المقدّمة
المقدّمة
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
قال الله في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[1].
جعل الله الصيام مقدّمةً لبلوغ التقوى، وهذا كاشف عن عظمة هذه الفريضة من خلال عظمة الثمرة الّتي نجنيها، والمعلول الّذي تحقّقه هذه العلّة. والأهمّ في الآية أنّها تتكلّم على التقوى في بعدها المجتمعيّ، فهي عبادة يقوم بها المسلمون معًا في شهرٍ واحد، وفي مدّة زمنيّة محدّدة للجميع، بين السحور والإفطار، لتنتج مجتمعًا تقيًّا ورعًا مراقبًا لأعماله وأقواله في كلّ كبيرةٍ وصغيرة؛ فإنّ التقوى المرجوّة من عبادة الصوم هي تلك الملكة التي تجعل صاحبها في حالة من الرقابة المستمرّة والدائمة لكلّ ما يصدر منه، فتكون من آثارها عصمة صاحبها عن الخطأ والمعصية والرذيلة. فالتقوى في بعدها العمليّ هي هذا الاحتراز والحذر الدائم واليقظة المتواصلة؛ ولذلك فإنّ علماء الأخلاق جعلوا الغفلة وعدم التبصّر في الأشياء على الحدّ المقابل للتقوى.
[1] سورة البقرة، الآية 183.
7
1
المقدّمة
يقول الإمام الخامنئيّ(دام ظله): «أدعو كلّ الإخوة الأعزّاء، وأوصيهم ونفسي بتقوى الله؛ إذا كنّا نروم النصرة من الله فهي في التقوى، وإذا كنّا نريد التوفيقات الإلهيّة والهداية الإلهيّة فهي في التقوى، وإذا كنّا نطمح إلى الفرج والانفراج في الشؤون الشخصيّة والاجتماعيّة فهي في التقوى، علينا جميعًا السعي لجعل تقوى الله معيار أعمالنا»[1].
سعيًا في تحقيق هذا الهدف، وطمعًا في الاستفادة القصوى من هذه الفرصة العظيمة في هذا الشهر الكريم، ومواكبةً للعمل الثقافيّ التبليغيّ، قمنا في مركز المعارف للتأليف والتحقيق، بإصدار متنٍ تبليغيّ من «سلسلة زاد المبلِّغ»، بعنوان «زاد المتّقين»، يتضمّن أهمّ المواعظ الّتي ينبغي إعطاؤها الأولويّة التبليغيّة، استنادًا إلى الأولويّات الثقافيّة لهذا العام.
ختامًا، نسأل الله أن يتقبّل أعمالنا وأعمالكم بأحسن القبول، وأن يجعلنا وإيّاكم من عتقائه من النار، وأن يحظى هذا الإصدار بقبول المبلِّغين الكرام، ليكون عونًا لهم في خدمة المسلمين في هذا الموسم العباديّ العظيم.
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
[1] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظله)، بتاريخ 17/01/2020م.
8
2
الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان وخصائصه
الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان وخصائصه
1. شهر الضيافة وأدب الضيف
2. وَقْعُ شهر رمضان على المؤمنين والمجرمين
3. بعض فضائل شهر رمضان
4. إجمال خصائص الشهر الفضيل
هدف الموعظة
حثّ المكلَّفين على اغتنام هذه الفرصة العظيمة، من خلال تعرُّف فضل شهر رمضان وخصائصه.
تصدير الموعظة
رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللهِ، أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ
9
3
الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان وخصائصه
فِيهِ مُسْتَجَابٌ؛ فَاسْأَلُوا اللهَ رَبَّكُمْ بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ؛ فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ»[1].
يستهلّ الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) خطبته هذه بتعابير التعظيم لشهر رمضان المبارك، ويبيّن أهمّ خصائصه؛ من كونه أفضل الشهور، وأنّه شهر الضيافة الإلهيّة... وحتّى لا يمرّ علينا هذا الشهر الفضيل كبقيّة أشهر السنة، ينبغي أن نتعرّف، أوّلًا، أهمّيّته وميزته وفضله على سائر الشهور، حتّى نتحرّك باتّجاه تعظيمه والإقبال على صيامه وقيامه حقّ الصيام والقيام.
شهر الضيافة وأدب الضيف
تقدّم في خطبة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّ شهر رمضان شهرٌ دُعِينا فيه إلى ضيافة الله، وضيافة الله هي مغفرته ورحمته الواسعة الّتي يغمر بها الصائمين والقائمين في هذا الشهر الفضيل.
لكن كيف يكون تأدُّبنا في محضر مضيفنا سبحانه وتعالى؟
يوضّح السيّد ابن طاووس e الجواب عن هذا التساؤل، فيقول: «فلا تكن، أيّها الإنسان، ممّن نزل به ضيفٌ غنيٌّ عنه، وما نزل به ضيف منذ سنة أشرف منه، وقد حضره للإنعام عليه، وحمل إليه معه تحف السعادات، وشرف العنايات، وما لا يبلغه وصف المقال من الآمال والإقبال، فأساء مجاورة هذا الضيف الكريم، وجفاه وهوّن
[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، إيران - قمّ، 1417هـ، ط1، ص93.
10
4
الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان وخصائصه
به، وعامل معه معاملة المضيف اللئيم، فانصرف الضيف الكريم ذامًّا لضيافته، وبقي الّذي نزل به في فضيحة تقصيره وسوء مجاورته، أو في عار تأسُّفه وندامته. فكن إمّا محسِنًا في الضيافة والمعرفة بحقوق ما وصل به هذا الضيف من السعادة والرحمة والرأفة والأمن من المخافة، أو كن لا له ولا عليه، فلا تصاحبه بالكراهة وسوء الأدب عليه»[1]. فإذا لم تكن محسِنًا، مُكرمًا للضيف، فلا تكن مُسيئًا مهينًا، مجافيًا، تستقبله بالإعراض، وتودّعه بلوثات المهانة.
وَقْعُ شهر رمضان على المؤمنين والمجرمين
لأنّ شهر رمضان هو شهر الله وشهر ضيافته، ولأنّه «وَهذا شَهْرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَهذا شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ، وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ»[2]، ولأنّه شهرُ غلِّ الشياطين وتصفيدهم، وتقييد الأبالسة، وإغلاق النيران؛ كان هذا الشهر عيدًا للأولياء، وغمًّا للمجرمين، فعن الإمام السجاد (عليه السلام): «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللهِ الْأَكْبَرَ، وَيَا عِيدَ أَوْلِيَائِهِ. السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَكْرَمَ مَصْحُوبٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَيَا خَيْرَ شَهْرٍ فِي الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ. السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ قَرُبَتْ فِيهِ الْآمَالُ، وَنُشِرَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ. السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِينٍ جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُودًا، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُودًا، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ... السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، وَأَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ!»[3].
[1] ابن طاووس، عليّ بن موسى، الإقبال بالأعمال الحسنة في ما يُعمَل مرّة في السنة، مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1418هـ، ط1، ج1، ص420.
[2] المصدر نفسه، ج1، ص202.
[3] الإمام زين العابدين، الصحيفة السجّاديّة، دفتر نشر الهادي، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص198، الدعاء 44.
11
5
الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان وخصائصه
والآجال، وتُقَدَّر فيه أمور الإنسان وشؤونه كلّها في السنة، ولا سيّما في ليلة القدر منه.
فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَأَجْهِدُوا أَنْفُسَكُمْ؛ فَإِنَّ فِيهِ تُقَسَّمُ الْأَرْزَاقُ، وَتُكْتَبُ الْآجَالُ، وَفِيهِ يُكْتَبُ وَفْدُ اللهِ الَّذِينَ يَفِدُونَ إِلَيْهِ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ»[1].
إجمال خصائص الشهر الفضيل
ختامًا، نُجمِل بعض الخصائص الأخرى المستفادة من الروايات الشريفة في ما يأتي:
1. خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك[2].
2. تستغفر الملائكة للصائمين حتّى يفطروا.
3. يُغفَر للصائمين في آخر ليلة من شهر رمضان.
4. تُفتَح أبواب الجنّة، وتُغلَق أبواب النار. في الجنّة باب يُقال له الريّان، لا يدخله إلّا الصائمون.
5. فيه ليلة القدر، هي خيرٌ من ألف شهر؛ مَن حُرِم خيرَها فقد حُرِم الخيرَ كلَّه.
[1] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج4، ص66.
[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، فضائل الأشهر الثلاثة، تحقيق وإخراج ميرزا غلام رضا عرفانيان، دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1412هـ - 1992م، ط2، ص143.
14
6
الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان وخصائصه
6. لله عتقاء من النار في آخر ليلة من شهر رمضان.
7. الصيام يشفع للعبد يوم القيامة، حتّى يدخل الجنّة.
8. شهر نزلَت فيه الكتب السماويّة، كصُحُف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، والقرآن العظيم.
9. التطوُّع بالنوافل والصلوات المستحبّة فيه براءةٌ من النار.
10. صيامه يغفر جميع ما تقدَّم من الذنوب.
11. يُستَجاب دعاء الصائم في شهر رمضان.
15
7
الموعظة الثانية: الاستثمار المعنويّ في شهر رمضان
الموعظة الثانية: الاستثمار المعنويّ في شهر رمضان
1. دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى استقبال شهر رمضان
2. أصول الاستثمار المعنويّ لشهر رمضان
3. توصيات من الواقع المعاش
هدف الموعظة
تعرُّف أصول الاستثمار المعنويّ لشهر رمضان، وما ينبغي التحلّي به من الآداب والأخلاق لنيل بركة هذا الموسم العباديّ العظيم.
تصدير الموعظة
رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ... هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللهِ... فَاسْأَلُوا اللهَ رَبَّكُمْ، بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ وَقُلُوبٍ طَاهِرَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِصِيَامِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ؛ فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ»[1].
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص93.
16
8
الموعظة الثانية: الاستثمار المعنويّ في شهر رمضان
دعوة كريمة يوجّهها رسول الله (صلى الله عليه وآله) قُبَيل شهر رمضان المبارك من كلّ عام، إلى أشرف ضيافة يمكن أن يطمح إليها إنسان في هذه الدنيا، وهي ضيافة الله تعالى في شهره، أفضل الشهور، وأفضل الأيّام والليالي والساعات. وهدف هذه الدعوة توطيد العلاقة مع الله تعالى، عبر تطهير الروح، وبناء الإرادة المرتبطة بقوّة الإيمان، الّتي تحكم علاقة الإنسان بربِّه وبمجتمعه على مستوى الدنيا، وتحدّد مصيره على مستوى الآخرة.
أصول الاستثمار المعنويّ لشهر رمضان
إنّ شهر رمضان من أعظم أيّام الله، الّتي لا ينبغي للمؤمن أن يضيّع أيّ فرصةٍ فيها للاستفادة المعنويّة وبناء صرح الروح الإيمانيّة. ومن أهمّ الأُسُس الّتي تساعد على ذلك:
1. استشعار أنّ الله اختصّ الصوم لنفسه
من المزايا العظيمة لهذا الشهر، أنّ الله تعالى اختصّ قدر الثواب والجزاء للصائم لنفسه، من بين سائر الأعمال، كما في الحديث القدسيّ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِه»[1].
ولعلّ ذلك من باب أنّ المصلّي أو الحاجّ لربّما صلّى وحجّ رئاء الناس، وطلبًا للشهرة والسمعة، ولا يصوم الصائم في شهر رمضان إلّا لله؛ لأنّ الصوم يندر أن يتسلّل إليه الرياء، باعتبار أنّ الصائم المرائي
[1] السيّد الرضيّ، محمّد بن حسين، المجازات النبويّة، دار الحديث، إيران - قمّ، 1422هـ.، ط1، ص184.
17
9
الموعظة الثانية: الاستثمار المعنويّ في شهر رمضان
يمكنه أن يأكل ويشرب في خلوته، في حين يتظاهر بالصيام أمام الناس، فلا يكون صائمًا في الحقيقة.
2. التذكير بالله تعالى والعودة إليه
ورد في خطبة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللهِ، أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ... وَاذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيهِ جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهِ»[1].
من الملاحَظ أنّ شهر رمضان شهر الإنابة والتوبة، وأنّ نفرًا كثيرًا من الغافلين والعصاة والمجاهرين يرجعون إلى الله مولاهم؛ فيقيمون الصلاة، ويعملون الصالحات، ويهجرون الخمر والفسق، ويتبدّلون بعادتهم الأولى من الاستهتار والانحراف سمتًا جديدًا ومعتدلًا من التقوى والخشوع.
وعلى الرغم من أنّ جانبًا من هؤلاء يعود بعد شهر رمضان إلى سيرته الأولى في الحياة، فإنّ جانبًا آخر تثبت قدماه على الصراط المستقيم.
3. الاهتمام بتلاوة القرآن الكريم
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وَمَنْ تَلَا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُور»[2]. وورد في الحديث: «لِكُلِّ شَيْءٍ رَبِيعٌ، وَرَبِيعُ الْقُرْآنِ شَهْرُ رَمَضَان»[3].
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص93.
[2] المصدر نفسه، ص95.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص630.
18
10
الموعظة الثانية: الاستثمار المعنويّ في شهر رمضان
إنّ تلاوة القرآن الكريم من أهمّ الآداب المعنويّة في شهر رمضان المبارك، والّتي من شأنها أن ترتقي بالحياة المعنويّة للمؤمن درجات ودرجات.
4. بناء الإرادة، والتمرُّس على الصبر، والتحرُّر من العادات المألوفة
قال عزّ وجلّ: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ﴾[1].
ورد في تفسير الآية عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا نَزَلَتْ بِالرَّجُلِ النَّازِلَةُ الشَّدِيدَةُ، فَلْيَصُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ﴾[2]؛ يَعْنِي الصِّيَامَ»[3]. وورد في الحديث القدسيّ أنّ الله عزّ وجلّ قال: «كُلُّ أَعْمَالِ ابْنِ آدَمَ بِعَشَرَةِ أَضْعَافِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ، إِلَّا الصَّبْرَ؛ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ فَثَوَابُ الصَّبْرِ مَخْزُونٌ فِي عِلْمِ اللهِ، وَالصَّبْرُ الصَّوْمُ»[4].
والصوم التزام عمليّ بالانفصال، لفترة طويلة نسبيًّا، عن ألصق العادات بحياة الإنسان؛ من طعام وشراب ومتعة؛ فإنّ ذلك يمثّل تمرينًا عمليًّا للنفس على الصبر. ومَن صبرَ على تركِ هذه العادات، هان عليه الصبر على غيرها.
[1] سورة البقرة، الآية 45.
[2] سورة البقرة، الآية 45.
[3] الفيض الكاشانيّ، محمّد محسن بن مرتضى، الوافي، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليّ ، إيران - أصفهان، 1406هـ، ط1، ج11، ص13.
[4] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت، إيران - قمّ، 1414هـ، ط2، ج10، ص405.
19
11
الموعظة الثانية: الاستثمار المعنويّ في شهر رمضان
5. الصوم والروابط الاجتماعيّة
لقد أكّد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وجوبَ الاهتمام بمجموعة من العلاقات الاجتماعيّة والتربويّة في شهر رمضان، وإن كانت الشريعة الإسلاميّة لم تغفل تأكيدها في الأيّام كلّها، ولكن نظرًا للحالة المعنويّة الخاصّة الّتي يعيشها الصائم، حيث صفاء الروح ورقّة القلب، كان تأكيد هذه الأمور؛ عسى أن تسيطر على المجتمع في أيّام السنة كلّها. فورد في خطبة النبيّ (صلى الله عليه وآله) الإشارة إلى:
أ. حُسن التعامل مع الكبار والصغار: «وَقِّرُوا كِبَارَكُمْ، وَارْحَمُوا صِغَارَكُم»[1].
ب. صلة الرحم: «وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ، وَصَلَهُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ»[2].
ج. إكرام الأيتام: «وَمَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيمًا، أَكْرَمَهُ اللهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ»[3].
د. تفطير الصائم: «مَنْ فَطَّرَ مِنْكُمْ صَائِمًا مُؤْمِنًا فِي هَذَا الشَّهْرِ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ، وَمَغْفِرَةٌ لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ»[4].
توصيات من الواقع المعاش
يمكن أن نطرح نقاطًا عدّة ينبغي للمؤمن أن يلتزم بها في شهر رمضان المبارك في وقتنا الراهن، والّتي تعبّر عن تحدّيات معاصرة
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص94.
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر نفسه.
[4] المصدر نفسه.
20
12
المقدّمة
وابتلاءات يوميّة، نذكر بعضها:
1. لا تدع شهر رمضان يخرج كما دخل، بل تزوَّد فيه بالعمل، وكن عبد الله فيه وفي سائر الشهور.
2. تفقَّد الفقراء والمساكين واليتامى، واجتهد في أن تفطِّر الصائمين حسب قدرتك، ولو بجرعة ماء.
3. احذر برامج التلفاز عديمة الجدوى، واحرص على مشاهدة كلّ نافعٍ ومفيد، ولا بأس بالترفيه المحلَّل.
4. لا تنسَ أن تدعو للمسلمين بالخير والعتق من النار، خاصّةً المجاهدين منهم لإعلاء كلمة الله تعالى.
5. لا تنسَ أن تدعو للعاصين والمذنبين بالهداية والتوبة والاستقامة؛ فدعاء الصائم مقبولٌ بإذن الله تعالى.
6. قم بنشاط دينيّ على مستوى الأسرة؛ مثلًا: تحفيظ مجموعة من سور القرآن وطائفة من الأحاديث، إقامة مسابقة ثقافيّة دينيّة داخل بيتك وبين أفراد أسرتك، سرد القصص الدينيّة النبويّة أو القرآنيّة ونحوها.
7. اجتهد في إنهاء خصومتك مع الناس، وإيّاك أن يحضر العيد وفي قلبك حقدٌ أو ضغينة على مسلم؛ فإن كنتَ تريد العتق من النار، فاعتق نفسك من كراهيتك وعداوتك، واعلم أنّ أحقّ الناس بحُسن معاملتك هم: أمّك، ثمّ أبوك، ثمّ أهل البيت وأقاربك وجيرانك، ثمّ مَن جعلهم الله تحت إشرافك، من خدم أو عمّال أو رعيّة.
21
13
الموعظة الثالثة: حِكَمُ الصيام
الموعظة الثالثة: حِكَمُ الصيام
1. الفرق بين الحكمة والعلّة
2. حكمة التقوى
3. حِكَمٌ أخرى للصيام في الروايات
هدف الموعظة
أن يعي المكلَّف بعض أسرار الصوم وحِكَمَ تشريعه، ويستحضرها أثناء صومه.
تصدير الموعظة
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾[1].
[1] سورة البقرة، الآية 183.
22
14
الموعظة الثالثة: حِكَمُ الصيام
لماذا فرض الله الصوم؟ وما الحكمة من تشريعه؟
سؤال لا يزال يعيش في أذهاننا كلّما جاء شهر رمضان، وكلَّما أردنا الحديث عن الصوم.
وليس هذا السؤال بغريب عن حياتنا الدينيّة، فلم يكن جديدًا عليها، وإنَّما انطلق في صدر الدعوة الإسلاميَّة، على لسان الكثير من المسلمين الّذين يحاولون أن يضيفوا إلى إيمانهم واقتناعهم بانطلاق كلّ تشريع من قِبَل الله تعالى عن مصلحة أساسيّة، وعيًا تفصيليًّا إلى هذه الحقيقة، وإحاطة بأسرار التشريع وفوائده. وهكذا، وجدنا الكثير من هذه الأحاديث الّتي تتناول بيان حكمة تشريع الصوم.
الفرق بين الحكمة والعلّة
ثمّة فرق بين العلّة والحكمة ينبغي إيضاحه. فالعلّة هي الّتي لأجلها شرَّع الله الصيام، بحيث يدور تشريع الصيام في رحاها؛ فإنْ وُجِدَت يُشَرَّع الصيام، وإنْ لم توجد لا يحصل تشريع؛ وهذا ما لا يمكن للإنسان أن يتعرّفه، ولا سيّما في أمور العبادات، إلّا إذا ورد نصٌّ واضح في بيان العلّة الحقيقيّة من التشريع، فطالما لم يصل إلينا مثل هذا النصّ، فإنّنا لا بدّ لنا من الانتقال من الحديث عن العلّة، إلى الحديث عمّا يقاربها من فلسفة للحُكم، من دون الالتزام بكون ذلك هو العلّة الحقيقيّة، وهذا ما يُصطَلح عليه بـالحكمة.
ونحن نستعرض في ما يأتي بعض الحِكم من تشريع الصوم، الّتي وردَت في القرآن والسنّة، ونركّز الحديث في البداية عن الحكمة المتصدّرة في أمر الصيام في القرآن، وهي التقوى.
23
15
الموعظة الثالثة: حِكَمُ الصيام
حكمة التقوى
يقول تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾[1].
هذه الآية الّتي نزلت بتشريع الصوم، بيَّنَت في آخرها ما يرجوه الله من فرض الصوم على عباده، وهو التقوى. والتقوى هي الالتزام بفعل الواجبات وترك المحرّمات. ومن الواضح أنّ الصوم رحلة تدريبيّة مهمّة على صعيد تربية النفس وتوجيهها نحو فعل الواجب وترك الحرام، فهو يعوّدها الصبر على الطاعة، كما يعوّدها الصبر عن المعصية، وهذا من أعظم ما يُعِين الإنسانَ على مجاهدة نفسه وتزكيتها.
حِكَمٌ أخرى للصوم
وردت بعض الحِكم الأخرى للصوم في الروايات الشريفة عن المعصومين (عليهم السلام)، نذكر منها:
1. مواساة الغنيّ للفقير
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّمَا فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الصِّيَامَ لِيَسْتَوِيَ بِهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْغَنِيَّ لَمْ يَكُنْ لِيَجِدَ مَسَّ الْجُوعِ فَيَرْحَمَ الْفَقِيرَ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ كُلَّمَا أَرَادَ شَيْئًا قَدَرَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَأَنْ يُذِيقَ الْغَنِيَّ مَسَّ الْجُوعِ وَالْأَلَمِ؛ لِيَرِقَّ عَلَى الضَّعِيفِ، فَيَرْحَمَ الْجَائِعَ»[2].
[1] سورة البقرة، الآية 183.
[2] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص73.
24
16
الموعظة الثالثة: حِكَمُ الصيام
وهذه الحكمة تظهر أيضًا في بعض تشريعات الصوم التفصيليّة، إذ نجد أنّ كفّارة الإفطار مثلًا، تكون إطعام المساكين.
2. صحّة البدن
ورد في حديثٍ مشهور عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «صُومُوا تَصِحُّوا»[1]. وشهادات أطبّاء العالم المعاصر اليوم حافلة بذكر منافع الصيام، ويكفي للمتتبّع تصفُّح بعض الدراسات الحديثة في هذا المجال، الّتي تجعل من الصوم علاجًا لكثيرٍ من الحالات المستعصية.
3. تعزيز الصبر الفرديّ والاجتماعيّ
ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ﴾[2]، أنّ المراد من الصبر في الآية هو الصوم، وهذا يؤكّد مدى مساهمة الصوم في تقوية إرادة الصبر في الإنسان على المستوى الفرديّ، كما أشار إلى ذلك الإمام الرضا (عليه السلام): «وَلِيَكُونَ الصَّائِمُ خَاشِعًا ذَلِيلًا مُسْتَكِينًا مَأْجُورًا مُحْتَسِبًا عَارِفًا صَابِرًا لِمَا أَصَابَهُ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَش»[3].
بل قد يُعَمَّم ذلك إلى صبر المجتمع، كما في قول الإمام الخمينيّ(قدس سره) حينما علّق على الحصار الاقتصاديّ على الجمهوريّة الإسلاميّة: «نحن شعبٌ اعتاد الجوع، إذ ابتلينا بذلك خمسًا وثلاثين
[1] القاضي النعمان المغربيّ، دعائم الإسلام، تحقيق آصف بن عليّ أصغر فيضي، دار المعارف، مصر - القاهرة، 1383هـ - 1963م، لا.ط، ج1، ص342.
[2] سورة البقرة، الآية 45.
[3] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار ، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج6، ص79.
25
17
الموعظة الثالثة: حِكَمُ الصيام
أو خمسين سنة، فنحن نصوم ونتناول في اليوم وجبة غذائيّة واحدة»[1].
4. إذهاب الكِبر من النفوس
قال تعالى: ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ﴾[2]، مشيرًا إلى حقيقة أنّ الإنسان الّذي تتوفّر له النعم، وتتواتر عليه الخيرات بكثرة، قد يُصاب بالطغيان والتكبّر والشعور باستقلاله في حيازة هذه النعم، فيغفل عن المنعِم عليه، وينسى ضعفه وعجزه وتقصيره.
من هنا، كانت إحدى حِكَم العبادات -ومنها الصوم- إذهاب الكِبر من نفس الإنسان، وتذكيره بضعفه وعجزه. فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَعَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ؛ تَسْكِينًا لِأَطْرَافِهِمْ، وَتَخْشِيعًا لِأَبْصَارِهِمْ، وَتَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ، وَتَخْفِيضًا لِقُلُوبِهِمْ، وَإِذْهَابًا لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعًا، وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُرًا، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا»[3].
[1] الإمام الخمينيّ ، السيّد روح الله الموسويّ، صحيفة الإمام (تراث الإمام الخمينيّ )، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ، إيران - طهران، 1430ه - 2009م، ط1، ج11،ص39.
[2] سورة العلق، الآيتان 6 و7.
[3] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ )، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، ص294، الخطبة 192.
26
18
الموعظة الثالثة: حِكَمُ الصيام
5. كسر الشهوة
من أكثر ما يساعد على إطفاء نار الشهوات وكبح جماح النفس الموقدة بالميول الدنيئة، هو الصوم؛ ولذلك ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) في بيان فلسفة الصوم: «مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الِانْكِسَارِ عَنِ الشَّهَوَات»[1]، فالصوم يعرِّف الإنسانَ قدرتَه على السيطرة على شهواته؛ لينظّمها، بدل أن تجرفه إلى حيث تميل هي.
كما ورد في بعض التوصيات النبويّة للشباب غير القادرين على الزواج أن يصوموا؛ لِمِا في الصوم من كسرٍ للشهوات، فعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «يَا مَعْشَرَ الشُّبَّانِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاهَ [2]فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ[3]»[4].
6. إثبات الإخلاص
ورد عن السيّدة الزهراء i: «فَرَضَ... الصِّيَامَ تَثْبِيتًا لِلْإِخْلَاصِ»[5].
فالصوم إمساكٌ عن المفطّرات بنيَّة، فلا يتحقّق بمجرّد الإمساك، بل لا بدّ من أن يتقرّب باطنيًّا إلى الله تعالى، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام): «الصَّوْمُ عِبَادَةٌ بَيْنَ العَبْدِ وَخَالِقِهِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا
[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، عيون أخبار الرضا ، تصحيح الشيخ حسين الأعلميّ، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1404هـ - 1984م، لا.ط، ج2، ص116.
[2] أي النكاح.
[3] حاجز عن الشهوة.
[4] الطبرسيّ، الميرزا حسين النوريّ، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1408هـ - 1987م، ط1، ج7، ص507.
[5] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، علل الشرائع، تقديم السيّد محمّد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1385هـ - 1966م، لا.ط، ج1، ص248.
27
19
الموعظة الثالثة: حِكَمُ الصيام
غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُجَازِي عَنْهَا غَيْرُهُ»[1]. هذا، مضافًا إلى أنَّ الإنسان يمكن له أن يتظاهر بالصوم، ويتناول الطعام والشراب، إلّا أنّه حينما لا يفعل ذلك، فلأنّه يشعر بمراقبة الله تعالى له، ومن ثمّ فهو يعلِّم الإنسان ويدرّبه على الإخلاص لله تعالى.
7. تذكّر الآخرة
ورد في خطبة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في استقبال شهر رمضان: «واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه»[2].
من المهمّ جدًّا أن يربط الإنسان دائمًا بين عمله في الدنيا وأثره الأخرويّ، أو بين مواقف الدنيا ومواقف الآخرة؛ لأنّ الدنيا هي دار الاختبار والممرّ، والآخرة هي دار الحساب والمقرّ. من أعظم هذه المحطّات الّتي ينبغي تذكُّرها واستحضارها حين يجد الإنسان مسّ الجوع والعطش في شهر رمضان، هو موقفه يوم الحشر بين يدَي الله عزّ وجلّ.
[1] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ، إيران - قمّ، 1404هـ، ط1، ودار إحياء الكتب العربيّة - عيسى البابيّ الحلبيّ وشركاه، 1378هـ - 1959م، ط1، ج20، ص297.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص93.
28
20
الموعظة الرابعة: العبادة سبيل الصلاح
الموعظة الرابعة: العبادة سبيل الصلاح
1. مفهوم العبادة في الإسلام
2. أهمّيّة العبادة وشروط صحّتها
3. آثار العبادة على الخلق
4. فلسفة العبادة في الإسلام
هدف الموعظة
تعرُّف مفهوم العبادة في الإسلام وأهمّيّتها، وبيان آثارها وفلسفتها.
تصدير الموعظة
رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ عَشِقَ الْعِبَادَةَ، فَعَانَقَهَا، وَأَحَبَّهَا بِقَلْبِهِ، وَبَاشَرَهَا بِجَسَدِهِ، وَتَفَرَّغَ لَهَا؛ فَهُوَ لَا يُبَالِي عَلَى مَا أَصْبَحَ مِنَ الدُّنْيَا، عَلَى عُسْرٍ أَمْ عَلَى يُسْرٍ»[1].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص83.
29
21
الموعظة الرابعة: العبادة سبيل الصلاح
العبادة في الإسلام
اسمٌ يُطلَق على كلّ ما يصدر عن الإنسان المسلم من أقوال وأفعال وأحاسيس، استجابةً لأمر الله تعالى، وتطابقًا مع إرادته ومشيئته. فلا حصر ولا تحديد لنوع الأعمال أو الأفكار أو الأقوال أو المشاعر والأحاسيس الّتي يُعبَد بها الله؛ فالصلاة، والصدقة، والجهاد، والتفكّر في خلق الله، ومساعدة الضعيف، وإصلاح الفاسد، وأداء الأمانة، والعدل بين الناس، ورفض الظلم، وعدم شرب الخمر، ومقاطعة الربا والاحتكار... تلك الأعمال كلّها هي عبادة، ما دام الداعي إلى فعلها أو تركها هو الاستجابة لأمر الله تعالى. وإنّا لنجد في الأحاديث الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، ما يوضِّح هذا المفهوم الإسلاميّ، ويشخِّص أبعاده الواسعة الشاملة، فقد ورد عنه (صلى الله عليه وآله): «الْعِبَادَةُ سَبْعَةُ أَجْزَاءٍ، أَفْضَلُهَا طَلَبُ الْحَلَالِ»[1]، و«نَظَرُ الْوَلَدِ إِلَى وَالِدَيْهِ، حُبًّا لَهُمَا، عِبَادَةٌ»[2].
أهمّيّة العبادة
تنبع أهمّيّة العبادة من كونها الغاية الّتي خَلَق الله الخلق لأجلها، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾[3]. ولأجل تحقيق هذه الغاية واقعًا في حياة الناس، بعث اللهُ الرسل، قال تعالى:
[1] الحرّانيّ، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قمّ، 1404هـ - 1363ش، ط2، ص37.
[2] المصدر نفسه، ص46.
[3] سورة الذاريات، الآية 56.
30
22
الموعظة الرابعة عشرة: فضائل الصـدقـــة وآثارها
﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ﴾[1] وقال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ﴾[2].
وبالعبادة وَصَفَ اللهُ ملائكته وأنبياءه، فقال تعالى: ﴿وَلَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسۡتَحۡسِرُونَ﴾[3]، وذمَّ المستكبرين عنها بقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[4]، ونعت أهل جنّته بالعبوديّة له، فقال سبحانه: ﴿عَيۡنٗا يَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِيرا﴾[5].
ونعت نبيَّه محمّدًا (صلى الله عليه وآله) بالعبوديّة له في أكمل أحواله، فقال في سورة الإسراء: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلا﴾[6].
ويتّصف منهاج العبادة في الإسلام بأنّه منهاج فطريّ، ذو طبيعة اجتماعيّة حركيّة، لا يؤمن بالفصل بين الدنيا والآخرة؛ فهو لا يدعو إلى محاربة المطالب الجسديّة، من الطعام والشراب والزواج والراحة والاستمتاع بالطيِّبات، بدعوى أنّها تعارض التكامل الروحيّ والتقرّب من الله، بل وازن بمنهاجه موازنةً تامّة بين الروح والجسد، ولم يفصل بينهما؛ لأنّ الإسلام لا يرى في مطالب الجسد حائلًا يقف في طريق
[1] سورة النحل، الآية 36.
[2] سورة الأنبياء، الآية 25.
[3] سورة الأنبياء، الآية 19.
[4] سورة غافر، الآية 60.
[5] سورة الإنسان، الآية 6.
[6] سورة الإسراء، الآية 1.
31
23
الموعظة الرابعة: العبادة سبيل الصلاح
تكامل الروح، أو عائقًا يعرقل تنامي الأخلاق، بل يؤمن بأنّ هدف الجسد والروح، من حيث التكوين الفطريّ، هدفٌ واحد، ومنهاج تنظيمها وتكاملها منهاجٌ واحد.
شروط صحّة العبادة
للعبادة العديد من الشروط فصّلها الفقهاء، إلّا أنّ أهمّها شرطان:
أحدهما: أن لا يعبد إلّا الله، وهو الإخلاص الّذي أمر الله به؛ ومعناه أن يقصد العبد بعبادته وجهَ الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ﴾[1] .
والثاني: أن يعبد الله بما أمر وشرّع، لا بغير ذلك من الأهواء والبدع، قال تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ﴾[2].
آثار العبادة على الخلق
لعبادة الله أعظم الأثر في صلاح الفرد والمجتمع والكون كلّه. فأمّا أثر العبادة على الكون وعلى البشريّة عامّة، فهي سبب نظام الكون وصلاحه، وسبيل سعادة الإنسان ورفعته في الدنيا والآخرة. ومن أهمّ تلك الثمرات:
1. كبح جماح النفس، فالعبادة هي الزمام الّذي يكبح جماح النفس البشريّة، وهي السبيل الّذي يحجز البشريّة عن التمرّد على شرع الله، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ﴾[3].
[1] سورة البيّنة، الآية 5.
[2] سورة الشورى، الآية 21.
[3] سورة العنكبوت، الآية 45.
32
24
الموعظة الرابعة: العبادة سبيل الصلاح
2. استنزال الرزق والرحمة، والعبادة سبب للرخاء الاقتصاديّ واستنزال رحمات الله وبركاته على البلاد والعباد، قال تعالى: ﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾[1].
3. طمأنينة القلب وراحته ورضاه، قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾[2].
4. نور الوجه، قال تعالى: ﴿سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ﴾[3].
5. تربية الروح وتغذيتها، ذلك أنّ الإنسان مكوَّن من مادّة وروح؛ فإذا كان العنصر الجسديّ فيه يجد حاجته في العناصر المادّيّة في الكون، من مأكل ومشرب وملبس، فإنّ العنصر الروحيّ لا يجد إشباعًا لحاجته إلّا بالقرب من الله تعالى، إيمانًا به، ولا يتحقّق إلّا بالعبادة، سواء في الضرّاء أو في السرّاء، كما قال الله تعالى مخاطبًا رسوله (صلى الله عليه وآله): ﴿وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدۡرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ٩٧ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ ٩٨ وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ﴾[4].
6. تحقيق حرّيّة الإنسان، فالعبادة تحرّر المؤمن من الخضوع لغير الله تعالى، ومن الاستسلام للآلهة المزيَّفة، فيصبح بذلك حرًّا طليقًا من سلطان سوى سلطان الله تعالى.
7. تمحيص المؤمن بابتلائه بالعبادة، إعدادًا له للحياة الآخرة، قال الله تعالى على لسان نبيّ الله موسى (عليه السلام): ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ
[1] سورة الأعراف، الآية 96.
[2] سورة الرعد، الآية 28.
[3] سورة الفتح، الآية 29.
[4] سورة الحجر، الآيات 97 - 99.
33
25
الموعظة الرابعة: العبادة سبيل الصلاح
ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰع وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ﴾[1]. فالدنيا دار ابتلاء، ومادّة هذا الابتلاء هي عبادة الله تعالى، تحقيقًا لأمره: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلاۚ﴾[2]
8. العبادة سبيل لصلاح المجتمع، بالنظر إلى العبادة بمفهومها الشامل، نجد أنّها شاملة لأوجه الإصلاح الفرديّ والاجتماعيّ كلّها، حيث إنّ كلّ عمل يقوم به الفرد أو تقوم به الجماعة يدخل في إطار العبادة.
فلسفة العبادة في الإسلام
العبادة منهج متكامل المراحل، وطريق واضح المعالم، غرضه تحقيق الكمال البشريّ، وتنقية الضمير الإنسانيّ من الشوائب والانحرافات، تمهيدًا للفوز بقرب الله.
فقد جعل الإسلامُ الصلاةَ تنزيهًا للإنسان من الكبرياء والتعالي، وغرسًا لفضيلة التواضع والحبّ للآخرين، ولقاءً مع الله للاستغفار والاستقالة من الذنوب، وشحذًا لهمّة النفس وقيادتها في طريق التسامي والصعود.
والصومَ ترويضًا للجسد، وتقويةً للإرادة على رفض الخضوع للشهوات.
[1] سورة غافر، الآية 39.
[2] سورة الملك، الآية 2.
34
26
الموعظة الرابعة: العبادة سبيل الصلاح
والدعاءَ تنميةً لقوّة الإحساس الروحيّ، وتوثيقًا للصلة الدائمة بالله والارتباط به والاعتماد عليه، ليحصل الاستغناء الذاتيّ بالله عمّن سواه، فيلجأ إليه المؤمن في محنه وشدائده، وعند إساءته ومعصيته، وهو واثق أنّه يُقبِل على ربّ رؤوف رحيم، يمدّه بالعون، ويقبل منه التوبة، فتطمئنّ نفسه، وتزداد ثقته بقدرته على مواصلة حياة الصلاح، وتجاوز المحن والشدائد.
لذلك، كان لكلّ فعل عبادي أثر إصلاحيّ على صحّة الجسم وحياة المجتمع، كما له أثر تكامليّ على النفس والأخلاق والعلاقة بالله.
35
27
الموعظة الخامسة: العبادة المستحبّة
الموعظة الخامسة: العبادة المستحبّة
1. العبادة المستحبّة
2. العبادات السنويّة
3. أنواع العبادات المستحبّة
هدف الموعظة
بيان أنواع العبادات المستحبّة، والحثّ على ممارستها.
تصدير الموعظة
الإمام الصادق (عليه السلام): «شِيعَتُنَا أَهْلُ الْوَرَعِ وَالِاجْتِهَادِ، وَأَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْأَمَانَةِ، وَأَهْلُ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، أَصْحَابُ الْإِحْدَى وَخَمْسِينَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، الْقَائِمُونَ بِاللَّيْلِ، الصَّائِمُونَ بِالنَّهَارِ، يُزَكُّونَ أَمْوَالَهُمْ، وَيَحُجُّونَ الْبَيْتَ، وَيَجْتَنِبُونَ كُلَّ مُحَرَّمٍ»[1].
[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج4، ص57.
36
28
الموعظة الخامسة: العبادة المستحبّة
العبادة المستحبّة[1]
دائرة الأعمال المستحبّة، وخصوصًا في العبادات، هي دائرة واسعة جدًّا، وقد وردت روايات عدّة في ذلك، منها عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) شَيْءٌ فِيهِ الثَّوَابُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ طَلَبَ قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، كَانَ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) لَمْ يَقُلْهُ»[2].
ويُسَمَّى مفاد هذه الروايات بـِ«قاعدة التسامح في أدلّة السنن».
يُلاحَظ في المواسم العباديّة، التنوُّع والجمع بين أنواع العبادات، مثل الطهارة (الوضوء والغسل) والصلاة والدعاء والذكر والصدقة والصيام ونحوها، وهذا يكشف عن منهج وهدف خاصَّين بهذه المواسم، وهو أنّ التكامل الإنسانيّ إنّما يمكن أن يتحقَّق بواسطة هذا المزيج من العبادات، وأنّ الحاجات الروحيّة والنفسيّة في الإنسان متنوّعة ومتعدّدة. لذا، فلا بدّ من الاهتمام بهذا التنوُّع في كلّ موسم؛ ليتحقّق هذا النوع من التكامل، وعدم الاقتصار على لون أو نوع خاصّ من العبادة.
إنّ المنهاج المكثَّف للعبادات، في المواسم أو في غيرها، حتّى اليوميّة، قد يوحي بتصوُّرٍ خاطئ، وهو أنّ الإسلام قد دعا الإنسان إلى أن ينصرف عن أداء مهمَّاته الاجتماعيّة العامّة أو الخاصّة، إلى ممارسة العبادة، من الصلاة والصيام والدعاء وغيرها من العبادات، ويترتَّب
[1] الحكيم، السيّد محمّد باقر، دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة، مركز الطباعة والنشر للمجمع العالميّ لأهل البيت (عليهم السلام)، لا.م، 1425ه، ط2، ج2، ص300 (بتصرّف).
[2] البرقيّ، أحمد بن محمّد بن خالد، المحاسن، تصحيح وتعليق السيّد جلال الدين الحسينيّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1370هـ - 1330ش، لا.ط، ج1، ص25.
37
29
الموعظة الخامسة: العبادة المستحبّة
على ذلك -بنحو طبيعيّ- الرهبنة في الحياة الإنسانيّة.
لذا، لا بدّ من الالتفات إلى الأبعاد الاجتماعيّة الّتي أكَّدَها الإسلام، والّتي فضَّلَها وقدَّمَها الإسلام على ألوان العبادة المستحبّة، مثل: كسب المعيشة، وطلب العلم، وإصلاح ذات البين...
ويمكن تقسيم العبادات المستحبّة إلى أربعة أقسام:
الأوّل: العبادات اليوميّة الّتي يمارسها الإنسان كلّ يوم.
الثاني: العبادات الأسبوعيّة الّتي يؤدّيها الإنسان كلّ أسبوع.
الثالث: العبادات الشهريّة الّتي يقوم بها الإنسان كلّ شهر.
الرابع: العبادات الموسميّة أو السنويّة الّتي يؤدّيها الإنسان في المواسم العباديّة المخصَّصة، أو في السنة مرّة واحدة.
العبادات السنويّة[1]
تحتلّ العبادات السنويّة مساحة واسعة من نظام العبادات، وذلك ضمن ثلاثة مناهج أساسيّة:
المنهج الأوّل: منهج الأيّام والليالي، فإنّه يدخل في جانب منه في العبادات السنويّة.
المنهج الثاني: هو منهج الأشهر الثلاثة المباركة -شهر رجب، وشهر شعبان، وشهر رمضان- حيث يُتَوَّج هذا المنهج والموسم بشهر رمضان المبارك، وحيث تشكّل عبادة الصوم القاعدة الأساسيّة في هذا المنهج، فإنّه يُستَحَبّ فيه صوم شهر رجب، ويتأكّد فيه استحباب صوم
[1] السيّد الحكيم، دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة، مصدر سابق، ج2، ص313.
38
30
الموعظة الخامسة: العبادة المستحبّة
شعبان بما كان يلتزم به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من صومه بكامله، ويجب فيه صوم شهر رمضان بالشروط الّتي يذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة.
المنهج الثالث: هو منهج عبادة الحجّ، وموسم العشر الأوائل من شهر ذي الحجّة، هذه العبادة الفريدة والمتميّزة الّتي تكاد أن تجمع في محتواها وأدائها مجمل العبادات الإسلاميّة.
أنواع العبادات المستحبّة
أوّلًا، أهمّيّة صلاة النوافل
الصلاة، بخصوصيّاتها، إحدى الأركان المهمّة الّتي بُنِي عليها الإسلام، وهي أفضل العبادات بعد معرفة الله تعالى على الإطلاق -كما دلّت على ذلك الروايات- لأنّها تعبِّر عن الصلة والعلاقة بالله تعالى. ومن جملة أنواع الصلاة المستحبّة، صلاة النوافل.
والنافلة لغةً، هي الزيادة أو الهبة، والجمع: نوافل.
واصطلاحًا، النافلة هي العبادة المستحبّة، صلاةً كانت أو صومًا، وسُمِّيَت كذلك باعتبار أنّها زائدة عن الواجب[1].
ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنّ عدد ركعات هذه الرواتب هو ضعف الصلوات اليوميّة من حيث عدد الركعات؛ أي أربع وثلاثون ركعة، فقد رُوِيَ عن حَنان قال: سَأَلَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ أَبَا عَبْدِ اللهِ [الإمام الصادق] (عليه السلام) وَأَنَا جَالِسٌ، فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَخْبِرْنِي
[1] مرعي، الشيخ حسين عبد الله، القاموس الفقهيّ، دار المجتبى، لبنان - بيروت، 1413هـ، ط1، ص210.
39
31
الموعظة الخامسة: العبادة المستحبّة
عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله). فَقَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) يُصَلِّي ثَمَانِيَ رَكَعَاتِ الزَّوَالِ، وَأَرْبَعًا الْأُولَى، وَثَمَانِيَ بَعْدَهَا، وَأَرْبَعًا الْعَصْرَ، وَثَلَاثًا الْمَغْرِبَ، وَأَرْبَعًا بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ أَرْبَعًا، وَثَمَانِيَ صَلَاةَ اللَّيْلِ، وَثَلَاثًا الْوَتْرَ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةَ الْغَدَاةِ رَكْعَتَيْن»[1].
ومن جهة أخرى، أشارت الروايات إلى فضيلة النوافل وآثارها، ومنها الاستجابة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا، ثُمَّ جَلَسَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، ثُمَّ سَأَلَ اللهَ حَاجَتَهُ، فَقَدْ طَلَبَ الْخَيْرَ فِي مَظَانِّهِ؛ وَمَنْ طَلَبَ الْخَيْرَ فِي مَظَانِّهِ لَمْ يَخِبْ»[2].
بل إنّ الروايات أشارت إلى استحباب النوافل، فعنه (عليه السلام) أيضًا: «إِنَّ الرَّبَّ لَيُعَجِّبُ مَلَائِكَتَهُ مِنَ الْعَبْدِ مِنْ عِبَادِهِ، يَرَاهُ يَقْضِي النَّافِلَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، يَقْضِي مَا لَمْ أَفْتَرِضْ عَلَيْهِ»[3].
ثانيًا، الاهتمام بالقرآن الكريم كلّ يوم
من العبادات اليوميّة، قراءة القرآن الكريم، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «الْقُرْآنُ عَهْدُ اللهِ إِلَى خَلْقِهِ، فَقَدْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْظُرَ فِي عَهْدِهِ، وَأَنْ يَقْرَأَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسِينَ آيَةً»[4].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص443.
[2] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص53.
[3] المصدر نفسه، ج1، ص53.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص609.
40
32
الموعظة الخامسة: العبادة المستحبّة
وفي رواية أخرى، عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إِذَا أَصْبَحَ أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَ التَّعْقِيبِ خَمْسِينَ آيَةً»[1].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَهْلَ الْقُرْآنِ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، مَا خَلَا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ؛ فَلَا تَسْتَضْعِفُوا أَهْلَ الْقُرْآنِ حُقُوقَهُمْ، فَإِنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ لَمَكَانًا عَلِيًّا»[2].
ثالثًا، قيام الليل
ورد الحثّ الشديد -كتابًا وسنةً- على صلاة الليل.
قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ ١ قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا ٢ نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا ٣ أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا﴾[3].
وعن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله): «شَرَفُ الْمُؤْمِنِ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزُّ الْمُؤْمِنِ كَفُّهُ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ»[4].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «عَلَيْكُمْ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهَا سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ، وَدَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَمَطْرَدَةُ الدَّاءِ عَنْ أَجْسَادِكُمْ»[5].
وعنه (عليه السلام): «يَا سُلَيْمَانُ، لَا تَدَعْ قِيَامَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ الْمَغْبُونَ مَنْ حُرِمَ قِيَامَ اللَّيْلِ»[6].
[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، تحقيق وتعليق السيّد حسن الموسويّ الخرسان، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1364ش، ط3، ج2، ص138.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص603.
[3] سورة المزّمّل، الآيات 1 - 4.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص488.
[5] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، ثواب الأعمال، تقديم السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1368ش، ط2، ص41.
[6] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج2، ص363.
41
33
الموعظة الخامسة: العبادة المستحبّة
وفي الحديث: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ حُرِمْتُ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَنْتَ رَجُلٌ قَدْ قَيَّدَتْكَ ذُنُوبُكَ»[1].
رابعًا، الاعتكاف
يُعَدّ الاعتكاف من المستحبّات الأكيدة. وكان الاعتكاف من سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)، فقد رُوِيَ عن الإمام الصادق (عليه السلام): «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا كَانَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ [من رمضان]، اعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ، وَضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ شَعْرٍ، وَشَمَّرَ الْمِئْزَرَ، وَطَوَى فِرَاشَهُ»[2].
وقد أشارت الروايات إلى فضيلة الاعتكاف، فقد ورد عنه (عليه السلام)، عن آبائه، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اعْتِكَافُ عَشَرَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَعْدِلُ حِجَّتَيْنِ وَعُمْرَتَيْن»[3].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص450.
[2] المصدر نفسه، ج4، ص175.
[3] الراونديّ، فضل الله بن عليّ، النوادر، تحقيق سعيد رضا عليّ عسكري، مؤسّسة دار الحديث الثقافيّة، إيران - قمّ، لا.ت، ط1، ص209.
42
34
الموعظة السادسة: النيّة الصادقة
الموعظة السادسة: النيّة الصادقة
1. حقيقة النيّة
2. نيّة المؤمن
3. الإخلاص في النيّة
هدف الموعظة
إظهار حقيقة النيّة ومحوريّتها في عمل المؤمن، وبيان أهمّيّة الإخلاص فيها.
تصدير الموعظة
الإمام الصادق (عليه السلام) في قَوْلِ اللهِ تَعالى: ﴿لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلاۗ﴾[1]، قالَ: «لَيْسَ يَعْني أكْثَرَكُمْ عَمَلًا، وَلكِنْ أصْوَبَكُمْ عَمَلًا؛ وَإنَّما الإصابَةُ خَشْيَةُ اللهِ وَالنِّيَّةُ الصادِقَةُ وَالْحَسَنَةُ». ثُمَّ قالَ: «الإبْقاءُ عَلَى العَمَلِ حتّى يَخْـلُصَ أشَدُّ مِنَ العَمَلِ؛ وَالعَمَلُ الخالِصُ الَّذي لا تُريدُ أنْ
[1] سورة هود، الآية 7.
43
35
الموعظة السادسة: النيّة الصادقة
يَحْمَدَكَ عَلَيْهِ أحِدٌ إلَّا اللهُ تَعالى، أَفْضَلُ مِنَ العَمَلِ. أَلَا وَإنَّ النِّيَّةَ هِيَ العَمَلُ»، ثُمَّ تَلا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلۡ كُلّ يَعۡمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ﴾[1]؛ «يعني عَلى نِيَّته»[2].
حقيقة النيّة
النيّة هي القصد والإرادة المحركِّة للإنسان نحو الفعل، وليس المهمّ إثبات صدور الفعل عنها، فإنّه لا إشكال في ذلك في الأفعال الاختياريّة، بل المهمّ ملاحظتها من جهة مناشئ صدورها، من اقتضاء العقل أو الإيمان أو الغرائز لها، وآثارها في أعمال العباد وأنفسهم في الدنيا ويوم القيامة، ومراتب خلوصها، وترتُّب الثواب والعقاب عليها.
والنيّة شرط في صحّة العبادة، بل يُشتَرَط الإخلاص في النيّة، فالرياء مبطل لها، بل ينبغي للمؤمن أن يستحضر التقرّب إلى الله في حركاته وسكناته كلّها، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»[3]؛ فمَن عمل لوجه الله وبقصد تحصيل الثواب، فقد عمل للآخرة، فالمميِّز بين العمل للدنيا والعمل للآخرة هو نيّة العامل والتطبيق على التكليف الإلهيّ، ولا اعتبار لصورة العمل؛ فرُبَّ زارع وصانع ومحترف يعبد الله بعمله، ويتقرّب إليه بكسبه، ورُبَّ مصلٍّ وصائم لا فائدة له إلَّا التعب والجوع؛ لأنّه يصلَّي ويصوم رياءً، وبقصد تحصيل الدنيا.
[1] سورة الإسراء، الآية 84.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص16.
[3] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج1، ص48.
44
36
الموعظة السادسة: النيّة الصادقة
عن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام): «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ لَيَقُولُ: يَا رَبِّ، ارْزُقْنِي حَتَّى أَفْعَلَ كَذَا وكَذَا مِنَ الْبِرِّ ووُجُوهِ الْخَيْرِ؛ فَإِذَا عَلِمَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ مِنْه بِصِدْقِ نِيَّةٍ، كَتَبَ اللهُ لَه مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَا يَكْتُبُ لَه لَوْ عَمِلَه، إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ كَرِيمٌ»[1].
نيّة المؤمن
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِه، ونِيَّةُ الْكَافِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِه، وكُلُّ عَامِلٍ يَعْمَلُ عَلَى نِيَّتِه»[2]. الحديث متَّفَق عليه بين العامّة والخاصّة، وله أوجه:
الأوّل: أنّ نيّة المؤمن اعتقاد الحقّ وإطاعة الربّ لو خلد في الدنيا، وهي خير من عمله؛ إذ ثمرتها الخلود في الجنّة، بخلاف عمله، فإنّه لا يوجب الخلود فيها؛ ونيّة الكافر اعتقاد الباطل ومعصية الربّ لو خلد فيها، وهي شرّ من عمله؛ إذ ثمرتها الخلود في النار.
الثاني: أنّ المؤمن ينوي خيرات كثيرة خارجة عن قدرته، وهو يُثاب بها من دون عمل؛ فنيّته بهذا الاعتبار خير من عمله؛ لأنّ ثوابها أكثر من ثواب عمله، والكافر ينوي شرورًا كثيرة لا يقدر على العمل بها، فنيّته شرّ من عمله.
الثالث: أنّ «خيرًا» ليس للتفضيل، و«مِن» تبعيضيّة؛ يعني أنّ نيّة المؤمن عملُ خيرٍ من جملة أعماله، ونيّة الكافر عملُ شرٍ من جملة أعماله، وهو منقولٌ عن السيّد المرتضى (رضوان الله عليه).
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص85.
[2] المصدر نفسه، ج2، ص84.
45
37
الموعظة السادسة: النيّة الصادقة
ولا تنافي بين هذا الحديث وبين ما رُوِيَ عنه (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا»[1]؛ أي أشقّها؛ فإنّ العمل ليس أشقّ من النيّة، بل الأمر بالعكس؛ لأنّ النيّة ليست مجرّد التلفّظ بلفظ مخصوص وحصول معناه في القلب، بل حصولها متوقِّف على تنزيه الظاهر والباطن عن الرذائل كلّها، وتوجُّه القلب إلى المولى بالكلّيّة، وإعراضه عن جميع ما سواه، وتطهير العمل عن جميع ما يوجب نقصه وفساده؛ ولا ريب في أنّ النيّة على هذا الوجه أشقّ من العمل، كما يدلّ عليه ما رُوِيَ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَلِ، وتَخْلِيصُ النِّيَّةِ مِنَ الْفَسَادِ أَشَدُّ عَلَى الْعَامِلِينَ مِنْ طُولِ الْجِهَادِ»[2]-[3].
الإخلاص في النيّة
لا مجال لتحقيق الغرض المرجوّ من النيّة، ولا سيّما العبادات والطاعات، إلّا بالإخلاص بها لله تعالى. قال تعالى: ﴿قُلۡ إِنِّيٓ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ مُخۡلِصا لَّهُ ٱلدِّينَ﴾[4]، وقال تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾[5]، والنسك: العبادة، واللام في قوله: «لله» للملكيّة والسلطنة، والمعنى: إنّ عملي ونفسي جميعًا لله تعالى، وليس لغيره فيهما نصيب.
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص191.
[2] المصدر نفسه، ج8، ص25.
[3] المازندرانيّ، المولى محمّد صالح بن أحمد، شرح أصول الكافي، تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ، ضبط وتصحيح السيّد عليّ عاشور، دار إحياء التراث العربيّ للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1421هـ - 2000م، ط1، ج8، ص267. (بتصرّف)
[4] سورة الزمر، الآية 11.
[5] سورة الأنعام، الآية 162.
46
38
الموعظة السادسة: النيّة الصادقة
والإخلاص تارةً يكون واجبًا عقلًا وشرعًا، ويكون تركه شركًا وكفرًا، كعبادة غير الله تعالى أو إشراكه في عبادته؛ وثانيةً، يكون واجبًا وتركه فسقًا مبطلًا للعمل، كالرياء ونحوه؛ وثالثةً، يكون مندوبًا مطلوبًا وتركه مُسقِطًا للعمل عن درجة الكمال، كضمّ الضمائم المباحة الراجحة المقصودة تبعًا لنيّة العبادة[1]، ويقرب منه العبادة لله طمعًا في جنّته أو خوفًا من ناره.
والنصوص الدالّة على لزوم إخلاص الأعمال وتزكيتها وتمحيصها والسعي في كونها خالصة لله تعالى بحيث لا يشوبها أيّ غرض غيره، كثيرة جدًّا بألسنة مختلفة.
عَن الإمام الرِّضَا (عليه السلام) أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، كَانَ يَقُولُ: «طُوبَى لِمَنْ أَخْلَصَ للهِ الْعِبَادَةَ والدُّعَاءَ، ولَمْ يَشْغَلْ قَلْبَه بِمَا تَرَى عَيْنَاه، ولَمْ يَنْسَ ذِكْرَ الله بِمَا تَسْمَعُ أُذُنَاه، ولَمْ يَحْزُنْ صَدْرَه بِمَا أُعْطِيَ غَيْرُه!»[2].
إنَّ الأعمال مرهونةٌ بالنيَّات، وإذا لم تكن النوايا خالصةً، فهذا يعني أنَّهُ يشوبها الشرك، والله تعالى لا يغفر أن يُشرَكَ به: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ﴾[3]، ولا يقبلُ إلّا ما كان له خالصًا، كما في الحديث
[1] قد يضمّ إلى نيّة قصد التقرّب وامتثال الأمر في العبادة، قصد أمر مباح أو راجح، كما لو صلّى حيال الشمس في البرد الشديد، أو صلَّى صلاة الليل بقصد التقرّب إلى الله تعالى، وضمّ إليها قصد ازدياد الرزق لتوسعة العيال مثلًا، ونحو هذه الأمثلة. (راجع: الشيخ مرتضى بني فضل، مدارك تحرير الوسيلة، تحقيق ونشر مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ(قدس سره)، 1422ه - 1380ش، ط1، ج1، ص329).
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص16.
[3] سورة النساء، الآية 48.
47
39
الموعظة السادسة: النيّة الصادقة
القُدسيِّ المرويِّ عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قَالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ؛ مَنْ أَشْرَكَ مَعِي غَيْرِي فِي عَمَلٍ عَمِلَه، لَمْ أَقْبَلْه، إِلَّا مَا كَانَ لِي خَالِصًا»[1]، فهو خير شريك باعتبار أنّه يترك نصيبه مع شريكه ولا يساهمه كسائر الشركاء، وإنّما يقبل ما كان له خالصًا من الرياء والعجب. وكلُّ عملٍ لا يكونُ خالصًا لوجه الله فهو شركٌ، والشركُ ظلمٌ عظيم: ﴿وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيم﴾[2]. وقد قال الله سبحانه، موجِّهًا أهل الإيمان للعمل الخالص: ﴿فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلا صَٰلِحا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا﴾[3].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص295.
[2] سورة لقمان، الآية 13.
[3] سورة الكهف، الآية 110.
48
40
الموعظة السابعة: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
الموعظة السابعة: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
1. فضل القرآن وعظمته
2. كيف نستفيد من القرآن الكريم؟
3. مهجوريّة القرآن الكريم
هدف الموعظة
بيان فضل القرآن وعظمته، وإظهار كيفيّة الاستفادة منه، والتحذير من هجرانه.
تصدير الموعظة
أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا؛ إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَلَا عَلَمٍ قَائِمٍ، كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّنًا حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ»[1].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص44، الخطبة 1.
49
41
الموعظة السابعة: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
فضل القرآن وعظمته
أرسل الله تعالى الأنبياء (عليهم السلام) لهداية البشريّة إلى سواء السبيل، وأنزل على بعضهم كتبًا؛ لتكون منارًا يستهدي بها الناس، ولكن مع الأسف، حرّف الناس كتب الله تعالى، كما في التوراة والإنجيل، وبذلك انحرفوا عن الصراط المستقيم، ووقعوا في ضلال مبين. إلى أن أرسل الله تعالى نبيّه الكريم محمّدًا (صلى الله عليه وآله)، ليرجع الناس إلى طريق الله، ويزيلهم من الانحراف، وينير لهم الطريق، فأنزل على قلبه الكتاب الكريم القرآن المجيد، وحفظه تعالى من التحريف: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾[1]. فكان الهادي والمبين والموعظة والمنير لطريق السالكين إلى الله تعالى، فهو الكتاب السماويّ الوحيد الّذي لم تمسّه يد التحريف، يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ﴾[2]، ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ﴾[3]، ﴿هَٰذَا بَيَان لِّلنَّاسِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَة لِّلۡمُتَّقِينَ﴾[4].
وحسب القرآن عظمةً، وكفاه منزلةً وفخرًا وفضلًا، أنّه كلام الله العظيم، ومعجزة نبيّه الكريم، وأنّ آياته هي المتكفّلة بهداية البشر في جميع شؤونهم وأطوارهم، وفي جميع أجيالهم وأدوارهم، وهي الضمينة لهم بنيل الغاية القصوى والسعادة الكبرى في العاجل
[1] سورة الحجر، الآية 9.
[2] سورة الإسراء، الآية 9.
[3] سورة إبراهيم، الآية 1.
[4] سورة آل عمران، الآية 138.
50
42
الموعظة السابعة: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
والآجل. هو كلام الله، و«فضلُ كلامِ اللهِ على سائرِ الكلامِ، كفضلِ اللهِ على خلقِهِ»[1] كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وهو وصيّة الرسول (صلى الله عليه وآله) الأولى، والثقل الأكبر الّذي خلّفه قائلًا: «إِنِّي تارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْن: كِتابَ اللهِ وَعِتْرَتي أهْلَ بَيْتي؛ لَنْ تَضِلُّوا مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ»[2].
كيف نستفيد من القرآن الكريم؟
إنّ من الأمور المهمّة معرفة كيفيّة الاستفادة من القرآن العظيم -ولا يكفي أن نعرف عظمة هذا الكتاب الكريم وفضله- وذلك يكون بمعرفة أنّ هذا الكتاب كتاب تعليم وهداية إلى الله، وإلى سبيل السعادة الحقيقيّة.
فليس القرآن الكريم لتعليم الجهات الأدبيّة والنحو والصرف، أو أن تأخذ منه الفصاحة والبلاغة والنكات البيانيّة والبديعيّة، وليس هو لتعليم القصص والحكايات بالنظر التاريخيّ والاطّلاع على الأمم السابقة.
ثم إنّه ليس كتابًا نقرؤه للثواب والأجر فقط، فلا نعتني غالبًا بغير تجويده، ونريد أن نقرأه صحيحًا حتّى يعطي لنا الثواب، ونحن مقتنعون بهذا الحدّ؛ ولهذا لا يفيدنا القرآن الاستفادة كلّها. فالمطلوب
[1] الباقلانيّ، محمّد بن الطيّب، إعجاز القرآن، السيّد أحمد صقر، دار المعارف - مصر، لا.ت، ط3، ص246.
[2] راجع: الطبريّ الآمليّ، محمّد بن جرير، المسترشد في إمامة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، كوشانپور، إيران - قمّ، 1415هـ، ط1، ص559.
51
43
الموعظة السابعة: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
إذًا، التعلّم من القرآن كيفيّة السير والسلوك إلى الله، وكيفيّة التخلّق بالأخلاق العالية لنصل إلى الكمال والسعادة. وتوجد بعض الأمور الّتي تساعدنا على الاستفادة من القرآن الكريم، وهي:
أوّلًا، رفع الموانع والحجب
من الآداب المهمّة حتّى تحصل الاستفادة من القرآن الكريم، رفع موانع الاستفادة، والحجب بين المستفيد والقرآن. وهذه الحجب كثيرة، نشير إلى بعضها:
1. حجاب رؤية النفس، بحيث يرى الإنسان المتعلِّم نفسه غير محتاج إلى الاستفادة من هذا الكتاب العظيم، أو يرى استفادة منه، ولكن في جهات لا تساعد على الهداية والسلوك إلى الله تعالى، كمن يقصر نظره على الجهات الفقهيّة أو الفلسفيّة أو البلاغيّة أو التجويديّة، أو غير ذلك ممّا لا مساس له بالمقصود الأصليّ للقرآن الكريم -وهو الهداية إلى الله تعالى- ويقنع بما هو عليه، ويختصر القرآن في الجهة الّتي هو فيها.
في حين أنّ القرآن أرشدنا إلى عدم القناعة بما نحن عليه، والإشارة إلى هذا المعنى كثيرة في القصص القرآنيّة، فموسى كليم الله، مع ما له من مقام عظيم، ما اقتنع بذلك، وبمجرّد أن لاقى شخصًا كاملًا كالخضر (عليه السلام)، قال له بكلّ تواضع وخضوع: ﴿هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدا﴾[1].
[1] سورة الكهف، الآية 66.
52
44
الموعظة السابعة: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
2. ومن الحجب، حجاب الآراء الفاسدة والمذاهب الباطلة، وأغلب هذا يوجد من التبعيّة والتقليد. مثلًا، إذا رسخ في قلوبنا اعتقاد بمجرّد الاستماع من الأب أو الأمّ أو من الجهلة، نبني على هذا الاعتقاد، ولا نبدّله ولو أتانا واضح البرهان.
3. ومن الحجب المانعة من الاستفادة من القرآن، الاعتقاد بأنّه ليس لأحد حقّ الاستفادة من القرآن الشريف، إلّا ما كتبه المفسِّرون وما فهموه.
4. حجاب المعاصي والكدورات الحاصلة من الذنوب.
5. حبّ الدنيا، فيصرف القلب بواسطة تمام همتّه في الدنيا وحبّ الجاه والشرف.
ثانيًا، التفكّر في آياته ومعانيها
هذا ومن الآداب المهمّة لقراءة القرآن، التفكّر، وقد كثرت الدعوة إلى التفكّر في القرآن الشريف.
قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾[1].
وقال تعالى: ﴿فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾[2].
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
[1] سورة النحل، الآية 44.
[2] سورة الأعراف، الآية 176.
53
45
الموعظة السابعة: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
والروايات أيضًا في التفكّر كثيرة، فقد نُقِل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لَمّا نزلت الآية الشريفة: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰت﴾[1]، قال (صلى الله عليه وآله): «وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا، وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا»[2].
ثالثًا، التطبيق لآياته
ومن الآداب المهمّة لقراءة القرآن، الّتي تنيل الإنسان نتائج كثيرة والاستفادات غير المعدودة، هو التطبيق. فمن أراد أن يأخذ من القرآن الشريف الحظّ الوافر، فلا بدّ له من أن يطبّق كلّ آية شريفة على حالات نفسه، حتّى يستفيد استفادة كاملة. مثلًا، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ﴾[3].
فلا بدّ للسالك من أن يلاحظ هذه الأوصاف الثلاثة منطبقةً عليه، وهل قلبه يوجل إذا ذكر الله ويخاف؟ وإذا تُلِيَت عليه الآيات الشريفة، هل يزداد إيمانًا في قلبه؟ وهل اعتماده وتوكُّله على الله تعالى؟ أو أنّه محروم من ذلك؟
فإذا كان محرومًا، فليسعَ لتحصيل هذه الصفات. وهكذا كلّ آية يمرّ عليها، يطبّقها خارجًا؛ فالقرآن كتاب تطبيق، لا كتاب ترتيل فحسب. فكما أنّ خُلُق الرسول (صلى الله عليه وآله) كان القرآن، فينبغي عليك أن يكون خُلُقك القرآن.
[1] سورة آل عمران، الآية 190.
[2] ابن حبان، صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسّسة الرسالة، لا.م، 1414هـ - 1993م، ط2، ج2، ص387.
[3] سورة الأنفال، الآية 2.
54
46
الموعظة السابعة: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
مهجوريّة القرآن الكريم
يقول تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِي ٱتَّخَذُواْ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورا﴾[1].
إنّ مهجوريّة القرآن لها مراتب، ولعلّنا متّصفين بالعمدة منها. أترى أنّنا إذا جلّدنا القرآن العظيم جلدًا نظيفًا وقيّمًا، أو إذا قرأناه أو استخرنا به وقبّلناه ووضعناه على أعيننا، لا نكون هاجرين له؟ أترى إذا صرفنا غالب عمرنا في تجويده والاهتمام في جهاته اللغويّة والبيانيّة والبديعيّة، ما اتّخذناه مهجورًا؟ هل إنّنا إذا تعلّمنا القراءات المختلفة، ما اتّخذناه مهجورًا؟
إنّ عمدة هجر القرآن هو عدم تطبيقه في حياتنا الخاصّة والعامّة، ونحن -مع الأسف- قد نكون متّصفين بهذه المرتبة من الهجر، حيث لا نأخذ تعاليم القرآن في حسابنا.
ويكفي في عظمة القرآن الكريم وخطورة هجرانه أنّه من الثلاثة الّذين يشكون إلى الله يوم القيامة، إذ يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ: مسجد خراب لا يصلّي فيه أهله، وعالمٌ بين جهّال، ومصحف مُعلَّق قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه»[2].
[1] سورة الفرقان، الآية 30.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص613.
55
47
الموعظة الثامنة: المساجد بيوت الله
الموعظة الثامنة: المساجد بيوت الله
1. مكانة المسجد في الإسلام
2. فوائد ريادة المسجد
3. شكوى المساجد
4. قيمة جيرة المساجد
5. آداب دخول المسجد
6. احترام المسجد
هدف الموعظة
بيان مكانة المساجد ودورها الخاصّ، والحثّ على بنائها والحضور إليها.
تصدير الموعظة
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّ بُيُوتِي فِي الْأَرْضِ الْمَسَاجِدُ، تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيءُ النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْض»[1].
[1] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص47.
56
48
الموعظة الثامنة: المساجد بيوت الله
إنّ للمسجد دورًا فاعلًا وأساسيًّا في التغيير نحو الأصلح، سواء أكان على المستوى الفرديّ أم الجماعيّ؛ فهو مكان يوفّر البيئة الحاضنة للبُعد الروحيّ والمعنويّ الّذي ينبغي للمؤمن أن يتحلّى به، وكذلك يوفّر البيئة الحاضنة للثقافة الإسلاميّة، والآداب الطيّبة الّتي يكتسبها المرء من نشاطات المسجد اليوميّة.
مكانة المسجد في الإسلام
1. المسجد بيت الله تعالى
عَظَّم الإسلامُ المسجد، وأعلى مكانته، ورسَّخَ في النفوس قدسيّتَه، فأضافه اللهُ تعالى إليه إضافةَ تشريفٍ وتكريم، فقال تعالى: ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدا﴾[1]. فالمسجد يحتلّ مرتبةً مميزة ومعظّمة في أفئدة المسلمين. وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّ بُيُوتِي فِي الْأَرْضِ الْمَسَاجِدُ، تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيءُ النُّجُومُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. أَلَا طُوبَى لِمَنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ بُيُوتَهُ! أَلَا طُوبَى لِعَبْدٍ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ زَارَنِي فِي بَيْتِي! أَلَا إِنَّ عَلَى الْمَزُورِ كَرَامَةَ الزَّائِرِ، أَلَا بَشِّرِ الْمَشَّاءِينَ فِي الظُّلُمَاتِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ السَّاطِعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[2].
2. قيمة بناء المسجد
وُعِد بُناة المساجد بالثواب العميم من الله سبحانه وتعالى؛ وهذا
[1] سورة الجنّ، الآية 18.
[2] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص48.
57
49
الموعظة الثامنة: المساجد بيوت الله
إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أهمّيّة وجودها في حياة الناس، إذ ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة»[1]. والجدير بالذكر، أنّه لا بدّ للناس من الاهتمام ببناء المساجد كاهتمامهم ببناء بيوتهم. وفي الواقع، فإنّ المجتمع الّذي تظهر منه علامات الاهتمام ببناء المساجد والاعتناء بها، فإنّ ذلك يدلّ على تديُّن أهله والتزامهم الدينيّ والفكريّ والعقائديّ بمبادئ الإسلام.
3. مجالس الأنبياء
عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «المَسَاجِدُ مَجَالِسُ الأَنْبِيَاءِ»[2].
4. بيوت المتّقين
وعنه أيضًا (صلى الله عليه وآله): «الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ الْمُتَّقِينَ؛ وَمَنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ بَيْتَهُ، ضَمِنَ اللهُ لَهُ بِالرَّوْحِ وَالرَّاحَةِ وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاط إلى الجنّة»[3].
فوائد ريادة المسجد
لريادة المسجد فوائد جمّة، نذكر منها بعض ما ورد عن لسان المعصومين من الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام).
عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «لَا يَرْجِعُ صَاحِبُ الْمَسْجِدِ بِأَقَلَّ مِنْ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا دُعَاءٍ يَدْعُو بِهِ يُدْخِلُهُ اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِمَّا دُعَاءٍ يَدْعُو بِهِ لِيَصْرِفَ اللهُ بِهِ عَنْهُ بَلَاءَ الدُّنْيَا...»[4].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص368.
[2] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج3، ص363.
[3] ابن أبي شيبة الكوفيّ، المصنّف، تحقيق وتعليق سعيد اللحّام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1409هـ - 1989م، ط1، ج8، ص172.
[4] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص47.
58
50
الموعظة الثامنة: المساجد بيوت الله
وعن الإمام عليّ (عليه السلام): «مَنِ اخْتَلَفَ إِلَى الْمَسْجِدِ أَصَابَ إِحْدَى الثَّمَانِ: أَخًا مُسْتَفَادًا فِي اللهِ، أَوْ عِلْمًا مُسْتَطْرَفًا، أَوْ آيَةً مُحْكَمَةً، أَوْ رَحْمَةً مُنْتَظَرَةً، أَوْ كَلِمَةً تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، أَوْ يَسْمَعَ كَلِمَةً تَدُلُّهُ عَلَى هُدًى، أَوْ يَتْرُكَ ذَنْبًا خَشْيَةً أَوْ حَيَاءً...»[1].
وقد ورد الحثّ على الجلوس في المسجد واعتباره عبادة، فعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ عِبَادَة»[2]. وفي رواية أخرى، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ (رضي الله عنه): «كُلُّ جُلُوسٍ فِي الْمَسْجِدِ لَغْوٌ، إِلَّا ثَلَاثَةً: قِرَاءَةُ مُصَلٍّ، أَوْ ذَاكِرُ اللهِ تَعَالَى، أَوْ مَسَائِلٌ عَنْ عِلْمٍ»[3].
شكوى المساجد
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ثَلَاثَةٌ يَشْكُونَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَسْجِدٌ خَرَابٌ لَا يُصَلِّي فِيهِ أَهْلُهُ، وَعَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ، وَمُصْحَفٌ مُعَلَّقٌ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْغُبَارُ لَا يُقْرَأُ فِيهِ»[4].
قيمة جيرة المساجد
إنّ العناية الخاصّة بجيران المساجد في الروايات، وأنّه لا صلاة لهم كاملة إلّا في المسجد، تعبّر عن اهتمام خاصّ بهم، وهي علامة
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص474.
[2] المصدر نفسه، ص506.
[3] الطبرسيّ، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1392هـ - 1972م، ط6، ص467.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص613.
59
51
الموعظة الثامنة: المساجد بيوت الله
إيجابيّة لهم؛ لأنّها تحرص على أن يحصّل جار المسجد كامل الثواب والأجر والفائدة الّتي لا تتوفّر لغيره ممّن هم ليسوا جيرانًا للمسجد. وقد أوضح الإمام عليّ (عليه السلام) المراد من ذلك، فقال: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ أَوْ بِهِ عِلَّةٌ». فَقِيلَ لَهُ: وَمَنْ جَارُ الْمَسْجِدِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ»[1]، وعنه (عليه السلام) أيضًا: «وَالْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ أَرْبَعَةِ جَوَانِبِهَا»[2].
آداب دخول المسجد
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا بَلَغْتَ بَابَ الْمَسْجِدِ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ قَصَدْتَ بَابَ بَيْتِ مَلِكٍ عَظِيمٍ، لَا يَطَأُ بِسَاطَهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وَلَا يُؤْذَنُ بِمُجَالَسَةِ مَجْلِسِهِ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ. وَهَبِ الْقُدُومَ إِلَى بِسَاطِ خِدْمَةِ الْمَلِكِ، فَإِنَّكَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ إِنْ غَفَلْتَ هَيْبَةَ الْمَلِكِ! وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ مَعَكَ وَبِكَ؛ فَإِنْ عَطَفَ عَلَيْكَ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، قَبِلَ مِنْكَ يَسِيرَ الطَّاعَةِ وَآجَرَكَ عَلَيْهَا ثَوَابًا كَثِيرًا؛ وَإِنْ طَالَبَكَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الصِّدْقَ وَالْإِخْلَاصَ عَدْلًا بِكَ، حَجَبَكَ وَرَدَّ طَاعَتَكَ، وَإِنْ كَثُرَتْ، وَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد»[3].
[1] القاضي النعمان المغربيّ، دعائم الإسلام، مصدر سابق، ج1، ص148.
[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قمّ، 1403هـ - 1362ش، لا.ط، ص544.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج80، ص373.
60
52
الموعظة الثامنة: المساجد بيوت الله
1. الوضوء
عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّ بُيُوتِي فِي الْأَرْضِ الْمَسَاجِدُ… أَلَا طُوبَى لِعَبْدٍ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ زَارَنِي فِي بَيْتِي! أَلَا إِنَّ عَلَى الْمَزُورِ كَرَامَةَ الزَّائِر»[1].
2. تحسين اللباس
رُوِيَ عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية الكريمة ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِد﴾[2]، أنّه قال: «أَيْ خُذُوا ثِيَابَكُمُ الَّتِي تَزَّيَّنُونَ بِهَا لِلصَّلَاةِ فِي الجمعَاتِ وَالأَعْيَادِ»[3].
ورُوِيَ أنّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) اسْتَقْبَلَهُ مَوْلًى لَهُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ خَزٍّ وَمِطْرَفُ خَزٍّ وَعِمَامَةُ خَزٍّ، وَهُوَ مُتَغَلِّفٌ بِالْغَالِيَةِ، فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ! إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: «إِلَى مَسْجِدِ جَدِّي رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»[4].
3. الابتعاد عن حديث الدنيا
عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَأْتُونَ الْمَسَاجِدَ، فَيَقْعُدُونَ حَلَقًا، ذِكْرُهُمْ لِلدُّنْيَا وَحُبِّ الدُّنْيَا؛ لَا تُجَالِسُوهُمْ؛ فَلَيْسَ للهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ»[5].
[1] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص48.
[2] سورة الأعراف، الآية31.
[3] الطبرسيّ، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1415ه.ق - 1995م، ط1، ج4، ص244.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص517.
[5] الغزّاليّ، مكاشفة القلوب إلى علام الغيوب، تحقيق عبد المجيد طعمة حلبيّ، دار المعرفة، لبنان - بيروت، 1422هـ، ط4، ص63.
61
53
الموعظة الثامنة: المساجد بيوت الله
4. عدم رفع الصوت
عن أبي ذرّ أنّه سأل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عن كيفيّة إعمار المساجد، فقال (صلى الله عليه وآله): «لَا تُرْفَعُ فِيهَا الْأَصْوَاتُ، وَلَا يُخَاضُ فِيهَا بِالْبَاطِل...»[1].
احترام المسجد
عن الإمام الصادق (عليه السلام) ليونس بن يعقوب: «مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ لَمْ يُوَقِّرِ الْمَسْجِدَ! أَتَدْرِي يَا يُونُسُ، لِمَ عَظَّمَ اللهُ تَعَالَى حَقَّ الْمَسَاجِدِ، وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدا﴾[2]؟ كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا دَخَلُوا كَنَائِسَهُمْ أَشْرَكُوا بِاللهِ تَعَالَى، فَأَمَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُوَحِّدَ اللهَ فِيهَا وَيَعْبُدَه»[3].
[1] المالكيّ الأشتريّ، ورّام بن أبي فراس، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1368ش، ط2، ج2، ص380.
[2] سورة الجنّ، آية 18 .
[3] أبو الفتح الكراجكيّ، الإمام العلّامة محمّد بن عليّ، كنز الفوائد، مكتبة المصطفويّ، إيران - قمّ، 1369ش، ط2، ص64.
62
54
الموعظة التاسعة: أقيموا الصلاة
الموعظة التاسعة: أقيموا الصلاة
1. أهمّيّة الصلاة
2. ترك الصلاة
3. موجبات قبول الصلاة
4. موانع قبول الصلاة
هدف الموعظة
التذكير بأهمّيّة الصلاة، وموجبات قبولها وموانعه.
تصدير الموعظة
﴿فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبا مَّوۡقُوتا﴾[1].
[1] سورة النساء، الآية 103.
63
55
الموعظة التاسعة: أقيموا الصلاة
أهمّيّة الصلاة
للصلاة أهمّيّة عظمى، نظرًا للآثار الجليلة والعظيمة الّتي تنتج عنها، خاصّة إذا ما أدّاها المكلَّف على الشكل المطلوب من الناحية الظاهريّة والباطنيّة. ولأنّها تعرج بالإنسان إلى الله تعالى، فقد كانت أحبّ الأعمال إليه سبحانه، ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الصَّلَاةُ، وَهِيَ آخِرُ وَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ»[1].
ولقد كانت الصلاة مصدر راحة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهي كذلك لكلّ مؤمن يرى في الصلاة موضع توجُّهٍ للباري سبحانه وتعالى، فينزوي عن الدنيا ومتعلّقاتها المادّيّة، فقد كان (صلى الله عليه وآله) يقول عند دخول وقت الصلاة: «أَرِحْنَا يَا بِلَالُ»[2].
ولأنّها كذلك، فقد كانت أيضًا موضع اهتمام الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، ومن ذلك موقف الإمام الحسين (عليه السلام)، الّذي طلب تأجيل المعركة بينه وبين أعدائه؛ كي يتسنّى له أداء الصلاة والتهجّد بين يدَي الله تعالى.
آداب الصلاة
1. الصلاة أوّل الوقت، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): مَنْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ لِغَيْرِ وَقْتِهَا، رُفِعَتْ لَهُ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً، تَقُولُ لَهُ: ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي!»[3].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص264.
[2] الخطيب البغداديّ، أحمد بن عليّ، تاريخ بغداد، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، 1417هـ - 1997م، ط1، ج10، ص442.
[3] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص81.
64
56
الموعظة التاسعة: أقيموا الصلاة
2. حضور القلب في الصلاة، لا بدّ من حضور القلب والخشوع في الصلاة، وقد حثّت الآيات والروايات الشريفة على ذلك، كما في قوله تعالى: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ﴾[1].
وعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «مَنْ صَلَّى ركعَتَين لَمْ يُحَدِّثْ فِيهَا نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِن الدُّنْيَا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[2].
عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام): «إِنَّمَا لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ مَا أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ مِنْهَا؛ فَإِنْ أَوْهَمَهَا كُلَّهَا أَوْ غَفَلَ عَنْ أَدَائِهَا، لُفَّتْ فَضُرِبَ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا»[3].
موجِباتُ قَبولِ الصلاةِ
أوضحت الروايات الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) العديد من موجبات قبول الصلاة، ينبغي للمؤمنين مراعاتها، نذكر منها:
1. ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، قال رجلٌ للإمام زين العابدين (عليه السلام): ما سَبَبُ قَبولِها [الصَّلاة]؟ قالَ: «وَلايَتُنا والبَراءَةُ مِن أعدائِنا»[4].
[1] سورة المؤمنون، الآيتان 1 و2.
[2] الغزّاليّ، محمّد بن حمد، إحياء علوم الدين، دار الكتاب العربيّ، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج8، ص79.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص363.
[4] ابن شهر آشوب، محمّد بن عليّ، مناقب آل أبي طالب، تصحيح وشرح ومقابلة لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المكتبة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1376ه - 1956م، لا.ط، ج3، ص274.
65
57
الموعظة التاسعة: أقيموا الصلاة
2. الصلاة خلف المؤمن، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الصَّلاةُ خَلفَ رَجُلٍ وَرِعٍ مَقبولَةٌ»[1].
3. الاتّصاف بالورع، عنه (صلى الله عليه وآله): «لَو صَلَّيتُم حَتّى تَكونوا كَأَوتاد، وصُمتُم حَتّى تَكونوا كَالحَنايا، لَم يَقبَلِ اللهُ مِنكُم إلَّا بِوَرع حاجِز»[2].
4. تطهير الجوارح، عن الإمام عليّ (عليه السلام): «لا تَجوزُ صَلاةُ امرِئٍ حَتّى يُطَهِّرَ خَمسَ جَوارِحِهِ: الوَجهَ، واليَدَينِ، والرَّأسَ، والرِّجلَينِ بِالماءِ، والقَلبَ بِالتَّوبَةِ»[3].
وفي رواية شاملة تتحدّث عن العديد من الصفات السلوكيّة والأخلاقيّة والعمليّة الّتي تؤثّر في قبول الصلاة، ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قالَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى: إنَّما أقبَلُ الصَّلاةَ مِمَّن تَواضَعَ لِعَظَمَتي، ويَكُفُّ نَفسَهُ عَنِ الشَّهَواتِ مِن أجلي، ويَقطَعُ نَهارَهُ بِذِكري، ولا يَتَعاظَمُ عَلى خَلقي، ويُطعِمُ الجائِعَ، ويَكسُو العاريَ، ويَرحَمُ المُصابَ، ويُؤوِي الغَريبَ؛ فَذلِكَ يُشرِقُ نورُهُ مِثلَ الشَّمسِ، وأجعَلُ لَهُ فِي الظُّلُماتِ نورًا، وفِي الجَهالَةِ عِلمًا، وأَكْلَؤُهُ بِعِزَّتي، وأستَحفِظُهُ بِمَلائِكَتي، يَدعوني فَأُلَبّيهِ، ويَسأَلُني فَاُعطيهِ، فَمَثَلُ ذلِكَ عِندي كَمَثَلِ جَنّاتِ الفِردَوسِ؛ لا تَيبَسُ ثِمارُها، ولا تَتَغَيَّرُ عَن حالِها»[4].
[1] السيوطيّ، عبد الرحمن بن أبي بكر، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1401ه - 1981م، ط1، ج2، ص120.
[2] ابن فهد الحلّيّ، أحمد بن فهد، عدّة الداعي ونجاح الساعي، تصحيح أحمد الموحّديّ القمّيّ، مكتبة وجداني، إيران - قمّ، لا.ت، لا.ط، ص140.
[3] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج77، ص346.
[4] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص15.
66
58
الموعظة التاسعة: أقيموا الصلاة
وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام)، في بَيانِ ما ناجَى اللهُ عزّ وجلّ بِهِ موسى (عليه السلام): «يَا مُوسَى، لا أقبَلُ الصَّلاةَ إلَّا لِمَن تَواضَعَ لِعَظَمَتي، وألزَمَ قَلبَهُ خَوفي، وقَطَعَ نَهارَهُ بِذِكري، ولَم يَبِت مُصِرًّا عَلَى الخَطيئَةِ، وعَرَفَ حَقَّ أوليائي وأحِبّائي»[1].
موانِعُ قَبولِ الصلاةِ
ثمّة العديد من الأمور الّتي تُعَدّ موانعَ لقبول الصلاة، فليست الصلاة مجرّد أداء بعض الحركات الظاهريّة، إنّما هي أعظم بكثير من ذلك، إنّها تَوَجُّهٌ قلبيٌّ يحرّك الإنسان نحو الله سبحانه. مضافًا إلى ذلك، فإنّ أعمال الإنسان وسلوكاته لها ارتباط وثيق بحقيقة الصلاة؛ فإذا ما كان المرء -معاذ الله- فاعلًا لإحدى الموبقات، ومصرًّا عليها، غير تائب منها، فستقع تلك الموبقات في طريق قبول صلاته، وهذا ما تحدّثت عنه الكثير من الروايات. وهذه الروايات تارةً تحدّثت عن جملة أشخاص يتّصفون ببعض الصفات، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «خَمسَةٌ لَيسَ لَهُم صَلاةٌ: امرَأَةٌ سَخِطَ عَلَيها زَوجُها... ومُصارِمٌ لا يَتَكَلَّمُ أخاهُ فَوقَ ثَلاثَةِ أيّام، ومُدمِنُ خَمر، وإمامُ قوَم يُصَلّي بِهِم وهُم لَهُ كارِهونَ»[2].
[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قمّ، 1379ه - 1338ش، لا.ط، ص45.
[2] ابن أبي جمهور الأحسائيّ، محمّد بن عليّ، عوالي اللئالي، تقديم السيّد شهاب الدين النجفيّ المرعشيّ، تحقيق الحاجّ آقا مجتبى العراقيّ، لا.ن، لا.م، 1403ه - 1983م، ط1، ج1، ص267.
67
59
الموعظة التاسعة: أقيموا الصلاة
في حين نرى في رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله) يتحدّث عن شارب الخمر بالخصوص، فيقول (صلى الله عليه وآله): «مَن شَرِبَ خَمرًا حَتّى يَسكَرَ، لَم يَقبَلِ اللهُ عزّ وجلّ مِنهُ صَلاتَهُ أربَعينَ صَباحًا»[1].
ثمّ نجده في رواية أخرى، يوضّح إحدى الذنوب الاجتماعيّة المانعة عن قبول الصلاة، وهي الغيبة، فقد رُوِيَ عنه (صلى الله عليه وآله): «مَنِ اغتابَ مُسلِمًا أو مُسلِمَةً، لَم يَقبَلِ اللهُ تَعالى صَلاتَهُ ولا صِيامَهُ أربَعينَ يَومًا ولَيلَةً، إلَّا أن يَغفِرَ لَهُ صاحِبُهُ»[2].
وفي رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله)، أشار إلى قضيّة اجتماعيّة أخرى، وهي الظلم، فقد أشار إلى أنّ الظلم، وسلب حقوق الناس، والاستيلاء على ممتلكات الناس، وعدم إعطاء الناس حقوقها يؤدّي إلى عدم قبول الصلاة، فقد رُوِيَ عنه (صلى الله عليه وآله): «أوحَى اللهُ إلَيَّ أنْ يا أخَا المُرسَلينَ، ويا أخَا المُنذِرين، أنذِر قَومَكَ لا يَدخُلوا بَيتًا مِن بُيوتي، ولأِحَدٍ مِن عِبادي عِندَ أحَدٍ مِنهُم مَظلِمَةٌ؛ فَإِنّي ألعَنُهُ ما دامَ قائِمًا يُصَلّي بَينَ يَدَيَّ، حَتّى يَرُدَّ تِلكَ الظلامَةَ»[3].
ترك الصلاة
1. الجهة الفقهيّة
وللتدليل على أهمّيّة الصلاة، فقد أوجبها الإسلام في الأحوال كلّها،
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص401.
[2] السبزواريّ، الشيخ محمّد، معارج اليقين في أصول الدين، تحقيق علاء آل جعفر، مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، إيران - قمّ، 1410ه - 1993م، ط1، ص412.
[3] ورّام بن أبي فراس، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، مصدر سابق، ج1، ص61.
68
60
الموعظة التاسعة: أقيموا الصلاة
وبأنّ وجوبها لا يسقط بأيّة حال، ويجب على الإنسان أن يقضي ما فاته منها، ولا يجوز له تأخير قضائها بحيث يُعَدّ تهاونًا واستخفافًا بها، بل ويجب قضاء الصلاة عن الوالدَين ضمن شروط معيّنة، حسب ما هو موضّح في الكتب الفقهيّة.
2. آثار ترك الصلاة
أ. غَضَبُ اللهِ تعالى، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَن تَرَكَ صَلاةً، لَقِيَ اللهَ وهُوَ عَلَيهِ غَضبانُ»[1].
ب. حَبطُ العَمَلِ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا، أَحْبَطَ اللهُ عَمَلَهُ، وَبِرْئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللهِ، حَتَّى يُرَاجِعَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَوْبَةً»[2].
وعن زرارة، قال: سَأَلتُ أبا عَبدِ اللهِ (عليه السلام) عَن قَولِ اللهِ عزّ وجلّ: ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ﴾[3]، قالَ: «تَركُ العَمَلِ الَّذي أقَرَّ بِهِ؛ مِن ذلِكَ أن يَترُكَ الصَّلاةَ مِن غَيرِ سُقم ولا شُغل»[4].
ج. الكفر، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَن تَرَكَ الصَّلاة مُتَعَمِّدًا، فَقَد كَفَرَ جِهارًا»[5].
[1] الطبرانيّ، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، تحقيق وتخريج حمدي عبد المجيد السلفيّ، دار إحياء التراث العربيّ، لا.م، لا.ت، ط2، ج11، ص234.
[2] السيوطيّ، عبد الرحمن بن أبي بكر، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج1، ص298.
[3] سورة المائدة، الآية 5.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص384.
[5] الطبرانيّ، سليمان بن أحمد، المعجم الأوسط، قسم التحقيق بدار الحرمَين، دار الحرمَين للطباعة والنشر والتوزيع، 1415ه - 1995م، لا.ط، ج3، ص343.
69
61
الموعظة التاسعة: أقيموا الصلاة
د. الموت على غير ملّة الإسلام، عنه (صلى الله عليه وآله): «مَن تَرَكَ الصَّلاةَ لا يَرجو ثَوابَها ولا يَخافُ عِقابَها، فَلا أُبالي أن يَموتَ يَهوديًّا أو نَصرانيًّا أو مَجوسيًّا»[1].
[1] الشيخ السبزواريّ، معارج اليقين، مصدر سابق، ص186.
70
62
الموعظة العاشرة: فضل صلاة الجماعة وآثارها
الموعظة العاشرة: فضل صلاة الجماعة وآثارها
1. المشي إلى الجماعة
2. صلاة الجماعة علامة خير
3. صلِّ الجماعة تُقضَ حاجتك
4. ترك صلاة الجماعة
5. صلاة الجماعة وحدة الأمّة
هدف الموعظة
التشجيع على إقامة صلاة الجماعة، من خلال بيان أهمّيّتها وفضلها وآثارها.
تصدير الموعظة
الإمام الصادق (عليه السلام): «الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ تَفْضُلُ عَلَى كُلِّ صَلَاةِ الْفَرْدِ بِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، تَكُونُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً»[1].
[1] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، مصدر سابق، ج3، ص25.
71
63
الموعظة العاشرة: فضل صلاة الجماعة وآثارها
أعطى الإسلام صلاةَ الجماعة أهمّيّة كبرى، وهو يهدف بذلك إلى إبقاء حالة الاجتماع والترابط بين المسلمين. وبيّنت الشريعة الإسلامية أنّ صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بكثير، فلا يُفتَرَض بالمسلم أن يخسر فضل هذه الصلاة ويفوّت ذلك على نفسه.
المشي إلى الجماعة
إنّ المشي إلى الجماعة كما المشي إلى المسجد، لهما فضل عظيم وثواب جزيل، ففي الرواية عن الإمام الصادق، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): أَلَا وَمَنْ مَشَى إِلَى مَسْجِدٍ يَطْلُبُ فِيهِ الْجَمَاعَةَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَيُرْفَعُ لَهُ مِنَ الدَّرَجَاتِ مِثْلُ ذَلِكَ؛ وَإِنْ مَاتَ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَعُودُونَهُ [يُعَوِّذُونَهُ] فِي قَبْرِهِ، وَيُؤْنِسُونَهُ فِي وَحْدَتِهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يُبْعَثَ»[1].
وفي رواية أخرى، أنّه جاء نفرٌ من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فسأله أعلمُهم عن مسائل، فأجابه (صلى الله عليه وآله)، إلى أن قال: «وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ، فَإِنَّ صُفُوفَ أُمَّتِي كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ، وَالرَّكْعَةُ فِي الْجَمَاعَةِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ رَكْعَةً، كُلُّ رَكْعَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عِبَادَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَأَمَّا يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَيَجْمَعُ اللهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِلْحِسَابِ؛ فَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ مَشَى إِلَى الْجَمَاعَةِ، إِلَّا خَفَّفَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ إِلَى الْجَنَّة»[2].
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص509.
[2] المصدر نفسه، ص261.
72
64
الموعظة العاشرة: فضل صلاة الجماعة وآثارها
صلاة الجماعة علامة خير
ليس الفاصل في الفضل بين الصلاة جماعةً والصلاة فرادى مرتبة أو مرتبتَين فقط، بل إنّ الروايات الشريفة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) أشارت إلى مراتب أعلى من ذلك بكثير، فعن الإمام الصادق، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: «قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): مَنْ صَلَّى الْخَمْسَ فِي جَمَاعَةٍ، فَظُنُّوا بِهِ خَيْرًا»[1].
وعنه (عليه السلام) أيضًا: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فِي جَمَاعَةٍ، فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ؛ فَمَنْ ظَلَمَهُ فَإِنَّمَا يَظْلِمُ اللهَ، وَمَنْ حَقَّرَهُ فَإِنَّمَا يُحَقِّرُ اللهَ»[2].
صلِّ الجماعة تُقضَ حاجتك
إنّ فضائل صلاة الجماعة وآثارها لا تقتصر فقط على الثواب الأخرويّ، بل لها أثرها في عالم الدنيا، ومن ذلك قضاء الحوائج، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ سَأَلَهُ حَاجَتَهُ، أَنْ يَنْصَرِفَ حَتَّى يَقْضِيَهَا»[3].
ترك صلاة الجماعة
تعامل أهل البيت (عليهم السلام) بنحو حازم وقاطع مع المتخلّفين عن صلاة الجماعة، لدرجة عزلهم عن المجتمع، وجعلهم كفئة منبوذة
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص371.
[2] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص52.
[3] ورّام بن أبي فراس، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، ج1، ص12.
73
65
الموعظة العاشرة: فضل صلاة الجماعة وآثارها
وغير مرغوب فيها في المجتمع الإسلاميّ. ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر إلى التهديد بإحراق دُورِهم وتخريبها! وما هذا إلّا لعظمة المسجد وأهمّيّته البالغة في المنظومة الإسلاميّة، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «هَمَّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِإِحْرَاقِ قَوْمٍ فِي مَنَازِلِهِمْ، كَانُوا يُصَلُّونَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَلَا يُصَلُّونَ الْجَمَاعَةَ؛ فَأَتَاهُ رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي ضَرِيرُ الْبَصَرِ، وَرُبَّمَا أَسْمَعُ النِّدَاءَ وَلَا أَجِدُ مَنْ يَقُودُنِي إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالصَّلَاةِ مَعَكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): شُدَّ مِنْ مَنْزِلِكَ إِلَى الْمَسْجِدِ حَبْلًا، وَاحْضُرِ الْجَمَاعَةَ»[1]. وعَنْ رُزَيْقٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ [الإمام الصادق](عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بَلَغَهُ أَنَّ قَوْمًا لَا يَحْضُرُونَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ، فَخَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمًا لَا يَحْضُرُونَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فِي مَسَاجِدِنَا، فَلَا يُؤَاكِلُونَّا، وَلَا يُشَارِبُونَّا، وَلَا يُشَاوِرُونَّا، وَلَا يُنَاكِحُونَّا، وَلَا يَأْخُذُوا مِنْ فَيْئِنَا شَيْئًا، أَوْ يَحْضُرُوا مَعَنَا صَلَاتَنَا جَمَاعَةً، وَإِنِّي لَأَوْشَكَ أَنْ آمُرَ لَهُمْ بِنَارٍ تُشْعَلُ فِي دُورِهِمْ، فَأُحْرِقَهَا عَلَيْهِمْ، أَوْ يَنْتَهُونَ!»، قَالَ: «فَامْتَنَعَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ مُؤَاكَلَتِهِمْ وَمُشَارَبَتِهِمْ وَمُنَاكَحَتِهِمْ، حَتَّى حَضَرُوا الْجَمَاعَةَ مَعَ الْمُسْلِمِين»[2].
صلاة الجماعة وحدة الأمّة
يقول الإمام الخامنئيّ(دام ظله): «إنّ مظهر الاحتفال بهذا العيد السعيد [عيد الفطر] هو التعبّد والعبادة والصفوف المرصوصة في الصلاة.
[1] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، مصدر سابق، ج3، ص266.
[2] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قمّ المشرَّفة، 1414ه.ق، ط1، ص697.
74
66
الموعظة العاشرة: فضل صلاة الجماعة وآثارها
ففي العالَم الإسلاميّ كلّه، نجد الناس اليوم قد وقفوا في صفوف واحدة لصلاة الجماعة، بخشوع مقابل الربّ، وهو ما يُمثّل ضابطة معنويّة وروحيّة بين أفراد الأمّة الإسلاميّة. وهذا الصفّ الواحد ينبغي أن يتحقّق في الأمّة الإسلامية؛ من أجل مواجهة القضايا المهمّة في العالَم، والّتي يرتبط الكثير منها بالأمّة الإسلاميّة ومصيرها.
فلو اتّحدَت هذه القلوب فيما بينها، وارتفعت بواعث الاختلاف المصطَنَع مِن قِبَل أعداء الأمّة الإسلاميّة وأعداء الإسلام، حينها ستكون الأيدي والأقدام والطاقات والأفكار في اتّجاه واحد، وتبرز فعاليّتها في مواجهة الجبهة الواسعة المعادية للإسلام والأمّة الإسلاميّة»[1].
[1] كلمة الإمام الخامنئيّ(دام ظله) في لقاء مدراء الدولة وسفراء البلدان الإسلاميّة، بتاريخ 10/09/2010م.
75
67
الموعظة الحادية عشرة: أفضل العبادة الدعاء
الموعظة الحادية عشرة: أفضل العبادة الدعاء
1. فضل الدعاء
2. فلسفة الدعاء
3. آداب الدعاء وشروطه
4. أوقات وحالات تُرْجَى فيها الإجابة
هدف الموعظة
تعرُّف شروط الدعاء واستجابته، والعمل على الاستفادة منها في أدعية شهر رمضان.
تصدير الموعظة
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ﴾[1].
[1] سورة البقرة، الآية 186.
76
68
الموعظة الحادية عشرة: أفضل العبادة الدعاء
فضل الدعاء
عَنْ زرارة، عن أبي جعفر [الإمام الباقر] (عليه السلام)، قال: «إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[1][2]»، قَالَ: «هُوَ الدُّعَاءُ، وأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الدُّعَاءُ». قُلْتُ: ﴿إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيم﴾[3]؟ قَالَ: «الأَوَّاه هُوَ الدَّعَّاءُ»[4].
فلسفة الدعاء
إنّ علّة مطلوبيّة الدعاء هي كونه مَظْهَرَ فقر الإنسان واحتياجه إلى الله، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ﴾[5].
فإنّ الإنسان إذا ما رأى نفسه فقيرًا محتاجًا، لا ينفكّ عن طلب العون من ربّ العزّة والجلالة؛ فإذا لجأ إلى الله، فإنّما يلجأ إليه لعِلمه بأنّه سبحانه وتعالى بيده ملكوت السماوات والأرض، وأنّه مبدأ الخير وأصله، ومنبع الفيض ومصدره، وأنّه المعطي والمانع، والضارّ والنافع، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فِي ٱلۡبَحۡرِ ضَلَّ مَن تَدۡعُونَ إِلَّآ إِيَّاهُۖ فَلَمَّا نَجَّىٰكُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ أَعۡرَضۡتُمۡۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ كَفُورًا﴾[6]
[1] داخرين: أي صاغرين ذليلين.
[2] سورة غافر، الآية 60.
[3] سورة التوبة، الآية 114.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص466.
[5] سورة فاطر، الآية 15.
[6] سورة الإسراء، الآية 67.
77
69
الموعظة الحادية عشرة: أفضل العبادة الدعاء
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال لبعض أصحابه: «ألَا أَدُلُّكُمْ عَلَى سِلَاحٍ يُنْجِيكُمْ مِنْ أَعْدَائِكُمْ ويُدِرُّ أَرْزَاقَكُمْ؟». قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «تَدْعُونَ رَبَّكُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ؛ فَإِنَّ سِلَاحَ الْمُؤْمِنِ الدُّعَاءُ»[1].
وإنّ استحضار الداعي لصفات الله، من صفات الجمال والجلال، وتبلوُرها في وجدانه، يقطع عنه كلّ تعلُّق وارتباط، سوى تعلُّقه وارتباطه بخالقه سبحانه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الدُّعَاءُ مَفَاتِيحُ النَّجَاحِ ومَقَالِيدُ الْفَلَاحِ، وخَيْرُ الدُّعَاءِ مَا صَدَرَ عَنْ صَدْرٍ نَقِيٍّ وقَلْبٍ تَقِيٍّ؛ وفِي الْمُنَاجَاةِ سَبَبُ النَّجَاةِ، وبِالإِخْلَاصِ يَكُونُ الْخَلَاصُ؛ فَإِذَا اشْتَدَّ الْفَزَعُ، فَإِلَى الله الْمَفْزَعُ»[2].
آداب الدعاء وشروطه
1. الإقبال بالقلب: أي التوجُّه إلى الله تعالى بكياننا كلّه، فلا يشغلنا سواه، ولا يلهينا عنه شيء من حطام الدنيا، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً بِظَهْرِ قَلْبٍ سَاه؛ فَإِذَا دَعَوْتَ فَأَقْبِلْ بِقَلْبِكَ، ثُمَّ اسْتَيْقِنْ بِالإِجَابَةِ»[3].
2. حُسن الظنّ بالله: حُسن الظنّ بالله من شعب معرفته تعالى، والله يعطي عباده بقدر حُسن ظنّهم به ويقينهم بسعة رحمته وكرمه، عن الإمام الرضا (عليه السلام): «أَحْسِنِ الظَّنَّ بِاللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص468.
[2] المصدر نفسه، ج2، ص468.
[3] المصدر نفسه، ج2، ص473.
78
70
الموعظة الحادية عشرة: أفضل العبادة الدعاء
يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ فَلَا يَظُنَّ بِي إِلَّا خَيْرًا»[1]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا دَعَوْتَ، فَظُنَّ أَنَّ حَاجَتَكَ بِالْبَابِ»[2].
3. رفع اليدَين: عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ لَيَسْتَحِيِ مِنَ الْعَبْدِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، فَيَرُدَّهُمَا خَائِبَتَيْن»[3].
وعن محمّد بن مسلم، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ [الإمام الباقر] (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَمَا ٱسۡتَكَانُواْ لِرَبِّهِمۡ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾[4]، فَقَالَ: «الِاسْتِكَانَةُ هُوَ الْخُضُوعُ، وَالتَّضَرُّعُ هُوَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ وَالتَّضَرُّعُ بِهِمَا»[5].
وعن معنى رفع اليدَين سُئل الإمام الرضا (عليه السلام): مَا بَالُكُمْ إِذَا دَعَوْتُمْ رَفَعْتُمْ أَيْدِيَكُمْ إِلَى السَّمَاءِ؟ فقال: «إِنَّ اللهَ اسْتَعْبَدَ خَلْقَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ الْعِبَادَةِ... وَاسْتَعْبَدَ خَلْقَهُ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ وَالتَّضَرُّعِ بِبَسْطِ الْأَيْدِي وَرَفْعِهَا إِلَى السَّمَاءِ؛ لِحَالِ الِاسْتِكَانَةِ وَعَلَامَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّذَلُّلِ لَهُ»[6].
4. الإسرار بالدعاء: قال تعالى: ﴿ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ﴾[7]، فأمر أن يدعوه بالتضرُّع والتذلُّل، وأن يكون ذلك خفية، من غير المجاهرة البعيدة عن أدب العبوديّة، الخارجة
[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج15، ص231.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص473.
[3] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص277.
[4] سورة المؤمنون، الآية 76.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص480.
[6] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج7، ص48.
[7] سورة الأعراف، الآية 55.
79
71
الموعظة الحادية عشرة: أفضل العبادة الدعاء
يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ فَلَا يَظُنَّ بِي إِلَّا خَيْرًا»[1]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا دَعَوْتَ، فَظُنَّ أَنَّ حَاجَتَكَ بِالْبَابِ»[2].
3. رفع اليدَين: عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللهَ لَيَسْتَحِيِ مِنَ الْعَبْدِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، فَيَرُدَّهُمَا خَائِبَتَيْن»[3].
وعن محمّد بن مسلم، قال: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ [الإمام الباقر] (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَمَا ٱسۡتَكَانُواْ لِرَبِّهِمۡ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾[4]، فَقَالَ: «الِاسْتِكَانَةُ هُوَ الْخُضُوعُ، وَالتَّضَرُّعُ هُوَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ وَالتَّضَرُّعُ بِهِمَا»[5].
وعن معنى رفع اليدَين سُئل الإمام الرضا (عليه السلام): مَا بَالُكُمْ إِذَا دَعَوْتُمْ رَفَعْتُمْ أَيْدِيَكُمْ إِلَى السَّمَاءِ؟ فقال: «إِنَّ اللهَ اسْتَعْبَدَ خَلْقَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ الْعِبَادَةِ... وَاسْتَعْبَدَ خَلْقَهُ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ وَالتَّضَرُّعِ بِبَسْطِ الْأَيْدِي وَرَفْعِهَا إِلَى السَّمَاءِ؛ لِحَالِ الِاسْتِكَانَةِ وَعَلَامَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّذَلُّلِ لَهُ»[6].
4. الإسرار بالدعاء: قال تعالى: ﴿ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ﴾[7]، فأمر أن يدعوه بالتضرُّع والتذلُّل، وأن يكون ذلك خفية، من غير المجاهرة البعيدة عن أدب العبوديّة، الخارجة
[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج15، ص231.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص473.
[3] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص277.
[4] سورة المؤمنون، الآية 76.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص480.
[6] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج7، ص48.
[7] سورة الأعراف، الآية 55.
79
72
الموعظة الحادية عشرة: أفضل العبادة الدعاء
عن زيِّها، عن الإمام الرضا (عليه السلام): «دَعْوَةُ الْعَبْدِ سِرًّا دَعْوَةً وَاحِدَةً تَعْدِلُ سَبْعِينَ دَعْوَةً عَلَانِيَةً»[1].
5. الاجتماع للدعاء: من الآداب الّتي تحقّق الفوز للداعي، اجتماعه مع المؤمنين حال الدعاء؛ فيطاله حظٌّ من الرحمة الإلهيّة، قال تعالى: ﴿وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ﴾[2]، وعن الإمام الصادق(عليه السلام): «مَا مِنْ رَهْطٍ أَرْبَعِينَ رَجُلًا اجْتَمَعُوا، فَدَعَوُا الله عَزَّ وجَلَّ فِي أَمْرٍ، إِلَّا اسْتَجَابَ الله لَهُمْ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَعِينَ، فَأَرْبَعَةٌ يَدْعُونَ الله عَزَّ وجَلَّ عَشْرَ مَرَّاتٍ، إِلَّا اسْتَجَابَ الله لَهُمْ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً، فَوَاحِدٌ يَدْعُو الله أَرْبَعِينَ مَرَّةً، فَيَسْتَجِيبُ الله الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ لَه»[3].
6. التوسّل بالنبيّ محمّد وأهل بيته (عليهم السلام): ينبغي للداعي أن يلِجَ من الأبواب الّتي أمر الله تعالى بها، وأهل البيت (عليهم السلام) هم سفن النجاة لهذه الأمَّة؛ فحريٌّ بمن دعا الله تعالى أن يتوسّل إليه بهم (عليهم السلام)، ويسأله بحقّهم، ويقدّمهم بين يدَي حوائجه، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «مَنْ دَعَا اللهَ بِنَا أَفْلَحَ، وَمَنْ دَعَاهُ بِغَيْرِنَا هَلَكَ وَاسْتَهْلَك»[4].
والصلاة على النبيّ وآله من أهمّ الوسائل في صعود الأعمال
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص476.
[2] سورة الكهف، الآية 28.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص487.
[4] الشيخ الطوسيّ، الآمالي، مصدر سابق، ص172.
80
73
الموعظة الحادية عشرة: أفضل العبادة الدعاء
واستجابة الدعاء، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَا يَزَالُ الدُّعَاءُ مَحْجُوبًا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيَّ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِي»[1].
7. تسمية الحاجة وعدم استصغارها: وينبغي للداعي أن يذكر ما يريد من خير الدنيا والآخرة، وأن لا يستكثر مطلوبه؛ لأنَّه يطلب من ربِّ السماوات والأرض الّذي لا يُعجزه شيء، ولا تنفد خزائن رحمته. وعليه أيضًا، أن لا يستصغر حاجةً صغيرةً لصغرها، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَعْلَمُ مَا يُرِيدُ الْعَبْدُ إِذَا دَعَاهُ، وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ تُبَثَّ إِلَيْهِ الْحَوَائِجُ؛ فَإِذَا دَعَوْتَ، فَسَمِّ حَاجَتَكَ»[2]، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا، حَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ»[3].
8. الإلحاح في الدعاء: يجب الإلحاح بالدعاء في جميع الأحوال؛ لِما في ذلك من الرحمة والمغفرة واستجابة الدعوات، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «رَحِمَ اللهُ عَبْدًا طَلَبَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَاجَةً، فَأَلَحَّ فِي الدُّعَاءِ، اسْتُجِيبَ لَهُ أَوْ لَمْ يُسْتَجَبْ لَه»[4]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ كَرِهَ إِلْحَاحَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَحَبَّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ؛ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَيُطْلَبَ مَا عِنْدَهُ»[5].
[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص662.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص476.
[3] العلّامة النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج5، ص172.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص475.
[5] المصدر نفسه.
81
74
الموعظة الحادية عشرة: أفضل العبادة الدعاء
9. الدعاء في الشدّة والرخاء: من آداب الدعاء، أن يدعو العبد في الرخاء على نحو دعائه في الشدّة؛ لِما في ذلك من الثقة بالله والانقطاع إليه، ولفضله في دفع البلاء واستجابة الدعاء عند الشدّة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ فِي الشِّدَّةِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ»[1]، وفي مناجاة الإمام زين العابدين (عليه السلام): «وَلَا تَجْعَلْنِي مِمَّنْ يَبْطَرُهُ الرَّخَاءُ وَيَصْرَعُهُ الْبَلَاءُ، فَلَا يَدْعُوكَ إِلَّا عِنْدَ حُلُولِ نَازِلَةٍ، وَلَا يَذْكُرُكَ إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِ جَائِحَةٍ، فَيَصْرَعُ لَكَ خَدَّهُ، وَتَرْفَعُ بِالْمَسْأَلَةِ إِلَيْكَ يَدَهُ»[2].
أوقات وحالات تُرْجَى فيها الإجابة
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاطِنَ: فِي الْوَتْرِ، وبَعْدَ الْفَجْرِ، وبَعْدَ الظُّهْرِ، وبَعْدَ الْمَغْرِبِ»[3].
وعنه (عليه السلام): «قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): اغْتَنِمُوا الدُّعَاءَ عِنْدَ أَرْبَعٍ: عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وعِنْدَ الأَذَانِ، وعِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ، وعِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ لِلشَّهَادَة»[4].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص472.
[2] الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، تحقيق السيّد محمّد باقر الموحّد الأبطحيّ الأصفهانيّ، نشر مؤسّسة الإمام المهديّ (عليه السلام) ومؤسّسة أنصاريان للطباعة والنشر، إيران - قمّ، 1411ه، ط1، ص487.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص477.
[4] المصدر نفسه.
82
75
الموعظة الحادية عشرة: أفضل العبادة الدعاء
9. الدعاء في الشدّة والرخاء: من آداب الدعاء، أن يدعو العبد في الرخاء على نحو دعائه في الشدّة؛ لِما في ذلك من الثقة بالله والانقطاع إليه، ولفضله في دفع البلاء واستجابة الدعاء عند الشدّة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ فِي الشِّدَّةِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ»[1]، وفي مناجاة الإمام زين العابدين (عليه السلام): «وَلَا تَجْعَلْنِي مِمَّنْ يَبْطَرُهُ الرَّخَاءُ وَيَصْرَعُهُ الْبَلَاءُ، فَلَا يَدْعُوكَ إِلَّا عِنْدَ حُلُولِ نَازِلَةٍ، وَلَا يَذْكُرُكَ إِلَّا عِنْدَ وُقُوعِ جَائِحَةٍ، فَيَصْرَعُ لَكَ خَدَّهُ، وَتَرْفَعُ بِالْمَسْأَلَةِ إِلَيْكَ يَدَهُ»[2].
أوقات وحالات تُرْجَى فيها الإجابة
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاطِنَ: فِي الْوَتْرِ، وبَعْدَ الْفَجْرِ، وبَعْدَ الظُّهْرِ، وبَعْدَ الْمَغْرِبِ»[3].
وعنه (عليه السلام): «قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): اغْتَنِمُوا الدُّعَاءَ عِنْدَ أَرْبَعٍ: عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وعِنْدَ الأَذَانِ، وعِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ، وعِنْدَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ لِلشَّهَادَة»[4].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص472.
[2] الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، تحقيق السيّد محمّد باقر الموحّد الأبطحيّ الأصفهانيّ، نشر مؤسّسة الإمام المهديّ (عليه السلام) ومؤسّسة أنصاريان للطباعة والنشر، إيران - قمّ، 1411ه، ط1، ص487.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص477.
[4] المصدر نفسه.
82
76
الموعظة الحادية عشرة: أفضل العبادة الدعاء
وعَنْ الإمام الباقر (عليه السلام): «إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِه الْمُؤْمِنِينَ كُلَّ عَبْدٍ دَعَّاءٍ؛ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ فِي السَّحَرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ فَإِنَّهَا سَاعَةٌ تُفَتَّحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وتُقَسَّمُ فِيهَا الأَرْزَاقُ، وتُقْضَى فِيهَا الْحَوَائِجُ الْعِظَامُ»[1].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص477.
83
77
الموعظة الثانية عشرة: خَفِ الله كَأَنَّكَ تَرَاه
الموعظة الثانية عشرة: خَفِ الله كَأَنَّكَ تَرَاه
1. كأنّك تراه
2. تربية النفس على الخوف
3. الخوف بقدر المعرفة بالله
4. المؤمن بين مخافتَين
5. مخافة غير الله
هدف الموعظة
معرفة أهمّيّة وجود الخوف من الله في عمليّة بناء النفس، والربط بين درجات الخوف ومقدار المعرفة بالله.
تصدير الموعظة
﴿وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ ٤٠ فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ﴾[1].
[1] سورة النازعات، الآيتان 40 و41.
84
78
الموعظة الثانية عشرة: خَفِ الله كَأَنَّكَ تَرَاه
كأنّك تراه
قال الإمام الصادق (عليه السلام) لإسحاق بن عمّار: «يَا إِسْحَاقُ، خَفِ الله كَأَنَّكَ تَرَاه، وإِنْ كُنْتَ لَا تَرَاه فَإِنَّه يَرَاكَ؛ فَإِنْ كُنْتَ تَرَى أَنَّه لَا يَرَاكَ، فَقَدْ كَفَرْتَ؛ وإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّه يَرَاكَ ثُمَّ بَرَزْتَ لَه بِالْمَعْصِيَةِ، فَقَدْ جَعَلْتَه مِنْ أَهْوَنِ النَّاظِرِينَ عَلَيْكَ»[1].
تُطلَق الرؤية على الرؤية البصريّة، وعلى الرؤية القلبيّة؛ وهي كناية عن غاية الانكشاف والظهور. والمعنى الأوّل هنا أنسب؛ أي خف الله خوفَ مَن يشاهد بعينه، وإن كان محالًا. ويُحتَمَل الثاني أيضًا، فإنّ المخاطَب لَمَّا لم يكن من أهل الرؤية القلبيّة، ولم يرتقِ إلى تلك الدرجة العليّة -فإنّها مخصوصة بالأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)- قال: «كَأَنَّكَ تَرَاهُ»، وهذه مرتبة عين اليقين، وأعلى مراتب السالكين.
وقوله: «وإِنْ كُنْتَ لَا تَرَاهُ»؛ أي إن لم تحصل لك هذه المرتبة من الانكشاف والعيان، فكن بحيث تتذكَّر دائمًا أنّه يراك؛ وهذا مقام المراقبة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبا﴾[2]. والمراقبة مراعاة القلب باشتغاله به تعالى، والمثمر لها تذكُّر أنّ الله تعالى مطَّلِعٌ على كلّ نفسٍ بما كسبت، وأنّه سبحانه عالِمٌ بسرائر القلوب وخطراتها، وهو قوله سبحانه: ﴿أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۗ﴾[3]. فإذا استقرّ هذا العلم في القلب، جذبه إلى مراقبة الله سبحانه دائمًا،
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص68.
[2] سورة النساء، الآية 1.
[3] سورة الرعد، الآية 33.
85
79
الموعظة الثانية عشرة: خَفِ الله كَأَنَّكَ تَرَاه
وترك معاصيه خوفًا وحياءً، والمواظبة على طاعته وخدمته دائمًا.
وقوله: «فَإِنْ كُنْتَ تَرَى أَنَّه لَا يَرَاكَ، فَقَدْ كَفَرْتَ»، رؤيته تعالى نوع من العلم، وهو العلم بالمبصرات ظاهرها وباطنها كما هي، والمنكر له كافر بالله العظيم.
قوله: «وإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّه يَرَاكَ ثُمَّ بَرَزْتَ لَه بِالْمَعْصِيَةِ، فَقَدْ جَعَلْتَه مِنْ أَهْوَنِ النَّاظِرِينَ عَلَيْكَ»، حيث تترك المعصية عند مشاهدة غيره، خوفًا من اللوم وحياءً، ولا تتركها عند مشاهدته، مع علمك بأنّه شاهد حاضر؛ وليس ذلك إلّا لأنّه أهون عندك من ذلك الغير، وهو لازم عليك، وإن لم تقصده. وأنا أستغفر الله وأقول: يا ربِّ، فعلنا كذلك لا لذلك، بل لأجل أنّا نأمن منك ونرجو رحمتك، ولا نأمن غيرك[1].
تربية النفس على الخوف
يجب أن يربّي المؤمن نفسه على الخوف من الله تعالى؛ ليكون باعثًا له على الطاعة، ومنفِّرًا له من الذنب والمعصية، قال الإمام عليّ (عليه السلام) في وصيّته لابنه الإمام الحسن (عليه السلام): «وَأُوصِيكَ بِخَشْيَةِ اللهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِكَ»[2]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَخَافَ اللهَ خَوْفًا كَأَنَّهُ يُشْرِفُ عَلَى النَّار»[3].
[1] مولى محمّد صالح المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج8، ص217. (بتصرّف)
[2] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص7.
[3] الشيخ الحويزي، تفسير نور الثقلين، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الرسولي المحلاتي، مؤسّسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قمّ، 1412هـ - 1370ش، ط4، ج4، ص45.
86
80
الموعظة الثانية عشرة: خَفِ الله كَأَنَّكَ تَرَاه
وينبغي أن يتّسم بالقصد والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط في الخوف؛ لأنّ الإفراط يؤذي النفس، ويجعلها في حالة اليأس من الرجاء والأمل، والتفريط باعث على الإهمال والتقصير والتمرّد على طاعة الله تعالى. قال الإمام عليّ (عليه السلام): «خَيْرُ الْأَعْمَالِ اعْتِدَالُ الرَّجَاءِ وَالْخَوْف»[1].
الخوف بقدر المعرفة بالله
كلّما ازداد الإنسان معرفةً بربِّه، ازداد حبًّا له وخوفًا منه. ويكفي من معرفته الحدُّ الأدنى، كأنْ يعرف بأنّه هو خالقه وبارئه ومصوِّره، منه المبدأ وإليه المعاد، ويحصي عليه عمله في دار الدنيا بعد أن جعلها دار عمل، ثمّ يحشره إليه، ويسأله عن كلّ كبيرة وصغيرة، ثمّ يثيبه على ما صلح من أعماله، ويعاقبه على ما اقترفت يداه من الإثم والمعاصي. وهكذا، فكلّ مَن كان بالله أكثر معرفة، كان مِن الله أكثر مخافةً. عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ كَانَ بِاللهِ أَعْرَفَ، كَانَ مِنَ اللهِ أَخْوَفَ»[2]، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَعْلَمُ النَّاسِ بِاللهِ سُبْحَانَهُ أَخْوَفُهُمْ مِنْهُ»[3].
[1] الليثيّ الواسطيّ، الشيخ كافي الدين عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص240.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص394.
[3] التميميّ الآمديّ، عبد الواحد بن محمّد، غرر الحكم ودرر الكلم (مجموعة من كلمات وحكم الإمام عليّ (عليه السلام))، دار الكتاب الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1410هـ.، ط2، ص200.
87
81
الموعظة الثانية عشرة: خَفِ الله كَأَنَّكَ تَرَاه
المؤمن بين مخافتَين
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ مِمَّا حُفِظَ مِنْ خُطَبِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّه قَالَ: ... أَلَا إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْمَلُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ: بَيْنَ أَجَلٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي مَا الله صَانِعٌ فِيه، وبَيْنَ أَجَلٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي مَا اللهُ قَاضٍ فِيه؛ فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ مِنْ نَفْسِه لِنَفْسِه، ومِنْ دُنْيَاه لآِخِرَتِه، وفِي الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْكِبَرِ، وفِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ؛ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه، مَا بَعْدَ الدُّنْيَا مِنْ مُسْتَعْتَبٍ، ومَا بَعْدَهَا مِنْ دَارٍ إِلَّا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ»[1].
قوله: «أَلَا إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْمَلُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ: بَيْنَ أَجَلٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي مَا الله صَانِعٌ فِيه، وبَيْنَ أَجَلٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي مَا اللهُ قَاضٍ فِيه» دلّ على أنّ الخوف كما يكون ممّا يأتي، يكون ممّا مضى أيضًا، وهذان الخوفان يوجبان تحقُّق كمال الإنسان؛ لأنّ الخوف ممّا مضى يوجب تصميم العزم بالتوبة والاستغفار والتدارك والاعتراف بالتقصير واشتغال القلب بذكر الربّ، والخوف ممّا يأتي من احتمال المعصية والاغترار ونقصان الدرجة عن درجة الأبرار وانقلاب القلب والغفلة وترك الطاعات، يوجب الاجتهاد في اكتساب الخيرات، والمبادرة إلى تحصيل الكمالات، والمحافظة على أوقات العبادات؛ والخالي عن الخوف قاسي القلب، فاسد العقل، قال سبحانه: ﴿فَوَيۡل لِّلۡقَٰسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰل مُّبِينٍ﴾[2].
«فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ مِنْ نَفْسِه لِنَفْسِه»، بأن يأخذ في الدنيا
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص70.
[2] سورة الزمر، الآية 22.
88
82
الموعظة الثانية عشرة: خَفِ الله كَأَنَّكَ تَرَاه
من نفسه فعل الطاعات والقربات، وترك المنهيّات والمهويّات، ورفض الدنيا وأهلها ورسوم العادات، لنفسه في الآخرة. «ومِنْ دُنْيَاه لآِخِرَتِه»، بأن ينفق متاعها على الفقراء والمساكين وذوي الحاجات من المسلمين، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، وهي مزرعة الآخرة.
والمقصود من هذا الحديث، حثُّ المكلَّف على اغتنام الفرصة في زمن المهلة، للاعتذار والتوبة والاستغفار والاستيقاظ والاستعداد لِما بعد الموت؛ لئلّا يقع بعده في الحسرة والندامة، فيعتذر فلا تُقَبل معذرته: ﴿أَوَ لَمۡ نُعَمِّرۡكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾[1]، بل قد يُمنَع من الاعتذار، فيقول: ﴿قَالَ ٱخۡسَُٔواْ فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾[2] [3].
مخافة غير الله تعالى
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾[4]. فأولياء الله لا يرَون لغيره تعالى استقلالًا في التأثير أصلًا، ويقصرون الملك والحُكم عليه تعالى، فلا يخافون إلّا إيّاه، أو ما يحبّ الله ويريد أن يحذروا منه أو يحزنوا عليه، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «لَيْسَ شَيْءٌ إِلَّا ولَه حَدٌّ». قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَمَا حَدُّ التَّوَكُّلِ؟ قَالَ: «الْيَقِينُ». قُلْتُ: فَمَا حَدُّ الْيَقِينِ؟ قَالَ: «أَلَّا تَخَافَ مَعَ اللهِ شَيْئًا»[5].
[1] سورة فاطر، الآية 37.
[2] سورة المؤمنون، الآية 108.
[3] المولى المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج8، ص225. (بتصرّف)
[4] سورة آل عمران، الآية 175.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص57.
89
83
الموعظة الثالثة عشرة: التوبة باب العفو
الموعظة الثالثة عشرة: التوبة باب العفو
1. باب العفو
2. حقيقة التوبة
3. وجوب التوبة
4. آثار التوبة
5. تَوْبَةً نَصُوحًا
6. التوفيق للتوبة
هدف الموعظة
بيان البُعد المعنويّ للتوبة من الذنب، ومعرفة أهمّيّتها، وكونها من الواجبات الشرعيّة.
تصدير الموعظة
﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّئَِّاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ﴾[1].
[1] سورة الشورى، الآية 25.
90
84
الموعظة الثالثة عشرة: التوبة باب العفو
باب العفو
التوبة باب الله الّذي فتحه إلى ساحة عفوه، ففي دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في وداع شهر رمضان: «أَنْتَ الَّذِي فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَابًا إِلَى عَفْوِكَ، وسَمَّيْتَه التَّوْبَةَ»[1].
حقيقة التوبة
التوبة لغةً: الرجوع والإنابة، يُقال: تاب فلانٌ؛ أي رجع عن ذنبه، فهو تائب.
وقد عرَّفها علماء الأخلاق بأنّها «تركُ المعاصي في الحال، والعزمُ على تركها في الاستقبال، وتداركُ ما سبق من التقصير في سابق الأحوال»[2].
يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «التوبة من المنازل المهمّة الصعبة، وهي عبارة عن الرجوع عن عالَمِ المادّة إلى روحانيّة النفس، بعد أن حُجِبَت هذه الروحانيّة ونور الفطرة بغشاوات ظلمانيّة، من جرّاء الذنوب والمعاصي»[3].
وجوب التوبة
قال تعالى: ﴿وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾[4]،
[1] الإمام عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص194.
[2] الغزاليّ، إحياء علوم الدين، دار الكتاب العربيّ، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج11، ص150.
[3] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، السيّد روح الله الموسويّ، الأربعون حديثًا، تعريب محمّد الغرويّ، مؤسّسة دار الكتاب الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1423ه، ط2، ص257.
[4] سورة النور، الآية 31.
91
85
الموعظة الثالثة عشرة: التوبة باب العفو
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةٗ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَئَِّاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ﴾[1].
يظهر من هاتَين الآيتَين توجيه الخطاب إلى المذنبين من المؤمنين؛ أمّا المجرمون ونحوهم، فإنّ الله سبحانه كثيرًا ما كان يحذّرهم في آياته عذابًا أليمًا، وينذرهم عاقبة أعمالهم السيّئة، ثمّ يدعوهم إلى التوبة: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَتُوبُواْ فَلَهُمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمۡ عَذَابُ ٱلۡحَرِيقِ﴾[2].
وقد أفتى الفقهاء بوجوب التوبة ووجوب الأمر بها، مضافًا إلى الأمر بالمعروف، يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) في تحرير الوسيلة: «من الواجبات التوبة من الذنب؛ فلو ارتكب حرامًا أو ترك واجبًا، تجب التوبة فورًا، ومع عدم ظهورها منه أمره بها. وكذا لو شكّ في توبته، وهذا غير الأمر والنهي بالنسبة إلى سائر المعاصي؛ فلو شكّ في كونه مقصِّرًا أو علم بعدمه، لا يجب الإنكار بالنسبة إلى تلك المعصية، لكن يجب بالنسبة إلى ترك التوبة»[3].
آثار التوبة
1. الفلاح والفوز: إنّ المِلاك الّذي شُرِّعَت لأجله التوبة، هو التخلّص من هلاك الذنب وبوار المعصية؛ لكونها وسيلةَ الفلاح، ومقدّمةَ
[1] سورة التحريم، الآية 8.
[2] سورة البروج، الآية 10.
[3] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، السيّد روح الله الموسويّ، تحرير الوسيلة، دار الكتب العلميّة، العراق - النجف، 1390ه.ق، ط2، ج1، ص471.
92
86
الموعظة الثالثة عشرة: التوبة باب العفو
الفوز بالسعادة، كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾[1].
2. محو الذنوب: قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةٗ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَئَِّاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ﴾[2]. وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَه؛ والْمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ، وهُوَ مُسْتَغْفِرٌ مِنْه، كَالْمُسْتَهْزِئِ»[3].
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا تَابَ الْعَبْدُ تَوْبَةً نَصُوحًا، أَحَبَّه الله، فَسَتَرَ عَلَيْه». فَقُلْتُ: وكَيْفَ يَسْتُرُ عَلَيْه؟ قَالَ: «يُنْسِي مَلَكَيْه مَا كَانَا يَكْتُبَانِ عَلَيْه، ويُوحِي اللهُ إِلَى جَوَارِحِه وإِلَى بِقَاعِ الأَرْضِ أَنِ اكْتُمِي عَلَيْه ذُنُوبَه، فَيَلْقَى الله عَزَّ وجَلَّ حِينَ يَلْقَاه، ولَيْسَ شَيْءٌ يَشْهَدُ عَلَيْه بِشَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ»[4].
3. محبّة الله: قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ﴾[5]. وفي قوله سبحانه فضلٌ عظيمٌ وشرفٌ جسيمٌ للتائب، إذ ينال محبّة الحقِّ، الّتي هي أعلى مقاصد السالكين، بعدما كان في زمرة الهالكين. وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ
[1] سورة النور، الآية 31.
[2] سورة التحريم، الآية 8.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص435.
[4] المصدر نفسه، ص436.
[5] سورة البقرة، الآية 223.
93
87
الموعظة الثالثة عشرة: التوبة باب العفو
عَبْدِه، مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَه وزَادَه فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ، فَوَجَدَهَا؛ فَالله أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِه مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِه حِينَ وَجَدَهَا»[1].
4. طرد اليأس والقنوط: من فوائد التوبة، أنّ فيها حفظًا لروح الرجاء من الانخماد والركود؛ فإنّ الإنسان لا يستقيم سيرُه الحيويّ إلّا بالخوف والرجاء المتعادلَين، حتّى يندفعَ عمّا يضرّه، وينجذبَ إلى ما ينفعه؛ ولولا ذلك لهلك، قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٥٣ وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ﴾[2]. ولا يزال الإنسان، على ما نعرف من غريزته، على نشاطٍ من الروح الفعّالة، وجِدٍّ في العزيمة والسعي، ما لم تخسرْ صفقتُه في متجر الحياة؛ وإذا بدا له ما يُخسِر عمله ويُخيِّب سعيَه ويُبطِل أمنيّته، استولى عليه اليأس، وانسلّت به أركان عمله، وربّما انصرف بوجهه عن مسيره، آيسًا من النجاح، خائبًا من الفوز والفلاح؛ والتوبةُ هي الدواء الوحيد الّذي يعالجُ داءَه، ويُحيي به قلبَه، وقد أشرف على الهلَكة والردى.
كمال التوبة
رُوِيَ أنَّ الإمام عليًّا (عليه السلام) سمع رجلًا يقول: «أَسْتَغْفِرُ اللهَ»، فقال (عليه السلام) له: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! أَتَدْرِي مَا الِاسْتِغْفَارُ؟
الِاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ. وهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ:
أَوَّلُهَا: النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى،
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص435.
[2] سورة الزمر، الآيتان 53 و54.
94
88
الموعظة الثالثة عشرة: التوبة باب العفو
والثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْه أَبَدًا،
والثَّالِثُ: أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ، حَتَّى تَلْقَى اللهَ أَمْلَسَ، لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ،
والرَّابِعُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا، فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا،
والْخَامِسُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ، فَتُذِيبَه بِالأَحْزَانِ، حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ، ويَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ،
والسَّادِسُ: أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ، كَمَا أَذَقْتَه حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ، تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ»[1].
تَوْبَةً نَصُوحًا
قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةٗ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَئَِّاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ﴾[2].
التوبة النصوح هي التوبة القويّة الثابتة، الّتي تمنع صاحبها من العود إلى الذنب بعدها. وهذا التفسير يؤيّده ما قيل من أنَّها توبةٌ تنصح صاحبها، فيُقلِع عن الذنوب، ثمَّ لا يعود إليها أبدًا.
وقد سُئِل الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية، فقال: «يَتُوبُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيه». قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ: سَأَلْتُ عَنْهَا أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام)، فَقَالَ: «يَتُوبُ مِنَ الذَّنْبِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيه؛ وأَحَبُّ
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص550، الحكمة 417.
[2] سورة التحريم، الآية 8.
95
89
الموعظة الرابعة عشرة: فضائل الصـدقـــة وآثارها
الموعظة الرابعة عشرة: فضائل الصـدقـــة وآثارها
1. فضل الصدقة
2. الآثار الدنيويّة للصدقة
3. الآثار الأخرويّة للصدقة
4. صدقة السرّ والعلانية
هدف الموعظة
بيان فضل الصدقة، والحثّ عليها.
تصدير الموعظة
﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَة تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾[1].
[1] سورة التوبة، الآية 103.
97
90
الموعظة الرابعة عشرة: فضائل الصـدقـــة وآثارها
حثّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) على الصدقة، وعملوا على بيان فوائدها وآثارها على الفرد والمجتمع، وإنّ لهم في ذلك قصصًا عظيمة قد دلّت على حرصهم الشديد على الصدقة والمداومة عليها في حياتهم الشخصيّة.
فضل الصدقة
ذُكِرَت فضائل عديدة للصدقة على صعيد الدنيا والآخرة على حدّ سواء، نذكر منها:
1. طهارة وتزكية: يقول تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾[1].
2. تُطفئ غضب الربّ: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ»[2].
3. تقع في يد الله: عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَقَدْ وَكَّلْتُ مَنْ يَقْبِضُهُ غَيْرِي، إِلَّا الصَّدَقَةَ، فَإِنِّي أَتَلَقَّفُهَا بِيَدِي تَلَقُّفًا»[3].
الآثار الدنيويّة للصدقة
1. دفع البلاء: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الصَّدَقَةُ تَدْفَعُ الْبَلَاءَ، وَهِيَ أَنْجَحُ
[1] سورة التوبة، الآية 103.
[2] الترمذيّ، محمّد بن عيسى بن سورة، الجامع الصحيح (سنن الترمذيّ)، تحقيق وتصحيح عبد الوهّاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج2، ص86.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص47.
98
91
الموعظة الرابعة عشرة: فضائل الصـدقـــة وآثارها
دَوَاءً، وَتَدْفَعُ الْقَضَاءَ وَقَدْ أُبْرِمَ إِبْرَامًا، وَلَا يَذْهَبُ بِالْأَدْوَاءِ إِلَّا الدُّعَاءُ وَالصَّدَقَةُ»[1].
2. دفع ميتة السوء: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الصَّدَقَةُ تَدْفَعُ مِيتَةَ السَّوْءِ»[2].
3. طول العمر ودفع الفقر: عن الإمام الباقر (عليه السلام): «الْبِرُّ وَالصَّدَقَةُ يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْعُمُرِ، وَيَدْفَعَانِ تِسْعِينَ مِيتَةَ السَّوْءِ»[3].
4. زيادة الرزق: عن الإمام عليّ (عليه السلام): «اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ»[4].
5. مداواة المرضى: عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، أنّ رجلًا شكا إليه أنّه في عشر نفر من العيال، كلّهم مرضى، فقال له (عليه السلام): «داوِهِم بِالصَّدَقَةِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَسْرَعَ إِجَابَةً مِنَ الصَّدَقَةِ، وَلَا أَجْدَى مَنْفَعَةً عَلَى الْمَرِيضِ مِنَ الصَّدَقَةِ»[5].
الآثار الأخرويّة للصدقة
1. ظلّ المؤمن في القيامة: عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أرض القيامة نار، ما خلا ظلّ المؤمن، فإنّ صدقته تظلّه»[6].
2. جُنّة من النار: عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «فتصدّقوا ولو بشقّ تمرة، واتّقوا النار ولو بشقّ تمرة، فإنّ الله عزّ وجلّ يُربيها لصاحبها كما
[1] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج93، ص137.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص2.
[3] المصدر نفسه، ج4، ص2.
[4] المصدر نفسه، ج4، ص10.
[5] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج2، ص648.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص3.
99
92
الموعظة الرابعة عشرة: فضائل الصـدقـــة وآثارها
يُربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتّى يوفّيه إيّاها يوم القيامة، وحتّى تكون أعظم من الجبل العظيم»[1].
3. تطفئ حرّ القبور: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ عَنْ أَهْلِهَا حَرَّ القُبُورِ، وَإِنَّمَا يَسْتَظِلُّ المُؤْمِنُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ»[2].
صدقة السرّ والعلانية
ورد الحثّ على الصدقة بنحو مطلق، أكان سرًّا أم علانية، وإن كانت الأحاديث الواردة في صدقة السرّ تُظهِر فضلها بنحو أكبر. ولعلّ الحثّ على الصدقة علانية، يرجع إلى أهمّيّتها من حيث البُعد التربويّ؛ ذلك أنّ الخير عدوى، كما يُقال، فإذا ما انتشرت الصدقة بين الناس، فإنّ ذلك يدعو الآخرين لأنْ يبادروا إليها ويندفعوا نحوها، شريطة أن لا يكون ذلك عن رياء وسمعة، وإنّما عن إخلاص نيّة لوجه الله. عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ صَدَقَةَ اللَّيْلِ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَمْحُو الذَّنْبَ الْعَظِيمَ، وَتُهَوِّنُ الْحِسَابَ، وَصَدَقَةَ النَّهَارِ تُثْمِرُ الْمَالَ، وَتَزِيدُ فِي الْعُمُر»[3].
[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص458.
[2] الطبرانيّ، المعجم الكبير، مصدر سابق، ج17، ص286.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص9.
100
93
الموعظة الرابعة عشرة: فضائل الصـدقـــة وآثارها
ذوو الرحم أولى بالصدقة
لطالما ظهرت مفردات الاهتمام بالأرحام في الشريعة الإسلاميّة؛ وذلك لأهمّيّة التواصل الرحميّ بين الناس وفضله. ومن ذلك الاهتمام، ما ورد بخصوص الصدقة، فقد ورد في أحاديث المعصومين (عليهم السلام) تأكيد أولويّة ذوي الرحم من غيرهم بالصدقة، ومن ذلك ما عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «لَا صَدَقَةَ وَذُو رَحِمٍ مُحْتَاجٌ»[1].
[1] الشيخ الصدوق، محمّد بن عليّ، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص68.
101
94
الموعظة الخامسة عشرة: السيرة العباديّة والأخلاقيّة للإمام المجتبى(عليه السلام)
الموعظة الخامسة عشرة: السيرة العباديّة والأخلاقيّة للإمام المجتبى(عليه السلام)
1. نبذة عن حياته
2. سيرته العباديّة
3. مكارم أخلاقه
هدف الموعظة
تعرّف السيرة العباديّة والأخلاقيّة للإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، والحثّ على الاقتداء به.
تصدير الموعظة
عن زينب بنت أبي رافع، قالت: رَأَيْتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، أَتَتْ بِابْنَيْهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فِي شَكْوَاهُ الَّتي تُوُفِّيَ فِيهِا، فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَانِ ابْنَاكَ، فَوَرِّثْهُمَا»، فَقَالَ: «أَمَّا الْحَسَنُ، فَإِنَّ لَهُ هَيْبَتِي وَسُؤْدُدِي، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ، فَإِنَّ لَهُ جُرْأَتِي وَجُودِي»[1].
[1] ابن عساكر، أبو القاسم عليّ بن الحسن الشافعيّ، ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام)، الشيخ محمّد باقر المحموديّ، مؤسّسة المحموديّ للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1400هـ - 1980م، ط1، ص123.
102
95
الموعظة الخامسة عشرة: السيرة العباديّة والأخلاقيّة للإمام المجتبى(عليه السلام)
نبذة عن حياته
وُلِدَ الإمام الحسن (عليه السلام) ليلة الثلاثاء، في النصف من شهر رمضان المبارك، في السنة الثالثة للهجرة في المدينة المنوّرة[1].
أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأمّه السيّدة فاطمة الزهراء i. وقد نشأ الإمام في هذا البيت الكريم، وتربّى أكمل تربية.
تسلّم الإمامة بعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام). وقد استمرّت إمامته نحو عشر سنوات، حيث بُويِعَ بالخلافة في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 40هـ، واستشهد سنة50هـ. وقد كانت حكومته نحو ثمانية أشهر، وأوصى بالإمامة بعده لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام)[2].
كان من ألقابه: الحجّة، الكفيُّ، السبط، الوليّ، وكنيته أبو محمّد.
وكان للإمام الحسن (عليه السلام)، خمسة عشر ولدًا، ذكرًا وأنثى[3]. وكان من أصحابه: أشعث بن سوار، وسليم بن قيس الهلاليّ، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعمرو بن قيس المشرقيّ، وميثم التمّار، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ[4].
[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج4، ص28. المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414هـ - 1993م، ط2،ص187.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص300.
[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص20. الطبرسيّ، الشيخ الفضل بن الحسن، تاج المواليد، مكتب آية الله العظمى المرعشيّ النجفيّ، إيران - قمّ، 1406ه، لا.ط، ص27.
[4] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأبواب (رجال الطوسيّ)، تحقيق جواد القيّوميّ الإصفهانيّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قمّ، 1415ه، ط1، ص93.
103
96
الموعظة الخامسة عشرة: السيرة العباديّة والأخلاقيّة للإمام المجتبى(عليه السلام)
وكانت شهادته المباركة (عليه السلام) في السابع من شهر صفر سنة 50هـ، وقد مضى وهو ابن سبعٍ وأربعين سنة مستشهدًا، بعد أن سمّته زوجته جعدة بنت الأشعث، بدسيسة من معاوية بن أبي سفيان، ودُفِن في المدينة المنوّرة (البقيع).
سيرته العباديّة
تميّز الإمام الحسن (عليه السلام) بخصائص وصفات كثيرة ومتنوّعة، منها العبادة والتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى. ويمكن بيان صفاته العباديّة بالآتي:
1. مجمل صفاته العباديّة
يبيّن لنا الإمام الصادق (عليه السلام) عبادة جدّه الإمام الحسن (عليه السلام)، فيصفه بأنّه:
«كان أعبدَ الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم.
وكان إذا حجّ حجّ ماشيًا، وربّما مشى حافيًا.
وكان إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممرّ على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على الله –تعالى ذكره- شهق شهقة يُغشى عليه منها.
وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدَي ربّه عزّ وجلّ.
وكان إذا ذكر الجنّة والنار اضطرب اضطراب السليم، وسأل الله تعالى الجنّة، وتعوّذ به من النار.
104
97
الموعظة الخامسة عشرة: السيرة العباديّة والأخلاقيّة للإمام المجتبى(عليه السلام)
وكان (عليه السلام) لا يقرأ من كتاب الله عزّ وجلّ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ إلّا قال: لبّيك اللهمّ لبّيك، ولم يُرَ في شيءٍ من أحواله إلّا ذاكرًا لله سبحانه.وكان أصدق الناس لهجة، وأفصحهم منطقًا»[1].
2. حالته عند الوضوء
كان الإمام الحسن(عليه السلام) إذا توضّأ ارتعدت مفاصله، واصفرّ لونه، فقيل له في ذلك، فقال: «حقٌّ على كلّ مَن وقف بين يدَي ربّ العرش أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله»[2].
3. حالته العباديّة عند دخوله المسجد
كان(عليه السلام) إذا بلغ باب المسجد، رفع رأسه وقال: «إلهي، ضيفك ببابك، يا محسنُ قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك، يا كريم»[3].
مكارم أخلاقه
قدّم الإمام الحسن (عليه السلام) نموذجًا فريدًا للأخلاق الإسلاميّة، وقدوة حسنة. وهذه شذرات من أخلاقه العطرة:
1. معاملته العبيد والخدم
جسّد الإمام الحسن (عليه السلام) سيرة جدّه المصطفى (صلى الله عليه وآله) من خلال عتق العبيد، والتعامل معهم بالحسنى، فكان لا يترك فرصة إلّا ويحرِّر
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص244.
[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص180.
[3] المصدر نفسه.
105
98
الموعظة الخامسة عشرة: السيرة العباديّة والأخلاقيّة للإمام المجتبى(عليه السلام)
فيها عبدًا وأمة من سطوة العبوديّة، فقد رُوي عن أنس أنّ جاريةً له (الإمام الحسن) حيّتْهُ ببِطاقَةِ ريحان، فقال لها: «أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللهِ». فقلتُ له في ذلك، فقال: «أَدَّبَنَا اللهُ تَعَالَى، فَقَالَ: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ﴾[1]، وَكَانَ أَحْسَنَ مِنْهَا إِعْتَاقُهَا»[2].
2. حِلمه وكظمه للغيظ
ومن حِلمه وتواضعه ما رُوي من أنّ رجلًا من أهل الشام دخل المدينة، فرأى رجلًا راكبًا بغلة حسنة، قال: لم أرَ أحسن منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه، فقيل لي: إنّه الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فامتلأ قلبي غيظًا وحَنَقًا وحسدًا أنْ يكون لعليّ(عليه السلام) ولد مثله، فقمت إليه، فقلت: أنت ابن عليّ بن أبي طالب، فقال: «أنا ابنه»، فقلت: أنت ابن مَن ومَن ومَن، وجعلت أشتمه، وأنال منه ومن أبيه، وهو ساكت حتّى استحييتُ منه، فلمّا انقضى كلامي، ضحك، وقال: «أحسبك غريبًا شاميًّا»، فقلت: أجل، فقال: «فمِلْ معي؛ إن احتجتَ إلى منزلٍ أنزلناك، وإلى مالٍ أرفدناك، وإلى حاجةٍ عاونّاك»، فاستحييتُ منه، وعجبتُ من كرم أخلاقه، فانصرفتُ وقد صرتُ أحبُّه ما لا أحبُّ أحدًا غيره[3].
[1] سورة النساء، الآية 86.
[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص183.
[3] الإربليّ، الشيخ عليّ بن أبي الفتح، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، دار الأضواء، لبنان - بيروت، 1405هـ - 1985م، ط2، ج2، ص183.
106
99
الموعظة الخامسة عشرة: السيرة العباديّة والأخلاقيّة للإمام المجتبى(عليه السلام)
3. خدمته الناس
خرج [الإمام] الحسن(عليه السلام) يطوف بالكعبة، فقام إليه رجل، فقال: يا أبا محمّد، اذهب معي في حاجتي إلى فلان، فترك الطواف وذهب معه.
فلمّا ذهب، خرج إليه رجل حاسد للرجل الّذي ذهب معه.
فقال: يا أبا محمّد، تركت الطواف وذهبت مع فلان إلى حاجة؟!
فقال له الإمام الحسن(عليه السلام): «وكيف لا أذهب معه ورسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: مَن ذهب في حاجة أخيه المسلم، فقُضيت حاجتُه، كُتِبت له حجّة وعمرة، وإن لم تُقضَ له، كُتبت له عمرة؛ فقد اكتسبتُ حجّةً وعمرة، ورجعت إلى طوافي»[1].
[1] ابن عساكر، أبو القاسم عليّ بن الحسن الشافعيّ، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق عليّ شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1415هـ، لا.ط، ج13، ص248.
107
100
الموعظة السادسة عشرة: أنفِقوا في سبيلِ الله
الموعظة السادسة عشرة: أنفِقوا في سبيلِ الله
1. الإنفاق الواجب
2. آثار زكاة الفطرة وفوائدها
3. الإنفاق المستحبّ
4. فوائد الإنفاق
5. من أدب الإنفاق
هدف الموعظة
الحثّ على الإنفاق في سبيل الله، وبيان فوائده وآثاره الطيّبة على المنفق.
تصدير الموعظة
﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾[1].
[1] سورة البقرة، الآية 159.
108
101
الموعظة السادسة عشرة: أنفِقوا في سبيلِ الله
يظهر اهتمام الشريعة الإسلاميّة جليًّا بعددٍ من التشريعات، الّتي كانت أحيانًا على نحو الوجوب، وأحيانًا أخرى على نحو الاستحباب، طبعًا بعد أن سخّر الله خيرات الأرض وبركات السماء للإنسان. قال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾[1].
الإنفاق الواجب
ثمّة تشريعات ماليّة واجبة تهدف إلى رعاية المعوزين والمساكين والمحتاجين، جاءت تحت عناوين مختلفة، كالنفقة الواجبة على الأرحام والأولاد والزوجة وغيرهم، وكالزكاة وزكاة الفطرة والخمس، وأيضًا كالكفّارات، الّتي يُخَصَّص مصرفها إلى من كان في حال العوز والمسكنة والحاجة. وسوف نسلّط الضوء على زكاة الفطرة في هذه الموعظة، والّتي تُسَمَّى زكاة الأبدان أيضًا، وتجب على المكلّف الحرّ الغنيّ، إذ يجب عليه إخراجها عن نفسه، وعن كلّ مَن يعوله، ووقتها دخول ليلة العيد إلى الزوال. وفلسفتها أنّها تساهم في تأمين حاجيات الفقراء ليلة العيد، فيشعروا ببهجة العيد كغيرهم.
عن الإمام عليّ (عليه السلام): «فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ... وَادْعُوهُ يَسْتَجِبْ لَكُمْ... وَأَدُّوا فِطْرَتَكُمْ؛ فَإِنَّهَا سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ، وَفَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ مِنْ رَبِّكُم»[2].
[1] سورة لقمان، الآية 20.
[2] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م، ط1، 661.
109
102
الموعظة السادسة عشرة: أنفِقوا في سبيلِ الله
آثار زكاة الفطرة وفوائدها
لتزكية المال آثار عظيمة، نذكر منها الآتي:
1.تتميم الزكاة، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «مَنْ أَدَّى زَكَاةَ الْفِطْرَةِ، تَمَّمَ اللهُ لَهُ بِهَا مَا نَقَصَ مِنْ زَكَاةِ مَالِه»[1].
2. من تمام الصوم، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ مِنْ تَمَامِ الصَّوْمِ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ؛ يَعْنِي الْفِطْرَةَ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مَنْ صَامَ وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ، فَلَا صَوْمَ لَهُ إِذَا تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا، وَلَا صَلَاةَ لَهُ إِذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)؛ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ بَدَأَ بِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، قَالَ: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ﴾[2]»[3].
الإنفاق المستحبّ
ورد الكثير من الآيات القرآنيّة والأحاديث عن لسان المعصومين (عليهم السلام)، وهي تحثّ على الإنفاق والتصدّق، ومن ذلك، قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡم لَّا بَيۡع فِيهِ وَلَا خُلَّة﴾[4].
[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص183.
[2] سورة الأعلى، الآيتان 14 و15.
[3] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص183.
[4] سورة البقرة، الآية 254.
110
103
الموعظة السادسة عشرة: أنفِقوا في سبيلِ الله
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَقَدْ وَكَّلْتُ مَنْ يَقْبِضُهُ غَيْرِي، إِلَّا الصَّدَقَةَ، فَإِنِّي أَتَلَقَّفُهَا بِيَدِي تَلَقُّفًا»[1].
وعنه أيضًا (عليه السلام): «لَا خَيْرَ فِي مَنْ لَا يُحِبُّ جَمْعَ الْمَالِ مِنْ حَلَالٍ، يَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ، وَيَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ، وَيَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ»[2].
وقد حثّت الروايات على استغلال المال واستثماره، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام): «عَلَيْكَ بِإِصْلَاحِ الْمَالِ؛ فَإِنَّ فِيهِ مَنْبَهَةً لِلْكَرِيمِ، وَاسْتِغْنَاءً عَنِ اللَّئِيمِ»[3]، و«مِنَ الْمُرُوءَةِ اسْتِصْلَاحُ الْمَالِ»[4].
فوائد الإنفاق
للإنفاق في سبيل الله آثار عديدة وفوائد جمّة، ترجع إلى المنفق نفسه، وهذا ممّا وعد به الله تعالى، كما في قوله سبحانه: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ﴾[5] .
وعن الإمام عليّ (عليه السلام): «إِنَّمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ مَا قَدَّمْتَهُ لِآخِرَتِكَ، وَمَا أَخَّرْتَهُ فَلِلْوَارِثِ»[6].
[1] الفيض الكاشانيّ، محمّد بن مرتضى، المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء، صحّحه وعلّق عليه عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قمّ، لا.ت، ط2، ج2، ص94.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص72.
[3] المصدر نفسه، ص88.
[4] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج3، ص166.
[5] سورة البقرة، الآية 272.
[6] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص179.
111
104
الموعظة السادسة عشرة: أنفِقوا في سبيلِ الله
وقد وعد الله بأن يُخلِف مَن أنفق بالعوض عمّا أنفقه، كما في قوله تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّ رَبِّي يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُ لَهُۥۚ وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾[1].
وجاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): «يُنَادِي مُنَادٍ كُلَّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ: اللَّهُمَّ، أَعْطِ كُلَّ مُنْفِقٍ خَلَفًا، وَكُلَّ مُمْسِكٍ تَلَفًا»[2].
من أدب الإنفاق
أولى آداب الإنفاق أن يكون ممّا نحبّ، لا ممّا نكره أو نستغني عنه، قال تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ﴾[3].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، أَنَّهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِالسُّكَّرِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَتَصَدَّقُ بِالسُّكَّرِ؟! فَقَالَ: «نَعَمْ، إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيَّ»[4].
[1] سورة سبأ، الآية39.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص68.
[3] سورة آل عمران، الآية 92.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص61.
112
105
الموعظة السابعة عشرة: أبو طالب حامي الرسول والرسالة
الموعظة السابعة عشرة: أبو طالب حامي الرسول والرسالة
1. نسبه الشريف ومولده ونشأته
2. في الأصلاب الطاهرة
3. عنايته بِقُرَّة عينه محمّد (صلى الله عليه وآله)
4. إيمان أبي طالب ومنزلته
5. أبو طالب يوم القيامة
هدف الموعظة
تعرّف شخصيّة أبي طالب، وبيان دوره في حماية الرسول (صلى الله عليه وآله) والرسالة.
تصدير الموعظة
الإمام الصادق (عليه السلام): «نزل جبرئيل على النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وقال: يا محمّد، إنّ ربّك يُقرئك السلام، ويقول: إنّي قد حرّمت النار على صلبٍ أنزلك، وبطنٍ حملك، وحجرٍ كفلك؛ فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطّلب، والبطن الّذي حملك فآمنة بنت وهب، وأمّا حجرٌ كفلك فحجر أبي طالب»[1].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص446.
113
106
الموعظة السابعة عشرة: أبو طالب حامي الرسول والرسالة
نسبه الشريف ومولده ونشأته
هو أبو طالب، عمران بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب...
وُلد في مكّة المكرّمة قبل ولادة النبيّ(صلى الله عليه وآله) بخمسٍ وثلاثين سنة. تربّى وترعرع في حجر أبيه عبد المطّلب، وتغذّى منه جميع الصفات الحسنة، نشأ في بيت أبيه الّذي كان رئيس مكّة. ومن سموّ مقامه، كانت له أسماء تعرفه بها العرب وملوك القياصرة وملوك العجم والحبشة، وهي: عامر، شيبة الحمد، سيّد البطحاء، ساقي الحجيج، أبو السادة ، عبد المطّلب.
سنَّ في الجاهليّة سننًا كثيرة، أقرّها القرآن فيما بعد، فعن الإمام الرضا(عليه السلام): «كان لعبد المطّلب خمسٌ من السنن أجراها الله له في الإسلام: حرَّم نساء الآباء على الأبناء، سنَّ الدية في القتل مئة من الإبل، طاف بالبيت سبعة أشواط، وجد كنزًا فأخرج منه الخمس، سمّى زمزمَ حين حفرها سقاية الحاجّ»[1].
في الأصلاب الطاهرة
قال في المجمع في تفسير آية ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ﴾[2]: وقيل: معناه وتقلّبك في أصلاب الموحّدين من نبيّ إلى نبيّ حتّى أخرجك نبيًّا[3].
وفي الأمالي، بإسناده عن أنس بن مالك، قال:
[1] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص313.
[2] سورة الشعراء، الآية 219.
[3] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان، مصدر سابق، ج7، ص324. السيوطيّ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج5، ص98. الشيخ الحويزيّ، تفسير نور الثقلين، مصدر سابق، ج4، ص69.
114
107
الموعظة السابعة عشرة: أبو طالب حامي الرسول والرسالة
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «كنتُ أنا وعليّ عن يمين العرش، نسبّح الله قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلمّا جعلنا في صُلبه، ثمّ نقلنا من صلب إلى صلب في أصلاب الطاهرين وأرحام المطهّرات، حتّى انتهينا إلى صلب عبد المطّلب، فقسّمنا قسمين، فجعل في عبد الله نصفًا، وفي أبي طالب نصفًا، وجعل النبوّة والرسالة فيَّ، وجعل الوصيّة والقضيّة في عليّ»[1].
عنايته بقرّة عينه محمّد (صلى الله عليه وآله)
لم يتخلَّ أبو طالب عن حماية الرسول (صلى الله عليه وآله) والدفاع عنه حتّى نهاية عمره الشريف، فإنّه أوصى أقاربه وأصحابه بأن يدافعوا عنه وينصروه. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحبّ أبا طالب ويثني عليه طيلة حياته، ولمّا علِم بموته حزن عليه حزنًا شديدًا، ثمّ قال لأمير المؤمنين(عليه السلام): «امضِ، فتولَّ غسله، فإذا رفعته على سريره فأعلمني»، ففعل، فاعترضه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو محمول على رؤوس الرجال، فقال (صلى الله عليه وآله): «يا عمّ، جُزيت خيرًا، فلقد ربّيتَ وكفلتَ صغيرًا، ونصرتَ وآزرتَ كبيرًا. أما والله، لأستغفرنَّ لك، ولأشفعنَّ فيك شفاعةً يعجب لها الثقلان»[2]، ثمّ دُفِن في مقبرة الحجون.
وفي وصيّته (عليه السلام) عند مماته يقول: «يا معشر بني هاشم، أطيعوا محمّدًا وصدّقوه، تفلحوا وترشدوا. يا معشر قريش، كونوا له ولاة ولحزبه حُماة. والله، لا يسلك أحدٌ منكم سبيله إلّا رشد، ولا يأخذ أحدٌ بهديه إلّا سَعِد»[3].
[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص183.
[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج14، ص76.
[3] الحلبيّ، عليّ بن برهان الدين، السيرة الحلبيّة، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1400هـ، لا.ط، ج1، ص292.
115
108
الموعظة السابعة عشرة: أبو طالب حامي الرسول والرسالة
إيمان أبي طالب ومنزلته
إنّ لأبي طالب(عليه السلام) منزلةً عظيمةً عند الله عزّ وجلّ، وكفاه فخرًا ومنزلةً كونه حاميًا وناصرًا لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ففي الرواية أنّه سُئل الإمام الصادق(عليه السلام): إنّ الناس يزعمون أنّ أبا طالب في ضحضاح من نار، فقال: «كذبوا، ما بهذا نزل جبرائيل على النبيّ(صلى الله عليه وآله)»، قلت: وبمَ نزل؟ قال: «أتى جبرائيل في بعض ما كان عليه، فقال: يا محمّد، إنّ ربّك يُقرئك السلام، ويقول لك: إنّ أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرّتين، وإنّ أبا طالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك، فآتاه الله أجره مرّتين، وما خرج من الدنيا حتّى أتته البشارة من الله تعالى بالجنّة». ثمّ قال(عليه السلام): «كيف يصفونه بهذا، وقد نزل جبرائيل ليلة مات أبو طالب، فقال: يا محمّد، اخرُج من مكّة، فما لك بها ناصر بعد أبي طالب»[1].
وعن أبي بصير ليث المراديّ قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): سيّدي، إنّ الناس يقولون: إنّ أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، فقال(عليه السلام): «كذبوا والله، إنّ إيمان أبي طالب لو وُضِع في كفّة ميزان، وإيمان هذا الخلق في كفّة ميزان، لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم»[2].
ويبيّن الإمام الصادق (عليه السلام) منزلة أبي طالب (عليه السلام) بقوله: «إنّ أبا طالب من رفقاء النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا»[3].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج35، ص111.
[2] المصدر نفسه، ج35، ص112.
[3] المصدر نفسه، ج35، ص111.
116
109
الموعظة السابعة عشرة: أبو طالب حامي الرسول والرسالة
وقد ذكر العلّامة المجلسيّ في بحاره أنّه: قد أجمعت الشيعة على إسلامه، وأنّه آمن بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) في أوّل أمره، ولم يعبد صنمًا قطّ، بل كان من أوصياء إبراهيم (عليه السلام)[1].
أبو طالب (عليه السلام) يوم القيامة
لأبي طالب شفاعة يوم القيامة يعجب منها الخلائق، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «والّذي بعث محمّدًا بالحقّ نبيًّا، لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله»[2].
وعنه (عليه السلام): «والّذي بعث محمّدًا بالحقّ، إنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليُطفئ أنوار الخلائق، إلّا خمسة أنوار: نور محمّد، ونور فاطمة، ونور الحسن والحسين، ونور ولده من الأئمّة...»[3].
وفاته
اختلف أرباب التاريخ في وفاته، فمنهم مَن قال إنّه توفّي قبل خديجة بثلاثة أيّام[4]، وقال بعضهم: بثلاث سنين، قال ابن شهر آشوب في المناقب: إنّ وفاته(عليه السلام)كانت بعد النبوّة بتسع سنين وثمانية أشهر، وذلك بعد خروجه من الشعب بشهرين. وزعم الواقدي أنّهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وفي هذه السنة توفّي أبو طالب، وتوفّيت خديجة بعده بستّة أشهر[5].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج35، ص138.
[2] أبو الفتح الكراجكيّ، كنز الفوائد، مصدر سابق، ج1، ص183.
[3] المصدر نفسه، ج1، ص183.
[4] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص35.
[5] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج1، ص173.
117
110
الموعظة الثامنة عشرة: في رحاب ليلة القدر
الموعظة الثامنة عشرة: في رحاب ليلة القدر
1. معنى ليلة القدر وخصوصيّتها
2. أهمّيّة ليلة القدر وإحيائها
3. سرّ إخفائها بين الليالي
هدف الموعظة
الحثّ على إحياء ليلة القدر، من خلال بيان ماهيّتها وعظمتها وفضائلها.
تصدير الموعظة
﴿سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ﴾[1].
[1] سورة القدر، الآية 5.
118
111
الموعظة السابعة عشرة: أبو طالب حامي الرسول والرسالة
بلغ من أهمّيّة ليلة القدر في الإسلام، أن سمّى الله عزّ وجلّ في كتابه المعجز والخالد -القرآن الكريم- سورة خاصّة باسم سورة القدر، يتناول فيها عظمة هذه الليلة، ويُعلِي من شأنها، ويجعلها موازية لألف شهر. نفتتح موعظتنا بتلاوتها المباركة، محاوِلين التدبّر في معانيها، إذ قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ ١ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ ٢ لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡر مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡر ٣ تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡر ٤ سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ﴾[1].
ماهيّة ليلة القدر
ليلة القدر، كما سمّاها الله تعالى في القرآن، هي ليلة من ليالي شهر رمضان، وهي إحدى الليالي الثلاث (19 - 21 - 23). والظاهر أنّ المراد بالقدر هو التقدير؛ فهي ليلة التقدير، يقدِّر الله فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها من قابل، من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وغير ذلك، كما يدلّ عليه قوله في سورة الدخان في صفة الليلة: ﴿فِيهَا يُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِيمٍ ٤ أَمۡرا مِّنۡ عِندِنَآۚ إِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِينَ ٥ رَحۡمَة مِّن رَّبِّكَۚ﴾[2]. وهي ليلة متكرّرة بتكرُّر السنين؛ ففي شهر رمضان من كلّ سنة قمريّة، ليلةٌ تُقَدَّر فيها أمور السنة.
ليلة نزول القرآن الكريم
تتميّز هذه الليلة بأنّها كانت مناسبة لنزول القرآن الكريم -أعظم
[1] سورة القدر، الآيات 1 - 5.
[2] سورة الدخان، الآيات 4 - 6.
119
112
الموعظة الثامنة عشرة: في رحاب ليلة القدر
الموعظة الثامنة عشرة: في رحاب ليلة القدر
1. معنى ليلة القدر وخصوصيّتها
2. أهمّيّة ليلة القدر وإحيائها
3. سرّ إخفائها بين الليالي
هدف الموعظة
الحثّ على إحياء ليلة القدر، من خلال بيان ماهيّتها وعظمتها وفضائلها.
تصدير الموعظة
﴿سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ﴾[1].
[1] سورة القدر، الآية 5.
118
113
الموعظة الثامنة عشرة: في رحاب ليلة القدر
كتب الله ورسالاته- على قلب أعظم رُسُل الله وأنبيائه، حيث إنّه كان للقرآن نزولان:
1. نزول دفعيّ: وهو الّذي حصل في هذه الليلة المباركة، إذ نزل القرآن كاملًا على النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، بقطع النظر عن كيفيّته التفصيليّة، سواء كان نزولًا بألفاظه كاملة ثمّ كان الرسول يصرّح في كلّ مناسبة عن بعضه بأمر الله، أو بمضمونه ومعانيه ثمّ نزلت ألفاظه لاحقًا بالتدريج. قال تعالى، مشيرًا إلى القرآن الكريم: ﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ١٩٤ بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُّبِين﴾[1].
2. نزول تدريجيّ: وهو نزول المقاطع القرآنيّة بحسب المناسبات، بأمر الله عزّ وجلّ، واستمرّ هذا التنزيل طيلة ثلاث وعشرين سنة، وهي المدّة بين بعثة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وشهادته. وكان لهذا الأسلوب في التنزيل وقعُه البالغ في النفوس، ولا سيّما في المنعطفات التاريخيّة الّتي كان يتعرّض لها الإسلام، وكان أسلوبًا ناجحًا في تمكين المجتمع الإسلاميّ من استيعاب القرآن وحفظه والتفاعل مع مضامينه. قال تعالى: ﴿وَقُرۡءَانا فَرَقۡنَٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡث وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلا﴾[2].
[1] سورة الشعراء، الآيات 192 - 195.
[2] سورة الإسراء، الآية 106.
120
114
الموعظة الثامنة عشرة: في رحاب ليلة القدر
عظمة ليلة القدر وخصوصيّتها
خلاصة المستفاد من الآيات والروايات هو:
1. أنّه يتجلّى في هذه الليلة أعلى مظاهر الفيض والكرم الإلهيَّين والضيافة الإلهيّة.
2. أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) قد حرصوا على إحيائها بالعبادة والطاعة.
3. أنّها ليلة مباركة، كما وصفها القرآن.
4. فيها تُقَدَّر الأمور، ويُفرَق كلُّ أمر حكيم.
5. العبادة فيها خيرٌ من عبادة ألف شهر.
6. أنّها ليلة أمن وسلام حتّى مطلع الفجر.
7. أنّها ليلة نزول القرآن دفعيًّا على قلب النبيّ (صلى الله عليه وآله).
8. أنّها ليلة نزول الملائكة والروح[1].
إحياؤها
لقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن النوم في ليلة القدر، ففي الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): «إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) نَهَى أَنْ يُغْفَلَ عَنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَعَنْ لَيْلَةِ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ، وَنَهَى أَنْ يَنَامَ أَحَدٌ تِلْكَ اللَّيْلَة»[2].
[1] الروح، كما يفسّره الإمام الخمينيّ (قدس سره)، هو: «خلق أعظم من ملائكة الله، بمعنى أنّه واقع في الرتبة الأولى من ملائكة الله، وأشرف وأعظم من الكلّ». الإمام الخمينيّ (قدس سره)، الآداب المعنويّة للصلاة، ترجمة أحمد الفهريّ، دار الأعلميّ، لبنان - بيروت، 1986م، ط2، ص510.
[2] النعمان المغربيّ، دعائم الإسلام، مصدر سابق، ج1، ص281.
121
115
الموعظة الثامنة عشرة: في رحاب ليلة القدر
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، حُوِّلَ عَنْهُ الْعَذَابُ إِلَى السَّنَةِ الْقَابِلَة»[1].
وهي ليلة غفران الذنوب، كما عن الإمام الباقر (عليه السلام): «مَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ، وَلَوْ كَانَتْ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ وَمَثَاقِيلِ الْجِبَالِ وَمَكَايِيلِ الْبِحَار»[2].
الليلة المباركة خيرٌ من ألف شهر
في الكافي بإسناده عَنِ الْفُضَيْلِ وَزُرَارَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ حُمْرَانَ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَة مُّبَٰرَكَةٍۚ﴾[3]، قَالَ: «نَعَمْ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهِيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَلَمْ يُنْزَلِ الْقُرْآنُ إِلَّا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ». قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فِيهَا يُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِيمٍ﴾[4]، قَالَ: «يُقَدَّرُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ، خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَمَوْلُودٍ وَأَجَلٍ أَوْ رِزْقٍ؛ فَمَا قُدِّرَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَقُضِيَ، فَهُوَ الْمَحْتُومُ، وَللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ الْمَشِيئَةُ». قَالَ: قُلْتُ: ﴿لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡر مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡر﴾[5]، أَيُّ شَيْءٍ عُنِيَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ: «الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا، مِنَ
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج95، ص145.
[2] الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، مصدر سابق، ص118.
[3] سورة الدخان، الآية 3.
[4] سورة الدخان، الآية 4.
[5] سورة القدر، الآية 3.
122
116
الموعظة الثامنة عشرة: في رحاب ليلة القدر
الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَنْوَاعِ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ»[1].
وهذا يعني أنّ الأعمال فيها مضاعفة ألف مرّة.
سرُّ إخفاء ليلة القدر
لا يُستَفاد من القرآن الكريم أيّة ليلة هي تلك الليلة، غير ما في قوله تعالى: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾[2]، فإنّ الآية بانضمامها إلى آية سورة القدر، تدلّ على أنّ الليلة من ليالي شهر رمضان، أمّا تعيينها أزيد من ذلك، فمستفادٌ من الروايات الموزّعة إلى أقوال عدّة، خلاصتها:
1. الروايات الّتي تدلّ على أنّها في العشر الأواخر، أو في الليالي الوتر منها: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «تَحَرّوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَان»[3]، وفي رواية: «فِي الوَتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ»[4].
2. الروايات الّتي تدلّ على تحرّيها في إحدى الليالي الثلاث: عن الإمام الصادق عن أبيه(عليهما السلام): «إِنَّ عَلِيًّا كَانَ يَتَحَرَّى لَيْلَةَ القَدْرِ لَيْلَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ»[5]، ومثله عن الإمام
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص157.
[2] سورة البقرة، الآية 185.
[3] البخاريّ، أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل، صحيح البخاريّ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لا.م، 1401هـ - 1981م، لا.ط، ج2، ص254.
[4] المصدر نفسه.
[5] عبد الرزّاق الصنعانيّ، المصنّف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظميّ، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج4، ص251.
123
117
الموعظة الثامنة عشرة: في رحاب ليلة القدر
الصادق (عليه السلام)، وذُكِرَ في بعض الأخبار خصوصيّة خاصّة لكلّ ليلة من الثلاث.
3. الروايات الّتي تدلّ على أنّها إحدى ليلتَين: سُئِل الإمام الصادق (عليه السلام) عن ليلة القدر، فقال: «الْتَمِسْهَا فِي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، أَوْ لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ»[1].
4. الروايات الّتي تدلّ على أنّها ليلة 23: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لَيْلَة الْقَدْرِ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ»[2].
ولعلّ السرَّ في إخفائها هو توجيه الناس للاهتمام بإحياء هذه الليالي، وإن كان المستفاد من الأخبار أنّ ليلة 23 هي القدر المتيقَّن بين مختلف الروايات، إلّا أنّه ينبغي إحياء هذه الليالي؛ لِما لها من الفضل والعظمة.
الحرص والاستعداد لإحيائها
مضافًا إلى البرامج العباديّة، من الأدعية والمستحبّات الخاصّة بليلة القدر، ينبغي تحصيل مقدّمات مهمّة، مثل:
1. الاستعداد النفسيّ والروحيّ للإحياء.
2. عدم السفر، والحرص على الحضور في المساجد، بتنظيم الوقت مسبقًا.
3. رعاية السلامة والصحّة الجسديَّين.
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص156.
[2] عبد الله بن عدي الجرجانيّ، الكامل، قراءة وتدقيق يحيى مختار غزّاويّ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1409هـ - 1988م، ط3، ج6، ص296.
124
118
الموعظة الثامنة عشرة: في رحاب ليلة القدر
4. التقليل من الطعام في ليالي الإحياء، والتركيز على أصناف خاصّة يمكنها أن تمدّ الجسم بالطاقة والحيويّة.
خاتمة
نختم موعظتنا هذه بما رُوِيَ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) من حديث رائع دار بين الله عزّ وجلّ وكليمه موسى (عليه السلام):
«قَالَ مُوسَى: إِلَهِي، أُرِيدُ قُرْبَكَ. قَالَ: قُرْبِي لِمَنِ اسْتَيْقَظَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
قَالَ: إِلَهِي، أُرِيدُ رَحْمَتَكَ. قَالَ: رَحْمَتِي لِمَنْ رَحِمَ الْمَسَاكِينَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
قَالَ: إِلَهِي، أُرِيدُ الْجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ. قَالَ: ذَلِكَ لِمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
قَالَ: إِلَهِي، أُرِيدُ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ وَثِمَارِهَا. قَالَ: ذَلِكَ لِمَنْ سَبَّحَ تَسْبِيحَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
قَالَ: إِلَهِي، أُرِيدُ النَّجَاةَ مِنَ النَّارِ. قَالَ: ذَلِكَ لِمَنِ اسْتَغْفَرَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
قَالَ: إِلَهِي، أُرِيدُ رِضَاكَ. قَالَ: رِضَايَ لِمَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»[1].
[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج8، ص20.
125
119
الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف اختلاء بالله
الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف اختلاء بالله
1. ما هو الاعتكاف؟
2. مشروعيّة الاعتكاف
3. فلسفة الاعتكاف
4. الاعتكاف عبادة
5. فوائد الاعتكاف
هدف الموعظة
الحثّ على إحياء سنّة الاعتكاف، من خلال بيان فضله وآثاره.
تصدير الموعظة
الإمام الصادق(عليه السلام): «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا كَانَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ [من رمضان]، اعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ، وَضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ شَعْرٍ، وَشَمَّرَ الْمِئْزَرَ، وَطَوَى فِرَاشَهُ»[1].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص175.
126
120
الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف اختلاء بالله
ما هو الاعتكاف؟
الاعتكاف لغةً: الإقامة على الشيء في المكان، ولزوم الشيء وحبس النفس عليه، خيرًا كان أم شرًّا. قال تعالى: ﴿إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَا هَٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيٓ أَنتُمۡ لَهَا عَٰكِفُونَ﴾[1]؛ أي مقيمون متعبِّدون لها.
وفي الشريعة: المكثُ في المسجد بقصد التعبُّد للهِ وحده.
مشروعيّة الاعتكاف
الاعتكاف مشروع ومستحبّ، قرآنًا وسنّةً.
قال تعالى: ﴿وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ﴾[2].
وقد أكّدَت أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) فضل الاعتكاف، وخصوصًا ما جاء عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ومنها: «اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ يَعْدِلُ حِجَّتَيْنِ وَعُمْرَتَيْن»[3].
فلسفة الاعتكاف
فلسفة الاعتكاف؛ أي الغاية في التشريع، والحِكَم والمصالح التربويّة الفرديّة والاجتماعيّة المتوفِّرة فيه. والبحث عن الغاية في العبادات تكون بالمقدار الّذي تناله عقولنا وتسعه أفهامنا.
[1] سورة الأنبياء، الآية 52.
[2] سورة البقرة، الآية 125.
[3] البروجرديّ، السيّد حسين الطباطبائيّ، جامع أحاديث الشيعة، المطبعة العلميّة، إيران - قمّ، 1399هـ، لا.ط، ج9، ص501.
127
121
الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف اختلاء بالله
إنّ الشريعة الإسلاميّة لم تكتب الرهبانيّة والاعتزال عن الحياة الدنيا، رحمةً بالناس، لكنّها شرَّعَت الاعتكاف؛ ليكون وسيلةً موقوتةً وعبادةً محدودةً تُؤَدَّى بين حينٍ وآخر، لتحقيق نقلة إلى رحاب الله، يعمّق فيها الإنسان صلته بربِّه، ويتزوَّد بما تتيح له العبادة من زاد؛ ليرجع إلى حياته الاعتياديّة وعمله اليوميّ، وقلبه أشدّ ثباتًا، وإيمانه أقوى فاعليّة[1].
يقول الإمام الخامنئيّ(دام ظله): «الاعتكاف عبارة عن حجز النفس وحبسها في مكان محدّد، وتقييد هذه النفس وإيجاد حدود لها. والعكوف يعني الإغلاق والإقفال وحصر النفس في نقطة معيَّنة؛ لكي تتحقَّق خلوةٌ في القلب، فيتمكّن الإنسان من أن يجد فرصة للاتّصال المباشر والعلاقة النقيّة مع ربّ العالَمين»[2].
الاعتكاف عبادة
الاعتكاف مستحَبّ بأصل الشرع، ويصحّ في كلّ وقت فيه الصوم، وأفضل أوقاته شهر رمضان، وأفضله العشر الأواخر. وينبغي للمعتكف أن يُكثر من نوافل العبادات، ويشغل نفسه بالصلاة وتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار والدعاء والصلاة على النبيّ وآله (صلى الله عليه وآله)، ونحو ذلك من الطاعات والعبادات الّتي تقرّب العبد من ربِّه عزّ وجلّ، ويمكنه أيضًا القراءة في كتب التفسير أو الحديث،
[1] السيّد محمّد الصدر، ما وراء الفقه، المحبّين للطباعة والنشر، 1427هـ - 2007م، ط3، ج2، ص355 (بتصرّف).
[2] صدى الولاية، العدد 195، رجب 1440هـ، باقة من كلمات الإمام الخامنئيّ(دام ظله) حول الاعتكاف.
128
122
الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف اختلاء بالله
والمشاركة في حلقات الذكر والعلم، وأن لا يشغل نفسه بشيء غير العبادات والطاعة والذكر.
فوائد الاعتكاف
1. التأسّي برسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال تعالى: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَة لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرا[1]، فالاعتكاف من السنن الأكيدة لرسول الله (صلى الله عليه وآله). ولقد حرص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على هذه العبادة، على الرغم من انشغاله بالدعوة والتربية والتعليم والجهاد، فكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتكف كلَّ رمضانٍ عشرةَ أيّام. قال الإمام الصادق (عليه السلام): «اعْتَكَفَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ الأُوَلِ، ثُمَّ اعْتَكَفَ فِي الثَّانِيَةِ فِي الْعَشْرِ الْوُسْطَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ فِي الثَّالِثَةِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ»[2].
2. الانقطاع إلى الله
إنّ الشهوات والغرائز تحاول، بثقلها، إخضاع النفس الإنسانيّة لمعسكر الشيطان. لذا، لم تكتفِ الشريعة الإلهيّة بتوجيه الإنسان نحو التأمُّل والتفكير، ثمّ العزم وأخذ القرار، بل أرادت أن تُدخِلَه في دورات تدريبيّة تعرّفه فيها قدرتَه على التحكُّم بشهواته، بدل أن يكون محكومًا.
وبالتطبيق، لم تكتفِ الشريعة بالتنظير لذلك، بل أجرَت دورات
[1] سورة الأحزاب، الآية 21.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص175.
129
123
الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف اختلاء بالله
عمليّة يُعرَّف فيها الإنسان قدرتَه على التحكُّم بغرائزه، كما دورة الحجّ العباديّة، والصلاة اليوميّة، وصوم شهر رمضان...
لم تكتفِ الشريعة بذلك، بل أتَت بحلٍّ عمليّ، هو الاعتكاف. إنّها خلوة مع الحبيب الأوّل، يسمع فيها كلامه بترديد آياته، ويناجيه بدعائه، ويتبتَّل إليه، ويرغب بلقائه فترة ليست بالطويلة، يصلّي، فما تراه عينه بيت الله، وما تسمعه أذنه كلام الله أو دعاء المفتقر إليه، فطائر الخيال تبدَّلَت شجرته، فلم تعد شاشة التلفاز غصنًا لها، وصوت الموسيقى حفيف أوراقها. إنّ الاعتكاف قد يمكّن صاحبَه من حبس هذا الطائر المطيِّر للُّبِّ في قفص شرعيّ يتحكّم بحركته، ويوجِّه بوصلته.
يقول الإمام الخامنئيّ(دام ظله): «إنّ الاعتكاف الّذي يمارسه الشباب، هو في الحقيقة اختلاء بالله عزّ وجلّ... إنّه عمل فرديّ أكثر من كونه عملًا جماعيًّا. هو عمل فرديّ يهدف إلى إيجاد صلةٍ بين العبد وبين ربّه. فلا ينبغي أن تكون البرامج الجماعيّة في مراكز الاعتكاف، بحيث تؤثّر سلبًا على لذّة الاختلاء بالله والارتباط الفرديّ والقلبيّ به»[1].
3. خصوصيّة الزمان والمكان
فللزمان هنا -أيّام شهر رمضان ولياليه- أهمّيّة وقيمة خاصّة، خصوصًا إذا قُضِيَ في العبادة والدعاء والذكر والتسبيح، فكيف إذا كان مع جماعة من المؤمنين، وفي بيت من بيوت الله تعالى؟!
[1] الإمام الخامنئيّ (دام ظله)، صدى الولاية، مصدر سابق.
130
124
الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف اختلاء بالله
عن الإمام الباقر (عليه السلام): «أنّه [رسول الله] (صلى الله عليه وآله) قَامَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ كَفَاكُمُ اللهُ عَدُوَّكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَوَعَدَكُمُ الْإِجَابَةَ، فَقَالَ: ﴿ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ﴾[1]؛ أَلَا وَقَدْ وَكَّلَ اللهُ تَعَالَى بِكُلِّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ سَبْعَةَ أَمْلَاكٍ، فَلَيْسَ بِمَحْلُولٍ حَتَّى يَنْقَضِيَ شَهْرُكُمْ هَذَا، أَلَا وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ مُفَتَّحَةٌ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ إِلَى آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْهُ، أَلَا وَالدُّعَاءُ فِيهِ مَقْبُولٌ. ثُمَّ شَمَّرَ (صلى الله عليه وآله) وَشَدَّ مِئْزَرَهُ، وَبَرَزَ مِنْ بَيْتِهِ وَاعْتَكَفَهُنَّ، وَأَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَكَانَ يَغْتَسِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ»[2].
وخلاصة القول أنّ من جملة فوائد الاعتكاف:
1. يوفّر لنا فرصة إحياء ليالي القدر.
2. يساعدنا على التخلّي عن هموم الدنيا ومشاغلها.
3. مصاحبة الصالحين والتأسّي بهم.
4. عمارة المسجد.
5. التبتُّل والانقطاع والدعاء.
6. التخلُّص من العادات، وتحقيق معنى العبوديّة.
[1] سورة غافر، الآية 60.
[2] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج7، ص560.
131
125
الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف اختلاء بالله
ملحق أحكام الاعتكاف
الاعتكاف
الاعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد التعبّد به، وهو مستحبّ بأصل الشرع، وقد يجب الإتيان به لأجل نذر أو عهد أو يمين أو إجارة ونحوها، ويصحّ في كلّ وقت يصحّ فيه الصوم، وأفضل أوقاته شهر رمضان، وأفضله العشر الأواخر منه.
شرائط صحّة الاعتكاف
يشترط في صحّة الاعتكاف سبعة أمور:
الأوّل: العقل، فلا يصّح من المجنون حال جنونه، ولا من السكران وغيره من فاقدي العقل.
الثاني: نيّة القربة والإخلاص، ووقت النيّة في ابتداء الاعتكاف أوّل الفجر من اليوم الأوّل، بمعنى عدم جواز تأخيرها عنه، ويجوز تقديمها في الليل.
الثالث: الصوم، واجبًا كان أو مستحبًّا، عن نفسه أو عن غيره، ويُبطِل الاعتكافَ كلُّ ما يُبطِل الصوم.
الرابع: أن لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام مع الليلتَين المتوسّطتَين، ولا حدّ لأكثره، ولكن كلّما اعتكف يومَين تامّين، ولو تطوُّعًا، وجب الثالث.
الخامس: أن يكون في أحد المساجد الأربعة:
• المسجد الحرام
• المسجد النبويّ
• مسجد الكوفة
132
126
الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف اختلاء بالله
• مسجد البصرة
وإذا أراد الاعتكاف في سائر المساجد، فالأحوط وجوبًا إتيانه برجاء المطلوبيّة، بشرط أن تكون مساجد جامعة، فلا يجوز في مسجد القبيلة أو السوق أو نحوهما.
السادس: إذنُ مَن يُعتَبَر إذنُه، كالوالدَين لولدهما، إن كان اعتكافه مستلزِمًا لإيذائهما، وكالزوج للزوجة، إذا كان منافيًا لحقّه، على الأحوط وجوبًا.
السابع: استدامة اللبث في المسجد. نعم، لو خرج ناسيًا أو مكرَهًا لا يبطل، وكذا لا يبطل لو خرج لضرورة -عقلًا أو شرعًا أو عادةً- كقضاء الحاجة (من بول أو غائط)، أو للاغتسال من الجنابة، ونحو ذلك؛ ولو طال الخروج في مورد الضرورة، بحيث انمحت صورة الاعتكاف، فيبطل.
لا يُشتَرَط البلوغ في صحّة الاعتكاف، فيصحّ من الصبيّ المميِّز.
قطع الاعتكاف
يجوز قطع الاعتكاف المندوب في اليومَين الأوّلَين، وبعد تمامهما يجب الثالث، بل يجب السادس أيضًا لو أكمل الرابع والخامس، والأحوط وجوبًا الإتيان بالتاسع والثاني عشر، وهكذا كلّ ثالث.
لا يجوز قطع المنذور المعيّن ولو في اليومَين الأوّل والثاني. نعم، لو كان المنذور غير معيّن، فحُكمه كالمندوب.
لا بدّ من كون الأيّام مع الليلتَين المتوسّطتَين متّصلة.
133
127
الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف اختلاء بالله
وحدة المسجد
يُعتَبَر في الاعتكاف الواحد وحدةُ المسجد، فلا يجوز أن يجعله في مسجدَين؛ ولو تعذّر إتمام الاعتكاف في محلّ النيّة -لخوف أو هدم ونحو ذلك- بطل الاعتكاف، ولا يُجزيه الإتمامُ في مسجد آخر.
سطوح المساجد وسراديبها ومحاريبها، حُكمُها حُكم المسجد، ما لم يُعلَم خروجها.
اشتراط الرجوع
يجوز للمعتكف أن يشترط، حين النيّة، الخروج عن اعتكافه متى شاء، حتّى في اليوم الثالث، لو عرض له عارض، حتّى وإن كان العارض من الأعذار العرفيّة العاديّة -كقدوم الزوج من السفر- ولا يختصّ بالضرورات الّتي تبيح المحظورات؛ ولا يجوز أن يشترط الرجوع بدون عروض عارض.
ما يحرم على المعتكف
يحرم على المعتكف خمسة أمور، بلا فرق بين الليل والنهار، وهي:
الأوّل: مباشرة النساء بالجماع واللمس والتقبيل بشهوة، وهي مبطلة للاعتكاف، ويحرم ذلك على المعتكفة أيضًا.
الثاني: الاستمناء على الأحوط وجوبًا.
الثالث: شمّ الطيب والريحان متلذّذًا، وهذا لا يشمل فاقد حاسّة الشمّ.
الرابع: البيع والشراء، والأحوط وجوبًا ترك غيرهما من أنواع التجارة
134
128
الموعظة التاسعة عشرة: الاعتكاف اختلاء بالله
أيضًا، كالصلح والإجارة وغيرهما؛ ولو أوقع المعاملة صحّت مع الإثم.
نعم، يجوز الاشتغال بالأمور الدنيويّة من أصناف المعايش، حتّى الخياطة والنساجة، بل يجوز البيع والشراء إذا مسّت الحاجة إليهما للأكل والشرب، بشرطَين:
1. مع عدم إمكان التوكيل.
2. مع تعذُّر النقل بغير البيع والشراء.
الخامس: الجدال على أمر دنيويّ أو دينيّ، إذا كان لأجل الغلبة وإظهار الفضيلة؛ وأمّا إذا كان بقصد إظهار الحقّ وردّ الخصم عن الخطأ، فلا بأس به.
إذا أُفسِد الاعتكاف الواجب بالجماع في الليل، وجبت الكفّارة، وهي ككفّارة شهر رمضان؛ ولو كان في النهار فعليه كفّارتان؛ واحدة لإبطال الصوم، وثانية لإبطال الاعتكاف.
135
129
الموعظة العشرون: الخصال الإيمانيّة والأخلاقيّة لأمير المؤمنين(عليه السلام)
الموعظة العشرون: الخصال الإيمانيّة والأخلاقيّة لأمير المؤمنين(عليه السلام)
1. خصال أمير المؤمنين (عليه السلام) خصال الأنبياء (عليهم السلام)
2. العبادة والعلاقة بالله تعالى
3. زهد أمير المؤمنين (عليه السلام) في الدنيا
هدف الموعظة
تعرُّف قبسٍ من الخصال الإنسانيّة والأخلاقيّة للإمام عليّ (عليه السلام)، ونماذج من يقينه وزهده وعبادته.
تصدير الموعظة
أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى؛ لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الأَكْبَرِ، وتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ»[1].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص417، الكتاب 45.
136
130
الموعظة العشرون: الخصال الإيمانيّة والأخلاقيّة لأمير المؤمنين(عليه السلام)
امتازت شخصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخصائص الإنسانيّة والإيمانيّة والأخلاقيّة الفذّة، الّتي تُعَدّ نبراسًا يُستَضاء به، وشعلةً تأخذ بيد الإنسان إلى طريق الخير والصلاح، وبناء مجتمع صالح. وأيضًا، فإنّ الخصائص تشكّل منطلقًا للمؤمنين والمؤمنات جميعًا، للاقتداء بأمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الزمن الّذي كثر فيه الفساد والانحراف.
خصال الإمام عليّ (عليه السلام) خصال الأنبياء (عليهم السلام)
احتوت شخصيّة الإمام عليّ (عليه السلام) الكثير من مزايا الأنبياء (عليهم السلام) وخصالهم؛ فهو الّذي تربّى في بيت النبوّة، وكان بجوار رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعلّمه من أخلاقه وآدابه، فانعكسَت خصال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآدابه على شخصيّته الكريمة.
رُوي عن رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «يَا جُنْدَبُ، مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَإِلَى آدَمَ فِي عِلْمِهِ، وَإِلَى نُوحٍ فِي فَهْمِهِ، وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ فِي خَلَّتِهِ، وَإِلَى مُوسَى فِي مُنَاجَاتِهِ، وَإِلَى عِيسَى فِي سِيَاحَتِهِ، وَإِلَى أَيُّوبَ فِي صَبْرِهِ وَبَلَائِهِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الْمُقَابِلِ، الَّذِي هُوَ كَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ السَّارِي، وَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ، أَشْجَعُ النَّاسِ قَلْبًا، وَأَسْخَى النَّاسِ كَفًّا؛ فَعَلَى مُبْغِضِهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
قَالَ: فَالْتَفَتَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ مَنْ هَذَا الْمُقْبِلِ، فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)[1].
[1] ابن شاذان القمّيّ، شاذان بن جبرئيل القمّي، الروضة في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، تحقيق عليّ الشكرچي، لا.ن، لا.م، 1423ه، ط1، ص35.
137
131
الموعظة العشرون: الخصال الإيمانيّة والأخلاقيّة لأمير المؤمنين(عليه السلام)
العبادة والعلاقة بالله تعالى
اشتهر الإمام عليّ (عليه السلام) بتقواه وخوفه وقربه من الله عزّ وجلّ. وإنّ مَن تبصَّر في عبادته، يتبيّن له أنّه (عليه السلام) كان النموذج الأكمل فيها، حتّى إذا انكشفت له جمالات هذا الكون وإبداع الخالق، أطلق هذه الكلمة الّتي يمكن عدُّها دستورًا للعبادة، ولعبادة العظماء والعابدين في الإسلام، إذ قال: «إِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ؛ وإِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ؛ وإِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا اللهَ شُكْرًا، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الأَحْرَارِ»[1].
وإلى منهجه العباديّ الملتَزَم، أشار الإمام الباقر (عليه السلام) بقوله: «وَمَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ قَطُّ، كِلَاهُمَا للهِ رِضًا، إِلَّا أَخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلَى بَدَنِه»[2].
وفي حديث ضرار بن ضمرة لمعاوية بن أبي سفيان حول شخصيّة الإمام (عليه السلام)، تجسيدٌ لهذه الحقيقة، فممّا جاء في حديثه: «كَانَ، وَاللهِ، صَوَّامًا بِالنَّهَارِ، قَوَّامًا بِاللَّيْلِ...»[3].
فلقد باع الإمام عليّ (عليه السلام) نفسه لله، فقد أحبّه كما لم يحبّه إلّا الأنبياء، يقول (عليه السلام): «فَهَبْنِي... صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ؟ وَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلَى حَرِّ نَارِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى كَرَامَتِك؟»[4].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص510، الحكمة 237.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص130.
[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج1، ص371.
[4] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، مصدر سابق، ج2، ص847.
138
132
الموعظة العشرون: الخصال الإيمانيّة والأخلاقيّة لأمير المؤمنين(عليه السلام)
هكذا يتحدّث الإمام عليّ (عليه السلام) في دعاء كميل مع ربّه، وهكذا يريد أن يعيش مع الله سبحانه وتعالى. كان (عليه السلام) يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يجعل أوقاته كلّها عامرة بذكره وخدمته: «حَتَّى تَكُونَ أَعْمَالِي وَأَوْرَادِي كُلُّهَا وِرْدًا وَاحِدًا، وَحَالِي فِي خِدْمَتِكَ سَرْمَدًا»[1].
إنّه يطلب من الله أن يعطيه القوّة، لا ليرتاح بها، ولكن ليخدم الله: «قَوِّ عَلَى خِدْمَتِكَ جَوَارِحِي، وَاشْدُدْ عَلَى الْعَزِيمَةِ جَوَانِحِي، وَهَبْ لِيَ الْجِدَّ فِي خَشْيَتِكَ، وَالدَّوَامَ فِي الِاتِّصَالِ بِخِدْمَتِك»[2].
لقد كان يعدّ الحياة ساحةً للسباق، يتسابق فيها كلّ إنسان مع الآخر إلى الله: «حَتَّى أَسْرَحَ إِلَيْكَ فِي مَيَادِينِ السَّابِقِينَ، وَأُسْرِعَ إِلَيْكَ فِي الْبَارِزِينَ، وَأَشْتَاقَ إِلَى قُرْبِكَ فِي الْمُشْتَاقِينَ، وَأَدْنُوَ مِنْكَ دُنُوَّ الْمُخْلَصِينَ، وَأَخَافَكَ مَخَافَةَ الْمُوقِنِين»[3].
وهو لا ينسى الله في أشدّ الأوقات حراجةً، ففي ليلة الهرير -وهي أشدّ الليالي في معركة صفّين- «لم يترك صلاة الليل قطّ حتى في ليلة الهرير»[4].
وفي صفّين أيضًا، افتقده أصحابه، وخافوا أن يكون قد أصابه سوء، فرأوه وقد اعتزل بين الصفَّين، وهو يصلّي، فقد رُوِي: كَانَ (عليه السلام) يَوْمًا فِي حَرْبِ صِفِّينَ، مُشْتَغِلًا بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ بَيْنَ
[1] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، مصدر سابق، ج2، ص849.
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر نفسه، ج2، ص847.
[4] الديلميّ، الشيخ أبو محمّد الحسن بن محمّد، إرشاد القلوب، انتشارات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1415هـ - 1374ش، ط2، ج2، ص217.
139
133
الموعظة العشرون: الخصال الإيمانيّة والأخلاقيّة لأمير المؤمنين(عليه السلام)
الصَّفَّيْنِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذَا الْفِعْلُ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «أَنْظُرُ إِلَى الزَّوَالِ حَتَّى نُصَلِّيَ». فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهَلْ هَذَا وَقْتُ صَلَاةٍ؟! إِنَّ عِنْدَنَا لَشُغُلًا بِالْقِتَالِ عَنِ الصَّلَاةِ. فَقَالَ (عليه السلام): «عَلَامَ نُقَاتِلُهُمْ؟! إِنَّمَا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ»[1].
زهد أمير المؤمنين (عليه السلام) في الدنيا
لقد كان الزهد مَعْلَمًا بارزًا من معالم شخصيّة الإمام عليّ (عليه السلام)، وسمة مميّزة زيَّنه الله تعالى به، فعن عمّار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعليّ: «إنَّ اللهَ قَدْ زَيَّنَكَ بِزِينَةٍ لَمْ يُزَيِّن العِبَادَ بِزِينَةٍ أَحَبّ مِنْها، هِيَ زِينَةُ الأَبْرَارِ عِنْدَ اللهِ: الزُّهْد فِي الدُّنْيَا، فَجَعَلَكَ لَا تَرْزَأ -تَعِيبُ- مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا تَرْزَأ الدُّنْيَا مِنْكَ شَيْئًا، وَوَهَبَكَ حُبَّ المَسَاكِينِ، فَجَعَلَكَ تَرْضَى بِهِمْ أَتْبَاعًا، وَيَرْضونَ بِكَ إِمَامًا»[2].
ولقد زهد الإمام (عليه السلام) بالدنيا وزخرفها زهدًا تامًّا وصادقًا؛ فلقد عاش في بيت متواضع لا يختلف عمّا يسكنه الفقراء من الأمّة، وكان يأكل الشعير، تطحنه امرأته أو يطحنه بنفسه، قبل خلافته، وكان يُحرّم على نفسه الأكل من بيت المال، ويرقع مدرعته حتّى يستحي من راقعها، مجسِّدًا بذلك أرفع شعار للزاهدين: «فَوَاللهِ، مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْرًا، ولَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْرًا، ولَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي
[1] الشيخ الديلميّ، إرشاد القلوب، مصدر سابق، ج2، ص217.
[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج9، ص166.
140
134
الموعظة العشرون: الخصال الإيمانيّة والأخلاقيّة لأمير المؤمنين(عليه السلام)
طِمْرًا، ولَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْرًا، ولَا أَخَذْتُ مِنْه إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ، ولَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ[1]...»[2].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَشْبَهُ النَّاسِ طِعْمَةً بِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؛ كَانَ يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَالْخَلَّ وَالزَّيْتَ، وَيُطْعِمُ النَّاسَ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ»[3].
بل إنّ نظرته إلى الحكم كانت مرتبطة بما فيه نفع للدين والناس؛ فهو الّذي قال مرّةً لابن عبّاس -وقد استعجله لاستقبال الوفود، وكان مشغولًا بإصلاح نعله- قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسِ: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِذِي قَارٍ، وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَه. فَقَالَ لِي: «مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟». فَقُلْتُ: لَا قِيمَةَ لَهَا.
فَقَالَ (عليه السلام): «واللهِ، لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ، إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقًّا أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا»[4].
[1] الأتان -على زنة أمان-: الحمارة. والدبرة -كنمرة-: الّتي أصابته الدبرة -كثمرة وشجرة- وهي القرحة الّتي تحدث في ظهر الدابة من الرحل ونحوه، والجمع دبر -كفرس- وأدبار. والعفصة -كعطسة- : نتوء -أي دبس- يكون على شجرة البلّوط، ويُطلَق أيضًا على شجرة البلّوط نفسها، والتاء فيه للوحدة، والجنس: العفص كفلس. ويُقال: مَقِر -من باب عَلِم- مقرًا الشيء؛ أي صار مُرًّا أو حامضًا، فهو مَقِر -كفرِح- والمصدر كالفرح.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص417، الكتاب 45.
[3] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج2، ص483.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص76، الخطبة 33.
141
135
الموعظة الحادية والعشرون: الموت في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)
الموعظة الحادية والعشرون: الموت في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)
1. حقيقة الموت عند أمير المؤمنين (عليه السلام)
2. أفضل الموت
3. سعي الإمام (عليه السلام) نحو الشهادة
4. الفوز المبين
5. من قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)؟
6. شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وحزن القدس
هدف الموعظة
بيان حقيقة الموت في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام).
تصدير الموعظة
من وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن (عليه السلام): «وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلْآخِرَةِ، لَا لِلدُّنْيَا»[1].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص400، الكتاب 31.
142
136
الموعظة الحادية والعشرون: الموت في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)
من هذا المبدأ المؤسِّس لكون الآخرة هي غاية الإنسان، دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى التجهيز للآخرة بزاد التقوى، فكان ينادي في المسلمين: «تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللَّه، فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ، وأَقِلُّوا الْعُرْجَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وانْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ؛ فَإِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَئُودًا، ومَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً، لَا بُدَّ مِنَ الْوُرُودِ عَلَيْهَا والْوُقُوفِ عِنْدَهَا»[1].
حقيقة الموت عند أمير المؤمنين (عليه السلام)
كما دعا الإمام عليّ (عليه السلام) إلى فهم حقيقة الموت، موضِّحًا أنّه باب الآخرة؛ لذا فمن تجهّز لآخرته وأعدّ لها، فإنّ الموت سبب راحته والأنفع له، بل تحفة إلهيّة، وهذا ما أوضحه (عليه السلام)، إذ يقول: «في الموت راحة السعداء»[2]، «ما أنفع الموت لمن أشعر الإيمان والتقوى قلبه»[3].
وإذا كان الموت للمؤمنين كما مرّ، فكيف لأميرهم (عليه السلام) الّذي كان يقول: «والله، ما يبالي ابن أبي طالب، أوقع على الموت أم وقع الموت عليه»[4]، بل كان يقول: «واللَّه، لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّه»[5].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص321، الخطبة 204.
[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص354.
[3] المصدر نفسه، ص480.
[4] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص172.
[5] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص52، الخطبة 5.
143
137
الموعظة الحادية والعشرون: الموت في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)
أفضل الموت
لقد سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) من خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) عن منزلة القتل في سبيل الله، وأنّه «فوق كلّ ذي برّ برّ، حتّى يُقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتل في سبيل الله، فليس فوقه برّ»[1]، فكان (عليه السلام) يقول: «... فوالله، إنّي لعلى الحقّ، وإنّي للشهادة لمحبّ»[2]، وكان (عليه السلام) يقول: «إنّ أفضل الموت القتل، والّذي نفسي بيده، لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على فراش»[3]، وكان (عليه السلام) يدعو بالشهادة له ولأصحابه، فكان يقول لمالك الأشتر: «وأَنَا أَسْأَلُ اللَّه بِسَعَةِ رَحْمَتِه... وأَنْ يَخْتِمَ لِي ولَكَ بِالسَّعَادَةِ والشَّهَادَة»[4].
سعي الإمام (عليه السلام) نحو الشهادة
وسعى أمير المؤمنين (عليه السلام) من بداية الدعوة الإسلاميّة إلى الشهادة، فبات على فراش النبيّ(صلى الله عليه وآله) في العمليّة الاستشهاديّة الأولى في الإسلام، لكنّ الله تعالى ادّخره (أي صانه وحفظه) لمستقبل الإسلام، وقاتل في معارك الإسلام الكبرى مريدًا الشهادة، وحينما يبقى دونها كان يشقّ ذلك عليه، وشكا ذلك إلى رسول الله في أُحُد، فقال له (صلى الله عليه وآله): «أَبْشِرْ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ»[5].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص348.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج33، ص573.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص54.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص445، الكتاب 53.
[5] المصدر نفسه، ص220، الخطبة 156.
144
138
الموعظة الحادية والعشرون: الموت في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)
الفوز المبين
وأخيرًا، وبعد صبر طويل، دخل أمير المؤمنين (عليه السلام) مسجد الكوفة شاعرًا بعلامات الشهادة الّتي طالما انتظرها باشتياق، ومع ضربة سيف اللئيم على الهامة الشريفة، رأى الإمام عليّ (عليه السلام) الباب الّذي طالما انتظره يُفتَح، فأطلق صرخة السعادة: «فزتُ، وربِّ الكعبة!»[1] ، إنّه قسم بالمبدأ، بربّ الكعبة الّتي دحا (بسط) الله الأرض من تحتها في أوّل الخلق، وهي بيت الله الّذي فيه كان مبدأ ولادة الإنسان الكامل الإمام عليّ (عليه السلام). وإنّه إخبار بالفوز، الفوز بالقتل في سبيل الله.
من قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)؟
من الّذي حرم الإنسانيّة كمالات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكان أشقى الآخرين؟ من هو الملعون في السماوات والأرض، ولا سيّما في ليلة القدر الوارد فيها استحباب لعن قتلة أمير المؤمنين مئة مرّة على مرّ الزمان؟
لنسمع الجواب من الفم المقدّس لأمير المؤمنين (عليه السلام) الّذي تخطّى في تعيينه القاتل شخص ابن ملجم، الّذي تربّى في بيئة منحرفة تنسب نفسها إلى الإسلام، ليقول في ما ورد عنه بعد جرحه: «قتلني ابنُ اليهوديّة»[2]. لعلّ الإمام (عليه السلام) أراد بهذه الكلمة الإشارة إلى أنّ قتله صنيعة الحقد والغلّ الّذي يحمله اليهود ضدّ الإسلام
[1] السيّد الرضيّ، محمّد بن حسين، خصائص الأئمّة (عليهم السلام) (خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام))، الروضة الرضويّة المقدّسة، إيران - مشهد، 1406هـ، ط1، ص63.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج42، ص284.
145
139
الموعظة الحادية والعشرون: الموت في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)
والمسلمين، بل الإنسانيّة، ليرسم بذلك طريق الثأر لقتله باجتثاث جذور جور الحقد اليهوديّ من الوجود.
شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وحزن القدس
وإذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد ربط بين قتله واليهود، فليس من الغريب أن يبكيه بيت المقدس، كما روى ابن شهاب الّذي سأله عبد الملك بن مروان قائلًا: يابن شهاب، أتعلم ما كان في بيت المقدس صباح قتل عليّ بن أبي طالب؟ قال: نعم، لم يرفع حجر في بيت المقدس إلّا وُجد تحته دم[1].
[1] المحبّ الطبريّ، أبو جعفر أحمد، الرياض النضرة في مناقب العشرة، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج3، ص237.
146
140
الموعظة الثانية والعشرون: العمل بين روحيّة أداء التكليف والوظيفة
الموعظة الثانية والعشرون: العمل بين روحيّة أداء التكليف والوظيفة
1. التكليف محور حياة المؤمن
2. تكاليف فرديّة ومجتمعيّة
3. العمل بروحيّة أداء التكليف
هدف الموعظة
بيان أنّ التكليف محور حياة المؤمن، وأنّه مطالب بأدائه على أكمل وجه، وبروحيّة أداء التكليف.
تصدير الموعظة
رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن عُمُره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبِّنا أهل البيت»[1].
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق ص93.
147
141
الموعظة الثانية والعشرون: العمل بين روحيّة أداء التكليف والوظيفة
تكاليف فرديّة ومجتمعيّة
تكثُر التكاليف الملقاة على عاتق الإنسان، وتتنوّع، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «اتَّقُوا اللَّهَ في عِبادِهِ وبِلادِهِ؛ فإنّكُم مَسؤولُونَ حتّى عنِ البِقاعِ والبَهائمِ»[1].
ومِن هذه التكاليف:
1. تكليفه تجاه ربّه، بأن يعبده خير عبادة، ولا يشرك به، ويؤدّي ما فرضه الله عليه من واجبات، وما نهاه عنه من محرّمات... يقول تعالى: ﴿وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسُۡٔولُونَ﴾[2].
2. تكليفه تجاه أهله وعياله وما له ولاية عليه، بأن يُحسن ولايتهم، ويؤدّي ما افترضه الله عليه تجاههم، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ اللَّهَ تعالى سائلٌ كُلَّ راعٍ عَمّا استَرعاهُ: أحَفِظَ ذلكَ أمْ ضَيَّعَهُ، حتّى يَسألَ الرَّجُلَ عن أهلِ بَيتِهِ»[3].
3. تكليفه تجاه أرحامه وجيرانه، بتعاهدهم، والسؤال عنهم وعن أحوالهم، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «أوصي الشاهد من أمّتي والغائب منهم، ومَن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة، أن يصل الرحم وإن كان منه على مسير سنة، فإنّ ذلك من الدين»[4].
4. تكليفه تجاه أهل دينه، بقضاء حوائجهم، وإدخال السرور إلى قلوبهم، والتنفيس عن مكروبهم؛ إذ «مِن أحبّ الأعمال إلى الله
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص242، الخطبة 167.
[2] سورة الصافّات، الآية 24.
[3] جلال الدين السيوطيّ، الجامع الصغير، مصدر سابق، ج1، ص267.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص151.
149
142
الموعظة الثانية والعشرون: العمل بين روحيّة أداء التكليف والوظيفة
عزّ وجلّ إدخال السرور على المؤمن: إشباع جوعته، أو تنفيس كربته، أو قضاء دينه»[1]، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام).
5. تكليفه تجاه كلّ عمله ووظيفته، بأن لا يهمله ويتركه، وأن يؤدّيه على أكمل وجه، وبحبّ، وبروحيّة عالية وهمّة ونشاط، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزل حتّى لحَدَ سعد بن معاذ، وسوّى اللِبن عليه، وجعل يقول: ناولني حجرًا، ناولني ترابًا رطبًا، يسدّ به ما بين اللِبن، فلمّا أن فرغ، وحثا التراب عليه، وسوّى قبره، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّي لأعلم أنّه سيبلى ويصل إليه البلاء، ولكنّ الله يحبّ عبدًا إذا عمل عملًا أحكمه»[2].
وهذا الأخير (تكليفه تجاه كلّ عمله ووظيفته) يشمل كلّ عمل يقوم به الإنسان، ويؤدّيه، ويؤجَر عليه، ويكون معذورًا أمام الله سبحانه تجاهه؛ لذا سنتحدّث عنه بمزيد من الكلام.
العمل بروحيّة أداء التكليف
إنّ كلّ عمل يؤدّيه الإنسان، لا بدّ من تحقيقه بروحيّة أداء التكليف أمام الله سبحانه وتعالى، وبإخلاص وجدّ؛ حتّى يكون عملًا صالحًا، ونافعًا، وذخيرة لك يوم الفاقة والمسألة، فعن الإمام عليّ (عليه السلام): «فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح»[3].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص192.
[2] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص458.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج33، ص600.
150
143
الموعظة الثانية والعشرون: العمل بين روحيّة أداء التكليف والوظيفة
وليلتفت كلٌّ منّا إلى أنّ أعمالنا في معرض الله تعالى، فعن الإمام الحسين (عليه السلام): «إنّ أعمال هذه الأمّة، ما من صباح إلّا وتُعرَض على الله تعالى»[1]؛ وأنّ أعمالنا سوف تظهر على حقيقتها، وننال ثوابها أو جزاءها ولو بعد حين، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقيس بن عاصم، وهو يعظه: «إنّه لا بدّ لك -يا قيس- من قرين يُدفن معك وهو حيّ، وتُدفَن معه وأنت ميّت، فإن كان كريمًا أكرمك، وإن كان لئيمًا أسلمك، ثمّ لا يُحشر إلّا معك، ولا تُبعث إلّا معه، ولا تُسأل إلّا عنه، ولا تجعله إلّا صالحًا، فإنّه إن صَلُح آنست به، وإن فسد لا تستوحش إلّا منه، وهو فِعلُك»[2].
وعن الإمام عليّ (عليه السلام): «المرء لا يصحبه إلّا العمل»[3].
وفي الختام، علينا أن لا ننسى تكليفنا المهمّ والأساس، والّذي يعود بالفائدة على المضطهدين والمظلومين والمقهورين في العالم، تكليفنا بتعجيل فرج صاحب العصر والزمان، والتمهيد لهن وانتظاره بشوق ورغبة وعمل واجتهاد، فإنّه خير الأعمال وأفضلها، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج»[4].
[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، مصدر سابق، ص48.
[2] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، مصدر سابق، ص233.
[3] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص51.
[4] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قمّ، 1405هـ - 1363ش، لا.ط، ص644.
151
144
الموعظة الثالثة والعشرون: يوم القدس يوم إحياء الإسلام
الموعظة الثالثة والعشرون: يوم القدس يوم إحياء الإسلام
1. لماذا يوم القدس؟
2. يوم القدس، دلالات وأبعاد
3. واجبنا في يوم القدس
هدف الموعظة
بيان أهمّيّة يوم القدس، وتعرّف دلالاته وأبعاده.
تصدير الموعظة
الإمام الخمينيّ (قدس سره): «يوم القدس يوم إحياء الإسلام. يجب على المسلمين أن يفيقوا، وأن يوعّوا الغرب بقدراتهم المادّيّة والمعنويّة. فالمسلمون الّذين يصل تعدادهم المليار، ولديهم الدعم والتأييد الإلهيَّان، والإسلام يقف معهم، وكذلك يؤيّدهم الإيمان، ممّن يجب أن يخافوا؟!»[1].
[1] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج9، ص222.
152
145
الموعظة الثالثة والعشرون: يوم القدس يوم إحياء الإسلام
كان الإمام الخمينيّ (قدس سره) يتطلّع إلى اليوم الّذي يتّحد فيه المسلمون جميعًا، ويشكّلون قوّة تدافع عن المستضعَفين والمظلومين، وتواجه المستكبِرين، وتنشر الأمن والسلام في أرجاء الأرض، فأعلن الجُمُعة الأخيرة من شهر رمضان يومًا للقدس، ليكون منطلَقًا وعنوانًا يجمع المسلمين على هذا الطريق. يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «كان يوم القدس يومًا إسلاميًّا، وتعبئة إسلاميّة عامّة، وإنّي آمل أن يكون مقدّمة لتأسيس حزب المستضعَفين في العالَم، ليشارك المستضعَفون فيه أيضًا، ويبحثوا عن حلول للمشاكل الّتي تعترض طريقَهم، لينهضوا وينتفضوا في وجه المستكبِرين والناهبين الدوليّين في الشرق والغرب، ولا يسمحوا لهم باضطهاد مستضعَفي العالَم بعد الآن، ويحقّقوا نداء الإسلام ووعد الله تعالى بحكومة المستضعَفين (وراثة الأرض)»[1].
لماذا يوم القدس؟
إنّ قضيّة القدس تحظى بأهمّيّة بالغة؛ فهي قِبلة المسلمين الأولى، ويتعلّقون بها جميعًا، وتهفو إليها قلوبهم. هذه المدينة المقدّسة تتعرّض باستمرار للمؤامرات الصهيونيّة الخبيثة؛ بهدف اغتصابها وتهويدها وإزالة معالمها الإسلاميّة، ويساندهم في ذلك الاستكبار العالميّ كلّه، وأدوات الشيطان مجتمعة؛ فعلى المسلمين جميعًا إجهاض هذه الخطط العدوانيّة المشؤومة ومواجتها، بإذن الله. يقول
[1] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ص224.
153
146
الموعظة الثالثة والعشرون: يوم القدس يوم إحياء الإسلام
الإمام الخمينيّ (قدس سره): «إنّ قبلة المسلمين الأولى تقبع اليوم تحت وطأة إسرائيل الغدّة السرطانيّة في الشرق الأوسط... إنّهم يسحقون إخوتنا الفلسطينيّين واللبنانيّين الأعزّاء، ويهدرون دماءهم. إنّ إسرائيل اليوم تبثّ الفرقة بين المسلمين بمختلف أساليبها الشيطانيّة؛ وعلى كلّ مسلم أن يُعِدّ نفسه لمواجهة إسرائيل»[1].
هذا، مضافًا إلى أنّ مواجهة مخطّطات العدوّ الرامية إلى إبعاد الإسلام عن الساحة العالميّة، تحتاج إلى تكاتُف المسلمين واتّحادهم وتآزرهم. يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «يجب على دول العالَم أن تدرك بأنّ الإسلام لا يُهزَم؛ فالإسلام والتعاليم القرآنيّة هي الّتي ستنتصر في جميع الدول، وستؤدّي إلى تقدُّمها أيضًا. يوم القدس مناسبة للتذكير بهذا الهدف، وهو إعلان تقدُّم المسلمين وتطوُّرهم في جميع دول العالم»[2].
وليكن معلومًا أنّ كلّ ما تشهده فلسطين يترك تأثيره علينا جميعًا؛ فاحتلال فلسطين كان بدايةً ومنطلقًا للاستحواذ على المنطقة برمّتها والتسلّط عليها.
يوم القدس، دلالات وأبعاد
1. يوم انتفاضة المستضعَفين مقابل المستكبِرين
يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) عن يوم القدس: «إنّه اليوم الذي يجب
[1] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج10، ص113.
[2] المصدر نفسه، ج9، ص222.
154
147
الموعظة الثالثة والعشرون: يوم القدس يوم إحياء الإسلام
أن يستعدّ فيه المستضعفون لمواجهة المستكبرين، وكسر شوكتهم، وهو اليوم الذي يمتاز فيه المؤمنون عن المنافقين. فالمؤمنون يعدّون هذا اليوم يوم القدس، ويعملون بما يتوجّب عليهم فيه»[1]. ويقول: «يوم القدس يومٌ يجب أن يتّضح فيه مصير الشعوب المستضعفة، والإعلان عن وجودها أمام المستكبرين»[2].
2. يوم الإسلام
للقدس مكانة دينيّة كبيرة لدى المسلمين؛ فيوم القدس هو يوم الإسلام. يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «يوم القدس يوم الإسلام، اليوم الذي يجب أن يحيى فيه الإسلام، وأن تُطبّق القوانين الإسلاميّة في البلدان الإسلاميّة»[3].
3. يوم الوفاء ونفي النفاق
إنّ إحياء يوم القدس ميزانٌ يُقاس به المؤمن الحقيقيّ بهذه القضيّة، ممّن لا يجاوز إيمانُه بها لسانَه. يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «هو اليوم الّذي يمتاز فيه المؤمنون عن المنافقين. فالمؤمنون يرَون هذا اليوم يوم القدس، ويعملون بما يتوجّب عليهم فيه. أمّا المنافقون الّذين يتعاملون مع القوى الكبرى من خلف الستار، فسوف يظهرون في هذا اليوم على حقيقتهم، وهم من يمنع الشعوب من التظاهر في
[1] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج9، ص221.
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر نفسه، ص222.
155
148
الموعظة الثالثة والعشرون: يوم القدس يوم إحياء الإسلام
هذا اليوم»[1]. بل يترقّى الإمام في التوصيف، فيقول: «في يوم القدس، سنتعرّفُ المتآمرين والأنظمةَ الّتي تساند المؤامرات الدوليّة وتعارض الإسلام، فمن لا يشارك في هذا اليوم معارض للإسلام ومؤيّد لإسرائيل، ومن يشارك فهو من المخلصين والمؤيّدين للإسلام والمعارضين للكفّار، وعلى رأسهم أميركا وإسرائيل»[2].
واجبنا في يوم القدس
يؤكّد الإمام الخمينيّ (قدس سره) ضرورة إحياء يوم القدس، وأن يُجعَل له مراسم خاصّة تعبّر عن حضور القدس الفعّال في وجدان الأمّة وبين أبنائها، بأن تُملَأ الساحات والشوارع بجموع المسلمين، ويرتفع صوت الاستنكار والتنديد للصهيونيّة وللاستكبار. يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «يجدر بالمسلمين في العالم في يوم القدس، وهو آخر أيّام شهر الله الأعظم، أن يتحرّروا من قيود أسر الشياطين والقوى الكبرى وعبوديّتهم، وأن يتّصلوا بقدرة الله الّتي لا تزول، وأن يقطعوا أيدي مجرمي التاريخ من بلاد المستضعفين، وأن يحرموهم من مطامعهم»[3].
ويوصي الإمام الخامنئيّ(دام ظله) الّذين يحملون همّ القضيّة الفلسطينيّة، بوصايا عدّة:
1. النضال من أجل فلسطين جهادٌ في سبيل الله، وفريضة إسلاميّة لازمة. والنصر في ساحة الكفاح هذه مضمونٌ[4].
[1] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج9، ص221.
[2] المصدر نفسه، ص223.
[3] المصدر نفسه، ج15، ص59.
[4] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في يوم القدس، بتاريخ 22/05/2020م.
156
149
الموعظة الثالثة والعشرون: يوم القدس يوم إحياء الإسلام
2. هدف هذا النضال تحرير الأرض الفلسطينيّة بأجمعها، وعودة الفلسطينيّين بأجمعهم إلى ديارهم[1].
3. الفلسطينيّون، سواء في غزّة أو القدس أو الضفّة الغربيّة، وسواء كانوا في أراضي 1948 أو في المخيّمات، يشكّلون بأجمعهم جسدًا واحدًا، وينبغي أن يتّجهوا إلى استراتيجيّة التلاحم، بحيث يدافعُ كلُّ قطاعٍ عن القطاعات الأخرى، وأن يستفيدوا حينَ الضغطِ على تلك القطاعات، من كلّ ما لديهم من معدّات[2].
4. إنّ الاعتماد على الدول الغربيّة وعلى المحافل الدوليّة المرتبطة بهذه الدول، ظاهرًا أو باطنًا، يجب الحذر منه بنحو مؤكّد؛ فهؤلاء يعادون أيَّ وجودٍ إسلاميٍّ فاعلٍ، ولا يعيرون أهمّيّةً لحقوق الناس والشعوب، وهم وراء أكثر الخسائر والجرائم الّتي حلّت بالأمّة الإسلاميّة[3].
وأخيرًا، إنّ الأمل في النصر اليوم هو أكثر ممّا مضى؛ فموازينُ القوى تغيّرت بقوّةٍ لصالح الفلسطينيّين، والعدوّ الصهيونيّ يهبط إلى الضُعف عامًا بعد عام، وجيشُه الّذي كان يقول عنه إنّه: «الجيش الّذي لا يُقهَر»، هو اليومَ قد تبدّل إلى «جيشٍ لن يذوقَ طعم الانتصار»[4].
[1] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في يوم القدس، بتاريخ 22/05/2022م.
[2] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في يوم القدس، بتاريخ 07/05/2021م.
[3] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في يوم القدس، بتاريخ 22/05/2020م.
[4] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في يوم القدس، بتاريخ 07/05/2021م.
157
150
الموعظة الرابعة والعشرون: علاقتنا بالإمام المهديّ (عليه السلام)
الموعظة الرابعة والعشرون: علاقتنا بالإمام المهديّ (عليه السلام)
1. البُعد العقائديّ
2. البُعد العاطفيّ
3. البُعد العمليّ
هدف الموعظة
الحثّ على العلاقة السليمة مع الإمام المهديّ(عجل الله تعالى فرجه) والارتباط به.
تصدير الموعظة
رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ مَاتَ وَلَا يَعْرِفُ إِمَامَهُ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّة»[1].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص20.
158
151
الموعظة الرابعة والعشرون: علاقتنا بالإمام المهديّ (عليه السلام)
تستند العلاقة بالإمام المهديّ (عليه السلام) على ثلاثة أبعاد أساسيَّة: هي: البُعد العقائديّ، والبُعد العاطفيّ، والبُعد العمليّ.
البُعد العقائديّ
ويتحقّق بالعقيدة السليمة بالدين الإسلاميّ، مضافًا إلى أمور عدَّة ترتبط بالعلاقة المباشرة بالإمام المهديّ (عليه السلام)، أهمُّها:
1. معرفة الإمام المهديّ (عليه السلام) حقّ المعرفة
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ مَاتَ وَلَا يَعْرِفُ إِمَامَهُ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّة»[1]. ما دام لمعرفة الإمام هذه الأهمِّيَّة كلّها، فليس المراد منها هو معرفة اسمه ونسبه فقط، بل إنّ المقصود بالمعرفة كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وَأَدْنَى مَعْرِفَةِ الْإِمَامِ أَنَّهُ عِدْلُ النَّبِيِّ إِلَّا دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ، وَوَارِثُهُ، وَأَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةُ اللهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِ اللهِ، وَالتَّسْلِيمُ لَهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَالرَّدُّ إِلَيْهِ، وَالْأَخْذُ بِقَوْلِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ، ثُمَّ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ أَنَا، ثُمَّ مِنْ بَعْدِي مُوسَى ابْنِي، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَلِيٌّ، وَبَعْدَ عَلِيٍّ مُحَمَّدٌ ابْنُهُ، وَبَعْدَ مُحَمَّدٍ عَلِيٌّ ابْنُهُ، وَبَعْدَ عَلِيٍّ الْحَسَنُ ابْنُهُ، وَالْحُجَّةُ مِنْ وُلْدِ الْحَسَن»[2].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص20.
[2] الخزاز القمّيّ، عليّ بن محمّد، كفاية الأثر، تحقيق السيّد عبد اللطيف الحسينيّ الكوهكمريّ الخوئيّ، انتشارات بيدار، إيران - قمّ، 1401هـ.، لا.ط، ص263.
159
152
الموعظة الرابعة والعشرون: علاقتنا بالإمام المهديّ (عليه السلام)
وعن الفُضَيل بن يسار قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۢ بِإِمَٰمِهِمۡۖ﴾[1]. فقال: «يَا فُضَيْلُ، اعْرِفْ إِمَامَكَ؛ فَإِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ إِمَامَكَ لَمْ يَضُرَّكَ تَقَدَّمَ هَذَا الْأَمْرُ أَوْ تَأَخَّرَ؛ وَمَنْ عَرَفَ إِمَامَهُ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ قَاعِدًا فِي عَسْكَرِهِ، لَا بَلْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَعَدَ تَحْتَ لِوَائِه»[2].
2. الثبات على الدين في عصر غيبته (عليه السلام)
من أهمّ التكاليف الشرعيَّة في عصر الغيبة، هو الثبات على العقيدة الصحيحة بإمامة الأئمّة الاثنَي عشر، وخصوصًا خاتمهم وقائمهم المهديّ (عليه السلام). كما يتوجّب علينا عدم التأثُّر بموجات التشكيك وتأثيرات المنحرفين مهما طال زمان الغيبة أو كثرت ضروب المشكِّكين، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ بَشِيرًا، لَيَغِيبَنَّ الْقَائِمُ مِنْ وُلْدِي بِعَهْدٍ مَعْهُودٍ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى يَقُولَ أَكْثَرُ النَّاسِ: مَا للهِ فِي آلِ مُحَمَّدٍ حَاجَةٌ، وَيَشُكُّ آخَرُونَ فِي وِلَادَتِهِ؛ فَمَنْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ، فَلْيَتَمَسَّكْ بِدِينِهِ، وَلَا يَجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ إِلَيْهِ سَبِيلًا بِشَكِّهِ؛ فَيُزِيلَهُ عَنْ مِلَّتِي، وَيُخْرِجَهُ مِنْ دِينِي، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ»[3].
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «لِلْقَائِمِ مِنَّا غَيْبَةٌ أَمَدُهَا طَوِيلٌ، كَأَنِّي بِالشِّيعَةِ يَجُولُونَ جَوَلَانَ النَّعَمِ فِي غَيْبَتِهِ، يَطْلُبُونَ الْمَرْعَى فَلَا
[1] سورة الإسراء، الآية 71.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص371.
[3] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ص51.
160
153
الموعظة الرابعة والعشرون: علاقتنا بالإمام المهديّ (عليه السلام)
يَجِدُونَهُ؛ أَلَا فَمَنْ ثَبَتَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ، وَلَمْ يَقْسُ قَلْبُهُ لِطُولِ أَمَدِ غَيْبَةِ إِمَامِهِ، فَهُوَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[1].
3. تجديد البيعة والولاية له (عليه السلام)
جاء في دعاء العهد الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «اللَّهُمَّ، إِنِّي أُجَدِّدُ لَهُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِي هَذَا، وَمَا عِشْتُ مِنْ أَيَّامِي، عَهْدًا وَعَقْدًا وَبَيْعَةً لَهُ فِي عُنُقِي، لَا أَحُولُ عَنْهَا وَلَا أَزُولُ أَبَدًا…»[2].
البُعد العاطفيّ
يتشكّل البُعد العاطفيّ في العلاقة بالإمام المهديّ (عليه السلام) من خلال العلاقة العاطفيَّة والروحيَّة الخاصَّة، الّتي تتجلَّى عبر:
1. الدعاء بالفرج: الدعاء له (عليه السلام) بتعجيل فرجه، فقد ورد من الناحية المقدّسة على يد محمّد بن عثمان في آخر توقيعاته (عليه السلام): «وَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ الْفَرَجِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فَرَجُكُم»[3]. ومن ذلك، الدعاء المعروف «اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الحُجَّةِ بنِ الحَسَنِ...»[4] ، وثمّة أدعية كثيرة للإمام تُراجَع في مصادرها. فنحن مأمورون بالدعاء للإمام كما جاء ذلك في كثير من الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام)، ولعلّ ذلك من أجل بقاء الصلة والرابطة العاطفيَّة مع الإمام.
[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ص303.
[2] ابن المشهديّ، الشيخ محمّد بن جعفر، المزار الكبير، تحقيق جواد القيوميّ الأصفهانيّ، نشر القيوم، إيران - قمّ، 1419ه، ط1، ص663.
[3] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الغيبة، تحقيق الشيخ عباد الله الطهرانيّ والشيخ علي أحمد ناصح، مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، إيران - قمّ، 1411هـ، ط1، ص292-293.
[4] السيّد ابن طاووس، الإقبال بالأعمال الحسنة، مصدر سابق، ص191.
161
154
الموعظة الرابعة والعشرون: علاقتنا بالإمام المهديّ (عليه السلام)
2. محبّة الإمام (عجل الله تعالى فرجه): إظهار محبّته (عليه السلام)، وتحبيبه إلى الناس، وإظهار الشوق إلى لقائه (عليه السلام) ورؤيته، والبكاء والإبكاء والتباكي والحزن على فراقه، والتصدُّق عنه (عليه السلام) بقصد سلامته، وإقامة مجالس يُذكَر فيها فضائله (عليه السلام) ومناقبه، أو بذل المال في إقامتها، والحضور في هكذا مجالس، والسعي في ذكر فضائله ونشرها.
البُعد العمليّ
من أجلى مصاديقه، الانتظار الإيجابيّ لصاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، إذ تؤكّد الأخبار أنّ انتظار الفرج أفضل العبادة، وهو في توأمة مع الجهاد. سُئِل الإمام الصادق (عليه السلام): مَا تَقُولُ فِي مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مُنْتَظِرًا لَهُ؟ فقَالَ (عليه السلام): «هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مَعَ الْقَائِمِ فِي فُسْطَاطِهِ». ثُمَّ سَكَتَ هُنَيْئَةً، ثُمَّ قَالَ: «هُوَ كَمَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»[1].
ونُقِلَ هذا المضمون في روايات كثيرة، منها: أنّه بمنزلة المجاهد بين يدَي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّه بمنزلة من استشهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّه بمنزلة من كان قاعدًا تحت لواء القائم (عجل الله تعالى فرجه)[2].
[1] الكفعميّ، الشيخ إبراهيم، المصباح (جنّة الأمان الواقية وجنّة الإيمان الباقية)، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط3، ص551.
[2] العلاّمة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج52، ص125 - 126.
162
155
الموعظة الرابعة والعشرون: علاقتنا بالإمام المهديّ (عليه السلام)
الموعظة الخامسة والعشرون: انتظار الفرج عبادة
1. مفهوم الانتظار وحقيقته
2. منزلة المنتظِرين
3. تربية النفس على الانتظار
هدف الموعظة
بيان معنى الانتظار، وتعريف المؤمن بواجباته تجاه الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) في زمن الغيبة.
تصدير الموعظة
سأل جابر بن عبد الله الأنصاريّ النبيّ (صلى الله عليه وآله): هل ينتفع الشيعة بالقائم (عليه السلام) في غيبته؟ فقال (صلى الله عليه وآله): «إِي، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ، إِنَّهُمْ يَسْتَضِيؤُونَ بِنُورِهِ، وَيَنْتَفِعُونَ بِوَلَايَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ، كَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِالشَّمْسِ وَإِنْ تَجَلَّلَهَا سَحَابٌ»[1].
[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ص253.
163
156
الموعظة الرابعة والعشرون: علاقتنا بالإمام المهديّ (عليه السلام)
يمثّل الاعتقاد بالإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) عنوان الأمل في حياة المسلمين والمستضعَفين؛ لارتباط قضيّة المهدويّة بمستقبل الحياة الإنسانيّة، عبر إقامة دولة الحقّ على امتداد العالَم، إذ يسود العدل، ويأخذ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه.
مفهوم الانتظار وحقيقته
الانتظار هو الاستعداد التامّ والشامل للأفراد والمجتمع والأمّة كلّها، ومن مختلف الجوانب العقائديّة والروحيّة والعلميّة والعسكريّة والسياسيّة، وغيرها ممّا تحتاجه الدولة والأمّة.
ويُطلَق الانتظار عادةً، على حالة من يشعر بعدم الارتياح من الوضع الموجود، ويسعى إلى إيجاد الوضع الأفضل والأحسن، ويمكن القول: إنّ الانتظار مركَّبٌ من أمرَين؛ الأوّل عدم الانسجام مع الوضع الموجود، والآخر السعي للحصول على الأفضل. لهذا، فانتظار الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) يلازمه عدم الرضا وعدم الانخراط بالواقع المنحرف أو الفاسد، والقيام بواجب الإصلاح، ومواجهة مختلف أشكال الفساد والانحراف والباطل وأنواعها، مهما بلغت التضحيات، وهو ما يستدعي الشموليّة في تربية المنتظِرين.
من هنا، نلاحظ أنّ الروايات وصفت الانتظار بالعبادة، والمنتظِرين بالمجاهدين والشهداء بين يدَي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عنْ أَبِي الْحَسَنِ [الإمام الكاظم]، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام): «إنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قال: أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي انْتِظَارُ الْفَرَجِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»[1].
[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ص644.
164
157
الموعظة الرابعة والعشرون: علاقتنا بالإمام المهديّ (عليه السلام)
فالانتظار الإيجابيّ يعني التمهيد لخروج القائد (عليه السلام)، فقد وردت العديد من الروايات الّتي يُفهَم منها ضرورة وجود أنصار وأتباع يقومون بدور التوطئة والتمهيد للمهمَّة الكبرى الّتي سيقوم بها الإمام (عجل الله تعالى فرجه).
منزلة المنتظِرين
سأل رجلٌ الإمامَ الصادق (عليه السلام): ما تقول في مَن مات على هذا الأمر منتظرًا له؟ فقال (عليه السلام): «هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مَعَ الْقَائِمِ فِي فُسْطَاطِهِ»، ثُمَّ سَكَتَ هُنَيْئَةً، ثُمَّ قَالَ: «هُوَ كَمَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)»[1].
تربية النفس على الانتظار
إنّ المنزلة الرفيعة والخاصّة للمنتظِرين في الأخبار والروايات، ترتبط بالوظيفة الملقاة على عاتقهم، والتكاليف الواجبة عليهم تجاه الرسالة والمجتمع والأمّة؛ لناحية التمهيد وحفظ الدين والدفاع عن الأعراض والأموال والكرامات والأوطان، والسعي في بناء أُسُس الدولة المهدويّة الموعودة والعادلة؛ وهذا ما يستلزم تربية النفس والمجتمع على أمور عدّة، طبعًا بعد التسليم بسلامة العقيدة، وقوّة الإرادة والإيمان وثباتهما في ساحتَي النظر والعمل.
1. الصبر والتضحية عند البلاء
«الصَّبْرُ مِنَ الإِيمَانِ، بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ؛ فَإِذَا ذَهَبَ الرَّأْسُ
[1] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص173.
165
158
الموعظة الرابعة والعشرون: علاقتنا بالإمام المهديّ (عليه السلام)
ذَهَبَ الْجَسَدُ، كَذَلِكَ إِذَا ذَهَبَ الصَّبْرُ ذَهَبَ الْإِيمَانُ»[1]، و «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ»، كما ورد في الأخبار والروايات العديدة، الّتي عَدَّت الصبر ركنًا من الإيمان؛ وذلك لصلته الوثيقة بالعقيدة والدين والسلوك وفق مقتضيات الشريعة في مختلف الظروف. ولهذا، كان الصبر على النوازل والمكاره وشظف العيش وفقدان الأعزّة والأحبّة والبيوت والأملاك، وغيرها ممّا يصيب الناس ويتعرّض لها المؤمنون -ولا سيّما في الحروب، إذ يتعرّضون لظلم الأعداء وإيذائهم بالآلات العسكريّة والتكنولوجيّة المتطوّرة للاستكبار، بالتخويف والقتل والإرهاب- يرتبط بالإيمان ومستوى تحمُّل الناس للآلام والبلاءات الّتي تقع عليهم، فلا تزلزُل ولا ارتداد ولا قنوط، بل مزيدًا من الشعور بالحاجة إلى الله، وعنادًا في الحقّ، دفاعًا عن عقيدتهم وكرامتهم. قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَة قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾[2].
فالمؤمن عند المصيبة والبلاء، لا يحزن ولا يهن ولا يضعف، بل على العكس، يصبر وينتصر ويرضى بقضاء الله وقدره، ويزداد ثباتًا وإيمانًا، قال الله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ﴾[3].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص87.
[2] سورة البقرة، الآية 156.
[3] سورة آل عمران، الآية 173.
166
159
الموعظة الخامسة والعشرون: انتظار الفرج عبادة
2. الاستعداد الشامل
إنّ انتظار مصلح عالَميّ، كالإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، يتطلّب تربيةً تنسجم في مبادئها ومعاييرها مع هذه العالَميّة والشموليّة؛ لأنّ أوّل وأكثر ما يحتاجه هذا التحوُّل هو بناء عناصر النفس الإنسانيّة الّتي يجب أن تتّصف بـِ:
1. قوةّ الإيمان والعقيدة.
2. المستوى الفكريّ والعلميّ الكبيرَين.
3. الاستعداد النفسيّ والروحيّ للتضحية.
4. الاستعداد الجهاديّ والعسكريّ والسياسيّ.
5. إصلاح المجتمع وبنائه وتماسكه وتآلفه، وإحياء روح الجماعة في مختلف المجالات.
3. الطاعة والتسليم
عن الإمام عليّ (عليه السلام) قال: «إنَّ لِلْقَائِمِ مِنَّا غَيْبَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا أَطْوَلُ مِنَ الْأُخْرَى... فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ قَوِيَ يَقِينُهُ وَصَحَّتْ مَعْرِفَتُهُ...»[1]. ويلازم الثبات على الإمامة الطاعة للإمام (عليه السلام) ولنائبه في عصر الغيبة؛ الوليّ الفقيه الّذي يتمتّع بصلاحية إدارة شؤون البلاد والعباد، وحفظ المصالح العليا للإسلام والمسلمين ورعايتها، تمهيدًا لقدومه الشريف. ولا بدّ لهذه الولاية والطاعة من الارتباط الوثيق بالوليّ؛ فكريًّا لناحية الاعتقاد، وعمليًّا لناحية الممارسة والسلوك.
[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين، مصدر سابق، ص323.
167
160
الموعظة الرابعة والعشرون: علاقتنا بالإمام المهديّ (عليه السلام)
4. النشاط والسعي
يقتضي الإدراك الصحيح لمعنى الانتظار والولاية أن يكون للمؤمن الموالي حركة دائمة وسعي دؤوب بقصد تهيئة نفسه ومجتمعه لظهور الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه). والحديث الملكوتيّ للإمام الصادق (عليه السلام): «لِيُعِدَّنَّ أَحَدُكُمْ لِخُرُوجِ الْقَائِمِ، وَلَوْ سَهْمًا»[1]، مصباح ينير هذا الطريق الرحب.
ثمّ إنّ اللحظة السعيدة لظهور الغائب تبعث فينا الأمل لنعيش لحظات الانتظار على أحرّ من الجمر، بانتظار الطلعة البهيّة لوجوده المبارك. وهذا الانتظار يدفعنا عقلًا، في ضوء كلام الإمام الصادق (عليه السلام)، نحو السعي والحركة الدؤوبة لإعداد العدّة وتهيئة الأرضيّة المناسبة لظهوره، ولو كان ذلك بإعداد سهمٍ. وهذا السهم تارةً يكون سهم بيانٍ، وأُخرى يكون سهمًا في المجال العلميّ والعسكريّ. وإن شئتَ قلت: إمّا أن تكون لنا القدرة على شرح المعارف الإلهيّة وبيانها وبسطها ونشرها وتبليغها، وإمّا أن نسخّر قوانا وملكاتنا في مختلف الفنون الصناعيّة والمجالات العلميّة، ولا سيّما في مجال الدفاع الحربيّ، والاستعداد لمواجهة الّذين يتوهّمون أنّ مصباح الهداية قد خمد وانطفأ، ولمجابهتهم، والأَوْلى هو الجمع بين هذَين السلاحَين.
ومَن عَدّ نفسه في حال انتظار من دون أن يحرّك ساكنًا بقصد إعداد العدّة وطيّ مسير المجاهدة، متوهِّمًا أنّ مَن لا يعدّ العدّة يمكن أن يكون من بين منتظِري الموعود الموجود، فقد وقع في خيالٍ باطلٍ، وليس لانتظاره ثمرةٌ عمليّة منشودةٌ، ولا لموالاته حقيقةٌ وواقع.
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج52، ص366.
168
161
الموعظة السادسة والعشرون: الصراط والمرصاد
الموعظة السادسة والعشرون: الصراط والمرصاد
1. مفهوما الصراط والمرصاد
2. الصراط والمرصاد في القرآن والسنّة
3. الصراط ولاية أهل البيت (عليهم السلام)
هدف الموعظة
بيان المراد من الصراط والمرصاد، وما ينفع في اجتيازهما.
تصدير الموعظة
أمير المؤمنين (عليه السلام): «واعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ ومَزَالِقِ دَحْضِه وأَهَاوِيلِ زَلَلِه وتَارَاتِ أَهْوَالِه؛ فَاتَّقُوا اللَّه عِبَادَ اللَّه»[1].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص111، الخطبة 83.
169
162
الموعظة السادسة والعشرون: الصراط والمرصاد
مفهوما الصراط والمرصاد
الصراط جسر يُنصَب على جهنّم، ولا يدخل أحدٌ الجنّة إلّا بالمرور عليه. وقد ورد في الروايات أنّه أدقُّ من الشعرة، وأحدّ من السيف، ويمشي عليه الناس بسرعة مختلفة ترتبط بالأعمال. أمّا المرصاد، فقد فُسِّر أحيانًا بمعنى الصراط، وأحيانًا أخرى بأنّه ممرٌّ خاصٌّ من الصراط نفسه؛ فمَن أمكنه اجتيازه وصل ودخل الجنّة، أمّا المذنبون والمجرمون والفاسقون ونحوهم، فلا ينجحون في عبوره، بل ينزلقون إلى جهنّم.
خصائص الصراط والمرصاد
1. أنّه جسر يُنصَب على جهنّم، كما عن الإمام الباقر (عليه السلام): «قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): أخبرني الروح الأمين أنّ الله لا إله غيره، إذا وقف الخلائق وجمع الأولين والآخرين، أتى بجهنّم تُقاد بألف زمام... ثمّ يُوضَع عليها صراط أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف»[1].
2. أنّه أدقّ من الشعرة وأحدُّ من السيف، كما في الرواية السابقة، وكما عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضًا: «والصراط أدقّ من الشعر ومن حدّ السيف»[2].
3. يمرُّ عليه جميع الناس بسرعات مختلفة؛ فالمتّقون يمرّون بسرعة، والفاسقون المنحرفون ببطء، وقد يقعون. قال الإمام الصادق (عليه السلام): «مِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص312.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج8، ص64.
170
163
الموعظة السادسة والعشرون: الصراط والمرصاد
عَدْوِ الْفَرَسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ حَبْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مُتَعَلِّقًا قَدْ تَأْخُذُ النَّارُ مِنْهُ شَيْئًا وَتَتْرُكُ شَيْئًا»[1].
4. لا يستطيع عبوره من كان عليه ذنب، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «الْمِرْصَادُ قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ، لَا يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَة»[2].
الصراط والمرصاد في القرآن والسنّة
قال الله تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡما مَّقۡضِيّا ٧١ ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّا﴾[3]، ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلۡمِرۡصَادِ﴾[4].
في معنى ﴿وَارِدُهَاۚ﴾، أقوال عدّة، أبرزها اثنان:
الأوّل: الورود بمعنى الحضور والإشراف على النار؛ فالناس يحضرون النار ويقتربون منها، بحيث يشرفون عليها من غير أن يدخلوها. وهذا المعنى هو نفسه تفسير الصراط؛ أي الجسر الّذي يمرُّ فوق جهنّم، وعلى الجميع اجتيازه وعبوره، فتزلّ أقدام المجرمين ويتردّون في النار، أمّا المؤمنون فيجتازونه بسرعة ويدخلون الجنّة.
ويؤيّد تفسير الورود بجسر الصراط ما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تعليقه على هذه الآية: «أَمَا تَسْمَعُ الرَّجُلَ يَقُولُ: وَرَدْنَا مَاءَ بَنِي فُلَانٍ؟ فَهُوَ الْوُرُودُ، وَلَمْ يَدْخُلْهُ»[5].
[1] الكوفيّ، حسين بن سعيد، الزهد، تحقيق الميرزا غلام رضا عرفانيان، لا.ن، لا.م، 1399هـ، لا.ط، ص139.
[2] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان، مصدر سابق، ج10، ص351.
[3] سورة مريم، الآيتان 71 و72.
[4] سورة الفجر، الآية 14.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج8، ص292.
171
164
الموعظة السادسة والعشرون: الصراط والمرصاد
الثاني: أنّ البَرَّ والفاجر يدخلان جهنّم، فتكون بردًا وسلامًا على المؤمنين، وعذابًا لازمًا على غيرهم. فالنار لا تحرق أجسام المؤمنين بسبب عدم سنخيّة هذه الأجسام مع النار، في حين أنّ سنخيّة الكفّار تتلاءم مع النار، مثل الموادّ المساعدة على الاحتراق. والدليل على هذا ما ذكره جابر الأنصاريّ، إذ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يقول: «الوُرُودُ وَالدُّخُولُ: لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا يَدْخُلُهَا، فَتَكُون عَلَى المُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيم...»[1].
وعلى كِلا التفسيرَين، يمكن عَدّ الصراط هو الورود نفسه، ففي كِلا الحالتَين ثمّة نوع من الاقتراب والإشراف على جهنّم، والهول والخوف والهلع، وانزلاق المنافقين والكافرين في جهنّم، ونجاة الصالحين والمؤمنين من عذابها، ليدخلوا إلى جنّة النعيم.
والآية الأخرى الّتي ذكرت المِرصاد قريبة من هذا الواقع بمعانيها، إذ ذكروا أنّ الرصد هو الاستعداد والترقُّب، والمرصد موضع الرصد؛ فالله تعالى رقيب يرقب أعمال عباده في الدنيا، ويأخذهم بالعذاب إذا طغوا. ولكن ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «الْمِرْصَادُ قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ، لَا يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَة»[2].
فالمستفاد هنا أنّ المرصاد قنطرة على الصراط، تمرُّ فوق جهنّم، لا يستطيع أن يعبرها مَن كان عليه ذنب أو مظلمة.
[1] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان، مصدر سابق، ج6، ص442.
[2] المصدر نفسه، ج10، ص351.
172
165
الموعظة السادسة والعشرون: الصراط والمرصاد
وقد ذكرت بعض الروايات أنّ على جهنّم سبع قناطر، يُسأَل الإنسان فيها عن الإيمان والصلاة والزكاة والصيام والحجّ وصلة الرحم والمظالم، ولا يجوز إلى الثانية إن لم ينجح في الأولى. ومع هذا، لا يوجد مانع من أن تنظر الآية إلى كِلا المعنيَين؛ بمعنى أنّ الله تعالى كما أنّه رقيب يرقب أعمال عباده في الدنيا، كذلك هو رقيب في العالَم الآخر على الصراط. وخلاصة الكلام أنّ الصراط جسرٌ على جهنّم في طريق الجنّة، ويَرِدُه كلُّ بَرٍّ وفاجر.
فهذه هي حال الناس في عبورهم على الصراط واجتيازهم الطريق إلى جنّة الخلد، فمَن كانت أعماله صالحة استطاع أن يعبر ذلك الجسر الّذي تصفه الروايات بأنّه أدقُّ من الشَعر وأحَدُّ من السيف.
الصراط ولاية أهل البيت (عليهم السلام)
في حديث المفَضَّل بن عمر، يقول: سألتُ أبا عبد الله [الإمام الصادق] (عليه السلام) عن الصراط، فقال: «هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمَا صِرَاطَانِ: صِرَاطٌ فِي الدُّنْيَا، وَصِرَاطٌ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الصِّرَاطُ الَّذِي فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ الْإِمَامُ الْمُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ؛ مَنْ عَرَفَهُ فِي الدُّنْيَا وَاقْتَدَى بِهُدَاهُ، مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ الَّذِي هُوَ جِسْرُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ؛ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي الدُّنْيَا، زَلَّتْ قَدَمُهُ عَنِ الصِّرَاطِ فِي الْآخِرَةِ، فَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ»[1].
[1] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، مصدر سابق، ص32.
173
166
الموعظة الثامنة والعشرون: المقاومة الإسلاميّة والنصر الإلهيّ
وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَنُصِبَ الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ، لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ مَعَهُ جَوَازٌ فِيهِ وَلَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)»[1].
وورد التعبير نفسه عن السيّدة الزهراء i. هذا الطريق المخوف هو ركن أساسيّ للوصول إلى الاجتياز السريع والآمن، وإلّا إن لم يكن هناك ارتباط إيمانيّ وأخلاقيّ مع هؤلاء العظام، فلا يمكن الجواز على الصراط، ومَن لا يقدر على اجتيازه، فسيقع حتمًا في نار جهنّم، ولن يصل إلى النعم الإلهيّة المادّيّة والمعنويّة في جنّة الخلد.
[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص290.
174
167
الموعظة السابعة والعشرون: موازين الأعمال
الموعظة السابعة والعشرون: موازين الأعمال
1. الوزن والميزان
2. الأنبياء والأوصياء هم الموازين
3. رجحان كفّتَي الميزان
4. ما يُثقل الميزان
5. أثر المظالم في الميزان
هدف الموعظة
بيان قضيّة ميزان الأعمال يوم القيامة، وما يؤثّر فيه.
تصدير الموعظة
﴿وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡس شَيۡٔاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّة مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَيۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ﴾[1].
[1] سورة الأنبياء، الآية 47.
175
168
الموعظة السابعة والعشرون: موازين الأعمال
الوزن والميزان
الوزن: تقدير ثقل الشيء وخفّته وتعيين مقداره، مادّيًّا أو معنويًّا، والميزان كالمفتاح، اسم لما تُوزن به الأشياء. والميزان يختلف باختلاف الموضوعات، فإنّ كلّ شيء يُوزن بما يناسبه، ففي الموضوعات المادّيّة لا بدّ من أن تُوزن بميزان مادّيّ كالحجر والحديد وغيرهما، وفي ما وراء المادّة تُوزن بما يجانسها من الأجسام اللطيفة أو المتظاهر من مراتب الحقّ وتطبيقها على الأعمال. والموازين الروحانيّة الّتي تُوزن بها الموضوعات الروحانيّة والعقليّة، لا بدّ من أن تكون من سنخ الروحانيّات والنورانيّات، كما في المقامات المعنويّة الإلهيّة الّتي تُوزن بالمعارف والنور[1].
وفي الآية القرآنيّة الكريمة المذكورة في التصدير «أُوتي بلفظ الجمع، إشارةً إلى أنّ الموازين أنواع كثيرة؛ بعضها ميزان العلوم وبعضها ميزان الأعمال»[2].
الأنبياء والأوصياء هم الموازين
سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾، قال: «الموازين، الأنبياء والأوصياء»[3].
[1] المصطفويّ، حسن، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ، إيران - طهران، 1410هـ.، ط1، ج13، ص97 – 99 (بتصرّف).
[2] صدر المتألّهين، صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازيّ، أسرار الآيات، تقديم وتصحيح محمّد خواجويّ، انتشارات انجمن اسلامى حكمت وفلسفه إيران، 1402هـ - 1360ش، لا.ط، ص207.
[3] الشيخ الصدوق، محمّد بن عليّ، اعتقادات الإماميّة، مؤتمر ألفيّة الشيخ المفيد، إيران - قمّ، 1414هـ.، ط2، ص74.
176
169
الموعظة السابعة والعشرون: موازين الأعمال
وفي الزيارة المطلقة لأمير المؤمنين (عليه السلام): «السلام على ميزان الأعمال»[1].
«وبهذا نفهم أنّ أولياء اللّه وقوانين العدل الإلهيّ هي موازين يُعرَض عليها الناس وأعمالهم، ويتمّ قياس الوزن على مقدار الشبه والمطابقة»[2].
رجحان كفّتَي الميزان
لا شكّ في أنّ لكلٍّ من الأعمال، سواء الحسنة منها كالصلاة والصيام والقيام وغيرها، أو السيّئة منها، تأثيرها في باطن النفس وحقيقتها، وطالما كانت النفس أسيرة الحياة الدنيا وشهواتها، ومقيّدة بسلاسلها وأغلالها، فإنّها تكون محجوبة عن رؤية باطن نفسها ومشاهدة حقيقتها، فإذا قامت قيامتها بفراقها عن الدنيا والدخول في الآخرة، رفعت الحجب وانكشف لها حقيقة عمل النفس وسعيها في الدنيا، قال تعالى: ﴿لَّقَدۡ كُنتَ فِي غَفۡلَة مِّنۡ هَٰذَا فَكَشَفۡنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلۡيَوۡمَ حَدِيد﴾[3].
حينئذٍ ترى «أنّ كلّ واحد من أفراد الناس له أعمال متفرّقة، إمّا حسنات أو سيّئات أو مختلفات، فإذا جُمعت يوم القيامة متفرّقات
[1] الشهيد الأوّل، محمّد بن مكّي، المزار في كيفيّة زيارات النبيّ والأئمّة (عليهم السلام)، تحقيق وتصحيح ونشر مدرسة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، إيران - قمّ، 1410هـ.، ط1، ص46.
[2] مكارم الشيرازيّ، الشيخ ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، منشورات مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، إيران - قمّ، 1421هـ، ط1،ج20، ص409.
[3] سورة ق، الآية 22.
177
170
الموعظة السابعة والعشرون: موازين الأعمال
حسناته أو سيّئاته، كان إمّا لأحدهما الرجحان أو لا، فإن كان الرجحان للحسنات كان من أهل السعادة، وإن كان للسيّئات كان من أهل الشقاوة، ومن استوت حسناته وسيّئاته كان متوسّطًا بين الجانبين حتّى يحكم الله فيه»[1].
لذا «اعلم -يا حبيبي- أنّك مسافر من الدنيا إلى الآخرة، وأنت تاجر أيضًا، ورأس مالك حياتك الدنيويّة، وتجارتك هي اكتساب القنية[2] العلميّة، وهي زاد سفرك إلى معادك، وفائدتك وربحك هي حياتك الأبديّة تنعّمها بلقاء الله ورضوانه، وخسرانك هو هلاك نفسك باحتجابك عن جوار الله ودار كرامته.
واعلم أنّ الناقد بصير، لا يقبل منك إلّا الخالص من ذهب المعرفة وفّضة الطاعة؛ فاوزن حسناتك بميزان صدق، واحسب حساب نفسك قبل أن توافي عمرك، وقبل أن يحاسب عليك في وقت لا يمكنك التدارك والتلافي، فالموازين مرفوعة ليوم الحساب وفيه الثواب والعقاب ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ ٦ فَهُوَ فِي عِيشَة رَّاضِيَة ٧ وَأَمَّا مَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ ٨ فَأُمُّهُۥ هَاوِيَة ٩ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا هِيَهۡ ١٠ نَارٌ حَامِيَةُۢ﴾[3]»[4].
[1] صدر المتألّهين، أسرار الآيات، مصدر سابق، ص213. (بتصرّف)
[2] القُنية: ما اكتُسِب واقُتِني.
[3] سورة القارعة، الآيات 6 – 11.
[4] صدر المتألّهين، أسرار الآيات، مصدر سابق، ص212 – 213.
178
171
الموعظة السابعة والعشرون: موازين الأعمال
ما يُثقِل الميزان
قال تعالى: ﴿وَٱلۡوَزۡنُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّۚ فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٨ وَمَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَظۡلِمُونَ﴾[1].
بيّنت الآيات الكريمة أنّ الثقل يكون في جانب الحسنات دائمًا، في حين تكون الخفّة في جانب السيّئات، فالأعمال الثقيلة في الميزان هي موجبات النجاة في يوم القيامة، وقد ذكرت الروايات العديد من العناوين الّتي تُثقل الميزان، أهمّها:
1. حسن الخلق، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق»[2].
2. الصلاة على محمّد وآل محمّد، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمّد وآل محمّد، وإنّ الرجل لتوضَع أعماله في الميزان فتميل، فيُخرِج (صلى الله عليه وآله) الصلاة عليه، فيضعها في ميزانه، فيرجح به»[3].
وفي خطبة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في استقبال شهر رمضان المبارك: «وَمَنْ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ عَلَيَّ ثَقَّلَ اللّهُ مِيزَانَهُ يَوْمَ تَخِفُّ الْمَوَازِينُ»[4].
[1] سورة الأعراف، الآيتان 8 و9.
[2] الشعيريّ، محمّد بن محمّد، جامع الأخبار، المطبعة الحيدريّة، العراق - النجف، لا.ت، ط1، ص107.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص494.
[4] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص95.
179
172
الموعظة السابعة والعشرون: موازين الأعمال
أثر المظالم في الميزان
وكما أنّ للأعمال الصالحة ثقلها في الميزان يوم القيامة، فقد ذكرت بعض الروايات أنّ المظالم الّتي يقترفها بعض الناس بحقّ بعض، تُوجب ثقلًا وترجيحًا في ميزان المظلوم، ومنها التعدّي على الإنسان في غيبته بكلامٍ فيه افتراء وكذب، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يُجاء بالعبد يوم القيامة، فتُوضع حسناته في كفّة وسيّئاته في كفّة، فترجح السيّئات، فتجيء بطاقة، فتقع في كفّة الحسنات، فترجح بها، فيقول: يا ربِّ، ما هذه البطاقة؟ فما من عمل عملتُه في ليلي أو نهاري، إلّا وقد استُقبِلتُ به! قال: هذا ما قيل فيك، وأنت منه بريء، فينجو بذلك»[1].
[1] المتّقي الهنديّ، علاء الدين عليّ المتّقي بن حسام الدين، كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، مؤسّسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1409هـ - 1989م، لا.ط، ج14، ص383.
180
173
الموعظة السابعة والعشرون: موازين الأعمال
الموعظة الثامنة والعشرون: المقاومة الإسلاميّة والنصر الإلهيّ
1. قدسيّة المقاومة وإلهيّة النصر
2. الأبعاد الدينيّة للنصر
3. التوكُّل على الله والأخذ بالأسباب
4. حُسن الإعداد والإدارة
5. الثبات والشجاعة عند لقاء العدوّ
هدف الموعظة
إيضاح مبادئ العمل المقاوم وأسرار النصر والتأييد الإلهيَّين.
تصدير الموعظة
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعۡسا لَّهُمۡ وَأَضَلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ﴾[1].
[1] سورة محمّد، الآيتان 7 و8.
181
174
الموعظة السابعة والعشرون: موازين الأعمال
قدسيّة المقاومة وإلهيّة النصر
تمتاز الحرب الّتي خاضتها المقاومة الإسلاميّة في تمّوز 2006م، عن الكثير من الحروب والمعارك الأخرى؛ كونها معركةً قرّر العدوُّ فيها -وعلى اختلاف مستويات القرار- استئصال المقاومة، والقضاء على عناصر القوّة والصمود والثبات كلّها عندها، من دون تمييز بين السلاح والبشر والحجر، وباستخدام جميع أنواع الأسلحة والتقنيّات العسكريّة والأمنيّة والسياسيّة والإعلاميّة، ومن دون مراعاة لشيء من الضوابط الّتي فرضها أدعياء حقوق الإنسان في الحروب.
في المقابل، نجد المقاومة الإسلاميّة في لبنان، بقيادتها ومجاهديها وشعبها، قد جسّدَت أروع المعارك وأهمّها وأقدسها، في مواجهتها للعدوان الإسرائيليّ والحرب الأميركيّة، بل العالميّة على لبنان، وكان السلاح الأقوى في هذه الحرب هو الإيمان والصبر والإرادة والثبات والتوكُّل على الله تعالى والإخلاص والطاعة له سبحانه. فالمجاهدون، بحقّ، كانوا رجال الله، وقد تولّاهم اللهُ بعنايته ورحمته وتوفيقه وتسديده؛ وقائدهم، السيّد الملهم، أعاد إلى الأذهان صوت الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بقيادته الإلهيّة الحكيمة، وشجاعة أمير المؤمنين (عليه السلام) في خيبر، وصبر الإمام الحسن (عليه السلام) على المؤامرات، وإصرار الإمام الحسين (عليه السلام) على النصر المؤزَّر. ولهذا، أعلن باطمئنان ووثوق، في بداية الحرب: «النصرُ آتٍ آتٍ آتٍ، إن شاء الله».
182
175
الموعظة الثامنة والعشرون: المقاومة الإسلاميّة والنصر الإلهيّ
وهنا تكمن قدسيّة المقاومة والنصر الإلهيّ المؤزّر في حرب تموز، قال تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[1].
مقوّمات النصر الإلهيّ وأسبابه
يرتكز النصر الإلهيّ -بمفهومنا- على عنصرَين أساسيَّين؛ يرتبط الأوّل بالبُعد العقديّ والدينيّ، والثاني بحُسن الاستعداد وإدارة المعركة.
أوّلًا، البُعد العقديّ والدينيّ
ويمكن إيجاز مقوّماته بالآتي:
1. طاعة الله جلّ جلاله، يقول في كتابه العزيز: ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ﴾[2].
2. الإيمان، والإيمان ليس قولًا فقط، بل هو عقيدة وعمل واحتمال وأمل وثقة. والله تعالى يقول: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[3].
3. الاستعداد للصبر، وطول النفس في المعارك، يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾[4].
[1] سورة الحجّ، الآية 40.
[2] سورة محمّد، الآية 7.
[3] سورة الروم، الآية 47.
[4] سورة آل عمران، الآية 200.
183
176
الموعظة السابعة والعشرون: موازين الأعمال
4. الدعاء وكثرة الذكر: فإنّ من أعظم عوامل النصر وأقواها، الاستغاثة بالله وكثرة ذكره؛ لأنّه القويّ القادر على هزيمة أعدائه ونصر أوليائه. قال عزّ وجلّ: ﴿إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡف مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ﴾[1]. وقد أمر الله بالذكر والدعاء عند لقاء العدوّ، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمۡ فِئَة فَٱثۡبُتُواْ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾[2]. ولهذا، كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يدعو ربَّه في معاركه ويستغيث به، فينصره ويمدّه بجنوده.
ثانيًا، الاستعداد الجيّد وحُسن إدارة المعركة
ويمكن حصر عناصره بالآتي:
1. التوكُّل على الله والأخذ بالأسباب: التوكُّل على الله مع إعداد القوّة، من أعظم عوامل النصر؛ لقول الله تعالى: ﴿وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾[3]. وقال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ﴾[4]. وقال عزّ وجلّ: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا﴾[5]. ولا بدّ في التوكُّل من الأخذ بالأسباب؛ لأنّ التوكُّل يقوم على ركنَين عظيمَين:
الركن الأوّل: الاعتماد على الله، والثقة بوعده ونصره تعالى.
[1] سورة الأنفال، الآية 9.
[2] سورة الأنفال، الآية 45.
[3] سورة المائدة، الآية 11.
[4] سورة آل عمران، الآية 159.
[5] سورة الأحزاب، الآية 3.
184
177
الموعظة السابعة والعشرون: موازين الأعمال
الركن الثاني: الأخذ بالأسباب الطبيعيّة، كالتخطيط والتدريب والتجهيز ومعرفة العدوّ وخططه وتقنيّاته، والاستفادة من مختلف التقنيّات العسكريّة الممكنة.
2. الثبات والشجاعة عند لقاء العدوّ: من عوامل النصر، الثبات عند اللقاء، وعدم الانهزام والفرار، فقد ثبت النبيّ (صلى الله عليه وآله) في جميع معاركه الّتي خاضها، كما فعل في بدر وأُحُد وحُنَين وبقيّة المعارك والحروب. كذلك الاتّصاف بالشجاعة والتضحية بالنفس والاعتقاد بأنّ الجهاد لا يقدِّم الموت ولا يؤخّره، قال تعالى:
﴿أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوج مُّشَيَّدَة﴾[1].
ولهذا، كان أهل الإيمان الكامل هم أشجع الناس، وأكملُهم شجاعةً هو نبيُّهم محمّد (صلى الله عليه وآله)، وأئمّتهم (عليهم السلام).
عن الإمام عليّ (عليه السلام): «لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلى العَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ، يَوْمَئِذٍ، بَأْسًا»[2]. وعنه: «كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله)، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَب َإِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ»[3].
وهذا ما لمسناه وشاهدناه في استعدادات المقاومة وأسلوب إدارتها للمعركة العسكريّة في مواجهة العدوّ الصهيونيّ. نشير فيما يأتي إلى أسلوب عمل المقاومة بإيجاز:
[1] سورة النساء، الآية 78.
[2] أحمد بن حنبل، المسند (مسند أحمد)، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج1، ص86.
[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص520، الحكمة 9.
185
178
الموعظة الثامنة والعشرون: المقاومة الإسلاميّة والنصر الإلهيّ
أ. الاستقلال والسرّيّة
خلافًا لتقليد «المقاومات» السابقة، لم تشارك المقاومة الإسلاميّة، منذ نشأتها إلى اليوم، مع أيّ طرف آخر في عمليّات ضدّ الاحتلال. ولا يعود ذلك إلى الرغبة في الانسجام العقديّ بين أفرادها، بل تردّ المقاومة ذلك إلى خشيتها من اختراق العدوّ صفوفها، حينما تتنوّع الانتماءات والاتّجاهات السياسيّة والعقديّة. وقد استطاعت المقاومة الإسلاميّة أن تُوجِد إطارًا خاصًّا لإشراك جميع من يرغب في المقاومة، وأن تفتح باب المشاركة للقوى الأخرى غير الإسلاميّة الّتي ترغب في مقاتلة الاحتلال، دون أن تتخلّى عن أطرها الخاصّة التنظيميّة والأمنيّة والعسكريّة.
فأعلنت، وبلسان الأمين العامّ لحزب الله السيّد حسن نصر الله، في الثالث من تشرين الثاني نوفمبر 1997م، عن تشكيل «السرايا اللبنانيّة لمقاومة الاحتلال الإسرائيليّ»، كإطار جامع لكلِّ راغب في المشاركة بأعمال المقاومة المسلَّحة ضدّ قوّات الاحتلال في الجنوب.
ب. استخدام أساليب قتاليّة متطوّرة
استخدمت المقاومة الإسلاميّة الأساليب المعروفة في حروب العصابات؛ أي المجموعات الصغيرة الّتي تشنّ هجومات مفاجئة على دوريّات العدوّ وتحصيناته، أو تعمل على زرع الألغام والكمائن على طرق مواصلاته.
لكنّ المقاومة نجحت إلى جانب هذه الأساليب، في تقديم تجربة
186
179
الموعظة الثامنة والعشرون: المقاومة الإسلاميّة والنصر الإلهيّ
متميّزة ومختلفة عن التجارب الأخرى في لبنان، على المستويات الأمنيّة والإعلاميّة والسياسيّة، وأبرز ملامحها:
1. تعدُّد التكتيكات والعمليّات، وتطوُّر الأسلحة وتنوُّعها: فلم تعتمد المقاومة الإسلاميّة تكتيكًا واحدًا في المواجهة، هو انتظار جنود الاحتلال على الطرقات أو في الأحراش، أو قصف مواقعه من القرى البعيدة، بل لجأت إلى المبادرة إلى شنّ عمليّات واسعة، وأحيانًا متعدّدة، في الوقت نفسه، على أكثر من موقع من مواقع الاحتلال، وتمكّنَت في حالات كثيرة، من السيطرة على هذه المواقع لساعات طويلة، وتدميرها، وأَسْر من فيها في بعض الأحيان. كما كان لإدخال نماذج جديدة ونوعيّة من الأسلحة والصواريخ -الّتي شكّلَت عنصرًا مفاجئًا للعدوّ- الأثر البالغ في هزيمة العدوّ.
2. تطوير قدرات استخباريّة عالية: نجحَت المقاومة الإسلاميّة في تطوير قدرات استخباريّة عالية، مكّنتها من رصد تحرُّكات جنود الاحتلال وعملائه، وإيقاع خسائر مباشرة وكبيرة بهم، عبر الكمائن أو التفجيرات، في داخل الشريط المحتلّ وخارجه، وصولًا إلى الحدود مع فلسطين؛ ممّا أدّى في الأوساط الإسرائيليّة العسكريّة والأمنيّة، إلى طرح الشكوك والتساؤلات، وتشكيل لجان للتحقيق حول مدى اختراق «حزب الله» لهذه الأوساط أو للعملاء.
187
180
الموعظة التاسعة والعشرون: وداع شهر الله
الموعظة التاسعة والعشرون: وداع شهر الله
1. وصيّة الإمام الخامنئي(دام ظله) في قراءة دعاء الوداع
2. الغفران مطلب المؤمنين الأخير
3. ليلة العيد ليلة وفاء الأجور
4. يوم العيد يوم حصاد الجوائز
5. يوم العيد يوم تذكُّر لا يوم غفلة
هدف الموعظة
تعرُّف آداب وداع شهر رمضان والأدعية الواردة فيها، وبيان دلالات ليلة العيد ويومه.
تصدير الموعظة
الإمام السجّاد (عليه السلام): «السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ قَرُبَتْ فِيهِ الْآمَالُ، وَنُشِرَتْ فِيهِ الْأَعْمَالُ... السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَمْحَاكَ لِلذُّنُوبِ، وَأَسْتَرَكَ لِأَنْوَاعِ الْعُيُوبِ! السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، وَأَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ!... السَّلَامُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّعٍ بَرَمًا، وَلَا مَتْرُوكٍ صِيَامُهُ سَأَمًا. السَّلَامُ عَلَيْكَ مِنْ مَطْلُوبٍ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَمَحْزُونٍ عَلَيْهِ قَبْلَ
189
181
الموعظة التاسعة والعشرون: وداع شهر الله
فَوْتِهِ. السَّلَامُ عَلَيْكَ كَمْ مِنْ سُوءٍ صُرِفَ بِكَ عَنَّا، وَكَمْ مِنْ خَيْرٍ أُفِيضَ بِكَ عَلَيْنَا. السَّلَامُ عَلَيْكَ وَعَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
السَّلَامُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَحْرَصَنَا بِالْأَمْسِ عَلَيْكَ، وَأَشَدَّ شَوْقَنَا غَدًا إِلَيْكَ. السَّلَامُ عَلَيْكَ وَعَلَى فَضْلِكَ الَّذِي حُرِمْنَاهُ، وَعَلَى مَاضٍ مِنْ بَرَكَاتِكَ سُلِبْنَاهُ... اللَّهُمَّ، فَلَكَ الْحَمْدُ إِقْرَارًا بِالْإِسَاءَةِ، وَاعْتِرَافًا بِالْإِضَاعَةِ، وَلَكَ مِنْ قُلُوبِنَا عَقْدُ النَّدَمِ، وَمِنْ أَلْسِنَتِنَا صِدْقُ الِاعْتِذَارِ؛ فَأْجُرْنَا عَلَى مَا أَصَابَنَا فِيهِ مِنَ التَّفْرِيطِ أَجْرًا نَسْتَدْرِكُ بِهِ الْفَضْلَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ»[1].
يتبيّن لقارئ كلمات الإمام زين العابدين (عليه السلام) هذه في وداع شهر رمضان، مدى الحرقة ومستوى الأسف الّذي يحاول الإمام (عليه السلام) إبرازه على ذهاب هذا الشهر، فيتضّح من ذلك، الحالة النفسيّة الّتي ينبغي للمقتدي بإمامه أن يكون عليها حال اقتراب رحيل هذا الشهر، وهي حالة ممزوجة من الاغتباط بالطاعات والشكر على النعم، وبين الأسف والندم على التقصير وفوات الفرص.
وصيّة الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في قراءة دعاء وداع شهر رمضان
للإمام الخامنئيّ(دام ظله) لفتاتٌ مهمّة جدًّا، ووصايا قيّمة في مجال الاستثمار المعنويّ الرشيد للأدعية الموجودة في تراثنا، ومن جملتها وصيّته بقراءة دعاء وداع شهر رمضان في أوّل شهر رمضان المبارك، إذ يقول: «إنّني كنتُ أوصي الإخوة دائمًا، بقراءة دعاء الوداع لشهر رمضان في بداية الشهر، ولو لمرّة واحدة؛ لأنّه حينما نقرأ هذا
[1] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص198 - 200، الدعاء 45.
190
182
الموعظة التاسعة والعشرون: وداع شهر الله
الدعاء بخشوع وأنين في آخر ليلة من شهر رمضان المليء بالفضائل والحسنات، فقد انتهت الفرصة. فينبغي للمؤمنين قراءة هذا الدعاء في بداية الشهر، ليعرفوا قيمة هذه الفرصة»[1].
وهذا الكلام يدلّ على مستوى ما يأمله (دام ظله) من هذا الدعاء، على صعيد الدفع المعنويّ باتّجاه الجِدّ والاجتهاد في صيام شهر رمضان المبارك وقيامه، ومستوى المحرّكيّة الّذي سيتعبّأ به الفرد المؤمن عند قراءة هذا الدعاء المليء بعبارات الشكر المبيِّنة لفضل شهر رمضان، وعبارات الحسرة على ما فرّط الإنسان في هذا الشهر.
الغفران مطلب المؤمنين الأخير
إنّ أعظم ما يطلبه العباد المساكين في هذا الشهر، هو أن تُعتَق رقابهم من النار، وأن يفوزوا بالجنّة، وهذا طلب المساكين المذنبين الخاطئين، الّذين تضعف نفوسهم في بعض الحالات، فيقترفون بعض المعاصي، وهو كذلك طلب أولئك المذنبين، الّذين ضلّت بهم السبُل، وتاهوا عن طريق الهداية، وقرّروا أن يتوبوا إلى الله، وأن يتخلّصوا من أوزار الذنوب وأحمال الخطايا. ومَن لم يحصل على هذه الهديّة -العتق من النار والفوز بالجنّة- فهو من عين الشقيّ.
عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الشَّقِيَّ، حَقَّ الشَّقِيِّ، مَنْ خَرَجَ عَنْهُ هَذَا الشَّهْرُ وَلَمْ يُغْفَرْ ذُنُوبُهُ»[2].
[1] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في أوّل شهر رمضان المبارك، بتاريخ 1 رمضان 1414ه.
[2] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، مصدر سابق، ج1، ص293.
191
183
الموعظة التاسعة والعشرون: وداع شهر الله
ومن دعاء الإمام الصادق (عليه السلام) في وداع شهر رمضان: «اللَّهُمَّ، إِنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِكَ الْمُنْزَلِ: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾[1])، وهَذَا شَهْرُ رَمَضَانَ وقَدْ تَصَرَّمَ، فَأَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ، إِنْ كَانَ بَقِيَ عَلَيَّ ذَنْبٌ لَمْ تَغْفِرْه لِي، أَوْ تُرِيدُ أَنْ تُعَذِّبَنِي عَلَيْه، أَوْ تُقَايِسَنِي بِه، أَنْ يَطْلُعَ فَجْرُ هَذِه اللَّيْلَةِ، أَوْ يَتَصَرَّمَ هَذَا الشَّهْرُ، إِلَّا وقَدْ غَفَرْتَه لِي، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ...»[2].
ليلة العيد ليلة وفاء الأجور
هي ليلة الفرصة، بل الفرصة الأخيرة لأولئك المساكين الّذين رست سفينتهم على ساحل بحر الجود والكرم الإلهيَّين، بشرط أن يتوجَّهوا ويتوبوا ويجدّوا، وليعترفوا بتقصيرهم وتضييعهم، فلعلّ رحمة الله تدركهم، ولا يفوتهم مركب الرجاء، ليلتحقوا بموكب العطاء الإلهيّ غير المحدود.
عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أُعْطِيَتْ أُمَّتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أُمَّةُ نَبِيٍّ قَبْلِي... وَأَمَّا الْخَامِسَةُ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ، غُفِرَ لَهُمْ جَمِيعًا». فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْلَةَ الْقَدْرِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْعُمَّالِ إِذَا فَرَغُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وُفُّوا؟»[3].
[1] سورة البقرة، الآية 185.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص165.
[3] الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، مصدر سابق، ص131.
192
184
الموعظة التاسعة والعشرون: وداع شهر الله
فقد ظنّ الرجل أنّها ليلة القدر الّتي يُغفَر فيها لجميع الناس، فأجابه رسول الله بأنّها الليلة الأخيرة، مشبِّهًا لها بموعد انتهاء العامل من عمله؛ فالعامل عادةً يُعطَى أجرته أو نصيبه بعد انتهائه وفراغه من العمل، وفي ليلة العيد، يكون المؤمن الصائم قد انتهى من عمله العباديّ، وحان وقت الجائزة والمكافأة الربّانيّة.
يوم العيد يوم حصاد الجوائز
العيد هو يوم الحصاد والجوائز، لأولئك الّذين عملوا، فقُبِلَت أعمالهم. وسُمِّيَت ليلة العيد بليلة الجائزة.
فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «... فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْفِطْرِ، سُمِّيَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْجَائِزَةِ. فَإِذَا كَانَتْ غَدَاةُ الْفِطْرَةِ، بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَلَائِكَةَ فِي كُلِّ الْبِلَادِ، فَيَهْبِطُونَ [عَلَى] إِلَى الْأَرْضِ، فَيَطُوفُونَ إِلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَيُنَادُونَ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ جَمِيعُ مَنْ خَلَقَ اللهُ إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، فَيَقُولُونَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، اخْرُجُوا إِلَى رَبِّكُمْ، رَبٍّ كَرِيمٍ، يُعْطِي الْجَزِيلَ، وَيَغْفِرُ الْعَظِيمَ. فَإِذَا بَرَزُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا مَلَائِكَتِي، مَا جَزَاءُ الْأَجِيرِ إِذَا عَمِلَ عَمَلَهُ؟ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا، جَزَاؤُهُ أَنْ تُوَفِّيهِ أَجْرَهُ». قَالَ: «فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ مَلَائِكَتِي، أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ ثَوَابَهُمْ عَنْ صِيَامِهِمْ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِمْ، رِضَائِي وَمَغْفِرَتِي. وَيَقُولُ جَلَّ جَلَالُهُ: يَا عِبَادِي، سَلُونِي، فَوَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَا تَسْأَلُونِّي الْيَوْمَ شَيْئًا فِي جَمْعِكُمْ لِآِخِرَتِكُمْ إِلَّا أَعْطَيْتُكُمْ، وَلِدُنْيَاكُمْ إِلَّا نَظَرْتَ لَكُمْ. وَعِزَّتِي، لَأَسْتُرَنَّ عَلَيْكُمْ عَثَرَاتِكُمْ
193
185
الموعظة التاسعة والعشرون: وداع شهر الله
مَا رَأَيْتُمُونِي. وَعِزَّتِي، لَا أُخْزِيَنَّكُمْ وَلَا أَفْضَحَنَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِ الْخُلُودِ، انْصَرِفُوا مَغْفُورًا لَكُمْ، قَدْ أَرْضَيْتُمُونِي فَرَضِيتُ عَنْكُم...»[1].
يوم العيد يوم تذكُّر لا يوم غفلة
عيد الفطر السعيد في ثقافتنا الإسلاميّة، ليس يومًا للَّهو واللعب والبطالة، أو لارتكاب الحرام واقتحام الموبقات، كما تفعل بعض الأمم في أعيادها؛ وإنّما لهذا اليوم -مضافًا إلى الفرحة واللقاءات الاجتماعيّة السعيدة وصلة الأرحام والتصدُّق على الفقراء والتوسعة على العيال وغيرها من مظاهر العيد- دلالات وعِبَر ودروس، ومواطن ينبغي للمؤمن أن يتذكَّر الله والآخرة فيها.
رُوِيَ عن الإمام الصادق (عليه السلام): «خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) لِلنَّاسِ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ يَوْمَكُمْ هَذَا يَوْمٌ يُثَابُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، وَيَخْسَرُ فِيهِ الْمُسِيئُونَ، وَهُوَ أَشْبَهُ يَوْمٍ بِيَوْمِ قِيَامَتِكُمْ؛ فَاذْكُرُوا بِخُرُوجِكُمْ مِنْ مَنَازِلِكُمْ إِلَى مُصَلَّاكُمْ خُرُوجَكُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّكُمْ، وَاذْكُرُوا بِوُقُوفِكُمْ فِي مُصَلَّاكُمْ وُقُوفَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكُمْ، وَاذْكُرُوا بِرُجُوعِكُمْ إِلَى مَنَازِلِكُمْ رُجُوعَكُمْ إِلَى مَنَازِلِكُمْ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. وَاعْلَمُوا، عِبَادَ اللهِ، أَنَّ أَدْنَى مَا لِلصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ أَنْ يُنَادِيَهُمْ مَلَكٌ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: أَبْشِرُوا عِبَادَ اللهِ، فَقَدْ غُفِرَ لَكُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَكُونُونَ فِيمَا تَسْتَأْنِفُون»[2].
[1] الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، مصدر سابق، ص127.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص100.
194
186
الموعظة الثلاثون: عيد الفطر يوم الجائزة
الموعظة الثلاثون: عيد الفطر يوم الجائزة
1. العيد في الإسلام
2. ليلة العيد: طوبى لمَن أحياها!
3. آداب العيد وسننه
هدف الموعظة
تعرُّف حقيقة العيد في الإسلام، وأهمّيّة ليلته وعظمتها، وبعض آدابه وسننه.
تصدير الموعظة
الإمام الصادق (عليه السلام): «خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) لِلنَّاسِ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ يَوْمَكُمْ هَذَا يَوْمٌ يُثَابُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، وَيَخْسَرُ فِيهِ الْمُسِيئُونَ»[1].
[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص160.
195
187
الموعظة الثلاثون: عيد الفطر يوم الجائزة
العيد في الإسلام
العيد شعيرةٌ إلهيّةٌ، ومظهرٌ من مظاهر الدين، يتضمّن معانٍ عظيمة وجليلة ينبغي أن تظهر وتبرز في المجتمع الإسلاميّ.
ومن معاني العيد، أنّه يعبّر عن العودة إلى الله تعالى، والرجوع إليه، وشكره على تمام العبادة وتوفيقه عبادَه للطاعة والقرب منه في الشهر الكريم؛ فحريٌّ -والحال هذه- بالمؤمن أن يُظهِر الفرح والسرور بعد هذا. وإلى هذا المعنى يشير أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اللهُ صِيَامَه، وشَكَرَ قِيَامَه»[1]، وعباداته ودعاءه، وغفر له ذنوبه، ونال رضاه، وتهيّأ لتكون أيّامه كلَّها أعيادًا؛ إذ «وكُلُّ يَوْمٍ لَا يُعْصَى اللهُ فِيهِ، فَهُوَ عِيدٌ»[2].
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله): «ينوّر شهرُ رمضان القلبَ، ويزيل الصدأَ والأدرانَ عن روح الإنسان وقلبه، بالصيام والذكر، وبالثناء الإلهيّ فيه، وتلاوة القرآن... والحقيقة، إنّ الإنسان المؤمن الصائم يبدأ، منذ ليلة القدر، سنةً جديدة. في ليلة القدر، يُكتَب له تقديره على مدى السنة، مِن قِبَل الكتّاب الإلهيّين. يدخل الإنسان في سنة جديدة ومرحلة جديدة، وتتوفّر له، في الحقيقة، حياة جديدة، وولادة جديدة. يبدأ السير في الطريق، مستعينًا بذخائر التقوى...
وإنّ صلاة يوم عيد الفطر، بمعنًى من المعاني، هي شكرٌ نقدّمه للنعمة الإلهيّة الّتي ننالها في شهر رمضان. إنّها شكرُ هذه الولادة
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص551، الحكمة 428.
[2] المصدر نفسه.
196
188
الموعظة الثلاثون: عيد الفطر يوم الجائزة
الجديدة. نقول للباري، مرّات عدّة، في صلاة عيد الفطر: «أدخِلني في كلِّ خيرٍ أدخَلتَ فيه محمّدًا وآلَ محمّدٍ»؛ أدخِلنا جنّة الصفاء والإيمان والأخلاق والعمل، الّتي أدخلتَ فيها منتجَبيك. «وأخرِجني مِن كلِّ سوءٍ أخرجتَ منه محمّدًا وآلَ محمّدٍ (صلواتك عليه وعليهم)»[1] ؛ أخرِجنا من جحيم الأعمال الرذيلة والأخلاق القبيحة والعقيدة المنحرفة، الّتي حفظْتَ وصنْتَ منها هؤلاء الأجلّاء والأعزّاء في عالم الخلق. نرسم لأنفسنا هذا الهدف الكبير في يوم عيد الفطر، ونطلبه من الله، ويقع علينا، طبعًا، واجبُ السعي والجدّ، للبقاء على هذا الصراط المستقيم»[2].
ليلة العيد: طوبى لمَن أحياها!
ليلة العيد، هي من الليالي العظيمة الّتي لها فضلٌ كبير وثوابٌ جزيل، يجدر بالمؤمنين إحياؤها بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن وغيرها من القُرُبات، واغتنام أوقاتها؛ فإنّها تؤذِن بانتهاء شهر رمضان، الّذي ربّما لا نشهده في قابل.
عن الإمام عليّ (عليه السلام): «يُعْجِبُنِي أَنْ يُفَرِّغَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ فِي السَّنَةِ أَرْبَعَ لَيَالٍ: لَيْلَةَ الْفِطْرِ، وَلَيْلَةَ الْأَضْحَى، وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَأَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ»[3].
وقد «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لَا يَنَامُ ثَلَاثَ لَيَالٍ: لَيْلَةَ ثَلَاثٍ
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص529.
[2] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في عيد الفطر السعيد، بتاريخ 20/09/2009م.
[3] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، مصدر سابق، ص852.
197
189
الموعظة الثلاثون: عيد الفطر يوم الجائزة
وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَيْلَةَ الْفِطْرِ، وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ»، كما عن الإمام الرضا (عليه السلام)[1].
بعض أعمال ليلة العيد[2]:
الأوّل: الغسل إذا غربت الشمس.
الثاني: إحياؤها بالصلاة والدعاء والاستغفار والبيتوتة في المسجد.
الثالث: أن يقول في أعقاب صلوات المغرب والعشاء والصبح، وعقيب صلاة العيد: «الله أَكْبَرُ، الله أَكْبَرُ، لا إِلهَ إِلّا الله، وَالله أَكْبَرُ، الله أَكْبَرُ، وَللهِ الحَمْدُ، الحَمْدُ للهِ عَلى ما هَدانا، وَلهُ الشُّكْرُ عَلى ما أَوْلانا».
الرابع: أن يرفع يدَيه إلى السماء إذا فرغ مِن فريضة المغرب ونافلته، ويقول: «يا ذا المَنِّ وَالطَّوْلِ، يا ذا الجُودِ، يا مُصْطَفِيَ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَناصِرَهُ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاغْفِرْ لِي كُلَّ ذَنْبٍ أَحْصَيْتَهُ، وَهُوَ عِنْدَكَ فِي كِتابٍ مُبِينٍ».
ثمّ يسجد، ويَقول في سجوده مئةَ مرةٍ: «أتُوبُ إِلى اللهِ»، ثمّ يسأل الله تَعالى ما يشاء يقضي، إن شاء الله تعالى.
وعلى رواية: يسجد بعد صلاة المغرب، ويقول: «يا ذا الحَوْلِ، يا ذا الطَّوْلِ، يا مُصْطَفِيًا مُحَمَّدًا وَناصِرَهُ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاغْفِرْ لِي كُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ وَنَسِيتُهُ أَنا وَهُوَ عِنْدَكَ فِي كِتابٍ مُبِينٍ. ثمّ قل مئةَ مرةٍ: أَتُوبُ إِلى اللهِ».
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج88، ص123.
[2] انظر: الشيخ عبّاس القمّيّ، مفاتيح الجنان، أعمال ليلة عيد الفطر.
198
190
الموعظة الثلاثون: عيد الفطر يوم الجائزة
الخامس: زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ زَارَ قَبْرَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) لَيْلَةً مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ... لَيْلَةَ الْفِطْرِ، وَلَيْلَةَ الْأَضْحَى، وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ».
وغيرها من الأعمال الّتي تُطلَب من كتب الأدعية والأعمال.
آداب العيد وسننه[1]
من نظر إلى ما جاء في يوم العيد من آداب وسنن، يعلم أنّه ليس يومَ لهوٍ ولعبٍ، ولا يوم ترف وسرف، بل هو يوم السرور برضى الرحمن، يوم الحمد والشكر لله، ويوم التقرّب إليه سبحانه، يوم توبة العباد إلى ربّهم، وعنايته تعالى بقَبول توبتهم. فهذا اليوم، من أوّله إلى آخره، يدور مدار الله والتقرّب إليه.
الأوّل: التكبير بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العيد، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «زَيِّنُوا العِيدَين بِالتَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّقْدِيسِ»[2].
الثاني: الدعاء بعد فريضة الصبح بـ: «اللَّهُمَّ، إنّي تَوَجَّهْتُ إليك بِمُحَمَّد إمامي...»، وقد أُورِد هذا الدعاء بعد صلاة العيد[3].
الثالث: الغسل، ووقته من الفجر إلى حين أداء صلاة العيد.
الرابع: تحسين الثياب، واستعمال الطيب.
الخامس: الخروج لصلاة العيد بعد طلوع الشمس، والدعاء بما ورد من الأدعية الخاصّة في العيدَين.
[1] انظر: الشيخ عبّاس القمّيّ، مفاتيح الجنان، أعمال عيد الفطر.
[2] جلال الدين السيوطيّ، الجامع الصغير، مصدر سابق، ج2، ص32.
[3] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، مصدر سابق، ص655.
199
191
الموعظة الثلاثون: عيد الفطر يوم الجائزة
السادس: الإفطار أوّل النهار قبل صلاة العيد. والأفضل أن يفطر على التمر أو على شيءٍ من الحلوى.
السابع: الأُضحيّة، فعن الإمام عليّ (عليه السلام): «لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي الْأُضْحِيَّةِ، لَاسْتَدَانُوا وَضَحَّوْا؛ إِنَّهُ لَيُغْفَرُ لِصَاحِبِ الْأُضْحِيَّةِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا»[1].
الثامن: صلاة العيد، وهِيَ ركعتان، يقرأ في الأولى سورة «الحَمد» وسورة «الأعلى»، ويكبّر بعد القراءة خمس تكبيرات، ويقنُت بَعد كُلّ تكبيرة، ويقول: «اللَّهُمَّ، أَهْلَ الكَبْرِياءِ وَالعَظَمَةِ، وَأَهْلَ الجُودِ وَالجَبَرُوتِ، وَأَهْلَ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ...»
التاسع: زيارة الإمام الحسين (عليه السلام).
العاشر: قراءة دعاء الندبة.
لا بدّ من الالتفات إلى أنّ ما يناسب شكر الله على التوفيق لطاعة الله في شهر الله، هو كلّ ما ينبئ عن سموّ المسلم والمؤمن ونبله ورُقيّه، لا ما يؤدّي إلى تشويه هذا اليوم العظيم، ويُفسِد فرحة الفرحين، ويحطّ من قدر المسلمين وقيمتهم بممارسات وعادات فيها الكثير من الإساءة إلى الناس، كالمفرقعات وغيرها من وسائل الأذى والإزعاج.
ليبقى العيد يوم الفرح النبيل، تعالوا نبتعد عن كلّ ما يسيء إليه من الممارسات.
[1] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج2، ص440.
200
192