المقدمة
هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثورة الحسين عليه السلام
الأول من المحرم هو اليوم المتفق عليه بين المسلمين على أنه البداية للعام الهجري الجديد وهو التقويم الذي استند إلى هجرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة كنقطة الانطلاق للتوقيت المتعارف حتى اليوم عند الشعوب الإسلامية.
وعند غير المسلمين لا تحمل هذه المناسبة أكثر من دلالتها المتعارفة وهي أن هذا اليوم هو عبارة عن انتهاء عام وبداية اخر كما في التقويم الميلادي أو الفارسي أو غير ذلك من التقاويم المتعارفة.
إلاَّ أن هذا اليوم يحمل عند المسلمين معنىً إسلامياً عظيماً وكبيراً جداً، ويرمز إلى الحدث والإنجاز الضخم الذي تحقق على يدي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والرعيل الأول من المسلمين، وذلك الحدث هو " ولادة المجتمع الإسلامي الأول " في المدينة المنورة، ليكون النواة الأولى للدولة الإسلامية الكبيرة في المستقبل، وقبل ذلك ليكون البداية والانطلاقة لتكوين المجتمع الإنساني الإسلامي العابد لله وحده والمحطّم للأصنام والتماثيل.
من أجل ذلك يحتل هذا اليوم بالذات الأهمية الخاصة عند عموم
5
1
المقدمة
المسلمين، لأنه يحمل إليهم البشرى بولادة عصر التوحيد لله والتخلص من الثنائية الشكلية والأحادية الواقعية التي كانت زمن ما قبل الإسلام، عندما كان المجتمع الجاهلي يعبد الأصنام ويتوجه إليها بالطاعة ويطلب الاستعانة منها بادعاء التزلُّف والتقرُّب إلى الله بحسب الظاهر من كلامهم كما يعبّر القران الكريم عن ذلك بقوله: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾1.
ويحمل هذا اليوم أيضاً مناسبة أليمة جداً وفظيعة كذلك وهي " عاشوراء " المصطلح الذي يرمز إلى المجزرة الدموية والحادثة الفاجعة التي ارتكبها أدعياء الإسلام " بنو أمية وجلاوزتهم " بحق الإمام الحسين عليه السلام والصفوة من أهل بيته وأصحابه الذين سُفكَت دماؤهم واختلطت بتلك الرمال الصحراوية اللاهبة فداءً للإسلام وإحياءً لذكره.
والمناسبتان لا تبتعدان عن بعضهما البعض كثيراً من حيث الهدف الكبير، وان اختلفتا في أن الأولى منهما تثير في النفس عوامل القوة والشعور بالاعتزاز للانتماء إلى الاسلام، والثانية تثير عوامل الحزن وذرف الدموع على ذلك المصاب الجلل الذي لم ولن يشهد التاريخ الاسلامي مثيلاً له في الفظاعة والوحشية.
فالأولى بَنَت اللبنة الأساسية لدولة التوحيد الأصيل الذي يعني كمال الانقطاع إلى الله وحده، والثانية أعادت البناء إلى ما كان عليه بعد التصدُّع الخطير الذي طرأ بعد رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه راضياً مرضياً.
والأولى فتحت الافاق الرحبة والمجالات الواسعة أمام البشرية
1- سورة الزمر الأية/3
6
2
المقدمة
للارتباط بالله كطريق أوحد لا محيص عنه للخلاص من كل عذاباتها والامها على يد الطغاة والمستكبرين، والثانية أعادت تلك الافاق بعد أن تمكن المنافقون من إغلاق الكثير من المجالات بالظلم والطغيان وشراء الضمائر لإعادة الانسانية المعذَّبة إلى عصور الجاهلية المظلمة المشحونة بالاستعباد والإذلال.
الهجرة النبوية منحت الإنسان الفرصة ليعيش الإنسانية بما ترمز إليه من المعاني والمُثُل والقيم والمبادىء، ولكي يفجر الإنسان كل طاقات الخير والإبداع لبناء الحياة الإجتماعية بأبعادها الإلهية التي تخرج بالإنسان من هيمنة وسيطرة الأطر الضيقة التي كانت تحبسه وتمنعه من الانطلاق بحريته الكاملة وتحصره في دائرة العناوين المحددة لكل فرد من الأفراد.
والثورة الحسينية كانت الفعل الكبير الذي اخترق كل تلك العناوين التي عادت بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتحتل أماكنها في حياة الأمة الاسلامية وتقسم الناس على الأسس التي كانت قد سقطت بفعل الثورة النبوية التغييرية، ولقد مزَّقت الثورة الحسينية تلك العناوين وما زالت تمزّقها بالوعي الحاصل منها عند الأجيال المتعاقبة لأنها أسقطت الأقنعة التي أراد المنافقون إلباسها لتلك العناوين من خلال الإسلام ولاعطائها الشرعية العقائدية والاجتماعية التي تسمح لها بالبقاء والعيش والتغلغل ولتدمّر بذلك كل الطاقات الخيّرة وحركة الإبداع والبناء الايجابي.
ولقد كشفت كلتا المناسبتين عن شدة تأثير العوامل الإيمانية في البناء والعطاء، وعن الاثار السلبية المدمّرة التي تنتج عن العوامل
7
3
المقدمة
الشيطانية فيما لو سيطرت على النفوس، فالمسلمون الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحمّلوا العذاب والأذى والحصار وهاجروا وصبروا حتى تمكَّنوا من الوصول إلى مرحلة البناء، والذين كانوا مع الحسين عليه السلام أثبتوا القدرة على العطاء من موقع الإخلاص لله والوفاء لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم والولاء للإمام الحسين عليه السلام.
والمشركون الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتركوا وسيلة للمواجهة، ومع كل منها كانت تنكشف النفوس المريضة وتنفضح أكثر معبّرة عن اللؤم والحقد والتسافل الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان، والذين قاتلوا الحسين عليه السلام وضيَّقوا أمامه الخيارات كانوا يعبّرون عن النفوس التي أعمتها شهوة السلطة والجاه وسيطرت عليها شهوة الانتقام المذموم والمستقبح، فكلا الطرفين من موقع الشرك في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن موقع النفاق في عهد الحسين عليه السلام كشف عن الانحطاط الذي يدفع بالإنسان إلى أن يخرج عن كل ما تعنيه الإنسانية من المعاني الكبيرة ليصل إلى المستوى الغريزي كما تعيش البهائم والأنعام.
لقد اختصرت المناسبتان حركة التاريخ منذ النبي ادم عليه السلام بما ضمَّتا من النماذج البشرية المتعالية في الخط الإيماني بكل ما يرمز إليه من القوة في الارتباط بالله والاستعداد الكامل للتضحية حتى أبعد الحدود، ومن النماذج البشرية المتسافلة في الخط الشيطاني بكل ما يرمز إليه من الاستسلام للشهوات والرغبات الدنيوية المنحرفة الحاضرة لاستغلال الفكر والقوة في خدمة الأهداف والغايات الدنيئة.
من هنا، فإن على المسلمين أن يعيشوا بداية العامة الهجري وهم مشبعون بالأمل بالنصر والرغبة بالشهادة، ليتمكنوا من التغلب على كل
8
4
المقدمة
عوامل الضعف والوهن والتفكك وليشعروا بشعور العزة والقوة والوحدة، وليستطيعوا بالتالي تحطيم قيود الذل والاستعباد والأسر التي تكبّل الأمة وتمنعها من الانطلاق في خط السير الذي ارتضاه لها رب العزة العلي القدير الذي مهَّد للأمة كل عوامل النصر وفتح أمامها كل أبواب الشهادة.
ولهذا، فإن النصر النبوي الذي توصّل إلى إقامة المجتمع الإسلامي الأول يشكل التحدي الأكبر للمسلمين على اختلاف العصور، لأنه أعطى للأمة النموذج عن كيفية تجميع عناصر القوة في مواجهة الظروف المختلفة، والمسلمون لا يعانون من مشكلة في توفير هذه العوامل لأنها موجودة وبكثرة، إلاَّ أن العقبة التي ينبغي السعي للخلاص منها هي عدم القدرة على امتلاك تلك العوامل بسبب فقد التخطيط الهادف. وكذلك عقبة الثقافة التغريبية التي ما زالت تسقط الكثير من الطاقات في الأمة وتمنع من الاستفادة منها في تحقيق الوعي المطلوب عند الشعوب الاسلامية.
وكذلك الشهادة الكربلائية التي أعطت النموذج الأكبر والأوضح عن الولاء والوفاء والفداء لله رب العالمين، تشكل الحجة الأكبر على كل المسلمين الذين يهربون من القيام بواجباتهم في الدفاع عن الدين والمقدَّسات بحجة عدم التوازن في القوى وانعدام التكافؤ في فرص النجاح بين ما نملك من قدرات وما يملكه الأعداء في المقابل.
من كل ما سبق، ليس هناك من عذر للأمة في البقاء محكومة لأعدائها الذين يذيقونها المرارة تلو المرارة، ويلبسونها الذل ثوباً بعد ثوب.
9
5
المقدمة
ألم يقل الحسين عليه السلام : " موت في عز خير من حياة في ذل " وانتصر بدمه المسفوح على أرض كربلاء وما زال منتصراً ببقاء دين الله حياً فاعلاً؟
ومن هذا المفهوم للهجرة النبوية المشرفة والثورة الحسينية المفعمة بالشهادة، إنطلق شباب المقاومة الاسلامية حاملين دمهم على الأكف ليبذلوها في سبيل الله دفاعاً عن دينه ورسالته ولو أدى ذلك إلى الاستشهاد، ويحلمون بالنصر على العدو كما انتصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الكفار والمشركين.
وهكذا توالت الأيام والشهور والسنوات والمجاهدون يضحون ويستشهدون وينتصرون هنا وهناك حتى فتح الله على يديهم فتحاً عزيزاً ونصراً عظيماً كان مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾1 وأذاق المجاهدون المحمديون الحسينيون العدو الصهيوني هزيمة مرَّة لم يعرفها من قبلُ في تاريخ صراعه مع العرب والمسلمين.
ومن هنا يجب على كل الأمة الإسلامية أن تضع نصر المقاومة الاسلامية نصب أعينها وتعلم أن الانطلاق من معاني ومفاهيم الهجرة النبوية والثورة الحسينية الخالدة هو السبيل الى تحرير فلسطين وإعادة البسمة إلى القدس المحتلة ورجوع اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم بعزة وفخر وكرامة، ولا سبيل إلى النصر غير الجهاد أو الشهادة.
1- سورة محمد الآية/7
10
6
مواقف من كربلاء
موقف الإمام الحسين عليه السلام
ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المعروف " حسينٌ مني وأنا من حسين " ومن الواضح جداً معرفة سبب أن الإمام الحسينعليه السلام هو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو ابن ابنته الزهراء البتول عليها السلام إلاَّ أن جملة " وأنا من حسين " هي التي قد تكون بحاجة إلى بعض التوضيح لتصبح الصورة بلا التباس أو غموض وحتى يصبح معنى الحديث منسجماً مع بعضه البعض.
فالكل يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جاء بالشريعة السمحاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وجاهد ما جاهد، وتحمَّل ما تحمل من الأذى والضيق من جبابرة قومه حتى ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: " ما أوذي نبي قط مثل ما أوذيت "، ومع كل ذلك صبر وتوكَّل على الله ومعه المسلمون الأوائل الذين تعذَّبوا وحوصروا وهاجروا، واستشهد البعض منهم بسبب الظلم الاستكباري من عتاة قريش، وكانت نتيجة تحمّل كل تلك التضحيات أن فتح الله أمام نبيه صلى الله عليه وآله وسلم الافاق الرحبة انطلاقاً من المدينة المنوّرة التي قامت فيها النواة الأولى والركيزة الأساس لدولة الإسلام، ثم توالت الفتوحات، فتمَّ فتح مكة وأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاية
11
7
مواقف من كربلاء
عصر عبادة الأوثان، وبداية عصر العبودية لله وحده سبحانه وتعالى، ومن بعد ذلك انطلق جنود الإسلام لإيصال الدعوة إلى خارج الجزيرة العربية حتى وصلت كلمة التوحيد إلى أكبر مجموعة بشريَّة من سكَّان الأرض، وعمّ نور الإسلام والهداية والإيمان.
إلاَّ أن مجريات الأمور بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تحصل بالطريقة التي أرادها صلى الله عليه وآله وسلم مما سمح لبعض الخلل أن يتسرّب إلى حياة المسلمين، وهم ما زالوا في بدايات معرفتهم بهذا الدين مما لم تسترع تلك المجريات الانتباه بالدرجة الكافية نظراً لأن المسلم على مستوى نفسه لم ير أي تغيير أو تبديل في ارتباطه بالإسلام، ولم يلحظ التغيير الحاصل على المستوى القيادي، هذا التغيير الذي وعاه البعض القليل جداً من الذين تربّوا على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ أنهم لم يكونوا قادرين على النهوض لتصحيح الوضع بسبب طراوة الإسلام التي كانت غالبية الناس عليها.
وهكذا جرت الأمور، إلى أن تمكَّن البعض ممَّن كان قد دخل الإسلام ليحقن دمه وليحفظ مصالحه كأبي سفيان ورهط من عشيرته الذين ما عرف الإيمان طريقاً إلى قلوبهم وسبيلاً إلى عقولهم، وإنما دخلوا فيه لاتخاذه وسيلة لعلَّهم من خلال ذلك يتمكنون ولو بعد حين من الانتقام من هذا الدين الذي أنزلهم من مقاماتهم التي كانوا عليها في الجاهلية، ولعلَّنا لا نغالي إذا قلنا أن المحاولة الأولى للانتقام كانت عندما جاء أبو سفيان ومعه العباس عم أمير المؤمنين عليه السلام ووضع كل إمكانياته بتصرُّف الإمام علي عليه السلام ضد الذين أزاحوه عن موقفه القيادي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال أبو سفيان يومها للإمام عليه السلام:
12
8
مواقف من كربلاء
" فوالذي يحلف به أبو سفيان إن شئت لأملأنها عليك خيلاً ورجال "، إلاَّ أن أمير المؤمنين عليه السلام فَهِم مراده وأجابه بأن ما يدعوه إليه هو الفتنة للإيقاع بين المسلمين ليعود لأبي سفيان الأموي ورهطه العز والشرف والرفعة كما كانوا قبل الإسلام.
وتشاء الظروف كما هو مخطط لها أو كما جرت انذاك بأن يتسلَّم معاوية خلافة المسلمين، وهو من هو، يحمل ثارات رهطه ضد الإسلام ويتحيَّن الفرصة تلو الفرصة للوصول إلى ذلك، وقد لاحت أمامه فتلقَّفها وتمسَّك بها وشرع يستغل كل إمكانيات الدولة الإسلامية من أجل تحقيق الهدف الذي لم يستطع أبوه بلوغه من قبل، فقتل أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام من أمثال حجر بن عدي وابنه وغيرهما وشرّد الاخرين في بلاد المسلمين خائفين على أنفسهم من الموت والقتل، ولاحق كل أتباع أمير المؤمنين عليه السلام في كل مكان، وابتدع سب أمير المؤمنين عليه السلام من على منابر الإسلام لتركيز ذلك في أذهان الأجيال الإسلامية، كل ذلك كمقدّمات ضرورية لنيل مراده الأقصى وهو إعادة الناس إلى الجاهليَّة وزمن عبادة الأوثان والأصنام وإعادة أمجاد بني أميَّة الغابرة.
ويُشرف معاوية على الموت، والهدف لم يتحقق، مع أنه قام بخطوات كبيرة على هذا الصعيد كما قدَّمنا، وأتبعها بمؤامرته ضد الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام حيث اعتبره لاغياً، وأغرى زوجته بالمال والزواج من ولده " يزيد " فدسَّت السم للإمام عليه السلام فمات منه، وأخذ البيعة من رؤوس الصحابة والتابعين لولده الفاسق الفاجر ليطمئن إلى الخليفة الذي يكمل تنفيذ المخطط الشيطاني الجهنمي الذي قطعوا شوطاً بعيداً للوصول إليه.
13
9
مواقف من كربلاء
وهكذا تسلَّم يزيد من موقع فسقه وفجوره وتهتّكه واستهتاره بالاسلام وأحكامه مركز الخلافة الإسلامية، ومع هذا سكتت الأمة التي لم تكن تشعر بالخطر على دينها ومقدّساتها، لأن يزيد من موقعه المنحرف ذاك كان جاهزاً للوصول إلى المدى الأبعد في مخالفته للطريقة الإسلامية التي ينبغي أن يكون عليها الحاكم المسلم، وعلى عكس والده الذي كان يراعي ولو جزئياً بعض المظاهر التي توحي للمسلمين بأنه لا يخالف حكم الإسلام.
إلى هنا وصلت الأمور، فالخطر على الإسلام كبير جداً وهو قريب، والمجال للمناورة صار ضيقاً لأن يزيداً كان يشعر بأن الإمام الحسينعليه السلام ما زال العقبة الكبيرة التي ينبغي التخلص منها لكي تستتب له الأمور توصُّلاً إلى هدف الاباء والأجداد، وجرى الذي جرى بين الإمام عليه السلام ووالي يزيد على المدينة المنوّرة الذي أرسل للإما عليه السلام يطلب منه البيعة ليزيد، وهنا يطلق الإمام عليه السلام كلماته المدوية الصارخة التي أعلن فيها رفضه القاطع لاستجابة ذلك الطلب الخسيس الذي يراد منه إعطاء الشرعية الإلهية لمغتصب الخلافة والمستهتر بها وبمقتضياتها " يزيد الفاسق الفاجر " وقال عليه السلام:
" إنا أهل بيت النبوَّة ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة ومهبط الوحي، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله ".
وتأتي رسل أهل الكوفة ومكاتيبهم داعيةً الإمام عليه السلام ليقودهم ضد السلطة الظالمة التي يترأسها يزيد، وهكذا تواصلت الأمور وانتظمت حتى حطَّ الإمام عليه السلام رحاله في كربلاء مع البقية الباقية المخلصة
14
10
مواقف من كربلاء
والوفية لإسلامها وإمامها عليه السلام في موقف عزَّ نظيره وقلَّ أن يقدم عليه أحد سوى الرساليين الذين يحملون عبء الرسالة ويقدّمون في سبيلها الغالي والرخيص.
وتجري الأمور في كربلاء ويستشهد الإمام عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، وتُسبى زينب عليها السلام والنساء من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويُدار بهنَّ في البلاد ليراهنَّ القريب والبعيد والفاجر والمؤمن على أنهن ممّن خرجن عن طاعة الخليفة وبذلك تصوّر يزيد وجلاوزته أنهم قد حقَّقوا الهدف الذي عملوا له طويلاً وأطلق يزيد أبيات الشعر تلك تعبيراً عما يجول في نفسه من الكفر والنفاق:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
إلى أن يقول:
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
لكن بالتأمل فيما جرى بعد كربلاء، نرى أن الأمة قد قامت من رقدتها، واستيقظت من سباتها ووعت المخاطر التي كانت تحيط بها، وصار الحسين عليه السلام ومصيبته في كربلاء على كل شفة ولسان وتناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر، ولم تمضِ سنوات قليلة على كربلاء حتى بدأت الثورات تتوالى، واحدة بعد أخرى، وفي كل ثورة كان الحكم الأموي يضعف ويهتز، إلى أن كانت الضربة القاضية التي أزالت حكم أولئك الذين سفكوا الدم الحسيني وإلى الأبد، وكان كل الذين يثورون يرفعون شعاراً واحداً " يا لثارات الحسين ".
وبذلك كله نفهم معنى الحديث النبوي المتقدّم " وأنا من حسين "
15
11
مواقف من كربلاء
فالثورة الحسينية هي التي أحيت الإسلام وأبقت له وجوداً في حياة الأمة، وذلك الوجود المبارك الذي ننعم به اليوم كثمرة أساسية وكبرى من ثمرات تلك الثورة الرائدة، التي حمل فيها الحسين عليه السلام كل التراث الإلهي معه إليها لينشره من هناك مع قطرات دمه ومع كلماته الخالدة التي ما زالت تهدي المجاهدين الثائرين عندما يدعوهم الواجب الإسلامي إلى النهوض والقيام دفاعاً عن دين الله.
ومما لا ريب فيه ان استشهاد الامام الحسين عليه السلام أزال الغشاوة عن بصر الأمة وجعلها ترى المؤامرة الأموية على الاسلام والمسلمين، فكذلك نحن نرى أن استشهاد قادة المقاومة وعلى رأسهم سيد شهدائها السيد عباس الموسوي وشيخ شهدائها الشيخ راغب حرب قد لعب دوراً في جعل الشعب يستوضح الأمور ويعرف أن العدو الصهيوني إنما يقتل هؤلاء لأنهم يوضّحون الحقائق المرة عن ذلك العدو الذي احتل الأرض ويدَّعي بأنه يريد تحرير الناس من الأغراب الموجودين على أرضه، لكن عندما فهمت الناس حقيقة الأمور من خلال القادة الشهداء ومن أمثالهم ممن بقوا أحياء لم تصل إليهم يد الغدر والخيانة تغير حال العدو وصارت الناس تحاربه وتقاتله بدلاً من النظر اليه كمنقذ ومخلّص.
16
12
مواقف من كربلاء
موقف العباس عليه السلام
لا شك أن انفراد العباس عليه السلام بمقام خاص دون سائر الشهداء مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء يدلّ على مكانة خاصة ومميّزة لذلك العبد الصالح عند الله عزَّ وجل، ولا شك بأن الكرامات المعروفة عنه أيضاً والمشهورة والذائعة الصيت بين الجماهير الموالية لأهل بيت العصمة عليهم السلام تشير إلى ذلك، وكذلك انفراده بزيارة خاصة إلى جانب زيارة الإمام الحسين عليه السلام وعلي الأكبر والشهداء تدلّ بوضوح لا مزيد عليه على عظمة تلك الشخصية المتفرّعة من الشجرة العلوية المباركة صنو النبوّة وتوأمها في الجهاد الكبير المؤسس لمسيرة الإسلام.
ومما يؤسف له أن سيرة العباس عليه السلام لا نملك منها الشيء الكثير من التفاصيل، إلاَّ أن مواقفه الرسالية الثابتة والقوية في كربلاء وتضحيته واستبساله في الذود عن الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده في المعركة تعطينا صورة واضحة لا غبار عليها، خاصة إذا لاحظنا أنه كان حامل اللواء في معسكر الإمام عليه السلام والمعلوم أن حامل اللواء عادةً يكون من أوثق الناس وأشدّهم إيماناً بمبادئه وأقواهم مراساً وعراكاً وخبرة في القتال.
17
13
مواقف من كربلاء
من هنا نرى أن الإمام الحسين عليه السلام لم يفرّط بالعباس من أول المعركة، وإنما تركه إلى جانبه حتى المرحلة الأخيرة من مجرياتها، وكان أغلب من هم مع الإمام عليه السلام سواء من أصحابه أو من أهل بيته قد نالوا درجة الشهادة الرفيعة وارتحلوا إلى الله العلي القدير أما الوقفات التاريخية التي سجَّلتها وقائع السيرة الحسينية للعباس سلام الله عليه فهي ما يلي:
أولاً: رفضه لأمان الأمويين:
وهذا ما تكرّر مرتين، ففي المرة الأولى أرسل ابن زياد أماناً للعباس وأخوته بسبب توسُّط أحد أخوالهم، إلاَّ أن العباس عليه السلام أجاب عن ذلك بقوله:
" أبلغ خالنا السلام وقل له أن لا حاجة لنا في الأمان، أمان الله خير من أمان ابن سمية "، والمرة الثانية كانت في اليوم العاشر عندما نادى الشمر لعنة الله عليه أين بنو أختنا، أين العباس وأخوته؟ إلاَّ أنهم أعرضوا عنه، فقال الإمام الحسين عليه السلام أجيبوه ولو كان فاسقاً، فأجابوه وقالوا: ما شأنك وما تريد؟ قال: يا بني أختي أنتم امنون لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد، فقال العباس عليه السلام:
" لعنك الله أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء ".
إن ذلك الموقف المشرّف من العباس عليه السلام حري بالمؤمنين الملتزمين المجاهدين أن يكون لهم درساً بليغاً عندما يكونون في ساحات القتال ضد الأعداء وتعرض عليهم أمثال ذلك النوع من الأمان الكاذب من القتل، لأن الاستجابة لمثل تلك النداءات الخبيثة هي الخسارة الكبرى
18
14
مواقف من كربلاء
في الدنيا والاخرة، وكيف يمكن للعباس وهو شبل أمير المؤمنين عليه السلام أن يقبل لنفسه بوصمة العار الأبدية في الدنيا والاخرة.
ثانياً: موقفه ليلة العاشر من المحرم:
حيث أنه في تلك الليلة الأخيرة لأصحاب الحسين عليه السلام في هذه الدنيا كان الإمام عليه السلام قد جمعهم وخطب فيهم قائلاً:
" أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعاً... فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام، وهذا
الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي... "، وعند ذلك قام العباس
عليه السلام وقال:
" لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبد " إن تلك الكلمات لا ريب أنها أثلجت قلب الإمام الحسين عليه السلام الذي أراد أن يكتشف مدى القوة والصلابة عند أولئك الأصحاب وعند أهل بيته عليه السلام، أولئك المقبلون عند إنتهاء ذلك الليل على المعركة التي كانت نتيجتها العسكرية محسومة قبل البدء في القتال، ولا شك أن كلمات العباس عليه السلام قد شجَّعت الكثير من الأصحاب أيضاً على التعبير عن الوفاء وعن الالتزام بالقتال إلى جانب الإمام الحسين عليه السلام.
فالعباس عليه السلام كان بإمكانه لو لم يكن يعيش الوفاء لدينه وإسلامه وإمامه، لكان رضي بذلك العرض السخي والكريم من الامام عليه السلام لحفظ حياته وحياة أخوته بذلك أيضاً، وفي هذا الموقف درس بليغ وموعظة لكل المجاهدين الثائرين الذين قد يصادفون مثل هذا الموقف من قادتهم حرصاً على حياتهم، ولهذا فإن المجاهدين الذين قد تعرض
19
15
مواقف من كربلاء
عليهم مثل هذه القضايا أن لا يأخذوا من ذلك ذريعة للانسحاب والتخلُّف خاصة إذا كانت المعركة قائمة.
ثالثاً: موقفه عند مشرعة الماء:
إن قطع الطريق من جانب الجيش الأموي أمام الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته، قد أوصل كل من في معسكر الإمام عليه السلام إلى حالة شديدة من العطش في ذلك الجو اللاهب الناتج عن شدة حرارة الشمس وسخونة رمال الصحراء، والعباس عليه السلام كان يحمل لقب " السقّاء " لأنه كان متكفلاً لشدَّة بأسه وشجاعته بإحضار الماء، وكان قد فعل ذلك قبل اليوم العاشر، فهنا تجمع روايات السيرة الحسينية أن العباس عليه السلام شق جموع ذلك الجيش ووصل إلى المشرعة عند حافة النهر، واغترف غرفة بيده لكي يشرب لإرواء بعض ظمأه الشديد، إلاَّ أنه تدارك الأمر وتذكر أن سيده وإمامه الحسين عليه السلام يعاني مثله العطش أيضاً، فما أسرع ما رمى الماء من يده، ومثَّل ذلك شعراً فقال:
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين وارد المنونِ وتشربين بارد المعين
فحمل وهو شديد العطش قربة الماء ليوصلها إلى الإمام عليه السلام وأهل بيته لكي يشربوا، إلاَّ أن القوم الظالمين عالجوه عبر كمين بقطع يده اليمنى فنقل الماء إلى يده اليسرى فبادروه بقطعها أيضاً، ومع ذلك لم ييأس من إيصال الماء، إلى أن أصابت السهام قربة الماء فأريق ماؤها، وانهمرت عليه السهام إلى أن سقط صريعاً إلى الأرض، ونادى الإمام الحسين عليه السلام فحضر عند جسده الشريف يريد حمله إلى المخيم، فإذا
20
16
مواقف من كربلاء
بالعباس يرفض، إذ كيف سيواجه العطاشى من النساء والأطفال الذين كانوا ينتظرون الماء الذي كان يحمله إليهم ليرتووا.
إن ذلك الموقف فيه من الايثار الشيء الكبير والعظيم، فالقضية لم تكن كفاً من الماء، إلاَّ أنه كان يساوي في تلك اللحظات الحرجة حياة إنسان لشدة الاحتياج إلى قطرة من الماء لإرواء الأجساد التوَّاقة، وهذا الموقف هو الذي ترمز إليه وتعبّر عنه الاية القرانية ﴿...وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...﴾ ، فتلك الطاعة وذلك الوفاء هي النفسية المؤمنة التي ينبغي أن يكون عليها الشباب المؤمن المجاهد، ولأن ذلك الإيثار من العباس هو الذي مدحه الإمام زين العابدين عليه السلام عندما كان في مقام تبيان الفضائل التي كانت عند أبي الفضل العباس، حيث قال عليه السلام:
" رحم الله العباس، فلقد اثر وأبلى ".
وبتلك المواقف الرسالية البليغة الوعظ والتأثير في النفوس وصل العباس عليه السلام إلى ذلك المقام السامي الذي جعل منه قبلة أنظار وأتباع ومحبي أهل البيت عليهم السلام ليشفع لهم عند الله وليطلبوا منه قضاء حوائجهم التي يضعونها بين يديه، ويتحقق بالتالي الكثير منها كما هو المعهود والمعروف منذ تلك العصور من كربلاء، حتى صارت استجابة الله عزَّ وجلَّ لدعوات المؤمنين وطلباتهم التي يتوجهون بها إليه من خلال أبي الفضل العباس أثراً مشهوداً عنه، وفي هذا كله من الدلالة على سمو الرفعة وعلوّ المنزلة ما لا يخفى على كل ذي عقل وقلب.
ومما لا ريب فيه أن تلك الشخصية استحقت بكل تقدير وعن جدارة تلك الزيارة الخاصة التي وردت عن الأئمة الأطهار عليهم السلام والتي جاء فيها:
" السلام عليك أيها العبد الصالح والصديق المواسي أشهد
21
17
مواقف من كربلاء
أنك امنت بالله ونصرت ابن رسول الله ودعوت إلى سبيل الله وواسيت بنفسك فعليك من الله أفضل التحية والسلام، بأبي أنت وأمي يا ناصر دين الله، السلام عليك يا ناصر الحسين الصديق، السلام عليك يا ناصر الحسين الشهيد، عليك مني السلام ما بقيت وبقي الليل والنهار ".
22
18
مواقف من كربلاء
موقف الإمام زين العابدين عليه السلام
هو الإمام الرابع في سلسلة الأئمة الأطهار عليهم السلام تلك الشموس الربانية والأنوار الإلهية التي أضاءت بإيمانها وأقوالها وأفعالها طريق الحياة للبشرية جمعاء لتهتدي إلى الله سبحانه وتعيش الحياة من موقع العبودية والطاعة، وقد أبلوا في ذلك البلاء الحسن، وتحملوا في سبيل هذا الهدف كل أنواع الأذى والضيق فحفظوا بذلك دين الله وسنة نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد عاش الامام السجاد عليه السلام حياته كلها على أنها كربلاء، كانت معه في حِلّه وترحاله، كانت تمتزج مع طعامه وشرابه، وكانت جزءاً لا يتجزأ من علاقته بالناس، لأنه كان يرى أن كربلاء ليست قضية الحسين عليه السلام كأب له فقط أو كشخصٍ عزيزٍ عليه، وإنما كان يراها على أنها قضية الإسلام كله وقضيّة الرسالة الإلهية كلها، ولهذا لم تنتهِ كربلاء عنده بانتهاء المعركة، بل إنها بدأت منذ تلك اللحظة التي سقط فيها الحسين عليه السلام شهيداً مضرجاً بدمه على رمال الصحراء اللاهبة.
فصحيح أن الإمام الحسين عليه السلام قد سقط شهيداً، إلاَّ أن ذلك أوجب مسؤولية كبيرة جداً، وهي إيصال صوت الإمام عليه السلام إلى الأمة
23
19
مواقف من كربلاء
الإسلامية كلها لتعلم أسباب الاستشهاد وظروفه لتستفيق بذلك على حقيقة المؤامرة التي تُحاك ضد الإسلام والأمة معاً.
وهكذا تشاء القدرة الإلهية أن يكون الإمام السجاد عليه السلام مريضاً يوم المعركة، مع أن الروح المحمدية العلوية الحسينية لم تكن تسمح له بالنظر إلى مصارع أولئك الأصحاب والأهل، فتحامل على مرضه واستقوى عليه متكئاً على عصا يريد الخروج إلى الميدان بعد أن خلت الساحة من الناصر والمعين، إلاَّ أن سيد الشهداء عليه السلام عندما رأى منه ذلك أمر النساء من أهل بيته بإعادته إلى فراشه فهناك واجب اخر ثقيل لا يقدر على حمله غيره في مرحلة ما بعد الحسين عليه السلام فالقضية ليست قضية إرادة استشهاد بل هي أكبر من ذلك، ودم الحسين عليه السلام مع من سقطوا معه شهداء كفيلٌ بالنهوض بالأمة إذا وصل صوت كربلاء الرافض للظلم إلى الأسماع، وهناك خط الإمامة الذي لا ينبغي أن تخلو منه أرض الله سبحانه وتعالى لأنه الضمانة لاستمرار الحياة البشرية وهذا الخط وإن كان مكفول البقاء بعد كربلاء بالإمام الباقر عليه السلام الذي كان طفلاً صغيراً إلاَّ أن هذا كان يعني أن يتأخر إسماع الصوت الحسيني الثائر الشهيد حتى يصل الإمام الباقر عليه السلام إلى السن التي يتمكَّن فيها من القيام بمسؤوليات الإمامة ومقتضياتها، وفي هذا على احتمال كبير ضياع دم الحسين عليه السلام ونسيان كربلاء من عقول وقلوب أبناء الأمة مما يعطي الفرصة لبني أمية أن يوجّهوا الضربة القاضية للإسلام ساعتئذٍ، ولهذا كان مرض الإمام السجاد عليه السلام طريقاً لعدم استشهاده وليقوم بمهمة تبليغ الرسالة الحسينية.
24
20
مواقف من كربلاء
ولم يَطُلِ الأمر بالإمام السجاد عليه السلام للقيام بتلك المهمة ومن موقع الأسر والتقييد بالأغلال في العنق واليدين، فكانت خطبته وكلماته في الكوفة والشام، وكانت مواجهاته ومناظراته مع أمراء السوء قد صارت على كل شفة ولسان تنتقل من بيت إلى بيت، ومن بلدٍ إلى بلد، تخبر عن فظاعة الجريمة النكراء التي ارتكبها بنو أمية بحق أهل بيت النبيصلى الله عليه وآله وسلم.
فالموقف الأول للإمام السجاد عليه السلام كان في الكوفة، عندما تجمَّعت الناس لرؤية السبايا من نساء أهل البيت عليهم السلام حيث خطب بالناس قائلاً:
" أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا من انتُهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتُهب ماله، وسُبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات، أنا ابن من قُتِل صبراً وكفى بذلك فخراً... " .
والموقف الثاني وهو الأقوى من سابقه كان في قصر الإمارة حيث اللعين ابن زياد الذي بادر الإمام عليه السلام قائلاً له: ما اسمك؟ قال عليه السلام : علي بن الحسين عليه السلام، فقال له: أولم يقتل الله علياً؟ فقال الإمام عليه السلام: " كان لي أخ أكبر مني يسمَّى علياً قتله الناس " ، فردَّ عليه ابن زياد بأن الله قتله، فقال الإمام عليه السلام:
" الله يتوفى الأنفس حين موتها وما كان لنفسٍ أن تموت إلاَّ بإذن الله " ، هذا الجواب الذي هزَّ ابن زياد من الأعماق، إذ كيف يجرؤ هذا الانسان الأسير بين يديه على تحدِّيه بتلك الصراحة وبذلك الوضوح، ولهذا انفجر غضباً وأمر بقتل الإمام عليه السلام إلاَّ أن الله حماه بعمّته زينب عليها السلام فقال الإمام ساعتئذٍ:
" أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة " ، فهذا الموقف يدل بالقطع
25
21
مواقف من كربلاء
واليقين أن بقاء الإمام عليه السلام حياً وعدم استشهاده في كربلاء كان لحكمة إلهية بالغة، لكي تصدر هذه المواقف الفاضحة للأمويين التي تعريهم أمام الأمة وتسقط كل ادعاءاتهم المزيّفة والكاذبة.
والموقف الثالث من تلك المواقف هو ما جرى بينه وبين يزيد اللعين في الشام عندما سأله اللعين كيف رأيت صنع الله يا علي بأبيك الحسين عليه السلام؟ قال عليه السلام: " رأيت ما قضاه الله عزَّ وجلَّ قبل أن يخلق السموات والأرض " واستشار يزيد جلاوزته في أمر الإمام عليه السلام فأشاروا عليه بقتله فأجابهم الإمام عليه السلام وأجابه معهم: " يا يزيد لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار به جلساء فرعون عليه... " فأمسك يزيد عن قتله، فاغتنم الإمام عليه السلام حينها الفرصة وطلب الإذن في مخاطبة الناس، فأذن له مكرهاً، فقال الخطبة المعروفة التي بدأها بحمد الله وتفضيل أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سائر العالمين بالخصال الموجودة فيهم... ثم قال عليه السلام:
" أنا ابن المرمّل بالدماء، أنا ابن ذبيح كربلاء، أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلماء، وناحت الطير في الهواء " عند هذا المقطع ضجَّت الناس بالبكاء والعويل وأدركوا الخدعة الكبرى واكتشفوا من خلال كلمات الإمام عليه السلام المكر الذي مكره يزيد وبنو أمية، فخشي يزيد عندها افتتان الناس بالإمام عليه السلام فأمر المؤذّن بأن يؤذّن للصلاة حتى يتخلَّص من ذلك الإحراج.
وبذلك نرى أن الحكمة الإلهية قد لعبت دورها في إنقاذ الإمامعليه السلام من القتل في كل تلك المواقف، وما ذاك إلاَّ من أجل أن يصل صوت الحسين عليه السلام إلى كل أبناء الأمة، ومن أجل أن تلفح حرارة دمائه العزيزة على الله كل وجوه المسلمين ليثوروا على بني أمية الطلقاء
26
22
مواقف من كربلاء
الذين توصّلوا بالمكر والحيلة والنفاق إلى أن يتسلموا الحكم ويتلاعبوا بمقدرات الأمة الإسلامية ومصيرها.
ولم يمر وقت طويل على كربلاء، إلاَّ وقامت الثورات ضد الحكم الأموي، من كل مكان، ولا شك بأن الإمام السجاد عليه السلام لعب دوراً كبيراً في ذلك من خلال سيرة حياته الشريفة التي لم تغب كربلاء لحظة من لحظاتها عنها، فأثبت في وجدان الأمة وعقلها قضية الحسين عليه السلام لذي ثار من أجل قضية الحق السليب وأن يكون نوراً للأمة تهتدي به وتنعم، بدلاً من أن يكون الحق بيد حفنة من الأدعياء يستغلونه لمصالحهم النفعية الضيقة على حساب الأمة كلها.
لقد أدخل الإمام زين العابدين عليه السلام كربلاء إلى عمق الشعور عند المسلم فجعلها جزءاً من كل مفردة من مفردات حياتهم، فإذا أكلوا تذكّروا جوع الحسين عليه السلام وإذا شربوا تذكَّروا عطش الحسين عليه السلام وإذا خلدوا إلى الراحة تذكَّروا تعب الحسين عليه السلام ومعاناته، وبذلك تحوَّلت كربلاء بفعل الإمام السجاد عليه السلام وطريقته الخاصة إلى أسلوب حياة لدى قسم كبير من أبناء الأمة الإسلامية مما مهَّد بالتالي لكل حركة الثورات التي أسقطت في النهاية الدولة الأموية وقضت على أحلامهم الخبيثة ونواياهم الشرّيرة المنحرفة.
27
23
مواقف من كربلاء
موقف العقيلة زينب
ثمرة طيبة من الثمرات الخالدة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، حملت في شخصيتها الطهر الفاطمي والعصمة العلوية والفداء الحسيني وفوق كل ذلك العطر النبوي فأنبت كل ذلك وأنتج الشخصية الفريدة المسمَّاة ب" زينب " عليها السلام، والملقَّبة ب" أم المصائب ".
إنها النموذج الكامل للمرأة المسلمة للعصور كلها والدهور، إنها الشعلة التي اقتبست النور من نور أنوار الدنيا رسول الرحمة محمدصلى الله عليه وآله وسلم، وإنها البطلة التي ورثت الشجاعة والجرأة والإقدام من قاتل صناديد العرب أمير المؤمنين عليه السلام، وهي المشاعر الإنسانية المرهفة التي تفيض حباً وعطفاً وحناناً دافقاً حيث أخذت ذلك كله من أمها الزهراء البتول عليها السلام التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، وهي الرسالة الإسلامية بما ترمز إليه من القوة والثبات والعنفوان والإخلاص والعلم والحجَّة والبرهان كما ظهر ذلك جلياً في مواقفها الكربلائية فصارت صنو الحسين عليه السلام في ثورته والجزء المتمم لحركة الثورة الحسينية ودورها التغييري في حياة الأمة كلها وعلى امتداد الأجيال.
هي القدوة بجهادها وصبرها وأذاها وحزنها وفَقْدِ أحبّتها من
28
24
مواقف من كربلاء
الأخوة والأولاد وأولاد الأخوة وأسرِهَا والتنقل بها من بلد إلى بلد، فهي التي تحمَّلت كل ذلك لأنه في سبيل الله عزَّ وجلَّ فداءً لدينه وإخلاصاً.
لقد كانت عليها السلام في كربلاء حركة لا تهدأ، فتارةً تحضن أطفال أهل البيتعليهم السلام الذين كانت تصمّ اذانهم وتروّعهم خيول العدو الصاهلة ووقع السيوف النازلة فتكاً بالأجساد الطاهرة وتارةً أخرى تواسي النساء والصبايا الناحبات الباكيات على فقد الاباء والأخوة والأبناء " وثالثة " تساعد الرجال وتشد من أزرهم وهم يتأهبون للنزول إلى الميدان ومواجهة الأعداء، " ورابعة " تقف عند الأجساد الطريحة على الرمال تودّعها وهي راحلة إلى الله حيث الأمن والأمان، " وخامسة " تحمل بين يديها الجسد الطاهر لأبي عبد الله سيد الشهداء عليه السلام وتدعو الله بقلبٍ يعتصره الألم ونفس تغلي بالثورة على الأمة الظالمة وهي تقول:
" اللهم تقبَّل منَّا هذا القربان "، " وسادسة " تدافع عن الإمام العليل زين العابدين عليه السلام وتَحُولُ بين القوم الظالمين وبينه وتقدّم نفسها فداءً له وتهب نفسها للقتل لحفظ الحجة الإلهية في الأرض ومن دون أي تردُّد أو خوف.
فأي إيمان ملأ ذلك القلب الكبير؟ وأي صبرٍ تحمَّلته؟ وهي ترى كل ذلك أمام ناظريها، فمن الطفل الرضيع البريء المذبوح من الوريد إلى الوريد الذي سقوه الدم بدل الماء، فتلك الجريمة وحدها كافية لتنفطر القلوب من أجلها لفظاعتها ووحشيَّتها وهمجيَّتها، إلى القاسم بن الحسن الشاب في أول انفتاحه على الدنيا، إلى علي الأكبر الشبيه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قمر العشيرة أبي الفضل العباس إلى ولديها عون وجعفر، وإلى أخوتها من أبيها أمير المؤمنين عليه السلام أولاد الأم الصابرة
29
25
مواقف من كربلاء
أم البنين، وصولاً إلى الجريمة الأكبر التي ارتكبها أولئك الفسقة الفجرة، وهي " سبي زينب عليها السلام" والحرائر من نساء أهل بيت النبيصلى الله عليه وآله وسلم حيث راهن القريب والبعيد والموالي والمعاند، وهنَّ حاسرات الشعر مهتوكات الستر، تلك الجريمة التي هي أفظع من القتل الذي فيه إزهاق الأرواح، وهي الجريمة التي عبَّر عنها الإمام وصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الناحية المقدَّسة بقوله:
" فلأندبنَّك صباحاً ومساءً، ولأبكينَّك بدل الدموع دم "، حيث ينقل العالم الواعظ الملا سلطان علي التبريزي أنه تشرَّف في عالم الرؤيا بمشاهدة ولي الله الأعظم عجل الله تعالى فرجه
الشريف وسأله عن المعنى المراد من هذا المقطع من الزيارة وما المراد منه، وما هي المصيبة التي يبكي عليها صاحب العصر والزمان بدل الدموع دماً، ثم قال له: أهي مصيبة علي الأكبر؟ فأجابه الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف: " لا... لو كان علي الأكبر حياً، لبكى هو أيضاً على هذه المصيبة دم "، ثم قال له: أهي مصيبة العباس عليه السلام؟ قال عجل الله تعالى فرجه الشريف: " لا، لو كان العباس حياً، لبكى دماً عليها أيضا "، ثم قال له: هي مصيبة سيد الشهداء عليه السلام إذن؟ قال عجل الله تعالى فرجه الشريف: " لو كان سيد الشهداء حياً لبكى دماً عليها أيضا "، فقال له أخيراً: إذن أي مصيبةٍ هذه؟ فأجابه
الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف: "إن هذه المصيبة هي سبي زينب عليها السلام " .
نعم إن في تلك الجريمة إهانة للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لأن الجريمة ارتُكبت باسم دينه ورسالته وبحق ذريته وعترته الطاهرة التي كان ينبغي أن تحترمها الأمة وتقدّسها كونها تنتمي إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم الذي يحكمون الأمة الإسلامية باسمه ويسفكون دماء أولاده كذباً وادَّعاءً ونفاقاً.
30
26
مواقف من كربلاء
ومع كل ذلك الجو المليء بالإحباط والانكسار وتوهين العزيمة وفَقْدِ القدرة على الضبط لحركة المشاعر والانفعالات نرى زينب عليها السلام في القمة من الانضباط والاتزان والثقة بالنفس والتماسك وقوة الإرادة وشدَّة العزيمة، ولا شك أنها في تلك اللحظات الحرجة كانت تكتب انفعالاتها من موقع الإيمان العميق بالله والمعرفة التامة بأن كل ما جرى هو بعين الله، ولم تُسقط تلك الدماء أي شعار من شعاراتها الإسلامية، ولم تتنازل أمام كل ذلك عن أي مبدأ من مبادىء الإسلام، بل انطلقت بكل عزم وتصميم على التحدي للقوة الظالمة المستبدة من ذلك الموقع الذي كان يتصوَّر فيه العدو أنه أخرس بعده كل صوت يمكن أن ينطق بالتعريض للحكم الأموي ولفضح خياناته وجناياته بحق الإسلام والأمة الإسلامية.
بتلك الروح الإلهية والنفس المطمئنة الواثقة تحمَّلت زينب عليها السلام كل تلك الالام وتجرَّعت كل تلك الغصص، واحتسبتها عند الله سبحانه، ولم تترك مجالاً للادعاء لكي يهزموا ثقتها واطمئنانها، بل أخذت المبادرة أيضاً في الرد عليهم بما أخرس ألسنتهم ودحض حجَّتهم كما فعلت بعبيد الله بن زياد عندما أراد أن يشمت بها قائلاً لها: كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟ قالت عليها السلام:
" ما رأيت إلاَّ جميلاً، هؤلاء قومٌ كُتِبَ عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذٍ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة " فغضب منها ابن زياد وأراد أذيَّتها فخرج عليه رجل من الحاضرين يمنعه من ذلك لأنها امرأة.
وكذلك موقفها من يزيد لعنه الله عندما خطبت تلك الخطبة بعد
31
27
مواقف من كربلاء
أن سمعت أبيات الشعر التي قالها معلناً فيها كفره الصريح وخروجه عن دين الإسلام، تلك الخطبة المليئة بالثورة والعنفوان والمشبَّعة بروح الإسلام المحمدي العلوي الحسيني الفاطمي، والتي جاء فيها:
" أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنَّ"
وكذلك قولها عليها السلام:
" فوالله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلاَّ لحمك، ولتردن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تحمَّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته "
وكذلك:
" ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء "
وفي تلك الخطبة نراها تقلّل من قيمة يزيد وشأنه بقولها عليها السلام:
" ولئن جرت عليَّ الدواهي مخاطبتك، وإني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى والصدور حرى " وأخيراً تعلن له نتيجة فعله بقولها عليها السلام قول الواثق المطمئن "فكد كيدك واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلاَّ فند وأيامك إلاَّ عدد، وجمعك إلاَّ بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين ".
تلك هي بعض جوانب تلك الشخصية الرسالية التي تجاوزت حدود التأثير في نوعها لتصبح قدوةً كأمها الزهراء عليها السلام لعموم المسلمين لامتلاكها الصفات الكبيرة للإنسان التي تتفوَّق على كل الخصوصيات الأخرى في الشخصية الإنسانية المتعارفة.
ولا نغالي هنا إذا قلنا إن أمهات وزوجات وبنات الشهداء من مجاهدي المقاومة الاسلامية قد اقتدين بزينب عليها السلام اقتداءاً رائعاً،
32
28
مواقف من كربلاء
حتى صرنا نسمع من كل أم شهيد وزوجة شهيد وابنة شهيد بأن لها أسوة بزينب عليها السلام التي قدَّمت إخوتها وأبناءها وأرحامها شهداء في سبيل الله وطلباً لنيل ثوابه ورحمته
ومرضاته.
وهذا الاقتداء لا شكَّ كان له كبير الأثر في تنامي حالة المقاومة وازديادها وترسيخها كمسار للتحرير والعزة والكرامة.
إذ عندما يشعر المجاهد بأن أمه أو زوجته أو أبناءه وبناته يشجعونه على سلوك هذا الطريق فلن يتوانى عن المضي في سلوك سبيل الجهاد والشهادة امناً مطمئناً واثقاً من قدرته على النهوض بأعباء الجهاد من دون قلق أو خوف ممن هم وراءه من أهله وأرحامه ومحبيه.
ولا شك أن موقف زينب عليها السلام هذا في كربلاء يجعلها شريكة في الأجر والثواب مع كل أم شهيد أو زوجته أو ابنته.
33
29
مواقف من كربلاء
موقف علي الأكبر عليه السلام
إن خصوصية العمل الرسالي المقبول عند الله يتوقف عادةً على جملة من العوامل المتداخلة مع بعضها البعض حيث تجعله موصوفاً بذاك الوصف ومعنوناً بذاك العنوان، ومن تلك العوامل ما يكون من السهل على المرء الالتزام به لأنه لا يتطلَّب منه بذل الأشياء العزيزة عنده والغالية لديه كما لو تصدَّق الغني المالك للمال الكثير ببعض الدراهم القليلة على الفقراء والمحتاجين، ومن تلك العوامل ما يكون من الصعب التخلي عنه لاحتياج الانسان في ذلك إلى الدوافع والحوافز الذاتية والخارجية التي تجعله يقدم على التخلي من الموقع الإرادي الحر الذي يمتلك الإنسان فيه حرية اتخاذ القرار الاختياري، وهذا ما يستلزم أن يكون المرء عارفاً بما يقدم عليه من حيث الوقائع المقبل عليها والنتائج المترتبة عليها كذلك.
فالشباب والفتوة من أروع فترات عمر الإنسان في هذه الدنيا، لأنها التعبير الاخر عن اكتمال الاستعدادات النفسية والفكرية والجسدية لدخول من هم في هذه السن إلى معترك الحياة من بابها الواسع ليتمتعوا بما أنعم الله عليهم وبما سخَّره لهم من كل ما يرغبون فيه من
34
30
مواقف من كربلاء
النعم الدنيوية المتنوعة ما بين المأكل والمشرب والملبس والمناكح وغير ذلك كثير كما قال سبحانه: ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾.
والإنسان في هذه السن، حيث القابلية موجودة والقدرة متحققة، والاندفاع على أشدّه للانغماس والانخراط في خضم الحياة بكل تفاصيلها ومجرياتها، قد يصعب على من هم في هذا السن الإقدام على التضحية والبذل وتقديم الأرواح، لأن الشباب قد ينظر إلى أن ذلك يمنعه من التمتع بتلك السنوات التي لن تعود إذا لم يستفد منها في تحصيل النِعم الدنيوية التي تتلاءم عادةً مع تلك السن المتفتحة والمقبلة على الدنيا، كما نرى ذلك عند الشباب غير الملتزم والمنساق وراء الشهوات والملذَّات واللاهث وراء هذه المتع الرخيصة خوفاً من مرور الوقت وضياعه بنظره فيما لو لم يستغله في تلك الأمور، إلاَّ أن هذه النظرة الخاطئة لدور الشباب هي التي توجد عادةً عند غير الملتزمين بالخط الإلهي الرسالي، والغارقين من جهة أخرى في مستنقعات التيه والضلال والانحراف فنراهم يصرفون أعمارهم في العبث واللهو واللغو، فالمهم عندهم هو الاستمتاع بوقتهم ولو كان ذلك على حساب البحث عن الحقيقة والدور الإنساني في هذا العالم، وعن المصير والنتيجة لعالم ما بعد الموت الذي قد يغفل عنه الكثير ممن هم في هذا السن بسبب الالتفات الأكبر إلى الدنيا ونعيمها الزائل.
وعلي الأكبر عليه السلام هو شاب يافع وفي أول ريعان الشباب وانفتاحه على الدنيا، ممتلىء بالحيوية والنشاط، ويمتلك القدرة الكافية للانخراط في الحياة الدنيوية بكل تفاصيلها، لكن من موقع كونه مؤمناً بالله سبحانه وتعالى، وملتزماً بأحكام الشريعة التي ملأت قلبه وعقله،
35
31
مواقف من كربلاء
فجعلته شاباً سوياً مستقيماً في سيرته وسلوكه، وتربى في حجر الإمام الحسين عليه السلام سبط النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنهل من علوم ال محمد ما كان عوناً له على معرفة الصراط المستقيم في هذه الدنيا، فلم يعش الشباب لذةً وشهوةً ولهثاً وراء الشهوات والمغريات، وإنما عاشه التزاماً ووعياً وانفتاحاً على الله وعلى الحياة فصار بذلك قدوةً ونموذجاً للشباب المسلم المؤمن الرسالي الذي يعتبر أن الحياة هبةً ونعمة إلهية على الانسان أن يتعامل معها من موقع المسؤولية والأمانة التي ائتمنه الله عليها، ولهذا لم يكن شبابه ولم تكن فتوّته وعنفوانه مانعاً عنده من الالتحاق بركب أبيه الإمام الحسين عليه السلام في طريقه لإصلاح الأمة الإسلامية وإنقاذها من الأخطار الكبيرة المحدّقة بها نتيجة الحكم الظالم الجائر المتسلط الذي كان بنو أمية يتسلّطون به على الأمة المقهورة المظلومة وقد سار في ركب الجهاد لا بسبب أنه ابن الحسينعليه السلام وإنما بصفته ثائراً يريد أن يجاهد في سبيل الله من أجل تحرير أمثاله من الشباب الذين لم يدركوا أبعاد المؤامرة الأموية ضد الإسلام كدين وضد المسلمين كأمة.
وهكذا وصل علي بن الحسين عليه السلام إلى أرض الكرب والبلاء، أرض الامتحان الإلهي للمؤمنين الصادقين، وخاصة منهم الشباب الذين ينظرون الدم المتساقط من أجساد الشهداء مع الحسين عليه السلام ومع كل ذلك نرى علياً بن الحسين عليه السلام يندفع إلى ميدان القتال ضارباً عرض الحائط كل الوسوسات الشيطانية التي تريد إغواءه بالشهوات والملذات الدنيوية لكي ينسحب وينهزم، وكان قد سأل أباه أثناء الطريق إلى كربلاء " أولسنا على الحق يا أبتاه؟ " قال الإمام
36
32
مواقف من كربلاء
الحسين عليه السلام : " بلى " قال علي بن الحسين عليه السلام " إذن لا يهم أوقعنا على الموت أم وقع الموت علين " وقد لاحت أمامه فرصة لانقاذ نفسه عندما بادره رجل من جيش الأمويين بالقول: إن لك قرابة من أمير المؤمنين يزيد من جهة أمك، ونحن نريد أن نرعى الرحم فإن شئت امناك، لكن نفس ذلك الشاب الولهة والعاشقة لله والمطيعة لإمامها وسيدها الحسين عليه السلام والمستوعبة والواعية لدورها وهدفها في الدنيا والاخرة لم توهن تلك الدعوة إلى النجاة من الموت عزيمته ولم تضعف توجهه، ولم تهزم قراره، فأجاب ذلك المنادي بقوله عليه السلام " إن قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق أن ترعى " ثم هجم على الجيش المعادي وهو يرتجز شعراً:
أنا علي بن الحسين بن علي نحن ورب البيت أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي أضرب بالسيف أحامي عن أبي
ضرب غلامٍ هاشمي قرشي
بتلك الروحية الإيمانية الصلبة، وبذاك الوعي الرسالي المنفتح، وبالعزم المحمدي العلوي الحسيني انطلق إلى أرض المعركة مجندلاً الأبطال وقاهراً الفرسان، لم ترعبه كثرتهم ولم يخف من قوة سيوفهم، وظل يقاتل إلى أن سقط شهيداً في الميدان ففاضت روحه الشريفة شهيداً في سبيل دين الله وعظمة الإسلام، فصار خالداً بخلود كربلاء والحسين عليه السلام ، وكُتِبَ اسمه في ديوان الخالدين كرمز من الرموز الإلهية الكبيرة التي كلما مرَّ الزمان عليها كلما زادها تألُّقاً ووهجاً نورانياً يهتدي به السائرون في خط الجهاد، لأنه صار من موقع فتوته وعنفوان شبابه الحجة البالغة لله سبحانه وتعالى على كل الشباب من
37
33
مواقف من كربلاء
أمثاله الذين لا يرقون إلى مقامه العالي حسباً ونسباً وعلماً ووعياً وإدراكاً ويقيناً.
وبذلك اقترن اسمه بتلك المعركة الخالدة، فصار يذكر كلما ذُكِرَ الحسين عليه السلام، وليس بعد هذا الشرف شرف، ولا بعد تلك الكرامة كرامة.
فالسلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين، ونسأل الله تعالى أن يوفّقنا للجهاد في سبيله، وللقتل شهداءً تحت راية وليّه الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء.
واقتداءً بعلي الأكبر عليه السلام انطلق شباب المقاومة الاسلامية البواسل مجاهدين في سبيل الله في مواجهة الاحتلال الصهيوني وغطرسته واستطاعوا بدماء شهدائهم وعرق مجاهديهم أن ينتصروا على ذلك العدو الظالم وأن يعطوا المثل والأنموذج للأمة الاسلامية كلها بأن الدم منتصر على السيف لا محالة، كما انتصر دم علي الأكبر وشهداء كربلاء على السيف اليزيدي الكافر.
وكذلك نرى أن الشباب المسلم في فلسطين قد اقتدى أيضاً بالشباب المجاهدين من أبناء المقاومة الاسلامية وها هم اليوم ينتفضون بالحجر وبصدورهم العارية في مواجهة الالة العسكرية الصهيونية ويمرغون كبرياء ذلك العدو في وحول الهزيمة، وهذا كله من بركات دماء علي الأكبر الذي زرع في نفوس أولئك الشباب في لبنان وفلسطين تلك الارادة الصلبة وذلك العشق العظيم للجهاد والشهادة ما دام ذلك في سبيل الحق ولنيل مرضاة الله عزَّ وجلَّ.
38
34
مواقف من كربلاء
موقف الحسين عليه السلام ليلة العاشر
تلك الليلة كانت الليلة الأخيرة للحسين عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام وأصحابه من الذين استشهدوا بين يديه، وكانت الليلة الأخيرة للاخرين من أهل البيت عليهم السلام من النساء والأطفال الذين صاروا سبايا يسقن من بلدٍ إلى بلد حاسرات الشعر ومهتوكات الستر.
فالجميع مشغولون في تلك الليلة، والكل ينتظر انبلاج ضوء الصبح، بعضهم ليُكتب في سجل الخالدين ممن نصروا مسيرة التوحيد عبر التاريخ الطويل للإنسانية، وبعضهم الاخر ليُكتب في سجل الظالمين ممن سفكوا دماء أولياء الله وعاندوا الحق وأهله.
هي ليلة كانت ثقيلة على الجيش الأموي المقدم على الجريمة النكراء، ليلة استغلَّها ذلك الجيش الظالم في إعداد العدَّة لسفك الدماء التي يغضب الله لقتلها ويفرح الشامتون والمنافقون بإزهاقها لأن في ذلك إرواءً لظمأ أحقادهم وتشفياً لثاراتهم التي يحملونها ضد الإسلام والمسلمين عموماً، وضد أهل البيت عليهم السلام خصوصاً.
هي الليلة التي استأذن فيها الإمام عليه السلام من ذلك الجيش واستمهلهم إياها، لكي يتفرّغ فيها لعبادة ربه والتوجُّه إليه وخاطب أخاه
39
35
مواقف من كربلاء
العباس عليه السلام في ذلك قائلاً له: " ارجع إليهم واستمهلهم هذه العشية إلى غد لعلَّنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار ".
لقد حفلت تلك الليلة في معسكر الحسين عليه السلام بالكثير من الأجواء الايمانية الراقية في حالة من الخشوع والخضوع والعبودية التامة لله والتسليم المطلق له والرضا بقضائه.
هي الليلة التي امتحن الإمام الحسين عليه السلام قلوب أصحابه لينظر ما هم عليه، فإذا به لا يرى إلاَّ رجالاً كالجبال لا تزلزلهم الأهواء ولا تقتلعهم العواصف، وكل واحد منهم يعبّر عن الحب والولاء والاستعداد للقتل بين يديه فداءً له ولدينه، وفي تلك الليلة انصهرت الأرواح في روح الحسين عليه السلام لترفع إلى الله صلاتها ودعاءها وابتهالها وتضرُّعها وبكاءها في جوف ذلك الليل، فلقد انشغل الجميع بين قائم وقاعد وراكع وساجد، فتحوَّل بذلك سواد الليل إلى أنوار إلهية مشرقة في تلك النفوس المطمئنة المؤمنة.
وكيف لا يكون الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه في تلك الليلة كذلك؟ وهل خرج من بيته إلاَّ من أجل ذلك؟ ألم يخرج لقتال يزيد بذلك الشعار الذي أطلقه " ألا وإني لم أخرج بطراً ولا أشراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أريد أن امر بالمعروف وأنهى عن المنكر "؟ وهل كان رفضه لبيعة يزيد قبل خروجه من المدينة إلاَّ من أجل أن يحافظ على الصلاة كما يريدها الله عزَّ وجل وحتى لا تتحوَّل العبادة إلى كلام فارغ من المضمون وحركات جوفاء لا تثير في النفس شعور الخضوع والخشوع والتذلُّل لرب
40
36
مواقف من كربلاء
العالمين؟ ألم يخرج من أجل أن تكون حياة الأمة الإسلامية كلها في أجواء الصفاء والنقاء عبر توفير الأوضاع التي تسمح لهم بإحياء لياليهم كما أحيا الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه ليلة العاشر من المحرَّم؟
لقد أراد الإمام عليه السلام أن تكون تلك الليلة ليلة الوداع من هذه الدنيا، فهو يعلم أنه مقتول في الصباح اللاحق بها، لذا يريد التفرُّغ لعبادة ربّه لا يشغله عن ذلك شيء لأنه يريد الخروج من هذه الدنيا على أكمل هيئة يخرج بها أولياء الله من هذه الدنيا وهم الذين يعيشون الإيمان كله ويعرفون الحياة كلها ويؤدُّون حق الله تعالى على الوجه الأكمل.
إن ذلك الموقف الحسيني المشبع بجو الخشوع والخلوص لله عزَّ وجل ليلة العاشر من المحرَّم هو الذي استلهمه كل الذين سلكوا سبيل الحسين عليه السلام بعده من المجاهدين والشهداء الذين كانت تهديهم تلك الليلة بأجوائها العطرة والعابقة بشذى الإيمان وعطره الأخَّاذ.
إن موقف الحسين عليه السلام ليلة العاشر أعطى كربلاء أبعادها الإيمانية والروحية التي امتزجت بالجهاد والعطاء والشهادة في اليوم العاشر من المحرَّم، ليتشكّل من ليلة عاشوراء ويومها خط السير النهائي لحركة كل السائرين في خط الثورة من أجل دين الله عزَّ وجلَّ.
لقد صار ذلك الموقف الرسالي الخالد مدرسة يتعلَّم منها كل المجاهدين الذين يحملون معهم ليلة العاشر بكل ما كانت تحويه من صفاء الإيمان ونقاء الارتباط بالله، ويجعلونها اخر أعمالهم قبل البدء بمواجهة أعداء الله والإنسانية ليلاقوا الله من موقع الجهاد وهم في حالة من الخشوع والعبادة والدعاء والابتهال إلى الله، فتراهم في عتمة
41
37
مواقف من كربلاء
الليل العُبَّاد الزهَّاد الذين يشعرون بلذة طعم مناجاة الله، ويذرفون الدموع السخيَّة خوفاً من الله وطمعاً برحمته ومغفرته، وليقولوا من خلال ذلك للحسين عليه السلام " نحن أتباعك ومحبوك ومريدوك والسائرون على نهجك، ونحن الذين نريد أن نخرج من الدنيا على طريقتك لنكون معك وبين يديك إلى جوار نعيم الله وظلّه الذي لا ظلّ بعده ".
فإذا كان تأثير ذلك الموقف من الحسين عليه السلام ليلة العاشر هو ذلك، فكيف كان تأثير تلك الليلة على من كانوا معه من أهل بيته وأصحابه؟ وكيف كان عشق أولئك المرافقين له في إحياء تلك الليلة العظيمة؟ ولهذا لن نستغرب موقف أولئك الأهل والأنصار عندما يجيبون طلب الإمام عليه السلام لهم بالتفرُّق في جوف ذاك الليل واتخاذه جملاً للنجاة بأنفسهم من القتل بأنهم لن يجدوا لذة العيش بعده، بل لا معنى للحياة من دونه كما عبَّروا، بل إن البعض منهم قال وهو زهير بن القين: " وددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أُقتل كذا ألف مرة وان الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك " وقال مسلم بن عوسجة: " أنحن نخلي عنك وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقك؟ أما والله لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضرب بسيفي " وقال العباس عليه السلام: " لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبد ".
وهكذا سوف يبقى موقف الحسين عليه السلام ليلة العاشر الموقف الذي يهز الضمائر ويحرّك الوجدان ويثير في النفس عوامل القوة والثبات، وستبقى ليلة العاشر الليلة المضيئة التي تزوّد المجاهدين بالروحية العالية وتشع في قلوبهم أنوار الإيمان وتقوي الارتباط والعلاقة بالله
42
38
مواقف من كربلاء
عزَّ وجلَّ، ولتكون عربوناً ونموذجاً عن الشكر لله على التوفيق لمعرفته والتسديد لطاعته، ولتكون اخر عمل يخرج به المجاهدون الكربلائيون ممزوجاً بحركة الجهاد واندفاعة العطاء وحيوية الدم المسفوح في سبيل الله.
43
39
مواقف من كربلاء
موقف حبيب بن مظاهر
من وجوه أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ومحبيه ومريديه، تفانى في خدمة أهل البيت عليهم السلام، ووقف المواقف الرسالية التي تخبر عن كونه ثابت الجنان، رابط الجأش، قوياً في دينه وعقيدته، لم يمنعه كِبَرُ السن من أن يكون جندياً من جنود كربلاء وشهيداً من شهدائها الكبار.
تميَّز بصفاء الإيمان وشدَّة الحب والولاء لأهل البيت عليهم السلام ووضوح الرؤية التي تجلَّت في مواقفه الكربلائية المتعددة النابعة من وعيه وفهمه وإخلاصه سعياً لتحصيل رضوان الله من الباب الذي يحب الله دخول المؤمن إليه منه هو " باب الشهادة الحمراء " التي تحتاج إلى التسديد الإلهي والتوفيق الرباني.
لقد كان من أوائل الذين بايعوا مسلماً بن عقيل عندما ورد الكوفة لأخذ البيعة لنصرة الحسين عليه السلام وكان ذلك في دار المختار، وأعلن الولاء والطاعة لسبط النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مع أن حبيباً لم يكن بحاجة لأن يبايع لإثبات ولائه، إلاَّ أنه أراد أن يشجّع الاخرين من خلال ذلك وليُفرح قلب الإمام الحسين عليه السلام بأنه ما زال على العهد والطاعة وما زال المحب والناصر لال البيت عليهم السلام.
44
40
مواقف من كربلاء
وحبيب لم يكتفِ بأن يكون وحده من قومه مع الإمام عليه السلام بل سعى إلى استثارتهم ليكونوا إلى جانبه أيضاً لحشد الأنصار والمؤيدين لعلمه بأن هذه الفرصة لن تتاح ثانية للقتال مع صفوة الله من خلقه في الأرض، وتمكن من ذلك أيضاً إلاَّ أن الخيانة والنفاق على عادة أهل الكوفة لم تسمح له بالنجاح في ذلك المسعى الخيّر الذي كان يهدف إليه، فرجع إلى الإمام عليه السلام وأخبره بما جرى معه مع قومه، فقال عليه السلام عند ذلك: " لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله ".
ومن المواقف المشرّفة جداً لحبيب رضوان الله تعالى عليه كان موقفه في ليلة العاشر من المحرَّم، حيث دخل الإمام الحسين عليه السلام على أخته العقيلة زينب عليها السلام وكان نافع منتظراً له خارج الخيمة، فسمع العقيلة تقول للإمام عليه السلام " هل استعلمت من أصحابك نياتهم فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة " فقال لها الحسين عليه السلام: " والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلاَّ الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه ".
لقد أبكى ذلك الحوار بينهما نافعاً، وسرعان ما هرع إلى حبيب دون غيره ليطلعه على ذلك ولينظر فيما ينبغي أن يفعلا ليطمئنا قلب زينب عليها السلام وقلوب نساء ال البيت عليهم السلام القلقات من الحالة والخائفات من أن يبقى الحسين عليه السلام وحيداً في الميدان، وسرعان ما تفتَّق ذهنهما عن أمر فيه لله رضا وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم المواساة، ولزينب عليها السلام وللنساء إذهاب لخوفهنَّ وقلقهنَّ، فاندفع حبيب ينادي " يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة " فخرج الأصحاب من خيامهم، وقال لهم ما أخبره به نافع، ثم عقب بقوله " هلمُّوا معي لنواجه النسوة ونطيّب
45
41
مواقف من كربلاء
خاطرهن " فساروا جميعاً حتى وصلوا إلى خيم أهل البيت عليه السلام وصاح حبيب: " يا معشر حرائر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه صوارم فتيانكم الوا ألاَّ يغمدوها إلاَّ في رقاب من يريد السوء فيكم، وهذه أسنَّة غلمانكم أقسموا ألاَّ يركزوها إلاَّ في صدور من يفرق ناديكم "، عند ذلك خرجن النسوة من حجورهن وقلن لأولئك الأنصار المحبين الموالين " حاموا عن بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرائر أمير المؤمنين عليه السلام" ، وضجَّ الجميع ساعتئذٍ بالبكاء على المصاب الجلل الذي هم مقبلون عليه.
إن ذلك الموقف الرسالي المعبّر عن القمة في الحب والولاء للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام هو مفخرة لذلك الانسان الصابر المواسي، الذي عاش الصفاء والإخلاص والوفاء، فلم يهدأ ولم يسكن حتى أدخل الطمأنينة إلى قلوب نسوة أهل البيت عليهم السلام لعلمه بأن في هذا الأمر رضا لله عزَّ وجلَّ ومواساة للزهراء عليها السلام في الفاجعة الجلل.
أما عن عشقه للشهادة، فهذا الموقف الرائع مما لا يجد الانسان وصفاً يعبّر به عن حالة العشق التي كانت تحملها تلك النفس الكبيرة التوَّاقة لسفك دمها على يد أخبث الخلق لتحقيق مرضاة الله عزَّ وجلَّ، وكيف لا يعشق الشهادة وهو الذائب في حب وعشق أهل البيت عليهم السلام الذين لا يمكن إلاَّ أن يكونوا جزءاً لا يتجزأ من العشق الإيماني بالله سبحانه وتعالى، وقد عبَّر حبيب عما كان يختلج في صدره عن ذلك في مناسبات متعددة أثناء وجوده في كربلاء، فتارة يقول لنافع: " والله لولا انتظار أمره الإمام عليه السلام لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة " وأخرى يقول ممازحاً وضاحكاً: " وأي موضع أحق بالسرور من هذا؟ وما هو إلاَّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور " مجيباً بذلك أحد
.
46
42
مواقف من كربلاء
أصحابه الذي تعجب من ضحك حبيب في الوقت الذي ينبغي أن تكون الأنفاس فيه محبوسة والأفكار فيه مضطربة ومشوَّشة والأعصاب مشدودة، بينما نجد أن حبيباً متشوّق إلى تلك اللحظة التي تتقارع فيها السيوف لتخترق جسده ولترتفع روحه التي لم تعد تطيق البقاء في هذه الدنيا بل تريد الانطلاق إلى الله عن طريق الشهادة بين يدي الحسين عليه السلام لتشكر تلك الروح خالقها على ما وفَّقها له من السعادة الأبديَّة للقتال بين يدي سيد شباب أهل الجنة.
وهكذا بدأ سيل الدماء من أجساد أصحاب الحسين عليه السلام لترتفع الأرواح إلى الله في مسيرة منتظمة وحبيب ينتظر دوره بفارغ الصبر، فهو يريد اللحاق بهم، فلم يعد يطيق صبراً على ذلك لكنه يريد ذلك من خلال الأذن، ومن خلال موقع الطاعة التي ذابت فيها روحه المتسامية الأبيَّة ويقف حبيب مع الإمام الحسين عليه السلام عند مصرع أخيه " مسلم بن عوسجة "، حيث قال له حبيب: " عزَّ عليَّ مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنة " فقال مسلم بصوتٍ ضعيف: " بشَّرك الله بخير "، فقال حبيب: " لو لم أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إليَّ بما أهمَّك " فقال مسلم: " أوصيك بهذا أي الحسين عليه السلام أن تموت دونه " فقال حبيب: " أفعل وربّ الكعبة ".
وهل يحتاج حبيب إلى الوصيَّة أو إلى من يلفت نظره إلى ذلك الأمر؟ وهو الأشدّ شوقاً إلى تلك اللحظة التي ينزل فيها إلى الميدان ليقاتل دون الطيبين من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
إن تلك المواقف الرسالية هي المواقف التي يفتخر بها الانسان يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليم.
47
43
مواقف من كربلاء
فحبيب على كِبَرهِ في السن لم يترك فرصة الوصول إلى الشهادة تمرّ من دون أن يستفيد منها لكي يرتحل إلى الله شهيداً مخضَّباً بدمائه، مع أنه عاش حياته مؤمناً ملتزماً وفياً لدينه وإمامه، لأن السعي للجهاد والشهادة لا يحتكرهما الشباب المجاهد، بل الاسلام فتح كل الأبواب من أي سن وفي أي مرحلة من مراحل العمر، طالما أن العروق تنبض بالدم والأجساد تحركها الأرواح المؤمنة الحرَّة من كل استعباد لطواغيت الأرض وشياطين الإنس والجان.
فهنيئاً لحبيب بن مظاهر بتاج الفخر وصولجان العز ووسام الشهادة الحمراء يزهو به يوم القيامة أمام مرأى ومسمع الخلائق أجمعين، وليذوق بذلك كل الذين سفكوا دم الحسين عليه السلام وحبيب وكل الشهداء من أهل البيت عليهم السلام والأنصار الحسرة والندامة وليلبسوا ثوب الذل والخزي والعار الذي صنعوه لأنفسهم.
48
44
مواقف من كربلاء
موقف زهير بن القين
في الطريق إلى كربلاء كان اللقاء وكأنهما على موعد، الحسين عليه السلام متوجه إلى الكوفة استجابة لطلب أهلها لكي يقاتلوا معه الظلم الأموي المتسلط على رقاب المسلمين، وزهير بن القين ومعه جماعة من أصحابه في تلك البيداء، جمعتهما هناك الحاجة إلى الماء الموجود لكي يكمل كلّ منهما طريقه المحدّد قبل اللقاء.
ذلك اللقاء الذي تمَّ من غير تحضير مسبق، غيَّر من اتجاه السير عند زهير بن القين، بل أبدل نمط حياته العادي بنمط اخر بعيد ما كان يخطر على باله أو تهفو إليه نفسه قبل ذلك.
لم يكن زهير في مجريات حياته العادية قريباً من الحسين عليه السلام وأهل البيت عموماً كما تذكر المصادر التاريخية وكان أقرب إلى عثمان في المودة، ولهذا كان يكره أن يجتمع مع الإمام عليه السلام في مكان واحد، حتى في ذلك المكان الذي التقيا فيه لم يشأ زهير إجابة الدعوة التي وجهها إليه الإمام عليه السلام عبر رسول خاص إليه، ولولا تشجيع زوجته لما أجاب الدعوة ولبَّى.
فما الذي حصل عندما اجتمع مع الإمام عليه السلام حتى صار مريداً
49
45
مواقف من كربلاء
ومحباً وولياً وناصراً، بشكل أثار الاستغراب ممن كانوا في صحبته، إذ كيف يتحول انسان بمثل هذه السرعة ويبدّل موقفه، لكنه سرعان ما أجاب عن تساؤلاتهم واستغرابهم بقوله: غزونا بلنجر ففتحنا وأصبنا الغنائم وفرحنا بذلك، ولما رأى سلمان الفارسي ما نحن فيه من السرور قال: " إذا أدركتم سيد شباب ال محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم من الغنائم "، ثم استودع أصحابه وزوجته فقالت له:
" خار الله لك وأسألك أن تذكرني يوم القيامة عند جد الحسين عليه السلام ".
ولا شك بأن سلمان رضي الله عنه لا ينطق من تلقاء نفسه، بل هذا مما تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وزهير يعرف ذلك جيداً للمكانة القريبة التي كانت لسلمان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو المقول فيه " سلمان منَّا أهل البيت ".
وبذلك أدرك زهير رضوان الله تعالى عليه أن الحق مع الحسين عليه السلام فلا يعدوه، ولا يمكن للإمام عليه السلام إلاَّ أن يكون مع الحق كما كان أبوه عليه السلام كذلك، كيف لا؟ وهو ربيب النبوة وسبط النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يكن عند زهير شك عندئذٍ بأن الذين هم في الموقع المقابل للإمام الحسين عليه السلام هم أهل الضلال والباطل والنفاق، وهو الذي يعلم من هو يزيد وابن من، ويعلم ما هي الصفات القبيحة واللئيمة المجتمعة في ذلك الشخص الذي يحمل حقد ابائه وأجداده الذين أنزلهم الاسلام وأسقطهم عن زعامتهم التي كانوا عليها في الجاهلية.
فالقضية كما أدركها زهير عندئذٍ أن المسألة المتنازع عليها لم تعد مسألة من يحكم أو لا يحكم بل المسألة أصبحت متعلقة ببقاء نفس الإسلام كدين والمسلمين كأمة موحَّدة، ولم تعد الأمور قابلة لأن يقف
50
46
مواقف من كربلاء
الانسان عند الاراء الشخصية والمواقف المتشنجة التي يتمكن الانسان من خلال التفكير الهادىء والعقلانية الواضحة أن يرى الفارق بين المسألة المبدئية والمسألة الشخصية ويقدّم ما هو الأهم والأخطر في نظره، ولهذا سرعان ما فكَّر واتَّخذ القرار ليكون الى جانب الامام الحسين عليه السلام رفيقاً له في الدرب والشهادة.
إن ذلك الموقف المشرّف من زهير لجدير بالكثير من المسلمين قراءته بوضوح والتأمل فيه برويَّة وتبصّر، لأنه موقف الانسان الذي لا يترك القضايا الصغيرة تأكل في نفسه وحركته المواقف الكبيرة ولا يُمكّن اراءه الخاصة في بعض المسائل والقضايا من أن تسيطر على قلبه وعقله لتمنعه من الوقوف إلى جانب الحق وأهله، وهو يعلم تمام العلم من هو الإمام الحسين عليه السلام ومن يمثل عند الله وفي الاسلام، فكيف يترك تلك الفرصة في أن يكون إلى جانبه دفاعاً عن الدين وعن الأمة التي يتحكَّم بالعباد والبلاد فيها الدعي ابن الدعي يزيد بن معاوية كما قال عنه الإمام الحسين عليه السلام.
ولم يكن هذا الموقف هو الوحيد من زهير، بل عمل يوم المعركة على إرشاد وهداية أولئك الضالين الخارجين لقتال الإمام عليه السلام لعلَّ كلامه وموعظته تؤثر فيهم وتردعهم غن غيّهم وضلالتهم وتعيدهم إلى جادة الحق والصواب، فوقف أمام ذلك الجيش رافعاً صوته " ... إن الله ابتلانا وإياكم بذريّة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينظر ما نحن وأنتم عاملون إنَّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد فإنكم لا تدركون منهما إلاَّ سوء عمر سلطانهما... " فما كان من أولئك الذين أعمى النفاق قلوبهم إلاَّ أن سبُّوه وشتموه وامتدحوا عبيد الله ابن زياد، إلاَّ أنه أجابهم " عباد الله إن ولد
51
47
مواقف من كربلاء
فاطمة أحقّ بالود والنصر من ابن سمية، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم فخلُّوا بين هذا الرجل وبين يزيد، فلعمري انه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين عليه السلام" فرماه الشمر حينها بسهم وهدَّده بالقتل مع الإمام الحسين عليه السلام، فردَّ عليه زهير ردّ الموقن بربّه الثابت على ما نوى عليه من نصرة الحسين عليه السلام وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال له: " أفبالموت تخوّفني؟ فوالله للموت معه أحب إليَّ من الخلد معكم "، ثم أقبل عليهم قائلاً برفيع صوته:
" عباد الله لا يغرنّكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوماً هرقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم ".
وهكذا نجد أن ذلك الانسان الرقيق الاحساس قد أجاب الإمامعليه السلام بمجرد أن دعاه للقتال معه وكانت كلمات سليمان هادية له إلى معرفة الحق والصواب، ولهذا نجد أنه بالغ في النصيحة لأولئك القوم، إلاَّ أن الإمام عليه السلام عندما رأى من أجوبتهم له وهو يدعوهم إلى الهدى أنها لن تردهم عن الردى أرسل بطلبه للعودة إلى المعسكر وقالعليه السلام مع من بعثه لإعادته: " أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن ال فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء، فلقد نصحت هؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والابلاغ ".
وبذلك ذاب زهير بن القين في حب الحسين عليه السلام بعد أن أزال من أمام ناظريه الغشاوة التي كانت تقف بينه وبين كونه مع الحق وأهله مع أهل البيت عليهم السلام، ونرى هذا واضحاً عندما استأذن الإمام عليه السلام لقتال القوم بقوله:
أقدم هديت هادياً مهدياً فاليوم ألقا جدك النبيا
52
48
مواقف من كربلاء
وحسناً والمرتضى علياً وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد الله الشهيد الحيا
فأجابه الإمام عليه السلام حينها جواب من يريد تثبيت توجهه وقراره، فقال له: " وأنا ألقاهما على أثرك " فقاتل حتى سقط شهيداً مضرجاً بدمه، فوقف الإمام عليه السلام عند جسده وقال:
" لا يبعدنَّك الله يا زهير ولعن الله قاتليك لعن الذين مسخوا قردةً وخنازير ".
وهكذا يعلمنا زهير بشهادته أن الإنسان قادر في اللحظات التي تحتاج إلى اتخاذ القرار الجريء لأن يكون مع الحق بأن لا يجعل للشبهات طريقاً إلى قلبه وعقله لتمنعه من أن يكون مع الحق وأهله، فرحم الله زهيراً وجزاه خير جزاء المحسنين.
53
49
مواقف من كربلاء
موقف العبد جون
لقد شرَّع الإسلام بعض القوانين التي تجعل من الحياة الانسانية مليئة بالمعاني والقيم والمُثُل العليا التي ترتفع وتسمو فوق كل الاعتبارات الضيّقة الأفق والمحدودة الإطار التي جعلها الناس انطلاقاً من الواقع الاجتماعي الذي يسود المجتمعات البشرية عادة، حيث الغني والفقير، والقوي والضعيف، والمتعلم والأمي وما إلى هنالك من شرائح اجتماعية أخرى.
من هنا، كان الإسلام دعوة مستمرة للانفتاح على الحياة، فلا كبت ولا تحجير ولا تضييق على الانسان في أي مجال من المجالات في العمل والحركة، بل الأبواب مشرعة للجميع طالما أنهم يريدون الانطلاق في خط الحياة من هذا الفهم الشامل والواسع.
فالموانع الدنيوية في الاسلام مرفوعة، والحوافز الأخروية متوفرة، كلا هذين الأمرين يشكّلان المنطلق بغضّ النظر عن اللغة واللون والأرض وكل الخصوصيات الأخرى، ولهذا نجد أن القران الكريم يبيّن ذلك في الاية التي تقول: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾.
54
50
مواقف من كربلاء
وهكذا يعطي الاسلام الفرصة لكل إنسان لكي يثبت جدارة الإنتماء إلى هذا النوع، فيتحول البعض من نكرة في المجتمع ليرتقي إلى مستوى المثال والقدوة والنموذج بالعطاء والبذل، والتضحية وينال بذلك المنزلة الرفيعة عند الله عزَّ وجلَّ.
وفي كربلاء الحسين عليه السلام صار كل شهيد من شهدائها معلماً كبيراً ورمزاً من الرموز، لأن كل واحد منهم كان جزءاً لا يتجزأ من تلك الثورة الرسالية التي صارت رمزاً أكبر لكل الثورات والمجاهدين إلى اليوم وحتى قيام الساعة.
ومن أولئك الشهداء الذين ارتفعوا بالإسلام إلى المقامات العالية واستحقوا درجة الشهادة عن أهلية وجدارة، لأنهم انتصروا على كل عوامل النقص وارتبطوا بالله العظيم، فعرفوا من خلال ذلك أنفسهم ولو كان الاخرون لم يستطيعوا أن يفهموا منطقهم الذي هو منطق الإسلام الإلهي، من أولئك الشهداء " العبد جون " الذي كان في خدمة الإمام الحسين عليه السلام يأكل من طعامه ويشرب من شرابه، ذلك الانسان الذي رافق الحسين عليه السلام فاكتسب منه، وعاش من خلال ذلك في حالة من المحبة والوفاء مع أهل البيت عليهم السلام والصدق مما لم يتحقق في الكثيرين ممن كانوا يزعمون الانتماء إلى ذلك الخط والنهج.
إنه نموذج للانسان الذي قابل المعاملة الحسنة من الإمام عليه السلام بالإحسان، فعبّر بذلك عن نفس كبيرة لا تعرف اللؤم أو الجحود، فلم يتمرّد ولم يتردّد في نصرة الحسين عليه السلام عندما رأى أن الظرف هو أنسب ما يمكن أن يتحقق لكي يعبّر عما كان يجيش في صدره من عوامل الحب والمودة، بعكس الكثير من الساقطين الذين استسلموا
55
51
مواقف من كربلاء
للخوف الذي سيطر على نفوسهم قبل أن تصل الأمور إلى مستوى سفك الدماء وسقوط الشهداء، فعبَّروا بذلك عن شخصياتهم المهزوزة والضعيفة، بينما ذلك الإنسان الذي لم يكن أحد يحسب له حساباً لكونه عبداً مملوكاً بنظرهم يكشف بوقفته المميزة في كربلاء عن نفس قوية واثقة تعيش الطمأنينة والثبات وما ذلك إلاَّ بفضل الإسلام وبركات الحسين عليه السلام التي كان يعاينها ذلك الخادم المخلص والأمين.
لقد رأى " جون " الدماء وهي تسيل حمراء قانية من أجساد أصحاب الحسين عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام فكان كلُّ شهيد يسقط يزيده إصراراً كما يتضح من كلماته التي قالها للإمام عليه السلام، فلقد شكَّلت تلك الدماء دافعاً وحافزاً قوياً للبذل والعطاء، فالإسلام ليس حكراً على الأغنياء دون الفقراء، ولا لذوي الحسب الرفيع دون غيرهم من سائر الناس، وليس للأقوياء دون الضعفاء، بل هو لجميع هؤلاء ولغيرهم، فليس الأبيض بمقدم على الأسود، بل لكل موقعه ومنزلته طالما أن الإسلام هو الذي يشمل كل تلك العناوين ليذيبها في وحدة تنصهر فيها ليكون الإسلام هو العنوان الأوحد الذي يتقدَّم عندهم على كل العناوين الأخرى التي قد تنطبق عليهم حسب التقويم الاجتماعي للأفراد.
وهكذا وقف " جون " ذلك الموقف المشرّف في كربلاء ليصبح في مصاف الشهداء العظام مع الحسين الشهيد عليه السلام وليكون رفيقه في عالم الاخرة في جنان الخلد، وقيمة موقفه وعظمته نابعة من أنه كان بمقدوره أن ينقذ نفسه من القتل وحجّته ودليله معه، فهو عبد لمولاه، وما للعبيد وللقتال فهم مخلوقون للخدمة والقيام بالأعمال التي لا يقوم بها السادة والأحرار، وبالتالي لن يقيم له الجيش الأموي وزناً، إلاَّ أنه
56
52
مواقف من كربلاء
للخوف الذي سيطر على نفوسهم قبل أن تصل الأمور إلى مستوى سفك الدماء وسقوط الشهداء، فعبَّروا بذلك عن شخصياتهم المهزوزة والضعيفة، بينما ذلك الإنسان الذي لم يكن أحد يحسب له حساباً لكونه عبداً مملوكاً بنظرهم يكشف بوقفته المميزة في كربلاء عن نفس قوية واثقة تعيش الطمأنينة والثبات وما ذلك إلاَّ بفضل الإسلام وبركات الحسين عليه السلام التي كان يعاينها ذلك الخادم المخلص والأمين.
لقد رأى " جون " الدماء وهي تسيل حمراء قانية من أجساد أصحاب الحسين عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام فكان كلُّ شهيد يسقط يزيده إصراراً كما يتضح من كلماته التي قالها للإمام عليه السلام، فلقد شكَّلت تلك الدماء دافعاً وحافزاً قوياً للبذل والعطاء، فالإسلام ليس حكراً على الأغنياء دون الفقراء، ولا لذوي الحسب الرفيع دون غيرهم من سائر الناس، وليس للأقوياء دون الضعفاء، بل هو لجميع هؤلاء ولغيرهم، فليس الأبيض بمقدم على الأسود، بل لكل موقعه ومنزلته طالما أن الإسلام هو الذي يشمل كل تلك العناوين ليذيبها في وحدة تنصهر فيها ليكون الإسلام هو العنوان الأوحد الذي يتقدَّم عندهم على كل العناوين الأخرى التي قد تنطبق عليهم حسب التقويم الاجتماعي للأفراد.
وهكذا وقف " جون " ذلك الموقف المشرّف في كربلاء ليصبح في مصاف الشهداء العظام مع الحسين الشهيد عليه السلام وليكون رفيقه في عالم الاخرة في جنان الخلد، وقيمة موقفه وعظمته نابعة من أنه كان بمقدوره أن ينقذ نفسه من القتل وحجّته ودليله معه، فهو عبد لمولاه، وما للعبيد وللقتال فهم مخلوقون للخدمة والقيام بالأعمال التي لا يقوم بها السادة والأحرار، وبالتالي لن يقيم له الجيش الأموي وزناً، إلاَّ أنه
57
53
مواقف من كربلاء
في عصرنا أيضاً يتمنُّون لو أن الحسين عليه السلام يدعو لهم بمثل ذلك الدعاء الرائع ليكون تاج النور الذي يعبرون به أمام الخلائق أجمعين يوم القيامة، وهكذا ارتفعت روح ذلك العبد الأمين إلى الله من ذلك الموقع العابق بعطر الشهادة، وفاز بنعيم الاخرة الذي لا نعيم بعده إلى جوار العظماء من عباد الله الذين بنوا صرح المجد الإلهي في أرضه عبر العصور.
من كل ذلك علينا أن نعلم أن الكبير عند الله هو من كان يسير في الدنيا بهدي الله ونور الإيمان ولو كان صغيراً بمنظار الدنيا الفانية، وأن الصغير عند الله هو من كان يخبط في الدنيا خبط عشواء على غير هدى وبصيرة ولو كان كبيراً بنظر أهل الدنيا، بل لو كان يملك الدنيا بأسرها لأن كل ذلك لن ينقذه من قبضة الجبار وغضبه الذي أعدّه للعاصين الظالمين المنحرفين.
58
54
مواقف من كربلاء
موقف عمر بن سعد
إن الصراع بين الدنيا والاخرة صراع لا ينتهي إلاَّ بانتهاء الحياة الإنسانية من هذا الكون، ومنشأ هذا الصراع هو الذات البشرية بما تحتويه من قابليات للارتقاء في معارج الكمال من جهة، ومن إمكانياتٍ للتسافل في الدركات، وهذا الصراع الداخلي في النفس البشرية هو الذي يشير إليه القران الكريم في قوله: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾. وهو من جهة أخرى المصدر الأساس الذي تنشأ عنه تصرُّفات الإنسان وسلوكه والمواقف التي يتخذها أمام أية حالة من الحالات التي تواجهه في خط الحياة المليء بالوقائع والأحداث والمجريات التي لا يمكن إلاَّ أن يأخذ منها الإنسان موقفاً مهما كان نوع ذلك الموقف.
ومن هذا الصراع الذي بدأ مع بداية الحياة الإنسانية يتحدّد كذلك مصير الإنسان في العالم الاخر عند المليك المقتدر الذي يحاسب الفرد على كل أعماله التي اكتسبها سواء أكانت إيجابية في غالبيتها بحيث تؤهّله لدخول الجنَّة، أو سلبية تؤدي به إلى الهلاك والنار.
59
55
مواقف من كربلاء
وفي هذا يقول القران الكريم: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾.
ومع أن الإنسان إذا كان مُسلِماً فإنه في الغالب يسمع هذه الايات جميعاً، سواء منها التي تحدّد للإنسان الخيارات المفتوحة أمامه، أو التي تتحدَّث عن المصير والجزاء الأخروي الموافق لخط السير الذي اختاره لحياته الدنيوية إلاَّ أننا مع هذا نرى الانحراف الكبير والخطير الذي قد يوجد عند الأفراد من المسلمين أو المجتمعات، وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدل على عدم القدرة عن صون النفس من الإنجراف والإنجرار وراء الدعوات الشيطانية التي تغري الإنسان في هذه الدنيا بالنعيم الزائل والمتع الرخيصة التي يسعى المغرور بها إلى تحصيلها من غير وسائلها المحلّلة متجاوزاً في سبيلها الكثير من الحدود التي وضعها الله سبحانه أمام البشر لكي لا يتعدُّوها، ويضع نفسه المنحرفة بالتالي أمام الغضب الإلهي الذي أعدّه لمثل هؤلاء المستهترين واللامبالين بالتكليف الإلهي، خاصة إذا كانوا من الذين يعرفون تلك الحدود ويقدمون على تجاوزها سعياً وراء الوصول إلى مشتهياتهم لإرضاء النزوات والرغبات النفسانية التي تكون الباعث لهم والمحرك الأساس الذي يدفعهم إلى الإقدام على تلك الأفعال المحرَّمة وبهذا يخسرون الاخرة وقد لا يربحون الدنيا التي أرادوها.
ومن الأمثلة البارزة في هذا المجال من كربلاء الدم والشهادة " عمر بن سعد " ذلك الإنسان الذي دفعه حبه للدنيا إلى أن يكون شريكاً أساسياً إلى جانب الحكم الأموي في سفك دم الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، إنه عبارة عن الإنسان الذي فكَّر ثم قدر، فقُتِل
60
56
مواقف من كربلاء
كيف قدر، إنه نموذج سيء عن الإنسان الذي استهوته شهوة السلطة، فصار يبحث عنها من أي طريق كان بغية الوصول إليها، وهذا مما سهَّل على الحكم الأموي إغراءه بملك دنيوي عقيم.
إن عمر بن سعد هو مَثلٌ صارخ للإنسان العالم الذي لم يتحوَّل العلم عنده إلى قناة اتصال قلبي وروحي ومعنوي توصله إلى الله، لأنه لم يهذّب نفسه ولم يسع في سبيل إصلاحها وجعلها تعيش التوازن بين متطلّبات الاخرة واحتياجات الدنيا، فهو المثل الذي سجَّلته لنا مجريات كربلاء عن الإنسان الذي سقط في امتحان الدنيا من خلال ترك نفسه ميداناً يرتع فيه الشيطان وحزبه، وهو المَثَل عن الإنسان الذي زوَّده الله بكل الأسلحة المعنوية التي تعينه على السيطرة على الشهوات المنحرفة والرغبات الشاذَّة التي قد تدفع بالمرء إذا انساق معها إلى المهاوي السحيقة في نار جهنم، وهو عبارة عن الإنسان الذي قرأ القران ورتَّل اياته، إلاَّ أن ذلك الترتيل لم يتجاوز اللسان والأذن ليصل إلى القلب، وإلى حيث مجمع الشهوات ليضبطها في حركات تنسجم مع المسيرة الصحيحة من البشر في هذه الدنيا التي أراد لها رب العزَّة أن تكون الطريق الأقرب للوصول إلى حيث رحمة الله وعطاؤه وبركاته المعدَّة للإنسان هناك في عالم الاخرة.
لقد قضى ابن سعد هذا ليلته وهو يفكر، تارة يغريه المنصب المعروض عليه إن هو شارك في قتل الحسين عليه السلام وكان ذلك المنصب عبارة عن " ملك الري "، وتارة ينتفض الجانب المشرق من نفسه ليحذّره ويخوّفه من ذلك الفعل الشنيع الذي يريد الدخول والمشاركة فيه، وبهذه الطريقة من الصراع الداخلي النفسي كانت تمر الدقائق والساعات
61
57
مواقف من كربلاء
على ابن سعد طويلة ويحسب كل دقيقة منها دهراً، لأنه يعلم من هو الحسين عليه السلام وماذا يمثل في ميزان الإسلام، ويعلم من هو يزيد وما هي قيمته أيضاً، إلاَّ أنها النفس الأمَّارة بالسوء التي تجر الإنسان إلى ما لا تحمد عقباه، فلم تتركه لأنها وجدت فيه نقطة ضعف كبيرة تشكل دافعاً قوياً تؤدي به إلى الانحراف إلى الحد الذي يقدم فيه على قتل ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وابن الزهراء عليها السلام وابن أمير المؤمنين عليه السلام، وقد عبَّر عما كان يعتمل في نفسه من صراع بأبيات من الشعر مطلعها:
أأترك ملك الري والري بغيتي أم أرجع مأثوماً بقتل حسين
لكن حب الدنيا قد طغى على قلبه وبصيرته فأعماه فلم يعد يهتدي إلى الحق سبيلاً.
بل قد وصل به الأمر في السفالة والدناءة أنه كان أول من أطلق سهماً باتجاه معسكر الإمام الحسين عليه السلام وهو يردد (إشهدوا لي عند الأمير بأني أول من رمى) وابتدأ القتال مع أصحاب الامام عليه السلام، وكان كل ذلك تقرباً إلى بني أمية الظالمين سعياً وراء منصب دنيوي يتمتع بنعيمه ساعة ويشقى بعذابه خالداً في النار التي سجرها الجبار لغضبه على أمثال هؤلاء الساقطين اللاهثين وراء الدنيا ولو على حساب دماء المجاهدين والمؤمنين الصابرين الذين يتحملون كل أنواع البلاء فداءً لدين الله ورسالته.
وهكذا قاد عمر بن سعد ذلك الجيش لقتل الامام عليه السلام وتنفيذ مارب الأمويين وعلى رأسهم يزيد الفاسق الفاجر واكتسب العار الأبدي والذل الذي لا ذلَّ بعده بسبب جريمته النكراء تلك، ولكن هل حصل ابن سعد على دنياه التي كان يبحث عنها وسعى اليها عبر تلك الفعلة
62
58
مواقف من كربلاء
الشنيعة؟ إن التاريخ يخبرنا بأنه لم يصل ولم يحصل على مبتغاه في أن يصبح أميراً على الري، ولم يحقق الحلم الذي أرَّق ليله وأقلق راحته، وخسر بذلك الدنيا بعد أن كان قد خسر الاخرة أيضاً.
وهذا المصير الأسود هو المصير المحتوم لكل إنسان يرضى لنفسه أن يكون مطية بأيدي الظالمين الذين يستغلون خيرات البلاد والعباد لشراء الضمائر وتجييرها لمصالحهم الخاصة، ثم بعد أن يحققوا أغراضهم منها ويستنفذوا طاقاتهم يرمونهم جانباً من دون أي اهتمام بهم على الاطلاق، والتاريخ مليء بمثل هذه الشواهد المخزية من البشر وقد حفظهم لنا ليكونوا عبرةً ودرساً وعظةً يتعظ بها الناس خاصة منهم المؤمنون الذين يقدرون على التمييز بين الأمور.
من هنا، فنحن مدعوون ومطالبون في كل يوم وكل ساعة أن نكون من الذين يلتفتون إلى أنفسهم تهذيباً وتربية وإصلاحاً وتزكية ومحاسبة دقيقة حتى لا نتعرض لمثل تلك البلاءات الصعبة التي يحتاج الانسان في مواجهتها إلى القوة الايمانية المقتدرة، وتهذيب النفس خير معين للمؤمن في هذا المجال ليتقوى ويقتدر ويثبت في مواجهة تلك الاغراءات الشيطانية التي يدفع الانسان إذا انساق مع مطالبها حياته رخيصة في سبيلها ويخسر أيضاً ما هو أهم وأعظم " رحمة الله ولطفه وعنايته التي يحتاجها للوصول إلى أن يكون من سكان الجنان الواسعة ".
ولا يبعد هذا الموقف الجبان والمتخاذل من عمر بن سعد عن مواقف العملاء الذين باعوا أنفسهم في هذا الزمن للعدو الصهيوني الغاشم حيث تصوروا أو توهموا أن هذا العدو الذي احتل أرضنا سوف
63
59
مواقف من كربلاء
يحميهم من القتل وسوف يغدق عليهم الهدايا والجوائز لقاء عمالتهم له ورضوخهم لأمره، لكننا رأينا كيف أن هؤلاء الذين باعوا دينهم وأهلهم للعدو قد خسروا كل شيء، إما قتلاً على يد أبطال المقاومة الإسلامية، وإما سجناً لينالوا جزءاً من العقاب الذي يستحقونه لقاء عمالتهم وعملهم ضد أبناء شعبهم، وهذه النتيجة المخزية في الدنيا والاخرة كانت نتيجة خيانة ابن سعد ايضاً حيث لم يحصل على مبتغاه وقتل شرَّ قتلة على أيدي الذين ثاروا لمقتل الامام الحسين عليه السلام في كربلاء.
64
60
مواقف من كربلاء
موقف أهل الكوفة
" إن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل يا ابن رسول الله فقد اخضرَّ الجناب وأينعت الثمار وأورقت الأشجار أقدِم إذا شئت فإنما تُقدم على جندٍ لك مجنَّدة ".
هذه الرسالة كانت اخر ما وصل إلى الإمام الحسين عليه السلام من أهل الكوفة تعبّر عن مدى استعدادهم لنصرة الحسين عليه السلام والقتال تحت رايته ضد يزيد بن معاوية الذي تسلَّم السلطة والخلافة، وقد بلغ مجموع الرسائل الواصلة إليه منهم إلى اثني عشر ألف رسالة كما تذكر أغلب المصادر الإسلامية ومنها ما كان يعبّر عن رأي شخص المرسل، ومنها ما يعبّر عن رأي جماعة، مما يعطي انطباعاً كافياً بأن الرأي العام في الكوفة كان يميل بنسبة كبيرة لصالح الإمام عليه السلام، وأن هناك حالة من الانفصال والانقطاع بين أهل الكوفة وبين النعمان بن بشير والي الأمويين عليها.
إلاَّ أن الإمام عليه السلام لم يكن مطمئناً كلياً لذلك، وأراد أن يحصل على اليقين من نصرة الكوفيين فكتب رسالة جوابية إليهم انتدب لحملها ابن عمه وثقته " مسلم بن عقيل " لكي يطَّلع على الأوضاع عن قرب، ومما
65
61
مواقف من كربلاء
جاء في رسالة الحسين عليه السلام:
" ... وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب أنه قد اجتمع رأي ملاءكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليَّ به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله فلعمري ما الإمام إلاَّ العامل بالكتاب الاخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله والسلام ".
إن التجربتين السابقتين مع أمير المؤمنين عليه السلام والإمام الحسنعليه السلام لا تشجعان على الاطمئنان للتجاوب مع رغبة أهل الكوفة إذ لعلَّ الأمر ناتج عن حالة انفعالية أو عن ولاء قابل للتزلزل أو الرضوخ كما حصل في المرتين السابقتين، ولهذا انتخب الإمام عليه السلام لتلك المهمة الدقيقة في نتائجها شخصاً من خواصّه وثقاته يليق بحمل تلك المسؤولية الكبيرة وعالماً بخطورة المهمة الملقاة على عاتقه ودقّتها، فمضى مسلم رضوان الله تعالى عليه بجواب الإمام عليه السلام إلى أن وصل إلى الكوفة، ونزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي، ليبدأ من هناك بحملة تقصّي الأوضاع والاطّلاع على الأمور عن كثب.
وما أن علم أهل الكوفة بقدوم مسلم عليهم بدأوا يتوافدون عليه مظهرين الطاعة والانقياد والولاء للإمام الحسين عليه السلام فواحد يقول... " والله لأجيبنَّكم إذا دعوتم ولأقاتلنَّ معكم عدوّكم والاخرين بسيفي دونكم حتى ألقى الله لا أريد بذلك إلاَّ ما عند الله " واخر يتكلَّم نفس المضمون وهكذا إلى أن بلغ مجموع المؤيدين والمبايعين عشرات الالاف على ما تشير المصادر التاريخية، مما ولَّد في نفس مسلم رضوان الله تعالى عليه الانطباع بأن أهل الكوفة حاضرون للنصرة والجهاد بين يدي الإمام
66
62
مواقف من كربلاء
الحسين عليه السلام وهذا ما دفع بمسلم إلى أن يرسل البشارة إلى الإمامعليه السلام قائلاً له في الرسالة التي بعثها إليه: " الرائد لا يكذّب أهله وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي ".
إلى هذا الحد، كانت الأمور تسير بانتظام ووفق التصوُّر الذي حدَّده الإمام عليه السلام كشرط لخروجه إلى الكوفة، إلاَّ أن التطورات ما بين إرسال مسلم رسالته إلى الإمام عليه السلام وبين دخول عبيد الله بن زياد لعنه الله إلى الكوفة قلبت الأوضاع رأساً على عقب، خاصة وأن دخوله كان بطريقة ماكرة جداً جعلت الناس يتوهَّمون أنه الحسين عليه السلام مما حدا بهم إلى استقباله الاستقبال الحار بقولهم: " مرحباً يا ابن رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم" وكان أول عمل قام به ابن زياد أنه جمع الناس في المسجد الجامع في الكوفة وخطب فيهم متوعداً ومهدداً بقوله: " أيما عريف وجد عنده أحد من بغية أمير المؤمنين ولم يرفعه إلينا صُلِب على باب داره ".
هذه التطورات جعلت مسلماً ينتقل إلى مكان اخر غير المكان الذي عُرف أنه كان ضيفاً على أهله، حتى يعيد تنظيم الأمور وضبطها تمهيداً لمجيء الإمام الحسين عليه السلام وصار الأتباع المخلصون يتّصلون به سراً لتهيئة القوة الكافية للتخلُّص من ابن زياد، وفي هذه الأثناء استطاع ابن زياد وعبر جواسيسه معرفة الدار التي يختبىء مسلم فيها وهي دار " هاني بن عروة " فأرسل في طلبه ودار بينهما حوار كانت نتيجته أن حبس ابن زياد " هاني " عنده، مما دفع كل ذلك بمسلم رضوان الله تعالى عليه أن ينظّم صفوف أنصاره الذين بلغوا أربعة الاف ليهاجم قصر الإمارة
67
63
مواقف من كربلاء
وفعلاً تمَّت محاصرة ذلك المكان الذي تمترس فيه ابن زياد وكاد أن يتحقق الهدف، لولا الغدر والخيانة والنفاق الذي جُبِلَ عليه أهلها التي أنقصت ذلك العدد الكبير إلى ثلاثمائة فقط، وهذا ما دفع كما تجمع المصادر بالرجل أن يأخذ ابنه والزوجة تأخذ زوجها والأم ولدها، كل ذلك خوفاً من التهديدات التي أطلقها ابن زياد وجلاوزته، وبذلك تفرَّقت الناس عن مسلم رضوان الله تعالى عليه، فبقي معه ثلاثون رجلاً صلَّى فيهم في مسجد الكوفة وبعد الصلاة لم يبق معه إلاَّ ثلاثة فقط، ثم وصل الأمر إلى أن صار وحيداً فريداً لا يجد من يدلّه على الطريق الذي يتوجّب عليه سلوكه، وهذه التطورات كلها أتاحت لابن زياد الفرصة الثمينة للبحث عن مسلم واعتقاله ثم قتله رضوان الله تعالى عليه بعد أن حاول مرات ومرات أن ينهض بأولئك الغادرين المنافقين الذين نكثوا البيعة وخانوا العهد وقد عبَّر مسلم عن المرارة التي كان يعتصرها بقوله: " اللهم احكم بيننا وبين قوم غرُّونا وخذلونا وكذَّبون "، وقد صدق الشاعر الفرزدق الذي التقى الإمام الحسين عليه السلام في الطريق إلى الكوفة عندما أجابه بعد أن سأله عن خبر الناس في الكوفة " قلوبهم معك، والسيوف مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء " فقال له الإمام عليه السلام: " صدقت لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكل يوم ربّنا في شأن ".
لقد صار أهل الكوفة بذلك الغدر وتلك الخيانة مثلاً مشؤوماً ينعت به كل إنسان طلب نصرة ثم تراجع وانهزم، بل وقاتل الحق وأهله كما فعل أهل الكوفة الذين خاطبهم الإمام الحسين عليه السلام يوم كربلاء بقوله:
" تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً استصرختمونا والهين فأصرخناكم
68
64
مواقف من كربلاء
موجفين ثم سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوّكم فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم... "، إلى أن قال عليه السلام " ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنَّا تتخاذلون أجل والله غدر فيكم قديم وشجت عليه أصولكم وتازرت فروعكم فكنتم أخبث ثمرة ".
إن ذلك الموقف هو الذي أعطى الفرصة لبني أمية لقتل الحسينعليه السلام وأهل بيته وأصحابه وبمشاركة منهم بل بأيديهم أيضاً عندما رضوا لأنفسهم عار الدنيا وذل الاخرة بنفاقهم وجبنهم وخضوعهم للظلم والظالمين وحبّهم للحياة وتفضيلها على القتل في سبيل الله بين يدي سبط رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لذلك، فإن موقف أهل الكوفة ينبغي أن يحذر من الوقوع في مثله المجاهدون المؤمنون لأنه موقف المتخاذلين الجبناء الذين لن يحصلوا على ما يأملون بنفاقهم وجبنهم لا في الدنيا ولا في الاخرة تماماً كأهل الكوفة الذين غدروا بالحسين عليه السلام فاستحقوا غضب الله بسبب مرضاة المخلوق حفاظاً على دنيا لم تدم لهم بل لم يحصلوا عليها كعمر بن سعد لعنه الله وشمر بن ذي الجوشن وغيرهما.
في مقابل هذا الموقف المتخاذل لأهل الكوفة نجد موقفاً مشرقاً ومشرفاً للشعب المسلم في لبنان وبالخصوص في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت الذين أعطوا المقاومة كل ما تريد من أجل أن تستمر في الجهاد والمقاومة. وتلاحم الشعب مع مقاومته الباسلة وصنع هذا التلاحم الرائع ذلك الانتصار المدوي والرائع والإلهي الذي كان مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾، و﴿ إِنَّ
69
65
مواقف من كربلاء
اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾، وهكذا صار الشعب اللبناني ومقاومته مضرب المثل في الوحدة والتلاحم، وصار قدوة صالحة لكل الشعوب العربية والإسلامية الطامحة إلى الخلاص من نير العدو الصهيوني الغاشم كما تحررنا نحن وحررنا أرضنا أيضاً.
70
66
مواقف من كربلاء
موقف أهل البيت عليهم السلام ليلة الحادي عشر
ليلة الفجيعة والمصيبة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولأمير المؤمنين عليه السلام وللزهراء والإمام الحسن عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام، هي ليلة الحزن والدموع والزفرات والاهات لمحبي
الحسين عليه السلام والمستشهدين معه من الأهل والأصحاب.
وهي الليلة الأولى للحسين عليه السلام وهو مطروح على أرض الكرب والبلاء ممزوج الدم برمال تلك الصحراء ومقطوع الرأس من الجسد ومسلوب العمامة والرداء.
وهي ليلة الفرح الأموي والشماتة الأموية بأخذ الثأر من الإسلام وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهذا الحسينعليه السلام قتيلاً، وزينب عليها السلام والنساء أسيرات بيد ذلك الجيش الظالم الذي
اشترى سخط الخالق برضا المخلوق عنه فسفك دماء الأولياء والصالحين.
كيف كانت تلك الليلة، بل كيف كان وقعها على أهل البيت عليهم السلام وعلى النساء خصوصاً؟ فأهل البيت عليه السلام لهم عند المسلمين وقبل ذلك عند الله عزَّ وجلّ المكانة المرموقة لإيمانهم وسبقهم في
الجهاد وتحمّل أعباء الرسالة، ولذا كانوا موضع الاحترام والتقدير عند عموم طبقات
71
67
مواقف من كربلاء
أفراد الأمة، فلم يُعهد عنهم ما يخالف الصورة المشرقة الوضَّاءة التي أكسبتهم تلك الموقعية المميَّزة عند الله والناس.
لذلك يقول صاحب كتاب " مقتل الحسين عليه السلام ": يا لها من ليلة مرَّت على بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك العز الشامخ الذي لم يفارقهن منذ أوجد الله كيانهن، فلقد كنَّ بالأمس في
سرادق العظمة وأخبية الجلالة تشعّ نهارها بشمس النبوة ويضيء ليلها بكواكب الخلافة ومصابيح أنوار القداسة، وبقين في هذه الليلة في حلك دامس من فَقد تلك الأنوار الساطعة بين رحل منتهب وخباء
محترق وفرق سائد وحماة صرعى ولا محامٍ لهنَّ ولا كفيل لا يدرين من يدفع عنهنَّ إذا داهمهنَّ داهم ومن الذي يرد عادية المرجفين ومن يسكن فورة الفاقدات ويخفف من وجدهنَّ نعم كان بينهن صراخ
الصبية وأنين الفتيات ونشيج الوالهات، فأم طفل فطمته السهام، وشقيق مستشهد وفاقدة ولد وباكية على حميم، وإلى جنبهنَّ أشلاء مبضعة وأعضاء مقطَّعة ونحور دامية وهنَّ في فلاة من الأرض جرداء...
وعلى مطلع الأكمة جحفل الغدر تهزهم نشوة الفتح وطيش الظفر ولؤم الغلبة وعلى هذا كله لا يدرين بماذا يندلع لسان الصباح، وبماذا ترتفع عقيرة المنادي، أبالقتل أم بالأسر ولا من يدفع عنهنَّ غير الإمام
العليل عليه السلام الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضراً وهو على خطر من القتل .
هذه هي الحالة التي كان عليها البقية من أهل البيت عليهم السلام في تلك الليلة، لكن من موقع التسليم بقضاء الله عزَّ وجلَّ والرضا بحكمه تعالى الذي أجراه على عباده، لقد كان موقفهم ومن موقع الهزيمة
والانكسار أمام جحافل الأمويين في القمة من الصبر والثبات فلم
72
68
مواقف من كربلاء
يضعفهم كل ذلك أو يأخذ من عزمهم على البقاء في طريق الحق والصدق والوفاء لله ودينه.
إن ليلة الحادي عشر هي ليلة الصبر الكبير الذي كانت عليه " العقيلة زينب عليها السلام " التي رأت وعاينت في ذلك النهار الذي انصرم مصارع الأهل من الأخوة وأبنائهم وابنيها وأبناء العم والأصحاب
المخلصين، ومع كل ذلك تتمالك نفسها بإيمان قوي وثقة كبيرة بالله ورضا بقضائه، كل ذلك حتى لاتسقطها المصيبة ويهزها الخطب الجلل، ولتبقى قوية متماسكة، فالمسألة لم تنتهِ بقتل الحسين عليه السلام
بل إنها بدأت الان، ولهذا فهي تريد أن تستجمع كل قوة الإيمان والصبر والتوكل ولهذا توجَّهت إلى الله عزَّ وجلَّ بصلاتها ونوافلها من جلوس كما عبَّر الإمام السجَّاد عليه السلام عن الحالة الهادئة الصابرة
المطمئنة الكاشفة عن القلب الكبير الذي يسع كل تلك المصائب والرزايا.
من هنا، فإن موقف شيعة أهل البيت عليهم السلام ينبغي أن يكون حالهم ليلة الحادي عشر على مثل حال أهل البيت عليهم السلام فيها من التأسي والاقتداء والمواساة بذلك المصاب ما يثلج قلب النبي صلى الله
عليه وآله وسلم والزهراء المفجوعة بقتل الحسين عليه السلام ومصائب ابنتها زينب وفي هذا المضمون وردت روايات كثيرة تؤكد على محبي أهل البيت عليهم السلام أن يعيشوا تلك الليلة بذلك النحو المعبّر
عن الانقياد والطاعة لأئمتنا الأطهار عليهم السلام ولما في ذلك من مظاهر الوفاء والولاء والحب.
من تلك الروايات ما ورد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام:
" من زار الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، حتى يظل عنده باكياً لقي الله يوم القيامة بثواب ألفي حجة وألفي ألف غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة
73
69
مواقف من كربلاء
الراشدين عليهم السلام "، وأصرح من ذلك الحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام:
" من زار الحسين عليه السلام يوم عاشوراء وبات عنده كان كمن استُشهد بين يديه ".
إن المؤمن بخط أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام عليه أن يكون في تلك الأيام والليالي من عاشوراء، وخصوصاً في ليلة الحادي عشر، ليلة الفجيعة الكبرى والرزية العظمى التي أبكت ملائكة
الأرض والسماء على الحالة التي كان عليها أئمتنا عليهم السلام أثناء عاشوراء.
إن على الموالي لخط أهل البيت والمتّبع طريقتهم في الحياة أن يعيش تلك الليلة وكأنه صاحب المصاب أو فقد عزيزاً ومحباً لديه، بل عليه أن يعيش الإحساسات المرهفة المعبّرة عن الحزن بأوضح المعاني
والمظاهر، لأن الحسين عليه السلام هو شهيد الإسلام والعقيدة، وهي التي ينبغي أن يحافظ الانسان عليها كحفاظه على أولاده وماله، إن لم يكن أكثر وأهم في الحفظ والصون لأن دينه هو المنقذ له من التهاوي
إلى النار وبئس القرار، ولذا شجَّع أهل البيت عليهم السلام أتباعهم ومواليهم بالحديث المعروف " أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرن ".
وحتى يستشعر المؤمن حقاً ويعيش الإحساس بالمصيبة ليكون مواسياً حقيقياً وواقعياً، عليه أن يُكثر من الحديث المعروف " يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيم " ليشعر من خلال ذلك بالانتماء الفعلي إلى تلك
المدرسة الحسينية التي تجمع كل الصفات الإسلامية والأخلاق النبوية والشجاعة العلوية.
وبذلك يكون المؤمن قد أدَّى قسطاً مما يجب عليه من الشكر لله والمواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللزهراء عليها السلام وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمة
74
70
مواقف من كربلاء
الأطهار عليهم السلام، ومن خلال هذا الجو يمكن للمؤمن أن يعيش التذكر الدائم للحق المضيع ويكون في موقع الجهاد ضد الباطل الذي ثار من أجله الحسين عليه السلام وكانت كربلاء.
لذلك كله، علينا أن نعيش ليلة الحادي عشر من المحرَّم، وكأن كربلاء قد سبقتها والأجساد ما زالت مطروحة على الرمال، لنتمكن من أن نعيش جزءاً بسيطاً من الحزن والألم والحسرة التي سيطرت على أهل
البيت عليهم السلام في تلك الليلة التي مرَّت طويلة باهاتها وزفراتها وعويل الأطفال وصراخهم واهات النساء الثكلى اللواتي فقدن الأبناء والأزواج والأخوة.
ولا شك أن منظر أهل البيت عليهم السلام في تلك الليلة هو أمثولة ونموذج لمواقف عوائل الشهداء من أبناء المقاومة الاسلامية الباسلة حيث كنا نرى التصبّر والاستعانة بالله على المصاب وعلى الاستشهاد
تأسياً بزينب عليها السلام وزين العابدين عليه السلام، والكل يحمد الله ويشكره على أن منَّ عليهم بشهادة الأبناء والأزواج فداءً لدين الله، ولسان حال كل عائلة شهيد هو لسان حال زينب عليها السلام عندما
وضعت يديها المباركتين تحت جسد الحسين عليه السلام وهي تقول: " اللهم تقبَّل منَّا هذا القربان ".
ومن هنا نعتقد أن النصر الإلهي للمقاومة هو ثمرة هذا الصبر والتقرّب إلى الله أيضاً كما كان ثمرة مباركة لدماء الشهداء وعرق المجاهدين وكل العاملين في مجال قتال العدو الصهيوني الغادر.
75
71