المقدمة
المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّد بن عبد الله وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
شهر رمضان، اسم يقترن بكلّ معاني الرحمة، ويعبق بكلّ نفحات الخير والبركة، ويبشّر بأجمل كلمة وهي الرضوان.
شهر يُنسب لله، ويُدعى فيه الإنسان ليكون ضيفاً على أكرم المضيفين، ربّ العالمين.
شهر رمضان، شهر يُستقبلُ بدموع الفرح، ويودّع بدموع الحزن والفراق. تتزيّن السماء الدنيا بمصابيح، استبشاراً به، فما أحلاه من شهر، وما أكرمه حتّى على من لا يعرف قيمته، ولا يدرك مغزاه وجزيل ثوابه، وما أسرعه من وقت على المهتمّين به، والمتشوّقين لأنس لياليه وأيّامه.
وخير وصفٍ لهذا الشهر ما تواتر نصّه عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته عند استقبال هذا الشهر بأهل بيته عليهم السلام وأصحابه: "أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهرٌ دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيحٌ،
5
1
المقدمة
ونومكم فيه عبادةٌ، وعملكم فيه مقبولٌ، ودعاؤكم فيه مستجابٌ، فسلوا الله ربّكم بنيّاتٍ صادقةٍ وقلوبٍ طاهرةٍ أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقيّ مَن حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم".
وإذا كان الدعاء في هذا الشهر مستجاباً، وهو كلام العبد مع خالقه، فإنّ له آداباً وشروطاً ظاهريّة وباطنيّة، قد لا يستطيع الإنسان أن يستحضرها بكلّها، لذلك نستعين بما قاله الأئمّة عليهم السلام من أدعية، فنحذو حذوهم، وندعو دعاءهم، اقتداءً منّا بهم، ولكن يبقى علينا أن نعي ما يقولون، حتى لا تكون أدعيتنا مجرّد لقلقة لسان، فالله لا ينظر إلى ظاهرنا فقط، وإنّما ينظر إلى القلوب وما حوت، والصدور وما وعت.
من هنا ارتأت جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، أن تختار لهذا الشهر الكريم، مجموعة من الأدعية، تنسب للأئمّة عليهم السلام وهي المعروفة بأدعية أيّام شهر رمضان، لتقوم بشرح بعض فقراتها، فاختارت من كلّ دعاءٍ فكرتين أو ثلاثة، لتسلّط الضوء عليها، كي يكون القارئ للدعاء محيطاً بأهمّ فقراته، واعياً لما يدعوه، فيتوجّه إلى الله بدعائه عن إدراك ومعرفة، مدرجة لأهمّ الروايات التي تتعلّق بمضمون الفقرة، ومعتمدةً على أسلوب الاعتدال، فلا اختصار مقلّ، ولا إسهاب مخلّ، عسى أن ينفع القرّاء الأعزّاء في هذا الشهر الكريم، وأن يتقبّله منّا بأحسن القبول، ويكون ذخراً لنا يوم نلقاه، والحمد لله ربّ العالمين.
جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
6
2
دعاء اليوم الأول
دعاء اليوم الأول
" اللهم اجعل صيامي فيه صيام الصائمين، وقيامي فيه قيام القائمين، ونبهني فيه عن نومة الغافلين، وهب لي جرمي فيه يا إله العالمين، واعف عني يا عافياً عن المجرمين".
يحمل هذا الدعاء مفاهيم تربوية متعددة، يخاطب الإنسان فيها ربّه، مستحضراً فيها هذه المفاهيم ليجعلها وسيلة تقرّبه إلى الله عزَّ وجلَّ، وتكون سببا في رفعة درجته ومكانته ودرجة قربه عند الله. وهي صيام الصائمين، وقيام القائمين، واجتناب نومة الغافلين.
1- صيام الصائمين
ما أصعب أن يؤدّي المرء واجباً من الواجبات، ولكنّه لا يؤدّيه على وجهه، فلا يناله من ذلك إلّا التعب والشقاء، فمن الصيام ما لا يتجاوز فيه الإنسان حرمان نفسه من الطعام والشراب، فهو يمسك
7
3
دعاء اليوم الأول
عن المفطرات التي تبطل الصوم، ولكنّه لا يرتقي في صومه هذا إلى أن يكون من الصائمين، فهو يصوم ولكنّه لا يعدّ من الصائمين، وليس هذا ما شرع الله عزَّ وجلَّ لأجله فريضة الصوم. بل الصوم المطلوب هو الصوم الذي يصدق فيه على من يؤدّي هذه الفريضة عنوان الصائم، فأيّ صوم يوجب ذلك؟
لا شكْ في أنّ الصوم الذي يصل فيه الإنسان ليدخل في عداد الصائمين هو الذي تراعى فيه كافّة آداب الصيام، وأهمّ هذه الآداب هو اجتناب المحرّمات كافّة، والابتعاد عن الذنوب، لا سيما تلك الذنوب الأخلاقية. فلا يخرج في صومه عن الرضا إلى الغضب، وعن الحقّ إلى الباطل. فيكون بذلك مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ربّ صائمٍ حظّه من صيامِه الجوعُ والعطش"1.
وأمّا الصفات التي يتحلّى بها من يصدق عليه أنّه من الصائمين فهو ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أصبحت صائماً فليصُمْ سمعُكَ وبصرُكَ من الحرام، وجارحتك وجميع أعضائك من القبيح، ودع عنك الهذي وأذى الخادم، وليكن عليك وقارُ الصيام، والزمْ ما استطعت من الصمت والسكوت إلّا عن ذكر الله، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك، وإيّاك والمباشرة، والقُبَلَ والقهقهةَ بالضحك، فإنّ الله مَقَتَ ذلك"2.
1- فضائل الأشهر الثلاثة -الشيخ الصدوق- ص145.
2- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج93 ص292.
8
4
دعاء اليوم الأول
من صفات الصائمين:
وقد ورد في روايات أهل البيت ذكر بعض صفات الصائم:
فعن الإمام الصادق عليه السلام: "نومُ الصائمِ عبادةٌ، وصمتُهُ تسبيحٌ، وعملُهُ متقبلٌ، ودعاؤهُ مستجاب"1.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الصائمُ في عبادةِ اللهِ وإنْ كانَ نائماً على فراشِهِ، ما لَم يغتَبْ مسلماً"2.
وعنه صلى الله عليه وآله: "نومُ الصائمِ عبادةٌ، ونفَسُه تسبيحٌ"3.
وعنه صلى الله عليه وآله: "إنّ للجنّةِ باباً يدعى الريّان، لا يدخُلَ منه إلّا الصائمون"4.
2- قيام القائمين
إنّ العبادة التي يريدها الله عزَّ وجلَّ من خلقه هي تلك التي تقترن بالتفكير، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار﴾ِ5.
وأمّا العبادة التي لا تقترن في ذلك فهي مجرّد جهدٍ جسديٍّ، لا يعود على العابد بالنفع الذي يريده الله. وقد ورد في الرواية عن
1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 10 ص 401.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 4 ص 64.
3- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 10 ص 127.
4- م.ن. ص 405.
5- آل عمران:191
9
5
دعاء اليوم الأول
الإمام عليّ عليه السلام: "وكم من قائمٍ ليسَ لهُ من قِيامِه إلّا السَّهَر والعَنَاء"1.
وورد عنه عليه السلام أيضاً وقد رأى رجلاً من الحرورية (الخوارج) يتهجَّد ويقرأ: "نومٌ على يقينٍ خيرٌ من صلاةٍ في شكّ"2.
3- نومة الغافلين
النوم راحة للجسد، وقد يتحوّل إلى حالة من الكسل والخمول، يفضّله الإنسان على طاعة الله عزَّ وجلَّ وعلى التقرّب إليه. وهذا ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام وهو يبيّن الاختلاف بين نومة المتعبّدين ونومة الغافلين بقوله عليه السلام: "ونم نومَةَ المتعبّدين، ولا تنم نومَةَ الغافلين، فإنّ المتعبّدين الأكياسَ ينامون استرواحاً، وأمّا الغافلون ينامون استبطاراً، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تنامُ عيني ولا ينامُ قلبي. وانوِ بنومك تخفيف مؤنتك على الملائكة، واعتزال النفس من شهواتها، واختبر بها نفسك معرفة بأنّك عاجزٌ ضعيفٌ لا تقدِرُ على شيءٍ من حركاتك وسكونك، إلّا بحكم الله وتقديره، فإنّ النوم أخُ المَوت، فاستدلِلْ به على المَوت الذي لا تجد السبيل إلى الانتباه فيه، والرجوع إلى إصلاح ما فات عنك، ومن نام عن فريضةٍ أو سنّةٍ أو نافلةٍ أو فاته بسببها شيءٌ فذلك نوم الغافلين وسيرةُ الخاسرين، وصاحبه مغبون، ومن نام بعد فراغه من أداء الفرائضِ والسننِ والواجبات مِنَ الحقوق، فذلك نومٌ محمودٌ"3.
1- نهج البلاغة، الحكمة 145.
2م. ن. الحكمة 97.
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 73 ص 189.
10
6
دعاء اليوم الثاني
دعاء اليوم الثاني
" اللهم قربني فيه إلى مرضاتك، وجنبني فيه من سخطك ونقامتك، ووفقني فيه لقراءة آياتك، برحمتك يا أرحم الراحمين".
يتضمّن هذا الدعاء ما يرغب فيه الإنسان المؤمن في علاقته مع الله عزَّ وجلَّ، والتي تعتمد على ثلاثة مفاهيم هي: القربُ من مرضاة الله، البعدُ عن سخط الله، والتوفيقُ لقراءة آيات الله عزَّ وجلَّ.
1- القرب من مرضاة الله
إنّ الإنسان المحبّ لله عزَّ وجلَّ، إذا وصل إلى درجة العشق لهذا المعبود، بعد أن عرفه تمام المعرفة، لا بدّ وأن يسعى لأن ينال رضاه، فيا أيّها الصائم الملتزم بحرمان نفسك من كثير ما ترغب، ضع أمامك هدفاً واضحاً تسعى إليه، وهو نيل رضا هذا المحبوب.
11
7
دعاء اليوم الثاني
ونيل مرضاة الله، بأن تجعل ما تقوم به من أعمال في هذا السبيل، قال تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾1.
إنّ الثواب الذي يعد به العامل - الذي يجعل مرضاة الله هدفاً له - هو مضاعفة أجر هذا العمل. لأنّ الأعمال التي تقرّب الإنسان إلى الله ترتبط بشكلٍ أساسيٍّ بنيّة هذا العامل.
وورد في وصية لقمان عليه السلام لابنه: "يا بنيَّ، من يرِدْ رضوانَ اللهِ يُسْخِطُ نَفسَه كثيراً، ومن لا يُسخِطُ نَفسَهُ لا يُرضَى بِهِ"2.
فعليك أيّها الصائم، الذي تسخط نفسك بأن تلجأ إلى حرمانها ممّا ترغب، وأن تجعل ذلك سنّةً في حياتك، فتلجأ إلى حرمانها من كلّ ما يكون فيه سخط الله ورضا لهذه النفس.
ويرشدنا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى طريق نيل هذا الرضا الإلهيّ، والذي يتمثّل في طاعة الله في كلّ شيء، حتى تلك الأمور التي تراها صغيرةً بنظرك أيها الإنسان، يقول عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى أخفى أربعةً في أربعة: أخفى رضاهُ في طاعتِه، فلا تستصغرنّ شيئاً من طاعتِه فربّما وافقَ رضاهُ وأنت لا تعلَم ..."3.
إنّ من أصعب ما يبتلى به الإنسان، أن يجعل من رضا الناس همّاً له، وينسى أنّ الغاية هي رضا الله عزَّ وجلَّ، لا رضا الناس، فلا يكن همّك أيّها الصائم أن تنال رضا الناس عنك فيما تقوم به ما دمت
1- البقرة:265.
2- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 13 ص 432.
3- الخصال - الشيخ الصدوق - ص 210.
12
8
دعاء اليوم الثاني
تسعى لرضا الله، وفي الرواية عن الإمام الحسين عليه السلام: "من طلبَ رضا الله بسخَطِ الناسِ كفاهُ اللهُ أمورَ الناس، ومن طلبَ رضا الناسِ بسخَطِ الله، وكَلَه اللهُ إلى الناس. والسلام"1.
2- البعد عن سخط الله
في عبادة الصوم، يدرك الصائم تماماً أنّ الله عزَّ وجلَّ لا يناله من صوم الصائم شيئاً، فالله عزَّ وجلَّ لا يريد لهذا الإنسان الصائم أن يعيش الجوع والعطش، لأنّ شيئاً ما سيصل في ذلك إلى الله، لأنّه هو الغنّي عن العالمين، ولكنّ الله عزَّ وجلَّ يريد من تكليف الصائم أن يرجع النفع إلى هذا الصائم، وذلك بتربية نفسه على الابتعاد عن المعاصي والآثام.
إنّ المعاصي هي السبب الذي يوجب وقوع الإنسان في سخط الله وغضبه، فيكون مستحقّاً للعذاب الإلهيّ، والصائم الذي يسعى لرضا الله عزَّ وجلَّ في صيامه، عليه أن يتجنّب اللجوء إلى سائر المعاصي التي توجب سخط الله سبحانه، فلا ينبغي أن يكون الصوم سبباً لسوء الخلق مثلاً، بنحو يؤدّي بك أيّها الإنسان إلى ظلم الآخرين، فإنّك بذلك تسعى لسخط الخالق.
إنّها الذنوب التي تجعل الإنسان محلّاً للعقاب، ففي الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "كلّما أحدث العبادُ من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدَثَ اللهُ لهم من البلاءِ ما لم يكونوا يعرِفون"2.
1- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 268.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 276.
13
9
دعاء اليوم الثاني
3- التوفيق لقراءة آيات الله
ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "لكلّ شيءٍ ربيعٌ وربيعُ القرآنِ شهرُ رمضان"1.
أيّها الصائم الذي تحرم نفسك رغباتها وملذّات الدنيا سعياً منك لرضا الله، ألا ترغب في أن تخاطبه وتتحدّث إليه؟! ألا تحبّ أن تسمع كلامه؟! إنّ السبيل لذلك هو أن تلجأ إلى قراءة كتابه، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أحبّ أحدكم أنْ يحدّث ربّه فليقرأ القرآن"2.
ولكن أيّ قراءة هذه التي تجعلك فعلاً تتحدّث مع الله، إنّها التي ورد التعبير عنها في القرآن نفسه بحقّ التلاوة، في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾.
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: "يرتّلونَ آياته، ويتفهّمون معانيه، ويعملونَ بأحكامه، ويرجونَ وعده، ويخشونَ عذابه، ويتمثّلونَ قصصه، ويعتبرونَ أمثالَه، ويأتون أوامِره، ويجتنبون نواهيه، ما هو والله بحفظ آياته وسردِ حروفه، وتلاوة سوَره ودرس أعشاره وأخماسه، حفِظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنّما هو تدبّر آياته، يقول الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِه﴾3.
1 ثواب الأعمال - الشيخ الصدوق - ص 103.
2- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 3 ص 2524.
3- م.ن. ج 3 ص 2526.
14
10
دعاء اليوم الثالث
دعاء اليوم الثالث
"اللهم ارزقني فيه الذهن والتنبيه، وباعدني فيه من السفاهة والتمويه، واجعل لي نصيباً من كل خير تنزل فيه، بجودك يا أجود الأجودين".
إنّ التوفيق لنيل بركات وخيرات هذا الشهر الكريم يتوقّف على أن يتوسّل الإنسان ببعض الأسباب المؤدية إلى ذلك، وفي هذا الدعاء بيان لأهمّ هذه الأسباب: اليقظة من الوقوع في المعصية، الابتعاد عن
السَفَهِ، سؤال الخير من الله.
1- اليقظة من الوقوع في المعاصي
إنّ من الأسباب الموجبة لابتعاد الإنسان عن رضا الله عزَّ وجلَّ، والوقوع في معصيته هو أن ينسى الإنسان ربّه، ففي لحظة غفلةٍ ووسوسةٍ من الشيطان يقع الإنسان في معصية جبار السموات
15
11
دعاء اليوم الثالث
والأرض، فهذه آيات كتاب الله عندما تصف الفاسقين تصفهم بأنّهم الذين نسوا الله قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾1.
أيّها الصائم المتلزم في يومك ونهارك بالابتعاد عن المفطرات المبطلة للصوم، عليك أن تحذر من الوقوع في النسيان، فتقع في معصية الله في غير المفطرات. والأساس في ذلك أن تسعى لتكون من اليقظين.
وأمّا كيف نصل إلى مقام اليقظة هذا؟ وما هو السبيل إليه؟
إنّه ذكر الله على أيّ حال، ففي الرواية الإمام الباقر عليه السلام: "ثلاثٌ من أشدّ ما عمل العباد: إنصافُ المؤمنِ من نفسه، ومواساة المرءِ أخاه، وذكرُ الله على كلّ حال، وهو أن يذكرَ اللهَ عزَّ وجلَّ عند المعصية يهمُّ بها فيحولُ ذكرُ الله بينه وبين تلك المعصية، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾2 "3.
ومن سبل ذلك أن يتذكّر الإنسان دائماً مواقف القيامة، وما سيقع الإنسان فيه من عذاب الله وسخطه لو لم يتجنب المعاصي، قال تعالى واصفاً المقرّبين منه: ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ﴾4.
1- الحشر:19.
2- الأعراف:201
3- تحف العقول-ابن شعبة الحراني- ص379.
4- النور:37.
16
12
دعاء اليوم الثالث
2- الابتعاد عن السفه
السفيه هو الشخص الذي لا يحسن التصرّف، وهو الذي يطلق عليه الناس عنوان الأحمق، يقع دائماً في الخسارة، فيبذل ماله في ما لا ينبغي، ويقابله الرشيد، وهو الذي يحسن التصرّف.
وقد جرت عادة الناس على اعتماد معيارٍ دنيويٍّ في مقايسة السفيه والرشيد، فمن يتمكّن من أن ينال الكثير من هذه الدنيا، فيكون ذا عقل في تحصيل الأموال وجمعها فهو الرشيد، ومن يخفق ولا يوفّق دائماً في ذلك فهو السفيه.
ولكن الأعظم من ذلك هو سفاهة الوقوع في المعصية، وسفاهة تقديم الدنيا على الآخرة، فإنّ أعظم سفيه هو ذلك الإنسان الذي يقدّم منفعةً عاجلةً في هذه الدنيا، ولكنّها مؤقّتة ومحدودةً، على مصلحة آجلة، ولكنّها دائمة لا تفنى ولا تزول.
هذا الذي يدفع ثمناً كبيراً - وهو خسارة الآخرة - في سبيل متاع قليل هو هذه الدنيا.
ويصف الله تعالى المراحل التي يمرّ بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وكيف تكون هذه المراحل جميعها من المتاع القليل يقول: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور﴾1.
1- الحديد:20.
17
13
دعاء اليوم الثالث
ويصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أهل الرشاد، أصحاب التجارة الرابحة يقول: "صبروا أيّاماً قصيرةً أعقبتهم راحةٌ طويلةٌ. تجارةٌ مربحةٌ يسّرها لهم ربّهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففدَوا أنفسهم منها. أمّا الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلا. يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم. فإذا مرّوا بآيةٍ فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسُهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم. وإذا مرّوا بآيةٍ فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم"1.
3- سؤال الخير من الله
يفيض الله عزَّ وجلَّ بالخير على هذا الإنسان دائماً، ولكنَّ الإنسان يتصوّر أنّ الخير ينحصر بالرزق والأمور الماديّة، ويغفل أن الإنسان في كلّ حياته محاطة بخيرات الله عزَّ وجلَّ، والإنسان الذي يعيش في شهر رمضان القرب من الله سبحانه عليه أن لا يجعل همّه في الخير الماديّ، بل يسعى لينال الخير الباقي الذي لا يفنى، فليكن سؤالك أيّها الصائم الخير من الله بهذا المعنى، وقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "أربعٌ من أُعطيهنّ فقد أُعطي خير الدنيا والآخرة: صدقُ حديث، وأداءُ أمانة، وعفّةُ بطنٍ، وحُسنُ خُلُق2.
1- نهج البلاغة، الخطبة193، المعروفة بخطبة المتقين.
2- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج1 ص840.
18
14
دعاء اليوم الثالث
سبل الخير:
وعلى الإنسان أن يلتفت إلى أنّ أسباب الوصول إلى الخير بيده، فهو الذي يتمكّن من خلال عمله من الوصول إليها، ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: علّمني عملاً يحبّني الله عليه، ويحبّني المخلوقون، ويثري الله مالي، ويصحّ بدني، ويطيل عمري، ويحشرني معك. قال: هذه ستّ خصال تحتاج إلى ستّ خصال: إذا أردت أن يحبّك الله فخفه واتّقه، وإذا أردت أن يَحبّك المخلوقون فأحسن إليهم وارفض ما في أيديهم، وإذا أردت أن يُثري الله مالك فزكّه، وإذا أردت أن يصحَّ الله بدنك فأكثر من الصدقة، وإذا أردت أن يُطيلَ الله عمرك فصِل ذوي أرحامك، وإذا أردت أن يحشرك الله معي فأطل السجود بين يديّ الله الواحد القهّار"1.
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج82 ص164.
19
15
دعاء اليوم الرابع
دعاء اليوم الرابع
"اللهم قوني فيه على إقامة أمرك، وأذقني فيه حلاوة ذكرك، واحفظني فيه بحفظك وسترك، يا أبصر الناظرين".
للعبادة درجات، كلّما ارتقى الإنسان درجةً من العبادة سعى لينالَ درجةً أرقى منها، وهذا ما يحدّثنا عنه هذا الدعاء في عناوين ثلاث: إقامة أمر الله، حلاوة ذكر الله، أداء شكر الله.
1- إقامة أمر الله
إنّ من أعظم المخاطر التي يقع فيها الإنسان أن يطيع الله في شيءٍ من الواجبات والتكاليف، ولكنّه يعصيه في واجباتٍ وتكاليف أخرى، فتراه يلتزم بالصوم في شهر رمضان، ولكنّه لا يرتدع في شهر رمضان عن النظر إلى ما حرّم الله، أو عن أذيّة والديه أو أرحامه،
21
16
دعاء اليوم الرابع
أو عن ممارسة الأذى بحقّ من يعيش معه من أهله وزوجه وعياله، أو يعيش بقربه من جيرانه.
إنّ إقامة أمر الله تكون بالطاعة المطلقة لله، فإقامة الصيام، هي بالوصول إلى الصوم الحقيقيّ والشامل، حيث يصوم الإنسان فتصوم جوارحه كلّها عن معصية الله.
فهل يمكن لك أيّها الإنسان أن تتقرّب من جبار السموات والأرض، وأن تطيعه فيما تحبّ، وتعصيه فيما لا تحبّ، لقد ورد في وصيّة لقمان الحكيم لولده: "يا بنيّ خفِ الله خوفاً لو أتيت القيامة ببرّ الثقلين خفت أن يعذّبك، وارجُ الله رجاءً لو وافيت القيامة بإثمِ الثقلين رجوتَ أن يغفرَ لك. فقال له ابنه: يا أبتِ كيف أطيق هذا، وإنّما لي قلبٌ واحدٌ؟ فقال له لقمان: يا بنيّ لو استخرج قلب المؤمن فشقّ لوجد فيه نورين: نورٌ للخوف ونورٌ للرجاء، لو وُزِنا لما رجح أحدهما على الآخر بمثقال ذرّة، فمن يؤمن بالله يصدّق ما قال الله، ومن يصدّق ما قال الله يفعل ما أمر الله، ومن لم يفعل ما أمر الله لم يصدّق ما قال الله، فإنّ هذه الأخلاق تشهد بعضها لبعض"1.
وقد ورد في الروايات وصف الأئمّة عليهم السلام بأنّهم المقيمون لأمر الله، وذلك لأنّ بهم تتحقّق طاعة الله المطلقة والتامّة، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "نحنُ تراجمةُ أمرِ الله، نحن قومٌ معصومون"2.
1- تفسير القمي - علي بن إبراهيم القمي - ج 2 ص 165.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 ص 270.
22
17
دعاء اليوم الرابع
2- حلاوة ذكر الله
إذا تعلّق قلب هذا الإنسان بشيءٍ، فأحبّه أحبّ ذكره، وكان لذِكرِه على لسانه، أو خطوره في قلبه حلاوةٌ لا توصف، يهدأ لهذا الذِكرِ، ويشرق له وجهه، وتنفرج به أساريره، وهكذا حال المؤمن عند ذِكرِ الله، لأنّ قوام الإيمان هو حبّ الله عزَّ وجلَّ، وحبّ أولياء الله، فالذي يصل إلى درجة حبّ الله، يأنس بذِكرِ الله، ويعيش حلاوة ذِكرِ الله، وكلّما ازداد الإنسان إيماناً بالله وحبّاً له، ازداد حبّاً لذِكرِه سبحانه، وفي الرواية عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "ذِكرُ الله مسرّة كلّ متّقٍ ولذّةُ كلّ موقِن"1.
وتحدّثنا الرواية عن خواصّ الله عزَّ وجلَّ بأنّهم الذين يكثرون من ذِكرِ الله، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وقد سئل: أحبّ أن أكون أخصّ الناس إلى الله تعالى؟: "أكثر ذِكرَ الله تكن أخصّ العباد إلى الله تعالى"2.
إنّ الإكثار من ذِكرِ الله لا يتحقّق بالكثرة العددّية، بل بكمال الانقطاع إلى الله عزَّ وجلَّ كما ورد في المناجاة الشعبانية: "إلهي هب لي كمالَ الانقطاع إليك".
ومن أهمّ الثمار المترتّبة على المواظبة على ذكر الله، الالتزام بالطاعة والاجتناب عن المعصية، ففي روايةٍ عن أمير المؤمنين "من عمّر قلبَه بدوام الذِكرِ حَسُنت أفعاله في السرّ والجهر"3.
1- عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - ص 256.
2- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 2 ص 965.
3- عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - ص 458.
23
18
دعاء اليوم الرابع
والإنسان إنّما يقدم على معصية الله متى مات قلبه وأصبح مظلماً أسود، وجلاء هذه الظلمة إنّما تكون بذِكرِ الله والمداومة على ذلك، فعن الإمام عليّ عليه السلام "إنّ الله سبحانه جعل الذِكرَ جلاء للقلوب، تسمعُ به بعد الوقرة، وتبصرُ به بعد العشوة، وتنقادُ به بعد المعاندة"1.
3- أداء شكر الله
إنّ أقلّ ما يمكن للإنسان الذي يرى نعم الله عليه - وأصل وجود هذا الإنسان هو نعمة من الله - أن يشكر الله عزَّ وجلَّ على هذه النعم.
إنّ وجوب طاعة الله عزَّ وجلَّ لمن فكّر حقيقة في نعم الله لا تنطلق من الخوف من العقاب، بل لأنّه مستحقّ للشكر، وشكر الله في طاعته، وهذا ما حدّثنا عنه أمير المؤمنين كما في الرواية: "لو لم يتوعّد الله على معصيته، لكان يجب ألا يعصى شكراً لنعمه"2.
على المؤمن المطيع لله أن يسعى ليجعل طاعته هذه وعبادته لله، عبادة الأحرار، وهي أعلى درجات العبادة، وقوام هذه العبادة أن يعبد الإنسان الله عزَّ وجلَّ على أساس شكره ففي الرواية عن أمير المؤمنين: "إنّ قوماً عبدوه - أي الله - شكراً، فتلك عبادة الأحرار"3.
1- نهج البلاغة، الخطبة، 222.
2- م.ن الحكمة 290.
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 84.
24
19
دعاء اليوم الخامس
دعاء اليوم الخامس
"اللهم اجعلني فيه من المستغفرين، واجعلني فيه من عبادك الصالحين القانتين، واجعلني فيه من أوليائك المقربين برأفتك يا أرحم الراحمين".
إنّ الوصول إلى درجة القرب الإلهيّ، يبتدئ بالاستغفار من كلّ ذنب، ليصل إلى التحلّي بصفات الأولياء المقرّبين مروراً بعباده الصالحين، وهذا ما تعرّض له هذا الدعاء.
1- الاستغفار
يكتفي الكثير من الناس متى ما اتجه نحو ربّه وتذكّر ما اقترفته يداه من ذنوب وآثام بكلمة الاستغفار، فيستغفر الله ويعتبر أنّ ذلك قد طوى - وإلى حدّ ما - ما ارتكبه من ذنب. ولكن ليست هذه هي حقيقة الاستغفار، بل الاستغفار الحقيقي هو الذي يقترن فيه قول الإنسان
25
20
دعاء اليوم الخامس
هذا بالعمل، ويشرح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حقيقة الاستغفار وقد سأله كميل بن زياد: "فما حدّ الاستغفار؟ فقال: يا بن زياد: التوبة، قلت: بس؟. قال: لا، قلت: فكيف؟ قال: إنّ العبد إذا أصاب ذنباً يقول: أستغفر الله بالتحريك، قلت: وما التحريك؟ قال: الشفتان واللسان، يريد أن يتبع ذلك بالحقيقة، قلت: وما الحقيقة؟ قال: تصديق في القلب، وإضمار أن لا يعود إلى الذنب الذي استغفر منه. قال كميل: فإذا فعل ذلك فإنّه من المستغفرين؟ قال: لا . . . لأنّك لم تبلغ إلى الأصل بعد. قال كميل: فأصل الاستغفار ما هو؟ قال: الرجوع إلى التوبة من الذنب الذي استغفرت منه، وهي أوّل درجة العابدين"1.
إنّ الاستغفار كما ينفع الإنسان المذنب للتخلّص من عذاب يوم القيامة، فإنّه يجعله في أمان من العذاب الإلهي في هذه الدنيا، فإنّ الله لا يهمل الإنسان المذنب في هذه الدنيا، وإن أمهله، فقد ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "أنزل الله عليَّ أمانين لأمّتي": ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾2 فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة"3.
كما إنّ عليك أيّها الخطّاء أن تبادر من فورك إلى الاستغفار، ولا تؤجّل ذلك، لعلّ تلك السيئة لا تكتب في صحيفة أعمالك. ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "من عمل سيئة أُجِّل فيها سبع ساعات من
1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 16 ص 78.
2- الأنفال:33.
3- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 3 ص 2275.
26
21
دعاء اليوم الخامس
النهار، فإن قال: أستغفر الله الذي لا إله إلّا هو الحيّ القيوم ثلاث مرّات لم تكتب عليه"1.
2- مقام القانتين
إنّ من الصفات التي عدّها الله عزَّ وجلَّ للمؤمنين هي القنوت، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾2.
كما أنّ من ألقاب نبيّ الله إبراهيم عليه السلام لقب خليل الله، وقد وصف الله إبراهيم عليه السلام بصفة القنوت قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لله حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾3.
ولكن ما هو القنوت، ليس المراد ما نأتي به في الصلاة والذي هو من مستحبّاتها، بل ذكر المفسّرون أنّ المراد من القنوت هو لزوم الطاعة مع الخضوع4. فهي الطاعة التي تنبع من الإيمان والاعتقاد الصحيح.
إنّ القنوت لله هو أن تكون في كلّ فعل تقوم به خاضعاً لإرادة الله، لأمره ولنهيه، ولا شكّ في أنّ المعصية التي تقع فيها ليست من القنوت لله، بل هي خروج عن الطاعة والخضوع.
1- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 16 ص 64.
2- آل عمران:17.
3- النحل:120.
4- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 17 ص 243.
27
22
دعاء اليوم الخامس
3- الأولياء المقربون
ليس الناس على درجةٍ واحدةٍ في قربهم من الله عزَّ وجلَّ، ومن الدرجات العليا التي قد يصل إليها بعض الناس من غير الأنبياء والأئمّة أيضاً هي درجة ((الأولياء))، فمن هم الأولياء؟
يحدثنا القرآن الكريم عن أهمّ باب لمعرفة هؤلاء الأولياء وهو كونهم ممّن جمع عنصرين في شخصيته هما: الإيمان والتقوى، إذ يقول: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾1.
ويصفهم رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: "إنَّ أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذكراً، ونظروا فكان نظرهم عبرة، ونطقوا فكان نطقهم حكمة"2.
إنّ الإنسان العادي لا يطمع في أن يكون نبيّاً أو أن يكون إماماً، وذلك لأنّ مقام النبوّة والإمامة محصور بأشخاص بعينهم، ولكن مقام الولاية مفتوح لكلّ مؤمن يسعى للوصول إليه، بل إنّ أبواب الوصول إلى مقام أولياء الله تزداد في زماننا هذا أي زمان غيبة الإمام الحجّة| فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "يا أبا بصير! طوبى لشيعةِ قائمنا المنتظرينَ لظهوره في غيبته، والمطيعينَ له في ظهوره، أولئك أولياءُ اللهِ الذين لا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون"3.
1- يونس:62-63.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج2 ص237.
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 52 ص 150.
28
23
دعاء اليوم الخامس
وعليك أيّها الإنسان أن تحذر، فإنّ مقام ولاية الله ليس منصباً دنيويّاً، فلن تجده عند أصحاب المناصب والأموال، بل لعلّك تنظر إلى أحد من الناس نظرة استقلال لشأنه، فيكون ولياً من أولياء الله، ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "إن الله تبارك وتعالى . . . أخفى وليّه في عباده، فلا تستصغرنَّ عبداً من عبيد الله، فربما يكون وليّه وأنت لاتعلم"1.
1- الخصال - الشيخ الصدوق - ص 209.
29
24
دعاء اليوم السادس
دعاء اليوم السادس
"اللهم لا تخذلني فيه لتعرض معصيتك، وضربني بسياط نقمتك، وزحزحني1 فيه من موجبات سخطك بمنك وأياديك، يا منتهى رغبة الراغبين".
كما ترتبط الطاعة والمعصية بأسبابَ مادّية ومُغريَات دنيويّة، كذلك ترتبط بأسباب غيبيّة، فالعاصي شخصٌ خذله الله، فاستحقَّ نقمة الله وعذابه. ولا بتحقق الخلاص إلّا بالتوسّل بإحسان الله.
1- الخذلان سبب للمعصية
لا تكفي قدرة الإنسان على اجتناب المعاصي أو أداء الطاعات ليكون من المحسنين الصالحين، فإنَّ هذه القدرة موجودة حتَّى لدى الكافر والفاسق، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ يخصُّ المؤمن بالتوفيق وهو
1- أبعدني.
31
25
دعاء اليوم السادس
المعنى المقابل للخذلان، وهذا التوفيق هو الذي يجعله مؤمناً مطيعاً، وتشرح لنا الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام لرجل سأله: "أليس أنا مستطيع لما كُلِّفت؟ قال عليه السلام: ما الاستطاعة عندك؟ قال: القوّة على العمل، قال له عليه السلام: قد أُعطيت القوّة إن أُعطيت المعونة، قال له الرجل: فما المعونة؟ قال: التوفيق، قال: فلم إعطاء التوفيق؟ قال: لو كنت موفَّقا كنت عاملا، وقد يكون الكافر أقوى منك ولا يُعطى التوفيق فلا يكون عاملا"1.
إذاً، عليك أيَّها الراغب في طاعة الله، الملتزم بصيام شهر الله، أنْ تسألَ الله أن يكتب لك هذا التوفيق للطاعة، وإلا فهذه القدرَة المودَعة لديك لا تكفي ليُكتب لك النجاح والفلاح.
إنّنا نردّد دائماً قول (لا حول ولا قوّة إلّا بالله)، ولكن هل تأمّلنا شيئاً في مدلولها؟ يشرح الإمام الباقر عليه السلام مدلول هذه الآية فيقول: "لا حولَ لنا عن معصية الله إلّا بعونِ الله، ولا قوّة لنا على طاعة الله إلّا بتوفيقٍ الله عزَّ وجلَّ"2.
كما أنّ المعصية لا تصدر إلّا متى سُلب الإنسان التوفيق، فكذلك كثرة المعاصي تؤدّي بالإنسان إلى المزيد من الخذلان، وهكذا حتَّى يغرق شيئاً فشيئاً في الذنوب فلا يخرج منها إلّا وقد دنا به عُمره إلى قبره، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إنَّ المعاصي يستولي بها الخذلان على صاحبها حتَّى توقعَه بما هو أعظم منها"3.
1- فقه الرضا - علي بن بابويه - ص 351.
2- معاني الاخبار - الشيخ الصدوق - ص 22.
3- جامع أحاديث الشيعه - السيد البروجردي - ج13 ص 324.
32
26
دعاء اليوم السادس
2- سياط النقمة الإلهية
من الأسماء الحسنى الإلهيّة اسم "المُنتقم"، والنقمة هي العذاب الذي ينزل بالمذنب ويكون في غاية الشدّة بحيث لا يجد له منه منفذاً إلّا اللجوء إلى الله عزَّ وجلَّ. والنقمة من الله عزَّ وجلَّ لا تكون عن حاجةٍ منه إليها، بل لأنّ العبد مستحقّ لها، ولذا قرن الله عزَّ وجلَّ صفة النقمة بالعزّة قال تعالى: ﴿وَالله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾1.
إذا تحقَّقَ الخذلان بسببِ ارتكاب الإنسان للمعاصي، فإنّ هذا العبد المخذول، سوف يكون مستحقاً ليُضرب بسياط النقمة الإلهيّة. والنقمة لا تختصّ بالعقاب الأخرويّ، بل إنّ الكثير من العذاب الدنيويّ الذي نزل بالأُمم السالفة ممّن عصى الله وكفر به كان مصداقاً للانتقام الإلهيّ، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "أما إنّه ليس من عِرْق يُضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلّا بذنبٍ، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ في كتابه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾2، ثمّ قال: وما يعفو الله أكثر ممَّا يؤاخذ به3.
3- التوسل بصفة الإحسان الإلهي
كيف لنا نحن المذنبون أن نكون في أمانٍ من سياط النقمة الإلهيّة؟ إنَّ أوّل أبواب ذلك هو السعي لاجتناب المعاصي، وتربية
1- آل عمران:4.
2- الشورى:30.
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج2 ص 269.
33
27
دعاء اليوم السادس
هذه النفس على الطاعة لله عزَّ وجلَّ، ولكنّ هذا الدعاء يفتح لنا باباً آخر، إنَّه التوسّل والتمسّك بصفة الإحسان الإلهيّ، فمن الأسماء الإلهيّة الحسنى صفة "المنّان"، وهذه الصفة هي التي يعلِّمنا الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء السحَر التمسّك بها إذ يقول: "اللّهمَّ أنت القائلُ، وقَولُك حقٌ ووعدُك صدق: واسألوا اللهَ من فضلِه إنَّ الله كان بكلّ شيء عليماً، وليسَ من صفاتِكَ يا سيّدي أن تأمرَ بالسؤال وتمنعَ العطيّة، وأنت المنّان بالعطيّات على أهلِ مملكتك، والعائدُ عليهم بتحنُّنِ رأفتك"1.
ولذا لا ينبغي للإنسان أنْ يَعيش اليأس من المغفرة الإلهيّة مهما وصلت به الذنوب، ولذا قرن الله عزَّ وجلَّ في كتابه بين الرحمة والغضب، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾2.
1- الدعاء المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي.
2- الرعد:6.
34
28
دعاء اليوم السابع
دعاء اليوم السابع
"اللهم أعني فيه على صيامه وقيامه، وجنبني فيه هفواته وآثامه، وارزقني فيه ذكرك بدوامه، بتوفيقك يا هادي المضلين".
يتضمَّن دعاء هذا اليوم بعض المفاهيم التربويّة الأساسيّة، وقوامها الاعتماد المطلق على الله عزَّ وجلَّ، وسنذكر الطاعة بمعونة الله، والهداية الإلهيّة.
1- الطاعة بمعونة الله
إذا كنت موحِّداً حقيقيّاً، أي إذا كنت على يقينٍ تماماً بأنّ كلَّ ما يجري في هذا الكون هو بإرادة الله عزَّ وجلَّ، فإنَّ الطاعة التي تأتي بها في شهر رمضان من الصيام في النهار والقيام في العبادة في الليل، إنَّما هي بإرادةٍ من الله عزَّ وجلَّ، وبمعونة الله عزَّ وجلَّ، ومن
35
29
دعاء اليوم السابع
أبواب المعونة الإلهيّة لنيل هذه النعمة أنْ جَعل نفسك ترغب في أداء هذه الطاعة، وتنفر عن المعصية، ففي دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: "حبِّب إليّ ما تحبّ من القول والعمل حتَّى أدخل فيه بلذةٍ وأخرج منه بنشاطٍ، وأدعوك فيه بنظرك منّي إليه"1.
وفي المقابل فإنّ الابتعاد عن الطاعة يكون أيضاً لأسباب تتلخّص في أمورٍ ثلاثة هي:
1- الكسل عن العبادة.
2- العمى عن سبيل الله.
3- التعرّض لخلاف محبّة الله وذلك بمعصية الله.
وهذه الأسباب الثلاثة جمعها الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء مكارم الأخلاق: "ولا تبتليَني بالكسلِ عن عِبادَتِك، ولا العمى عن سبيلك، ولا بالتعرَّضِ لخلافِ محبَّتك"2.
إنَّ على الإنسان أن يَستحضر الاستعانة بالله في كلِّ عملٍ يقوم به حتَّى لو كان هذا العمل عبادة، أو طلب علمٍ ففي وصيَّة الإمام عليّ لولده الحسن: "وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه في توفيقك، وترك كلِّ شائبةٍ أولجتك في شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة".
2- الهداية الإلهية
إنّ أفضل الدعاء الذي يُمكن للإنسان أن يتوسّل فيه إلى الله،
1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري -ج3 ص 2706.
2- دعاء مكارم الأخلاق.
36
30
دعاء اليوم السابع
هو التمسّك بالأسماء الإلهيَّة، ومن هذه الأسماء "الهادي"، فما هو المراد من هذا الاسم؟
إنَّ النعم الإلهيَّة على الإنسان لا تُختصر بهذه الأمور المادّية والمواهب الجسديّة والعقليّة، بل إنَّ الله عزَّ وجلَّ تابعَ على الإنسان نِعمَه المعنويّة، ومن هذه النعم، نعمة الهداية. وهذه الهداية على نوعين:
1- الهداية العامّة: وهي التي جعلها الله عزَّ وجلَّ لخلقه كافّة، فأرسل أنبياءه ورسله لهداية الناس إلى الحقّ، وإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِالله شَهِيداً﴾1.
2- الهداية الخاصّة: وهي أن يَكتب الله التوفيق لإنسانٍ ما بأن يكون من المؤمنين، وأن يخرج عن الكفر إلى الإيمان. وهذا هو ما جاءت به الآية الكريمة: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾2.
وورد في كثيرٍ من آيات كتاب الله عزَّ وجلَّ بيان أسباب الهداية وأسباب الضلال:
أولا: من أسباب الهداية:
أ- الرجوع إلى الله: على الإنسان الذي يسعى لمعرفة الحقّ، ولكنه يتردّد في ذلك أو تعرض له الشُّبهات أن يلجأ إلى الله عزَّ وجلَّ ليهديَه إلى الحقّ، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾3.
1- الفتح:28.
2- القصص:56.
3- الرعد:27
37
31
دعاء اليوم السابع
ب- الاعتصام بالله: أي أن يتوسَّل الإنسان بالله عزَّ وجلَّ ويتمسّك به طالباً للهدى، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾1، والاعتصام بالله يكون بالرجوع إلى كتاب الله والتمسّك بسنّة رسول الله.
ثانياً: من أسباب الضلال
أ- الظلم: قال تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾2.
ولا يختصُّ الظلم في هذه الآية بظلم الآخرين، بل يشمل ظلم النفس أيضاً، ولذا نقرأ في آيةٍ أُخرى: ﴿وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾3.
ب- الجهل، إنَّ من أعظم الابتلاءات أن يكون الإنسان جاهلا لا يعرف الحقّ ولكنّه يدّعي المعرفة والعلم، ففي نهج البلاغة عن الإمام علي عليه السلام قال: "وآخر قد تسمَّى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جهّال، وأضاليل من ضلال . . . فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لا يعرفُ بابَ الهدى فيتَّبعه، ولا بابَ العمى فيصدّ عنه، وذلك ميّتَ الأحياء"4.
1- آل عمران:101.
2- المائدة:51.
3- الصف:5.
4- نهج البلاغة، الكتاب 70.
38
32
دعاء اليوم الثامن
دعاء اليوم الثامن
"اللّهمَّ ارزقني فيه رحمة الأيتام، وإطعامَ الطعام، وإفشاء السلام، وصحبةَ الكرامِ، بطَولك يا ملجأ الآملين".
بعد أن يتحلّى الإنسان بصفة الطاعة لله عزَّ وجلَّ في صومه، عليه أن يسعى لكي يُكمل طريق الهدى هذا باللجوء إلى الصفات الأُخرى التي يحبّها الله، وهي المذكورة في هذا الدعاء.
1- رحمة الأيتام
خصّ الله عزَّ وجلَّ شهره الكريم بآداب، هي أمور مطلوبة في نفسها، ولكنّها تتأكّد أكثر في هذا الشهر الكريم ومن هذه الآداب تكريم اليتيم، ففي خطبة الرسول صلى الله عليه وآله في استقبال شهر رمضان:
39
33
دعاء اليوم الثامن
"وتحنَّنوا على أيتام الناس يُتحنّن على أيتامكم"1.
والتحنّن على الأيتام لا يكون مادّيا فقط، كما يتعامل به الناس في هذا اليوم، بأن يبذل له المال، ويعتبر أنّه بذلك قد أدّى ما عليه، بل التحنّن هو درجة أعلى، إنّها شمول اليتيم بعطفك أيّها الصائم، أن تجعله يعيش معك فرحة الصيام في هذا الشهر. فنحن جميعاً نعيش في هذا الشهر الكريم في داخل بيوتنا ضمن أجواء خاصّة يفرضها هذا الشهر الكريم علينا، فتَملأ البيوت حالة من الفرح والسرور والاجتماع على مائدة الإفطار، واليتيم يعيش وحده، نعيش نحن مع الآباء والأمّهاتُ نلجأ إليهم، ونجتمع بهم، واليتيم يفتقد لهذا الأمر، فلا يجد أباً يحنّ عليه في هذا الشهر الكريم، ما أجمل أن تستضيف كلُّ عائلةٍ من عوائلنا أيتاماً في هذا الشهر الكريم، فبهذا يصدق التحنّن على الأيتام".
2- إطعام الطعام وإفشاء السلام
إنَّ المودَّة والرحمة التي جعلها الله بين المؤمنين فقال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾2، لا تقتصر على قضاء الحوائج وإعانة الملهوف، بل تتمثَّل أيضاً بالمظاهر التي تعكس روح الإلفة والمودّة بينهم، وفي هذا الدعاء إشارةٌ إلى مظهَرين من ذلك وهما إطعام الطعام، وإفشاء السلام.
ونحن نعلم أنَّ من المستحبّات المؤكّدة في هذا الشهر الكريم
1- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 154.
2- الفتح:29.
40
34
دعاء اليوم الثامن
هو إفطار المؤمنين فقد ورد عن رسول الله في خطبة شهر رمضان: "أيّها الناس، من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر، كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه"1.
ففي هذا الشهر يتضاعف الثواب الذي كتبه الله عزَّ وجلَّ على أعمال العباد، ومن تلك الأعمال الإطعام، بما يحمله من إلفةٍ ومحبّةٍ واهتمام. ويصف الإمام الصادق عليه السلام ذلك بأنّه من المنجيات إذ يقول: "المنجيَات: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام"2.
وليس هذا إلّا بسبب ما يسود بين الناس عند اجتماعهم على مائدة الطعام من الألفة والمودّة التي هي أساس في حياة المؤمنين.
وإذا عجزت عن الإطعام فإنَّ ذلك لا يكون عذراً، بل عليك اللجوء إلى أمرٍ آخر وهو إفشاء السلام، فسلّم على كلِّ من تلقاه فإنَّ ذلك من موجبات المودّة أيضاً، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "ألا أخبركم بخير أخلاق أهل الدنيا والآخرة ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: إفشاء السلام في العالَم"3.
3- صحبة الكرام
إنَّ حياة الإنسان تتأثّر بالمحيط الذي يعيش به، فمن أعظم المخاطر التي تُحيط بالإنسان فتُبعده عن الله، مصاحبة أهل السوء،
1-الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 154.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج4 ص 50.
3- بحار الأنوار- العلامة المجلسي - ج73 ص 12.
41
35
دعاء اليوم الثامن
ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "صحبة الأشرار تكسب الشرّ، كالريح إذا مرّت بالنتن حملت نتنا"1.
وحيث كان خطر ذلك عظيماً كان الحثُّ من الروايات على حُسن اختيار الصاحب والرفيق، وعِظَم هذا الأمر يجعل الإنسان يلجأ إلى الله من خلال الدعاء بأن يرزقه صحبة الكرام.
فمن هم هؤلاء الكرام؟ وما هي صفاتهم؟
أ- هم الذين تفتخر بصحبتهم
إذا كنت ممَّن يبحث عن الآخرة، ويطلب رضا الله فعلاً، فإنّ عليك أن تُصادق من تفتخرُ بصداقتك معه، لأنّه ممَّن يحمل هذه الصفات أيضاً، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "اصحَبْ مَن تتزين به"2.
ب- صداقة العلماء
العلماء هم الذين يهدون إلى الحقّ، ويرشدونك إلى صلاح آخرتك، ولذا ورد الحثُّ على صحبتهم، ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "عجبت لمن يرغب في التكثّر من الأصحاب كيف لا يصحب العلماء الألبّاء الأتقياء الذين يغنم فضائلهم، وتهديه علومهم، وتزيِّنه صحبتهم؟!"3.
ج- الكرام في الأخلاق والمعاملة
الكرام صفة لا ترتبط بالعمل الأخرويّ فقط، بل هم الذين يتحلَّون بمحاسن الأخلاق في التعامل الدنيويّ مع الناس، وتجمع الرواية عن
1- عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - ص 304.
2- من لايحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج2 ص 278.
3- عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - ص 330.
42
36
دعاء اليوم الثامن
الإمام علي عليه السلام صفاتهم: "احذر ممّن إذا حدّثته ملَّك، وإذا حدّثك غمَّك، وإن سرَرته أو ضررته سلَك فيه معك سبيلك، وإن فارقك ساءك مغيبه بذكر سوأتك، وإن مانعته بهتَك وافترى، وإن وافقته حسدَك واعتدى، وإن خالفته مقَتك ومارى، يعجز عن مكافأة من أحسن إليه، ويُفرط على من بغى عليه، يصبح صاحبه في أجرٍ، ويصبح هو في وزر، لسانه عليه لا له، ولا يضبط قلبه قوله، يتعلَّم للمرَاء، ويتفقَّه للرياء، يُبادر الدنيا ويُواكل التقوى"1.
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج75 ص 10.
43
37
دعاء اليوم التاسع
دعاء اليوم التاسع
"اللّهمَّ اجعلْ لي فيه نصيباً من رحمتك الواسعة، واهدني فيه لبراهينك السّاطعة، وخذ بناصيتي إلى مرضاتك الجامعة، بمحبّتك يا أملَ المشتاقين".
تتحدَّث مفردات هذا الدعاء عن عنصرين مهمَّين هما: الرحمة الإلهيّة، والهداية مصداق من مصاديقها، وعن مقام الرضا الإلهيّ.
1- سعة الرحمة الإلهية
لا شكّ في أنّ الأسماء والصفات الإلهيّة لا تُقاس بمقاييس بشريَّة، وأنّ الإنسان يُخطئ متى اعتمد على المقاييس البشريّة في فهمه وإدراكه للصفات الإلهيّة، بل الفهم الصحيح هو الذي يستحضر دائماً قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾1.
1- الشورى:11.
45
38
دعاء اليوم التاسع
ولكنَّ معرفة سعة الرحمة الإلهيّة ممكن من خلال الرجوع إلى آيات كتاب الله وكلمات الأئمّة الهداة، قال تعالى: ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾1.
وتحدِّثنا الرواية عن الإمام زين العابدين عليه السلام عن سعة هذه الرحمة لمَّا قيل له إنّ الحسن البصري قال: ليس العجب ممَّن هلك كيف هلك وإنّما العجب ممّن نجى كيف نجى! فقالعليه السلام: "ليس العجب ممّن نجى كيف نجى، وإنّما العجب ممَّن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله؟!"2.
وأمَّا مظاهر الرحمة الإلهيَّة فهي لا تعدّ ولا تُحصى، كما أنّ النعم الإلهيّة لا تعدّ ولا تُحصى، ولكنّ الإنسان لا ينظر إلّا إلى مظاهر الرحمة الإلهيّة المادّية والتي تتعلّق بالمال والولد والرزق، ويغفل أنّ رحمة الله أوسع من ذلك، ومن أهمِّ مظاهر الرحمة الإلهيَّة على الصائم القائم المؤمن هي أن وفَّقه الله عزَّ وجلَّ لأن يهتدي بهدي الله، وأن تُشرق البراهين الإلهيّة في قلبه فتسلك به طريق الهدى، وتبتعد به عن طريق الضلال والعمى.
يحدّثنا القرآن الكريم عن قومٍ في عصر النبي صلى الله عليه وآله كانوا يمنّون على النبيّ بإسلامهم، فيرون أنَّ الفضل في دخولهم الإسلام يعود لأنفسهم، فلهم أن يفتخروا بذلك على الله وعلى رسوله، وتجد في كل عصر وزمان جماعة من هؤلاء، فمن الناس من يدخل إلى الدِّين
1- الأعراف:156.
2- الأمالى - السيد المرتضى - ج1 ص 113.
46
39
دعاء اليوم التاسع
ويتقرّب من المؤمنين ويتفضّل بذلك عليهم وكأنّه ذو منّة عليهم، وهذا ما يستنكره القرآن على هؤلاء، فيؤكِّد على أنَّ الهداية هي نعمة ومنّة من الله، قال تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾1.
إذا الهداية نعمةٌ من الله، ولذا كانت هذه الهداية تستوجب الشكر كأيّ نعمةٍ من النعم الإلهيَّة، فيا أيّها الصائم الموفَّق لصيام هذا الشهر عليك أن تؤدّي حقّ الله في هذا الشهر لتشكره على نعمة التوفيق للهداية ولتُصبح من عداد الصائمين.
2- مقام الرضا
إذا كنت تريد أن تتقرّب إلى أحدٍ من الناس فإنَّ ما يهمّك لكي تنال درجة القرب عنده هو أن تصلَ إلى مقام الرضا، فإذا رضيّ عنك قرَّبك وأدناك، فيا أيّها السالك إلى الله، والساعي لمقام القرب منه تعالى، والمتقرّب إليه تعالى بأنواع العبادات والطاعات، عليك أن تضَع أمامك هدفاً هو الوصول إلى مقام الرضا، فإنّه المؤهِّلُ لك لمقام القرب الإلهيّ.
وتنصُّ الآيات الكريمة على أنَّ الوصول إلى مقام الخشية هو الذي يؤهّل الإنسان للوصول إلى مقام الرضا قال تعالى: ﴿رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾2.
إنَّ الطاعة المطلقة لله تعالى في كافَّة الأمور صغيرها وكبيرها
1-الحجرات:17.
2-البينه:8.
47
40
دعاء اليوم التاسع
هي التي تُوصل الإنسان إلى درجة الرضا، وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "إنَّ الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته فلا تستصغرنَّ شيئاً من طاعته فربَّما وافَق رضاه وأنت لا تعلم . . ."1.
إذا كانت العلاقة كذلك بين الطاعة والرضا، فليعلَم المرتكِب للمعاصي، المبتعد عن طاعة الله، لا سيَّما في أيام الرحمة والمغفرة أنَّه بعيدٌ عن رضا الله، وليعلَم المطيع لله، الموفَّق للعمل بما يرضي الله أنَّه قريب من مقام الرضا، وقد ورد في الحديث القدسيّ أنَّ ذلك علامة الرضا، فعن موسى عليه السلام: "يا ربِّ أخبرني عن آية رضاك عن عبدك؟ فأوحى الله تعالى إليه: إذا رأيتني أهيّء عبدي لطاعتي وأصرفه عن معصيتي، فذلك آية رضاي"2.
1- الخصال - الشيخ الصدوق - ص 209.
2- بحار الأنوار - العلامه المجلسي - ج 67 ص 27.
48
41
دعاء اليوم العاشر
دعاء اليوم العاشر
"اللّهمَّ اجعلني فيه من المتوكّلين عليك، واجعلني فيه من الفائزين لديك، واجعلني فيه من المقرّبين إليك بإحسانك يا غاية الطالبين".
تتحدَّث فقرات هذا الدعاء عن بعض صفات المؤمنين التي لا تتحقَّق لهم إلّا بعد الصبر والثبات، والتي يلجأون فيها إلى الدعاء لكي ينالوا حظاً منها، ويصبحوا متوكلين، فائزين، مقرّبين.
1- المتوكلون
يرتبط التوكّل الحقيقيّ بما يعيشه المؤمن من توحيد حقيقيّ لله عزَّ وجلَّ، إنّ من مراتب التوحيد الحقيقيّ هي تلك المرتبة التي يتمكّن الإنسان وبوضوحٍ من أن يقطع أمله أو رجاءه من كافَّة الأسباب الدنيويَّة والمادّية، ليتعلّق قلبه بالله عزَّ وجلَّ وحده، لأنّه يرى كلَّ شيء
49
42
دعاء اليوم العاشر
يجري في هذا الكون إنَّما يجري بإرادة الله عزَّ وجلَّ.
إنَّ عليك أيَّها المؤمن بالله، حيث تكرِّر في كلِّ يومٍ شهادة التوحيد، فتُجري على لسانك كلمة: "لا إله إلّا الله"، أن تسعى لاستحضار مفهوم التوحيد الحقيقيّ والذي ينعكس على حياتك اليوميّة وأسلوب تعاملك مع كلِّ من يحيط بك، فإنَّك بذلك تستكمل حقيقة الإيمان ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "لا يُكمل عبدٌ الإيمانَ بالله حتَّى يكون فيه خمس خصال: التوكّل على الله، والتفويض إلى الله، والتسليم لأمر الله، والرضا بقضاء الله، والصبر على بلاء الله. إنّه من أحبَّ في الله، وأبغضَ في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان"1.
وورد في قصّة إبراهيم عليه السلام لمّا أمر نمرود بجمع الحطب ليُحرقه بالنار عقاباً له على تحطيمه لأصنامهم فأوقدوا النار وعجزوا عن رمي إبراهيم، فعمل لهم إبليس المنجنيق فرُمي به، فتلقَّاه جبرائيل في الهواء فقال: "هل لك من حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا! حسبي الله ونعم الوكيل، فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردت أخمدت النار فإنَّ خزائن الأمطار والمياه بيدي؟ فقال: لا أريد! وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيّرت النار؟ قال: لا أريد! فقال جبرئيل: فاسأل الله، فقال: حسبي من سؤالي عِلمُهُ بحالي"2.
2- الفائزون
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج74 ص 177.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج68 ص 156.
50
43
دعاء اليوم العاشر
قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾1.
تختصر الآية الكريمة الفوز بأنّه عبارة عن الابتعاد عن جهنّم ودخول الجنّة. كما تتحدّث الآية عن أنَّ السبب في كونه من الفائزين، هو أن ذلك الذي أصيب بالخسران الأخرويّ، فإنّه نال نصيبه من الدنيا، وهذه الدنيا مهما نال منها الإنسان فهي ليست سوى متاع الغرور، لأنّ مصيرها إلى الزوال والفناء، والآخرة دار البقاء.
إنَّ من أعظم ما ينبغي أن يتأمَّل المؤمن فيه عندما يقايس بين الدنيا والآخرة، أنّه لو نال هذه الدنيا بأعظم ما فيها، ولم يعِش حرماناً فيها أبداً، فإنّ مصير ذلك كلِّه إلى زوال، في أيّ لحظة يحلّ بك الموت، فإنّ كلَّ ما جمعته مصيره الانقطاع، لتنتقل إلى عالم الآخرة وهي العالم الذي لا زوال فيه.
ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "المُنفق عمرَه في طلب الدنيا خاسر الصفقة عادم التوفيق"2.
ولكن الأعظم خسراناً هو ذلك الذي خسر الدنيا والآخرة، فلم تكن دنياه راحة له، وينتظره عذاب جهنّم في آخرته، وأعظم من ذلك شقاءً ذاك الذي حرم نفسه ملذَّات الدنيا وعاش العبادة والطاعة لله، ولكن ذلك لم يكن خالصاً لله، فلم يفز برضوان الله في الآخرة، فقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام وقد سئل: من العظيم الشقاء؟
1- آل عمران:185.
2- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج1 ص740.
51
44
دعاء اليوم العاشر
فقال: "رجلٌ ترك الدنيا للدنيا ففاتته الدنيا وخسر الآخرة، ورجل تعبَّد واجتهد وصام رياءً للناس فذاك حُرِم لذّات الدنيا من دنيانا ولحقه التَّعب الذي لو كان به مخلصا لاستحقّ ثوابه"1.
وبأروع بيانٍ وبأحسن تعبير تحدّثنا الآية الكريمة عن هذا الذي كان يتقرَّب إلى الله وهو يظنُّ أنّه يحسن العمل، ولكن واقعه كان على خلاف ذلك، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾2.
3- المقربون
يحدّثنا القرآن الكريم عن المقرّبين ويعرِّفهم بصفةٍ بارزة، يقول تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ﴾3.
فأيّ سبق هو الذي يحوز به الإنسان مقام القرب الإلهيّ؟ هل تدبّرت يوماً في هذه الآية؟ هل نظرت في أنّ بإمكانك أن تكون من هؤلاء؟ إنّ الطريق أمامك واضح، كن سبّاقا إلى الخير، تكن من المقرّبين. إنَّ هذا السبق هو السبق إلى مقام العبوديّة لله، بإخلاص الطاعة له، "ولا تكمل العبوديّة إلّا بأن يكون العبد تبَعا محضاً في إرادته وعمله لمولاه لا يريد ولا يعمل إلّا ما يريده، وهذا هو الدخول تحت ولاية الله فهؤلاء هم أولياء الله"4.
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج69 ص 301.
2- الكهف:104.
3- الواقعه:10الى14.
4- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج19 ص121.
52
45
دعاء اليوم الحادي عشر
دعاء اليوم الحادي عشر
"اللّهمَّ حبّب إليّ فيه الإحسان، وكرّه إلي فيه الفسوق والعصيان، وحرّم عليّ فيه السخط والنيران، بعونك يا غياث المستغيثين".
1- حب الإحسان
ينقسم الإحسان إلى قسمين:
أ- الإحسان إلى النفس، وذلك مقابل ظلم النفس، فطاعة الله عزَّ وجلَّ والالتزام بأوامره ونواهيه هو من الإحسان إلى النفس، وأمَّا ارتكاب المعاصي فهو ظلم وإساءة لهذه النفس، لأنّك تلحق بها الأذى والعذاب نتيجة ارتكاب هذه المعاصي.
والإحسان أيضا هو أن تأتي بالطاعة على وجهها تامَّة غير ناقصة، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: "إذا أحسن المؤمن عمله
53
46
دعاء اليوم الحادي عشر
ضاعف الله عمله بكلِّ حسنةٍ سبعمائة... فقلت له: وما الإحسان؟ قال: فقال: إذا صليَّت فأحسن ركوعك وسجودك، وإذا صُمت فتوقَّ كلَّ ما فيه فساد صومك... وكلُّ عملٍ تعمله لله فليكن نقيّاً من الدَنس1
ب- الإحسان إلى الغير، وذلك مقابل ظلم الغير وحرمانه، قال تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾2.
يتجلّى الإحسان إلى الغير بمظاهر عديدة لا ترتبط فقط بالمسائل المادّية من الإنفاق وقضاء الحوائج وإن كانت هي أبرز نماذجها، فالمعاملة مع الناس، من البدء بتحيَّتهم وطريقة تحيَّتهم إلى آخر ما يمكن أن يكون فيه إظهار المودّة لهم هو من مصاديق الإحسان.
إنَّ فوائد الإحسان تظهر في الدنيا والآخرة، فهذه الآية تحدّثنا عن فائدة الإحسان على مستوى علاقة الإنسان بالله والتي تتمثَّل بحبّ الله للإنسان المُحسن.
وأمَّا الفوائد الدنيويَّة فقد وردت الروايات بها ونتعرّض هنا لبعضها:
محبَّة الناس: عن الإمام علي عليه السلام: "من أحسن إلى الناس استدام منهم المحبّة"3.
رفع العداوة والخصومة: عن الإمام علي عليه السلام: "الإحسان إلى المسيء يستصلح العدوّ"4.
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج68 ص 248.
2- البقرة:195.
3- عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - ص 440.
4- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج1 ص 641.
54
47
دعاء اليوم الحادي عشر
2- كره المعصية
هل تشعر بالذنب عند ارتكابك معصية ما؟ أو أنَّ المسألة تمرّ ولا يؤنِّبك ضميرك على ما فعلت؟ إنّه علامة الإيمان. فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إنَّ المؤمن ليرى ذنبه كأنَّه تحت صخرة يَخاف أن تقع عليه، والكافر يرى ذنبه كأنّه ذبابٌ مرَّ على أنفه"1.
إنَّ ما يوجب كره المعصية عند الإنسان هو أن يذهب بتفكيره إلى من يعصي. إنَّك بمعصيتك لا تُسيء إلى إنسان مثلك ذي قدرةٍ محدودة، وعلمٍ محدود، بل إنَّك تُسيء إلى ربِّك صاحب النِعَم والأيادي عليك، والعالم بكلِّ ذنب اقترفته وبالسبَّب الذي جعلك ترتكبه.
إنَّ الذي يرتكب المعصية ولا يبالي، يقع في ذنبٍ أكبر من ارتكابه للمعصية، لأنَّه يظنُّ في نفسه الأمن من مكر الله، وهو من كبائر الذنوب فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام لمّا سُئل عن أكبر الكبائر فقال: "الأمن من مكر الله، والأياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله"2.
3- الحذر من الغضب الإلهي
إنَّ أعظم المخاطر التي تُحدق بهذا الإنسان فتقضي عليه في الدنيا والآخرة، أن يصل إلى درجةٍ يكون محلاً للغضب الإلهيّ، لأنَّ ذلك يعني أن يقع على الطرف المقابل تماماً لما هو المطلوب، إنَّ
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج74 ص 77.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج2 ص 545.
55
48
دعاء اليوم الحادي عشر
سعي المؤمن وجهده إنّما هو للوصول إلى مقام الرضا الإلهي، فإذا وصل الإنسان إلى مقام سخط الله، فقد أصبح في الطرف المقابل تماماً للمطلوب من الإنسان الوصول إليه.
إنَّ الطريق الذي يُمكن من خلاله الأمن من الغضب الإلهيّ، أن تحذر من أن تقع في الغضب، لأنّ الغضب يجرّ إلى ظلمِ الناس، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله لمّا سأله رجل: أحبُّ أن أكون آمنا من غضب الله وسخطه: "لا تغضب على أحد تأمن غضب الله وسخطه"1.
إنّ أعظم قومٍ استحقَّوا الغضب الإلهيّ هم اليهود، وذلك لظلمهم الناس ومعصيتهم لله عزَّ وجلَّ رغم النِعَم المتتالية عليهم. قال تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾2.
فهذا الظلم الذي مارسه بنو إسرائيل ولا زالوا يمارسونه إلى الآن يوجب حلول الغضب الإلهيّ عليهم.
إنَّ الغضب الإلهي هو ما تدعو الله أن يأمَنك منه في كلِّ يوم في صلاتك حيث تقرأ فاتحة الكتاب فتقول: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾.
فهل فكَّرت يوماً كيف يُمكنك أن تكون في مأمن فعلا من أن تكون من المغضوب عليهم؟
1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج3 ص 2268.
2- البقرة:61.
56
49
دعاء اليوم الثاني عشر
دعاء اليوم الثاني عشر
"اللّهمَّ زيّني فيه بالستر والعفاف واسترني بلباس القنوع والكفاف واحملني فيه على العدل والإنصاف وآمنّي فيه من كل ما أخاف، بعصمتك يا عصمة الخائفين".
إنّ أجمل الخصال التي يتحلّى بها الإنسان المؤمن هي: العفاف، والكفاف، والانصاف، وهذا ما تعرض له هذا الدعاء.
1- العفاف
العفاف هو الامتناع، فالشخص العفيف هو الشخص الذي يَميل ويرغب في الشيء، ولكنَّه وبقوّة إرادته يمتنع عنه فيكون قد عفّ عنه.
وقد ورد في الآداب الإسلاميَّة الحثُّ على العفاف وذلك من ناحيتين:
57
50
دعاء اليوم الثاني عشر
أ- الكفُّ عن الحرام
فإنَّ الإنسان الذي يصبر على شهواته، فلا يدعها تسير به إلى حيث لا يرضى الله عزَّ وجلَّ، هو الذي يكون عفيفاً، وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام لرجل قال له: "إنّي ضعيف العمل قليل الصيام، ولكنّي أرجو أن لا آكل إلّا حلالاً، قال عليه السلام: أيّ الاجتهاد أفضل من عفّة بطن وفرج؟!"1.
فيا أيّها الصائم الذي يحرم نفسه ويُعفّها عن الطعام والشراب، امتثالا لأمر الله عزَّ وجلَّ، اغتنم فرصة هذا الشهر الكريم، لتجعل نفسك أقوى على أن تعفّ عن المعاصي كلّها في هذا الشهر، لترتقي به لتصبح عفيفاً في باقي الشهور أيضاً.
ب- الاستغناء عن الناس
قال تعالى: ﴿لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾2.
إنَّه العفاف الذي يمنع الإنسان من سؤال الناس مهما بلغت به الحاجة، حتَّى أنّ الناس لا تظنّ أنّه يعاني الفقر، أو أنّه بحاجة إلى الناس، إنَّه شخص أكرم نفسه عن أن تتعلَّق بغير الله، ولذا كان من الأشراف على الرغم من فقره، وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام قوله: "عليك بالعفاف، فإنّه أفضل شيم الأشراف"3.
1- الكافي - الشيخ الكليني - ج2 ص 79.
2- البقرة:273.
3- جامع أحاديث الشيعه - السيد البروجردي - ج14 ص 277.
58
51
دعاء اليوم الثاني عشر
إنَّ السبب الذي يُوصل الإنسان إلى هذا العفاف مضافاً إلى معرفة قدر نفسه، واحترامه لها، أن يكون قنوعاً بما قسم الله له من الرزق، وأن لا يتعلَّق بأحدٍ غير الله عزَّ وجلَّ، ولذا ورد في الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "من قنُعتْ نفسُه أعانته على النزاهة والعفاف"1.
2- القناعة والكفاف
إنّ أفضل تعبيرٍ عن أهميَّة القناعة هو الذي ورد في هذا الدعاء، حيث عبّر عن القناعة بأنَّها ستر لهذا الإنسان، لأنَّه مهما بلغت به الحاجة، فإن اقتنع بما لديه، فلن يمدّ يده إلى الحرام، كما أنَّه لن يمدّ يده إلى الناس طالباً ومحتاجاً.
إنَّ ثلاث خصالٍ وردت في هذا الدعاء هي (العفاف، القناعة والكفاف) هي من علامة حبِّ الله للإنسان، فإنَّ الله يهبها لمن يحبّه، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أحبّ الله تعالى عبداً ألهمه الطاعة، وألزمه القناعة، وفقهّه في الدّين، وقوّاه باليقين، فاكتفى بالكفاف، واكتسى بالعفاف"2.
3- العدل والإنصاف
العدل والإنصاف معنيان مترادفان، إنّه إعطاء كلِّ ذي حقٍ حقَّه، فلا تحرم أحداً حقَّاً في يدك، ولا يرتبط ذلك بالأموال أو المادّيات فقط، بل حتّى ما يستحقَّه من الإكرام والتعظيم.
1- جامع أحاديث الشيعه - السيد البروجردي - ج8 ص 465.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج100 ص 26.
56
52
دعاء اليوم الثاني عشر
إنَّ أفضلَ علاجٍ تتمكَّن من خلاله من مراعاة حقوق الآخرين هو أن تضع نفسك مكان غيرك، فتنظر هل تحبُّ أن يظلمك الآخرون، أو أن يكون حقَّك مهضوما؟! لا شكّ في أنَّ النفس تأبى ذلك، فعليك أن تأبى لغيرك ما تأباه لنفسك.
إنَّ العاقل هو الذي يسلك هذا السبيل، فقد ورد في الرواية عن الإمام الجواد عليه السلام: "حسب المرء... من عقله إنصافه من نفسه... ومن إنصافه قبوله الحقَّ إذا بان له"1.
كما أنّ الإنصاف يصبح أكثر أهميّة وأكثر إكراماً للإنسان إذا كان عن مقدرةٍ، ففي الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "زكاة القدرة الإنصاف"2.
وللإنصاف آثار على حياة الإنسان في هذه الدنيا وردت بها الروايات، كالإلفة بين الناس، لأنّ الناس تميل إلى من يُراعي حقها، واستدامة المحبَّة، فإنّ المحبَّ لك يدوم حبّه متى شهد منك إحقاقك لحقّه. ودوام القدرة، فإنَّ الله لا يدع الظالم غير المنصف للناس على حاله من القوّة والقدرة، بل بالعدل يكون دوام السلطان.
نعم، علينا أن نعلمَ أنَّ فوق الإنصاف مرتبةٌ أخرى هي الإيثار، وأنَّ على الإنسان أن يكون من المؤثرين على أنفسهم حتَّى وإن كان يعيش الحاجة، كما نزلت الآية بحقّ أهل بيت العصمة والطهارة ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾3.
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج75 ص 80.
2- عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - ص 275.
3- الحشر:9.
60
53
دعاء اليوم الثالث عشر
دعاء اليوم الثالث عشر
"اللّهمَّ طهّرني فيه من الدنس والأقذار، وصبّرني فيه على كائنات الأقدار1، ووفّقني فيه للتقى وصحبة الأبرار، بعونك يا قرّة عين المساكين".
تتحدَّث مفردات هذا الدعاء عن بعض الأخلاق المعنويّة التي ينبغي على المؤمن الذي يسعى إلى لقاء ربّه أن يتحلّى بها: الطهارة، الصبر، ولا يحصلان بحقّهما إلّا عندما يشعر برضا وقرَّة عين الله سبحانه.
1- الطهارة المعنوية
يستقذر طبعك أيّها الإنسان من القذارات المادّية، فتشمئز نفسك بمجرّد أن تتصوّرها في ذهنك، ولكن هل يحدث ذلك معك في القذارات المعنويّة.
1- كائنات الأقدار: البلاءات المكتوبة والمقدرة على الإنسان.
61
54
دعاء اليوم الثالث عشر
يصف هذا الدعاء الذنب بالرجس والدَنَس، وذلك لأنّ هذا الذنب يُفسد العمل الذي يأتي به الإنسان، فالعمل الصالح يُصبح هباءً منثوراً لما يتّبِعَه من الذنب، إنَّنا نستطيع أن نشبّه هذا الذي يعمل الصالحات ثمَّ يُتبعها بالذنوب بمن يغتسل بماء صافٍ طاهرٍ زُلال، ثمَّ يدخل إلى مكان مليء بالأوساخ والقذارات، فلا ينفعه غسله ذاك، ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إن لله ملكاً ينادي على بيت المقدس كلَّ ليلةٍ: من أكل حراماً لم يقبلِ اللهُ منه صرفاً ولا عدلاً، والصرفُ: النافلة، والعدلُ: الفريضة"1.
إنّ أبرز صفةٍ وصف الله عزَّ وجلَّ بها أهل بيت نبيّه عليهم السلام بأنّهم مطهّرون من الذنوب، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا﴾2، فما هو هذا الرجس الذي أذهبه الله عنهم، إنّه العقيدة الباطلة والعمل السيّء، أي الذنب، ولذا كانت هذه الآية من أدلّة عصمة أهل البيت عليهم السلام.
إنّ الواجبات والمستحبَّات هي من أسباب التطهير، لأنّها تغسل ذنوب العباد، ولا سيّما منها الإنفاق في سبيل الله تعالى، قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾3.
1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج3 ص1803.
2- الأحزاب:33.
3- التوبة:103.
62
55
دعاء اليوم الثالث عشر
2- الصبر على المصائب
كتب الله عزَّ وجلَّ على الإنسان في هذه الدنيا أن يُبتلى بالمصائب في النفس والأهل والمال والولد، وهذه المصائب منها ما يكون من الإنسان نفسه، فهو الذي يُوقع نفسه بها، ومنها ما يكون من الله اختباراً له ولمعرفة مدى إيمانه وثباته على الحقّ.
ولكن كيف نتعامل مع هذا القدَر الذي يُصيبنا بنحوٍ نضمن به النجاح والفلاح، إنَّه الرضا بما قسمه الله لك، فلا تخرج عن الطاعة إلى المعصية، وهذا هو معنى الصبر على البلاء.
في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "علامة الصابر في ثلاث: أوّلها أن لا يكسل، والثانية أن لا يضجر، والثالثة أن لا يشكو من ربه تعالى، لأنّه إذا كسل فقد ضيَّع الحقّ، وإذا ضجر لم يؤدِّ الشكر، وإذا شكا من ربِّه عزَّ وجلَّ فقد عصاه"1.
يكفي أن تتأمَّل أيَّها الإنسان بأنَّك لو خرجت عن الصبر على البلاء، فإنّ ذلك لن يُغيّر شيئاً ممّا أنت عليه، فلن يرفع عنك ما ابتليت به، بل سوف تزداد خسارةً، فتخسر الدنيا والآخرة، وهذا ما أشارت إليه الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور"2.
3- الله عز وجل قرة عين المساكين
إنَّ غرق هذا الإنسان بالمادّيات يجعله لا يرى في أيّ كلمةٍ يسمعها إلّا الأمور المادّية، فإذا سمع كلمة (المساكين) تصوّر من ذلك
1- علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج2 ص498.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج3 ص261.
63
56
دعاء اليوم الثالث عشر
الفقير الذي لا يملك شيئا، فيَستعطي الناس.
ولكنَّ هذا الإنسان ينسى نفسه، وأنّه لا يملك شيئا أمام ربِّ السموات والأرض، وأنّه مسكينٌ بأشدِّ أنواع المسكنة، بل إنَّ حاجته إلى الله عزَّ وجلَّ لا يُمكن أن تقاس بحاجة المسكين إلى المال ليأكل ويشرب.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾1.
فأنت أيّها الإنسان مهما عمّرت في هذه الدنيا، ومهما جمعت من الأموال، وأصبحت الناس كلَّها تنقاد إليك، وأنت في غنىً عن الناس جميعاً، ولكن عليك أن تردِّد دائماً هذه العبارة الواردة في دعاء كميل: "أنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين".
إنَّ أعظمَ مسكنةٍ هي عندما تقف بين يدي جبّار السموات والأرض في يوم الحساب، تبحث عما تستر به وجهك وأنت الخطّاء، وفي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "أتدرون ما المفلس؟ فقيل: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع له، فقال: المفلس من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ ويأتي قد شتَمَ وقذَفَ هذا، وأكلَ مال هذا، وسفكَ دم هذا، وضربَ هذا، فيُعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار"2 "بل قد يقال: إن المفلس حقيقة هو هذا"3.
إنّه من لم يتزوَّد ليوم القيامة، فيأتي خالي الوفاض، لا يرى أمامه من مفرٍ سوى العذاب الإلهيّ الأبديّ.
1- فاطر:15.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج69 ص6.
3- م.ن، عبارة العلامة المجلسي قدس سره.
64
57
دعاء اليوم الرابع عشر
دعاء اليوم الرابع عشر
"اللّهمَّ لا تؤاخذني فيه بالعثرات، وأقلني فيه من الخطايا والهفوات، ولا تجعلني فيه غرضا للبلايا والآفات، بعزّتك يا عزّ المسلمين".
لا بدَّ للإنسان من أن يلجأ إلى الله عزَّ وجلَّ، فيدعوه بما يتعلّق بدنياه وآخرته، وهذا ما تتحدّث عنه فقرات هذا الدعاء.
1- العثرات والمغفرة
إنَّ من أعظم ما يمكن أن يتدارك به الإنسان ما يرتكبه من الذنوب أن يُقرَّ بهذه الذنوب إلى الله عزَّ وجلَّ، معترفاً له بخطئه وبأنَّ مغفرتها بيده وحده.
65
58
دعاء اليوم الرابع عشر
ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "والله ما خرج عبد من الذنب الا بالإقرار"1.
إنَّ ما تضمَّنه هذا الدعاء يُشير إلى أمرٍ تربويّ مهمٍّ وهو أنَّ الإنسان في إقراره بالذنب، يعترف أنَّ هذا الذنب صدر منه غفلةً وهفوةً، وأنَّه غير قاصدٍ إطلاقاً للتجرّؤ على الله عزَّ وجلَّ، ولهذا نلجأ إلى الله عزَّ وجلَّ في الإعتراف بالذنب بلسانٍ خاص: "إلهي! لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيّتك جاحد ولا بأمرك مستخفٍّ ولا لعقوبتك متعرّض ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت وسوَّلت لي نفسي وغلبني هواي وأعانتني عليها شقوتي وغرَّني سترك المرخى عليّ"2.
إنّ فائدة الإقرار وكما ذكر علماؤنا الأجلاء تتلخّص في أمور:
أ- الإنقطاع إلى الله، فإنَّ الإنسان إنَّما يُقرّ متى لم يجد حيلة ولا سبيلاً للخلاص من ذنب اقترفه إلّا الإعتراف به، أو إذا أنّبه ضميره فعلم أنَّ عليه أن يعترف. فكذلك حال المقرّ بالذنب إلى الله، فإنّه يعلم أنَّ بيده العفو والمغفرة، وأنَّ الإنكار لا ينفعه.
ففي دعاء السحَر للإمام زين العابدين عليه السلام: "... فقد عصيتك وخالفتك بجُهدي، فالآن من عذابك من يستنقذني ومن أيدي الخصماء غداً من يخلِّصني وبحبل من أتَّصل إن أنت قطعت حبلك عنّي"3.
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج90 ص318.
2- الصحيفة السجادية - ص224.
3- م.ن
66
59
دعاء اليوم الرابع عشر
ب- انكسار القلب، فإنَّ الذي يعترف بلسانه بما فعله من ذنب، قد انكسر قلبه لمن يقرّ أمامه، ولولا انكسار القلب هذا لما أقدم على الاعتراف والإقرار.
ج- الإقرار وسيلة لمغفرة الذنب، فنحن نشاهد اليوم كيف يشكِّل الاعتراف في المحاكم المدنيَّة سبباً لتخفيف العقاب عن المقِرّ والمعترف، فالاعتراف أمام الله بالذنب هو أيضاً وسيلة لذلك، وهذا ما ورد به دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام في السحر: "إلهي كأنّي بنفسي واقفة بين يديك، وقد أظلّها حسن توكّلي عليك، ففعلت ما أنت أهله، وتغمَّدتني بعفوك، إلهي فإن عفوت فمن أولى منك بذلك؟ وإن كان قد دنا أجلي ولم يدنني منك عملي فقد جعلت الاقرار بالذنب إليك وسيلتي"1.
2- الاستعاذة بالله من البلاء
إنَّ هذا الإنسان في هذه الدنيا هو في معرَض الابتلاء والمصائب على الدوام، ولذا نقرأ في كلمات الإمام علي عليه السلام وهو يصف حال الإنسان في هذه الدنيا: "المؤمِّل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام ورهينة الأيام. ورميّة المصائب. وعبد الدنيا. وتاجر الغرور. وغريم المنايا. وأسير الموت. وحليف الهموم. وقرين الأحزان. ونصب الآفات. وصريع الشهوات، وخليفة الأموات"2.
1- إقبال الأعمال - السيد ابن طاووس - ج3 ص296.
2- نهج البلاغة، وصية الإمام لولده الإمام الحسن عليه السلام.
67
60
دعاء اليوم الرابع عشر
إنَّ التأمل في كلمات الإمام هذه ترشدنا إلى حالة هذا الإنسان في هذه الدنيا، تتقاذفه البلاءات فيُصبح غرضاً لها، فهو إمّا أن يعيش أملاً كبيراً لا يستطيع أن يُدركه مهما بذل من جهد، لأنّ الدنيا محدودة دائماً، ومصيرها الفناء والزوال، وإمّا يسير على ما سار عليه من سبقه وهو يرى أنَّهم أصبحوا هلكى لا أثر لهم ولا حول لهم. وهو إمّا أن يكون مبتلى بأنواع الأمراض لا يشفى منها، وإن شفي من مرض ابتلي بآخر، وإن سلم من المرض فهو رهينة للأيام، لا يعلم ما يخبِّئ له غده، فالأيام هي التي تحكم عليه، والمصائب تتوالى عليه، فكأنها جعلته هدفا تصوّب إليه سهامها.
وأصعب البلاءات هو البلاء الذي لا يلاحظه الإنسان، إنَّه معصية الله، وعبادة الدنيا، هذا الذي يقدّم مصالح دنياه على مصالح آخرته، فهو يَدخل في تجارة خاسرة، وكيف لا تكون خاسرة وهو يدفع ثمناً كبيراً هو الجنّة وما فيها من نعيمٍ مقيمٍ، لأجل متاع الدنيا الذي يصفه القرآن بأنّه غرور.
نعم على الإنسان أن يدعو الله على أن يُسلَّمه من البلاء، ولكن أيّ بلاء هذا الذي تستعيذ بالله منه، إنّه البلاء الذي يَخرج بك عن طاعة الله، يُروى عن أبي ذر رضوان الله عليه أنّه قال: "ثلاثة يبغضها الناس وأنا أحبّها: أحبّ الموت، وأحبّ الفقر، وأحبّ البلاء: هذا ليس على ما يروون، إنَّما عنى: الموت في طاعة الله أحبّ إلي من الحياة في معصية الله، والفقر في طاعة الله أحبّ إليّ من الغنى في معصية الله، والبلاء في طاعة الله أحبّ
68
61
دعاء اليوم الرابع عشر
إليَّ من الصحة في معصية الله"1.
إنّ من الآفات التي عليك أن تستعيذ بالله منها، وتسأل الله أن يبعدها عنك، آفة حبّ الهوى، الذي يدفعك إلى ارتكاب المعاصي، وهو الذي ورد في الروايات أنّه آفة الدّين.
إنَّ كلَّ صفةٍ من الصفات الحميدة، وكلَّ خُلُقٍ من الأخلاق الحسنة، له آفة، إذا أُصيب الإنسان بتلك الآفة، انقلب من محاسن الأخلاق إلى مساوئها، ومن التحلّي بتلك الصفات، إلى التخلّي عنها والابتلاء بالأمراض الخلقيّة، وهذا ما على الإنسان أن يلجأ إلى الله عزَّ وجلَّ ضارعاً إليه أن يرفعها عنه.
1- الكافي - الشيخ الكليني - ج8 ص222.
69
62
دعاء اليوم الخامس عشر
دعاء اليوم الخامس عشر
"اللّهمَّ ارزقني فيه طاعة الخاشعين، واشرح فيه صدري بإنابة المخبتين1 بأمانك يا أمان الخائفين".
تتحدّث فقرات هذا الدعاء عن حالتين من حالات القلب، لا بدّ وأن يتحلّى بهما الإنسان المؤمن الذي يطلب رضا الله عزَّ وجلَّ: طاعة الخاشعين، وإنابة المخبتين.
1- طاعة الخاشعين
الخشوع هو الخضوع الذي يترافق مع الاعتقاد بأنَّ من تخشع له أعظمُ منك، والخشوع هو فعل من أفعال القلب، فالخشوع يكون أساساً في القلب، نعم هذا الخشوع متى تحقَّق في القلب كان له
1- المخبتين: الخاشعين.
71
63
دعاء اليوم الخامس عشر
آثار على عمل الإنسان وعلى جوانحه، ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "ليخشع لله سبحانه قلبك، فمن خشع قلبه خشعت جميع جوارحه"1.
أنْ تتَّجه إلى الله عزَّ وجلَّ لتطلب منه أن يرزقك طاعة الخاشعين، فهذا يعني أنّ كلَّ طاعة يأتي بها الإنسان من غير المعلوم كونها تصدر من قلب هذا الإنسان ونتيجةً لإيمانه بالله، بل إنَّ من الطاعات ما يكون مجرّد فعلٍ في الخارج، فارغٍ من المحتوى والمضمون.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله بيان صلاة الخاشعين بقوله: "التواضع في الصلاة، وأن يقبل العبد بقلبه كلّه على ربّه عزَّ وجلَّ، إذا هو أتمَّ ركوعها وسجودها وأتمَّ سهامها صعدت إلى السماء لها نور يتلألأ، وفُتحت أبواب السماء لها، وتقول حافظت على حفظك الله، فتقول الملائكة: صلّى الله على صاحب هذه الصلاة، وإذا لم يتمَّ سهامها صعدت ولها ظلمة وغلّقت أبواب السماء دونها وتقول ضيَّعتني ضيَّعك الله، ويضرب الله بها وجهه"2.
ومن المخاطر التي تُحدق بالإنسان العابد المطيع لله، وهي من المكائد التي يضعها الشيطان أمام هذا الإنسان، أن يظنَّ أن الخشوع لله هو بممارسة بعض الحركات بهذا الجسد، فيعمد إلى إظهار ذلك وهو لم ينل شيئاً من حظِّه في الخشوع بقلبه، فهذا المرض هو من أمراض النفاق، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إيَّاكم وتخشّع النفاق، وهو أن يُرى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع"3.
1- عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - ص 405.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج81 ص265.
3- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج1 ص 745.
72
64
دعاء اليوم الخامس عشر
إنَّ ما يُقابل الخشوع هو أن يُبتلى الإنسان بقسوة القلب، فيؤدّي العبادة خاليةً عن الروح والمعنى، وهو يسعى لأن ينال مقام القرب الإلهيّ، مع أنّ ذلك يتوقَّف على مدى تعلّق هذا القلب بالله عزَّ وجلَّ.
2- إنابة المخبتين
الإنابة هي الرجوع، ورجوع الإنسان إنَّما يكون بالتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، والتوبة هي الباب الذي يمكن للإنسان من خلاله أن يعود به إلى الله عزَّ وجلَّ.
ولكن كيف تكون التوبة والإنابة والرجوع إلى الله عزَّ وجلَّ؟
إنّ بالإمكان تصوّر ذلك على نمطين:
الأوّل، شخصٌ يتوب إلى الله ويرجع إليه، فيُقلع عن ارتكاب الذنوب والآثام، ويلتزم بالطاعات، ولكنّ ذلك لا يكون منه مع إقبال القلب إلى الله عزَّ وجلَّ، كما هو حال كثيرٍ من الناس إذا تقدّم بهم العمر، فإنَّهم يزهدون في هذه الدنيا لا لأنَّ قلبهم قد تخلّى عن التعلّق بها، بل لأنَّهم علموا بقرب مغادرتهم لها وخروجهم منها، فهي قد تخلّت عنهم وخرجت منهم، وليس العكس.
والنمط الثاني، شخص يتوب إلى الله، لأنَّه علم بقلبه أنَّ الأمور كلَّها بيد الله، وأنّ رضا الله عزَّ وجلَّ هو الفوز العظيم، وأنَّ الشرك به وطاعة غيره ظلمٌ عظيم. وهذا هو المعنى المراد من الدعاء، فأنت تدعو الله أن يرزقك توبةً، ولكنّها توبة الخاشعين المخبِتين الخاضعين لإرادة الله.
ونقرأ في زيارة أمين الله الدعاء التالي: "اللّهمَّ إنَّ قلوب المخبِتين
73
65
دعاء اليوم الخامس عشر
إليك والهة، وسبل الراغبين إليك شارعة".
إنّ هؤلاء المخبِتين أصيبوا بالوله "العشق المفرط" بالله عزَّ وجلَّ، فهم في إقبالهم إلى الله يُقبلون بقلوبٍ تعشق الله ولا ترى عشقا وحباً لغير الله عزَّ وجلَّ.
إنّ هذا لا يتحقَّق للإنسان إلّا متى انشرح صدره للحقّ، واستطاع أن يُدرك الحق تماماً.
بل تعالَ معي أيَّها المؤمن الصائم لنقرأ كيف يصفُ القرآن هؤلاء المخبِتين قال تعالى: ﴿وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾1.
إذا هذه صفات أربع، صفتان منها ترتبطان بالباطن وهي: الوجل (الخوف الشديد) والصبر، وصفتان ترتبطان بالظاهر وهي: إقامة الصلاة، والإنفاق في سبيل الله.
بل يجعل القرآن الكريم حقيقة الإيمان مرتبطة بهذا الوجل من الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾2.
فهذا الوجَل هو قوام الإيمان الحقيقيّ، وهذا الخوف لا يتحقَّق من الإنسان إلّا مع حالة اليقين التي يعيشها الإنسان والتي ترجع إلى أنّ
1- الحج:35.
2- الأنفال:4،3،2.
74
66
دعاء اليوم الخامس عشر
الله عزَّ وجلَّ هو المدبِّر الوحيد الذي بيده أمور الكون كلها، فينبغي أن يتعلَّق قلب الإنسان به فقط دون غيره.
ولذا يتوقَّف ذلك أن ينشرح صدر هذا الإنسان لهذه الحقيقة، ويتلقّاها دون شك أو ريبٍ.
75
67
دعاء اليوم السادس عشر
دعاء اليوم السادس عشر
"اللّهمَّ وفّقني فيه لموافقة الأبرار، وجنّبني فيه مرافقة الأشرار وآوني فيه برحمتك إلى دار القرار بإلهيّتك يا إله العالمين".
إنَّ المحيط الذي يعيش فيه الإنسان له تأثيره على فعل الإنسان واقترابه من الطاعات وابتعاده من المعصيات، ولذا كانت الهداية توفيقاً إلهيّا يرتبط بالظروف المحيطة بالإنسان. ونحن سنتعرض لأمرين أشار لهما الدعاء، هما على طرفي النقييض: موافقة الأبرار ومرافقة الأشرار.
1- موافقة الأبرار
كما يكون البرُّ بالوالدين من خلال الالتزام بالطاعة لهما، وعدم فعل ما يؤذيهما، فإنّ الطاعة لله عزَّ وجلَّ تكون أيضاً بالالتزام بالطاعة
77
68
دعاء اليوم السادس عشر
لله. فالأبرار هم الذين التزموا طاعة الله عزَّ وجلَّ، وابتعدوا عن كلِّ ما يسخطه سبحانه عزَّ وجلَّ، والموافق للأبرار هو الذي يشبَههم في هذه الصفة.
فمن هم هؤلاء الأبرار الذين يتمنّى الإنسان موافقة عملهم لعمله؟ لو رجعنا إلى كتاب الله لوجدنا أنَّ الأبرار هم عبارة عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، قال تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً *عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً﴾1.
لنتأمل قليلاً في هذه الصفات التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ للأبرار وهي التالية:
أ- الالتزام بما عاهدوا الله عليه (يوفون بالنذر)، والإنسان متى آمن بالله، وآمن بالنبيّ، فإنَّه قد عاهد الله والنبيّ على الطاعة له، فهم لا يرتكبون معصية.
ب- الخوف الدائم، إنّها حالة الخوف التي على الإنسان أن يعيشها، وهذا الخوف هو الخوف من عذاب يوم القيامة وما فيه من عذاب، لا يمكن مقايسته بعذاب الدنيا.
ج- الفعل حبّاً لله، إنَّ الفعل عندما يصدر منهم، يكون نابعاً من صفة في قلبهم هي صفة الحبّ لله.
1- الإنسان:5-9.
78
69
دعاء اليوم السادس عشر
د- الإتيان بالفعل لوجه الله، فهم لا يطلبون جزاء دنيويّاً من أحد، بل يريدون الله عزَّ وجلَّ بما يُقدِمون عليه من عمل.
إذا كانت هذه هي الصفة الحقيقيّة للعمل الذي يأتي به الأبرار، وأنت أيّها المؤمن الطالب لرضا الله، تسعى لموافقة الأبرار، فإنّ عليك أن تسعى للإتيان بالطاعات التي يلتزم بها الأبرار، وأن تسعى لتأتي بهذه الطاعات على النحو الذي يأتي به الأبرار.
فتشهّدوا إنْ لم تكونوا مثلهم إنّ التـشـبّـه بـالكـرام فـلاحُ
إذاً، موافقة الأبرار كما تكون في أصل الإتيان بالعمل من طاعة، واجتناب السيئة، تكون في كيفيّة الإتيان بالعمل، فتأتي به مع الخوف الدائم، والشعور بحبِّ الله، ولا تطلب من غير الله جزاءً على عملك الذي قمت به، فإذا اجتمعت هذه الأمور كنت موافقاً للأبرار.
2- مرافقة الأشرار
إنَّها العشرة التي تؤثِّر على حياة هذا الإنسان فتجعله من الأخيار أو من الأشرار، ولذا ورد التحذير الشديد من اختيار رفقة السوء، والحثّ على حُسن اختيار الأصدقاء.
ولكن كيف صوّر لنا القرآن صورة الإنسان عند عشرة الأشرار أو قرناء السوء؟ بدايةً يعتبر القرآن الفاعل للمعاصي قريناً للشيطان، فهو شخص قد صاحب الشيطان ونتيجة لعشرته له خرج عن طاعة الله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ
79
70
دعاء اليوم السادس عشر
لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾1. إنَّ الإنسان الذي يُعرض عن الله عزَّ وجلَّ لا بدّ وأن يتّجه ناحية الشيطان، فيُصبح الشيطان قريناً له، وأكبر مساوئ هذه الصحبة أنَّ هذا الشيطان يصوّر لقرينه هذا أنّهم في خط الهداية وهو أبعد ما يكون عن ذلك.
إنَّ النتيجة التي تترتَّب على عشرة الشيطان أنْ يأتي اليوم الذي يُظهر فيه الندم، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾2.
وأمَّا الصورة المقابلة التي يحكيها القرآن فهو صورة من نجا من مرافقة الشيطان، ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَالله إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِي﴾3.
إنَّها قمَّة السعادة التي قد يصل إليها الإنسان، ولكن هذا الإنسان لا بدَّ وأن يتساءل وهو في غمرة سعادته عن سبب دخوله إلى هذا
1- الزخرف:36-37.
2- الزخرف:40-56.
3- الواقعة:40-56.
80
71
دعاء اليوم السادس عشر
النعيم، وعمّا وقع له في هذه الدنيا، فيتذكَّر أنَّ رفيق سوءٍ كاد أن يُرديه، ولولا الهداية الإلهيّة لكان معه في الجحيم.
إنَّ طاعة الله، كما تحتاج إلى نيّةٍ صافيةٍ، تحتاج إلى مواظبةٍ تامّةٍ وكاملة، ليأمَن من كافَّة شباك الانحراف التي قد ينصبها إبليس لهذا الإنسان.
81
72
دعاء اليوم السابع عشر
دعاء اليوم السابع عشر
"اللّهمَّ اهدني فيه لصالح الأعمال، واقض لي فيه الحوائج والآمال، يا من لا يحتاج إلى التفسير والسؤال، يا عالماً بما في صدور العالمين، صل على محمد وآله الطاهرين".
على الإنسان أن يسأل الله عزَّ وجلَّ في كلِّ حال، حتَّى في العمل الذي يأتي به فهو لا يعلم صالحه إلّا من الله، والإتّكال على الله لأنّ من أسمائه الحسنى العليم، فهو العليم بما في الصدور. ونتعرّض من خلال هذا الدعاء، لصالح الأعمال، والدعاء بطلب الحوائج.
1- صالح الأعمال
إنَّ العمل الصالح هو قوام الحياة الطيَّبة كما ورد في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
83
73
دعاء اليوم السابع عشر
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾1.
ولكن المشكلة التي قد يقع بها الإنسان هو متى جاء بعملٍ ما بإعتقاد أنّه عمل صالح، ولكنّه كان سيئاً، وهذا هو الذي يؤكِّد أهميّة الفقرة الأولى من هذا الدعاء، وذلك من خلال التوجّه إلى الله بطلب الهداية لصالح الأعمال.
يصف الله عزَّ وجلَّ من لا يوفق للعمل الصالح نتيجة جهله بأنّه الأخسر عملاً، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾2.
يتعرّض العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان لهذه الآية فيقول: "يخسر وهو يُذعن بأنّه يربح، ويتضرّر وهو يعتقد أنّه ينتفع، لا يرى غير ذلك، وهو أشدُّ الخسران لا رجاء لزواله. ثمّ الإنسان في حياته الدنيا لا شأن له إلّا السعي لسعادته ولا همَّ له فيما وراء ذلك فإن ركب طريق الحقّ وأصاب الغرض وهو حقّ السعادة فهو، وإن أخطأ الطريق وهو لا يعلم بخطئه فهو خاسر سعياً لكنّه مرجو النجاة، وإن أخطأ الطريق وأصاب غير الحقّ وسكن إليه فصار كلما لاح له لائح من الحقّ ضربت عليه نفسه بحجاب الإعراض وزيّنت له ما هو فيه من الاستكبار وعصبيّة الجاهليّة فهو أخسر عملاً وأخيب سعياً، لأنّه خسرانٌ لا يُرجى زواله ولا مطمع في أن يتبدّل يوماً سعادة"3.
إنَّ هذه الحجب التي تُصيب القلب نتيجة ارتكاب الذنوب تجعل
1- النحل:97.
2- الكهف:103- 104.
3- تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي - ج13 ص400.
84
74
دعاء اليوم السابع عشر
الإنسان بعيداً عن الحقّ للغاية، وطلب الهداية من الله كما يتوقّف على الدعاء، كذلك يتوقَّف على اجتناب المحرّمات والسيئات.
لقد دعا الإسلام إلى العلم والتعلَّم ومجالسة العلماء والتفكير وغير ذلك، وهو يرمي بهذا كلِّه لكي يدفع الإنسان لمعرفة العمل الصالح الذي ينفعه في آخرته. وبهذا نفسّر ما ورد من أنّ ركعة من عالمٍ بالله خير من ألف ركعَة من متجاهلٍ بالله.
2- الدعاء فى طلب الحوائج
لقد ورد الحثُّ الشديد في الآيات والروايات على الدعاء، وأنّه باب من الأبواب فتحه الله عزَّ وجلَّ لعباده.
وطلب الحوائج من الله لا يختصُّ بالأمور العظيمة أو الخطيرة التي تُحيط بهذا الإنسان بل حتَّى صغائر الأمور على الإنسان أن يتوسَّل إلى الله ليُنفّذها له، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "عليكم بالدعاء، فإنَّكم لا تقربون إلى الله بمثله، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إنّ صاحب الصغار هو صاحب الكبار"1.
والدعاء بابٌ من أبواب الارتباط بالله عزَّ وجلَّ، نعم أيّها الداعي! إنّ الله عزَّ وجلَّ بكلِّ شيءٍ محيطٍ فهو غنيّ عن التفسير والسؤال، ولكن هذا لا يمنع من الدعاء.
ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ جعل بعض الحوائج والمسائل مرتبطة بالدعاء فلا يكتبها للعبد إلّا إذا دعا الله بها، ولذا ورد في كلام أمير المؤمنين وصف الدعاء بأنّه مفتاح بيد العبد يصل من خلاله إلى خزائن الله عزَّ وجلَّ،
1- الكافي - الشيخ الكليني - ج2 ص467.
85
75
دعاء اليوم السابع عشر
وهل يمكن أن يصل إلى تلك الخزائن دون أن يتوسّل بهذا المفتاح؟!
يقول عليه السلام في وصيته لابنه الحسن عليه السلام: "اعلم أنَّ الذي بيده خزائن ملكوت الدنيا والآخرة قد أذن لدعائك، وتكفَّل لإجابتك، وأمرك أن تسأله ليُعطيك، وهو رحيمٌ كريم، لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يُلجِئك إلى من يشفع لك إليه... ثمَّ جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه".
والدعاء كما يكون باباً لقضاء حوائج الإنسان الدنيويّة فإنّه بابٌ للوصول إلى مقامات عُليا عند الله، فثواب الدعاء وغايته لا تنحصر بقضاء الحوائج الدنيويّة، بل للداعي منزلةٌ عند الله عزَّ وجلَّ، ففي الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله: "يدخل الجنّة رجلان كانا يعملان عملاً واحداً، فيرى أحدهما صاحبه فوقَه، فيقول: يا ربِّ بما أعطيته وكان عملُنا واحداً؟ فيقول الله تبارك وتعالى: سألني ولم تسألني"1.
إنّ هذا الشهر المبارك هو شهر التقرّب إلى الله عزَّ وجلَّ، وقد ورد الحثّ فيه على كثرة الدعاء، كما وردت أدعية خاصّة بأيّامه ولياليه، فاسع لتنال مقام القرب من الله عزَّ وجلَّ، عبر التوسل بهذه الأدعية.
نعم لا بدَّ للداعي من المحافظة على الآداب الخاصّة بالدعاء، معنويّةً كانت أو ظاهريّة شكليّة.
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج8 ص222.
86
76
دعاء اليوم الثامن عشر
دعاء اليوم الثامن عشر
"اللّهمَّ نبّهني فيه لبركات أسحاره، ونوّر فيه قلبي بحياء أنواره، وخذ بكل أعضائي إلى اتّباع آثاره، بنورك ما منوّر قلوب العارفين".
إنَّ للدعاء أوقاتاً، تكون القلوب فيه والهةً بذكر الله، وأفضل وقته السحَر، حيث التوجّه التامّ لله عزَّ وجلَّ. وبالسحر تتنوّر القلوب ويحصل الانقياد التام، وهذا ما تعرّض له هذا الدعاء.
1- السحر وقت اللجوء إلى الله
من الأوصاف التي وصف الله عزَّ وجلَّ بها المتّقين استغفارهم بالسحر، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
87
77
دعاء اليوم الثامن عشر
* وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾1.
إنّه الوقت الذي يقف فيه الإنسان خالصاً لله عزَّ وجلَّ، يَبتعد عن كلِّ ما يتعلّق بهذه الدنيا.
إنَّ العاشق والمحبّ إذا أحبَّ لقاء معشوقه ومحبوبه سعى للقائه في مكانٍ بعيد عن الناس ليُخلص له المحبَّة والمودَّة، فيا أيَّها العاشق للقاء الله عزَّ وجلَّ، إن أفضلَ وقت لتلتقي فيه بمحبوبك هذا هو أن تقوم في الليل لتناجيه وتحادثه، ولا ثالث معكما.
إنَّ لطلب الحاجة من الناس أوقاتاً محدَّدة، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ يسمع دعاء عبده المؤمن في جوف الليل المظلم، وهذا ما يصفه الإمام زين العابدين عليه السلام في الدعاء: "إلهي غارت نجوم سمائك ونامت عيون أنامك وهدأت أصوات عبادك وأنعامك وغلقت الملوك عليها أبوابها وطاف عليه حراسها واحتجبوا عمّن يسألهم حاجة أو ينتجع منهم فائدة وأنت إلهي حيّ قيّوم لا تأخذك سنة ولا نوم ولا يشغلك شيئ، أبواب سمائك لمن دعاك مفتّحات وخزائنك غير مغلّقات وأبواب رحمتك غير محجوبات"2.
2- نور القلوب
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ
1- الذاريات:15-18.
2- مصباح المتهجد - الشيخ الطوسي- ص132.
88
78
دعاء اليوم الثامن عشر
رَحِيمٌ﴾1.
إنّ الإنسان يسير في هذه الدنيا في طريقه إلى لقاء ربِّه، فقد يهتدي إلى الطريق، وقد يضلَّ هذا الطريق، والله عزَّ وجلَّ جعل للإنسان وسيلة يتمسّك بها ليسير في الطريق الصحيح إنّه النور الذي يُضيء له هذا الطريق، وتتحدَّث الآية الكريمة عن أنّ الوصول إلى هذا النور قوامه بأمرين هما: التقوى والإيمان.
ويحدِّثنا أمير المؤمنين عليه السلام عن السالك إلى الله وكيف يبدَأ العمل بإنارة الطريق أمامه إلى الله، يقول الإمام علي عليه السلام في وصف سالك الطريق إلى الله سبحانه: "قد أحيا عقله، وأمات نفسه، حتَّى دقَّ جليله، ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق، وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة"2.
إنّ المواظبة على العبادة، والإخلاص فيها يُنير الطريق لهذا الإنسان، وذلك بما يلقي الله عزَّ وجلَّ في قلبه من الهدى والحقّ.
إنَّ النور الحقيقي الذي يُمكنه أن يكون نافعاً لهذا الإنسان هو النور الذي يُحيط به من كلِّ جانبٍ، وهذا هو ما ورد في دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله: "اللّهمَّ اجعل لي في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي
1- الحديد:28.
2- نهج البلاغة، باب الخطب والكلمات، من كلام له رقم220.
89
79
دعاء اليوم الثامن عشر
نوراً، واجعل لي في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً"1.
فالنور الذي لا يكون محيطاً بالإنسان من كلِّ جانبٍ لن يجعله بأمانٍ من الضلال، إنَّ من كان نوره محدوداً هو كالذي يعمل صالحاً تارةً وطالحاً أُخرى، وأمَّا الإنسان المطيع لله على الدوام الذي لا يعصيه فهو الذي أحاط به النور من كلِّ جانب.
3- الانقياد التام لله عز وجل
إنَّ الفائدة التي تترتَّب على الإستغفار بالأسحار هي الوصول إلى النور الذي يُضيء أمام الإنسان طريق الهداية إلى الله عزَّ وجلَّ.
والفائدة التي تترتَّب على هذا النور هو أن ينقاد الإنسان فعلاً إلى أوامر الله، بأن تخضع جوارحه كلَّها لأوامر الله ونواهيه.
إنَّ للاعتقاد والعلم تأثيراً واضحاً على أفعال الإنسان، وكلَّما ازداد يقين الإنسان بشيء ازداد عمله بموجَب ذلك اليقين.
إنَّ الإنسان على يقينٍ من الموت، ومن لقاء الله والوقوف للحساب بين يديه، ولكنَّه لو وصل فعلا إلى حقيقة اليقين في ذلك لما أقدَم على ارتكاب معصيةٍ أو إثمٍ أو مخالفة.
1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج4 ص3388.
90
80
دعاء اليوم التاسع عشر
دعاء اليوم التاسع عشر
"اللّهمَّ وفّر فيه حظّي من بركاته وسهّل سبيلي إلى خيراته، ولا تحرمني قبول حسناته، يا هادياً إلى الحق المبين"
تُضفي فقرات هذا الدعاء للإنسان بُعداً في النظر إلى الأمور، عليه أن يعتمد عليها الإنسان في حياته التي يعيشها. منها البركة في البعد المادي، ومنها الحسنات في البعد المعنوي.
1- البركة
يلجأ الكثير من الفاشلين - سواء كان فشلهم على المستوى الدينيّ أو الدنيويّ - إلى تبرير هذا الفشل بكلمة واحدةٍ هي "الحظّ"، فيرى أنَّ الحظ هو سبب في السعادة والشقاء دنيويّاً أو أُخرويّاً.
91
81
دعاء اليوم التاسع عشر
ولكنَّ التعاليم الإسلامية ترفض هذا التبرير، كما ترفض هذا المنطق، فالكون كلُّه خاضعٌ لنظام الأسباب والمسببات، حتَّى هذا المسمّى في العرف "الحظّ" هو أيضاً له أسبابه التي لو سلكها الإنسان واتَّبعها لناله شيءٌ من هذا الحظّ.
ولذا نجد أنَّ هذا الدعاء يُرشدنا إلى تعليمٍ وهو أن يلجأ الإنسان إلى مالك الأسباب ليرجو منه أن يوفّر له حظَّه من ذلك. مضافاً إلى التمسّك بالسُبل التي تسهّل الوصول إلى الخيرات.
إنَّ البركة هي النماء والزيادة، ولها أسبابها التي وردت في الآيات القرآنيّة التعرّض لها، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾1.
تتحدَّث الآية عن سببين في نزول البركة أحدهما فعلٌ بالقلب والآخر فعلٌ بالجسد، أمَّا فعل القلب فهو الإيمان، وأمَّا فعل الجسد فهو التقوى، إذاً من يجمع الإيمان والعمل الصالح يكون مستحقاً لأن تناله البركة الإلهيّة.
وأمَّا الذي يفقد واحداً منهما فلا يكون مستحقاً لذلك، فالذي يفقد الإيمان سوف يفقد البركة في عمله إذا كان عاملاً، وكذلك لا تنزل البركة على المؤمن الذي لا يعمل.
نعم، لا بدَّ من أن لا نغترَّ بالمظاهر، فليس من يملك المال يكون قد نال البركة، فإنَّ من هذه الزيادة ما قد يكون من الحرام، فلا تكون
1- الأعراف:96.
92
82
دعاء اليوم التاسع عشر
فيها البركة، ففي الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام لأحد أصحابه: "إنَّ الحرام لا يُنمي، وإن نمى لا يُبارك له فيه، وما أنفقه لم يؤجر عليه، وما خلَّفه كان زاده إلى النار"1.
إنَّ النظرة الخاطئة تنشأ من القصور في التفكير، فهذا المال الذي يجمعه من الحرام، لن يكون خيراً له في آخرته، بل سوف ينقلب شراً وضرراً عليه، ولذا لو كان جامع هذا المال يُدرك حقيقة ما سوف يصل إليه بسبب هذا المال فلن يرَ فيه أيّ بركةٍ أو خير.
2- الحرمان من الحسنات
تتحدَّث هذه الفقرة من هذا الدعاء عن نوعٍ آخر من الحرمان، هذا النوع الذي يَغفل عنه كثيرٌ من الناس، إنَّه الحرمان من طاعة الله، واكتساب الحسنات. وهو أعظم أنواع الحرمان، لأنَّه حرمان من النعيم الأبدي، والثواب الخالد الذي لا يَفنى ولا يزول.
إنَّ الحرمان يزداد متى ازدادت الأبواب المفتوحة أمام هذا الإنسان لينال الخير والثواب فلا يُقدِم على اكتسابه ورفع حرمانه، وحيث كان شهر رمضان هو الشهر الذي تُفتح فيه أبواب الرحمة الإلهيّة فإنَّ الحرمان يزداد لمن لم يوفَّق ليدخل في هذه الأبواب، ولذا ورد في خطبة الرسول صلى الله عليه وآله في استقبال شهر رمضان: "الشقيّ من حرم غفران الله...".
والموجب لهذا الحرمان كما ورد في الروايات هو ارتكاب الذنوب،
1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج1 ص257.
93
83
دعاء اليوم التاسع عشر
ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: لرجل شكى عن حرمانه صلاة الليل: "أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك"1.
كما أنَّ من موجبات ذلك أيضاً التسويف والتأخير، فالإنسان يُدرك الفضل ويعلم أبواب الخير، ولكنَّه يلجأ إلى تأخير ذلك، وكأنه ضامن لنفسه أن يعيش حتَّى يناله، فيَصل إلى حدٍ يضيع منه ذلك وفي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "من سبب الحرمان التواني"2.
إنّ حالة التسويف هذه إذا ابتلي بها الإنسان أدَّت به إلى الحرمان، ورد عن الإمام عليّ عليه السلام فيما كتبه إلى بعض أصحابه: "فتدارك ما بقي من عمرك، ولا تقل: غداً وبعد غدٍ، فإنّما هلك من كان قبلك بإقامتهم على الأماني والتسويف، حتى أتاهم أمر الله بغتة وهم غافلون"3.
إنَّ أعظم الحرمان هو أن يملك الإنسان المال فيبخل به فلا ينفقه في طاعة الله عزَّ وجلَّ، فينتقل من هذه الدنيا إلى الآخرة، وقد بَطلت فائدة هذا المال، فلا ينفعه في آخرته، فحاله كمن يملك المال في هذه الدنيا ويحرم نفسه ما أباحه الله له، ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ العبد إذا مات قالت الملائكة: ما قدّم؟ وقال الناس: ما أخَّر؟ فقدِّموا فضلا يكن لكم، ولا تؤخِّروا كيلا يكون حسرةً عليكم، فإنَّ المحروم من حُرم خير ماله، والمغبوط من ثقل بالصدقات والخيرات موازينه4.
1- الكافي - الشيخ الكليني - ج2 ص450.
2- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج74 ص208.
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج2 ص136.
4- بحار الأنوار - العلامة المجلسي -ج74 ص383.
94
84
دعاء اليوم العشرين
دعاء اليوم العشرين
"اللّهمَّ افتح لي فيه أبواب الجنان، وأغلق عني فيه أبواب النيران، ووفّقني فيه لتلاوة القرآن، يا مُنزل السكينة في قلوب المؤمنين".
لشهر رمضان المبارك خصوصيَّاته الخاصّة، لأنّه الشهر المبارك الذي يفتح فيه الله عزَّ وجلَّ لعباده أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران.
1- أبواب الجنة
لقد تحدّث القرآن الكريم عن أنّ للجنة أبواباً، قال تعالى: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الأَبْوَابُ﴾1.
ولكن ما هي قصَّة هذه الأبواب؟
1- ص:50.
95
85
دعاء اليوم العشرين
وهو بابٌ المجاهدين في سبيل الله، الذين يبذلون دماءهم في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة"1.
2- أبواب النيران
يتحدَّث القرآن الكريم عن وجود أبواب لجهنّم أيضاً، قال تعالى: ﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾2.
بل تحدّد آية أخرى هذه الأبواب بسبعة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾3.
وتشرح الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام هذه الآية: "أنّ الله جعلها سبع دركات:
أعلاها الجحيم يقوم أهلها على الصفا منها، تغلي أدمغتهم فيها كغلي القدور بما فيها.
والثانية: لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى، وجمع فأوعى.
والثالثة: سقر، لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر، عليها تسعة عشر.
والرابعة: الحطمة، ومنها يثور شرر "ترمي بشرر كالقصر، كأنَّها جمالةٌ صفر"...
1- الكافي - الشيخ الكليني - ج5 ص5.
2- النحل:29.
3- الحجر:43-44.
97
87
دعاء اليوم العشرين
والخامسة: الهاوية، فيها ملأ يدعون: يا مالك أغثنا، فإذا أغاثهم جعل لهم آنية من صفر من نار فيه صديد ماء يسيل من جلودهم كأنّه مهل...
والسادسة: هي السعير، فيها ثلاثمائة سرادق من نار...
والسابعة: جهنم، وفيها الفلق وهو جب في جهنم إذا فتح أسعر النار سعرا، وهو أشد النار عذاباً"1.
إنَّ ما يوجب دخول الإنسان إلى هذه الأبواب هو عمله السّيء، فالذي لا يُبالي في هذه الدنيا بأيّ محرم من المحرمات سوف يدخل جهنّم طبقة بعد أخرى، حتّى يستقرّ في أسفلها، والذي يجتنب بعض المحرّمات، ولكنه يغوص في محرّمات أُخر، ولا يتّقي الله تمام التقوى سوف يدخل من أحد هذه الأبواب. فأبواب جهنّم يمكن أن تكون قد نظّمت حسب أعمال الإنسان، وإنّ كل مجموعة تدخل جهنّم من الباب الذي يتناسب مع أعمالها، وفلاح الإنسان إنّما هو بسدّه لجميع أبواب جهنم.
والتفت أيها الإنسان، فإنَّ أبواب جهنّم إذا فتحها الإنسان بعمله فإمَّا أن يُغلقها وراءه فلا خروج له منها أبدا وهذا هو ما وردت به الآية: ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾2، وإمَّا أن يُبقيها مفتوحة فيتمكَّن من الخروج منها، وباب ذلك هو التوبة من العمل الذي أوجب دخوله إليها، لا سيّما في هذا الشهر الكريم، فاغتنم فرصة الرجوع لئلا يوصَد الباب خلفك.
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج8 ص290.
2- الهمزه:8-9.
98
88
دعاء اليوم الواحد والعشرين
دعاء اليوم الواحد والعشرين
"اللّهمَّ اجعل لي فيه إلى مرضاتك دليلا، ولا تجعل للشيطان فيه علي سبيلا، واجعل الجنة لي منزلا ومقيلا، يا قاضي حوائج الطالبين".
تتحدَّث فقرات هذا الدعاء عن سُبل الوصول إلى الله عزَّ وجلَّ، والابتعاد عن طاعة الشيطان، وأنَّ المثوى الذي يسعى إليه الإنسان هو الجنّة. عبر أدلاء إلى مرضاته، واجتناب سبل الشيطان، وهذا ما سيشار إليه في هذه الفقرات.
1- الأدلاء إلى مرضاة الله
إنَّ من سِعَة الرحمة الإلهيّة بهذا الإنسان أنّ أرسل له أنبياء، وجعل له أئمّة يدلّونه على طريق النجاة، ولولا ذلك لما تمكَّن من الوصول إلى مرضاة الله.
99
89
دعاء اليوم الواحد والعشرين
ونقرأ في زيارة الائمّة عليهم السلام "السلام على الأدلاء على الله"1.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ الله واحد، أحد، متوحِّد بالوحدانية، متفرِّد بأمره، خلق خلقاً ففوَّض إليهم أمر دينه، فنحن هم... نحن حجّة الله في عباده، وشهداؤه على خلقه، وأمناؤه على وحيه، وخزانه على علمه، ووجهه الذي يؤتي منه وعينه في بريته، ولسانه الناطق، وقلبه الواعي، وبابه الذي يدل عليه، ونحن العاملون بأمره، والداعون إلى سبيله، بنا عُرف الله، وبنا عُبد الله، نحن الأدلاّء على الله، ولولانا ما عُبد الله"2.
لا تغترَّ أيها الإنسان بنفسك، فإنَّ كونك من أتباع هؤلاء الأئمّة لا يكون بكلماتٍ ينطق بها لسانك، بل بالعمل بما أمروا به والنهي عمَّا نهوا عنه. فلو أنَّ شخصاً ضلَّ الطريق إلى مكانٍ معيّن فسأل عن المكان، فأعطاه المسؤول الدليل إلى ما يريد، أتراه يصل إلى ما يريد؟! إنَّ هذه هي حال من يفتخر بكونه من أتباع أهل البيت ولكن افتخاره هذا يكون بلسانه فقط، وأمَّا عمله فيبتعد تماماً عن هذا الطريق. ولذا فإنّ الدعاء لله عزَّ وجلَّ بأن يكتب التوفيق للإنسان في الوصول إلى الدليل إلى مرضاة الله والعمل بما يأمرنا به هذا الدليل.
2- سبل الشيطان
لقد أصبح الشيطان وهو أول من عصى الله عزَّ وجلَّ رائداً للناس إلى معصية الله، له سبله التي يُسيطر فيها على الناس ليقودَهم
1- الكافي - الشيخ الكليني - ج4 ص579.
2- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص152.
100
90
دعاء اليوم الواحد والعشرين
إلى معصية الله، بل إنّ للشيطان حزباً كما ورد في آيات عديدة من القرآن الكريم. فمن هو حزب الشيطان هذا.
إنَّ قوام الانتساب إلى حزب الشيطان أن يغرق الإنسان في المعاصي إلى الحدّ الذي يعبّر عنه القرآن الكريم بالاستحواذ، أي الإحاطة من كلِّ جانب، وذلك ما ورد به قوله تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾1.
إنَّ للشيطان سُبلا ينفذ من خلالها إلى هذا الإنسان وهي التي نُطلق عليها مكائد الشيطان، وقد ينفذ إلى عبدٍ من سبيل وإلى آخرَ من أكثرِ من سبيل.
وهذه السُبل منها ما يكون واضحاً في أنَّه سبيل ضلال كالمعصية والكفر وعدم اتِّباع الحقّ، وقد ينجو الكثير منّا من هذا السبيل. ولكن من هذه السبل ما يكون غامضاً، خفياً، يأتي الشيطان بالباطل فيصوّره بصورة الحقّ، ويدعو الإنسان لاتِّباعه.
وكما أنَّ للقرب من الله عزَّ وجلَّ مراتب فكذلك للقرب من الشيطان مراتب، فقد يصل الإنسان إلى مرتبة يكون وكرا للشيطان ويصف ذلك الإمام علي عليه السلام بقوله: "اتَّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا، واتَّخذهم له أشراكا، فباض وفرّخ في صدورهم، ودبّ ودرج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، وزيَّن لهم الخطل، فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه، ونطق
1- المجادله:19.
101
91
دعاء اليوم الواحد والعشرين
بالباطل على لسانه"1.
هل يكتفي الشيطان منك أيّها الإنسان بأن تفعل المعصية؟ وهل يدعك بعد ذلك وشأنك؟ لا إنَّه يُتابعك حتّى النهاية، فهو يعرف أن باباً للرجوع إلى الله مفتوحٌ أمامك فهو يخشى من أن تسلكه فيكون عمله هباءً، وهو باب الاستغفار، فالشيطان بعد أن يُوقعك في المعصية، يسدّ أمامك باب الاستغفار، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "لما نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً...﴾2. صعد إبليس جبلا بمكة يقال له: ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيّدنا لمَ دعوتنا ؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها ؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا، قال: لست لها، فقام آخر فقال: مثل ذلك، فقال: لست لها، فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها، قال: بماذا ؟ قال: أعدهم وأمنيّهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها فوكَّله بها إلى يوم القيامة"3.
قصة فيها عبرة
ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ الله رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾4.
1- نهج البلاغة، باب الخطب، الخطبة 7.
2- عمران:135.
3- الأمالي - الشيخ القدوس - ص551.
4- الحشر:16
102
92
دعاء اليوم الواحد والعشرين
عن ابن عباس قال: "كان في بني إسرائيل عابد اسمه برصيصا، عبد الله زماناً من الدهر حتَّى كان يُؤتَى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرؤون على يده، وإنّه أُتي بامرأةٍ في شرف قد جنَّت وكان لها إخوة فأتوْه بها وكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتَّى وقع عليها فحملت، فلما استبان حملها قتلها ودفنها، فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتّى لقي أحد إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وأنّه دفنها في مكان كذا، ثمّ أتى بقيّة إخوتها رجلاً رجلاً فذكر ذلك له، فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول: والله لقد أتاني آت ذكر لي شيئاً يكبر عليّ ذكره، فذكره بعضهم لبعض حتّى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل، فأُمر به فصلب، فلما رُفع على خشبته تمثَّل له الشيطان فقال: أنا الذي ألقيتك في هذا، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك أخلِّصك ممَّا أنت فيه ؟ قال: نعم، قال: اسجد لي سجدة واحدة، فقال: كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة؟ فقال: أكتفي منك بالإيماء، فأومأ له بالسجود، فكفر بالله، وقُتل الرجل، فأشار الله تعالى إلى قصّته في هذه الآية"1.
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج14 ص487.
103
93
دعاء اليوم الثاني والعشرين
دعاء اليوم الثاني والعشرين
"اللّهمَّ افتح لي فيه أبواب فضلك، وأنزل عليَّ فيه بركاتك ووفّقني فيه لموجبات مرضاتك، واسكنّي فيه بحبوحات1جنَّاتك، يا مجيب دعوة المضطرّين".
الإنسان مخلوق مرتبط بخالقه في دنياه وآخرته، فإن كُتب له التوفيق في هذه الدنيا ليتقرَّب من الله بالطاعات كُتب له الفوز في الآخرة برضوان الله. وقد تعرّض هذا الدعاء لأبواب الفضل الإلهي، وموجبات رضا الله.
1- أبواب الفضل الإلهي
إنَّ من أوسع أبواب الفضل الإلهيّ الذي يُدركه الناس جميعاً هو
1- بحبوحة العيش: سعة العيش وسهولته.
105
94
دعاء اليوم الثاني والعشرين
أن يكون سعي الإنسان في سبيل جمع المال والثروات مثمراً، فترى الإنسان يُقرّ بأنّ كلَّ ما وفِّق له من مالٍ ورزق فإنَّما هو من الله فيضع دائماً شعار ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾1، وهذا أمر صحيح لأنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول في كتابه الكريم واصفاً الرزق بأنَّه من فضل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا الله كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾2.
ولكن الفضل الإلهي أوسع من ذلك بكثير، ويحدّثنا القرآن الكريم في العديد من الآيات عن فضل معنويّ كبيرٍ أفاضه الله عزَّ وجلَّ على هذا الإنسان:
أ- العصمة من كيد الشيطان
إنَّ من فضل الله على هذا الإنسان أن يَجعله في مأمنٍ من مكائد الشيطان، لأنَّ الفضل هو العمل الذي يعود بالخير عليك، وهذا الشيطان يُريد ضلالك ويريد منك أن تخسر آخرتك، فتأتي الآيات بشكلٍ واضحٍ لتحثّ الإنسان على تذكّر أن نجاته تلك وما كُتب له من التوفيق للطاعة هو من فضل الله: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾3.
وهذا لسان يوسف نبيّ الله يشهد بأنَّ من الفضل الإلهيّ على الإنسان نعمة الهداية: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
1- النمل:40.
2- الجمعة:8-9.
3- النساء:83.
106
95
دعاء اليوم الثاني والعشرين
مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِالله مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾1.
ب- الثواب الأخروي
إنّ الثواب الذي كتبه الله عزَّ وجلَّ لعباده في الآخرة وهو الجنّة التي جعلها لهم مفازاً، هي من فضل الله عزَّ وجلَّ، فلا تظنّ أيّها الإنسان أنّك إن عبدت الله فقد أصبح لك حقّاً عليه تُلزمه بأن يؤدّي لك ثواب طاعتك له، بل إنّ وعده لك بالثواب هو من باب التفضّل منه، ولا يرجع الأمر إلى أنّ عملك يستحقّ ذلك: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾2.
ج- اتِّباع النبيّ والإيمان به
إنَّ بعثة النبيّ هي فضل إلهيّ مَنَّ به الله عزَّ وجلَّ على عباده، وكذلك التوفيق للإيمان به ومعرفة أنَّ الحقَّ باتِّباعه هو من الفضل الإلهيّ الذي تحدّث عنه القرآن: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾3.
1- يوسف:38.
2- الحديد:21.
3- الجمعة:4.
107
96
دعاء اليوم الثاني والعشرين
2- موجبات رضا الله
لقد تعرّضنا في شرح دعاء اليوم التاسع إلى مقام الرضا، ولكن ما هي الأسباب التي تؤدّي بالإنسان إلى نيل مقام الرضا هذا؟
إنّ أوّل أسباب ذلك هو أن يعصي النفس الأمّارة بالسوء ويخالفها؛ لأنّها تدعوه إلى ما يوجب غضب الله عزَّ وجلَّ وسخطه ففي معصيتها ما يوجب رضا الله عزَّ وجلَّ، ففي وصيّة لقمان عليه السلام لابنه: "يا بنيَّ من يُرِد رضوان الله يُسخط نفسه كثيراً، ومن لا يُسخط نفسه لا يرضى به"1.
ولكن كيف يعرف الإنسان أنّه يعمل بموجبات رضا الله عزَّ وجلَّ؟ إنّ سبيل ذلك هو أن يلحظ نفسه عندما يصاب ببلاءٍ أو بمرضٍ أو نحو ذلك، فهل يكون راضياً بما قسم الله له به، أو تراه معترضاً، شاكياً، ساخطاً؟ ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "علامة رضا الله سبحانه عن العبد، رضاه بما قضى به سبحانه له وعليه"2.
1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج13 ص 432.
2- - ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج2 ص 1099.
108
97
دعاء اليوم الثالث والعشرين
دعاء اليوم الثالث والعشرين
"اللّهمَّ اغسلني فيه من الذنوب، وطهّرني فيه من العيوب، وامتحن قلبي فيه بتقوى القلوب، يا مقيل عثرات المذنبين".
تتحدَّث فقرات هذا الدعاء عن نوعٍ آخر من الطهارة وهي طهارة الباطن والقلب، كما تتحدّث عن غسلٍ بغير الماء. ثم تشير إلى امتحان القلوب الذي هو سنّة إلهيّة.
1- الطهارة الباطنية
لا تُختصر حياة هذا الإنسان بالحياة المادّية، بل للإنسان باطنٌ يحرّكه في هذه الحياة، وهو معيار سعادته وشقائه، فامتلاك المال وإن كان سبباً من أسباب السعادة، ولكنَّه ليس سبباً تاماً، ولذا تجد
109
98
دعاء اليوم الثالث والعشرين
أنَّ بعض من يمتلك المال، ويغرق في النعم المادّية، يعيش الحرمان المعنويّ، فتراه يائساً مكتئباً، وتجد أنَّ من لا يمتلك من المال إلّا قوت يومه، يعيش السعادة والروح المتألِّقة والفرِحَة.
إذا كما ينبغي على الإنسان أن يهتمَّ بالظاهر، فيحافظ على طهارة بدنه، كما حثَّ الإسلام عليه، فإنّ عليه أن يهتمَّ بالباطن والروح، فيسعى للحفاظ على طهارتها، وكما أنَّ للجسد غسل، فلروح غسل، وكما أنَّ غسل الجسد موجبٌ لزوال النجاسات المادّية، فإنّ غسل الروح موجبٌ لزوال النجاسات المعنويّة.
إنَّ النجاسات المعنويّة والباطنيّة، هي عبارة عن الذنوب ومساوئ الأخلاق، وفي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ للجسم ستّة أحوال: الصحّة، والمرض، والموت، والحياة، والنوم، واليقظة، وكذلك الروح، فحياتها علمها، وموتها جهلها، ومرضها شكّها، وصحّتها يقينها، ونومها غفلتها، ويقظتها حفظها"1.
وقد وردت العديد من الروايات التي تتحدَّث عن الذنوب وعن تطهير النفس من هذه الذنوب، ولكن ما هو نوع الغسل الذي يُطهّر الإنسان من الذنب؟
أ- الإيمان: فالإيمان موجبٌ لاغتسال الإنسان من الشرك، ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك"2.
ب- الصدقة: فهي موجبة للطهارة من الذنوب قال تعالى: ﴿خُذْ
1- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 300.
2- نهج البلاغة، باب الحكم، الحكمة 252.
.
110
99
دعاء اليوم الثالث والعشرين
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾1.
ج- تقوى الله: أي الاجتناب عن محارم الله عزَّ وجلَّ ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم... وطهور دنس أنفسكم"2.
د - التوبة: فإنّها أفضل غسل للذنوب، في الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "التوبة تطهّر القلوب وتغسل الذنوب"3.
2- سنة الامتحان الإلهي
إنَّ من السنَن الإلهيّة التي جعلها الله على عباده سنّة الابتلاء، وهو امتحان أراد الله به أن يختبر عباده، فمن نجح في هذا الامتحان كُتب له الفوز والنجاة، ومن أخفق كان نصيبه العذاب الأخرويّ.
وهذا الابتلاء الذي تتحدَّث عنه فقرات هذا الدعاء ليس هو الابتلاء المُتعارف بين الناس من الموت والمرض والأذى. بل هو ابتلاء أعظم، إنَّه الابتلاء بالاختيار بين الإيمان والكفر، بين الطاعة والعصيان.
وكما وردت الروايات بالحثّ على الصبر عند الابتلاء بالمصائب من موت عزيزٍ أو مرض أو نحو ذلك، وردت بالحثِّ على الصبر في هذا النوع من البلاء، فالصبر يكون أيضاً على طاعة الله، والصبر
1- التوبة:103.
2- نهج البلاغة، باب الخطب، الخطبة 198.
3- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 ص 328.
111
100
دعاء اليوم الثالث والعشرين
يكون عن معصية الله أيضاً.
فعن الإمام عليّ عليه السلام: "الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن جميل، وأحسن من ذلك الصبر عندما حرّم الله عزَّ وجلَّ عليك"1.
فالنفس تدعو الإنسان إلى ما ترغب به، فهي أمّارة بالسوء، والصابر هو الذي يخالفها ولا يطيعها، مهما كانت الظروف المحيطة به، بل كلَّما اشتدت البيئة التي تدعو الإنسان إلى المعصية كلَّما ازدادت الحاجة إلى أن يتحلَّى أكثر بالصبر.
إنَّ الصبر عن المعصية هو الموجب لاتّصاف الإنسان بصفات المؤمنين، من العفّة والورع والسداد، ففي الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الصبر عن الشهوة عفّة، وعن الغضب نجدة، وعن المعصية ورع"2.
1- نهج البلاغة، باب الحكم، الحكمة، 55.
2- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 ص 91.
112
101
دعاء اليوم الرابع والعشرين
دعاء اليوم الرابع والعشرين
"اللّهمَّ إني أسألك فيه ما يرضيك، وأعوذ بك ممّا يؤذيك، وأسألك التوفيق لأن أطيعك ولا أعصيك، يا جواد السائلين".
لا شكَّ في أنّ الوصول إلى رضا الله عزَّ وجلَّ والابتعاد عن سخطه والاستعاذة به من سخطه هو الغاية للمؤمن، ولكن كيف ذلك؟ هذا ما سنشير إليه في هذه الفقرات.
1- الاجتناب عما يؤذي الله
هل هناك ما يؤذي الله؟ سؤال قد يتبادر إلى ذهن الكثيرين، فالله هو القاهر الذي لا يقهره أحد، فكيف يمكن أن تتحقَّق أذيّته؟
والجواب هو أنّ الأذيّة قد تتحقّق بالإساءة إلى الشخص مباشرةً، وهذا أمر غير ممكنٍ لأيّ مخلوق في حقّ الخالق، فلا قدرة فوق قدرة
113
102
دعاء اليوم الرابع والعشرين
الله، حتّى تُوصل الأذى إليه.
ولكن من الأذى ما يلحق بالآخر بشكلٍ غير مباشرٍ، كما لو آذى قريباً أو عزيزاً أو محبّاً، فإنّ ذلك يؤدّي إلى أذيّة ذلك الشخص.
فأنت أيَّها الإنسان أعجز من أن تؤذي الله عزَّ وجلَّ، لأنّك مخلوق ضعيفٌ عاجز أمام القدرة الإلهيّة، ولكنّك تملك القدرة على أذيّة خلق الله، وهذا أمر يؤذي الله عزَّ وجلَّ، فاحترز من أّذيّة الله1.
ففي الرواية الإمام الصادق عليه السلام: "قال الله عزَّ وجلَّ: ليأذنَ بحربٍ منّي من آذى عبديَ المؤمن".
ويحدّثنا القرآن الكريم عن الأذى الذي لحق بالمؤمنين في أوّل الدعوة فيقول: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ الله وَالله عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾2.
فهؤلاء قوم أعاروا الله نفوسهم فبذلوا كلَّ شيء في سبيله وتحمّلوا الأذى لأجله، وكانت نتيجة ذلك أن تنالهم المغفرة الإلهيّة.
2- الاستعاذة
قال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾3.
إنّ من أنواع الأذى الذي يرتكبه الإنسان بحقِّ خالقه هو المعصية
1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 351.
2- آل عمران:195.
3- الأعراف:200.
114
103
دعاء اليوم الرابع والعشرين
والذنب. لأنّ في المعصية تجرؤا على المولى وهتكاً لحرمته، ولذا ورد في الرواية عن رسول الله: "لا تنظروا إلى صغر الذنب ولكن انظروا إلى من اجترأتم"1.
ولذا كان على الإنسان أن يستعيذ بالله من المعصية، لأنّها استعاذة بالله ممّا يؤذي الله عزَّ وجلَّ.
والاستعاذة بالله لا تكون فقط بترديد الاستعاذة باللسان، بل على الإنسان أن يلجأ إليه جلّ وعلا في الفكر والعقيدة والعمل أيضا، مبتعِداً عن الطرق الشيطانيّة والأفكار المضلّلة الشيطانيّة، والمناهج والمسالك الشيطانيّة والمجالس والمحافل الشيطانية، ومتّجها على طريق المسيرة الرحمانيّة، وإلا فإنّ الإنسان الذي أرخى عنان نفسه تجاه وساوس الشيطان لا تكفيه قراءة هذه السورة ولا تكرار ألفاظ الاستعاذة باللسان.
إنّ الاستعاذة تعني أن يتوسّل الإنسان بالأسباب التي جعلها الله عزَّ وجلَّ سبيلاً وطريقاً للتخلّص من مساوئ الأخلاق التي تؤدّي إلى الهلاك، وتشرح الرواية عن الإمام زين العابدين عليه السلام ذلك في دعائه في الاستعاذة من المكاره وسيّئ الأخلاق ومذام الأفعال: "اللّهمَّ إنّي أعوذ بك من هيجان الحرص، وسورة الغضب، وغلبة الحسد، وضعف الصبر، وقلّة القناعة، وشكاسة الخلق"2.
والاستعاذة كما تكون من شيطان الجنّ ينبغي أن تكون من شيطان الإنس أيضاً، وهذه الاستعاذة هي التي وردت بها آيات الله ﴿مِنْ شَرِّ
1- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 74 ص 169.
2- الصحيفة السجّاديّة الكاملة - ص57.
115
104
دعاء اليوم الرابع والعشرين
الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾1.
وهذه الاستعاذة تكون بالابتعاد عن شرار الناس، وأهل المعاصي، فعشرتهم تقرّب إلى الإنسان المعصية وتبعّده عن الطاعة، فينبغي له اجتناب عشرتهم، ويطلق القرآن على هذا الإنسان الذي يدعو إلى المعصية تسمية القرين يقول: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾2.
1- الناس:4-6.
2- فصلت:25.
116
105
دعاء اليوم الخامس والعشرين
دعاء اليوم الخامس والعشرين
"اللّهمَّ اجعلني فيه محبّاً لأوليائك، ومعادياً لأعدائك، مستنّاً بسنّة خاتم أنبيائك، يا عاصم قلوب النبيّين".
تتحدّث فقرات هذه الدعاء، عن بعض علامات المؤمن والمتمثِّلة بحبِّ أولياء الله وبغض أعدائه والاقتداء بسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. لذا سنتعرّض لبحث الحبّ والبغض، وللنبيّ القدوة.
1- الإيمان هو الحب والبغض
الإيمان فعلٌ من أفعال القلب، لا من أفعال الجوارح والأعضاء، وهذه الأفعال التي تصدر عن الإنسان ترجع في أساسها إلى الإيمان الذي هو فعل القلب، فما هو هذا الإيمان؟
تختصر لنا الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام "الإيمان
117
106
دعاء اليوم الخامس والعشرين
بكلمة الحبّ، قال: هل الدين إلّا الحب؟! إنّ الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾1"2.
إنّ هذا القلب إذا تعلّق بمحبوبٍ، أخلص له الطاعة والودّ، فهل يُمكن لحبيبٍ أن يؤذي من يُحبّ؟! وإذا كان حبُّ المؤمن هو الله عزَّ وجلَّ، فإنّ الطاعة لا بدّ وأن تكون خالصةً لله، فلا يُعصي الله، لأنَّه مخالف لحبِّ الله عزَّ وجلَّ.
وهكذا حال القلب مع كلِّ من يتعلَّق بالمحبوب، فالحبُّ لله يؤدّي إلى محبَّة أولياء الله، وبُغض أعداء الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾3.
وهذا ما ترشدنا إليه فقرات الدعاء، فالمؤمن يطلب من الله عزَّ وجلَّ أن يجعله محبَّاً لأوليائه، لأنّ ذلك قوام الإيمان، وبذلك يظهر الارتباط الوثيق بين الإيمان وبين محبَّة الرسول وأهل بيته، وفي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "لا يؤمن عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه، وأهلي أحبّ إليه من أهله، وعترتي أحبّ إليه من عترته، وذريّتي أحبّ إليه من ذريّته"4.
1- آل عمران:31.
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 8 ص 80.
3- التوبة:24.
4- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 414.
118
107
دعاء اليوم الخامس والعشرين
وأمّا بغض أعداء الله فهو الركن الثاني في الإيمان، فلا إخلاص في الحبّ لله مع حبِّ أعداء الله، بل متى وجد حبّ الله وحبّ أولياء الله في قلب الإنسان، فلا بدّ وأن يقترن مع بغض أعداء الله وأعداء أولياء الله، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "أوثق عرى الإيمان: الحبُّ في الله، والبُغض في الله، وتوالي أولياء الله والتبريّ من أعداء الله"1.
2- النبي، القدوة الحسنة
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً﴾2.
إنّ الاقتداء برسول الله يتفرّع على الإيمان به، وعلى محبّته، وهذا أمر جُبلت عليه الفطرة الإنسانية، فإذا كان الإنسان محبّاً لشخص تأثّر به في حركاته وأفعاله، ولذا كان تأثير الفعل أقوى من تأثير القول.
وكذلك ترشدنا الآية الكريمة إلى أنَّ الاقتداء برسول الله ينبع من كونه الأسوة الحسنة، أي إذا كان هدف الإنسان هو الآخرة، ولقاء الله عزَّ وجلَّ، فإنّ الطريق الوحيد والسبيل للوصول إلى ذلك، هو اتِّباع النبيّ في كلِّ ما أمر به أو نهى عنه.
إنّ الدافع للاقتداء برسول الله يتمثَّل في صفاتٍ ثلاث ذكرتها الآية وهي الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، والإيمان بيوم القيامة، وذكر الله.
1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 125.
2- الاحزاب:21.
119
108
دعاء اليوم السادس والعشرين
دعاء اليوم السادس والعشرين
"اللّهمَّ اجعل سعيي فيه مشكوراً، وذنبي فيه مغفوراً، وعملي فيه مقبولاً، وعيبي فيه مستوراً، يا أسمع السامعين".
تتحدَّث فقرات هذا الدعاء عن الآمال التي يرجوها الصائم، العامل بأمرِ الله، والمتلزم جانب الطاعة له، من مغفرة الذنوب، وقبول العمل، وستر العيب.
1- المغفرة
إنَّ من الصفات الإلهية التي تكرّر ذكرها في القرآن الكريم هي صفة "الغفور الرحيم"، فالله عزَّ وجلَّ يغفر لعباده لا لحاجةٍ منه إليهم بل لأنَّ رحمته وسعت كلَّ شيء
وكما أنَّ لكلّ شيءٍ أسبابه التي لا بدَّ من سلوكها والاعتماد عليها في
121
109
دعاء اليوم السادس والعشرين
سبيل الوصول إليه، فكذلك مغفرة الذنوب فإنّ لها أسبابها الخاصّة التي تعرّضت لها الآيات والروايات:
أ- اجتناب الكبائر: إنَّ من تزلّ قدمه في الذنوب الصغيرة وقد اجتنب كبائر الذنوب فإنَّ له باباً من أبواب المغفرة، قال تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً﴾1.
ب- الاستغفار: وهو باب فتحه الله عزَّ وجلَّ لعباده، شرط التزام العمل بأسبابه وقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "من أُعطي التوبة لم يحرم القبول، ومن أُعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة"2.
ج- الأوقات الشريفة: إنّ لطلب مغفرة الذنوب، والتوسّل إلى الله عزَّ وجلَّ بذلك أوقاتاً محدّدة، تكون أسرع في الإجابة، منها شهر رمضان، بل هو أوسع أبواب الوصول إلى مغفرة الله، ونحن نقرأ في خطبة الرسول صلى الله عليه وآله في استقبال شهر رمضان: "إن الشقيَّ من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم".
د- التوبة: وهي ركنٌ من أركان المغفرة، وأوسع بابٍ من أبوابها، وقد ورد في الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "التوبة تطهّر القلوب وتغسل الذنوب"3.
1- النساء:31.
2- نهج البلاغة، باب الحكم، الحكمة، 135.
3- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 ص 328.
122
110
دعاء اليوم السادس والعشرين
2- قبول العمل
لا بدّ لك أيّها المؤمن العامل بأوامر الله عزَّ وجلَّ والمجتنب لنواهيه، أن تعلم بأنّ الإجزاء شيء والقَبولَ شيء آخر. فالإجزاء هو أن يسقط التكليف عن ذمّتك، فلا يحاسبك الله عزَّ وجلَّ على تركه، كمن يصلّي صلاته المستجمعة لكافّة الشروط الظاهريّة التي ذكرها الفقهاء. ولكن القبول هو أن يرتفع العمل إلى الله عزَّ وجلَّ فيكون موجباً لرضاه ولنيل آثار هذا الرضا من المغفرة والمكانة عند الله.
إنَّ أعظم الشروط المعتَبرة لكون العمل مقبولاً وطبقاً لما ورد في الكثير من الروايات هو الإخلاص، أي بأن يأتي الإنسان بالعمل خالصاً لوجه الله عزَّ وجلَّ، لا يُشرك فيه أحداً، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إذا عملت عملاً فاعمل لله خالصاً، لأنّه لا يُقبل من عباده الأعمال إلّا ما كان خالصاً"1.
بل إنّ الأساس في العمل يرتبط بهذه الصفة وليس بالأفعال، أي لا ينظر الله عزَّ وجلَّ إلى مقدار الصلاة والصوم والعبادة بقدر ما ينظر إلى النيّة والقلب بما كان متعلِّقاً عند الإتيان بهذه الأعمال، وقد ورد في الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "ليست الصلاة قيامك وقعودك، إنَّما الصلاة إخلاصك، وأن تريد بها الله وحده"2.
مضافاً إلى شرط آخر وردت الآيات والروايات به ألا وهو التقوى، أي حالة الخوف والخشية من الله عند الإقدام على أيّ عمل،
1- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 74 ص 103.
2- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 757.
123
111
دعاء اليوم السادس والعشرين
فالشخص الذي يُقبل على الصلاة، وقد آذى غيره أو ظلمه حقّه، أو الذي يصوم، فإذا صام كان على كلّ من يحيط به أن يعيش الأذى ويتحمّل غضبه وإهانته، فلن يكون عمله مقبولاً، وفي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "كونوا بقبول العمل أشدّ اهتماماً منكم بالعمل، فإنّه لن يقلّ عمل مع التقوى، وكيف يقلّ عمل تُقبِّل"1
3- ستر العيوب
إنّ العقوبة الإلهيّة على الذنب لا تنحصر بالنار، بل إنّ من أعظم العقوبات هو الفضيحة التي تلحق بهذا الإنسان على رؤوس الأشهاد، فتشهد الناس على كلِّ مرتكب ذنبٍ ما كان يقوم به في هذه الدنيا، وقد ورد في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: "إلهي قد سترت عليَّ ذنوباً في الدنيا وأنا أحوج إلى سترها عليّ منك في الأخرى. إلهي قد أحسنت إليّ إذ لم تظهرها لأحدٍ من عبادك الصالحين، فلا تفضحني يوم القيامة على رؤوس الأشهاد"2.
إنَّ من الأسباب التي تؤدِّي إلى أن يستر الله على الإنسان في يوم القيامة، أن يستر الإنسان على أخيه المؤمن ذنبه، إنَّها من أعظم العادات السيئة التي يُبتلى بها مجتمعنا أنّ لسانه لا يُطيعه في عدم إشاعة عيبٍ وجده في مؤمنٍ آخر، وقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله: "من علم من أخيه سيّئة فسترها، ستر الله عليه يوم القيامة"3.
1- م.ن، ج 4 ص 3631.
2- إقبال الأعمال - السيد ابن طاووس - ج3 ص297.
3- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 3 ص 2207.
124
112
دعاء اليوم السابع والعشرين
دعاء اليوم السابع والعشرين
"اللّهمَّ ارزقني فيه فضل ليلة القدر، وصيّر أموري فيه من العسر إلى اليسر، واقبل معاذيري وحطّ عنّي الذنب والوزر، يا رؤوفاً بعباده الصالحين".
1- ليلة القدر
لنتأمّل قليلاً في معنى ليلة القدر، إنّها الليلة التي يقدّر فيها للإنسان كلّ ما يصيبه من خيرٍ أو شرٍّ، بل كلُّ ما يقوم به خلاله عامه من طاعةٍ أو معصية، قال تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾1.
وقد ورد عن الإمام الباقرعليه السلام في تفسير هذه الآية: "يقدّر في ليلة القدر كلَّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابلٍ من خيرٍ أو شرٍّ أو طاعةٍ أو معصيةٍ أو مولودٍ أو أجلٍ أو رزقٍ، فما قُدّر في
1- الدخان:4.
127
113
دعاء اليوم السابع والعشرين
تلك الليلة وقضي فهو من المحتوم ولله فيه المشيئة"1.
إنّ ما دعوت به أيَّها الصائم في ليلة القدر، لا بدّ وأن يكون الأساس فيه طلب الخير، ولكن أيّ خيرٍ ترجوه؟ هل هو خير الدنيا فقط أو خير الدنيا والآخرة؟
لا شكَّ في أنَّ على الإنسان أن يكون لخير الآخرة أرجى، وذلك لأنّ خير الآخرة هو الخير الذي لا يَفنى، وذلك خلافاً لفضل الدنيا الذي مهما عظم فإنّ مصيره الفناء لا البقاء.
بل وأعظم من ذلك أن يصل الإنسان إلى مقام التسليم لله عزَّ وجلَّ فيسأله أن يُعطيه الفضل من عنده، والفضل هو زيادة الخير، فالإنسان لا يعلم ما هو الخير له وفيما يكون فيه الخير، فيوكِل ذلك إلى الله عزَّ وجلَّ، فإنّ ذلك سيصل إلى طمأنينة النفس التي هي أساس السعادة في هذه الدنيا وفي الرواية عن الإمام الحسن عليه السلام: "من اتَّكل على حسن الاختيار من الله له، لم يتمنّ أنَّه في غير الحال التي اختارها الله له"2.
2- العسر واليسر
من الحِكَم الإلهيّة التي قدّرها الله لعباده أن يعيش الإنسان في بعض مراحل حياته حالات من العسر، أي الشدّة والضيق في أيّ أمرٍ من الأمور، ليكون ذلك اختباراً له لمعرفة مدى ثباته على الحقّ، وعدم خروجه من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة المعصية.
1-الكافي - الشيخ الكليني - ج 4 ص 158.
2- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 75 ص 106.
128
114
دعاء اليوم السابع والعشرين
وللعسر مواطن عديدة، فمن العسر ما يواجهه الإنسان في الحياة الدنيويّة المتمثّلة بالمصاعب التي قد يواجهها الإنسان، ومن العسر أيضاً التكاليف الإلهيّة المُلقاة على عاتق هذا الإنسان، وقد وعدَ الله عزَّ وجلَّ عباده إذا تحلّوا بالصبر بأن يُبدِلَ عسرهم يسراً، فنقرأ في الآية الكريمة: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾1.
فإنَّ من المواطن التي يكون فيها العسر هي المواطن التي يكون الإنسان فيها في حالة مواجهة من العدو، واليسر الإلهيّ يأتيه ولكن متى تحلّى بالتقوى والصبر.
وهكذا حال المؤمن في جهاده الأكبر، وفي المعركة التي يخوضها مع النفس الأمّارة بالسوء، فإنَّه يعيش حالة العسر التي يطلب فيها من الله عزَّ وجلَّ النُصرة، فيأتيه النصر بغلبة النفس المطمئنة، ولكن متى تحلّى بسلاحي الصبر والتقوى.
3- قبول العذر
الاعتذار هو الاعتراف بالذنب والخطأ، وهو أوّل درجةٍ من درجات التوبة، فالذي يعتذر إلى الله عزَّ وجلَّ، يُقرّ بما ارتكبه من الذنب وفي دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: "إلهي إن كان قد دنا أجلي ولم يقرّبني منك عملي، فقد جعلت الاعتراف بالذنب إليك وسائل عِلَلي"2.
1- آل عمران:125.
2- الصحيفة السجّاديّة - ص228.
127
115
دعاء اليوم السابع والعشرين
نعم، هذا الاعتذار لا ينفع إذا جاء متأخّراً، فإن لكلّ شيءٍ وقته، فإذا انقضى لا تنفع المعذرة، وباب الاعتذار إلى الله عزَّ وجلَّ مفتوح أمام هذا الإنسان إلى أن تحين منه لحظة الموت، فلا تنفعه بعد ذلك معذرة، وقد ورد في الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم وتغيب آجالهم، حتى نزل بهم الموعود الذي ترد عنه المعذرة، وترفع عنه التوبة، وتحلّ معه القارعة والنقمة"1.
1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 8 ص 390.
128
116
دعاء اليوم الثامن والعشرين
دعاء اليوم الثامن والعشرين
"اللّهمَّ وفّر حظّي فيه من النوافل، وأكرمني فيه بإحضار المسائل، وقرّب فيه وسيلتي إليك من بين الوسائل، يا من لا يشغله إلحاح الملحّين".
1- النوافل المقربات إلى الله عز وجل
إنَّ لقلب الإنسان حالات، يُقبل في بعضها على الله عزَّ وجلَّ، وحالات لا يعيش هذه الحالة، والفرائض أي الواجبات شرّعت للحالة الثانية، وأمّا في حالة إقبال القلب إلى الله عزَّ وجلَّ فإنّ النوافل هي الملجأ لهذا الإنسان ليستثمر حالة إقبال القلب هذه فيما يُرضي الله عزَّ وجلَّ، ففي الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا
129
117
دعاء اليوم الثامن والعشرين
بها على الفرائض"1.
إنّ بعض المقامات لا يُمكن أن يصل إليه الإنسان إلّا من خلال التقرّب بالنوافل، لا سيّما النوافل الليليّة، فقد ورد الحثّ الشّديد عليها، فقد ورد في الرّواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "ما اتَّخذ الله إبراهيم خليلاً إلّا لإطعامه الطعام، وصلاته بالليل والناس نيام"2.
إنّك أيّها الإنسان إذا كنت محباً لله عزَّ وجلَّ وتسعى إلى لقائه، فإنَّ لحظة السّعادة لديك سوف تكون عندما تقف أمامه فتناجيه وحدك، وتأنس بهذه المناجاة. وهذا هو الذي واظب عليه إبراهيم عليه السلام حتَّى أصبح خليل الله.
بل وأعظم من ذلك، إنَّ الله عزَّ وجلَّ يُباهي بمن يقوم في الليل، ولم يفرض الله عزَّ وجلَّ عليه، بل دعاه إليه وترك الخيار له، ففي الرّواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إنَّ العبد إذا تخلّى بسيّده في جوف الليل المظلم وناجاه أثبت الله النّور في قلبه... ثم يقول جلَّ جلالُه لملائِكته: "يا ملائكتي انظروا إلى عبدي فقد تخلّى بي في جوف الليل المظلم والباطلون لاهون، والغافلون نيام، اشهدوا إنّي قد غفرت له"3.
2- استجابة الدعاء
إنّ الله عزَّ وجلَّ أمر بالدعاء، وضمن الإجابة، واستجابة الدعاء
1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 ص 455.
2- علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 1 ص 35.
3- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 2 ص 1653.
130
118
دعاء اليوم الثامن والعشرين
إكرامٌ من الله عزَّ وجلَّ، فأنت تسأله وهو يحضر لك ما تسأل، ولكن لاستجابة الدعاء بعض الشروط التي تعرّضت لها الروايات:
أ- الدعاء عن معرفة: ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام وقد سأله قومه: "ندعو فلا يُستجاب لنا؟!: لأنَّكم تدعون من لا تعرفونه"1.
ب- اقتران الدعاء بالعمل: ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر"2.
ج- الابتعاد عن الحرام: ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "أطب كسبك تستجب دعوتك، فإن الرجل يرفع اللقمة إلى فيه "حراما" فما تستجاب له دعوة أربعين يوماً"3.
د- حضور القلب عند الدعاء: ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله عزَّ وجلَّ لا يستجيب دعاء بظهر قلبٍ ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك، ثمَّ استيقن بالإجابة"4.
3- الوسائل إلى الله عز وجل
إنَّ من الطرُق التي توجب استجابة الدعاء أن يتوسَّل الإنسان ببعض الطرق إلى الله عزَّ وجلَّ فيلجأ إليها لأجل الوصول إلى مراده، وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "جاء رجل إلى أمير
1- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 90 ص 369.
2- الخصال - الشيخ الصدوق - ص 621.
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 90 ص 358.
4-ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 2 ص 875
131
119
دعاء اليوم الثامن والعشرين
المؤمنين عليه السلام فقال: "إنّي دعوت الله فلم أر الإجابة؟! فقال: لقد وصفت الله بغير صفاته، وأنّ للدعاء أربع خصال: إخلاص السريرة، وإحضار النيّة، ومعرفة الوسيلة، والإنصاف في المسألة، فهل دعوت وأنت عارف بهذه الأربعة؟ قال: لا، قال: فاعرفهن"1.
والوسائل إلى الله متعدّدة من الطاعة والعمل الصالح واجتناب الذنوب والإحسان إلى الناس، ومن أهمّ الوسائل إلى الله أولياء الله عزَّ وجلَّ، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "الأئمّة من ولد الحسين عليه السلام، من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله عزَّ وجلَّ، هم العروة الوثقى، وهم الوسيلة"2.
1- م.ن، ج 2 ص 885.
2- م.ن، ج 2 ص 1476.
132
120
دعاء اليوم التاسع والعشرين
دعاء اليوم التاسع والعشرين
"اللّهمَّ غشّني فيه بالرحمة، وارزقني فيه التوفيق والعصمة، وطهّر قلبي من غياهب التُهمة، يا رحيماً بعباده المؤمنين".
يتعرّض هذا الدعاء لمفاهيم عدّة يسعى الإنسان المؤمن من خلالها لنيل الرحمة الإلهيّة الواسعة. و نتعرّض هنا للرحمة الواسعة، والتوفيق، وظلمات المعاصي.
1- شمول الرحمة الإلهية
إنَّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مملوءة بالرحمة الإلهيّة، فكلُّ نِعَمِ الله التي يعيشها العباد هي من مظاهر رحمة الله الواسعة. وهذه الرحمة هي التي يُطلق عليها العلماء تسمية الرحمة العامّة.
وهي تشمل الأولياء والأعداء، والمؤمنين والكافرين، والمحسنين
133
121
دعاء اليوم التاسع والعشرين
والمسيئين، فرحمته تعمُّ المخلوقات، وفضله ممدود أمام جميع الموجودات، وكلّ العباد يتمتّعون بموهبة الحياة، وينالون حظّهم من مائدة نِعَمه اللامتناهية. وهذه هي رحمته العامَّة الشاملة لعالم الوجود كافّة وما تسبح فيه من كائنات.
ولكنَّ لله عزَّ وجلَّ رحمة أُخرى خاصّة، لا ينالها الإنسان إلّا إذا استجمع شروطها، وهو الذي تغشاه رحمة الله أي تشمله تماماً.
وهذه الرحمة هي عبارة عن التوفيق للسعادة كالإيمان والتقوى والجنّة، وصفة "الرحيم" في البسملة إشارة إلى رحمته الخاصّة بعباده الصالحين المطيعين، فقد استحقّوها بإيمانهم وعملهم الصالح، وحُرم منها المنحرفون والمجرمون. الأمر الذي يُشير إلى هذا المعنى أنَّ صفة "الرحمن" ذُكرت بصورة مطلقةٍ في القرآن الكريم ممّا يدلُّ على عمومها، لكن صفة "الرحيم" ذُكرت أحياناً مقيّدة، لدلالتها الخاصّة، كقوله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾1، وأحياناً أُخرى مطلقة كما في هذه السورة. وفي رواية عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال: "والله إله كلّ شيء الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة"2.
2- التوفيق والخذلان
إنّ من مظاهر الرحمة الإلهيّة أن يكتب الله عزَّ وجلَّ للإنسان أن يكون مشمولاً للرحمة الخاصّة، ويقابل ذلك الخذلان، فالعبد الذي
1- الأحزاب:43.
2- تفسير القمي - علي بن إبراهيم القمي - ج 1 ص 28.
134
122
دعاء اليوم التاسع والعشرين
يطيع الله هو ممّن ناله التوفيق، وفي المقابل يكون الخذلان نصيب العاصي.
ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ الله عزَّ وجلَّ إذا أراد بعبدٍ خيراً نكَتَ في قلبه نكتةً بيضاء وفتح مسامع قلبه، ووكّل به ملَكاً يسدّده، وإذا أراد بعبدٍ سوءاً نكت في قلبه نكتة سوداء، وسدَّ مسامع قلبه، ووكّل به شيطاناً يُضلَّه"1.
وفي المقابل، لا شكّ في أنّ الخذلان هو نوع من أنواع الحرمان الإلهيّ، وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ﴾2، قال عليه السلام: "إذا فعل العبد ما أمره الله عزَّ وجلَّ به من الطاعة كان فعله وفقاً لأمر الله عزَّ وجلَّ وسمي العبد به موفقاً، وإذا أراد العبد أن يدخل في شيء من معاصي الله فحال الله تبارك وتعالى بينه وبين تلك المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق الله تعالى ذكره، ومتى خلّى بينه وبين تلك المعصية فلم يحل بينه وبينها حتى يرتكبها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفقه"3.
إنّ أهمّ ركنٍ موجبٍ لنيل الإنسان التوفيق الإلهيّ في العمل بالطاعات واجتناب المعاصي هو في النيّة الصالحة، ففي عن الرواية الإمام الباقر عليه السلام: "إذا علم الله تعالى حسن نية من أحد، اكتنفه بالعصمة"4.
1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 214.
2- هود:88.
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج 5 ص 200.
4- م.ن، ج 75 ص 189.
135
123
دعاء اليوم التاسع والعشرين
3- ظلمات المعاصي
إنّ أوّل المواطن التي تجعل الإنسان يقترب من المعاصي هي الخطور القلبيّ الذي يعيشه الإنسان ناحية المعاصي. فمتى ابتدأ الإنسان بالتفكير في المعصية، كان في ذلك أوّل خطواته في الدنوّ منها، ولذا على الإنسان أن يسعى ليطهّر قبله من خطور المعصية، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس"1.
إذاً، القلب هو الذي يقود سائر الجوارح، فمتى اشتغل هذا القلب بالمعصية وخطرت له تلك المعاصي، فإنَّ جوارحه سوف تنقاد إليها أيضاً. وبهذا يقع في الذنب.
ولذا يصف الإمام الصادق عليه السلام القلب السليم بأنَّه القلب الذي لم يتعلّق بهذه الدنيا: "هو القلب الذي سلم من حبّ الدنيا"2، لأنَّ حبّ الدنيا إذا سيطر على القلب قاد الإنسان إلى المعاصي وفي ذلك هلاك الإنسان.
1- علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 1 ص 109.
2- بحار الأنوار - العلّامة المجلسي - ج7 ص152.
136
124
دعاء اليوم الثلاثين
دعاء اليوم الثلاثين
"اللّهمَّ اجعل صيامي فيه بالشكر والقبول على ما ترضاه ويرضاه الرسول، مُحكمةً فروعه بالأصول، بحقِّ سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، والحمد لله رب العالمين".
إنّ ختام كلِّ عملٍ لا بدَّ وأن يكون بالشكر لله عزَّ وجلَّ عليه، فإنّه بابٌ للاستزادة منه وللتوفيق فيه. وهذا ما تعرّض له خاتم أدعية أيام شهر رمضان المبارك.
الشكر على الطاعه:
عندما يسمع الإنسان مفرَدة الشكر يظنُّ أنَّ ذلك يرتبط فقط بالمال والنِعَم المادّية التي يهبها الله عزَّ وجلَّ للإنسان، وهذا ظنٌ خاطئ، لأنَّ الشكر يجب أن يكون على كلِّ نعمةٍ أنعمها الله مادّية كانت أو معنويّة، وحيث كان التوفيق لطاعة الله من النِعَم الإلهيّة على
137
125
دعاء اليوم الثلاثين
الإنسان، فإنَّ عليه أن يشكر الله عزَّ وجلَّ على هذه النعمة.
إنَّ مقدار توجّه القلب بالشكر إلى الله عزَّ وجلَّ هو بقدر ما يرى من أهميّة لما ناله من الخير والنِعَم، فإذا كانت سعادة الإنسان من وجهة نظره بالنعم المادّية والمال، فإنَّه سوف يتَّجه إلى شكر الله عزَّ وجلَّ بقدر ما يهبه من هذه النعم، ولكن إذا كان يرى سعادته في الآخرة وفي كلِّ ما يكون لصلاح آخرته فإنَّه سوف يشكر الله على قدر ما يناله من ذلك.
إنَّ السعادة الحقيقيّة هي في طاعة الله عزَّ وجلَّ، وبقدر ما يعيشه الإنسان من السعادة في ذلك يكون شكره لله عزَّ وجلَّ.
ولكن كيف يكون شكر الله عزَّ وجلَّ على الطاعة؟
إنَّ شكر الله عزَّ وجلَّ لا يكون بألفاظَ نردِّدها باللسان، بل بأداء حقِّ العمل الذي جاء به، فشُكر الله على العمل الصالح هو بأمور:
أ- عدم إفساد العمل: إنَّ التوفيق بالإتيان بالطاعات والأعمال الصالحات، لا بدّ وأن يتَّبعه التوفيق بالمحافظة على العمل وعدم إفساده، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ سوء الخلق ليُفسد العمل كما يُفسد الخلّ العسل"1.
ب- الاحتراز عن الرياء، فالطاعة لله عزَّ وجلَّ إذا كانت عبادة كالصوم، فلا بدّ وأن تكون خالصةً لله عزَّ وجلَّ، وخلوصها بأن لا ينوي عند إتيانه بها إلّا التقرّب إلى الله عزَّ وجلَّ، والرياء هو أن يشرك في العمل غير الله، فلا يكون
1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 806.
138
126
دعاء اليوم الثلاثين
خالصاً هو مُفسد له، ففي الرواية: "آفَّة العبادة الرياء"1.
إنَّ الذي يمنع من الوقوع في الرياء أن تُدرك أنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يخفى عليه شيء فهو يعلم ما توسوس به نفس هذا الإنسان، فإذا دخلت في قلبك نيَّة غير الله، فإنّ الله يعلم به، فأثناء العبادة استحضر دائماً رؤية الله عزَّ وجلَّ لك، وفي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "الإحسان أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك"2.
ج- الاحتراز عن العجب، فإنّ المُعجَب بعمله سوف يراه كثيراً، فلا يرى الحاجة إلى الازدياد منه، وفي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "ضاحك معترف بذنبه أفضل من باك مدلٍ على ربّه"3.
د- الاستمرار في العبادة: ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "دوام العبادة برهان الظفر بالسعادة"4.
وعن الإمام الكاظم عليه السلام: "ما أقبح الفقر بعد الغنى، وأقبح الخطيئة بعد النسك، وأقبح من ذلك العابد لله ثمَّ يترك عبادته"5.
فيا أيَّها الصائم، الذي اشتغل قلبه طيلة ثلاثين يوماً بالصوم وبأنواع العبادات الواجبة والمستحبّة، عليك أن تواظب على ذلك في سائر الشهور، ولا يكون عيدك يوماً لهجران علاقتك بالله عزَّ وجلَّ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
1- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 ص 84.
2- م.ن. ج 3 ص 1799.
3- م.ن. ص 1816.
4- م.ن، ص 1796.
5- م.ن، ص 1806.
139
127