زاد عاشوراء للمحاضر الحسينيّ

الإصدار الحادي والعشرون


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2024-06

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين سيّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

عن الإمام الرضا (عليه السلام): «إنَّ المحرّم شهرٌ، كان أهلُ الجاهليّةِ يحرّمون فيه القتالَ، فاستُحِلَّت فيه دماؤنا، وهُتِكَت فيه حرمتُنا، وسُبيَ فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرِمَت النيرانُ في مضاربِنا، وانتُهِب ما فيها من ثقلِنا، ولم تُرعَ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حرمةٌ في أمرِنا»[1].

إنّ شهر مُحرَّم هو من الأشهر الحُرُم، الّتي كان أهلُ الجاهليّة يحرّمون فيها الحرب والقتال، لكنّ بني أُميّة لم يحفظوا لهذا الشهر حرمتَه؛ إذ أراقوا فيه دماء سيّد الشهداء (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه (عليهم السلام)! فكان لذلك حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً؛ لذا يتجدّد العزاء في كلّ عام، ويخيّم الحزن على القلوب، وتُذرَف الدموع على شهداء كربلاء، مواساةً للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم السلام)، وقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) السيّدة الزهراء (عليها السلام) بذلك، حين سألته: «يا أبتِ،

 

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، إيران - قمّ، 1417ه، ط1، ص190.

 

7


1

المقدّمة

فمَن يبكي عليه؟ ومَن يلتزم بإقامة العزاء له؟»، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «يا فاطمة، إنّ نساء أمّتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجدّدون العزاءَ جيلاً بعد جيلٍ في كلِّ سنة. فإذا كان القيامة، تشفعين أنت للنساء، وأنا أشفع للرجال، وكلّ مَن بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنّة»[1].

وإنّ مفهوم الإحياء لا يقتصر على إقامة مراسم العزاء فقط، بل لا بُدّ في تحقّقه من معرفة أهل البيت (عليهم السلام)، والاعتقاد الصحيح بهم، والإيمان الواعي بنهجهم، والاتّباع الدائم لهم؛ فهم آل الرسول (صلى الله عليه وآله) الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وولاة الأمر، وخلفاؤه على العباد والبلاد.

من هنا، وسعياً في اغتنام هذه المجالس الأليمة الّتي تهفو إليها قلوب الموالين والمحبّين في أقطار العالم الإسلاميّ، نضع هذا الإصدار العاشوارئيّ، والّذي يتضمّن عشر مواعظ ترتبط بالأولويّات الثقافيّة لهذا العام، بين أيدي المُبلِّغين والخطباء الكرام، ليكون مادّةً غنيّةً بين أيديهم، يستفيدون منها في عمليّة التبليغ، سائلين المولى قَبول الأعمال وعظيم الأجر والثواب.

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 


[1]  المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج44، ص293.

 

8


2

الموعظة الأولى: بين البصيرة والصبر

الموعظة الأولى: بين البصيرة والصبر

 

هدف الموعظة

بيان مفهوم البصيرة ودورها في التربية على الصبر.

محاور الموعظة

معنى البصيرة

مناشئ البصيرة

بين البصيرة والصبر

صبر المجتمع ببصيرته

تصدير الموعظة

الإمام الصادق (عليه السلام): «الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ، لَا يَزِيدُه سُرْعَةُ السَّيْرِ إلّا بُعْدًا»[1].

 


[1]  الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج1، ص43.

 

9


3

الموعظة الأولى: بين البصيرة والصبر

معنى البصيرة

البصيرة استشراف نتيجة الأمور والحوادث المتوقّعة قبل وقوعها، وتقييم ما تؤول إليها نتائجها، طبقاً لظروف المعيشة في الحاضر ومقاربتها مع الأيّام اللاحقة.

وفي توصيف البصيرة من زاوية أخرى، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله): «البصيرة تعني عدم فقدان الطريق، وعدم الاشتباه في تحديده، وعدم الابتلاء بالانحرافات والاعوجاجات، وعدم التأثّر بوساوس الخنّاسين، وعدم الخلط بين العمل والهدف، والصبر يعني الصمود، وكلّ جيل ينقل إلى الجيل اللاحق»[1].

أهمّيّة البصيرة

إنّ أبرز مميّزات صاحب البصيرة هو أنّه يصبح قادراً على تمييز الحقّ من الباطل، والصحيح من الغلط، وبين ما هو مستقيمٌ وما هو منحرفٌ، وما هو عدلٌ وما هو ظلمٌ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الْخَيْرُ مِنْه مَأْمُولٌ، والشَّرُّ مِنْه مَأْمُونٌ، إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ»[2]؛ وذلك أنّ صاحبَ البصيرة مستقيمٌ في فكره وفي عمله.

 

 


[1]  من كلمة له (دام ظله) في لقاء حشدٍ من أهالي قمّ المقدَّسة وعلماء الحوزة العلميّة، بتاريخ 09/01/2012م.

[2]  الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه - 1967م، ط1، ص305، الخطبة 193 ومن خطبة له (عليه السلام) يَصِفُ فيها المتّقين.

 

10


4

الموعظة الأولى: بين البصيرة والصبر

يقول تعالى: ﴿أَفَمَن يَمۡشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجۡهِهِۦٓ أَهۡدَىٰٓ أَمَّن يَمۡشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰط مُّسۡتَقِيم﴾[1].

ومعنى الآية «منكِّساً رأسه إلى الأرض، فهو لا يبصر الطريق، ولا من يستقبله، ولا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، فيعثر كلّ ساعة، ويخرّ على وجهه؛ لوعورة طريقه، واختلاف أجزائه، انخفاضاً وارتفاعاً. فحاله نقيضُ حالِ مَن يمشي سويّاً؛ ولذلك قابله بقوله تعالى: ﴿أَمَّن يَمۡشِي سَوِيًّا﴾ مستوياً قائماً، يبصر الطريق وجميع جهاته، فيضع قدمه سالِماً من العثار والخرور ﴿عَلَىٰ صِرَٰط مُّسۡتَقِيم﴾، مستوي الأجزاء والجهة. وقيل: يُراد الأعمى الّذي لا يهتدي إلى الطريق، فيعتسّف، فلا يزال ينكبّ على وجهه، وأنّه ليس كالرجل السويّ الصحيحِ البصر، الماشي في الطريق، المهتدي له»[2].

مناشئ البصيرة

1. الاهتداء بالقرآن وسنة النبيّ وآله

في وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام): «يا هِشَامُ، مَا بَعَثَ اللَّه أَنْبِيَاءَه ورُسُلَه إِلَى عِبَادِه إلّا لِيَعْقِلُوا عَنِ اللَّه؛ فَأَحْسَنُهُمُ اسْتِجَابَةً أَحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً، وأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللَّه أَحْسَنُهُمْ عَقْلًا، وأَكْمَلُهُمْ عَقْلًا أَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ. يَا هِشَامُ، إِنَّ لِلَّه عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً، وحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ والأَئِمَّةُ (عليهم السلام)»[3].

 


[1]  سورة الملك، الآية 22.

[2] الكاشانيّ، الملّا فتح الله، زبدة التفاسير، تحقيق ونشر مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، إيران - قمّ، 1423ه، ط1، ج7، ص133.

[3]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص16.

 

11


5

الموعظة الأولى: بين البصيرة والصبر

2. التجربة

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «التَّجَارِبُ عِلْمٌ مُسْتَفَادٌ»[1]، وعنه (عليه السلام) أيضاً: «مَن لَم يُجَرِّبِ الاُمورَ خُدِعَ، ومن صارع الحقَّ صُرِعَ»[2].

3. توطيد العلاقة بالله

قال سبحانه: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ﴾[3].

وقال: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ ﴾[4]، والتقوى والورع بصيرة.

وقال: ﴿إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدى﴾[5].

ففي هذه الآيات تأكيد على أنّ علاقة المرء بالله لها تأثير مباشر على نظرته في هذه الحياة، فيصبح أكثر هدىً ورشاداً في مسير حياته.

4. المعرفة

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «العالِمُ بِزَمانِهِ لا تَهجُمُ عَلَيهِ اللَّوابِسُ»[6]. واللوابس هي الملتبسات من الأمور، الّتي تحصل نتيجة عدم وضوح الرؤية، وغياب القدرة على التشخيص.

 


[1] الليثيّ الواسطيّ، الشيخ كافي الدين أبو الحسن عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص43.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص420.

[3]  سورة العنكبوت، الآية 69.

[4]  سورة البقرة، الآية 282.

[5] سورة الكهف، الآية 13.

[6]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص27.

 

12


6

الموعظة الأولى: بين البصيرة والصبر

5. التقوى

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ تَقْوَى اللَّه دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ، وبَصَرُ عَمَى أَفْئِدَتِكُمْ، وشِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ، وصَلَاحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ، وطُهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِكُمْ، وجِلَاءُ عَشَا أَبْصَارِكُمْ، وأَمْنُ فَزَعِ جَأْشِكُمْ، وضِيَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِكُمْ»[1].

بين البصيرة والصبر

لطالما كان الصبر نتاج تجربة الإنسان، أو علمه ومعرفته بحقائق الأمور، فكلّما كان المرء أكثر إدراكاً ووعياً كان أشدّ قوّة وصبراً؛ ولأجل ذلك نجد المرءَ صاحبَ المعرفة والتجربة في الحياة أكثرَ ثباتاً ممّن لم يخض غمار الحياة بعد، ولم يتعرّف صعوباتها، ولم يعِش شدائدها ومآل أمورها؛ وهذا يعني أنّ البصيرة الّتي تعدّ زبدة معرفة الإنسان، تجعله أكثر إدراكاً للأمور، ما يُحفّزه على التأنّي والتصبّر. ولنضرب لذلك مثلاً، المؤمن الّذي آمن بعقله وقلبه بأنّ الله سيجازيه خيراً وثواباً إذا ما قام بفعلٍ ما، ولو كان شاقّاً ومُجهِداً، فإنّه في هذه الحال نجده أكثر صبراً وتحمّلاً لمشاقّ ما يقوم به في هذا العمل؛ وذلك أنّه يدرك ويعي بأنّ شيئاً عظيماً سيلقاه جرّاء فعله هذا. أمّا الإنسان الّذي لا يؤمن بذلك، فإنّه سيجده صعباً وشاقّاً، ولا يتحمّل ذلك البتة، بل لا يقدم على فعله أبداً، تماماً كالغافل، فإنّه يجد الصلاة شاقّة وصعبة؛ أمّا الخاشعون فإنّها لهم محطّة راحة وسكينة ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ﴾[2].

 

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص313، الخطبة 198.

[2]  سورة البقرة، الآية 45.

 

13


7

الموعظة الأولى: بين البصيرة والصبر

من هنا، يستطيع المرء أن يقول: إنّ البصيرة يلازمها الصبر، أو أنّ الصبر من رواشح البصيرة لدى الإنسان.

ولو أردنا النظر في مصداقٍ من مصاديق ذلك، لوجدنا أنّ قادةً كالإمام الخمينيّ (قدس سره) والإمام الخامنئيّ (دام ظله)، وقادة محور مقاومة الاستكبار، كان لديهم وعيٌ تامّ بأنّ الكيان الصهيونيّ يمكن إزالته ببذل الجهود والإصرار والوحدة والاعتداد، وأنّه ليس ثمّة شيء مستحيل إذا ما وُجِدت الإرادة؛ ولأجل ذلك نجد أنّ بذور المقاومة ابتدأت بسيطةً ومحدودةً من حيث المادّة والاستعدادات العسكريّة، ولكن مع البصيرة تلك الّتي لازمها الصبر، وصل الحال إلى أن تكون اليوم رأسَ الحربة الأساس في مواجهة الكيان الصهيونيّ، بل وأمريكا في المنطقة.

فلولا الصبر المقارن للبصيرة لما استطاعت المقاومة الوصول إلى ما وصلت إليه.

صبر المجتمع ببصيرته

كما أنّ البصيرة الّتي كانت بذرة الاستمرار لدى قادة نهج الولاية من الجمهوريّة الإسلاميّة، إلى نشوء محور المقاومة، الّذين استطاعوا من خلالها قيادة حركة هذا النهج، كذلك هي لدى القاعدة الشعبيّة، فقد كانت القاعدة الشعبيّة الّتي احتضنت هذه الحركة المباركة على بصيرة تامّة بمجريات الأمور وأفق المستقبل المنظور، ولذلك فقد تحمّلت الصعاب، وصبرت على كلِّ أنواع التضييق الّذي كانت وما

 

 

14


8

الموعظة الأولى: بين البصيرة والصبر

تزال تمارسه قوى الاستكبار العالميّ، عسكريّاً وإعلاميّاً واقتصاديّاً، ومع ذلك لم تنجح في مآربها. ومن هنا، ندرك أنّ صبر الشعوب الممانعة، كان أساساً من أسس نجاح هذه الحركة المباركة الّتي قادها الإمام الخمينيّ (قدس سره).

تجليّات الصبر والبصيرة في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)

في جانبٍ لافت من جوانب ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، أنّ ثورته المباركة قد أضاءت على عظم ما كان عليه من بصيرة وصبر، حتّى استطاع من خلال ذلك أن يحوّل معركة غير متوازنة القوى عسكريّاً البتّة، إلى ثورة تاريخيّة يتحدّث عنها العالم كلّه، وبما أراده هو لا بما أراده أعداؤه، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله): «إنّ كثيرين كانوا يأتون الإمام الحسين ويلومونه على مقاومته، وهؤلاء كانوا من عظماء الإسلام، لكنّهم أساؤوا الفهم، وغلبت عليهم نوازع الضعف البشريّ، لكنّ الإمام الحسين قد صبر ولم يغلب، وجميع من كانوا معه ظفروا بالنصر في هذا الصراع الباطنيّ والمعنويّ، لقد حدا صمودهم وإصرارهم على الاستقامة بالآلاف على مرّ التاريخ لاستلهام الدرس منهم واقتفاء الدرب نفسها»[1].

أنصار المهديّ (عليه السلام) لا تضرّهم الفتنة

عن الإمام الباقر (عليه السلام): «إِنَّمَا مَثَلُ شِيعَتِنَا مَثَلُ أَنْدَرٍ -يَعْنِي بَيْدَرًا فِيهِ طَعَامٌ- فَأَصَابَهُ آكِلٌ فَنُقِّيَ، ثُمَّ أَصَابَهُ آكِلٌ فَنُقِّيَ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهُ مَا

 

 


[1] من كلمة للإمام الخامنئيّ (دام ظله) بمحرم 1443ه.

 

15


9

الموعظة الأولى: بين البصيرة والصبر

لَا يَضُرُّهُ الْآكِلُ. وَكَذَلِكَ شِيعَتُنَا يُمَيَّزُونَ وَيُمَحَّصُونَ، حَتَّى تَبْقَى مِنْهُمْ عِصَابَةٌ لَا تَضُرُّهَا الْفِتْنَة»[1].

 

 


[1]  النعمانيّ، الشيخ ابن أبي زينب محمّد بن إبراهيم، الغيبة، تحقيق فارس حسون كريم، أنوار الهدى، إيران - قمّ، 1422ه، ط1، ص211.

 

 

16


10

الموعظة الثانية: النصرة المجتمعيّة

الموعظة الثانية: النصرة المجتمعيّة

هدف الموعظة

بيان مفهوم تناصر المؤمنين ومصاديقه.

محاور الموعظة

العقل يرفض الظلم

مفهوم التناصر في الإسلام

تعدّد مصاديق النصرة

نصرة غزّة وفلسطين

تصدير الموعظة

الإمام الصادق (عليه السلام): «ما من مؤمنٍ يعين مؤمناً مظلوماً، إلّا كان أفضلَ من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمنٍ ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته، إلّا ونصره الله في الدنيا والآخرة، وما من مؤمنٍ يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته، إلّا خذله الله في الدنيا والآخرة»[1].

 


[1]  الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، ثواب الأعمال، تقديم السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1368ش، ط2، ص148.

 

17


11

الموعظة الثانية: النصرة المجتمعيّة

العقل يرفض الظلم

من ميزات العقل البشريّ الّذي على أساسه يوجّه التكليف الإلهيّ إلى الإنسان، ويُجازى ويُحاسَب ويُعاقَب ويُلام ويُسأَل، هو قدرته على تمييز الحقّ من الباطل، وتمييز القبيح من الحسن، وهذا من الكمالات الّتي بها كُرِّم الإنسانُ على غيره من المخلوقات.

وإنّ إدراك الحسن والقبح العقليَّين لا يرتبط بدين المرء، فجميع بني آدم سواءٌ في ذلك؛ ولأجل ذلك نجد أنّ العقلاء في أصقاع العالم كلّه يتّفقون على مصاديق الأخلاق الحسنة، ويميّزونها عن الأخلاق السيّئة، فالكذب قبيح والصدق حسن أينما كان في العالم.

ومن أبرز ما يتّفق عليه بنو آدم من دون حدودٍ زمانيّةٍ ولا مكانيّةٍ قبح الظلم، فالظلم في نظرهم أمر قبيح وسيّء؛ ولذلك تأتي نصرة المظلوم أيضاً في عداد الأمور الحسنة الّتي تعارف الناس حسنَها عبر التاريخ البشريّ، ويعدّون ذلك من الكمالات الّتي يتّصف بها أصحاب الهمم والنخوة والإنسانيّة. ولقد كان أشدّ مصاديق الظلم عبر التاريخ، هو ظلم الحكّام وأصحاب السلطة والنفوذ والقوّة، ويتجلّى ذلك في عصرنا الحاضر بأجلى صوره ما هي عليه بعض الدول الاستكباريّة كأمريكا، وكذلك الكيان الصهيونيّ المتغطرِس.

 

مفهوم التناصر في الإسلام

قال الله تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآء فَأَلَّفَ

 

18

 

 


12

الموعظة الثانية: النصرة المجتمعيّة

بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنا﴾[1]، هذه الآية المباركة تشير إلى حالةٍ أراد الله تعالى أن يكون عليها المؤمنون، وهي حالة الوئام وتوافق القلوب، الفرد تجاه الفرد، والجماعة تجاه الجماعة، ليكونوا صفّاً واحداً في السرّاء والضرّاء في مواجهة الصعاب والشدائد، الّتي تحلّ بهم أو ببعضهم، ومن أبرز مصاديق الاهتمام المتبادَل ين جماعات المؤمنين، هو التناصر في ما بينهم؛ أي أن ينصر بعضهم بعضاً إذا ما حلّت بهم النكبات.

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يقول الله عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي، لأنتقمَنّ من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمَنّ ممّن رأى مظلوماً فقدر أن ينصرَه فلم ينصره»[2]، وقد أوصى أميرُ المؤمنين (عليه السلام) ولدَيه الإمامين الحسنَ والحسينَ (عليهما السلام)، فقال: «وكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً ولِلْمَظْلُومِ عَوْناً»[3].

وقد ورد الحثّ على إعانة المظلوم في العديد من الأدعية والروايات، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «اللَّهُمَّ، إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ مَظْلُومٍ ظُلِمَ بِحَضْرَتِي فَلَمْ أَنْصُرْه»[4].

 


[1]  سورة آل عمران، الآية 103.

[2]  المتّقي الهنديّ، علاء الدين عليّ المتقيّ بن حسام الدين، كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، مؤسّسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1409هـ - 1989م، لا.ط، ج3، ص506.

[3]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص421، الكتاب 47.

[4]  الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، دفتر نشر الهادي، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص166، الدعاء 38.

 

19


13

الموعظة الثانية: النصرة المجتمعيّة

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَحْسَنُ الْعَدْلِ نُصْرَةُ الْمَظْلُومِ»[1]، و«إِذَا رَأَيْتَ مَظْلُوماً، فَأَعِنْهُ عَلَى الظَّالِمِ»[2].

التناصر في حياة المؤمنين

إنّ التناصر بين المؤمنين وأبناء الأمة إنّما هو مطلوب لهدفٍ سامٍ، ألا وهو حفظ الأمّة وأبنائها، وإلا فإنّ استقالة أفراد الأمّة عن هذا المفهوم، يؤدّي تلقائيّاً إلى أن تصبح الأمّة ضعيفة سهلة الاختراق، وسهلة المنال لكلّ طامع، وفي المقابل إنّ نصرة الأمّة لبعضها بعضاً، يجعل أبناءها أشدّ قوّة، بل يحقّق لهم النصر والغلبة على المعتدين مهما كانوا أشدّاء وأقوياء، قال سبحانه: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ﴾[3]؛ ولهذا عُدَّت النصرة من واجبات كلّ مسلم تجاه أخيه المسلم.

تعدّد مصاديق النصرة

إنّ نصرة المؤمنين بعضهم بعضاً، أفراداً كانوا أم جماعات، له مصاديق متعدّدة، في الجانب الاقتصاديّ والاجتماعيّ والعسكريّ والثقافيّ، ويظهر ذلك في تقديم يد العون والمساعدة والمؤازرة بينهم، من كبير الأمور إلى أبسطها، فتارة ينصر المؤمنُ أخاه في أن يُبعده عن الظلم إذا رآه ظالماً، وتارة يمدّ له يد العون إذا احتاج أو افتقر، وتارة أخرى يدفع عنه كيد المعتدين بالجهاد والقتال في سبيل الله، فكلّ ذلك يدخل في مفهوم النصرة.


 


[1] الليثيّ الواعظيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص113.

[2]  المصدر نفسه، ص133.

[3] سورة الحجّ، الآية 40.

 

20


14

الموعظة الثانية: النصرة المجتمعيّة

وممّا أمر به النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمّته نصرة المظلوم بصرف النظر عن لونه وجنسه، في الرواية عن الإمام الصادق، عن أبيه (عليهما السلام): «أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمرهم بسبع، ونهاهم عن سبع؛ أمرهم بعيادة المرضى، واتّباع الجنائز، وإبرار القسم، وتسميت العاطس، ونصر المظلوم، وإفشاء السلام، وإجابة الداعي...»[1].

فضل نصرة المسلمين

لقد حثّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) على نصرة المسلمين بعضهم بعضاً في مواقف عديدة، ومن ذلك ما رُوي عنه قوله (صلى الله عليه وآله) وهو يبيّن فضل الانتصار للآخرين: «ما مِن أحدٍ يخذل مسلماً في موطنٍ يُنتقَص فيه من عرضه، ويُنتهَك فيه من حُرمته، إلّا خذله الله في موطنٍ يحبّ فيه نصرته، وما من امرئٍ ينصر مسلماً في موطنٍ يُنتقَص فيه من عرضه، ويُنتهَك فيه من حرمته، إلّا نصره الله في موطنٍ يحبّ فيه نصرته»[2].

نصرة غزّة وفلسطين

إنّ ما ينطبق على الفرد المسلم تُجاه أخيه المسلم، ينطبق كذلك على الجماعة عامّة، وحينها يجب على جماعة المسلمين أن ينصروا أخوتهم المسلمين في حال وقعت بهم بليّة أو اعتدى عليهم معتدٍ آثم؛ ولأجل ذلك تقع بين أيدي المسلمين اليوم قضيّة كبرى يرَون

 

 


[1]  الحميريّ القمّيّ، قرب الاسناد، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، إيران - قمّ، 1413ه، ط1، ص71.

[2] البيهقيّ، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى، دار الفكر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج8، ص167.

 

 

21


15

الموعظة الثانية: النصرة المجتمعيّة

فيها أخوانهم في فلسطين كيف يعانون ويُعتدى عليهم، وتُغتَصب أرضُهم ومقدّساتهم، ويُقتَل رجالهم ونساؤهم وأطفالهم، وتُدمَّر مرافق حياتهم من كلّ جانب، فلا بدّ حينها أن تكون نصرتهم واجبة على الأمّة عامّة.

إنّ نصرة المسلمين لفلسطين من حيث كونها قضيّة شعبٍ مظلوم، ومن حيث كونها قضيّة مقدّسات إسلاميّة معتدى عليها، أمر واجب، لا ريب في ذلك ولا شكّ، ولنصرتها من قبل أبناء الأمّة أشكال متعدّدة ومختلفة، كلّ على قدرة استطاعته، فيقدّم ما يستطيع فعله ويبذل قصارى جهده في ذلك، سواءٌ أكان بالمال أو السلاح أو الكلمة أو السياسة، فالمهمّ هو أن يقدّم المرء شيئاً.

بِمَ ننصر فلسطين؟

لقد قام الإمام الخمينيّ (قدس سره) بإظهار دعمه للقضيّة الفلسطينيّة علناً، وأعدّ لذلك يوماً خاصّاً في كلّ آخر أسبوع من شهر رمضان المبارك، ليكون منبراً يرتفع فيه صوت المناداة بأحقيّة الفلسطينيين وباطل المحتلّ الصهيونيّ.

بل لم يكتفِ الإمام بإعلان ذلك، فقد أفتى بوجوب المشاركة في إحياء هذا اليوم. والّذي يتمّ من خلال أيّ وسيلة تسهم في بيان القضيّة الفلسطينيّة المحقّة، ومظلوميّة الشعب الفلسيطينيّ، وبيان مدى غطرسة وإجرام الصهاينة في غزّة وغيرها من أرض فلسطين.

 

 

22

 

 


16

الموعظة الثانية: النصرة المجتمعيّة

مقاطعة البضائع الداعمة للصهيونيّة

قد يأخذ مسار نصرة فلسطين وغزّة شكلاً آخر، يتمثّل في مقاطعة كلّ ما يدعم يد الحقد الصهيونيّة الّتي تفتك وتقتل أبناء فلسطين، وعلى رأس ذلك هو مقاطعة شراء واستهلاك المواد الّتي تنتجها شركات عالميّة ثبت دعمها للكيان الصهيونيّ بالمال، فإنّ ذلك له نتائج شديدة اقتصاد الكيان الصهيونيّ الغاصب.

يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله): «ينبغي أن يضيّق الشعبُ والمقاومون والمنظّماتُ الفلسطينيّة بجهادهم وتضحياتهم الخناقَ على العدوّ الصهيونيّ والولايات المتّحدة. هذا هو السبيل الوحيد، وعلى العالم الإسلاميّ كلِّه أن يساعدَهم. يجب أن تساند الشعوب المسلمة كلُّها الفلسطينيّين وتدعمهم. هذا هو العلاج»[1].

 


[1]  من كلامٍ له (دام ظله)، بتاريخ 05/02/2020م.

 

23


17

الموعظة الثالثة: جهاد التبيين في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

الموعظة الثالثة: جهاد التبيين في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

هدف الموعظة

بيان أهمّيّة جهاد التبيين ومواضعه في نهضة الإمام الحسين (عليه السلام).

محاور الموعظة

هدف الثورة الحسينيّة (عليه السلام)

نماذج من جهاد التبيين في خطابات الإمام وكلماته

تصدير الموعظة

الإمام الصادق (عليه السلام): «وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ، لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضلالَةِ»[1].

 

 


[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، تحقيق حسن الموسويّ الخرسان، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1407ه‏، ط4، ج‏6، ص113.

 

 

24


18

الموعظة الثالثة: جهاد التبيين في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

هدف الثورة الحسينيّة (عليه السلام)

لم تكن حركة الإمام الحسين (عليه السلام) منذ أوّل انطلاقتها وحتّى شهادته المباركة حركةً صامتة، بل كانت مليئةً بالتوعية والتبيين، ولأجل ذلك نجد الإمام (عليه السلام) قد أكثر من كلماته وخطاباته ومحاوراته مع من حوله من الناس، سواءٌ أكانوا قريبين منه أم أعداءً، واستمرّ في ذلك إلى آخر لحظات حياته المباركة.

ولو قمنا بتتبّع ما تحدّث به (عليه السلام)، أكان في المدينة أو في مكّة أو في كربلاء، لوجدنا أنّ قوام ما كان يذكره على لسانه الشريف هو التبيين. ولم يكن تبيينه عاديّاً، إنّما كان تبييناً بجهاد، وذلك أنّ كلّ كلمة كان ينطق بها (عليه السلام)، كان لها وقع من جهةٍ على من يسمعها، ومن جهةٍ أخرى كانت مصدر خطرٍ عليه؛ لأنّ العدوَّ الّذي يواجهه هو عدوّ شيطانيّ لا يعرف الرحمة البتّة، وإلى هذا يشير الإمام الصادق (عليه السلام) في: «وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ، لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضلالَةِ»[1]، فقد جاهد ليبيّن.

نماذج من جهاد التبيين في خطابات الإمام وكلماته

يمكن تقسيم جهاد تبيين الإمام الحسين (عليه السلام) إلى ثلاث مراحل:

1. في المدينة

وَرَد أنّه بعد موت معاوية بن أبي سفيان، وَصلَ إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في المدينة المنوّرة -وقد عَيّنه فيها معاوية- طلبُ

 

 


[1]  المصدر نفسه.

 

 

25


19

الموعظة الثالثة: جهاد التبيين في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

يزيد بن معاوية بِأَخْذ البيعة مِن الحسين (عليه السلام)، ولم يرخّص له في التأخير عن ذلك. رَفض الإمام الحسين (عليه السلام) أن تكون بيعته سرّاً، وقال: «إنّي لا أراك تقنع بِبَيعتي لِيَزيد سرّاً حتّى أبايعه جهراً، فَيعرف ذلك الناس»، فَقال له الوليد: أجل. فَقال الحسين (عليه السلام): «فتصبح وترى رأيك في ذلك»، فَقال له الوليد: انصرِف على اسم الله تعالى حتّى تأتينا مع جماعة الناس. إلّا أنّ مروان بن الحكم لم يرضَ بذلك، وطلب البيعة فوراً، مُهدِّداً الإمامَ الحسين (عليه السلام) بالقتل! فَردَّ الإمام (عليه السلام): «إنّا أهل بيت النبّوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، مُعلَنٌ بالفسق، وَمِثلي لا يبايع مِثله»[1].

نلاحظ في هذا الموقف كيف أنّ الإمام أوضح وبيّن الحال الّذي هو عليها (عليه السلام)، والحال الّتي عليها يزيد بن معاوية من جهةٍ أخرى.

2. في مكّة المكرّمة

لقد مكث الإمام الحسين (عليه السلام) بعد مجيئه من المدينة إلى مكّة أشهراً عديدة، وكان غرضه من ذلك اغتنام فرصة الحجّ ولقاء أكبر عدد ممكن من المسلمين، من أصقاع العالم الإسلاميّ كلّه، ليبيّن أهداف مواجهته وحركته ضدّ يزيد بن معاوية، ما جعل يزيد وأعوانه في حالة غيظٍ وتذمّرٍ شديدين، ما دعا به إلى أن يأمر عمرو بن العاص، واليَه على مكّة، بملاحقة الإمام وقتله، ولو كان مُتعلِّقاً بأستار الكعبة!

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص325.

 

26


20

الموعظة الثالثة: جهاد التبيين في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

ومن أبرز ما جاء على لسانه الشريف في مكّة المكرّمة:

أ. قوله (عليه السلام): «خُطَّ الْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاة»[1]. وهو تبيينٌ لحقيقة الموت والتعامل مع الحياة الدنيا على أساس هذه الحقيقة، الّتي لا يمكن لأيّ إنسان أن يتفلّت منها، ما يحدو به أن يغتنم ما يقضيه من عمر في طاعة الله وملازمة الحقّ.

ب. قوله (عليه السلام): «مَنْ كَانَ بَاذِلاً فِينَا مُهْجَتَهُ، وَمُوَطِّناً عَلَى لِقَاءِ اللهِ نَفْسَهُ، فَلْيَرْحَلْ، فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحاً، إِنْ شَاءَ الله»[2]. وفي هذه العبارة إشارة إلى الصفات الّتي ينبغي أن يتحلّى بها من يلحق به ويصاحبه في مسيره إلى الكوفة، وقد وضع صفة البذل واليقين بلقاء الله كصفتين أساسيّتين.

ج. قوله (عليه السلام) في رسالته إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة: «أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي (صلى الله عليه وآله) وَأَبِي‏ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)»[3]. وقد أوضح الهدف الأساسيّ من ثورته المباركة، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

د. قوله للشاعر الفرزدق: «إنْ نَزَلَ الْقَضَاءُ بِمَا نُحِبُّ، فَنَحْمَدُ اللهَ عَلَى نَعْمَائِهِ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ عَلَى أَدَاءِ الشكْرِ، وَإِنْ حَالَ الْقَضَاءُ دُونَ الرجَاءِ، فَلَمْ يَبْعُدْ مَنْ كَانَ الْحَقَّ نِيَّتُهُ، وَالتقْوَى سِيرَتُه»[4].

 

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص367.

[2]  المصدر نفسه، ج44، ص367.

[3]  المصدر نفسه، ج44، ص330.

[4]  المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان العكبريّ البغداديّ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، دار المفيد، بيروت - لبنان، 1993م، ط2، ج2، ص67.

 

 

27


21

الموعظة الثالثة: جهاد التبيين في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

ه. قوله (عليه السلام): «لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ، رِضَا اللَّهِ رِضَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ»[1]؛ وفيه تأكيد على أنّ رضا الله والتسليم المطلق لإرادته سبحانه، وعدم الحياد قيد أنملة عن طريقه تعالى، يكون برضا أهل بيت محمّد (صلى الله عليه وآله).

3. في كربلاء

لقد كانت واقعة كربلاء مثقلةً بكلمات الإمام الحسين (عليه السلام) الّتي ألقى فيها الحجّة على من لقيه من جهة، وعلى أعدائه ممّن وقفوا بوجهه لقتاله من جهة أخرى:

أ. قوله (عليه السلام) في خطبته في جيش الحرّ: «فإنْ تمّمتُم عَلَيّ بيعتَكم تُصيبوا رشدَكم، فأنا الحسين بن عليّ (عليه السلام)، وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، نَفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فَلَكُم فِيَّ أُسوة»[2]. فهو بذلك ذكّرهم بهوّيته الّتي لا ينبغي لعاقلٍ أن يُنكر أبعادها.

ب. قوله (عليه السلام) لعُبيد الله بن الحرّ الجعفيّ في الطريق إلى كربلاء: «أَيُّهَا الرجُلُ، إِنَّكَ مُذْنِبٌ خَاطِئٌ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ آخِذُكَ بِمَا أَنْتَ صَانِعٌ إِنْ لَمْ تَتُبْ إِلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سَاعَتِكَ هَذِهِ فَتَنْصُرَنِي، ويَكُون جَدِّي (صلى الله عليه وآله) شَفِيعكَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَبَارَكَ

 


[1]  ابن نما الحلّيّ، مثير الأحزان، المطبعة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1369ه - 1950م، لا.ط، ص29.

[2]  الأزديّ، لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الأزديّ الغامديّ، مقتل الحسين (عليه السلام)، تعليق الحسن الغفاريّ، المطبعة العلميّة، إيران - قمّ، 1398ه، لا.ط، ص86.

 

28


22

الموعظة الثالثة: جهاد التبيين في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

وَتَعَالَى»، فَقَالَ: يَابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَاللهِ لَوْ نَصَرْتُكَ لَكُنْتُ أَوَّلَ مَقْتُولٍ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَلَكِنْ هَذَا فَرَسِي خُذْهُ إِلَيْكَ... فَأَعْرَضَ عَنْهُ الْحُسَيْنُ (عليه السلام) بِوَجْهِهِ، ثمّ قَالَ: «لَا حَاجَةَ لَنَا فِيكَ، وَلَا فِي فَرَسِكَ، ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدا﴾[1]»[2]، وهو بذلك قد حدّد صفة من ينصره ومآل أمره بين يديّ الله.

ج. شهادته (عليه السلام) هو وأهل بيته وأصحابه: فقد كانت شهادته (عليه السلام) هو وأهل بيته وأصحابه أبلغ تبيين لأمّة قد وصلت إلى مستوىً خطير من الجفاء والغفلة، فأيقظها (عليه السلام) في أنّه قدّم روحه وأهله وأطفاله من أجل هدف سامٍ يستحقّ كلّ هذه التضحية، ولأجل ذلك رأينا ثمار ما أقدم عليه في وقت قريب من شهادته، وما زال أثره قائماً حتّى الآن.

 

 


[1] سورة الكهف، الآية 51.

[2]  الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص219.

 

29


23

الموعظة الثالثة: جهاد التبيين في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

الموعظة الرابعة: دور الأسرة في إحياء عاشوراء

هدف الموعظة

إظهار دور الأسرة في إحياء عاشوراء.

محاور الموعظة

الأسرة من أسس التبليغ

واجب الأبوين في أيّام عاشوراء

تصدير الموعظة

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظ شِدَاد لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ﴾[1].

الإمام الرضا (عليه السلام): «يَابْنَ شَبِيبٍ، إِنْ سَرَّكَ أَنْ تَكُونَ مَعَنَا فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْجِنَانِ، فَاحْزَنْ لِحُزْنِنَا، وَافْرَحْ لِفَرَحِنَا، وَعَلَيْكَ بِوَلَايَتِنَا، فَلَوْ أَنَّ رَجُلاً أَحَبَّ حَجَراً لَحَشَرَهُ اللَّهُ مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[2].

 

 


[1]  سورة التحريم، الآية 6.

[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص193.

 

 

30


24

الموعظة الثالثة: جهاد التبيين في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

لم تكن واقعةُ الطفّ وأحداثُها مجرّد واقعة عسكريّة، تقاتلَ فيها طرفان، وقُتِل فيها من قُتِل، وجُرِح فيها من جُرِح، إنّما كانت نموذجاً رائداً يقتدي به المؤمنون والموالون، بل الناس عامّة، على مرّ التاريخ.

وإذا كانت عاشوراء كذلك، فهذا يعني أن يتحرّى المؤمنون كلّ ما جرى فيها، من مواقف الإمام الحسين (عليه السلام) والمبادئ الإنسانيّة والدينيّة الّتي رفعها وسار على أساسها في وجه الظالمين والمستبدّين. وليس إظهارُ الأسى إلّا أسلوباً من أساليب تثبيت تلك المبادئ في النفوس، ليختلطَ العقل بالعاطفة، ومنهما معاً تتشكّل الإرادة القويّة في مواجهة الظالمين والتمسّك بحبل الله ودينه.

 

الأسرة من أسس التبليغ

أعظم الله تعالى، من خلال كتابه الكريم وأحاديث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، مكانةَ الأسرة، باعتبارها أساساً من أسس التربية الصالحة، ونشوء مجتمع قائم على المبادئ الإنسانيّة والإسلاميّة الرفيعة. ومن هذا المنطلق، يترتّب على الوالدين وضع منهجيّة تربويّة إسلاميّة، تحاكي المبادئ الجليلة الّتي نستقيها من مواقف الأنبياء والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، ومنها ذكرى عاشوراء.

 

واجب الأبوين في أيّام عاشوراء

إذا ما أراد الوالدان زرع تلك المفاهيم الجليلة من عاشوراء، فلا بدّ

 

 

31

 

 


25

الموعظة الثالثة: جهاد التبيين في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

من التوجّه إلى وضع برنامجٍ واضحٍ يعين على ذلك، وذلك بما يتناسب مع هذه الذكرى، ومن ذلك:

1. تعرّف أهداف الثورة الحسينيّة

إنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت من أجل دين الله، وجعل كلمة الله هي العليا، وصون الإسلام الّذي أتى به جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من التحريف الّذي أصابه على يد الحزب الأمويّ، يقول الإمام الحسين (عليه السلام): «وأنا أدعوكُم إلى كتابِ الله وسنّةِ نبيِّه (صلى الله عليه وآله)، فإنّ السنّةَ قد أُميتَتْ، وإنّ البدعة قد أُحيِيَتْ، وإنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدِكُم سبيلَ الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله»[1].

فكان خروجُه (عليه السلام) من أجل الإصلاح، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، سائراً على نهج جدّه المصطفى (صلى الله عليه وآله) وأبيه المرتضى (عليه السلام): «وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّةِ جدّي (صلى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهی عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)»[2].

وكان الناس على شفا حفرةٍ من النار، قد زاغوا عن الصراط المستقيم، فشَقَوا في دنياهم، وضلّوا عن الهدف، فكانت جهنّم في انتظارهم! ولولا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) الّذي بذل مهجته في الله تعالى، ليستنقذ عبادَه من الجهالة وحيرة الضلالة: «وبذل مهجتَه

 

 


[1]  الطبريّ، محمّد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبريّ)، مراجعة وتصحيح وضبط نخبة من العلماء الأجلاء، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط4، ج4، ص266.

[2] راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص329.

 

 

32


26

الموعظة الثالثة: جهاد التبيين في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

فيك، ليستنقذَ عبادَك من الضلالة والجهالة والعمى والشكّ والارتياب، إلى باب الهدى من الردى»[1].

وعلّم الإمام الحسين (عليه السلام) الأمّة كيف تعيش الحياة بعزّة وكرامة، رافضةً لسيادة طواغيت زمانها، علّمها لغة السيف واسترخاص الدماء والنفوس من أجل أن تسعد في دنياها، وتفوز بنعيم أخراها: «أَلَا وَإِنَّ الدَّعِيَّ بنَ الدَّعِيِّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ: السِّلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَهَيْهَاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ! يَأْبَى اللَّهُ لَنَا ذَلِكَ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»[2].

2. إظهار الحزن

ولنا في أهمّيّة إظهار الحزن شواهد عديدة، منها:

عن الإمام الرّضا (عليه السلام): «كان أبي (صلوات الله عليه) إذا دخل شهر المحرّم لم يُرَ ضاحكا،ً وكانت كآبتُه تغلب عليه، حتّى يمضي منه عشرة أيّام، فإذا كان اليوم العاشِر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحُزنه وبكائه، ويقول: هذا اليوم الّذي قُتِل فيه الحسين (عليه السلام)!»[3].

فإنّ في تصرّف الإمام (عليه السلام) إشارة إلى أنّ الحزنَ وإظهارَه ينبغي أن يترافق مع دخول أيّام محرّم الحرام، وفي ذلك درس عظيم.

فالأب والأمّ لهما دور بارز في تهيئة مظاهر الحزن داخل البيت.

 


[1]  ابن قولويه، أبو القاسم جعفر بن محمّد القمّيّ، كامل الزيارات، تحقيق الشيخ جواد القيّوميّ، مؤسّسة نشر الفقاهة، إيران - قمّ، 1417هـ، ط1، ص.401

[2]  ابن نما الحلّيّ، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص40.

[3]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص284.

 

 

33


27

الموعظة الثالثة: جهاد التبيين في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

3. إقامة المأتم

والّذي يمكن حصوله، ولو بدائرة ضيّقة، بأن يجلس أهل البيت الواحد، ليستمعوا معاً إلى مجلس عزاءٍ حسينيّ، وبذلك يواسون رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) في شهادة حفيده سيّد الشهداء (عليه السلام).

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «يعزّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) مصرعهم [أي الحسين وأهل بيته]، ولو كان [أي رسول الله] في الدنيا يومئذٍ حيّاً، لكان (صلى الله عليه وآله) هو المُعزَّى بهم»[1].

وفي هذا الصدد يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «ينبغي لكم أن تحافظوا على مجالس عزاء الأئمة الأطهار عليهم السلام فهذه المجالس هي شعائرنا الدينية الّتي يجب أن نحافظ عليها، وهذه المجالس هي شعائر سياسية أيضاً ينبغي المحافظة عليها»[2].

4. تعرّف مواقف الإمام الحسين (عليه السلام)

وذلك من خلال التأمّل في مجالس سيرته، وقراءة ما يرتبط به (عليه السلام)، من كتبٍ وأبحاثٍ مختلفة، وإشراك أهل البيت الواحد في مثل هذه القراءات، بل قد تكون المباحثة في مثل ذلك في ما بينهم، من الأمور المهمّة جدّاً، والّتي تنمّي الفكر العاشورائيّ بجميع أبعاده في أذهانهم.

 


[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411هـ - 1991م، ط1، ج2، ص782.

[2] الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسويّ، نهضة عاشوراء، دار الوسيلة، لبنان - بيروت، 1996م، ط1، ص105.

 

34


28

الموعظة الثانية: النصرة المجتمعيّة

5. التأسّي بالإمام الحسين (عليه السلام)

كان للإمام الحسين (عليه السلام) مواقف روحيّة ومعنويّة عظيمة، منها التزامه بالتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى، وعدم الغفلة عن ذكره، فقد كان له (عليه السلام) برنامج روحيّ، من صلاةٍ ودعاءٍ وذكرٍ وقراءة قرآن، خاصّةً ليلة العاشر من المحرّم، حيث ورد عنه قوله للعباس (عليه السلام): «ارجع إليهم، فإنِ استطعتَ أن تؤخّرَهم إلى غدوة وتدفعَهم عند العشيّة، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة، وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار»[1].

فإذا حافظت الاُسرة على الحضور في المجالس العاشورائيّة، وكان حضورها مستوعباً لأهداف ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) سينتج عنها اُسرة ملتزمة مضحيّة تقدّم الأم فلذة كبدها من أجل تحقيق ما خرج الإمام الحسين (عليه السلام) من أجله، ويضحّي الشاب بأعلى ما يملك -نفسه- من أجل تحقيق ذلك الهدف.

يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «هذه المجالس هي الّتي خرّجت أمّهاتٍ يفقدن أبناءهنّ، ثمّ يقلن بأنّ لديهنّ غيرهم، وأنّهنّ مستعدّات للتضحية بهم أيضاً»[2].

 


[1]  ابن جرير الطبريّ، تاريخ الطبريّ، مصدر سابق، ج4، ص316.

[2]  الإمام الخمينيّ، نهضة عاشوراء، مصدر سابق، ص18.

 

35


29

الموعظة الثانية: النصرة المجتمعيّة

ويقول (قدس سره): «إنّ هذه المجالس الّتي تُذكر فيها مصائب سيّد المظلومين (عليه السلام)، وتُظهر مظلوميّة ذلك المؤمن الّذي ضحّى بنفسه وبأولاده وأنصاره في سبيل الله هي الّتي خرجت أولئك الشبّان الّذين يتحرّقون شوقاً للذهاب إلى الجبهات ويطلبون الشهادة ويفخرون بها، وتراهم يحزنون إذا هم لم يحصلوا عليها»[1].

 


[1]  المصدر نفسه.

 

36

 

 


30

الموعظة الخامسة: عناصر استنهاض الأمّة في الخطاب الحسينيّ

الموعظة الخامسة: عناصر استنهاض الأمّة في الخطاب الحسينيّ

هدف الموعظة

بيان عناصر النهضة في الخطاب والثورة الحسينيّة.

محاور الموعظة

مفهوم الاستنهاض

عناصر الاستنهاض العامّة

عناصر استنهاض الأمّة في الخطاب الحسينيّ

تصدير الموعظة

﴿يَٰقَوۡمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِۦ يَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُجِرۡكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيم﴾[1].

 

 


[1]  سورة الأحقاف، الآية 31.

 

37


31

الموعظة الخامسة: عناصر استنهاض الأمّة في الخطاب الحسينيّ

إنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) نموذج من الثورات الفريدة في تاريخ البشريّة، في أهدافها، وقيمها، ونتائجها، وقادتها، وشهدائها... ومن أهمّ ما في هذه الثورة ما يحمله الخطاب الحسينيّ الّذي صدر عن الإمام الحسين (عليه السلام) قبل معركة كربلاء وأثناءها، والّذي يعبّر عن مجموعة من العناصر الّتي تشكّل منهجاً متكاملاً في استنهاض الأمم ومواجهة الظلم والظالمين، ومدرسةً في التضحية والإيثار، ونبراساً لكلّ المجاهدين والأحرار عبر التاريخ.

مفهوم الاستنهاض

النَّهْضَة: الطَّاقةُ والقُوَّة والوثبةُ في سبيل التقدّم الاجتماعيّ أو غيره، كالسياسيّ والعلميّ والحضاريّ والاقتصاديّ، وكان من فلان نهضةٌ إلى الخير؛ أي حركة وهمَّة. وباعث النَّهضة أوّل الدعاة إليها. وعصر النَّهضة عصر التجديد والتطوّر والتقدّم في المجالات المختلفة.

وعليه، فالنَّهْضَةُ الحسينيّة تعني الاِنْبِعَاث والتَّجَدُّد والقُوَّة والتَّقَدُّم، الّذي انبعث في جسم المجتمع والأمّة، فبعد مرحلة الضعف والخذلان الّتي ابتُليت بها الأمّة، جاءت الثورة الحسينيّة لتزرع مبادئ ثابتة، وقيماً رفيعة، في الدفاع عن المقدّسات والأنفس والأعراض والممتلكات، ما أسّس لنهضة قويّة في عقل الأمّة وقلبها، وما تزال آثارها إلى يومنا هذا، وستبقى إلى قيام يوم الدين.

عناصر الاستنهاض العامّة

يرى الإمام الخامنئيّ (دام ظله) أنَّ لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام) ثلاثة عناصر: المنطق والعقل، الحماسة المشفوعة بالعزّة، العاطفة.

 

 

38


32

الموعظة الخامسة: عناصر استنهاض الأمّة في الخطاب الحسينيّ

العنصر الأوّل: المنطق والعقل

إنّ عنصر المنطق والعقل في هذه النهضة يتجلّى من خلال كلمات ذلك العظيم، فكلّ فقرة من كلماته النورانيّة الّتي نطق بها (عليه السلام)، سواءٌ قبل نهضته، عندما كان في المدينة، وإلى يوم شهادته، تُعرِب عن منطقٍ متين، خلاصته: إنّه عندما تتوفّر الشروط المناسبة، يتوجَّب على المسلم تحمّل المسؤوليّة، سواءٌ أدّى ذلك إلى مخاطر جسيمة أم لا.

وإنَّ أعظم المخاطر تتمثّل في تقديم الإنسان نفسه وأعزّاءه وأهل بيته المقرّبين؛ زوجته وأخواته وأولاده وبناته، إلى أرض المعركة وفي معرض السبي، قربةً إلى الله.

بناءً على ذلك، عندما تتوفّر الشروط المتناسبة مع هذه المخاطر، فعلى الإنسان أن يؤدّي وظيفته، وأن لا يمنعه عن إكمال مسيرته التعلّق بالدنيا والمجاملات وطلب الملذّات والخلود إلى الراحة الجسمانيّة، بل عليه أن يتحرّك لأداء وظيفته. فلو أنّه تقاعس عن الحركة، نتج عن ذلك تزلزلاً في أركان إيمانه وإسلامه، عن رسول ‏الله (صلى الله عليه وآله): «مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله»[1].

 


[1] الأزديّ، مقتل الحسين (عليه السلام)، مصدر سابق، ص85.

 

39

 


33

الموعظة الخامسة: عناصر استنهاض الأمّة في الخطاب الحسينيّ

هذا هو المنطق، فلو أنّ أصلَ الدين تعرّض لخطر، كما حصل في فاجعة كربلاء، ولم يُغيَّر ذلك بقولٍ أو فعل، كان حقّاً على الله أن يبتليَ الإنسان اللامبالي وغير الملتزم بما يُبتلى به العدوّ المستكبر والظالم.

العنصر الثاني: الحماسة

أي إنَّ العمليّة الجهاديّة الملقاة على عاتقنا، يجب أن تقترن بالعزّة الإسلاميّة؛ لأنَّه ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[1]، وعلى المسلمين في الوقت نفسه الّذي يتحرّكون فيه نحو الهدف، ويتحمّلون المسؤوليّة الجهاديّة، أن يحافظوا على عزّتهم وعزّة الإسلام، ولا بدّ من أن يتحلّى الشخص بسمات الشموخ والعزّة في أشدّ الأزمات.

فلو أنّنا نظرنا إلى الصراعات السياسيّة والعسكريّة المختلفة في تاريخنا المعاصر، سوف نجد حتّى أولئك الّذين كانوا يحملون السلاح ويواجهون الحرب بأبدانهم، يُعرِّضون أنفسهم أحياناً إلى مواقف الذلّة، إلّا أنَّ هذه المسألة ليس لها وجودٌ في فلسفة عاشوراء، فعندما يطلب الإمام الحسين (عليه السلام) أن يمهلوه ليلةً واحدة، يطلبها من موقع العزّة، وفي الوقت الّذي يقول: «أَفَلَا نَاصِرٌ يَنْصُرُنِي‏»[2]، فإنّه يطلب النصرة من موقع العزّة والاقتدار، وعندما تلتقي به الشخصيّات المختلفة في الطريق بين المدينة والكوفة، ويتكلّم معهم، ويطلب النصرة من بعضهم، لم يكن ذلك من موقع الضعف وعدم القدرة، وهذا أحد العناصر البارزة في نهضة عاشوراء.

 

 


[1]  سورة المنافقون، الآية 8.

[2]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج42، ص264.

 

 

40


34

الموعظة الخامسة: عناصر استنهاض الأمّة في الخطاب الحسينيّ

فينبغي أن يُطبّق عنصر الحماسة المشفوع بالعزّة في جميع الحركات الجهاديّة المدرجة في جدول أعمال سالكي طريق النهضة الحسينيّة، وأن تكون جميع الحركات الجهاديّة، سواءٌ أكانت سياسيّة، أم إعلاميّة، أم المواقف الّتي تستدعي التضحية بالنفس، منطلقةً من موقف العزّة.

العنصر الثالث: العاطفة

أي إنّه قد أصبح للعاطفة دورٌ مميّزٌ في نفس واقعة كربلاء وفي استمرارها، أدّى إلى إيجاد برزخٍ بين النهضة الحسينيّة والشيعيّة من جهة، وبين النهضات الأخرى من جهة ثانية؛ فواقعة كربلاء ليست قضيّةً جافّةً ومقتصرةً على الاستدلال المنطقيّ فحسب، بل قضيّة اتّحد فيها الحبّ والعاطفة والشفقة والبكاء.

فإنَّ الجانب العاطفيّ جانب مهمّ؛ ولهذا أُمرنا بالبكاء والتباكي، وتفصيل جوانب الفاجعة. ولقد كانت زينب الكبرى (عليها السلام) تخطب في الكوفة والشام خطباً منطقيّة، إلّا أنّها في الوقت نفسه تقيم مآتم العزاء، وقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) بتلك القوّة والصلابة ينزل كالصاعقة على رؤوس بني أميّة عندما يصعد المنبر، إلّا أنّه كان يعقد مجالس العزاء في الوقت نفسه.

فإنَّ مجالس العزاء مستمرّة إلى يومنا هذا، ولا بدّ من أن تستمرّ إلى الأبد؛ لأجل استقطاب العواطف، فمن خلال أجواء العاطفة والمحبّة والشفقة يمكن أن تُفهم كثيرٌ من الحقائق الّتي يصعب فهمها خارج نطاق هذه الأجواء.

 

41


35

الموعظة الخامسة: عناصر استنهاض الأمّة في الخطاب الحسينيّ

وبالنتيجة يمكن القول: إنَّ العناصر الثلاثة للنهضة الحسينيّة تُعَدُّ من العناصر الأساسيّة لبناء هذه النهضة، هذا على مستوى التحليل، وزاوية من زوايا عاشوراء الحسين (عليه السلام)، إلّا أنّ هذه الزاوية تمثّل لنا دروساً عمليّةً كثيرةً.

عناصر استنهاض الأمة في الخطاب الحسينيّ

عندما نتتبّع كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) نجد أنّه يركّز على مجموعة من العناصر الهادفة إلى إيقاظ الأمّة واستنهاضها، منها:

1. مبدأ الإصلاح

يُعَدّ إصلاح المجتمعات والأمم من الضرورات الاجتماعيّة والدينيّة، الّتي أكّدتها الشرائع السماويّة كافّة، ولا سيّما الدين الإسلاميّ، وعدّتها القوانين الوضعيّة من أصول البنية الاجتماعيّة.

لهذا، فإنّ الإصلاح الّذي أعلنه الإمام الحسين (عليه السلام)، وجعله شعاراً وهدفاً لثورته، هو استمرار لهذا المبدأ، وقد أشار إليه (عليه السلام) في سياق وصيّته لأخيه محمّد بن الحنفية: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي (صلى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي محمّد (صلى الله عليه وآله) وأبي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خير الحاكمين»[1].

 

 


[1]  الحسينيّ الموسويّ، محمّد بن أبي طالب‏، تسلية المجالس وزينة المجالس (مقتل الحسين (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح كريم فارس الحسون، مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، ‏ إيران - قمّ‏، 1418ه‏، ط1، ج2، ص160.

 

42


36

الموعظة الخامسة: عناصر استنهاض الأمّة في الخطاب الحسينيّ

2. عدم بيعة الظالمين

البيعة تعني الإقرار بالوراثة السياسيّة في الحكم، مهما كانت صفات الخليفة وقدراته. والبيعة تعني إعطاء الشرعيّة لسلطة بني أميّة؛ ولهذا خرج الإمام الحسين (عليه السلام) على السلطة الأمويّة آنذاك، ورفض البيعة، ليكون هذا الرفضُ عدمَ اعترافٍ بمشروعيّة السلطة، حيث لا مشروعيّة لمنطق الغلبة والواقع المفروض، بناءً على رؤية ترى أنّ مشروعيّة السلطة أقوى من السلطة نفسها، وأنّ أيّة سلطة مهما تغلّبت، لا بدّ لها في نهاية المطاف من أن تخضع لمنظومة من المفاهيم، هي الّتي تمنحها أو تسلبها صفة المشروعيّة؛ ولهذا نجد أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد صرّح عند لقائه بمروان، عند محاولة الأخير تحسين صورة أمر بيعة يزيد في عين الإمام (عليه السلام)، أجابه قائلاً: «عَلَى الْإِسْلَامِ السَّلَامُ إِذْ قَدْ بُلِيَتِ الْأُمَّةُ بِرَاعٍ مِثْلِ يَزِيد...»[1]. وصرّح برفضه لبيعة يزيد بقوله (عليه السلام): «ويزيد رجلٌ فاسقٌ، شاربٌ الخمر، قاتلُ النفس المُحرَّمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثلَه، ولكن نصبحُ وتصبحونَ، وننظر وتنظرونَ أيّنا أحقّ بالبيعةِ والخلافة»[2].

3. أصالة العزّة في النهضة والثورة

«هيهات منّا الذلّة» ليس شعاراً شكليّاً رفعه الإمام الحسين (عليه السلام)، بل هو نهج رسمه (عليه السلام) للأمّة وللأجيال القادمة كلّها، بأنّ الذلّ والخضوع للظالم لا مكان له في قاموس المجاهدين الحسينيّين، لأنّ

 


[1] ابن نما الحلّيّ، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص15.

[2]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج44، ص325.

 

43


37

الموعظة الخامسة: عناصر استنهاض الأمّة في الخطاب الحسينيّ

العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، كما صرح الذكر الحكيم. فقد أعلن الإمام الحسين (عليه السلام) عندما توضّحت نوايا الغدر والخذلان والإصرار على محاربته (عليه السلام) وطاعة يزيد الفاسق بقوله: «أَلَا وَإِنَّ الدَّعِيَّ بنَ الدَّعِيِّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ: السِّلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَهَيْهَاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ! يَأْبَى اللَّهُ لَنَا ذَلِكَ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَحُجُورٌ طابَتْ، وَحُجُورٌ طَهُرَتْ، وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ، وَأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ، مِنْ أَنْ نُؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلى مَصارِعِ الْكِرامِ»[1].

 

 


[1]  ابن نما الحلّيّ، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص40.

 

 

44


38

الموعظة السادسة: البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) فلسفته وآثاره

الموعظة السادسة: البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) فلسفته وآثاره

هدف الموعظة

تعرّف أهمّيّة البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) وفلسفته وآثاره.

محاور الموعظة

بكاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) وآله (عليهم السلام)

فلسفة البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام)

آثار البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) في الدنيا

آثار البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) في الآخرة

مَن لم يستطيع البكاء فليتباكَ

تصدير الموعظة

الإمام الصادق (عليه السلام): «قال الحسينُ (عليه السلام): أنا قتيلُ العبرةِ، لا يذكرُني مؤمنٌ إلّا بكى»[1].

 

 


[1] ابن قولويه القمّيّ، كامل الزيارات، مصدر سابق، ص215.

 

 

45


39

الموعظة السادسة: البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) فلسفته وآثاره

بكاء النبيّ (صلى الله عليه وآله)

روى أحمد بن حنبل من حديث عليٍّ (عليه السلام)، بإسناده إلى عبد الله بن نجى، عن أبيه: أنّه سار مع عليّ (عليه السلام)، فلما حاذى نينوى، وهو منطلقٌ إلى صفّين، نادى: «اِصبر أبا عبد الله! اِصبر أبا عبد الله بشطّ الفرات!». قلتُ: وماذا؟! قال: «دخلتُ على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ذات يوم، وعيناه تفيضان، قلتُ: يا نبيَّ الله، أغضبكَ أحد؟ ما شأنُ عينيك تفيضان؟! قال: بل قام من عندي جبريل قبل، فحدّثني أنّ الحسينَ يُقتَل بشطّ الفرات، قال: فقال: هل لك إلى أن أشمّك من تربته؟ قال: قلتُ: نعم، فمدّ يده، فقبض قبضةً من ترابٍ، فأعطانيها، فلم أملك عينيّ إن فاضتا»[1].

بكاء أمير المؤمنين (عليه السلام)

عن ابن عبّاس، قال: كنت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في خرجته إلى صفّين، فلمّا نزل بنينوى، وهو شطّ الفرات، قال بأعلى صوته: «يابن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟» قال: قلتُ: ما أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال: «لو عرفته كمعرفتي، لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي»، قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت وسالت الدموع على صدره، وبكينا معه، وهو يقول: «أوه! أوه! مالي ولآل أبي سفيان! مالي ولآل حرب!»[2].

وهكذا بكاء السيّدة الزهراء (عليها السلام) والأئمّة الأطهار (عليهم السلام).

 

 


[1]  أحمد بن حنبل، المسند (مسند أحمد)، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج1، ص85.

[2]  الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قمّ، 1405هـ - 1363ش، لا.ط، ج1، ص532 - 533.

 

 

46


40

الموعظة السادسة: البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) فلسفته وآثاره

فلسفة البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام)

البكاء ظاهرة إنسانيّة، بل هو أوسع من ذلك، والبكاء كحالةٍ في مقام الحكم القيميّ، لا يصحّ القول إنّها حالة إيجابيّة دائماً أو سلبيّة دائماً، بل إنّ الأمر يرتبط بسبب هذه الحالة وأهدافها ونتائجها، فإذا كان البكاء مرتبطاً بالأهداف الدينيّة، ويحاكي القيم الدينيّة بمفهومها الشامل، فهو أمر محمود، كأن يكون البكاء لله تعالى أو من خشيته تعالى؛ فهنا سوف يكون للبكاء نتائجه الإيجابيّة ذات البعد المعنويّ والأخلاقيّ وسوى ذلك. أمّا إذا كان البكاء مرتبطاً بأهداف لا تنسجم مع الأهداف والقيم الدينيّة والأخلاقيّة، فعندها سوف يكون أمراً مذموماً، ولن تكون نتائجه إيجابيّة، بل سوف تكون على العكس من ذلك.

عندما نأتي إلى قضيّة الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنّنا نبكي على تلك الجرأة على الله بقتل وليّه (عليه السلام)، وغضباً له، وعلى انتهاك حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقتل حفيده (عليه السلام)، نبكي على مخالفة الدين الّتي حصلت بقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه (عليهم السلام)، نبكي على تجاوز حدود الله، وعلى الاعتداء على محارم الله، وارتكاب الذنوب العظام والمعاصي الجسام، ومخالفة أوامر الله تعالى وركوب نواهيه.

لقد مثّلت كربلاء ذروة الجرأة على الله تعالى والانقلاب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يمضِ إلّا خمسون عاماً على وفاته (صلى الله عليه وآله)، حتّى ينقلب الكثير من أبناء أمّته على حفيده وأهل بيته، فيعملون فيهم

 

 

47

 

 


41

الموعظة السادسة: البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) فلسفته وآثاره

تقتيلاً وسبياً وتجريحاً وظلماً وتنكيلاً، لا لأمر، إلّا لأنّهم رفضوا السكوت على الانحراف والرضوخ للذلّ.

لذلك، فإنّ البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) هو بكاء رفضٍ للجرأة على الله تعالى، وعلى الانجرار إلى الدنيا وحبّها والتعلّق بها، وبكاءُ اعتراضٍ على فعل الذنوب وارتكاب المعاصي، هو بكاء نهيٍ عن المنكر والفساد، وهو بكاء أمرٍ بالمعروف والإصلاح، وهو أيضاً بكاء غضبٍ من كلّ المظالم الّتي حصلت والّتي تحصل؛ أي هو بكاء رفض للظلم والذلّ، ودعوة إلى العدل وفعل الثورة، هو بكاء يدعو إلى الثورة على الفساد والانحراف والظلم، ويرفض الخضوع والخنوع والرضوخ للظالم.

إذاً، إنّ ما ينبغي أن يفعله هذا البكاء هو أن يزيدنا ارتباطاً بالله تعالى، وعملاً بطاعته، وابتعاداً عن معصيته؛ لأنّه كيف يتجرأ على الله تعالى من يبكي على تلك الجرأة على الله تعالى، رفضاً لها، وإعظاماً لحصولها؟! وكيف يبادر إلى معصية الله تعالى، من يبكي على تلك المعاصي الّتي حصلت في كربلاء؟! وكيف يستخفّ بطاعة الله من يبكي على كلّ ذلك الاستخفاف بطاعته ومحارمه الّذي حصلت في عاشوراء؟!

إنّ ما يقود إليه هذا البكاء هو أنّه يدفعنا إلى رفض الظلم والخضوع؛ لأنّ من يبكي على تلك المظالم الّتي حصلت في كربلاء، حريٌّ به ألّا يقدم على ارتكاب الظلم، بل حريٌّ به ألّا يقبل بأيّة مظلمة،

 

 

48

 

 


42

الموعظة السادسة: البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) فلسفته وآثاره

مهما صغرت، وجدير به أن يرفض الظلم والخضوع للظالم، وأن يحصِّن نفسه من أن يساير أو يداهن أو يركن للذين ظلموا، لأنّ ذلك كلّه يخالف رسالة الدمعة، وهدف البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام).

آثار البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) في الدنيا

عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه تلا هذه الآية: «﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ﴾[1]، الحسين بن عليّ منهم. ووالله، إنّ بكاكم عليه، وحديثكم بما جرى عليه، وزيارتكم قبره، نصرةٌ لكم في الدنيا، فأبشِروا، فإنّكم معه في جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله)»[2].

قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا مسمع... رحم الله دمعتَك، أما إنّك من الّذين يُعَدّون من أهل الجزع لنا، والّذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا، ويأمنون إذا أَمِنّا، أما إنّك سترى عند موتِك حضورَ آبائي لك، ووصيّتَهم ملكَ الموت بك، وما يَلْقَونَك به من البشارة أفضل، ولَملكُ الموت أرقُّ عليك وأشدُّ رحمةً لك من الأمّ الشفيقة على ولدها»[3].

 

 


[1] سورة غافر، الآية 51.

[2] أبو حمزة الثماليّ، تفسير أبي حمزة الثماليّ، أعاد جمعه وتأليفه عبد الرزاق محمّد حسين حرز الدين، مراجعة وتقديم الشيخ محمّد هادي معرفة، دفتر نشر الهادي، 1420هـ - 1378ش، ط1، ص290.

[3]  ابن قولويه القمّيّ، كامل الزيارات، مصدر سابق، ص203 - 204.

 

 

49


43

الموعظة السادسة: البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) فلسفته وآثاره

آثار البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) في الآخرة

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ومَنْ ذُكِرَ الْحُسَيْنُ عِنْدَهُ، فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِنَ الدُّمُوعِ مِقْدَارُ جَنَاحِ ذُبَابٍ، كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى اللَّهِ، ولَمْ يَرْضَ لَهُ بِدُونِ الْجَنَّةِ»[1].

وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) دَمْعَةً حَتَّى تَسِيلَ عَلَى خَدِّهِ، بَوَّأَهُ اللَّهُ بِهَا فِي الْجَنَّةِ غُرَفاً يَسْكُنُهَا أَحْقَابا»[2].

مَن لم يستطِع البكاء فليتباكَ

عن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يا أبا عمارة، من أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى، فله الجنّة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فتباكى، فله الجنّة»[3].

والمراد من التباكي إظهار البكاء باستشعار الحزن في القلب، وحثّ النفس على البكاء، أو فعل تكلّف البكاء، وليكن ذلك بدافع التقرّب إلى الله جلّ وعلا، ليكون عبادة.

والتباكي هنا كالتباكي من خشية الله، على ما في وصيّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ: «يا أبا ذرّ، مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْكِيَ قَلْبُهُ فَلْيَبْكِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُشْعِرْ قَلْبَهُ الْحُزْنَ وَلْيَتَبَاكَ. يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُون‏»[4].

 

 


[1]  الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)، إيران - قمّ، 1414ه، ط2، ج14، ص507.

[2]  ابن قولويه القمّيّ، كامل الزيارات، مصدر سابق، ص201.

[3] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، مصدر سابق، ص84.

[4]  الديلميّ، الحسن بن محمّد، أعلام الدين في صفات المؤمنين، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، إيران - قمّ، 1408ه، ط1، ص193.

 

50


44

الموعظة السابعة: عاشوراء مدرسة التوبة

الموعظة السابعة: عاشوراء مدرسة التوبة

هدف الموعظة

تعرّف مفهوم التوبة وشروطها، ودلالات توبة الحرّ بن يزيد الرياحيّ في كربلاء.

محاور الموعظة

التوبة النصوح وآثارها

وجوب التوبة

شروط التوبة

دلالات توبة الحرّ بن يزيد الرياحيّ

تصدير الموعظة

الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا تَابَ العَبْدُ تَوْبَةً نَصُوحاً، أَحَبَّهُ اللهُ، فَسَتَرَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»، قَالَ الرَّاوِي: وَكَيْفَ يَسْتُرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «يُنْسي مَلَكَيْهِ مَا كَتَبَا عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوب، ثُمَّ يُوحي إِلَى جَوَارِحِهِ: اكْتُمِي عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ، ويُوحي إِلى بِقَاعِ الأَرْضِ: اكْتُمِي عَلَيْهِ مَا كَانَ يَعْمَلُ عَلَيْكِ مِنَ الذُّنُوبِ. فَيَلْقَى الله حِيْنَ يَلْقَاهُ، ولَيْسَ شَيْءٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مٍنَ الذُّنُوبِ»[1].

 

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص430 - 431.

 

51


45

الموعظة السابعة: عاشوراء مدرسة التوبة

التوبة من مقامات السالكين، ومفتاح استقامة السائلين، وباب الله الآمن، الّذي فتحه الله إلى ساحة عفوه «إِلَهِي أَنْتَ الَّذِي فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَاباً إِلَى عَفْوِكَ سَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ»[1].

وهي دعوة ربّانيّة مفتوحة وموجّهة لكلّ المذنبين في الأرض، والمذنبون جميعاً مدعوّون لقبول هذه الضيافة الإلهيّة، من أجل أن يضعوا حدّاً لفسادهم وغيَّهم وتساقطهم وراء الملذّات الدنيويّة الرخيصة، وأن لا ييأسوا من رحمة الله، يقول تعالى: ﴿قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾[2].

التوبة لغة واصطلاحاً

التوبة لغةً: تعني الرجوع والإنابة، يُقال: تاب فلان أي رجع عن ذنبه فهو تائب[3].

أمّا في الاصطلاح، فقد عرَّفها العلّامة النراقيّ بأنّها: «تنزيه القلب عن الذنب والرجوع من البعد إلى القرب، وبعبارة أخرى: ترك المعاصي في الحال، والعزم على الابتعاد عنها في الاستقبال، وتدارك ما سبق من التقصير»[4].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج91، ص142.

[2]  سورة الزمر، الآية 53.

[3]  انظر: الفيّوميّ، أحمد بن محمّد، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعيّ‏، مؤسّسة دار الهجرة، إيران - قمّ‏، 1414ه‏، ط2، ج‏2، ص28.

[4]  النراقيّ، الشيخ محمّد مهدي، جامع السعادات، تحقيق وتعليق السيّد محمّد كلانتر، تقديم الشيخ محمّد رضا المظفَّر، دار النعمان للطباعة والنشر، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج3، ص38.

 

 

52


46

الموعظة السابعة: عاشوراء مدرسة التوبة

وعرّفها الإمام الخمينيّ (قدس سره): «التوبة من المنازل المهمّة الصعبة، وهي عبارة عن الرجوع عن عالم المادّة إلى روحانيّة النفس، بعد أن حُجِبت هذه الروحانيّة ونور الفطرة بغشاوات ظلمانيّة من جرّاء الذنوب والمعاصي»[1].

التوبة النصوح

«نصح» تعني «خَلُص» في اللغة. وعليه، فمعنى «توبة نصوحاً» «توبة خالصة من المعاصي»، وذلك يستلزم عدم العود الى ارتكاب الآثام والذنوب. وثمّة روايات عديدة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) تؤكّد هذا المعنى وتثبّت هذه الحقيقة، منها ما أجاب به الإمام الصادق (عليه السلام) عن معنى قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَة نَّصُوحًا﴾[2]، إذ يقول (عليه السلام): «يتوب العبد من الذنب، ثمّ لا يعود فيه»[3].

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ندمٌ بالقلب، واستغفارٌ باللسان، والقصدُ على أن لا يعود»[4].

 

 


[1] الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسويّ، الأربعون حديثاً، تعريب محمّد الغرويّ، دار التعارف للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1424ه – 2003م، ط7، ص317.

[2]  سورة التحريم، الآية 8.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 432.

[4]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص48.

 

 

53


47

الموعظة السابعة: عاشوراء مدرسة التوبة

آثار التوبة النصوح

1. الستر في الدنيا والآخرة: عن معاوية بن وهب قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إِذَا تَابَ العَبْدُ تَوْبَةً نَصُوحاً، أَحَبَّهُ اللهُ، فَسَتَرَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»، فَقُلْتُ: وَكَيْفَ يَسْتُرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «يُنْسي مَلَكَيْهِ مَا كَتَبَا عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوب، ثُمَّ يُوحي إِلَى جَوَارِحِهِ: اكْتُمِي عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ، ويُوحي إِلى بِقَاعِ الأَرْضِ: اكْتُمِي عَلَيْهِ مَا كَانَ يَعْمَلُ عَلَيْكِ مِنَ الذُّنُوبِ. فَيَلْقَى الله حِيْنَ يَلْقَاهُ، ولَيْسَ شَيْءٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مٍنَ الذُّنُوبِ»[1].

2. إبدالهُ الحسنة: عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى دَاوُدَ النَّبِيِّ (عليه السلام): يَا دَاوُودُ، إِنَّ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً، ثُمَّ رَجَعَ وَتَابَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ، وَاسْتَحْيَا مِنِّي عِنْدَ ذِكْرِهِ، غَفَرْتُ لَهُ، وَأَنْسَيْتُهُ الْحَفَظَةَ، وَأَبْدَلْتُهُ الْحَسَنَةَ، وَلَا أُبَالِي وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»[2].

وجوب التوبة

جاء في تحرير الوسيلة للإمام الخمينيّ (قدس سره): «من الواجبات التوبة من الذنب، فلو ارتكب حراماً أو ترك واجباً تجب التوبة فوراً، ومع عدم ظهورها منه أمره بها، وكذا لو شكّ في توبته، وهذا غير الأمر والنهي بالنسبة إلى سائر المعاصي، فلو شكّ في كونه مقصِّراً أو علم بعدمه لا يجب الإنكار بالنسبة إلى تلك المعصية، لكن يجب بالنسبة إلى ترك التوبة»[3].

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص430 - 431.

[2]  الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، مصدر سابق، ص130.

[3]  الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسويّ، تحرير الوسيلة، دار الكتب العلمية، العراق - النجف، 1390ه.ق، ط2، ج1، ص470.

 

54


48

الموعظة السابعة: عاشوراء مدرسة التوبة

وتؤكّد الروايات وجوبَ التوبة على الجميع، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «التوبة حبل الله ومدد عنايته، ولا بدّ للعبد من مداومة التوبة على كلّ حال، وكلّ فرقة من العباد لهم توبة؛ فتوبة الأنبياء من اضطراب السرّ، وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات، وتوبة الأصفياء من التنفيس، وتوبة الخاصّ من الاشتغال بغير الله تعالى، وتوبة العامّ من الذنوب...»[1].

شروط التوبة

رُوِيَ فِي نَهْجِ البَلاَغَةِ أَنَّ قَائِلاً قَالَ بِحَضْرَتِهِ (عليه السلام): أَسْتَغْفِرُ اللهَ، فَقَالَ لَهُ: «ثَكِلَتْك أُمُّكَ! أَتَدْرِي مَا الاستغفارُ؟ إنَّ الاسْتِغْفَارَ دَرَجَةُ العِليِّينَ، وَهُوَ اسمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ: أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى. الثَّانِي العَزْمُ عَلَى تَرْكِ العَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً. والثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى المَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَي اللهَ سُبْحَانَهُ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ. الرَّابعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا. والخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُدِيبَهُ بِالأَحْزَانِ، حَتّى تُلْصِقَ الجِلْدَ بِالعَظْمِ، وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ. والسّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ المَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذلِكَ تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ»[2].

 

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص31.

[2]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص550، الحكمة 417.

 

55

 


49

الموعظة السابعة: عاشوراء مدرسة التوبة

يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) في شرحه لهذا الحديث: «يشتمل هذا الحديث الشريف على ركنين من أركان التوبة، هما: الندامة، والعزم على العودة، وعلى شرطين مهمّين للقَبول، هما: إرجاع حقوق المخلوق لأهلها، وردّ حقوق الخالق لله سبحانه. ولا تُقبَل التوبة من الإنسان بقوله: أستغفر الله. إنّ على الإنسان التائب أن يردَّ كلّ ما أخذه من الناس من دون حقّ إلى أصحابه، وإذا وجد حقوقاً أخرى للناس في ذمّته، واستطاع أن يؤدّيها إلى أصحابها أو يطلب السماح منهم، يجب أن لا يتوانى في ذلك، وأن يقضي كلَّ الفرائض الإلهيّة أو يؤدّيها، وإذا تعذّر عليه إنجاز ذلك، أدّى المقدار الميسور منه»[1].

كربلاء ساحة الشهادة والإنابة

بعد نداءات الإمام الحسين (عليه السلام)، وإلقائه الحجّة على جيش الأعداء، تأثّر الحرّ بن يزيد الرياحيّ بكلمات الإمام (عليه السلام)، وبدأ الشعور بالندم يتأجّج في داخله... وراح يدنو بفرسه من معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) تارةً، ويعود إلى موقفه أخرى، وعندما سُئل عن السبب في ذلك، قال: إنّي والله، أخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً، ولو قُطِّعتُ وحُرِّقت، ثمّ ضرب فرسَه، فلحق بالحسين (عليه السلام)، فقال له: «جُعِلت فداك يابن رسول الله، أنا صاحبك الّذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت

 

 


[1]  الإمام الخمينيّ، الأربعون حديثاً، مصدر سابق، ص324.

 

56


50

الموعظة السابعة: عاشوراء مدرسة التوبة

بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى، ما ركبت منك الذي ركبت، وإنّي تائبٌ إلى الله تعالى ممّا صنعت، فترى لي من ذلك توبة؟ فقال له الحسين (عليه السلام): «نعم، يتوب الله عليك»[1].

 


[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص99.

 

57


51

الموعظة السابعة: عاشوراء مدرسة التوبة

الموعظة الثامنة: مداراة الناس

هدف الموعظة

معرفة أهمّيّة الملاقاة، وحثّ المسلمين عليها لما لها من دور إيجابيّ في بناء العلاقات الاجتماعيّة.

محاور الموعظة

معنى المداراة

أهمّيّة المداراة وقيمتها في الإسلام

الفرق بين المداراة والمداهنة

الفرق بين المداراة والتقيّة

الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قمّة المداراة

صوَر المداراة

تصدير الموعظة

رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أمَرَني ربّي بمداراة الناس كما أمَرَني بأداء الفرائض»[1].

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص117.

 

 

58


52

الموعظة الثامنة: مداراة الناس

معنى المداراة

المداراة: الملاينة، ومنه الحديث: «رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مُدَارَاةُ النَّاسِ فِي غَيْرِ تَرْكِ حَقٍّ‏»[1]؛ أي ملاينتهم وحُسن صحبتهم واحتمالهم لئلّا ينفروا عنك، وداريتُ الرجل أي لاينتُه ورِفقْتُ به، كما في اللغة، وتكون المداراة في حُسن الخُلق وحُسن المعاشرة مع الناس.

أهمّيّة المداراة وقيمتها في الإسلام

ورد في المداراة روايات كثيرة، منها:

1. عن النّبيّ (صلى الله عليه وآله): «مَنْ عَاشَ مُدَارِيًا مَاتَ شَهِيدًا»[2].

2. عن الإمام عليّ (عليه السلام): «رَأْسُ الْحِكْمَةِ مُدَارَاةُ النَّاسِ»[3].

3. عن الإمام الحسن (عليه السلام): «مداراة النّاس نصف العقل»[4].

الفرق بين المداراة والمداهنة

ثمّة فروق عديدة بين المداراة والمداهنة، أهمّها:

1. المُداراةُ صِفةُ مَدحٍ، والمُداهَنةُ صِفةُ ذَمٍّ.

 

 


[1]  الحرّانيّ، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قمّ، 1404هـ - 1363ش، ط2، ص42.

[2]  النيسابوريّ، الشيخ محمّد بن الفتّال، روضة الواعظين، تقديم السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1417ه، ط1، ج2، ص380.

[3]  الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص264.

[4]  ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله‏، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ، إيران - قمّ، 1404هـ، ط1، ودار إحياء الكتب العربيّة - عيسى البابيّ الحلبيّ وشركاه، 1378هـ - 1959م، ط1، ج‏18، ص108.

 

 

59


53

الموعظة الثامنة: مداراة الناس

2. المُداري يتلَطَّفُ بصاحِبِه حتّى يستخرِجَ منه الحَقَّ، أو يَرُدَّه عن الباطِلِ، والمداهِنُ يتلطَّفُ به ليُقِرَّه على باطِلِه، ويترُكَه على هواه.

3. المُداراةُ هي الرِّفقُ بالجاهِلِ في التَّعليمِ، وبالفاسقِ في النَّهيِ عن فِعلِه، وتَركِ الإغلاظِ عليه حيثُ لا يُظهِرُ ما هو فيه، والإنكارُ عليه بلُطفِ القَولِ والفِعلِ، ولا سِيَّما إذا احتيجَ إلى تألُّفِه ونحوِ ذلك. والمُداهَنةُ: معاشرةُ الفاسِقِ، وإظهارُ الرِّضى بما هو فيه من غيرِ إنكارٍ عليه.

4. المداراةُ بَذلُ الدُّنيا لصلاحِ الدُّنيا أو الدِّينِ، وهي مباحةٌ ومُستحسَنةٌ في بعض الأحوالِ، والمُداهَنةُ المذمومةُ المحَرَّمةُ: هي بَذلُ الدِّينِ لصالحِ الدُّنيا.

الفرق بين المداراة والتقيّة

إنَّ المداراة لا تعني أنَّ الآخر سيّئ العِشرة فتُداريه تلافياً لشرّه، بل هي -في أصلها- موافقة الآخر في مزاجه، ومسايرته في نمط عيشه، حرصاً على استقرار الصّداقة ودوامها؛ إذ إنَّ اختلاف الأمزجة وأنماط العيش حقيقة إنسانيّة لا يمكن تدارك سلبيّاتها من قبل الطّرفين إلّا بالمداراة، أمَّا إذا كان الّذي تُداريه سيّئ العِشرة رديء الأفعال، فيُخاف من بوائقه، ويُخشى شرّه، فإنَّ ذلك يخرج بالمداراة عن كونها علاقة أخويّة لتصير نوعاً من التقيّة وحماية الذّات من شرّ الآخر، وخضوعاً قهريّاً لرغباته، وهو ذاك الّذي عدّه الإسلام (شرّ النّاس)؛ فقد ورد عن النّبي (صلى الله عليه وآله): «شَرُّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُكْرَمُونَ اتِّقَاءَ شَرِّهِمْ»[1].

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص327.

 

60


54

الموعظة الثامنة: مداراة الناس

الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قمّة المداراة

إنّ من يتتبَّع سيرة الرّسول الأعظم، يجده (صلى الله عليه وآله) قمّةً في مداراة النّاس على مختلف طوائفهم ومذاهبهم، حتّى إنّه (صلى الله عليه وآله) قلّما كان يستعمل كلمة «حرام» في وصف ما يجب اجتنابه، بل كان يستبدلها بكلمات أخرى؛ من قبيل: «إنّي لا أفعل ذلك»، و«إنّي أكره...»؛ لخفّة وقعهما على السّامع، فكان النّاس يعرفون الحرام بهذه العبارات من دون أن تُسبّب لهم أيّ ردّ فعل تجاهها. ومن الأمثلة على مداراة النّاس في منهاج الرّسول (صلى الله عليه وآله)، عدم قتله لمنافقين كانوا يستحقّون القتل؛ لئلّا يُساء فهم الإسلام من بعض النّاس، فيتركوه.

ولا شكّ في أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يُقدم على قتل أحد، إلّا إذا كان مستحقّاً للقتل؛ لأنّ القتل أمر دائر بين الواجب والحرام، بحسب تعبير الفقهاء، ولا يوجد قتل مستحبّ أو مكروه أو مباح، كما هي الحال في الفرائض كالصّوم مثلاً، فهناك صوم واجب، وحرام، ومستحبّ ومكروه، أمّا القتل فليس فيه غالباً سوى الوجوب كمن هُدِر دمه، أو الحرمة كمن عُصم دمه؛ لذا فقوله (صلى الله عليه وآله): «لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَ قَوْمٍ كَثِيرٍ»[1]، يعني لاستحقاقهم القتل بالحكم الأوّليّ، غير أنّه (صلى الله عليه وآله) لم يُجرِ الحكم بسبب أمرٍ أهمّ، وهو عدم لحوق تهمة بالإسلام قد تؤدّي إلى ابتعاد النّاس عنه.

 

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص345.

 

61


55

الموعظة الثامنة: مداراة الناس

وهذا يوضّح ما للمداراة من أهمّيّة في الشّريعة، فكما أنّ الإنسان يتعامل في الأمور المادّيّة والشخصيّة على أساس الترجيح بين الأهمّ والمهمّ، كأن يعطي تارةً مبلغاً كبيراً من المال لأحد، ولا يعطي مثله لغيره، وذلك بحسب ما يراه من الأهمّيّة، أو تارةً يُنفق من وقته ساعات لشخص، ولا يُنفق إلّا دقائق في مواقف أخرى، فكذلك الحال في المداراة، حيث ينبغي النّظر إلى الأهمّ والمهمّ وتقديم الأوّل على الثّاني، وعلى هذا جرت سيرة الأنبياء والرّسل[1]، وبالأخصّ سيرة نبيّنا وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)، والأولياء والعلماء والصّلحاء.

يُروى أنّه بعد رجوع النّبيّ (صلى الله عليه وآله) من غزوة حُنَين، وقد نصره الله تعالى على المشركين بعد فتح مكّة، جاء بالغنائم فنزل بالجعرانة[2] بمَن معه من النّاس، وقسّم ما أصاب من الغنائم في المؤلّفة قلوبهم من قريش وسائر العرب، ولم يكن للأنصار منها شيء قليل ولا كثير، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِئَةَ بَعِيرٍ، وَمُعَاوِيَةَ ابْنَهُ مِئَةَ بَعِيرٍ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ مِئَةَ بَعِيرٍ... قَالَ: فَغَضِبَ قَوْمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِذَلِكَ، وَظَهَرَ مِنْهُمْ كَلَامٌ قَبِيحٌ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ وَبَنِي عَمِّهِ وَنَحْنُ أَصْحَابُ كُلِّ كَرِيهَةٍ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَا دَخَلَ عَلَى الْأَنْصَارِ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا وَلَا يَقْعُدَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ شِبْهَ

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج72، ص401، عن تفسير الإمام العسكريّ (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ الأنبياء إنّما فضّلهم الله على خلقه بشدّة مداراتهم لأعداء الله...».

[2]  وهي ماء بين الطّائف ومكّة، وهي إلى مكّة أقرب. انظر: الحمويّ، معجم البلدان، دار إحياء التراث العربيّ، لبنان - بيروت، 1399هـ - 1979م، لا.ط، ج2، ص142.

 

62


56

الموعظة الثامنة: مداراة الناس

الْمُغْضَبِ يَتْبَعُهُ عَلِيٌّ (عليه السلام) حَتَّى جَلَسَ وَسْطَهُمْ، فَقَالَ: «أَلَمْ آتِكُمْ وَأَنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَأَنْقَذَكُمُ اللَّهُ مِنْهَا بِي؟» قَالُوا: بَلَى! وَلِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالطَّوْلُ وَالْفَضْلُ عَلَيْنَا، قَالَ: «أَلَمْ آتِكُمْ وَأَنْتُمْ أَعْدَاءٌ، فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟» قَالُوا: أَجَلْ! ثُمَّ قَالَ: «أَلَمْ آتِكُمْ وَأَنْتُمْ قَلِيلٌ، فَكَثَّرَكُمُ اللَّهُ بِي؟»، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تُجِيبُونِّي؟»، قَالُوا: نَعَمْ، نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِدَاكَ أَبُونَا وَأُمُّنَا، لَكَ الْمَنُّ وَالطَّوْلُ وَالْفَضْلُ، قَالَ: «لَوْ بَلْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ: جِئْتَنَا طَرِيدًا مُكَذَّبًا فَآوَيْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَجِئْتَنَا خَائِفًا فَآمَنَّاكَ». فَارْتَفَعَتْ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ، وَقَامَ إِلَيْهِ شُيُوخُهُمْ، فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَقَالُوا: رَضِينَا عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، وَهَذِهِ أَمْوَالُنَا أَيْضًا بَيْنَ يَدَيْكَ فَاقْسِمْهَا بَيْنَ قَوْمِكَ إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ إِذْ قَسَمْتُ مَالًا أَتَأَلَّفُ بِهِ قَوْمًا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِيمَانِكُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ غَيْرُكُمْ بِالشَّاةِ وَالنَّعَمِ وَرَجَعْتُمْ أَنْتُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ فِي سَهْمِكُمْ؟»[1].

لقد نبّههم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما غفلوا عنه، وذكّرهم ما نسَوه، وأعلمهم أنّ ما قام به من إعطاء المال الكثير لأولئك النّاس وخصّهم بالغنائم دون الأنصار، إنّما كان لغاية تأليف قلوبهم للإسلام، ولإظهار عظمة الإسلام؛ لئلّا يُرى فقيراً قليل العطاء، ولكي يكسر حالة العداء فيهم، فلا يعود أمثال أبي سفيان وابنه معاوية وغيرهما من المنافقين

 

 


[1]  راجع: الطبرسيّ، الشيخ الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، إيران - قمّ، 1417ه، ط1، ج1، ص236 - 237.

 

63

 


57

الموعظة الثامنة: مداراة الناس

لتنفيذ مؤامرتهم ضدّ الإسلام، وفي الوقت نفسه استثار (صلى الله عليه وآله) عواطف الأنصار بقوله: ألا ترضَون أن يكونَ رسولُ اللهِ في سهمِكم.

صور المداراة

1. مُداراةُ أهلِ الفُجورِ والشُّرورِ: لدَفعِ شُرورِهم، ودعوتِهم واستمالتِهم للخيرِ.

2. المداراةُ في الدَّعوةِ إلى اللهِ: قال تعالى لموسى وهارونَ (عليهما السلام): ﴿ٱذۡهَبَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ ٤٣ فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلا لَّيِّنا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ﴾[1].

أمَر اللهُ جلَّ وعلا نبيَّيه موسى وهارونَ (عليهما السلام) أن يقولا لفِرعَونَ في حالِ تبليغِ رسالةِ اللهِ إليه قَوْلاً لَيِّناً، وكلاماً لطيفاً سهلاً رقيقاً، ليس فيه ما يُغضِبُ ويُنَفِّرُ.

3. مُداراةُ الوالِدَينِ: قال تعالى: ﴿وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡم فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾[2].

4. المُداراةُ مع الزَّوجةِ: ولئن كان الإنسان يحتاج إلى المداراة للتعامل مع الناس؛ لدفع غوائلهم، والسلامة من أذاهم، فإنّه أكثر حاجة إلى هذا الخُلق في التعامل مع زوجته؛ فعن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّمَا مَثَلُ الْمَرْأَةِ مَثَلُ الضِّلْعِ الْمُعْوَجِّ، إِنْ تَرَكْتَهُ انْتَفَعْتَ بِهِ، وَإِنْ أَقَمْتَهُ كَسَرْتَهُ»[3].

 

 


[1]  سورة طه، الآيتان 43 - 44.

[2]  سورة لقمان، الآية 15.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص513.

 

 

65


58

الموعظة التاسعة: عاقبة الظلم قَتَلة الإمام الحسين (عليه السلام) نموذجاً

الموعظة التاسعة: عاقبة الظلم
قَتَلة الإمام الحسين (عليه السلام) نموذجاً

هدف الموعظة

بيان مظلوميّة أهل البيت (عليهم السلام) وسوء عاقبة الظلم في الدنيا والآخرة، ولا سيّما عاقبة قَتَلة الإمام الحسين (عليه السلام).

محاور الموعظة

النهي عن الظلم في القرآن الكريم

أعظم ظلم

أسباب الظلم

عاقبة الظلم في الدنيا

عاقبة الظلم في الآخرة

عاقبة ظالمي أهل البيت (عليهم السلام)

تصدير الموعظة

﴿وَسَيَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ﴾[1].

 

 


[1]  سورة الشعراء، الآية 227.

 

66


59

الموعظة التاسعة: عاقبة الظلم قَتَلة الإمام الحسين (عليه السلام) نموذجاً

الظلم هو وضع الشيء في غير مكانه، والحياد عن الحقّ باتّجاه الباطل، والتعدّي على الحقوق، والجَور فيها، والانحراف عن العدل.

والظلمُ من الأخلاق الذميمة، وقد نهَت عنه جميع الديانات السماويّة؛ لما ينتج عنه من أحقادٍ وضغائن وأذىً شديد على المظلوم؛ فالإنسان السوّي لا يقبل الظلم، ولا يظلم أحداً؛ لأنّه يعلم جيّداً عواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة.

النهي عن الظلم في القرآن الكريم

الآيات الواردة في ذمّ الظلم والظالمين كثيرة ومتنوّعة، منها:

﴿أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ﴾[1]، ﴿وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِير﴾[2]، ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾[3].

أعظم ظلم

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ»[4].

لقد عبَّر أمير المؤمنين (عليه السلام) بأوجز عبارة عن حقيقةٍ قرآنيّة، وهي أنّ الإنسان في هذه الدنيا عامل، وثمرة عمله تظهر في الآخرة.

فما يفعله الإنسان -حَسَناً كان أو سيّئاً- كان زاده الّذي يرافقه في الآخرة، وإن أسوأَ ما يمكن أن يحمله الإنسان وينقله من الدنيا الفانية

 

 


[1] سورة هود، الآية 18.

[2] سورة الحجّ، الآية 71.

[3]  سورة المائدة، الآية 51.

[4]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص507، الحكمة 221.

 

67


60

الموعظة التاسعة: عاقبة الظلم قَتَلة الإمام الحسين (عليه السلام) نموذجاً

أسباب الظلم

إنّ للظلم أسباباً كثيرة، نذكر منها:

1. الكفر

إنّ الكفر بنعم الله سبحانه، وجحودها، من أبرز أسباب الظلم، وقد أكّد ذلك القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَٱلۡكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾[1].

2. اتّباع الهوى واتّباع الظن

الظلم ليس وليد نفسه، بل له منابع وأسباب، ومن هذه الأسباب: تسلُّط الأهواء والغرائز على الظالمين حُكّاماً أو محكومين، قال تعالى: ﴿بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَهۡوَآءَهُم بِغَيۡرِ عِلۡمۖ﴾[2].

3. الاستكبار والتَرَف

مِن الناس مَن يُنعم الله سبحانه عليه بالنعم الكثيرة، ولكنّه لا يُدرك قدرها، فيستخدمها في غير ما خُلِقَت له، قال تعالى: ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ﴾[3].

ومعنى ذلك: إنّ أمر هذا الإنسان عجيب، فإنّه متى أحسَّ مِن نفسه قدرة وثروة خرج من الحدّ الّذي يجب أن يكون عليه، واستكبر عن الخشوع لربّه، وتطاول بأذى الناس، وعدّ نفسه فوقهم جميعاً، وقد كان من حقّه أن يكون وإيّاهم أعضاء أسرة واحدة، يتعاونون في

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 254.

[2] سورة الروم، الآية 29.

[3]  سورة العلق، الآيتان 6 - 7.

 

 

69


61

الموعظة التاسعة: عاقبة الظلم قَتَلة الإمام الحسين (عليه السلام) نموذجاً

السرّاء والضرّاء، ويحبّ الخير لهم كما يحبّه لنفسه.

ومن الأمثلة الّتي ساقها القرآن الكريم عن أولئك الّذين طغوا بسبب النعم: قصّة النمرود بن كنعان، الّذي أعطاه الله المُلك ثمّ بعد ذلك ادّعى الربوبيّة، قال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡتِي بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾[1].

4. اتّباع الشهوات

إنّ حُرُمات الله سبحانه هي ارتكاب ما حرّمه الله سبحانه، ونهى عن التعدّي عليه؛ من حقوق الخالق وحقوق المخلوقين؛ من أشخاص وأزمان وأمكنة. وقد حذّرنا الله سبحانه في أكثر من آية من انتهاك حرماته والتعدّي عليها، وجعل ذلك من أكبر الكبائر، عادّاً كلّ مَن ينتهكها ظالماً، قال تعالى: ﴿ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾[2].

عاقبة الظلم في الدنيا

لا يقتصر عقاب الظلم والظالمين في الآخرة، بل ثمّة عواقب وآثار كثيرة لهم في الدنيا، نذكر منها:

 

 


[1]  سورة البقرة، الآية 258.

[2] سورة البقرة، الآية 229.

 

 

71


62

الموعظة التاسعة: عاقبة الظلم قَتَلة الإمام الحسين (عليه السلام) نموذجاً

2. الحرمان من الهداية والفلاح واستحقاق اللعنة

بيّن القرآن أنّ الظالمين لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تتخلّف سُنّة الله عنهم، قال تعالى: ﴿كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡما كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾[1].

عاقبة الظلم في الآخرة

آثار الظلم وعواقبه في الآخرة كثيرة، نذكر منها:

1. الندم والحسرة: قال تعالى: ﴿وَيَوۡمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيۡهِ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلا﴾[2] وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الظُّلْمُ نَدَامَةٌ»[3].

2. العذاب الأليم: يقول تعالى: ﴿فَوَيۡل لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمٍ أَلِيمٍ﴾[4].

3. السقوط عن الصراط: عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلۡمِرۡصَادِ﴾[5]، قال: «قَنْطَرَةٌ عَلَى الصِّرَاطِ لَا يَجُوزُهَا عَبْدٌ بِمَظْلِمَةٍ»[6].

 


[1]  سورة آل عمران، الآية 86.

[2]  سورة الفرقان، الآية 27.

[3]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج72، ص322.

[4]  سورة الزخرف، الآية 65.

[5]  سورة الفجر، الآية 14.

[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص331.

 

 

72


63

الموعظة التاسعة: عاقبة الظلم قَتَلة الإمام الحسين (عليه السلام) نموذجاً

4. ظلمات: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «... وإيّاكم والظلم، فإنّ الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة...»[1].

والظلمات يوم القيامة قد تكون العمى، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلا﴾[2].

وقد تكون بمعنى التقلّب في ألوان المهانة والعذاب والشدائد.

5. عقوبة الظالم أشدّ من الظلم: عن الإمام عليّ (عليه السلام): «يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ، أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ»[3]؛ لأنّ المظلوميّة تذهب بذهاب الألم الناتج منها، وعلى الأكثر بموت المظلوم، بينما الاقتصاص من الظالم في الدار الآخرة يكون بعذابٍ أشدّ وأبقى وأدوم؛ ولذا قال الإمام عليّ (عليه السلام): «إِيَّاكَ وَالظُّلْمَ؛ فَإِنَّهُ يَزُولُ عَمَّنْ تَظْلِمُهُ، وَيَبْقَى عَلَيْكَ‏»[4].

6. الله خصم الظالم: عن الإمام عليّ (عليه السلام): «وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ»[5].

 


[1]  الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قمّ، 1403هـ - 1362ش، لا.ط، ص176.

[2] سورة الإسراء، الآية 72.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص511، الحكمة 241.

[4]  التميميّ الآمديّ، عبد الواحد بن محمّد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح السيّد مهدي رجائيّ‏، نشر دار الكتاب الإسلاميّ‏، إيران- قمّ، 1410ه‏، ط2، ص166.

[5]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص428، الكتاب 53.

 

73


64

الموعظة التاسعة: عاقبة الظلم قَتَلة الإمام الحسين (عليه السلام) نموذجاً

عاقبة ظالمي أهل البيت (عليهم السلام)

لقد ذكرت الروايات أنّ الإمام الحسين (عليه السلام)، وكذلك غيره من أصحابه، وكذلك أخته العقيلة زينب (عليها السلام) قد صدر عنهم ما يلفت إلى عواقب القَتَلة والمجرمين.

فقد أخبر الإمام الحسين (عليه السلام) ابنَ سعد أنّه لن يكون له مُلك الرَيّ، وقد حصل ذلك؛ وأنّه سيُذبَح على فراشه، وقد حصل ذلك على يدَي المختار الثقفيّ، الّذي قتل أيضاً قَتَلة الإمام الحسين؛ من ابن زياد، إلى حرملة، إلى شبث بن ربعيّ، إلى آخرين.

وقد أخبرت السيّدة زينب (عليها السلام) الطاغيةَ يزيدَ في مجلسه بزوال ملكه وملك آل أبي سفيان عمّا قريب، وعدم حصول مبتغاهم، حيث أطلقت صرختها للتاريخ: «فكدْ كيدَك، واسعَ سعيَك، وناصبْ جُهدَك، فوالله لا تمحو ذكرَنا، ولا تميتُ وحيَنا، ولا تدركُ أمدَنا، ولا ترحَضُ عنك عارَها، وهل رأيُكَ إلّا فنَد، وأيّامُك إلّا عدد، وجمعُك إلّا بدَد»[1]؛ وهكذا كان، فبعد ما لا يزيد على سنوات ثلاث، هلك يزيد، وانتقل ملك آل أبي سفيان إلى آل مروان، بينما بقي ذكر آل محمّد (صلى الله عليه وآله) يملأ المحافل، وينير الآفاق، ويجلو الظلمة عن الأبصار والبصائر.

ولا شكّ في أنَّ ظلم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) أعظم من ظلم غيرهم، والعقاب الأُخرويّ عليه يكون أشدّ وأعظم، ولا سيّما مَن ظلم الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه في يوم عاشوراء، حيث يقول الله تعالى: ﴿يُضَٰعَفۡ لَهُ ٱلۡعَذَابُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَيَخۡلُدۡ فِيهِۦ مُهَانًا﴾[2].

 

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص137.

[2]  سورة الفرقان، الآية 69.

 

74


65

الموعظة العاشرة: ثمرات الاعتقاد بإمامٍ غائب

الموعظة العاشرة: ثمرات الاعتقاد بإمامٍ غائب

هدف الموعظة

بيان ثمرات الاعتقاد بوجود إمامٍ حيٍّ غائب.

محاور الموعظة

ثمرات الاعتقاد بإمامٍ حيٍّ غائبٍ

طاعة مَنْ أَمَرَ الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بطاعته

تصدير الموعظة

رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عزّ وجلّ»[1].


 


[1]  الصدوق، الشيخ محمّد بن علي بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، إيران - قم، 1405ه - 1363 ش، لا.ط، ص644.

 

 

75


66

الموعظة العاشرة: ثمرات الاعتقاد بإمامٍ غائب

تُجمع الفرق الإسلاميّة كلّها على أنّ المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من النسل الطاهر لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّه سيملأ العالم قسطاً وعدلاً، وسيظهر لإقامة دين الله. كما ويعتقد غير المسلمين بنحوٍ أو بآخر بمستقبل مشرق للبشريّة.

لكن تتفرّد عقيدة الإماميّة بخاصّيّة عدم وجود أيّ غموض فيها؛ إذ ثمّة إحاطة بتفاصيل هذا الموضوع، ومعرفة جليّة بشخصيّة المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وكلّ ما يتعلّق بولادته المباركة. فهو موجود حاضرٌ، إلّا أنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت أن يغيب عن الأبصار، وتعيش الأمّة هذا الانتظار الكبير، وأن يعيش الإمام ذاته مثل هذا الانتظار أيضاً؛ انتظار ذلك اليوم الذي يظهر فيه بنهضة كنهضة الأنبياء تنتهي بنصر ساحق على جبهة الكفر والنفاق، وينقذ العالم من الظلم والجور والتمايز والتسلط والاستغلال؛ وسيأتي ذلك اليوم ويتحقّق هذا الوعد[1].

ثمرات الاعتقاد بإمامٍ حيٍّ غائبٍ

إنّ آثار الاعتقاد بالإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) كآثار الاعتقاد بالله وبالحضور الإلهيّ، ونحن نعتقد أنّ لله عزّ وجلّ حضوراً إحاطيّاً بهذا الكون كلّه، لا تشذّ ذرّة منه إلّا ولله قيموميّة وإحاطة بها، ﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُ﴾[2].

والاعتقاد بالإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هو اعتقاد بأنّ هذه القيموميّة والإحاطة الإلهيّة متجسّدة على الأرض في شخص يعيش عليها، وبالتالي فالآثار هي الآثار، فما هذه الآثار؟

 

 


[1]  من كلامٍ للإمام الخامنئيّ (دام ظله)، في الخامس عشر من شهر شعبان 1419هـ.ق (بتصرّف).

[2] سورة آل عمران، الآية 2.

 

 

76


67

الموعظة العاشرة: ثمرات الاعتقاد بإمامٍ غائب

1. الارتداع عن المعصية

عندما يصل إيمان الإنسان إلى الشعور بأنّ ثمّة رقابةً على سلوكه، وأنّ إماماً بشراً حيّاً يعيش بين ظهرانينا، ويشهد أعمالنا، كما ذكر القرآن الكريم: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّة وَسَطا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيداۗ ﴾[1]، فإنّ في ذلك رادعاً عن المعصية وعن الإقبال على الرذيلة. وقد ذكر أئمّتنا (عليهم السلام) أنّ أعمالنا تعرض عليهم، ويطّلعون عليها، فعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: ﴿ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ‏﴾[2]، قَالَ: «هُمُ الْأَئِمَّةُ»[3].

فالمعنى الأصيل والحقيقيّ لانتظار الفرج، أن تستقبل الإمام الحجّة (عليه السلام) بأعمالك الحسنة، وبتهذيب نفسك وتزكيتها، وتنمية المعاني الخيّرة فيها، خصوصاً مع معرفتنا أنّه إن صدر عنّا خير وصلاح سرّه ذلك، وإن كان شراً أو إثماً أساءه وأحزنه.

2. الأمن والاطمئنان

يعيش الإنسان بطبعه نزعة الخوف، سواء أكانت من كوارث الطبيعة أو الموت أو الأمراض أو الفتن أو الفقر أو غيرها. ولو أصغى الإنسان لنزعة الخوف لم يستطع أن يقاوم أمراً من الأمور؛ لذلك يحتاج الإنسان إلى طاقة من الأمن تصبغ على قلبه أجواءً من

 


[1]  سورة البقرة، الآية 143.

[2] سورة التوبة، الآية 105.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص219.

 

 

77


68

الموعظة العاشرة: ثمرات الاعتقاد بإمامٍ غائب

الأمن والاستقرار والدعة والاطمئنان، وقد عبّر عنها القرآن الكريم بذكر الله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾[1]، والمعصوم (عليه السلام) الذي يمثّل الله هو ذِكر الله؛ لذلك يقول تعالى: ﴿قَدۡ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكُمۡ ذِكۡرا ١٠ رَّسُولا يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ﴾[2]، فالرسول هو ذِكر.

ونقرأ في الزيارة الجامعة: «السلام على محالّ معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفظة سرّ الله، وحملة كتاب الله»[3]، هم ذِكره؛ لأنّهم هم الذين يجسّدون عبادته الحقيقيّة وذِكره الحقيقيّ على الأرض. لذلك، ذِكر الله بذِكر الإمام يزرع في القلب الهدوء والاستقرار والاطمئنان؛ لأنّك تشعر بأنّ ثمّة من يمدّك بالحيويّة والنشاط، ويبعث في قلبك الأمل، ليبدّد منك الخوف والهواجس. وعلى كلّ إنسان مؤمن أن يجدّد عهده مع الإمام في كلّ يوم من خلال الأدعية والزيارات المأثورة.

3. المحبّة والمودّة

العلاقة بالإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف) والاعتقاد بوجوده يزرعان درجةً من المحبّة والمودّة في النفس، يعيش المعتقِد لذّتها وحلاوة طعمها، فينفي عن نفسه الأحزان والأكدار، مهما طرأت عليه المصائب والنوائب؛ لأنّه

 

 


[1]  سورة الرعد، الآية 28.

[2] سورة الطلاق، الآيتان 10-11.

[3]  الصدوق، الشيخ محمّد بن علي بن بابويه، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، تصحيح الشيخ حسين الأعلميّ، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1404ه - 1984م، لا.ط، ج2، ص305. الزيارة الجامعة الكبيرة، مفاتيح الجنان.

 

 

78


69

الموعظة العاشرة: ثمرات الاعتقاد بإمامٍ غائب

يعيش الحبّ الحقيقيّ لله من خلال هذه العلاقة، ﴿قُل لَّآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ﴾[1].

4. الأمل وعدم اليأس

إنّ مجرّد الإيمان والاعتقاد بوجوده وحضوره (عليه السلام) في هذا العالم، من شأنه أن يخلق الأمل والطموح لدى المؤمنين، ويهوّن لديهم المصاعب والمعضلات، ويزيل همومهم وآلامهم؛ ولذلك فإنّ المؤمنين الصادقين لم يعرفوا الهزيمة والانكسار المعنويّ في صراعهم مع أهل الباطل والكفر والعدوان والإلحاد.

نعم؛ قـد يٌهزمون عسكريّاً فلا ينالون النصر في معركة ما، ولكن هذه الهزيمة لا يمكن أن تنال من معنويّاتهم ما دامت الغلبة في نهاية المطاف لا تكون لأهل الظلم والجور، ومادام هناك في هذا العالم إمام لا بدّ من أن يظهر ويأخذ بثأر المظلومين كلّهم على امتداد تاريخ العمل والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله عزّ وجلّ.

5. الأجر والثواب

تُعدّ الروايات الشريفة انتظار الفرج من أفضل العبادات، فالله تعالى يكتب لنا الأجر الجزيل لرسوخ عقيدتنا بالمهديّ (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ولدعائنا الكثير الدائم لـه بالظهور ووقوع الفرج بهذا الظهور المبارك، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أفضل أعمّال أمّتي انتظار الفرج من الله عزّ

 

 


[1] سورة الشورى، الآية 23.

 

 

79


70

الموعظة العاشرة: ثمرات الاعتقاد بإمامٍ غائب

وجلّ»[1]، وجاء أيضاً: «أفضل العبادة انتظار الفرج»[2]، فلولا انتظار الفرج ليئس المؤمنون من جهادهم وعملهم في سبيل الإسلام ورفعة كلمته، ولضاقت صدورهم حيـن وقوع البلايا والمصائب وتوالي المحن والآلام عليهم. بلى، لولا انتظار الفرج لما وثبوا إلى ساحات العمل والجهاد والبذل والتضحية بالمال والأنفس في سبيل الله.

6. الاستعداد والجهوزيّة

بما أنّ الظهور المبارك غير معلومٍ أوانه؛ فهذا يقتضي الاستعداد النفسيّ والجسميّ على الدوام. والمطلوب من المعتقِد بالإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أن يكون مهيّئاً مدرّباً نشيطاً مستعدّاً للتضحية على طول الخطّ، مضافاً إلى الاستعداد الأخلاقيّ، والتزكية النفسيّة، فالحجّة المنتظَر إنّما يريد أناساً طاهرين مخلصين، وهذا ما يجب أن نبنيه في أنفسنا، ونغرسه في أطباعنا وأخلاقنا.

طاعة مَن أمر الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بطاعته

باعتبار أنّنا نعيش في أيّام الانتظار، فإنّ علينا أن نطيع مَن أَمَرَ الله تعالى والإمام بطاعتهم، والمتمثلّين في الفقهاء العدول الأكفّاء الذين هم حصون الإسلام ونوّاب الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، القادرين على تحديد الوظيفة والدور المنوط بالأمّة، والمتمثّلة بالوليّ الفقيه الجامع للشرائط.

 

 

 


[1] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، ص644.

[2]  المصدر نفسه، ص287.

 

 

80


71
زاد عاشوراء للمحاضر الحسينيّ