مقدّمة السرديّة
مقدّمة السرديّة
الحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمّد (صلى الله عليه وآله) وعلى آله الطاهرين(عليهم السلام)، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين (عليه السلام)، وبعد...
أربعة وستّون يومًا، حِيكت فيها ملحمة إيمانيّة بطوليّة تاريخيّة، هي معركة «أولي البأس»، وسبقها عام كامل من النصرة والوفاء في إسناد المقاومة لشعب غزّة المظلوم. حقبة زمنيّة مُثقلَة بأحداثٍ متسارعة ومفصليّة وشديدة، تنوّعت فصولها، صعودًا وهبوطًا، لتحاكي بمشهديّتها، وتستنطق، تعاليم القرآن الكريم، ومعارك النبيّ(صلى الله عليه وآله) في جهاده الأعظم، بعِبره وأهدافه الكبرى في إرساء الدين، وواقعة كربلاء بتجلّياتها الإيمانيّة الروحيّة المتنوّعة، وأثرها الممتدّ في ترسيخ الدين وإثبات الحقّ ونصرة المظلوم عبر الزمن، وجريان السنن الإلهيّة التاريخيّة في صناعة المجتمع الموحِّد السائر نحو الله، وحضور إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، وتربيته وقيادته في معركة من معارك التمهيد لظهوره المبارك.
أمام مشهديّة كهذه، تتعلّق بالصراع بين الحقّ والباطل، بين محور الخير كلّه ومحور الشرّ كلّه، بين حاكميّة دين الله وعبادة الشيطان والدنيا، ولأجل تقديم سرديّة، أو حكاية تفسِّر ما جرى من أحداثٍ على المقاومة وبيئتها، من منطلق إيمانيّ وفكريّ ورؤية توحيديّة، تجيب عن الكثير من التساؤلات المتولّدة من رحم شدّة وقع الحدث وعمقه، من الجدير الأخذ بعين الاعتبار الثوابت والمنطلقات الإيمانيّة والدينيّة والإنسانيّة، ثمّ قراءة الواقع والحدث كما هو، بصدقٍ وشفافيّة وعقلانيّة وفهم للزمان والمكان، وبمظلّة تلك المبادئ والثوابت والسنن الحاكمة، بعيدًا عن الأهواء أو العجلة أو التعمية أو العصبيّة أو التخوين، فجميع الأسئلة مشروعة حتّى تنجلي الصورة المشرقة لنموذج المجتمع المقاوم الموحِّد الممهِّد؛ وهو ما يتطلّب الاستفادة من روح خطابات ونهج سيّد شهداء الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) وثوابتها، والركون إلى خطاب القيادة الجديدة الأمين العام سماحة العلاّمة المجاهد الشيخ نعيم قاسم (حفظه المولى) وتوجيهاتها في قيادتها وإدارتها للمرحلة.
والحمد لله ربّ العالمين
مركز المعارف للدراسات الثقافيّة
12
المقاومة حركة إيمانيّة جهاديّة تلتزم بالتكليف الشرعيّ الإلهيّ
المقاومة حركة إيمانيّة جهاديّة تلتزم بالتكليف الشرعيّ الإلهيّ
إنّ منطلق حركة المقاومة منذ بدايتها، منطلق إسلاميّ قرآنيّ إيمانيّ، وجهاديّ بمختلف أنواعه، قال الله تعالى: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ﴾[1]؛ ويؤكِّد سيّد شهداء الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) هذا الأمر قائلًا: «نحن منذ أربعين عامًا، نسير بسيرة الحسين (عليه السلام) وجدّ الحسين (صلى الله عليه وآله)، فنعمل بكتاب الله، ونصغي إلى كتاب الله وعترة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ لذا حركتنا حركة إيمانيّة جهاديّة بالمعنى الواسع». إذًا، إنّ كلّ المعارك التي خاضتها المقاومة، منذ بداية تأسيسها وإلى يومنا هذا، لها منطلقاتها الدينيّة الإيمانيّة العقائديّة الشرعيّة. وهي تستمدّ مشروعيّة خياراتها وتكليفها في عصر الغيبة الكبرى من «الوليّ الفقيه»، نائب الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه).
وقد حدّد الإمام الخمينيّ (قدس سره) بدايةً تكليف الأمّة الإسلاميّة، بالعمل على محاربة الكيان الصهيونيّ المجرم الغاصب للأرض، حتّى إزالته وتحرير القدس من رجس الاحتلال. وهو حكم دينيّ إسلاميّ شرعيّ مستمَدّ من النصّ (القرآن والسنّة)، والعقل، ويُقرّه الوجدان، ويُجمِع عليه الأحرار من المسلمين وغير المسلمين في العالم. واستمرّ هذا التكليف الشرعي والأخلاقيّ والإنسانيّ بتعيينٍ من الوليّ الفقيه الإمام الخامنئيّ (دام ظله)، وبالتالي تشكّلت حركات المقاومة ومحور المقاومة في العالم الإسلاميّ؛ لإعداد العدّة والقوّة لمواجهة هذه الغدّة السرطانيّة، ومن خلفها مشاريع الاستكبار، وعلى رأسه أميركا الشيطان الأكبر، ولتقديم النموذج الأمثل في تمثيل قيم الحقّ والخير في مسار التمهيد.
فقامت المقاومة في لبنان، ملتزمةً بتكليفها الشرعيّ الإلهيّ والإنساني والوطنيّ، بتحرير جنوب لبنان في العام 2000م من رجز الصهاينة، ثمّ دحرتهم من جنوب لبنان في العام 2006م، وساندت القضيّة الفلسطينيّة والشعب الفلسطينيّ المظلوم بعد «طوفان الأقصى» في معركة إسناد غزّة، وصولًا إلى معركة أولي البأس، والتي كانت مأثرةً تاريخيّةً عظيمة؛ إذ لجم المجاهدون بروحهم الإيمانيّة الاستشهاديّة الكربلائيّة العابقة بعشق الله وتوحيده، وحبّ الحسين والآل الكرام (عليهم السلام)، وبقوّة عزمهم وبأسهم، العدوَّ المتوحِّش عند الحافّة الأماميّة من جنوب لبنان، وأعادوا ذلك الوحش إلى حظيرته.
[1] سورة الحجّ، الآية 78.
14
إسناد غزّة تكليف شرعيّ وواجب أخلاقيّ وإنسانيّ
إسناد غزّة تكليف شرعيّ وواجب أخلاقيّ وإنسانيّ
انطلقت المقاومة في إسناد غزّة ونصرة القضيّة الفلسطينيّة من مبدأ أساس، هو الالتزام بالتكليف الشرعيّ في الدفاع عن المسلمين والمستضعفين، وفي مسار التمهيد لإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، مضافًا إلى واجبها الأخلاقيّ والإنسانيّ الذي تميّز بالصدق والوفاء ونصرة الحقّ والمظلوم طيلة أربعين عامًا، وهو عينه ما أكّده سيّد شهداء الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، في خطابه للشعب الفلسطينيّ: «يا شعب فلسطين، يمكنكم المراهنة والاعتماد علينا»، و «نحن حزب الله، الحزب الإسلاميّ الشيعيّ الإماميّ الاثنا عشريّ، لن نتخلّى عن فلسطين، لن نتخلّى عن القدس، ولن نتخلّى عن شعب فلسطين، ولن نتخلّى عن مقدّسات هذه الأمّة».
على هذا الأساس، أدّت المقاومة تكليفها، وعملت بما يُرضي الله، وهو المعيار الأوّل في خيارها وسلوكها في إسناد غزّة، حين تخلّى العالم بغالبيّته عن الشعب الفلسطينيّ، بل ساند في إبادته بكلّ أدوات الإجرام والتوحّش. لقد قدّمت المقاومة في هذا السبيل مئات الشهداء، والصفوة من قادتها ومجاهديها، وتحمّلت بيئتها في القرى الأماميّة معاناة النزوح وخسارة الأرزاق، ولم تُخلِف وعودها. واحترامًا لمبادئها وقيمها في حفظ بيئتها
ومجتمعها، فقد راعت المقاومة الاعتبارات الفقهيّة والأخلاقيّة والمصلحة الوطنيّة؛ إذ حرصت في عملها العسكريّ على حماية المدنيّين مدّةَ سنةٍ كاملة، وضحّت ببعض القدرات لحساب حمايتهم، ولم توسّع من دائرة الحرب؛ لتجنيب لبنان حربًا كبرى. فوازنت بحكمتها بين الداخل اللبنانيّ ومصالحه الوطنيّة، وبين التكليف الشرعيّ والواجب الأخلاقيّ والإنسانيّ في نصرة غزّة. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ موقف الحياد بعدم النصرة، ليس الموقف الصحيح المنسجم مع مبادئها وقيمها.
18
معركة «أولي البأس» مأثرة تاريخيّة أحبطت أهداف العدوّ الإسرائيليّ في القضاء على المقاومة وحطّمت أطماعه التوسّعية
معركة «أولي البأس» مأثرة تاريخيّة أحبطت أهداف العدوّ الإسرائيليّ في القضاء على المقاومة وحطّمت أطماعه التوسّعية
بَدَأ العدوانُ الإسرائيليُّ على لبنان بتفجيرات البيجر (pager) بتاريخ 17/09/2024م، ثمّ بهجوم جيش العدوّ الإسرائيلي عن طريق البر في الجنوب اللبنانيّ بتاريخ 24/9/2024م، واستمرّ حتّى 26/11/2024م، عندما أُعلن وقف إطلاق النار رسميًّا. وقد مارس العدوّ الإسرائيليّ طيلة 64 يومًا عدوانًا متوحّشًا مجرمًا، بدعمٍ عالميّ أميركيّ غربيّ، لا يخضع لقوانين دوليّة، ولا لأعراف إنسانيّة، متجاوزًا القيم الأخلاقيّة كلّها، فطال بعدوانه الجنوب والبقاع والشمال وبيروت وضاحيتها...، واستهدف الأمين العامّ (رضوان الله عليه) والقادة العسكريين والمجاهدين، وقتل الأبرياء من الناس، ودمّر الحجر، وحرق الشجر وكلّ آثار الحياة، مستعملًا أحدث الأسلحة الأميركيّة وأفتكها. ذلك كلّه، بهدف إنهاء المقاومة، واجتثاث بيئتها من أرضها ووطنها، والعبور بمشروع الشرق الأوسط الإسرائيليّ-الأميركيّ، والتحضير للتطبيع واتّفاقات السلام في المنطقة.
تزلزل وضع حزب اللّه والمقاومة الإسلاميّة مع فقدان سيّد شهداء الأمّة السيّد حسن نصرالله (رضوان الله عليه)، وبعد ستّة أيام السيّد الهاشمي الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه)، مع الضربات العسكريّة القاسيّة والتدميريّة لمناطقنا. استمرّت هذه الزلزلة من 27/9/2024م ولمدّة عشرة أيام. ولكنّ الله تعالى لا يترك عباده المؤمنين الولائيّين المخلصين، فوفّقنا سبحانه وتعالى إلى انتخاب أمين عام جديد هو سماحة العلاّمة المجاهد الشيخ نعيم قاسم (حفظه المولى)، الذي عمل مع قيادة المقاومة لاستعادة القيادة والسيطرة، وتعيين البدائل للقادة الشهداء في المواقع العسكريّة.
وفي أرض الجنوب، وعند الحافّة الأماميّة حدثت مأثرة تاريخيّة وملحمة بطوليّة أسطوريّة، حيث تصدّى المجاهدون بروحهم الكربلائيّة الاستشهاديّة العاشقة للقاء الله ونصرة الحسين (عليه السلام)، وبثبات وشجاعة لا مثيل لهما، لأعتى هجوم بريّ في تاريخنا المعاصر؛ فقد حشد العدوّ الإسرائيليّ خمس فرق، بتعداد 75 ألف جنديّ وضابط تقريبًا، مدجّجين بمئات الآلات العسكريّة برًّا وجوًّا وبحرًا، وأحدث الأسلحة والتقنيّات، واستطلاع معلوماتيّ خارق. ومع ذلك، لم يتمكّن من التقدّم إلّا مئات الأمتار في القرى الأماميّة، وتحطّمت أمانيّهم في الوصول إلى نهر الليطانيّ، وإنشاء منطقة عازلة. وضربت المقاومة الإسلاميّة بالصواريخ والطائرات المسيّرة عمق الكيان الإسرائيلي وصولاً إلى تل أبيب وحيفا، وأنزلت «خسائر كبيرة في صفوف جيش العدو الإسرائيليّ الغاصب، وخسائر في كلّ الكيان الإسرائيليّ المحتل، مع تداعيات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة وعمليّة ونفسيّة، وهذا كلّه كان يبرز في الميدان»، وعلى أيدي المجاهدين، مع توالي إطلاق الصواريخ والمسيّرات. كلّ ذلك في ظلّ التفاف شعبيّ قلّ نظيره لبيئة المقاومة حولها مع تضحيات الشهداء والجرحى والنزوج.
22
تفسير ما جرى على المقاومة وبيئتها جرّاء العدوان الإسرائيليّ المتوحِّش من منطلق إيمانيّ ثقافيّ
تفسير ما جرى على المقاومة وبيئتها جرّاء العدوان الإسرائيليّ المتوحِّش من منطلق إيمانيّ ثقافيّ
نظرًا لقساوة ما وقع على المقاومة من عدوان إسرائيليّ متوحِّش، وهوله وعِظمه، لا بدّ من قراءة ذلك في ضوء المبادئ والمنطلقات الإيمانيّة والثقافيّة، والإجابة عن الكثير من التساؤلات التي يمكن أن تُطرح في المقام. وهو ما يتطلّب المعالجة بلحاظ الحيثيّة الإيمانيّة والفكريّة والثقافيّة، والحيثيّة العسكريّة والأمنيّة والسياسيّة، وذلك من خلال الآتي:
1. الحضور الإلهيّ: قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُم وَاللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِير﴾[1]، وكما يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «العالم كلّه محضر الله تعالى، وكلّ ما يقع إنّما يقع في محضره»، فكلّ ما يجري في العالم هو في عين تدبيره وإرادته، وهو مقتضى التوحيد الأفعاليّ.
وما هذا الحدث الاجتماعيّ التاريخيّ الكبير بجميع حيثيّاته إلّا آية من آيات الله الكبرى، الدالّة على حضوره وفاعليّة أسمائه الحسنى في الوجود، وسبيلٌ إلى معرفته وعبادته. ولكنّ التدخّل الإلهيّ في حياة البشر لا يكون خارجًا عن السنن التي جعلها الله تعالى حاكمةً في نظام الوجود المبنيّ على أحسن ما يكون، وقد أشار القرآن الكريم إلى سنن التدخّل الإلهيّ في حياة البشر؛ فسنّة الغلبة المادّيّة مثلًا، تكون عبر سلسلة من الأسباب والمسبّبات (العلل والمعلولات)، وتحقّق نتائجها مرتبط بأعمال البشر بالدرجة الأولى. وهذه الأعمال على قسمين: قسم يتعلّق بالأعمال والسلوكات الإيمانيّة والمعنويّة والأخلاقيّة، وقسم آخر يتعلّق بالإدارة والتدبير والإعداد والشروط المادّيّة. وبالتالي، فإنّ أيّ خلل أو تقصير في عملٍ أو تدبيرٍ أو شرط مادّيّ أو معنويّ، قد يؤدّي إلى تبدّل في النتيجة. فما جرى من نتائج سلبيّة مصحوبة بتضحيات كبرى ناشئ من خلل أو تقصير في أحد القسمين أو كليهما.
2. سنّة النصر الإلهيّ: قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم﴾[2]. من المحتوم أنّ النصر على المستوى البعيد والاستراتيجيّ سيتحقّق، فالصراع بين المقاومة والعدوّ الإسرائيليّ هو صراع بين الحقّ والباطل، صراع بين المُصلِح والمُفسِد، صراع بين المؤمنين والكافرين الذين يصدّون عن سبيل الله، وهذا حتمًا نتيجته انتصار الحقّ، قال الله تعالى: ﴿وَقُل جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقا﴾[3]، لكن لا يمكن القول إنّ كلّ معركة ستسفر عن نصر المؤمنين؛ فالأمر يخضع أيضًا لتداخل مجموعة من السنن الإلهيّة الأخرى، كسنّة التداول وغيرها... وما كرّسه خطاب سيّد شهداء الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) لا يخرج عمّا تحدّده هذه السنن وترسمه؛ إذ استند (رضوان الله عليه) من جهة إلى القدرات والإمكانات العسكريّة التي راكمتها وطوّرتها المقاومة آنذاك، وإلى تجارب المقاومة السابقة في تحقيق النصر، وإلى صدق المجاهدين وشجاعتهم وبأسهم، وصمود مجتمع المقاومة ووفائه وثباته وولائه، وأوّلًا وأخيرًا إلى اعتماده وتوكّله على الله، ووعده بنصرة المؤمنين.
ومن جهة أخرى، فإنّ خطابَ سيّد شهداء الأمّة (رضوان الله عليه) خطابٌ ردعيّ وبنائيّ؛ ردعيّ ردع به العدوّ خلال 17 سنة من الاعتداء على لبنان، وبنائيّ استطاع من خلاله أن ينقل المجتمع ويحوّله من حالة الضعف إلى حالة القوّة، وأن يبني مجتمعًا قويًّا مقتدرًا واثقًا من نفسه، يعتقد بالنصر ويثق به، غارسًا فيه عقليّة المنتصر وروحيّته، لا المهزوم أمام العدوّ، وهو ما ظهر في هذه المعركة، برغم كلّ الخسارات الماديّة الجسيمة التي مُنيت بها المقاومة، ومدّها بالقوّة والثبات والصمود والفاعليّة حتّى اللحظة الأخيرة.
كما أنّ النصر قد يكون من جهات معيّنة وليس كاملاً؛ أي ثمّة مساحة معيّنة ينزل فيها النصر الإلهيّ، كما حصل في المواجهات البطوليّة الميدانيّة، حيث ثبّت الله أقدام المؤمنين ونصرهم، وثمّة مساحة أخرى لم ينزل فيها النصر نتيجة تفوّق العدوّ بجمع المعلومات وسلاح الجوّ والاختراق الأمنيّ.
كما ينبغي الإطلالة على معارك الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لأخذ العِبر، فهل حقّق الرسول (صلى الله عليه وآله) في جميع المعارك التي خاضها المسلمون انتصارات عسكريّة؟ هل خلت جميعها من الإخفاقات والتضحيات الجسام والشدّة؟ لقد جُرِح الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في معركة أُحُد، وكاد أن يُقتل المسلمون ويُهزَموا بعد تقصيرهم في جنبة من العمل العسكريّ الميدانيّ، وعدم التزامهم بأوامر الرسول (صلى الله عليه وآله) القائد، واستشهد الحمزة عمّ الرسول (صلى الله عليه وآله). وفي حنين، إذ أعجبتهم كثرتهم، أصيبوا بالجراح، وجُرح الإمام عليّ (عليه السلام)، وفي معركة مؤتة استشهد القادة...، وهذه التضحيات كلّها بُذلت في ظلّ قضيّة استراتيجيّة كبرى ترتبط ببقاء الإسلام وحفظه، وهو الانتصار الحقيقيّ. وكذلك نقرأ شهادة الإمام عليّ (عليه السلام) والإمام الحسن (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام)، كتضحيات كبرى في سبيل قضيّة كبرى، قضيّة محاربة تأويل الدين وتحريفه، لتنتصر أصالة الدين وتستمرّ عبر الزمن بقيادة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) تمهيداً لصاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء).
وفي واقعنا الحاليّ يُستكمَل المشهد، فنقرأ هذه التضحيات كلّها، من شهادة الأمين العامّ (رضوان الله عليه)والقادة الكبار والشهداء الأبرار والنزوح والدمار... كتكليف نقوم به بقيادة ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي}؛ لنصنع مدماكاً يربطنا بالقضيّة الكبرى والمحوريّة، وهي التمهيد لإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، وإقامة حكومته العادلة العالميّة، وهي المشروع الإلهي الموعود لسعادة البشريّة. وبالتالي، نرى مشهد التضحيات والشهادة، مشهد نصر حقيقيّ؛ لأنّه نصر لله، وإحياء لقضيّة الله ومشروعه، وحفظ لدينه، حتى يتحقّق النصر الكامل، وهو ما أشار إليه سماحة الأمين العامّ الشيخ نعيم قاسم (حفظه الله) في حديثه عن جوهر النصر الحقيقيّ، بـقوله: «إنّ المقاومة لا يمكن أن تكون أقوى عسكريًّا، ولا يمكن أن نعتمد بأنّ غلبتها هي غلبة عسكريّة، أبدًا، المقاومة غلبتها على إسرائيل بإيمانها، بشبابها، بنسائها، بأطفالها، بشيوخها، بعطاءاتها، بدماء قادتها، بالتضحيات التي تُقدَّم، هكذا تنتصر المقاومة، هنا يأتي الموضوع العسكريّ كجزء من الأدوات المساعِدة في عمليّة الانتصار. المقاومة قويّة بقراراتها، بإرادتها، وبالمؤمنين بها، هي أقوى بصمودها وتحمّل التضحيات الكبرى، هي أقوى باستمراريّتها، لقد حصدنا في هذه المعركة الحُسنيَين: الشهادة والنصر؛ استشهد لنا قادة وأعزّاء ومجاهدون ونساء وأطفال ورجال، وفي آنٍ معًا، الباقي انتصر؛ لأنّه بقي في الميدان، ولأنّ المقاومة مستمرّة، هذا النصر هو بصمودنا واستمرارنا، سجّلوا لديكم: هذا نصر».
ويقول في مكان آخر: «شعبنا يُدرك تمامًا أنّه انتصر بعناوين، وخسر وضحّى بعناوين أخرى، نحن لم نتحدّث عن نصر مُطلق، نحن تحدّثنا عن نصر مُرتبط بالصمود، ومُرتبط بالاستمراريّة، وبكسر الاجتياح الإسرائيليّ، وبعدم إنهاء المقاومة، هذه العناوين هي أهداف استطعنا أن نُحقّقها، وهذا مُهمّ جدًّا وانتصار. في المقابل، هناك خسائر وتضحيات... هذه خسائر حقيقيّة موجودة على الأرض وفي الميدان، لكنّها المعركة، فيها أرباح وفيها خسائر».
3. ابتلاء ورفعة، وليس استبدالًا وخذلانًا: لقد انطوت هذه الحرب على الكثير من المشاقّ والشدّة والابتلاءات العظيمة. وكأيّ حرب كبرى، سينتج عنها فقدان للنفوس، ودمار للبيوت، وفناء للأرزاق، خاصّةً عندما يكون العدوّ متوحِّشًا ومجرمًا، ولا حدّ لإجرامه، كالعدوّ الصهيونيّ الأميركيّ.
لكن، إذا نظرنا إلى هذا الأمر من الرؤية القرآنيّة الإسلاميّة، ومشروع الخلافة الإلهيّة في الأرض، وتكامل المجتمعات، نَعِي بدايةً، ومن منطلق خلافة الإنسان في الأرض ﴿وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِل فِي الأَرضِ خَلِيفَة قَالُواْ أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعلَمُ مَا لَا تَعلَمُونَ﴾[4]، وبحكم كون الإنسان موجودًا مختارًا مسؤولًا حاملًا للأمانة الإلهيّة، أنّ عليه محاربة هذا العدوّ ومقاومته، لكفّ إجرامه والحدّ من شرّه قال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾[5]، وبالتالي على المؤمنين تحمّل ما يقع عليه من صعاب ومشقّة وبلاء جرّاء هذه المواجهة، ثمّ العمل على بناء ما أفسدته آلة العدوّ الاجراميّة، وما أحدثته من شرور ونقائص وخسائر يمكن تعويضها، وترميمه وإعماره، والسير قدمًا للأمام، برغم المشقّة والألم، في مسار التمهيد وتكامل الفرد والمجتمع.
وإذا نظرنا في سِيَر الأنبياء والأولياء والأتباع، نجدهم أشدّ الناس بلاءً، جرّاء مواجهتهم لمشاريع الكفر والاستكبار والظلم؛ فطريق الحقّ ونصرة الله طريق محفوف بالبلاء، كما نقرأ في سيرة الأنبياء (عليهم السلام) والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) وأصحابهم ومواليهم، وما جرى عليهم من ظلم، وبذلوا من تضحيات جسام في الاموال والأنفس، يقول الله تعالى: ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيء مِّنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقص مِّنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾[6]، فثمّة اختبار دائم وامتحان للبشر بحوادث يكتنفها الخوف والفقر وخسران الأنفس والأرزاق والديار، لكن في الختام البشارة بالخير لمن يصبر ويثبت.
وإنّ المجتمع المقاوم في لبنان، بمقاومته وبيئته، ومن موقع التكليف الإلهيّ، وحمل الأمانة والخلافة الإلهيّة، واجه بصدق وإيمان وبسالة وعزم وثبات، العدوّ الصهيونيّ، عدوّ الله، عدوّ الإنسانيّة، المتسلّح بأحدث التقنيّات العسكريّة والأمنيّة، وتلقّى ضربات قاسية ومؤلِمة، وهي بثقافتنا القرآنيّة ابتلاء أو اختبار، إلّا أنّه في عبور هذا الاختبار والامتحان الصعب، خرج عزيزًا مقتدرًا، قدوةً وحجّةً على العالمين في عصره، إذ منحته الشدائد نضجًا وتكاملًا وقربًا من الله، وأخرجت كلّ ما لديه من قِيم إيمانيّة وأخلاقيّة ووطنيّة. فهذه الابتلاءات كلّها تؤهّل المقاومة وبيئتها للمزيد من القدرات والإمكانات وتربية النفوس على زيادة العزم وقوّة الإرادة، كما حصل معها في تجاربها السابقة.
وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: ﴿إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ 140 وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمۡحَقَ ٱلۡكَٰفِرِينَ 141 أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾[7]؛ إذ يتبيّن لنا في قضيّة تداول النصر في القرآن بين المؤمنين والكفّار عدّة أمور، منها:
ليعلم الله الذين آمنوا في الشدائد وفي المعارك القاسية التي لا يكون النصر فيها جليًّا (بخلاف حالة النصر الجليّة). ولتصل مجموعة من الناس إلى رتبة الشهداء، ويشهدون على الأمم. ولكي يتمّ القضاء (المَحْق) التامّ لاحقًا على الكافرين. وليعلم الله المجاهدين والصابرين، بصرف النظر عن النتائج.
هذه أمور لا بدّ من أخذها في الحسبان عند قراءة ما حصل.
كما تُعَدّ هذه الابتلاءات تذكيرًا من الله للإنسان والمجتمع؛ كي لا يغفل ولا ينسى ولا يقصّر عن مشروعه وأهدافه الإلهيّة الكبرى، فلا يرتمي في أحضان الفساد والتكاسل والركون إلى ملذّات الدنيا، فإنّ «الصعوبات والشدائد مربّية للفرد ومُوقِظة للأمم، فهي تعيد الوعي للنائمين، وتحرّك العزائم والإرادات».
ومن ناحية ثالثة، إذا تعاملنا مع هذه الابتلاءات بعين الرضا والحمد والصبر والاستقامة وعدم الجزع والتخلّف، فإنّها ستُظهِر ما في باطنها من لطف ورحمة ونعمة وجمال، وستقودنا إلى الفلاح الحقيقيّ والسعادة الحقيقيّة بجوار الله عند مليك مقتدر. وهو ما ظهر جليًّا في تصريحات الجرحى وعوائل الشهداء وأبناء مجتمع المقاومة، من عشقهم لإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه) ولسيّد المقاومة، ووفائهم لخطّ المقاومة والشهداء.
ومن هنا يظهر الخطأ في تفسير هذه الابتلاءات بخذلان الله أو الاستبدال، ما دامت المقاومة وبيئتها قد اعتمدا مبدأ العمل بالتكليف الإلهيّ الشرعيّ والأخلاقيّ الإنسانيّ، وعمِلا بمقتضى الأمانة والخلافة الإلهيّة، ولم يفقدا لياقة النصر ومؤهّلاته، من التوجّه نحو الله، وتولّي أولياء الله، وطاعة وليّ الأمر، والنصرة، والثبات، والإيثار، والتضحية، وروحيّة الجهاد والشهادة، والوحدة في محاربة أعداء الله من إسرائيل وأميركا، والتبرّؤ منهم، قال الله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِنۢ بَعۡدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلۡقَرۡحُۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ مِنۡهُمۡ وَٱتَّقَوۡاْ أَجۡرٌ عَظِيمٌ 172 ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنا وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ 173﴾[8].
أمّا سنّة الاستبدال، فمن أبرز أسبابها ترك الجهاد، قال تعالى: ﴿إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبكُم عَذَابًا أَلِيما وَيَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم وَلَا تَضُرُّوهُ شيئا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ﴾[9]، فإنّ شرط الاستبدال في الآية عدم «النفير» بمعنى «الجهاد في سبيل الله»؛ أي إن لم تجاهدوا في سبيل الله، يستبدلكم الله تعالى، ولكنّ المقاومة الإسلاميّة-بحمد الله- رفعت راية الجهاد عاليًا، قولًا وعملًا، فلا محلّ لاستبدالها.
[1] سورة الحديد، الآية 4 .
[2] سورة محمّد، الآية 7 .
[3] سورة الإسراء، الآية 81 .
[4] سورة البقرة، الآية 30 .
[5] سورة التوبة الآية،14 .
[6] سورة البقرة، الآية 155 .
[7] سورة آل عمران، الآية 140 .
[8] سورة آل عمران، الآية 172 .
[9] سورة التوبة، الآية 39 .
26
الخصال الإيمانيّة والمعنويّة للمجاهدين
الخصال الإيمانيّة والمعنويّة للمجاهدين
استنادًا إلى الروايات التي تحدّثت عن صفات أنصار الإمام المهديّ (عليه السلام)، نجد أنّهم، مخلصون، عابدون، عاشقون، مشفقون من خشية الله، ثابتون، متولّون أولياءه، ومتبرِّئون من أعدائه، أقوياء، أشدّاء، مجهّزون، غاضبون، موحِّدون، منظَّمون، مطيعون، مبتَلَون، فدائيّون، مؤثِرون، داعون بالشهادة، شعارهم «يا لثارات الحسين». وفي الختام، تشير الأحاديث إلى أنّ الله بهم ينصر إمام الحقّ.
ولقد سطعت هذه الجوانب الإيمانيّة والمعنوية والعقائديّة والثقافيّة كلّها، وتجلّت في مجاهدي المقاومة الإسلاميّة، كخلاصة لتربية ممتدّة عبر سنوات في مدرسة الإسلام والتشيّع وكربلاء. فمنذ انطلاق الثورة الإسلاميّة في إيران، وبزوغ نور هداية الإمام الخمينيّ (قدس سره)، وفتح باب الجهاد، امتدادًا للثورة الحسينيّة، وتمهيدًا لظهور الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه)، نشأت المقاومة، وكبرت واشتدّت كشجرة طيّبة، رعاها الإمام الخامنئيّ (دام ظله) بتوجيهاته، وربّاها سيّد شهداء الأمّة (رضوان الله عليه) وقادها بكلّ جوانبها ومفاصلها، وانتقل بها مراحل وأطوار من التقدّم والسموّ والعزّة والنصر.
ولقد رسم سيّد شهداء الأمّة (رضوان الله عليه) في ردّه على رسالةٍ وصلته من المقاومين، في حرب تمّوز 2006م، مكانة هؤلاء المقاومين وخصالهم، بقوله:
«أنتم الوعد الصادق، وأنتم النصر الآتي بإذن الله، أنتم الحرّيّة للأسرى والتحرير للأرض، والحمى للوطن وللعرض والشرف... أنتم أصالة تاريخ هذه الأمّة، وأنتم خلاصة روحها، أنتم حضارتها وثقافتها وقيمها وعشقها وعرفانها، أنتم عنوان رجولتها، أنتم خلود الأرز في قممنا، وتواضع سنابل القمح في ديارنا، أنتم الشموخ كجبال لبنان الشامخة، العاتية على العاتي، والعالية على المستعلي، أنتم بعد الله تعالى الأمل والرهان، كنتم وما زلتم وستبقَون الأمل والرهان.
أقبّل رؤوسكم التي أعلَت كلّ رأس، وأقبّل أياديكم القابضة على الزناد، يرمي بها الله تعالى قتلة أنبيائه وعباده والمفسدين في الأرض، وأقبّل أقدامكم المنغرسة في الأرض، فلا ترتجف ولا تزول من مقامها، ولو زالت الجبال... يا مَن أعرتم الله جماجمكم، ونظرتم إلى أقصى القوم... أنتم القادة، وأنتم السادة، وأنتم تاج الرؤوس، ومفخرة الأمّة، ورجال الله الذين بهم ننتصر».
40
قوّة المجتمع المقاوم وثباته
قوّة المجتمع المقاوم وثباته
تتجسّد عناصر ثبات مجتمع المقاومة وقوّته بصموده وصبره في معركة أولي البأس، وشجاعته وإقدامه بعد انقضاء مهلة الستّين يومًا من وقف إطلاق النار، لتحرير قراه الأماميّة باللحم الحيّ والصرخة العاتية، وصبره وعنفوانه عند استعادة جثامين أبنائه التي ذابت كالشموع العاشقة في أحضان تراب أرض عاملة لتنير دروب الحرّيّة والعزّ.
ولقد كان مجتمع المقاومة يعيش لمدّة طويلة حالة الهدوء والاستقرار في الجنوب والبقاع والضاحية، في ظلّ اعتماده على مقاومة قويّة، أرست الكثير من قواعد الردع، ولم يكن في حسابه وتصوّره أن يتعرّض لحرب قاسية ومدمّرة، بما حملت من مفاجآت أوقعت به كلّ هذه الخسائر. ففي المعادلات المادّيّة للبشر، كان من المفترض أن ينهار هذا المجتمع بعد أن فقد قائده ومصدر أمانه وعزّته ومرجعيّته المعرفيّة والجهاديّة، وفقد معه الكثير من القادة، وأن ينقلب على المقاومة أو يتركها، بعد أن شاهد الخسائر الجسيمة التي لحقت به في الأرواح والأرزاق، وخاصّة جرّاء ما مورس عليه من حرب سياسيّة داخليّة وإعلاميّة، تريد إقصاءه ونبذه وإلباسه لبوس المنهزم الذليل الخاضع للهيمنة الأميركيّة. لكن ما برز من غالبيّة هذا المجتمع،
من مواقف العزّ والإباء والثبات والصمود وسلوكات الصبر والوفاء والعشق والولاء ومعنويّات عالية من الثقة بوعد الله ونصره، أبهر العالم بأسره؛ إذ واجه أهداف العدوّ المتسلِّح بكلّ قدرات العالم المستكبِر، وخرج مرفوع الرأس. فبيئة المقاومة، كانت ولا تزال، كما خاطبها سيّد شهداء الأمّة، أشرف الناس، وأطهر الناس، وحجّة الله، ولائقة بحمل الأمانة الإلهيّة، وبتحقّق النصر الموعود على يديها.
وعليه، إنّ مصداقيّة هذه المعركة وُقِّعت بأقدس الدماء، ولطفٌ إلهيّ وفخرٌ أن يستشهد السيّد حسن (رضوان الله عليه) في هذه المعركة، رحيمٌ اختار له هذه الخاتمة، فشهادته في سبيل فلسطين حجّة على العالم من السنّة والشيعة والأحرار في العالم، في معركة ذات طابع إنسانيّ بامتياز، في معركة شاهد العالم بشاعة الطاغوت الأميركي والإجرام الإسرائيلي فيها، وقتل النساء والأطفال...، لقد مات في قلب الحرب قائداً وموجّهاً للمجاهدين المقاتلين في سبيل الحق.
44
الوحدة الشيعيّة
الوحدة الشيعيّة
إنّ من أهم نقاط القوّة في مجتمع المقاومة هي الوحدة الشيعيّة بين أبنائه في حزب الله وحركة أمل. وعليه، فإنّ المقاومة معنيّة بلزوم الحفاظ على جميع المؤمنين في لبنان، ورعاية شؤونهم ومصالحهم. من هنا تبرز الحاجة إلى الحفاظ على وحدة الصفّ الشيعيّ في لبنان، وتصفير المشكلات، وتقديم التنازلات الممكنة في سبيل تحقيق تلك الوحدة، علاوة على ما تنتجه الوحدة الشيعيّة من فوائد سياسيّة وشعبيّة كبيرة، وبالأخصّ ما ينفع في ثبات مجتمع المقاومة وقوّته، وهو ما ظهر عمليًّا في حرب أولي البأس، حيث كان شباب حركة أمل وبيئتها شركاء حقيقيّين في مواجهة العدوّ وإفشال أهدافه.
48
الوحدة الاسلاميّة والوطنيّة
الوحدة الاسلاميّة والوطنيّة
إنّ المقاومة معنيّة أيضًا بلزوم تحقيق الوحدة بين المسلمين، ونبذ التفرقة والخلاف بين السنّيّ وبين الشيعيّ، وهذه الوحدة مستمدّة من الشارع المقدّس، إذ يقول الله تعالى: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآء فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنا﴾[1]، فالوحدة الاسلاميّة عنوان للقوّة، وتحصين للمجتمع الإسلاميّ في مقابل النفوذ الغربيّ الذي يهدف إلى إيقاع الحروب المذهبيّة، بناءً لمبدأ «فرِّق تَسُد». وبما يخصّ لبنان، فإنّ الوحدة الإسلاميّة مطلوبة جدًّا لتحقيق السلم الأهليّ الداخليّ، وتحضير بيئة مؤاتية للعمل المقاوم، وقد أثبتت معركة الإسناد وما تلاها من معركة أولي البأس أهمّيّة وحدة الصفّ السنّيّ الشيعيّ، حيث قدّر سنّة لبنان للمقاومة وقوفها إلى جانب أهل السنّة المستضعفين في فلسطين، واستضافوا النازحين من بيئة المقاومة بأحسن ما يمكن، ما شكّل عامل اطمئنان لدى المجاهدين في الجبهة الأماميّة وقيادتهم. ولا بدّ من لفت النظر إلى أهمّيّة الوحدة الإسلاميّة في مشروع التمهيد لمولانا صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، كونهم يعتقدون بدولته، وإن اختلفنا في بعض القضايا المتعلّقة، كولادته وطول عمره(عجل الله تعالى فرجه).
وبما يرتبط بالنطاق الأوسع، فإنّ الوطن هو البقعة الجغرافيّة التي تجمعنا بالآخرين، على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم وأديانهم، نتشارك ثرواته وخيراته معهم، وتحكم علاقاتنا قواعد التأثير والتأثّر، ولا يقف اختلاف الدين أو المذهب عائقًا أمام تلك الوحدة الوطنيّة المتمثِّلة بالعدالة والبرّ، وقد قال تعالى: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ 8﴾[2]. كما تساهم الوحدة الوطنيّة والالتفاف حول خيار المقاومة في تثبيت دعائم العمل المقاوم وحمايته من المؤامرات الخارجيّة، وهو ما يحتاج في لبنان إلى بذل جهود أكبر لتخليص الداخل من النفوذ الأميركيّ الذي يعمل عكس هذا الهدف، ويسعى لبثّ الشقاق وتسخير الطوائف والمذاهب لمحاصرة المقاومة، وإظهارها كحركة مذهبيّة شيعيّة مارقة، تتبع لدولة أجنبيّة، ولا ولاء لها للوطن. ولولا ما بناه حزب الله على الصعيد الوطني لما احتضن اللبنانيون بطوائفهم ومذاهبهم النازحين في كلّ لبنان، هذه ثروة يجب المحافظة عليها.
[1] سورة آل عمران، الآية 103.
[2] سورة الممتحنة، الآية 8.
50
حماية الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة والطاعة للوليّ الفقيه واجب عقائديّ
حماية الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة والطاعة للوليّ الفقيه واجب عقائديّ
تؤمن المقاومة الإسلاميّة في لبنان بمبدأ الولاية المطلقة للفقيه العادل والزاهد والشجاع والحكيم، وهذا الإيمان هو اعتقاد يستمدّ مشروعيّته من النصوص الدينيّة وسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، فليست القضيّة مرتبطة بظروف سياسيّة أو مرحليّة معيّنة، بل هي أرقى من ذلك بكثير، وصولًا إلى اعتبار ولاية الفقيه امتدادًا شرعيًّا لولاية المعصومين (عليهم السلام) في ما يخصّ الصلاحيّات المرتبطة بإدارة شؤون الأمّة والمجتمع، وبذلك يُعَدّ الوليّ الفقيه النائب العامّ للمعصوم (عليه السلام). وتعني هذه الولاية للفقيه، أوّلًا وقبل كلّ شيء، لزوم الطاعة له، وعدم الخروج عن أوامره وتعليماته، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه، فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله»[1].
وتدخل ضمن صلاحيّات الوليّ تشخيصه للأولويّات وتقديره للموقف، من حربٍ أو سلمٍ أو غير ذلك، فإذا شخّص للأمّة وظيفتها لزمت طاعته، وإذا قرّر لفئة محدّدة مهمّة الجهاد مثلًا لزمها تنفيذها،
بصرف النظر عن ماهيّة وظائف باقي الفئات، التي قد تكون مجرّد مساندة سياسيّة أو ماليّة أو غيرها، من دون المشاركة عمليًّا في الحرب. ففي معركة أولي البأس، كانت توجيهاته للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ومسؤوليها بلزوم المساندة للمقاومة في لبنان بكلّ ما تحتاجه، من دون الانخراط في العمل العسكريّ، نظرًا لعدم وجود مصلحة أو فائدة في ذلك.
وكانت مشاركة الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة في الحرب ستستدرج تدخّل أميركا والغرب لمصلحة الكيان الإسرائيلي، وقد تصاب بخسائر كبيرة، ولا تمنع نتائج الحرب والعدوان عنّا، وإنّ بقاءها قويّةً يشكّل سنداً ودعماً دائماً للمقاومة.
نظرًا لما تمثّله الجمهوريّة الإسلاميّة اليوم من ظهير وحيد لمحور المقاومة في العالم، وهي الدولة الوحيدة التي تحمل لواء التمهيد لصاحب الزمان (أرواحنا فداه).
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص67 .
54
انكشاف الطبيعة المتوحّشة للغرب والصهاينة
انكشاف الطبيعة المتوحّشة للغرب والصهاينة
لقد كشفت معركة أولي البأس حقيقة أنّ كل ما وصل إليه الغرب عمومًا وأميركا خصوصًا من تطوّر تقني واجتماعيّ واقتصاديّ ونحوه اليوم، يقوم على إرث حضارةٍ دمويّة مُفرِطة، وعنصريّة مقيتة، فَتَكَت بكلّ أشكال الحياة الإنسانيّة على مرّ التاريخ، ويهدف إلى ترسيخ الاستعمار العابر للحضارات والشعوب والدول بكلّ مواردها، البشريّة وغيرها.
ولم يختلف الفكر الغربيّ المعاصر عن تاريخه الدمويّ، مع تبديلٍ في بعض المصطلحات، إذ يستكمل الغربيّون حركتهم الاستعماريّة على العالم، وإن اختلفت الأساليب والتقنيّات، فلا تختلف الهيمنة والاستعمار السياسيّ والاقتصاديّ والمعرفيّ والتقنيّ عن آلة الحرب والعدوان العسكريّ في نتائجها وأهدافها، فكلاهما يُظهِر الوجه الحقيقيّ للغرب الهمجيّ في تعامله مع الآخر، حربًا أو سلمًا. وهذا يرتبط بثوابت الغرب قديمًا وحديثًا، وذات صِلة بالنزعة الاستعلائيّة في الفكر الغربيّ، كما أسقطت المقاومة في معركة أولي البأس أكبر الادّعاءات الغربيّة في هذا العصر، والمتمثّلة بدعاوى الحرّيّة وحقوق الإنسان، وقوانين الحرب والسلم، واحترام المعاهدات الدوليّة، فقد انقلب الغربيّون على كلّ المنظومة الحقوقيّة والقيميّة والإنسانية في العالم بوقوفهم إلى جانب الإجرام الصهيونيّ، ودعمه بالسلاح والتقنيّات المتطوّرة في حربه في غزّة ولبنان، وقتل آلاف الأبرياء من المدنيّين. فلم يعد الغرب نموذجاً يمكن ترويجه في منطقتنا، وهذه الصورة يجب الاستفادة منها لتحصين أجيالنا من شرك الانبهار بالماديّة المجرمة الظالمة، وللعودة إلى الله تعالى.
والحمد لله ربّ العالمين