المقدّمة
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
يعتبر علم الإنسان أو الأنتروبولوجيا من العلوم الحديثة - على صعيد الاصطلاح - في تاريخ العلوم الإنسانيّة، وإن كان بلحاظ يعرّفه وكونه علماً يعتني بدراسة الفرد وأعماله وسلوكه المجتمعيّ من أقدم العلوم، لكونه قد بدأ - والحال هذه - مع أقدم تأمّلات الإنسان في هذه الموضوعات.
وحيث إنّ للإسلام رؤيته الخاصّة والمتميّزة على هذا الصعيد، لكونه يعتمد على النصّ القرآنيّ وما أثر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته عليهم السلام، كان لزامًا علينا -كمركز للمناهج والمتون التعليميّة في جمعيّة المعارف الإسلاميّة- أن نعرض هذه الرؤية تلبية للحاجات التعليميّة في معاهدنا الثقافيّة، وبما يتناسب مع الشرائح المخاطبة، فكان هذا الكتاب الماثل بين يديك أخي القارئ.
وتجدر الإشارة إلى أنّنا قد اعتمدنا بشكل أساسيّ في إعداد القسم الأكبر من مادّة هذا الكتاب على ما دونّه سماحة آية اللَّه الشيخ محمد تقي المصباح اليزدي رحمه الله في كتابه "معارف القرآن"، وهو صاحب الفكر الأصيل النيّر والمتوقّد. وكلّنا أمل أن يجد فيه المتعطّشون للعلم والمعرفة والمتعلّمون ضالّتهم المنشودة.
والحمد للَّه ربّ العالمين
مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية
9
1
الدرس الأول: أهمِّيَّة معرفة الإنسان وضرورتها
الدرس الأول:
أهمِّيَّة معرفة الإنسان وضرورتها
أهداف الدرس
على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يعرّف علم الإنسان أو الأنثروبولوجيا
2. يبيّن أهميّة علم الإنسان (الأنثروبولوجيا).
3. يعدّد مزايا علم الإنسان الدينيّ.
11
2
الدرس الأول: أهمِّيَّة معرفة الإنسان وضرورتها
• تمهيد
الإنسان زينة الكون ودُرّة الخلق، وهو في قِمّة المخلوقات الإلهيّة، و"علم الإنسان" من أهمّ العناصر في الرؤية الكونيّة. ولمّا كان الإسلام هو النّسخة الأكمل من الهداية الإلهيّة، فقد أبدى اهتماماً فائقاً بهذا الموضوع.
• تعريف "علم الإنسان"
"علم الإنسان" أو "الأنثروبولوجيا"، بمعناه العامّ، هو دراسة الإنسان ومعرفته، وبنظرة أدقّ كلّ علم يتناول دراسة الإنسان دراسة عامّة، أو بحث بُعد من أبعاده الوجوديّة يسمّى "علم الإنسان".
فلمّا كان الإنسان موجوداً معقّداً جدّاً، وذا أبعاد مختلفة وشؤون متنوّعة، فإنّه يتعذّر دراسة جميع ذلك في فرع علميّ واحد؛ ولذا فكلّ فرع من فروع المعرفة التي تدرس جانباً من جوانب الوجود الإنسانيّ جديرة بإطلاق عنوان "علم الإنسان" عليها.
على أنّ الأنثروبولوجيا، أو علم الإنسان في مفهومه الجديد، يختلف عمّا يجري تناوله في الثقافة الدينيّة تحت عنوان المعرفة الإنسانيّة، فيعبّر عن علم الإنسان في النصوص الدينيّة بمعرفة النفس، ويُدرس فيه الإنسان من زاوية أنّه موجود
13
3
الدرس الأول: أهمِّيَّة معرفة الإنسان وضرورتها
متكامل، وله هدف سامٍ، وهذا الإنسان قادر على أن يخطو باتّجاه بلوغ الأهداف الإنسانيّة السّامية والكمال المنشود والسعادة الحقيقيّة من خلال التدبّر في وجوده وإدراك العوامل المودعة في فطرته من أجل بلوغ ذلك الهدف الأصيل[1].
هذا وتُبحث في علم الإنسان مراحل خلق الإنسان، وأجزائه وأبعاده الوجوديّة، وقابليّاته وقواه أيضاً.
• معرفة الإنسان، الأهمِّيَّة والضرورة
يُعدّ علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) واحداً من أهمّ العلوم الأساسيّة في العلوم الإنسانيّة، فالتّساؤلات عن اللَّه وعن الإنسان، وعن الكون تُمثّل أهمّ ثلاثة أسئلة تدور في مُخيّلة الإنسان دائماً. وفي هذا السياق، يحظى الاهتمام بالإنسان ولزوم معرفته بأهمِّيَّة كبيرة جدّاً، إلى درجة أنّ معرفة الإنسان من حيث كونه مخلوقاً معقّداً ومتشعّباً كانت من التعاليم الأساسيّة لكثير من المدارس الفلسفيّة والعرفانيّة، والأديان الإلهيّة أيضاً. وليس بخفيّ مدى أهمِّيَّة علم الإنسان في الإيمان بمعتقدات من قبيل النبوّة والمعاد، بل التّوحيد أيضاً، لما له من دور في بيان هذه الأصول. وقد أبدى الدّين الإسلاميّ اهتماماً منقطع النّظير بمعرفة الإنسان، واعتبر هذا النّحو من المعرفة أنفع المعارف:
"مَعْرِفَةُ النَّفْسِ أَنْفَعُ المَعَارِفِ"[2].
ومن جهة أخرى، اعتبر الجهل بالنّفس سبباً للجهل بكلّ شيءٍ:
"لَا تَجْهَلْ نَفْسَك، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ جَاهِلٌ بِكُلِّ شَيْءٍ"[3].
[1] انظر: مصباح اليزدي، خودشناسى براى خودسازى (معرفة الذات لبنائها)، ص4–5.
[2] الآمدي، أبو الفتح، غرر الحكم ودرر الكلم، 1349هـ، مطبعة العرفان، لبنان - صيدا، ص172.
[3] المصدر نفسه، ص598.
14
4
الدرس الأول: أهمِّيَّة معرفة الإنسان وضرورتها
• لماذا البحث عن معرفة الإنسان؟
تكمن أهمِّيَّة البحث عن معرفة الإنسان في الأمور الآتيّة:
1. معرفة الإنسان تحدّد هدفه ومسير حياته
عندما يقف الإنسان أمام خيارات متعدّدة، ويقف على مفترق طرق، ويكون مضطرّاً إلى أن يختار طريقاً، ويترك آخر، فإنّه يجب أن يكون مطّلعاً على الغاية الحقيقيّة التي من أجلها وجد في هذا العالم، حتّى يختار الطريق الذي يوصله إلى تلك الغاية، وينظّم حياته على أساسها.
2. معرفة الإنسان سبيل لمعرفة اللَّه
إنّ معرفة الإنسان نفسه هي سبيل وطريق إلى معرفة الحقّ-تعالى-، وسبيل إلى العرفان والشهود؛ ذلك لأنّ في الإنسان علامات على علمه –تعالى-وقدرته وحكمته...، ولا نعرف أيّ ظاهرة بين المخلوقات تشبه الإنسان، وتتمتّع بمقدار ما يتمتّع به من سرّ وحكمة. فمن بين جميع الموجودات، اختاره اللَّه - تعالى- ليكون خليفته، يقول –تعالى-: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[1]. ومظهراً لأسمائه: يقول - عزّ وجلّ -: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ﴾[2] وحاملاً لأمانته، يقول –جلّ وعلا-: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[3]، ومستحقّاً لسجود الملائكة له، يقول –تعالى-: ﴿وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾[4].
[1] سورة البقرة، الآية 30.
[2] السورة نفسها، الآية 31.
[3] سورة الأحزاب، الآية 72.
[4] سورة البقرة، الآية 34.
15
5
الدرس الأول: أهمِّيَّة معرفة الإنسان وضرورتها
إذن، الإنسان هو العالِم بجميع الأسماء الإلهيّة، وبالتالي فإنّ معرفة الإنسان نفسه لها دور مهمّ في معرفة اللَّه-تعالى-، وفي القرآن الكريم إشارات إلى هذا المعنى: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ﴾[1].
وفي آية أخرى يقول -تعالى-: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[2].
حيث يؤكّد بصورة خاصّة فيها على الآيات المتعلّقة بالأنفس.
وفي آية أخرى يقول -عزّ وجلّ-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ﴾[3].
فالالتفات للنفس له لون ارتباط أو ملازمة مع الالتفات للَّه، كما أنّ لنسيان النفس ارتباطاً أيضاً بنسيان اللَّه.
3. معرفة الإنسان نفسه تُساعد على تشخيص الأمراض الفرديّة والاجتماعيّة
إنّ معرفة الإنسان نفسه تساعده على التعرّف إلى خصائصه الوجوديّة، وبالتالي تدارك الخسران الذي قد يحدث نتيجة المشاكل الاجتماعيّة والفرديّة التي قد يُبتلى بها في حياته، فمثلاً: كثير من المفاسد الأخلاقيّة والاجتماعيّة التي يبتلى بها الإنسان هي نتيجة حصر بعضهم الوجود الإنسانيّ في هذه الحياة بالبعد المادّيّ فقط، ممّا أدّى إلى حَصْرِ هدفه، وكماله الحقيقيّ باللذائذ الحيوانيّة، ومن هنا نشأت نظريّات حطّت من مستوى الإنسان، فأوصلته إلى الحضيض، كما قال -تعالى-: ﴿إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾[4].
[1] سورة الذاريات، الآيتان 20 - 21.
[2] سورة فصلت، الآية 53.
[3] سورة المائدة، الآية 105.
[4] سورة الفرقان، الآية 44.
16
6
الدرس الأول: أهمِّيَّة معرفة الإنسان وضرورتها
4. معرفة الإنسان تكشف عن إمكانيّة نيل مقام النبوّة
إنّ الاعتقاد بوجود أفراد من الناس ينالون مقام النبوّة والرسالة هو لون من ألوان معرفة الإنسان. فنحن نعلم أنّه عند إرسال الأنبياء كان بعضهم يتعلّق بهذه الشبهة، وهي: إنّ الإنسان ليس مؤهّلاً لكي يوحى إليه، ولو أراد اللَّه أن يتكلّم معنا لفعل ذلك عن طريق أحد الملائكة. وفي مورد بعثة النبيّ نوح عليه السلام قالوا أيضاً: ﴿مَا هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيۡكُمۡ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَٰٓئِكَةٗ مَّا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِيٓ ءَابَآئِنَا ٱلۡأَوَّلِينَ﴾[1].
وكما ذكرنا، فإنّ وجوه هذا الاستبعاد هو أنّ الإنسان ليس لائقاً لأن يوحى إليه؛ أي حسب معرفتهم بالإنسان، فإنّهم لا يجدون فيه أهليّة لمثل هذه المسؤوليّة الراقية، وبناءً على هذا، فإذا عرف الإنسان بشكل صحيح، فإنّ من أبعاد معرفته أن يعلم أنّ في النوع الإنسانيّ من يتمتّع بهذه اللياقة، ولكن مَن هم الذين ينالون منصب النبوّة؟ وكم هو عددهم؟ فهذه مسألة أخرى.
5. ارتباط معرفة الإنسان بالمعاد
لا يمكن الاعتراف بالمعاد إلّا إذا سلّمنا بأنّ للإنسان روحاً، يمكن أن تبقى مستقلّة عن البدن، وأمّا إذا لم نعترف بأنّ هذا بُعدٌ من أبعاد وجود الإنسان، فإنّ موضوع المعاد يصبح فرضاً غير معقول؛ لأنّ الإنسان إذا كان هو هذا البدن فإنّه بتحلّله يتلاشى، وحينئذٍ يصبح فرض أنّ هذا الإنسان نفسه يجري إحياؤه مرّة أخرى فرضاً غير معقول؛ لأنّ الإنسان الذي سيجري إحياؤه يكون موجوداً آخر. والفرض الوحيد والصحيح للمعاد مبنيّ على هذه الحقيقة، وهي أنّ الإنسان عندما يموت تبقى روحه حتّى تعود مرّة أخرى إلى البدن. إذن، تغدو مسألة المعاد أيضاً مبنيّة على معرفة حقيقة الإنسان التي هي الروح بعنوان كونها موجوداً قابلاً للبقاء.
[1] سورة المؤمنون، الآية 24.
17
7
الدرس الأول: أهمِّيَّة معرفة الإنسان وضرورتها
6. معرفة الإنسان وارتباطها بالمسائل الأخلاقيّة
إنّ للمسائل الأخلاقيّة ارتباطاً وثيقاً بمعرفة الإنسان، فما لم تعرف حقيقة الإنسان فإنّه لا يمكن معرفة الكمالات التي يستطيع الظفر بها بالأخلاق الفاضلة، حتّى إنّه لا يمكن الظفر أيضاً بالمعايير الصحيحة للأخلاق الفاضلة وتمييزها من الأخلاق الرذيلة.
• مزايا علم الإنسان الدينيّ
لكلّ أنواع علم الإنسان خصائص ومزايا مُعيّنة، وكلّ واحد منها يرتبط بجانب من جوانب حياة الإنسان؛ لكن عموماً يمكن القول: يُعاني عالَم الإنسان اللّادينيّ بعضَ القيود والأزمات، وعلم الإنسان الدينيّ هو العلم الوحيد القادر على التّعريف بحقيقة الإنسان وماهيّته؛ ذلك أنّ خالق الإنسان يعرف حقيقة الإنسان أكثر من أيّ شخص آخر. ومن الواضح أنّ هذا النّحو من علم الإنسان ضروريّ جدّاً لتطوير العلوم الإنسانيّة، والتكامل الإنسانيّ والتمدّن البشريّ. وإذا ما قورن علم الإنسان الدينيّ بسواه فإنّه يتميّز بالخصائص الآتية:
1. الشموليّة
بما أنّ علم الإنسان الدينيّ يعتمد على الإمداد السماويّ، وحيث إنّه متحرّر من القيود التي تُعانيها الأنواع الأخرى من هذا العلم، يمكن أن يتميّز بشموليّة خاصّة؛ بمعنى أنّه حتّى لو كان يتحدّث عن بُعد خاصّ، فإنّ كلامه ناظر إلى الأبعاد الوجوديّة الأخرى للإنسان، ومتناسب معها؛ لأنّ النّاطق بهذا الكلام يتمتّع بالمعرفة التامّة والشّاملة وينظر إلى الإنسان بهويّته الحقيقيّة كاملة: ﴿أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ﴾[1].
[1] سورة الملك، الآية 14.
18
8
الدرس الأول: أهمِّيَّة معرفة الإنسان وضرورتها
مضافاً إلى ذلك، فإنّ دراسة مُكتسبات علم الإنسان الدينيّ تكشف بوضوح عن أنّ هذا التوجّه يأخذ بنظر الاعتبار الأبعاد المختلفة لوجود الإنسان، ويتحدّث عن الأبعاد الجسمانيّة والحياتيّة، التاريخيّة والثقافيّة، الدنيويّة والأخرويّة، الفعليّة والتصوريّة، الماديّة والمعنويّة، ويتوصّل في بعض هذه المجالات إلى حقائق لا يمكن التوصّل إليها عن طريق باقي أنواع علم الإنسان ومناهجها المختلفة.
2. الإتقان وعدم الخطأ
إنّ اعتماد علم الإنسان الدينيّ على المعارف السماويّة، وفي ضوء أنّ هذه المعارف لا تقبل الخطأ، يكسبه إتقاناً وثباتاً، تفتقر إليه باقي أنواع العلوم الإنسانيّة الفلسفيّة والعرفانيّة والتجريبيّة؛ فإن كانت الآراء في هذا العلم مستندة إلى الدين بصورة قطعيّة وبشكل منهجيّ، لا يبقى شكّ في قوّتها وبُعدها عن الخطأ والاشتباه، في حين تُعاني الأنواع الأخرى من العلوم الإنسانيّة آفات المعرفة البشريّة؛ ولذا لا يمكن القول بخلوّها من الخطأ تماماً. من هنا، أشار الباري -سبحانه وتعالى- إلى أنّ أهمّ ما يتميّز به القرآن الكريم هو أنّه لم يأتِ من غير اللَّه، وإلّا وُجدَ فيه اختلاف كثير:
﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾[1].
وأشار -سبحانه وتعالى- في آية أخرى إلى سلامة السبيل التي يدعو إليها هذا الكتاب السّماوي، قائلاً:
﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ﴾[2].
[1] سورة النساء، الآية 82.
[2] سورة الإسراء، الآية 9.
19
9
الدرس الأول: أهمِّيَّة معرفة الإنسان وضرورتها
3. الاهتمام بمبدأ الخلق ومنتهاه
عادةً يصار في علم الإنسان غير الدينيّ إلى أحد أمرين: إمّا يُدرس الإنسان بعيداً عن المبدأ والمعاد -كما هو ملاحظ في علم الإنسان التجريبيّ، وبعض نِحل علم الإنسان الفلسفيّ والعرفانيّ- وإمّا أن يجري الحديث في باب المبدأ والمعاد بشكل إجماليّ، وغير دقيق، بحيث لا يبيّن كيف يعيش الإنسان، وكيف يقطع طريق الكمال؟ بينما يكون المبدأ والمعاد في علم الإنسان الدينيّ بمثابة الرّكنين الأساسيّين في وجود الإنسان، ويحظيان بمزيد من الاهتمام والتّأكيد، حيث تُشرح بالتفصيل العلاقة بين حياة الإنسان الفعليّة وبين مبدأه ومنتهاه، وهذا ما أشارت له جملة من الآيات القرآنيّة، منها، الإشارة بعبارة مختصرة إلى المسار الطويل للحياة البشريّة بقوله -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾[1].
[1] سورة البقرة، الآية 156.
20
10
الدرس الأول: أهمِّيَّة معرفة الإنسان وضرورتها
المفاهيم الرئيسة
- كلّ علم يتناول دراسة الإنسان دراسة عامّة، أو بحث بُعد من أبعاده الوجوديّة يسمّى "علم الإنسان".
- التّساؤلات عن اللَّه وعن الإنسان، وعن الكون تُمثّل أهمّ ثلاثة أسئلة تدور في مُخيّلة الإنسان دائماً.
- إنّ معرفة الإنسان نفسه هي سبيل وطريق إلى معرفة الحقّ-تعالى-، وسبيل إلى العرفان والشهود؛ ذلك لأنّ في الإنسان علامات على علمه –تعالى- وقدرته وحكمته.
- إنّ معرفة الإنسان نفسه تساعده على التعرّف إلى خصائصه الوجوديّة، وبالتالي تدارك الخسران الذي قد يحدث نتيجة المشاكل الاجتماعيّة والفرديّة التي قد يُبتلى بها في حياته.
- مسألة المعاد مبنيّة على معرفة حقيقة الإنسان التي هي الروح بعنوان كونها موجوداً قابلاً للبقاء.
- علم الإنسان الدينيّ هو العلم الوحيد القادر على التّعريف بحقيقة الإنسان وماهيّته.
- إنّ اعتماد علم الإنسان الدينيّ على المعارف السماويّة، وفي ضوء أنّ هذه المعارف لا تقبل الخطأ، يكسبه إتقاناً وثباتاً، تفتقر إليه باقي أنواع العلوم الإنسانيّة الفلسفيّة والعرفانيّة والتجريبيّة.
21
11
الدرس الثاني: خلق الإنسان في القرآن
الدرس الثاني:
خلق الإنسان في القرآن
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس
1. يبيّن مبدأ خلق الإنسان.
2. يميّز بين المبدأ القريب والبعيد لخلق الإنسان.
3. يوضّح مراحل خلق خلق النبي آدم عليه السلام.
23
12
الدرس الثاني: خلق الإنسان في القرآن
• تمهيد
يُعدّ موضوع خلق الإنسان أهمّ الموضوعات في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا). وبما أنّ الفرضيّات البشريّة في هذا المجال لا تبعث على الاطمئنان بصورة كاملة، فلا بدّ من اللّجوء إلى العلم المستمدّ من الكتاب والسنّة، وما توصّل إليه الإنسان في ضوء الوحي والتجربة والعقل، بغية تقديم بحث قويّ في باب خلق الإنسان والمسائل المتعلّقة به.
• من أيّ شيءٍ خُلق الإنسان؟
عندما نلاحظ كيفيّة تناول القرآن الكريم لمبدأ وجود الإنسان، يبدو لأوّل وهلة أنّ بين الآيات اختلافاً في ذلك، ففي آية يقول اللَّه -تعالى-: إنّنا خلقناه من الماء ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا﴾[1]. وفي آية أخرى يقول: من ماء متدفّق: ﴿خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ﴾[2]. وفي آية ثالثة، يقول: من نطفة ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾[3] و...
[1] سورة الفرقان، الآية 54.
[2] سورة الطارق، الآية 6.
[3] سورة يس، الآية 77.
25
13
الدرس الثاني: خلق الإنسان في القرآن
ولكنّنا إذا تعمّقنا في الأمر فلن نجد اختلافاً؛ لأنّ النطفة، والماء، والماء الدافق، كلّها "ماء"، ويمكن الجمع بينها، وقد أُطلِق كلّ منها لجهة خاصّة. ومن هنا نعلم أنّ "الماء" باصطلاح القرآن لا ينحصر في ذلك السائل الخاصّ المركّب من أوكسجين وهيدروجين، وله خاصيّة اليونيسيشن (Ionisation)[1]، وإنّما هو اصطلاح واسع يشمل حتّى النطفة. فمن الواضح جدّاً، أنّ المقصود بالماء الدافق في الآية 6 من سورة الطارق ليس إلّا النطفة، ونحن في الاصطلاح الشائع بيننا لا نطلق على النطفة الماء إلّا بإضافة قيد، وعلى أيّ حال، فالقرآن الكريم يطلق على النطفة لفظة "الماء"، ويمكن القول: إنّ الماء في هذه الموارد يعني المائع أو السائل. ولكنّ هذا، أهو إطلاق حقيقيّ أم مجازيّ؟ فذلك بحث آخر.
ويمكن القول، إنّ الماء موضوع في اللغة للسائل الخاصّ المركّب من الهيدروجين والأوكسيجين، ولكنّه يطلق على كلّ سائل من باب التوسّع الذي هو لون من ألوان المجاز.
ومن ناحية أخرى، نستطيع القول: إنّ المقصود بالماء في جملة من الآيات الكريمة التي تتحدّث عن مبدأ وجود الإنسان هو الماء المتعارف عليه، فإذا قال: لقد خلقنا الإنسان من ماء، فهو بناءً على قوله -تعالى-: ﴿وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ﴾[2]، فالإنسان موجود حيّ، ويعدّ القرآن الماء مبدأ وجود كلّ حيّ. هذا وجه، ولكنّ الوجه الأوّل المبنيّ على التوسّع في الاستعمال هو الأقرب.
[1] اليونيسيشن: اصطلاح كيمياويّ، يُستعمل في دراسة محاليل الحوامض والأملاح، وما يحدث من تأثير وتأثّر بين تلك المحاليل. وهناك نظريّة للعالِم السويديّ (آرنيوس) حول تأثير الحوامض في الفلزات، فحسب هذه النظريّة عندما تنحلّ جزيئات الحامض والملح والماء، تنحلّ كلّها أو بعضها، إلى ذرّات صغيرة تُسمّى (ion)، ويظهر في المحلول نوعان من اليون: أحدهما يحمل شحنة كهربائيّة موجبة، والآخر يحمل شحنة كهربائيّة سالبة.
[2] سورة الأنبياء، الآية 30.
26
14
الدرس الثاني: خلق الإنسان في القرآن
• ما معنى: لم يكن شيئاً مذكوراً في الآية المباركة؟
يقول اللَّه –تعالى-: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾[1].
عندما بشّر اللَّه زكريا بمنحه الولد أصابه العَجَب. ولكي يرفع تعجّبه أوحى إليه: ﴿قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾. وبعبارة أخرى، فإنّ الإنسان لم يكن موجوداً، فمنحه اللَّه الوجود.
وبالنسبة إلى كلّ الناس يقول -عزّ وجلّ-: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾[2]. وفي آية أخرى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾[3].
إنّ ما يستفاد من الآيتين الأُوليين، هو أنّ اللَّه خلق الإنسان، بينما لم يكن في السابق شيئاً، فهو "لا شيء"، وأمّا ما يستفاد من الآية الأخيرة فهو أنّ شيئاً باسم "الإنسان" لم يكن موجوداً.
وقد يطرأ على بعض الأذهان هذا التوهّم، وهو: بناءً على هذا، فإنّ كلّ إنسان قد خُلق فجأة ومن دون مادّة قبليّة، وبالاصطلاح الفلسفيّ إنّ وجوده إبداعيّ، ولكنّه من الواضح أنّ هذا المعنى ليس مقصودَ الآياتِ الشريفة. وأفضل شاهد على ذلك، أنّه يذكر في آيات كثيرة أخرى، أنّنا خلقنا الإنسان من تراب أو من ماء؛ أي إنّه يصرّح بوجود مادّة قبليّة له.
لا شكّ في أنّ المقصود بها هو الإشارة إلى وجود مادّة قبليّة توفّر الأرضيّة لوجود الإنسان، إلّا أنّه لا بدّ من إضافة شيء إليها حتّى يوجد الإنسان، وذلك الشيء ليس مادّة ولا أمراً ماديّاً، وبه تتحقّق فعليّة جديدة في المادّة لم تكن موجودة من قبل. فقد كان تراباً، وكان نطفة ولم يكن إنساناً، فالمضاف إلى المادّة هو الصورة الإنسانيّة التي أبدعها اللَّه -تعالى-.
[1] سورة مريم، الآية 9.
[2] السورة نفسها، الآية 67.
[3] سورة الإنسان، الآية 1.
27
15
المقدّمة
وهناك احتمال ضعيف وهو: أنّ السؤال عن ذلك التراب من أيّ شيء خُلق؟ وبالتالي ينتهي إلى أنّ المادّة الأولى لكلّ العالم إبداعيّة، وليس لها مادّة قبليّة. إذن قوله: ﴿وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ إشارة إلى أنّ المادّة الأولى لم تُخلَق من مادّة أخرى.
• المبدأ البعيد والقريب لخلق الإنسان
وتختلف بعض الآيات القرآنيّة المُتعلّقة بخلق الإنسان عن بعضها الآخر في جوانب عدّة حسب الظاهر، فذكرت مناشئ متعدّدة لخلق الإنسان عموماً، وذهب إلى أنّه خُلق من الأرض والتّراب والماء والطّين والنّطفة. فعلى سبيل المثال، بعض الآيات الواردة في خلق الإنسان الأوّل والمتحدّثة عن كيفيّة خلق النبيّ آدم عليه السلام كشفت أنّه خُلق من التّراب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كلّ إنسان -عدا آدم عليه السلام وعيسى عليه السلام- مخلوق من النّطفة، وهي ناتجة ومتشكّلة من الموادّ الغذائيّة، وهذه الموادّ المُشتملة على لحوم الحيوانات، وثمار الأشجار، وموادّ معدنيّة وأمثالها منشأها الماء والتراب، وبالتالي، فهي من الأرض. وعليه، يمكن القول: إنّ مبدأ خلق كلّ إنسان هو الأرض والتراب والماء والطّين، وسنشير أدناه إلى عدد من الآيات في هذا المجال:
﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ﴾[1].
﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ﴾[2].
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ﴾[3].
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾[4].
﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ﴾[5].
[1] سورة هود، الآية 61.
[2] سورة الحجّ، الآية 5.
[3] سورة الأنعام، الآية 2.
[4] سورة الفرقان، الآية 54.
[5] سورة النحل، الآية 4.
28
16
الدرس الثاني: خلق الإنسان في القرآن
وعلى هذا الأساس، يمكن القول: كلّ واحد من الآيات المتقدّمة تشير إلى جانب من المادّة التي خُلق منها الإنسان
.
1. خَلْقُ النبيّ آدم
إنّ أوّل شخص أطلق عليه اسم "الإنسان" أو "البشر" هو النبيّ آدم عليه السلام، والآية الآتية تبيّن أنّ آدم عليه السلام خُلق من التراب مباشرةً ومن دون أبوين: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾[1].
روي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّ نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول اللَّه عليه السلام، وكان سيّدهم الأهتم والعاقب والسيّد، وحضرت صلواتهم فأقبلوا يضربون بالنّاقوس وصلّوا... فلمّا فرغوا دنوا من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: إلامَ تدعو؟ فقال: "إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدٌ مَخْلُوقٌ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيُحْدِثُ".
قالوا: فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: قل لهم: ما يقولون في آدم، أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ فسألهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: نعم. فقال: "فَمَن أبوه؟" فبقوا ساكتين، فأنزل اللَّه: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ﴾[2].
2. خَلْقُ بني آدم
تكشف الآية الآتية عن مدى الاختلاف بين خلق النبيّ آدم عليه السلام وخلق بنيه:
﴿وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ ٧ ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ﴾[3].
[1] سورة آل عمران، الآية 59.
[2] انظر: القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي، تصحيح وتعليق وتقديم: السيد طيب الموسوي الجزائري، مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر، إيران - قم، 1404هـ، ط3، ج1، ص104.
[3] سورة السجدة، الآيتان 7 - 8.
29
17
الدرس الثاني: خلق الإنسان في القرآن
فالتباين الذي تتحدّث عنه هذه الآية بين خلق أوّل إنسان، وبين خلق نسله من بعده يكشُف بوضوح عن وجود اختلاف في طريقة خلق الجانبين[1].
3. مراحل خَلْقِ الإنسان من النّطفة
لم تكتفِ المصادر الإسلاميّة ببيان طريقة خلق الإنسان بصورة عامّة، وإنّما صوّرت لنا التفاصيل والمراحل المختلفة لنموّ الإنسان. فعلى سبيل المثال، أشارت الآيات الآتية إلى مراحل خلق الإنسان بصورة دقيقة:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾[2].
تشير الآية الأولى إلى بداية وجود جميع البشر من آدم وأبنائه، وأنّهم خُلقوا جميعاً من التراب، إلّا أنّ الآية تشير إلى دوام نسل الإنسان واستمراريّته بواسطة تركيب نُطفة الذّكر ببويضة الأنثى في الرّحم[3].
ثمّ إنّ مراحل تركيب النّطفة وتكوّن الجنين هي:
المرحلة الأولى: من التراب إلى نطفة. المرحلة الثانية: من النّطفة إلى العلقة. المرحلة الثالثة: من العلقة إلى المُضغة. المرحلة الرابعة: نشوء العظام. المرحلة الخامسة: نموّ اللّحم حول العظام. وبهذه المرحلة يكتمل الخلق الجسمانيّ للإنسان بصورة جنين. والمرحلة الأخيرة في هذه المسيرة تعلّق الروح بهذا الجسم، وهو ما يحصل في الشهر الرابع من عمر الجنين، وسنتحدّث عن ذلك في الدّرس القادم.
[1] انظر: الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي، مكتب الإعلام الإسلامي، لا.م، 1409هـ، ط1، ج8، ص295.
[2] سورة المؤمنون، الآيات 12 - 14.
[3] انظر: الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب اللَّه المنزل، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج10، ص429.
30
18
الدرس الثاني: خلق الإنسان في القرآن
يقول القرآن الكريم بشأن جنس الجنين:
﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾[1].
وقال أيضاً:
﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ﴾[2].
على أنّ هذه المراحل المذكورة هي مراحل الخلق الجسمانيّ، التي تبدأ بالتّراب وتنتهي بتكوّن الجنين[3]، وقد بيّنت الروايات تفاصيل أدقّ في هذا الخصوص، وكشفت عن زوايا أخرى من التكامل الجسمانيّ للبشر منذ بدء انعقاد النّطفة حتّى نفخ الرّوح في البدن.
• نَفْخ الرّوح
بعدما بيّن القرآن الكريم المراحل المختلفة لخلق الإنسان، ابتداءً بالنّطفة، مروراً بالعلقة والمُضغة والعظام وانتهاءً باللّحم، أشار إلى نفخ الرّوح في البدن باعتباره نقطة مفصليّة في حياة الإنسان. فبعد اكتمال البنية الجسديّة للجنين، يُضاف إليها عنصرٌ آخر، وتبلغ مرتبة وجوديّة جديدة، وهي المرحلة التي عبّر عنها القرآن الكريم بنفخ الرّوح في البدن، مشدّداً على أنّ الإنسان يشهد في تلك الحالة خلقاً آخر: ﴿ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ﴾[4].
يُشار إلى أنّ عبارة "نفخ الرّوح" وردت في خمسة مواضع من القرآن الكريم: اثنان منها بشأن النبيّ آدم عليه السلام ، وموضع واحد في الإنسان مطلقاً، واثنان بشأن السيّدة مريم عليه السلام.
[1] سورة الحجّ، الآية 5.
[2] سورة الشورى، الآية 49.
[3] انظر: مصباح اليزدي، محمد تقي، معارف قرآن، مصدر سابق، ج3.
[4] سورة المؤمنون، الآية 14.
31
19
الدرس الثاني: خلق الإنسان في القرآن
. نَفْخ الرّوح في آدم:
وردت آية في القرآن الكريم تتحدّث عن نَفخ الرّوح في النبيّ آدم عليه السلام ، وتحكي خطاب الباري -سبحانه وتعالى- إلى الملائكة قبيل خلق آدم: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾[1].
ومن الواضح أنّ سجود الملائكة مختصّ بالنبيّ آدم عليه السلام ، ويمكن القول: إنّ الآية مختصّة بآدم، ويستفاد منها أنّ نفخ الرّوح حَدَثَ بعد اكتمال الشّكل المادّيّ للنبيّ آدم عليه السلام[2].
2. نَفْخ الرّوح في نوع الإنسان:
الآيات ذات المضمون العامّ والشّاملة لجميع الناس هي قوله -سبحانه وتعالى-:
﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾[3].
أشارت هذه الآيات في بداية الأمر إلى خلق الإنسان الأوّل من الطّين، ومن ثمّ خلق نسله من ماء مهين، ثمّ أطلقت حكماً عامّاً شاملاً للإنسان الأوّل ونسله معاً، ويُستفاد من تعبيره بكلمة "سوّاه" أنّه في هذه المرحلة خلق الإنسان بصورة متّزنة، وأنّه خلقه على الوجه الأكمل. وبعدما اكتمل خلق الجنين أو تمّ خلق الإنسان الأوّل؛ فإنّ اللَّه -سبحانه وتعالى- نفخ فيه الرّوح.
وكما تقدّمت الإشارة، هذا هو الموضع الوحيد الذي استعمل فيه "نفخ الرّوح" بشأن عموم الإنسان.
[1] سورة الحجر، الآيتان 28 – 29.
[2] انظر: مصباح اليزدي، محمد تقي، دروس في العقيدة الإسلاميّة، دار الرسول الأكرم، 1988م، ج3، ص17.
[3] سورة السجدة، الآيات 7 – 9.
32
20
الدرس الثاني: خلق الإنسان في القرآن
3. نَفْخ الرّوح والسيّدة مريم:
استعملت عبارة "نفخ الرّوح" بشأن السيّدة مريم عليها السلام أيضاً، وذلك في آيتين من القرآن الكريم: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾[1].
﴿وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾[2].
صحيحٌ أنّ نفخ الرّوح في هاتين الآيتين قد نُسب إلى السيّدة مريم عليها السلام نفسها، لكنّ هذا النفخ هو الذي أوجب نشوء النبيّ عيسى عليه السلام؛ ذلك أنّ مريم كانت موجودة قبل واقعة النّفخ المذكورة، فلا صلة لنفخ الرّوح بوجودها.
4. معنى انتساب الرّوح إلى اللَّه
لاحظنا في الآيات المتقدّمة أنّ الباري -سبحانه وتعالى- نسب الرّوح إلى نفسه، فقال: ﴿مِن رُّوحِي﴾[3]، ﴿مِن رُّوحِنَا﴾[4]، ﴿مِن رُّوحِهِۦۖ﴾[5].
ويستشفّ من الرّوايات الإسلاميّة أنّه كان بعض الناس في صدر الإسلام، وعصر الأئمّة الميامين عليهم السلام يتوهّمون حلول جزء من اللَّه أو شيء منه في الإنسان، علماً أنّ هذه الرؤية كانت موجودة بنحو أو بآخر في بعض المدارس البشريّة أيضاً، فيقال: إنّ الإنسان مركّب من عنصرين: إلهي وشيطانيّ، وقد دفع وجود هذه الفكرة في أذهان بعضٍ إلى تصوّر أنّ الإنسان سيصبح إلهاً في نهاية المطاف بعد قطع مسيرته التكامليّة!
[1] سورة الأنبياء، الآية 91.
[2] سورة التحريم، الآية 12.
[3] سورة الحجر، الآية 29.
[4] سورة الأنبياء، الآية 91.
[5] سورة السجدة، الآية 9.
33
21
الدرس الثاني: خلق الإنسان في القرآن
وربّما كان هذا هو السبب في سؤال الإمام المعصوم عليه السلام عن النبيّ آدم عليه السلام: "هَلْ كَانَ فِيهِ مِنْ جَوْهَرِيَّةِ الرَّبِ شَيْءٌ"[1].
وعلى هذا الأساس، يظنّ بعض الناس أنّ الأئمّة الكرام عليهم السلام لديهم روح إلهيّة، وينسب بعضهم النبيّ عيسى عليه السلام إلى الذّات الإلهيّة، لكنّ أهل البيت عليهم ال حاربوا هذه الأفكار في الرّوايات المأثورة عنهم بشدّة، واعتبروا ذلك كفراً وإلحاداً، فإنّ روح الإنسان مخلوقة للَّه، وهي من أمر اللَّه، وليس للَّه جزء؛ ولذا لا ينبغي للمؤمن باللَّه والعارف بالأبحاث العقديّة الضروريّة في الإسلام أن يقع في مثل هذا التوهّم.
وعليه فليس المُراد بقوله -سبحانه وتعالى-: ﴿مِن رُّوحِنَا﴾ هو نفخ شيء من اللَّه في جسد الإنسان ووجود عنصر إلهيّ فيه، بل هذه النّسبة بتعبير الأدباء "إضافة تشريفيّة"، بمعنى أنّ اللَّه -سبحانه وتعالى- نسب هذا المخلوق إليه لتكريم الرّوح الإنسانيّة العظيمة، مثلما نسب الكعبة إليه، وعبّر عنها بقوله: "بيتي".
والنتيجة أنّه يستفاد من القرآن الكريم أنّ ثمّة شيئاً شريفاً وعظيماً في الإنسان، فضلاً عن بدنه، وهو من خلق اللَّه -جلّ وعلا-، ولا يصل الإنسان إلى مرتبة الإنسانيّة ما لم ينضوِ على تلك الحقيقة[2].
[1] المجلسي، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، مؤسسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج3، ص292.
[2] انظر: مصباح اليزدي، معارف القرآن، مصدر سابق، ج3.
34
22
الدرس الثاني: خلق الإنسان في القرآن
المفاهيم الرئيسة
- يُعدّ موضوع خلق الإنسان أهمّ الموضوعات في علم الإنسان (الأنثروبولوجيا).
- عندما نلاحظ كيفيّة تناول القرآن الكريم لمبدأ وجود الإنسان، يبدو لأوّل وهلة أنّ بين الآيات اختلافاً في ذلك.
- إذا تعمّقنا في الأمر فلن نجد اختلافاً؛ لأنّ النطفة، والماء، والماء الدافق، كلّها "ماء"، ويمكن الجمع بينها.
- إنّ أوّل شخص أطلق عليه اسم "الإنسان" أو "البشر" هو النبيّ آدم عليه السلام.
- لم تكتفِ المصادر الإسلاميّة ببيان طريقة خلق الإنسان بصورة عامّة، وإنّما صوّرت لنا التفاصيل والمراحل المختلفة لنموّ الإنسان.
- بعدما بيّن القرآن الكريم المراحل المختلفة لخلق الإنسان، ابتداءً بالنّطفة، مروراً بالعلقة والمُضغة والعظام وانتهاءً باللّحم، أشار إلى نفخ الرّوح في البدن باعتباره نقطة مفصليّة في حياة الإنسان.
- إنّ روح الإنسان مخلوقة للَّه، وهي من أمر اللَّه، وليس للَّه جزء؛ ولذا لا ينبغي للمؤمن باللَّه والعارف بالأبحاث العقديّة الضروريّة في الإسلام أن يقع في مثل هذا التوهّم.
34
23
الدرس الثالث: الخلافة الإلهيّة
الدرس الثالث:
الخلافة الإلهيّة
أهداف الدرس
على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يبيّن معنى الأسماء في قوله -تعالى-: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا﴾.
2. يوضّح المقصود من الخليفة في قوله -تعالى-: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.
3. يشرح المعيار الذي كُلِّف على أساسه آدمُ بالخلافة الإلهيّة من قبل اللَّه تعالى.
36
24
الدرس الثالث: الخلافة الإلهيّة
الدرس الثالث:
الخلافة الإلهيّة
أهداف الدرس
على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يبيّن معنى الأسماء في قوله -تعالى-: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا﴾.
2. يوضّح المقصود من الخليفة في قوله -تعالى-: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.
3. يشرح المعيار الذي كُلِّف على أساسه آدمُ بالخلافة الإلهيّة من قبل اللَّه تعالى.
36
24
الدرس الثالث: الخلافة الإلهيّة
• آدم عليه السلام والإنباء بالأسماء
في الآيات المتعلّقة بخلق الإنسان، ورد في عدّة مجالات أنّ اللَّه عندما أتمّ خلق الإنسان، ونفخ فيه من روحه أمر الملائكة بالسجود له. إلّا أنّ هذا ورد بتفصيل أكبر في (سورة البقرة) متعرّضاً لأقوال الملائكة حول خلق الإنسان.
قال -تعالى-: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾[1].
لا يظهر من الآية ما هي هذه الأسماء: أهي أسماء اللَّه؟ أم المخلوقات؟ أم كلاهما؟ وهل المقصود الأسماء نفسها أم مسمّياتها؟ وهل هذه المسمّيات ذوات عقول حتّى يعود إليها الضمير في "عَرَضَهُم"، أم الضمير هنا أُعيد مجازاً إلى غير ذوي العقول؟
[1] سورة البقرة، الآية 30 - 31.
38
25
الدرس الثالث: الخلافة الإلهيّة
وما هي الميزة الكامنة في هذه الأسماء ممّا جعلها مهمّة إلى هذا الحدّ؟ وهل كان الملائكة قادرين على العلم بها أم لا؟
وإذا كانوا قادرين، فلماذا لم يعلّمهم اللَّه؟ وإن لم يكونوا قادرين فهل تعلّموا بعد إخبارهم من قبل آدم أم لا؟ وإذا كانوا قد تعلّموا فقد أصبحوا مثل آدم، وكان اللَّه أيضاً قادراً على أن يقوم بنفسه تعالى بتعليمهم، فإذا تعلّموا أصبحوا مؤهّلين لخلافة اللَّه؟
وأسئلة أخرى... يكون الجواب عنها صعباً جدّاً.
• ما المراد بالأسماء في الآية الكريمة؟
وفي الروايات اختلافٌ أيضاً في بيان هذه المسائل والجواب عنها، والجمع بينها ليس بالأمر السهل، فمثلاً جاء في بعض الروايات أنّ الأسماء التي علّمها اللَّه آدم هي أسماء جميع الموجودات.
وفي رواية أخرى عن أبي العباس، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن قول الله ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا﴾ ماذا علمه؟ قال: "الأرضين والجبال والشعاب[1] والأودية، ثمّ نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط ممّا علمه"[2].
وجاء في بعض الروايات، أنّها أسماء المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام[3]، ويعود الضمير في "عرضهم" إلى أنوارهم المخلوقة قبل خلق آدم، ولم يستطع الملائكة معرفتهم، ولم يدركوا أهميّتهم، وآدم هو الذي كان مؤهّلاً لذلك، وهذا هو وجه تميّزه عنهم، حيث تعرّف إلى مقام نورانيّة المعصومين عليه السلام.
[1] الشعاب جمع الشعب: الطريق في الجبل. مسيل الماء في بطن الأرض. ما انفرج بين الجبلين.
[2] العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، تحقيق: الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، إيران - طهران، 1422هـ، ط1، ج1، ص 32.
[3] ) انظر: البحراني، السيد هاشم الحسيني، البرهان في تفسير القرآن، تحقيق: قسم الدراسات الاسلامية - مؤسسة البعثة، إيران - قم، لا.ت، لا.ط،، ج1، ص164.
39
26
الدرس الثالث: الخلافة الإلهيّة
وتلاحظون مدى الصعوبة في الجمع بين هذه الروايات.
إلّا أنّ مورد اهتمامنا هنا هو الجملة الأولى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾.
فما المقصود بالخلافة؟ وإذا كان من الممكن إطلاق المقام عليها، فأيّ مقام هي؟
ونريد أن نعرف: عمّن تكون الخلافة؟
وهل هي مختصّة بشخص آدم أم تشمل بعض الناس الآخرين أم جميع الناس؟
إذن، موضوع بحثنا هو مسألة خلافة آدم عليه السلام، ولسنا هنا بصدد الجواب عن سائر الأسئلة، ولسنا مطمئنّين إلى أنّنا قادرون على الجواب.
• مفهوم الخلافة
الخلافة مأخوذة من جذر "الخَلْف"؛ أي وراء الظهر. والفعل الذي يؤخذ منه يعني الإتيان وراءه، ولازمه أن يكون مكانه.
وقد استعمل القرآن ألفاظاً من هذا الاشتقاق في مورد الأمور غير الإنسانيّة، وفي مورد الناس أيضاً، فهو تعالى يطلقها على الناس:
﴿فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا﴾[1].
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ﴾[2].
خلْفٌ أي جيل منهم. ونحن نقول في استعمالاتنا المتعارف عليها: خلفاً عن سلف، ونقصد جيلاً بعد جيل.
[1] سورة مريم، الآية 59.
[2] سورة الأعراف، الآية 169.
40
27
الدرس الثالث: الخلافة الإلهيّة
واستعملها القرآن في مورد الأشياء غير الإنسانيّة أيضاً:
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾[1].
أي أحدهما يخلف الآخر، ويحلّ محلّه. ولعلّ التعبير ﴿وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ﴾ الوارد في القرآن الكريم، هو بهذا المعنى. فكلمة الاختلاف تعني "التعاقب" وتستعمل كثيراً، فنحن نقرأ في أوّل "الزيارة الجامعة" خطاباً للمعصومين عليهم السلام: "ومختلف الملائكة".
أي إنّكم أهل بيت تذهب الملائكة وتجيء إليه.
والحاصل، أنّ معنى الخلافة هو حلول شيء محلّ شيء آخر. وهذا المعنى واضح في المحسوسات. فغالباً ما تكون الألفاظ مستعملة في البدء في موارد حسّيّة، ويمكن القول: إنّها موضوعة لمعانٍ حسّيّة، ثمّ بالتدريج وحسب احتياج الناس لإدراك المفاهيم الاعتباريّة والمعنويّة يستعملون تلك الألفاظ نفسها الموضوعة للحسّيّات في الأمور الاعتباريّة والمعنويّة أيضاً. ففي أفعال اللَّه وصفاته يستعمل مفهوم العلوّ وهو -أي هذا المفهوم- يكون موضوعاً في البدء للعلوّ الحسّيّ، ثمّ يستعمل في العلوّ الاعتباريّ، ثمّ في العلوّ الحقيقيّ المعنويّ للَّه -تعالى- على المخلوقات.
وكذا الخلافة، فهي موضوعة في البدء للخلافة الحسيّة، ثمّ استعملت في الأمور الاعتباريّة؛ أي إذا كان ثمّة شخص يتمتّع بمقام اعتباريّ، فهو يُحِلّ شخصاً آخر محلّه في هذا المقام، وها هنا لا معنى لوحدة المكان، لكنّ اختلاف الزمان مطلوب.
وأحياناً يؤخذ هذا بشكل أوسع، فتستعمل الخلافة في الأمور الحقيقيّة المعنويّة، مثل مقام الله تعالى، وهنا لا يمكن أخذ الزمان أيضاً، فلا يمكن القول
[1] سورة الفرقان، الآية 62.
41
28
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
في مورده -جلّ وعلا- إنّه كان له هذا المقام في زمان ما، ثمّ أسنده إلى غيره بعد ذلك.
فهناك لون من العلاقة التكوينيّة الخاصّة بين اللَّه وبعض مخلوقاته، تلك المخلوقات ذوات الرتبة العالية بحيث تقترب من حدود مقام الربّ، وكما ورد في الدعاء: "لا فرق بينك وبينها إلّا أنّهم عبادك وخلقك"[1].
فالأفعال التي فعلها اللَّه تصدر عنهم مع هذا الفرق، وهو أنّ اللَّه يفعل مستقلّاً، وهؤلاء يفعلون بما أنّهم ظلال للوجود الإلهيّ.
فأيّ واحد من هؤلاء يعبّر عنه بأنّه خليفة اللَّه.
• ما المقصود بالخليفة في الآية الشريفة؟
لقد استعمل القرآن كثيراً كلمة الخليفة وجمعها بصورة خلفاء وخلائف. فبالنسبة إلى كلمة الخليفة المفردة جاء:
1. ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[2].
2. ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾[3].
وفي سائر الموارد وردت الآيات حول أولئك الأشخاص الذين سُمّوا بالخلفاء أو الخلائف.
فبالنسبة إلى داود عليه السلام عندما نتأمّل في الآية نلاحظ بوضوح أنّ الخلافة من قِبَل اللَّه، فهو تعالى الجاعل للخلافة وهو أيضاً المستخلَف عنه.
ولا بدّ من ملاحظة أمور عدّة في الخلافة الاعتباريّة والحقيقيّة لما وراء الطبيعة:
[1] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج95، ص393.
[2] سورة البقرة، الآية 30.
[3] سورة ص، الآية 26.
42
29
الدرس الثالث: الخلافة الإلهيّة
أ. الخالف أو المستخلَف: (وهو الشخص الذي يحلّ محلّ الآخر، إذا حلّ بنفسه فهو خالف، وإذا أحلّه شخص آخر فهو مستخلَف).
ب. المخلوف أو المستخلَف عنه: وهو من حلَّ المستخلَفُ محلَّه.
ج. المستخلِف: وهو الذي يُحِلّ أحداً مكان شخص آخر.
د. المستخلَف فيه: وهو المكان أو الفعل الذي تتعلّق به الخلافة.
ففي الآية التي هي موضوع البحث تكون (الأرض) هي المكان المستخلَف فيه.
وداود عليه السلام هو الخليفة، واللَّه هو المستخلِف، أمّا مَن هو المستخلَف عنه؛ أي إنّ داود يكون خليفة لمَن؟ وما هو الفعل المستخلّف فيه أيضًا؟
إذا التفتنا إلى ذيل الآية:
﴿فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ﴾[1]، فسوف نعرف بوضوح أنّ الفعل المستخلَف فيه هو القضاء.
ولكنّ هذا العمل يفعله نيابةً عن مَن؟ هل هو نيابةً عن الناس الذين سبقوا داود؟ أم عن الحاكم الذي تقدّم عليه؟ أم عن اللَّه -تعالى-؟
إنّ من يتمتّع برؤية إسلاميّة يعرف أنّ الحكم للَّه من وجهة نظر الإسلام: ﴿إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ﴾[2]، وكلّ من يرغب في أن تكون له حكومة مبنيّة على الحقّ فلا بدّ من أن يكون منصوباً من قِبَل اللَّه. ومن الواضح أنّ كلّ من يُنصَّب من قبل الله فهو خليفته.
[1] سورة ص، الآية 26.
[2] سورة الأنعام، الآية 57.
43
30
الدرس الثالث: الخلافة الإلهيّة
• ما نوع هذه الخلافة؟
الجواب: إنّ الخلافة أمر تشريعيّ وجعليّ واعتباريّ. فالقضاء ليس منصباً تكوينيّاً وإنّما هو تشريعيّ، وإن كان لا بدّ للقاضي من أن يكون مؤهلّاً للقضاء. إذن، ممّا لا شكّ فيه، أنّ الخلافة في هذه الآية خلافة عن اللَّه وهي تشريعيّة.
وهل كانت لداوود عليه السلام خلافة تكوينيّة أيضاً؟
لا يظهر شيء من خلال هذه الآية، وإن كان نفيها أيضاً غير ممكن، فلعلّها كانت له وهي المنشأ لخلافته التشريعيّة، إلّا أنّ الآية لا تبيّن ذلك، أو على الأقلّ نحن لا نستطيع أن نستظهره منها.
ما معنى الخلفاء والخلائِف التي وصف اللَّه بها الناس في سائر موارد الكتاب الكريم؟ فهل هؤلاء خُلفاء اللَّه أم الوصف لأشخاص آخرين؟
قال بعضهم: إنّ الخلافة في جميع هذه الموارد هي عن اللَّه.
إلّا أنّ التعمّق في هذه الآيات يؤدّي إلى النتيجة، وهي أنّ المقصود بالخلافة فيها هو الحلول محلّ الآخرين من المتقدّمين. وهناك شواهد تؤيّد هذا الرأي.
يقول -تعالى-: ﴿وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾[1].
فقد صُبَّ العذاب الإلهيّ على قوم نوح، ونحن أحللناكم محلّهم.
وقد جاء في بعض الموارد تعبير: ﴿وَيَسۡتَخۡلِفَكُمۡ﴾[2].
وفي مورد آخر: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾[3] (وهو بمعنى يستخلف).
[1] سورة الأعراف، الآية 69.
[2] السورة نفسها، الآية 129.
[3] سورة إبراهيم، الآية 19.
44
31
الدرس الثالث: الخلافة الإلهيّة
وعلى أيّ حال، يبدو لنا أنّ هذه الموارد تتحدّث عن الخلافة عن الإنسان، ولا سيّما الناس الذين عصوا ربّهم، فليست هي بمعنى الخلافة عن اللَّه وإنّما بمعنى الخلافة عن السابقين.
حتّى إنّ بعضهم زعم أنّ الآية الماضية: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، الواردة في آدم عليه السلام هي أيضاً تثبت له الخلافة عن الماضين؛ أي كانت تعيش على الأرض قبل آدم موجودات أو أناس لكنّهم انقرضوا، أو أشياء تشبه الإنسان ممّا تسمّيه بعض الروايات بالنسناس[1] أو الجنّ أو أمور أخرى... والآن يقول اللَّه: إنّا جعلنا آدم مكانها. فهذه الخلافة هي إحلال آدم محلّ المخلوقات التي سبقته. ويوردون شاهداً على رأيهم، فيقولون: ألا ترون الملائكة يقولون:
﴿أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا...﴾.
فالملائكة قد شاهدوا تلك الموجودات السابقة، وهي تفسد وتسفك الدماء، ولذا فإنّهم يقولون أتريد أن تخلق موجوداً يفسد أيضاً؟
ويظهر لنا أنّ هذا الرأي غير صحيح، وأنّ المقصود بها هي الخلافة الإلهيّة؛ لأنّه:
أوّلاً: بمجرّد أن يقول اللَّه -تعالى- للملائكة "إنّي" جاعل خليفة من دون أن يعيّن الخلافة عمّن هي، إنّ هذا القول نفسه ظاهر في كون الخلافة عنه تعالى. فإذا أعلن حاكم أنّه قد عيَّن خليفة، فالذي يتبادر إلى الذهن أنّه قد عيَّن خليفة مكانه.
ومضافاً إلى هذا، فإنّه يريد بيان أمور للملائكة تعدّهم لاستقبال الأمر بالسجود.
فعندما يريد اللَّه أن يقول للملائكة: إنّي أريد أن أخلق موجوداً، فلا بدّ من أن يعرّفه عادة: ما هو الموجود؟ أو يشير إلى أنّه: لماذا لا بدّ من السجود له؟ فما
[1] انظر: العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج54، ص322.
45
32
الدرس الثالث: الخلافة الإلهيّة
يناسب المقام هو اليعرّف لتهيئة الظرف لطاعة أمره. فمن المناسب أن يقول: سوف أخلق موجوداً هو خليفتي، وأنتم ملزمون بالسجود له. هذا وجه لإثبات أنّ الخلافة هنا هي عن اللَّه -تعالى-.
وهناك وجه آخر يتميّز بأهمِّيَّة خاصّة، وهو أنّه عندما يقول اللَّه: إنّي أريد خلق موجود يكون خليفتي، فإنّ الملائكة يقولون: أتستخلف من يفسد ويسفك الدماء بينما نحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك. وهذا طلب مؤدّب يحكي اعتقادهم بأنّه: من الأفضل أن تستخلفنا نحن لا الموجود الذي يسفك الدماء. ومن الجمل اللاحقة التي يقول فيها اللَّه: ﴿أَنۢبُِٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾، يمكن الحدس بأنّه كان للملائكة ادّعاء يقبل الصدق والكذب. ﴿إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾، ماذا يعني؟ في أيّ شيء، إذا كانوا صادقين، فيجيبون؟ الظاهر أنّه إن كنتم صادقين في أنّكم أليق بالخلافة، فأخبروني. والظاهر أنّ الذي أقنع الملائكة هو معرفتهم بأنّ لآدم علماً، ليس لديهم منه نصيب. إذن، يُعلَم من هذا أنّهم كانوا يدّعون كونهم أليق بالأمر منه. وهنا نصل إلى النتيجة النهائيّة وهي إذا كان الموضوع هو حلول شخص محلّ آخر (وليس هو الخلافة عن اللَّه) فلماذا يصرّ الملائكة على كونهم أليق؟ ولماذا كانوا ينافسون الإنسان؟ إذن، كان يطمع هؤلاء في الوصول إلى مقام رفيع، وليس ذلك إلّا الخلافة الإلهيّة.
• معيار الخلافة
ما هو المعيار الذي كُلِّف على أساسه آدمُ بالخلافة الإلهيّة من قبل اللَّه؟ والمَقياس الذي فوّضت بحسبه الخلافة الإلهيّة لآدم من قِبَل اللَّه؟
من الآيات اللاحقة فهمنا أنّ المعيار هو "العلم بالأسماء". لكن، هل الملائكة لم يكونوا عالِمين بأيّ واحد من هذه الأسماء، أم كانوا يعلمون ببعضها؟ وكلمة "كلّها" في الآية تدلّ على أنّهم لم يكونوا عالمين بالجميع، وهذا لا ينافي علمهم
46
33
الدرس الثالث: الخلافة الإلهيّة
ببعض الأسماء. فإذا كانت الأسماء أسماء اللَّه فلا شكّ في أنّ للملائكة علماً بأسمائه تعالى، وشاهِدُ ذلك تسبيحهم وتقديسهم. وعلى الأقلّ، فإنّهم يعلمون باسمَي السبّوح والقدّوس.
والظاهر أنّه يمكن القول، إنّ معيار الخلافة هو الجمع بين الأسماء، أي لا يليق بالخلافة هذه إلّا مَن علم بجميع الأسماء.
وعلى الإجمال يمكن القول، لمّا كان اللَّه هو المستخلِف، وهو في الوقت نفسه مستخلَف عنه، فلا بدّ من أن يقوم الخليفة بأفعال إلهيّة. ولا بدّ من أن يكون له علم بما يتعلّق بمجال خلافته، فيجب أن يعرف اللَّه وصفاته ومخلوقاته أيضاً حتّى يعرف كيف يؤدّي واجبه بالنسبة إليهم. وإطلاق الخلافة يقتضي العلم بجميع الأسماء.
ويغدو هذا الوجه مؤيّداً لكون المراد بالأسماء أسماء اللَّه ومخلوقاته معاً.
ثمَّ هل كانت هذه المنزلة العلميّة لآدم (وهو علم جامعٌ كاملٌ منحه اللَّه له وجعله به صالحاً لمقام الخلافة) في هذا العالم المادّيّ أم في عالم آخر؟ وهل مُنحت له فعلاً أم أُعطي الاستعداد لها فحسب؟
إنّنا نعفي أنفسنا من الجواب عن هذه الأسئلة، ويمكننا الادّعاء إجمالاً أنّ مناسبة الحكم للموضوع تقتضي علمه بأسماء اللَّه، وأسماء مخلوقاته أيضاً. ولمّا كان الموضوع هو الخلافة المطلقة، فالقاعدة تقتضي أن يكون له علم بجميع أسماء اللَّه، حتّى يصبح خليفة للَّه بكلّ معنى الكلمة، وأن يكون له علم أيضاً بجميع مخلوقاته.
47
34
الدرس الثالث: الخلافة الإلهيّة
ويغدو هذا وجهاً للجمع بين طائفتين من الروايات: إحداهما تؤكّد أسماء اللَّه، والأخرى تؤكّد أسماء مخلوقاته.
• هل هذه الخلافة مختصّة بآدم أم تشمل أناساً آخرين أيضاً؟
إنّ الآية لا تدلّ على انحصارها في آدم، ولعلّه من جملة "أتجعل فيها..." التي قالتها الملائكة، ومن جواب اللَّه لهم يمكن الاستفادة أنّها لم تكن منحصرة فيه؛ لأنّه لا يتصوّر الفساد والإفساد بالنسبة إلى آدم وهو معصوم، وإلّا كان الجواب عندئذٍ: إنّ آدم لا يفسد ولا يسفك الدماء. أمّا أنّ كلّ إنسان يتمتّع بهذا المقام، فلا أحد من المطّلعين على الأصول الإسلاميّة يقول بذلك.
إنّ منصب الخلافة الذي لم تكن الملائكة مؤهّلة للظفر به، أيمكن أن يليق به أمثال: الشمر ويزيد ...
إنّ أمثال الأنبياء والأئمّة المعصومين، سلام اللَّه عليهم أجمعين، هم الذين يستطيعون الظفر بمثل هذا المنصب.
ويشهد بهذا ما نقرأه من عبارات في زياراتهم:
"السلام على أنصار اللَّه وخلفائه"[1].
"ورضيكم خلفاء في أرضه"[2].
فعلى الإجمال، يمكن القول: إنّ الخلافة عن اللَّه ليست منحصرة في آدم، وإنّما هناك أفراد في النوع الإنسانيّ قد نالوا هذا المنصب، بشرط واحد وهو "العلم بالأسماء". لكن من الذي كان له مثل هذا العلم؟
يمكن من بعض المجالات معرفة أنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام كانوا يتمتّعون بهذا العلم، وهو "علم الكتاب كلّه".
وقد جاء في الكتاب العزيز: ﴿وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَٰبِ﴾[3]، وفسّرت الآية بأمير المؤمنين والأئمّة المعصومين عليهم السلام[4].
[1] القمي، الشيخ عباس، مفاتيح الجنان، تعريب: السيد محمد رضا النوري النجفي، مكتبة العزيزي، إيران - قم، 1385ش - 2006م، ط3، الزيارة الجامعة، ص543.
[2] المصدر نفسه، الزيارة الجامعة، ص545.
[3] سورة الرعد، الآية 43.
[4] الشيخ الحويزي، تفسير نور الثقلين، تصحيح وتعليق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قم، 1412هـ - 1370ش، ط4،، ج2، ص521-524، الحديث 340-220.
48
35
المقدّمة
المفاهيم الرئيسة
- إنّ اللَّه عندما أتمّ خلق الإنسان، ونفخ فيه من روحه أمر الملائكة بالسجود له.
- هل المقصود الأسماء في قوله -تعالى-: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ﴾ نفسها أم مسمّياتها؟ وهل هذه المسمّيات ذوات عقول حتّى يعود إليها الضمير في "عَرَضَهُم"، أم الضمير هنا أُعيد مجازاً إلى غير ذوي العقول؟.
- جاء في بعض الروايات أنّ الأسماء التي علّمها اللَّه آدم هي أسماء جميع الموجودات.
- وجاء في بعض الروايات، أنّها أسماء المعصومين الأربعة عشر سلام اللَّه عليهم، ويعود الضمير في "عرضهم" إلى أنوارهم المخلوقة قبل خلق آدم.
- الخلافة موضوعة في البدء للخلافة الحسيّة، ثمّ استعملت في الأمور الاعتباريّة؛ أي إذا كان ثمّة شخص يتمتّع بمقام اعتباريّ، فهو يُحِلّ شخصاً آخر محلّه في هذا المقام.
- بمجرّد أن يقول اللَّه -تعالى- للملائكة "إنّي" جاعل خليفة من دون أن يعيّن الخلافة عمّن هي، إنّ هذا القول نفسه ظاهر في كون الخلافة عنه تعالى.
- إنّ الخلافة عن اللَّه ليست منحصرة في آدم، وإنّما هناك أفراد في النوع الإنسانيّ قد نالوا هذا المنصب، بشرط واحد وهو "العلم بالأسماء".
49
36
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
الدرس الرابع:
كرامة الإنسان
أهداف الدرس
على المتعلم مع نهاية هذا الدرس:
1. يبيّن مكانة الإنسان بالنسبة إلى سائر المخلوقات.
2. يوضّح قيمة الإنسان في القرآن الكريم.
3. يذكر القيمة الخلقيّة وعلاقتها بالاختيار.
50
37
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
• مكانة الإنسان بالنسبة إلى سائر المخلوقات
من المواضيع التي تحسن دراستها في معرفة الإنسان، هي مكانة الإنسان بالنسبة إلى سائر المخلوقات.
ولهذا البحث تاريخ ممتدّ في الثقافة البشريّة، وتلاحظ في هذا المجال وجهات نظر متعدّدة.
قال بعضهم: إنّ الإنسان أفضل المخلوقات، وعلى أقلّ تقدير يمكن القول: إنّه إلى الحدّ الذي انتهى إليه العلم البشريّ لا يوجد مخلوق أكمل من الإنسان.
ومن ناحية أخرى، فقد شكّ بعضهم في هذا الاتّجاه، معتبراً منشأه حبّ الإنسان لذاته، فهو يريد التسلّط على جميع الموجودات واستخدامها لمصلحته.
واستدلّت الفئة الأولى لتأييد دعواها بامتيازات الإنسان الفكريّة، واستعداداته المتنوّعة، وبآثاره الصادرة منه؛ كالحضارة والتقدّم الصناعيّ وأمثالهما.
واستشهدت الفئة الثانية على ما تقول بما قام به الإنسان من جرائم فظيعة على مرّ التاريخ ممّا لا يصدر حتّى من الوحوش المفترسة.
ويدخل الاتّجاه الإنسانيّ (Humanisme) الذي يتمتّع بجذور عميقة في تاريخ الفكر البشريّ ضمن الاتّجاه الأوّل.
51
38
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
ويكون الإنسان - في هذا الاتّجاه - محور جميع الحقائق والقيم، وتدور جميع الأنشطة العلميّة والعمليّة للبشر حول محور الإنسان نفسه.
وقد تجسّد هذا الاتّجاه بأشكال متعدّدة، فنحن نلاحظ في عدد من المدارس الفلسفيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأخلاقيّة التي يعاصرنا بعضها أنّها تصرّ على أصالة الإنسان، ولكنّها تختلف في النتائج التي تستنبطها في المجال الفلسفيّ أو السياسيّ أو القانونيّ. ومن النماذج الحيّة لهذا الاتّجاه ما نشاهده اليوم في أغلب الدول المتحضّرة ظاهراً، فهم يُشدّدون على حفظ كرامة الإنسان في القوانين الجزائيّة. وأنّه لا بدّ من تخفيف العقوبات حتّى تصبح تربويّة، ويجب التعامل مع المجرم على أساس كونه مريضاً ويحتاج إلى علاج. ولهذا أُلغيت عقوبة الإعدام إطلاقاً في بعض الدول.
• قيمة الإنسان في القرآن الكريم
فهل قيمة الإنسان -من وجهة نظر القرآن الكريم- أرفع من قيمة أيّ موجود آخر؟ أم لا فضل له على أحد؟ أم التفصيل هو الصحيح؟ بل بأيّ شيء تكون قيمة الإنسان أساساً؟
إنّ تناول القرآن للإنسان متنوّع جدًّا، ففي بعض الآيات ينسب ميزة للإنسان بشكل عامّ:
﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ﴾[1].
وظاهر الآية أنّ جميع أبناء آدم مكرّمون من قِبَل اللَّه، وفي ذيل هذه الآية يقول:
﴿وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا﴾[2].
[1] سورة الإسراء، الآية 70.
[2] السورة والآية نفسها.
52
39
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
فهذه الآية تمدحه وظاهرها العموم. ويستعين بمثل هذه الآية أنصار الاتّجاه الإنسانيّ من المسلمين لدعم وجهة نظرهم.
وفي مقابلها توجد آيات ذامّة له على العكس من الأولى:
﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾[1].
﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾[2].
وهناك طائفة من الآيات تفيد نوعاً من التفصيل:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾[3].
ويبدو من هاتين الآيتين أنّ للإنسان مرحلتين: أولاهما هي الموصوفة بـ"أحسن تقويم" ويتعلّق بها التكريم الإلهيّ، والأخرى هي "أسفل سافلين" التي يسقط بها.
ونواجه في هذا المضمار سؤالاً: هل من الحكمة أن يخلق اللَّه الإنسان مزوّداً بالكمال ثمّ يسقطه في بئر الشقاء؟
إذن، لا بدّ من التعمّق أكثر في هذه الآيات لنعرف وجه ذلك التكريم وهذا الذمّ، وثمّ لنعرف رأي القرآن في الإنسان ومنزلته بالنسبة إلى الموجودات الأخرى.
• ما المراد من الكمال؟
قبل أن نبدأ دراستنا التفصيليّة للآيات لا بدّ من لَفْت النظر إلى ملاحظة وهي: إنّنا تارةً ننظر إلى منزلة الإنسان من منطلق أنّها أمر تكوينيّ، وليس لها حينئذٍ جهة "قيميّة" كما يُعبّر اليوم، وتارةً أخرى ننظر إليها بعنوان كونها مفهوماً أخلاقيّاً وقيميّاً. وإن كان بعضهم قد توهّم أنّ مفهوم الكمال والفضيلة مفهوم قيميّ
[1] سورة إبراهيم، الآية 34.
[2] سورة المعارج، الآية 19.
[3] سورة التين، الآيتان 4 – 5.
53
40
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
مطلقاً، ولا وجود لشيء باسم الكمال والفضيلة بين المفاهيم الحقيقيّة. إلّا أنّ هذا التوهّم غير صحيح، فنحن بغضّ النظر عن المعايير الخلقيّة نستطيع أن نقارن بين الموجودات ونقول هذا الموجود أكمل من ذاك. فمثلاً، نقارن بين الجماد والنبات أو بين النبات والحيوان، فنقول إنّ للحيوان كمالاً لا يتمتّع به النبات و...
فلفظة "الكمال" في هذه الموارد لا تحمل معنًى قيميّاً، وإنّما المقصود بها بيان مراتب الوجود. فالوجود في أحد المجالات أرفع وله آثار أكثر، بينما هو في مجال آخر أخفض، وله آثار أقلّ. وحسب الاصطلاح الفلسفيّ فإنّنا عندما نقارن بين الموجودات نلاحظ تفاوتاً بينها من ناحية المرتبة الوجوديّة، ولا نلتفت في هذه النظرة إلى مفهوم قيميّ وإنّما نلاحظ شيئاً تكوينيّاً حقيقيّاً فحسب.
مثلاً، عندما نقارن بين النبات والجماد نجدهما مشتركين في الحجم والوزن والمقاومة، لكنّ للنبات شيئاً لا يوجد في الجماد، وهو إنتاج المثل والنموّ، ولهذا نقول إنّ النبات أكمل منه.
وكذا الحيوان عندما نقيسه بالنبات، فإنّ له كمالاً وهو "الحركة الإراديّة" و"الإدراك" ممّا لا يوجد في "النبات"[1].
لكنّنا أحياناً ندرس منزلة الإنسان بعنوان كونها قيمة خلقيّة: فإذا قلنا هذا الإنسان أكمل أو أشرف فالمقصود هو المفاهيم ذات القيمة الخلقيّة.
إذا أخذنا هذه المقدّمات بعين الاعتبار عند دراسة آيات القرآن الكريم، نجد أنّ كثيراً من الاختلافات بين الآيات تعود إلى هذا الجانب. فإذا قال اللَّه -عزّ وجلّ-: ﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ﴾[2]، فإنّه في مقام مقارنته بسائر المخلوقات، ولهذا فهو
[1] ولا يتنافى مع هذا ما يقال من أنّ هناك بعض الموجودات واقعة بين النبات والحيوان؛ أي ليس لها حركة إراديّة إلّا أنّ لها ما يشبهها، وتتمتّع بلون من الإحساس الضعيف، كالنباتات التي تصطاد الحيوانات ومثل ما يقال عن إخافة أشجار النخيل لأجل الإثمار.
[2] سورة الإسراء، الآية 70.
54
41
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
يذكر أموراً ليس لها قيمة خلقيّة، ويبيّن النعم التي تفضّل بها على الإنسان ممّا لم ينعم به على الموجودات الأخرى، وبالتالي يكون للإنسان كمال وجوديّ أكبر.
وجاء في بعض التفاسير، أنّ المقصود بتكريم الإنسان هو كونه مستوي القامة[1]، وسائر الحيوانات تفتقد هذا الكمال.
ويُتبع تلك الآية بقوله: ﴿وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ﴾[2].
فهاتان الجملتان مفسّرتان لتلك الكرامة.
فالحيوانات لا بدّ من أن تقطع المسافة بقوّتها الذاتيّة. أمّا الإنسان فهو يستطيع أن يستغلّ الحيوانات أنفسها لهذا الأمر.
وقد أشار القرآن إلى هذا بقوله: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[3].
﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ﴾[4].
ولا ينحصر هذا في الحيوانات، فالسفن وسائر وسائل النقل أيضاً قد جعلها تحت تصرّف الإنسان وهي ليست تحت تصرّف الحيوان.
وكذا في قوله: ﴿وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ﴾[5].
فعلاوة على كون نوع غذاء الإنسان من الطيّبات، فإنّه يستطيع أن يركّب الموادّ الغذائيّة، ليعدّ لنفسه ألواناً من الأغذية الشهيّة، على عكس الحيوانات فإنّ لها لوناً من الغذاء البسيط من الموجودات الطبيعيّة.
[1] انظر: الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، تفسير جوامع الجامع، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1418هـ.ق، ط1، ج2، ص385.
[2] سورة الإسراء، الآية 70.
[3] سورة النحل، الآية 8.
[4] السورة نفسها، الآية 7.
[5] سورة الإسراء، الآية 70.
55
42
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
وأخيراً يقول -تعالى-: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾[1].
والظاهر أنّ هذا التفضيل تكوينيّ أيضاً.
لماذا قال: "على كثير"؟
لعلّ الذين لم يُفضّل الإنسان عليهم هم الملائكة أو مخلوقات أخرى لا نعلمها.
وكذلك، عندما يكون في مقام ذمّ الإنسان، فيصفه بصفات ذميمة، وينسب إليه خصالاً سيّئة (وهي ذميمة وسيّئة في حدّ نفسها)[2]، فتارةً يُدرس هذا من الناحية الأخلاقيّة، وتارةً أخرى من الناحية التكوينيّة.
فعندما يقول - عزّ وجلّ -: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾[3].
فهو في مقام مقارنته بالموجودات التي ليس لها هذا الضعف، كالملائكة التي تتميّز بقوى أكثر من الإنسان. وأحياناً يؤكّد ذلك في مقابل قدرة اللَّه حتّى يدرك الإنسان ضعفه فلا ينتابه الغرور. ومعنى ذلك أنّك أيّها الإنسان إذا كان لك كمال فإنّ فيك ضعفاً أيضاً، وكلّ قواك وقدراتك لا تساوي شيئاً في مقابل قدرة اللَّه.
وهناك آيات تتحدّث عن تكريم الإنسان أو ذمّه، ولا بدّ من دراستها من وجهة نظر خلقيّة.
• القيمة الخلقيّة وعلاقتها بالاختيار
فنحن نعلم أنّ القيمة الخلقيّة لا تطرح للبحث إلّا من خلال علاقتها بالاختيار. فإذا لم يكن اختيار فلا معنى للقيمة الخلقيّة. فالمدح والذمّ الأخلاقيّان لا يليقان إلّا بالذين يقومون بأعمالهم الحسنة أو القبيحة باختيارهم وإرادتهم. فلو كان الإنسان مجبراً
[1] سورة الإسراء، الآية 70.
[2] وإن كانت هذه الصفات في مقام الارتباط بسائر الصفات يمكن أن تكوّن أرضيّة لتكامل الإنسان.
[3] سورة النساء، الآية 28.
56
43
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
على السلوك الصحيح فلا مجال لمدحه من الناحية الخلقيّة، كما أنّ الإنسان المجبر على ارتكاب الجريمة لا يناله الذمّ.
وللاختيار المطروح للبحث هنا طرفان: هذا الطريق أو ذاك الطريق، أو على الأقلّ اختيار الفعل أو الترك.
وهنا نتساءل: هل هذا الوجود الذي أمامه طريقان أو أكثر وهو مختار، يستحقّ المدح الأخلاقيّ قبل القيام بالاختيار؟
كلا، لأنّه قبل القيام بأعمال الاختيار لم يصدر منه عمل يستوجب المدح، وكذا في الجانب السلبيّ. ونواجه عندئذٍ هذا السؤال: هل صحيح أنّ الناس جميعاً يُمدحون خلقيّاً، من دون التفات إلى السبل التي يختارونها؟ قلنا: كلا، فقبل القيام بالفعل الحسن أو الرديء لا مجال للمدح ولا للذمّ، وبعد القيام بالفعل فإنّ لبعضهم قيمةً إيجابيّة ولبعضهم الآخر قيمة سلبيّة. ومن هنا يُطرَح لونان من القيمة: القيمة الإيجابيّة للذين يعملون الخير، والقيمة السلبيّة للذين يجترحون الشرّ.
والآيات الكريمة تشير إلى هذا الموضوع، فمثلاً بعد قوله -تعالى-:
﴿ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ﴾، يقول: ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾[1].
فهؤلاء لا ينحطّون إلى أسفل سافلين.
وبعد قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾[2].
يقول -عزّ وجلّ-: ﴿إِلَّا ٱلۡمُصَلِّينَ﴾[3].
[1] سورة التين، الآية 6.
[2] سورة المعارج، الآية 19.
[3] السورة نفسها، الآية 22.
57
44
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
والحاصل، أنّ هناك طائفة من الآيات الشريفة، تنظر إلى الكرامة التكوينيّة للإنسان، والواقع أنّ هدف المدح فيها هو مدح فعل اللَّه، وإذا كانت للإنسان فضيلة فهي باعتبار أنّه متعلّق بالتكريم الإلهيّ، وإلّا فإنّه -حسب النظرة العميقة- تكون تلك الكرامات للَّه. ولكنّه في المجال الذي تتحقّق فيه الأفعال الاختياريّة، فإنّه لا يمكن عدّه مجالاً للكرامة العامّة والشاملة لكلّ أفراد الإنسان.
إذن، جوابنا عن السؤال القائل: هل للإنسان ميزة -من الناحية القيميّة- على جميع الموجودات؟ وهل الناس متساوون في هذا المضمار؟ هو:
كلا، فليس كلّ الناس أفضل من كلّ الحيوانات، ولا هم أحطّ منها، وإنّما بعضهم يصعد في سلّم التكامل إلى الحدّ الذي يستحقّ فيه سجود الملائكة أمامه، وبعضهم الآخر ينحطّ بحيث يغدو أضلّ من الحيوان.
وقد يطرح ها هنا سؤال دقيق وهو: لقد ذكرنا أنّ الإنسان يستطيع أن يظفر بمنزلة رفيعة من الناحية القيميّة نتيجةً لأفعاله الاختياريّة، وبالتالي فإنّ الأفراد الذين سقطوا منه نتيجةً لأفعالهم الاختياريّة يقارنون بالناس، وحينئذٍ لا يمكن مقارنتهم بالحيوانات؛ لأنّها لا اختيار لها حسب الفرض، إذن كيف يصحّ القول: إنّ الإنسان يستطيع أن ينال كمالاً يرتفع به على الحيوانات أو الملائكة؟
والجواب هو: صحيح أنّ هذه القيمة الخلقيّة تحصل في ظلّ الأفعال الاختياريّة، لكنّ ذلك لا يعني أنّه لا يتحقّق للإنسان أيضاً لون من الكمال الوجوديّ الحقيقيّ، وإذا شئنا الدقّة قلنا إنّ ذلك يرجع للعلاقة بين القيم والواقعيّات، فبعضهم يزعم أنّ المفاهيم القيميّة منفصلة تماماً عن الواقعيّات، ولكنّ الحقّ خلاف ذلك، فالمفاهيم القيميّة الخلقيّة تطرح في ظلّ علاقة أفعال الإنسان الاختياريّة بكماله الحقيقيّ الناتج من تلك الأفعال؛ أي إنّ القيم الخلقيّة تزوّد الإنسان بكمالات تكوينيّة وروحيّة، فالإنسان الذي يتمتّع بقيمة خلقيّة إيجابيّة هو في الواقع أكمل من الناحية الوجوديّة، وليس ذلك اعتباراً محضاً.
57
45
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
وبناءً على هذا، فإنّ القيم الخلقيّة، وإن كانت مفاهيم متعلّقة بفعل الإنسان الاختياريّ، ومن هذه الجهة لا ينبغي مقارنته بالموجودات غير المختارة، ولكنّه من ناحية النتائج الواقعيّة لهذه القيم والكمالات الحقيقيّة الحاصلة للإنسان في ظلّها، فإنّ مقارنته بها تغدو صحيحة.
• امتلاك الإنسان الاستعدادات التكوينيّة
والنتيجة هي أنّ الإنسان -من الناحية الواقعيّة - في بدء وجوده يتمتّع باستعدادات تكوينيّة أكثر من الحيوان والنبات والجماد، إلّا أنّ له خاصّة أيضاً، وهي أنّه في حالة تذبذب مثل رقّاص الساعة، فهو يستطيع أن يتكامل بهذه الاستعدادات على المدى البعيد، وبالتالي يرتفع على الموجودات كلّها، وهو قادر أيضاً على إهدار كلّ كمالاته، فيسقط إلى مستوى يصبح فيه أحطّ من الحيوانات، وعندئذٍ يقول: ﴿يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا﴾[1].
فالآيات الكريمة تارةً تمدحه، وأخرى تذمّه بالنظر إلى أفعاله الاختياريّة وقيمه الخلقيّة، فالذين ينالون الدرجات العالية يتمتّعون بمغفرة اللَّه ورحمته وجواره: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾[2].
إنّهم يرتفعون إلى مستوى يقولون فيه حسب ما ينقل القرآن عن امرأة فرعون قولها: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾[3].
وهذا القرب (عندك) ليس جسمانيّاً، حسب أصولنا العقائديّة. وهذه هي منزلة جوار اللَّه التي تخدمهم فيها الملائكة وتستقبلهم وترحّب بهم:
[1] سورة النبأ، الآية 40.
[2] سورة القمر، الآية 55.
[3] سورة التحريم، الآية 11.
59
46
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ طِبۡتُمۡ فَٱدۡخُلُوهَا خَٰلِدِينَ﴾[1].
وهو قادر أيضاً على الانحطاط إلى مستوى "شرّ الدوابّ"، فيصبح أحطّ من الجراثيم:
﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[2].
﴿فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ﴾[3].
وفي مقابل هذه، يقول -عزّ وجلّ-: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾[4].
وهذه الكرامة غير الكرامة الواردة في "ولقد كرّمنا".
إذن، في القرآن الكريم، كما أشرنا من قبل، لونان من الكرامة:
كرامة تكوينيّة وكرامة تحصل له في ظلّ أفعاله الاختياريّة.
ولعلّ هناك فئة وسطى هي التي تعجز عن تمييسز الطريق الصحيح، أو تعجز عن سلوكه. (من الواضح أنّ من البعيد فرض إنسان يفقد المعرفة تماماً إلّا إذا كان من المجانين)، وهؤلاء هم المستضعفون من ناحية المعرفة ويشكّلون طائفة وسطى ليس لها قيمة إيجابيّة ولا سلبيّة: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾[5].
[1] سورة الزمر، الآية 73.
[2] سورة الأعراف، الآية 179.
[3] سورة الحجّ، الآية 46.
[4] سورة الحجرات، الآية 13.
[5] سورة النساء، الآية 98.
60
47
الدرس الرابع: كرامة الإنسان
المفاهيم الرئيسة
- إنّ الإنسان أفضل المخلوقات، وعلى أقلّ تقدير يمكن القول: إنّه إلى الحدّ الذي انتهى إليه العلم البشريّ لا يوجد مخلوق أكمل من الإنسان.
- إنّنا تارةً ننظر إلى منزلة الإنسان من منطلق أنّها أمر تكوينيّ، وليس لها حينئذٍ جهة "قيميّة" كما يُعبّر اليوم، وتارةً أخرى ننظر إليها بعنوان كونها مفهوماً أخلاقيّاً وقيميّاً.
- عندما نقارن بين النبات والجماد نجدهما مشتركين في الحجم والوزن والمقاومة، لكنّ للنبات شيئاً لا يوجد في الجماد، وهو إنتاج المثل والنموّ، ولهذا نقول إنّ النبات أكمل منه.
- جاء في بعض التفاسير، أنّ المقصود بتكريم الإنسان هو كونه مستوي القامة[1]، وسائر الحيوانات تفتقد هذا الكمال.
- لو كان الإنسان مجبراً على السلوك الصحيح فلا مجال لمدحه من الناحية الخلقيّة، كما أنّ الإنسان المجبر على ارتكاب الجريمة لا يناله الذمّ.
- ليس كلّ الناس أفضل من كلّ الحيوانات، ولا هم أحطّ منها، وإنّما بعضهم يصعد في سلّم التكامل إلى الحدّ الذي يستحقّ فيه سجود الملائكة أمامه، وبعضهم الآخر ينحطّ بحيث يغدو أضلّ من الحيوان.
- إنّ الإنسان -من الناحية الواقعيّة- في بدء وجوده يتمتّع باستعدادات تكوينيّة أكثر من الحيوان والنبات والجماد، إلّا أنّ له خاصّة أيضاً، وهي أنّه في حالة تذبذب مثل رقّاص الساعة.
[1] انظر: الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، تفسير جوامع الجامع، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1418هـ.ق، ط1، ج2، ص385.
61
48
الدرس الخامس: اختيار الإنسان
الدرس الخامس:
اختيار الإنسان
أهداف الدرس
على المتعلم مع نهاية هذا الدرس:
1. يثبت اختيارية الإنسان في القرآن الكريم.
2. يوضّح معنى مفهوم الاختيار.
3. يبيّن إمكانيّة امتلاك الحيوانات للاختيار من عدمه.
62
49
الدرس الخامس: اختيار الإنسان
• القرآن الكريم يثبت اختياريّة الإنسان
إذا ألقينا نظرة ولو بسيطة على القرآن الكريم فسوف نجده يعدّ الإنسان موجوداً مختاراً.
وبَعْثُ الأنبياء وإنزال الكتب السماويّة يصبح لغواً من دون اختيار الإنسان. فهذا الأمر بنفسه يدلّ على أنّ اللَّه وأنبياءه يعتبرون الإنسان مختاراً.
وتدلّ عليه أيضاً الآيات الواردة في مجال امتحان الإنسان وابتلائه:
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[1].
﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[2].
وهناك في آيات الوعد والوعيد صفات نسبها اللَّه لأنبيائه منها أنّهم مبشّرون ومنذرون:
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾[3].
[1] سورة الإنسان، الآية 2.
[2] سورة الكهف، الآية 7.
[3] سورة البقرة، الآية 213.
64
50
الدرس الخامس: اختيار الإنسان
فالتبشير هو إعطاء الوعود الحسنة على الأعمال الخيّرة، والإنذار هو تخويف الناس من عواقب أعمالهم السيّئة، سواء أكانت عواقب دنيويّة أم أخرويّة. حتّى إنّ القرآن أحياناً يعبّر بـ"النذير" بدل أن يقول أرسلنا رسولاً.
﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾[1].
أو يقال للكافرين يوم القيامة: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾[2].
وجميع هذه الموارد من وعد ووعيد، وبشارة وإنذار، لا معنى لها إلّا في نطاق الموجود المختار.
وهناك طائفة أخرى من الآيات الدالّة على اختيار الإنسان أيضاً، وهي آيات عهد اللَّه وميثاقه مع عامّة الناس أو فئات خاصّة منهم، يقول -تعالى-: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾[3].
ولو كان الإنسان مجبراً، وليس له اختيار، فإنّ عهد اللَّه معه يصبح لغواً.
﴿وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ﴾[4].
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ﴾[5].
وهاتان الآيتان واردتان في مجال الميثاق الخاصّ. فجميع هذه الآيات الواردة في مضمار الميثاق العامّ أو الخاصّ تدلّ على اختيار الإنسان.
[1] سورة فاطر، الآية 24.
[2] سورة الملك، الآية 8.
[3] سورة يس، الآيتان 60 - 61.
[4] سورة البقرة، الآية 83.
[5] سورة الأحزاب، الآية 7.
65
51
الدرس الخامس: اختيار الإنسان
إضافةً إلى ما مرّ من فئات من الآيات تدلّ بالالتزام على ثبوت الاختيار للإنسان، فهناك آيات تدلّ بالصراحة والمطابقة على اختياره مثل قوله -تعالى-: ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ﴾[1].
فليس هناك كلام أصرح من هذه الآية للدلالة على الاختيار، فاللَّه سبحانه قد أتمّ الحجّة على الناس، وأوضح لهم السبل، وأرسل إليهم الرسل: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ﴾[2].
وها هنا يأتي دور الناس: ﴿فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ﴾.
﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾[3].
• إدراك الإنسان نفسه بالعلم الحضوري بأنّه مختار
إضافةً إلى هذه الأدلّة النقليّة أو العقليّة فإنّ الإنسان يدرك بالعلم الحضوريّ أيضاً أنّه مختار. فلا شكّ في أنّ الإنسان في كثير من المواقف عندما يجد نفسه على مفترق طريقين فإنّه يختار أحدهما بإرادته من دون أن يُجبَر من قبل جهة خارجيّة.
وقد قال بالجبر أو ما يشبهه بعضُ المنتسبين للإسلام، وذلك بعد مواجهتهم لشبهات لم يستطيعوا حلّها فاتّخذوا هذا الموقف.
• مفهوم الاختيار
لكي تتّضح أيّة مسألة لا بدّ أولاً من تبيين المفاهيم المذكورة في عنوانها، حتّى
[1] سورة الكهف، الآية 29.
[2] سورة النساء، الآية 165.
[3] سورة الأنفال، الآية 42.
66
52
الدرس الخامس: اختيار الإنسان
إذا كان هناك اشتراك أو تشابه فإنّه يزول ليُعرف المقصود بدقّة، ولهذا فإنّنا نُوضّح مفهوم الاختيار قبل الدخول في صميم البحث:
إنّ كلمة (الاختيار) تستعمل في عرفنا وفي المباحث النظريّة بصور عدّة وفي مجالات مختلفة:
1. في مقابل الاضطرار:
مثلاً، نقول في علم الفقه: لا يجوز للإنسان أكل لحم المَيتة باختياره، إلّا أنّه لا مانع من أكله إذا كان مضطرّاً، أي إذا لم يأكل تتعرّض حياته للخطر أو يصيبه ضرر بليغ: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾[1].
2. في مقابل الإكراه:
وتستعمل بهذا المعنى في المجالات القانونيّة، فنقول مثلاً: بيع المكرَه باطل، أي من شروط صحّة البيع أن يكون بالاختيار، (هذا إذا قلنا ببطلان بيع المكره)، والإكراه يحصل عند تهديد الشخص بضرر، فهو يقوم بالفعل تحت تهديد الغير، ولو لم يكن هناك تهديد فإنّه لا يختاره ولا يفعله. والفرق بين الاضطرار والإكراه هو أنّه في حالة الاضطرار لا وجود لتهديد الغير وإنّما الشخص يضطرّ بنفسه للقيام بالفعل نتيجةً للظروف الخاصّة والاستثنائيّة التي يعيشها، وأما في حالة الإكراه فإنّه يقوم بالفعل نتيجة للتهديد وللإلجاء.
3. الاختيار بمعنى القصد والانتخاب:
يقسّم الفلاسفة فاعل الفعل إلى أقسام، من جملتها "الفاعل بالقصد" وهو الذي يواجه سبلاً مختلفة ويقارن بينها ثمّ يختار أحدها. ويسمّى هذا القصد
[1] سورة البقرة، الآية 173.
67
53
الدرس الخامس: اختيار الإنسان
والانتخاب أحياناً بـ"الاختيار والإرادة" ويختصّ بالفاعل الذي يتصوّر فعله قبل القيام به، ثمّ يشتاق إليه، ثمّ يقرّر القيام به، حتّى وإن كان هذا الانتخاب قد جرى نتيجةً لتهديد الغير أو لظروف استثنائيّة.
4. الاختيار في مقابل الجبر:
ويستعمل الاختيار أحياناً في معنى واسع وهو أن يُنجَز الفعل من الفاعل عن رغبته وحبّه دون أن يتعرّض للضغط من قبل عامل خارجيّ. وهذا المعنى للاختيار أعمّ حتّى من الفاعل بالقصد، لأنّه لا يشترط هنا أن تجري مقارنة ذهنيّة ليحصل بعدها الشوق للفعل، ثمّ يشتدّ ذلك الشوق، ثمّ يقرّر ويريد.
والاختيار بهذا المعنى صادق أيضاً حتّى في مورد اللَّه والملائكة وسائر المجرّدات، ومع أنّ التصوّر والتصديق لا معنى لهما بالنسبة إليها أو على الأقل بالنسبة إلى اللَّه تعالى مع أنّ له أرفع مراتب الاختيار. فالفاعل الإراديّ في نفسه أحياناً عوامل مضادّة أيضاً أو يتعرّض لضغط من الخارج إلّا أنّه لا مجال لمثل هذه الأمور في فعل اللَّه –تعالى-. فلا توجد قدرة في مقابل قدرة اللَّه حتّى تضغط عليه. وكذا أيضاً في مورد المجرّدات التامّة، فهي (بعد إثبات وجودها) تتمتّع بهذه الصفة وهي أنّها لا تقع تحت تأثير عامل خارجيّ. مثلاً، إذا اعتبرنا الملائكة من المجرّدات فإنّ تسبيحها وتقديسها يكون اختياريّاً، إلّا أنّ الاختيار بمعنى القصد المسبوق بالتصوّر والمقارنة ليس صادقاً بشأنها؛ لأنّه لا ذهن لها ولا تقوم بمقارنة ولا ينبعث فيها شوق، وإجمالاً لا يحدث في ذاتها أيّ تغيير، لكنّها مختارة أيضاً. وبناءً على هذا، نلاحظ أنّ معنى الاختيار قد يختلف مع مفهوم الإرادة من حيث المصداق. ومن الواضح، أنّ الإرادة إذا كانت بمعنى القصد والعزم فكلّ فاعل بالقصد هو مختار، ولكنْ ليس كلّ فاعل مختار قاصداً بهذا المعنى.
والآن لننظر ما هي حقيقة هذا الاختيار الذي هو ملاك تكليفنا، والمؤدّي إلى امتياز الإنسان على سائر الحيوانات.
68
54
الدرس الخامس: اختيار الإنسان
• حقيقة الاختيار في الإنسان
لا شكّ في أنّ لكلّ إنسان فعلاً إراديّاً، ولا ريب أيضاً في أنّ له فعلاً جبريّاً وطبيعيّاً، ولكنّه ليس موضوع بحثنا هنا.
فأفعال الإنسان الإراديّة تجري بمبادئ خاصّة من إدراكاته ورغباته النفسيّة، بمساعدة ما غرسه اللَّه في كيانه من جهازَي الرغبة والإدراك وسائر القوى النفسيّة أو البدنيّة حتّى بمساعدة الأشياء الخارجيّة.
والذي يؤدّي إلى قيمة الإنسان هو أن تكون أفعاله اختياراً لسبيل من بين سبل عدّة. ففي أعماق الإنسان ميول مختلفة، وهي متزاحمة في مقام العمل عادةً. وتُشبه هذه الميولُ المختلفة القوى المتعدّدة التي تؤثّر في جسم واحد من جهات مختلفة، فقوّة تجذبه نحو اليمين، وأخرى نحو الشمال، كقطعة حديد توسّطت قطعتين من المغناطيس. ففي الطبيعة، عندما توجد مثل هذه القوى المختلفة الاتّجاه، فالذي يتحقّق في الخارج هو حاصل طرحها، والأقوى نسبيّاً هي التي تؤثّر، ويجري هذا الأمر بشكل طبيعيّ. إلّا أنّ هذا لا يجري في الإنسان بهذه الصورة، وهي أنّ القوّة ذات الجذب الأكثر تؤثّر بشكل ذاتيّ في الإنسان بصورة يقينيّة. نعم، قد يحدث هذا في الناس الذين لا يستعملون قوّة الاختيار والعزم عندهم، ويستسلمون تماماً لغرائزهم. إنّ للإنسان قوّة يستطيع بواسطتها أن يقاوم الرغبات الجارفة، وهو ليس مبتلى بحالة انفعاليّة صرفة في مقابل الجواذب الطبيعيّة. وهذا هو الذي يمنح فعل الإنسان القيمة.
ومن المناسب في هذا المجال أن نشير إلى اصطلاح خاصّ غير مشهور ابتكره بعض المفكّرين، حيث خصّ الفعل الإراديّ بالإنسان في مقابل أفعال الحيوانات التي تنبع من غرائزها فهي التذاذيّة صرفة. وحسب هذا الاصطلاح يصبح فعل الإنسان إراديّاً؛ لأنّه ينبع من العقل، ولا يوصف فعل الحيوان عندئذٍ بأنّه إراديّ.
وهو اصطلاح خاصّ ولا مشاحّة في الاصطلاح. وأمّا حسب الاصطلاح المشهور
69
55
الدرس الخامس: اختيار الإنسان
فإنّ أفعال الحيوانات تتّصف بأنّها إراديّة، ويعدّون فصل الحيوان هو "الحسّاس المتحرّك بالإرادة".
فالاختيار إذن هو معيار القيمة للفعل الإنسانيّ. والإنسان يتمتّع بقوّة يستطيع بفضلها أن يعلو على حالاته الانفعاليّة، وأن يتحكّم في غرائزه وميوله المختلفة، فيضحّي برغبة من أجل رغبة أخرى. وبهذا الترجيح، يكتسب فعل الإنسان قيمة، ومثل هذه القيمة لا تصدق إلّا في مورد موجود يتميّز بميول متضادّة، أي بميول ليست قابلة للجمع في مقام العمل والإشباع؛ لذا فهي تتزاحم، وكلّ واحد منها لا يدفع الآخر بذاته، وإنّما يغدو مضادّاً له في مجال الإشباع والعمل. إذن، لا ينبغي أن يتوهّم أحد أنّ مقصودنا هو التضادّ الديالكتيكيّ[1]، بل مقصودنا أنّ الإنسان فيه قوى ودوافع متعدّدة لا يمكن إشباعها جميعاً في آن واحد ودفعة واحدة، ولا بدّ من اختيار أحدهما، فليس من الممكن إرضاء اللَّه وإرضاء الشيطان والقلب معاً.
أجل، قد يرغب الإنسان في فعل يرضاه اللَّه مثل تناول وجبة الإفطار أو السحر التي هي مستحبّة (أي ترضي اللَّه عزّ وجلّ)، وفي الوقت نفسه تميل النفس إليها فإذا قام بهذا الفعل قاصداً القربة للَّه فهو عبادة. ولكنّه يوجد التزاحم أحياناً كما لو كان الإنسان جائعاً وأمامه طعام لذيذ إلّا أنّه يحرم عليه تناوله، ففي مثل هذه الموارد لا يمكن الجمع بين الرغبتين، ولا بدّ من اختيار إحداهما.
فإذا كان هناك موجود يتميّز بلون واحدة من الرغبة كالملائكة التي تنحصر لذّتها في عبادة اللَّه، ولا تقتحم اللذّةُ الشيطانيّة وجودَها، فلا معنى للانتخاب
[1] التضاد الديالكتيكي هو عبارة: أنّ المرحلة الأولى هي مرحلة وجود الشيء وهويته.
ثم ينبع من صميم الشيء ما يضادّه ويناقضه، ويصارع ذلك الشيء ويسعى لنفي وجوده، والأول هو "تز" والثاني هو "انتي تز".
ثم يتولّد من هذا الصراع شيء ثالث هو "سنتز" وهو عبارة عن نفي النفي.
وهكذا تنشأ جميع الحركات والتكاملات في ظلّ الصراع الداخليّ في جوهر الشيء بين "تز" و"انتي تز". (أنظر: الهادي، الشيخ جعفر، دراسة تحليليّة للنظريّة الماديّة الديالكتيكيّة، ص10).
70
56
المقدّمة
بالنسبة إليها؛ لأنّها لا توجد فيها رغبة إلّا عبادة اللَّه، وهي أيضاً ليست مجبرة وإنّما هي مختارة، وتؤدّي الفعل برغبتها، لكنّها لا توجد فيها رغبة أخرى.
وبعبارة أخرى، إنّها مختارة لكنّها ليست منتخِبَة. إذن، أمامها طريق واحد، أمّا الإنسان فله رغبات متضادّة، فعلاوة على كونه مختاراً لا بدّ من أن ينتخب أيضاً، وهذا هو منشأ القيمة[1].
فهل هذا الاختيار مختصّ بالإنسان أم تتمتّع به موجودات أخرى (وإن كان بشكل أضعف وأبسط)؟
يبدو من آيات القرآن الكريم أنّ لـ"الجنّ" أيضاً مثل هذا الاختيار ولهذا أصبحوا مكلّفين:
﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا﴾[2].
• هل الحيوانات تملك الاختيار أيضاً؟
لم نجد في القرآن دليلاً على أنّ للحيوانات اختياراً بالمعنى الذي يكون ملاكاً للتكليف. وقد ادّعى بعضهم بصورة يقينيّة أنّ الحيوانات لا اختيار لها. ويبدو لنا أنّ مثل هذا الادّعاء قد يكون خلاف الاحتياط العلميّ. ويمكننا أن نلاحظ بعض المجالات التي يصدق عليها الاختيار والانتخاب، مثلاً: إذا اقترب حيوان من حديقتكم ورفعتم العصا عليه فإنّه يفرّ، وهذا الفرار يعني أنّه اختار عدم الضرب على الشبع، وهو انتخاب لكنّه ليس بدرجة قوّة انتخاب الإنسان، ويمكن وصفه بأنّه انتخاب نصف واعٍ (وإن كان جميع الناس لا يقومون بأعمالهم باختيار واعٍ، فبعض الناس يكون انتخابهم مثل فرار ذلك الحيوان).
[1] هناك بحوث حول كلمة "القيمة" لكنّ أغلبها لغويّة. ومن المناسب أن نشير هنا إلى أنّ القيمة تُطرح أساساً في مجال المبادلة، فهنا تُعطى رغبة ولذّة وتُؤخذ رغبة ولذّة أخرى. ويقال عرفاً: إنّ هذا بقيمة ذاك ولهذا فهو يستحقّ أن نعطي هذا ونأخذ ذاك.
[2] سورة الأنعام، الآية 130.
71
57
الدرس الخامس: اختيار الإنسان
وعلى كلّ حال، فليس من الصحيح الادّعاء بصورة قاطعة أنّ الحيوانات لا اختيار لها، وبالتالي لا تكليف لها أيضاً.
ولعلّ في بعض الروايات أموراً مبنيّة على أنّ الحيوانات - أو بعضها على الأقلّ - لها تكليف أيضاً[1].
ففي رواية أنّ المعزاة التي أصابت بقرنها معزاة أخرى سوف يُقتصّ منها يوم القيامة[2].
وبعض آيات الكتاب العزيز تدلّ على أنّ للحيوانات "حشراً":
﴿وَإِذَا ٱلۡوُحُوشُ حُشِرَتۡ﴾[3].
﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾[4].
وموضوع بحثنا هنا هو اختيار الإنسان.
ويعرّفنا لاختيار الإنسان في هذا المضمار، هو أنّ للإنسان رغبات باطنيّة مختلفة، وهو يستطيع بنشاطه الباطنيّ أن يرجّح إحداها على الأخريات وينتخبها، وهذا الاختيار هو ملاك التكليف، فأينما وجدنا تكليفاً فهو يدلّ على مثل هذا الاختيار، وكذا العكس، أي كلّما لم يكن مثل هذا الاختيار موجوداً لم يكن هناك مجال للتكليف، وإن كان هناك اختيار بمعنى آخر.
[1] الحويزي، تفسير نور الثقلين، مصدر سابق، ج1، ص715–716.
[2] عن أبي ذرّ قال بينا أنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا انتطحت عنزان فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أتدرون فيما انتطحتا؟ فقالوا: لا ندري، قال: ولكنّ اللَّه يدرى وسيقضى بينهما". (العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج7، ص256).
[3] سورة التكوير، الآية 5.
[4] سورة الأنعام، الآية 38.
72
58
الدرس الخامس: اختيار الإنسان
المفاهيم الرئيسة
- بَعْثُ الأنبياء وإنزال الكتب السماويّة يصبح لغواً من دون اختيار الإنسان. فهذا الأمر بنفسه يدلّ على أنّ اللَّه وأنبياءه يعتبرون الإنسان مختاراً.
- فليس هناك كلام أصرح من قوله -تعالى-: ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ﴾ للدلالة على الاختيار.
- إنّ الإنسان يدرك بالعلم الحضوريّ أيضاً أنّه مختار. فلا شكّ في أنّ الإنسان في كثير من المواقف عندما يجد نفسه على مفترق طريقين فإنّه يختار أحدهما بإرادته من دون أن يُجبَر من قبل جهة خارجيّة.
- الفاعل بالقصد، وهو الذي يواجه سبلاً مختلفة ويقارن بينها ثمّ يختار أحدها. ويسمّى هذا القصد والانتخاب أحياناً بـ"الاختيار والإرادة".
- يستعمل الاختيار أحياناً في معنى واسع وهو أن يُنجَز الفعل من الفاعل عن رغبته وحبّه دون أن يتعرّض للضغط من قبل عامل خارجيّ. وهذا المعنى للاختيار أعمّ حتّى من الفاعل بالقصد.
- أفعال الإنسان الإراديّة تجري بمبادئ خاصّة من إدراكاته ورغباته النفسيّة، بمساعدة ما غرسه اللَّه في كيانه من جهازَي الرغبة والإدراك وسائر القوى النفسيّة أو البدنيّة حتّى بمساعدة الأشياء الخارجيّة.
- الإنسان يتمتّع بقوّة يستطيع بفضلها أن يعلو على حالاته الانفعاليّة، وأن يتحكّم في غرائزه وميوله المختلفة، فيضحّي برغبة من أجل رغبة أخرى. وبهذا الترجيح.
- إذا كان هناك موجود يتميّز بلون واحدة من الرغبة كالملائكة التي تنحصر لذّتها في عبادة اللَّه، ولا تقتحم اللذّةُ الشيطانيّة وجودَها، فلا معنى للانتخاب بالنسبة إليها.
73
59
الدرس السادس: شروط الاختيار
الدرس السادس:
شروط الاختيار
أهداف الدرس
علم المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يذكر أهم الشروط التي ينبغي توفرها في الإنسان لكي يستطيع تحمّل مسؤوليّة الأمانة.
2. يوضح المُراد من "الأفئدة" في القرآن الكريم.
3. يستدلّ على أنّ الإنسان يعلم نفسه بالعلم الحضوري.
74
60
الدرس السادس: شروط الاختيار
• تمهيد
اتّضح لنا من بحث الاختيار، أنّ كمال الإنسان من حيث هو إنسان، كمال يظفر به باختياره وانتخابه، ومن هنا نستطيع القول: إنّ خاصّة تكامل الإنسان من جهة كونه إنساناً هو أنّه تكامل اختياريّ، ولعلّ هذا المعنى نفسه الذي تُطلق عليه آخر آية من سورة الأحزاب عنوان الأمانة:
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[1].
وكيفما فسّرت الأمانة في هذه الآية، فإنّها لا تكون مقطوعة الصلة بالانتخاب والاختيار والتكليف، وهذه هي مسؤوليّة الإنسان أمام اللَّه العظيم.
• إناطة تحمّل المسؤوليّة ضمن شروط معيّنة
ولكي يستطيع الإنسان انتخاب شيء وتحمّل مسؤوليّته، لا بدّ من أن تتوفّر فيه شروط:
أوّلها: أن "يعرف" الشيء الذي يتعلّق به التكليف، ويعلم ما يتحمّل من مسؤوليّة إزاءه.
[1] سورة الأحزاب، الآية 72.
76
61
الدرس السادس: شروط الاختيار
ثانيها: أن تكون رغبات متضادّة في مجال ذلك الفعل حتّى تتوفّر الظروف للانتخاب والاختيار.
ثالثها: أن يتمتّع بالقدرة على التصميم والانتخاب حتّى يختار واحدة من بين الرغبات المتضادّة.
رابعها: أن يتمكّن من تنفيذ ما اختاره عمليّاً، أي أن يكون مزوّداً بشروط إنجاز الفعل والقدرة على العمل.
وجذور الشروط الثلاثة الأولى من هذه المقدّمات (أي استعداد المعرفة والرغبات وقوّة التصميم والاختيار) مغروسة بشكل فطريّ في أعماق الإنسان. أمّا شروط العمل، فهي تتعلّق بالعالم الخارج عن وجود الإنسان، أي لا بدّ من أن تتوفّر شروط في الخارج (مضافاً إلى وسائل العمل واليد والرجل وسائر الأمور الموجودة في الإنسان نفسه) حتّى يستطيع الإنسان إنجاز عمل ما.
• الجذور الفطريّة لهذه الشروط وكيفيّة وصولها إلى الفعليّة؟
ومن هنا، يحسن البحث عن هذه الجذور الفطريّة التي هي منحة اللَّه وكيفيّة وصولها إلى الفعليّة.
المعرفة
تقدّم أنّ أوّل شرط هو العلم والإدراك، أو بتعبير آخر هو المعرفة. وفي القرآن آيات كثيرة تتعلّق بهذا المجال والبحث عنها جميعاً، وبالنسبة إلى كلّ آية على حدة يؤدّي إلى التطويل، لذلك سنحاول أن نتعرّض لأهمّ المواضيع في مجال المعرفة من وجهة نظر القرآن الكريم.
وأوضح الآيات في مضمار العلم وخصوصاً ما يرتبط باختيار الإنسان ومسؤوليّته هي قوله -تعالى-: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[1].
[1] سورة الإنسان، الآية 2.
77
62
الدرس السادس: شروط الاختيار
أي من نطفة خليطة من عناصر متنوّعة.
فبعد أن يذكر اللَّه -عزّ وجلّ- أنّه قد خلق الإنسان من نطفة خليطة، فهو يشير إلى الحكمة والهدف من خلقه، وهو امتحانه وابتلاؤه، أي يجعله أمام مفترق الطرق حتّى تتوفّر الأرضيّة لابتلائه وقيامه بالمسؤوليّة. ثمّ يؤكّد أنّه أعطاه قدرة الإدراك فجعله سميعاً بصيراً.
وبالنظر إلى ارتباط هذه الكلمات نعرف أنّ السمع والبصر لازمان للابتلاء (واختيار السمع والبصر من بين ألوان إدراكات الإنسان بسبب أهمِّيَّة مجال هذين الحسّين وسعتهما في معرفة الإنسان). وعلى أيّ حال، فإنّنا نفهم من الآية أنّ الإنسان لا بدّ من أن يتمتّع بقدرة المعرفة، حتّى يجري امتحانه ويتحقّق في هذا العالم الهدف من خلقه.
ويقول -تعالى- في آية أخرى: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفِۡٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾[1].
ونواجه مع هذه الآية الكريمة أسئلة عدّة:
1. هل الإنسان لا يتمتّع بأيّ معرفة قبل ولادته؟
2. وهل هذا الأمر يشمل جميع أفراد الإنسان؟
3. أيحصل العلم عن طريق كلّ من (العين والأذن والفؤاد) فحسب؟
4. إذا لم يكن محصوراً فيها، فلماذا ذكرت هذه الثلاثة هنا وحدها؟
5. وبالنسبة إلى السمع والبصر، هل المقصود بهما هاتين الحاسّتين؟ أم قوّة السمْع والبصر؟
[1] سورة النحل، الآية 78.
78
63
الدرس السادس: شروط الاختيار
6. لماذا ذكر السمع بصيغة المفرد والإبصار بصيغة الجمع؟
7. ما المقصود بالفؤاد؟ و...
وكما هو الملاحظ، فإنّها مواضيع متعدّدة، ولا يسعنا في هذا المجال تناولها جميعاً بالتفصيل، وإنّما نشير إجمالاً بالنسبة إلى ذكر السمع والبصر والفؤاد، فنؤكّد أنّ الآية الكريمة ليست في مقام الحصر وقد ذكرت هذه الأمور لأهميّتها.
• هل النفس تعلم بذاتها؟
يتعلّق هذا السؤال ببحوث فلسفيّة عدّة:
1. هل الإنسان يتمتّع بعلم آخر غير العلم الذي يظفر به عن طريق السمع والبصر و... كالعلم الحضوريّ أم لا؟
وبعبارة أخرى: هل النفس تعلم بذاتها أم لا؟
حسب ما جرى إثباته في الفلسفة، فإنّ كلّ موجود مجرّد مستقلّ وجوهريّ، فهو عالِم بذاته. إذن، عندما توجد النفس، وتنال مرتبة من التجرّد، فإنّها تغدو متمتّعة بلون من العلم بذاتها. وبناءً على هذا، كيف تقول الآية إنّها لم يكن لها علم؟
2. ومن ناحية أخرى، فإنّنا نواجه هذا السؤال: هل للإنسان علوم فطريّة أم لا؟
يعتقد معظم الفلاسفة أنّ للإنسان لوناً من العلم الفطريّ، وعلى أقلّ تقدير، فإنّه يتمتّع بالبديهيّات الأوّليّة[1].
إذن، لماذا كانت الآية بهذا الشكل؟
[1] البديهيّ -ويسمّى ضروريّاً أيضاً- ما لا يحتاج في حصوله إلى اكتساب ونظر، كتصور مفهوم الوجود والشيء، والوحدة، والتصديق بأن الكلّ أعظم من جزئه، وأن الأربعة زوج ... وأولى البديهيّات بالقبول الأوليّات، وهي القضايا التي يكفي في التصديق بها مجرّد تصوّر الموضوع والمحمول، كقولنا: (الكلّ أعظم من جزئه)، و (الشيء ثابت لنفسه) ... وأولى الأوليّات بالقبول قضيّة (امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما). (انظر: نهاية الحكمة، المرحلة الحادية عشرة، الفصل التاسع).
79
64
الدرس السادس: شروط الاختيار
3. وقد ورد أيضاً في كثير من الروايات، أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وبعض الأنبياء والأئمّة، سلام اللَّه عليهم أجمعين، كانوا يعلمون وهم في بطون أمّهاتهم، يسبّحون اللَّه -جلّ جلاله-، ويتحدّثون أحياناً وهم في الأرحام، فكيف تقول الآية: لا تعلمون شيئاً.
وللجواب عن السؤالين الأوّل والثاني نقول:
للعلم إطلاقات عدّة: فعند العرف يُقصد منه العلم الواعي. ومن الناحية الفلسفيّة العميقة فإنّ للعلم درجات، العلم، غير الواعي، ونصف الواعي، والواعي.
فالعلم غير الواعي، هو العلم الذي لا يلتفت إليه الشخص، ويغفل عنه في كثير من الأحيان، وإذا سئل عنه فهو ينكره، إلّا أنّه يمكن الاستدلال بالتجارب والأدلّة العقليّة على وجود مثل هذا العلم في أعماق قلبه.
أمّا العلم نصف الواعي، فهو الذي لا يكون الإنسان فيه ملتفتاً إلى أنّه يعلم لكنّه قد يلتفت بعد ذلك، كما في كثير من الأشياء التي نعلمها في الوقت الراهن، لكنّنا غافلون عن هذا العلم، ثمّ بالتداعي أو الانكشاف نعرف أنّنا كنّا نعلمه من قبل.
والعلم الواعي واضح، فهو حيث يكون لدينا علم، ونعلم ملتفتين إليه.
إذن يمكن القول، إنّ الآية الشريفة عندما تنفي العلم عن الإنسان فهي:
أوّلاً: ناظرة إلى العلم الواعي.
وثانياً: ناظرة إلى العلم الحصوليّ المكتسب بالقوى الإدراكيّة. وبهذا يمكننا الجمع بين هذه الآية والآيات الأخرى الدالّة على أنّ للإنسان علماً حضوريّاً باللَّه -عزّ وجلّ-، ومن جملتها المكالمة المشهورة في قوله -تعالى-: ﴿أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ﴾[1].
[1] سورة الأعراف، الآية 172.
80
65
الدرس السادس: شروط الاختيار
إذن قوله -تعالى-: "لا تعلمون شيئاً" لا ينفي المعرفة الحضوريّة، نصف الواعية للإنسان باللَّه سبحانه (في بدء الخلقة).
أمّا السؤال القائل: هل "لا تعلمون شيئاً" تشمل جميع الناس؟ أم هي مقصورة على الناس العاديّين؟ فجوابه:
على فرض أن يكون في الآية ظهور في العموم، أي إنّ جميع الناس عند ولادتهم يفقدون العلم، فإنّ هذا العموم قابل للتخصيص بدليل خارجيّ. وعلاوة على هذا، فإنّه يمكن القول، إنّ مثل هذا العموم والإطلاق لا يبدو من الآية الكريمة، وإنّما هي في مقام الإهمال[1]، فهو سبحانه يريد لفت الناس إلى أنّه قد تفضّل عليهم بهذه النعمة، وهي أنّهم يظفرون بعلوم عن طريق العين والأذن.
وهناك بحث آخر يتعلّق بذيل الآية، وهو: لماذا ذكر هذه القوى الثلاث (العين والأذن والفؤاد) ولم يتعرّض للبقيّة؟
وفي الجواب نقول: إنّ سائر سبل الفهم إمّا عاديّة، واقعة تحت تصرّف الجميع كالشمّ والذوق، وإمّا غير عاديّة كالوحي والإلهام ممّا هو منحصر في أولياء اللَّه، والآية الكريمة ليست في مقام بيان هذه الطائفة الأخيرة، لأنّ الخطاب فيها موجّه إلى جميع الناس. وأمّا بالنسبة إلى الطائفة الأولى، فهي لم تذكر لعدم أهميّتها، ولا سيّما إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ مقصود الآية هو تأكيد أنّ هذه الوسائل يمكن استخدامها في معرفة الحقّ والتكليف، وهذه القوى الثلاث هي المهمّة في هذا المضمار. وأمّا سائر القوى، فليس لها تأثير كبير في هذه المسائل.
[1] يقول السيّد الخوئي: "كون المتكلّم في مقام البيان، فلو فرضنا انه في مقام الإهمال وأصل التشريع كما لو رأى طبيب مريضاً في الطريق وقال له لا بدّ لك من شرب الدواء لا يتوهّم عاقل جواز التمسّك بإطلاق مثل ذاك الكلام وشرب مطلق ما يصدق عليه الدواء، وهكذا لو كان في مقام البيان من جهة لا يمكن التمسك بإطلاق كلامه من الجهة الأخرى التي لم يحرز كون المتكلّم في مقام البيان منها، مثلا قوله -تعالى-: ﴿فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ﴾ في مقام البيان قطعاً من جهة عدم اعتبار التذكية بالذبح فيما يصطاده الكلب، فهل يتوهّم التمسّك بإطلاقه من حيث عدم نجاسة موضع فم الكلب، أو عدم وجوب غسله من دمائه أو غير ذلك؟".(دراسات في علم الأصول، تقريرات السيد الخوئي بقلم الشهرودي، ج2، ص336-367).
81
66
الدرس السادس: شروط الاختيار
• ما المراد بكلمة "الأفئدة" في القرآن الكريم؟
كلمة "الفؤاد" التي تستعمل في القرآن مرادفاً للقلب، هي في الأصل بمعنى عضو خاصّ في جسم الإنسان أو الحيوان، يقوم بدور المضخّة لتحريك الدم وتصفيته، ويقع عادةً في الجانب الأيسر من الصدر، لكنّه يستعمل في العرف بمعنى مركز الإدراكات والعواطف والأحاسيس. وأمّا العلاقة بين معناه اللغويّ ومعناه العرفيّ، فلعلّها ناشئة من تخيّل العرف سابقاً أنّ الإدراك والإحساس مرتبطان بهذا العضو الخاصّ، وقد جرى القرآن الكريم في استعماله لهذا اللفظ على أساس هذا الاصطلاح العرفيّ: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ﴾[1].
قد يقال إنّ هذه العلاقة وهميّة فلماذا أقرّها القرآن بالتلويح؟
وفي الجواب نقول: لمّا كان القرآن نازلاً بلغة الناس، فهو يتحدّث بحسب اصطلاحاتهم، ولا يعني أنّه يقرّ ما كان يتصوّره الناس واقعيّاً.
ويمكن القول أيضاً: إنّ المقصود بالصدر ليس هو الصدر الجسمانيّ، وإنّما المقصود به هو باطن الإنسان، والمقصود بالقلب هو القوّة المدركة فيه، وذلك لأنّنا قد تعوّدنا أن نشير إلى داخل الصدر عندما نريد الإشارة إلى الباطن: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ﴾[2].
لأنّ الصدر هو أخفى مكان في البدن، وهو محفظة محاطة بعظام الأضلاع، فالقلب في الحقيقة يعني الإدراك المتعلّق بالروح، والصدر يعني مرتبة من مراتب الباطن.
[1] سورة الحجّ، الآية 46.
[2] سورة لقمان، الآية 23.
82
67
الدرس السادس: شروط الاختيار
ونستطيع أن نجيب أيضاً: بأنّ القلب، وإن لم يكن محلّاً للإحساس والإدراك، إلّا أنّه العضو الذي تتعلّق به الروح قبل أيّ عضو آخر، وهو آخر عضو تنسلّ منه الروح عندما تفارق البدن. فارتباط الروح بالبدن ليس بنسبة متساوية في جميع الأعضاء، وإنّما هي متقدّم في بعض الأعضاء ومن جملتها القلب والمخ، ولعلّ ارتباط الروح بالقلب مقدّم على الجميع.
وعلى أيّ حال، فإنّه من موارد استعمال الفؤاد في القرآن نفهم أنّ المقصود به ليس هو العضو المادّيّ للبدن، ولا قوّة خاصّة من الروح أيضاً، وإنّما هو يشمل قوى متعدّدة.
فمن دراسة الآيات الكريمة يظهر أنّ الإدراك قد نُسب للقلب:
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾[1].
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾[2].
فقد استعمل في الآية تعبير "الفقه"، وهو يعني الفهم العميق والظفر بالحقيقة ونسبه إلى القلب.
ومن جهة أخرى، فقد نسبت الأحاسيس والعواطف إلى القلب، الإيجابيّة منها والسلبيّة، المريحة منها والمعذّبة:
﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ﴾[3].
﴿وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحۡدَهُ ٱشۡمَأَزَّتۡ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِۖ﴾[4].
[1] سورة الحجّ، الآية 46.
[2] سورة الأعراف، الآية 179.
[3] سورة الأنفال، الآية 2.
[4] سورة الزمر، الآية 45.
83
68
الدرس السادس: شروط الاختيار
ويقول -عزّ وجلّ- في قصّة موسى عليه السلام:
﴿وَأَصۡبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَٰرِغًاۖ إِن كَادَتۡ لَتُبۡدِي بِهِۦ لَوۡلَآ أَن رَّبَطۡنَا عَلَىٰ قَلۡبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[1].
ومن هنا نعرف أنّ الفؤاد والقلب شيء واحد، فهذا الفؤاد والقلب هو الذي تتحقّق فيه حالة الاضطراب و"الفراغ"، أو هو الذي يطمئنّ.
وقد عدّ القلب مجالاً لحلول الإيمان:
﴿وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ﴾[2].
﴿وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ﴾[3].
ويبدو من بعض الآيات الشريفة أنّ الحالات المنحرفة أيضاً تظهر في القلب، فلا يستطيع أن يقوم بوظائفه بشكل جيّد، ويُعبّر عن ذلك أحياناً بـ"الزيغ"، وأخرى بـ"المرض"، وثالثة بـ"الختم"، ورابعة بـ"الطبع":
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾[4].
﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً﴾[5].
﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾[6].
ويمكن الاستفادة من بعض الآيات أنّ للقلب علماً حضوريّاً أيضاً:
﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾[7].
[1] سورة القصص، الآية 10.
[2] سورة الحجرات، الآية 7.
[3] السورة نفسها، الآية 14.
[4] سورة آل عمران، الآية 7.
[5] سورة البقرة، الآية 10.
[6] السورة نفسها، الآية 7.
[7] سورة المطفّفين، الآيتان 14 - 15.
84
69
الدرس السادس: شروط الاختيار
إنّهم لا بدّ لهم من مشاهدة التجلّيات الإلهيّة يوم القيامة، لكنّ أعمالهم تصبح كالصدأ الذي يعلو مرآة قلوبهم، فلا يتركها تعكس الأنوار الإلهيّة.
إذن، يفهم من هذا أنّ القلب قوّة تستطيع مشاهدة اللَّه سبحانه، وتؤكّد هذا المعنى كثير من الروايات، فقد جاء في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام: "لَا تُدْرِكُه الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ ولَكِنْ تُدْرِكُه الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإِيمَانِ"[1]، فهذا الإدراك علم حضوريّ.
فالقلب من وجهة نظر القرآن الكريم موجود يتمتّع بالعلم الحضوريّ والعلم الحصوليّ، وقد نسبت إليه الأحاسيس والإدراكات والعواطف والهيجان. إذن، فهو بالتعبير الفلسفيّ ليس قوّة خاصّة. ففي الدراسات الفلسفيّة يقولون بمبدأ خاصّ لكلّ نوع من أنواع الأعمال التي تصدر عن الإنسان، فإذا لاحظنا أنواعاً مختلفة من الإدراكات المتميّزة عن بعضها قلنا: إنّ لكلّ واحد منها قوّة معيّنة، كالحسّ المشترك والخيال والحافظة والعقل.
إذن، بالالتفات إلى موارد الاستعمال في القرآن ليس جزافاً إذا قلنا إنّ القلب مرادف لما يُسمّى في الفلسفة باسم الروح أو النفس. والشيء الوحيد الذي يمكن نسبته إلى النفس ولا يُنسب إلى القلب هو الأفعال البدنيّة، فللنفس قوّة عاملة تحرّك البدن، ولا تنسب هذه إلى القلب.
وهنا نواجه هذا السؤال: إذا كان "القلب" بهذه الأهمِّيَّة، فلماذا لم يُذكر في تلك الآية التي نقلناها من سورة الإنسان، واكتفى بقوله: ﴿فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا﴾.
وعلاوة على هذا، فالآية (78) من سورة النحل، لماذا ذُكر فيها السمع أوّلاً ثمّ البصر، وبعد الجميع "الأفئدة"؟
[1] الشريف الرضي، السيد أبو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387هـ - 1967م، ط1، ص258.
85
70
الدرس السادس: شروط الاختيار
الجواب: إنّ نشاط القلب يبدأ عادةً بعد نشاط السمع والبصر. ففي البدء نرى شيئاً، أو نسمعه، ثمّ يفكّر فيه القلب (= العقل)، فعمل القلب مترتّب عادةً على فعل السمع والبصر.
ولعلّ عدم ذكر القلب في تلك الآية كان بسبب أنّه أراد الإشارة إلى الوسائل الابتدائيّة للمعرفة.
فمن مجموع الآيات، يستفاد أنّ اللَّه -تعالى- خلق وسائل للمعرفة وأهمّها السمع والبصر والقلب.
86
71
الدرس السادس: شروط الاختيار
المفاهيم الرئيسة
- لكي يستطيع الإنسان انتخاب شيء وتحمّل مسؤوليّته، لا بدّ من أن تتوفّر فيه شروط أربعة.
- أنّ أوّل شرط هو العلم والإدراك، أو بتعبير آخر هو المعرفة. وفي القرآن آيات كثيرة تتعلّق بهذا المجال.
- السمع والبصر لازمان للابتلاء (واختيار السمع والبصر من بين ألوان إدراكات الإنسان بسبب أهمِّيَّة مجال هذين الحسّين وسعتهما في معرفة الإنسان).
- هل الإنسان يتمتّع بعلم آخر غير العلم الذي يظفر به عن طريق السمع والبصر و... كالعلم الحضوريّ أم لا؟
- يعتقد معظم الفلاسفة أنّ للإنسان لوناً من العلم الفطريّ، وعلى أقلّ تقدير، فإنّه يتمتّع بالبديهيّات الأوّليّة.
- كلمة "الفؤاد" التي تستعمل في القرآن مرادفاً للقلب، هي في الأصل بمعنى عضو خاصّ في جسم الإنسان أو الحيوان... لكنّه يستعمل في العرف بمعنى مركز الإدراكات والعواطف والأحاسيس.
- الحالات المنحرفة أيضاً تظهر في القلب، فلا يستطيع أن يقوم الإنسان بوظائفه بشكل جيّد، ويُعبّر عن ذلك أحياناً بـ"الزيغ"، وأخرى بـ"المرض"، وثالثة بـ"الختم"، ورابعة بـ"الطبع".
- فالقلب من وجهة نظر القرآن الكريم موجود يتمتّع بالعلم الحضوريّ والعلم الحصوليّ، وقد نسبت إليه الأحاسيس والإدراكات والعواطف والهيجان.
87
72
الدرس السابع: الوحي
الدرس السابع:
الوحي
أهداف الدرس
على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يشرح المراد من العلم اللدنيّ.
2. يبيّن كفاية الحسّ والعقل لتحصيل العلم من عدمه.
3. يذكر حقيقة الوحيّ.
88
73
الدرس السابع: الوحي
• تمهيد
القرآن الكريم يولي المعرفة أهمِّيَّة فائقة والعلم الحاصل بمختلف الوسائل، إلّا أنّه ينسب إلى الإنسان علماً آخر أيضاً لا يحصل عليه بالطرق العاديّة، ومنه العلوم الحاصلة عن طريق الوحي: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ ١ عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ﴾[1].
فنحن نعلم بالقرآن عن طريق عاديّ، لكنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم بالقرآن عن هذا الطريق، وإنّما هو ظفر به عن طريق الوحي.
فهل العلوم التي يصل إليها الإنسان عن طريق غير عاديّ محصورة بطريق الوحي (النازل على الأنبياء وهو وحي بصورة كتاب سماويّ) أم تُتصوّر للإنسان علومٌ أخرى أيضاً؟
• ما المراد بالعلم اللدنيّ؟
يبدو من القرآن أنّ هذه العلوم غير العاديّة ليست محصورة في الوحي للأنبياء، وإنّما هناك أشخاص آخرون أيضاً قد أصبحوا عالمين بطريق غير عاديّ.
ويُسمّى هذا اللون من العلم أحياناً باسم "العلم اللّدنيّ" وليس في القرآن التعبير اللدنيّ نفسه، لكنّ جذور هذا الاصطلاح قرآنيّة، فهو مأخوذ من الآية (65)
[1] سورة الرحمن، الآيتان 1 - 2.
90
74
الدرس السابع: الوحي
من سورة الكهف ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾. وهو إشارة إلى أنّ العلم لم يحصل عن طريق عاديّ.
وفي بعض الموارد، استعمل بتعبير الوحي أيضاً بالنسبة إلى غير الأنبياء، ومفاده أنّ هذا العلم قد حصل لهم عن طريق غير عاديّ: ﴿وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا﴾[1].
وقد يقال، إنّ المقصود في هذه الآية هو أنّ الحواريّين قد علموا بوحي اللَّه بوساطة عيسى عليه السلام، إلّا أنّ هناك موارد أخرى، لا تُتصوّر فيها مثل هذه الوساطة مثل الوحي إلى مريم عليها السلام وأمّ موسى عليه السلام:
﴿وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَرۡضِعِيهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحۡزَنِيٓۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ﴾[2].
فأمّ موسى ظفرت بأخبار تتعلّق بمستقبل ولدها عن طريق هذا الوحي.
وفيما يتعلّق بمريم عليه السلام يقول -تعالى-:
﴿إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ...﴾[3].
فهذا العلم ليس عاديّاً أيضاً، وكلتا هاتين المرأتين الجليلتين لم تكونا من الأنبياء. فالعلم ليس محصوراً بالطرق العاديّة، والطريق غير العاديّ ليس مقصوراً على الأنبياء فحسب.
وهناك ملاحظة أخرى، وهي أنّ هذا الوحي غير الوحي المرسل للأنبياء، فالوحي في الاصطلاح القرآنيّ يشمل الإلهام أيضاً، وهو إدراك غير عاديّ يُمنح من قِبَل اللَّه تعالى لمن يشاء.
[1] سورة المائدة، الآية 111.
[2] سورة القصص، الآية 7.
[3] سورة آل عمران، الآية 45.
91
75
الدرس السادس: شروط الاختيار
هل الحسّ والعقل كافيان لتحصيل العلم؟
هل أعضاء الحسّ التي جعلت تحت تصرّف جميع الناس، وكذا قوّة الإدراك الباطنيّة (العقل) كافية لحصول الإنسان على ما يحتاج إليه في حياته؟ وهل يستطيع بها تشخيص مصالحه ومفاسده؟
يؤكد القرآن أنّ العلم الذي أُعطي للناس هو علم قليل، وبعبارة أخرى فإنّ العلم العاديّ للناس محدود جدّاً؛ لأنّ لكلّ وسيلة من وسائل المعرفة مجالاً إدراكيّاً محدوداً، وتحقّق الإدراك مشروط بشروط عدّة أيضاً، فهذه الإدراكات لا تحصل في كلّ وقت وفي كلّ مكان، ويحصل الخطأ أيضاً في إدراكاتنا، فالإنسان يتورّط في الاشتباه خلال تعقّله وتفكيره، يقول القرآن الكريم تارةً: ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا﴾[1].
ويقول تارة أخرى: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾[2].
إذن، لا شكّ في أنّ وسائل إدراك الإنسان ليست بشكل تؤمّن فيه جميع احتياجاته في سبيل تكامله. ولكونه محدوداً في هذا المضمار هو بنفسه دليل على ضرورة النبوّة، ولو كان علم الإنسان مؤمّناً لجميع احتياجاته لأصبح مستغنياً عن الوحي. وبالنظر إلى أنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي أن يعرف الإنسان مصالحه ومفاسده حتّى يختار بوعي وعلم، فالعقل يحكم بضرورة طريق آخر. ونحن الآن لسنا بصدد بيان برهان النبوّة، وإنّما نشير إلى أنّ محدوديّة معرفة الإنسان تفرض وجود لون آخر من العلم وحسب، وفي هذا المجال بيانات مختلفة، ولعلّ أكثرها لا يتمتّع بالوضوح والإتقان. وكما تعلمون فإنّ المتكلّمين يقولون: إنّ "قاعدة
[1] سورة الإسراء، الآية 85.
[2] سورة البقرة، الآية 216.
92
76
الدرس السابع: الوحي
اللطف" توجب أن يبعث اللَّه الأنبياء. ولهم في توضيح قاعدة اللطف بيانات متعدّدة، وبعضها يمكن المناقشة في صحّتها. وفي هذا المجال يطرح هذا السؤال: ماذا يعني أساساً وجوب شيء على اللَّه؟ فهل العقل يكتب رسالة عمليّة للَّه -تعالى-؟
وبالشرح الآتي الموجز نستطيع ردّ تلك الشبهات وتقديم بيان يخلو من هذه النقائص، ويعتمد هذا البيان على مقدّمتَين:
1. إنّ الغرض الإلهيّ من خلق الإنسان في هذا العالم هو أن يقطع الإنسان هذا الطريق باختياره.
2. إنّ عقل الإنسان لا يكفيه في تمييز الطريق الصحيح من الطريق المنحرف.
إذن، "لا بدّ" من أن يبعث الأنبياء. وهذه الـ"لا بدّ" ليس أمراً صادراً من آمر، وإنّما هي حاكية عن الضرورة بالقياس؛ أي بالنظر إلى أنّ الإنسان لا بدّ من أن يصل إلى هدفه المعيّن له من قِبَل اللَّه. والعقل يرى أنّ مقدّمات حصول هذا الأمر ناقصة، فهو يحكم بضرورة وجود طريق آخر أيضاً. وهذه الـ"لا بدّ" ليست إلّا كاشفاً عن التلازم بين هذه الأمور. إذا كان اللَّه يريد أن يصل إلى غرضِه ومقصودِه من خلق الإنسان (وهو لا شكّ يريد ذلك)، فلا بدّ من أن يجعل تحت تصرّف الإنسان طريقاً للمعرفة، ولمّا كانت هذه الأمور التي يتمتّع بها الإنسان عموماً ليست كافية، إذن لا بدّ من وجود طريق آخر.
وعلى أيّة حال، فلا ريب في أنّ العلم العاديّ للناس محدود جدّاً. وقد سبق لنا القول إنّ القرآن ينسب لونين من العلم إلى الإنسان: العلم العاديّ والعلم غير العاديّ.
فالعلم العاديّ، سواءٌ كان حصوليّاً أو حضوريّاً، قد جعل تحت تصرّف الناس.
93
77
الدرس السابع: الوحي
والعلم غير العاديّ، مختصّ ببعض أفراد الإنسان، الحضوريّ منه والحصوليّ.
وعلم النبوّة من ألوان العلم غير العاديّ الذي يؤهّل به الأنبياء وينتقل عن طريقهم إلى الآخرين.
• ما هي حقيقة الوحي؟ وما هي كيفيّة هذا العلم؟ أهو علم حصوليّ أم حضوريّ؟
هذا محلّ بحث ونقاش، ونحن لم نشاهد حقيقة الوحي، ولا نستطيع أن نحكم بشأنه بصورة دقيقة. ويمكن القول إجمالاً إنّ في هذا المجال علماً حضوريّاً وعلماً حصوليّاً.
سؤال: أيدرك الأنبياء بواسطة الوحي جميع حقائق العالم أم جانباً منها فحسب؟
إنّ مقتضى هذا البرهان وسائر أدلّة الوحي والنبوّة هو أنّ كلّ معرفة ضروريّة للتكامل الحقيقيّ للإنسان، ولا تُؤمَّن له عن طريق العقل، فلا بدّ من توفيرها له عن طريق الوحي.
فالبرهان لا يقتضي أكثر من هذا، لكنّه لا ينفي ما عدا ذلك، أي قد يعطي اللَّه الأنبياء عن طريق الوحي، ومن باب التفضّل العلمَ بأمور ليست هي مورد الحاجة الضروريّة إلى البشر.
فما يُجعل عن طريق الوحي تحت تصرّف الناس إنّما هي مسائل محدودة، وأمّا حدود ما ظفر به الأنبياء من الوحي، فلا بدّ من إثبات ذلك عن طريق آخر. وقد فُهمت الآيات والروايات الواردة في هذا المضمار بأشكال مختلفة، فاستُظهر من بعضها أنّ علم الأنبياء محدود بموارد خاصّة، وقد استظهر من بعضها (ولا سيّما الروايات) من جهة أخرى أنّه ليس الأنبياء فحسب، وإنّما معهم غيرهم يتمتّعون بعلم ما كان وما يكون، ومن جملة هؤلاء أهل البيت عليهم السلام.
94
78
الدرس السابع: الوحي
فجميع المؤمنين لا بدّ من أن يؤمنوا بالغيب ويعرفوه، فنحن نعلم باللَّه والوحي والقيامة، وكلّها أمور غيبيّة. فالغيب بهذا المعنى من العلوم العاديّة الواقعة تحت تصرّف جميع الناس، وكلّ إنسان قادر على العلم به، وإن كان غائباً عن الحسّ.
2. ويطلق الغيب أحياناً على المعنى المخفيّ عن إدراك الأفراد العاديّين، سواء أكان الإدراك حسيّاً أم عقليّاً.
3. فنحن لا نستطيع أن نعرف ما وقع قبل ألف سنة، وأعضاؤنا الحسيّة لا تمتدّ إلى ما قبل وجودنا (وكذا بالنسبة إلى الحوادث المستقبلة)، إلّا أنّه إذا أخبرنا بها من عاصرها فإنّنا نصبح بها عالمين، وقد جاء الغيب بهذا المعنى أيضاً في القرآن الكريم: ﴿ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ﴾[1].
وعلم الغيب هذا قد يحصل لبعض الناس الذين يطّلعون على الواقع بطرق غير عاديّة، كالوحي.
4. وأحياناً يُطلق علم الغيب على العلم غير الممنوح والمكتسب، وهو مختصّ باللَّه -عزّ وجلّ-، فالإنسان بذاته لا تمتدّ يده إليه، وكلّ مَن يريد أن ينال منه شيئاً، فلا بدّ من أن يلجأ إلى التعليم الإلهيّ، فما يقع وراء مجال إدراكاتنا فهو غيب.
فالآيات التي تؤكّد على أنّه:
﴿لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ﴾[2].
﴿إِنَّمَا ٱلۡغَيۡبُ لِلَّهِ﴾[3].
[1] سورة آل عمران، الآية 44؛ سورة يوسف، الآية 102.
[2] سورة النمل، الآية 65.
[3] سورة يونس، الآية 20.
96
79
الدرس السابع: الوحي
﴿وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ﴾[1].
تشير إلى عالم الغيب الذي هو لذات العالِم وليس ممنوحاً ولا مكتسباً.
ولا يوجد دليل من وجهة نظر القرآن الكريم على أنّ النبيّ والإمام وبعض الأولياء لا يستطيعون أن يصبحوا عالمين بالمغيّبات، بل عندنا دليل على خلافه، وأساساً فإنّ وجود النبيّ وعلمه بكلام اللَّه والوحي هو بنفسه علم بالغيب، ولذا يقول سبحانه: ﴿عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ﴾[2].
إذن، من يحمل الرسالة (سواءٌ أكان نبيّاً أم ملكاً) عالم بالغيب، غاية الأمر أنّ اللَّه علّمه، ولو لم يفعل فإنّه لم يصبح عالماً به، وهذا هو معنى نفي علم الغيب الذاتيّ عن غير اللَّه.
وأمّا ما هو مقدار سعة العلم بالمغيّبات؟ فلا بدّ من القول: إنّ جميع الأنبياء لم يكونوا سواء في هذا المضمار، فقد يكون لبعض الأنبياء أو أولياء اللَّه علوم لم تصل إليها أيدي الأنبياء الآخرين أيضاً، فليس هنا دليل على أنّ من أصبح نبيّاً فهو يعلم بالمغيّبات بمقدار ما يعلم جميع الأنبياء، فهم متساوون، بل يمكن الادّعاء بوجود دليل على خلاف هذا المعنى.
وإذا قيل: عندما يكون بعض الأنبياء غير عالم بالمغّيبات، فبطريق أَوْلى لا يعلم بالمغيّبات من لم يكن نبيّاً أصلاً.
أجبنا: إنّ هذا غير صحيح؛ لأنّ النبوّة مقام خاصّ يمنحه اللَّه لبعض الناس على أساس بعض المصالح والحكم، وصرف النبوّة ليس دليلاً على كونه أفضل من جميع الخلق من الأوّلين والآخرين.
[1] سورة الأنعام، الآية 59.
[2] سورة الجنّ، الآيتان 26 - 27.
97
80
الدرس السابع: الوحي
إنّ من الممكن ألّا يكون شخص نبيّاً، لكنّ مقامه أرفع من مقام الأنبياء (عدا النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم)، مثل الأئمّة المعصومين عليهم السلام، فإنّهم أفضل من جميع الأنبياء حتى أُولي العزم منهم سوى النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
97
81
الدرس السابع: الوحي
المفاهيم الرئيسة
- القرآن الكريم ينسب إلى الإنسان علماً آخر لا يحصل عليه بالطرق العاديّة وهو الوحي.
- يُسمّى هذا اللون من العلم أحياناً باسم "العلم اللّدنيّ".
- الوحي في الاصطلاح القرآنيّ يشمل الإلهام أيضاً، وهو إدراك غير عاديّ يُمنح من قِبَل اللَّه تعالى لمن يشاء.
- إذا كان اللَّه يريد أن يصل إلى غرضِه ومقصودِه من خلق الإنسان (وهو لا شكّ يريد ذلك)، فلا بدّ من أن يجعل تحت تصرّف الإنسان طريقاً للمعرفة، ولمّا كانت هذه الأمور التي يتمتّع بها الإنسان عموماً ليست كافية، إذن لا بدّ من وجود طريق آخر.
- إنّ في القرآن طائفة من الآيات تقصر علم الغيب على اللَّه سبحانه.
- ومن ناحية أخرى، هناك آيات تؤكّد أنّ لبعض الناس علوماً غيبيّة وقد أطْلعوا عليها غيرهم.
- إنّ كلمة "الغيب" التي تعني المخفيّ، تستعمل في موارد عدّة، ولها في كلّ مورد خصوصيّة.
- الغيب تارةً يعني ما هو مخفيّ عن حواسّنا، ومن الواضح أنّ هذا المعنى نسبيّ.
- ويطلق الغيب أحياناً على المعنى المخفيّ عن إدراك الأفراد العاديّين، سواء أكان الإدراك حسيّاً أم عقليّاً.
- وأحياناً يُطلق علم الغيب على العلم غير الممنوح والمكتسب، وهو مختصّ باللَّه -عزّ وجلّ-.
99
82
الدرس الثامن: قدرة الإنسان
الدرس الثامن:
قدرة الإنسان
أهداف الدرس
على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يعرّف القدرة الطبيعيّة أو الفيزيائيّة الموجودة عند الإنسان.
2. يذكر القدرات التكنولوجيّة الموجودة عند الإنسان.
3. يشرح القدرة الاجتماعيّة الموجودة عند الإنسان.
4. يبيّن القدرة الميتافيزيقيّة (ترانس فيزيك) الموجودة عند الإنسان.
101
83
المقدّمة
• تمهيد
قلنا إنّ الميزة الواضحة للإنسان هي اختياره الذي ينتهي من ناحية إلى مسؤوليّته، ومن ناحية أخرى فهو يوفّر الظرف المناسب لتحقّق كرامته الاكتسابيّة.
وذكرنا أنّ هذا الاختيار قائم على أساسَين هما "العلم" و"القدرة": فمعرفة الطريق ضروريّة للانتخاب، وكذا القدرة على القيام بما اختاره.
وقد تناولنا "العلم" بالبحث بصورة مختصرة، والآن نقوم بدراسة "القدرة" بصورة مختصرة أيضاً.
• تقسيم قدرة الإنسان من جهة معيّنة إلى أربعة أقسام
إنّ قدرة الإنسان يمكن تقسيمها – من إحدى الجهات إلى أربعة أقسام:
1. القدرة الطبيعيّة أو الفيزيائيّة: التي يستطيع الإنسان باستخدامها أن يقوم بتصرّفات في محيطه بالاعتماد على القوّة البدنيّة فحسب.
2. القدرات التكنولوجيّة: حيث يستعين بالوسائل الصناعيّة ويستفيد من معرفة القوانين المسيطرة على الطبيعة ليتصرّف في جانب آخر من الطبيعة.
103
84
الدرس الثامن: قدرة الإنسان
3. القدرة الاجتماعيّة: وهي الحاصلة من استغلال الظروف الاجتماعيّة والاستفادة من الطاقات النفسيّة، وعلى أساسها يمكننا استخدام الناس الآخرين.
4. القدرة الميتافيزيقيّة: وهي متميّزة عن جميع القدرات الأخرى، ومتقدّمة عليها، وتنشأ من روح الإنسان، وما فيه من عنصر ما وراء الطبيعة، وهي تترك تأثيرات في الطبيعة، أو غير الطبيعة.
• القسم الأوّل: أي القدرة الفيزيائيّة
تنقسم بدورها إلى ثلاث فئات:
1. القدرة الطبيعيّة: التي ينفقها الإنسان في الطبيعة.
فهناك نِعَم كثيرة تحيط بالإنسان وهي معدّة له، كالماء وأشجار الفواكه وأمثالها، والإنسان يُنفق هذه القوّة ليستفيد من هذه النِعَم فحسب.
وتوجد آيات كثيرة تذكر هذا اللون من قدرة الإنسان على التصرّف في الطبيعة، وهذه آية جامعة عامّة: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾[1]. ومنها قوله: ﴿وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا﴾[2].
وصحيح أنّ هذه الآية تنقل قول صالح صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب بها قومه ثمود، لكنّها تشمل وضع سائر الناس أيضاً.
وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾[3].
[1] سورة لقمان، الآية 20.
[2] سورة الأعراف، الآية 74.
[3] سورة النحل، الآية 14.
104
85
الدرس الثامن: قدرة الإنسان
2. القدرة التي ينفقها الإنسان بالنسبة إلى الأحياء:
يقول اللَّه –تعالى-: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ...﴾[1].
إنّ وجهة الآية هي التوحيد، حيث تؤكّد أنّ اللَّه هو الذي جعل الأنعام للناس لينعموا بدفئها ومنافعها، ولكنّه ضمناً يشير إلى القدرة التي منحها اللَّه للإنسان، حيث يستطيع بها أن يستفيد من هذه المنافع.
والدفء يعني الحرارة المطبوعة والمطلوبة.
وفي آية أخرى، يوضّح اللَّه منافع الإنسان من الأنعام:
﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[2].
﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَٰمَ لِتَرۡكَبُواْ مِنۡهَا وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ﴾[3].
﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ﴾[4].
3. القدرة التي يستفيد منها الإنسان في استخدام الناس:
إنّ هذا اللون إلى الحدّ الذي يتعلّق بالقوى البدنيّة والفيزيائيّة للإنسان، فهو يدخل ضمن هذا القسم.
فالإنسان يتصرّف في الناس الآخرين (سواء أكانت تصرّفاته مشروعة أم غير
[1] السورة نفسها، الآية 5.
[2] سورة النحل، الآيات 6 - 8.
[3] سورة المؤمن، الآية 79.
[4] سورة النحل، الآيتان 80 - 81.
105
86
الدرس الثامن: قدرة الإنسان
مشروعة، ونحن الآن لسنا بصدد تقييمها)، فتارةً يكون للاستمتاع مثل تصرّف الزوج والزوجة أحدهما مع الآخر، وأخرى يكون لتقديم العون كالإمساك بيد الضعفاء، أو التصرّف الظالم المنحطّ كالقتل والجرح والسرقة والخيانة...
ونموذج التصرّف المطلوب الذي يتحدّث عنه القرآن بنغمة خاصّة:
﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾[1].
• القسم الثاني: القدرات التكنولوجيّة
وهذا اللون لا تؤثّر فيه قدرة الإنسان بلا واسطة، وإنّما يستغلّ جانباً من الطبيعة للتأثير في جانب آخر، ويمكن تقسيمه إلى فئتين:
1. التصرّفات التي تجري بمساعدة العلوم التجريبيّة والعاديّة التي هي تحت تصرّف الجميع.
2. التصرّفات التي تجري بمساعدة العلوم الغريبة.
والآيات التي تتعلّق بالفئة الأولى، هي:
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ﴾[2].
فلا بدّ من اكتشاف القوانين السائدة في الطبيعة حتّى نستطيع بالاستعانة بها تسيير سفينة خشبيّة أو فولاذيّة على وجه الماء.
﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ﴾[3].
وقد ليَّن اللَّه الحديد على يديه (ويستفاد من الروايات أنّ ذلك قد حصل بصورة الإعجاز):
[1] سورة البقرة، الآية 223.
[2] سورة إبراهيم، الآية 32.
[3] سورة الأنبياء، الآية 80.
106
87
الدرس الثامن: قدرة الإنسان
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾[1].
والنموذج الآخر هو قصّة ذي القرنَين:
فالقرآن قد استعرض هذه القصّة بصورة خاصّة، وأودعها ملاحظات مهمّة لا نستطيع بيانها في هذا المجال.
وأصل القصّة بصورة مختصرة هي على هذا الشكل: إنّه كان من عباد اللَّه الصالحين، وكان ذا قدرة على الأرض، ويقوم بخدمات جليلة، وقد وصل إلى أرض فشكا له أهلها من فئتَين كبيرتَين من الطغاة القساة:
﴿قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾[2].
ويقترحون عليه أن يبني لهم جداراً ليحول دون وصولهم إليهم، وهم مستعدّون لإعطائه ما يطلب من مال، ويجيبهم ذو القرنَين بأنّ نِعَم اللَّه خير من أموالهم: ﴿مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾[3].
فأنا لست بحاجة إلى أموالكم لكنّي أحتاج إلى القيام بهذه المهمّة إلى القوى البشريّة منكم:
﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا﴾[4].
﴿ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ﴾[5].
لنذيبها ونصنع سدّاً محكماً. وهكذا يفعلون.
أين يكون هذا السدّ؟ ومن كان هؤلاء؟ ومن هو ذو القرنَين؟
[1] سورة سبأ، الآية 10.
[2] سورة الكهف، الآية 94.
[3] السورة نفسها، الآية 95.
[4] السورة والآية نفسها.
[5] السورة نفسها، الآية 96.
107
88
الدرس الثامن: قدرة الإنسان
إنّها أسئلة حاول الكثيرون الإجابة عنها، لكنّنا لا نستطيع أن نبدي بشأنها رأياً يقينيّاً.
والمرحوم العلّامة الطباطبائيّ (رضوان اللَّه تعالى عليه) قام بتحقيق تاريخيّ في هذا المضمار، ولكنّ هذه المواضيع ظنّيّة على أيّ حال، ودراسة الآيات والروايات حتّى التحقيق التاريخيّ لا يؤدّي إلى نتيجة قطعيّة.
وأمّا بالنسبة إلى الفئة الثانية؛ أي العلم غير المتعارف عليه فلقد ذكر القرآن الكريم مسألة السحر كثيراً، واعترف بها بنحو أو بآخر. وأمّا عدد أنواعه وكيفيّة تأثيره، فليس واضحاً.
ونحن نقبل منه بالمقدار الذي قَبِلَهُ القرآن، وليس لدينا دليل يقينيّ على أنّ تأثيره حقيقيّ، أم هو تصرّف في الحسّ والخيال وتأثير في النفوس.
فمن الموارد التي تكرّر ذكرها في القرآن سحرة فرعون، وقد كان فعلهم خِداعاً للعيون، وله تأثير في النفوس:
﴿سَحَرُوٓاْ أَعۡيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسۡتَرۡهَبُوهُمۡ﴾[1].
﴿يُخَيَّلُ إِلَيۡهِ مِن سِحۡرِهِمۡ أَنَّهَا تَسۡعَىٰ﴾[2].
والسحر الآخر يتعلّق بقصّة هاروت وماروت مع بني إسرائيل، إذ كانوا يتعلّمون السحر منهما ومن الشياطين:
﴿وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ﴾[3].
[1] سورة الأعراف، الآية 116.
[2] سورة طه، الآية 66.
[3] سورة البقرة، الآية 102.
108
89
الدرس الثامن: قدرة الإنسان
وعلى أيّ حال، فالقرآن يعترف بوجود مثل هذا، وهو أن يقوم أحد بفعلٍ نتيجتُه وقوع النزاع بين الزوج والزوجة. وأمّا هل هذا من قبيل التصرّف في الإدراك أم شيء آخر؟ فلسنا نعلم، وإن كان الظاهر أنّه لون من التصرّف في الإدراك.
أجل، هناك ادّعاءات كثيرة لأهل السحر، ولا يمكن تصديقها جميعاً، وغاية ما نصدّقه هو ما اعترف به القرآن، وهو التصرّف في الإدراكات والحالات النفسيّة للناس الآخرين. فهذه القدرة منحها اللَّه للإنسان، والطريق إليها مفتوح وقابل للتعليم والتعلّم، وإن كان هذا العمل من الناحية الشرعيّة حراماً، وهو ذنب عظيم وبمثابة الكفر.
• القسم الثالث: القدرة الاجتماعيّة
يستطيع الإنسان بما زوّده اللَّه من قوى فطريّة أن يترك آثاراً عاديّة في الناس الآخرين ويستخدمهم لتحقيق مصالحه.
ولهذا لونان أيضاً: أحدهما مطلوب، والآخر غير مطلوب.
فغير المطلوب هو ما يقوم به بالضغط والظلم والإغراء.
والمطلوب منه ما يؤدّيه بالتفاهم والتعاون.
وهذا نموذج من آيات الفئة الأولى:
﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ﴾[1].
إنّ لغة القرآن هي التوحيد، فكلّ شيء ينسبه اللَّه إلى نفسه، ويقول إنّه هو الذي أعطى نمرود القدرة، فهذا الذي منحه اللَّه نعمة السلطان يناقش إبراهيم في اللَّه!
﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾[2].
فلبعضهم قدرة بدنيّة أكبر، وللآخرين ذكاء أعظم، ولفئة تدبير أكثر و... ويجري
[1] سورة البقرة، الآية 258.
[2] سورة الزخرف، الآية 32.
109
90
الدرس الثامن: قدرة الإنسان
هذا بمقتضى الحكمة الإلهيّة ويؤدّي الاختلاف بين الناس ليحتاج أحدهم إلى الآخر، ويشتاق إليه، فتُحقّق الحياة الاجتماعيّة بالارتباطات المتنوّعة.
ولعلّ هذه من أهمّ الملاحظات من زاوية علم الاجتماع التي يشير إليها القرآن الكريم؛ أي إنّ سرّ تكوّن المجتمع هو احتياج الناس إلى بعضهم.
• القسم الرابع: القدرة الميتافيزيقيّة (ترانس فيزيك)
وهي نوعان:
1. النفسانيّة: وهي القوة التي تظهر في الإنسان نتيجة لقدرة روحه، كالأعمال التي يقوم بها المرتاضون، فهم بإرادتهم يسلّطون ضغوطاً على أجسامهم لتقوى أرواحهم، ويتحرّرون من أقفاص أجسامهم، ليهتمّوا بما وراءها، وبذلك يستطيعون التأثير في الطبيعة بتصرّفات على خلاف الموازين الطبيعيّة.
ولعلّ قصّة السامريّ يمكن إدراجها في هذا القسم.
وذهب بعضهم إلى أنّ عِجَل السامريّ ظاهرة طبيعيّة صرفة، مدّعين أنّه باكتشاف بعض القوانين الطبيعيّة استطاع أن يصنع عجلاً بحيث يمرّ الهواء فيه فيحدث صوتاً، وشاهدُه أنّ القرآن قال: "جسداً له خوار" ولم يقل "روحاً"، فالآية (88) من سورة طه تقول إنّه عجل بلا روح لكنّه يصدر عنه صوت.
وبعضهم الآخر يقول، هناك عامل فوق الطبيعة كان هو المؤثّر في هذا المجال، ويستدلّون أيضاً بالقرآن، حيث ينقل عن السامريّ قوله: ﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ﴾[1].
وعلى كّل حال، فحتّى لو كان المؤثّر عاملاً غير طبيعيّ، فإنّ الاستفادة منه تعدّ شيطانيّة.
[1] سورة طه، الآية 96.
110
91
الدرس الثامن: قدرة الإنسان
2. الإلهيّة: والقرآن مليء بموارد الإعجاز للأنبياء وأولياء اللَّه، ويمكننا تقسيم الآيات في هذا المضمار بحسب المورد إلى أربع فئات:
أ. العوامل غير الطبيعيّة الإلهيّة التي تتعلّق بالطبيعة؛ مثل تصرّف موسى عليه السلام في العصا لتتحوّل إلى ثعبان، أو مثل نفخ عيسى في الطين ليتحوّل إلى طير.
ب. العوامل غير الطبيعيّة الإلهيّة التي تتعلّق بالأحياء؛ مثل تصرّفات سليمان عليه السلام في الحيوانات.
ج. العوامل غير الطبيعيّة الإلهيّة التي تتعلّق بالجنّ والشيطان؛ كتصرّفات سليمان عليه السلام أيضاً.
د. العوامل غير الطبيعيّة الإلهيّة التي تتعلّق بالإنسان، مثل إحياء عيسى عليه السلام للموتى.
وهذه نماذج من الآيات القرآنيّة:
﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[1].
﴿وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيَۡٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِيۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِيۖ﴾[2].
﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾[3].
﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ﴾[4].
[1] سورة آل عمران، الآية 49.
[2] سورة المائدة، الآية 110.
[3] سورة الأنبياء، الآيتان 81 - 82.
[4] سورة ص، الآيتان 36 - 37.
111
92
الدرس الثامن: قدرة الإنسان
المفاهيم الرئيسة
- إنّ قدرة الإنسان يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام:
1- القدرة الطبيعيّة أو الفيزيائيّة.
2- القدرات التكنولوجيّة.
3- القدرة الاجتماعيّة.
4- القدرة الميتافيزيقيّة.
- القدرة الطبيعيّة: التي ينفقها الإنسان في الطبيعة، فهناك نِعَم كثيرة تحيط بالإنسان وهي معدّة له، كالماء وأشجار الفواكه وأمثالها، والإنسان يُنفق هذه القوّة ليستفيد من هذه النِعَم فحسب.
- القدرة التكنولوجيّة: هي التي ينفقها الإنسان بالنسبة إلى الأحياء.
- القدرة الاجتماعيّة: هي التي يستفيد منها الإنسان في استخدام الناس.
- القدرة الميتافيزيقيّة (ترانس فيزيك) وهي نوعان:
1- القدرة النفسانيّة: وهي القوة التي تظهر في الإنسان نتيجة لقدرة روحه.
2- القدرة الإلهيّة: كمعجزات الأنبياء عليه السلام.
- ذهب بعضهم إلى أنّ عِجَل السامريّ ظاهرة طبيعيّة صرفة، مدّعين أنّه باكتشاف بعض القوانين الطبيعيّة استطاع أن يصنع عجلاً بحيث يمرّ الهواء فيه فيحدث صوتاً.
- وذهب البعض الآخر بوجود عامل فوق الطبيعة كان هو المؤثّر في هذا المجال، ويستدلّون أيضاً بالقرآن، حيث ينقل عن السامريّ قوله: ﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ﴾[1].
- العوامل غير الطبيعيّة الإلهيّة التي تتعلّق بالطبيعة، مثل تصرّف موسى عليه السلام في العصا لتتحوّل إلى ثعبان.
- العوامل غير الطبيعيّة الإلهيّة التي تتعلّق بالإنسان؛ مثل إحياء عيسى عليه السلام للموتى.
[1] سورة طه، الآية 96.
112
93
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
الدرس التاسع:
نزعات الإنسان
أهداف الدرس
على المتعلم مع نهاية هذا الدرس:
1. يعدّد أنواع الميول لدى الإنسان.
2. يبيّن خاصيّة الانتخاب عند الإنسان حين تتعارض الميول والرغبات.
3. يوضّح مفهوم الشخصانيّة أو "حب الشخصيّة".
113
94
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
تمهيد
تقدّم معنا بأنّ للاختيار مقدّمات، وكما أنّ التكليف والمسؤوليّة يشكّلان أحد وجهَي العملة لاختيار الإنسان، فإنّ له شروطاً أيضاً. فشروط المسؤوليّة ومقدّمات الاختيار تشترك في أمرَين هما: العلم والقدرة.
فالعلم والقدرة شرطان للاختيار، وشرطان للتكليف أيضاً، إلّا أنّ للاختيار مقوّماً آخر. ولمّا كان وجوده مفروضاً فإنّه لا يعدّ شرطاً للمسؤوليّة والتكليف، وهو عبارة عن "الميل للقيام بالفعل".
وبعبارة أخرى، هذا شرط تكوينيّ للاختيار، ولكنّه لا يعدّ شرطاً من الناحية القانونيّة. فنحن في تحليل علم النفس نجد أنّ الفعل الإراديّ والاختياريّ لا يتحقّقان من دون ميل. فمن ناحية يمكن القول: إنّ الإرادة هي أساساً تبلور لميول. وفي نفس الإنسان انجذاب فطريّ نحو أمر ما، ويتشكّل هذا الميل في ظروف خاصّة، ويتشخّص ويتعيّن، ثمّ ينتهي إلى تحقّق الإرادة في النفس. ولهذا يمكن القول، إنّ الإرادة تبلور لميل فطريّ. فنحن لا نريد إلّا إذا انبعث فينا ميل. وهناك يعرّف مشهور للإرادة يتردّد على الألسنة، بدأه الفلاسفة وقال به الأصوليّون، وهو: "الإرادة شوق مؤكّد أو إنّ الشوق المؤكّد شرط لتحقّق الإرادة". وبغضّ النظر عن قبول هذا اليعرّف أو عدم قبوله، عن صحّـته أو سقمه، فإنّه يؤكّد هذا الأمر، وهو ارتباط الإرادة بالشوق، وليس الشوق إلّا شدّة الميل.
114
95
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
ويقول بعضهم: إنّ الإرادة ليست دائماً شوقاً مؤكّداً، فالإنسان أحياناً يتوسّل إلى الطبيب الجرّاح أن يقطع رجله، مع أنّه ليس في نفسه ميل لذلك. والجواب هو أنّ الشوق ليس محصوراً في الشوق النفسانيّ أو الحيوانيّ، فهنا يوجد شوق عقلانيّ لحفظ السلامة، فالشوق لاستمرار الحياة يتغلّب على آلام قطع الرجل.
• أنواع الميول
وأمّا أنواع الميول والجوانب الباطنيّة فإنّها -إلى الحدّ الذي انتهى إليه علمنا-هو تقسيمها إلى أربع فئات:
· الغرائز.
· العواطف.
· الانفعالات.
· الإحساسات.
1. الغرائز
إنّ الرغبات التي تتعلّق بالحاجات الحيويّة والمرتبطة بعضو أو جهاز في البدن تسمّى الغرائز، مثل غريزة الأكل والشرب، فهي تسدّ حاجة الإنسان الطبيعيّة، وتتعلّق بالجهاز الهضميّ أيضاً، أو الغريزة الجنسيّة التي تؤمّن استمرار الأجيال وتتعلّق بالجهاز التناسليّ.
2. العواطف
وهي تلك الميول التي تظهر في الإنسان في علاقته بالإنسان الآخر، مثل عاطفة الوالدين بالنسبة إلى أولادهما وبالعكس، ومثل الانجذابات المتنوّعة التي نشعر بها بالنسبة إلى الناس الآخرين.
فكلّما كانت العلاقات الاجتماعيّة، الماديّة منها والمعنويّة، أكثر وأوسع، كانت
115
96
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
العاطفة أشدّ وأقوى. فمثلاً، في علاقة الوالدين بالولد لمّا كانت تتمتّع بخلفيّة طبيعيّة فإنّ العاطفة تكون قويّة، وكذا علاقة المعلّم بالمتعلّم، فهي تتمتّع بخلفيّة معنويّة.
3. الانفعالات
وهي الرغبات السالبة، وتكون في مقابل العواطف وعكسها. وهي حالة نفسيّة يفرّ الإنسان على أساسها من شخص أو يطرده بسبب الشعور بالضرر منه أو عدم الرغبة فيه. ويُعدّ النفور والغضب والحقد وأمثالها من جملة الانفعالات.
4. الإحساسات
تكون الإحساسات حسب بعض الاصطلاحات هي تلك الحالات من الموارد الثلاثة السابقة الذكر، التي تتميّز بالشدّة والقوّة، وتختصّ بالإنسان فحسب. فهذه الموارد الثلاثة توجد في الحيوانات أيضاً بشكل وبآخر. لكنّ الإحساسات مختصّة بالإنسان مثل إحساس التعجّب، إحساس الاستحسان، إحساس التجليل، إحساس العشق، حتّى نصل إلى إحساس العبادة.
• تركيب النزعات
إنّ هذه الجواذب الباطنيّة تتبادل التأثير في بعض الأحيان، وأحياناً تصبح منشأ لأثر بصورة مجتمعة ومركّبة. كما أنّها قد ترتبط بجهاز الإدراك والمعرفة أيضاً، وتؤثّر فيها القوى المدركة. وبمساعدتها تتّخذ بعض الميول أشكالاً خاصّة:
فغريزة الجوع تقتضي تناول شيء من المأكولات، لكنّ الأكل في الحياة لا يعني الشبع فقط، وإنّما نحن نحبّ أيضاً أن تكون على المائدة مزهريّة، وأن يكون الطعام لذيذاً وبألوان جذّابة و... ويكون هذا الأمر أوضح وأشدّ في العلاقات الجنسيّة، وكذا في المسائل الاجتماعيّة.
116
97
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
• تعارض النزعات
إنّ لكلّ رغبة مجالاً معيّناً، فغريزة الأكل مثلاً تتعلّق بالمأكولات ولا علاقة لها باللباس والسكن. والعواطف ترتبط بالناس الآخرين ولا علاقة لها بالجمادات. وقد تستيقظ في الإنسان رغبات عدّة وهو لا يستطيع أن يلبّي طلباتها جميعاً، فيضطرّ أحياناً إلى ترجيح شخص على آخر، أو أمر على آخر، وهنا نواجه خاصّة من خواصّ الإنسان المتعلّقة بالتكليف والمسؤوليّة. وها هنا يصبح لاختيار الإنسان معنى خاصّ، فلا يكفي فيه أن يكون مريداً وغير مجبر في فعله، وإنّما يدخل فيه عنصر الانتخاب والاصطفاء.
فلا يُطرح الانتخاب إلّا في مجال توجد فيه عدّة رغبات متعارضة في مقام الإشباع، والإنسان مرغم على إشباع إحداها والتضحية بالأخريات. وتؤثّر في تقديم إحداها على الأخريات عوامل متنوّعة، أهمّها جميعاً عامل المعرفة. فإذا تعارضت في أنفسنا رغبتان فمن الطبيعيّ أن نختار منهما أكثرهما راحة لنا من حيث التحصيل، أو لأنّ لإحداهما رجحاناً. إلّا أنّنا أحياناً نتردّد في أيّهما يستحقّ الترجيح واقعاً، ولعلّنا نخطئ فلا ننتخب الأرجح في الواقع. وهنا تبدو أهمِّيَّة المعرفة حتّى يستطيع الإنسان بفضلها أن يضع الرغبات المؤثّرة في حياته في مراتب، ويميّز رجحان بعضها وأهميّته بالنسبة إلى بعضهم الآخر، لتصبح حياته قائمة على أساس العقل.
والتعبير بـ "تعارض العقل والنفس" المأثور في الأخلاق يتعلّق بهذا المجال. فالعقل يدرك أنّ لهذا الفعل رجحاناً، ولمّا كان الإنسان دائماً يطلب سعادته وكماله فلا بدّ من أن يعمل في ضوء هداية العقل. ولكنْ أحياناً تصبح بعض العوامل الأخرى مانعة من ذلك.
وهنا يطرح هذا البحث المهمّ، وهو إذا كان الإنسان في الواقع طالباً لسعادته وقد قام عقله بتشخيصها، فلماذا لا يتّبعه وينفّذ ما يريد؟
117
98
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
ويختلف الفلاسفة في الجواب عنه، فبعضهم يؤمن أنّ ذلك ناشئ من ضعف المعرفة؛ أي إنّه ليس معتقداً حقيقة بأنّ هذا الطريق يضرّه، ولهذا فإنّ هؤلاء يشدّدون على تقوية المعرفة. وينقل عن (سقراط) و(أفلاطون) أنّهما كانا يقولان: المعرفة والحكمة هما أمّ الفضائل.
وبتجاربنا في الحياة نستطيع التسليم بأنّنا أحياناً نختار الطريق الخطأ والانحراف مع أنّنا نتمتّع بالمعرفة اليقينيّة، ومن جملتها في موارد "العادة".
إنّ هذا فِهرست ناقص لرغبات الإنسان والمسائل المتعلّقة بها.
ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ القرآن الكريم ليس كتاباً علميّاً حتّى يبيّن جميع الأشياء بصورة تفصيليّة، وتوقّع هذا منه في غير محلّه.
وصحيح أنّ موضوع بحثنا مرتبط بأهداف القرآن، لأنّه في مورد الإنسان ومصيره، ولكنّ القرآن يكتفي بتأكيد الأمور التي يلزم الالتفات إليها، ولو أراد القرآن بيان كلّ واحدة من هذه المسائل، كما لو كان علماً مستقلّاً، لغدا حجم القرآن أكبر من حجمه الحاليّ مئات الأضعاف، وتقتضي حكمة اللَّه أن يكون القرآن بهذا الحجم المحدود حتّى يستطيع الجميع قراءته والاستفادة منه، ويترك تفصيل المسائل بالشكل المطلوب في العلوم إلى العلماء. وأمّا ما يتعلّق بتفسير المسائل الشرعيّة فإنّه يسنده إلى معلّمي القرآن ومفسّريه، وعلى رأسهم النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومون سلام اللَّه عليهم أجمعين.
أجل في موضوع بحثنا يعتمد القرآن على "ترجيح الرغبات"، ويلفت الإنسان إلى نقاط ضعفه، ويحذّره من العواقب الوخيمة التي تنتظره إذا لم يحاول التخلّص منها.
ويهتمّ القرآن كثيراً بإيقاظ العقل والرغبات الرفيعة للإنسان، وإذا استيقظت هذه الرغبات الرفيعة احتلّ العقل مكانه الصحيح في الهداية، وإذا قصرت
118
99
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
الإدراكات العقليّة عن شيء استعانت فيه بمعارف الوحي، وعندئذٍ يحقّق الإنسان سعادته.
• الرغبات المنحطّة
وفي مقابل ذلك، ذكر القرآن بعض الرغبات الحيوانيّة بالتحقير والذمّ:
﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَيۡرُ مَنُوعًا * إِلَّا ٱلۡمُصَلِّينَ﴾[1].
لقد خُلق الإنسان بشكل توجد فيه بعض الرغبات المنحطّة، وأمّا الإنسان الذي يحبّ أن ينال الكمالات الرفيعة باختياره، فلا بدّ من أن لا ينقاد لهذه الميول، بل ينبغي له أن يستخدمها في سبيل الحصول على هذه الكمالات، فإذا كان الإيثار طريقاً للكمال فلا ينبغي له أن يسدّ هذا الطريق بالحرص على الشهوات، وملء البطن وأمثالها، حتّى إذا استلزم الكمالُ التضحيةَ، فلا بدّ من أن لا يحول بينه وبين الظفر بالشهادة حبُّه للحياة الماديّة.
إنّ هذا هو أساس جميع الأديان السماويّة والمذاهب الأخلاقيّة الصحيحة:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمََٔابِ﴾[2].
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[3].
[1] سورة المعارج، الآيات 19 - 20.
[2] سورة آل عمران، الآية 14.
[3] سورة الحديد، الآية 20.
119
100
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
الإدراكات العقليّة عن شيء استعانت فيه بمعارف الوحي، وعندئذٍ يحقّق الإنسان سعادته.
• الرغبات المنحطّة
وفي مقابل ذلك، ذكر القرآن بعض الرغبات الحيوانيّة بالتحقير والذمّ:
﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَيۡرُ مَنُوعًا * إِلَّا ٱلۡمُصَلِّينَ﴾[1].
لقد خُلق الإنسان بشكل توجد فيه بعض الرغبات المنحطّة، وأمّا الإنسان الذي يحبّ أن ينال الكمالات الرفيعة باختياره، فلا بدّ من أن لا ينقاد لهذه الميول، بل ينبغي له أن يستخدمها في سبيل الحصول على هذه الكمالات، فإذا كان الإيثار طريقاً للكمال فلا ينبغي له أن يسدّ هذا الطريق بالحرص على الشهوات، وملء البطن وأمثالها، حتّى إذا استلزم الكمالُ التضحيةَ، فلا بدّ من أن لا يحول بينه وبين الظفر بالشهادة حبُّه للحياة الماديّة.
إنّ هذا هو أساس جميع الأديان السماويّة والمذاهب الأخلاقيّة الصحيحة:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمََٔابِ﴾[2].
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[3].
[1] سورة المعارج، الآيات 19 - 20.
[2] سورة آل عمران، الآية 14.
[3] سورة الحديد، الآية 20.
119
101
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
• حبّ الشخصيّة
وهو من الرغبات الإنسانيّة التي هي أرفع من الرغبات الحيوانيّة، وتتحقّق عادة في المجتمع، وله مظاهر متنوّعة، ولعلّ أوّل براعمه تظهر في الشابّ بصورة حبّ الاستقلال.
إنّ الميل لشيء إذا ترسّخ أصبح حبّاً له، وقد لاحظنا في الآيات السابقة تعبير "حبّ الشهوات". هذه الرغبات يتميّز بعضها بأنّ له جذوراً في الغرائز، وهي فطريّة -ولا نقصد بالفطرة هنا المعنى الأخصّ والإلهيّ - مثل الرغبة في الجنس الآخر[1]، وقوله - تعالى -: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمََٔابِ﴾[2] يُؤكّد رغبة الرجل في المرأة، وذلك من جهة أنّ المخاطب في الآية هو الرجل، ولعلّه أيضاً من جهة أخرى، لأنّ جاذبيّة المرأة أكثر بسبب جمالها وإغرائها. وفي الواقع، فإنّ هذا الأمر منشأ بعض الحوادث الضخمة في التاريخ، وهو حبّ المرأة والتعلّق بها. أجل، إنّ هذه الرغبة وكذلك الرغبة في الأولاد لها جذور في الغرائز وهي فطريّة، إلّا أنّ بعض الرغبات كالرغبة في المال وكنز الذهب والفضّة، فهي ليست فطريّة مباشرة. فالإنسان عندما يولد ويظفر بالكمال فإنّه لا يشعر في نفسه بحبّ المال والذهب، لكنّه يحبّهما لكونهما وسيلة لإشباع رغباته الغريزيّة.
فحبّ الشخصيّة مثل الرغبة في الجنس الآخر يمكن عدّه من الرغبات ذات الجذور الفطريّة، وغالباً ما تظهر بداية تجلّياته في سني الشباب. ففي علم النفس، يُعدّ البلوغ نقطة انعطاف في حياة الإنسان، وقبل هذه الفترة يكون الطفل في الغالب مقلّداً للكبار. لكنّه منذ الآن يحبّ "أن يحقّق ذاته"، ولا يُعير بالاً إلى كلام
[1] حيث اندفع بعضهم مثل (فرويد) إلى اعتبار جميع الأفعال وردود الأفعال البشريّة منبعثة من غريزة الجنس.
[2] سورة آل عمران، الآية 14.
120
102
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
الآخرين، وهو ينفّذ كلّ ما يقتنع به، ويشعر بحساسيّة فائقة تجاه الأمر والنهي. وتُعدّ هذه الحالة في مكانها مفيدة ومؤثّرة في تكامل الإنسان حسب ما تقتضيه حكمة اللَّه، وحقيقتها حبّ الكمال، لكنّها تتجلّى في أشكال محدودة نتيجةً لنقص المعرفة.
ثمّ يتجلّى بالتدريج حبّ الشخصيّة هذا مع تقدّم العمر، وفي المجال الاجتماعيّ بصورة حبّ للرئاسة، فهو يرغب أن يكون آمراً، والآخرون ينفّذون أوامره فيتميّز فيما بينهم. ولهذا أشكال متعدّدة: حبّ الشهرة، حبّ الرئاسة، حبّ الجاه، الرغبة في أن يكون محبوباً.
وقد وردت آيات في القرآن تتعلّق بهذه الموارد، إلّا أنّ هناك آية تشير إلى هذه الرغبة، وتؤكّد طريق تصعيدها، وهي الآية العاشرة من سورة فاطر: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ﴾[1].
والجميع طالب للعزّة، ويشير القرآن إلى أنّ بعض عابدي الأصنام قد عبدوها بدافع جلب الاحترام والعزّة.
وعلى أيّ حال، فإنّ أصل الحرص على العزّة والاحترام ليس شيئاً سيّئاً، لكنّه يجب الالتفات إلى أنّ العزّة لا تنحصر في ألوان العزّة الاعتباريّة الموجودة في المجتمع. فهذه الآية الشريفة تحاول أن توجّه هذه الرغبة باتجاهها الصحيح، فتقول: أتحبّ أن تصبح عزيزاً؟ افعل ما يجعلك عزيزاً عند الله. فإذا كنت تحبّ أن تكون عزيزاً عند الناس الذين هم أنفسهم فقراء ومحتاجون، فلماذا لا تحبّ أن تصبح عزيزاً عند اللَّه الغنيّ العزيز؟!
• حبّ البقاء
وهو من الرغبات الفطريّة للإنسان أيضاً.
[1] سورة فاطر، الآية 10.
121
103
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
فالإنسان لا يريد الموت، ويتخيّل أنّ الموت انعدام، فهو يحبّ أن يكون له عمر طويل.
وينقل القرآن الكريم عن بني إسرائيل أنّهم كانوا يحبّون أن تطول أعمارهم: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾[1].
وهذا العدد علامة الكثرة، لا يعني مثلاً أنّهم لا يحبّون أن تطول أعمارهم ألفاً وسنة واحدة.
فهذه الرغبة موجودة فينا جميعاً، حتّى في أبينا آدم عليه السلام نفسه، وقد نفذ إليه الشيطان وخدعه من هذا الباب: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى﴾[2].
فالآية تشير إلى حبّ البقاء وإلى حبّ المقام عند الإنسان.
إذن، هذه الرغبة عامّة وأصلها ليس شيئاً سيّئاً، إلّا أنّه لا بدّ من معالجة نقص المعرفة والالتفات إلى أنّ هذا العالم ليس قابلاً للبقاء، والملك الأبديّ عند اللَّه، ولا بدّ من أن يتعلّق الإنسان بالآخرة بدل الدنيا، وذلك لأنّه: ﴿وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ﴾[3]. ﴿وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ لَهِيَ ٱلۡحَيَوَانُۚ﴾[4].
وبالتالي، فإنّ الأرفع من جميع التعلّقات هي الرغبة الباطنيّة الخاصّة الغائرة في أعماق الوجود الإنسانيّ، والمتعلّقة باللَّه -جلّ وعلا-، وهي مع الأسف الشديد مجهولة عند كثير من علماء النفس. وهذه الرغبة ليست من قبيل الإحساس، ولا من لون العواطف، إنّما هي ألطف منها وأخفى. ولمّا كان الكمال النهائيّ للإنسان متوقّفاً عليها، فإنّ تفتّحها ونموّها أمر اختياريّ ويكون ميسوراً بيد الإنسان نفسه.
وتتفتّح الغرائز والرغبات الطبيعيّة بذاتها، فالجوع يوجد مع الطفل منذ
[1] سورة البقرة، الآية 96.
[2] سورة طه، الآية 120.
[3] سورة الأعلى، الآية 17.
[4] سورة العنكبوت، الآية 64.
122
104
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
اللحظات الأولى لولادته، والغريزة الجنسيّة تستيقظ ذاتيّاً عند البلوغ، ويميّز الإنسان أيضاً سبيل إشباعها.
أمّا الكمالات المعنويّة، فهي:
أوّلاً: لا تتفتّح بذاتها وإنّما لا بدّ من إيقاظها.
ثانياً: بعد معرفة متعلّقها وموضوعها وموردها لا بدّ من إعمال الاختيار؛ أي عندما يلاحظ في نفسه ميلاً قد ظهر بالتدريج فإنّه يخطو خطوة نحو الأمام حتّى يقترب من المراحل النهائيّة.
وتهدينا في هذا المجال الآيات المتعلّقة بقصّة إبراهيم عليه السلام، فإبراهيم قال بعد غروب "الزهرة": ﴿لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ﴾[1].
أي إنّ جميع الناس ينجذبون إلى محبوب لا يغرب. فالحبّ والعبادة لا بدّ من أن تتعلّق بشيء حاضر دائماً، بمحبوب يكون إلى جانبنا دوماً، وليس هذا إلّا اللَّه -سبحانه-.
وتبعاً لحبّ اللَّه يحبّ الإنسان ما يتعلّق باللَّه: ﴿وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ﴾[2].
لأنّه طريق إلى اللَّه.
ويواصل الإنسان سيره في هذا الطريق حتّى يصل إلى مستوى في حياته، بحيث لا يطلب شيئاً إلّا لأجل حبّه للَّه -تعالى-: ﴿إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِ ٱلۡأَعۡلَىٰ﴾[3].
[1] سورة الأنعام، الآية 76.
[2] سورة الحجرات، الآية 7.
[3] سورة الليل، الآية 20.
123
105
الدرس التاسع: نزعات الإنسان
المفاهيم الرئيسة
- العلم والقدرة شرطان للاختيار، وشرطان للتكليف أيضاً.
- إنّ الرغبات التي تتعلّق بالحاجات الحيويّة والمرتبطة بعضو أو جهاز في البدن تسمّى الغرائز، مثل غريزة الأكل والشرب.
- العواطف هي تلك الميول التي تظهر في الإنسان في علاقته بالإنسان الآخر، مثل عاطفة الوالدين بالنسبة إلى أولادهما وبالعكس.
- الانفعالات هي الرغبات السالبة، وتكون في مقابل العواطف وعكسها. وهي حالة نفسيّة يفرّ الإنسان على أساسها من شخص أو يطرده بسبب الشعور بالضرر منه أو عدم الرغبة فيه.
- الإحساسات حسب بعض الاصطلاحات هي تلك الحالات من الموارد الثلاثة السابقة الذكر، التي تتميّز بالشدّة والقوّة، وتختصّ بالإنسان فحسب.
- إذا تعارضت في أنفسنا رغبتان فمن الطبيعيّ أن نختار منهما أكثرهما راحة لنا من حيث التحصيل، أو لأنّ لإحداهما رجحاناً.
- لقد خُلق الإنسان بشكل توجد فيه بعض الرغبات المنحطّة، وأمّا الإنسان الذي يحبّ أن ينال الكمالات الرفيعة باختياره، فلا بدّ من أن لا ينقاد لهذه الميول، بل ينبغي له أن يستخدمها في سبيل الحصول على هذه الكمالات.
- حب الشخصيّة هو من الرغبات الإنسانيّة التي هي أرفع من الرغبات الحيوانيّة، وتتحقّق عادة في المجتمع، وله مظاهر متنوّعة، ولعلّ أوّل براعمه تظهر في الشابّ بصورة حبّ الاستقلال.
124
106
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
الدرس العاشر:
معيار الانتخاب
أهداف الدرس
علم المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يبيّن تقسيم رغبات الإنسان إلى فرديّة واجتماعيّة.
2. يذكر المعيار الذي على أساسه يتم ترجيح رغبة على أخرى عند التعارض.
3. يشرح كيفية تحقيق الكمال الإنساني.
125
107
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
• تمهيد
لقد انتهينا في البحوث السابقة إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الحركة الاختياريّة للإنسان مبنيّة على ثلاثة أمور: الرغبة، والمعرفة، والقدرة. ويوفّر هذا المثلّث الظرف المناسب لاختيار الإنسان وسيره. فإذا شبّهنا الإنسان بسيّارة فإنّ الرغبة في الواقع تشكّل العامل الأصليّ للحركة أي الطاقة اللازمة للحركة التي ينتجها محرّكها. والعلم والمعرفة مصباح يضيء الطريق، ويشخّص مسير الحركة، والقدرة بمنزلة سائر وسائلها من إطارات وغيرها ممّا تحصل الحركة بواسطتها، أي الأجزاء التي تتسلّم الطاقة وتنفقها. إذن، لكلّ واحد من أضلاع ذلك المثلّث أهمِّيَّة خاصّة.
• تقسيم رغبات الإنسان إلى فرديّة واجتماعيّة
وهناك تقسيمات للرغبات والميول أشرنا إلى بعضها فيما سبق، ونذكر هنا بعضها:
فمن ناحية يمكننا تقسيم رغبات الإنسان إلى فئتين: الفرديّة والاجتماعيّة. والميول الغريزيّة تدخل عادة ضمن الفئة الأولى، وسائر الميول، ومن جملتها العواطف تتميّز بصبغة اجتماعيّة.
وكذلك الانفعالات، فتارةً يخشى الإنسان من خطر يهدّد حياته، فهو انفعال فرديّ، وأخرى من خطر يهدّد المجتمع.
127
108
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
ومن زاوية أخرى، نستطيع تقسيم الرغبات إلى ماديّة وروحيّة أيضاً.
فالماديّة، هي تلك الميول التي ينتج من إشباعها سدّ حاجة البدن كالغرائز، والروحيّة مثل بعض الميول التي تظهر بعد سدّ حاجات الجسم، مثل الحاجة إلى السعادة، فقد يكون البدن سالماً، إلّا أنّ النفس غير سعيدة.
وبرؤية أخرى، نستطيع تقسيم رغبات الإنسان إلى ثلاث فئات:
1. ما يتميّز بناحية ماديّة وفيسيولوجيّة.
2. ما يتّصف بناحية نفسيّة، لكنّه من الرغبات الروحيّة الهابطة، كالفرح والاستقرار.
3. ما يتميّز بصبغة نفسيّة، إلّا أنّه من الرغبات الروحيّة الرفيعة، مثل الرغبة في تحقّق الآمال والمطالبة بالحريّة و...
وقام بعضهم بتقسيم الآمال الإنسانيّة العالية إلى ثلاث فئات:
• طلب الحقّ ¬ معرفة الواقعيّات والحقائق.
• طلب الفضيلة ¬ العدالة، الحريّة، و...
• طلب الجمال ¬ مطلق أنواع الجمال التي تتعلّق بها رغبة الإنسان، وهي عديدة: بعضها يرتبط بالمرئيّات وبعضها بالمسموعات، وبعضها الآخر بالخيال كالشعر.
وأضاف بعضها قسماً رابعاً، وسمّوه بـ"الحسّ الدينيّ"، مدّعين أنّه رغبة في عرض تلك الأقسام الثلاثة. وعدّ بعضهم تلك الثلاثة، تجلّيات هذا القسم الرابع.
واختلفوا في هذه الرغبات؛ أيّها أصيل وأيّها غير أصيل، وكم عدد الأصيل منها، وعدّدوها من اثنين إلى إحدى وعشرين رغبة أصيلة للإنسان.
128
109
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
وقد ذكرنا في كتابنا "معرفة الذات" تقسيماً، تنقسم الرغبات على أساسه إلى فئتَين:
- ما يتعلّق منها بحفظ البقاء والوجود: وهي الرغبات التي يساعد إشباعها على بقاء الإنسان، كالطعام واللباس وغريزة صيانة الذات.
- ما يتعلّق منها بتحصيل الكمالات الوجوديّة: وتقتضي هذه الفئة تكامل الوجود، ولا تحافظ هذه الرغبات على أصل الوجود، وإنّما هي تحقّق تكامل الوجود المفروض.
وتُعدّ هذه التقسيمات -بما أنّها دراسة علميّة- من وظائف علماء النفس وهي لا تهمّنا كثيراً، والذي له أهمِّيَّة في موضوع "اختيار الإنسان" هو أنّ هذه الرغبات لا يمكن عادةً إشباعها جميعاً وفي كلّ مجال ودائماً؛ أي إنّها متزاحمة حين الإشباع، ولا بدّ للإنسان من ترجيح بعضها على بعضها الآخر، وها هنا يتجلّى دور الإنسان، بعنوان أنّه موجود مُنتخِب.
عندما تتضارب الرغبات، فأيّ شيء يؤدّي إلى ترجيح بعضها على بعض؟
لقد عدّ علماء النفس بعض الأمور مؤدّية إلى تقديم رغبة على رغبة أخرى، ومن جملتها الهيجانات. ويقولون: عندما تصل رغبة إلى مرحلة الهيجان وتشتدّ، سواء أكانت في الناحية الإيجابيّة أم السلبيّة، فإنّها تُغطّي على سائر الرغبات. مثلاً، إذا هاجت الغريزة الجنسيّة عند شخص واشتدّت -بأيّ عامل من العوامل- فإنّها تركّز التفاته في إشباع هذه الرغبة فحسب.
ومنها العادة، فإذا اعتاد الإنسان شيئاً فإنّه يتحرّك ذاتيّاً من دون التفات لإشباع هذه العادة. وقد بُحث هذا الموضوع بالتفصيل في علم النفس، وما يهمّنا في هذا المجال هو: أنّه إذا أراد الإنسان أن ينتخب بحريّة، أي إذا أراد أن يكون له دور فعّال، فكيف يستطيع ذلك؟
129
110
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
إنّ الرغبات الحيوانيّة تتهيّج عادةً نتيجةً لعوامل أخرى، والعوامل الخارجيّة هي التي تُوجِد هذه الحالة في النفس، فمثلاً في الغريزة الجنسيّة يؤدّي ترشّح الهرمونات إلى هذه الحالة، وتكون الروح هنا في حالة انفعاليّة بالنسبة إلى البدن، وهذا الأمر مشترك بين الإنسان والحيوان.
والمهمّ في هذا المضمار هو:
عندما تتزاحم "الرغبات"، حتّى عندما تدفع الإنسان عوامل كالعادات والهيجانات باتّجاه معيّن. فكيف يستطيع الإنسان أن يبقى غير منفعل بها ويقوم بدوره الفعّال؟
ما يظهر من القرآن والروايات هو أنّ القيمة الأساسيّة للإنسان تابعة لنشاطه الإيجابيّ هذا.
وإذا أردنا أن نرجّح رغبة باختيارنا وانتخابنا، فما هو أساس هذا الانتخاب ومعياره؟
نحن نعلم أنّ أساس كلّ انتخاب هو اللذّة، ومع أنّه في بعض الأحيان تعدّ المصلحة أو المنفعة منشأ للانتخاب، ولكنّه بنظرة أدقّ يعود كلّ انتخاب إلى اللذّة؛ لأنّ المصلحة والمنفعة وسيلة -وإن كانت بوسائط عدّة- لتأمين احتياجات الإنسان، وهو بدوره يحقّق لذّة في نفس الإنسان، وإن كانت لذّة روحيّة ومعنويّة، إلّا أنّها ملائمة لروح الإنسان وطبعه.
وفي الاصطلاحات المتعارفة يفرّقون بين اللذّة والمنفعة والمصلحة.
أجل، إنّ المحرّك هو اللذّة أو الفرار من الألم بمعناه الواسع، ولا نقصد اللذّة والألم الحسيّين بصورة خاصّة.
130
111
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
• ما معيار تقديم رغبة على أخرى؟
أيّ رغبة نقدّمها في مقام الترجيح؟ وما المعيار للتقديم؟
المعيار الأوّل: وهو أن ننظر أيّها تحقّق لذّة أكبر فنقدّمها. ومن الواضح، أنّنا لا نستطيع القيام بهذه المقارنة ما لم نكن قد جرّبناها من قبل.
المعيار الثاني: وهو يتعلّق أيضاً باللذّة إلّا أنه من جهة الزمان، فكلّما كانت اللذّة أكبر دواماً فإنّنا ننتخبها. فقد يلتذّ الإنسان بشيء لذّة شديدة، لكنّ لذّته بشيء آخر أطول وأكثر استمراراً.
المعيار الثالث: هو أن ننظر إلى الفعل لنقيس مقدار الكمال الذي يحقّقه لنا. ومن الجليّ أنّ حصول أيّ كمال يستتبع لذّة، لكنّنا إذا لم نكن قد جرّبناها، فنحن نستطيع بالدليل العقليّ أن نسلّم بأنّنا إذا ظفرنا بذلك الكمال حصلنا على لذّة أكبر وأفضل.
هذه معايير ثلاثة نستطيع أن نأخذها بعين الاعتبار، ولكنّها جميعاً تضعنا في الحيرة بشكلٍ أو بآخر. فأحياناً نحاول المقارنة بين اللذّات، إلّا أنّ واحدة منها قد نسيناها، وليس لها في خيالنا صورة.
ومن جهة أخرى، فقد يسلبنا هيجان خاصّ الالتفات إلى سائر اللذّات.
ومن المحتمل أنّنا لم نذق طعام بعض اللذّات، ولهذا فنحن لا نستطيع القيام بمقارنة بينها أيضاً، كالطفل الذي لم يذق بعدُ اللذّة الجنسيّة.
ومن هنا، فإنّ الحكم اليقينيّ في مقام المقارنة بين اللذّات ليس ميسوراً لعامّة الناس.
إذن، ماذا يجب أن يكون معيار الانتخاب؟
يتّضح هنا دور العلم والمعرفة، ويتميّز هذا الضلع من ذلك المثلّث السابق الذكر بأهمِّيَّة أكبر.
129
112
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
إنّ الرغبات الحيوانيّة تتهيّج عادةً نتيجةً لعوامل أخرى، والعوامل الخارجيّة هي التي تُوجِد هذه الحالة في النفس، فمثلاً في الغريزة الجنسيّة يؤدّي ترشّح الهرمونات إلى هذه الحالة، وتكون الروح هنا في حالة انفعاليّة بالنسبة إلى البدن، وهذا الأمر مشترك بين الإنسان والحيوان.
والمهمّ في هذا المضمار هو:
عندما تتزاحم "الرغبات"، حتّى عندما تدفع الإنسان عوامل كالعادات والهيجانات باتّجاه معيّن. فكيف يستطيع الإنسان أن يبقى غير منفعل بها ويقوم بدوره الفعّال؟
ما يظهر من القرآن والروايات هو أنّ القيمة الأساسيّة للإنسان تابعة لنشاطه الإيجابيّ هذا.
وإذا أردنا أن نرجّح رغبة باختيارنا وانتخابنا، فما هو أساس هذا الانتخاب ومعياره؟
نحن نعلم أنّ أساس كلّ انتخاب هو اللذّة، ومع أنّه في بعض الأحيان تعدّ المصلحة أو المنفعة منشأ للانتخاب، ولكنّه بنظرة أدقّ يعود كلّ انتخاب إلى اللذّة؛ لأنّ المصلحة والمنفعة وسيلة -وإن كانت بوسائط عدّة- لتأمين احتياجات الإنسان، وهو بدوره يحقّق لذّة في نفس الإنسان، وإن كانت لذّة روحيّة ومعنويّة، إلّا أنّها ملائمة لروح الإنسان وطبعه.
وفي الاصطلاحات المتعارفة يفرّقون بين اللذّة والمنفعة والمصلحة.
أجل، إنّ المحرّك هو اللذّة أو الفرار من الألم بمعناه الواسع، ولا نقصد اللذّة والألم الحسيّين بصورة خاصّة.
130
113
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
• ما معيار تقديم رغبة على أخرى؟
أيّ رغبة نقدّمها في مقام الترجيح؟ وما المعيار للتقديم؟
المعيار الأوّل: وهو أن ننظر أيّها تحقّق لذّة أكبر فنقدّمها. ومن الواضح، أنّنا لا نستطيع القيام بهذه المقارنة ما لم نكن قد جرّبناها من قبل.
المعيار الثاني: وهو يتعلّق أيضاً باللذّة إلّا أنه من جهة الزمان، فكلّما كانت اللذّة أكبر دواماً فإنّنا ننتخبها. فقد يلتذّ الإنسان بشيء لذّة شديدة، لكنّ لذّته بشيء آخر أطول وأكثر استمراراً.
المعيار الثالث: هو أن ننظر إلى الفعل لنقيس مقدار الكمال الذي يحقّقه لنا. ومن الجليّ أنّ حصول أيّ كمال يستتبع لذّة، لكنّنا إذا لم نكن قد جرّبناها، فنحن نستطيع بالدليل العقليّ أن نسلّم بأنّنا إذا ظفرنا بذلك الكمال حصلنا على لذّة أكبر وأفضل.
هذه معايير ثلاثة نستطيع أن نأخذها بعين الاعتبار، ولكنّها جميعاً تضعنا في الحيرة بشكلٍ أو بآخر. فأحياناً نحاول المقارنة بين اللذّات، إلّا أنّ واحدة منها قد نسيناها، وليس لها في خيالنا صورة.
ومن جهة أخرى، فقد يسلبنا هيجان خاصّ الالتفات إلى سائر اللذّات.
ومن المحتمل أنّنا لم نذق طعام بعض اللذّات، ولهذا فنحن لا نستطيع القيام بمقارنة بينها أيضاً، كالطفل الذي لم يذق بعدُ اللذّة الجنسيّة.
ومن هنا، فإنّ الحكم اليقينيّ في مقام المقارنة بين اللذّات ليس ميسوراً لعامّة الناس.
إذن، ماذا يجب أن يكون معيار الانتخاب؟
يتّضح هنا دور العلم والمعرفة، ويتميّز هذا الضلع من ذلك المثلّث السابق الذكر بأهمِّيَّة أكبر.
131
114
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
• تقييم المعيار الأول
أجل، إنّ الإنسان يقتفي أثر اللذّة بحسب طبعه، واللذّة هي حالة خاصّة توجد نتيجة لإشباع إحدى الرغبات أعمّ من الفيسيولوجيّة[1] والسيكولوجيّة[2]. وعدم الإشباع يستتبع حالة الألم والعذاب.
فعامل الحركة في الواقع هو البحث عن اللذّة واجتناب الألم، غاية الأمر أنّها تارةً تكون لذّة جسميّة وأخرى روحيّة. ومن المسلّم به أنّ بين الروح والبدن تأثيراً وتأثّراً متبادلاً أيضاً، حتّى إنّه أحياناً يكون تناول بعض الأغذية مؤثّراً في الحالات الروحيّة، كما هو مشهور عن الزعفران أنّه يجلب النشاط لشاربه، أو العدس يحقّق رقّة في قلب آكله.
لكنّه يشعر أحياناً بحاجات لا علاقة لها بالبدن إطلاقاً، كالإحساس بالحاجة إلى الأنس.
ولهذا، فإنّ الإنسان إذا حاول أن يقرّر شيئاً فهو يتحيّر في اعتبار أيّ شيء ملاكاً للذّة، في أيّ زمان ولأيّ شخص؟
هذا هو النقص الموجود في المعيار الأوّل.
• تقييم المعيار الثاني
أمّا المعيار الثاني، وهو الذي يأخذ بعين الاعتبار مدّة اللذّة، فإنّه لا عموم له أيضاً؛ لأنّه إذا كانت هناك لذّتان ومدّتهما طويلة لكنّهما متساويتان، فأيّهما أرجح؟
ومضافاً إلى هذا، فنحن لا نستطيع التنبّؤ بمقدار دوام وجودنا حتّى ننتخب من بين اللذائذ المتيسّرة أكثرها دواماً لنا.
[1] الفيسيولوجيّة: العلم الذي يدرس العلاقة بين السلوك الإنساني وأعضائه من أجل تفسير فسيولوجيّ.
[2] السيكولوجيّة: هو العلم الذي يدرس الوظائف العقليّة والسلوك، ويهتمّ بدراسة الشخصيّة من ناحية العاطفة والسلوك والإدراك والعلاقات بين الأشخاص.
132
115
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
• تقييم المعيار الثالث
وفي المعيار الثالث، القائم على الكمال توجد هذه الحيرة أيضاً، فنحن لا نعلم مدى الكمال الذي يستطيع الإنسان الظفر به، وما لم نعرف الإنسان فلا معيار عندنا.
إذن، كلّ واحد من هذه المعايير الثلاثة مفيد في الجملة[1] في مجال إمكانيّة تحقّقه، لكنّه ليس مجدياً ولا يوفّر الحكم اليقينيّ لإيجاد مخطّط كامل ومنهج صحيح للحياة الإنسانيّة.
• خطوات الاستفادة من المعايير المتقدِّمة
وأوّل خطوة يتحتّم على الإنسان أن يقطعها حتّى يستطيع الاستفادة من هذه المعايير، ولو بصورة محدودة، هي أن يتأمّل في وجوده بشكلٍ أعمق.
ما هو مقدار عمرنا؟
قد يبدو أنّه من الحماقة طرح مثل هذا السؤال، لأنّه مَنِ الذي يعلم كم يُعمّر؟
إلّا أنّ للسؤال باطناً آخر، وهو هل عمر الإنسان ينحصر في هذا العمر العاديّ أم له عمرٌ آخر؟
وهل حياة الإنسان محصورة في هذه الحياة المحدودة التي ليس من المعلوم أن تمتدّ إلى لحظة أخرى فضلاً عن مئة عام أو أكثر، أم له حياة أخرى يطمئنّ إلى بقائها؟
لا بدّ من حلّ هذه المسألة.
ومن جهة أخرى، ما هي الكمالات التي يستطيع الإنسان الظفر بها، وهي تظهر من خلال العلاقة بأيّ شيء؟
[1] أي على نحو الموجبة الجزئيّة.
132
116
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
• ماذا يفعل الإنسان ليحقّق الكمال؟
لا شكّ في أنّنا لا بدّ من أن نحصل على شيء ليس عندنا الآن لكي نصل إلى الكمال. فتحصيل الكمال يعني نيل أمر وجوديّ نحن فاقدون له فعلاً. وهذا الأمر الوجوديّ لا بدّ من أن يأتي من مكان. فمن أين يأتي؟ وما منشأه؟ وهل يوجد صدفة أم له قانون؟
وبناءً على هذا، فقبل وضع أيّ مخطّط، لا بدّ من البحث عن الكمال، من أين يوجد، وبأيّ ضوابط يتحقّق، وهو بحث يرتبط بمعرفة اللَّه.
ومن ناحية أخرى، لا بدّ من أن ننظر لنرى إلى أيّ مدى يستمرّ، وهو بحث يرتبط بمعرفة المعاد.
فالإنسان إذا حاول أن يخطّط لحياته نظاماً قيميّاً من دون النظر إلى المبدأ والمعاد، فإنّها محاولة عابثة لا فائدة منها. وهذه ملاحظة مهمّة. ونحن نستطيع إيجاد الحلول لهذه المسائل بسهولة ويسر ببركة نور القرآن وتعاليم الإسلام وقادة الدين، ولكنّ العلماء الآخرين واقعون في حيرة شديدة. وقد قاموا بمحاولات ليست قابلة للعدّ لاكتشاف أسس للأخلاق وفلسفة الأخلاق ومعيار الخير والشرّ، ولكنّ حيرتهم تتضاعف يوماً بعد يوم. ونحن نستطيع أن نثبت بسهولة أنّ معرفة النظام القيميّ الصحيح لا تتيسّر من دون معرفة المبدأ والمعاد.
فإذا أردنا أن نعرّف الإنسان بشكل صحيح، فلا بدّ من أن نأخذ الآخرة بعين الاعتبار.
إنّ الدنيا وحياة هذا العالم جذّابة إلى الحدّ الذي نلاحظ فيه حتّى الذين ربّاهم الدين لا يعيرون الحياة الآخرة أهمِّيَّة كبيرة في محاوراتهم، فإذا سألنا: كم عمر فلان؟ فإنّه لا يخطر في الذهن إلّا هذه السنوات التي يعيشها في الدنيا، ولا نهتمّ بالحياة الأبديّة، بينما نحن في الواقع لا نستطيع تأسيس نظام قيميّ محكم وأصيل من دون ذلك.
134
117
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
كانت هذه مقدّمة لكي ننتقل من البحث في معرفة شؤون النفس، والميول والرؤى والقدرات التي تتمتّع بها النفس، وهي مقدّمة لردود الفعل الصادرة منها، لنصل إلى البحث عن المعاد.
فما لم تتّضح مسألة المعاد فإنّه لا يتيسّر التخطيط لنظام قيميّ صحيح ومتقن يحكم سلوك الإنسان. ولهذا يختصّ بحثنا القادم بالمعاد.
135
118
الدرس العاشر: معيار الانتخاب
المفاهيم الرئيسة
- الميول الغريزيّة تدخل عادة ضمن الرغبات الفرديّة، وسائر الميول، ومن جملتها العواطف تتميّز بصبغة اجتماعيّة.
- الميول الماديّة، هي تلك الميول التي ينتج من إشباعها سدّ حاجة البدن كالغرائز.
- الرغبات التي تتعلق بحفظ البقاء والوجود: وهي الرغبات التي يساعد إشباعها على بقاء الإنسان، كالطعام واللباس وغريزة صيانة الذات.
- الرغبات التي يتعلّق منها بتحصيل الكمالات الوجوديّة: وتقتضي هذه الفئة تكامل الوجود، ولا تحافظ هذه الرغبات على أصل الوجود، وإنّما هي تحقّق تكامل الوجود المفروض.
- عندما تصل رغبة إلى مرحلة الهيجان وتشتدّ، سواء أكانت في الناحية الإيجابيّة أم السلبيّة، فإنّها تُغطّي على سائر الرغبات.
- إنّ أساس كلّ انتخاب هو اللذّة، ومع أنّه في بعض الأحيان تعدّ المصلحة أو المنفعة منشأ للانتخاب، ولكنّه بنظرة أدقّ يعود كلّ انتخاب إلى اللذّة؛ لأنّ المصلحة والمنفعة وسيلة -وإن كانت بوسائط عدّة- لتأمين احتياجات الإنسان.
- هناك معايير على أساسها يتم تقديم رغبة على أخرى.
- أوّل خطوة يتحتّم على الإنسان أن يقطعها حتّى يستطيع الاستفادة من هذه المعايير، ولو بصورة محدودة، هي أن يتأمّل في وجوده بشكلٍ أعمق.
- الإنسان إذا حاول أن يخطّط لحياته نظاماً قيميّاً من دون النظر إلى المبدأ والمعاد، فإنّها محاولة عابثة لا فائدة منها.
136
119
الدرس الحادي عشر: المعارف الضروريّة في تعيين طريق الحياة
الدرس الحادي عشر:
المعارف الضروريّة في تعيين طريق الحياة
أهداف الدرس
على المتعلم مع نهاية هذا الدرس أن:
1. يبيّن أهمِّيَّة دور العلم والمعرفة في تمييز ما يجب ترجيحه من الرغبات.
2. يذكر الأصول الثلاث التي تبتني عليها الإيدلوجيّة الإسلاميّة.
137
120
الدرس الحادي عشر: المعارف الضروريّة في تعيين طريق الحياة
• تمهيد
قلنا إنّ اختيار الإنسان قائم على ثلاثة أشياء:
- الميول الفطريّة.
- القدرة على إشباع هذه الميول.
- معرفة الأصلح والأرجح فيها.
صحيح أنّ الإنسان يستطيع القيام ببعض النشاطات لتقوية الميول، أو اكتساب القدرة على العمل إلّا أنّ أساس هذَين الأمرَين مغروس في وجوده، فهما عاملان محقّقٌ وجودُهما.
وتقوية القدرة أو الميول هي بدورها عمل اختياريّ يقع في مرحلة متأخّرة عن هذين العاملَين. وبعبارة أخرى، فإنّ أفعال الإنسان الاختياريّة تتحقّق خلال مراحل عدّة. وأوّل فئة منها تتحقّق عندما تتعلّق الإرادة الإلهيّة بإيجاد ميول في أعماقه، وتوضع بإذن اللَّه تحت تصرّفه قدرة لإشباعها. وفي اكتساب هذه الشروط الابتدائيّة لا يلزم الإنسان أن يجهد نفسه، ولكنّه عندما تتزاحم هذه الرغبات فإنّه لا بدّ من أن يتمتّع بعلم في هذه المرحلة حتّى يميزّ ما يجب ترجيحه، وها هنا تتّضح أهمِّيَّة دور العلم والمعرفة.
139
121
الدرس الحادي عشر: المعارف الضروريّة في تعيين طريق الحياة
وأمّا هل هناك أُناس قد منحهم اللَّه هذا العلم أم لا؟ فهذا موضوع آخر. ونحن ندرس فعلاً وضع الناس العاديّين أمثالنا.
• كيفيّة تحصيل ذلك العلم وبماذا يتعلّق؟
لا شكّ في أنّ وسائل تحصيل العلم لا بدّ من أن تتوفّر من قِبَل اللَّه؛ كالحواسّ الظاهريّة، والإدراكات الباطنيّة، والعقل الذي هو منحة اللَّه، إلّا أنّ استخدام هذه الوسائل لتحصيل المعرفة اللازمة في الأفراد العاديّين منوط بنشاطهم الذاتيّ.
وأيّ معرفة يجب تحصيلها؟
بعبارة أخرى، لا بدّ لنا من معارف عامّة لكي نعرف خطّ مسيرنا في الحياة. إذا أردنا أن تكون حركتنا في اتّجاه معيّن فلا بدّ من أن نتمتّع بضوابط تؤمّن لنا المصلحة والمنفعة النهائيّة، وتوصلنا إلى الكمال وتحقّق لنا أفضل اللذّات وأرفعها.
وهذا ما يسمّى في الاصطلاح المعاصر باسم "الأيديولوجيّة"، وهي معرفة الضوابط العامّة لتعيين خطّ مسيرة الحياة.
ولكي نحصل على هذه القواعد العامّة، يتحتّم علينا الظفر قبل ذلك برؤى يُطلق عليها اصطلاحاً اسم "الرؤية الكونيّة".
وبناءً على هذا، تغدو الأيديولوجيّة مبنيّة على الرؤية الكونيّة؛ أي إذا أردنا أن نعيّن خطّاً لمسيرة حياتنا متعقّلاً وصحيحاً، فلا بدّ من أن تكون لدينا رؤى قبل ذلك.
وقد جرت بين الغربيّين في الأعوام الأخيرة بحوث كثيرة من جملتها:
هل يوجد ارتباط بين الرؤية الكونيّة والأيديولوجيّة أم لا؟
وإذا كان بينهما ارتباط، فما هي كيفيّته وما تبريره المنطقيّ؟
122
الدرس الحادي عشر: المعارف الضروريّة في تعيين طريق الحياة
زعم بعضهم أنّ الأيديولوجيّة هي من قبيل المفاهيم الإنشائيّة التي ليس لها واقع خارجيّ ولا تقبل الصدق ولا الكذب.
ولكنّ هذا الرأي غير صحيح، وذلك:
أوّلاً: لأنّ هذه المفاهيم الأيديولوجيّة لا يلزم أن تكون إنشائيّة، وعلى فرض صياغتها بصورة إنشائيّة فهي مبنيّة على حقائق، وتبعاً لتلك الحقائق تصبح قابلة للصدق والكذب والصحّة والخطأ، وحينئذٍ نستطيع القول: إنّ هذه الأيديولوجيّة صحيحة وتلك مخالفة للحقيقة.
وأمّا التبرير المنطقيّ لكيفيّة استنتاج الأيديولوجيّة من الرؤية الكونيّة، فنبيّنه إجمالاً بقولنا: إنّ المفاهيم الأيديولوجيّة ترجع إلى الضرورة بالقياس؛ أي عندما يكون لدينا مطلوب فطريّ وهو نيل الكمال، فمقدّماته تتّصف بالضرورة بالقياس، بمعنى أنّ هذه المقدّمات علل وأسباب لظهور هذه النتيجة، فوجودها إذن بالنسبة إلى وجود النتيجة بالضرورة بالقياس، وهذا هو منشأ "اللابدّ" في هذه القضايا: لا بدّ من إنجاز الفعل الفلانيّ؛ لأنّه مقدّمة للنتيجة المطلوبة[1].
• الأيديولوجيّة الإسلاميّة مبنيّة على أصول ثلاثة
فالأيديولوجيّة الإسلاميّة مبنيّة على الرؤية الكونيّة الإسلاميّة، والخطوط العامّة لهذه الرؤية الكونيّة التي تتميَّز بالدور الأساسيّ في تعيين الأيديولوجيّة هي هذه الثلاثة:
1. معرفة اللَّه.
2. معرفة المعاد.
3. معرفة علاقة الدنيا بالآخرة والحياة الأبديّة.
[1] إنّ تفصيل هذه المواضيع يتعلّق بـ"علم المعرفة" الفلسفيّ، ولا يدخل ضمن بحثنا الحاليّ.
141
123
الدرس الحادي عشر: المعارف الضروريّة في تعيين طريق الحياة
فالذي لا يعرف أنّ هذا الوجود، هل هو قائم بذاته أم مرتبط بغيره، لا يستطيع أن يكون له حكم صحيح بالنسبة إلى شؤون هذا الوجود وكمالاته. ومن جهة أخرى، فنحن إن لم نكن معتقدين باللَّه فإنّنا لا نستطيع بحث هذا الموضوع، وهو: هل للإنسان طريق إلى اللَّه يتقرّب به إليه أم لا؟
بمعنى أنّ هذا القول وهو: "إنّ كمال الإنسان من خلال قربه للَّه"، لا يصحّ طرحه للبحث قبل إثبات وجود اللَّه.
فمن يؤمن بأنّه مُلكٌ صرفٌ للَّه، وكذا كلّ الوجود، مع من يتخيّل أنّ هذا العالم قائم بذاته، وحوادثه تقع صدفة أو هي من قبيل الأفعال والانفعالات الماديّة المحضة، لا يمكن أن يكون لهما خطّ للسير واحد ليختارا على أساسه طريقاً واحداً للحياة.
إذن، يجب أن تكون لدينا في البدء رؤية صحيحة بالنسبة إلى اللَّه.
ونحن إذا أدركنا أنّ الحياة ليست محصورة في هذه الحياة الماديّة الدنيويّة، وإنّما هي أوسع منها، فإنّنا نستطيع أن يكون لنا موقف صحيح في ترجيح بعض اللذّات على أخرى.
توضيح ذلك، إنّ أفعالنا تارة تكون من أجل لذّة تحصل منها بصورة مباشرة، مثل تناول الطعام. وتارةً أخرى، تكون من أجل النتائج العائدة منها بعد ذلك وبالواسطة، فإذا تزاحمت اللذات الآجلة مع اللذات العاجلة فإنّ الإنسان العاقل، يغضّ النظر عن العاجلة، إن كانت اللذات الآجلة أهمّ وأدوم، فمثلاً تناول الطعام الكذائيّ وإن كان فيه لذّة لكنّه أحياناً لا بدّ من كفّ النفس عنه من أجل سلامة الجسم. فهنا سيطر أحد المعايير التي ذكرناها لترجيح اللذّات على غيره؛ أي لا بدّ من قياس أيّ لذّة هي الأطول.
فالشخص المريض الذي يضرّه تناول الحوامض إذا أكلها، فإنّه يلتذّ بها، لكنّه
142
124
الدرس الحادي عشر: المعارف الضروريّة في تعيين طريق الحياة
عندئذٍ يتحتّم عليه أن يتحمّل آلام المرض أسبوعاً، فالعقل يحكم بضرورة غضّ النظر عن لذّة لا تدوم سوى لحظات من أجل أن يتمتّع بسلامة طويلة الأمد.
وهذا المعيار نفسه صادق بالنسبة إلى الذّات اللانهائيّة. فإذا تقرَّر أن نتحمّل عذاباً يطول أمده إلى عشر سنوات من أجل الظفر بلذّة تمتدّ عشرين عاماً، ألا نختار ذلك؟
والآن، إذا كان من المقرَّر أن نتحمّل عمراً من العذاب حتّى نحصل على لذّة خالدة لا نهائيّة، فما حكم العقل هنا؟
فهذا إذن معيار، وهو أنّ اللذّة القصيرة الأمد يُضحّى بها من أجل اللذّة الأطول، ولكن هل هناك لذّة أطول أمداً أم لا؟
إنّه سؤال يتعلّق بـ"ما هو موجود"، ولا بدّ من البحث في الرؤية الكونيّة: هل يمكن أن تكون للإنسان حياة أبديّة أم لا؟
وقد ذكرنا هذا التوضيح المختصر لكي يتجلّى أنّ اختيار الأيديولوجيّة الصحيحة وإلى جانبها تعيين خطّ صحيح للسلوك في الحياة يعتمد على مسألة المعاد.
ولهذا اهتمّت جميع الأديان السماويّة بمسألة المبدأ والمعاد (الإيمان باللَّه وباليوم الآخر) قبل كلّ شيء، وأكثر من أيّ موضوع آخر. والدعاة إلى اللَّه، علاوةً على كونهم قد جعلوا هذا الأصل على رأس قائمة رؤاهم الإلهيّة، فإنّهم قد تحمّلوا ألواناً من العذاب في سبيل تحقّقه وإيصاله وإبلاغه.
وإذا كان اطّلاعنا على الأنبياء السابقين ضئيلاً، فإنّنا مطّلعون بدقّة على القرآن الكريم والدعوة الإسلاميّة، فأغلب سور القرآن القصيرة نزلت في مكّة المكرّمة عند بدء نزول الوحي، وكثير من آياتها يدور حول المعاد، أي بعد أن أعلن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم شعار التوحيد، فإنّ الآيات التي كانت تنزل عليه ويتلوها للناس هي حول المعاد. وتأكيد هذا الأمر الذي لم يكن مألوفاً لسكّان تلك المنطقة والمتحدّثين بتلك اللغة هو الذي أدّى إلى اتّهامه بالجنون.
143
125
الدرس الحادي عشر: المعارف الضروريّة في تعيين طريق الحياة
وصحيح أنّ سياسة القيادة في الموازين الاجتماعيّة المتداولة تحتّم على القائد الاجتماعيّ أن يختار ابتداءً شعارات تجذب اهتمام أغلب الناس، وهكذا فعل السياسيّون على مرّ التاريخ، إلّا أنّ الأنبياء كانوا على عكس ذلك، فهم يؤكّدون دائماً مسألتَين يخالفهم فيهما غالبيّة الناس ويصمدون عليهما بكلّ قوّة وإصرار، وينبّهون الناس بكلّ شجاعة:
﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ﴾[1].
إنّها صرخة إبراهيم عليه السلام في عبدة الأصنام من قومه.
والدارسون لحياة الأنبياء لا بدَّ من أن يلتفتوا إلى هذه الملاحظة، وهي أنّ نهضتهم لم تكن حسب الموازين العاديّة أو السياسيّة وإنّما هي رسالة إلهيّة خاصّة، وإلّا فإنّ أيّ عاقل يعرف أنّ من يحاول جمع الناس حوله يختار أموراً يحبّها هؤلاء الناس.
لقد كان هدف الأنبياء عليهم السلام واضحاً لا غموض فيه، حتّى إنّهم لم يكونوا مستعدّين أوّلاً لجمع الناس حولهم بتفاهم وتعاون، ومن ثمّ يعلنون لهم أنّ اللَّه واحد...
وإنّما هم منذ اللحظة الأولى لبدء الرسالة يؤكّدون أمراً يتميّز بالأصالة، ويرتبط به كلّ شيء آخر، وهو: التوحيد أوّلاً، وبعده، لا محالة، المعاد.
وموضوع التوحيد كان يُقبل بشكل أسرع نسبيّاً، لأنّه حتّى عبّاد الأصنام كانوا يسلّمون بأصل العبادة. وأمّا المعاد، فإنّه لم يكن أمراً يستطيع الفكر البشريّ العاديّ أن يهضمه بسهولة، وذلك لأنّ كلّ إنسان يرى بطبيعة الحال أُناساً يأتون إلى الدنيا، ويعيشون فيها فترة من الزمن، ثمّ يموتون في الظاهر، ويتحوّلون إلى تراب، ولهذا السبب، كانت مقاومة الناس للأنبياء في مسألة المعاد شديدة للغاية.
[1] سورة الأنبياء، الآية 67.
144
126
الدرس الحادي عشر: المعارف الضروريّة في تعيين طريق الحياة
وقد نقل القرآن الكريم جوانب عديدة من هذه المعارضة:
﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ﴾[1].
وكأنّهم يريدون أن يقولوا: إن كنتم صادقين في ادّعائكم، إنّ الناس يتمّ إحياؤهم مرّة أخرى، فأحيوا آباءنا الماضين.
﴿... مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾[2].
ولهذا سخروا من الأنبياء واتّهموهم بالجنون.
ومن مقاومة الناس الشديدة، نفهم لماذا أكّد القرآن كثيراً مسألة المعاد:
﴿إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتۡ * وَإِذَا ٱلۡكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتۡ﴾[3].
﴿إِذَا ٱلشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ * وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتۡ﴾[4].
كلّ هذا التأكيد بسبب أنّ الاعتقاد بفناء الإنسان لم يكن أمراً قابلاً للزوال من قلوب الناس بجملة أو جملتَين.
أجل، ما لم نقدّم حلّاً عقليّاً منطقيّاً لهذه المسألة فإنّنا لا نستطيع تشييد أيديولوجيّة محكمة. ولا يمكن القول: إنّ أساس المسائل الاجتماعيّة لنظام معيّن يمكن اختصاره في المسائل الاقتصاديّة والحقوقيّة حتّى في الدفاع عن المستضعفين.
فمن دون أن تترسّخ الجذور العقائديّة في نفوس الناس، فإنّه لا يمكن الاكتفاء بجانب من أحكام الإسلام. ولو فعلنا ذلك لزرعنا شجرة من دون جذور، ومن الطبيعيّ أن تُقتلع عند أوّل هبّة ريح.
[1] سورة الصافات، الآيتان 16 - 17.
[2] سورة يس، الآية 78.
[3] سورة الانفطار، الآيتان 1 - 2.
[4] سورة التكوير، الآيتان 1 - 2.
145
127
الدرس الحادي عشر: المعارف الضروريّة في تعيين طريق الحياة
إنّ الإيمان بهذه الآيات هو الذي يفجّر العشق في القلوب:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ﴾[1].
﴿وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ﴾[2].
﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ﴾[3].
والذي لا يؤمن بالمعاد لا يستطيع منطقيّاً أن يبرّر التضحية بالنفس، لأنّه لا يعود عليه شيء في مقابل ما يفقده من نفسه.
ومن الواضح أنّنا نلاحظ أحياناً ألواناً من التضحية بين الأشخاص الذين لا يؤمنون بالمبدأ أو المعاد (وإن كانت هذه التضحية لا تُقاس من حيث الكمّ والكيف بتضحية المسلمين المؤمنين)، ونواجه عندئذٍ هذا السؤال: إذا كان الإيمان باللَّه والآخرة هو الدافع لمثل هذه التضحية، فكيف يقوم هؤلاء بمثل هذا العمل؟
والجواب الذي يتناسب مع هذا البحث وبصورة إجماليّة، هو:
تارة تتمّ الحركات على أساس العقل، أي يفرض إنسان مسلّط على جميع قواه ورغباته، وهو لا يقوم بعمل إلّا على أساس أحكام العقل، ومثل هذا الإنسان ينتخب الأرجح بين اللذّات المتيسّرة والآلام وألوان العذاب التي تواجهه، ولكنّ الناس جميعاً وفي جميع الأوقات ليسوا بهذا الشكل (حتّى الذين يؤمنون بالمبدأ والمعاد أيضاً)، وهناك الكثير من العوامل النفسيّة تتحكّم في الإنسان وتصرّفه عن اتّباع العقل.
[1] سورة التوبة، الآية 111.
[2] السورة والآية نفسها.
[3] سورة الصفّ، الآيتان 10 - 11.
146
128
الدرس الحادي عشر: المعارف الضروريّة في تعيين طريق الحياة
مثلاً، إنّ ضرر التدخين ليس خافياً على أحد، ولكنّ اعتياده واللذّة والأنس بهذه اللذّة العاديّة تحول دون تركه.
فنحن عندما نقول إنّ الأيديولوجيّة تستطيع حمل الإنسان على الإيثار والشهادة، فمقصودنا ينصرف إلى الناس العاديّين الذين لم يقعوا تحت تأثير التهيّجات، وإنّما كان العقل هو معيار انتخابهم.
والجواب عن الشبهة المتقدّمة الذكر هو أنّ العامل المؤثّر في هؤلاء الذين لا يؤمنون بالمعاد، بحيث يدفعهم إلى التضحية بالنفس، هي الهيجانات والمشاعر الباطنيّة المثارة نتيجةً للدعاية وتسميم الأجواء.
ومن هنا، يبذل الإسلام جهده لكي يوفّر للإنسان بيئة سالمة للتربية والتعليم يسيطر فيها العقل، ويحاول أن يجنّب المجتمع العوامل التي تؤدّي إلى بعثرة الفكر، وتحول دون توقّد العقل. ولهذا، فهو يقاوم الهوى والرغبات المكدّرة لنور العقل، ويعلنها حرباً ضدّ التعصّب والتقليد الأعمى، المعطّل للتفكير، وذلك ليرفع الإنسان إلى أُفق الاختيار الواعي، فينظّم حياته على أساس العقل.
إنّ القرآن يريد أن يربّي إنساناً يختار، وما لم يكن الإنسان واعياً ومتمتّعاً بحريّة التفكير فإنّه لن يكون إنساناً حقّاً. وإنّما هؤلاء يظهرون بأشكال الناس، وهم في الواقع كقطيع أغنام تربطهم سلاسل خفيّة، ويتّجهون بالاتّجاه الذي يدفعهم إليه الذئب الذي يظهر بمظهر الراعي، فلا بدّ من كسر هذه السلاسل عنهم.
﴿وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ﴾[1].
ونؤكّد من جديد أنّ الأيديولوجيّة الصحيحة مبنيّة على المعرفة الصحيحة.
فإذا أراد الإنسان أن ينتخب لنفسه فعلاً يؤمّن به سعادته، فلا بدّ له من حركة واعية، لأنّه موجود حرّ مختار.
[1] سورة الأعراف، الآية 157.
147
129
الدرس الحادي عشر: المعارف الضروريّة في تعيين طريق الحياة
المفاهيم الرئيسة
- لا شكّ في أنّ وسائل تحصيل العلم لا بدّ من أن تتوفّر من قِبَل اللَّه، كالحواسّ الظاهريّة، والإدراكات الباطنيّة، والعقل الذي هو منحة اللَّه، إلّا أنّ استخدام هذه الوسائل لتحصيل المعرفة اللازمة في الأفراد العاديّين منوط بنشاطهم الذاتيّ.
- إذا أردنا أن نعيّن خطّاً لمسيرة حياتنا متعقّلاً وصحيحاً، فلا بدّ من أن تكون لدينا رؤى قبل ذلك.
- فالأيديولوجيّة الإسلاميّة مبنيّة على الرؤية الكونيّة الإسلاميّة، والخطوط العامّة لهذه الرؤية الكونيّة تبتني على: 1 - معرفة اللَّه. 2 - معرفة المعاد. 3 - معرفة علاقة الدنيا بالآخرة والحياة الأبديّة.
- إذا أدركنا أنّ الحياة ليست محصورة في هذه الحياة الماديّة الدنيويّة، وإنّما هي أوسع منها، فإنّنا نستطيع أن يكون لنا موقف صحيح في ترجيح بعض اللذّات على أخرى.
- العقل يحكم بضرورة غضّ النظر عن لذّة لا تدوم سوى لحظات من أجل أن يتمتّع بسلامة طويلة الأمد.
- اهتمّت جميع الأديان السماويّة بمسألة المبدأ والمعاد (الإيمان باللَّه وباليوم الآخر) قبل كلّ شيء، وأكثر من أيّ موضوع آخر.
- منذ اللحظة الأولى لبدء الرسالة يؤكّد الأنبياء عليهم السلام على أمر يتميّز بالأصالة، ويرتبط به كلّ شيء آخر، وهو: التوحيد أوّلاً، وبعده، لا محالة، المعاد.
- إنّ القرآن يريد أن يربّي إنساناً يختار، وما لم يكن الإنسان واعياً ومتمتّعاً بحريّة التفكير فإنّه لن يكون إنساناً حقّاً.
148