المقدمة
المقدمة
حمل ثورة الإمام الحسين عليه السلام الكثير من المعاني والأبعاد والدلالات، فهي ليست تلك الثورة والحركة التي حصلت أحداثها قبل ما يقرب من 1400عام وانتهت بشكل طبيعي كما تنتهي المعارك التي يقوم بها الإنسان، بل لا بد ومن اجل الوقوف على عظمة هذه الثورة الحسينية أن ندقق في معانيها وأسبابها والظروف المحيطة بها وبالتالي لا بد من التوقف طويلا عند النتائج والآثار التي حملتها والتي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا...
ولعل ابلغ من تحدث عن ثورة الإمام الحسين عليه السلام في عصرنا الحاضر، هو الإمام الخميني قدس سره إذ قدم صورة واضحة لعظمتها فاعتبر أن كل ما لدينا هو من عاشوراء. وبهذه العبارة المختصرة أراد الإمام الخميني قدس سره القول بان كل ما ننعم به اليوم من سيادةٍ للدين والإيمان، وحكمٍ للشريعة الإلهية، وتأصلٍ للقيم الإنسانية الراقية وغير ذلك، فالفضل يعود إلى تلك الثورة التي كانت بكامل تفاصيلها مدرسة حقيقية تستقي منها الأجيال اللاحقة كل معاني العز والشرف والكرامة الإنسانية...
وعلى هذا الأساس فإن ثورة الإمام الحسين عليه السلام هي استمرار لخط النبوة وبها ثبات واستقامة القيم الإنسانية بعد أن عمل المبطلون على إزالتها، وبالتالي فهي ثورة لإنقاذ الدين وإحياء الشريعة ورفع البشرية من أدنى ما وصلت إليه إلى عالم النور والضياء.
وثورة الإمام الحسين عليه السلام فيها حكاية عن مستقبل البشرية باجمعها، إذ رأى الإمام عليه السلام أن مستقبل البشرية يتوقف على شهادته ودماءه التي روت الأرض بالجهاد والإيثار والتضحية لتنبت في كل الأزمنة أشخاص يسيرون على دربه لا يرضون الضيم ولا يقبلون الذل.وقد حدد الإمام عليه السلام المعالم الحقيقية للثورة عندما قال: "إني لم اخرج اشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ..."
7
2
المقدمة
والإصلاح فيه رؤية بعيدة المدى إلى مستقبل الأمة الذي كان الإمام عليه السلام يقرأه ويعرف عدم إمكانية الوصول إليه إلا عن طريق الشهادة...
وهنا يطول بنا المقام في الحديث عن معاني ودلالات ثورة الإمام الحسين عليه السلام حيث نوكل القارئ العزيز إلى مجموعة من المقالات نضعها بين يديه، وهى عبارة عن مقالات قيمة قدمتها شخصيات هامة على مستوى الفكر والتأصيل العلمي في فترات مختلفة في مركز الإمام الخميني الثقافي على أمل الاستفادة منها.
مركز الإمام الخميني الثقافي
8
3
الفصل الأول: إطلالة على بعض مفردات مدرسة الإمام الحسين عليه السلام
دور المجالس الحسينية في مسيرة الإسلام المحمدي الأصيل
الشيخ نعيم قاسم
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
قبل أن ندخل في تفاصيل استنتاج دور هذه المجالس في مسيرة الإسلام المحمدي الأصيل، تطرح إقامة المجالس الحسينية بعض الملاحظات العامة التي يدور النقاش حولها، وهي ثلاثة:
الملاحظة الأولى
دعا نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأئمتنا عليهم السلام في روايات متعددة للتركيز على البكاء وتذكر المأساة وضرورة الاهتمام بذكر سيد الشهداء عليه السلام وكربلاء وما تحمله من مضامين، لا بما تجسدّه من مأساة لفردٍ أو جماعة، ولو كان المقصود إبراز مأساة الفرد لكان الأمر مخالفاً لتربية الإسلام لنا في أنَّ الحياة الدنيا فانية، وأنَّ كل نفس ذائقة الموت في يوم من الأيام، ولكن لوجود قضية يجب أن تبقى حيَّة ومؤثِّرة لما تمثله واقعة كربلاء في إحياء القضية الإسلامية الكبرى لتعزيز الإسلام المحمدي الأصيل مفهوماً ومضموناً.
الملاحظة الثانية
مَرَّ إحياء عاشوراء من خلال المجالس بتاريخ طويلٍ، وفي بلدانٍ وظروفٍ مختلفة، ما أدخل على عاشوراء تصرفاتٍ وآداب وروايات وقصص ليست من عاشوراء، بل يعتبر بعضها
11
4
الفصل الأول: إطلالة على بعض مفردات مدرسة الإمام الحسين عليه السلام
موهناً للإسلام كالتطبير على الرأس، لكنَّ هذه الأمور التي تحصل هنا وهناك في طريقة إحياء المجالس لا تبرِّر على الاطلاق أن نشنَّ حملة على أصل إقامة هذه المجالس، أو على المضمون العاطفي الذي تحدثه هذه المجالس، لأنَّنا في المجلس الذي يبالغ المقرئ فيه، وفي المجلس الذي يمارس فيه البعض ممارسات لا تنسجم مع الإسلام، سنجد أشخاصاً طيبين يحبون مسيرة الحسينعليه السلام ، لكن الظروف دفعتهم لأن يستمعوا إلى هذا المقرئ أو ذاك، أو أن يكونوا في هذا المجلس، فعلينا أن ننظر إلى مجالس عاشوراء نظرة إيجابية في محاولة توجيهها واستثمارها بدل أن نشنَّ الحملة عليها كمجالس، وإن كان المطلوب أن نتحدَّث عن بعض السلبيات في المكان والمقام المناسبين لإصلاح الأمر وتعديل الصورة السيئة التي يحاول المستكبرون والمعادون والجهلة تسليطها من خلال تقاريرهم أو إثاراتهم أو تضخيمهم لبعض التصرفات.
الملاحظة الثالثة
هناك حركة منهجية منظمة قادها مراجعنا وعلماؤنا الأعلام في السابق، وهم يقودونها اليوم مع العلماء والمربين والمثقفين وقرّاء العزاء، لإجراء أفضل إطار مناسبٍ لتنقية عرض عاشوراء من الشوائب، وتشذيبه من الأخطاء، وملء المضمون بما يساعد على تأجيج العاطفة وتثبيت الفكر السليم الذي ينسجم مع طروحات الإسلام، وهذه الحركة جدية. وفي عصرنا هذا، خاصة بعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة، خطت المسألة خطوات هامة، حتى أصبحنا نجد وعياً هاماً ينشأ من خلال حضور مجالس عاشوراء لا يتسنّى في غيرها من المجالس، وما يستفيده الناس من حضور عاشوراء لا نجده في كثير من الحالات في المسجد أو في المحاضرة أو في الإطار الذي يثقف بالإسلام، إلى درجة أن البعض لا يتثقف بالإسلام إلا من خلال مجالس عاشوراء، فالعمل مستمر لملء مضمون هذه المجالس بالتوعية والتربية الإسلامية الصحيحة، وهذه ملقاة على عاتق العلماء وقراء العزاء، وهذا ما يحتاج إلى عقل وعاطفة، وسلامة في الطرح يؤسّس لفهم إسلامي مستقبليٍّ عميق ينطلق لأداء الدور وتحقيق الهدف الذي أراده الإمام الحسين عليه السلام.
أحببت أن أذكر هذه الملاحظات الثلاث قبل أن أبدأ بالحديث عن دور المجالس الحسينية في مسيرة الإسلام المحمدي الأصيل، الذي نلمسه ونستفيده من نقاط عدة.
12
5
الفصل الأول: إطلالة على بعض مفردات مدرسة الإمام الحسين عليه السلام
أولاً: القيادة الشرعية
مسيرة عاشوراء هي مسيرة مواجهة بين حاكم ظالم وقائدٍ يريد أن يثبِّت قيادة الإسلام الحقة، هذا الصراع هو صراع مزمن، من يقود؟ وبمن يقتدي الناس؟ هناك نظرية عند بعض المسلمين تقول بأنَّ وليَّ الأمر أكان برّاً أو فاجراً، يجب على المسلمين أن يطيعوه، تفسيراً للآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ النساء: 59.
، وهذا يعني أن يكون يزيد في موقعه قد قام بدور ولي الأمر كحاكم، بصرف النظر عن كونه ظالماً، وبصرف النظر عن النماذج الأخرى التي تبرّر الظلم لحكام بني أمية وبني العباس ولعددٍ كبيرٍ من الحكام الذين مرّوا عبر التاريخ الإسلامي، وهذه رؤية خطرة وخاطئة في آن معاً، لأنَّ الحاكم إذا كان ظالماً وسمع له القوم ووافقوه على مساره، يعني أن الظلم سيسود باسم الإسلام، وبالتالي يُفرَّغ الإسلام من محتواه العملي، ويبقى في دائرة النظرية الرائعة غير القابلة للتطبيق لعدم وجود الحاكم العادل الذي يقود ويحكم كمقياس تطبيقي للإسلام الأصيل.
كانت ثورة الإمام الحسين عليه السلام ثورة إسقاط الحاكم الظالم عن المشروعية لقيادة الأمة، ليقول بأن مشروعية القيادة إنما هي من الاستقامة على ضوء منهج الإسلام، فما لم تكن كذلك فلا مشروعية للقيادة، ولذا أعلن الإمام الحسين عليه السلام موقفه المشهور"يزيد فاسقٌ شاربٌ الخمر، قاتلٌ النفس المحرّمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"، فهو لا يستحق أن يكون قائداً، ولا يستحق أن يكون ولياً يحكم المسلمين، وبالتالي نفهم درساً أساسياً بأنَّه يجب أن يكون الحاكم عادلاً حتى يستحق الحكم، ويجب أن ينسجم الولي مع تعاليم الإسلام الحقة لا مع مصالحه وفساده ليكون مقبولاً، وهذا التأسيس يساعد بشكل مباشر على إعطاء القيادة أهميتها، وما لم تكن هناك قيادة مستقيمة فلا ينتظرنَّ أحد من الناس أن يكون التطبيق صحيحاً للإسلام، فالتلازم قائم بشكل كبير بين القيادة والحكم، ولا إمكانية لحكم صحيح من دون قيادة مستقيمة، ولا إمكانية لحكم صحيح لقيادة مستقيمة لا تتمكَّن من الحكم، فلا بدَّ أن تجتمع القيادة المستقيمة مع الحكم بالإسلام كي نحصل على النتيجة، وإلا ستكون النتيجة سلبية، وستكون الشعارات مختلفة تماماً عن التطبيق.
13
6
الفصل الأول: إطلالة على بعض مفردات مدرسة الإمام الحسين عليه السلام
ثانياً: التأويل الصحيح لفهم تعاليم الإسلام
أنتم تعلمون بأنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نُزِّل عليه القرآن الكريم، وأعطانا من أحاديثه وأفعاله وتقريراته ما أسَّس للإسلام، وأعطانا نظرية متكاملة للحياة. لكنَّ هذه النظرية تحتاج إلى تطبيق، وإلى متابعة وتفسير، كيف نتعاطى مع التفسير؟ هنا تكمن المشكلة! فقد اختلف المسلمون في كيفية التفسير والتفصيل، بل حصل قتال على التفسير، وهذا القتال أدى إلى نشوب صراعات، بدأت بعد وفاة الرسولصلى الله عليه وآله وسلم ، وامتدت لتبلغ أوجهها في عهد خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام في معارك ثلاث: في "صفين" و"الجمل" و"النهروان"، وتُرجمت في أقصى تعابيرها في الجريمة الكبرى التي ارتكبها "يزيد" في كربلاء، ما يعني أن خلافاً كبيراً وواسعاً نشأ على التأويل، ولم ينشأ على أصل الشريعة، فالأصل موجود، وآيات القرآن موجودة، والأحاديث الشريفة موجودة، لكن كيف تفسرون آيات القرآن والأحاديث الشريفة؟ ولقد صدر عن علماء كبار، وفي محطات تاريخية مختلفة، تفسيرات مختلفة للآية الواحدة، وربطت الآيات بطريقة تبرر لواقع عملي دون آخر، حتى أنَّ شيخاً كبيراً من المشايخ أفتى بجواز الصلح مع العدو الإسرائيلي! على قاعدة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح في صلح الحديبية، فاستفاد من كلمة صلح، ومن واقعة الصلح التي حصلت، ليبرِّر صلحاً بالمعاهدات التي جرت مع اليهود في المدينة المنورة، ليجعل من الصلح مع إسرائيل كيفما كان وبتثبيت الكيان الإسرائيلي أمراً مقبولاً! هذا تفسير خاطئ لحادثة تاريخية، وربط خاطئ بواقع معاش.
لكن من أجل رفع الالتباس في التفسير أو التأويل، نلجأ إلى تصحيح المنهجية باعتماد طريق الأئمة عليه السلام ما يساعدنا على سلوك طريق الإمام المعصوم الذي يقف مع الحق، فيسهِّل علينا الاستنتاج في مسار الأحداث. إنَّ موقفنا مع الحسين عليه السلام كسيد شباب أهل الجنة، ومؤهل للقيادة الشرعية الحقَّة، يسهِّل علينا فهم الأحداث التي جرت معه، ويحدد موقفنا بوضوح من يزيد وأعماله وعماله. مع الحسينعليه السلام نحدد القيادة العادلة ونرفض القيادة الظالمة، ونثبت مفهوم الجهاد وإحياء الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعنى الإصلاح في الأمة.
يشرح لنا أمير المؤمنين علي عليه السلام -كما ورد في نهج البلاغة-كيفية تعاطيه مع
14
7
الفصل الأول: إطلالة على بعض مفردات مدرسة الإمام الحسين عليه السلام
الخوارج، وأنه قاتلهم لما دخل في فهمهم من الزيغ والإعوجاج، ولو كانوا بالعنوان العام أخوة في الدين، فلقد قاتل المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخوتهم وأقاربهم من الرحم لإعلاء كلمة الدين، وكذلك عليهم أن يقاتلوا من انحرف من المسلمين، فيقول:
"فلقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنَّ القتل ليدور على الآباء والأبناء والاخوان والقربات، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلاَّ إيماناً، ومضياً على الحق، وتسليماً للأمر، وصبراً على مضض الجراح. ولكنَّا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام، على ما دخل فيه من الزيغ والإعوجاج والشبهة والتأويل. فإذا طمعنا في خصلة يلمُّ الله بها شعثنا، ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا، رغبنا فيها، وأمسكنا عما سواها".
فالقتال مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان على التنزيل لتثبيت الإسلام في مواجهة الجاهلية وأهلها، والقتال مع الخوارج الذين ينتسبون إلى أخوَّة الإسلام قتال على التأويل وتصحيح الفهم والإعوجاج. وفي نقد أمير المؤمنين علي عليه السلام لمعاوية، يؤكد على أنَّ الخلاف على التأويل، وهل هناك أجدر من الإمام علي عليه السلام في تأويل القرآن وتبيان تعاليمه الصحيحة؟ وهل يعقل أن يدرك معاوية تأويله الصحيح في مقابل علي عليه السلام ؟ قال الأمير عليه السلام: "وقد ابتلاني الله بك، وابتلاك بي، فجعل أحدَنا حجةً على الآخر، فعدوتَ على طلب الدنيا بتأويل القرآن، فطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني، وعصبته أنت وأهل الشام بي، وألَّب عالمُكم جاهلَكم، وقائمُكم قاعدَكم، فاتَّقِ الله في نفسك، ونازِع الشيطان قيادَك".
إنَّ موقف الإمام الحسين عليه السلام في عاشوراء لم يترك مجالاً لأي تأويل وتفسير، فموقفه هو الصحيح، وهذا ما جعلنا نقرأ عاشوراء قراءة تاريخية سليمة نرى من خلالها كيفية المحافظة على أصالة ونقاء المشروع الإسلامي.
ثالثاً: عاشوراء والتضحية
إذا لم يضحِّي المسلم بنفسه وماله في سبيل رفعة الإسلام فلن يكون للإسلام حضور ووجود في حياة الناس، وعندما يتخلَّى المسلم عن الجهاد ويرفعه عنه فهذه بداية الوهن والضعف والانحراف في الأمة، حيث نحتاج دائماً إلى شعلة الجهاد للنفس وللأعداء. وها هي نهضة الإمام الحسينعليه السلام تثبِّت المسار الذي يعتبر عزَّة المسلمين هدفاً تهون لأجله
15
8
الفصل الأول: إطلالة على بعض مفردات مدرسة الإمام الحسين عليه السلام
الحياة الدنيا، ففي خطبة الإمام الحسين عليه السلام في عاشوراء: "ألا وإنَّ الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتثين: بين السِلَّة والذِّلة، وهيهات منَّا الذِّلة"، وفي شعر منسوب إليه:
إن كان دين محمد لا يستقم
إلاَّ بقتلي فيا سيوف خذيني
لا بدَّ من التضحية لتثبيت المسيرة واستقامتها، وهذا ما يتوضح من التجربة العملية المعاصرة، فلنلاحظ كيف كان واقع المسلمين عندما تخلوا عن الجهاد؟ تكاثرت عليهم الأمم تكاثر الأكلة على قصعتها، واستُعمرت بلدانهم، وحُرموا من أبسط حقوقهم، وتجزأت أوطانهم، وتركوا دينهم، وتعلقوا بالقشور التي تركها لهم الاستكبار أو ألهاهم بها. أمَّا عندما عادوا إلى جذوة الجهاد المستفادة من التضحية العاشورائية، واستُحضرت كربلاء في نفوس شبابنا وأمتنا، رأينا أن دولةً إسلاميةً مباركة في إيران قامت، مستلهمة من عاشوراء، وقامت المقاومة الإسلامية في لبنان مستلهمة من عاشوراء، واستطاعت الحركة الإسلامية عموماً أن تحقق إنجازاً هاماً في إثبات هويتها المستقلة والواضحة والأصيلة، ما جعل المستكبر يحسب حساباً لرؤية حضارية منافسة لها مستقبلها عند شعوب المنطقة، بل عند شعوب العالم، كمنارة هدى. ولذا بدأت الحرب الأمريكية والغربية عموماً حرباً طاحنة على الإسلام، لمحاصرته فكرياً وسياسياً وثقافياً وإعلامياً وبكل الوسائل، على قاعدة أنَّ هذه الروح الجهادية التي انطلقت مستلهمة من عاشوراء ستؤسس للتمرد على النظام الدولي، وللتمرد على القرارات المتفق عليها بين المستكبرين، وتؤسِّس لاستقلال شعوبٍ لا يُفترض بها أن تستقلَّ بفكرها وإرادتها وقراراتها وإمكاناتها، وهذه مخالفة للمسار الدولي العام الذي يريد أن يحتكر كل شيء بيد المستكبرين ويمنع المستضعفين من أن يأخذوا حقوقهم.
رابعاً: العاطفة
في عاشوراء تأجيجٌ للعاطفة والمشاعر، تأجيجٌ للحب للحسين وأصحاب الحسين وأهل بيت الحسين عليه السلام، والبعض يستنكر، ويعتبر أن عاشوراء يجب أن تُعقلن، وأن نناقش الأمور فيها بموضوعية وفكر كي نتمكن من فهم أبعادها والاقتداء بها. نقول لهؤلاء: لو كان الفكر يصنع جهاداً لما كانت العاطفة أساسية في العملية التربوية، لكنَّ الفكر يؤسِّس ويضع القواعد، إلا أنه إذا غرق الإنسان فيه فإنه يجمد عند التحليلات والرؤى النظرية
16
9
الفصل الأول: إطلالة على بعض مفردات مدرسة الإمام الحسين عليه السلام
التي لا تنسجم مع الواقع العملي، عدا عن أن الذين يفكرون بالقواعد والأسس لا يتجاوزون نسبة قليلة في الأمة، وعلينا أن نعطيهم النتائج والتحليلات، وإلاَّ فماذا نفعل بعوام الناس وبالقاعدة الكبيرة منهم؟
العاطفةُ مطلوبةٌ، وتعزيزها أساسي، ولذا ركز أئمتناعليه السلام على البكاء، لا لصنع المأساة، وإنما لتأجيج العاطفة التي تتحول إلى حب وعشق للإمام الحسين عليه السلام ، فنصبح هائمين بحركته وثورته، ونتخيَّل أنفسنا مكانه، وفي موقعه، فنعطي نزراً مما أعطى، لأنَّ درجة حبه لله تعالى جعلته ينسى جسده ليتعلق بالسماء، وإنما نحاول أن نشحن عواطفنا تجاه الإمامعليه السلام لنتزود من طريقته وأدائه في تذويب الذات لله تعالى، كي نعطي كما أعطى، فتكون العاطفة بذلك مقدمة مؤججةً للعطاء والتضحية، ولا تكون محبطة ومذلة ومختلة كما يتصور البعض. لا يمكن أن نُغفل مشاعر الناس، ولا يمكننا أن نبني قوة لا تنطلق من الحب والتفاعل، حتى أن الله تعالى عندما حدثنا عن المقارنة بين شؤوننا الدنيوية والارتباط بالله قارن بالحب كعنوان عاطفي أساسي يؤثر على الاختيار، فقال: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ التوبة: 24.
، فذكر الحب في عملية المقارنة ولم يذكر العقل، ليقول لنا بأنَّ تعلقنا بالدنيا تعلقٌ عاطفي وليس تعلقاً عقلياً، ولو سألتَ الذين يحبون الدنيا ويتبعون أهوائهم وينحرفون: هل أنتم مقتنعون بانحرافكم؟ لقالوا: لا. وإنما بعد لحظات ينحرفون، لأن مشاعرهم مشدودة إلى الحرام، وأحاسيسهم قد غلبت عقولهم.
يريد الله تعالى أن يركز فينا الحب له، على قاعدة أنَّ هذا الحب لله ولرسوله وللجهاد في سبيله هو الذي يؤسس المشاعر والعواطف بشكل سليم، لنتخلى عما يشدُّ إلى الأرض، وهذا ما ينسجم مع طريقة إحياء مجالس عاشوراء في تأجيج العاطفة التي تربط بالحقُ والقيادة وبالإسلام العظيم الثوري برفض الظلم، وهذا كله في إطار عاطفي، لتخرج المواقف مملوءة بالأحاسيس، وتؤثر في واقع الأمر، بدل أن تكون المواقف عُقلائية بحتة تُبعد الناس عن التضحية. فلو فكَّر الإنسان بعقله، بين قوته وقوة الآخرين لوقف جامداً، أمَّا عندما يعيش
17
10
الفصل الأول: إطلالة على بعض مفردات مدرسة الإمام الحسين عليه السلام
بأحاسيسه حب التضحية والجهاد في سبيل الله، فإنه يقلِّل من قوة الآخرين، ويندفع بقوة الله تعالى، ويسمو بعطائه، فتتجاوز عاطفته جسده، وتتجاوز عاطفته تحليله العقلي والمنطقي، ما يؤدي دوراً أساسياً في الدفع إلى الأمام من أجل تثبيت الإسلام المحمدي الأصيل.
خامساً: كل ما عندنا من عاشوراء
إنَّ ما عندنا من عاشوراء، كما يقول الإمام الخميني قدس سره :"كل ما عندنا من عشوراء"، كيف يكون ذلك؟ وكيف نرسِّخ الإسلام المحمدي الأصيل بما عندنا من عاشوراء؟ لأنَّ عاشوراء خططت لمنهجية ترفض غير الإسلام، ولا تقبل إلا بالإسلام المستقيم، ترفض الظلم ولا تقبل إلا بالعدالة، ترفض الجور ولا تقبل إلا بإنصاف الناس، ولذا يركز الإمام الخميني قدس سره في بداية وصيته حديثه عن الإمام الحسين عليه السلام طالباً من الشعوب المسلمة عدم التهاون، "وعدم الغفلة عن مراسم عزاء الأئمة الأطهار، وخاصة سيد المظلومين والشهداء حضرة أبي عبد الله صلوات الله الوافرة وصلوات أنبيائه وملائكته والصالحين على روحه الوثَّابة العظيمة. وليعلموا بأنَّ تعاليم الأئمة عليه السلام لإحياء هذه الملحمة التاريخية الإسلامية، وكما أن كلِّ اللعن والاستنكار على ظالمي أهل البيت إنما هو بأجمعه صرخة مدوية للشعوب في وجه الحكام الظلمة على مر التاريخ وإلى الأبد، كما ينبغي الحرص على تضمين المنائح والمراثي والمدائح المنظومة في أئمة الحق عليه السلام استعراض جرائم الظالمين في كل عصر ومصر"، نلاحظ من خلال كلام الإمام الخميني قدس سره في مسألة إحياء هذه المجالس، وجوب رفض الظلم على المستوى العملي، وربط الحاضر بالتاريخ الكربلائي، والانتفاضة على الواقع القائم، والتأسيس للإسلام الأصيل، وهذا ما يفسر معنى كل ما عندنا من عاشوراء، لأنه ربط للواقع بالواقعة التي حصلت في عاشوراء، للاستفادة من دروسها وعبرها لحياتنا.
سادساً: مشاركة الجميع
حصلت في كربلاء حالة ملفتة، فالمعركة في مكان لا ماء فيه، والعدد قليل لا يتجاوز النيف والسبعين من الرجال، والمعركة بحضور النساء والأطفال، الطفل موجود عبد الله الرضيع، والشاب موجود علي الأكبر، والعجوز موجود حبيب بن مظاهر، والمرأة موجودة العقيلة
18
11
الفصل الأول: إطلالة على بعض مفردات مدرسة الإمام الحسين عليه السلام
زينب، والقائد المعصوم موجود الإمام الحسين عليه السلام ، فالكل موجود على أرض المعركة: القيادة، والرعية، والمقاتلون والصغار والنساء، بمعنى آخر كل فئات المجتمع على اختلاف مواقعها وأدوارها وانتماءاتها موجودة في المعركة، ما يعني بأنَّ الإسلام المحمدي الأصيل لا يمكن أن تكتمل قوته إلا بتظافر كل الجهود ومن دون استثناء، كل واحد من أفراد المجتمع معنيٌ بالعمل في سبيل الإسلام، وكل واحد يجب أن يقوم بما عليه، ولعلَّنا الآن نشعر بقوة مميزة لأنَّ بيوتنا بأسرها قد تفاعلت مع الإسلام. فلو كانت المقاومة الإسلامية مقتصرة على شباب مجاهد منفصل عن بيئته وأهله وأطفاله وبيته لما كانت لها تلك القوة المتأججة التي تصنع المستقبل، إنَّها مسارُ الشباب والنساء والعجزة والأطفال، بحيث تتفاعل مع كل بيت وكل قرية بما فيها من تنوع، كجزءٍ لا يتجزأ من مسيرة الجهاد والعمل للإسلام. لولا هذا لما كنا على القوة التي نحن عليها اليوم، ولما كانت كربلاء على القوة التي عليها، والتي نستمد منها هذا المعنى، كان يمكن أن يقال لولا ما حصل في كربلاء لقُتل الإمام الحسين عليه السلام وحده وقيل أنه اغتيل وانتهى الأمر، ولو قاتل الرجال وحدهم لقيل بأنَّ النساء لا علاقة لهنَّ، لكن عندما حضر الجميع في المعركة، فهذا يعني أنَّ بناء مسيرة الإسلام المحمدي الأصيل يحتاج إلى كل الطاقات من دون استثناء، ولكل طاقةٍ دورٌ في المسيرة الواسعة التي تحتاج إلى أداء الدور من خلال العطاء
سابعاً: القدوة
مهما تحدثنا عن سلامة الخط تبقى القدوة هي الأساس، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾الأحزاب: 21.، ولو كان يكفي أن ينزل القرآن من دون قدوة لوزعت الكتب علينا وتعلمناها من دون أنبياء وأوصياء، لكن الكتاب لا يكفي وحده، ولذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدوتنا ثم تابع الأئمة المسيرة، وفي الحديث الشريف تأكيد للتلازم بين القرآن والعترة الطاهرة القدوة: "إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض".
نحن نستفيد من عاشوراء القدوة، من الذي يستطيع أن يحتج اليوم ويقول بأني غير معنى بالتضحية أو بمسيرة الإسلام المحمدي الأصيل أو بالعطاء أو ما شابه؟ إذا كنت تعتقد بأنّ
19
12
الفصل الأول: إطلالة على بعض مفردات مدرسة الإمام الحسين عليه السلام
ما قام به الإمام الحسين عليه السلام إنما قام به كإمام معصوم وأنت لست في مستواه، لماذا لا تنظر إلى علي الأكبر؟ وإلى حبيب بن مظاهر؟ بحسب عمرك وبحسب وضعك الشخصي! تستطيعين أن تنظري إلى زينب، ماذا فعلت؟ وكيف تصرفت؟ كل هذه النماذج قدوة، والقدوة أساسية في مسارنا العملي، وفي إحياء الإسلام المحمدي الأصيل. في المحصلة فإنَّ مجالس عاشوراء مجالس تربية وتعبئة وتعريف بالإسلام، وهي مجالس رفض الظلم، والتأسيس للإسلام الصحيح، وبناء القدوة، وتحميل المسؤولية لجميع أفراد الأمة، وربط التاريخ بالواقع، والاستعداد للتضحية، وكلها عناوين تؤسس لمنهجية إسلامية تثبِّت معالم الإسلام المحمدي الأصيل، فإذا أحسن المسلمون إحياء هذه المجالس وفق هذه القواعد استطاعوا أن ينقلوا التاريخ إلى حاضرهم، ولكم في تجربة إيران الإسلام أسوة حسنة، ولكم في المقاومة الإسلامية في لبنان أسوة حسنة، فنحن لسنا أمام فكرة مجرَّدة، وإنما نحن أمام واقع يمتلىء بالعاطفة والأحاسيس التي نحتاج أن نؤججها لتعبِّر عن المضمون الذي ذكرناه، عندها نستطيع أن ننقل مجالس عاشوراء إلى واقعنا، وأن نقول: كل ما عندنا من عاشوراء، فيطبق الإسلام المحمدي الأصيل في حياتنا الشخصية، وفي علاقاتنا، وفي نهضة أمتنا بشكل عام، في مواجهة القضايا المختلفة التي نتصدى لها، وعندها لا يمكن أن تكون هناك أي عقبة من العقبات*
مجالس عاشوراء ليست مجالس للماضي، مجالس عاشوراء ليست مجالس للذكرى، مجالس عاشوراء لصنع الحاضر والمستقبل، وعليه فإنَّنا من عاشوراء نتعلم أن نقف بوجه ظالمي العالم وناهبي ثروات العالم، ونتعلم أن لا نرضخ للقرار الأمريكي الدولي، لا نسلِّم للكيان الإسرائيلي، ونحن مقتنعون بأنَّ من نَصَر الثورة العاشورائية بأبعادها ونتائجها التي أينعت بعد فترة من الزمن ينصر المجاهدين العاشورائيين إذا صدقوا مع الله، ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُم﴾ آل عمران: 160.، ينصر كل جماعة تسير في هذا الخط، قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ القصص: 5.
*- محاضرة ألقيت في محرم 1416هـ في مركز الإمام الخميني الثقافي – بيروت
20
13
المحاضرة الثانية: الحسين عليه السلام مدرسة الأحرار
المحاضرة الثانية: الحسين عليه السلام مدرسة الأحرار
الأديب الراحل سليمان كتاني
أيها الحضور الكريم، نحن في اليوم الخامس من مجزرة كربلاء. بعد خمسة أيام أُخر، يُسدل الستار على المأساة الممدودة فوق صفحة الرمل بنقلها من حزام كربلائي الخشبة، يئنّ فوقها الموت المجبول بصرخات الدم والذّل الممرّغ بآهات العطش، إلى حزام ملحمي الامتداد، تموج فيه الحياة بأسرار البقاء وينِّزُ عليه العزّ الملقح بأمجاد العنفوان.
إنّ لي كتاباً ألفته أفتخر بالإشارة إليه، أحرز الجائزة الأولى في مضمار التأليف عن الإمام الحسين عليه السلام، ليس لأنه انخط بحرف من حروفي الأدبية، بل لأنه ازدان بلون الصدق المطرّز بالإمام الحسين عليه السلام، عنوان الكتاب "الإمام الحسين في حلة البرفير".والبرفير أو الأرجوان، هو الأحمر الزاهي الذي تضرجت به جبة الحسين عليه السلام وهو يخوض غُمار المعمعة الوسيعة التي نقلته من خشبةٍ حزينة رُسمت لمسرح كربلائي، إلى امتداد ملحمي يحيى فيه أبطال الملاحم من دون أن تمسهم لا هفوات المكان ولا لهوات الزمان، بل تنشرهم إلى علاء أُبهة الفضاء وصفوة الضياء.
يحلو لي أن أشير إلى ثلاث صفحات وردن في هذا الكتاب، أركز على كل واحدة منها موضوع حديثي المتواضع الموجّه إليكم في هذه الأمسية العاشورائية، علّكم ولعلّي معكم نسرح في هيامٍ صادق، ندور به في فضاءٍ حسيني مُستخلص من الحزن الممسوح بطعم المكاره، ولكنه المُدبّج بأريج من طيب لا يُشيعه علينا إلا عنفوانٌ زرعه في مدانا نهج الحسين عليه السلام، حتى نحقق به طموحات مدانا.
جاء في الصفحة 152 من هذا الكتاب قطعة عنوانها "كربلاء" ما يلي: والملاحم إنها نادرةٌ في الشوق والتطبيق، لهذا بقيت حصة من حصص المتشوقين إليها، وإنهم ما قدروا
21
14
المحاضرة الثانية: الحسين عليه السلام مدرسة الأحرار
أن يعالجوها ويقدموا أنماطاً عنها إلا في صنيع أدبي مجنح بالخيال، هرقوا عليه جهداً واسعاً وسنوات طويلة في البحث، والتدقيق والتنقيح حتى يجيئ قريباً من الواقع الإنساني إلا انه بقي تعبيراً عن واقع آخر لا يقدر الانسان ان يحياه إلا بشوقه وخياله واحلامه إن ملحمة الأُلياذة تشهد لهوميروس كيف خصص عمره كله لها، فإذا هي صنيغٌ أدبيٌ شعري خيالي، ليس فيه غير أبطال آلهة خاضوا الأجواء كلها، وربطوها بالميدان الأوسع، وأجّجوا الصراع وألهبوه بالبروق والرعود، وبقي القرّاء وحدهم المشاهدين كيف يتم زرع البطولات الخارقة، وكيف يتم الانتصار في المعركة الإلهية التي يحاول أن يُقلدها الإنسان.
ما أروع الحسين عليه السلام يجمع عمره كله ويربطه بفيضٍ من معاناته ويجمعه إلى ذاته جمعاً معمقاً بالحس والفهم والإدراك فإذا هو كله تعبير عن ملحمة قائمة بذاتها، صمّم لها التصميم المنبثق من واقع إنساني عاشه وعاناه وغرق فيه إن الملحمة التي قدمها على خشبة المسرح في كربلاء، هي الصنيع الملحمي الكبير، ما أظن هوميروس تمكن من تجميع مثله في إلياذته الكبيرة والشهيرة هنالك أبطال اعتروا الجوّ خشبةً لعبوا عليها، وهنا بطولةٌ واحدة أتمت ذاتها بذاتها، فذّة في مسراها، ومصممة في عزمها، وإنسانية في قضيتها، وواضحة في أهدافها، وحقيقية في عرضها المشاهد؛ وهي بالوقت ذاته مُركّزة على ملحمة أخرى أصيلة، هي التي قدمها جدّه العظيم، ونفذها فوق الأرض وتحت السماء، فإذا هي ملحمة تنتصر بالإنسان فوق أرض الإنسان وتحت سماء الإنسان، لا خيال فيها، بل واقع إنساني محض، لَحمَتَ الأمة وعجنتها بعضها ببعض في وقت لم يتجاوز العشر من السنين، أما الفترة التي اظهر فيها الحسين ملحمته الثانية والمشتقة منها فلم تتجاوز عشرين يوماً من أول خطوة خرج بها من مكة إلى آخر خطوة خرّ بها صريعاً في كربلاء العطشى، وهي ضفة من ضفاف الفرات.
وجاء في الصفحة 150 ما هو تتمة لحديثٍ كان دائراً بين الإمام الحسين عليه السلام وأخيه محمد بن الحنفية، وذلك في مكة بعد أن انسحب إليها الإمام عليه السلام من المدينة يثرب لتوضيب أموره وإنجاز قراراته قال: "ليست الأمة إلا دائماً بحاجةٍ إلى عملية من عمليات التنبيه وها إني أقوم بالعملية، سأبدأ بيزيد فأُعلمه أن خلافة جدي ليست له أصلاً ولأيِّ آخر يخسر الفهم والتصميم!!! وإني إن لم أستردها بضربة السيف، فبمكنتي أن أحررها بخفقة الرفض
22
15
المحاضرة الثانية: الحسين عليه السلام مدرسة الأحرار
وسيحصل ذلك تحت عيني الامة، تعليما لها ان العنفوان الصحيح هو في النفوس الابية، وانه وحده المتلقط بروعة التصميم، وعندئذ تفتش عني الامة فتجدني في دائرة التصميم، انا لا ابشر الامة بالذل والاستكانة، اما القدوة الحية فستكون البادرة الاولى الاولى اقوم بها وانا في روعة الرفض، فاذا كان للرفض، بعد، ان يعلم يزيد قراءة الحق، فانه المتنحي امامي عن ولاية ليست له، اما أن لا يرضى إلا بعنقي ثمناً لمجده الأسود. فعندئذٍ تعرف الأمة أن من دمي الفِدية التي هي الثورة المكتنزة وهي التي ستبقى لها من جيل إلى جيل تزرعها في خزائن روحها، فتورق وتُزهر وتُثمر المجد الذي يحيا به مجتمع الإنسان".
وجاء في الصفحة 151 وفيها نهاية الحوار بين الأخوين واتخاذ القرار المبنيّ على روعة التصميم قال محمد أخو الإمام عليه السلام: "إني الآن أحدثك أن تُشفِق على نفسك وعلينا فلا ترحل، لا تحمل عيالك ونساءك ولا ترمهم في التهلكة وإن تُرد أن ترحل فالى اليمن إرحل"، وكان الجواب جازماً: "ولكني إلى الكوفة سأرحل!!! إلى الأرض التي امتصت دماء أبي علي عليه السلام سأرحل!!! أتاني منذ لحظة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال لي: يا حسين اخرج، إن الله قد شاء أن يراك قتيلاً وإن الله يا أخي محمد قد شاء أن يرى نسائي سبايا".
والآن أيها السادة، فلأُركِّز مقالي هذا على ما جاء في الصفحات الثلاث من كتابي في الإمام الحسين عليه السلام، فأقول: ليست قضية كربلاء موضوعاً لمسرحيةٍ مأساة تتم بعشرة مشاهد جانبية، قوامها عشرة أيام تنتهي إذ يتم الحدث ويُرخى الستار. إذا اعتبرنا ذلك حدثاً يبتدي هكذا وهكذا ينتهي، فالمسرحية بحد ذاتها مهزلةٌ لا تستحق انتظار اكتشاف اللون في قماشة الستار، إن موضوع كربلاء هو أوسع بكثير من خشبةٍ شُدّت فوق رمالٍ لا ترتوي، حتى وإن شربت كل انسيابات الفرات، فكيف بها وقد دُمرت في محفات الهجير وأُفردت لتنام في حضن العراء؟!
كل ما جاء في صفحات ثلاث من كتابي يشير إلى أن السيد النازل في القلعة الحربية المنيعة، المعززة بالمتاريس وبالحصون، ليس لقلعته تلك من اسمٍ إلا كربلاء، فهي ليست حصناً ومتراساً، بل هي قِحفٌ من رمل يابس ومهبطٌ لبلاءٍ مجنون. أما الغاية من التخييم فيها، فإنها في ازدواجيةٍ من العرض المفتوح والمكشوف، فهي هنا على الخط الطويل الجامع خطوات الأمة منذ عشرات آلاف السنين في ترحالها وتنقلها فوق الأرض الضاربة فيها من
23
16
المحاضرة الثانية: الحسين عليه السلام مدرسة الأحرار
الغرب إلى الشرق، ومن أقصى الشمال إلى أقاصي الجنوب. فلْنَقُل من غوطة الشام ومرامي تُدمر إلى مفاسح الكوفة وحنايا البصرة كلها تخفق بأنباض طورس. ومن الخطوط المربوطة بحنايا العراق إلى الحجاز المطيّب بفسحات اليمن والمخفور بالعبّ الدافئ بأنفاس الحرات والربع الخالي، إنها كلها الأرض الموصولة الشرايين تزحف بإنسانها منذ السحيق مجود الأشواق على الخط الطويل الذي شدّ عليه الإمام الحسين عليه السلام قافلته الحبيبة، من محارم الكعبة في مكة إلى المربع المكشوف في كربلاء. قلت: إن غاية التخييم في كربلاء هي في إزدواجيةٍ من العرض المفتوح والمكشوف، وها هو العرض المفتوح والمكشوف من جهةٍ تحت عين الأمة، وهي تمشي دائماً وأبداً دربها هذا والطويل والعريض وهو المنقوش بخطوتها الحية.
ومن الجهة الأخرى، تحت مُتناول جيش مؤلف من ثلاثين ألفاً بإمرة قائدٍ عام اسمه ابن وقاص، ليس الجيش المحضّر بهذا العدد وهذه العُدّة لمقارعة قافلةٍ هزيلة مؤلفة من نساءٍ وأطفال وجواري بحراسة عشرة سيوف وعشرة خناجر، إنما هي لإرهاب الأمة الماشية حثيثاً فوق الدرب الكبير والتي هي موصولة به وصلة الأصابع بالكف أو وصلة السيف بقرابه.
وابتدأ الحوار بين الآسر والمأسور، وراحت تتجسد لنا ملامح المأساة البادية للعيان، بل ضلوع الملحمة المطرزة بعقيق العنفوان، وذلك من خلال ما أفرده واقع الصراع، فالأمة التي يناديها الإمام عليه السلام إلى عمق المشاهدة قعدت بها همة مخبولة عن الالتفاف على محيط كربلاء وتخليصها من البراثن الضاغطة. أما الساحة، فإنها بقيت لمدة عشرة أيام في مجال من المراقبة اليقظة، والمزدوجة، مراقبة حبل المشاة هل تنتعش فيهم قابلية التجمع وقابلية فك الطوق عن المراشقين بنبلات السهام، ومراقبة المضغوطين تحت كماشات الضيم، هل تلين لهم قناة وينفرط عنهم عناة، ويرضخون لحروف الكلمة فتتلفظ بها شفاههم البكماء، والكلمة، إنها المبايعة ليزيد، حتى يكون الخليفة الوحيد على كل قطاعات الخلافة.
وحدها الكلمة هي الزمن، ويُفك الطوق عن كربلاء، ويعود الحسين عليه السلام إلى يثرب، وينام الهناء في فراش وثير وتحت لحاف حرير، واستقرت خطوط الملحمة على ميزانها المنضّد فالأمة المحتاجة إلى المشاهدات الكبيرة، هي الآن على الخط المفتوح على المُطلات الأربع، إنها هي بالذات المدعوة لمشاهدة المأساة المطروحة على الخشبة
24
17
المحاضرة الثانية: الحسين عليه السلام مدرسة الأحرار
الوسيعة في هذا العراء المقدس، سيكون لها أن تشاهد بأمّ العين خطوط الرفض وشبكات التعدي، سيكون الرفض في لوحته الكبرى وفي روعته المُثلى وهو يشير إلى الوحش المتدرع بهمجية الأظافر والمخالب، كيف ينشب أظافره ويضرب مخالبه في الأعناق والصدور؟! لا لأنها أعناق الخنازير الخسيسة، ولا لأنها صدور الذئاب الضارية، بل لأنها من محمد أبناء محمد، ومن الرسالة لبّها الأطهر، ولأنهم من عليّ وجدان علي، ومن فاطمة طُهرها الأندر، ولأنهم وصية ولأنهم إمامة ولأنهم خلافة ولأنهم استعداد لضبط المحارم ولأنهم وصول الأمة إلى غدٍ منور.
إنها الأمة المدعوة لحقيقة المشاهدة، وهي الأمة التي دعاها نبيّها للاعتماد بغار حراء، وهي التي أحاطها بمدارج القرآن، وهي التي أتم لها دينها المضغوط بالإسلام، وهي التي صدقته ولبته وحطمت بين يديه بدعة الأصنام، إنها ذاتها الأمة التي تمشي دربها المفتوح من محارم مكة إلى حدائق الشام، دعاها الحسين عليه السلام إلى عمق المشاهدة في مسارح كربلاء، دعاها حتى يعلمها أن الدروب الطويلة لا تُمشى بالخفاء وأن الأمم المنيعة هي التي انتعلت حتى قطعت طول المجال، وأن الذلّ يقطع عليها المجال، وأن الرفض يبلغ بها طول المجال، وأن الصدق هو الذي يعينها، وأن الحق أيضاً هو الملبيها، وأن الباطل هو الزهوق.
كم للأمة من حيّز وسيع ومخزون في بال جده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟! لولاها لما استنزل الرسالة وخزم لها القرآن وفتح لها الضفاف الرخيّة ووسعها بالجنان، فهي الوجهة بالنسبة إليه، وهي مجالسه النخي في معالم الفكر ونشاطات الروح، إنها الإنسان الذي ميزه الله عن بدائع خلقه في شملة الوجود. لمن أشد وأخص اهتمامات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمة، توضيب الإمامة بشكل دقيق، يُشرف على سياستها الأمنية ويضبطها من الضياع.
من شروط الإمامة، تعيين رجل طال التزامه بصاحب الرسالة، فتعمق فهمه، وتوسع استيعابه، وتأجج شوقه، وتطيب نهجه. فإذا هو بالنسبة إلى النبي، كأنه صنوه، واشتقاقٌ منه، وحرف من نطقه، ونزعة من روحه، لتكون الإمامة موطرة به مراناً ونهجاً وروحاً ونسلاً مطهراً ومطوعاً بالتمرس والاستمرار.
لقد أوجدت العناية فعلاً هذا الرجل المطيب والمنزّه، فتوجّه النبي الوسيع البصيرة بابنته فاطمة المشعة بطهرها.
25
18
المحاضرة الثانية: الحسين عليه السلام مدرسة الأحرار
على هذا الطراز الفريد سيكون استكمال خط القاعدة الإمامية المستمرة بالقيادة المستنيرة وهكذا من جيل إلى جيل، يكون ترسيخ الأمة على القواعد والروابط الروحية والثقافية، بحيث تكون لها الانطلاقات الأخرى التي تجعلها أمةً مؤمنة وهاديةً لكل أمم الأرض.
لقد أنزل النبي الكريم الإمامة هذه في صلب وصيةٍ خصّ بها الإمام علياً عليه السلام ليجعله الركن الأول من بعده في خلافةٍ تتوقد بها الأمم مع ممرات الحقب.
إن حجة الوداع في يوم الغدير، هي في إعلان إنزال الوصية في مرسوم مُنوّر، يجعل الرسالة والقرآن ثِقلاً، والوصية بالإمام الركن ثِقَلاً آخر، تتم بهما متوحدين ومتلازمين مسيرة الأمة في خطوط الارتباط، أن يكون للأمة أن توهى بإصغاءٍ إلى قدر حزين جعلها ترضى بفك حبل الحزام إلى جديلتين، فإنها تكون هكذا قد خسرت نصف الرهان ويكون لها أن تُزنِّر خسرها بجديلة واحدة لا بجديلتين يمتن بهما حبل الأمان.
ما كذب الشوق عند الرسول العليم، عندما ضم علياً عليه السلام إلى صدره، فتوحد الصدران وتمتن المتمتنان، ولكنه من الحيف على كل حال أن لا ترى الأمة أنها فتتت صخرتها في مداميك الأساس، وأنها قبلت بالوهن وارتمت إليه.
منذ ما يقارب المئة سنة، والأمة في عرج تمشي لا تعرف كيف تصغي، لأنها تركت ذاتها في غفلة الإسفاء. وبدلاً من أن يرشدها الوعي إلى منعةٍ ذللها ضعف الرجاء.
أين أنت يا حسين، وقد درست الخطوط كلها ابتداءً من غار حراء، وانطلاقاً إلى توحيد الأمة وتزنيرها بالإسلام، ووصولاً إلى تمتين حبل الصيانة وربط الأمة به، لتكون الإمامة صمام الأمان، تزرع العلم والفهم والحق في كل ضلع من ضلوع الأمة، وكل رجا من أرجائها، وكل درب من دروبها، وفي كل يوم من أيامها الطالعة، وفي كل غدٍ مدعو لأن يكون وسيعاً؟! ولكنك وحدك اليوم، أنت الصامد الأكبر في الساحة البكر، تستجمع الأمة حتى تراك كيف تكتب لها فصول الملحمة التي ستكون ذُخراً لها في دروبها المجدولة بممرات الحقب، فالحياة أمامها هي الحبلة، بكل مئات السنين، وبكل جديد يفتح لها مجالات العبر، ولكنك ستكون معها أبداً في روعة التركيز على رفض الذل من صدرها ومن الضمير، بجعلها العنفوان عفيفاً في النفوس وأبياً في استيعاب التصاميم. ستعلمها كيف تصبر على تحمل الضيم، وكيف تنتصر به في تقرير المصير.
26
19
المحاضرة الثانية: الحسين عليه السلام مدرسة الأحرار
ختاماً يا سيدي الحسين، أنت لهيب في ذاكرة الأجيال، وأنت مدرسة جُلّة في مدرسة الأحرار. فسلام عليك تُعلمني كيف أنتفض من ذُلّي. وكيف أستدعيك من المُلمات الجسام. لقد كسرتُ حسامي وأنا أُلبّي الرفض في واقعة الحِرّة، ولم أهدأ حتى انتقمت لنفسي من نفسي في انتفاضة التوابين، ولقد ملأت الكوفة ضجيجاً في ثورة المختار بن يوسف الثقفي، ولم أندم إلا بعد أن هدرت دمي في حقدي، ولكني كنت عظيماً مثلك عندما ملأت إيران بصدق العنفوان وحررتها من يزيد الشاه وثعلبيات الأميركان.فسلامٌ عليك من الإمام الخميني يربط خطاك بخطاه، يربط خطاه بخطاك، وبكل خطوة مشاها أبوك الإمام علي عليه السلام، والإمامة بدايةٌ بعليّ واستمراريةٌ بك ومنك، وبنا وبالرجاء المنتظر والسلام عليكم ورحمة الله 1.
1- محاضرة ألقيت في محرم 1417هـ في مركز الإمام الخميني الثقافي
27
20
المحاضرة الثالثة: الآخر في مدرسة أهل البيت عليهم السلام
المحاضرة الثالثة: الآخر في مدرسة أهل البيت عليهم السلام
الشيخ أكرم بركات
في مشهد كربلاء معسكران: يمثِّل أحدهما قمة النور، والآخر هاوية الظلمة.
وحتى لا تتكرر قصة ذلك الواقف على قبر الشهيد حجر بن عدي، الذي أجاب سائله عن هوية صاحب القبر قائلاً: هذا قبر سيدنا حجر رضوان الله عليه قتله سيدنا معاوية رضوان الله عليه لأنه كان يوالي سيدنا علياً رضوان الله عليه حتى لا تتكرر قصة الحياد السلبي هذا ورد في زيارة إمام كربلاء أبي عبد الله الحسين عليه السلام ولعن: سلام على قمة النور، ولعن على هاوية الظلمة.
السلام: يستحضر
طهر النور: أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة1.
وطهر مسيرته: السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره2.
وطهر السائرين معه: السلام عليكم يا أنصار أبي عبد الله3.
واللعن: يستهدف
أشخاص القتلة: ولعن الله آل زياد، وآل مروان... ولعن الله ابن مرجانة، ولعن الله عمر بن سعد، ولعن الله شمراً4.
1- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد، ص677.
2- المصدر السابق/الكليني، الكافي، ج4ص572، ابن قولويه، كامل الزيارات، ص323.
3- الشيخ الطوسي، مصباح المتهجِّد، ص671، ابن طاووس، اقبال الأعمال، ج2ص62.
4- الشهيد الأول، المزار، ص178، ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، ص123.
29
21
المحاضرة الثالثة: الآخر في مدرسة أهل البيت عليهم السلام
والأمة القاتلة: لعن الله أمة.. قتلتكم1.
والممهدين للقتل: لعن الله الممهِّدين بالتمكين من قتالكم2.
حينما نلاحظ عناوين المستهدفين باللعن يبرز سؤال هام حول سعة دائرة هذا اللعن بما له تأثير على النظرة إلى الآخر لا سيَّما بما يتعلق بمصير الآخَر الأخروي على حسب ما يفيده معنى اللعن الذي يتضمن البعد عن رحمة الله والدخول في عذابه وناره.
1- قد ينطلق البعض في مقام إجابته من بعض النصوص الواردة في ظرف كربلاء الخاص فيجيب: إن دائرة اللعن تتعلق بمن سمع الداعية سواء كان من المشاركين في القتال أو من الواقفين على تلِّ الحياد يبكون، فقد أورد ابن الأكثم في الفتوح بأن الإمام الحسين عليه السلام قال لعبيد الله بن الحر: "إن استطعت ألا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا فافعل لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: من سمع داعية أهل بيتي ولم ينصرهم على حقِّهم إلا أكبَّه الله على وجهه في النار"3.
تجذير الإجابة
2- ولكن أودّ أن أجذِّر الجواب ليشمل التاريخ والحاضر بما يشكِّل ثقافة لها تداعياتها في الموقف من الآخرين مستفيداً في الإجابة على العقل القطعي ونص العصمة.
الجزاء الإلهي في منطق العقل
إن العقل القطعي قاضٍ بعدالة الله تعالى واستحالة أن يصدر منه عزَّ وجلَّ ما يقطع العقل بأنه ظلم، ولهذه العقيدة انعكاسات في الحساب الإلهي يوم القيامة.
فالعقل هذا يأبى أن يكون الحساب يوم المعاد مقتصراً على معيارية الهويَّة دون أية اعتبارات أخرى بأن يكون الفرز يوم القيامة على أساس أن غير المسلمين مطلقاً يدخلون النار ثم يفرز المسلمون إلى المذاهب المتعددة فكل من لم يكن على المذهب الحق يدخل جهنم ثم يفرز أصحاب المذهب الحق بحسب أعمالهم.
1- المفيد، المزار، ص106.
2- الشهيد الأول، المزار، ص178، ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، ص123.
3- أحمد بن أكثم الكوفي، الفتوح، ج5ص74.
30
22
المحاضرة الثالثة: الآخر في مدرسة أهل البيت عليهم السلام
إن عدالة الله تعالى بحسب العقل القطعي تتنافى مع هكذا نوع من الحساب، وترشد إلى نوع آخر من الحساب الإلهي يُلاحظ المقدِّمات التي أدَّت إلى الهوية العقائدية، فهذه المقدِّمات قد يكون فيها تقصير، وقد تنطلق من قصور.
أما المقصر الذي كان يستطيع الوصول إلى الحق لكنه قصَّر ولم يصل بإرادته فهذا لا اشكال في استحقاقه للعذاب.
لكن لا يتعقل استحقاق العذاب للقاصر غير القادر على الوصول إلى الحق، والذي لم تتوفَّر بيئة الوصول إليه.
واقتصار كلامنا على الاستحقاق منطلق من إيماننا بأن الله تعالى يجب منه أن يحقق وعده فإذا وعد بالثواب يصبح الثواب واجباً منه تعالى، بينما لو توعَّد بالعقاب فإن توعَّده لا يستلزم وقوع العقاب جزماً لأنه تعالى قد يرحم فتتقدم رحمته على غضبه.
والنتيجة: أن المقصِّر يستحق العذاب لكنه قد يُرحم، وأن القاصر لا يستحق العذاب في دائرة قصوره.
الجزاء الإلهي في منطق النص
إن ما ذكرنا في منطق العقل نقرأه في نص الكتاب العزيز والنصوص الواردة عن أهل العصمة عليهم السلام فالقرآن الكريم تحدَّث عن عفو الله تعالى عن القاصرين اللذين عبَّر عنهم بالمستضعفين فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا ، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾1.
ومن لطيف ما ورد في هذا حديث الإمام الصادق عليه السلام عن أصناف الناس بالنسبة إلى الجزاء الإلهي، ففي الكافي عن حمزة بن الطيار عن الإمام الصادق عليه السلام: "الناس على ست فرق، يؤولون كلهم إلى ثلاث فرق الإيمان والكفر والضلال، وهم أهل الوعدين الذين وعدهم الله الجنة والنار، المؤمنون والكافرون والمستضعفون والمرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما
1- سورة النساء:97-99.
31
23
المحاضرة الثالثة: الآخر في مدرسة أهل البيت عليهم السلام
يتوب عليهم والمعترفون بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وأهل الأعراف"1.
وقد تناولت بعض الروايات موضوع الرحمة الإلهية لبعض المستحقين للعذاب بسبب تحلِّيهم ببعض القيم الإنسانية التي هي نوع من التجلِّي للصفات الإلهية كما نلاحظ في الروايتين التاليتين:
- ففي الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام: "إن مؤمناً كان في مملكة جبَّار فولع به فهرب منه إلى دار الشرك، فنزل برجل من أهل الشرك فأظله وأرفقه وأضافه، فلما حضره الموت أوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: وعزّتي وجلالي لو كان لك في جنتي مسكن لأسكنتك فيها، ولكنها محرَّمة على من مات بي مشركاً، ولكن يا نار، هيديه ولا تؤذيه، ويؤتى برزقه طرفي النهار"2.
وروى الشيخ الصدوق عن الإمام الكاظم عليه السلام:"كان في بني إسرائيل رجل مؤمن وكان له جار كافر، وكان يرفق بالمؤمن ويوليه المعروف في الدنيا، فلما أن مات الكافر بنى الله له بيتاً في النار من طين، فكان يقيه حرّها ويأتيه الرزق من غيرها، وقيل له: هذا بما كنت تدخل على جارك المؤمن فلان بن فلان من الرفق وتوليه من المعروف في الدنيا".
الجزاء الإلهي في كلمات العلماء
لقد أكَّد علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام هذه العقيدة في كتبهم الجليلة ككتاب القوانين الذي قال مؤلفه.
عند حديثه عن قواعد الحكماء الطبيعية المنافية لضروريات الدين "إن ما يختارونه من مخالفة أصول الدين: إما من باب ما يؤول إلى انكار أحد من الأصول بالذات كالنبوة مثلاً أو إلى انكار ما يستلزم انكاره مثل انكار ما أخبره النبي عالماً بأنه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم".
والأول: مع التقصير مستلزم للكفر في الدنيا والعذاب في الآخرة، وبدون التقصير مستلزم للأول دون الثاني.
وأما الثاني: فمع عدم التقصير لا كفر ولا عذاب، ومع التقصير لا يستلزم الكفر لكنه يوجب المؤاخذة، والعذاب، فلا بد لمن يحكم بكفر منكر الضروري من التأمل3.
1- الكليني، الكافي، ج2ص382.
2- المصدر السابق، ج2ص188.
3- الصدوق، ثواب الأعمال، ص169.
32
24
المحاضرة الثالثة: الآخر في مدرسة أهل البيت عليهم السلام
الولاية والجزاء الإلهي
ومن باب تطبيق ما ذكرنا نتعرَّض لعقيدة الولاية الحقة، فنحن نعتقد أن الله تعالى جعل الولاية للنبي وأهل بيته الأطهار ركناً أساسياً في استحقاق قبول أعمال المسلم والعقل لا يمانع هكذا شرط في الاستحقاق، فالكامل الحكيم لو قال: "إني جعلت حقاً عليَّ أن أثيب من يسير في هذه الطريق ويطعم فقراءها، فإن من سار فيها وأطعم فقراءها يستحق منه الثواب، أما من سار على طريق أخرى وأطعم فقراء تلك الطريق الأخرى فهو لا يستحق من الحكيم ثوابه، نعم قد يتفضل عليه بالإثابة لكنها ليست واجبة بحكم العقل.
وعليه فقد وردت روايات وصلت إلى حدِّ التواتر بأن شرط قبول الأعمال هو ولاية أهل البيت عليهم السلام من تلك الروايات:
1- ما ورد في الكافي عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "ذروة الأمر وسنامُهُ ومفتاحه وباب الأشياء ورضى الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، إن الله عزَّ وجلَّ يقول: "من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولَّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً" أما لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدَّق بجميع ماله وحجَّ جميع دهره، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان"1.
2- وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من لم يأت الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة بما أنتم عليه لم يتقبَّل منه حسنة ولم يتجاوز له سيئة"2.
3- عن أبي عبد الله عليه السلام: "والله لو أنَّ إبليس سجد لله عزَّ ذكره بعد المعصية والتكبُّر عُمْرَ الدنيا ما نفعه ذلك ولا قبله الله ما لم يسجد لآدم كما أمره الله عزَّ وجلَّ أن يسجد له، وكذلك هذه الأمة العاصية المفتونة بعد نبيّها صلى الله عليه وآله وسلم وبعد تركهم الإمام الذي نصبه نبيُّهم صلى الله عليه وآله سلم لهم، فلن يقبل الله تبارك وتعالى لهم عملاً، ولن يرفع لهم حسنة حتى يأتوا الله من حيث أمرهم ويتولَّوا الإمام الذي أمروا بولايته ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله عزَّ وجلَّ ورسوله لهم"3.
1- عن تلويح النوريات، ص85.
2- الكليني، الكافي، ج2ص18.
3- المصدر السابق، ج8ص33.
33
25
المحاضرة الثالثة: الآخر في مدرسة أهل البيت عليهم السلام
وقد علَّق الإمام الخميني قدس سره في كتابه الأربعون حديثاً على هذه الأحاديث قائلاً: "إن ما مرَّ في ذيل الحديث الشريف من أن ولاية أهل البيت ومعرفتهم شرط في قبول الأعمال يعتبر من الأمور المسلمة، بل تكون من ضروريات مذهب التشيع"1.
أهل البيت وثقافة الفرز
وحتى لا يفهم هذا الكلام على غير معناه المقصود والمتبَّنى لا بد من التمييز بين الاستحقاق والتفضل اللذين مرَّ ذكرهما، فالولاية هي شرط استحقاقي في قبول الأعمال، ولكن هذا لا يعني أن كل من لا يقول بالولاية سيدخله الله تعالى إلى جهنم فقد يكون هذا الإنسان نتيجة قيم يحملها وعدم موانع فيه من المرحومين في جزاء الله تعالى، فليس من الصحيح أن يقوم الإنسان بفرز الناس إلى داخلين حتماً إلى جهنم وداخلين حتماً إلى النار وقد رفض أهل البيت عليهم السلام هذا المنطق المضيق لرحمة الله تعالى كما يظهر جلياً في الرواية التي أوردها صاحب الكافي عن زرارة قال: "دخلت أنا وحمران(أو بكير)على أبي جعفر عليه السلام قلت له: إنما نمدُّ المطمار، قال عليه السلام: وما المطمار؟ قلت التّرأي خيط البناء فمن وافقنا من علويٍّ أو غيره تولينا، ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه، فقال لي: يا زرارة، قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله عزَّ وجلَّ: إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً؟! أين المرجون لأمر الله؟! أين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؟ أين أصحاب الأعراف؟ أين المولَّفة قلوبهم؟"2.
إنه حديث صارخ برفض مدرسة أهل البيت عليهم السلام فكرة فرز الناس في مصيرهم الأخروي بشكل حتمي من دون مراعاة جانب خصوصيات في الإنسان تستمطر أو تفيض عليها الرحمة الإلهية والتفضل الرباني.
آثار مدرسة أهل البيت عليهم السلام
إن هذا الاعتقاد حينما يترسَّخ في الثقافة الشعبية فسيكون له آثار نفسية ونتائج تربوية محمودة على صعيدي الفرد والمجتمع:
1- المصدر السابق، ج8ص270.
2- الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ترجمة السيد محمد الغروي، ص512.
34
26
المحاضرة الثالثة: الآخر في مدرسة أهل البيت عليهم السلام
* فهو يوسِّع نظرة الإنسان وأفقه بين رحيمية الله ورحمانيته.
* وهو يؤصل الوحدة بين المسلمين بحيث لا ينطلق المسلم في نظرته إلى الآخر على أساس أن مصير الآخر والحتمي هو نار جهنم.
* وهو يوائم بين المسلكين الثقافي والسياسي في العلاقة مع الآخر.
* وهو ركيزة مهمة للحوار مع الآخر بروح منفتحة.
المتخلفون عن الفتح على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام
على ضوء ما تقدم أطل اطلالة مختصرة على أولئك الناس الذين تخلفوا عن الفتح في نهضة عاشوراء ولا أعني بهم الذين حاربوا الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه؛ فإن النظرة إليهم لا تحتاج إلى بيان، إنما أعني أولئك الذي لم يحاربوا ولم يقفوا إلى جانب من حاربه ولكنهم لم يناصروا إمام زمانهم، وهؤلاء هم على أنواع اقتصر بالحديث عن بعضها:
1- فمنهم من كانت مشكلته في عدم النصرة هو الجبن والخوف وهو ما يرجع بالتأكيد إلى ضعفٍ في العقيدة، من جملة هؤلاء نقرأ قصة عبيد الله بن الحرّ الجعفي الذي كان يعرف الإمام الحسين عليه السلام جيداً ويدرك قيمة الولاء له وهو الذي قال له قرب كربلاء على عتبة اليوم العاشر حينما طلب منه الإمام النصرة: "والله إني لأعلم أن من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أغني عنك ولم أخلِّف لك بالكوفة ناصراً، فأنشدك بالله أن تحملني على هذه الخطة، فإن نفسي لم تسمح لي بالموت"1.
إن هذا الرجل لا تنقصه معرفة بصاحب الحق لكنه جبان وشفَّاف في الاعلان عن جبنه بخلاف البعض الذي أخذ يتذرَّع بأمور أخرى لعدم النصرة.
2- ومن هؤلاء من لم يتحدث عن عدم قناعة بالموقف بل برَّر خذلانه للإمام ببعض العناوين الدينية، ومن أمثلة هؤلاء عمرو المشرقي وابن عمه اللذين واجههما الإمام الحسين عليه السلام أعتاب العاشر فقال لهما: "اجئتما لنصرتي؟ فأجاب عمرو: إني رجل كبير السن كثير الدَّين كثير العيال، وفي يدي بضايع للناس، ولا أدري ما يكون وأكره أن أضيَّع أمانتي"2.
1- الكليني، الكافي، ج2ص382-383.
2- الدنيوري، الأخبار الطوال، نهاية الحسين، ص251.
35
27
المحاضرة الثالثة: الآخر في مدرسة أهل البيت عليهم السلام
لقد امتطى هذا عنواناً دينياً هو حفظ الأمانة ليبرّرا خذلانهما للدين!
3- لكن من أولئك الذين حرموا من الفتح أناس من كبار شخصيات المجتمع ومنهم من لم يصلنا تبريرٌ عنه لعدم نصرته للإمام مع مناقبيته المشهودة له تاريخياً فما تحليل الموقف من هؤلاء؟
هل نجزم بمصيرهم الأسود الجهنمي على أساس ثقافة الفرز؟
أو أن هناك تحليلاً موضوعياً آخر؟
إننا نقرأ في كلمات التلميذ الأكبر في مدرسة الإمام الخميني قدس سره وهو آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله يقول عنهم: "كان هناك أشخاص مؤمنون ملتزمون بين الذين لم ينهضوا مع الإمام الحسين عليه السلام... فليس من الصحيح أن يعدّوا جميعاً من أهل الدنيا، لقد كان بين رؤساء ورموز المسلمين في ذلك الوقت أشخاص مؤمنون وأشخاص يذعنون بالعمل وفقاً للتكليف الشرعي، لكنهم لم يدركوا التكليف الرئيسي، ولم يشخِّصوا أوضاع ذلك الزمان، ولم يعرفوا العدو الرئيسي، وكانوا يخلطون بين الوظيفة الرئيسية والوظائف التي هي من الدرجة الثانية والثالثة".
هؤلاء قطعاً هم مخطئون لا مجال للدفاع عن عملهم، لقد كان عليهم أن يتبعوا الإمام المعصوم في تشخيص التكليف، لكن هذا أمر، والحديث عن خلفيَّاتهم ومصيرهم أمر آخر حسبنا في ذلك أدب الإمام الحسين عليه السلام حينما قال عنهم "ومن تخلَّف لم يبلغ الفتح"1.
1- محاضرة القيت في محرم 1427 هـ.
36
28
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
الدكتور عبد المجيد زراقط
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمينِ، والسَّلام على سِّيد الأنبياء والمرسلين.
والسَّلامُ عليكم، أيُّها الاخوة ورحمة الله وبركاته.
الحقيقة أن الموضوع الذي طُلِب إليَّ أن أعدَّ بحثاً فيه كبير، يحتاج إلى كتب لإيفائه حقه. ولهذا رأيت أن أحصر البحث في مدَّةٍ زمنية، هي المدَّة التي تلت كربلاء، بغية رصد إسهامها في تكوين الذات الإسلامية، ومعرفة تجلِّيات التعبير عن هذه الذات. وهذا يقتضي أن نبحث في عدة قضايا، منها:
1- السياق التاريخي الذي ينبغي أن نفهم ثورة الإمام الحسين عليه السلام فيه.
2- مهمَّات الثَّورة الحسينية التاريخية.
3- طبيعة الحالة التي خلَّفتها كربلاء: حزنٌ وصحوة، وصيرورة هذه الحالة مكوِّناً أساسياً من مكوِّنات الوجدان الإسلامي في أعمق أعماقه.
4- تجسُّد هذا المكوِّن في التعبير الشعبي والشعر العربي، في ما أطلق عليه اسم العصر الأموي.
1- السِّياق التّاريخي
وصل الأمويون إلىالحكم بقوَّة السيف، وكانوا يعون ذلك ويعلنونه، فقد خاطب معاوية بن أبي سفيان أهل المدينة المنوَّرة بقوله: لا بمحبَّة وُلِّيتُها (يعني الخلافة)، ولكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة. وخاطب أخوه عُتبة بن أبي سفيان أهل مصر بقوله: لا تمدُّوا الأعناق إلى غيرنا فإنَّها تنقطع دوننا.
37
29
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
يرسم خطاب الحاكم الأموي، في هذين الأنموذجين اللذين قدمنا، طبيعة الخلافة الأموية، من حيث سُبُل إقامتها وطرائق تعاملها مع الناس، وبخاصة المعارضين منهم، فهي خلافة قائمة ليس على إرادة الناس ورغباتهم، كما تفيد، "لا بمحبة ولِّيتُها" ، وإنما على الاغتصاب، بقوة السيف القاهر، والقاطع للأعناق إن امتدت إلى حيث تحب.
يقول "فلهوزن"، في هذا الصدد، وهو المستشرق الألماني المعروف: "وكان من السخرية بفكرة الحكومة الثيوقراطية (أي الدينية) أن يظهر الأمويون ممثِّليها الأَعلين، فهم كانوا مغتصبين وظلوا كذلك، ولم يكونوا يستندون إلا إلى قوَّتهم الخاصة، إلى قوة أهل الشام. ولكن قوتهم لم تستطع قط أن تصير حقاً شرعياً".
ويبدو أن الصراع تركز، في بداية الخلافة الأموية، على قضية مركزية يمكن لجملة فلهوزن الأخيرة أن تشير إليها. ويمكن لهذه القضية أن تتخذ العنوان الآتي: الصراع بين القوة المغتصبة والحق الشرعي في الخلافة، فالأمويون يريدون أن يصير ما اغتصبوه حقاً شرعيا، ومعارضوهم يرفضون ذلك، ويعملون على كشف زيف هذه الشرعيَّة المزعومة وإسقاطها.
وكانت كربلاء الحدث الذي جعل من المستحيل للخلافة الأموية أن تصبح شرعية وأن تستمر، وكانت أيضاً الحدث الذي وضع شرعيَّة السلطان الجائر موضع التطبيق، فكانت بذلك القدوة التي تتَّبع في كل زمان ومكان، ويمكن أن نوضح هذه الحقيقة كما يأتي:
عمل الأمويون، بغية تحقيق هدفهم الذي حدَّدناه آنفاً، على إكساب خلافتهم صفة الحق الإلهي، فخاطب زياد بن أبيه أهل العراق، فقال:
"أيها النَّاس إنَّا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خَّولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة في ما أَحبَبنَا".
الحقيقة أن هذا نصُّ نادر في التعبير عن طبيعة الخلافة الأموية. يقول زياد: إن الأمويين أصبحوا ساسة الناس، ويريدون من هؤلاء الناس أن يسلِّموا بهذا الواقع الذي قُرِّر. والتسليم هذا يعود، كما يرى زياد، إلى كون الأمويين يسوسون النَّاس بسلطان الله الذي أعطاهم وخولهم. ولهذا فلهم على الناس حق السمع والطاعة في ما أحبُّوا. وهذا يقرِّر حقاً إلهياً في
38
30
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
الحكم وفي سمع الناس وطاعتهم لهذا الحكم. ويجعل مزاج الحاكم، أو ما يحبه الحاكم، مصدر التشريع بحسبان هذا المزاج إرادة إلهية، إن أطاعها الناس نجوا، لأن في هذه الطاعة طاعة الله كما يزعم. وهذه نظرية غريبة عن الإسلام، دخيلة عليه. ويمكن للمقارنة البسيطة بين هذا الخطاب وخطاب الخليفة الراشدي الأول أن تبين حقيقة هذه النظرية والفرق بينها وبين نظرية أخرى. وقد اخترنا خطاب الخليفة الراشدي الاول قاصدين إظهار الفرق بين نظريَّتين في الحكم:
1- النظرية الأموية التي تقول: فلنا عليكم السَّمع والطاعة في ما أحببنا.
2- نظرية عقد البيعة التي تقول: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، والتي تقول أيضاً: إن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوِّموني.
الواضح أن النظرية الأولى تلغي مَصدَري التشريع في الإسلام الَّلذين تقرُّهما الثانية، وهما الكتاب والسنة، وتضع مكانهما مزاج الحاكم أو ما يحبُّه الحاكم.
وقد عمل الأمويون على القول بنظريتهم وممارستها، وإقناع الناس بصحتها وإتباعها، فهذا روح بن زنباع أحد قادتهم الرَّئيسيِّن، وهو سيد قبيلة كلب، وهي القوة الرئيسية التي دعمت الأمويين، يخاطب الناس الذين أبطأوا عن بيعة يزيد، فيقول: إننا ندعوكم إلى من جعل الله له هذا الأمر واختصَّه به، وهو يزيد بن معاوية، ونحن أبناء الطعن والطاعون وفضلات الموت. وعندنا إن أجبتم وأطعتم، من المعونة ما شئتم.
في خطاب روح بن زنباع ثلاثة عناصر أساسية:
أولاً: الله يجعل هذا الأمر للحاكم ويختصُّه به.
ثانياً: إن لم تطيعوا فالطَّعن القائم.
ثالثاً: إن أطعتم فالمال حاضر.
وهذا ما فعله معاوية بن أبي سفيان، عندما أراد اخذ البيعة ليزيد، فوضع السيف إلى جانب أكياس المال، فمن أطاع له هذه، ومن لم يطع فله هذا.
يوهم هذا الخطاب بحقٍّ إلهي مزعوم، والناس بين أمرين: إما قبول أو رفض، ولكلٍّ جزاؤه، فالسَّيف والمال قائمان في خدمة الخطاب المضلِّل الساعي إلى إشاعة السمع والطاعة وسيادتهما.
39
31
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
وهكذا، كما نرى، راح الأمويون يقنعون الناس بأن تسلُّمهم الخلافة وممارستهم السياسية والاجتماعية والدينية، إلى آخره من ممارسات، مهما كانت شاذة وظالمة، أمر إلهي تجب طاعته، وقدر مرسوم لا يمكن تغييره أو تبديله، فلا جدوى من ثمَّ من الثورة عليه.
وهكذا برز، في ما بعد، ما يُتَّهَمُ الإسلام به من تسليم بالقضاء والقدر وحرصٍ على الثبات، والإسلام من هذا جميعه براء. وقد استخدم الأمويون مختلف الوسائل الإعلامية المعروفة آنذاك: الشعر، والقصص، ووضع الحديث، في سبيل نشر نظريتهم، وإقناع الناس بها. وكانوا مهرة في ذلك، يساعدهم ما وفَّرته لهم بيوت مال المسلمين من إمكانات. ويمكن أن نقدِّم نماذج من هذا الاستخدام، على سبيل المثال فحسب. فمن الحديث الموضوع ما يأتي: والأحاديث الموضوعة كثيرة جداً، يروي ابن قتيبة حديثاً عن الحجاج عن أبي هريرة، فيقول: قال الحجاج: قال لي أبو هريرة: ممَّن أنت؟ فقلت: من العراق. قال: " يوشك أن يأتيك أهل الشام، فيأخذوا صدقتك، فإذا أتوك فتلقَّهم بها، وإذا دخلوها فكن في أقاصيها، وخلِّ عنهم وعنها، وإياك أن تسبَّهم، فإنك إن سببتهم ذهب أجرك وأخذوا صدقتك، وإن صبرت جاءتك في ميزانك يوم القيامة ".
يريد هذا الحديث الموضوع من أهل العراق أن يتخلَّوا عن حقوقهم، وأن يصبروا على الظلم، وأن يطيعوا. ويريد منهم أيضاً أن يقتنعوا، وهذا الأهم، بأن في طاعتهم هذه أجراً يجيء في الميزان يوم القيامة.
وهذه هي فكرة إرجاء الحساب إلى يوم القيامة، وهكذا يوظَّف هذا الحديث وغيره من أحاديث كثيرة في خدمة المشروع السياسي الديني الأموي الذي تحدثنا عنه آنفاً.
ويوظف الشعر في الخدمة نفسها، فعندما يقول الشاعر محترف المديح:"إن أميرالمؤمنين وفعله كالدهر لا عار بما فعل الدهر"، يكون ناظماً للحديث الموضوع الآتي:" من رأى من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ".
كان الأمويون، كما رأينا، يريدون من هذه النظرية التي استخدموا الشعر والقصص والأحاديث الموضوعة لإشاعتها وإقناع الناس بها وسيادتها من ثم، تسويغ القعود والصبر على الظلم والرضا به، أو كانوا يريدون جعل ذلك القعود والصبر والرضا بالظلم طاعة
40
32
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
للشرع، يؤجر الإنسان عليها. وهذا يخفي الشعور بواجب تغيير السلطان الجائر عند المسلم، ويبعد الشعور بالجبن عند الإنسان العربي غير المسلم. ويخفي الشعور بالإثم عند المسلم الصابر على الظلم.
كان العربي يقول، آنذاك، بلسان مالك بن الرَّيب التميمي: "وما أنا كالعير المقيم لأهله على القيد في بحبوحة الضيم يرتع". كان العربي غير المشبع بتعاليم الإسلام يرفض الظلم. فكيف بالمسلم!؟ إن هذه النظرية التي تشرِّع الطاعة تدفع الفارس، الرافض أن يكون كالعير، إلى تسليم أمره لله ولخليفته، كما صار الخلفاء الأمويون يدعون، وإلى أن يرى في أعمال الخليفة مهما كانت فظيعة ومغايرة لكتاب الله وسنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كاغتصاب الخلافة والتجويع والتشريد والقتل، إرادة إلهية. في قبولها طاعة لله، موصلة إلى رضاه وجنانه، وفي رفضها ومقاومتها ابتعاد عن الله وطاعته واستمطار لغضبه، واستحقاق لعقاب خليفته. هكذا كان الأمويون يريدون تقييد حركة الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية بإرادة السلطان صاحب القوة المغتصبة القاهرة، من طريق اعتبارها قوة تسوس الناس لسلطان الله، ولصاحبها الحق في أن يحكم كما يحب ويريد.
في هذا السياق التاريخي، ينبغي أن نفهم ثورة الإمام الحسين عليه السلام . فقد كانت ثورة تكشف هذا الزيف، وتنهض إلى تصحيح الانحراف وتقويم الارتداد، وتجعل حق تغيير السلطان الجائر واجباً شرعياً ينبغي على المسلم أن يؤدِّيه.
2- مهمَّات الثَّورة الحسينية التاريخية
كانت ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، إذاً، ثورة تغيير تنطلق من تعاليم الدين الحنيف الذي كان السلطان يمارسه وفق فهم يلائم مصالحه، فأفرغه من حقيقته، وأبقى شكليات الطقوس فحسب. إن ثورة كربلاء تجديد للهجرة، أو هي الهجرة الثانية، إن صح التعبير، تسعى إلى مقاومة الثورة المضادة. وهي بهذا تواصل الطريق الذي خطَّه الإمام علي عليه السلام ومارسه. ويمكن أن نقدم مثالاً يوضح ما نذهب اليه، كان عمار بن ياسر (رضوان الله عليه) قد قال في صفين: "إننا نقاتهلم على تأويله (أي القرآن الكريم) كما قاتلناهم أمس على تنزيله"، فطبيعة القتال لا تزال هي نفسها.
41
33
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
وقد خاطب الإمام الحسين عليه السلام الناس مشرِّعاً التغيير:"من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً بعهد الله مخالفاً لسَّنة رسول الله، فلم يغيِّر بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله".
ثم خاطب المسلمين، وقد خرج ليؤدِّي واجبه في التغيير بعد أن شرَّعه في الفقرة الأولى: "ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرَّموا حلاله...".
وكتب يجيب على رسائل أهل الكوفة محدداً مهمات الإمام وواجباته:"لعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدَّائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله، والسلام".
إن الإمام، كما نرى في هذا النَّص، ليس إلا العامل بالكتاب، فالكتاب مصدر العمل، وليس ما أحببنا (كما وَرد خطبة زياد) والآخذ بالعدل والدَّائن بالحقِّ، والفعل إنما يفعله الإمام ويحاسب عليه، وليس الفعل نتاج قضاء الدهر وقدره.
إن الباحث يجد نفسه، كما يبدو، إزاء خطابين نقيضين، ومن يتأمل هذين الخطابين: خطاب السلطان ورجاله، أي الحكم الأموي من نحوٍ اول، وخطاب الإمام الحسين عليه السلام من نحوٍ ثانٍ، يرى أنه إزاء نهجين نقيضين:
أولهما: يريد للقوة المغتصبة أن تكون حقاً إلهياً في الحكم، مرجعه مزاج الحاكم الذي يعدُّ التسليم بما يحبه هو طاعةً لله.
وثانيهما: يريد للدين الإسلامي، الممثل بكتاب الله، أن يسود الحياة، وأن يلتزم الحاكم بمصدري التشريع: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الموصلين إلى العدل والحق، ويعطي الحق للمسلمين بالتغيير إن عُطِّلت الحدود واستُحِلَّ ما حرَّمه الله.
وهكذا كان الصراع في كربلاء بين سلطان خرج على تعاليم الإسلام، في الوقت نفسه الذي كان يوهم المسلمين بأنَّه الحاكم الذي اختصَّه الله ليحكم باسمه، وبين قوَّة ثائرة تريد أن تغيِّر هذا الواقع المموَّه والمزيَّف وأن تعيد للإسلام سيادته، وأن تقر شرعية الثورة على السلطان الطاغية، الجائر. وقد كان كثير من المسلمين يدركون هذه الحقيقة. فقد جاء، في إحدى رسائل أهل الكوفة إلى الإمام الحسين عليه السلام ، بعد موت معاوية:
42
34
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
"فالحمد لله الذي قسم عدوَّك الجبار العنيد الذي افترى على هذه الأمة، فابتزها أمرها وغصبها فيئها، وتأمَّر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الدولة بين جبروتها وأغنيائها، فبعداً له كما بعدت ثمود. إنه ليس علينا إمام، فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق".
إن صورة الحاكم الجبَّار العنيد، المعيد سيرة ثمود، تبدو واضحة في هذه الرسالة التي تمثل رؤية فئة كبيرة من المسلمين إلى السلطان الأموي.وقد وجد هؤلاء في الإمام الحسين عليه السلام الشخصية القادرة على مواجهة هذا السلطان، فلجأوا إليه، بوصفه كما جاء في خطاب كثير من المسلمين له، نور الأرض وعلم المهتدين ورجاء المؤمنين، وبوصفه أيضاً القادر على الحيلولة بينهم وبين ما أسموه الرق والعبودية.
كانوا يخافون من الأمويين، ويشعرون بأنهم سيصبحون أرقَّاء وعبيداً، فمن الخطاب الذي وجِّه إليه على ألسنة الناس، في هذا الصَّدد، قول عبد الله بن مطيع "فو الله لئن هلكت لنسترق بعدك". وقول شخص آخر: " لئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً ".
وهذا حدث فعلاً عندما استباح الأمويون، بعد كربلاء، المدينة المنورة. وقد أباحوا المدينة للجند يفعلون ما يشاؤون مدة ثلاثة أيام بلياليها، ففعل الأعراب بالمدينة المنورة أفعالاً لا تخطر ببال إنسان.
وهكذا ندرك حقيقة هذا النهج الذي مثله الإمام الحسين عليه السلام وحقيقه النهج الذي ثار ليغيِّره وحقيقة الموقع الذي كان يأخذه في المجتمع الإسلامي. وإن أدركنا هذه الحقائق، كما تبينت لنا، ندرك طبيعة الحزن الذي أصاب المسلمين بعد حدوث كربلاء.
3- المكوِّن الوجداني الأساس
وندرك، في الوقت نفسه، صيرورتها مكوِّناً أساساً من مكوِّنات الوجدان الإسلامي في أعماق أعماقه، فقد أحس المسلمون وأدركوا أن نوراً قد انطفأ في قلوبهم ومن دنياهم وفي مجتعهم، وأن علم المهتدين قد طُوي، وأن القادر على منع عبوديتهم قد استشهد. فحزنوا من ناحية، ولكنهم صحوا من ناحية ثانية. وظل هذان الفعلان: الحزن والصحوة متلازمين من كربلاء إلى أيامنا هذه. وإن كان لنا أن نرصد تجسدهما في الشعر العربي
43
35
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
فسوف نفعل ذلك مكتفين هذه المرة بتقديم نماذج من شعر العصر الأموي؛ وذلك لأن التقصي في الأدب العربي كله يقتضي بحوثاً طويلة، وقد يتاح في الآتي من الأيام إن شاء الله أن نقوم به.
4- تجسيُّد المكوَّن لغةً شعرية
قبل أن نقدم نماذج من الشعر نوّد أن نلفت إلى مسألة مهمة يجدر بنا ذكرها في هذا المقام، وهي أن قسماً كبيراً من الشعر الشيعي قد فقد؛ وذلك لأنه كان يكتم في ذلك الزمان، يقول الطبري في سياق حديثه عن التوابين: " وكان، في ما قيل من الشعر في ذلك، قول أعشى همدان، وهي إحدى المكتَّمات".يفيد قول الطبري أن الشعر الشيعي كان يكتَم، فكم من شعر كان مكتَّما، وبقي كذلك فلم يُقَدَّر له الخروج إلى دنيا النشر التي كانت بأيدي الرواة. ومن الأدلة التي تفيد أن كثيراً من الشعر دفن مع أصحابه أو بعدهم بقليل ما يأتي:
يقول الطبري أيضاً: "كان عبد الله بن عمر البَدِّي من أشجع الناس وأشعرهم وأشدهم حبَّاً لعلي عليه السلام"، ونسأل نحن اليوم: ماذا بقي لنا من شعر هذا الفارس الشيعي الذي كان من أشعر الناس، كما يقول الطبري؟ لا شيء يذكر فكتب الأدب لا تكاد تذكر اسمه، ومما لا شك فيه أن البدى كان واحداً من آخرين فُقِد شعرهم. ويقول أبو الفرج الأصفهاني:"إن شعر الكميت بن زيد الأسدي كان حين مات خمسة آلاف ومئتين وتسعة وثمانين بيتاً"، ولم يبق لنا نحن اليوم من هذه الآلاف الخمسة سوى مئات الأبيات. تفيد هذه الحقيقة أن ما وصلنا من شعر ليس كل ما جادت به قرائح الشعراء، وأن بعض القصائد التي وصلت قد تكون غير كاملة. في ضوء هذه الحقيقة، يمكن أن نقرأ بعض النماذج الشعرية:
يروي صاحب مروج الذهب، أن محمد بن علي عليه السلام ، ابن الحنفية، كان في ما عاش من سنين، بعد كربلاء، يتأسى بشعر ينظمه ويردده، ويذكر هذه الأبيات:
أَأَدهن رأسي أم تطيب مجالسي
وخدُّك معفور وأنت سليب!؟
أأشرب ماء المزن من غير مائه
وقد ضمت الأحشاء منك لهيب!؟
44
36
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
سأبكيك ما ناحت حمامة أيكة
وما اخضرَّ في دوح الحجاز قضيب
غريبٌ وأكناف الحجاز تحوطه
ألا كل من تحت التراب غريب
يبكي الفارس الهاشمي، محمد ابن الإمام علي عليه السلام ، طوال العمر، بكاءً يبقى ما بقيت الحياة بنوح حمامها واخضرار أرضها. وهاتان إشارتان ترمزان إلى مظهري الحياة. يبكي، ويحس غربة، ويعيش حالةً فظيعة. وإن كانت مظاهر الحياة تحيط به، فهو يسأل عما إذا كان قادراً على العيش، أو على الاستمرار في القيام بأبسط نشاطات العيش، بعدما حدث في كربلاء. وسؤاله يصوِّر الإحساس بأن الحياة، بمختلف أشيائها ومظاهرها، قد تغيرت بعد كربلاء، قد تغيَّرت بعدما انطفأ نورها، وطوي علمها، واستشهد حامي حرية إنسانها.
لقد اهتز العالم في نظر الإنسان المسلم، ولكن هل كان هذا الموقف مقصوراً على فئة من المسلمين يمثلها محمد ابن الإمام علي عليه السلام ، أو أنه شمل معظم المسلمين إن لم نقل جميعهم؟ ثم هل أدى اهتزاز علاقة الإنسان بالعالم إلى تكوين في الذات يسعى إلى تغيير العالم الذي تعرَّى وكُشِف زيفه؟
نحاول، في ما يأتي، الإجابة عن هذين السؤالين من خلال نماذج تصور وجدان الناس في ذلك العصر. ولن تقتصر محاولتنا على الشعر المتداول، وإنما سوف نلتقط ما يصوِّر أحاسيس الناس ومشاعرهم الواعية واللاواعية كما تجلت في مظاهر عديدة.
يفيد عرض بعض ما ورد، في كتب الأدب والتاريخ عن واقعة كربلاء، أن حالة من الحزن العميق عمَّت العالم الإسلامي جميعه، رافقها شعور بالذنب فظيع أثمر، في ما بعد، ثورات متتالية كانت تسعى إلى التغيير الذي أراده سيد الشهداء.
كان الإحساس بالمأساة إحساساً شعبياً عميقاً وكثيفاً إلى درجة غدا كُّل ما يذكِّر بها وكل ما يثيرها وكأنه من آثارها، وقد اتخذ التعبير عن هذا الإحساس الشعبي العميق النابض في اللاشعور الفردي والجمعي مظاهر عديدة يمكن أن نورد بعضها على سبيل المثال فحسب، ويمكن لمن يريد الاستزادة أن يعود إلى المصادر.
يروي الطبري هذا الخبر. (وتلاحظون أن المصادر التي أخترتها عن قصد غير شيعية)
45
37
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
قال: أصبحنا صبيحة قتل الحسين عليه السلام بالمدينة. نادى مولى لنا يحدثنا. قال: سمعت البارحة منادياً ينادي:
أيها القاتلون جهلاً حسيناً أبشروا بالعذاب والتنكيل...
الناس جميعهم في المدينة شعروا كأنهم سمعوا منادياً ينادي في المدينة:
"أيها القاتلون جهلاً حسيناً، أبشروا بالعذاب والتنكيل، كل أهل السماء يدعون عليكم،
من نبي وملك وقبيل قد لُعنتُم على لسان ابن داود وموسى وحامل الإنجيل ".
ويروي الطبري أيضاً ما يأتي: "فلما قتل الحسين عليه السلام لبثوا شهرين، أو ثلاثة أشهر، كأنما تُلطخ الحوائط بالدماء منذ أن تطلع الشمس حتى ترتفع ".
وقد عبر الشاعر عن هذا، فقال، ونلاحظ، أن نسبة الشعر إلى شاعر غير معروف معيَّن تفيد أنه ينطق بلسان الشعب ويجسد وجدانه.
ألم تر أن الشمس أضحت مريضة
لفقد حسينٍ والبلاد اقشعرت
وقد أعولت تبكي السماء لفقده
وأنجمها ناحت عليه وظلت.
ويروي المؤرخ هذا الخبر أيضاً: "قعد الذين ذهبوا بالرأس في أول مرحلة من الطريق، وجلسوا ليشربوا النبيذ، فإذا قلم من حديد يخرج عليهم من حائط فيكتب بالدم:
أترجو أمة قتلت حسيناً
شفاعة جدِّه يوم الحساب.
وما كادت الجماعة تشهد هذا حتى فرت هاربة.
ما يهمنا من هذه الأخبار دلالتها على طبيعة الإحساس الشعبي الذي عاشه مسلمو تلك المرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي، فالأحداث قد لا تكون مادية ووقعت فعلاً غير أنها أحداث ذاتية، أحاسيس ومشاعر وقعت نفسياً، هذا الوقوع يصور الإحساس والإثم والرعب من فظاعة ما حدث، يصور الإحساس الذي كان ينتاب أناس ذلك العصر، فيولِّد لهم رؤيا تمثِّلها أحداث هي ابنة الحالة التي كانوا يعيشونها ويعانون منها.
لم يكن هذا الإحساس خاصاً بالشيعة؛ إذ لم يكن المذهب الشيعي قد تكون في تلك الآونة، وإنما كان إحساساً عاماً وصل إلى صميم النفس الإسلامية وإلى لاوعيها، وقد تم
46
38
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
التعبير عنه على شكل رؤى تجسِّد الحالة الشعبية كما رأينا.
وقد أثارت كربلاء، في هذا المناخ الذي حاولنا الإشارة إلى ملامحه، أسئلة ومفارقات غريبة، فهذا يحيى بن الحكم الأموي، وهو أخو مروان بن الحكم (وهو ابن عم يزيد) يعجب من أن سميَّة جدة عبيد الله بن زياد، وهي "بَغيُّ"، أمسى نسلها عدد الحصى وأن آل المصطفى يقتلون، يقول ابن الحكم وهو من الأسرة الحاكمة كما قلنا:
لهَاَمٌ بجنب الطف أدنى قرابة
من ابن زياد العبد الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى
وليس لآل المصطفى من نسل!
ويعجب كثير بن كثير الهمي، وهو شاعر، فيقول:
يأمن الظبي والحمام
ولا يؤمن آل الرسول عند المقام
وهذه سيدة من عامة الناس تخرج إلى الناس سائلة على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
ماذا تقولون إذا قال النبي لكم:
ماذا فعلتم وأنتم خير الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي
منهم أسارى وقتلى درجوا بدمي
ما كان هذا جزائي أن نصحت لكم
أن تخلفوني بسوء في ذوي رحم
وقد عاش مرتكبو الفعل أنفسهم حالات أحسوا فيها بأنهم منبوذون من المجتمع، لا يملكون فرص عيش حياة طبيعية مهما علت مناصبهم.ومن الأمثلة على ذلك نذكر يزيد نفسه، فقد شعر هذا ببغض الناس له، فقال ناسباً ما حدث في كربلاء إلى ابن زياد: "زرع لي في قلوبهم (أي الناس) العداوة فبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس من قتلي الحسين ".
وتروي بعض الكتب أن يزيد قد جُنَّ ومات في إحدى نوبات الجنون. ولم يكن بعض المشاركين بقادر على تحمل بغض الناس له ونبذهم إياه، فجُنَّ أو اقترب من الجنون. ويروى
47
39
المحاضرة الرابعة: كربلاء: المكوِّن الوجداني والتَّعبير عنه
الطبري أن أحدهم، وكان الناس قد نبذوه، وكانت زوجته قد رفضته ونبذته أيضاً، فاقتحم دار ابن زياد وهو ينشد ويطلب من ابن زياد:
أوقر الركاب فضة وذهبا
قد قتلت الملك المحجَّبا
قتلت خير الناس أماً وأبا
وخيرهم إذ ينتسبون نسبا
الحقيقة أن هذا المناخ الشعبي حطَّم إطار الزيف الدِّيني الذي راح الأمويون يحوكونه، بغية أن يصير ما اغتصبوه حقاً شرعياً يؤكِّد ضرورة سيادتهم وطاعتهم. وقد أثمر هذا المناخ، وعنصره المهيمن الشعور بالذنب، حركات ثورية بدأت في السنة نفسها التي حدثت فيها كربلاء، وهذا يعني أن كريلاء كانت مكوِّنا أساساً من مكونات الوجدان الإسلامي، مكوِّن فيه حزن، وفيه وعي وصحوة وسعيٌ إلى التغيير، وهذا المكوِّن لم ينفك ولن ينفك عن الفعل طوال التاريخ الإسلامي1.
1- محاضرة ألقيت في محرم 1416هـ في مركز الإمام الخميني الثقافي
48
40
المحاضرة الخامسة: فلسفة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
المحاضرة الخامسة: فلسفة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
الدكتور فرح موسى
نحمد الله تعالى على ما كان، ونستعينه من أمرنا على ما يكون، ونسأله المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة في الأبدان.
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
هناك سؤال نطرحه دائماً في ذكرى عاشوراء الأليمة، ونرى أنه من اللازم الإجابة عليه من خلال عاشوراء ذاتها، وهذا السؤال هو: لماذا نبكي في عاشوراء؟
هل نبكي لمجرد البكاء، أم لأن عاشوراء تثير روحية الإنسان فتدفع به إلى البكاء..؟ أسئلة كثيرة تطرح، ويتفرع عنها الكثير من المعاني والدلالات التي تؤكد لنا حضور عاشوراء فينا من خلال البكاء الروحي المستلهم لكافة الصور المعنوية والملكوتية، ذلك أن هذه الصور لا بد أن تعبر عن نفسها، والدموع هي من جملة تعبيرات هذه الصور المعنوية والروحية.
لعل البعض يستغرب هذا الموضوع ويعتبر الحديث فيه والبحث عنه عملاً لا قيمة له بحيث يقال: إن البكاء هو نتيجة للضعف والهزيمة، أو نتيجة لمصيبة وقعت، وليس له أي معنى روحي، وقد يستدل هذا البعض على حقيقة ما يذهب إليه في معنى البكاء بأن الناس جميعاً يبكون وليس هناك ثمة معنى لبكائهم غير تلك الصور الظاهرة في حالاتهم، فالبكاء الفيزيولوجي ظاهرة عامة، ودليل قوي على مادية البكاء كما يرى هؤلاء، وانطلاقاً لما يذهب إليه هؤلاء، فإننا نقول: إذا كان البكاؤون يتساوون في البكاء من حيث الصورة الظاهرة، فإنهم لا يتساوون من حيث الصورة الباطنية لأن النفس الإنسانية أيضاً تعبر عن نفسها بما لا يدع مجالاً للشك بأن النفس مستقلة فيما تعبر به عن نفسها في أجواء عبادية تتجاوز
49
41
المحاضرة الخامسة: فلسفة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
المصائب والأحزان وكل ما يثير الدموع في حالات خاصة قد تحمل الباكي أو المتبكي على الظن بأن البكاء هو نتيجة لشعور خاص بألم ما أو يحدث ما يدفع المرء إلى البكاء. والحق يقال: إن المتباكي قد يجد دموعاً يذرفها، ولا يجد بكاءً، باعتبار أن ذرف الدموع شيء والبكاء شيء آخر، والدليل على ذلك ما جاء في الحديث المشهور: من أنه إذا لم تجدوا بكاءً فتباكوا. تكلفوا البكاء بهدف الإثارة الظاهرية لمشاعر التي غالباً ما تؤثر على الحالة الداخلية للإنسان، إن الفرق بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، هو أن أهل الدنيا يكون البكاء عندهم حالة مرتبطة بما يريحونه أو يفسرونه من ماديات، بينما أهل الآخرة فالبكاء عندهم حالة روحية دائمة تتجاوز الربح والخسارة المادية، ولهذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام :"إن الزاهدين في الدين تبكي قلوبهم وإن ضحكوا" في حين أن أهل الدنيا تضحك قلوبهم وإن بكوا..".
حضور الإمام الحسين عليه السلام
إن الإمام الحسين عليه السلام أبكى القلوب بما أفاضه عليها من روحية، باعتبار أن البكاء لا يستحضر الحسين عليه السلام بوصفه إنساناً تعرض للظلم والقتل مع أنصاره وأصحابه وأهل بيته، بل يستحضره بوصفه إماماً قام لله تعالى واستشهد في سبيله، وكل من يقوم لله تعالى لا بد أن يكون الحسين عليه السلام حاضراً في قلبه وسائر شؤون حياته، ذلك أن البكاء وحده لا يكفي في التعبير عن حالة الاقتداء بالحسين عليه السلام فيما طرح لأجله وفيما حمل من أهداف ودافع عنه من مبادئ.
وقول الإمام الحسين عليه السلام "ما ذكرني مؤمن إلا بكى"، ليس المقصود به البكاء الفيزيولوجي، بل بكاء الالتزام بالمشروع الإلهي الذي حمله الإمام الحسين عليه السلام ، أي أنه بكاء لله تعالى ومن خشية الله فما لم يأخذ البكاء هذا المعنى، وهذا البعد، فإن الإنسان سيبقى ضاحكاً وغير مبالِ بما أمر به في دائرة العبادات والمعاملات والسياسات، والمؤمن الحقيقي هو الذي يعبر عن حالته الروحية بالالتزام والفعل في دائرة الطاعة لله ورسوله وأهل بيته عليهم السلام ، وهو بمقدار ما يكون فاعلاً يكون باكياً، ومن خلال هذا يمكن فهم ما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه: من أن "من ذرفت عيناه من خشية الله كان
50
42
المحاضرة الخامسة: فلسفة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
له بكل قطرة من دموعه قصر في الجنة مكلل بالدر والجوهر فيه ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
لا شك أن هذا الحديث فيه إشارة دقيقة إلى معنى الالتزام، وحقيقة الإيمان، وإلا فما يكون معنى البكاء من خشية الله إذا لم تترشح عنه الإيمان والالتزام والفعل الحر في الحياة.
حقيقة البكاء
إن معنى بكاء الخشية من الله، معناه أن يكون النبي وأهل بيته عليه السلام حاضرين في حياة الناس في القول والفعل والسلوك، وقول الإمام الحسين عليه السلام ما ذكرني مؤمن إلا بكى يومئ إلى هذا المعنى ويؤكد على ضرورة أن يكون البكاء حالة روحية وليس مجرد فعل فيزيولوجي تقتصر تعبيراته على الانفعال بما قد يطرأ من أحوال في حياة الإنسان الخاصة، فالمؤمن إذا بكى كما يرى الإمام الحسين عليه السلام أثار البكاء قلبه، وعصمه من معاودة الذنب ودفع به إلى الفعل والالتزام والتعبير عنه بالثورة ضد الظلم والطغيان والفساد.
إن معنى أن نبكي، أن نجدد العهد مع الإمام الحسين عليه السلام ، ونؤكد التزامنا بالرسالة والثورة من أجلها على القاسية قلوبهم باعتبار أن بكاء الإيمان والروح ليس ضعفاً ولا تعبيراً عن الهزيمة، وإنما هو بكاء القول والفعل من أجل الحرية.
فإذا سلمنا بأن البكاء شيء طبيعي في حياة الإنسان، وأنه غالباً ما يكون تعبيراً عن حالات خاصة، إذ أنه قد يكون تعبيراً عن حالة شعورية خاصة أو عامة، أو نتيجة لمصيبة خاصة أو عامة فلا بد أن نسلم أيضاً بأن ما يميز بكاءً عن آخر هو الحالة التي تدفع إليه ونجعل منه معنى. فالإنسان يبكي من ظلم لحق به وقد يفوته أن يبكي عن الأسباب التي وقعت إليه وحملت عليه حيث يكون البناء أولى، وأكبر مثال على ذلك هو أن الذين قتلوا الإمام الحسين عليه السلام لم يبكوا إلا بعد استشهاده، ولم يكن لبكائهم أي معنى في قلوبهم، لأن قلوبهم لم تكن باكية قبل مقتله، وحينما نقول أن القلوب لم تكن باكية قبل فعلهم، فمعنى ذلك أنهم لم يكونوا مؤمنين ولا ملتزمين، كما أنهم لم يكونوا أحراراً مما تسبب في قتل الإمام عليه السلام مع صحبه وأنصاره.
وقد علمنا أن البكاء هو تعبير الحرية، وكونهم كانوا عبيداً فقد أدى ذلك إلى مصيبة
51
43
المحاضرة الخامسة: فلسفة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
كربلاء، إن بكاء الفعل والحرية يختلف تماماً عن بكاء الندم والتفريط في جنب الله تعالى، وهذا ما عبرت عنه السيدة زينب عليها السلام بعد مصيبة كربلاء وفي خطابها إلى الناس حيث قالت: "أتبكون؟ أي والله فابكوا كثيراً وأضحكوا قليلاً، فلقد فزتم بعارها وشنارها ولن تغسلوا دنسها عنكم أبداً"، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله تعالى:﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (سورة التوبة:82)
هنا تبدو لنا مفارقة عجيبة بين بكاء يجر العار والشنار، وبكاء آخر يكون نتيجة الحصول على ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهذه المفارقة مثلما أنها تظهر التباين في الأفعال، تظهر الاختلاف في الدوافع إلى البكاء والأهداف الكامنة وراء فعل يجر إليه الندم، وفعل آخر تدفع إليه الروحية، كما أنها تؤكد لنا معاني أخرى لجهة ما كان عليه قتله الإمام الحسين عليه السلام من خواء روحي وفقر نفسي، فهؤلاء ضحكوا لمقتل الإمام عليه السلام في حين أن الذين تهاونوا عن نصرته أو تخلوا عن التزامهم معه قد بكوا، والحق يقال: أنه في أحيان كثيرة لا يكون الضحك ضحكاً ولا البكاء بكاءً، بمعنى آخر نقول: لا أن الذين ضحكوا كانوا ضاحكين فعلاً، ولا الذين بكوا كانوا باكين فعلاً. إذ أن الضحك والبكاء في ميزان الإيمان يختلف في أحواله ونتائجه عن الضحك والبكاء في ميزان الكفر والضلال. وقوله تعالى:﴿وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ ناظر إلى هذا المعنى أن ما يكسبه الإنسان هو الذي يؤكد نتيجة الفعل النفسي سواء لجهة الأفراح أو الأحزان، وليس البكاء أو الضحك الآتي هو المقياس في معرفة حقيقة ما يكسبه المرء من وراء أفعاله، واعتبار أن أكثر الناس يبكون في أجواء التحلل من الالتزامات، وفي أجواء العبودية لغير الله.
وبناء على ما تقدم نقول: إن الهدف من إقامة مجالس العزاء في ذكرى عاشوراء وهو أن نجدد الالتزام بخط الإمام الحسين عليه السلام وأن لا ننقسم بين باكٍ يبكي لدينه وآخر لدنياه كما فعل آخرون أولئك الذين رافقوا الإمام الحسين عليه السلام وتخلوا عنه يوم أراد ترجمة بكاء القلب إلى حرية، والتجديد لهذه المناسبة على مستوى العقل والحياة إنما يكون كما يرى الإمام الخميني قدس سره ، بإدامة اللعن على ظالمي آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، على بني أمية، كما أنه ينبغي الاستغراق في إحياء هذه الذكرى في الحاضر، واستشراق آفاق المستقبل من
52
44
المحاضرة الخامسة: فلسفة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
خلالها. يقول الإمام الخميني قدس سره : "لا تغفلوا حتى للحظة واحدة عن إقامة شعائر مراسم العزاء للأئمة الأطهار لا سيما سيد المظلومين ورائد الشهداء الإمام الحسين، واعلموا أن تأكيدات الأئمة على إحياء هذه الملحمة التاريخية الإسلامية وأوامرهم بإدامة اللعن على ظالمي آل البيت نابعة من كونها تمثل كل الصرخات الأبية الشجاعة للشعوب بوجه الظالمين على مدى التاريخ... ففي إحياء هذه الصرخة إبادة للظلم".
ونرى أيضاً أنه ينبغي أن نقف في عاشوراء عند المصائب التي حلّت بآل البيت عليهم السلام مستلهمين منها العبرة والقدرة والقوة في تحمل مصائبنا وأن نبكي استحضار تلك الصور الروحية لمعنى الشهادة في سبيل الله. بل مطلوب أن نقف عند المعاني الشاملة والأبعاد التامة لهذه الثورة الحسينية بحيث تتم صياغة الحاضر والمستقبل على ضوئها ومن خلالها باعتبار أنها ليست ماضياً، فهي المستقبل وكلما تقدمنا في الزمان، كلما أصبحت حياتنا أكثر تجوهراً بهذه الثورة الخالدة ضد الباطل. وليكن قولنا دائماً ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ كما ينطوي عليه هذا القول من صبر على الشدائد، ومن حرية في مواجهة المصائب، وقدرة على مواجهة الأحداث التي تضع الشهادة، وهنا يمكننا الدخول في فلسفة الإرادة على صنع الشهادة واختيار الموت على الذل. فنقول: إننا إذا أردنا أن لا نصاب بمصيبة، فقد أردنا أن لا تكون البتة، لأن هذا العالم كما يقول الفلاسفة المتألهين هو عالم الكون والفساد، فإذا لم يكن فساد ومصائب لم يكن كائن البتة، وإذا أردنا أن لا تكون المصائب، فقد أردنا في الوقت عينه أن لا يكون الكون والفساد، وبما أن الله سبحانه وتعالى أراد الكون، فقد أراد الأفراح والأحزان والمصائب وغير ذلك مما لا بد من وجوده لتكميل الحياة الإنسانية، وإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإذا أراد شيئاً إنما أمره أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون.فلا إرادة للإنسان في أن لا يكون هذا الكون، وكما كان الكون كانت الحرية، وكانت المصيبة وكانت الحياة بكل ما تنطوي عليه، وكذلك كان الموت، فإذا لم يكن الكون لم تكن الحرية، إذ أن لا معنى للحرية في مطاوي العدم، إن معنى أن نكون موجودين أن نكون أحراراً على جميع أحوالنا في أحزاننا وأفراحنا، في هزائمنا وانتصاراتنا، في موتنا وحياتنا، كما قال الإمام الحسين عليه السلام للحر في كربلاء:
53
45
المحاضرة الخامسة: فلسفة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
"يا حر أنت حر في الدنيا والآخرة". فالبكاء على الحسين عليه السلام ، هو بحد ذاته طلب للحرية وثورة من أجلها، وليس من الحرية في شيء أن لا تكون إذا تعرضنا للامتحان لو هبنا مما هو مقدر لنا في قضاء الله وقدره، إن الله سبحانه وتعالى أراد أن تظهر الأفعال التي بها يسبق الإنسان الثواب أو العقاب، فالحرص على جميع أحواله كما في قول الإمام الحسين عليه السلام ، وإذا نابته نائبة صبر لها وإن توالت عليه المصائب تكسره، فحدود الإرادة الإنسانية إذن هو أن لا تكسرها المصائب. فقولنا ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ الذي نترجمه جداً وحرية في علاقاتنا وفي التزاماتنا.
وهذا كل ما أريد للإنسان أن يقوم به، ولم يرد له أن يكون معدوم الإرادة. إن إرادة الوجود هي في الصبر على ما نصاب به وأن تعبر جسر الوجود احياءً سواء في حياتنا أو في موتنا، وهذا ما علمنا إياه الإمام الحسين عليه السلام فإذا لم تكن لنا إرادة الحرية، فلنبكي إذاً لانعدام إرادتنا، ولفقدان حريتنا ولموت إنساننا قبل موته، لأن انعدام الإرادة وفقدان الحرية وموت الإنسان حياً كلها نتائج لإرادة أن لا نكون أحراراً، أي نتيجة اللاإرادة في حياة الإنسان، نتيجة أن نصبر على مصائبنا وعلى كل ما يعرض لنا في حياتنا، وعموماً: إن انعدام الإرادة هو نتيجة لعدم التعقل والفهم لقوله تعالى:﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ الذي لو تم تعقله في كربلاء وفي غير كربلاء لكانت الحياة غير هذه الحياة التي نعيشها اليوم. إنه قول يبعث فينا إرادة الحياة وحب الشهادة.
إن الله تعالى لم يرد لنا الكون فقط، بل أراد لنا الحرية والكرامة مع هذا الكون وفي هذا الوجود، والصبر على ما يعرض لنا والقدرة عليه في كل ما نحن أحرار فيه ومريدون له، فإذا أردنا أن لا نكون فقد أردنا العدم، والمعدوم لا يصاب، ومن يرد ذلك فقد عدم العقل ولا ننتظر منه فعل البكاء الذي هو الحرية والشهادة أو الدعوة إلى فعلهما. إن من لا يريد المصيبة، فهو يأبى الاسترجاع واباء الاسترجاع هو فعل الجهلاء الذين لم يفهموا عن الله ولم يفعلوا عنه، وبما أن الله أراد للإنسان أن يصاب وأن يسترجع، وأن يبكي بكاء الخشية والفعل الإيماني، فمعنى ذلك أنه يجب على الإنسان أن يمتثل لما أمر به وأن يحقق نفسه على ضوء هذا الأمر، فهو غير مخير فيما أريد به وله، ولا يسعه إلا أن يسترجع ويصبر ويبكي،
54
46
المحاضرة الخامسة: فلسفة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام
بهذا المعنى فقط يكون الإنسان حراً في جميع أحواله ويكون بكاؤه علامة على وجوده، وليس علامة على ذله وانكساره، وكما قال الإمام عليه السلام في كربلاء! هيهات منا الذلة..
إذن إحياء مراسم عاشوراء، هو إحياء لوجودنا، وفعل في مستقبلنا، فكربلاء من حيث الحدث فهي في الماضي البعيد، ولكن من حيث الروح والزمن الحيوي هي في منتهى التحقق على مستوى الحيوية في مطلق الزمان، ومن هنا نرى أن البكاء لا ينبغي أن يكون بكاءً على الحدث، بل ينبغي أن يكون بكاء الحياة من حيث الفعل في الواقع والالتزام والمبادئ والأهداف التي سالت دماء الإمام الحسين عليه السلام وصحبه وأولاده من أجلها ومن اجل تحققها.
إن تحقيق عاشوراء على مستوى الحضور والفعلية يحتاج إلى مزيد من التضحيات بحيث يتحول كل شيء في حياتنا إلى عاشوراء مثلما تحول كل شيء في حياة الإمام الحسين عليه السلام إلى شهادة، لقد بكى قلب الحسين عليه السلام لا لعظيم المصاب وتشتت العيال وسلب النساء، وإنما بكى قلبه على أمة خذلت نفسها وفازت بالعار وعظيم العقاب...
فلنحيي عاشوراء بمزيد من الصبر، والتصميم على الشهادة بحيث تدوي صرخة الأحرار في وجه الظالمين، وإذا كان لا بد من البكاء، فليكن هذا البكاء تعبيراً عن الحرية في مواجهة الذل والعبودية ، فكل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء ، وكما قال الإمام الخميني قدس سره :"إن كل ما لدينا من عاشوراء" 1.
1- محاضرة ألقيت في محرم 1415هـ في مركز الإمام الخميني الثقافي.
55
47
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
السيد إبراهيم أمين السيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.
والصلاة والسلام عليك يا سيدي ويا مولاي يا أبا عبد الله، السلام عليك وعلى جدك وأبيك، وأمك وأخيك، وعلى الأئمة المعصومين من ذريتك وعلى المستشهدين بين يديك ورحمة الله وبركاته. وعظم الله أجورنا وأجوركم بمصاب أبي عبد الله الحسين عليه السلام .
الثورة الحسينية تفيض بالمعاني الإلهية
في كل سنة تستوقفني الثورة الحسينية، وأشعر بأنني على موعد جديد معها، وبشوق ووحاجة عميقة إلى أن أقرأ، وأبحث، وأفهم، وأعي، أبعاد هذه الثورة المباركة.
وفي كل سنة يوفقني الله (سبحانه وتعالى) لدراسة ثورة كربلاء، دراسة تعطي فكراً ورؤية متجددتين. فهذه الثورة مهما أُمعن فيها قراءة وتنقيباً وبحثاً وتأملاً، فإن المجال يبقى مفتوحاً لقراءات جديدة، ولاستخلاص رؤى وعبراً جديدة.
لذلك، أدعو ـ بداية ـ إلى تناول الثورة وقراءتها قراءة فكرية، وثقافية، وسياسية، وتاريخية دقيقة جداً، كما أدعو إلى قراءة خلفياتها، وأبعادها، ومضامينها. إذا استطعنا أن نستجمع ذلك، وأن نخلص إلى نتائج محددة، وأن لا يكون الهدف الأساسي والنهائي لإقامة المجالس هو الإبداع في وسائل البكاء فقط، لأن هناك الكثير من الإخوة القرّاء (أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم لخدمة الإسلام والمسلمين) يتقنون فن الإبكاء، وفن وسائله، فيحشدون
59
48
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
له أشعاراً وأدبيات معينة.
قبل ثلاثة أو أربعة أشهر من ثورة كربلاء حصلت أحداثاً، وسُجلت مواقف ومشاهد، وتليت خطب كلها ترى أن هذه الثورة ليست وليدة ساعتها، بل هي حصيلة مسار تاريخي، وتسلسل خطير من الأحداث، وحفظت لنا في نصوص محددة: سياسية، عقائدية، وتربوية، تعبر عن كامل مضمون الثورة وأبعادها.
الملاحظ هنا أن القراء حريصون على تثقيف الأمة على هذه الأحداث أو على هذه المواقف، فالقارئ تارة يقرأ نصاً، وتارة يأتي ببيت شعر منظوم أو بلغة عامية.
إلاَّ أن الناس لا تخرج بدراية فعلية لما حصل في كربلاء. هذا موضوع فيه نوع من الإستهانة بكربلاء والحسين عليه السلام ، والإستهانة بشيعة الحسين عليه السلام ، لذا المطلوب أن ننتبه قليلاً لهذا الموضوع، وأن نحاول قراءة ودراسة واقعة كربلاء بدقة.
إن بعض من يحضر المجلس العاشورائي يحضر للحصول على الأجر والثواب ، لكن على البعض الآخر الاعتناء بدراسة الثورة، لتثقيف المجتمع، نشر الوعي والمعرفة بأبعاد الثورة الحسينية.
منطلقات الحديث عن التغيير
بناءً على هذا، سأحاول في هذا اللقاء أن أطرح بعض النصوص المركزية التي وردت على لسان الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، والتي يفترض أن تحفظ غيباً لأهميتها:
يقول عليه السلام ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من رأى منكم سلطاناً جائراً مُستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ولم يغير ما عليه من قولٍ أو فعل فكان حقاً على الله أن يدخله مُدخله، ألا وأن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلال الله، وأنا أحق بهذا الأمر ممن غير". وفي مورد آخر، يقول عليه السلام : "ومن أحق بالتغيير مني، وأنا الحسين بن علي ابن فاطمة بنت محمد نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم وأولادكم، ولكم فيَّ أسوة".
في موضع ثان يقول الإمام الحسين عليه السلام :
60
49
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
"إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد عليّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبين هؤلاء القوم والله خير الحاكمين".
وفي موضع ثالث يقول الإمام عليه السلام : "ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه".
هذه النصوص هي المدخل للحديث عن الإصلاح والتغيير في كربلاء وفي الثورة الحسينية.
المهمة التأسيسية للرسالة المحمدية
مرحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي المرحلة الأخيرة في مسار حركة الأنبياء التي أعيد فيها التأسيس النهائي للقيم الإلهية، وللمبادئ الفكرية والفلسفية الإلهية، وللتشريعات والقوانين الإلهية، وللأخلاق الإلهية، التي على أساسها يُفترض أن يُنظّم المجتمع العالمي والمجتمع البشري.
فمرحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي مرحلة الرسالة الأخيرة، والبرنامج الأخير، لبناء المجتمعات، ولبناء العالم، فمهمته ـ في البداية ـ كانت مهمة تأسيسية، يعني المصلحة الكبرى والأولى والأخيرة في حركة النبوة، في حركة الإنسان النبي، و في حركة أتباع وأنصار النبي، وفي حركة أصحابه والمؤمنين معه هي في التأسيس. مهمتهم الأساسية، والكبرى مهمة تأسيسية، بمعنى إيجاد فكرة الحق في المجتمع، إيجاد فكرة الحق في العقل الجمعي والفردي للمجتمع، وإيصال فكرة الحق إلى الإنسان، لكي يحمل المجتمع فكرة الحق التي هي فكرة الإسلام.
في النهاية هي المصلحة الأساسية، ليس هناك مصالح سياسية لحركة النبوة أو حركة أتباع النبوة تشكل عائقا أو تقف أمام هذا الهدف، لذلك كل الأمور الأخرى يجب أن تبقى جانباً لمصلحة نجاح فكرة الحق، وتأسيس فكرة الحق في الحياة، يعني المطلوب أن ينهض المجتمع على الحق، وأن تسوده رؤية الحق في الحياة، المطلوب أن يكون في المجتمع أحكام وقوانين هي تعبير عن الحق والعدالة، والمطلوب أن تنغرس في الروح العامة، والوعي العام، للمجتمع أخلاق وقيم الحق.
هذه القيم يجب أن تصل إلى الناس، وأن تحملها وتعيشها، وأن ينظموا حياتهم ومجتمعهم
61
50
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
على أساسها. هذا التوجه الأساس، سرعان ما سيصطدم مع برنامج الباطل، وفكرة الباطل، وقيم الباطل، وتشريعات الباطل في المجتمع. طبيعي أن يتم الصراع، وأن تحصل معركة كبرى بين فكرة الحق، وجماعة الحق، وفكرة الباطل وجماعته، طبيعي هنا أن تتصادم أفكار الحق وقيم الحق والعدالة، وأخلاق الحق وتشريعاته، مع أفكار الباطل وقيم الباطل إذا كان للباطل قيماً.
المؤسسة الاجتماعية بكل مجالاتها وتفصيلاتها ستصطدم وستدخل في معركة مع الحق. في البداية يرى المؤسس نفسه ضعيفاً وحيداً غريباً في هذا المجتمع وفي هذه الحياة، فهو يحمل لوحده فكرة الحق ويبلغها للناس، ويدعو الناس إليها، وإلى الإيمان بها، وبعد ذلك يدعو الناس إلى تطبيقها.
هنا المؤسس يجب أن يكون بحجم الحق، ويجب أن يكون بمستوى هذا الحق وبمستوى هذه الرسالة. لذلك، فالآيات القرآنية الأولى التي خاطبت الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تتضمن أي مداراة أو مهادنة للباطل وما أشبه ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنذِرْ﴾،﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت﴾ ،﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ ،﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُك﴾،﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ﴾، هذه الآيات هي دعوة إلى المؤسسين بأن يزرعوا معالم ومبادئ الحق في الحياة وأن يطرحوا برنامج الحق، وعلى أساسه تم تأسيس وتنظيم المجتمعات، حتى نصل إلى مرحلة من هذا النوع سيدفع المؤسس ثمناً باهظاً جداً من الغربة، والهجرة، والتعذيب، والحصار، والتهديد، إلى أبعد حدود، كأن يُرمى بالأحجار، ويوضع الشوك في طريقه، وتخاض الحروب وتحاك المؤامرات على أنواعها ضده. كل هذه الصعوبات والتحديات والمشاكل والعقبات والأخطار واجهها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كمؤسس، كإنسان يريد أن يؤسس المجتمع على أساس الحق، كإنسان يريد أن يطرح برنامجاً إصلاحياً وكمالياً للناس، فدفع مقابل ذلك ثمناً كبيراً من الجهد والشهداء والدم والتهجير والحصار والهجرة والعذاب والفقر والجوع، دُفع ثمن كبير، ولكن من دفعه؟
أفضلية المؤسسين على من سواهم
62
51
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
دفعه المؤسسون. لذلك، فالفارق في مستوى القيمة الإيمانية والاجتماعية والسياسية، بين المؤسسين وغير المؤسسين مطروح في القرآن الكريم، ومطروح على مستوى النصوص الإسلامية. المؤمنون الذين آمنوا قبل الفتح ليسوا كالمؤمنين الذين آمنوا بعد الفتح. قيمة المؤمنين، المجاهدين، والشهداء قبل الفتح هي قيمة تأسيسية، وهذا فضل ينالهم كمؤسسين ولا ينالوه كجماعة عاشت في مناخ الإسلام أو في مناخ الحق، أو كجماعة دخلت في الإسلام حينما انتصر الإسلام، وأصبح مناخ الإسلام هو المهيمن على الحياة العامة.
لقد تحققت المعجزة الإلهية خلال 25 سنة، استطاع الإسلام أن يتقدم وينتصر في بناء نموذج للمجتمع ينهض على أساس الإسلام والإيمان، وعلى أساس قيم الحق، والعدالة، والأخلاق. وهذا الإعجاز، وهذا النصر، تمّ بشروط معينة وبمواصفات محددة للمؤسسين، من ضمنها أنهّ لا يمكن أن تنتصر فكرة تأسيسية إذا لم يكن المؤسس يمثل أعلى وأرقى وأبهى صورة للفكرة التي يريد تأسيسها، لا يمكن أن يكون في المجتمع إنسان أفضل وأكمل من المؤسس لفكرة الحق، أو أن يكون في المجتمع إنسان يحمل الحق أكثر منه، إنسان يصبر، ويتحمل مشقات التأسيس أكثر منه. المطلوب من المؤسس أن يكون في أرقى وأبهى صورة وأعلى مستوى وأبعد مدى لمصداقية وحقانية وصدقية الفكرة فيه، هذا شرط المؤسسين، وهذا معني العصمة، وهذا معنى القدوة، وهذا معنى الأسوة.
فالمؤسسون يجب أن يكونوا بهذا المستوى، لذلك لم يختر الله ـ سبحانه وتعالى ـ لرسالته، ولتأسيس رسالته في الحياة سوى نموذج الأنبياء، والرسل، والمؤمنين الصالحين والصادقين، نموذجاً يمثل أعلى نسبة تطبيق يمكن أن يصل إليها إنسان. بكلمة أخرى، المؤسس يجب أن يمثل أعلى مدى يمكن أن تصل إليه رسالة في صورة البشر، فالفكرة يجب أن تتجلى في أعلى صورها في شخصية المؤسسين. هذا شرط.
الشيء الآخر، الذي أحب أن أقوله هنا أيضاً، أن انتصار الإسلام خاضع لشروط ولظروف ولوسائل ولإمكانيات، إذا دققنا كثيراً في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة نتمكن من الإمساك بهذه الشروط، لكن هذا أمر صعب، لأنه يتطلب دراسة دقيقة، وشاملة، وواسعة، تتطلب وقتاً وافراً.
شروط الانتصار
63
52
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
ولكن مبدئياً يجب أن يهيأ المؤسسون شروط الانتصار وظروفه على مستوى التكليف والمسؤولية. نعم، هناك شروط لها علاقة بالإنسان وبالمكلفين، والنصر هو عملية استجماع لكل الشروط، ولكل الظروف، وعملية تنظيم لهذه الشروط، واستثمار لهذه الظروف المتعلقة بحركة الإنسان، والمتعلقة بحركة العدو، والمتعلقة بالظروف الزمانية والمكانية والنفسية للبشر.
فإذا لم يكن بمقدور شخص واحد أن يعي ويدرك النتائج، وإذا لم يكن بمقدوره أن يعرف أنه إذا قام بهذا العمل سيحقق نتائج محددة، فان هذا العمل سيقوم به، آخرون سواء، بعد سنتين، أو ثلاث سنوات، أو خمسين سنة، يله وحتى بعد مئة سنة.
الإنسان ليس بمقدوره أن يدرك أبعاد أدائه، أو أبعاد مسؤوليته، أو أبعاد عمله الشامل والكامل، لو فرضنا أنه يستطيع إدراك أبعاد عمله، فإنه لن يستطيع إدراك أبعاد عمل الآخرين، ولن يستطيع إدراك أبعاد عمل العدو، ولن يستطيع إدراك ظروف العدو، ولن يستطيع أن يحدد إمكانيات العدو، ولن يستطيع أن يحدد أيضاً ظروف العدو بالكامل، فالإنسان عاجز بذاته عن جمع كل شروط النصر وظروفه، فهذه العملية ليست إنسانية، وإنما عملية إلهية، خاضعة للنواميس الإلهية، وفي ضوئها تُستجمع الشروط والظروف ويتحقق النصر ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾، ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ﴾، ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾.
الموضوع ليس له علاقة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أدى دوره، أدى مسؤوليته، قام بتكليفه، حقق الشرط الذي يتعلق به من شروط النصر، لكن هناك شروط وظروف أخرى، ليتحقق النصر. مرتبطة بالإرادة الإلهية، الآية القرآنية تقول:"فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ" يوجد أمر يتعلق بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن تثبت المؤمنين، وأمر يتعلق في الله تعالى :﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ﴾. فإذاً النصر يخضع لشروط إنسانية، ويخضع لوسائل بشرية، يخضع لمعطيات بشرية، ويخضع لإمكانيات بشرية، لكن النصر أيضاً يخضع لمعطيات إلهية ولوسائل إلهية ويخضع لنواميس إلهية على أساسه تُستجمع الشروط والوسائل والامكانيات وتُستجمع شروط النصر ليتحقق بإذن الله.
حصل هذا النصر الإلهي في مدى 25 سنة وتغير المجتمع، وتأسس على أساس الإسلام
64
53
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
لدرجة أصبح قادراً لأن يجسد المجتمع، القدوة، والنموذج، والأسوة، للبشرية جمعاء بكل ما تحتاجه البشرية في مرحلة التأسيس.
الرسول ومهمة تحويل الإسلام إلى مرجعيّة عالميّة
ما يحتاجه الإسلام في مرحلة التأسيس، ما تحتاجه البشرية كأساس كقواعد، كمنهجية، كتشريع، كقوانين، كأخلاق وقيم، ما تحتاجه البشرية كمنهج ومسار حياة، ما تحتاجه البشرية كموازين وقواعد ومرجعية في الحياة، يمكن أن يلتف حولها المظلومون والفقراء والمحرومون والمستضعفون في العالم الذين يبحثون عن الحرية، والعدالة والكرامة، والحق، ما يحتاجه هؤلاء جميعاً من الإسلام قد حققه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلال 25 سنة، واستطاع أن يحول المجتمع بالإسلام إلى مرجعية عالمية، والمجتمع الإسلامي استطاع أن يمثل موازين، وقواعد، ومسار، ومنهجية، كما وصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام بـ "يعسوب الدين"، الفارق الذي يفرق بين الحق والباطل، بعد الإسلام يعني بعد ال25 سنة، إذا كان أحد في المجتمع العربي مظلوماً يبحث عن مبادئ العزة، فكان صوت القرآن في شبه الجزيرة العربية يكفيه، إذا كان هناك مظلومين مقهورين، فقراء يحتاجون إلى من يحمل مشعل حرية والعدالة، كان صوت القرآن في شبه الجزيرة العربية كافٍ، فما تحتاجه الأمة، وما يحتاجه العالم، وما تحتاجه البشرية في مرحلة التأسيس حصل.
ما بناه الإسلام، ما بناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام في مدى 25 سنة، شكل اكتمال الرسالة الأخيرة والنهائية للبشر.
الإمامة ومرحلة تعميم الإسلام
ماذا يبقى؟ يبقى مرحلة أخرى هي مرحلة تعميم الإسلام، مرحلة تعميم الحق وتعميم البرنامج، بحيث يحمله العالم، بحيث يؤمن به العالم، بحيث يطبقه العالم، بحيث يحيى به العالم، فيقترب العالم من الإسلام وتقترب البشرية من تطبيق الإسلام. هذه مهمة تعميم وليست مهمة تأسيس. وهذه هي وظيفة الإمامة، فالأئمة الإثنا عشر عليهم السلام هم ضمانة الإسلام في تعميم هذا الانجاز الإعجازي للبشرية. ذلك أن صدق الفكرة وأحقيتها وسموها لا يكفي لإطلاقها وانتشارها في العالم. لا يكفي أن يكون الإسلام هو عين الحق لينتشر في العالم،
65
54
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
الحق لا ينتشر من تلقاء نفسه، الحق عامل مساعد، عامل مزخم، لكن لينتشر الحق يجب أن يتحرك الإنسان بالإسلام وللإسلام. إن مجرد نزول الإسلام لا يكفي مطلقاً ليؤمن الناس به، إن مجرد نزول القرآن لا يعني أبداً أن الناس سيؤمنون به من فورهم. وكما مرَّ نعرف من خلال سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كم عانى وواجه من مشاكل كبرى، وعذابات كبرى، ليؤمن الناس بهذا القرآن الإلهي.
الأمر الآخر، أن الإسلام إذا كان حقاً ـ وهو حق ـ هذا لا يعني أن الناس ستطبقه بنفس المستوى، يوجد ناس سيطبقونه بدرجة عالية، وآخرون سيطبقونه بدرجة وسط أو بدرجة أولية وبدائية. سنرى أخطاء في تطبيق الإسلام، ممكن أن نرى ضيقاً، ممكن أن نرى إنحرافاً عن تطبيق الإسلام، ممكن أن نرى مؤامرات على الإسلام، حروباً على الإسلام، ممكن أن نرى ضعفاً في التطبيق، ممكن أن نرى سوءً في التطبيق، ممكن أن نرى استغلالاً لتطبيق الإسلام وتطبيق قوانينه، هذه كلها أمور يمكن أن نراها.
لذلك، فإن فكرة التعميم مطلوبة حتى تتسع دائرة المؤمنين بالإسلام، ودائرة الملتزمين بالإسلام. هذا الموضوع، أي فكرة التعميم، ومسؤولية التعميم، منطلقة من طبيعة الأمور، وطبيعة الأمور تفترض أن يحصل إنحرافاً، طبيعة الأمور تفترض أن يحصل ضيق في دائرة التطبيق، وأن تحصل أخطاء كبيرة، أو صغيرة كل هذا ممكن، وهو أمر طبيعي، كل هذا فرضيات واردة على مستوى الاحتمالات، وهي فرضيات واقعيّة واردة جداً.
إعادة الاعتبار للمرجعية الإسلامية
على صعيد آخر، من يقول أنه إذا انتصر الإسلام في شبه الجزيرة العربية سيعني أن أعداءنا انتهوا، وأن الصراع سيتوقف، لا، الصراع سيبقى مستمراً، لكن لا يوجد خوف ما دام المسار العام في المجتمع صحيحاً، ما دامت القواعد الأساسية في المجتمع صحيحة، ما دام المنهج العام في المجتمع صحيحاً، ما دامت الموازين العامة في المجتمع صحيحة، ما دام التشريع العام في المجتمع صحيحاً، ما دامت القيم العامة في المجتمع قيماً صحيحة.
أما إذا وجد انحراف في مكان ما فهذا يحتاج إلى تثقيف، وتوعية، وحضور، وجاهزية، وتعليم، وتطبيق قانون، وما أشبه ذلك. وهذا بحد ذاته يبقى طبيعياً ومحمولاً، لكن أن نصل
66
55
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
إلى مرحلة تنمو وتشتد حركة الباطل، وحركة الظلم في المجتمع، ويسود معها برنامج الباطل، وأشخاص الباطل، وفكرة الباطل، وقيم الباطل، وتشريعات الباطل، ومنهج الباطل، بحيث يتقدم في المجتمع خطوة تلو الخطوة، ويحتل موقعاً أثر موقع، لتتراجع مواقع الحق أمامه موقعاً بعد موقع، حتى يصبح هو المسار العام الحاكم في المجتمع، ويصبح هو القواعد العامة التي يحتكم المجتمع إليها، ويصبح هو الفكر العام السائد في المجتمع، وتهيمن بالتالي فيه قيم الباطل، بكلام آخر، عندما تنحسر فكرة الحق عن الحياة كفكرة تأسيسية لها فعالية وتأثير في بناء وضع المجتمع والإنسان، عندما تنحسر وتتراجع أمام الباطل، سنكون حينئذٍ في مواجهة مرحلة جديدة، وبالتالي مهمة جديدة. عندها ستتحول المهمة من مهمة تعميم الإسلام إلى مهمة إعادة الاعتبار للإسلام من جديد كفكرة تأسيسية.
كان مُفترض بعد نجاح الإسلام، وبعد انتصار الإسلام، أن يتحمل الأئمة الأطهار عليه السلام والمسلمون مسؤولية تعميم الإسلام للعالم، لكن نحن وصلنا إلى مرحلة من تطور الصراع بين الحق والباطل، وصلنا إلى مرحلةٍ تقدم الباطل وتراجع الحق، وفكرة الحق انحسرت عن المجتمع والحياة، والمجتمع بدأ يخدع ويقبل الآن بالقوة، بالإرهاب بالطمع بالخوف بالمصالح، بحب الحياة بحب البقاء، لأي سبب من هذه الأسباب وغيرها أخذ يقبل ويستسلم للباطل الذي انهزم مع محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أخذ يقبل بانحسار الحق وأهله عن المجتمع، عن الحياة، عن الفعالية، عن التأثير، عن السلطة، عن الحكم، وعن أي موقع من مواقع التأثير في المجتمع.
إذا أردت أن أراقب الصراع في كربلاء، والمعركة إلى أين وصلت، لوجدنا أنها وصلت إلى نقطة هي أن الباطل استطاع أن ينتصر وأن يجعل الحق منحسراً مهزوماًَ ضعيفاً، وأصبحت دائرة المؤمنين ضيقة، تكاد تكون غير موجودة إلا في حدود 73 فرداً. من كل هذا المجتمع الفئة التي بقيت، والتي جاءت مع الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء لا تتجاوز بضعة عشرات، إذن أين ذهب بقية المجتمع الإسلامي، وإلى أي حد ذهب هذا المجتمع؟
لقد ذهب إلى حد أن أرسل أهل الكوفة الكتب إلى الإمام الحسين عليه السلام أن أقدم إلينا يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فبعث مسلم ابن عقيل وقتلوه، وحصل ما حصل، والذين قتلوه في كربلاء
67
56
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
هم أهل الكوفة الذين كانوا يحملون سيف الحسين عليه السلام ، ففي كربلاء حملوا سيف يزيد وقتلوا به الحسين بن علي عليه السلام ، هذا المجتمع إنحسرت فيه فكرة الحق، قيم الحق، أخلاق الحق، تشريعات وقوانين الإسلام. كل مبادئ وقيم الإسلام انحسرت عن مواقع التأثير والفعالية، وهذا ليس سببه، مرتبط بكربلاء، وإنما مرتبط بالأخطاء، والانحرافات، وسوء التطبيق والمصالح، كل خطأ مهما كان صغيراً أو كبيراً ارتكب بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشكل إسهاماً جزئياً أو كبيراً في انتصار وتقدم الباطل، شكل مساهمة جزئية أو كبيرة في انحسار فكرة الحق، حتى وصلنا إلى حكم يزيد ابن معاوية، هنا يقول الإمام الحسين عليه السلام : "ألا ترون إلى الحق لا يعمل به...." انظروا الفرق، الفرق أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنى إسلاماً بحجم العالم "﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ يوجد فرق بعيد جداً بين صورة "إذا رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً"، وصورة "ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه"، الحق لا يعمل به يعني انحسر، الباطل لا يُتناهي عنه يعني لا أحد عنده أي حواجز تمنعه من الارتباط بالباطل، فإذن وصل المجتمع إلى مرحلة أن الحق انحسر عن التأثير والفعالية وأخذ مكانه الباطل في التأثير والفعالية، هذا الأمر قال عنه الإمام الحسين عليه السلام : "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي..." الإصلاح فيها، مشكلتها في داخلها، مشكلتها في إرادتها، في شخصيتها، في ذهنها، في فكرها، في ثقافتها، في إيمانها، في بنيانها الداخلي، في عواطفها ومشاعرها، في أخلاقها.
المشكلة هنا، "ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به" في هذه المرحلة، ما هي مسؤولية الإمام الحسين عليه السلام ؟ مسؤوليته هي في إعادة الاعتبار إلى الإسلام، في إعادة الاعتبار إلى القيم الإسلامية، في إعادة الاعتبار إلى الأخلاق الإسلامية، في إعادة الاعتبار إلى الثقافة والإيمان، بعد إعادة الاعتبار لمرجعية الإسلام في المجتمع.
أنا اعتبر أن أهم نقطة هي هذه، أي إعادة الاعتبار لمرجعية الإسلام في المجتمع، إعادة الاعتبار لدور الإسلام في المجتمع، إعادة اعتماد المجتمع على الإسلام كفكرة تغييرية كفكرة إصلاحية، كمرجع تغييري ومرجع إصلاحي.
تضحيات كربلاء تفوق تضحيات الأنبياء
68
57
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
الإسلام هو الذي ظهّر الأمة تحمل قيمة إلهية حضارية إنسانية. كمشروع، كبرنامج، كمنهج للإصلاح والتغيير، والبناء للمجتمع، لم تكن مسؤولية الإمام الحسين عليه السلام مواجهة الأخطار والانحرافات، أو مواجهة ضيق دائرة تطبيق الإسلام، وإنما كانت مهمته إعادة تأسيس الإسلام، وهذا يعني أن مهمته هي مهمة نبوية، لأن هذه هي مهمة الأنبياء، هذه هي مهمة الأولياء، ولذا قيل أن الإسلام بدأ بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه استمر وتجدد بالحسين بن علي عليه السلام .
إذا أردت أن أستحضر واستجمع كل عذابات الأنبياء من أجل تأسيس رسالة الله في الأرض، ثم استحضر واستجمع كل عذابات الحسين عليه السلام في كربلاء، كل عطاءات الحسين عليه السلام في كربلاء، النتيجة ستكون مما ثلة، بل ما حدث في كربلاء يقومها إن كل هذا العطاء الكربلائي، هذا المستوى من الاستشهاد، هل هو فقط لمواجهة قضيّة الانحراف في المجتمع، هل هو فقط لمواجهة أخطاء فيه، هل هذا كله يستلزم هذا القدر والمستوى من التضحيات حتى تستقيم الأمور، أن لا أرى ذلك. يوجد عذاب، يوجد عطاء، يوجد تضحيات، يوجد استشهاد من نوع فريد في كربلاء يفوق عذابات الأنبياء، تضحياتهم وتضحيات الأولياء والرسل، هذا يعني أن هذه الرسالة الإلهية، وهذه النعمة الإلهية الكبرى، وهذا الإسلام الكبير، هذا البرنامج الإنساني الحضاري الكبير، هذه الدعوة الإلهية هذه القيم الإلهية، هذه المبادئ الإلهية، هذه القوانين والتشريعات الإلهية، لولا موقف الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء لانتهت.
الحسين هو النموذج الأقصى للثوار
إذنً أعطى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للعالم الضال ما تحتاجه من الهداية، و أعطى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للأمة الجاهلة ما تحتاجه من علم ومعرفة، و أعطى للمظلومين ما يحتاجونه من عدالة، فإن الإمام الحسين عليه السلام أعطى لكل الثوار في العالم ما يحتاجونه من حرية، وما يحتاجونه من كرامة، ومن عزة للبشرية كلها. لا نحتاج بعد الحسين عليه السلام لأي رجل يحمل مشعل حرية، ولا يحتاج أي ثائر في العالم، وأي مظلوم ومقهور ومضطهد بعد الإمام الحسين عليه السلام إلى من يعطيه درساً أو مشعلاً في الحرية أو الثورة أو العزة. ثورة الإمام عليه السلام وموقفه وتضحياتة
69
58
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
كافية لأن تكون مدرسة لكل الأحرار على مدى التاريخ، لذلك أعتقد أن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام يحصل مرة واحدة إلى أن تقوم الساعة، لا تحتاج رسالة الإسلام إلى أكثر من الحسين بن علي عليه السلام ، لا تحتاج رسالة الإسلام حتى تنتصر وتُحمى وتُحصّن، وتستمر وتبقى، وحتى تصل إلى العالم إلى أن تقوم الساعة، إلى أكثر من الحسين بن علي عليه السلام ، فما تحتاجه قد حققه الحسين بن علي عليه السلام في كربلاء، ما يحتاجه الإسلام كله إلى أن تقوم الساعة قد حققه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وما تحتاجه البشرية بالمعنى العسكري للكلمة إلى أن تقوم الساعة قد حققه الحسين بن علي عليه السلام في كربلاء، لذلك الأئمة بعده لم يستشهدوا، لأن الإسلام لا يحتاج إلى استشهادهم، لأن هذا الاستشهاد قد حقق نتائجه، وأهدافه، ومفاعيله إلى يوم القيامة.
فبعد الحسين عليه السلام نحن أمام مسؤولية تعميم وليس أمام فكرة تأسيس، بعد الإمام الحسين عليه السلام علينا أن نكمل الطريق لا أن نبدأ الطريق، لا أن نؤسس الطريق فكأننا معه أمام انبعاث جديد لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ولجميع الأنبياء والرسل صلى الله عليه وآله وسلم .
المسألة الأخرى التي استوقفتني وكنت أفكر بها ووجدتها عندما قرأت هذا النص، بعد أن يقول: "من رأى سلطاناً جائراً..." يقول: "وأن الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم وأولادكم ولكم فيّ أسوة..." وقال أيضا: "ومن أحق بالتغيير مني" حينما وصل الباطل إلى هذا المستوى، قولوا لي إلى أين سترجع الناس، إلى من سترجع الناس، ممن تنتظر الناس التغيير.
المهزومون الذين فقدوا أملهم وإرادتهم، عزيمتهم، قرارهم، بنيانهم الداخلي، وشخصيتهم الداخلية، إلى من يعودون، إلى من يرجعون، من المطلوب منه في مرحلة من هذا النوع مسؤولية التغيير والإصلاح، الذين يتحملون مسؤولية التغيير والإصلاح في مرحلة من هذا النوع هم كبار الأمة وعظماءها وأولياءها، هم صالحو الأمة، رسل الأمة وأئمتها، هؤلاء هم الذين يتحملون المسؤولية في مرحلة التأسيس.
المؤسسون لا ينتظرون من غيرهم، ولا ينتظرون من أحد أن يسبقهم إلى القيام بهذه المسؤولية، كل من يفترض نفسه في موقع المسؤولية التأسيسية في مسار التغيير والإصلاح
70
59
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
عليه أن يبادر أولاً ولا ينتظر أحداً غيره للقيام بمسؤولية من هذا النوع.
هذا شرط أساسي من شروط تحمل المسؤولية، هذه مسائل أساسية لذلك، الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عملية التأسيس والتغيير لم يسأل عن شيء، عن نفسه، عن غيره. سأذكر لكم فكرة موجودة في القرآن الكريم، لأن الرسول كان يغير مجتمع وهو الذي سيتحمل المسؤولية، كانت تسود المجتمع فكرة التبني، يعني أن يربي احدهم ولداً ليس له ويصبح ابنه، كان عند الرسول مولى أي خادم اسمه زيد وكان متزوجاً، زيد كان بمثابة الولد والابن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يأتي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقول لهم، يا أيها الناس، الولد الشرعي ليس هو الولد بالتبني، يعطيهم نصاً معيناً، وقاعدة معينة، يقول لهم أن الولد بالتبني ليس ولداً شرعياً، وتنتهي المسألة، هذا الكلام لا يكلفه شيئاً، ولكن الرسول لم يفعل هذا فقط، وإنما أمر زيداً بأن يطلق زوجته، وبعد ذلك تزوجها، من الذي يقدر أن يتحمل، هذا الرسول صاحب الموقع السياسي الاجتماعي والديني والإلهي، هل في الحياة من هو أعلى من موقع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعلى من موقع النبي. وعندما يتخذ قراراً من هذا النوع سيدفع ثمنه.لا يوجد مشكلة، ما دام هو يتحمل مسؤولية التأسيس، هو سيدفع ثمن هذا التأسيس. أو ما يسمى بمرحلة وضع السنن.
المؤسسون لا ينتظرون حصادهم
النقطة الثانية، إن المؤسسين لا يأكلون من ثمن التغيير، هذه قاعدة، بل إن المؤسسين يدفعون ثمن التأسيس من حسابهم هم أولاً قبل أن يدفع الآخرون ثمن التأسيس أو التعميم.
في البداية المؤسسون يدفعون ثمن التأسيس من حسابهم، "نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم ولكم فيّ أسوة"، لذلك الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء كان هو الثمن، الثمن أن يُذبح الإمام الحسين عليه السلام الثمن أن يُحمل رأسه على الرمح، الثمن أن يُقتل ويذبح رضيعه، الثمن أن يُذبح أولاده وأخوته وأولاد أخوته، الثمن أن تُسبى نساؤه، كل هذا ثمن ماذا؟ إنه ثمن التأسيس والتغيير، وإعادة الاعتبار للإسلام وهو ثمن دفعه الإمام الحسين عليه السلام من حسابه وليس من حساب الآخرين. هذا الثمن الذي دُفع هو الذي حول الإمام الحسين عليه السلام إلى قدوة وأسوة، إلى راية، ونموذج في التاريخ كله.
إذا أردت أن أطبق هذا الموضوع تطبيقاً منهجياً، وإذا أردت أن أتكلم باختصار شديد
71
60
المحاضرة السادسة: الإصلاح والتغيير وأبعاد الحركة الحسينية
عن المقاومة الإسلامية في ظروف من هذا النوع، مثلما نرى الآن يوجد لغة تُحكى في كل مكان أن المقاومة تستشهد وغير المقاومة يأكل ثمن هذا الاستشهاد، نحن نقاوم في الجنوب وغيرنا يأكل الثمار، هذه لغة تُقال، موجود مناخ كلام من هذا النوع، أحب هنا فقط أن أقول هذا الكلام، أن المقاومة الآن هي في المسار الكربلائي وفي المسار الحسيني، هي في مرحلة التأسيس.
وإذا كانت في مرحلة التأسيس فهي التي لا تنتظر أحداً أن يبادر إلى حمل المسؤولية، وثانياً المقاومة في مرحلة التأسيس يعني أنها تدفع ثمن التغيير من حسابها وليس من حساب الآخرين، هذا لا يعني أن المقاومة يجب أن لا تأكل من حسابها أو من ثمن انتصارها، بل إن المقاومة ستأكل إن شاء الله من ثمن الانتصار كجزء من الانتصار وليس على حساب الانتصار، سيأتي الزمن والوقت الذي يأكل المقاومون ثمن انتصارهم لحساب الانتصار وليس على حساب الانتصار، أسأل الله سبحانه وتعالى لكم ولنا دوام العزة والنصر، ودوام الأجر والثواب بمصابنا بأبي عبد الله الحسين عليه السلام .
والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته1.
1- محاضرة ألقيت في محرم 1416هـ /أيار 1995 في مركز الإمام الخميني الثقافي.
72
61
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
السيد هاشم صفي الدين
لا يمكن النظر إلى ثورة كربلاء أنها حدث تاريخي كغيره من الوقائع التي سجلها التاريخ والتي نتجت عن تضافر ظروف سياسية وفكرية لتعبر عن موقف اللحظة أو المحطة التي اقتضت تغييرا بهذا الأسلوب الفريد الذي لم تشهده كل تجارب الأمم والشعوب السابقة والذي لن يتكرر بكل عناصره وخصوصياته ذلك أن هذه النظرة ستخرج قضية كربلاء عن كونها منهجا كاملا وأسوة صالحة للاقتداء بها وإتباعها في كل وقت ولعل الإشارة إلى هذا المعنى كانت واضحة وتامة في الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام : "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء"، فان هذه العبارة عبرت عن المستوى العالي والمقام الرفيع والقيمة الرسالية والإنسانية لهذه الواقعة والتي سمت في مضامينها ومعانيها بالدور الذي جسده سيد الشهداء عليه السلام من موقعه كإمام معصوم تهيأ لوظيفة تكريس المنهج وتثبيت دعائم الثورات التغييرية في أقصى تجلياتها وتضحياتها، وان ما يلفت في هذا المضمار الأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي سبقت الحدث والتي أثبتها السنة والشيعة على حد سواء فإنها جاءت في سياق التأكيد على علو الدرجة ورفعة الموقف ورقيه إلى مستوى كل تطلعات الرسالة الإسلامية واحتياجاتها البشرية وهذا بالتحديد ما يدعونا إلى تحليل الواقعة والوقوف عند مداليلها لقراءة ورسم خريطة النهج التغييري في ثورة كربلاء وهذا ما يدفعنا للتطرق إلى الجهات التالية:
الجهة الأولى: تحديد الأهداف
من مقومات أية ثورة وجود أهداف محددة كي لا تكون مجرد انتفاضة انفجرت في مرحلة
73
62
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
الضيق والضغط اللذين تفرضهما السلطة الحاكمة وبالتالي فان الثورة هي فعل ناتج عن تخطيط ووعي وقصد متصل بحركة وموقف من أجل الوصول إلى غاية محددة، والغاية هي الطموح والقناعة لدى الثائرين الذين يلتفون حول قائدهم وهو يحمل تطلعاتهم ويتقدم أمامهم ليصل الجميع إلى المبتغى، وتختلف الثورات بحسب أهدافها كما أن المنطلقات مرتبطة بشكل وثيق بالأهداف إلا أن جميع الثورات تلتقي حول مفهوم التغيير اللازم عادة لها وكل ثورة تصبغ بلون التطلعات والرؤى فما كان منها عقائدياً يطلق عليها اسم الثورة الفكرية التي تريد تغيير القيم الحاكمة في الحياة وما كان منها سياسياً يهدف إلى تغيير الفئة الحاكمة أو المعادلات القائمة وهكذا..
إن شدة الفهم والمعرفة بأهداف كل ثورة تعين على التعمق وإدراك طبيعتها، ومن خلال هذه الرؤية يمكن الولوج إلى فهم واقعي لطبيعة الثورة الحسينية والى الحفاظ على خصوصيتها ما أمكن دون أن تمسها أيدي المحللين أو تقدمها على غير حالها، ووفق هذا المعيار الإنساني والتجريبي يصبح الدخول إلى وقائع كربلاء ومواقف سيد الشهداء أمراً مستساغا يفتح لنا الآفاق الواسعة والرحبة لهذه التجربة الفريدة بأبعادها وتطلعاتها، فيا ترى ما هو الهدف الذي حدده الإمام الحسين عليه السلام وصبغ نهضته به؟ وبعدها نعرف كيف حقق الإمام عليه السلام الغاية ويصبح لعبارة الانتصار مغزى واقعيا مكتوبا بدم الفداء ومغموسا بحبر الدين والرسالة،
إن الجواب السهل على هذا التساؤل يدفع البعض إلى تحديد الهدف في ثورة كربلاء هو الإطاحة بيزيد الحاكم الفاجر وبالتالي تقويض الحكم السياسي لبني أمية وهذا ما تترتب عليه آثار كبيرة وخطيرة لجهة الحفاظ على معتقدات الناس وقيمها، لكننا لا يمكن أن نقبل هذه البساطة في فهم الحدث الكربلائي وان كنا لا ننكر أن هذه الهدف ملحوظ وموجود والوقائع دلت عليه إلا أنه ليس هو كل الأمر وفي أحسن الأحوال لا يعبر إلا عن ظاهر الأمر في الوقت الذي لا يخلو تحديد هذا الهدف من إشكاليات واقعية لا تقارب الفهم المعمق لطبيعة الثورة العمل الاستشهادي الفريد الذي قدمه الإمام الحسين عليه السلام مع الخيرة من أصحابه وأبنائه وأهل بيته، ويكفي أن ندقق في بعض الوقائع التي نقلت إلينا من المدينة المنورة
74
63
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
قبل خروج الحسين عليه السلام إلى مكة ثم إلى الكوفة وهي تدل بشكل جلي أن يزيد هو الذي بادر إلى ملاحقة الإمام عليه السلام وطلب البيعة وكان الإمام عليه السلام يرى أن هذا الأمر مستحيل "ومثلي لا يبايع مثله" فان هذا النص لا يكفي ليحدد طبيعة الهدف وإنما كان يرسم مشهدا من مشاهد الظلم والتعسف اليزيدي ويجعل الإمام عليه السلام في موقع ردة الفعل بينما الهدف يحتاج إلى رسم الفعل والمبادرة وهكذا الأمر في مكة ثم في خطابات الإمام عليه السلام في أرض الطف ليلة العاشر ويوم العاشر وكلها تدل على أن الإمام عليه السلام كان يستنفد الفرص واحدة بعد أخرى لكي لا يفهم هدفه بشكل خاطئ ومن المفيد الإشارة إلى أن الأحداث التي تتالت منذ تسلط يزيد على موقع الخلافة إلى واقعة كربلاء اقتضت من الإمام عليه السلام ردات فعل متفاوتة من الموقف وإشهاره إلى الهجرة إلى المواجهة والاستشهاد لكنها شكلت بمجموعها فرصا ساقها الإمام عليه السلام لخدمة الهدف الذي أراده ووضعه نصب عينيه وهو بالتأكيد لم يكن الوصول إلى السلطة مع أنه مطلب محق ولا يناقش أحد في أحقية الإمام عليه السلام بهذا الموقع لكن مراد الإمام عليه السلام كان في مكان آخر وهو أبعد غورا وأكثر أهمية من السلطة كما أنه لم يسجل التاريخ في كل تجارب الأئمة عليهم السلام أنهم عملوا بشكل مباشر للانقلاب على السلطة القائمة مع اعتقادهم وتصريحهم بأنها مغتصبة وأنهم أحق بالأمر من غيرهم ولهذا المنحى في التجربة السياسية للائمة عليهم السلام فلسفته الخاصة المرتبطة بمقام الإمامة ورؤيتها للحكم والسلطة ويكفي أن ندقق قليلا في اللحظة الحاسمة التي واجهها أمير المؤمنين عليه السلام بعد مقتل الخليفة الثالث كيف أن الناس التفوا حوله والتمسوا منه التصدي ولم يقبل مباشرة إلا بعد الإصرار الشديد للناس وتقدير الإمام عليه السلام للموقف ولمصلحة الإسلام والأمة فلو كان الوصول إلى السلطة هدفا مباشراً على أي حال وكيف ما كان لما أحتاج الأمر إلى كل النقاش الذي نقله لنا التاريخ والذي ذكره الإمام عليه السلام بنفسه في بعض كلامه وهكذا هو الحال في الموقف الذي اتخذه الإمام الحسن عليه السلام وبقية الأئمة الأطهار عليهم السلام ، إذن نحن أمام نمط قيادي غير معهود في قاموس الثورات والحركات التغييرية والميزة تعود كما أسلفنا إلى المقام الخاص والرؤية الخاصة التي جسدها موقع الإمامة وعلى هذا المنوال واستناداً إلى نفس الرؤية حدد الإمام الحسين عليه السلام مواقفه الدائرة بين حدي الرفض للمبايعة والثورة
75
64
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
والاستشهاد كان يرمي إلى تجسيد هذا التطلع الخاص والذي عبر عنه عليه السلام بنفسه فأغنانا عن البحث وكفانا عن التكهن حيث قال عليه السلام : "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله وسلم آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
وهنا السؤال الكبير، هل كان الإصلاح وهو العنوان المؤشر إلى الهدف لا يتم إلا بالوصول إلى السلطة أم بشيء آخر، إن الجواب واضح من الطريقة التي اتبعها الإمام عليه السلام في مسيره إلى الكوفة ثم المواجهة في كربلاء، وهو أن الإصلاح المتناسب مع مقام الإمامة ومع مستوى التضحيات التي بذلت في كربلاء ومع السياق التاريخي الموجه لأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وللوقائع التي سبقت كربلاء والتي تلتها هو إصلاح الأمة برمتها من دون التوقف عند موضوع الوصول المباشر إلى السلطة وسيظهر معنا بوضوح في بيان الجهة الثانية أن الواقع أساسا لم يكن مساعدا على الوصول إلى السلطة فكيف إذا كان الهدف اكبر من ذلك فانه وبلا أدنى تردد هو تثبيت دعائم المنهج التغييري الدائم والمتجدد في الأمة حفاظا على الدين وقيمه واستمراره، انه هدف يلتقي مع مفهوم دور الوصي والولي والإمام وهو دور منوط بالأئمة الأطهار عليهم السلام بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ويقابله تماما ويناقضه الدور المنوط بسلطة بني أمية وفي موقف الذروة دور يزيد الذي أفصح جهارا بما لم يفعله معاوية وهو الإطاحة بالدين وقيمه على قاعدة لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل.
إذن دور الحسين بن علي عليه السلام ، هنا لا يحتمل التأويل ولا يقبل التأجيل انه دور تثبيت الوحي واستمرار الرسالة، بينما لو ذهبنا إلى ما ذهب اليه البعض من أن هدف الإمام عليه السلام هو الإطاحة بيزيد فان هذا لم يحصل بعد كربلاء مباشرة واستمر الحكم الأموي لعدة سنوات لاحقة وان كانت كربلاء قد قوضت الحكم الأموي لكن الذي جاء بعده لم يكن أحسن حال مع وصول الأمر إلى العباسيين من ناحية السلطة السياسية والتصرف بمقدرات الأمة، إلا أن الطريق الذي شقه أبو عبد الله الحسين عليه السلام بدمائه تمكن من تجاوز كل العقبات والمصاعب وحفظ للأمة دينها وقيمها وغرس فيها منهجاً استشهادياً يقوم على البذل والتضحية كأمضى سلاح بوجه من يريد الإطاحة بالدين ولذا فان مرحله ما بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام كانت مرحلة مواجهة الانحرافات تحت سقف بقاء الدين الذي أصبح
76
65
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
مصاناً ومحفوظاً ولو بالجملة بفضل النهج الكربلائي ولكي يتضح الأمر أكثر علينا إجراء مقارنة مع ما تعرضت له الديانات السماوية التي سبقت الإسلام وكيف خضعت لتغييرات جذرية واعتقادية وكان المرصود للدين الإسلامي نفس التجربة لولا الجهود الاستثنائية التي بذلها الأئمة عليهم السلام كأوصياء لخاتم الأنبياء وكانت كربلاء المرحلة الفاصلة في إنهاء الاستهداف للدين وأصوله، ومن خلال هذه الرؤية لا يبقى أي تردد في أن الإمام عليه السلام في كربلاء قد حقق هدفه وغايته ورفع مستوى العمل الثوري والتغييري إلى ما هو اكبر من إزاحة سلطة تمثل هذا العمل في الإطاحة بمنهجية شيطانية أموية واستبدالها بمنهجية حسينية تبعث الحياة والروح في الأمة في كل عصر وفي مواجهة أصعب التحديات والظروف.
مما ذكر نصل الى الاستنتاجات التالية:
1- ان الإمام الحسين عليه السلام أسس في كربلاء لمنهج تغييري جديد لم يكن مقتصرا على إزاحة السلطة الحاكمة الظالمة ولم يكن هدفه المباشر الوصول إلى السلطة وقائد الثورة سيواجه الاستشهاد وبالتأكيد لم يكن هدفه ان ينهي حكم بني أمية ليحكم بنو العباس كما ان الثورة لم تكن بخلفية اقتصادية أو اجتماعية بالمعنى الدقيق للكلمة لإزالة الفوارق الاجتماعية والطبقية التي نشأت بفعل التسلط الأموي الملكي الوراثي باسم الإسلام زوراً وباطلاً، بل كانت ثورة تطلعت إلى ما هو أبعد من ذلك وهذا كفيل بجرف الانحرافات الفكرية والسياسية والاجتماعية لأنها تعاملت مع المنهج والقيم الحاكمة وتنزهت عن عيوب الثورات التي تريد عادة استبدال السلطة بأخرى وفتحت الباب واسعاً أمام حركات تغييرية من نمط جديد لا يحاكي إلا منطق الذوبان بالحق والدين.
2- ان الهدف الذي اختاره الإمام الحسين عليه السلام صالح للبقاء والاستمرار في كل زمان ومكان وهذا هو معنى التجدد الذاتي والانبعاث الدائم والحيوية الأبدية لهذا النمط الثوري والتغييري فلو ان الإمام عليه السلام كان يريد الوصول إلى السلطة أو افترضنا أنه وصل لامكن القول ان مفعول التأثير في الأمة كان قد انتهى ولم تتمكن الأجيال الآتية عبر التاريخ أن تتفاعل كما يحصل فعلا الآن – وان تختزن مقومات الصلاح والمقاومة بوجه الباطل والظلم بالطريقة الملائمة وهذا أعلى مصداق من مصاديق "الإصلاح في أمة جدي"
77
66
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
فانه إصلاح يتجاوز الواقعة والحدث ليبقى سيد الشهداء عليه السلام القائد الفعلي الدائم لثورات الحق المناهضة للظلم وأتباعه وهذا النمط أرفع وأسمى من كل الثورات التي شهدها التاريخ.
3- ان الثورة التغييرية على الطريقة الحسينية هي وليدة ورؤية تحول عناصر الضعف الموجودة في الواقع السيئ إلى رؤية متكاملة تلتقي مع الأهداف الدينية والاحتياجات الإنسانية وهي بالتالي ليست ردة فعل فحسب وصرخة بوجه الظالم لإنكار ظلمه والانتفاضة عليه دون الالتفات إلى النتائج والسياق الذي ستوضع فيه الثورة كما يحصل عادة لبعض الانتفاضات المحقة في خلفياتها وفي أهدافها لكنها إذا افتقدت التخطيط والرؤية ستؤول إلى غير ما أرادت خاصة إذا كان الواقع السياسي والثقافي والإعلامي ضاغطا ومؤثرا بشكل كبير، وكثيرة هي الحركات التاريخية التي افتقدت هذه الرؤية وسجلها التاريخ كأحداث مرت وتصرمت ولم تحدث تغييرا ملموسا.
الجهة الثانية: معرفة الواقع
ان نجاح أي ثورة هادفة يعتمد على الدقة المتناهية في معرفة الواقع الذي ترتكز عليه وتنطلق منه وتسعى للتغيير فيه لأن الثورة ليست عملا تخيليا يراد إسقاطه على الجماهير بل هي فعل نابع من إرادة وثقافة ومعرفة والانتماء الثوري ليس صفة محببة بذاتها ما لم يكن في خدمة قضية يطلب فيها النجاح وتحقيق الأهداف.
ان ثورة كربلاء وان سمت وعلا شأنها ليطال كل القيم الدينية والإنسانية لكنها حافظت على المقومات الموضوعية لمعنى الثورة وانبعثت بفضل سيد الشهداء عليه السلام من الواقع الذي اقتضاها ومن دقة غير معهودة في فهم الواقع ومعادلاته وتأثره بواقع الصدمة الثورية ليصب في خدمة الهدف الإصلاحي، بل ان المتتبع للوقائع في تلك الأيام ليشهد تشخيصا عاليا في فهم وإدراك المستوى الفكري والاجتماعي والعاطفي الذي كانت تعيشه الأمة ولمناحي الاتجاهات والخيارات السياسية القاصرة التي تتولد عادة من مجتمع طوقته الأزمات وأقعدته الفتن والالتباسات عن القيام بالواجب، وهل كان الإمام الحسين عليه السلام بحاجة إلى كلام أخيه محمد بن الحنفية عن أهل الكوفة ليتعرف عليهم وعلى سلوكياتهم وهو الذي عاش كل
78
67
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
مراحل المرارات التي تجرعها والده وأخوه، وهل كان بحاجة إلى كلام الفرزدق الذي يقول فيه ان قلوب الناس معك وسيوفهم عليك ليستشرف المصير الذي ينتظره بفعل هذه الاتجاهات الناكصة والمتخاذلة؟!
كل هذه الوقائع تدل بوضوح على معرفة الإمام عليه السلام الكاملة والتامة بشؤون المجتمع الإسلامي الذي عاش كل أحواله وشؤونه وشجونه وتبدلاته منذ وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى كل تفصيل ترسخ في ذاكرة ووجدان وعقل وتجربة أبى عبد الله الحسين عليه السلام ، اذن أي واقع هذا الذي أدركه الإمام عليه السلام وارتكز عليه في سبيل تحقيق وإنجاز أعظم ثورة تغييرية شهدها التاريخ، وقبل الإشارة إلى العناوين الأساسية لتوصيف هذا الواقع وأهميته الموضوعية في قيام الثورة ينبغي الإلفات ولو من باب التحرز والاحتياط ان الإمام عليه السلام الذي كان يحركه ويفرض عليه الرفض والثورة ليس فقط قناعته بحقانية الأهداف التي يحملها وصفاء الدوافع التي كان يختزنها فهي موجودة وأساسية في سلامة واستقامة وصوابية ما قام به لكنها لوحدها لا تكفي إلا إذا انضمت إلى دراية تفصيلية بالواقع ومتطلباته وتوقع النتائج ومآل الأحداث فإنها عناصر ضرورية في فهم الميزة الخاصة التي استند إليها الإمام عليه السلام في ثورته، وأما العناوين فهي:
1- واقع المجتمع الإسلامي:
لا اعتقد أني بحاجة إلى كثير كلام لأوضح شدة معرفة الإمام الحسين عليه السلام بواقع الأمة الإسلامية في تلك المرحلة وهو الذي عاين تبدلاتها من موقع العارف بكل شؤونها وهي الذي ترعرع في بيت النبوة والوحي وشهد التغييرات التي طالت بنية المجتمع الإسلامي واتجاهاته الفكرية والسياسية والاجتماعية بعد وفاة جده الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى كل المواقف المليئة بالغصات والمرارات مع أمه وأبيه وأخيه حتى لقد أدرك تماما انسداد أبواب الإصلاح والتغيير بمختلف الأساليب الممكنة عادة وقد عبر سلام الله عليه عن هذا الواقع المرير بقوله :"ألا ترون إلى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه" وهل يتصور حال أسوأ من هذه الحال، انه تعبير صريح من الإمام المعصوم المدرك لكل جانب وزاوية وتفصيل في حركة المجتمع الإسلامي واتجاهاته وإمكانياته مما يدل
79
68
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
على ان حالة التردي والنكوص وصلت إلى الهاوية وكادت الأمة ان تلفظ أنفاسها الأخيرة لجهة حياة القيم الدينية وبقائها وفاعليتها وهو يعلم تماما ان لا معنى للأمة الإسلامية بلا إسلام وقيم فإذا تجمدت عن الفعل والتأثير انتهت، ومن الطبيعي ان هذه النتيجة لا تكون فجائية ودفعة واحدة وإنما هي حصيلة تراكمات وتراجعات مفصلية أنهكت الواقع وجعلته يقبل بشخص كيزيد خليفة على رأس الهرم السياسي في الأمة التي أرادها الله تعالى ان تبقى خير الأمم وهذا لا يعني بالضرورة ان الخير انعدم وان الإيمان اندثر بل يعني ان فعل الإيمان وأثره أصبح متلاشيا وهكذا تموت الأمم وتخضع الشعوب وتسكن حركة التغيير فيها نحو الصلاح، ولذا انتفض الإمام عليه السلام مستنكرا منذ اللحظة الأولى لوصول يزيد إلى الحكم فقال: "ومثلي لا يبايع مثله" ليس من أجل التعبير عن موقفه الشخصي كإمام فحسب بل من اجل الإلفات إلى حالة التردي هذه ليكون تأسيسا للثورة التي بدأت كفرصة أخيرة في التغيير، وعلى أي حال فان ما حصل خلال أحداث كربلاء وما بعدها يؤكد هذا المناخ الاجتماعي القائم والمستوى الوضيع الذي وصل اليه الناس في خياراتهم وضياعهم وتخاذلهم حيث كان يذكرّهم بمقامه وموقعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومحبته له وسيرته على خطاه وهدفه في كل ما يقوله ويفعله ويسألهم هل تنكرون ذلك فيقولون: لا، لكنهم يصرون على التخاذل والمضي في طريق الغي والظلم وفي ارتكاب أشنع جرائم التاريخ بقتل ابن بنت نبيهم الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور وجعلهم امة متماسكة بعد ان كانوا عدما بمقاييس الإنسانية والحضارات.
ان قائد أي ثورة يرتكز في قيادته على عناصر التحريك الفاعلة في مجتمعه ليصنع منها قوة الفعل والتغيير وهذه العناصر ترجع إلى قوة الفكر أحياناً والى قوة المنطق والحق أحياناً أخرى والى عوامل اجتماعية واقتصادية أحياناً ثالثة وهكذا.. أما في واقع المجتمع الإسلامي آنذاك فقد افتقد لمعظم هذه العناصر ولم يبق أمام الإمام الحسين عليه السلام إلا قدرة التغيير بالخصائص الوجدانية والعاطفية واستخدام المقام الشريف والتضحية بنفسه الطاهرة مع القلة المباركة المتبقية من أصحابه ليقلب الواقع رأسا على عقب ولو بالتدريج وبشكل غير مباشر ليعيد تظهير قوة الفكر والحق والمنطق الذي اعتمد عليه أساساً، ولم
80
69
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
يكن بالإمكان ان تنجح هذه المراهنة لولا المعرفة التفصيلية والصائبة بخصوصيات هذا المجتمع واتجاهات التحول فيه وبهذا المعنى حافظ الإمام عليه السلام على شرط أساسي في قيام الثورة واختار الطريق الذي كان على دراية تامة بمتطلباته من أجل الوصول إلى الهدف والغاية.
2- واقع السلطة:
ان الثورة عادة تكون بوجه سلطة ظالمة ومعتدية ولا ينبغي لأحد ان يتوهم ان ثورة كربلاء باعتبار ان هدفها إصلاح الأمة بالمعنى الواسع والشامل كما أسلفنا فهي لم تكن تحتاج لأن تكون بوجه سلطة محددة خاصة وان الإمام الحسين عليه السلام كان يعرف مسبقا أنه لن يتمكن من الوصول إلى السلطة بعد الإطاحة بالسلطة القائمة ذلك ان المسار الطبيعي للإصلاح الشامل يقتضي بالضرورة تقويض السلطة الموجودة، وهنا أميل إلى ان السلطة المستهدفة في ثورة كربلاء هي سلطة بني أمية عامة وليس سلطة يزيد فحسب ذلك ان حالة العقم والتجمد التي أصابت المجتمع الإسلامي كانت وليدة هذا النمط الملكي الوراثي المنحرف الذي عمل لأجله بنو أمية وبالتالي لا مجال للتحدث عن صراع شخصي أو عائلي بين الحسين بن علي عليه السلام ويزيد أو بين بني هاشم وبني أمية كما يحلو للبعض أن يذكر فان هذا المعنى لا يليق ولا يناسب مقام وفكر وأهداف الإمام الحسين عليه السلام ولا يتلاءم مع التوجه الحسيني القائم أساساً على الدين والقيم وحفظ الرسالة والأمة، إلا انه لا يمكن في نفس الوقت إنكار خصوصية يزيد في الإسراع بالمواجهة كما سيظهر بعد قليل.
إذن السلطة التي ثار بوجهها الإمام الحسين عليه السلام هي نمط في الحكم هدف إلى قلب قيم الإسلام من حكومة الدين إلى حكومة الشخص ومن أولوية المبدأ إلى أولوية المصلحة والمنفعة ومن سلوكية العدل والشريعة إلى حاكمية التسلط والتفرقة والطبقية والجهل، وهي سلطة لا تنفع معها الكلمة أو الموعظة أو حتى المواجهة السياسية التقليدية التي عرفتها الشعوب في تجاربها، هي سلطة تجاوزت منطقة الاستبداد السياسي إلى منطق الاستبداد الإنساني وجعلت نفسها في موقع المشرع انقلابا على شريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم لتعود
81
70
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
الجزيرة العربية إلى سالف العهد في ظل سيطرة الجهل والقبلية لكنها هذه المرة أسوأ من السابق لأنها تتظلل باسم الدين والخلافة وهي جاهزة لقتل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من خلال قتل ولده الحسين وهم يرددون كلامه ويعرفونه جيدا "أنا من حسين وحسين مني".
3- وضوح الموقف وشعلة الثورة:
يقال ان للثورات أسبابا مباشرة وأخرى غير مباشرة وهذا صحيح إلا ان القائد الملهم هو الذي يحدد لحظة الانطلاق في وقتها دون أي تقديم أو تأخير وهذا ما فعله الإمام الحسين عليه السلام بالضبط وهذا ما لا يمكن ان نتردد فيه من خلال عقيدتنا ومن خلال فهمنا لما جرى ذلك انه يمكن لقائل ان يقول ان الواقع المتردي والسلطة الظالمة كان موجودا قبل يزيد وهذا الواقع يعكس الأسباب غير المباشرة والدواعي المتراكمة للقيام والثورة وهذا ما لم يفعله أمير المؤمنين عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام مما يرشد إلى خصوصية حكم يزيد ويبعد أهمية واقع المجتمع الإسلامي والسلطة الظالمة، إلا ان الموضوع مرتبط بشكل وثيق بالخيارات لجهة ضيقها وسعتها من ناحية ولجهة الفرص المتاحة من ناحية أخرى، وهذا ما يحتاج إلى بيان حيث ينقل لنا التاريخ إن معاوية كان قد طلب من يزيد إن لا يطلب البيعة من الحسين بن علي عليه السلام ان وصل إلى السلطة بعد أن هيأ له كل المقدمات وهذا يدل على فرق واضح بين دهاء معاوية وحماقة يزيد دون أن يجعل هذا الأمر فرقا بين طبيعة سلطتي معاوية ويزيد في الرؤية والهدف، كما إن أمير المؤمنين عليه السلام عالج القضية المركزية للأمة الإسلامية بالصبر والتحمل مخافة أن ينفرط عقد الإسلام وكان يأمل بالفرصة السانحة للتغيير وهذا ما كاد أن يحصل بشكل نهائي في صفين لولا طروء قضية التحكيم التي خلطت الأمور، والإمام الحسن عليه السلام قام بحركة التفاف على أهداف معاوية من خلال الصلح استفادة من الفرصة الوحيدة التي كانت متاحة حتى لا تقع الواقعة فتقلب الأمور وتتحقق أهداف الخصوم، بينما الذي حصل مع يزيد أنه أصر على اخذ البيعة من الإمام الحسين عليه السلام واستعجل النتيجة النهائية فكانت الفرصة مؤاتية لاشتعال الثورة بين حدي السلة والذلة فكان الموقف الحسيني: هيهات منا الذلة، ولذا لم نجد الإمام الحسين عليه السلام مترددا أبدا في الخروج من المدينة إلى
82
71
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
مكة ثم إلى الكوفة على الرغم من كل الآراء الأخرى التي ظهرت والمواقف التحسينية التي صدرت من البعض حتى لو كانت عن حسن نية ذلك إنها اللحظة المناسبة والحجة القائمة والتامة للنهوض في الثورة كيف لا وأسبابها اجتمعت لجهة كل الوقائع السياسية والتي من ضمنها رسائل أهل الكوفة، فإذا اليوم الذي وعد به الحسين عليه السلام قد دنا والدور الذي رصد له قد لاح واقترب ومن أولى منه بهذا الأمر، انه أعظم وأرقى موقف تاريخي في تاريخ الأمة الإسلامية لا يطيقه ولا يتحمله إلا الحسين بن علي عليه السلام وهو يؤكد شدة الوضوح في بيان الطريق الذي سلكه ليحقق أعظم ثورة في التاريخ في أهدافها ومنطلقاتها وأسلوبها.
الجهة الثالثة: الأسلوب: الثورة الفريدة
لو انتقلنا بفكرنا ووعينا وأحاسيسنا إلى مرحلة كربلاء وواقعها وأهدافها وتساءلنا عن الأسلوب الذي يمكن أن تتخيله كل عقول الدنيا بعبقريتها وتجاربها ليؤدي الغرض ويحقق الهدف هل كنا سنجد أسلوباً يضاهي ثورة كربلاء كما أرادها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجها إلى حيز التحقق سيد الشهداء عليه السلام ، بالتأكيد إن الجواب هو النفي.
لكل ثورة أسلوبها الخاص وبحسب الاستقراء فان الأساليب المعتمدة تارة ترتكز على الجماهير بعد ضخ الوعي والحماسة فيها فتكون ثورة شعبية وتارة ترتكز على قوى النفوذ العسكري من داخل النظام أو خارجه فتكون ثورة مسلحة تتأطر فيها القوى المسلحة من قادة عسكريين أو قبائل أو عشائر أو تجمعات تؤمن بهذا الخيار وتارة ثالثة تعتمد على النخب والفكر الجديد الذي تحمله لترسيخ معادلات سياسية وأحياناً منظومة قيم جديدة فتكون ثورة فكرية أو سياسية وتارة رابعة تكون مزيجا بين نمطين أو أكثر وتتداخل فيها عوامل اقتصادية واجتماعية وهكذا... لكن الواقع الذي شهده الإمام الحسين عليه السلام لم يكن متناسبا مع كل هذه الفرضيات وهذا هو المراد من قولنا وصول المجتمع إلى مرحلة الانسداد في خيارات التحريك نحو التغيير مع وصول التردي إلى ما يقرب من النهاية فتحتاج الحركة والثورة إلى إبداع يفوق التصور الطبيعي للأمور وهذا ما لم يكن قادرا عليه إلا من نهل من النبع الصافي وانتمى إلى المعدن النادر الذي اصطفاه الله تعالى وترعرع في حضن النبوة
83
72
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
والوحي وانتسب إلى معين الولاية فانجلت أمامه الصورة وانكشفت له الوقائع في حاضرها ومآلها وهذا هو بالتحديد الذي رمت إليه أحاديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في حق الحسين منذ ولادته المباركة إذ استقبله بالدمعة وواكبه بالحنان الفيّاض وحفر في ذاكرة الأمة ووجدانها حب الحسين والتعلق الخاص به تمهيدا لهذا الدور الفريد وبهذا المعنى تصبح الثورة رشحة من رشحات الغيب وفيض من فيوضات السماء لا يطيق حمل عبئها إلا الحسين بن علي عليه السلام ، ومن كل هذه المعاني وفي ظلال هذه الرؤية انبثق الأسلوب الكربلائي وانفجرت منه ينابيع ثورة فريدة لم تهتد إليها البشرية قبل سيد الشهداء عليه السلام لتبقى الحجة البالغة قائمة فلا تموت الأمة الإسلامية بعدها ولا تعدم الخيارات في أصعب الظروف وأحلكها.
لم يبدأ الإمام الحسين عليه السلام في تحركه كما هي عادة الثائرين الذي يعلنون البيان الثوري الأول ثم يحشد المؤيدين ويهاجم مواقع السلطة ليطيح بها واحدا بعد الآخر لينهك الخصم ويفقده قدرة السيطرة على البلاد، وإنما بدأ تحركه بإعلان رفض المبايعة بينما كانت تأتيه الأخبار من مختلف المناطق والكتب من الكوفة وكبرائها معلنين له التأييد والنصرة والانتظار فبدت حركته استجابة طبيعية للذين دعوه إلى القيام بينما كان على ثقة تامة بأن الذي ينتظره هو أمر آخر ليحقق في أسلوبه الجمع بين مقتضيات الثورة الموضوعية ومقتضيات العلم اللدني الذي اختصه الله تعالى به وتمكن من صياغة هذا النمط الفريد دون أي إخلال ليجمع كل المعطيات ويوجهها في إطار ثورة تصدم الواقع وتفضح الحاكم وتزيح عن كاهل الأمة آثار السنوات العجاف المليئة بالانحراف والتخاذل عن الدين وقيمه، فإذا كان التاريخ يروي لنا بعض الوقائع والنتائج فان المتيقن إن الإمام الحسين عليه السلام كان يقود ثورة اكتملت عناصر النجاح فيها من حيث الرؤية والطريقة وهذا ما يمكن فهمه من خلال الآتي:
1- إثبات المظلومية التي لحقت به من خلال إصرار يزيد على تحصيل البيعة مهما كلف الأمر وعليه يكون الإمام عليه السلام ملاحقاً ومعتدى عليه من قبل الحاكم المتسلط الذي يريد إخضاعه وإجباره وسلبه حق الاختيار في رفض المبايعة واستمر الأمر على هذا المنوال حين ترك مدينة جده صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى مكة وبعدها لم يتم أعمال الحج ليغادر قاصداً
84
73
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
الكوفة، إن هذه الحركة كافية لإثارة أسئلة قاسية حول ما تعرض له الإمام عليه السلام من اضطهاد وظلم من قبل شخص متهتك وفاجر ومتسلط على رقاب المسلمين، كما أنه حين حوصر في أرض الطف ومنع من إكمال المسير إلى الكوفة أو حتى العودة كما منع مع عياله وأصحابه بعدئذٍ من الماء وصولاً إلى كل فصول المأساة لتتأكد المظلومية في أقسى صورها فترسخ في وجدان الأمة والتاريخ حجم الظلم الذي تعرض له ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وربما كان هذا المعنى حاجةً ملحّة لصدم الوجدان من جهة ولكشف حقيقة الحكم الأموي المتعسف.
2- ما معنى ان يخرج الإمام عليه السلام مع أهل بيته من النساء والأطفال مع أنه كان يعلم أن الذي ينتظره المواقف الصعبة والحرجة فإن هذا المشهد يكفي لوحده للتعبير عن الطريقة الخاصة التي أراد الإمام عليه السلام ان يفهمها للجميع وانه ليس في موقع المهاجمة والثورة المسلحة وإلا احتاجت الحركة إلى أسلوب آخر مع ان خروج العيال والخواص معه يشير إلى الاستعداد للتضحية بكل غالٍ في سبيل تحقيق الهدف مضافاً إلى الدور التفصيلي الخاص الذي جسده كل واحد من هؤلاء الأطهار في واقعة كربلاء وبهم جميعاً يكتمل المشهد وتلتئم عناصر الثورة الفريدة.
3- الفداء والتفاني والإيثار كلها قيم انضمت إلى العاطفة والبلاغة والثبات والصبر وكانت تملأ سماء الطف وتزيّن الواقعة والتاريخ بأروع المشاهد الكفيلة بضخ الحياة إلى شرايين الشريعة والأمة لإبقائها يقظةً وأبيةً في مواجهة الظلم في أي عصر وعند كل التحديات.
4- الاستشهاد وهو العنوان الأكثر حضوراً في كربلاء والأكثر شمولاً ليكون من نصيب الطفل الرضيع والفتى والشاب والكهل والرجل والمرأة والأسود والأبيض وبهذا تصبح الشهادة خيار الأحرار دائماً والقدرة على صناعة التغيير ومصدر الإلهام للشعوب التواقة إلى الحرية والعدالة ولتتوج في نهاية الأمر باستشهاد القائد المعصوم الذي تقدم إلى ساحة اللقاء بقلب ملؤه الرضا والتسليم لينصهر مستقبل الأمة الإسلامية والشريعة المحمدية بالدم القاني الممزوج إخلاصاً وحباً وفناءً في العقيدة والمبدأ.
5- التبليغ والإعلام وإقامة الحجة كلها عناصر ما غابت عن كربلاء لحظة واحدة
85
74
المحاضرة السابعة: ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتيار التغيير في الأمة
بدءاً من الخطابات القاطعة والمليئة بالحجة والمنطق الذي لم يوفر الإمام الحسين عليه السلام جهداً في سبيل تبيانه كما أن الحوراء زينب عليه السلام لم تقعدها المصيبة على الرغم من شدة قساوتها واستمرت في القيام بهذا الدور على أكمل وجه ليستمر الإمام السجاد عليه السلام بأداء هذه المهمة حزناً دائماً وذكراً مستديماً ومتواصلاً لينمي في الأمة قوة المناعة على مواجهة الانحراف ولفظه وفضحه.
لا أظن أني قادر على إدراك كل العناصر الفاعلة في حركة التغيير التي اعتمدها الإمام الحسين عليه السلام مع الخيرة من أصحابه وأهل بيته إلا ان الواضح في هذا الشأن ان ما قدمته لنا كربلاء من تجربة فريدة بكل أبعادها وقيمها رسخت دعائم النمط الثوري والنهج الكربلائي الذي احتلت الرمزية فيه مكانةً عاليةً ليعبر كل رمز عن أسرار تحتاج إلى توغل في الإيمان والمعرفة والدلالة.
أيها السادة الفضلاء:
من دواعي التوفيق لأي إنسان أن يبذل عمره في سبيل إدراك هذه الأسرار وفي سبيل نشرها والترويج لها ليكون مساهماً في تحقيق أهداف كربلاء التي لم تتجمد ولم تتوقف مع انصرام القرون ولن يكون ذلك لأن مشيئة الله اقتضت ان تحفظ الرسالة بالدم الحسيني كما اقتضت ان تحفظ كربلاء بإقامة المجالس والمآتم وذكر المصاب في أعظم ثورة تاريخية وتغييرية عرفتها البشرية ولا يجوز للأمة الإسلامية أن تفرط بها أو تقلل من شأنها أو تقصر في حقها ونحن نعتقد انه يجب ان نعمل سوياً للوصول إلى اليوم الذي يتحسس فيه كل المسلمين هذا المعنى لإعادة الاعتبار لقضية كربلاء كما تستحق ولتكون قضية الكل كما كان الإمام الحسين عليه السلام إماماً لكل المسلمين والثائرين بوجه الظلم.
وفقنا الله جميعاً لخدمة الدين الحنيف وللدفاع عن الإسلام العزيز ولفهم كربلاء والاستفادة من قيمها ومضامينها الخالدة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته1.
1- محاضرة ألقيت في محرم 1418هـ في مركز الإمام الخميني الثقافي –بيروت.
86
75
المحاضرة الثامنة: أبعاد الاستشهاد في ثورة الحسين
المحاضرة الثامنة: أبعاد الاستشهاد في ثورة الحسين
الوزير السابق جوزيف الهاشم
الكلام على البُعد الاستشهادي لثورة الإمام الحسين، لا يصح أن يتناول مرحلة تاريخية حصرية، منفصلة بذاتها، منقطعة عن جذورها.بل هناك تلازم عضوي بين البُعد والعمق، وتواصلٌ ملتحم بين صرخة الاعتراض الأولى وساعة الحسم.
ثورة الإمام الحسين، هي التتويج التجسيدي لملحمة ثورية طويلة، تعبَّأت بالجهاد وتضمخت بالشهادة. وقل إن الثورة انطلقت من معارضة إلى انتفاضة، ومن ثورة باردة إلى ثورة حامية، ولم تكن ميلاً مكبوتاً ينتظر الانفلات، بل كانت تصحيحاً لحال انفلات عن حقيقة مكبوتة.
الثورة الباردة أطلقها الإمام علي، على عهد من سبقه من الخلفاء، فكانت أقرب إلى التطور منها إلى الثورة.
والثورة الحامية أطلقها الشعب، على عهد عثمان، فاندلعت بعنف، لأنها اصطدمت بجدار يقاوم تحقيقها.
والانتفاضة الأولى للثورة كانت يوم السقيفة، الذي ارتدت الخلافة فيه تفسيراً قبلياً "لأن قريشاً قررت ألاَّ تعطي السلطة للهاشميين..." بما اعتُبر تحريفاً للنصوص في "حديث الدار وحديث الثقلين".
فالتحريف يؤدي إلى الانحراف.
الانحراف يؤدي إلى الثورة.
ولعل المحطة الثانية للثورة، كانت يوم الشورى، وقد تم الأمر بعد عمر لعثمان، فكان السكوت أيضاً، "ما سلمت أمور المسلمين"...
87
76
المحاضرة الثامنة: أبعاد الاستشهاد في ثورة الحسين
ولأن أمور المسلمين لم تسلم، ولأن أهل البيت، عليها مؤتمنون، اندلعت الثورة الحامية، فحققت أهدافها بتولية الإمام علي.
وثورة علي، لم تكن تحتاج إلى شعار... ولا إلى عناوين.
الرجل في حدّ ذاته منهاج متكامل لها.
والثورة ليست فورة عاطفية ونزعة غرائزية، تنطلق من المجهول فتصطدم بالمجهول، بل هي موقف متسامٍ يحقق ضرورات جديدة، ومفاهيم جديدة، وتتوق نحو الأفضل.
جاءت خلافة الإمام علي بعد عشرين سنة من وفاة النبي، بما ساد تلك الفترة من تقطّع في التواصل الحقيقي مع روح الدعوة، فلم يكن الذين عاصروا خلافته من زعماء القبائل وشيوخها، قد واكبوا المسيرة النبوية وعاشوا مراحلها ومارسوا معانيها، بقدر ما شغلتهم أهواء النزاع السياسي والإغراءات الشخصية، فإذا هم غرباء عن ذلك النمط الرسولي من المثالية العلوية المتجردة.
وكان استشهاد الإمام علي، المحطة الأبرز للثورة، بل كان بداية الانتصار، إذ حين خرّ الإمام صريعاً في مسجده، كان أول ما تفوهت به شفتاه:
فزتُ ورب الكعبة...
فاز خطّه، فازت ثورته، وفاز خط الإسلام.
وعندما فتح عينيه في تلك اللحظة الحاسمة، ورأى الحسن يبكي، أشار إليه الإمام: بأن الآلام سائرة نحو الآمال وبأن الخط سائر في التواصل.
واستكملت مسيرة الثورة على يد الحسن، واستكملت في المقابل دسائس الفتنة لقتله، وتثاقل الناس معه للجهاد، فكانت المبايعة المشروطة استبعاداً موقتاً لاستحقاقات المعركة، "فصالحتُ، ورأيت دفع الحروب إلى يوم ما...".
والظروف لم تمهل الحسن للاستعداد إلى "يوم ما"، فكانت مدة ولايته نحواً من سبعة أشهر، واستشهد مسموماً، فيما الإرهاب قد بلغ حدّه الفاحش.
منذ لحظة استشهاد الحسن، كان الحسين قد اتخذ قراراً وجدانياً حاسماً لا رجوع عنه.
88
77
المحاضرة الثامنة: أبعاد الاستشهاد في ثورة الحسين
إنه يأبى أن يقتل اغتيالاً كأبيه أو مسموماً كأخيه.
إنه يرفض أن يترك الأمة والدين فريسة الجشع والاضطهاد والاستغلال، فيما مصير المسلمين عرضة للأغراض والأهواء.
جهاد الإمام الحسين عليه السلام
هل أجيز لنفسي هنا أن أخالف بعض المحللين والباحثين في جانب من اجتهاداتهم حول خطة الحسين؟
بعضهم بالغ في التلميح، إلى أن الحسين وضع الاستشهاد في خاطره قراراً قدرياً محتوماً؟!
وأنه، منذ إطلاق شرارة الثورة كان الاستشهاد أبرز سلاحها...
وإن الثورة تحتاج إلى صدمة دموية رادعة هي صدمة الاستشهاد...
هل أعارضهم القول: بأن التركيز على الاستشهاد قراراً حتمياً مسبقاً هو نوع من الاستسلام المسبق،
فيما الحسين كان ينتهج سياسة التصدي والمواجهة المباشرة، وكان مقاوماً بكل ما تعنيه كلمة المقاومة من معنى.
وأنه حتى منتصف الطريق نحو العراق. كان يأمل في أن ينضم الناس إليه ويلتفوا حوله، وهو يجادلهم، ويستحثهم إلى جانبه مقاتلين؟!
ننتقص من الحقيقة التاريخية إذا أغفلنا الإستراتيجية السياسية، العسكرية النفسية، التي وضعها الحسين للمواجهة، بكل ما تميزت به هذه الإستراتيجية من حنكة وحكمة وذكاء.
وننتقص أيضاً من الحقيقة، إذا تجاهلنا أن الحسين قد وضع في خاطره الاستشهاد سلاحاً رديفاً للانتصار.
بلى... عندما أدرك أن الجماهير تعيش حالة اللاوعي.
وأن الثورة التصحيحية ارتدَّت عنها السواعد، ولم يبق إلا دم الشهادة.
عندها كان القرار، بأن يأخذ الدم الزكي مجراه في عروق التاريخ، مع كل حقائقه ومواقعه ووقائعه.
89
78
المحاضرة الثامنة: أبعاد الاستشهاد في ثورة الحسين
لم يكن الحسين يعتبر العهد الذي قطعه لمعاوية مع الحسن، تسليماً بولايته ، بل لاكتساب الوقت، والقيام بمرحلة التهيئة للثورة.
فلم يرجئ سلاح المواجهة، إلا ليشهر سلاح المهادنة.
المهادنة بالنسبة إلى الحسين كانت حرباً مستترة، وتأجيجاً للثورة ، وتأجيلاً لها ، حتى يأتي عهد يزيد.
كان يدرك أن الثورة في عهد معاوية، ستؤدي إلى قتل جذور الثورة وامتدادات نتائجها، على أنها نقض للعهد وطمع بالسلطة.
وحتى الاستشهاد في عهد معاوية، لم يكن ليأخذ هذا الوهج الإنساني كقيمة وجدانية صارخة في ضمائر الأجيال.
بهذا التصور الواسع، واجه الحسين عوائق الثورة، فحمل سيف الإسلام المعنوي والروحي، في انتظار سيف الإسلام الجهادي.
وشنّ الحسين حرب المبادئ، فانتهج خط المقاومة السياسية والمواجهة العقائدية، وترك الثورة تلجّ في النفوس، مع ما استفحل من بلاء وجرائم، وعسف ومجازر، استهدفت خلّص المسلمين وأخلصهم للدعوة والرسالة والإسلام.
وهل تكتفي ثورة الحسين بالشعار القائل: "الناس قلوبهم معك وسيوفهم عليك..."؟!
وهل تكتفي بما قاله طه حسين: "ومات معاوية حين مات، وكثير من الناس يرون بغض بني أمية، وحب أهل البيت لأنفسهم ديناً..."؟!
ومات معاوية حين مات... والثورة الحسينية ماضية في سبيلها الحق، بإصرار أشد وصلابة أقوى وإيمان لا يستكين.
أيها الأمير ، قالها الحسين للوليد بن عتبة والي المدينة... "إنّا أهل بيت النبوة، ويزيد فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله...".
بعد الخطبة الكربلائية الأولى، والصدى المخنوق الذي لقيته، شهر الحسين السلاح الاحتياطي للحرب، إنه سلاح الشهادة.
عندها أدرك، أن حقيقة الانتصار باتت تستدعي فدية كبيرة تتألق بالدم.
90
79
المحاضرة الثامنة: أبعاد الاستشهاد في ثورة الحسين
كان في استطاعة الحسين أن يتراجع وهو في منتصف الطريق إلى العراق فينجو برأسه، الأمر لا يحتاج إلى كثير من الفطنة واليقظة، ولا إلى الخارق من الذكاء.
إنه يتعلق بإنقاذ الدين ومصير الأمة، ولا مجال في سلوكية الأئمة، لأن يلجأ أصحاب الرسالة إلى الحذلقة والدهاء.
بالتضحية والفداء.. أنقذ الإمام علي مبادئ الدين، ولولا الدين والتقى ، لكان أدهى العرب في تولية نفسه.
وبالتضحية والفداء، أنقذ الإمام الحسين مبادئ الدين، ولولا الدين والتقى، لكان أدهى العرب في إنقاذ نفسه.
إذا شئنا اختصاراً أدق لأبعاد ثورة الحسين، فإن أبرز نتائج الثورة هو السؤال:
ماذا لو لم تحصل الثورة...؟
وفي تشخيص سريع لصورة ذهنية، عما كان عليه شأن الدين والدنيا، والحكم والمجتمع والناس...
يبرز بصفاء أكبر، الجواب الأكبر عن سؤال:
ماذا لو لم تحصل الثورة...؟
الجواب المخيف هو:
استنزاف روح الإسلام باسم الإسلام المشوه...
احتضار إنساني لدعوة النبي ورسالته وعقيدته وأحاديثه...
اغتيال آخر للإمام علي، لمحطات جهاده ساعداً ولساناً في نشر الرسالة.
وقل:إنه اغتيال للكلمة الإلهية في ليلة القدر، وقد طغى على رحمة السماء فساد الأرض.
ويقابل هذا الجواب المخيف، جواب عكسي آخر لنتائج الثورة... وبُعْدٌ واسع الأعماق والآفاق.
إن ثورة الحسين، ليست صرخة اعتراضية على حالة تاريخية محددة، مكتفية بأهدافها ومكانها وزمانها...
91
80
المحاضرة الثامنة: أبعاد الاستشهاد في ثورة الحسين
وليست ثورة حسينية، شيعية حصرية وكفى...
وليست ثورة إسلامية، جامعة عامة وكفى...
إنها ثورة إنسانية شاملة مطلقة، تعني كلّية الإنسان، جوهراً وروحاً وقيماً، كياناً وكينونة في كل آن ومكان.
إنها ثورة ترسم هداية الطريق البشري، في منطلقاته وأبعاده، مثالاً عالمياً للأزمنة والأجيال.
هكذا الدعوات والرسالات، بالتضحية تنتصر وبالشهادة تنتشر...
وهكذا كتب القدر الإلهي للإمام علي والحسنين، شبيهاً بقدر عيسى... وكما انتصرت رسالة المسيح باستشهاده...
هكذا انتصرت رسالة محمد بمسيرة استشهاد مثلث، كللها الحسين في كربلاء بأروع موقف رسولي، فإذا المئة والعشرون طعنة التي أصابت جسده أوسمة عز للإسلام.
وإذا الرأس الذي اجتز مكلل بالغار، يرفع رأس الدولة الإسلامية عالياً، ويبعث تراثها القرآني، رسالة حضارية للعالمين.
1- محاضرة ألقيت في محرم 1415هـ في مركز الإمام الخميني الثقافي.
92
81
المحاضرة التاسعة: تأثير الثورة الحسينية في الثقافة الإسلامية
المحاضرة التاسعة: تأثير الثورة الحسينية في الثقافة الإسلامية
الشيخ محمد توفيق المقداد
تُعتبر الثورة التي قادها الإمام الحسين بن علي عليه السلام الثورة الوحيدة في الإسلام عبر تاريخه الطويل التي حظيت باهتمام واسع النطاق ولا زالت كذلك إلى الآن من خلال موسم عاشوراء السنوي الذي ينبري فيه قرّاء مجالس العزاء وخطباء المنابر للحديث عنها بجانبيها "العاطفي" المتقوم بسرد الوقائع المليئة بالصور المفجعة عن الإجرام الممارس ضد الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه والذي يجري الدمعة من العين ويضفي مسحة من الحزن في القلب والروح ويرقق المشاعر والأحاسيس، ويلهب النفس بالثورة على الظلم والظالمين، و"الفكري" حيث يتم توضيح الأسباب الموجبة للتحرك في مواجهة النظام المنحرف والفاسد وتبيان الآثار والنتائج المترتبة على تلك الثورة.
ولا شك أن احتلال الثورة الحسينية لهذه الموقعية المميزة لم يكن وليد الصدفة، أو وليد التفاعل مع هذا الحدث بنحو مجرد عن التوجيه والتنظيم، بل كان كل ذلك نتيجة جهود مكثفة قادها الأئمة عليهم السلام أولاً، ثم من بعدهم العلماء الأبرار الذين قادوا مسيرة أتباع أهل البيت عبر العصور.
أسباب الاهتمام بثورة الإمام الحسين عليه السلام
والسبب في هذا الاهتمام غير العادي بثورة الحسين عليه السلام هو أن الهدف منها لم يكن هدفاً عادياً أيضاً، وإنما كان هدفاً كبيراً يتجاوز بتأثيراته العصر الذي حدثت فيه، ذلك الهدف هو "الإصلاح" الذي أوضحه الإمام عليه السلام بقوله عند خروجه للثورة فقال: "ألا وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"..
93
82
المحاضرة التاسعة: تأثير الثورة الحسينية في الثقافة الإسلامية
وبالرجوع إلى المصادر التاريخية التي تتحدث عن عاشوراء نجد أن الإمام زين العابدين عليه السلام هو أول من شجَّع على نمط إحياء ذكرى كربلاء، حيث نجد أن الإمام عليه السلام عند رجوعه من رحلة الأسر من الشام إلى المدينة المنورة، وقف قبل المدينة بمسافة وأرسل أحد الشعراء ينعي الحسين عليه السلام فيها، فخرج جميع أهلها لاستقبال الإمام ونساء أهل البيت عليه السلام ليتشكل من الجميع ما يشبه أوجل مظهر من مظاهر الاهتمام بمقتل الحسين عليه السلام .
وكذلك فعل كل الأئمة عليهم السلام ذلك، فكانوا عندما يأتي الأول من المحرم من كل عام يقيمون مراسم الحداد ويسمحون للشعراء بالدخول عليهم وإلقاء قصائد الرثاء بالإمام الحسين عليه السلام ومنوهين بتضحياته وجهاده في سبيل الإسلام.
وكذلك عندما ننظر إلى كثرة الأحاديث والنصوص الواردة عن الأئمة عليهم السلام وعن طريقة تصرفهم مع عاشوراء أبي عبد الله الحسين عليه السلام نجد التأكيد الشديد والواضح على ضرورة الاهتمام بها والتركيز على إقامتها والاعتبار بها، فمن الروايات ما يدل على أهمية البكاء على مصيبة الإمام الحسين عليه السلام ومقدار الثواب المترتب على ذلك، ومن الروايات ما يدل على أهمية زيارة الإمام عليه السلام مع ما فيها من المشقة والتعب وأن زيارته تعادل أجر من حج إلى بيت الله الحرام أضعافاً مضاعفة، ومن الروايات ما يدل على جواز اتخاذ تربة الحسين عليه السلام للسجود لله عزّ وجلّ في الصلاة، ومنها ما يدل على جواز الأكل بمقدار قليل مع أدعية خاصة لتربة الحسين عليه السلام طلباً للشفاء والصحة.
إن كل تلك الطوائف المتعددة من الروايات ليست لمجرد إحياء الذكرى فقط، وإنما لتتحول عاشوراء في واقع حياة المسلمين إلى جزء من حياتهم اليومية وشؤونهم واهتماماتهم، ولتكون عاشوراء على الدوام عاملاً من العوامل المحفزة والمستنهضة للهمم والمقوية للعزائم في مواجهة الأوضاع الصعبة والحالات الضاغطة التي تريد السيطرة على إرادة الإنسان وحريته واستقلالية قراره.
تأثير الثورة الحسينية
والسؤال المهم هنا هو (هل استطاعت ثورة الحسين عليه السلام أن تصل في تأثيرها إلى المستوى المتناسب مع حجم الاهتمام بها من جانب الأئمة عليهم السلام والعلماء عبر العصور؟).
94
83
المحاضرة التاسعة: تأثير الثورة الحسينية في الثقافة الإسلامية
لا شك عند المتأمل في مسيرة الإسلام بعد عاشوراء وجود الكثير من الظواهر التي ما كانت لتوجد بين المسلمين لولا وجود تلك الثورة الرائدة، وأول ظاهرة حصلت بعد عاشوراء كانت الثورات المتلاحقة التي قام بها الكثيرون من أتباع الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره، بل إن بعض تلك الثورات قد قادها أبناء من نسل الحسين عليه السلام كزيد بن علي ويحيى بن زيد، ولا شك أن تلك الثورات قد أدت دورها أيضاً في ازدياد الوضوح والوعي عند المسلمين لممارسات الحكام الظلمة، ولهذا فقد تمكَّن العباسيون بحملهم لشعارات الثأر للحسين عليه السلام من قاتليه أن ينتصروا على الدولة الأموية وينهوا حكمها.
ومن الظواهر الملفتة التي أنتجتها عاشوراء أنها كانت الملهم للكثير من الشعراء البارزين في العصور المختلفة على إنشادها شعراً رائعاً صار حديث الناس في عموم البلدان الإسلامية، ويمكن للمرء أن يتخيل ذلك الكم الهائل من الشعر الذي قيل في كربلاء بحيث لو جمعناه لبلغ حجمه عشرات المجلدات إن لم يكن بالمئات، وهذا الأسلوب لم يكن الأئمة عليهم السلام بعيدين عن التوجيه نحوه، بل نجد في بعض النصوص الواردة عنهم "من قال فينا بيتاً من الشعر دخل الجنة" نظراً لما للشعر في المفهوم الإسلامي والعرف العام من التأثير، ومن الطبيعي جداً أن الحث على إنشاد الشعر بالحسين عليه السلام لم يكن لتخليد الذكرى فقط، بل لتوجيه الناس نحو قضية الحق المضيَّع الذي يتداوله الحكام والمتسلّطون على رقاب المسلمين من غير وجه حق في ذلك، وليكون الشعر باباً من أبواب فتح آفاق المعرفة والوعي عند الناس.
ومن الظواهر المهمة أيضاً الزيارات المتكررة بنحو دوري لمرقد الإمام الحسين عليه السلام ومراقد الأئمة عليهم السلام عموماً وفي مناسبات متعددة كل عام كيوم عرفة والأربعين والنصف من شعبان وغيرها، حيث يتوافد الكثير من أبناء الإسلام إلى تلك المراقد المطهرة للزيارة والتبرك، وهذا الأسلوب مهم أيضاً في إيجاد جوٍّ من العلاقة الانفعالية والروحية والوجدانية مع صاحب المرقد، مع ما يستتبعه كل ذلك من تأثر فكري بتلك الشخصية القيادية التي بذلت الجهد والدم في سبيل المبادئ والقيم، ولهذا عندما نقرأ مضامين زيارات الحسين عليه السلام بالخصوص نجد فيها سيلاً من التعاليم والمفاهيم والمضامين العقائدية والفكرية
95
84
المحاضرة التاسعة: تأثير الثورة الحسينية في الثقافة الإسلامية
والإيمانية والأخلاقية التي تنغرس في نفس الزائر غرساً يتفاعل مع مكنونات نفسه وعقله، وهذا الأمر بالذات هو أحد أهم مقاصد التواصل بالزيارة مع الحسين عليه السلام .
ومن الظواهر الملفتة أيضاً مجالس العزاء العامة التي يمكن اعتبارها من أبرز الظواهر التي أنتجتها عاشوراء الحسين عليه السلام في واقع حياتنا، فهذه المجالس التي تجلب الحضور إليها بمجرد الإعلان عنها هي التعبير عن التغلغل الذي أثرته كربلاء في وجداننا الشعبي، وهذه المجالس أضحت في حياتنا كالمدرسة التي ندخلها لنتعلم فيها ونتزود بسلاح العلم والمعرفة بالإسلام وأحكامه ومفاهيمه، وهي الوسيلة لتوضيح الواقع الذي يعيش فيه المسلمون سلباً كان أو إيجاباً، فهذه المجالس صارت في بعض جوانبها أشبه بحلقات التوعية الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تعين الناس على التمييز بين الأمور في واقعها المعاش لتعرف بالتالي كيف تتعامل مع القضايا والأحداث.
ومن الظواهر أيضاً ما يعيشه المسلمون في أيام عاشوراء من تفاعل مع الذكرى، بحيث عندما يَهِلُّ هلال محرم من كل عام تلبس مدننا وقرانا وأحياؤنا وبيوتنا ثوب الحداد المتشح بالسواد كتعبير عن الانفعال والتفاعل مع تلك القضية المركزية من خلال عاشوراء الحسين عليه السلام ، فهذا المنظر الحزين كما يعبر عن مؤاساتنا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته بمصابهم بالحسين عليه السلام يعبر أيضاً عن نصرة الحق السليب وعن الاستعداد للدفاع عن الإسلام بوجه كل الظالمين والمستبدين، وعن أن هذا الدين سيبقى هناك من يحمل لواءه مهما جهد المتآمرون في التكالب عليه لإقصائه عن ممارسة أي دور إيجابي وبنَّاء في حياة الأمة الإسلامية.
إن هذه الظواهر جميعاً ليست إلا غيضاً من فيض مما أنتجته عاشوراء وأثَّرت في مسيرة الأمة الإسلامية عبر التاريخ وإلى الآن وستبقى هذه الثورة الملهم الأساس للثوار الأحرار والمجاهدين الصادقين المدافعين عن العزة والكرامة والشرف في مواجهة الباطل مهما امتد وطال، وصار الحسين عليه السلام الرمز الأكبر للجهاد والاستشهاد والكل يردد (يا ليتنا كنا معك سيدي فنفوز فوزاً عظيماً).
وبتلك الثقافة العاشورائية ألهب أئمة أهل البيت عليهم السلام كل مشاعر أتباعهم وأحاسيسهم
96
85
المحاضرة التاسعة: تأثير الثورة الحسينية في الثقافة الإسلامية
عبر العصور، وجعلوهم يعيشون كربلاء كأنها حصلت في عصرهم لا في عصرها الخاص بها، وكلما مر الوقت على عاشوراء كلما تعمقت في الشعور والوجدان، وتجذرت في النفوس والعقول.
لذلك كله يمكننا أن نعتبر أن كربلاء الحسين عليه السلام التي حمل أمانتها الأئمة الأطهار عليه السلام ومن بعدهم العلماء الأبرار رضوان الله عليهم هي أمانة في أعناقنا في هذا الزمن أيضاً، وكما دافع عنها كل السابقين بتفانٍ وإخلاص ينبغي لنا أن ندافع عنها نحن أيضاً بالغالي والنفيس، خاصة وأنها هي التي تزودنا اليوم بالقوة المعنوية والطاقة الإيمانية والروحية لمواجهة كل الواقع الفاسد والظالم الذي نعيش فيه ويريد أن يحطم اراداتنا ويلغي وجودنا لصالح القوى الاستكبارية في العالم ولصالح جرثومة الفساد إسرائيل المجرمة التي تحتل الأرض وتدنس المقدسات وتنتهك الحرمات وتفتك بمدننا وقرانا قصفاً وتقتل شيوخنا وأطفالنا ونساءنا ظلماً وعدواناً، تماماً كما كان يفعل يزيد الذي حصر الخيارات أمام الحسين عليه السلام بين السِّلة والذلة، وكان الجواب التاريخي للعصور كلها (هيهات منا الذلة).
إن هذا الجواب الخالد هو السلاح الحسيني الكربلائي الذي يتسلّح به الشباب المجاهد المؤمن الذي يواجه اليوم أقسى حملة يقودها كل الذين لا يريدون الخير للإسلام والأمة الإسلامية ويحققون بهذا الجواب الشعار الإنجازات التي عجز عنها الكثيرون قبلهم في مواجهة الصلف والتعنت الإسرائيليين، وهذا السلاح هو المؤمَّل منه أن يضع الأمة على الطريق الصحيح إذا أرادت أن تستعيد حريتها واستقلالية قرارها، وأن تحرر أراضيها السليبة وإنسانها المستعبد.
من هذا كله، يجب أن تبقى ثقافة عاشوراء وذكرى كربلاء مؤثرة بنحو الدوام والاستمرار من خلال الإصرار على إحيائها وعلى اعتبارها جزءاً من حياتنا تعيش معنا وترفدنا بكل أسباب القوة والإيمان لنبقى قادرين على مواصلة السير في خط الجهاد الحسيني حتى تحقيق النصر أو الشهادة.
97
86
المحاضرة العاشرة: المرأة والثورة الحسينية
المحاضرة العاشرة: المرأة والثورة الحسينية
الحاجة عفاف الحكيم
قبل أربعة عشر قرناً، ومع بدء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشييد صرح الحياة الإنسانية المثلى بهدف بناء المجتمع الإسلامي الكامل، برز جهاد المرأة المسلمة، وبرزت معه شخصيتها المثقلة بتعاليم الإسلام ونور نهجه، وقد كان من أروع معجزات التاريخ البشري أن استطاعت الدول الإسلامية الفتيّة التي أنشئت في تلك المدينة (يثرب) وذاك المحيط المتخبط (مكة وجوارها حيث المشركين) في ضلال الجاهلية ومفاسدها من ان تقدّم للعالم ارقى النماذج الإنسانية لا على صعيد الرجل وحسب بل والمرأة أيضاً بالرغم من واقعها الكئيب الذي كان يحكمها، وذلك بعد أن انقلبت نظرة أناسها إلى الأشياء وحصل انقلاب جذري في معاييرهم وأخلاقهم وتقاليدهم الإجتماعية.
عوامل النهوض:
لقد كان السبب المباشر لحركة الوعي النسائي والإنقلاب الهائل في حياة المرأة يومذاك هو تلك النظرة التي حملتها أطروحة الإسلام، إضافة إلى النهج العملي الذي نشد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرقى الأساليب وأكثرها فعالية. إذ نجد لجهة النظرة:
1- إن التعاليم التي حملها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد انطلقت في تعاملها مع كافة الأفراد من نظرة واقعية تكوينية تقوم على أساس. الإيمان بوحدة النوع الإنساني وبأن الناس جميعاً ينتمون إلى أصل بشري واحد (والله خلقكم من نفس واحدة).
2- إن هذه التعاليم قد تخطت في تعاملها جميع الفوارق والحدود الجاهلية سواء بين الأفراد بوجه عام أو بين الرجل والمرأة بوجه خاص، قال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ
99
87
المحاضرة العاشرة: المرأة والثورة الحسينية
إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ الحجرات:13..
3- إن تعاليم الإسلام قد ألقت مهمة النهوض بالأمانة على عاتق كل إنسان رجلا كان أم امرأة وتوجهت لجميع الذين آمنوا بصفتهم مكلفين مؤكدة على ضرورة التصدي المباشر من قبل كل منهم لتحمّل كامل المسؤلية والتبعية في أداء الواجب الذي يقع عليه لا في سبيل إنقاذ نفسه وحسب بل إنقاذ البشرية كذلك وإخراجها من الظلمات إلى النور.. قال تعالى ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾الأحزاب:72.
الإنسان يعمّ الرجل والمرأة مع السيرة والنهج:
أما على الصعيد العملي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنجد:
1- إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف حين سعى لإظهار الصورة المثالية التي ينشدها الإسلام للمرأة بعرض التعاليم القرآنية بلسانه فقط وإنما سعى صلى الله عليه وآله وسلم لتجسيدها فيمن حوله. وقد تجلى هذا في حياته العملية واقعاً حياً ملموساً. وحيث ظهر منذ البدء مسعاه الكريم لإبراز المثل الحي المتمثل بالحضور الكريم للزوج خديجة عليها السلام ومن ثم للإبنة الزهراء عليها السلام وصولا فيما بعد إلى دور الحفيدة زينب عليه السلام دافعاً بالطاقات الخيرة إلى التطلع والإقتداء للخروج نهائيا من مستنقعات الجاهلية ورواسبها..
2- لم يجعل حدا أو فاصلا زمنيا بين دعوة وحركة المسلمة والمسلم..وأنما عمل صلى الله عليه وآله وسلم على فسح المجال كاملا للحضور النسائي منذ البدء وحيث كانت المرأة كما الرجل تماما تلتقي بالنبي لتعلن أختيارها وانتماءها، وتطرح تساؤلاتها وتطلعاتها وذلك في السنوات الأولى الأشد والأصعب من عمر الدولة.
3- ومن أجل تركيز معالم الدور النسائي المطلوب في الأمة كان صلى الله عليه وآله وسلم يعمل –كما ورد في السير- على ملاحقة ما كان يحمله بعض الصحابة من نظرة دونية للمرأة ويسعى إلى علاجها عاملا على إبراز وتجسيد ما كان يدعو إليه الإسلام لكي لا يكون إيمان الناس على ما سمعوه من لسانه الشريف فقط، بل أيضا على ما رأوه من مواقف وعينات رأي العين..
100
88
المحاضرة العاشرة: المرأة والثورة الحسينية
هذا النهج كان له أثره في تمكين المسلمة وخلال فترة وجيزة من النهوض والإرتفاع لتكون بمستوى الحدث وعيا، وفاعلية. ومن ثم تمكين الإسلام من تقديم النموذج الحضاري الرفيع للمرأة.. إذ مع وعي حقيقة الدور وتحسس ضخامة المسؤولية سرعان ما تقدمت المسلمة لتفرغ حياتها في نفس القالب الذي يريده الإسلام.. فكان أن تجلت الصورة الحية للمسلمة الواعية القادرة على أداء الوظيفة الإلهية التي أرادها منها خالقها وحيث حدث ذلك الإنقلاب الهائل الذي أهل العديدات من تقديم عظيم الأمثلة ورائع الصور بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مختلف المجالات.. إن عبر الصمود في معتقلات التعذيب حتى الشهادة.. وإن في الثبات والإقدام في ساحات المعركة وإن بمواجهة الظلم والإنحراف أو البحث عن سبل المؤازرة والنصرة مع تحمل الشدائد والصعاب.
أمثلة وصور تواصل ضوءها عبر ساحات جهاد المعصومين عليهم السلام وفي ظلهم عموما وحيث شكلت الثورة الحسينية الركيزة الأساس- إلا أن بريق ذاك الدور راح يخمد رويدا رويدا مع العصور التي عصفت بمقدرات الأمة والتي أعادت المسلمة إلى أغلال الجاهلية بجعلها أسيرة الجانب الأنثوي بدل أن تنطلق من الموقع الأرحب كإنسان كما ارادت لها رسالة القرآن..حتى وصل الأمر بالمرأة المسلمة التي وهبت كامل الحقوق وأدت أعظم الأدوار قبل أربعة عشر قرنا أن تعيش وفي معظم البلدان الإسلامية خواء الدور وتلهث خلف مطالبات بحقوق في ساح الغرب التعيس، وأنه إزاء هذه الحقائق الثابتة التي وإن غابت عن حركة مجتمعاتنا في مراحل تاريخية معينة فإننا حتى الآن ورغم التحولات العظيمة التي نعيشها نجد أنفسنا أمام الوهج الذي تضخه الثورة الحسينية سنويا في مجتمعاتنا مضطرين للإعتراف بقصورنا وعجزنا عن استلهام المضامين الأساسية التي تمكن من رصد حقيقي لإشراقة تلك الأدوار النسائية العظيمة.. وصولا إلى تحقيق قيام دائم شامل لمصانع انصهار الذات –انصهار المذكر والمؤنث- في أسرنا في سلسبيل الكوثر الحسيني..
ومن هنا وعلى سبيل استحضار المثال إذا عدنا إلى الثورة الحسينية التي عرّفت الإسلام كما هو وكما يجب أن يكون.. نجد أن أجواءها حفلت بالعديد من النماذج النسائية الجادة، والتي نهضت في أماكن مختلفة بعيدا عن أي تبعية عمياء لزوج أو أب أو اندفاعا مع أجواء وإنما
101
89
المحاضرة العاشرة: المرأة والثورة الحسينية
كنّ بحق المظهر الصادق للإنسان المتجرد الذي يتسامى على وسائل الضغط والبطش والتنكيل في ذلك الجو الحاد..فكان من بينهنّ:
1- العنصر المساند:
كماريا بنت منقذ العبدي. والتي كانت كما ورد على درجة من المعرفة والتقوى،وقد عاشت وحيدة (بعد مقتل زوجها وأبيها وأبنائها الأربعة ضمن جبهة الإمام علي عليه السلام في واقعة الجمل)، هذه المرأة كان تحت يدها ثروة طائلة، وظفتها كلّها للخط والنهج والهدف..وإنه في الوقت الذي كان فيه ولاة معاوية يهدمون دور محبي عليّ عليه السلام ثم يطاردونهم في البلدان أو يصلبونهم على جذوع النخيل، في الوقت الذي كانت تسمل فيه العيون وتقطع الأيدي والأرجل على الظنّ..فإن هذه المرأة جعلت منزلها مجمعا لشخصيات الشيعة في البصرة –من أجل التدارس والنصرة- لكن حين لاحظت فتورا بعد وصول رسائل أبي عبد الله عليه السلام إلى وجهاء مدينتها .. أقبلت إلى مجلسها بعد أن اجتمعوا فيه وكانت في حال من التأثر البالغ لتقول:"لقد سمعت ان الحسين بن بنت نبيكم قد استنصركم وأنتم لا تنصرونه؟" فتأثر الجمع ومع سماعها اعتذارهم لعدم توفر السلاح والراحلة أتت بما لديها من المال وأفرغته على الأرض وقالت وهي تشحذ همم الجميع على الإنضمام للثورة "ليأخذ كل رجل منكم ما يحتاجه وينطلق لنصرة سيدي ومولاي الحسين".
2- العنصر الحامي:
كطوعة السيدة المؤمنة التي آوت ونصرت في الكوفة ممثل الثورة الحسينية
102
90
المحاضرة العاشرة: المرأة والثورة الحسينية
مسلم بن عقيل، حين تفرق الناس عنه بعد صلاة العشاء ليلاً –بعد سماعهم تهديدَ عبيد الله بن زياد- باذلة الوسع لتأمين الحماية للقيادة بعد أن تقاذفتها سكك الكوفة جراء انهزام النفوس وتخاذلها، وحيث مضت في مسعاها رغم وعيد السلطة وبطشها وإرهابها الذي لوى رقاب كثيرين.. وكان أن تفوقت هذه المرأة الجليلة بعملها البطولي وموقفها الثوري الحاسم الصلب على جميع رجال مجتمعها المرهوب المتخاذل يومذاك.
3- العنصر المستنهض:
كدلهم بن عمرو، زوجة زهير بن القين والتي شهرت سلاح الكلمة لخدمة الثورة الحسينية، بعد أن حط رحالها وزوجها في طريق العودة؟؟ من حج بيت الله، على مقربة من فسطاط الإمام الحسين عليه السلام وهو في طريقه إلى كربلاء..
زهير ذلك البطل الذي عينه الإمام الحسين عليه السلام قائدا للجناح الأيمن في جيشه والذي قال للإمام عليه السلام : "والله لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين إلا ان فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على البقاء فيها"، هذا الإنسان الذي كان يسير من قبل في اتجاه مناوئ للثورة غير أن كلمة مخلصة وصادقة من فم زوجته كانت السبب في تغيير مساره..إذ يقول أحد الرواة: كنا مع زهير ولم يكن شيء أبغض إلينا من أن نساير قافلة الحسين. حتى إذا نزلنا منزلا لم نجد به بدا من أن ننازله فيه. فبينما نحن جلوسا نتغذى من طعام إذ أقبل رسول الحسين فقال: يا زهير إن أبا عبد الله بعثني إليك لتأتيه، فطرح كل منا ما في يده وساد صمت رهيب في الخيمة حتى كأن على رؤوسنا الطير، كراهة أن يذهب زهير إلى الحسين..ولكن زوجة زهير حين رأت زوجها مطرقا مزقت أجواء الصمت والذهول قائلة: "يا زهير أيبعث إليك ابن بنت رسول الله، ثم لا تأتيه! سبحان الله لو أتيته وسمعت كلامه ثم انصرفت".
هذه الكلمة كان لها وقع عجيب، إذ مع استقبال الإمام له و تحدثه معه..اتخذ زهير قرارا حاسما يضع به حدا لحياته السابقة، وعاد إلى قومه مستبشرا..تقول زوجته:ثم تنحى بأخي يطلب منه إعادتي إلى أهلي قائلاً: "لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خيراً، وقد عزمت على صحبة الحسين لأفديه بروحي وأقيه بنفسي"، فقالت له: يا زهير ألم أكن لك في حياتك نعم الزوجة؟ قال: بلى، قالت: إذن أطلب منك كما ربطت مصيرك بالحسين أن تمكني من أن اربط مصيري بسيدتي زينب..
4- العنصر المحفزّ:
كزوجة حبيب بن مظاهر الصحابي الجليل التي راحت تخاطب زوجها الذي تجاوز السبعين..حين رأته مطرقا ساكتا بعد أن وصله رسول الحسين عليه السلام وحيث كان يفكر بالخروج مع حصار الكوفة الخانق..،متصورة أن به تردد فتقول له:"إن أنت يا حبيب لم تدفعك جرأة الرجال وحب الحق إلى نصرة الحسين وخذلان أعدائه، . فدعني يا حبيب ألبس ثيابك
103
91
المحاضرة العاشرة: المرأة والثورة الحسينية
وأنطلق بها إلى نصرة سيدي أذبّ عنه وأقاتل بين يديه..". وكان أن خرجوا واستقبلوا ذاك الإستقبال المؤثر من أهل بيت النبوة على أرض كربلاء...
5- العنصر المضحّي:
كزوجة جنادة بن الحارث التي حين أراد زوجها أن يخرج من الكوفة سراً لأن الأمر كان صعباً وشاقاَ وتحف به مخاطر كثيرة.. نجدها تصر على مرافقته في رحلته الجهادية،فتخرج ومعهما ابنهما عمرو وكان ابن إحدى عشر سنة..
وجاء في الروايات أنه حين استشهد زوجها في المعركة نهضت نحو ولدها وقالت له:"أخرج يا بني وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله" وحين يقول الإمام عليه السلام هذا شاب قتل أبوه ولعل أمه تكره خروجه إذ به يقول للإمام مطمئناً إن أمي هي التي أمرتني بذلك..ومع مصرع ولدها تقدمت هذه الأم إلى ساحة المعركة لتحمل رأس ولدها فتمسح عنه الدم والتراب قائلة "بيض الله وجهك يا ولدي كما بيضت وجهي عند سيدتي ومولاتي الزهراء عليها السلام ".
6- العنصر الثائر المقاتل:
كزوجة عبد الله بن عمر التي حين أخبرها زوجها بالأمر قالت:"أصبت، أخرج وأخرجني معك". وأثناء المعركة خرجت تحفزه مشجعة قائلة:"فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم " فأقبل إليها ليردها فقالت:"لن أدعك دون أن أموت معك"،فناداها الحسين عليه السلام :"جزيتم من أهل بيت النبوة خيرا إرجعي يرحمك الله"،وحين قتل زوجها نهضت إليه وجلست عند رأسه تمسح عن وجهه آثار المعركة، فأمر شمر بضرب رأسها بالعمود فقتلت وهي أول امرأة استشهدت في معسكر الحسين عليه السلام .
7- العنصر القيادي الكامل:
المتمثل بحفيدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،وابنة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وسيدة نساء العالمين الزهراء عليها السلام تلك البطلة العظيمة التي قيل فيها إن صبرها في كربلاء ضاهى صبر الأنبياء، ومع ذلك نهضت بذلك الدور الشمولي؟؟ الذي حمى الإسلام في أصعب المراحل وأشدها..والذي تعجز السطور وتضيق عن تفاصيله لتجعلنا من ثم محصورين في تناول جانب منه وحسب..وحيث شاء الله سبحانه وتعالى لزينب فيما شاء أن تكون لسان ثورة أبي عبد الله
104
92
المحاضرة العاشرة: المرأة والثورة الحسينية
عليه السلام ورسول شهداء كربلاء إلى العالم..
وإن الدور الإعلامي الذي أدته عليه السلام نلمسه على امتداد الثورة الحسينية وحيث تجاوزت بحضورها الفاعل أخطر سبب يمكن أن يؤدي إلى إفشالها، وذلك هو التضليل الإعلامي من قبل السلطة الأموية.
فالإعلام الزينبي سجل أعلى درجات النجاح في القضاء على هذا السبب وتمكن من توظيف مبادئ الثورة باتجاه الأهداف المرسومة لها.
فمنذ عصر العاشر من المحرم وبعد أن انتقلت المهمة الأولى إليها عليها السلام وأصبحت هي رئيسة القافلة باعتبار أن إحدى المهام الموكلة إليها بعد عاشوراء هي رعاية الإمام زين العابدين عليه السلام والإعتناء به، نجدها عليها السلام تنهض وبمنتهى الفاعلية رغم أن كل شيء في ذلك اليوم كان يكفي سبباً لضعف زينب.. فالعبء كان ثقيلا مع استشهاد ستة من إخوتها وثلاثة من أبنائها إضافة إلى أبناء الإخوة والعمومة والثلة المؤمنة من الأصحاب.. إضافة إلى الغربة ومسؤلية حفظ ورعاية الأطفال.. إضافة إلى جواد ابي عبد الله عليه السلام الذي عاد خالياً..
ورغم هول المشهد واجتماع كل هذه العوامل ارتفعت عليها السلام إلى مستوى المهمة وتحركت مخترقة الحشود باتجاه جسد الإمام الطاهر.. وبكل إباء وشموخ تضع يديها تحت الجثمان الشريف ثم تتوجه إلى مرجع العباد جلّ وعلا مؤكدة ومعبرة عن مواصلة المسيرة قائلةً: "اللهم تقبل منا هذا القربان".
وفي مشهد آخر..نراها في الكوفة مع دخول قافلة الأسرى إليها تعمل على تفجير الموقف لتوقظ الناس، فترمي بالماء والثمر الذي قدم للأطفال على الأرض.. وتقف خطيبة في سوقها، متوجّهةً بكلامٍ بليغٍ للمحتشدين من حولها قائلةً: "يا أهل الكوفة أتبكون وتنتحبون أي والله فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا، فقد خاب السعي وثبت الأبدي وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب الله ورسوله"..إلخ .
ومع إدخال قافلة الأسرى إلى مجلس ودار الإمارة، نراها عليها السلام تدخل مع كل التعب والمعاناة بشموخ وعنفوان، تدخل دون أن تسلم على الأمير أو تكترث به.. فيتضايق بن زياد لروح المقاومة العالية، ورغم معرفته بها يسأل استخفافاً "من هذه.." فلا يجيبه أحد ثم
105
93
المحاضرة العاشرة: المرأة والثورة الحسينية
يعاود السؤال ثانية.. ثم يكرره للمرة الثالثة، فترد إحدى الحاضرات لتقول هذه زينب بنت علي بن أبي طالب.
فيتقدم منها شامتاً قائلاً:"الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب أحدوثتكم"، وهنا ترد حفيدة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على الفور بكل صلابة وحسم قائلة: "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطهرنا من الرجس تطهيرا. إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا.." فيتابع وهو يتمزق غيظاً "أرأيت فعل الله بأخيك"، فتجيب عليها السلام "والله ما رأيت إلا جميلا".
وهكذا تخرج القائدة البطلة متابعة فصول الثورة بعد استشهاد الإمام عليه السلام حاملة الرسالة التي آمنت بها بكل قوة.. ورغم ثقل المأساة عبر المدن والقرى التي مرت بها.. كانت في كل كلماتها وخطبها في تلك الأثناء توزع الثورة في النفوس وتصعد الأحاسيس من مراحل التفكير إلى مراحل التنفيذ.
وتصل إلى دمشق..وتقف أمام يزيد،هو الحاكم وهي الأسيرة.. لكن البطلة التي تأهلت في بيت النبوة توجه كلامها إلى الطاغية بكل صمود وثبات مبينة أمام الملأ أسباب النزاع وأبعاد الثورة مدينةً يزيد وحكمه الظالم مع كل ما يمثل من جبروت في قلب مجلسه المليء بالمرتزقة والأعوان فخاطبته قائلة:"أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا هوانا على الله وبك عليه كرامة. وتوقعت أن هذا لعظيم خطرك فشمخت بأنفك، فمهلا مهلا، أنسيت قول الله تعالى﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾، -ثم تتابع عليها السلام - ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك فإني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك، فكد كيدك واسعى سعيك، فوالله لن تمحو ذكرنا ولن تدرك أمرنا ولن تدحض عنك عارها.. إلخ".
لقد كان للإعلام الزينبي والآثار المترتبة عليه لا سيما في بلاد الشام التي انقلبت انقلابا شاملا بعد قدوم آل البيت عليهم السلام إليها الأثر البالغ..هذا الإعلام النشط المتوقد لعب دورا مشهودا على مستوى إثارة الأمة الإسلامية على الحكم الأموي وبالتالي لعب دورا كبيرا في التمهيد لقيام كل الثورات الإسلامية التي استمرت بعد ذلك.. وصولاً إلى ثورة الإمام
106
94
المحاضرة العاشرة: المرأة والثورة الحسينية
الخميني قدس سره -في هذا العصر- الذي قال: "كل ما لدينا من بركة عاشوراء".
يبقى إن الدور الخطير الذي نهضت به حفيدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الثورة الحسينية، والذي زلزل فيما بعد عروش الظالمين..هو بحاجة إلى دراسة وافية واقتداء يستنهض الهمم باتجاه إعادة التوازن المطلوب في مجتمعاتنا، دراسة نعيش معها أبعاد ذلك النص الذي يقول: "إنّ أمير المؤمنين عليه السلام إشترط على عبد الله بن جعفر عند تزويجه زينب عليها السلام أن يأذن لها بالخروج إلى كربلاء مع الإمام الحسين عليه السلام"، دراسة نعيش معها أبعاد الولادة الثانية للإسلام العظيم عبر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "حسين مني وأنا من حسين"، وحيث كانت ساحة كربلاء في تلك الأيام الجليلة وعبر رجال الثّلة المؤمنة ونسائها، تضج بحركة الحضور الإنساني الواحد، وفاعلية الدور المشترك المتكامل..الذي أسّس له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ البدء..
107
95