إضاءة
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ المكانة التي يتمتع بها سماحة الإمام الخامنئي واجدة لشأنين هما الحاكميّة على أمور البلاد والحاكميّة على القلوب والنفوس. وعادة ما يجري الاهتمام بالشأن الأوّل الذي ينبري لحلّ العقد المنبثقة عن الأمور الجارية، التي تحول دون وصول النظام إلى طريق مسدود. لكنّه بصفته عالمًا ومفكّرًا إسلاميًّا وقف علمه على التربية وإيصال الناس إلى السعادة، له شأن آخر هو هداية القلوب، والحاكميّة عليها وجذب الأنفس نحو الكمال وإيجاد الجوّ المناسب لنموّ الفضائل الإنسانيّة في المجتمع، والأبوّة لكلّ فرد من أبناء هذا البلد. فهو الأب القلق من مشاكل أبنائه وهمومهم وآلامهم.
إنّ المشاكل الثقافيّة اليوم تحتاج إلى طبيب حاذق "دوّار بطبّه"[1] يفتّش عن المرضى والضعفاء. وهذا الطبيب الحاذق موجود اليوم، ونحن علينا أن نساعده على الدوران بطبّه.
أحد الهواجس المهمّة لدى القائد، هو هاجسه فيما يتعلّق بطريقة حياة الناس التي عبّر عنها بـ"نمط الحياة" وشرّح مسائلها مرحلة مرحلة. والعنوان الأوّل الذي طرحه تبعًا لبحث نمط الحياة هو موضوع "الأسرة". هذه الهواجس الأساسيّة حتّمت على مركز "صهبا" أن يعدّ شيئًا في هذا المجال من كلمات القائد المعظّم، يلبّي احتياجات المراحل المختلفة لحياة الأسرة. فبدأ التحقيق وتجميع الموادّ. وكانت المواضيع لافتة وجذّابة من ناحيتين:
الأولى: كيفيّة نظرته للمرأة ودورها في الأسرة.
والثانية: تقديم النموذج الجامع للأسرة الإسلاميّة إلى المجتمعات البشريّة.
واجهتنا بين المستندات ظاهرة جذابة واستثنائيّة هي إلقاء خطبة في جلسات عقد القران (الزواج) من قبل القائد. وكان يسود هذه الجلسات جوّ حميميّ جدًّا، وهذا يشير إلى محبّته لزواج الشباب. يقول السيّد القائد في جلسة أسئلة وأجوبة له مع الطلبة الجامعيّين في جامعة شيراز، حين كان رئيسًا للجمهوريّة: "إنّني في طهران أجري كلّ أسبوع عقد قران لأحدهم. إحدى الأعمال التي حافظت عليها وتعتبر من المهام والمراسم التي يقوم بها علماء الدين. إنّني أحبّ القيام بهذا الأمر"[2]. حتمًا اتّخذت هذه الجلسات في فترة القيادة المفعمة بالبركة مسارًا انحداريًّا، ولكنّ هذه السُّنّة الحسنة لا زالت مستمرّة.
يأخذ السيّد القائد الوكالة من العروس ويأخذ عالم دين آخر الوكالة من العريس. لكنّه قبل تلاوة صيغة العقد، يخصّص عدّة دقائق للحديث إلى الأسر والأزواج الشباب، ببيان عذب، جذّاب، سلس ومفهوم، فتحكي البسمات المرتسمة على شفاه الحاضرين عن وقعه في قلوبهم وتقبّلهم له. إنّه يدرك جيّدًا احتياجات الإنسان في العصر الراهن، ذلك أنّ الارتباط الوثيق بالناس وجسم المجتمع، يؤدّي إلى الوعي الكامل بموقعيّة الأسر اليوم، والمعرفة بالمشاكل، وتقديم الخطط الكاملة والمتناسبة وشرائط العصر وظروفه.
كما إنّه بصفته عالم اجتماع "نحرير"، ينظر إلى الأسرة على أنّها النواة الأساسيّة والخليّة الأصليّة التي توجد النسيج الاجتماعي، ويهتمّ بالرسالة الاجتماعيّة لهذه المؤسّسة في طريق الهدف النهائي لتشكيل الحضارة الإسلاميّة: "إنّ هدف الشعب الإيرانيّ والثورة الإسلاميّة هو إيجاد الحضارة الإسلاميّة الجديدة. وتنقسم الحضارة الجديدة على قسمين:
أحدهما الجزء الأداتي. والثاني الجزء المضموني والأساسي والأصلي... لكنّ الجزء الحقيقيّ يتمثّل في تلك الأشياء التي تشكّل مضمون حياتنا، وهي نمط العيش نفسه الذي تكلّمنا عنه. هذا هو الجزء الحقيقيّ والأصلي للحضارة، كموضوع الأسرة، نمط الزواج، نوع المسكن، طراز اللباس، نموذج الاستهلاك، نوعيّة الطعام، والطبخ،..."[3].
المسألة الأخرى هي أنّ العالم اليوم أسير لهيمنة ثقافة الغرب الدعائية، وعلى كلّ من يقدّم وصفة لحلّ مشاكل البشر، أن يعرف نقائص الثقافة الغربيّة، ويقدّم بدائل لهذه النقائص. وسماحة الإمام الخامنئي مطّلع بنحو تامّ على هذه الثقافة وأركانها وأسسها، وإلى جانب رؤيته لنقاط قوّة هذه الثقافة، لديه معرفة تامّة بإحدى أهمّ انحرافاتها، أي الابتعاد عن النظرة الصحيحة لموضوع الأسرة والمرأة. لذا تراه يؤكّد كثيرًا على المرأة ودورها في الأسرة، ويقول مرارًا وتكرارًا بأنّنا في موضوع المرأة غرماء للثقافة الغربيّة.
لكنّ النقطة الأساسيّة هي أنّ سماحة القائد هو زوج وأب بكلّ ما للكلمة من معنى. وهو أوّل العاملين بالوصايا والتأكيدات التي يطلقها فيما يتعلّق بالأسرة. وأسلوبه في التعامل مع الوالدين والزوجة والأبناء وكنّاته وأصهرته وأحفاده وفي كلّ تفاصيل الحياة العائليّة، قد بلغ القمّة، بحيث جعل ذلك منه المثال الحسن للناس في هذا المجال. وإذا ما انفتح أمامنا طريق معرفة سيرة حياته، لعمّ نورها حتمًا، المجتمع بتمامه.
لقد تزوّج الإمام الخامنئي في أوج فترة النضال والمواجهات الثوريّة، وتشهد حياته الجهاديّة لحظة بلحظة على أنّ الثورة ونهضة إحياء الإسلام في إيران تبدأ من مؤسّسة الأسرة، التي تشكل الخلايا الأساسيّة للنسيج الاجتماعي، وذلك بكفاح ذوي البصيرة من الرجال، وتحريض وتشجيع النساء الصبورات والمستقيمات.
فيما يلي نورد بالترتيب مقابلتين أُجريتا مع زوجته المحترمة ـ السيّدة خجسته ـ في العامين 1983 و1993:
"أذكر قصّة حدثت في تشرين الثاني من العام 1977 لا تغيب عن بالي أبدًا. كانت تلك المرّة الأخيرة التي اعتقل فيها. لقد حاصروا منزلنا منذ الساعة السابعة مساءً. لم يكن السيّد الخامنئي في المنزل. أتى عند الساعة الثانية عشرة ليلًا. عند الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، قرع عناصر الأمن (السّافاك) باب المنزل. كان ما زال مستيقظًا. اتّجه نحو الباب، وما إن فتحه حتّى وجّه عناصر السافاك فوّهات بنادقهم إلى الداخل وقاموا بتهديده، فقاومهم وأغلق الباب في وجههم. كنت نائمة، استيقظت على صوت انكسار زجاج الباب وصوت عناصر السافاك الذين كانوا يصرخون ويقولون: "استسلم، وإلاّ أطلقنا النار، رأيت مصطفى جالسًا في سريره مذعورًا ويقول: ماما، لقد قتلوا والدي. حينها التفتّ إلى ما يجري. رأيت من خلف زجاج الباب عناصر السافاك يكبّلون يديه، فيما راح بعضهم يضربه وهو يدافع عن نفسه. وضعت تشادوري (عباءتي) على رأسي بسرعة. دخل أحد العناصر إلى القاعة التي كنّا نائمين فيها، ووجّه سلاحه صوبي ولم يسمح لي بالإتيان بأيّة حركة. في تلك الأثناء استيقظ أخي الذي كان بائتًا ليلته عندنا، وهرع إلى القاعة متسائلًا ماذا حدث؟ قلت: لا شيء، إنّها أعمالهم المعتادة. غضب السافاك من كلامي. كان ميثم (الإبن الثاني) يبكي في مهده، مضت فترة من الوقت، نهضت وذهبت إلى المطبخ ومن هناك إلى غرفة المكتبة، حيث كان سماحتهورجال السافاك هناك، كانوا مشغولين بالبحث بين الكتب. وبعد عدّة جولات من الدخول والخروج الهادئ إلى الغرفة، سحبت منها بعض الأوراق والمؤلّفات التي كان السيّد الخامنئي قد جهد في تأليفها. أذّن لصلاة الصبح، فطلب سماحته منهم أن يؤدّي صلاته. توضّأ تحت نظر عناصر السافاك، أدّى صلاته، ومن ثمّ تهيّأوا للذهاب. أيقظت الأولاد الذين كانوا نائمين، وحتّى لا يشعروا بالانزعاج قلت لهم بأنّ والدهم يريد السفر. لكنّ الأولاد حين رأوا عناصر السافاك بأسلحتهم فهموا القضيّة. ودّعنا سماحته وذهب مع عناصر السافاك. عندما استنار الصباح أكثر، رأيت دماء على الأرض، لا أدري لِمَ اتّصلوا بعد ظهر ذلك اليوم من مخفر الشرطة وقالوا إنّهم في صدد نقله إلى مكان آخر، فإن رغبتِ في رؤيته، عليك المجيء بأقصى سرعة. ذهبت برفقة بعض أصدقائه إلى مخفر الشرطة. قابلته هناك وحينها علمت أنّ رجله جُرحت جرّاء ضرب عملاء السافاك له.
في اليوم التالي ذهبت مجدّدًا للقائه فقال لي: لقد حكموني بالنفي ثلاث سنوات إلى إيرانشهر. بعد إمضاء فترة من محكوميّته في إيرانشهر، نُقل إلى "جيرفت" إحدى توابع "كرمان". وبعد فترة قصيرة وبسبب انتصار الثورة، عاد إلى مشهد، وبهذا انتفى ما بقي من مدّة محكوميّته تلقائيًّا".
"لقد تزوّجت من سماحته عام 1964، وطبعًا فقد تمّ هذه الزواج وفقًا لما كان معتمدًا ومرسومًا في العائلات المتديّنة آنذاك، فقد أتت والدته إلى منزلنا من أجل الخطبة، وبعد المداولات المعتادة أُقيمت مراسم الزواج. لدينا أربعة أبناء وابنتان، وقد وُلِد كل أبنائنا قبل الثورة أمّا ابنتانا فوُلدتا بعد الثورة.
لقد كانت تلك الفترة (ما قبل انتصار الثورة) فترة شاقّة وامتحانًا إلهيًا، وكنت قد جهّزت نفسي لكل المشاكل المحتملة، فلم أنبس ببنت شفةٍ أبدًا ولم أشكُ من أمرٍ ما. أذكر أنّه خلال الأشهر الأولى بعد زواجنا، سألني زوجي في أحد الأيام: "إن تمّ اعتقالي فماذا سيكون موقفك؟" لقد كان سؤالًا غير متوقع، وقد اضطربت واستأتُ جدًا في بادئ الأمر، لكنّه حدّثني عن المواجهة ومخاطرها ومشاكلها ووظيفة كل شخص في هذا المجال بحيث أقنعني تمامًا. وقد فتح سماحته هذا الموضوع في اليوم نفسه الذي اعتُقِل فيه الإمام الخميني قدس سره للمرّة الثانيةً وجيء به من قم إلى طهران ومن ثمّ أُقصي إلى تركيا. في ذلك اليوم كان السيد الخامنئي وآخرون في مشهد قد جهّزوا أنفسهم لإبداء مخالفتهم واعتراضهم على هذا الأمر، فسألني حينها عن ردّة فعلي في حال اعتقاله. ومنذ ذلك اليوم هيّأت نفسي فكريًا لمواجهة المخاطر التي قد يواجهها زوجي في كفاحه، لذا ففي كل مرة كان يتم اعتقاله أو إبعاده أو كان يضطر للقيام بنشاطاته خفيةً وبشكل سرّيّ، كنت أتحمّل كافّة المشاكل بسهولة. وفيما بعد عندما زاد عدد أبنائنا، كانت الحياة تصبح أكثر صعوبة من ذي قبل، وطبعًا كانت في عناية الله دائمًا ولم أشعر باليأس أبدًا.
أظنّ أنّ دوري الأكبر كان في حفظ جوّ الاستقرار والهدوء في البيت، بحيث يستطيع سماحته متابعة عمله براحة بال.
فكنت أسعى أن أبعد عنه القلق بخصوصي أنا وأولادي، وفي بعض الأحيان عندما كنت أذهب إلى السّجن لملاقاته لم أكن أخبره عن المشاكل التي كنّا نعانيها، وعندما كان يسألني عن حالي وحال أولادي لم أكن أخبره إلا بالأمور الإيجابية. فمثلًا لم أكن أخبره عن مرض الأولاد خلال لقاءاتي به في السجن، أو في الرسائل التي كنت أكتبها له في فترة الإبعاد.
بالطبع، كنت أقوم بنشاطات في مجالات مختلفة كنشر البيانات وحمل الرسائل وإخفاء الوثائق، ولكنّي أرى أنّ هذه ليست شيئًا يذكر. في آخر أشهر الكفاح كان سماحته يعمل في ما يتعلّق برسائل الإمام الخميني قدس سره الهاتفية من باريس، فكنت أرسلها إلى مراكز في مشهد والمدن الأخرى لإعادة تسجيلها ونشرها وتوزيعها، وكنت أجمع الأخبار من مشهد وباقي مدن خراسان وأتّصل بباريس. ولكنّي أظنّ أنّ الدعم المعنوي ومشاركة الآلام وحفظ الأسرار وتحمّل المشقات كانت أهمّ أعمال النساء المجاهدات والحرائر في ذلك الزمان.
(فيما يتعلّق بمساعدته داخل البيت) في الوقت الحاضر، فليس لسماحته المجال لذلك، ولا نحن ننتظر منه هكذا أمر. ولكن لدى سماحته ميزة لطيفة وجميلة ويمكنها أن تكون نموذجًا وأسوةً للآخرين وهي أنّه عندما يتواجد في البيت يسعى أن يُبقي جوّ البيت بعيدًا عن المشاكل المرتبطة بالعمل، على الرغم من أنّه عادةً ما يكون متعبًا من العمل اليومي.
أنا بصفتي امرأة مسلمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكما بقية الأخوات المسلمات، لديّ بعض المهام على عاتقي وأقوم بتأديتها بكلّ وسعي، لكن ليس لديّ أيّ مسؤولية رسمية معيّنة.
إنّنا لم نسمح للأشياء الكماليّة أن تدخل بيتنا منذ عدة سنوات. الجمال أمر جيّد، لكن ينبغي أن لا نجعل أنفسنا مقيّدين بأن نعيش حياة الترف والكماليّات. ليس لدينا في منزلنا ديكور بالمعنى المتداول للكلمة، أي سجاد وكنبات غالية الثمن وما إلى ذلك، فلقد حرّرنا أنفسنا من هذه الأشياء منذ سنوات. لقد كان والدا السيد الخامنئي مثلنا الأعلى في هذا المجال، وكانت والدته تنتقد هكذا نوع من الكماليّات، وأنا أيضًا أؤمن بهذا الشيء. ودائمًا ما أوصي أولادنا بأن يكون سلوكهم الشخصي على هذا النحو، فلا ضرورة للأغراض الكمالية".
لقد حصل لنا التوفيق بأن نحضر في مجلس درس عالم إسلامي واجتماعي وعالم بالقرآن وعارف بشؤون الغرب وعالم عامل بعلمه، ليتحدّث إلينا عن "الأسرة"، عن فلسفة الزواج وأهميّته، عن رأي الإسلام ورأي الغرب حول الزواج، عن الفروقات والاختلاف بين الرجل والمرأة، وعن مكانة كلٍّ من الرجل والمرأة في الأسرة و... فهذه مواضيع ترتبط ببعضها البعض كحبّات المسبحة، والخيط الذي يربطها ببعضها هو قضية الأسرة وأهميتها. وفي الحقيقة لقد تم الحديث حول موضوع الأسرة وموضوع المرأة، وتمت معالجة دور المرأة في الأسرة من ناحيتين: إحداهما نقد رأي الغرب، والثانية، طرح رأي الإسلام.
هذه المواضيع أشبه برواية ذات مضمونٍ قيّمٍ، تجذب القارئ الكريم إلى نفسها وتدعوه لقراءتها، فموضوعها موضوعٌ ملموس ومن أرض الواقع، ومخاطبها ليس فقط الأزواج الذين هم في سن الشباب فحسب، بل كل من يريد أن يبني أسرة أو بناها ولا يزال في بداية الطريق، أو مضى على حياته المشتركة سنوات وهو الآن يفكر في أمر الحياة المشتركة لأبنائه، فيمكنه أن يعتبرها موجّهةً إليه.
وعند مطالعة الكتاب بشكل دقيق نفهم المضمون القرآني للآية الكريمة ﴿وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾[4] ونجد أنّنا مكلّفون جميعًا بأن نبني بيوتًا وأُسَرًا تكون خالية من النقائص الجدّيّة، سواءً في بنائها أو ديمومتها أو محتواها، وتكون متطابقة مع المعايير التي قدّمها حضرة السيد القائد.
نجلس الآن في مجلس درس أحد الملتزمين بالمباني الإسلامية، والذي هو كالشمس الساطعة يبعث الضياء، فننهل ماءً زلالًا باردًا يروينا، ونتعرّف إلى وجهة نظر الإسلام في هذه القضية المهمة.
شرح الأسلوب المتبع في هذا الكتاب
خلال إعداد هذا الكتاب تم الاقتباس من أكثر من مئة محاضرة للإمام الخامنئي، وأكثرها يتعلّق بجلسات عقد القران، ومؤتمرات الأفكار الاستراتيجية حول موضوع المرأة والأسرة، ولقاء المنشدين وقرّاء العزاء في ذكرى ولادة حضرة السيدة الزهراء (سلام الله عليها)، والجلسات مع النخب من النساء. ولأجل صياغة مباحث هذه المحاضرات، تمّ اتّباع أسلوب (جديد) على غرار "إعداد جلسة مطوّلة محبوكة في محضر سماحة القائد المعظّم" وهو ما سنشرحه في ما يلي:
* الإعداد: من أجل نشر خطابات القائد العزيز وأفكاره، ينبغي العمل بشكلٍ كافٍ ومناسبٍ على المتون، والقيام بما يصطلح عليه "إعداد كتاب" من خلال انتقاء الكلام بشكل مدروس من خطب سماحته. وبالطبع ينبغي في عملية إعداد الكتب، اعتماد أساليب متناسبة مع المواضيع بحسب اختلافها، أساليب موثّقة، إبداعية، فصيحة، واضحة، جذابة، وجميلة.
* جلسة: ليس في هذا الكتاب عنوان وهو ليس مقسّمًا إلى فصول، وتمّ ذلك عن سابق تصميم من أجل الحفاظ على طابع "الجلسة"، فبقراءتنا له نشعر وكأنّنا نستمع إلى صوت وليّنا بنغمته الدافئة، وذلك في جلسة عقد القران المفعمة بالحيوية. طبعًا جلستنا هنا افتراضيّة، جلسة افتراضيّة وتخيليّة، ولكنّ كلماتها حقيقيّة. إنّنا عندما نكون في جلسة ما، لا نعلم ما المعارف التي سيتمّ تقديمها وبأي ترتيب ستكون. وفي هذا الأسلوب المتبع في الكتاب، تم تجنّب العنونة (المباشرة) للحفاظ على جوّ الجلسة[5]. وكما نجلس في الجلسة الواقعية ونصغي منذ بدء الكلام حتى نهايته، فإنّ أفضل طريقة لمطالعة كتاب "الأسرة" هي أن نطالعه بشكل متواصل ولا نقطع القراءة إلا عند الضرورة. ومع ذلك، فإنّ قراءة كل قسمٍ من الكتاب على حدة - في المطالعات المستقبلية - سيكون لها حلاوتها وجاذبيّتها وبريقها الخاص بها.
* مطوّلة: هذه الكلمة تعبّر عن كون هذا المتن المتماسك طويلًا. وهذا لا يعني بالضرورة ضخامة الكتاب، بل إنّ أي جلسة يطول زمان انعقادها يُقال لها مطوّلة.
* محبوكة: أي مترابطة ومتشابكة ببعضها البعض. فلأجل إعداد جلسة واحدة مطوّلة من ما يزيد عن مائة جلسة، ينبغي إدغام المطالب ببعضها وفق نظام منطقي، فتقطيع المحاضرات ووضعها إلى جانب بعضها البعض يأتي حتمًا في إطار مواضيع مرتبطة، وإن لم يلتفت القارئ إلى التواريخ ما بين المحاضرات، فسيشعر بتماسك النص وتجانسه.
* في محضر: إن كل المطالب الواردة في الكتاب هي عين كلام سماحته، وفي الحالات المعدودة التي أضيفت فيها بعض الكلمات إلى النص، تم استعمال علامة ( )، وإذا كان هناك مقطع من النص قد حُذف بسبب التكرار أو الخروج عن الموضوع، فقد تمت الإشارة إليه بنقطتين متتاليتين (..).
وفي نهاية الكتاب تمّ إدراج فهرس بمواضيع الكتاب، يمكن للقارئ أن يعثر من خلاله على المطلب الذي يريده بعد مطالعته للكتاب كاملًا.
ومن الأفضل أن يقوم كل قارئ بتدوين علامات وإشارات في حاشية الكتاب وفقًا لفهمه وللقضايا التي تحيط به وترتبط بحياته الشخصية، بحيث تساعده على مراجعة المطالب أو العثور عليها في المستقبل.
في الختام، كم من الأزواج الذين كانوا مشتاقين من صميم قلوبهم لأن يبدأوا حياتهم المشتركة في محضر وليّهم، ولكنّهم لم يحقّقوا هذا الأمل. أولئك من خلال علمهم بالرؤية الإلهيّة لمقتداهم، جعلوا مهورهم أربع عشرة مسكوكة ذهبيّة أو أقلّ، أو حتّى جعلوه مهر السنّة، على أمل أنّهم إن لم يبدأوا حياتهم المشتركة بعقد قرانهم بواسطة القائد، فبالحدّ الأدنى يكونون قد تماهوا وتناغموا مع لحن كلامه.
والآن، فإنّه من الجدير بكلّ من يحسب نفسه من الأبناء المعنويين لهذا الأب الحنون والحكيم، أن يجعل سلوكه وحالته كما يريد سماحته، وأن يضع نفسه في مسار طريق العمل الصالح من خلال (الامتثال) لتوجيهات سماحته وإرشاداته، وأن لا يرضى (لنفسه) الخروج عن دائرة رأي سماحته قيد أنملة، أو الغفلة عنها ولو للحظة.
صدر هذا العمل باللغة الفارسية في شهر أيلول 2013 الموافق
لأيّام شهر رمضان المبارك من العام 1434ق
[1] يقول الإمام عليّ عليه السلام في الخطبة 108 من نهج البلاغة واصفًا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "طبيب دوّار بطبّه، قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، وآذان صمّ والسنة بكم..".
[2] 12/12/1988.
[3] 14/10/2012.
[4] سورة يونس, الآية: 87.
[5] ثم وضع العناوين إلى جانب النصوص في طرفي الصفحات (المحرر).
12
احترام الإسلام للزواج عند جميع الأديان والمذاهب
الجلسة
استهلال
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله إقرارًا بنعمته، ولا إله إلا الله إخلاصًا لوحدانيّته، والصلاة والسلام على أشرف بريّته وعلى الأصفياء من عترته. وبعدُ فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[1]. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "النكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي"[2] وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من تزوّج فقد أحرز نصف دينه، فليتّق الله في النّصف الآخر" وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "تناكحوا تناسلوا تَكاثُروا فإنّي أُباهي بكم الأممَ يوم القيامة ولو بالسّقط"[3].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك الليلة هذا العقد الذي أجريه لكم أيّها الشباب المسلمون والشابّات المسلمات، وأن يوفّقكم للعمل بوظائف الزوجيّة والزواج[4]. وأن يُوفّقكم للحياة مع بعضكم عمرًا
[1] سورة النور, الآية: 32.
[2] 15 / 4 / 1998.
[3] 3 / 10 / 2002.
[4] 4 / 5 / 1984.
26
احترام الإسلام للزواج عند جميع الأديان والمذاهب
مديدًا بهناءة عيش وسعادة[1]. وأن تكون ثمرة هذا الزواج أُسرًا صالحة وسليمة ومؤمنة ومتديّنة[2].
أودّ في البداية أن أوّجه بعض النصائح للعرائس والعرسان وعائلاتهم، ومن ثمّ أجري صيغة العقد[3].
في هذا العقد الذي نجريه، إنّما في الحقيقة، نربط ونصل شخصين أجنبيّين (من الناحية الشرعية) عن بعضهما البعض، بهذه الكلمات القليلة، ليصبحا أشدّ قربًا ومودّة وارتباطًا ببعضهما من كلّ العالم.
ثانيًا، إنّنا نوجد من خلال هذا العقد خليّة جديدة في جسد المجتمع، حيث يتشكّل جسد المجتمع من خلايا العائلات[4].
بالطبع، إنّ الفائدة الأهمّ للزواج هي بناء العائلة والأسرة، وباقي الأمور إنّما هي مسائل فرعيّة وثانويّة أو رافدة لهذه المسألة، كالتوالد والتكاثر أو إشباع الشهوة الجسدية، فهذه كلّها تأتي في الدرجة الثانية، ويأتي تشكيل العائلة والأسرة في الدرجة الأولى[5].
لقد عدّ شرع الإسلام المقدّس الزواج أمرًا لازمًا بالنسبة للرجال
[1] 6/12/2002.
[2] 23/8/1996.
[3] 29/5/2002.
[4] 2/3/1995.
[5] 8/2/2002.
27
احترام الإسلام للزواج عند جميع الأديان والمذاهب
والنساء، لأنّ قوام الحياة البشريّة نواته الأسرة، التي تقوم بالزواج[1]. ولذا، فإنّ الزواج موجود في كلّ الأديان والملل والمذاهب[2], وهو ليس مختصًّا بالإسلام[3]. وكلّ الزيجات بين أهل الملل والأديان فيما بينهم صحيحة، لذا، إذا ما أسلم شخص من أيّ دين أو مذهب غير الإسلام -ولنفترض أنّ رجلًا وزوجته أسلما- فإنّ ذلك الزواج الذي عقداه بحسب دينهما السابق صحيح[4]. فالإسلام يرى بأنّ عقود أبناء الأديان الأخرى وزيجاتهم، وارتباطاتهم صحيحة، ويعدّهما (من تزوّج منهم طبقًا لمعايير ملّته) زوجةً وزوجًا، وأولادهم أولاد حلال[5]. ولا يطلب منهما تجديد عقد الزواج، بعبارة أخرى، يحترم الإسلام كلّ الزيجات التي أُجريت في الأديان والمذاهب الأخرى. ذلك أنّ أصل الزواج، هذا العقد الشريف بين الرجل والمرأة لبدء حياة مشتركة فيما بينهما، هو أمر معتبر ومقدّس في جميع الأديان[6].
غالبًا ما تكون مراسم الزواج مراسم دينيّة، فيقيمها المسيحيّون في الكنائس واليهود في الكنيس، أمّا المسلمون فإنّهم وإن كانوا لا يقيمونها في المساجد، إلّا أنّهم إن استطاعوا يقيمونها في المشاهد
[1] 2/3/1984.
[2] 2/3/1984.
[3] 9/3/1984.
[4] 2/3/1984.
[5] 31/7/1996.
[6] 2/3/1984.
28
أهميّة الزواج من وجهة نظر الإسلام
المشرّفة[1]، أو في الأيّام المباركة وعلى يد علماء الدين بالخصوص. وهكذا، فإنّ عالم الدين عندما يجلس ليعقد قران أحدهم فإنّه يخطب خطبة دينيّة. وعليه، فالصبغة صبغة دينيّة تمامًا. وللزواج جنبة قدسيّة[2]، غاية الأمر أنّ الزواج في الإسلام قد ضمن شرائط خاصّة وأحكام محدّدة، تقوّي هذه الرابطة وتوثّقها وكذا تخرجها من حال القيم غير المعتبرة إلى القيم المعتبرة[3]. ما معنى هذا؟ معناه أنّنا وبمجرّد الدخول في هذه المرحلة، نجدّد العهد مع الله المتعال بالتزاماتنا الدينيّة، ويكون البدء بالحياة الأسريّة مقترنًا بالتوجّه إلى الله. لذلك حُدّدت لكلّ المسلمين تكاليف عباديّة خاصة ليلة الزواج، من صلوات مستحبّة ودعاء وغيرها.
يظنّ أصحاب القلوب الغافلة بأنّ مرحلة الزواج هي مرحلة إطفاء الشهوة فقط، ومرحلة إشباع الرغبات النفسيّة، إلا أنّ الحقيقة مغايرة لذلك. إنّ إشباع الرغبات النفسيّة، وتلبية الاحتياجات الطبيعيّة أمر لازم ولا إشكال فيه أيضًا، وهو أمر مستحسن كثيرًا ـ لكن حتّى تلبية الحاجات الطبيعيّة، ينبغي أن يكون مقرونًا بتذكّر الله، والتوجّه إليه وفي سبيله. عندما تأكلون أيضًا، تبدأون بـ"بسم الله الرحمن الرحيم" وعندما تنهون تقولون "الحمد لله" وتشكرون الله تعالى. وهل هناك شيء أكثر طبيعيّة من الأكل؟! ينبغي لتشكيل الأسرة أن يكون تجديد
[1] مشاهد الأئمّة وأبنائهم عليهم السلام.
[2] 13/1990.
[3] 9/3/1984.
29
أهميّة الزواج من وجهة نظر الإسلام
عهد جديد مع الله المتعال، بمعنى أن يستحضر كلّ إنسان العهد الذي عاهده لله تعالى ويراعي الله سبحانه به في الخطوة الأولى من مرحلة الزواج[1]. لذا، فإنّه من السهل جدًّا أن يحصل الإنسان على الأجر أيضًا عن طريق هذا الإقدام والعمل الذي تقتضيه طبيعته وحاجته، لأنّه سنّة، وقد أقدم على هذا العمل بهدف أداء سنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطاعة أمره[2].
للزواج أهمّيّة بالغة في الإسلام[3]. ومع أنّه لم يُصنّف شرعًا من جملة الواجبات، إلّا أنّه قد تمّ الحثّ والترغيب به إلى درجة يفهم الإنسان منها إصرار الله تعالى عليه[4]. وتكمن الأهميّة في أنّ الزواج حاجة طبيعيّة والإسلام يولي الأهميّة لحاجات الإنسان الطبيعيّة، وينبغي له تشخيص الطريق السليم لقضاء هذه الحاجة وقد شخّصه بالفعل، وهو بالزواج[5]. لكلّ من الرجل والمرأة حاجة جنسيّة، ولا يمكن لهذه الحاجة أن تكون من دون قيود، ومتروكة. ومن غير الجائز أن تكون كذلك، بل ينبغي وضع حدود وضوابط لها، وحدّها هو الزواج. لذلك يقول: "من تزوّج فقد أحرز نصف دينه". ما هو نصف الدين الذي يُحرز؟ بعض منه هو ذلك الشيء الذي يُهدّد الإنسان من ناحية
[1] 21/10/2002.
[2] 29/1/1998.
[3] 2/3/1984.
[4] 2/3/1984.
[5] 9/3/1984.
30
أهميّة الزواج من وجهة نظر الإسلام
ميوله الجنسيّة. فالميول الجنسيّة تسلب دين الكثير من البشر، وتوقع الكثير منهم في المشاكل، وفي التيه والضلال. والوقوف بوجهها يكون بإشباع هذه الميول الجنسيّة، وتلبيتها وعدم كبحها، لكن كيف؟ بالضابطة والقانون، أي بالزواج. لاحظوا كم هو الزواج مهمّ[1].
وهذا الأمر ليس مختصًّا بالإنسان، ذلك أنّ ارتباط الموجودَين هو وسيلة لاستمرار الحياة. وهو موجود في النباتات وفي الحيوانات بنحو ما، وهكذا هو موجود في الإنسان، غاية الأمر، لأنّ الإنسان متميّز من قبل الله تعالى بالعقل والإرادة فقد حُدّدت لعلاقته الزوجيّة قواعد ورسوم، وذلك لإعطاء الأهميّة لحدث زواج الموجودَين وارتباط القلبين ببعضهما وإيجاد مؤسّسة جديدة في المحيط الاجتماعي للبشر. والقواعد والرسوم السالفة ليست مختصّة بالإسلام، فلجميع الأديان والملل قواعدها وقوانينها. بالطبع، لقد سعى الإسلام لجعل هذه الرسوم أكثر سهولة وبساطة. وأولى اهتماماً خاصاً للزواج، فقد شجّع الناس والشبّان والشابّات على أصل الزواج، كما شجّعهم على إدارة المؤسّسة الجديدة المتشكّلة بالزواج، وكذا على استمرار الارتباط الزوجي، والمواضيع الثلاثة هي مورد تأكيد الإسلام.
وعن أصل موضوع الزواج، ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه رأى شابًّا أعجبه مظهره، فناداه وسأله: هل لك حرفة، فقال: لا، قال النبيّ: ألك زوجة، قال لا. فأعرض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عنه وقال: "سقط من عيني". لاحظوا
[1] 2/3/1984.
31
أهميّة الزواج من وجهة نظر الإسلام
ما للزواج من أهميّة، بحيث أُنّب المتهرّب منه كما أُنّب العاطل عن العمل[1].
لذا، من الأهمّيّة بمكان أن نلتفت إلى نظرة الإسلام فيما يتعلّق بالزواج. والمسألة الأولى في هذه النظرة، هي أنّ الإسلام يحثّ الشباب على الزواج، وفي عمر مبكر أيضًا، أي حين الحاجة إليه. ولا يعني هذا أنّنا نصرّ على الزواج بأسرع ما يمكن، وأنّ ذلك هو الأفضل، لا، بل أن يتمّ الزواج عندما يشعر الإنسان بالحاجة إليه. سواءً كان شابًّا أم فتاةً. ولا يسمحنّ بمرور السنين على هذا الأمر[2].
لقد أكّد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على الزواج المبكر للشباب - سواء الشبّان أم الفتيات - وبالطبع، برغبتهم واختيارهم، لا أن يقرّر الآخرون عنهم. وعلينا نحن أيضًا أن نروّج لهذه المسألة في مجتمعنا. على الشباب أن يتزوّجوا قبل أن يتجاوزوا مرحلة الشباب، وفي مرحلة الحماس والشوق والرغبة. وهذا مخالف لفهم الكثير من الأشخاص الذين يرون بأنّ الزيجات في مرحلة الشباب هي زيجات غير ناضجة ومحكومة بعدم الاستمراريّة. والعكس هو الصحيح، فإذا ما تمّت بالصورة الصحيحة ستكون زيجات مستدامة وجيّدة، وسيعيش الرجل والمرأة في مثل هذه العائلات حالة وفاق تامّ.
وما يفعله البعض من تأخير سنّ الزواج إلى أواسط العمر، كما
[1] 4/3/2003.
[2] 9/3/1984.
32
اختلاف نظرة الإسلام والغرب إلى الأسرة والزواج
هو رائج ومعمول به في العالم الغربي والحضارة الغربيّة، هو مثل معظم أفكارهم المغلوطة، مخالف لفطرة البشر ومصلحتهم، وناشئ من إقبالهم على الشهوة والتحلّل من القيود[1]. كان هذا دأب بعض الثقافات الدخيلة، حيث أدخلها الأوروبيّون إلى بلادنا، وقالوا إنّ على الشباب أن يؤخّروا زواجهم حتّى ينهوا تعليمهم ويحصلوا على عمل، ولا أعلم إن كان لا بدّ للعمل هذا أن يكون إداريًّا أم لا؟ ومن ثمّ يتزوّجون. كما لا معنى لزواج الفتيات في أوائل سنّ البلوغ، وينبغي عليها الانتظار حتّى تكبر وتخبر كلّ شيء في هذه الدنيا، ومن ثمّ تتزوّج. كان هذا رسم الأوروبيّين. وهو أمر سيّئ جدًّا. لأنّهم يؤخّرون الزواج ليس من باب أنّهم لا يعتقدون بحاجة الشباب الجنسيّة في سنّ الشباب، بل إنّهم يعون ذلك تمامًا ويؤمنون بأنّ الحاجة الجنسيّة موجودة، غاية الأمر أنّهم يرون أنّ على الشباب في مرحلة الشباب قضاء حاجاتهم الجنسية بشكل حرّ، أي عبر ذلك الشيء الذي نعتبره نحن فسقًا ومعصيةً ويؤدّي إلى تخريب وضع المجتمع.
لذلك أيضًا، لم يكن ارتباط الزوج والزوجة الغربيّين والمتغرّبين ارتباطًا محكمًا وقويًّا. انظروا إلى الأُسر القديمة، يعيشون مع بعضهما خمسين، ستين، سبعين عامًا، وبعد ذلك عندما يموت أحد هذين العجوزين، يعيش الآخر لسنوات في حال عزاء عليه. لقد أُقيم بناء الزواج على المحبّة، كانا يكنّان المحبّة والإخلاص الواحد منهما للآخر،
[1] 15/4/1998.
33
شكر نعمة الزواج
ولم يجذبهما خارج إطار الأسرة شيء في مجال الجنس والعلاقة الجنسيّة، لكنّ المرأة والرجل الغربيّين ليسا كذلك، الأسرة عندهم وحدة لا أساس لها، ليست محكمة، سرعان ما تتلاشى، والطلاق كثير، وحيث لا يوجد طلاق يكون الطلاق عمليًّا. فالمرأة والرجل قد أمضيا فترة شبابهما - لا أقول كلّهم، بل معظمهم كانوا كذلك ومعظمهم الآن كذلك - من دون أن يكونا محتاجين إلى بعضهما الآخر، وقد أقبلا - بعد ذلك - على الزواج بعد إشباع رغباتهما والإحساس بعدم الحاجة. مع الملاحظة، أنّهما لم يقيّدا نفسيهما في إطار الأسرة. لا هي ولا هو، والشيء الذي يربطهما ببعضهما هو غرفة، وشقّة سكنيّة، ومكان ماديّ، لا أمر معنويّ ورابطة روحيّة. فما هو عليه تلك الأُسر والعائلات، ليس بعائلة.
إنّ المرأة والرجل الكبيرين عندما يتقدّمان في السنّ - وتكون شيخوختهما قبل أوانها، فالشخص ذو الستّين عامًا يكون رجلًا عجوزًا بكلّ ما للكلمة من معنى - فهذان لن يعودا يشعران بلذّة الحياة، أبناء الستّين عامًا عندنا يصبحون يعدّون الأحفاد وما جنوه من أولاد، لقد أصبحوا الآن ثلاثين، اثنين وثلاثين، أمّا (الغربيّون) فلا، فهم منفصلون من الأساس، لأن هذه المؤسّسة، لم تكن قائمة منذ البداية على المحبّة والحميميّة، بل كانت قائمة على البرودة وعدم الاكتراث وعلى الشبع ... بالطبع، لا أقول إنّهم كلّهم هكذا، وإنّ عائلاتنا وأسرنا كلّها حميميّة وجيّدة، نعم، الشكل الغالب هو هكذا، الشكل الغالب عندنا هو هكذا، والشكل الغالب عندهم هو ذاك. وقد أدخلوا هذا
34
الزوج والزوجة مكمّلان لبعضهما البعض
الأمر إلى إيران أيضًا، وإلى البيئات الإسلاميّة. والإسلام لا يقبل بهذا. الإسلام يقول لا، فليتزوّج الشابّ والفتاة في بداية الإحساس بالحاجة إلى الزواج، وليشكّلا أسرة، ماذا ينتظران؟ لذا يقول: "إنّ شرّ الناس العزّاب"، سواءً الشابّ أو الفتاة. أي إنّ الذي يحتاج إلى امرأة ولا يتزوّج، والتي تحتاج إلى رجل ولا تتزوّج فهما شرّ الناس.
(المسألة التالية) هي أنّ الزواج نعمة إلهيّة كبرى، وحيث إنّ لكلّ نعمة شكرًا، يكون شكر هذه النعمة بالحفاظ على رابطة الزواج قويّة ومحكمة، وبعدم السماح للمشاكل والأحداث، والضغائن، والانتقادات غير البنّاءة، والجدالات الكثيرة والنفقات المضرّة، بأن تزلزل هذه الرابطة وهذه المؤسّسة العائليّة التي تأسّست وتشكّلت بصيغة العقد الذي أجريناه[1].
بصيغة العقد هذه التي نتلفّظ بها وننشئها، وهي أمر اعتباريّ ـ توجد علاقة اعتباريّة بينكما، وينبغي على الشابّ والفتاة أن يبذلا سعيهما ليحافظا على هذه العلاقة[2].
الجميع يهدف إلى أن تقوم هذه المرحلة وهي المرحلة الأساس من حياة الإنسان على الهناء والسلامة وسعادة الطرفين. وعليكما أنتما أن تعملا على أن تكون كذلك. بناءً عليه، كلّ أمر يضعف ركن العائلة، يجب أن يُعدّ ممنوعًا من قبلكما. فبعض الشكايات والتذمّرات التي لا طائل منها، والتوقّعات الكبيرة، والقيود غير المجدية، تؤدّي إلى
[1] 9/6/2003.
[2] 11/9/1991.
35
الرابطة الصحيحة بين المرأة والرجل من خلال المودّة والرحمة
تعكير جوّ الأسرة الودّيّ والصافي. وهذا الصفاء والودّ لا يتأتّيان عبر المال والأوامر وأمثال هذه الأمور[1]. حذارِ أن تضعف هذه المؤسّسة من خلال الشكايات، والضغائن، وكثرة التطلّبات والتوقّعات، وعدم المودّة، وأحيانًا عبر تدخّل الآخرين وأمثالها. الشيء المهمّ هو أن يسعى كلّ من الشابّ والفتاة إلى الحفاظ على هذه العلاقة الزوجيّة.
كيف يمكن لكم الحفاظ على هذه العلقة؟ بالطبع، الأناس العاقلون والأذكياء وذوو الإحساس والوجدان الصادق يجدون الطريق لذلك. وهذا يحصل عن طريق الثقة، والحبّ المتبادل. أن لا تفرض المرأة على الرجل شيئًا وتظلمه، ولا يظلم الرجل المرأة ويكون متطلّبًا، أن يكونا كرفيقين وشريكين، مخلصين لبعضهما ومقرّبين لتُحفظ هذه المؤسّسة[2]. وإذا ما عُمل بمقتضى ذلك التكليف، سيكون هذا العقد مباركًا، ويصبح مباركًا أكثر إن شاء الله بفعل أيديكم. إحدى الأمور التي تجعل العقد مباركًا، هو أن يشعر كلّ من المرأة والرجل بأنّ عليهما في هذه المرحلة الجديدة من الحياة وظائف ينبغي لهما أداؤها. ادخلوا هذه المرحلة الجديدة من الحياة بهذا الإحساس. لأنّ الزوجين في الحياة الأسريّة مكمّلين لبعضهما الآخر، ولا واحد منهما كامل من دون الآخر. لا تظنّوا بأنّ أحدهما هو الأصل، والثاني هو الفرع، الزوج هو الأصل مثلًا، والزوجة هي الفرع، أو طبقًا لبعض العادات الأخرى، الزوجة هي الأصل والزوج هو الفرع وتابع لها، لا، لا
[1] 19/9/2002.
[2] 11/9/1991.
36
الرابطة الصحيحة بين المرأة والرجل من خلال المودّة والرحمة
أحد منهما هو الأصل ليكون الآخر فرعه، ولا أحد منهما فرع للآخر، ومجموع هذين مع بعضهما وإلى جانب بعضهما هو الأصل، وكلّ منهما محتاج للآخر، ليس فقط الاحتياج الجنسي والشهواني، بل الاحتياج الروحي، والاحتياج الأخلاقي، والديني، والاحتياج من أجل استمرار النسل البشري. المرأة مصدر طمأنينة وسكون الرجل، والرجل مصدر راحة المرأة. ولا يعني هذا أنّ لأحد منّة على الآخر، لا، فهما كمصراعي الباب، من دون أحدهما يكون (الباب) ناقصًا. والزوج هو القرين والمماثل، أي المجموع الذي يكون جزؤه ناقصًا من دون الجزء الآخر. ادخلوا الحياة الزوجيّة بهذه الروحيّة[1].
لاحظوا ما تقول الآية الكريمة عن الرجل والمرأة وخاصّة في داخل الأسرة: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾[2] أي (خلق) لكم أيّها الرجال النساء، وأيّتها النساء الرجال. ﴿مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ فهما ليسا من طبيعتين مختلفتين، ولا في مرتبتين مختلفتين، هما حقيقة واحدة، وجوهر واحد وذات واحدة. بالطبع هما مختلفان في بعض الخصائص، لأنّ وظائفهما وتكاليفهما مختلفة. بعدها يقول: ﴿لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾, أي إنّ الزوجيّة واختلاف الجنس في طبيعة البشر كانت من أجل هدف كبير، ألا وهو السكون والطمأنينة. لتجدوا إلى جانب الجنس الآخر لكم وضمن إطار الأسرة - الرجل إلى جانب المرأة، والمرأة إلى جانب الرجل - السكون والطمأنينة. فبالنسبة للرجل، أن يأتي إلى
[1] 4/5/1984.
[2] سورة الروم: 21.
37
الشكر الحقيقي لنعمة الزواج
منزله ويجد جوًّا آمنًا، وامرأة لطيفة ومحبّة وأمينة إلى جانبه، لهو سبب للطمأنينة، وهكذا، بالنسبة للمرأة، أن يكون لديها رجل وملاذ تعشقه ويكون لها كالحصن المنيع - ذلك أنّ الرجل أقوى جسديًّا من المرأة - لهو من حسن الحظّ، ومصدر للطمأنينة والسعادة. هذا ما تؤمّنه الأسرة لكليهما. لكي يجد الرجل الطمأنينة يحتاج إلى امرأة في جوّ عائليّ وأسريّ، وكذا المرأة لتحصل على الطمأنينة تحتاج إلى الرجل ضمن جوّ الأسرة والعائلة. ﴿لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ كلاهما يحتاجان إلى بعضهما البعض من أجل تحصيل السكون والطمأنينة.
أكثر ما يحتاج البشر إليه هو الطمأنينة. وسعادة الإنسان تكمن في بقائه آمنًا من الاضطراب والتأزّم النفسي وفي أن يبقى متحلّيًا بالطمأنينة النفسيّة والروحيّة، وهذا ما توفّره الأسرة للإنسان، رجلًا كان أم امرأة. العبارة التالية لافتة وجميلة جدًّا. يقول تعالى: "وجعل بينكم مودّة ورحمة". العلاقة الصحيحة بين الرجل والمرأة هي علاقة المودّة والرحمة، في أن يحبّا ويعشقا بعضهما البعض، وكذلك في أن يكونا رحيمين ببعضهما. فالحبّ المترافق مع العنف ليس مقبولًا، وكذا الرحمة من دون المودّة ليست مقبولة هي الأخرى. فالطبيعة الإلهيّة للرجل والمرأة في محيط الأسرة هي طبيعة توجد فيما بينهما علاقة المودّة والرحمة: "مودّة ورحمة"[1], والعامل الذي يربط الأسرة ببعضها هو عامل المحبّة[2].
[1] 22/10/1997.
[2] 19/6/2002.