعدتْها في تحقيق ما كانت تتمنّاه صديقتها نفيسة بنت مُنْيَة[1]. وقد وصفت السيّدة خديجة عليها السلام، فقالتْ: "كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ امرأةً حازمةً، جلدة، شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، وكلّ قومها كان حريصاً على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيساً[2] إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تزوّج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوّج به.
قلت: فإن كُفيت ذلك ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ قلت: عليّ، قال: فأنا أفعل[3].
فذهبت نفيسة تزفّ الخبر إلى خديجة عليها السلام، فأرسلت إليه أن ائتِ لساعة كذا وكذا،
[1] أخت يعلى بن منية التميمي حليف بني نوفل بن عبد مناف، وأسلمت نفيسة عام الفتح، فذكرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان منها، فبرها وأكرمها، يراجع أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري، ج1، ص98، طبعة:1، دار الفكر، بيروت.
[2] دسيساً: أي خفية.
[3] أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ج7، ص603، طبعة:1، دار الجيل، بيروت، وأبو الفرج بن الجوزي، في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج2، ص315، طبعة: دار صادر، بيروت.
214
179
الدرس السابع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
وأرسلت عليها السلام إلى عمّها عمرو بن أسد ليزوّجها.."[1]. وأقبل القوم من بني هاشم، وفيهم كريم فتيانهم، محمد بن عبد الله، فزوّج عمرو بن أسد خديجة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم[2].
نعم بعثت خديجة عليها السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت له: "يا بن عمّ إنّي قد رغبت فيك لقرابتك، وسِطَتِكَ[3] في قومك، وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها"[4]، فقد وجدت أنه رجل لا نظير له، فطلبته لنفسها وأرسلت إليه من يشجّعه على خطبتها من عمّها.
الخطبة الميمونة
دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمومته[5]، إلى دار خديجة عليها السلام، وكان عمّه أبو طالب قد أقبل في أهل بيته ومعه نفر من قريش - ورؤساء منطقة مضر-، فابتدأ أبو طالب عليه السلام بالكلام، فقال: "الحمد لربّ هذا البيت الّذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذرّيّة إسماعيل
[1] محمد بن سعد، الطيقات الكبرى، ج1، ص131-132، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ج3، ص15، وابن سيد الناس، عيون الأثر، ج1، ص63، وذكر ابن إسحاق كل ما تقدم، وهو عين كلام نفيسة بنت منية دون أن ينسبه إليها، ودون أن يذكر إرسال خديجة نفيسة بنت منية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت له::"يا بن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، بينما روى الواقدي كلام نفيسة بثلاثة إسانيد كما مر معنا عند ذكر تجارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمال خديجة عليها السلام، والحق أن ما ذكره ابن إسحاق يتطابق تماماً مع كلام نفيسة بنت منية، ولكن إسناد أصحاب التراجم والسير إليه يبلغ برجال غير رجال أسانيد الرواية المتصلة بأم سعد بنت سعد بن الربيع عن نفيسة بنت منية.
[2] وكذلك عن محمد بن جبير بن مطعم، وعروة عن أبيه عن عائشة، وعن ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس، يراجع محمد بن سعد، الطيقات الكبرى، ج1، ص132-133، وابن الأثير، أسد الغابة، ج7، ص80، والحافظ أبو عمر يوسف ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج4، ص1818، طبعة:1، دار الجيل، بيروت.
[3] أي شرفك وسامي منزلتك.
[4] محمد بن إسحاق المطلبي، سيرة ابن إسحاق، كتاب السير والمغازي، ج1، ص82، طبعة:1، دار الفكر، بيروت، وعبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، السيرة النبوية، ج1، ص188، طبعة:2، مصطفى البابي الحلبي، مصر، وأبو بِشْر محمد بن أحمد الدولابي، الذرية الطاهرة، ج1، ص26، ومحمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج1، ص521، طبعة:1، دار الكتب العلمية، وأحمد بن الحسين البيهقي، دلائل النبوة، ج2، ص66، طبعة:1، دار الكتب العلمية + دار الريان للتراث، وعبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، الروض الآنف، ج2، ص153،، طبعة:1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، وابن الأثير الجزري، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج7، ص80، طبعة:1، دار الكتب العلمية، وابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج2، ص358، طبعة:1، دار إحياء التراث العربي، وغيرهم الكثير من أصحاب السيَر.
[5] محمد بن سعد، الطيقات الكبرى، ج1، ص131-132، وابن سيد الناس، عيون الأثر، ج1، ص64، والسهيلي، الروض الأنف، ج2، ص154، وابن كثير، السيرة النبوية، ج1، ص267،
215
180
الدرس السابع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الّذي نحن فيه. ثمّ إنّ ابن أخي هذا ـ مُحمد بن عبد الله ـ ممّن لا يوزن برجل من قريش إلاّ رجح به، ولا يقاس به رجل إلاّ عظم عنه، ولا عدل له في الخلق، وإن كان مقلاًّ في المال، فإنّ المال رفد جار وظلّ زائل، وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليّ في مالي الّذي سألتموه عاجله وآجله، وله وربّ هذا البيت حظّ عظيم، ودين شائع، ورأي كامل"، ثمّ سكت أبو طالب[1].
وتكلم عمّها وتلجلج[2]، وقصّر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر[3]، وكان رجلاً من القسيسين، فقالت خديجة مبتدئة: "يا عمّاه إنّك وإن كنت أولى بنفسي منّي في الشهود، فلست أولى بي من نفسي، قد زوّجتك يا محمد نفسي، والمهر عليّ في مالي، فأمر عمّك فلينحر ناقة فليولم بها، وادخل على أهلك".
قال أبو طالب: "أشهدوا عليها بقبولها محمداً، وضمانها المهر في مالها"، فقال بعض قريش: يا عجباه المهر على النساء للرجال، فغضب أبو طالب غضباً شديداً، وقام على قدميه وكان ممّن يهابه الرجال ويكره غضبه، فقال: "إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الاثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوّجوا إلّا بالمهر الغالي"[4].
[1] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص374-375، باب خطب النكاح، طبعة: 4، الدار الإسلامية، طهران، رواها بسنده عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام والشيخ الصدوق محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص397-398، طبعة:2، جماعة المدرسين، قم، ورواها باختلاف ألفاظ أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، الكامل في اللغة والأدب، ج4، ص4، طبعة:3، دار الفكر العربي، القاهرة، وأبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى الجريري النهرواني، الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، ج1، ص638، طبعة:1، دار الكتب العلمية، وقد رواها بسنده إلى الحسين ذي الدمعة ابن زيد الشهيد عن عبد الله ابن الحسن المثنى ابن الحسن السبط عن أمّه فاطمة بنت الحسين عن عمّتها السيدة زينب (عليها السلام) عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ورواها أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، الأوائل، ج1، ص13، طبعة:1، دار البشير، طنطا، مصر، بسنده عن آل أبي رافع صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو الحسن الواسطي علي بن محمد بن محمد ابن المغازلي، مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ج1، ص399، طبعة:1، دار الآثار، صنعاء، ومحب الدين أحمد بن عبد الله الطبري، السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين، ص28، طبعة: دار الحديث، القاهرة، وغيرهم الكثير من العلماء.
[2] التلجلج: التردد في الكلام.
[3] البهر - بالضم -: النَفَس من الاعياء.
[4] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص374-375، بإسناده عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام.
216
181
الدرس السابع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
نعم وجدَتْ خديجة عليها السلام وهي مُحِبَّةُ الفضائلِ أعظم مَن تتجلّى الفضائلُ والمحامِدُ فيه، من الصدق والأمانة والشجاعة والعفة والنباهة والحكمة ومحاسن الخلق وغيرها من المحامد والفضائل التي يكلّ القلم واللسان عن ذكر بعضٍ منها! فأيّ شيءٍ يُطلب بعد هذا؟!
وليمة العرس
خطب أبو طالب الخطبة السالفة المعروفة، وعقد النكاح، فلمّا قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليذهب مع أبي طالب قالت خديجة عليها السلام: "إلى بيتك، فبيتي بيتك وأنا جاريتك"[1]، "اذهب فانحر جزوراً أو جزورين وأطعم الناس"، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أول وليمة أولمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[2].
وقال مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "ونحر أبو طالب ناقة، ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأهله، وقال رجل من قريش يقال له عبد الله بن غنم: هنيئاً مريئاً يا خديجة قد جرت لك الطير فيما كان منك بأسعد
تزوّجته خير البرية كلّها ومن ذا الذي في الناس مثل محمد
وبشّر به البران عيسى بن مريم وموسى بن عمران فيا قرب موعد
أقرّت به الكتاب قدماً بأنه رسول من البطحاء هادٍ ومهتد[3]
[1] سعيد بن عبد الله المشهور بقطب الدين الرواندي، الخرائج والجرائح، ج1، ص140-41.
[2] محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري، السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين، ص31، طبعة: دار الحديث، القاهرة، وحسين بن محمد بن الحسن الدِّيار بَكْري، تاريخ الخميس، ج1، ص265، طبعة: دار صادر، بيروت.
[3] ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج5، ص376.
217
182
الدرس السابع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
مهر سيدة النساء خديجة عليها السلام
ما كان هذا الخاطب الكفؤ غنيّاً إذ ذاك، ولكنّه لم يكن أيضاً معدماً، فهو من آل عبد المطلب العامرة بيوتهم بقرى الضيفان وإغاثة اللهفان، ففي هذا السبيل تذهب أموالهم، ثمّ يخلف الله عليهم من وجوه المكاسب. فمع قلّة ماله في ذلك الحين أصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشاً، لأن إعطاء الرجل للمرأة صداقًا سُنّة عربية، لم يكن ليحسن تركها. وقد رويَ عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "كان صداق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اثنتي عشرة أوقية ونشاً، والنشّ نصف الأوقية، والأوقية أربعون درهماً، فذلك خمسمائة درهم"[1].
[1] ثقة الإسلام الشيخ الكليني, الكافي, ج5, ص 376, باب السنة في المهور.
218
183
الدرس السابع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بين التجارة والخطوبة
المفاهيم الأساسية
- كانت السيّدة خديجة عليها السلام امرأةً شريفةً ذات فراسة قوية ونظر ثاقب، وقد لزمت بيتها وآثرت إرسال أموالها في التجارة على الإتجار بالنقود في مكّة كما كان يفعل المرابون، وكانت تشرف من بيتها على إدارة عجلة تجارتها بفكرها الوقَّاد ومعرفتها وترسل عيرها في قافلة قريش في رحلة الشتاء والصيف.
- لمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمساً وعشرين سنة، واشتُهرت أمانته وصدق حديثه وظهرت بركته، عرضت خديجة عليها السلام عليه المضاربة في مالها فوافق، وذهب معه ميسرة أحد غلمان خديجة.
- حصل العديد من الحوادث في سفر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشام، والتي دللّت على شأنه العظيم، ثم عادا بريح وفير أضعاف ما كان يربحه غيره.
- عاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكّة وحدّث خديجة عليها السلام بما كان من أمر الرحلة، وأخبرها بما ربحوا وأطلعها ميسرة على ما رأى من حسن أخلاق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وما حدث معهم وقد أبدت إعجابها بذلك.
- لم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقادر على طلب خديجة للزواج.
- رغبت خديجة عليها السلام بالزواج من محمد صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الفضائل، فأرسلت صديقتها تستعلم حاله وتحثّه على طلبها، ففعلت، وأبدى صلى الله عليه وآله وسلم رغبته في ذلك ثمّ أرسل عمّه وعشيرته لطلب الزواج منها.
- دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمومته إلى دار خديجة عليها السلام، فخطب أبو طالب عليه السلام خطبته الشهيرة طالبًا يد خديجة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولمّا تلعثم عمّها عمرو عن الإجابة أجابت هي نفسها، وأبدت موافقتها على الزواج.
- أولم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عرسه، فنحر الجزور من مال خديجة ونحر أبو طالب ناقة لذلك أيضًا.
- أمهر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خديجة اثنتي عشرة أوقية ونشاً، والنشّ نصف الأوقية، والأوقية أربعون درهماً، ذلك خمسمائة درهم.
219
184
الدرس الثامن عشر: شبهات وردود حول زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة خديجة عليها السلام
الدرس الثامن عشر:
شبهات وردود حول
زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة خديجة عليها السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى بعض الشبهات التي تُثار حول زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة خديجة عليها السلام.
- يبيّن الردود على الإشكالات حول الزواج المبارك ومتعلّقاته.
- يشرح الرأي الصحيح في بعض المسائل حول الزواج المبارك.
221
185
الدرس الثامن عشر: شبهات وردود حول زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة خديجة عليها السلام
شبهات حول الزواج المبارك
1- حول سبب الزواج:
إنّ ما يروى من أنّ التجارة هي السبب الرئيس في زواج السيّدة خديجة بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أو إنّ الحاجة هي التي دفعتها لتتزوّج به من أجل الحفاظ على أموالها وتنميتها، هو غير دقيق لأنّ الأمر لو كان كذلك فليس من الصعوبة أن تجد السيّدة خديجة عليها السلام مثل هذا الرجل، وقد كان كلّ واحد من رجال قومها حريصاً على الاقتران بها لو كان ذلك مقدوراً عليه[1]، "وقد طلبوها وبذلوا لها الأموال"[2]، ولكنها وجدت في الهاشميّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم كمال خَلْق وكمال خُلُقٍ، جمال شخص وجمال نفس، حنكة لم يظفر بمثلها أقرانه مِن الشُّبَّان، ووقاراً لم يحظ بأقلّه الكبار، وهمّة لا تقف أمامها الصعاب، فكانت أخلاقه الحسنة وسيرته العطرة بالإضافة إلى البركات الحافة به والتي تنذر بعظم شأنه هي السبب الحقيقيّ خلف رغبة خديجة عليها السلام الاقتران به صلى الله عليه وآله وسلم.
2- دعوى زواجها السابق:
موضوع زواج السيّدة خديجة الكبرى عليها السلام من آخرين قبل أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديث لا يمكننا بحال أن نسلّم بصحّته، بل نشكّ في هذا الموضوع من أصله،
[1] محمد بن إسحاق، سيرة ابن إسحاق، ج1، ص82، طبعة:1، دار الفكر، بيروت، وعبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، السيرة النبوية، ج1، ص189، طبعة:2، مصطفى البابي الحلبي، مصر، ومحمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص131، طبعة: دار صادر، ومحمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج1، ص521، وأحمد بن الحسين البيهقي، دلائل النبوة، ج2، ص66، طبعة:1، دار الكتب العلمية + دار الريان للتراث، وغيرهم الكثير من المؤرخون.
[2] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص131، ذكر تزويج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خديجة بنت خويلد، وأبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في صفة الصفوة، وابن سيد الناس اليعمري في عيون الأثر، وتقي الدين المقريزي في إمتاع الأسماع، وغيرهم.
223
186
الدرس الثامن عشر: شبهات وردود حول زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة خديجة عليها السلام
وذلك لإشكالاتٍ عدّةٍ لا بُدَّ من أن نأخذها بعين الاعتبار.
فمن حديث المبدأ أنه لا يوجد إجماع بين المؤرخين الذين تناولوا سيرتها العطرة بالبحث على صحة هذا القول، فالاختلاف كبير جداً بين من يدعي زواجها القديم وبين من يؤكد من المسلمين أنها كانت بكراً عندما دخل عليها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وهو ليس اختلاف في أقوال يمكن الجمع بينها والخروج برأي تحليلي يرضي الأطراف المختلفة، كما لا يمكن القيام بعملية توفيق وتوجيه لتلك الآراء المختلفة، فهي إما أن تكون متزوجة فتكون ثيباً، و إما أن تكون غير متزوجة فتكون بكراً، ونحن سنبين بشكل مختصر أنها كانت بكرًا وزواجها الأول والأخير كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم[1].
القسم الأكبر من المؤلفين والكتاب وتقليداً لمن سبقهم يقولون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتزوج بكراً غير عائشة، ويأخذون ذلك كَمُسَلَمة تاريخية، وأما السيّدة خديجة عليها السلام، فيقولون: إنها قد تزوجت قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجلين، ولها منهما بعض الأولاد، الأول عتيق بن عائذ المخزومي[2]، وقيل اسمه عتيق بن عابد[3]، وقيل عتيق بن عبد الله[4]، والثاني اختلف في اسمه كذلك[5]، فقيل أبو هالة، وقيل النباش وقيل مالك وقيل زرارة، وقيل هند التميمي حليف بني عبد الدار، وكما اختلف في أسمائهم اختلف أيضاً حول من كان منهم زوجها الأول، فتارة يجعلون التميمي أولاً، وأخرى يقدمون المخزومي والعكس صحيح (خبط عشواء)[6].
[1] ومن أراد الاستفاضة في الاطلاع، فليراجع ما سطره العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه: الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ج2، ص122. والمحقق السيد نبيل الحسني في كتابه المفيد خديجة بنت خويلد أمة جمعت في امرأة ج1، ص88-96.
[2] صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي، الوافي بالوفيات، ج13، ص181، طبعة: دار إحياء التراث.
[3] ابن سيد الناس، عيون الأثر، ج1، ص73.
[4] أبو نعيم الأصبهاني، معرفة الصحابة، ج6، ص3200.
[5] الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج1، ص194.
[6] ففي السمط الثمين قال ابن شهاب تزوّجت خديجة قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلين الاوّل منهما عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فولدت له جارية اسمها هند فأسلمت وتزوّجت، وروى عن ابن شهاب أنه قال: تزوّجها أوّلاً أبو هالة ثم بعده عتيق ذكره الدولابي، وأبو عمرو، وصحح أبو عمرو قول ابن شهاب الثاني، ولم يذكر ابن قتيبة غير الاوّل، يراجع تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس، لحسين بن محمد بن الحسن الدِّيار بَكْري، ج1، ص263.
224
187
الدرس الثامن عشر: شبهات وردود حول زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة خديجة عليها السلام
ومع هذا التخبط بدايةً، كيف يمكن البتّ في هكذا روايات، ثم ما المانع من أن تتمنع السيّدة خديجة عليها السلام عن الزواج وإن تقدم بها العمر عن مثيلاتها لأنها لم تجد من يستأهل الارتباط بها!! وهي ذات الحسب والنسب والشرف والعلو، وكل قومها حريص على الإقتران بها لو قدروا، وبذلوا دون ذلك الأموال، وما ذلك إلا للطعن فيها سلام الله عليها والانتقاص من حقّها! هذا مع أنّ النظر التحليليّ في الأدلّة الروائيّة يفيد كذلك بأنّها سلام الله عليها كانت غير متزوّجة قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والتفصيل يطلب في محلّه[1].
3- افتراء تسكير خديجة لأبيها:
روى بعض المحدّثين رواية مفادها أنّ والد خديجة عليها السلام امتنع من تزويجها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّها عليها السلام سقت أباها الخمر حتّى ثمل، وأنهم ألبسوه المزعفر، فلمّا صحا من سكره أخبروه، فأنكر عليهم ذلك، فما زالت به السيّدة خديجة عليها السلام حتّى رضي. ولكنّ الأخبار تحدثنا أنّ عمها عمرو بن أسد زوّجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، "وأن أباها مات قبل الفجار[2]"[3]، فأبوها كان قد مات قبل ذلك.
وبالعودة لمضمون الرواية نجده يتناقض تماماً وأخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاق أمّ
[1] تاريخ خاتم الأنبياء، الشيخ كاظم ياسين، ص 166- 167.
[2] الفجار: قيل: أيام الفجار: أيام وقائع كانت بين العرب تفاجروا فيها بعكاظ، فاستحلوا الحرمات. وقيل: الفجار يوم من أيام العرب، وهي أربعة أفجرة كانت بين قريش، ومن معها من كنانة، وبين قيسٍ عيلان في الجاهلية، وكانت الدّبرة على قيس، وإنما سمت قريش هذه الحرب فجارا، لأنها كانت فى الأشهر الحرم، فلما قاتلوا فيها قالوا: قد فجرنا، فسميت فجارا، وادعى بعض أصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهد بعض أيامه، وجاءوا برواية مرسلة عنه بلا سند أوردوه، ونحن نشك إلى حد بعيد في مشاركته في هذه الحرب لكثرة اختلاف النصوص حول الدور الذي قام به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الحرب. فبعضهم يروي أن عمله قد اقتصر على منوالة أعمامه النبل ورد نبل عدوهم عليهم، وحفظ أمتعتهم. والبعض الأخر يروي أنه أطلق فيها بعض السهام باتجاه الطرف الآخر، وكان يتمنى فيما بعد أنه لم يكن قد رماها، وثالث يروي أنه طعن أبا البراء فأرداه عن فرس، وإن هذا الاختلاف في الروايات والأحداث يدعونا إلى الشك فيها فضلاً عن أنه لا يوجد لها أي طريق مُسند، وذكر اليعقوبي في تاريخه، ج2، ص16: أن أبا طالب منع أن يكون فيها أحد من بني هاشم وقال: هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام، ولا أحضره ولا أحد من أهلي. ونحن لا نرى أي مبرر في أن ينتهك أبو طالب ومعه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حرمة هذه الأشهر، وخصوصاً أنهما كانا متقيدين تماماً بمثل هذه الأمور قبل البعثة، ولا أدل على ذلك من موافقتهما للزبير بن عبد المطلب بإنشاء حلف الفضول، وحضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الحلف وثنائه عليه.
[3] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والرسل والملوك، ج1، ص522، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت، ومحمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج1، ص133، وأبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، الروض الأنف، ج2، ص155، وقد تبنى قول الواقدي هذا جُل المؤرخين والمحققين من أصحاب السيَر.
225
188
الدرس الثامن عشر: شبهات وردود حول زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة خديجة عليها السلام
المؤمنين خديجة عليها السلام قبل البعثة، ولا نراه إلّا كذباً موضوعاً أوّله يناقض آخره. فعلى فرض أنّ أباها كان على قيد الحياة، ولم يمت قبل الفجار، فإنّ مثل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما حباه الله من مميّزات هو ممّن تسعى إلى مصاهرته أعناق الأشراف، فهذا أبو سفيان بن حرب، وهو من هو في عداوته للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبني هاشم، لمّا بلغه أنّ النبيّ تزوّج ابنته رملة أم حبيبة، وكان في حالة حرب مع نبيّ الإسلام لم يمنعه ذلك أن قال مصرّحاً بفضل الرسول الهاشميّ صلى الله عليه وآله وسلم: "هذا الفحل لا يقدع أنفه".
والطامة الكبرى إذا أخذنا بتلك الرواية، فيلزم حينها أن نرمي السيّدة خديجة بإعمال الحيلة بغية الزواج من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، حيث صنعت طعاماً وشراباً لأبيها، وأثملته كي تتوصّل بذلك إلى رضا أبيها بالزواج، والسيّدة خديجة عليها السلام من أعفِّ النساء وخير نساء الأرض قبل البعثة وبعدها، وأمرها كما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد".
فالسيّدة خديجة عليها السلام أجلّ من أن تتوصل إلى مطلوبها بهذه الحيلة الشيطانية. ثم إنّ احتمال أن يعقد رجل من أشراف العرب عقد زواج وهو سكران يستنكره العرف والعقل، ولا يمكن أن يقدم عليه أبو طالب، وهو رجل كبير ومسنّ، ووكيل للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فى الزواج، والمعلوم أنّ الكثير من أصحاب السير ذكروا أنّ أبا طالب ولفيفاً من أعمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسادات مُضر حضروا المجلس، وتقدم أبو طالب بإيراد خطبته... ومن ثم تمّت تسمية المهر، وأجري عقد النكاح، وهذه الأمور تعرب عن أنّ المجلس كان مجلسَ عقل ووعي وفلاح، وأنّ التزويج كان على ملاك الشرف والفضل، وعن رغبة ورضىً. وأين هذا مما جاء في الرواية من أنّ خديجة عليها السلام تُقدِّم كوَوس الشراب إلى أبيها.. إلى آخر ما جاء في تلك الرواية الساقطة جملةً وتفصيلًا!
226
189
الدرس الثامن عشر: شبهات وردود حول زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة خديجة عليها السلام
عمر خديجة عند زواجها من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
1- في الروايات المسندة:
المشهور في كتب السيرة أن عمرها عليها السلام لمّا تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أربعين سنة، وأنّها لمّا توفّيت كانت بنت خمس وستين. وهذا المشهور في الحقيقة معتمد على رواية واحدة فقط[1] جاء فيها: سمعت حكيم بن حزام يقول: تزوّج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خديجة وهي ابنة أربعين سنة..."[2]. على هذه الرواية بُني القول المشهور[3]. ولكنّ هذا المشهور غير مُسلّم به. وقد رُوي عن ابن عبّاس وغيره خلاف هذا المشهور، فعن ابن عبّاس قال: "كانت خديجة يوم تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنة ثمان وعشرين سنة..."[4].
وأمّا بقية الأقوال في هذا الشأن، فلم ترد فيها رواية مسندة إلى أحد من المحدّثين الأوائل الذين عايشوا تلك الحقبة الزمنية، ولذلك نكتفي بهاتين الروايتين المسندتين.
2- في أقوال بعض الحفّاظ والمؤرّخين:
رُويَ عن الحاكم النيسابوري أنّه قال: "... وكان لها يوم تزوجها ثمان وعشرون سنة..."[5]، وقال ابن العماد: "وكثيرون هم من رجحوا هذا القول"[6]، منهم حفّاظ
[1] أبي حبيبة مولى الزبير: ترجم له كلاً من البخاري، وابن أبي حاتم الرازي بسطر واحد، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلا، يراجع التاريخ الكبير للبخاري، ج9، ص24، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي، ج9، ص359، طبعة:1، دار احياء التراث العربي، بيروت، وحَدِيث أبي حبيبة مولى الزبير فِي أهل الْمَدِينَة فقط، وَلم يذكر لَهُ اسْماً غير كنيته، يراجع تعجيل المنفعة، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ج2، ص432، وعليه يعتبر الرجل في عرف أهل الجرح والتعديل مجهولاً، وقد روي عن حكيم بن حزام ذكر مولده قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، وخولف في ذلك كما ذكر ابن الأثير وغيره، يراجع أسد الغابة، ج2، ص58، ومن تتبع واستقصى مرويات الواقدي عنه في التواريخ يعلم أن الرجل مضطرب الرواية، وهذه الرواية منها، يراجع فتح المغيث شرح ألفية الحديث للحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، ج3، ص331، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[2] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص16-17، وابن كثير الدمشقي، السيرة النبوية، ج4، ص581.
[3] محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص200، حديث 4837.
[4] عبد الحي بن أحمد بن محمد ابن العماد العَكري الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ج1، ص134، طبعة:1، دار ابن كثير، دمشق.
[5] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص17، وابن كثير الدمشقي، السيرة النبوية، ج4، ص581.
[6] وعليه نرى أنه لا حاجة لذكر المصادر التي نقلته.
227
190
الدرس الثامن عشر: شبهات وردود حول زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة خديجة عليها السلام
ومؤرّخون ماضون[1]، وقال به جملة من الباحثين المعاصرين"[2].
ثمّ جاء في رواية عن ابن اسحاق: "توفّيت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وهي ابنة خمس وستين سنة"، ثم عقّب بقوله: "هذا قول شاذّ، فإنّ الذي عندي أنّها لم تبلغ ستّين سنة"[3]. وهذا يعني أنّ عمرها حين الوفاة كان ثلاثاً وخمسين سنة، لأنّ الفترة التي عاشتها السيّدة خديجة عليها السلام مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد كانت خمساً وعشرين سنة، وعليه فإذا أخذنا بأكثر الأقوال شهرةً في عمر النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عندما تزوّج بها عليها السلام وهو "خمس وعشرون سنة"[4]، فإنّ عمر السيّدة خديجة حين الزواج سيكون مساوياً لعمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو قريباً منه.
وقد قال الحافظ البيهقي[5]: "... ثم بلغت خديجة خمساً وستين سنة، ويقال خمسين سنة، وهو أصحّ"[6]. وقد ذكر أكثر المؤرخين أنّ خديجة توفّيت في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين. وإذا أخذنا بتصحيح الحافظ البيهقي لما رواه الحاكم النيسابوري، وكونها عليها السلام عاشت مع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم (خمساً وعشرين) سنة منها خمس عشرة سنة
[1] منهم الحافظ محمد بن أحمد بن حماد بن سعيد بن مسلم الأنصاري الدولابي الرازي، الذرية الطاهرة، ج1، ص30، حديث 14، طبعة:1، الدار السلفية، الكويت، و محب الدين أبو جعفر بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الطبري، خلاصة سير سيد البشر، ص38، طبعة: مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، وأحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عبد الدائم القرشي التيمي البكري، شهاب الدين النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، ج16، ص98، طبعة:1، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، و أبو بكر بن عبد الله بن أيبك الدواداري، كنز الدرر وجامع الغرر، ج3، ص36، طبعة: عيسى البابي الحلبي، مصر، ويحيى بن أبي بكر بن محمد بن يحيى العامري الحرضي، بهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل، ج1، ص48، طبعة: دار صادر، بيروت، وغيرهم.
[2] منهم العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من السيرة، ج2، ص116، والدكتور أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة، ج1، ص113، طبعة:6، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، والدكتور محمد بن عبد الله العوشن، ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية، ج1، ص18، طبعة دار طيبة، وغيرهم.
[3] أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص201، حديث 4838.
[4] محمد بن إسماعيل البخاري، التاريخ الصغير، ج1، ص17، دار الوعي, مكتبة دار التراث، حلب- القاهرة.
[5] أحد كبار علماء المسلمين وحفاظهم، وعمدة المذهب الشافعي قال في حقه إمام الحرمين أبو المعالي الجويني: "ما من فقيه شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا البيهقي، فإن المنة له على الشافعي، لتصانيفه في نصرة مذهبه"، ولو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهباً يجتهد فيه، لكان قادراً على ذلك، لسعة علومه، ومعرفته بالاختلاف، ولهذا تراه يلوح بنصر مسائل مما صح فيها الحديث. يراجع شمس الدين الذهبي، سيَر أعلام النبلاء، ج18، ص169.
[6] أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي، دلائل النبوة، ج2، ص70، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
228
191
الدرس الثامن عشر: شبهات وردود حول زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة خديجة عليها السلام
قبل البعثة، وعشر سنوات بعدها، فتكون قد توفّيت ولها من العمر خمسون سنة[1].
وهذا يعني: أنّ عمرها حينما بعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان أربعين سنة، وهو العمر الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي أنّها كانت بعمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن الاستناد إلى قرينة أخرى، وهي وفاة أكبر أولادها "القاسم" بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّه لمّا توفّي بعد البعثة[2]، كشف ذلك عن كون ولادته كانت وعمر السيّدة خديجة "55 سنة"، وهذا أمر بعيد جداً، فإذا ضممنا ذلك إلى ما ذهب إليه بعض الأعلام[3] من أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوّجهاعليها السلام، وهي باكر، ومع ضم هذه القرائن وغيرها نخرج بنتيجة مؤداها أنّ عمرها عند زواجها مردّد بين الخامسة والعشرين والثامنة والعشرين[4].
[1] السيد نبيل الحسني، خديجة بنت خويلد أمة جمعت في امرأة، ج1، ص96-105، طبعة:1، اصدار قسم الشؤون الفكرية في العتبة الحسينية، كربلاء.
[2] ابن كثير، البداية والنهاية، ج 2، ص 294: "وقال غيره بلغ القاسم أن يركب الدابة والنجيبة ثم مات بعد النبوة".
[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل ابي طالب، ج1، ص 159: "روى أحمد البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي، وأبو جعفر في التلخيص: "أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوّج بها، وكانت عذراء".
[4] جعفر مرتضي العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج2، ص114-116.
229
192
الدرس الثامن عشر: شبهات وردود حول زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة خديجة عليها السلام
المفاهيم الأساسية
- إنّ ما يروى من أنّ التجارة هي السبب الرئيس في زواج السيّدة خديجة بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أو أنّ الحاجة هي التي دفعتها لتتزوّج به من أجل الحفاظ على أموالها وتنميتها، هو غير دقيق، فقد كانت تقدر على حماية أموالها بزواجها من غيره من الأشراف ممّن تقدّموا لخطبتها، فأخلاقه وعلمها بشأنه العظيم هي السبب وراء رغبتها فيه صلى الله عليه وآله وسلم.
- يدّعي البعض ممّن يرومون الانتقاص من فضائل السيّدة خديجة عليها السلام أنّها لم تكن بكرًا حين تزوّجها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل تزوّجت برجلين قبله، والحقّ أنّها لم تتزوّج بغيره مطلقًا ولم تقبل بكل خطّابها لأنها لم تجد فيهم ما تريد هذا وإن تقدمت بالعمر على مثيلاتها.
- تروي بعض الأخبار الكاذبة أن والد السيّدة خديجة عليها السلام كان رافضًا زواجها من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فأثملته فرضي ولما أفاق استنكر ذلك. إلّا أنّ ذلك ينتقض الحوادث التاريخية التي تقول بوفاة أبيها وقيام عمّها بالأمر، وكذا تناقض أخلاق وحال خديجة ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم دون جدال، وكذا تنتقض طبيعة مجالس الخطوبة التي تتميّز بالوقار والعقل فلا يخفى فيها على أحد أن يكون والد العروس سكرانَ.
- روى ابن عباس وغيره أن خديجة يوم تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت ابنة ثمان وعشرين سنة، ولكنّ المشهور في كتب السيرة أن عمرها عليها السلام كان أربعين سنة، ولكنه قول معتمد على رواية واحدة وغير مُسلّمٍ به.
- والنتيجة التي يمكن أن نخرج بها بناءً على العديد من الروايات وآراء المحققين والقرائن أنّ عمرها عند زواجها عليها السلام مردّد بين الخامسة والعشرين والثامنة والعشرين، وعاشت خمسًا وعشرين سنة مع النبيّ عشر منها بعد البعثة وتوفّيت ولها من العمر خمسون سنة أو ثلاث وخمسون سنة.
230
193
الدرس التاسع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام من الزواج إلى الاسلام
الدرس التاسع عشر:
السيّدة خديجة عليها السلام
من الزواج إلى الاسلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن
- يذكر بعض خصائص ومميّزات بيت خديجة عليها السلام.
- يتعرّف إلى بعض خصائص علاقة السيّدة خديجة عليها السلام بالنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
- يبيّن أنّ السيّدة خديجة عليها السلام أوّل من آمن من النساء وأسلم وصلّى.
231
194
الدرس التاسع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام من الزواج إلى الاسلام
في رحاب بيت خديجة عليها السلام المبارك
يكفي أم المؤمنين خديجة عليها السلام شرفا ًوفضلاً أن بيتها هو أول بيت وَحّدَ الله، وهو أول بيت صلّى لله جلّ وعلا، وهو أوّل بيت تلي فيه كتاب الحقّ جلّ جلاله، ومنه كانت حادثة الإسراء بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس[1]، وهو البيت الذي كان مهبط الوحي والتنزيل، ومنه انتشر ضياء الإسلام ونوره العظيم على الدنيا كلها، وكان يعتبر من المواضع التي يستحبّ فيها الصلاة[2]، فهو "المنزل الذي كانت تنزله أم المؤمنين خديجة عليها السلام، وفيه كان مسكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معها، وقد ولدت فيه خديجة أولادها جميعاً، وفيه توفّيت عليها السلام، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمفيه ساكناً حتّى خرج صلى الله عليه وآله وسلم زمن الهجرة"[3].
أمضت أم المؤمنين خديجة عليها السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه الشريف خمسة عشر عاماً أحاطته فيها بكلّ رعاية وعناية، وكانت تلك السنوات هي السنوات التي شُغلت فيها عليه السلام بإنجاب أولادها والعناية بهم.
وقد ضمّ بيتها المبارك إلى جوار الصفوة الكريمة من أبناء المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، زيد بن حارثة الذي سُبي في الجاهلية وهو ابن ثماني سنين، وبيع في بعض أسواق العرب، فاشتُري للسيدة خديجة عليها السلام، ثمّ وهبته للنبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يبعث، فنشأ عنده.
[1] فخر الدين محمد بن عمر الرازي الشافعي، مفاتيح الغيب، ج4، ص16، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[2] كان المسلمون يحافظون على منزل أم المؤمنين خديجة (عليها السلام) الذي يُذكرهم بتاريخ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والصدر الاول للإسلام، وكانوا يولونه أهمية خاصة بل كان المسلمون يحاولون ترميمه، واعادة بنائه والمحافظة عليه إلى أن سيطر الوهابيون على أرض الحجاز، فقاموا بهدم تلك الدار مع المئات من الآثار الإسلامية التاريخية، وبعد هدم تلك الدار اضطر عمدة مكة آنذاك إلى ان يبني مكانها مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، لكن هذه المدرسة ايضاً سرعان ما هدموها، وبذلك أجهزوا على ثاني أكبر وأقدس مكان في مكة المكرمة بعد المسجد الحرام.
[3] الفاكهي، أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، ج3، ص384.
233
195
الدرس التاسع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام من الزواج إلى الاسلام
وضمّ ذلك البيت العظيم أمّ أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي تنقّل في تربيته بين بيت أبيه أبي طالب عليه السلام وبيت خديجة عليها السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
سيرة السيّدة خديجة قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
كان زواج المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السيّدة خديجة عليها السلام بتقدير الله تعالى. ولقد اختار الله سبحانه لنبيّه زوجة تناسبه وتؤازره، وبعد القران السعيد بدأت السيّدة خديجة عليها السلام تزداد معرفة بجوهر النبيّ الكريم والذي أتاحه الله لها، فألقت إلى يد هذا الأمين بكلّ ما تملك.
وعلى الرغم من ذلك لم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتصرّف في مال خديجة عليها السلام، بل ترك زمام المبادرة بيدها. ولم تكن عليها السلام مع تدبيرها بالشحيحة الكاظّة على المال الفاني، بل كانت قد خلقت لتكون مساعدة على الجود، وقد كانت عليها السلام مبادرة إلى فعل كل ما يرضي النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كذلك كانت تُكرم كلّ من يمتّ له بأيّ صلة كانت.
فعندما قَدِمَتْ عليه مرضعته حليمة السعدية بعد تزوّجه من خديجة عليها السلام، شكت إليه جَدْب البلاد، فكلّم لها خديجة، فأَعطتها أَربعين شاة وبعيراً... وانْصرفت بخير[1].
كذلك أحبت السيّدة خديجة عليها السلام كل ما أحبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأبغضت كل ما أبغضه، وتلك هي أركان الوفاء وبنود الإيثار، فإن حياة أم المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام اتّصلت بحياته صلى الله عليه وآله وسلم، وإن غالب أحوالها كانت متعلّقة بأحواله. وإنّنا حين نقف على مديح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لها بعد وفاتها وارتباطه بها إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، فإننا سنقف على أفكار وصور جليلة جداً، قد لفّت كل حياتهما المباركة، ولا أدلّ على ذلك من قول النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس،
[1] أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، غريب الحديث، ج1، ص619، طبعة:1، دار العاني، بغداد، وأحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري، جمل من أنساب الأشراف، ج1، ص95، من الطبعة:1، دار الفكر.
234
196
الدرس التاسع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام من الزواج إلى الاسلام
وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء"[1].
ولا يخفى على كلّ من خَبِرَ السيرة النبوية المباركة أنّ أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام كانت شريكة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في كلّ هذه الأعمال الخيرة التي كان يقوم بها قبل مبعثه الشريف، وكان يصيب بها مواضعَ مستحقة في وسط بحرٍ من ظلمات الجاهلية التي كانت تعيشها جزيرة العرب في ذلك الوقت.
بدء الوحي
روي عن الإمام الحسن العسكريّ عن الإمام عليّ الهادي عليها السلام قال: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا ترك التجارة إلى الشام، وتصدّق بكلّ ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات، كان يغدو كلّ يوم إلى حراء يصعده وينظر من قلله إلى آثار رحمة الله، وإلى أنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته، وينظر إلى أكناف السماء وأقطار الأرض والبحار والمفاوز والفيافي، فيعتبر بتلك الآثار، ويتذكر بتلك الآيات ويعبد الله حقّ عبادته"[2].
وكانت السيّدة خديجة عليها السلام آنذاك تزوِّد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما يحتاج إليه من طعامٍ وشراب طيلة مكثه في حراء، فتوصله إلى باب ذلك الغار الكائن أعلى جبل النور في ظاهر مكّة، والذي يحتاج الوصول إليه بين ساعتين أو ثلاث من الجُهد الجَهيد. وكانت السيّدة خديجة عليها السلام تقطع المسافة بين بيتها والغار على قدميها الشريفتين، وقد بقيت على هذا المنوال من السعي المرضي حتّى جاء ذلك اليوم العظيم الذي آن فيه للزمان أن ينجلي عنه صداه، وأن يمتلئ وجهه نوراً يتلألأ سناه، "فلمّا استكمل صلى الله عليه وآله وسلم أربعين سنة ونظر الله عزّ وجلّ إلى قلبه، فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها، وأخشعها وأخضعها، وأُذن لأبواب السماء ففتحت ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليها، وأُذن للملائكة، فنزلوا، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليهم، وأُمر بالرحمة فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد صلى الله عليه وآله وسلم
[1] ابن عبد البر القرطبي، الاستيعاب، ج4، ص1824، ترجمة رقم 3311، وأحمد بن حنبل، المسند، ج41، ص356، حديث 24864، طبعة:1، مؤسسة الرسالة، وابن حجر العسقلاني، الإصابة، ج8، ص103، ترجمة رقم 11093، و...
[2] الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام، تفسير الإمام العسكري، ص156 - 158، عن أبيه الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام قال: .... وساق الحديث.
235
197
الدرس التاسع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام من الزواج إلى الاسلام
وغمرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوّق بالنور طاووس الملائكة هبط إليه وأخذ بضبعه وهزّه، وقال: يا محمد اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال: يا محمد ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[1]، ثمّ أوحى إليه ما أوحى إليه ربّه عزّ وجلّ، ثمّ صعد إلى العلو، ونزل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الجبل، وقد غشيه من تعظيم جلال الله وورد عليه من كبير شأنه ما ركبه به الحمى والنافض، وقد اشتدّ عليه ما يخافه من تكذيب قريش في خبره، ونسبتهم إياه إلى الجنون، وأنّه يعتريه شياطين، وكان من أوّل أمره أعقل خليقة الله وأكرم براياه، وأبغض الأشياء إليه الشيطان، وأفعال المجانين وأقوالهم، فأراد الله عزّ وجلّ أن يشرح صدره ويشجّع قلبه، فأنطق الجبال والصخور والمدر، وكلّما وصل إلى شيء منها ناداه: السلام عليك يا محمد، السلام عليك يا وليّ الله، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، أبشر، فإنّ الله عزّ وجلّ قد فضّلك وجمّلك، وزينك وأكرمك فوق الخلائق أجمعين الأولين والآخرين، لا يحزنك قول قريش: إنّك مجنون وعن الدين مفتون، فإنّ الفاضل من فضّله ربّ العالمين، والكريم من كرّمه خالق الخلق أجمعين، فلا يضيقنّ صدرك من تكذيب قريش وعتاة العرب لك، فسوف يبلغك ربّك أقصى منتهى الكرامات، ويرفعك إلى أرفع الدرجات"[2].
توجّه مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام، وأخبرها بالكرامة التي أكرمه الله بها من الرسالة، فقالت له ببشاشتها التي اعتادت أن تقابله بها: "أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق". فقد علمت عليها السلام أن ما أكرمه الله به من مولده ثم ما حباه به من الخلق العظيم، وأنّ أعماله الصالحة، وخصاله الشريفة، لا يناسبها إلا كرامة الله له، وإتمام النعمة عليه، وأنَّ من كان بهذه المثابة، فإنّ العزيز الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإله العالمين يصطفيه وينتجبه، ولا يخزيه ولا يسلط
[1] سورة العلق، الآيات 1 - 5.
[2] الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام، تفسير الإمام العسكري، ص156 - 158.
236
198
الدرس الثامن عشر: شبهات وردود حول زواج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسيّدة خديجة عليها السلام
عليه الشيطان. وهذا استدلال منها على صحة النبوّة والرسالة وثبوتها في حقّ من هذا شأنه، فآمنت بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي لم تستمع بعد لسورة من الذكر الحكيم. ومن هنا تعتبر سيّدتنا خديجة عليها السلام أوّل من استدلّ بأخلاق وسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة دليلاً على صِدْقه بعد بعثته. وكفى بذلك منقبة لها، وفضيلة تفرّدت بها دون سائر النساء.
سبق خديجة نساء الأمة
كانت أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام، وأمير المؤمنين عليّ عليه السلام أوّل من أجابا واستجابا لله عزّت آلاؤه القائل في محكم كتابه: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾[1]، والحقّ أنّه لا يُعرف قدر ما لها وللوصيّ عليه السلام من الثواب إلّا الله عزّ وجلّ، لأنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام فتح الباب، فسنَّ السنة لذكور الأمة، وخديجة عليها السلام فتحت الباب فسنّت السنّة لإناث الأمّة، وهذا يمكن أن يكون من أفضل ما حصل من الخير لأمّ المؤمنين الكبرى عليها السلام، فإنّها لم تأخذ الدين أخذ مشايعة، ولم تتلقّه مجاملة، بل أخذته عن ظمأ إليه ويقين به، فقد روي عن حفيدها الإمام الكاظم عليه السلام قال: "سألت أبي جعفر بن محمّد عليهما السلام عن بدء الإسلام، كيف أسلم عليّ، وكيف أسلمت خديجة؟ فقال لي أبي: إنهما لما دعاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا عليّ ويا خديجة إن جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام فأسلما تسلما، وأطيعا تهديا، فقالا: فعلنا وأطعنا يا رسول الله.
فقال: إنّ جبرئيل عندي يقول لكما: إنّ للإسلام شروطاً وعهوداً ومواثيق، فابتداؤه بما شرط الله عليكما لنفسه ولرسوله أن تقولا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه، ولم يلده والد، ولم يلد ولداً، ولم يتّخذ صاحبة، إلهاً واحداً مخلصاً، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافّة بين يدي الساعة، ونشهد أنّ اللّه يحيي ويميت، ويرفع ويضع، ويغني ويفقر، ويفعل ما يشاء، ويبعث من في القبور، قالا: شهدنا..."[2].
[1] سورة الواقعة، الآيتان 10-11.
[2] السيد علي بن موسى بن طاووس الحسني، طرف من الأنباء والمناقب، ص115-116، طبعة:1، تاسوعاء، مشهد.
237
199
الدرس التاسع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام من الزواج إلى الاسلام
ثمّ إنّ الأخبار التي رواها جملة من الحفاظ[1] تشهد بأنّ خديجة عليها السلام هي أوّل من آمن من النساء، ومن تلك الشهادات قول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبته المسماة القاصعة: "... ولم يجمع بيتٌ واحدٌ يومئذ في الاسلام غير رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وخديجة، وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرِّسالة، وأشمُّ ريح النبوة"[2]، وعليه آراء العلماء.
صلاة أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام
حازت الصلاة مكاناً عظيماً في الإسلام بل في كلّ الرسالات حيث تعدّ دعامة لجميع الشرائع السماوية، فهي أقدم عبادة. ولأنّها من مستلزمات الإيمان لم تخل منها شريعة من الشرائع، ولم تنسخ في ما نُسِخ منها، فإنّه ما من نبيّ بعث، ولا رسالة نزلت إلّا وفيها الأمر بإقامة الصلاة باقياً كالأمر بتوحيد الله.
فالصلاة عبادة مشتركة لجميع أمم الأرض لأنها وصية الله وأمره للنبيّين والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين، وكما كانت أم المؤمنين خديجة عليها السلام أول من تلا القرآن بعد أن سمعته من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كذلك كانت أوّل من تعلّم الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقامها، فقد جاء في رواية: "صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين، وصلّت خديجة آخر يوم الاثنين"، وكذا يقول ابن عبّاس[3].
[1] محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص203، حديث 484، وعنه الحافظ الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج2، ص116، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ج14، ص173. أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، الأوائل، ج1، ص79-80، حديث 74، طبعة: دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، ورواه أبو القاسم الطبراني، الأوائل، ج1، ص80، حديث 54، طبعة:1، مؤسسة الرسالة - دار الفرقان، بيروت.
أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلاد بن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار، مسند البزار المنشور بالبحار الزخار، ج9، ص322، حديث 3872، طبعة:1، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، وقال الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، عن أبي رافع قال: "أول من أسلم من الرجال علي، وأول من أسلم من النساء خديجة" رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، يراجع مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج9، ص353، حديث 15258، طبعة: دار الفكر، بيروت.
أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة، ج2، ص682، حديث 1168، والحاكم النيسابوري، ج3، ص143، حديث 4652، وابن أبي خيثمة أحمد بن زهير بن حرب، أخبار المكيين من كتاب التاريخ الكبير، ج1، ص161، حديث 65، طبعة:1، دار الوطن، الرياض، وابن عبد البر، الإستيعاب، ج3، ص1090-1091.
[2] عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج13، ص197، طبعة:1، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم.
[3] أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حربٍ، أخبار المكيين من كتاب التاريخ الكبير، ج1، ص160، طبعة:1، دار الوطن، الرياض، وابن عبد البر، الاستيعاب، ج4، ص1820، ترجمة رقم 3311، طبعة:1، دار الجيل، بيروت.
238
200
الدرس التاسع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام من الزواج إلى الاسلام
وجاء في خبر آخر: "... ثم إنّ جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين افترضت عليه الصلاة[1]، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت له عين من ماء مزن فتوضأ جبريل ومحمَّد عليهما السلام، ثمّ صلّيا ركعتين وسجدا أربع سجدات، ثمّ رجع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقد أقرَّ الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحبّ من الله، فأخذ بيد خديجة حتّى أتى بها العين، فتوضّأ كما توضّأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سراً"[2]. وقد نقلت هذه الرواية بطرق أخرى[3]. وقد شهد للسيدة خديجة بهذه الخصيصة المحقّقون والعلماء[4] والمؤرّخون. كما روي عن الامام علي عليه السلام قوله: "صلّيت مع رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا لا يصلي معه غيري إلّا خديجة"[5].
[1] وأما ما ذكره بعضهم أنه لم تكن الصلاة مفروضة في أول البعثة، وإنما شرعت ليلة المعراج على ما في الأخبار، وقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾، ففيه أن المسلم من دلالتها أن الصلوات الخمس اليومية إنما فرضت بهيئتها الخاصة ركعتين ركعتين ليلة المعراج، ولا دلالة فيها على عدم تشريعها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك، وقد ورد في كثير من السور المكية، ومنها النازلة قبل سورة الإسراء كاالمدثر والمزمل، "وسورة العلق"، وغيرهما ذكر الصلاة بتعبيرات مختلفة، يراجع المفسر السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، بيان روائي لتفسير سورة العلق.
[2] أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي الخرساني، دلائل النبوة، ج2، ص160، طبعة:1، دار الكتب العلمية، وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإختلاف ألفاظ، يراجع الموفق بن أحمد المكي أخطب خوارزم، مقتل الحسين، ج1، ص54، طبعة: دار أنوار الهدى، قم.
[3] الفقيه المُحدث قطب الدين الراوندي سعيد بن هبة الله، الخرائج والجرائح، ج1، ص83-84.
[4] سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصري، مسند أبي داود الطيالسي، ج4، ص470، حديث 2876، طبعة:1، دار هجر، مصر.
[5] أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص1096.
239
201
الدرس التاسع عشر: السيّدة خديجة عليها السلام من الزواج إلى الاسلام
المفاهيم الاساسية
- يكفي في تشريف بيت السيّدة خديجة عليها السلام أنّه كان أوّل بيت وَحّدَ الله، وهو أول بيت صلّى لله جلّ وعلا، وهو أول بيت تلي فيه كتاب الحقّ جلّ جلاله، ومنه كانت حادثة الإسراء بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وهو البيت الذي كان مهبط الوحي والتنزيل.
- ضمّ بيت السيّدة خديجة عليها السلام بالاضافة لها وللنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولأولادهما، زيد بن حارثة وأم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
- وضعت السيّدة خديجة أموالها وكلّ ما تملك في تصرّف الرسول لكنّه كان يترك لها المبادرة. وقد تميّزت بجودها وكرمها وإعالة المحتاجين، فكانت تأتي بما يحبه الرسول ويرضاه وتبغض ما يبغضه.
- عاش الزوجان سعيدين هانئين وقد وصفها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كانت تسانده وتؤازره وأن الله لم يبدله خيرًا منها أبدًا.
- بعد زواجه من السيّدة خديجة عليها السلام، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يذهب إلى غار حراء للتعبّد، وكانت عليها السلام تزوِّد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما يحتاج إليه من طعامٍ وشراب فتوصله إلى باب ذلك الغار قاطعةً المسافة على قدميها الشريفتين وذلك حتّى البعثة.
- بعد نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم توجّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام، وأخبرها بذلك ودعاها إلى الاسلام، فآمنت من فورها ولم تكن قد استمعت إلى آية من القرآن بعد، بل صدّقته صلى الله عليه وآله وسلم بناءً على سيرته فكانت أول مجتهدة في الاسلام.
- من خلال سبق أم المؤمنين خديجة عليها السلام نساء هذه الأمة إلى الإيمان بالله ورسوله سَنَّتْ ذلك لكلّ امرأة آمنت بعدها، فيكون لها مثل أجرهنّ جميعاً بشهادة الحديث النبويّ.
- كانت السيّدة خديجة عليها السلام أوّل من صلّى خلف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من النساء، وعلي عليه السلام أول من آمن وصلّى من الرجال، وبقيت تصلّي معه سرًّا إلى حين انتشار الدعوة.
240
202
الدرس العشرون: خصائص السيّدة خديجة عليها السلام
الدرس العشرون:
خصائص السيّدة خديجة عليها السلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يذكر بعض خصائص السيّدة خديجة عليها السلام والتي انحصرت بها.
- يبيّن أنّ كلّ أفعال خديجة عليها السلام تجاه الدعوة تصلح للاقتداء والتأسّي.
- يذكر بعض وجوه تضحيات السيّدة خديجة عليها السلام.
241
203
الدرس العشرون: خصائص السيّدة خديجة عليها السلام
تمهيد
إذا كانت النساء المؤمنات يتطلّعن إلى سيرة عظيمة ترشدهنّ إلى الأسوة الفاضلة والقدوة المثالية، فإنهنّ عبر مراحل التاريخ الإسلامي بأسره لن يجدن بعد السيّدة الزهراء عليها السلام قدوة أعلى وأمثل وأفضل من السيّدة أم المؤمنين خديجة عليها السلام، فهي التي مضتْ في طريق السبق تقفو أثر صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وسلموتتبع خطواته بكلّ إخلاص وفداء، فقد كان يلقى ما يلقاه في النهار، فإذا أوى إلى بيته وجد مولاتنا خديجة عليها السلام قد جعلت كلّ ما في ذلك البيت برداً وسلاماً. وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقد عطف الأم الرؤوم في صدر حياته عند وقت الحاجة، فقد عوّضه الله تعالى في خديجة عليها السلام زوجاً ورفيقة لدربه، فكانت بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى بلسماً لجراحه فلم تسؤهُ قط، ولم تغاضبه قط، ولم ينلها منه عَتبٌ ولا هجر، فقد أعطت المال والجهد والحنان والحبّ والمشورة الصادقة الصائبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والحقّ أنّ مواقفها المشهودة معه من أشرف المواقف التي تُحمد من امرأة في الأولين والآخرين، وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لَقَدْ فُضِّلَتْ خَدِيجَةُ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي كَمَا فُضِّلَتْ مَرْيَمُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ"[1].
من خصائص السيّدة خديجة عليها السلام
1- محلّ للسلام الإلهيّ:
يظهر لمن تتبّع أخبار السيرة النبوية العطرة أنّ الله تعالى بعث بسلامه الخاصّ إلى
[1] أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج7، ص135، طبعة: دار المعرفة، بيروت، وقال: فروى البزار والطبراني من حديث عمار بن ياسر رَفَعَهُ:... الحديث، وهو حديث حسن الإسناد.
243
204
الدرس العشرون: خصائص السيّدة خديجة عليها السلام
السيّدة الغرّاء أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام. وقد أُرسل هذا السلام الإلهيّ في مراتٍ عديدةٍ لا مرة واحدة[1]، فقد روى حفاظ الأمّة أنّ جبريل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه... طعام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربّها عزّ وجلّ، ومنّي (جبرائيل)...."[2].
وفي رواية أخرى: "جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلموهو بحراء، فقال: هذه خديجة قد جاءت بحيس[3] في غزرتها، فقل لها إنّ الله يقرئك السلام، فلما جاءت قال لها: إنّ جبريل أعلمني بك وبالحيس الذي في غزرتك قبل أن تأتي، وقال الله يقرئها السلام، فقالت: هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام"[4].
وسلام الله على أم المؤمنين خديجة يوضح لنا أنّها من جملة عباد الله المصطفين الأخيار، فإنّ المولى سبحانه قال في محكم كتابه: ﴿وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾[5]، ولذلك لا يوازي فضل هذه المرأة العظيمة من بقية النساء بعدها شيء، فإن السلام حصل من الله ومن جبريل كلاهما لخديجة عليها السلام، ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[6].
2- مرجع أهل البيت النبويّ:
إنّ السيّدة خديجة عليها السلام هي مرجع البيت الذي ينتسب إليه أهل البيت عليهم السلام. فقد ثبت في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾[7]،
[1] محمد بن مسعود العياشي، تفسير العيّاشي، ج2، ص279، طبعة: المطبعة العلمية، طهران، الجمهورية الإسلامية، والنسائي، السنن الكبرى، ج5، ص94، حديث 8359.
[2] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، ج3، ص1379،حديث 3609، طبعة:3، دار ابن كثير- اليمامة، بيروت، ومسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، ج4، ص1817، طبعة: إحياء التراث العربي، بيروت، وأحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج12، ص71، حديث 7156، طبعة:2، مؤسسة الرسالة، بيروت، ومحمد بن حبان التميمي البستي، صحيح ابن حبان، ج15، ص469، حديث 7009، طبعة:2، مؤسسة الرسالة، بيروت،
[3] تمر يخلط بسمن وطحين ويعجن ويسوى كالثريد.
(513) سليمان بن أحمد الطبراني، المعجم الكبير، ج23، ص15، حديث 25، طبعة:2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل.
[4] سورة النمل، الآية 59.
[5] سورة آل عمران، الآيتان 73-74.
[6] سورة الأحزاب، الآية 33.
[7] محمد بن عيسى الترمذي، سنن الترمذي، ج5، حديث رقم 3205 + 3871، وأحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج6، ص292+ ص304، حديث رقم 26551 + 26639، وأبو يعلى الموصلي، مسند أبي يعلى، ج12، ص451، حديث رقم 7021، والحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج2، ص451، حديث رقم 3558، وقال الترمذي: هذا حديث حسن وهو أحسن شيء روي في هذا الباب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وقال الذهبي: على شرط مسلم، وقال ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب، ج2، ص297: له طرق.
244
205
الدرس العشرون: خصائص السيّدة خديجة عليها السلام
أنّ أهل البيت المقصودين هم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلموفاطمة وعلي والحسن والحسين حيث جلّلهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بكساء[1]. ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة، لأنّ الحسنين من فاطمة، وفاطمة بنتها وعليٌّ نشأ في بيت خديجة وهو صغير، ثم تزوج بنتها بعدها، فظهر رجوع أهل البيت النبويّ إلى خديجة دون غيرها[2]. فهي أُمّ آل البيت الكبرىٰ، ومن نسلها كانت ذرّية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصةً.
3- أوّل المنفقين في الاسلام:
من المعلوم عند أهل الإسلام أن أوّل مال أُنفق في سبيل الله تعالى كان مال السيّدة خديجة الكبرى عليها السلام، فهي التي من خلال سبقها نساء الأمة إلى الإيمان بالله ورسوله سَنَّت اللحاق بركب الإيمان لكلّ امرأة آمنت بعدها، وبما أنّها أوّل من أنفقت مالها في سبيل الله، فقد سَنَّتْ ذلك لكلّ من أنفق ماله في هذا السبيل بعدها، فيكون لها مثل أجرهم جميعاً.
وإنْ كان كثير من الصحابة قد شاركها في هذه الأعمال فيما بعد، إلا أنّ الأمر لا يستوي، لأنّ خديجة عليها السلام قد فعلت ذلك في وقت عزّ فيه الصاحب والنصير، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمأحوج ما يكون لمن يؤنسه ويصدقه ويواسيه. هذا مع الالتفات إلى أنّ جملة من الذين أسلموا في مكّة جعلتهم مقاطعة ذويهم لهم من المحتاجين حيث كان أبو جهل الفاسق يغري بهم رجال قريش، "فإذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنّبه وخزاه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك لنُسفِّهنّ حلمك (أي تبيين خفة رأيه)، ولنَفِيلنّ رأيك[3]،
[1] محمد بن عيسى الترمذي، سنن الترمذي، ج5، حديث رقم 3205 + 3871، وأحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج6، ص292+ ص304، حديث رقم 26551 + 26639، وأبو يعلى الموصلي، مسند أبي يعلى، ج12، ص451، حديث رقم 7021، والحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج2، ص451، حديث رقم 3558، وقال الترمذي: هذا حديث حسن وهو أحسن شيء روي في هذا الباب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وقال الذهبي: على شرط مسلم، وقال ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب، ج2، ص297: له طرق.
[2] أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج7، ص138.
[3] لنخطئن، ففي القاموس: فال رأيه، يفيل فيولة، وفيلة: أخطأ وضعف، وفيّل رأيه: قبحه وخطأه.
245
206
الدرس العشرون: خصائص السيّدة خديجة عليها السلام
ولنضعن شرفك، وإن كان تاجراً قال: والله لنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك..."[1].
وأما حال الفقراء والمستضعفين والعبيد ممن فتح اللّه تعالى قلوبهم للدعوة الإلهية، فقد كانوا من الأساس في عسر ماديّ، فلا بدّ من مصدر ماليّ مناسب يتوفّر للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلممن خلاله سدّ نفقات المحتاجين من أهل الإيمان. وهكذا كانت أموال السيّدة خديجة عليها السلام المصدر الأساس لدعم النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، ورفد دعوته بالمال اللازم لتغطية نفقات المستضعفين. وقد قال عبيد الله بن أبي رافع لمّا سُئل: أوكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلميجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: إنّي سألت أبي عما سألتني، وكان يحدّث لي هذا الحديث، فقال: وأين يذهب بك عن مال خديجة عليها السلام؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما نفعني مال قطّ ما نفعني مال خديجة"[2].
4- بيت خديجة عليها السلام، البيت القدوة:
بعد أن خاطب الله عزّت آلاؤه حبيبه المصطفى بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ﴾[3], قام النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه القويم سرَّاً. وكان من الطبيعيّ أن يبدأ بعرض رسالة التوحيد على ألصق الناس به وأقربهم إليه أهل بيته وعشيرته، ومن ثم أصدقائه ومن يثق به من الناس. وكان السبق على هؤلاء جميعاً من نصيب السيّدة خديجة عليها السلام وعليّ عليه السلام. وبعد غار حراء كانت جنبات بيتها المبارك أوّل الأماكن التي تلي فيها القرآن، فآمن به كلّ مَن كان يظلّهم سقف بيتها العظيم (عليّ، وزيد، والصفوة الكريمة من أبناء المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأم أيمن) آمنوا قبل كُلِّ أحد[4].
وقد جعل سكّان بيت أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام من ذلك المنزل شمساً تفيض النور منها على القبائل والشعوب حيث كان أوّل بيت تعهّد بنصرة دين الله، وقد تقدّمتهم في ذلك كله رفيقة الدرب الغرّاء خديجة عليها السلام، فصيّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك البيت المبارك
[1] ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص320، وابن كثير، السيرة النبوية، ج1، ص495.
[2] الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الأمالي، ص468، المجلس السادس عشر.
[3] سورة المدثر، الآيتان 1-2.
[4] نور الدين علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي، السيرة الحلبية = إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون، ج1، ص385، وقال الإمام أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: "ما أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد قبل علي بن أبي طالب وخديجة (عليها السلام)"، يراجع الشيخ الصدوق محمد بن علي، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص328، طبعة:2، الدار الإسلامية، طهران.
246
207
الدرس العشرون: خصائص السيّدة خديجة عليها السلام
مركزاً لقيادة جماعة المؤمنين، ومدرسة لتعليمهم وتربيتهم وإعدادهم وتأهيلهم كي يتحمّلوا أعباء الدعوة إلى الله، وذلك من خلال التربية الفردية الهادفة. ولا يخفى على أهل الإيمان أن "لهذا البيت النبويّ الأول مكانة عظمى في تاريخ الدعوة الإسلامية، لما حباه الله به من مزايا وخصّه بشرف الأسبقية في الإيمان وتلاوة القرآن وإقام الصلاة... ويحق لهذا البيت أن يكون قدوة، ويحقّ لربّته أن تكون مثالاً ونموذجًا حيًّا لبيوت المسلمين ولنسائهم ورجال المؤمنين كافة، فالزوجة فيه طاهرة مؤمنة، مخلصة، وزيرة الصدق والأمان، وابن العم المحضون والمكفول، مستجيب ومعضد ورفيق، والمتبنّى مؤمن صادق مساعد ومعين، والبنات مصدّقات مستجيبات مؤمنات ممتثلات. وهكذا كان للبيت النبويّ مكانته الأولى، والواجب يدعو إلى أن يكون قدوتنا والأنموذج الذي نسير على هديه في المعاشرة، ومثالية السلوك بالصدق والتصديق، في الاستجابة والعمل لكل من آمن بالله ربًّا وبمحمد نبيًّا ورسولاً"[1].
5- خديجة عليها السلام أولى المضحّيات في سبيل الدعوة:
مع إعلان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلمعن تكليف الله تعالى له بدعوة الخلائق لتوحيد بارئهم وخلع الأنداد بدأت أشدّ مراحل حياته عناءً، وأكثرها ايلاماً لأهل بيته الكرام حيث "إنّ أبا لهب كان يسكن في بيت له قبالة بيت خديجة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنها، وكان يسكن مع زوجته أمّ جميل بنت حرب بن أمية[2]، وكان ذلك الزقاق طريق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد (الحرام)"[3]، ولو لم يكن لأم المؤمنين خديجة عليها السلام من المعاناة إلّا ما يقتضيه جوار هذين الشرّيرين لكفى، فقد تزعّما كتيبة قريش التي لا شغل لها إلّا الإساءة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من ذويهِ وأقربيه.
وجاء في رواية: "رأيت رسول الله مرّتين. مرّة بسوق ذي المجَاز، وأنا في بياعة لي أبيعها، ومرَّة عليه جُبّة له حمراء، وهو ينادي بأعلى صوته: "أيها الناس قولوا: لا إله إلا
[1] د. عصمة الدين كركر، المرأة في العهد النبوي، ص43-46، طبعة: دار الغرب الإسلامي.
[2] امرأة أبي لهب شقيقة أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية.
[3] محمد بن إسحاق بن العباس المكي الفاكهي، أخبار مكة، ج3، ص248، طبعة:2، دار خضر، بيروت.
247
208
الدرس العشرون: خصائص السيّدة خديجة عليها السلام
الله تُفلحوا"، ورجل يتبعُه بالحجارة، وقد أدْمَى كَعْبيْه وعُرقُوبَيْه، ويقول: يا أيها الناس لا تُطيعوه، فإنه كذّاب، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا غلام بني عبد المطّلب. قلت: فمن هذا الذي يتبعه يَرْميه بالحجارة؟ قالوا: عمّه عبد العزّى، وهو أبو لهب" . هذا أحد أفعال أبي لهب التي كان يتقرّب بها إلى أصهاره من بني أمية وبقية طغاة قريش لينال الحظوة لديهم. وإذا كان أبو لهب قد أخذ على عاتقه التكفل بأذية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ إمرأته التي فاقت بقية المشركين شراسة ووقاحة، ولم تكن ترعى حق الجيرة مطلقاً، كانت لا تألو جهداً في إزعاج السيّدة خديجة وإيذائها. وقد بقيت خديجة الغرّاء عليها السلام، لسنوات عديدة تتحمّل ضروب الأذى غير المحتمل وغير المطاق، والاستطالة والمعاناة، وكانت تكتفي بإزالة ما يرميه سفهاء قريش على دارها، وما كانت تلقيه "حمالة الحطب" من أحجار وأقذار وأشواك تضعها في طريق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يسمع من أم المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام إلا نداؤها: "يا معشر قريش تُرمى الحرّة في منزلها؟" .
248
209
الدرس العشرون: خصائص السيّدة خديجة عليها السلام
المفاهيم الاساسية
- بفضل خصالها التي تحلّت بها ومعاناتها تجاه الدعوة والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كانت السيّدة خديجة عليها السلام محلًّا لتنزّل سلام الحقّ سبحانه عليها، حيث جاء في العديد من الأخبار أنّ الله أرسل سلامه إليها عبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
- السيّدة خديجة عليها السلام هي أمّ آل البيت الكبرى، ومنها حصرًا استمرّت ذرّية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعندما يقال آل البيت فالبيت المقصود هو بيت خديجة ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، حيث إنّ كلّ أصحاب الكساء يرجعون إلى رابطة مع خديجة عليها السلام.
- إنّ أوّل مال أنفق في سبيل الله تعالى كان مال السيّدة خديجة الكبرى عليها السلام، فسَنَّتْ ذلك لكلّ من أنفق ماله في هذا السبيل بعدها، فيكون لها مثل أجرهم جميعاً. والأمر لا يستوي وأيّ إنفاق لاحق، لأنّ خديجة عليها السلام أنفقت والاسلام في مهده وهو مهدّد بالإبادة وفعلها هذا لا يقاس بأيّ إنفاق.
- يعتبر بيت السيّدة خديجة البيت القدوة في الاسلام، حيث آمن كل ساكنيه بالاسلام ونبيه ولبوا نداءه ونصروه، وقد تولى النبي صلى الله عليه وآله وسلمالتربية الفردية لأفراد البيت كلّ بحسبه، فهو نموذج حيّ لبيوت المسلمين ولنسائهم ورجال المؤمنين كافة.
- كانت معاناة وآلام السيّدة خديجة عليها السلام تزداد يومًا بعد يوم مع توسّع الدعوة أكثر، حيث نال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أذى قريش على الدوام، وكانت تقوّي عزيمة زوجها العائد إلى البيت مدمىً، وكانت تتحمّل أذى أوباش قريش كأبي لهب وزوجته التي ما فتئت ترمي الأوساخ والأشواك والاحجار أمام منزل خديجة عليها السلام وعلى طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمنحو المسجد الحرام.
249
210
الدرس الحادي والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام والدعوة إلى الاسلام
الدرس الحادي والعشرون:
السيّدة خديجة عليها السلام والدعوة إلى الاسلام
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى بعض مساهمات خديجة عليها السلام وأدوارها أثناء الدعوة السرية.
- يبين أدوار السيّدة خديجة عليها السلام أثناء الدعوة العلنية.
- يذكر بعض مآثر السيّدة خديجة عليها السلام.
251
211
الدرس الحادي والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام والدعوة إلى الاسلام
انطلاقة الدعوة وبعضٌ من عطاء خديجة عليها السلام
شرع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الله تعالى، وكان يستهدف بدعوته جميع من يتوسّم فيهم الخير والقبول والتعقل، فأسلم خلال جهوده السرية آنذاك جماعة من ذوي العقل والرأي والنضجِ عُرفوا فيما بعد بالسابقين إلى الإسلام. وقد عدّهم ابن هشام في السيرة أكثر من أربعين نفراً من قريش[1]، ما خلا أبي ذر الغفاريّ الذي كان من أسبق السابقين إلى الإسلام[2]، حيث عُد رابع المسلمين[3]، وكان ضمن أولئك الصحابة الأوائل كوكبة من النساء السابقات[4]، تقدّمت عليهن السيّدة فاطمة بنت أسد أمّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
ولأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أرسله ربّه عزّت آلاؤه رحمةً للعالمين، فآمن بدعوته أناس يُعدّون من الفقراء والمستضعفين مضافاً إليهم النفر الذين قاطعهم ذويهم، فوسعهم برّه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان طعامه لهم مبذولاً، وكفه مدرارة يجود عليهم بكلّ ما يملك في سبيل ربّه.
وهذه أسماء بنت عميس قال لها أحد الصحابة يوماً: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منكم، فغضبت وقالت: "كلّا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطعم
[1] عبد الملك بن هشام الحميري المعافري، السيرة النبوية، ج1، ص260.
[2] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب المناقب، حديث رقم 3261، طبعة:1، دار السلام، الرياض.
[3] ابن كثير، البداية والنهاية، ج 3، ص34، وفيه قول أبي ذر: كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر، وأنا الرابع.
[4] كأسماء بنت عميس التي آمنت بالله رفقة زوجها جعفر بن أبي طالب، وعمته صفية بنت عبد المطلب مع ولدها الزبير بن العوام، وأم سلمة هند بنت أبي أمية مع زوجها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن مخزوم ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (برة بنت عبد المطلب)، وطليعة شهداء الإسلام سمية بنت الخياط مع ولدها عمار بن ياسر بن يقظة العنسي، وأبيه، وأسماء بنت سلامة مع زوجها عياش بن أبي ربيعة، وفاطمة بنت المجلل مع زوجها حاطب بن الحارث الجمحي، وفُكَيهة بنت يسار مع زوجها حطاب بن الحارث، ورملة بنت أبي عوف مع زوجها المطلب بن أزهر، وأُمَينة بنت خلف مع زوجها خالد بن سعيد بن العاص، وفاطمة بنت الخطاب مع زوجها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأسماء بنت أبي بكر مع أبيها عبد الله بن أبي قحافة، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وفهيرة وأمه، يراجع السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص260.
253
212
الدرس الحادي والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام والدعوة إلى الاسلام
جائعكم، ويعظ جاهلكم..."[1].
فقد غمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببرّه وإحسانه أصحابه بل حتّى أعداءه، يشهد بذلك أكثرهم عداوة له، فعندما أتاه عتبة بن ربيعة ليستخبر بزعمه عن حقيقة القرآن قال أبو جهل: "يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلّا قد صبأ إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلّا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه. فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا إلّا أنّك صبوت، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك ما يغنيك عن طعام محمد"[2].
ولسائل أن يسأل من أين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلّ هذا المال الذي كان يسع الناس فيه على امتداد السنين التي قضاها في مكّة؟ فنبادره بالجواب: إنّ هذا المال من الرافد الذي لم يتوقّف عن العطاء مولاتنا السيّدة خديجة الكبرى عليها السلام التي كانت أكثر قريش مالاً، فكان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يفكّ من مالها الغارم والعاني، ويحمل الكلَّ، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه[3].
ويروى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم دخل ذات يوم على السيّدة خديجة وهو مغموم، فقالت عليها السلام: مالك؟ فقال: "الزمان زمان قحط، فإن أنا بذلت المال ينفد مالك، فأستحي منك، وإن أنا لم أبذل أخاف الله"، فما كان من أم المؤمنين خديجة إلا أن دعت رجالاً من قريش وفيهم أبو بكر، قال أبو بكر: فَأَخْرَجَتْ دنانير وصبّتها حتّى بلغت مبلغاً لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي لكثرة المال، ثم قالت: "اشهدوا أنّ هذا المال ماله، إن شاء فرّقه وإن شاء أمسكه"[4].
وليس بغريب على خديجة رضي الله عنها أن تفعل ذلك له، وقد فعلت ما هو أعظم من ذلك، حين دخلت معه الشعب فتركت مالها، واختارت مشاركته لما هو فيه من ضيق
[1] مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مسلم، ج7، ص172، باب41ـــ فضائل جعفر بن أبي طالب، حديث6567، طبعة: دار الجيل بيروت - دار الآفاق الجديدة، بيروت.
[2] شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج1، ص127، طبعة:3، مؤسسة الرسالة.
[3] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص468، المجلس 16، بسنده إلى عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
[4] محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيميّ الرازيّ الملقب بفخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب= التفسير الكبير، ج31، ص199، طبعة:3، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
254
213
الدرس الحادي والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام والدعوة إلى الاسلام
العيش، حتّى أكلوا ورق الشجر، وأموالها طائلة في بيتها[1]. والمتدبّر في سيرتها المباركة يتيقّن أنّ دعم السيّدة خديجة عليها السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته الإلهيّة، وللذين آمنوا لم يكن مقصوراً على البذل والعطاء الماديّ، بل وضمّت لذلك عطاءً معنوياً لا حدود له، وذلك من خلال تصرّفها كأمّ كبرى لجماعة المؤمنين حيث استعانت بما تجمّلت به من كرائم الأخلاق ومزجتها بعلوّ همّتها، وصحّة مقصدها، فآوت ونصرت، وآزرت وصبرت واحتملت الصِعاب مستسهلةً عظائمها، ومستعذبةً مرارتها في سبيل نيل رضا الله ورسوله.
سرية الدعوة ونزر من أعمال خديجة عليها السلام
استمرّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله، يستقطب الأتباع المهتدين من أقاربه وأصدقائه بسرية تامة. ولتوسيع دائرة الدعوة كان أولئك النفر لا يخاطبون إلا من يثقون به ويأمنون شرّه حيث إنَّ الفترة الأولى من عمر الدعوة اعتمدت على تخطيطٍ نبويٍّ دقيقٍ ومنظّمٍ ومحكمٍ، فكان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يحسب لكلّ خطوة حسابها، فحدّد لكلّ فردٍ من هؤلاء عمله بدقة وتنظيم، فجعل كل من آمن بالله يدرك طبيعة الدعوة والمرحلة التي تمرّ بها، وكان الكلّ ملتزماً جانب الحيطة والحذر والسرية والانضباط التامّ.
ومن المُسلّم به أنّ أمّ المؤمنين خديجة الغرّاء عليها السلام كانت الركن الوثيق الذي اعتمد عليه خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم في الكثير من الأعمال لا سيّما مخاطبة المؤمنات السابقات والتواصل معهنّ لتثبت القيم العظيمة لرسالة التوحيد، والدعوة إليها، وإبلاغ رسالة ربّ العالمين للناس كافّة. كما لا يخفى أنّها عليها السلام هيّأت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم البيت المريح الذي يجد فيه السكينة بعد المشقّة، ورعت ذلك البيت المبارك وكلّ من يلوذ به، فشكّلت البيئة الأسرية المساندة والآمنة التي يحتاجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتحقيق أهداف رسالته، فكانتعليها السلام بحقّ وزيرة صدق على الإسلام العظيم الذي مضت الدعوة إليه آنذاك سرية وفردية معتمدة على الاصطفاء والاختيار للعناصر التي تصلح أن تتكوّن منها الجماعة المؤمنة.
فكان صلى الله عليه وآله وسلم يلتقي بالمؤمنين سراً في دار أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام، أو في شعاب مكّة أثناء
[1] محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي، أضواء البيان، ج8، ص562، طبعة: دار الفكر، بيروت.
255
214
الدرس الحادي والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام والدعوة إلى الاسلام
الليل أو في الهاجرة بعيداً عن أنظار مشركي قريش، فيحفّظهم القرآن الكريم، ويثير فيهم الفكر للتأمّل في آيات الله والتدبّر في مخلوقاته، ويعوّدهم الصبر على الأذى ويروّضهم على الانقياد لأوامر الله حتّى يُخلُصوا لله سبحانه، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام:- بعد أن وصف خلق الله لآدم عليه السلام -: "اصطفى سبحانه من وُلده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقّه، واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويُذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُول،..."[1].
وقد ظلّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث سنين يدعو إلى الله سرّاً، ثم أُمر أن يجهر بالأمر فلم يجد إلى جانبه زوجة يضعف قلبها فتثبّطه وتخوّفه، وتؤثر الراحة وطمأنينة البيت على النّصَب واحتمال الأذى، بل وجد قرينة صالحة القلب كانت لنفسه المقدّسة مطيعةً منساقةً على الدوام.
خديجة عليها السلام ومرحلة الجهر بالدعوة
بعد أن أنذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشيرته الأقربين وبلّغهم أنّ الله تعالى أمره أن يدعوهم إليه، بادره أبو لهب بالإعراض عن الهداية، وقام القوم، وتفرّقوا عن خاتم النبيِّين، فبلغ هذا الموقف ملأ قريش وطواغيتهم، مع ما انتشر من أمر الصحابة السابقين، فشاع ذكر الإسلام في مكّة، وتُحدِّث به، فأعظمت ذلك قريش، وغضبت له، وظهر فيهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البغي والحسد، وبادروه العداوة، وطلبوا له الخصومة[2].
وفي هذا السياق يقول الإمام الصادق عليه السلام: "مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة بعدما جاءه الوحي من عند الله تعالى ثلاث عشرة سنة، منها ثلاث سنين مستخفياً خائفاً
[1] عز الدين بن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج1، ص113، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[2] محمد بن إسحاق، سيرة ابن اسحاق = السير والمغازي، ج1، ص144، طبعة:1، دار الفكر، بتحقيق د. سهيل زكار.
256
215
الدرس الحادي والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام والدعوة إلى الاسلام
لا يُظهِرُ حتّى أمره الله تعالى أن يصدع بما يؤمر، فأظهر حينئذ الدعوة"[1]، "إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، وَاِحْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ، وَتَحْذِيراً بِالآْيَاتِ، وَتَخْوِيفاً بِالْمَثُلاَتِ، وَاَلنَّاسُ فِي فِتَنٍ اِنْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ اَلدِّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي اَلْيَقِينِ، وَاِخْتَلَفَ اَلنَّجْرُ، وَتَشَتَّتَ اَلْأَمْرُ، وَضَاقَ اَلْمَخْرَجُ، وَعَمِيَ اَلْمَصْدَرُ فَالْهُدَى خَامِلٌ، وَاَلْعَمَى شَامِلٌ..."[2]، فقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم برسالته ودعا الناس إلى التوحيد والإيمان بالله عزّ وجلّ، وترك عبادة الأصنام والأوثان، وحثّهم على التحلّي بالفضائل ومكارم الأخلاق، ونهاهم عن الرذائل وقباح الصفات، ووجّههم إلى السلم ونبذ العنف بعدما فشي فيهم القتل والسطو والزنا وارتكاب الفواحش، وبعدما كانوا يأخذون الربا ويشربون الخمر...
ولما قام المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يعلن هذه الدعوة لقي تلك الصوادم، وما تلك الصوادم؟ جهل وغرور، وكبرياء وعتوّ، وقسوة وفظاظة، وتعصّب للمألوف، ونفرة من الوعظ والنصح، وإباء أمام الإنذار، وطغيان وعدوان. فأيّ امرأةٍ غير خديجة ترى بعلها في جوف هذه الغوائل ثم لا تزيده إلّا حمداً على القيام بوظيفته وإيناساً بوقوفها معه في وجه كلّ خصم لدود؟ أوذي صلى الله عليه وآله وسلم بأنواع الأذى لمّا أسمعهم الدعوة ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾[3], تكاثر عليه المفترون، والهازئون به والساخرون منه، فقالوا: هو يطلب الملك علينا، وقالوا عن الوحي الآلهي: هو شعر جاء إلينا، ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً﴾[4], فعلوا كل هذا والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم متدرّع بالصبر،
[1] الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، الغيبة، ص333، حديث 277، طبعة:1، دار المعارف الإسلامية، قم، والشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج2، ص344-345، وروي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قريبٌ من ذلك، يراجع الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج1، ص328.
[2] من بيان مولانا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، يراجع ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج1، ص136، طبعة:1، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم.
[3] سورة النمل، الآية 14.
[4] سورة الإسراء، الآيات 90-93.
257
216
الدرس الحادي والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام والدعوة إلى الاسلام
مثابر على الصدع بالأمر، وفي هذا كانت معه الزوجة الشريفة الفاضلة خديجة عليها السلام تعلّم محبّي الحقّ كيف يكون الصبر من أجله، وتهدي إلى الأجيال الآتية أجمل صورة لثبات الجأش أمام الصعوبات[1]. فقد عاشت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام المحنة ومرحلة الضيق وسنوات الحصار، وشاركته سنيّ الدعوة بآلامها وأتراحها لا تفارقه ولا تغيب عنه، بل تلازمه وتؤازره في كلّ شدة، ولا تضعف عن مناصرته، وتطرد الهموم عن قلبه المبارك وعن خاطره الشريف مستوعبةً متفهّمةً عِظم الرسالة الإلهية التي يحملها صلوات ربّي عليه وعليها.
ساعة من ساعات أيام خديجة عليها السلام
كانت السيّدة خديجة الكبرى والإمام عليّ عليه السلام في الأيام الأولى لجهر النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بدعوته المباركة يمران في أصعب الظروف وأقساها لأن خطر اغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماثل أمام أعينهما، ويتهدّدهم بين الحين والآخر. الأمر الذي جعل هذين العظيمين، ومن ورائهم الكفيل أبو طالب يواكبون النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ويتصدّون لكلّ الأخطار المحتملة التي ترافقت مع الإعلان، والصدع، والبلاغ النبويّ.
وقد جاء في رواية تخبر عن حادثة حصلت مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "رماه أبو جهل قبّحه الله بحجر فشجّ بين عينيه، وتبعه المشركون بالحجارة فتركهم صلى الله عليه وآله وسلم حتّى أتى الجبل، فاستند إلى موضع يقال له: المتّكأ وجاء المشركون في طلبه، وجاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقال: يا عليّ قد قُتل محمد، فانطلق إلى منزل خديجة رضي الله عنها، فدقّ الباب فقالت خديجة: من هذا؟ قال: أنا عليّ. قالت: يا علي ما فعل محمد؟ قال: لا أدري إلا أن المشركين قد رموه بالحجارة، وما أدري أحيّ هو أم ميت، فأعطيني شيئاً فيه ماء وخذي معك شيئاً من هيس[2]، وانطلقي بنا نلتمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّا نجده
[1] الشهيد عبد الحميد بن محمد شاكر بن إبراهيم الزهراوي، خديجة أم المؤمنين، الفصل الثالث والعشرون، نقلا عن مجلة المنار، ج13، ص553، بتصرف يسير.
[2] هكذا في النسخة ومصدره، ولعله مُصَحَّف حيس، قال الفيروز آبادي: الحيس: الخلط. تمر يخلط بسمن وأقط، فيعجن شديداً ثم يندر منه نواه، وربما جعل فيه سويق.
258
217
الدرس الحادي والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام والدعوة إلى الاسلام
جائعاً عطشانَ، فمضى حتّى جاز الجبل وخديجة معه، فقال عليّ: يا خديجة استبطني الوادي حتّى أستظهره، فجعل ينادي: يا محمّداه، يا رسول الله، نفسي لك الفداء في أيّ وادٍ أنت ملقى؟ وجعلت خديجة تنادي: من أحسّ لي النبيّ المصطفى؟ من أحسّ لي الربيع المرتضى؟ من أحسّ لي المطرود في الله؟ من أحسّ لي أبا القاسم؟ وهبط عليه جبرئيل عليه السلام فلمّا نظر إليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بكى، وقال: ما ترى ما صنع بي قومي؟ كذّبوني وطردوني وخرجوا عليّ، فقال: يا محمد ناولني يدك، فأخذ يده فأقعده على الجبل..... ونظر جبرئيل عليه السلام إلى خديجة تجول في الوادي، فقال: يا رسول الله ألا ترى إلى خديجة قد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟ ادعها إليك فاقرئها مني السلام، وقل لها: إن الله يقرئك السلام، وبشّرها أنّ لها في الجنّة بيتاً من قصب لا نصب فيه ولا صخب، لؤلؤاً مكللاً بالذهب، فدعاها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والدماء تسيل من وجهه على الأرض، وهو يمسحها ويردّها، قالت: فداك أبي وأمّي دع الدم يقع على الأرض، قال: أخشى أن يغضب ربّ الأرض على من عليها، فلما جنّ عليهم الليل انصرفت خديجة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام ودخلت به منزلها، فأقعدته على الموضع الذي فيه الصخرة، وأظلّته بصخرة من فوق رأسه، وقامت في وجهه تستره ببردها، وأقبل المشركون يرمونه بالحجارة، فإذا جاءت من فوق رأسه صخرة وقته الصخرة، وإذا رموه من تحته وقته الجدران الحيط، وإذا رمي من بين يديه وقته خديجة - رضي الله عنها - بنفسها، وجعلت تنادي: يا معشر قريش تُرمى الحرّة في منزلها؟ فلما سمعوا ذلك انصرفوا عنه..."[1].
كان هذا وصفاً لما جرى في ساعة من ساعات الأيام التي قضتها أم المؤمنين خديجة عليها السلام مع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى مثل هذي الساعة قِس ما سواها، وضمّ لذلك ما تختزنه من علمك بأنّ السيّدة خديجة عليها السلام وقفت طيلة حياتها المباركة بجانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تذبّ عنه كلّ ما يمسّه من سوء، وتصبِّره على ما يلقى من قومه من الأذى والتكذيب. ولا
[1] العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، ج8، ص242، نقلاً عن المنتقى للكازروني الشافعي.
259
218
الدرس الحادي والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام والدعوة إلى الاسلام
يغيبنّ عنك كثرة ما رجع إليها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهو مصاب برضوض وجروح من جراء اعتداءات عتاة قريش، وكيف صبرت وصابرت على مكابدة المحن والمصائب، ولم تكن لتزيدها هذه الأحوال إلّا صموداً، ولم تكن لتهبها تلك الأهوال إلّا قوةً وعزيمةً وثباتاً، وذلك ليستبين للناس صبرهما، ويعظم عند الله أجرهما، وليتعلّم الصادقون من دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويستهينون بما يعترضهم من المصاعب، وإن كان الله تعالى قادرًا على دفع كلّ ألوان الأذى عنهم.
حرص السيّدة خديجة على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
إنّ الذي يتتبّع ما نقله المحدّثون والمؤرّخون وأصحاب السيَر عن مخططات طواغيت قريش لقتل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ومحاولات اغتياله المتكرّرة يستطيع أن يخرج من ذلك بمجلّد ضخم إذا لم نقل بمؤلّف يقع في مجلدات عدّةٍ. والذين أشبعوا كتب التاريخ والسيرة بحثاً وتنقيباً يعلمون بأنّنا لم نبالغ في قولنا هذا. والحق أنّ الجريمة التي خطّط لها زبانية قريش وأرادوا تنفيذها ليلة الهجرة النبوية- وأفشلها الله تعالى بمبيت حيدرة الكرار على فراش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - لم تكن آخر محاولاتهم لتصفية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل تبعتها محاولات أخرى في المدينة قد تمّ التخطيط لها على تراب مكّة بجوار البيت الحرام.
لقد كان أبو طالب عليه السلام أيام الحصار في الشعب يأخذ الاحتياطات خوفاً من عتاة قريش "أن يغتالوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً أو سراً، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أخذ مضجعه أو رقد بعثه أبو طالب من فراشه، وجعله بينه وبين بنيه خشية أن يقتلوه"[1].
لكن إذا عرفنا حال أبي طالب خلال السنوات الثلاث من عمر الحصار الجائر، نتساءل: من هو إذاً صاحب اليد الطولى معهم في حماية الرسول الهاشميّ صلى الله عليه وآله وسلم وحياطته قبل ذلك؟ إنها مولاتنا الغرّاء خديجة الكبرى صلوات الله تعالى عليها، فقد كانت عليها السلام ومن اللحظات الأولى للبعثة الشريفة حريصةً على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى كلّ ما يتعلّق به
[1] محمد بن إسحاق، سيرة ابن إسحاق، ج2، ص141، وابن كثير، البداية والنهاية، ج4، ص208، طبعة:1، دار هجر.
260
219
الدرس الحادي والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام والدعوة إلى الاسلام
أشدّ الحرص[1]، حيث جاء في رواية: أنّها خرجت تلتمس رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بأعلى مكّة، ومعها غذاؤه، فلقيها جبريل في صورة رجل، فسألها عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فهابته وخشيت أن يكون بعض من يريد أن يغتاله، فلما ذكرت ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: "هو جبريل، وقد أمرني أن أقرأ عليك السّلام، وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب"[2]. تلك هي خديجة وذاك بعض من حالها إبان الدعوة ومجاهدتها مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل إعلاء كلمة الله عزّ وجلّ.
[1] أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ج8، ص102، ترجمة 11092.
[2] متن الحديث أخرجه جماعة من الحفاظ منهم أبو عبد الله الحاكم النيسابوري في المستدرك، ج3، ص185، وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأورده نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد، ج9، ص227.
261
220
الدرس الحادي والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام والدعوة إلى الاسلام
المفاهيم الأساسية
- كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الاسلام كلّ من آنس فيه الاستعداد لقبول الدعوة الحقّة، فأسلم خلال جهوده أكثر من أربعين نفراً من قريش وأبو ذرّ الغفاريّ.
- غمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببرّه وإحسانه أصحابه الذين قاطعهم ذووهم وكذا الفقراء من المؤمنين. وكان مال خديجة هو مصدر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الإنفاق، فكان يفكّ بمالها الغارم والعاني، ويحمل الكلَّ، ويعطي في النائبة، ويرفد فقراء أصحابه.
- خلال الدعوة السرية، كانت السيّدة خديجة عليها السلام الركن الوثيق الذي اعتمد عليه خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم في الكثير من الأعمال لا سيما مخاطبة المؤمنات السابقات والتواصل معهنّ.
- هيّأت السيّدة خديجة عليها السلام للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم البيت المريح الذي يجد فيه السكينة بعد المشقة، ورعت ذلك البيت المبارك وكل من يلوذ به، فشكّلت البيئة الأسرية المساندة والآمنة التي يحتاجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتحقيق أهداف رسالته، حيث كان صلى الله عليه وآله وسلم يلتقي بالمؤمنين سراً في دارها.
- عندما جاء وقت الجهر بالدعوة، اصطدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالكثير من الصوادم من قومه وأقاربه وقاسى الكثير من الأذى ابتداءً بالتكذيب والسخرية وصولًا إلى محاولات القتل. وكانت زوجته الشريفة خديجة عليها السلام تعلّم محبّي الحقّ كيف يكون الصبر من أجله، فعاشت معه صلى الله عليه وآله وسلم أيام المحنة ومرحلة الضيق، وكانت تلازمه وتؤازره في كلّ شدّة، ولا تضعف عن مناصرته.
- يروي لنا التاريخ حادثة مرّةً حصلت مع النبيّ والسيّدة خديجة عليها السلام حيث لحق بعض الجهّال المعاندين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدمونه بالحجارة، فوقته عليه السلام بنفسها وتلقّت الحجارة عنه وأنّبتهم حتّى انفكّوا وانصرفوا.
- كانت السيّدة خديجة عليها السلام تخاف دومًا على حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتخاف أن يتتبّعه أحد يبغي قتله، فكانت توصل له الطعام خفية وسرّاً إلى حيث هو ولا تُطلع أحداً يسألها عن مكانه.
262
221
الدرس الثاني والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
الدرس الثاني والعشرون:
السيّدة خديجة عليها السلام
من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى قصة حمل وولادة السيّدة خديجة السيّدةَ فاطمة عليها السلام.
- يشرح دور السيّدة خديجة عليها السلام إبّان حصار المسلمين في شِعب أبي طالب.
- يذكر حادثة وفاة السيّدة خديجة عليها السلام.
263
222
الدرس الثاني والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
ولادة السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام
بعد زواج السيّدة خديجة عليها السلام من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هجرنها نساء مكّة وكنّ لا يكلمّنها ولا يدخلن عليها ولا يتركن أحداً يدخل عليها، فما كان لها من رفيق ولا أنيس في غياب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المنزل. فلمّا حملت بالزهراء عليها السلام كانت إذا خرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من منزلها تكلّمها وهي في ظلمة أحشائها، وَكَانَتْ تَكْتُمُ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَدَخَلَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَوْماً فَسَمِعَ خَدِيجَةَ تُحَدِّثُ فَاطِمَةَ، فَقَالَ لَهَا: "يَا خَدِيجَةُ مَنْ تُحَدِّثِينَ؟" قَالَتِ: "الْجَنِينَ الَّذِي فِي بَطْنِي يُحَدِّثُنِي وَيُؤْنِسُنِي"، قَالَ: "يَا خَدِيجَةُ هَذَا جَبْرَئِيلُ يُبَشِّرُنِي أَنَّهَا أُنْثَى وَأَنَّهَا النَّسْلَةُ الطَّاهِرَةُ الْمَيْمُونَةُ وَأنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيَجْعَلُ نَسْلِي مِنْهَا وَسَيَجْعَلُ مِنْ نَسْلِهَا أَئِمَّةً وَيَجْعَلُهُمْ خُلَفَاءَهُ فِي أَرْضِه"[1].
وبعد أن تمّت أشهر حمل السيّدة خديجة وحضرتها الولادة، امتنعت نسوة قريشٍ عن مساعدتها وأرسلن إليها: "أَنْتِ عَصَيْتِنَا ولَمْ تَقْبَلِي قَوْلَنَا وَتَزَوَّجْتِ مُحَمَّداً يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ فَقِيراً لَا مَالَ لَهُ فَلَسْنَا نَجِيءُ ولَا نَلِي مِنْ أَمْرِكِ شَيْئاً".
فَاغْتَمَّتْ خَدِيجَةُ عليها السلام لذلك حيث تُركت وحيدةً في هذا الظرف الصعب، لكنّ الله عزّ وجلّ أبى إلّا أن يطيّب خاطرها ويكرمها مزيد تكريم، فأرسل إليها أَرْبَعَ نِسْوَةٍ سُمْرٍ طِوَالٍ كَأَنَّهُنَّ مِنْ نِسَاءِ بَنِي هَاشِمٍ فَفَزِعَتْ مِنْهُنَّ لَمَّا رَأَتْهُنَّ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: "لَا تَحْزَنِي يَا خَدِيجَةُ أَرْسَلَنَا رَبُّكِ إِلَيْكِ ونَحْنُ أَخَوَاتُكِ أَنَا سَارَةُ وَهَذِهِ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ وَهِيَ رَفِيقَتُكِ فِي الْجَنَّةِ وَهَذِهِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وهَذِهِ كُلْثُومُ أُخْتُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ بَعَثَنَا اللَّهُ إِلَيْكِ
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص594.
265
223
الدرس الثاني والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
لِنَلِيَ مِنْكِ مَا تَلِي النِّسَاء". فَجَلسن حولها فوَضَعَتْ فَاطِمَةَ طَاهِرَةً مُطَهَّرَةً فَلَمَّا سَقَطَتْ إِلَى الْأَرْضِ أَشْرَقَ مِنْهَا النُّورُ حَتَّى دَخَلَ بُيُوتَاتِ مَكَّةَ وَلَمْ يَبْقَ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَلَا غَرْبِهَا مَوْضِعٌ إِلَّا أَشْرَقَ فِيهِ ذَلِكَ النُّورُ...
وَقَالَتِ النِّسْوَةُ: "خُذِيهَا يَا خَدِيجَةُ طَاهِرَةً مُطَهَّرَةً زَكِيَّةً مَيْمُونَةً بُورِكَ فِيهَا وَفِي نَسْلِهَا"، فَتَنَاوَلَتْهَا فَرِحَةً مُسْتَبْشِرَةً وَأَلْقَمَتْهَا ثَدْيَهَا فَدَرَّ عَلَيْهَا، فَكَانَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام تَنْمو فِي الْيَوْمِ كَمَا يَنْمِي الصَّبِيُّ فِي الشَّهْرِ وَتَنْمو فِي الشَّهْرِ كَمَا يَنْمِي الصَّبِيُّ فِي السَّنَةِ[1].
السيّدة خديجة عليها السلام ومقدّمات الحصار
خاطب الله سبحانه وتعالى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾[2], فقام مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممتثلاً أمر ربّه عزّت آلاؤه، وكان كما وصفه الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "طبيب دوّار بطبّه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع من ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي، وآذان صمّ، وألسنة بكم، متتبّع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة..."[3].
ولمّا رأت قريش ذلك، وأنّ المؤمنين به يستهينون بكلّ الآلام والبلاء في سبيل دينهم وعقيدتهم، كشّرت عن أنيابها، واشتد البلاء على الذين آمنوا لكثرة ما لقوه من رؤوس الشرك وزبانيتهم. فلمّا رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما يصيب الذين آمنوا، وأنّه لا يقدر على أن يمنعهم ممّا هم فيه من العذاب بسبب الوضع العشائريّ السائد في مكة آنذاك، وحسد معظم عشائرها لبني هاشم، خاطب أصحابه قائلاً: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتّى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه"[4].
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص 594-595.
[2] سورة الشورى، الآية 7.
[3] عز الدين بن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج7، ص183.
[4] ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص321-322، وابن كثير، السيرة النبوية، ج2، ص4.
266
224
الدرس الثاني والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحبشة مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أوّل هجرة في الإسلام، ومن ثمّ تبعت هذه الهجرة بعد مدّة من الزمن هجرة ثانية قام بها قسم آخر من المسلمين المستضعفين إلى الحبشة، فلما رأت قريش أنّهم قد نزلوا أرضاً أصابوا بها أماناً من خلال حماية النجاشيّ لهم، وأن الإسلام فشا في القبائل، وبدأت دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلو شأنُها، وانتقل المسلمون إلى مرحلة الجهر بالتوحيد علانية طاش من قريش صوابها، فأجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثمّ بلغ ذلك عمّه أبا طالب عليه السلام، فجمع بني هاشم وبني المطّلب، فأجابوه وأعلنوا منعتهم للنبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهدّد أبو طالب بالحرب، فعرفت قريش أنه لا سبيل لها إلى النبيّ الهاشميّ صلى الله عليه وآله وسلم، "فاجتمعت قريش وكنانة في المحصب، حيث تقاسموا على الكفر[1]، وذلك ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، وتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب: "ألّا يزوّجوا إليهم، ولا يتزوّجوا منهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم شيئاً، ولا يكلّموهم، ولا يجالسوهم"[2].
وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهودهم ومواثيقهم، وعُلّقت هذه الصحيفة الظالمة في جوف الكعبة تأكيداً على التزام ما فيها إلى أن يُسلّم لهم بنو هاشم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليقتلوه ويمثّلوا به. وفي هذا الظرف العصيب كان للسيدة خديجة عليها السلام الدور المشرف في تفادي أضرار هذا الحصار، فلم تتردّد أمّ المؤمنين عليها السلام لحظةً واحدةً في ترك منزلها المريح والخروج مع زوجها العظيم إلى شعب أبي طالب، وتعيش مع النبيّ المختار صلى الله عليه وآله وسلم بين جبلَين وعرَين، وتوفّر من خلال وجودها هناك للمحاصرين معه مستلزمات الصمود، ولا بأس عندها في أن تفترش الحصباء وتلتحف السماء بجوار المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وتُعاني وإياه الحَرّ والقَرّ، وتكابد برفقته الجوع والفقر، وتعايش معه البلاء والضنك، وتتحمّل المشاقّ والمصاعب، ما دام ذلك كلّه بعين الله وفي سبيل طاعته ومرضاته.
[1] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، ج2، ص148، حديث 1590، باب: نزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة، طبعة: 1، دار طوق النجاة.
[2] محمد بن إسحاق، سيرة ابن إسحاق، ج2، ص147، وكل أصحاب السيَر الذين ذكروا حصار قريش لبني هاشم،...
267
225
الدرس الثاني والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
حصار بني هاشم في شعب أبي طالب
رأت قريش أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وبقية أصحابه الذين لم يغادروا مكّة قد استندوا إلى الركن الوثيق - مولانا أبي طالب عليه السلام - فكان لهم نِعم الكفيل. وسمعت قريش أقواله الفاصلة وأشعاره الواضحة التي أنشأها في منعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتهديده لقريش بالحرب، "ورأوا منه الجدّ وآيسوا منه، فأبدوا لبني عبد المطلب الجفاء، فانطلق بهم أبو طالب، فقاموا بين أستار الكعبة، فدعوا الله على ظلم قومهم لهم وفي قطيعتهم أرحامهم واجتماعهم على محاربتهم، وبتأوّلهم سفك دمائهم، فقال أبو طالب: اللهمّ إن أبى قومنا إلّا النصر علينا، فعجّل نصرنا، وحل بينهم وبين قتل ابن أخي، ثم أقبل إلى جمع قريش وهم ينظرون إليه وإلى أصحابه، فقال أبو طالب: ندعو بربّ هذا البيت على القاطع المنتهك للمحارم، والله لتنتهنّ عن الذي تريدون، أو لينزلنّ الله بكم في قطيعتنا بعض الذي تكرهون، فأجابوه إنّكم يا بني عبد المطلب لا صلح بيننا وبينكم، ولا رحم إلّا على قتل هذا الصابئ السفيه - فتيقّن أبو طالب أنّ قومه مصرّون على قتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم- ثم عمد أبو طالب فأدخل الشعب ابن أخيه، وبني أبيه، ومن اتّبعهم"[1].
ولأنّه ما أوذي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أذيةً قطّ إلّا وكان وقعها الأكبر على قلب أمّنا خديجة عليها السلام، فقد سارعت كعادتها للنهوض بمهمّة تأييد الرسالة ومساندة الصادق الأمين وعشيرته الأكرمين, فشاركته الجهاد المرّ، وبذلت مالها لترفد من في الشِّعب، وفَضّلت ضيق الحياة وخشونتها معهم على رغد العيش، وطيب النعمة في جوار عشيرتها بني أسد، وبقية بطون قريش الذين قطعوا عن المحاصرين كلّ مقوّمات العيش، ووضعوا عليهم الجواسيس والحرّاس، فلم يدعوا أحداً من الناس يُدخل عليهم طعاماً ولا شيئاً ممّا يرفق بهم، وكان المُحَاصَرون يخرجون من الشعب إلى الموسم، فكانت قريش تبادرهم إلى الأسواق، فيشترونها ويُغلونها عليهم، ونادى منادي الوليد بن المغيرة في قريش: "أيّما رجل وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه... وحولوا بينهم وبينه، ومن لم يكن عنده نقد فليشترِ وعليّ
[1] محمد بن اسحاق، سيرة ابن اسحاق = السير والمغازي، ج1، ص158-159.
268
226
الدرس الثاني والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
النقد، ففعلوا ذلك ثلاث سنين حتّى بلغ القوم الجهد الشديد، وحتّى سمعوا أصوات صبيانهم يتضاغون[1] من وراء الشعب"[2]، والتجأوا إلى أكل ورق الشجر ونبات الأرض.
وعلى الرغم من ذلك فقد واجه بنو هاشم، وبنو المطّلب، هذه الحرب الاجتماعية والاقتصادية بشجاعة وصبر، وأبوا أن يعطوا الدنيّة في هذا الامتحان الشديد. وفي جميل بلائهم وجليل عنائهم قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "فأراد قومنا قتل نبيّنا، واجتياح أصلنا، وهمُّوا بنا الهمومَ، وفعلوا بنا الأفاعيل، فمنعونا المِيرةَ[3]، وأمسكوا عنّا العَذْب، وأحلسونا الخوف، وجعلوا علينا الأرصاد والعيون، واضطرّونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب، وكتبوا علينا بينهم كتاباً لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يناكحونا ولا يبايعونا ولا نأمن فيهم حتّى ندفع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيقتلوه ويُمثّلوا به، فلم نكن نأمن فيهم إلّا من موسم إلى موسم، فعزم اللَّه لنا على منعه، والذبّ عن حوزته، والرمي من وراء حرمته، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب، وكافرنا يحامي به عن الأصل، فأمّا من أسلم من قريش بعدُ، فإنّهم ممّا نحن فيه أخلياء، فمنهم حليف ممنوع، أو ذو عشيرة تدافع عنه، فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف، فهم من القتل بمكان نجوة وأمن، فكان ذلك ما شاء اللَّه أن يكون"[4].
صور من مواقف خديجة عليها السلام
قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه وجليل خطابه: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[5].
أنفق المُحاصَرون في شعب أبي طالب كلّ ما يملكون، ثمّ مرّت عليهم الشهور والأيام
[1] يصيح أطفالهم ويصرخون بسبب الجوع، وأصواتهم تسمع من بعيد.
[2] محمد بن اسحاق، سيرة ابن اسحاق = السير والمغازي، ج1، ص159.
[3] الطعام والأرزاق التي كانت تُحمل، وتجلب من بلد إلى آخر، فيشتريها الناس لمعاشهم، وتتخذ منها المؤونة.
[4] عز الدين بن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج14، ص47+ ج15، ص77.
[5] سورة الحديد، الآية 10.
269
227
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
أكثر قساوةً من ذي قبل، وبالأخصّ بعد تضييق قريش للحصار الظالم ليتنازلوا عن موقفهم المبدئيّ تجاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
واشتدّت الحاجة حينئذٍ إلى ثروة السيّدة خديجة الكبرى عليها السلام، حيث قَلَّ الطعامُ، ونقص الزادُ، وجهد المسلمون وحلفاؤهم من جرّاء سياسات قريش التي اتّبعتها لإدارة هذا الحصار الخانق. وفي هذا الظرف العصيب يمكننا أن نُدرك شيئاً ممّا أراده مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "ما نفعني مال قطّ مثل ما نفعني مال خديجة"[1].
وبوسع المرء أن يقدّر خطورة الموقف وصعوبته إذا عرف أنّ هذا الحصار الجائر قد استمرّ على هذا النحو لثلاث سنين بالتمام والكمال كانت فيها أموال السيّدة خديجة عليها السلام تُستثمر في معركة الحياة أو الموت هذه لتجهيز الممكن من الطعام ولو بأغلى الأثمان بغية إنقاذ حياة المحاصرين والمستضعفين من المسلمين حيث لم يكن يصل إليهم شيء إلّا سراً مستخفياً به من أراد صلتهم من قريش. ويظهر من بعض الأخبار أنّ أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام استعانت بابن أخيها التاجر حكيم بن حزام بن خويلد لتزويد المحاصرين بالقمح[2]، وأنّه كانت تأتيه العير يحمل عليها الحنطة من الشام، فيقبلها الشعب ثم يضرب أعجازها، فتدخل عليهم فيأخذون ما عليها من الحنطة[3].
وذُكِرَ أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام، ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمّته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ومعه في الشعب، فتعلّق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ واللّه لا تبرح أنت وطعامك حتّى أفضحك بمكّة، فجاء أبو البختري بن
[1] الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الأمالي، ص468، المجلس السادس عشر، بسنده إلى عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه -أبي رافع مولى رسول الله-، عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
[2] علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر الدمشقي، تاريخ دمشق، ج15، ص104.
[3] هذه إحدى الطرق التي كان يعتمدها حكيم بن حزام لإدخال الميرة إلى شعب أبي طالب، ومن تَتَبُّع ما ورد في سيرته يعلم أن الرجل كان تاجراً حاذقاً ومخضرماً، ولكن المعروف من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يكن يقبل من المشركين شيئاً إلا بثمنه، فذات مرة اشترى حكيم حُلة ابن ذي يزن، وأهداها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبلها، وقال: "إني لا أقبل هدية مشرك" قال حكيم، فجزعت جزعاً شديداً حين زهد هديتي، فبعتها بسوق النبط من أول سائم سامني، ودسّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة، فاشتراها، وقد تأخر إسلام حكيم بن حزام إلى يوم فتح مكة، وطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين مائتين من الإبل، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سهم المؤلفة قلوبهم، ووجهه بالابتعاد عن الجشع، يراجع المصدر السابق، ج15، ص102- 110.
270
228
الدرس الثاني والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
هشام بن الحارث بن أسد، فقال: ما لك وله؟ قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال له أبو البختري: طعام لعمّته عنده بعثت إليه أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلّ سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتّى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي بعير، فضربه فشجّه ووطئه وطئاً شديداً، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم"[1].
"وخرج العباس بن عبد المطّلب من شعب أبي طالب ليشتري طعاماً، فأراد أبو جهل أن يسطو به، فمنعه الله منه، وأرسلت خديجة بنت خويلد إلى زمعة بن الأسود: إنّ أبا جهل يمنعنا من ابتياع ما نريد، فأسمع أبا جهل كلاماً"[2]. وكان زمعة فيما بعد ممّن قاموا في وجه أبي جهل وأعوانه للمساهمة بفكّ ذلك الحصار الظالم الذي لم يستطع المُحَاصِرِينَ فيه صدَّ المُحَاصَرين وثنيهم عن دين الله، ولا عن نصرة رسول الله رغم موت جماعة منهم"[3].
وبعد أن سطّر بنو هاشم وبنو المطلب بمقاومتهم أروع صفحات الصمود انتهى ذلك الحصار الرهيب بإبطال صحيفة الظلم والجور، وخرج المُحاصَرون بجباه مرفوعة أعزّة منتصرين يتقدّمهم النبيّ المصطفى صلوات الله عليه.
على سرير الاحتضار
انتهى الحصار الذي فرضته قريش على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وكل من حامى دونه، وكان ذلك على القول الراجح في المحرم من السنة العاشرة للبعثة النبوية. وفي أواخر تلك السنين العشر الشداد توفّي سيد البطحاء أبو طالب، وكان على سرير الاحتضار شخص آخر عزيز جدّاً عند المؤمنين، ذلك كان شخص سيّدتنا ومولاتنا خديجة عليها السلام، التي لم تلبث إلّا أياماً
[1] محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج1، ص550، وأبو نعيم الأصبهاني، دلائل النبوة، ج1، ص272، طبعة:2، دار النفائس، بيروت، وابن كثير، البداية والنهاية، ج3، ص88، وشمس الدين الذهبي، سيّر أعلام النبلاء، ج1، ص181.
[2] أحمد بن يحيى البلاذري، أنساب الأشراف، ج1، ص235.
[3] البلاذري، أنساب الأشراف، ج1، ص234، بسنده إلى مجاهد عن عبد الله بن عباس قال: "حُصرنا في الشعب ثلاث سنين، وقطعوا عنا الميرة، حتى إن الرجل ليخرج بالنفقة فما يُباع شيئاً، حتّى مات منا قوم".
271
229
الدرس الثاني والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
معدودة من شهر رمضان المبارك[1] حتّى اعتلّت وطاف بها شبح الموت واشتدّ بها المرض، فكانت طريحة الفراش، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جانبها يرعاها ويقوم على خدمتها، ويخفّف عنها ويذكّرها بما وعدها الله به في الجنّة من نعيم، ويحوطها بعطفه وحنانه وشفقته ورأفته، ويؤنس وحشتها ويقف إلى جوارها لحظة الاحتضار.
وما أصعبها على قلبه الشريف وهو يرى أن وداعها قد حان، وأنّها الآن أوشكت على الفراق الذي لا بدّ منه. وقد رُويَ أنّه كان يخاطبها في تلك اللحظات: "أقدمي خير مقدم يا خديجة، أنت خير أمّهات المؤمنين وأفضلهنّ، وسيدة نساء العالمين إلاّ مريم وآسية امرأة فرعون. أسلمتُك يا خديجة على كره منّي، قد جعل الله للمؤمنين بالكره خيراً كثيراً. الحقي يا خديجة بأُمّك حواء في الجنّة، وبأُختك سارة أُمّ إسحاق التي آمنت بالله جلّ جلاله.... أقدمي يا خديجة على اُختك اُمّ موسى وهارون التي ربط الله على قلبها بالصبر لتكون من المؤمنين..... وأقدمي على اُختك كلثم بنت عمران اُخت موسى وهارون....، وأقدمي على اُختيك يا خديجة، على آسية ومريم، لا مثيل لهما من نساء العالمين، وقد جعلهما الله مثلاً للذين آمنوا من الرجال والنساء، يقتدي بهما كلُّ مؤمن ومؤمنة..."[2].
وبينما الحال كذلك فاضت نفس أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام، بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأسلمت الطاهرة روحها لبارئها لتمضي راضية مرضيّة مبشّرة ببشائر الصادق الأمين لها: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾[3].
وبعد وفاة خديجة عليها السلام كانت السيّدة فاطمة عليها السلام تلوذ بأبيها صلى الله عليه وآله وسلم وتدور حوله،
[1] أجمع المؤرّخون وأصحاب السيَر على أن وفاة السيدة أم المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام كانت بعد فكّ الحصار وخروجها إلى دارها، واتفقوا على أنها توفيت وأبو طالب عليه السلام في عام واحد سُمّي بعام الحزن وعُرف به في السيرة والتاريخ، لكنهم اختلفوا في مدة بقائها على قيد الحياة بعد انتهاء الحصار، والذي عَيّن ميقاتاً لوفاتها قد قال: توفيت خديجة لعشر خلون من شهر رمضان في السنة العاشرة للبعثة النبوية قبل الهجرة بثلاث سنوات، وهو القول الأشهر في وفاتها عليه السلام.
[2] الموفق بن أحمد المكي أخطب خوارزم، مقتل الحُسين عليه السلام، ص 52-54، من جملة حديث طويل يتضمن دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة عليها السلام حينما حضرتها الوفاة، وقد رواه المصنف بسند ضعيف إلى أبي أمامة عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن له شواهد عديدة رواها بعض الحفاظ كأبي القاسم الطبراني في معاجمه.
[3] سورة القمر، الآيتان 54-55.
272
230
الدرس الثاني والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
وتقول: "أبه أين أمّي؟" فنزل جبرئيل عليه السلام، فقال له: "ربّك يأمرك أن تقرئ فاطمة السلام، وتقول لها: إنّ أمّك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وعمده ياقوت أحمر، بين آسية ومريم بنت عمران"، فقالت فاطمة عليها السلام: "إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام"[1].
وحزن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على فراق زوجته الصابرة الوفية حزناً يفتّت الأكباد، وكانت مصيبته بفقدها من أشدّ المصائب التي مرّت به. وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتغسيل أمّ المؤمنين وتكفينها "فغسّلت خديجة أم أيمن وأم الفضل زوجة العباس"[2].
وشيّعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن بقي من الصحابة في مكّة، وبنو هاشم وبنو أسد، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبرها، وكان أول قبر ينزل إليه، ووضعها في لحدها بيديه الشريفتين في الحجون مقبرة أهل مكة[3]، ورثاها وأبا طالب مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام، فقال:
أَعيْنيّ جُوداً بارَكَ اللَهُ فيكُما
عَلى هالِكيْنِ لا تَرى لَهُما مِثلا
وَسَيدَةِ النِسوانِ أَوَّل مَن صَلّى
عَلى سَيِّدِ البَطحاءِ وَابنِ رَئيسِها
مُهَذَبّةٌ قَد طَيَّبَ اللَهُ خَيمَها
مُبارَكَةٌ وَاللَهُ ساقَ لَها الفَضلا
لَقَد نَصَرا في اللَهِ دينَ مُحَمَّدٍ
عَلى مَن بَغى في الدينِ قَد رَعَيا إِلاَّ[4]
[1] أبو القاسم الطبراني، المعجم الأوسط، ج1، ص139، حديث رقم 440، بسنده عن مولاتنا الطهر البتول فاطمة عليها السلام، والشيخ الطوسي، الأمالي، ص175، المجلس السادس، بسنده عن حفيدها الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام.
[2] تقي الدين المقريزي، إمتاع الأسماع، ج6، ص30، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[3] قال محمد بن عبد الله الأزرقي: قال جدّي: لا نعلم بمكّة شعباً يستقبل ناحية من الكعبة ليس فيه انحراف إلاّ شعب المقبرة، فإنّه يستقبل وجه الكعبة كلّه مستقيماً،... وساق بعضاً مما ورد في السنة مما يدل على منزلة هذا المكان، وتفضيله على كثير من بقاع مكة وغيرها من الأراضي، يراجع أخبار مكة، ج2، ص209، طبعة: دار الأندلس للنشر، بيروت
[4] ديوان أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، جمع وترتيب عبد العزيز الكرَم، ص85، طبعة: 1.
273
231
الدرس الثاني والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
ومن كرامة أم المؤمنين خديجة عليها السلام على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لم يتزوّج امرأة قبلها، وجاءه منها أولاد عدّة، ولم يتزوّج عليها قط، إلى أن قضت نحبها، فوجدَ لفقدها، فإنها كانت نعم القرين[1]. وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار، وفيه دليل على عظم قدرها عنده، وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها، فسلام الله على روحها الطاهرة حيّةً وميتةً.
[1] شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج2، ص110.
274
232
الدرس الثاني والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
المفاهيم الأساسية
- بعد أن تمّت أشهر حمل السيّدة خديجة وحضرتها الولادة، اغْتَمَّتْ خَدِيجَةُ لامتناع نساء قريش عنها، فأرسل الله إليها من الجنّة سارة وآسية ومريم وكلثوم ليقمن بأمرها، ثمّ ولدت فاطمة عليها السلام ونطقت بالشهادتين.
- بعد أن ألحقت قريش الأذى بالمسلمين بشكلٍ كبير أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة للحفاظ على حياتهم والأمن على أنفسهم، ففعلوا.
- لمّا رأت قريش أن عود الاسلام قد اشتدّ وبدأ المسلمون بنشر عقائدهم بشكلٍ علنيّ، اتّخذت قرارًا بمحاصرة بني هاشم والمسلمين حتّى يسلّموا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فتعاقدوا على أن لا يزوّجوهم ولا يتزوّجوا منهم ولا يبتاعوا منهم ولا يبيعوهم فقاطعوهم اقتصاديًّا واجتماعيًّا فلجأوا إلى شعب أبي طالب.
- صمد المسلمون أمام حصار قريش القاسي، وفضّلت السيّدة خديجة عليها السلام الصمود مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الشعب على رغد العيش مع قبيلتها، وقد كان لها ولمالها الدور الكبر في الحفاظ على حياة المسلمين من الموت جوعًا.
- استمر الحصار ثلاث سنين. وقد استعانت السيّدة خديجة عليها السلام بابن أخيها التاجر حكيم لتزويد المحاصرين بالقمح.
- لمّا خرج العباس بن عبد المطلب ليشتري طعاماً، أراد أبو جهل أن يسطو به، فمنعه الله منه، وأرسلت خديجة إلى زمعة أن يُسمع أبا جهل كلاماً بسبب أعماله.
- انتهى الحصار الذي فرضته قريش على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في السنة العاشرة للبعثة النبوية، وفي أواخر تلك السنين توفّي أبو طالب عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
- لم تلبث مدّة طويلة حتّى خيّم الحزن على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرّة أخرى، إذ صارت خديجة عليها السلام طريحة الفراش ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جانبها يرعاها ويقوم على خدمتها، إلى أن توفّيت.
275
233
الدرس الثاني والعشرون: السيّدة خديجة عليها السلام من ولادة السيّدة فاطمة عليها السلام إلى الوفاة
- حزن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على فراق زوجته الصابرة الوفية حزناً يفتّت الأكباد، وكانت مصيبته بفقدها من أشدّ المصائب التي مرّت به، ثم شيّعها ودفنها في الحجون.
276
234
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
الدرس الثالث والعشرون:
السيّدة خديجة عليها السلام والنبيّ محمد
صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف مكانة السيّدة خديجة في قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
- يشرح بعض المواقف التي بيّن فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم محبّته لخديجة عليها السلام.
- يذكر بعض المواقف التي بيّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيها عرفانه بجميل خديجة عليها السلام.
277
235
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
تمهيد
إنّ للسيدة أم المؤمنين خديجة مكانة مرموقة ومنزلة رفيعةً عند الله تعالى. وقد تجلّت بوضوح الأدوار العظيمة الذي قامت بها أمّ المؤمنين الكبرى منذ أول يوم نزل عليه الوحي الإلهيّ مؤذناً بنشر نور الرسالة الخاتمة. واستمرّت عليها السلام تحيا بحياة الرسالة المحمدية وتستهين في سبيلها بكلّ المصاعب والمحن التي واجهتها. وقد بذلت في هذا الطريق كلّ ما أنعم الله عليها به.
وهذا يبيِّن مدى التفاوت بينها وبين باقي أمّهات المؤمنين، فخديجة عليها السلام بذلت للإسلام كلّ ما تملك يوم كان الإسلام وحيداً، بينما احتجّت أمّهات المؤمنين الأخريات على النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن عمّت كلمة الإسلام جميع البقاع، وطالبن بزيادة النفقة وتوسيع المعيشة عليهنّ. وهذا الفارق وغيره الكثير من الفوارق جعل مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دائم الحنين إلى خديجة عليها السلام حتّى آخر يوم من حياته الشريفة، فكان صلى الله عليه وآله وسلم دائم الذكر لها والثناء والترحّم عليها، وأبقى ذكراها العطرة حيّةً في روحه وفي وجدانه، ولم تستطع أيّ من زوجاته أن تداني مكانتها في نفسه، وظلّ يحفظ لها إخلاصها وإيمانها ومواقفها، ويشكر لها ولاءها ومواساتها إلى آخِر عمره الشريف.
والحقّ أنّ هذه المنزلة السامية لأمّ المؤمنين خديجة عليها السلام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّما كانت باستحقاق ظاهر لا يخفى حيث تفرّدت عن جميع نساء زمانها في اتّصافها بكلِّ فضل وفضيلة. وقد تمّت لها الكمالات الباهرة، وامتدّت أنوارها المتكاثرة لتضيء سماء الإسلام وأهله.
279
236
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
كثرة ذكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للسيّدة خديجة عليها السلام
تنقل لنا الأخبار بعضاً ممّا نُقل عن حالات وفائه صلى الله عليه وآله وسلم لأمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام. وكفى بذلك تقريرًا لهذه الحقيقة وتأكيدها، فقد رعى خديجة حيّةً وميتةً، وقام بعد موتها بكلّ ما يعلم أنّه يدخل السرور على قلبها المبارك كما لو أنّها كانت ما تزال على قيد الحياة.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يُكرم أهلها وذويها وصديقاتها، بِرَّاً بها، وكان يمضي عهدها القديم بعد موتها، ويسير بسيرتها المحمودة في علاقتها مع أهلها وخلائلها وجيرانها ومعارفها تماماً كما لو أنّها معهم حاضرة.
ولم يُعرف عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه حزن على أحد قطّ أشدّ من حزنه على فراق أم المؤمنين خديجة عليها السلام، ولا أكثر من ذكر أحد قطّ بعد وفاته كما كان يكثر من ذكر أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام، يؤكد ذلك ما روي في صحيح أخبار سيرته وأحواله حيث كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها[1] "ولم يكن يسأم من كثرة الثناء عليها والاستغفار لها"[2].
ولم يكن لسانه الشريف يفتر عن الدعاء لها وتذكّر جميلها وحقوقها عليه. والمتتبّع للأحاديث التي وردت في وصف أحوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام يرى بوضوح كيف أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يملّ من ذكر حبيبته خديجة ومآثرها، فيُعلي شأنَها ويحفظ لها وُدَّها، ويشكر صُحبتَها، ووفاءها وأياديها البيضاء الحانية على الإسلام وأهله.
ولا شكّ أنّ كثرة ذكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام تدلّ على كثرة محبّته لها، فإنّ من أحبّ شيئاً أكثر من ذكره. وهذا من جملة الأسباب التي جعلت إحدى
[1] محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ، الشريعة، ج5، ص2193، حديث رقم 1681، باب ذكر غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة رضي الله عنها، وحسن ثنائه عليها، وابن عبد البر القرطبي، الاستيعاب، ج4، ص1824، ترجمة رقم 3311، وابن حجر العسقلاني، الإصابة، ج8، ص103، ترجمة رقم 11093، وابن الأثير، أسد الغابة، ج6، ص84، ترجمة رقم 6867.
[2] الطبراني، المعجم الكبير، ج23، ص13، حديث رقم 21، مناقب خديجة رضي الله عنها.
280
237
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
زوجات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تغار منها مع أنّها لم تجتمع هي وإيّاها في مكانٍ واحدٍ، أو تشترك هي وإياها في رسول الله حال حياتها، ومع ذلك غارت من السيّدة خديجة الكبرى لكثرة ما كانت تسمع من ثناء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليها، وقد صرّحت بذلك فقالت: "ما غرت على امرأة لرسول الله كما غرت على خديجة لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياها وثنائه عليها[1].
وقالت أيضاً: "ما غرت على أحد من نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثمّ يقطعها أعضاء، ثمّ يبعثها في صدائق خديجة، فربّما قلت له: "كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة"، فيقول: "إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد"[2].
وفي رواية أنّ أمّهات المؤمنين اجتمعن ذات مرّة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأحدقن به وقلن: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله قد اجتمعنا لأمر لو أنّ خديجة في الأحياء لقرّت بذلك عينها. قالت أم سلمة: فلما ذكرنا خديجة بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: "خديجة، وأين مثل خديجة؟ صدقتني حين كذبني الناس، وآزرتني على دين الله، وأعانتني عليه بمالها. إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن أبشّر خديجة ببيت في الجنة من قصب الزمرّد لا صخب فيه ولا نصب"، قالت أم سلمة: فقلنا: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلّا وقد كانت كذلك غير أنّها قد مضت إلى ربّها، فهنّأها الله بذلك، وجمع بيننا وبينها في درجات جنّته ورضوانه ورحمته[3].
[1] كانت تغار من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكن كانت تغار من خديجة أكثر، وقد بينت سبب ذلك، وأنه لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياها...، وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة، وقال القرطبي: مرادها بالذكر لها مدحها والثناء عليها. قلت (ابن حجر): وقع عند النسائي من رواية النضر بن شميل عن هشام -عن أبيه عن عائشة-: "من كثرة ذكره إياها وثنائه عليها"، فعطف الثناء على الذكر من عطف الخاص على العام، وهو يقتضي حمل الحديث على أعم مما قاله القرطبي، وقولها: "وأمره الله أن يبشرها إلخ" وهو أيضاً من جملة أسباب الغيرة، لأن اختصاص خديجة بهذه البشرى مشعر بمزيد محبة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها، ووقع عند الإسماعيلي من رواية الفضل بن موسى عن هشام بن عروة بلفظ: "ما حسدت امرأة قط ما حسدت خديجة حين بشرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيت من قصب". يراجع ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ج7، ص136.
[2] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، ج3، ص1389، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة، حديث رقم 3607.
[3] الموفق بن أحمد البكري الحنفي الخوارزمي، المناقب، الفصل العشرون، ج1، ص350، طبعة:2، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، وعلي بن عيسى الإربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج1، ص360، طبعة:1، بني هاشمي، تبريز.
281
238
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
والمتدبّر في ما قدمناه يلحظ كيف كانت أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام تملأ حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد مماتها. ولكم أن تتصوّروا والحال هذا كيف كانت في حياتها صلوات الله عليها. هذا من جهة، ومن جهة ثانية نجد أن النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلال قوله: "خديجة، وأين مثل خديجة"، ومن كثرة ذكْرَه وثنائه عليها، وإشادته بفضلها ومكانتها، كأنما يريد لفت نظر المرأة المسلمة إلى الأسوة الحسنة والقدوة العظيمة التي ينبغي لها أن تقتدي بها في كلّ مجالات حياتها.
حبّ خديجة عليها السلام رزق من الله
أحبّ مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيدة النساء خديجة عليها السلام وأحبته، وكان إخلاصها الفريد، وإيمانها العظيم، وحبها الفياض حرياً بأن يقابله النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بما يستحقّ من الحبّ والإخلاص والتكريم والوفاء. وهذا ما حصل بالفعل، فقد بلغ من حبّه لزوجه خديجة الكبرى عليها السلام، وعظيم مكانتها في نفسه الطاهرة أن لا يفارقه حبّها حتّى بعد موتها، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجهر بذاك الحبّ العظيم ويفتخر به، ويُعدّه من فضل الله تعالى عليه، ورزقه المقسوم له، وقد تجلّى التعبير النبويّ عن ذلك مرّاتٍ ومرّاتٍ فكان يقول: "إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا"[1].
وهذا كلامه صلى الله عليه وآله وسلم بعين لفظه، فتأمل قوله: "رُزقت"- ولم يقل أحبّها- تجد فيه ما فيه من غاية التعظيم ونهاية التفخيم، وليس في لغات البشر كلّها أدلّ من هذا الحديث على المكانة السامقة والمنزلة الأثيرة للسيدة أم المؤمنين خديجة عليها السلام في نفس النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث اعتبر أنّ حبّها رزق الله إليه قد أُعطيه، وطُبع عليه. ومن البديهيّ وحيث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو إمام الشاكرين، أن يُحدث للوهّاب شكراً على رزقه الكريم وعطائه العظيم. وهذا ما لا يعلم مبلغه إلّا الله عزّت آلاؤه.
[1] مُسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مُسلم، ج4، ص1888، حديث رقم 75-2435، باب:12- فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، طبعة: دار إحياء التراث العربي، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
282
239
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
على حبّ أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام
أحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيّدتنا خديجة عليها السلام، فكان من تبعات حبّه لها أن أحبّ من يحبّها، وأحبّ من كانت هي تحبّه، ولا غرابة فإنّ مَحْبُوبَ الْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ، وما روي عن عائشة خير شاهدٍ على ذلك، فإنّها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذبح الشاة يقول: "أرسلوا إلى أصدقاء خديجة". وصرّح قائلاً يوماً: "إنّي لأحبّ حبيبها"[1].
وروى أنس بن مالك فقال: كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا أُتِيَ بالشَّيء[2] يقول: "اذْهَبُوا بِه إلى فُلانَةٍ، فَإنَّها كَانَت صَدِيقةَ خَدِيْجةَ، اذْهَبُوا بِه إلى فُلانَةٍ، فَإنَّها كانت تُحِبُّ خَدِيّجةَ"[3].
لقد كان حبّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأمّنا خديجة عليها السلام واضحاً جلياً يعرفه كلّ من صحب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من خلال تعلّق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الدائم بذكرها، وإكرام كلّ ما يمتّ إليها بصلة من أجلها. وعلى الرغم من أنّه تزوّج بعد وفاتها عليها السلام بنسوةٍ عدّة إلّا أنّ السيّدة خديجة عليها السلام بقيت دائماً هي الأقرب إلى روحه، ومَن أجدر منها بأن تحتلّ في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي حياته مكان الصدارة والقرب؟
ولسائلٍ أن يسأل: لماذا يصرّح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحبّ ويجهر به؟ أو لماذا لم يخفِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حبّه الشديد لخديجة عليها السلام حتّى لا تشعر نساؤه بكلّ تلك الغيرة؟ ولماذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُكثر ذكر خديجة ويثني عليها كلّ ذلك الثناء؟
والجواب عنه أنّ الأمر مع أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام يختلف، فهي أعظم أمهات المؤمنين قدراً، وكثرة ذكرها، والتحدّث عن أفضالها ومآثرها هما من لوازم الدين الذي يجب تبليغه للأمّة حيث إنّها وزيرة الصدق في الإسلام والشخص الثاني فيه، ونبيّ الإسلام يريد لفت نظر المرأة المسلمة إلى الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة التي ينبغي لها أن تقتدي بها، وعدم التحدّث عن أمّ المؤمنين خديجة وخصالها الحميدة ومناقبها المجيدة، وجهدها وجهادها يكون من باب كتمان العلم الذي نُهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه.
[1] الحافظ ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ج8، ص103، ترجمة رقم 11093.
[2] مبنيّ للمجهول، أي: أتاه أحد بهديّة.
[3] محمد بن إسماعيل البخاري، الأدب المفرد، ج1، ص90، حديث 232، طبعة:3، دار البشائر الإسلامية، بيروت، وأبو بشر الدولابي، الذرية الطاهرة، ج1، ص41، حديث رقم 40، والحاكم، المستدرك، ج4، ص193، حديث رقم 7339.
283
240
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
نغمة شبيهة بصوت خديجة عليها السلام
تظهر لنا صفحة من صفحات حياة النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في وفائه لأم المؤمنين خديجة الكبرى من خلال تأثّره إذا سمع صوتاً يشبه صوتها. فقد رويَ عن إحدى زوجاته أنّها قالت: "استأذنت هالة بنت خويلد، أخت خديجة، على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعرف استئذان خديجة، فارتاح لذلك - حيث تذكّر صفة استئذان مولاتنا خديجة لشبه صوت هالة بصوت السيّدة خديجة، فهشّ لمجيئها وسُرّ بها، فقد ذكّرته فجأة بصوت أحبّ الناس إلى قلبه -، فقال "اللهمّ هالة بنت خويلد"[1].
وفي لفظ الرواية التي أخرجها البخاري فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك، وقال: "اللهم هالة"[2]. وهذا يدلّ على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم ترك القيلولة وأسرع للقاء هالة بنت خويلد، وقد تغيّر حاله من السرور الذي حصل له، وذلك لِما وضع الله لخديجة في قلبه من المحبة، وأصلُ هذا كلّه: أنّ من أحبّ محبوباً أحبَّ محبوباته، وما يتعلّق به وما يشبهه، وما يذكّره به.
حفظ عهد خديجة عليها السلام
من خلال حفظ النبيّ الأكرم لعهد أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام يعلمنا صلى الله عليه وآله وسلم حسن الودّ ورعاية حُرْمَة الصاحب والعشير وَلَو كان مَيتاً، كما يحثّنا على الاحتفاظ بالفضل لأهل الفضل، وبالمعروف لأهل المعروف، وتذكّر أصدقاء الماضي وعدم نسيانهم.
وفي هذا السياق ورد عن إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّها قالت: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة، فأُتيَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطعام فجعل يأكل من الطعام، ويضع بين يديها، فقلت: يا رسول الله لا تغمر يديك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن هذه كانت تأتينا أيام خديجة، وإنّ حسن العهد أو حفظ العهد من الإيمان"[3].
[1] مُسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، صحيح مُسلم، ج4، ص1889، حديث رقم 78-2437، باب:12- فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.
[2] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، حديث رقم 3821، باب تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها.
284
[3] أبو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ج23، ص14، حديث رقم 23، باب: مناقب خديجة رضي الله عنها.
241
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخلت عليه امرأة كانت تدخل على داره أيام خديجة عليها السلام سُرّ لرؤيتها. ومن المرويّ في هذا عن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهو عندي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أنت؟" قالت: أنا جثامة المزنية، فقال: "بل أنت حسّانة المزنية. كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟" قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قُلتُ: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: "إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان"[1].
رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذمام خديجة عليها السلام
كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا وجد من بعض أزواجه خروجاً عن القدر الذي يُعذرن فيه يوقفهنّ على أخطائهنّ ويعاتبهنّ وربّما هجرهنّ. ومن الشواهد على ذلك ما روته إحدى زوجاته، فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثناءٍ عليها، واستغفارٍ لها، فذكرها يوماً، فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوّضك الله من كبيرة السنّ، قالت: فرأيته غضب غضباً، أسقطت في خلدي، وقلت في نفسي: اللهمّ إن أذهبتَ غضب رسولك عنّي لم أعد أذكرها بسوء، فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما لقيت قال: "كيف قلت؟! والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، ورزقت منها الولد...". قالت: فغدا وراح عليّ بها شهراً"[2]. وفي هذا الحديث بيان واضح في أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان راعياً لذمام أمنّا خديجة وحافظاً لعهدها.
وهناك ما يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينافح عن خديجة عليها السلام في القول فقط بل كان يترجمه إلى أفعال، فقد روى أبو عبد الله بن أبي نجيح قال: أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جزور ولحم، فأخذ عظماً منها فتناوله الرسول بيده، فقال له اذهب به الى فلانة، فقالت له إحدى زوجاته: لمَ غمرت يدك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن خديجة أوصتني بها"، فغارت
[1] محمّد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج1، ص62، ح 40، كتاب الإيمان.
[2] أبو بِشْر محمد بن أحمد الأنصاري الدولابي الرازي، الذرية الطاهرة، ج1، ص31، حديث رقم 19، طبعة:1، الدار السلفية، الكويت، وأخرجه بلفظ قريب أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج6، ص117+ ص150-154، وكذا رواه الطبراني، المعجم الكبير، ج23، ص13، حديث رقم 21، مناقب خديجة رضي الله عنها، وابن عساكر، تاريخ دمشق، ج3، ص195.
285
242
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
وقالت: لكأنّه ليس في الأرض امرأة إلّا خديجة[1]، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضباً، فلبث ما شاء الله، ثم رجع فإذا أم رومان، فقالت: يا رسول الله ما لك ولفلانة إنها حدث، وأنت أحق من تجاوز عنها، "فأخذ بشدق عائشة"[2]، وقال: "ألست القائلة كأنّه ليس على الأرض امرأة إلّا خديجة؟! والله لقد آمنت بي اذ كفر قومك، ورُزقت منّي الولد وحرمتموه"[3].
وفي مرة أخرى تجرّأت إحدى زوجاته بالقدح بخديجة عليها السلام مرّة أخرى فقالت له صلى الله عليه وآله وسلم: "وهل كانت إلا عجوزاً أبدلك الله خيراً منها، - تعني نفسها-؟"، فغضب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لها: "لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء"[4].
والمتدبّر في هذه الكلمات يلاحظ أنّها من جوامع الكلم التي تدلّ على جلالة قدر السيّدة خديجة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبيّن عظيم دورها في تخفيف آلام الدعوة وشدائدها عن خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم. كما أنّ في هذا الحديث بياناً لعظِم فضلها، وإلى أي مدى عرف لها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قدرها ومنزلتها فى حياتها، وحفظ لها ودّها وعهدها بعد وفاتها، فصلوات الله وسلامه عليها، وجزاها بفضله وكرمه عن دينه ونبيِّه خير الجزاء.
[1] أي: كأن خديجة أنستك النساء جميعاً، فأصبحت لا ترى غيرها في هذه الدنيا.
[2] وفي رواية مجيء حسانة المزنية: فلما ذكر خديجة قلت: قد أبدلك الله من كبيرة السن حديثة السن، "فشدقني"، يراجع محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج1، ص426، طبعة:1، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض.
[3] محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء، المدني، سيرة ابن إسحاق = السير والمغازي، ج1، ص244، وأبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، الروض الأنف، ج2، ص424، طبعة:1، دار إحياء التراث العربي، 1412 ه، بيروت، والموفق بن أحمد المكي أخطب خوارزم، مقتل الحُسين عليه السلام، ص50-51، ونور الدين علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي، السيرة الحلبية، ج3، ص440، طبعة:2، دار الكتب العلمية، بيروت.
[4] محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ، الشريعة، ج5، ص2193، حديث رقم 1681، باب ذكر غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة رضي الله عنها، وحسن ثنائه عليها، وابن عبد البر القرطبي، الاستيعاب، ج4، ص1824، ترجمة رقم 3311، وأحمد بن حنبل، المسند، ج6، ص117، حديث 24908، طبعة: مؤسسة قرطبة، القاهرة، وقال محققه شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح وهذا سند حسن في المتابعات، ورواه ابن حجر في الإصابة، ج8، ص103، ترجمة رقم 11093، وابن كثير، البداية والنهاية، ج3، ص128، طبعة: دار الفكر، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، ج9، ص224، إسناده حسن.
286
243
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
فحقيقٌ بنساءِ المسلمين أن يجعلنَ السيّدة خديجة الكبرى عليها السلام نِبراساً للحياة، يرتَشِفن من معينِ مآثرها، ويقتدينَ بها في الدين والخُلُق والانقياد التام لله ورسوله، فشموخُ المرأة وعزُّها في دينِها، واتّباع القدوة والأسوة التي يقدمها هذا الدين العظيم من خلال سابقة السابقين السيّدة الغرّاء خديجة الكبرى عليها السلام.
287
244
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
المفاهيم الأساسية
- لم يُعرف عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه حزن على أحد قطّ أشدّ من حزنه على فراق أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام، ولا أطال من ذكر أحدٍ قطّ بعد وفاته كما أطال ذكرها عليه السلام، فما يكاد يخرج من البيت حتّى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها ولم يكن يسأم من كثرة الثناء عليها والاستغفار لها.
- كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يكثر ذكر أفضال خديجة عليها السلام عليه وعلى الاسلام فكان يقول: خديجة، وأين مثل خديجة؟ صدقتني حين كذبني الناس، وآزرتني على دين الله، وأعانتني عليه بمالها. إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن أبشّر خديجة ببيت في الجنّة من قصب الزمرّد لا صخب فيه ولا نصب.
- أحبّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم السيّدة خديجة حبًّا لا مثيل له، وكان يراه من رزقه الذي منّ الله تعالى به عليه، فكان يقول إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا.
- أحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلّ من يحبّ خديجة وما تحبّه عليه السلام، فكان إذا ذبح الشاة يقول: "أرسلوا إلى أصدقاء خديجة"، ويقول إنّي لأحبّ حبيبها.
- كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصرّح ويعلن حبّه لخديجة وشكره الدائم لها، لا لاستثارة الضغائن في قلوب بعض زوجاته، بل إنّ ذلك كان لازمًا عليه صلى الله عليه وآله وسلم لتقديمها كقدوة للنساء وتبيان عظيم أياديها وحسن جهادها.
- كان النبيّ يتأثّر ويفرح ويسرّ إذا سمع صوتًا يشبه صوت خديجة، وكذا حصل عندما دخلت عليه أختها فنهض مسرورًا وقال: اللهمّ هالة بنت خويلد.
- كانت بعض النساء يأتين ويلجأن إلى بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام أيام حياتها، فتحسن لهنّ عليها السلام، وقد أتى بعضهنّ إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة خديجة عليها السلام فكان يقبل عليهنّ ويسأل عن أحوالهنّ ويسرّ لذلك فإذا سئل عن ذلك كان جوابه: "إنّها كانت تأتينا زمن خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان".
288
245
الدرس الرابع والعشرون: السيّدة نسيبة بنت كعب (1)
الدرس الرابع والعشرون:
السيّدة نسيبة بنت كعب (1)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرف إلى أسرة السيّدة نسيبة رضي الله عنها وعائلتها.
- يبيّن إسلام السيّدة نسيبة ومبايعتها الرسول.
- يذكر الأدوار المختلفة التي قامت بها السيّدة نسيبة خدمةً للاسلام.
289
246
الدرس الرابع والعشرون: السيّدة نسيبة بنت كعب (1)
تمهيد
المجاهدة الفاضلة نسيبة بنت كعب المازنية واحدة من رهط كريم أوقفن حياتهنّ على خدمة الإسلام بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فهي إمرأة تقيَّة نقيَّة، ارتدت ثوب العِفّة والحياء، فأحاطها بهالة من الهيبة والوقار والإكبار إذ استطاعت أن تجمع بين الشجاعة والإيمان، وبين القوّة والحياء مع زهد في نعيم الدنيا، وتوق دائم للقاء الله.
وقد كانت وما تزال قدوةً لنساء الإسلام، وهي كذلك تذكرة دائمة للرجال أنّ من بين النساء مَن هي قادرة على أن تكون على قدم راسخة في الإيمان بالله، والاحتساب عنده، والتوكّل عليه، وأن تكون نموذجاً فريداً من بين الخيرات اللواتي يمثّلن نساء الرسالة، فهي صاحبة شجاعة امتازت بها عن الكثير من نساء عصرها ورجالهم، وقد حصلت نسيبة على رضا الله ورضا رسول صلى الله عليه وآله وسلم بتصريح النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
إنّ السيّدة نسيبة (أمّ عمارة) تُعدّ أنموذجاً فريداً لمدرسة الأمومة التربويَّة التي بذلتْ تجاه أولادها عظيم الجهد، حين عكفتْ تُلقِّنهم مفاهيم الإسلام، وتغرس فيهم محبة خير الأنام، وتحفّزهم على الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، فأخذوا ينهلون من إيمان والدتهم التي رفعت لواءً تربوياً نالت به سبقاً في دور الأُم المسلمة، ومدى تأثيرها على بناء الأجيال الناجحة، ولا أدلّ على ذلك من نتاج تربيتها لولدَيها الشهيدَين رضوان الله عليهما.
نسبها وأسرتها
اسمها هو نسيبة وأمّ عمارة هي الكنية التي اشتُهرت بها هذه المجاهدة الخزرجية (من قبيلة الخزرج) الأنصارية المدنية ذات الشخصية النادرة بين النساء قديماً وحديثاً.
291
247
الدرس الثالث والعشرون: السيّدة خديجة (عليها السلام) والنبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم: حبٌّ خالد
أبوها هو كعب بن عمرو بن مبذول بن عمرو بن غنم من بني مازن بن النجّار. وبنو النجّار هم أخوال سيد العرب عبد المطّلب بن هاشم عليه السلام جدّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وفيهم وُلد وأمضى طفولته قبل أن يخرج به عمّه المطّلب بن عبد مناف إلى مكّة.
وأمّ السيّدة نسيبة رضي الله عنها هي الرَّباب بنت عبد الله بن حبيب بن زيد الخزرجية الأنصارية المدنية.
أما أخوة السيّدة أم عمارة، فأوَّلهم: أبو الحارث عبد الله بن كعب المازنيّ (نسبة إلى بني مازن بن النجار) صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي شهد معه بدراً وأحداً، والمشاهد كلّها، وكان مؤتمناً على خُمس النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم[1].
وثانيهم هو أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازنيّ، وقد شهد مع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بدراً وأحداً وما بعدهما من المشاهد[2]، وهو أحد البكّائين السبعة الذين لم يقدروا على المسير إلى غزوة تبوك[3]، لقلَّة الزاد والراحلة يومئذٍ، وفيه وفي إخوانه نزل[4] قول الله تعالى: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾[5].
أزواجها وأولادها
تزوّجت السيّدة نسيبة من ابن عمها زيد بن عاصم بن عمرو المازنيّ، وهو ممّن شهد بيعة العقبة الثانية[6]، وله منها ابنان اثنان هما صاحبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله وحبيب. ولمّا مات زيد بن عاصم، تزوّجها غزية بن عمرو من بني مازن بن النجّار، فولدت له تميماً وخولة[7].
[1] يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص981، طبعة:1، دار الجيل، بيروت.
[2] المصدر السابق، ج2، ص851، وابن الأثير الجزري، أُسد الغابة، ج3، ص485، طبعة:1، دار الكتب العلمية.
[3] ابن عبد البر، الاستيعاب، ج2، ص851.
[4] محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، والفضل بن الحسن الطبرسي، مجمع البيان، والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، عند تفسير هذه الآية من سورة التوبة، والواحدي، أسباب نزول القرآن، ج1، ص262، طبعة:1، دار الكتب العلمية.
[5] سورة التوبة، الآية 92.
[6] شمس الدين الذهبي، سيَر أعلام النبلاء، سيرة 1، ص256، طبعة: 3، مؤسسة الرسالة، بيروت.
[7] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص303، ترجمة رقم: 4549.
292
248
الدرس الرابع والعشرون: السيّدة نسيبة بنت كعب (1)
وفي غزوة أُحد خرج أهل هذا البيت بأجمعهم إلى الجهاد في سبيل الله. خرجت نسيبة بنت كعب مع زوجها وولديها عبد الله وحبيب، وقد أبلوا جميعاً بلاءً حسناً. وروي أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد قال: "بارك الله فيكم أهل بيت"، وقال: "اللهمّ اجعلهم رفقائي في الجنّة"[1].
أمّ الشهيدين
هي أمّ الشهيد حبيب بن زيد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي شَهِد معه بيعة العقبة وأُحداً، والخندق، وغيرها من المشاهد، وهو الذي حمل رسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الى مسيلمة الكذّاب لمّا ادّعى النبوّة، فلمّا سلّمه الرسالة قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فقال له: نعم، ثم قال له: أوتشهد أنّي رسول الله؟ فقال حبيب: أنا أصمّ لا أسمع. فعل ذلك مسيلمة مراراً، وكان في كل مرةٍ لا يجيبه فيها حبيب إلى طلبه، يقتطع من جسمه عضواً، وبقي حبيب محتسباً صابراً الى أن قُطّع إرباً إربا[2].
ورويَ أنّ مسيلمة الكذاب قطع يدَي حبيب من المنكبين ورجلَيه من الوركين، ثمّ حرقه بالنار، وهو مع كلّ ذلك لا ينزع عن قوله، ولا يرجع عمّا بدأ به، حتّى مات حرقًا في النار، رحمه الله[3].
وأما شهيدها الثاني، فهو عبد الله بن زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد عدّه بعض العلماء من أهل بدر، وكان من رواة الحديث النبويّ الشريف، وهو الذي قتل مسيلمة
[1] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص314، وعنه شمس الدين الذهبي، سيَر أعلام النبلاء، ج2، ص278-279، وابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج14، ص268، طبعة:1، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج20، ص133-134، وغيرهم.
[2] أبو الحسن علي بن أبي الكرم الشيباني الجزري "عز الدين ابن الأثير"، أُسد الغابة، ج1، ص675، ترجمة: 1049، طبعة:1، دار الكتب العلمية، وكل من ترجم لهذا الشهيد السعيد من أصحاب التراجم والسير.
[3] أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم بن حسان الكلاعي الحميري، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ج2، ص131، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
293
249
الدرس الرابع والعشرون: السيّدة نسيبة بنت كعب (1)
الكذاب بسيفه[1]، وكان من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولكن كلّ ذلك لم يشفع له رضي الله عنه، فقتله جنود يزيد بن معاوية مع ثلّة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحرّة سنة ثلاث وستّين[2].
إسلام نسيبة ومبايعتها للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
كانت أمّ عمارة من أوائل أهل المدينة الذين دخلوا في دين الله تعالى لمّا بلغتهم الدعوة عبر سفير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب مصعب بن عمير رضي الله عنه. وقد أَتَت مع زوجها في الثُّلث الأخير من اللَّيل متيقِّظة للقاء النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عند العقَبَة لتبايعه على السمع والطاعة. ومن يومها ذاك ما نكثت عهدها ولا نقضت بيعتها، بل جدّدتها يوم الحديبية، وكانت ممّن اشتركنَ في بيعة الرضوان أيضًا.
ويروي عبد الله بن كعب، وكان من أعلم الأنصار، أن أباه كعباً حدّثه، وكان ممّن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ".. بتنا تلك الليلة في رحالنا حتّى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنتسلّل مستخفين تسلل القطا، حتّى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني النجّار، وأسماء بنت عمرو إحدى نساء بني سلمة وهي أمّ منيع.."[3]، ولم يكن هناك نسوة غيرهما قد بايعن بيعة العقبة الثانية.
ثمّ إنّ السيّدة نسيبة لم تترك الإيمان مستقراً في القلب كحقيقة مجرّدة راكدة، وإنّما حوّلته إلى حقيقة حيّة وعمل يبرهن على صدق الاعتقاد. فمنذ بايعت مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيعة العقبة الثانية، ما نكثت عهدها ولا نقضت بيعتها، بل جدّدتها، وكانت
[1] المصدر السابق، وشمس الدين الذهبي، سيَر أعلام النبلاء، ج2، ص282، طبعة:3، مؤسسة الرسالة، بيروت، وبدر الدين العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، ج17، ص221، طبعة: دار إحياء التراث، بيروت، صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي، الوافي بالوفيات، ج17، ص97، طبعة: دار إحياء التراث، وغيرهم.
[2] البيهقي، دلائل النبوة، ج6، ص474، باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إخباره بقتل أهل الحرة، فكان كما أخبر، طبعة:1، دار الكتب العلمية- دار الريان للتراث، والذهبي، سير أعلام النبلاء، ج2، ص282، وغيرهم.
[3] العلامة المولى محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الائمة الأطهار، ج19، ص24، طبعة:2، مؤسسة الوفاء، بيروت، ومحمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص303، ترجمة رقم: 4549، وجُل أصحاب السيّر.
294
250
الدرس الرابع والعشرون: السيّدة نسيبة بنت كعب (1)
ممّن اشتركن في بيعة الرضوان، ومن ثمّ صلح الحديبية حيث أجرى الله تعالى على يدَي النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم صلحاً بينه وبين أعدائه، وحصل بذلك للمسلمين الخير الكثير الذي استمرّ متّصلاً بفتح خيبر وفتح مكّة، وحصل لهم العزّ والنصر والرفعة، التي وعدهم الله تعالى بها إذ قال: ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾[1].
مشاركتها في أحداث الدعوة
حمَلَت السيّدة أم عمارة الرَّاية النِّسائية في كثير من المواقف والبطولات، وكانت منارة تحكي لنا واقعاً عمليًّا لدور المرأة المسْلِمة في المجتمع الرساليّ، فشاركتْ وأهل بيتها في مُجمل أحداث الدَّعوة في فترتها المدنية، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يكرمهم، ويزورهم في بيتهم، ويأكل عندهم[2].
ومن المواقف التي شهدتها أم عمارة مع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم معركة أُحد، وصلح الحديبية، وغزوة خيبر، وعمرة القضاء، وغزوة حنين[3]. وبعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شاركت في معركة اليمامة ضدّ مسيلمة الكذّاب، وجُرحت ثلاثة عشر جرحاً بالغاً، وقد قُطعت يدها المباركة في ذلك اليوم المشهود.
وكما خَطَّت نسيبة رضي الله عنها للمرأة المسلمة الشُّجاعة مثالاً راقياً، وشكَّلت أنموذجاً تطبيقياً متوازِناً للمسلمات اللواتي يتميّزن بخصلة الشجاعة، فكانت المرأة الفاضلة المجاهدة، كذلك كانت الفقيهة المطالبة بكلّ خير، فقد روت أم عمارة جملة من الآثار النبوية، وقد روي أنّها أتَت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت له: ما أرى كلَّ شيء إلاَّ للرِّجال، وما أرى النساء يُذْكَرن بشيء[4]، فنَزَل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ
[1] سورة الفتح، الآية 19.
[2] أبو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ج25، ص30، طبعة:2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، وحسين بن محمد تقي النوري، مستدرك الوسائل، ج7، ص364، طبعة:1، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم، عن درر اللآلئ لأبن أبي جمهور.
[3] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص303، ترجمة رقم: 4549، وابن حجر العسقلاني، الإصابة، ج8، ص441.
[4] أبو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ج25، ص32، طبعة:2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل.
295
251
الدرس الرابع والعشرون: السيّدة نسيبة بنت كعب (1)
وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[1]. ومرويّ عن أمّ المؤمنين أمّ سلمة، وأسماء بنت عميس رضي الله عنهما أنهما قالتا بقول نسيبة هذا، فكان قولهنّ السبب في نزول هذه الآية المباركة.
ما بعد غزوة بدر الكبرى
عادت فلول المشركين إلى مكّة كاسفة البال، مكتئبة النفس، حانقة الصدر تتجرّع غصص الهزيمة المرّة التى لم تصب بمثلها في كلّ تاريخها. فغدوا يحقنون حقدهم وحشدوا وتهيأوا بكلّ ما أوتوا من قوةٍ، وقصدوا المدينة المنورة، فكانت معركة أُحد التي تقارب فيها الجمعان، وبدأت مراحل القتال، وكان أوّل وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من أشجع فرسان قريش، فلما صاح: مَن يبارز؟
برز لَهُ أمير المؤمنين علي عليه السلام، فالتقيا بين الصفّين، فبدره عَلِيّ فضربه علَى رأسه حتّى فلق هامته فوقع، وهو كبش الكتيبة، فَسُّرَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وأظهر التكبير، وكبّر المسلمون وشدّوا عَلَى كتائب المشركين يضربونهم حتّى نقضت صفوفهم[2]، وقُتل كلّ من حمل لواءهم، وأصبح لواء المشركين ملقًى لا يجسر على حمله أحد.
قيل لنسيبة المازنية رضي الله عنها: هل كنّ نساء قريش يومئذ يقاتلن مع أزواجهن؟
فقالت: أعوذ بالله لا، والله ما رأيت امرأةً منهنّ رمت بسهم، ولا بحجر، ولكن رأيت معهنّ الدفاف، والأكبار يضربن، ويذكرن القوم قتلى بدر ومعهنّ مكاحل، ومراود، فكلّما ولّى رجل أو تكعكع ناولته إحداهنّ مروداً ومكحلة، ويقلن: إنّما أنت امرأة، ولقد رأيتهنّ ولّين منهزمات مشمّرات، - ولها عنهنّ الرجال أصحاب الخيل، ونجوا على متون الخيل- يتبعن الرجال على الأقدام، فجعلن يسقطن في الطريق، ولقد رأيت هند بنت عتبة،
[1] سورة الأحزاب، الآية 35.
[2] محمد بن عمر بن واقد السهمي الواقدي المدني، مغازي الواقدي، ج1، ص226، طبعة:3، دار الأعلمي، بيروت، ومحمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج2، ص31، والمقريزي، في إمتاع الأسماع، والديار بكري، تاريخ الخميس، وغيرهم الكثير.
296
252
الدرس الرابع والعشرون: السيّدة نسيبة بنت كعب (1)
وكانت امرأة ثقيلة، ولها خلق، قاعدة خاشية من الخيل ما بها مشي، ومعها امرأة أخرى حتّى كَرّ القوم علينا فأصابوا منّا ما أصابوا، فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذ من قِبل الرماة ومعصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[1].
بعضٌ من معاناة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
بلغت الشدّة أن خلصت كتائب الشرك المتتالية قريباً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، "فرماه عتبة بن أبي وقاص بحجر كسر أنفه ورباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأنّ عبد الله بن شهاب شجّه في جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته،..."[2]، فأثقله الألم بعد نزف الدم من وجهه الشريف. وفي خضمّ هذه المعاناة برز دور أبطال المسلمين من الثابتين حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأمير المؤمنين عليّ عليه السلام وحمزة، ومصعب بن عمير وأبي دجانة، ونسيبة بنت كعب وأهل بيتها الكرام رضوان الله عليهم. وفي محطتنا القادمة سنستعرض أيضاً جملةً من مواقف السيّدة نسيبة يوم أُحد، ثم نذكر بقية المواقف العظيمة التي وقفتها هذه السيّدة الجليلة رضوان الله عليها.
[1] ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج70، ص176،
[2] شمس الدين الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج2، ص193، طبعة:1، دار الكتاب العربي، بيروت.
297
253
الدرس الرابع والعشرون: السيّدة نسيبة بنت كعب (1)
المفاهيم الأساسية
- هي نسيبة بنت كعب، وأمّ عمارة هي الكنية التي اشتهرت بها، وهي خزرجية أنصارية.
- أبوها هو كعب بن عمرو من بني مازن بن النجّار، وأمّها هي الرَّباب بنت عبد الله بن حبيب بن زيد الخزرجية الأنصارية المدنية.
- أَخَوا السيّدة نسيبة هما أبو الحارث صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي شهد معه بدراً وأحداً، والمشاهد كلها، وكان مؤتمناً على خُمس النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وثانيهما هو أبو ليلى وقد شهد مع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بدراً وأحداً وما بعدهما من المشاهد، وهو أحد البكائين السبعة الذين لم يقدروا على المسير إلى غزوة تبوك.
- تزوجت السيّدة نسيبة من ابن عمها زيد وهو ممّن شهد بيعة العقبة الثانية، وله منها ابنان اثنان استشهدا فداءً للاسلام، حيث قتل مسيلمة الكذاب ولدها حبيباً لمّا رفض الاعتراف به نبياً، وقتل يزيد بن معاوية ولدها الآخر عبد الله في واقعة الحرة.
- ولمّا مات زيد بن عاصم، تزوجها غزية بن عمرو من بني مازن بن النجار، فولدت له تميماً وخولة.
- كانت أم عمارة من أوائل أهل المدينة الذين دخلوا في دين الله تعالى لمّا بلغتهم الدعوة عبر سفير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب. وقد بايعت بيعة العقبة وجدّدتها في يوم الحديبية وبيعة الرضوان.
- حمَلَت السيّدة أم عمارة الرَّاية النِّسائية في كثير من المواقف والبطولات. وكانت منارة تحكي لنا واقعاً عمليًّا لدور المرأة المسْلِمة في المجتمع الرساليّ، فشاركتْ وأهل بيتها في مُجمل أحداث الدَّعوة.
298
254
الدرس الرابع والعشرون: السيّدة نسيبة بنت كعب (1)
- بعد معركة بدر، وانهزام المشركين، حشدت قريش قواها لمعركة أحد، وفي البداية كان الانتصار حليف المسلمين، ثم عصى الرماة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزلوا عن الجبل فانهزموا.
- تكاثر الأعداء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجرحوه ولم يثبت معه إلّا الامام عليّ عليه السلام وأقلّ من عشرة رجال، وكانت نسيبة رضي الله عنها ممّن ثبت وحامى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
299
255
الدرس الخامس والعشرون: السيّدة نسيبة (2)
الدرس الخامس والعشرون:
السيّدة نسيبة (2)
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يذكر بعضًا من مشاركة السيّدة نسيبة رضي الله عنها في الغزوات.
- يتعرّف إلى بعض مآثر السيّدة نسيبة.
- يبيّن المواقف البطولية للسيدة نسيبة رضي الله عنها وثباتها مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المعارك.
301
256
الدرس الخامس والعشرون: السيّدة نسيبة (2)
دورها العظيم في غزوة أُحد
من المعلوم أنّه ليس في الإسلام على المرأة جهاد، إلّا حينما يكون كيان الإسلام في خطر أكيد. وقد حصل هذا في آخر معركة (أُحد) حيث كانت كتائب المشركين تترى واحدة تلو الآخرى لا همّ لفرسانها إلّا قتل النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. فبعد مقتل أسد الله ورسوله حمزة بن عبد المطّلب عليه السلام، وبعد أن جُرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توالت الهجمات التي تريد الإجهاز عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
هنالك أدركت أم عمارة مدى الخطر الذي يتهدّد الإسلام، فألقت سقاءها[1]، واندفعت مع أخوتها وأولادها وزوجها خلف أمير المؤمنين علي عليه السلام والنفر الكرام المدافعين عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فوقفت مع أولئك الأبطال الأشاوس في أعظم موقف للدفاع عن كيان العقيدة وقائد الإسلام، فسطروا بثباتهم حول النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وذبّهم عنه أروع الملاحم الخالدة، وكان رائدهم فيها الصدق والإخلاص، صدق الإيمان والإخلاص في ما عاهدوا الله عليه، حيث تصوّر لنا السيّدة نسيبة تلك الحادثة فتقول رضي الله عنها:
"قد رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما بقي إلّا في نفير ما يتمّون عشرة، وأنا وأبنائي وزوجي بين يديه نذبّ عنه، والناس يمرّون به منهزمين، ورآني لا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال لصاحب الترس: ألق ترسك إلى من يقاتل، فألقى ترسه فأخذته، فجعلت أتترس به عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل. لو
[1] كذلك السيدة صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طرحت سقاءها أرضاً، وهبَّت كاللَّبؤة التي هوجم أشبالها، ومضت تشقُّ الصُّفوف، وتضرب بالرمح الوجوه، فلمَّا رآها النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم مقبلةً خشي عليها أن ترى أخاها حمزة بن عبد المطلب وهو صريعٌ، وقد مثَّل به المشركون أبشع تمثيل، فأشار إلى ابنها الزُّبير بالحؤول بينها وبين مصرع سيد الشهداء.
303
257
الدرس الخامس والعشرون: السيّدة نسيبة (2)
كانوا رجالة مثلنا أصبناهم إن شاء الله، فأقبل رجل على فرس فضربني وتترّست له فلم يصنع سيفه شيئاً، وولّى. وأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصيح: "يا بن أمّ عمارة أمّك أمّك"[1]. قالت: فعاونني عليه حتّى أوردته شعوب[2].
وكانت أم سعيد (جميلة) بنت سعد بن ربيع تقول: دخلت عليها (أي على نسيبة)، فقلت حدثيني خبرك يوم أحد. فأخبرتها[3]، ثم قالت فرأيت على عاتقها جرحاً له غور أجوف، فقلت: يا أم عمارة من أصابك هذا؟ قالت: أقبل ابن قميئة أقمأه الله، وقد ولى الناس عن رسول الله، يصيح: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه، فكنت فيهم فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان[4].
وكان يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها: "لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان"[5]، وكان يراها يومئذ تقاتل أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً...[6].
وقد جاءنا عن المصطفى الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ما يوفي بوصف حالها، ويخلد فضَلها وبلاءها في ذلك اليوم العصيب، فروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما التفت يميناً ولا شمالاً، إلا وأنا أراها تقاتل دوني"[7].
[1] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص304، ترجمة رقم: 4549، وابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج14، ص267،
[2] شعوب: اسم من أسماء الموت كالمنية، أي: أوردته موارد الموت والهلكة.
[3] علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي، ج1، ص115، طبعة: 3، دار الكتاب، قم.
[4] عبد الملك بن هشام الحميري المعافري، السيرة النبوية، ج2، ص81-82، طبعة:2، مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، وعنه السهيلي في الروض الأنف، وابن سيد الناس في عيون الأثر، وابن كثير في السيرة النبوية والبداية والنهاية، والمقريزي في إمتاع الأسماع، وشهاب الدين القسطلاني في المواهب اللدنية، والزرقاني في شرح المواهب، وغيرهم.
[5] علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي، ج1، ص116، طبعة:3، دار الكتاب، قم، ومحمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص314، وعنه شمس الدين الذهبي، سيَر أعلام النبلاء، ج2، ص278-279.
[6] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص314، وعنه شمس الدين الذهبي، سيَر أعلام النبلاء، ج2، ص278-279، ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج14، ص266، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج20، ص133-134.
[7] محمد بن سعد بن منيع، الطبقات الكبرى، ج8، ص305، ترجمة رقم 4549، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت، وابن حجر العسقلاني، الإصابة، ج8، ص442، ترجمة رقم 12182، طبعة:1، دار الكتب العلمية، وابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج14، ص268، طبعة:1، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، وغيرهم من أصحاب السيّر.
304
258
الدرس الخامس والعشرون: السيّدة نسيبة (2)
أم عمـارة من المبشرين بالجنة
قال عبد الله بن زيد بن عاصم: شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما تفرق الناس عنه دنوت منه أنا وأمي نذب عنه، فقال: "ابن أم عمارة؟" قلت نعم. قال: "أرمِ". فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر، وهو على فرس فأصبت عين الفرس، فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه، وجعلت أعلوه بالحجارة حتى نضدت عليه منها وقراً، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ينظر يتبسم، ونظر جرح أمي على عاتقها، فقال: "أمك أمك، اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل البيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل البيت، ومقام ربيبك، يعني زوج أمه، خير من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل البيت".
قالت (نسيبة): ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: "اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة"، فقالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا[1].
من مواقفها يوم أُحد
روى ولدها عبد الله بن زيد، فقال: جرحت يومئذ جرحاً في عضدي اليسرى، ضربني رجل كأنّه الرقل[2]، ولم يعرج عليّ ومضى عنّي، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اعصب جرحك"، فتقبل أمي إليّ ومعها عصائب في حقويها قد أعدّتها للجراح، فربطت جرحي، والنبيّ واقف ينظر إليّ، ثمّ قالت: انهض بُنيّ فضارب القوم، فجعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة!".
قالت (نسيبة): وأقبل الرجل الذي ضرب ابني، فقال رسول الله: "هذا ضارب ابنك". قالت فأعترض له، فأضرب ساقه فبرك. قالت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبسّم حتّى رأيت نواجذه، وقال: "استقدت يا أم عمارة"، ثمّ أقبلنا نعلّه بالسلاح حتّى أتينا على نفسه، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الحمد لله الذي ظفرك، وأقرّ عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك".
وكما لا يخفى فإنّ احتياط الجنود لحياة قائدهم أمر تحتّمه الرغبة في نجاح المعركة
[1] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص305، ترجمة رقم 4549، وعنه الذهبي، سيَر أعلام النبلاء، ج2، ص281.
[2] الرقل: النخلة الطويلة، يراجع النهاية، ج2، ص97.
305
259
الدرس الخامس والعشرون: السيّدة نسيبة (2)
والدعوة، وعلى القائد أن يقبل ذلك، لأنّ في حياته حياة الدعوة، وفي فواتها خسارة المعركة. وقد رأينا كيف كان المؤمنون الصادقون والمؤمنات الصادقات يلتفون جميعاً حول قائدهم العظيم، ويحمونه من سهام الأعداء، بتعريض أنفسهم لها، ولم يعرف عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه أنكر ذلك مع شجاعته وتأييد الله له، بل أثنى على هؤلاء الملتفّين حوله، كما رأينا في ثنائه على نسيبة أم عمارة، ودعائه لها بأن تكون هي وزوجها وأولادها رفقاءه في الجنة.
السيّدة نسيبة في الغزوات
1- السيّدة نسيبة وغزوة حمراء الأسد:
على الرغمَ ممّا ألمّ بنسيبة بنت كعب من جراح في معركة أُحد، إلّا أنّها رضي الله عنها يظهر أنها كانت ممّن يعالج جراحات أمير المؤمنين عليّ عليه السلام حين انصرف عليه السلام من أحد، وبه ثمانون جراحة يدخل الفتائل من موضع ويخرج من موضع.
ثمّ دخل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على عليّ عليه السلام وبكى لما فيه ثمّ قال: "إنّ أبا سفيان قد أرسل موعدة بيننا وبينكم حمراء الأسد"، فقال عليّ عليه السلام: "بأبي أنت وأمي والله لو حملت على أيدي الرجال ما تخلّفت عنك"، قال: فنزل القرآن ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾[1].
وشكت المرأتان[2]، إحداهما نسيبة، إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يلقى - عليّ عليه السلام - وقالتا: يا رسول الله قد خشينا عليه ممّا تدخل الفتائل في موضع الجراحات من موضع إلى موضع، وكتمانه ما يجد من الألم[3].
وبعد ما جرى لها في غزوة أحد حاولتْ السيّدة أمُّ عمارة المشاركةَ في غزوة حمراء الأسد، ولكن حال دون ذلك القرح الذي أصابها، فإنّه لما نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد شدّت عليها ثيابها، ولكن نزفت جراحها من جديد، فما استطاعت المشاركة من كثرة نزف الدم. ولقد مكث أهلها ليلتهم تلك يعالجون جراحها حتّى أصبحوا، فلمّا
[1] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص304 - 305.
[2] سورة آل عمران، الآية 146.
[3] نسيبة بنت كعب المازنية، وأم سليم بنت ملحان، يراجع الشيخ المفيد، الاختصاص، ص158.
306
260
الدرس الخامس والعشرون: السيّدة نسيبة (2)
رجع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الحمراء ما وصل إلى بيته حتّى أرسل إلى أم عمارة شقيقها عبد الله بن كعب المازنيّ يسأل عنها، فرجع إليه يخبره بسلامتها، فَسُرّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بذلك[1].
2- السيّدة نسيبة في غزوة بني قريظة:
بنو قريظة عشيرة من عشائر اليهود الثلاث الذين كانوا يسكنون المدينة، وهم الذين ظاهروا قريشاً في الخندق، وأعانوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلمّا انتهت معركة الخندق ضرب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليهم حصاراً لبضع وعشرين ليلة، وقد شاركت السيّدة نسيبة في محاصرتهم حتّى جهد اليهود، وقذف الله في قلوبهم الرعب، لمّا صاح أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "يا كتيبة الإيمان والله لأذوقنّ ما ذاق حمزة أو لأفتحنّ حصنه"، فقال اليهود: يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ[2]، وقبلوا التحكيم، وأسهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لنسيبة بسهم من الغنيمة مع نساء أخريات شهدن الغزوة.
3- السيّدة نسيبة في غزوة خيبر:
في غزوة خيبر التي جرت في صفر من السنة السابعة للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجيشه، ومعه نسوة، يسقين الجرحى، ويداوين المرضى[3]، وكانت من أوائلهن أمّ عمارة نسيبة بنت كعب المازنية[4]. وقد شاركت رضي الله عنها في حصار اليهود الذين اتّخذوا من حصون خيبر وكراً لهم يدبّرون منها المكائد ويحيكون المؤامرات ويوجّهون الدسائس إلى قبائل العرب من خلال تحريضهم على حرب المسلمين، يدفعهم إلى ذلك الحقد المتأصّل في نفوسهم للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته، والغلّ في قلوبهم للإسلام والمسلمين، وغريزة الأخذ بالثأر لمن قُتل من بني قريظة.
ورُويَ عن الحارث ابن أخ نسيبة بنت كعب، أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها يوم خيبر خرزاً
[1] الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري، الاختصاص، ص158، طبعة:1، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، قم، والسيد علي بن موسى بن طاووس، سعد السعود، ص112، طبعة:1، دار الذخائر، قم.
[2] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص304، ترجمة رقم: 4549.
[3] ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص240، وعنه السهيلي في الروض الأنف، وابن سيد الناس في عيون الأثر، ومحب الدين الطبري في الرياض النضرة، وابن كثير في السيرة النبوية والبداية والنهاية، والمقريزي في إمتاع الأسماع، وصفي الرحمن المباركفوري في الرحيق المختوم، وغيرهم.
[4] أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج44، ص567، حديث 1967 + 27017، طبعة:1، مؤسسة الرسالة، بيروت.
307
261
الدرس الخامس والعشرون: السيّدة نسيبة (2)
حمراً وضعته في رقبتها، وكذلك أعطى بقية النسوة اللواتي كنّ معه، وجعل لهنّ نصيباً من الفيء[1].
4- السيّدة نسيبة يوم حُنين:
تميّزت أم عمارة بأعلى درجات الإخلاص لدينها، وشجاعتها في الذود عنه أوضح من الشمس في رابعة السماء. وقد تجلّى ذلك مرّةً بعد مرّةٍ، ففي غزوة حُنين كانت أم عمارة على رأس النسوة الأربعة اللواتي ثبتن مع الهاشميين التسعة، وأيمن ابن أم أيمن، وهم الذين لم يفارقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حُنين. "وكانت نسيبة رضي الله عنها تحثو التراب في وجوه المنهزمين، وتقول: أين تفرون عن الله ورسوله؟ ومر بها عمر، فقالت له: ويلك ما هذا الذي صنعت، فقال لها: هذا أمر الله !!"[2].
وتروي لنا أم عمارة رضي الله عنها طرفاً عن دَورِها في ذلك اليوم المشهود، فتقول: "لَمَّا كان يومُ حنين، والناس منهزمون في كلِّ وجه، وأنا وأربعُ نسوة في يدي سَيف صارم، وأمُّ سُليم قد حزمتْ وسطَها، وهي يومئذٍ حامل، وأمُّ سليط، وأمُّ الحارث، فجعلتُ أسلُّ السيف، وأصيح بالأنصار: أيَّة عادة هذه؟! ما لكم وللفِرار؟! وأنظر إلى رجل مشركٍ من هوازن على جمل، معه لِواء، يريد أن يوضع جمله في أثر المسلمين، فأعترض له فأضربُ عُرقوبَ الجمل، فوقع على عَجُزِه، وأشُدُّ عليه، فلم أزلْ أضربُه حتّى أثبتُّه، وأخذتُ سيفًا له، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائمٌ مصلِّت السيفَ بيده، قد طرح غِمدَه، ينادي: يا أصحابَ سورة البقرة، وكرّ المسلمون..."[3].
5- السيّدة نسيبة يوم اليمامة:
كان لها مع عمّار بن ياسر رضي الله عنهما الأثر العظيم في تحفيز المقاتلين يوم اليمامة، وفيه قُطعت يد نسيبة رضي الله عنها، فلم تبالِ بذلك حيث لم يكن لها همٌّ يومئذٍ إلّا إيفاء
[1] محمد بن عمر الواقدي، مغازي الواقدي، ج2، ص685.
[2] محمد بن عمر الواقدي، مغازي الواقدي، ج2، ص688.
[3] علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي، ج1، ص287، العلامة المولى محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الائمة الأطهار ج21، ص150، طبعة:2، مؤسسة الوفاء، بيروت، من رواية عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام.
308
262
الدرس الخامس والعشرون: السيّدة نسيبة (2)
نذرها الذي نذرته يوم بلغها نبأ استشهاد ولدها حبيب[1]، ولا يتحقّق ذلك إلّا بالوقوف على مصرع مسليمة الكذاب.
وقد روت نسيبة ما جرى معها في ذلك اليوم لمّا سألتها أم سعد: يدك ما أصابها؟، فقالت نسيبة (رض): "أصيبت يوم اليمامة لمّا جعلت الأعراب تنهزم بالناس، نادت الأنصار أخلصونا، فأخلصت الأنصار فكنت معهم حتّى انتهينا إلى حديقة الموت، فاقتتلنا عليها ساعة حتّى قُتل أبو دجانة على باب الحديقة، ودخلتها وأنا أريد عدوّ الله مسيلمة، فيعرض لي رجل فضرب يدي فقطعها، فوالله ما كانت ناهية ولا عرجت عليها حتّى وقفت على الخبيث مقتولاً، وابني عبد الله بن زيد المازني يمسح سيفه بثيابه، فقلت: أقتلته؟ قال: نعم، فسجدت شكراً لله عزّ وجلّ، وانصرفت"[2].
وقد روي أنّ أم عمارة رضي الله عنها جُرحت يوم اليمامة اثني عشر جرحاً، وقُطعت يدها[3]، وفيما بعد كان الناس يأتونها بمرضاهم لتستشفي لهم، فتمسح بيدها الشلاء على العليل، وتدعو له، فقيل ما مسحت بيدها ذا عاهة إلا برِئ[4].
وفاة نسيبة
كانت معركة اليمامة التي جرت أحداثها في ربيع الأول من السنة الثانية عشرة للهجرة آخر المعارك التي حضرتها أم عمارة رضي الله عنها. وبعد أن عادت إلى المدينة المنوّرة أخذت تمرُّ الليالي والأيام، والمرأة الجليلة عابدة زاهدة لا تبالي بكلّ ما أصابها في هذه الدنيا الفانية، فهي في خِدرها راكعة ساجدة تعبد ربَّها حتّى أتاها اليقين، فصَعدتِ النفس المطمئِنَّة إلى بارئها راضيةً مرضيّةً يكلّلها قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهمّ اجعلهم رفقائي في الجنة"[5].
[1] عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، مصنف ابن أبي شيبة، ج6، ص546، حديث اليمامة ومن شهدها، رقم 33718، طبعة:1، مكتبة الرشد، وابن حجر العسقلاني، الإصابة، ج2، ص18، ترجمة رقم 1589، والحافظ السخاوي، التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة، ج1، ص262، ترجمة رقم 874، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
[2] الكلاعي الحميري، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ج3، ص61، العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج20، ص133، وعلي بن برهان الدين الحلبي، السيرة الحلبية، ج2، ص509، طبعة: دار المعرفة، بيروت.
[3] ابن عبد البر، الاستيعاب، ج4، ص1948، ومحمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص303، ترجمة رقم: 4549.
[4] عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، الروض الأنف، ج4، ص70، طبعة:1، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[5] محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص305، ترجمة رقم 4549، وعنه الذهبي، سيَر أعلام النبلاء، ج2، ص281.
309
263
الدرس الخامس والعشرون: السيّدة نسيبة (2)
وكان انتقالها للرفيق الأعلى في سنة 13 من الهجرة، ورقد جثمانُها الطاهر في البقيع، إلى جوارِ مَن سبقها من إخوانها الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
رحلت أم عمارة وتركت لنا سيرةً تثلج صدر كلّ مسلم، وتقرّ عينه حين يطالعها، ويتعرّف من خلالها على تلك المواقف المشرفة لهذه المجاهدة الفاضلة، والجندية المقاتلة التي نذرت نفسها للدفاع عن عقيدتها ضاربة أروع الأمثلة لما ينبغي أن تكون عليه المرأة المسلمة في المجتمع الإسلاميّ إيماناً وثباتاً وتضحية، فكانت السيّدة نسيبة لؤلؤة في عِقْد نساء الرسالة اللَّواتي ترَكْنَ لنا آثاراً هامَّة لحركة التَّلاحم الأُسَريّ داخل المجتمع الإسلاميّ الأوّل. وما تزال أم عمارة قدوةً ملهمةً لكلّ مخلص ومخلصة لدين الله، وكل مُحبّ ومُحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
310
264
الدرس الخامس والعشرون: السيّدة نسيبة (2)
المفاهيم الأساسية
- شاركت السيّدة نسيبة رضي الله عنها وعائلتها الكريمة في معركة أُحد، وكانت تسقي المجاهدين وتداوي الجرحى، ولمّا انهزم المشركون وصارت حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في خطر، اندفعت للذبّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم والمشاركة في القتال.
- جُرحت السيّدة نسيبة ثلاثة عشر جرحًا في معركة أحد وهي تقاتل دون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وقد منعها جرحها ذاك من المشاركة في معركة حمراء الأسد التي دعا لها أبو سفيان.
- بشّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السيّدة نسيبة وعائلتها بالجنّة، ودعا لهم بأن يكونوا رفقاءه فيها.
- كانت السيّدة نسيبة ممّن داوى جراحات الامام عليّ عليه السلام جرّاء معركة أُحد.
- شاركت السيّدة نسيبة رضي الله عنها في غزوة بني قريظة الذين أعانوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان لها سهم من الغنيمة مع أخريات شهدن الغزوة.
- شاركت السيّدة نسيبة رضي الله عنها مع نسوة أخريات في غزوة خيبر، يسقين المقاتلين ويداوين الجرحى. وقد شاركت في حصار اليهود الذين اتّخذوا من حصون خيبر وكراً لهم وجعل النبيّ للنساء المشاركات نصيباً من الفيء.
- وفي غزوة حنين كانت أم عمارة على رأس النسوة الأربعة اللواتي ثبتن مع الهاشميين التسعة، وأيمن ابن أم أيمن، وهم الذين لم يفارقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين. وكانت نسيبة رضي الله عنها تحثو التراب في وجوه المنهزمين.
- كانت السيّدة نسيبة رضي الله عنها تحفّز المقاتلين يوم اليمامة مع عمار بن ياسر، وفيه قُطعت يدها رضي الله عنها وجُرحت اثني عشر جرحًا، فلم تبالِ ودخلت حديقة الموت ووقفت على مسيلمة الكذاب قد قتله ولدها عبد الله، فسجدت لله شكرًا وانصرفت.
- بعد معركة اليمامة عادت نسيبة إلى المدينة المنورة، وأخذت تمرُّ الليالي والأيام، والمرأة الجليلة عابدة زاهدة حتّى أتاها اليقين، فصَعدتِ النفس المطمئِنَّة إلى بارئها راضية مرضية في سنة 13 من الهجرة، ورقد جثمانُها الطاهر في البقيع.
311