الهداية الثالثة


الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2018-02

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة


 بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الترجمة
" إن الأيام العظيمة لأيّ بلدٍ وأيّ شعبٍ هي تلك الأيام التي تحقّقت فيها حادثة إلهية بواسطة الناس وعلى أيديهم. ﴿وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ الله﴾،.. أيام الله هي هذه الأيام العظيمة الصانعة للتاريخ. 

وعلى هذا، فإنّ الأعوام الثمانية من الدفاع المقدس هي من أيام الله، بل إنّنا لو نظرنا إلى كل يومٍ من أيامها، لوجدناه، بمعنى من المعاني، يوماً من أيام الله. يجب علينا ألّا نسمح بأن تُرمى هذه الأحداث في مطاوي النسيان. إنّ القرآن هو الذي يعلّمنا هذه الذكريات ويأمرنا بالتذكر: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ﴾، ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى﴾، ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾، ويطالبنا بتذكرها وتكرارها...انظروا إلى قصة النبي موسى، وقصة النبي إبراهيم، وسائر القصص، كم قد تكرّرت في القرآن الكريم؟!..". ثم يكمل الإمام الخامنئي حديثه، في لقائه القائمين على قوافل النور (6-3-2017)، حول الثروات الثقافية لحرب الدفاع المقدس: "إذا أردنا إحصاء ثرواتنا الثقافية، لاستخرجنا قائمة طويلة موجودة لدينا وتمنحنا القوة والطاقة، ولو أحييناها، أو أخرجنا المنسيّ منها من دائرة النسيان وأنزلناه إلى الساحة لتحقّقت إنجازات كبرى، إنّ روح الجهاد وتقبّل الجهاد والإيمان به، ثروة ثقافية، وهذه موجودة في بلدنا ولا توجد في كثيرٍ من البلدان، الإيمان بالصمود في وجه المتسلّط قيمةٌ ثقافية أيضاَ، الاعتقاد بأننا لو صمدنا وثبتنا، فسوف ننتصر على العدو لا محالة، هو قيمة وثروة ثقافية..".

إنّ الاستفادة من التجارب وتطويرها ونقلها هاجسُ القادة وأصحاب القرار، خاصة عند تظاهر التهديدات وتضاؤل الفرص ومحدودية الإمكانات. 
 
 
 
 
 
 
 
7

1

المقدمة

 يعمد القادة في المعركة - مثل محمد جعفر أسدي - إلى استخدام الإمكانات وتفعيل الطاقات والابتكار في الوسائل والخطط. لقد حدثَ في الجبهات كثيرٌ من الابتكارات والتحولات، إلا أن التحوّل الأعظم كان على مستوى القلوب والنفوس، وهنا مكمن صمود الثورة بالرغم من وجود الإخفاقات العسكرية. فقد كانت الحسابات المعنوية والإيمان بالغيب والثقة بوعد الله وقهر الأنا،.. وسائر القيم التي عدّها القائد دام ظله في متن ثقافة الجبهة وثروات البلاد الثقافية، وكذلك وجود قائد رباني مثل الإمام قدس سره حيث كان يدفع بهذه القيم في قلوب الجماهير ويلقّنها دروسَ "إننا قادرون" و"الثقة بوعد الله" و"الله حرّرَ خرمشهر"..، ويحثها على العمل والإبداع ، كلّ ذلك من العوامل الحاسمة في مختلف الميادين، وكان النصر الكبير "بقاء الثورة" وديمومة مكتسباته، في قيمها وأدبياتها، وفي ابتكاراتها المعنوية والمادية.. وما دعوة الإمام الخامنئي لإدراج كتب ذكريات الجبهة في مناهج التعليم وعرضها في قالب الفن وترجمتها إلى اللغات الأخرى إلا أحد وجوه إشعاعها وتجذّرها.. حول تجربته في الثورة والحرب المفروضة، يروي القائد أسدي مجموعة رائعة من ذكرياته - مع حسرةٍ لعدم تدوين مذكراته اليومية خلال الحرب نفسها- مساهمًا في ترويج هذه الثقافة ونقل التجربة إلى ساحة أخرى، ساحة الحرب الثقافية الصامتة، لتكون رصيدا مهمّا للشباب ضباط الحرب الناعمة والحرب الصلبة على السواء ..


يفخر مركز المعارف للترجمة أن يساهم في نقل هذا التراث الثقافي، ويضيف إلى ساحة الثقافة والأدب هذه المجموعة التي دوّنت بأسلوب قصصي جاذب، الكتاب السادس عشر من سلسلة "سادة القافلة". ويشكر كل من ساهم في نقله إلى اللغة العربية، لا سيما المترجم: الحاج موسى قصير، وفريق التحرير: نهى عبدالله وفاطمة منصور. والشكر موصول لدار المعارف الإسلامية الثقافية التي نشرت الكتاب.
 
 
 
 
 
 
8

2

المقدمة

 مركز المعارف للترجمة


المقدمة
كانت المقابلةُ المصوّرة الشرارةَ الأولى لتدوين هذا الكتاب، كاميرا وقاعدة ومصوّر، وإصرار المحاور أو المصوّر على السكوت في غرفة المقابلة. القائد "محمد جعفر الأسدي" من قادة قوات حرس الثورة الإسلامية في الحرب المفروضة، الذين لا يتحدثون أمام الكاميرا إلا بشكل رسمي وعام، ولا يترك مجالًا للخوض بتفاصيل الأحداث، وكأنّ هذه المقابلات قد سُجّلت حتى يحين الوقت المناسب لوجود من يدوّنها، ومن ثم إنتاجها وثائقيًّا. 

عندما اقتُرح عليّ تدوين كتاب ذكريات القائد الأسدي، كان المرجع الوحيد الذي يمكنني الاستفادة منه هو الأشرطة المصوّرة للمقابلة، لكنّ الأهم منها، كان القائد نفسه. وفضلًا عن محبّتي القديمة له منذ زمن الحرب المفروضة، فقد أُتيحت لي الفرصة مؤخّرًا - بدافع من الزمالة الكبيرة بيننا - لأسأله مباشرة عن التفاصيل التي لم تُذكر في تلك الأشرطة، في ظلّ علاقتنا الوطيدة والجوّ المفعم بالحميميّة. كان يبدو لي دومًا أنه يحمل في ثنايا قصصه أسرارًا لم يبُح بها، وقد يبوح لي بعيدًا عن الاحتياط الأمنيّ لنشر الذكريات بعد ثلاثة عقود.

ونتيجةً للحوارات المصوّرة والمقابلات المسجّلة صوتيًا، بدا لي أن أُقسّم المدونات في دفترين، وأودع الوثائق والصور في دفتر ثالث، 
 
 
 
 
 
9

3

المقدمة

 ليكون الدفتر الأوّل استعراضًا منهجيًّا للذكريات منذ الطفولة وحتى نهاية الحرب المفروضة، والدفتر الثاني مختصًّا بالذكريات القصيرة والمؤثّرة من دون الالتزام بالتسلسل الزمني. لكنّ اقتراحًا صائبًا لأصدقائي الأعزاء في مكتب دراسات وأدب المقاومة في مركز المحافظة التابع للدائرة الفنيّة (حوزة هنري) دفعني إلى دمج الذكريات وضمّها مع تسلسل أحداث القصة، ما جعل الكتاب أكثر تنظيمًا - خلافًا لتوقّعي المبدئي - وصدر كما هو الآن بين يديّ القرّاء الأعزاء.


وقد أدّى الشيخ "علي الشيرازي" دورًا كبيرًا في إخراج هذا الكتاب، إن لجهة التشجيع والتحضير والمتابعة، أو لجهة الإرشادات العلمية التي نصح بها "بابك الطيبي"، وليس في جعبتي ما أقدّمه لهما هدية سوى فاكهة الشكر الجزيل.

والآن مع الأسطر الأخيرة، أجيل فكري في الأيام المشعّة التي نشرت شعاع الرجولة والمقاومة والاستقامة، وأتطلّع إلى النظرات السماوية للشهداء العظام، الذين تزيّن هذا الكتاب بأسمائهم وذكرهم الثري الخالد، هؤلاء حملة الفجر والنور والضياء، الذين نسعى دومًا للثناء على عظمتهم والسير على هديهم.

سجادي منش 
آب 2012
 
 
 
 
 
10

4

العطر الدفين

 العطر الدفين


يتأثر كلّ إنسان في طفولته بشخص يترك أثرًا هامًا في بناء شخصيته، وعندما يكبر ويتأمّل في نفسه، يجد أنّ كثيرًا من أفكاره، وحتى الحوادث التي تحصل معه في حياته، لها جذور ممتدّة من شخصية ذاك البطل الذي تأثّر به.

كانت جدتي بطلتي منذ طفولتي، منذ أشهري الأولى، إنها البطل الذي أحرز بطولته في قلبي. من خلال رائحة عناقها الحنون، التي تشبه رائحة أي إنسان، خاصة به، رائحة جسمه وملابسه، أو عرقه أو العطور التي يستعملها. ما إن تحتضنني، يلتقط أنفي رائحتها ويحفظها دماغي لتستقرّ في ذاكرتي، فتطبق عيناي وأغفو.

مُذ بلغتُ الثالثة من العمر، كنت أشعر أنّ جدتي لها مكانة خاصة في محلة "ده كره"1 في شيراز، مسقط رأسي. وكأنّي ما زلتُ أرى من خلف الستارة البيضاء ملامح المرضى يحملهم أقرباؤهم على ظهورهم، ليأتوا بهم إليها. 

- حاجة "ملا فضل الله"، أدركينا وإلا سنفقده، آجركِ الله.

- لقد أخذنا طفلنا هذا إلى أماكن عدة، لكنّهم قالوا إنّ أنفاس
 
 

1- محلة "ده كره": تغيّر اسمها بعد انتصار الثورة الإسلامية ليصبح "مهدي آباد" (معمورة المهدي)، تقع وسط بساتين غرب شيراز، وتبعد عن الحرم المطهر لشاه تشيراغ (ابن الإمام الكاظم عليه السلام) مسافة خمسة كيلومترات.
 
 
 
 
 
11

5

العطر الدفين

 الحاجة ملا فضل الله فيها بركة، وعلى يدها الشفاء. فليس لنا أمل بعد الله إلا بكِ.


لعلّ كثيرين، ومنهم "فضل الله" عمي الأكبر بين أبناء جدتي الخمسة، لم يروا ولم يدركوا أن لقب "الملا" استخدم لمناداة جدتي لأنها متعلمة. 

كانت تضع يدها على المريض، وتتمتم ببعض الكلمات، ثم تدسّ يدها في صرّة أدويتها العشبية المحلية لتستخرج بعض الأعشاب الجافة والأدوية ثم تسلّمها لذوي المريض، وتوصي بوصفات لازمة. كان التلقين والاعتقاد والإيمان والنفَس المبارك أو أي شيء آخر، هي الأمور التي تمنح المريض الاطمئنان والراحة، فتظهر على شفتيه ابتسامة رضى.

كانت غرفتها مليئة دومًا بعدة أوانٍ نحاسية مرهونة بدل القروش المعدودة التي كانت تقرضها للناس، لذلك كانت تقبل بعض المال الذي يدفعه المرضى.

دعك من هذا، لعلّ جسمها القوي زاد من ثقتي بها وتأثيرها عليّ.

في أول ليلة جمعة من كل شهر، يسير أهالي المحلة طبق عاداتهم مشيًا على الأقدام مسافة خمسة كيلومترات للوصول إلى حرم "شاه تشيراغ"، ليبيتوا فيه حتى صباح يوم الجمعة. 

وكانت جدتي تحملني معها طوال الطريق وتضمّني إليها. 

أحيانًا، كنت أتململ لتضعني على كتفيها وتمسك يديها بيديّ. بينما أستمتع وأنا أجول بنظري من الأعلى، وأنفها كمؤشر لتوجيه نظري حيث تنظر هي. أحرك رأسي يمنة ويسرة بافتخار، بينما أبي وأمي وأعمامي يقولون لها:
 
 
 
 
 
 
12

6

العطر الدفين

 - يا حاجة دعيه لنا، لقد أتعبكِ.


- كلا يا أعزائي، ولدي هذا خفيف لا يزن أوقيتين، إنّني مرتاحة!

حينها، لم يكن الضريح بالعظمة التي عليها الآن، كان هناك المرقد والمقبرة حوله، وتعلو بعض القبور تماثيل أُسود، أظنّ أنّني كنتُ أحب الذهاب إلى المرقد لاعتلائها فقط.

كنت أرغب باعتلاء أحد تلك الأسود، فأشير إليه بإصبعي، لتُركبني جدتي عليه. وكنت أوكزه بعصا، وأتخيّله يسير بي، يسير ويسير حتى يرفرف شعري الطويل. بل كنت أخال ذلك الأسد يحلّق أحيانًا فأصرخ، وعندما يشعر بخوفي ينزل سريعًا، ويدور حول القبور ثم يعود إلى مكانه، فأشعر أني أصبحت أكبر!

لم أكن أدرك شيئًا مما حُفر على القبور، وكأني كنت أجدُ علاقة غريبة وخفية بين تلك القبور وامتطائي الأسد، والكلمات العربية التي يهمس بها الزائرون بالتشديد على حرفي "السين" و"الحاء"، والنقر بأصابعهم على القبور.

حينما انفجر مستودع الذخائر في "معسكر- 4" شيراز، كان الصوت رهيبًا، بثّ الرعب في قلوب الناس، فخافوا البقاء في بيوتهم، كأنّ بلاءً سماويًا قد حلّ بهم، وخشوا أن يتكرّر مرة أخرى.

فقرّر أهالي محلّة "مهدي آباد"، على الرغم من بعدهم عن مكان الانفجار مسافةً لا تقلّ عن كيلومترين، أن يلجأوا إلى مرقد "محمد" من سلالة الأئمة عليهم السلام في محلة "قصر دشت". 

وأخذوا معهم حاجياتهم من وسائل المبيت والأكل، وباتوا هناك ثلاث ليالٍ، إلى أن اطمأنوا أنّ كل شيء عاد إلى مجراه، ويمكنهم العودة إلى بيوتهم ومعيشتهم. 

أما ذكرياتي عن تلك الأيام الثلاثة، فهي صورة جدتي وأبي وأمي
 
 
 
 
 
13

7

العطر الدفين

 يلتصقون بالمرقد، ويتمتمون بكلمات، ويتضرّعون ويبكون، في حين كانت خطوط النور تتسلّل من السقف على الضريح، وتنعكس بريقًا على دموعهم...


سُمّي ذلك العام بعام الذخائر، حينها لم يكن الناس يهتمون بالتاريخ الرسمي، فقد كانوا يُطلقون على الأعوام أسماء أبرز الحوادث الجارية فيها، فلكل عام اسم، عام الوباء، عام الزلزلة، عام السيل، وهكذا، وقد تمرّ أعوام من دون اسم، فتنسب لما قبلها أو ما بعدها، وذلك لقولهم: عامان قبل عام الوباء، ثلاثة أعوام بعد عام الجفاف وهكذا، لذلك على سبيل المثال، لا يقولون ولد "محمد جعفر" عام 1948، بل ولد قبل عامين من عام الذخيرة!

على الرغم من صغر سنّي، أحسستُ أن أسرتي، خاصة جدتي، تحرص عليّ أكثر من المألوف، من دون أن أدرك السبب. عرفتُ فيما بعد أنّ لي ثلاثة إخوة هم: "أمان الله"، "محمد جعفر" و"محمد كاظم" وُلدوا قبلي، أصابهم مرض مجهول في تلك السنوات، وماتوا قبل أن يُتمّوا عامهم الثالث. 

عندما ولدتُ أنا، تولّت جدتي أمري منذ الولادة، وتعهّدتني بالطب التقليدي لتُبعد عني الأمراض. خوفًا من موتي، صارت تصحبني معها أينما تذهب، وتهتم بكل التفاصيل: أين أجلس ومن يحتضنني ومن يلاعبني؟ 

ولهذا السبب نفسه، لم يسمح والدي باقتراب الشفرة والمقص من شعري، حتى بلغتُ السادسة. حتى إنّي ما زلت أتذكر يوم ذهبتُ إلى المدرسة، لم تصدّق معلمتي أنّني صبي حتى تأكدت بنفسها. وقالت لوالدتي منبّهة:
 
 
 
 
 
14

8

العطر الدفين

 عليكِ بحلاقة شعر غلام حسين، لا يصح هكذا.


منذ ذلك الحين، أصبح اسمي الرسمي "محمد جعفر" فقد حملت هوية أخي المرحوم "محمد جعفر". لكن والدتي بقيت تناديني باسمي الأصلي "غلام حسين"1. وحافظت أمي على كنيتها "أم غلام حسين" إلى أن توفّيت بعمر الثمانين. 

أجابت أمي المعلمة بقولها: "اسمحي لي أن أشذّب شعره فيما بعد، فأريد أن يكون ذلك في مشهد تحت الميزاب الذهبي"، وهذا ما حصل بعد الانتهاء من الصف الأوّل. عندما اطمأنت أسرتي من مناعتي ضدّ الأوبئة والأمراض، توجّهنا لزيارة الإمام الرضا عليه السلام في مشهد، وتحت الميزاب الذهبي للحرم، شذّبوا شعري الطويل، وقدموا بوزنه ذهبًا هدية للحرم بنيّة أن أبقى سالمًا.

وربما بسبب هذا التوسّل إلى الإمام الرضا عليه السلام رُزقنا بعد ذلك بأخت وستة إخوة، لنصبح أسرة مكوّنة من عشرة أفراد.

وبالعودة للحديث عن جدّتي التي كان لها الفضل في زواج والديّ. فقد كان لها جارة تستودع ابنتها الصغيرة عندها كلّما ذهبت إلى المدينة لمتابعة شؤون ولديها هناك. وكان لجدّتي ولدٌ يكبر تلك الفتاة بأربعة أعوام، وكانا يلعبان في طفولتهما معًا. ومنذ ذلك الحين أحب الصبيّ تلك الفتاة، وخطّطت جدتي لتزويجهما. 

لذلك عندما بلغ ابنها سن السابعة عشرة والتحق بالخدمة العسكرية، عرضت جدتي مسألة الزواج هذه على أم الفتاة التي كانت قد بلغت الثالثة عشرة. ولم يكن من والدتها إلا أن قالت: 
إنّها ابنتكم وأمرها بيدكم!
 
 

1- علمًا بأن أحد إخوتي الذي ولد بعدي سمّي غلام حسين أيضًا.
 
 
 
 
15

9

العطر الدفين

 جدتي التي أثّرت كثيرًا في حياتي وحياة أهالي مهدي آباد غادرت الدنيا عام 1955 في فصل الربيع الذي صار خريفًا عندنا جميعًا. حينها، اسودّت الدنيا في عيني. كنت حينها في السابعة من عمري، لكني عند دفنها كنتُ مهمومًا وأبكي كالكبار، بكيتُ إلى درجة أنّ الجميع قلقوا خشية أن أموت لشدة حزني عليها.


بعد موتها بأربعة أيام، لم أجد ما يبرّد حزني سوى التوجّه إلى "سبز بوشان"1 ابن الامام المدفون عند قمة جبل "زيبا"2 في جنوب شرق شيراز. كانت طريقه وعرة تمرّ بين كثير من المرتفعات والمنخفضات، وحتى الآن، وعلى الرغم من كل الإمكانات الكثيرة والمتطوّرة، ما زال الوصول إليه صعبًا.

كانوا يقصدونه على الحمير التي تحمل كل ما يحتاجون، ويقطعون بتأنٍّ ورويّة طريقًا ملتوية بعد أخرى، حتى يصلوا إليه، فيقيموا عنده عدة أيام، يقدّمون الأضاحي، ويتوسّلون إلى الله بشفاعته لقضاء حوائجهم، بينما يستغلّ الأطفال الفرصة المتاحة للّعب في الجو البارد بين الأشجار، وعند النبع.

زرته مرتين محمولًا على كتفي جدّتي، لذلك شعرت بعد فقدها أنّ حزني الشديد عليها، لن يسكّنه سوى زيارته. لكنّ مراسم العزاء المتواصلة - وهي بخلاف العرف اليوم حيث أصبحت مراسم العزاء تقتصر على الثالث والأسبوع - لم تسمح باصطحابي إلى هناك. إلا أنّ شدة بكائي وتململي زادت من مصابهم، فاضطرت أمي أن تطوي لأجلي ذلك المسار الصعب، وتأخذني إلى ذلك النبع لأزور الضريح وأجلس تحت الأشجار.
 
 

1- ذو الرداء الأخضر.
2- جميل.
 
 
 
 
 
16

10

العطر الدفين

 بعد وفاة جدتي، أتذكر أنّ والدي توقف عن العمل في البساتين، وشيئًا فشيئًا تولّى مهمة بيع الخبز في فرن أخيه الأكبر "صدر الله"، وبقي في عمله هذا مدة ستة عشر عامًا، حتى ابتُلي بأوجاع شديدة في ساقيه بسبب الوقوف المستمر، فظهرت الدوالي الغليظة فيهما، وتقاعد عن العمل.


كانت "ابتدائية مرداويج" هي المدرسة الوحيدة في منطقتنا، يقصدها أبناء الضواحي الأخرى للدراسة فيها. تابعت دراستي فيها إلى حين تأسّست مدرسة أخرى في محلة "قصر دشت"، حيث أكملتُ دراسة السنوات الأربع الأخرى، متحمّلًا عناء السير ذهابًا وإيابًا مسافة ستة كيلومترات يوميًا، لأتوقف بعدها عن الدراسة كالكثيرين من أقراني بسبب الفقر والفاقة، وضرورة مساعدة الأهل في تأمين المصاريف.

كان عمري حينها أربعة عشر عامًا، استأجرنا بيتًا في المدينة، وبحثتُ عن عمل في كلّ مكان، حتى سنحت لي فرصة لدى بائع فاكهة، قرب حرم "شاهتشيراغ".

بعد أيام من بدء عملي، زارنا أحد أقارب الوالد "قلي خان" عند الغروب، وبعد أن ارتشف آخر جرعة شاي قال لأبي:
- عزيزي "أمر الله" ألا تفكر بوظيفة رسمية لمحمد جعفر؟

وقبل أن يجيب والدي بادرته قائلًا: أي وظيفة هي؟

بدا أنّ السيد "قلي خان" انزعج من تدخّلي، ولم يعرني اهتمامًا، بل أجاب من دون اكتراث: لا أدري في الجيش أو الشرطة. ثم التفتَ إلى والدي قائلًا: يمكنني أن أزكّيه ليعمل حارسًا.

نظر إليّ أبي نظرة استفهام من دون أن ينطق بأي كلمة، ليعرف ما
 
 
 
 
 
17

11

العطر الدفين

 هو رأيي. هذه المرة جاء دوري لأتجاهل قلي خان وأنظر مباشرة إلى أبي وأسأل: "هل يقصد الزعيم الإقطاعي الفلاني؟".


أجاب قلي خان بصوت مرتفع: "ماذا؟ بل قصدته هو بذاته".

لم أحرّك عيني عن والدي، وقلتُ: "آه، لا تذكر اسمه، إنه لا يناسبني".

تبادل الجميع النظرات، كلّ منهم كان ينتظر ردّ فعل الآخر بالنظر أو الكلام. فنظرتُ إلى كل واحد منهم وقلتُ: "ما بكم؟ إني أكره الزعماء الإقطاعيين وأخاف منهم".

لاحظت أنّ والديّ أطبقا على شفاههما خجلًا من ضيفهما.

أما قلي خان الذي كان أحد الزعماء أيضًا، وله نفوذه في عائلتنا الكبيرة، فقد احمرّ وجهه، وأخذ يفرك يديه بشدّة وقال: "سلمت يداك يا "أمر الله" على هذه التربية!".

عندها، أدركتُ أني تجاوزت الحدود، وأنه لا يجدر بي البوح بكلّ ما يجول في خاطري. وتداركتُ ما حصل بقولي: "عمي قلي خان، أنت تختلف عن باقي الإقطاعيين، لم أكن أعنيك بكلامي، لكني لا أرتاح لمثل هذا العمل... أقسم إنني أحترمك".

لم ينجح هذا الكلام والاعتذار في إنقاذ الموقف أو التخفيف من حمرة وجه قلي خان الذي نهض وهو يمرّر إصبع يده اليسرى على شاربيه ليسوّيهما، وهو يردّد كلمات غير مسموعة، وبنصف وداع خرج من البيت.
 
 
 
 
 
18

12

أول بقعة حمراء

 جرى بتفاصيله وبحماسة شبابيّة لم أعتدها.


عصر ذلك اليوم، اختفت الشعارات والحماسة والتجمعات، وكأنّ كل ذلك كان حلمًا رأيته في المنام، أو كأنّي شاهدت رواية في فيلم. كان يقف عسكريّ كل عدة أمتار، قوات الدرك والشرطة والجيش اجتمعت لتمنع الطائر من أن يرفرف من دون إذن الحكومة. بات اجتماع أكثر من شخصين ممنوعًا. 

لم أطق البقاء في الشارع، وعلى الرغم من أنّ المحل مغلق، ولديّ الفرصة للسير والاطلاع، إلا أني عدتُ إلى البيت قبل الغروب.

لم أستطع النوم حتى انتصف الليل، فصورة القماش الملطّخ بالبقع الحمراء ظلّت ماثلة أمامي. أخذتُ أفكّر كيف يمكنني رؤية الناس الذين انتفضوا اليوم ثانية، ثقلت عيناي واستغرقتُ في نوم عميق حتى الصباح لأتوجه نحو المحل...

بعد أيام من تلك المواجهات، ألقى آية الله دستغيب1 خطبة قوية ضد النظام والدعم الأمريكي له، وحول مظلومية المرجعية الدينية، وتكريم شهداء المواجهات، فكانت سببًا كافيًا لاعتقاله 
هو وعدد من العلماء الثورّيين. 

ظنّ النظام أنّه باعتقالاته هذه قد قضى على التحرّكات الشعبيّة، في حين أنّ الخلايا الأوّلية لمواجهة النظام الملكي كانت تنظّم من قبل العلماء والشباب، ويلتحق بهم اليافعون من عمري 
لينتقموا لبقع الدم الحمراء تلك.
 

1- آية الله السيد عبد الحسين دستغيب، ولد في شيراز عام 1909م ، بدأ جهاده بالتزامن مع نهضة الإمام الخميني عام 1963م، وكان السبّاق في الجهاد بمحافظة فارس، بعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979م عين إمام جمعة لشيراز، كان هذا العالم المجاهد الصبور معلم أخلاق ومهذّب نفوس كما قال عنه الإمام الخميني، استشهد يوم الجمعة 10/12/1981م عند توجهه نحو الصلاة، استشهد مع ابنه وتسعة ممن كانوا معه ومن مرافقيه إثر تفجير انتحاري لجماعة المنافقين (مجاهدي خلق) الإرهابية.
 
 
 
 
 
24

13

أول بقعة حمراء

 أول بقعة حمراء


لم يدرِ صاحب المحل بماذا يجيبني، هل أحضر غدًا للعمل أم لا؟ فقبل دقائق، عند الغروب، جاء رجل ذو لحية كثيفة، وتناول تفاحة من الصندوق، ومسحها بكمّه وقضمها.

- يا سيد قاسم، دع الأمر بيننا. غدًا كل الحوانيت مغلقة، ومن غير المناسب أن تفتح وحدك.

- لماذا ستغلق؟ من أمر بذلك؟

- اقتربْ مني وأنصتْ... إنه أمر مراجع التقليد، قالوا: إنّ الكسب والعمل غدًا حرام، هكذا قالوا لنا! في أمان الله.

لم يقل لي صاحب العمل تعال غدًا أو لا تأتِ، وإن كان سيفتح المحل أو يغلقه، والحياء لا يسمح لابن خمسة عشر عامًا أن يسأل معلّمه في العمل هل سيأتي غدًا أم لا؟

لكني، من باب الاحتياط، طلبت من عامل الفرن القريب أن يعدّ لي ستة أرغفة من خبز الـ"سنگك"1. كان الشاب صديقي ويقاربني في العمر، وكنتُ بدوري أعدّ له الفاكهة التي يريدها، وهو يهيّئ لي خبزي.

تلك الليلة، سألتني والدتي: ما الأمر، لمَ كل هذا الخبز؟ لم ننذر نذرًا!

حينها، كنّا نشتري الخبز لكل وجبة، طازجًا وساخنًا. فأجبتُها:
 
 

1- نوع من الخبز طولي الحجم، يعد من القمح غير المقشور ويوضع في الفرن على الحصى لينضج من حرارة الحصى.
 
 
 
 
19

14

أول بقعة حمراء

 "المحلّات كلّها ستغلق غدًا، ولن يكون في السوق خبز".


تعجبت أمي وتساءلت: "ما هي مناسبة الغد؟ هل هو التاسع أو العاشر من محرم، أم حلّ علينا الحادي والعشرون من شهر رمضان المبارك باكرًا؟!".

لا أدري، يقولون إنّ مراجع التقليد أمروا بذلك. لكنّي في الغد صباحًا لن أتمكّن من الغياب، فصاحب العمل لم يطلب منّي عدم المجيء.

لا أذكر أي يوم كان ولا أي شهر، كل ما أذكره هو العام 1963م. كان الجو حارًا يومها، أبكرت في التوجّه إلى المحل قبل الموعد المعتاد كل يوم، لعلّ حسّ الفضول عند الشباب هو الذي دفعني لمعرفة ما سوف يجري، وهل سيطيع كسبة السوق كلام العلماء أم لا؟

سرتُ في شارع الأحمدي ذهابًا وإيابًا. كان حضور الناس عند مدخل "شاه تشيراغ" مختلفًا عن كل يوم، كانوا يتحرّكون بشكلٍ يوحي بأنّ أمرًا ما سيحصل خلال الساعات القادمة. 

عندما عدتُ للمرة الثالثة، وصل صاحب المحل. أخذ يسألني عن أبي وعمي وجدي وعدد إخوتي، أسئلة لم يطرحها عليّ سابقًا، كما إنّه لم يتحدث معي بهذه الحميمية. وكأنه أراد إمرار الوقت، ليرى ما سيحصل، هل سيفتح الباعة محلاتهم أم لا، لئلّا يُتّهم بأنه خالف كلام العلماء من أجل حفنة قروش. 

خلال حديثي غير المعهود، لاحظت أنّ الساحة المواجهة للحرم اكتظّت بالناس، وارتفعت أصواتهم بالشعارات. 

وبسرعة، سبقتُ صاحب المحل إلى هناك. بدا أنّ الحوض الذي يتوسط الساحة اختفى من شدة ازدحام الناس. لم أكن أعلم سبب كل هذا الزحام، لكنه جذبني لاكتشافه. كان بعض الناس 
يهرولون نحو الجامع الجديد، فسرتُ خلفهم، بينما دخل بعض أفراد الشرطة
 
 
 
 
 
 
20

15

أول بقعة حمراء

 بأسلحتهم من الباب الخلفي للجامع، بحالٍ من الغضب، وتوجّهوا واندفعوا نحو الناس الذين هرعوا هربًا من الجامع باتجاه الساحة. 


لاحظتُ شابًّا عشرينيًّا يرتدي فوق ثيابه قطعة قماش بيضاء، وقد عقد أربطتها خلف ظهره، فسألتُ عجوزًا كان موجودًا بجانبي، يستند إلى عصاه: "أبي العزيز، ما هذه القطعة من القماش؟ لمَ يرتديها؟".

شرح لي أنّها الكفن، وهو يرتديه ليؤكد أنه مستعد للموت. لم يسبق لي أن رأيتُ من قبل إنسانًا يرتدي الكفن وهو ما زال حيًّا، لم أرَ ولم أسمع. 

تقدّم شاب آخر يرتدي طقمًا وربطة عنق، وانحنى بين أقدام مرتدي الكفن، ورفعه عاليًا. استطاع الجميع، في تلك اللحظة، أن يروا صاحب الكفن الذي كان ينادي بصخب شديد، حتى إنّ شرايين عنقه برزت عن بُعد أمتار وباتت واضحة، أطلق شعارات ضد الشاه وأمريكا، وردّدها الآخرون. كانت الشعارات موزونة ذات قافية، ردّدها الناس بجدٍ وشدّة حينًا، وبابتسامة حينًا آخر. صاحب الكفن أطلق أربعة شعارات، لم يتمكن من تكرار كل منها أكثر من ثلاث مرات، فقد ظهرت سيارات الشرطة من جهة تقاطع شارع "الأحمدي"، وهي تطلق صفارتها متّجهة نحو الساحة، وقد أطلقوا بضع رصاصات في الهواء كانت كافية ليتفرق الناس قليلًا، لكن ما إن توقف إطلاق النار حتى عاد الناس إلى تجمعهم، بينما يصرخ أحدهم ويلتفّ الآخرون حوله. 

كان بائع الزجاجات رجلًا أربعينيًّا، رأيته من قبل مرتين فقط، كان كباقي أصحاب المحلات هادئًا، لا يخطر بالبال أنّ رصاصةً ستصيبه بعد أيام وسيلفظ أنفاسه الأخيرة خلال دقيقة واحدة. 

أذكر أنّني تخطيتُ كل الجموع حوله لأصل إليه وهو يلفظ أنفاسه، كانت الرصاصة قد أصابت وجهه مباشرة. 

لا أدري من الذي أحضر ذلك الباب الخشبي، ومن أين أتى به. بل
 
 
 
 
 
 
21

16

أول بقعة حمراء

 كيف خطر بذهنه أن يُحضر كفنًا أبيض من أحد لابسي الأكفان ليلف به جنازة بائع الزجاجات ويربطه كحبة شوكولاته، ويضعه سريعًا فوق الباب الخشبي، ليرتفع على أكتاف الجموع ويُشيّع من دون غسل باتجاه تقاطع الأحمدي. 


بقع الدم الحمراء التي صبغت الكفن أثارت الحماسة في كل من رآها، لم يعد أحد يفرّ من سماع الطلقات في الهواء، والكل ينادي بقوة واقتدار: "الله أكبر، لا إله إلا الله". ويتزاحمون للمس الباب الخشبي، ذاك الذي كان لدقائق مضت لا يساوي شيئًا، وأضحى الآن نعشًا مهمًّا ومقدسًا.

حضر العقيد "عزتي" من ضباط شرطة شيراز. الجميع يعرفون هذا الاسم، وكثيرون يعرفون وجهه، وبعضهم يعلم أنّ هذه الرصاصات انطلقت بأمره. كان يريد أن يشهدوا له عند الأمير أنه حضر إلى مكان التظاهرة شخصيًا، لكنّه ربما لم يمتلك الخبرة الكافية ليعلم أنّ وجوده بين الناس بعد أن شاهدوا إراقة الدماء كان خطأً جسيمًا. فبين الشعارات الدينية والسياسية لتشييع الجنازة، صرخ أحدهم بأعلى صوته: "ها هو ذلك اللعين عزتي داخل تلك السيارة". 

فجأة خفّ الزحام حول الباب الخشبي، تناول كلّ متظاهر أقرب شيء وجده ليرميه نحو سيارة عزتي، أحجار، عصيّ، قوارير زجاجية محطّمة. لم يكن الجمع شخصًا أو شخصين ليسهل تفريقهم بطلقات في الهواء، ولا يمكن قتلهم جميعًا.

لن أنسى أبدًا رأس "عزتي" ووجهه الداميين، كان دمه مختلفًا كثيرًا عن بقع الدم التي لوّنت قطعة القماش الأبيض. حينها لم يجد حلًّا سوى الفرار والاختفاء في بيت خلف مسجد "بيت العباس". ولمّا هرب "عزتي" ترجّل سائقه ولاذ بالفرار هو الآخر نحو زقاق ضيّق في "شارع الأحمدي". 

في ذلك اليوم، كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها القوات التي سفكت
 
 
 
 
22

17

أول بقعة حمراء

 دمًا حرمًا عن قرب. فقد تقدّم أربعة شبان مدنيّين وأمسكوا بسيارة العقيد "عزتي" ليرفعوها، فساندهم جمع آخر حتى قلبوها، وبعد ثوانٍ ابتعد الجمع عنها وتعالى صوت "الله أكبر" وهم يشاهدونها تحترق.


كانت الحماسة شديدة إلى درجة أني لم ألحظ أين أصبحتْ جنازة الشهيد بائع الزجاجيات، وإلى أي شارع وصل بها مشيّعوها.

تقدّم شخصٌ تلك الجموع وأطلق شعارًا ردّده الآخرون خلفه، إلى أن وصلنا نحو مدخل "سوق الوكيل"، من بين كل المحلات المقفلة، كان هناك صرّاف يُدعى "رجب علي" داخل محلّه المشرع. لم يدع مجالًا لأن يعترض عليه أحد، لأنّه تقدّم أمام الجموع وبرّر موقفه قائلًا: "هناك حسابات للناس متبقية.... لستُ كلبًا لأحد لأخالف كلام السيد، ها أنا ذا أغلق محلّي". 

كان خائفًا لدرجة أنه أغلق محله من دون أن يطفئ الأضواء. أضحكني تصرفه، وسررتُ كيف أن "رجب علي الصراف"، الذي كنت أسمع أنّه إنسان متكبّر لدرجة أنّه من بين ألف سلام يجيب على واحد فقط، ها هو قد شعر بالحقارة أمام قدرة الناس.

خلال يوم واحد، أحسست أنّني - ابن الخمسة عشر عامًا - كبرتُ عدة أعوام، ولم أفعل شيئًا سوى أنّني سمعت ورأيت. فقبل أن أساعد في قلب سيارة أخرى وإحراقها، وتشييع جنازة، سرتُ مع الجموع حتى وصلنا إلى تقاطع "زند"، ثم إلى تقاطع "مشير" حيث محل المشروبات المحرمة الذي لم يمتلك صاحبه ذكاء "رجب علي الصراف" ليعتذر قبل أن يعترضوا عليه، أو أن يعدهم بإغلاق المحل، كان محله يشتعل بالكحول كمستودع البارود، وسرعان ما تحوّل إلى فحم.

لم تبق الشرطة مكتوفة الأيدي، بل أصابت أكثر من عشرة أشخاص بالرصاص، وتفرّق الجمع. عدتُ ظهرًا إلى البيت ورويتُ لوالدي كل ما
 
 
 
 
 
23

18

البداية بعد النهاية

 البداية بعد النهاية


أجابني: "افتح يا بني"، فعرفته.

قبل الغروب ومع حلول الظلام، قلت في نفسي: "ماذا يريد المختار في هذا الوقت؟". فتحتُ الباب، فكرّر عبارة "يا الله" ودخل. كان أبي قد توضّأ ليذهب إلى المسجد للصلاة، لا تزال يداه ووجهه مبتلّين بالماء، استقبل السيد "زيبايي"، وبعد السلام والاطمئنان إلى الأحوال، جلس المختار في زاوية البهو على حافة الحوض، وأخذ يحرك الماء بيده.

- الحمد لله على السلامة يا "أمر الله"، كيف كانت إقامتكم في شيراز خلال هذين العامين؟

كان في كلامه إشارات ومزاح. فأجابه والدي بنفس اللهجة: "مكانك خالٍ. لم يكن ينقصنا سوى مختار".

بدت على وجه المختار علامات الجدّ حينها، ودخل في صلب الموضوع مباشرة: "أتيتُ لأقول لك إنّه قد مضى عامان على موعد تجنيد ابنك جعفر، وحان الوقت ليذهب ويلتحق".

ما إن سمعتُ كلام المختار حتى اهتزّ بدني وانقبض صدري. سوّى أبي أكمامه، وطأطأ رأسه. وجلس على زاوية أخرى من الحوض وردّ عليه: "عدتَ للحديث عن التجنيد مجدّدًا يا مختار؟ لا يزال طفلًا، لم يبلغ السابعة عشرة بعد".
 
 
 
 
 
25

19

البداية بعد النهاية

 أزعجني كلام أبي. بينما المختار ما زال غاضبًا من كلامي قبل سنتين، تبسّم بمرارة وقال لأبي: "عندما مات ابنك رفضت أن تُلغي هويته لئلّا تدفع خمسة تومانات، وتركتها لابنك هذا، كان عليك أن تفكّر في مثل هذا اليوم، لا بدّ أن يذهب إلى التجنيد، وأن يتزوّج أيضًا".


في "مهدي آباد" عندما يولد الطفل يجب أن تدفع خمسة تومانات للسيد "زيبايي" هذا ليؤمّن له هوية. لكن والديّ رفضا دفع ذلك المبلغ، فقد كان كبيرًا حينها، لذلك احتفظ بهوية أخي المتوفّى لتصبح لي، لكنّه كان يكبرني بخمس سنوات، وكانت ولادتي عام 1948م بينما كان تاريخ الولادة في الهوية 1943م.

كان المختار قد طرح الموضوع نفسه قبل عامين، حين كان عمري خمسة عشر عامًا فقط. يومئذ حضر إلى البيت وقال لي: "أخبر أباك أنّ اسمك ورد في اللائحة، يجب أن تذهب إلى التجنيد". 

فسألته حينها: أنا أم أبي؟!

فاغتاظ من جوابي قائلًا: "لا تمزح مع من هم أكبر منك سنًّا، طبعًا أعنيك أنت". ثم صمت وهمّ بالمغادرة، لكنّه بعد أن مشى عدة خطوات التفت وصاح: "سآتي غدًا صباحًا بطلبك، كن جاهزًا!".

في اليوم التالي، ذهبت برفقة المختار وأحد أبناء المحلة، الذي كان عمره أدنى من العمر المذكور في بطاقة الهوية أيضًا، إلى مركز التجنيد الإجباري.

ما إن رآنا الضابط السمين ذو الشارب الكبير الذي كان جالسًا خلف الطاولة، حتى قال: ما هذا الذي أتيت به؟

فأجبته ببساطة الأطفال: سيدي، احسبنا معًا جنديًّا واحدًا. 

فضحك الضابط وخاطب المختار قائلًا: أيها المختار يبدو أنك
 
 
 
 
 
26

20

البداية بعد النهاية

 أخطأت المكان، لسنا في مدرسة ابتدائية!


بعد مضي عامين، يبدو أنّ المختار لاحظ زيادة طولي وقرّر أني أصبحتُ مناسبًا للتجنيد، فجاء ليصطحبني. بينما لم يصدّق أبي أنّه حان وقت تجنيدي، فكان يجيب المختار مستبعدًا ذلك. 

إلا أنّ السيد "زيبايي" لم يكن يصغي إلى كلامه، بل قال: "يا أمر الله، هويته تقول إنّ عمره اثنان وعشرون عامًا، ما علاقتي إذا كنت لا تريد أن تصدّق أنّ ابنك قد كبر؟!".

عندما ذهب المختار، تنفس والدي بعمق وقال: "يبدو أنه لا مفرّ من ذلك، اذهب وجهز نفسك، عليك الذهاب إلى التجنيد".

وفي اليوم التالي، أظنّ أنّه كان الأوّل من شهر تموز 1965م، يومها سرتُ مع اثنين من أبناء المحلة إلى المخفر، ومن هناك إلى مقر درك شيراز. فأرسلونا سريعًا لتلقّي دورة لمدة شهرين في "جهرم". وبعد انتهاء التدريب التحقنا بالفرقة المدرعة الثامنة لخوزستان، تسمّى حاليًا الفرقة (92)، فأرسلونا من هناك إلى لواء دزفول (24) المدرع للخدمة العسكرية لمدة عامين.
 
حصلت معنا حوادث كثيرة في "جهرم"، لكن أكثرها إثارة هو ما حصل مع ضابط الصف لكتيبتنا. كان أستاذًا بارعًا في كيل الشتائم والكلام القبيح واللعن، بسببٍ ومن دون سبب، كان يبحث عن ذريعة ليُسمع الجنود كلامًا سيّئًا، بدا لنا كأنّه مَن اخترع الكلام البذيء والشتائم، كان فمه يلوك عبارات عجيبة غريبة ويطلقها، مما لم نسمعه من قبل. 

كان من ضواحي "جهرم"، له شارب كثيف، وشكل مفزع، ما إن تراه حتى تقشعرّ فزعًا منه. وكان يُتبع كلامه البذيء برفسة لا تذر لأحد
 
 
 
 
 
27

 


21

البداية بعد النهاية

 كرامة! والأسوأ من ذلك، مكانته، فقائد معسكر التدريب يهابه ويحسب له ألف حساب، ولا يحاسبه على أي خطأ، ربما لأنه لا يستطيع ذلك!


أذكر تلك الأيام، فأكثر ما كان يسيطر على الشباب هو الجهل والابتذال. حينها كان التدريب يشكّل فرصة لتقويم السلوك الخاطئ، لكن ضابط الصف هذا بكلامه البذيء، أغلق تلك المنافذ.

في ظهيرة أحد الأيام الحارّة، كنّا مجموعة من الجنود نتبادل الحديث، وإذ بضابط الصف يدخل المعسكر بدراجته الهوائية. وما إن رآنا جالسين معًا حتى عبس وتقدّم نحونا، وقبل أن يتوقف رفع رجله عن الدراجة ليترجّل عنها، لعلّه فرّغ غضبه ببعض الشتائم، لكنّ حذاءه العسكري "البوتين" علق بسلسلة الدراجة فسقط وعلا صراخه بقوة. تلوّى حول نفسه كالثعبان المجروح، إلى أن وصلنا إليه، فرفعه الحراس، ونقلوه بسرعة نحو سيارة الجيب، وأخرجوه من المعسكر.

في اليوم التالي، عند الاجتماع الصباحي، أُبلغنا أنّ مقود الدراجة أصاب عين الضابط اليمنى، مما اضطرهم إلى إبقائه في المستشفى.

بعد عشرة أيام، انتهت الدورة التدريبية، وبدأت مراسم خاصة بالجنود، وقفنا بالصف لتسلّم رسائلنا، وإذ بضابط الصف يطلّ بعينه المضمّدة، ولكنّه ما لبث أن تسمّر في مكانه وأطال التحديق بنا جميعًا، كنّا ننظر إليه بدورنا، كان من الصعب علينا أن ننسى سلوكه المشين، لذلك صارعنا تردّدنا، هل نتقدم نحوه أم لا؟ وإذ بأحد الجنود يتحرك ويكسر جمود الموقف، تقدّم نحوه، فَلَحِقْنا به. عندما تحلّقنا حوله، قام بعض الجنود بتقبيله، حينها فقط لمحنا بضع قطرات دمع تسكبها عينه اليسرى!

في مدينة "دزفول"، لديّ ذكريات أيضًا عن عامين من الخدمة
 
 
 
 
28

22

البداية بعد النهاية

 العسكرية، ما زلت أخشى البوح عن أيامها. فالحديث عن تلك السنتين المليئتين بالحوادث والقصص يتعبني، الجو المغلق للمعسكر، وجوه القادة القاسية، تجبّر ضابط الصف، الغربة والوحدة، كانت القصة المشتركة بين جميع الجنود. 


لم يكن التدريب العسكري القاسي والتمارين الشاقة سوى وسيلة لترقية الرتب العسكرية أكثر مما تنفع وتقوّي. عن ماذا أتحدّث؟ هل أتحدّث عن المنامات الموحشة والاستيقاظ ليلًا، والهموم التي لا تغادر الجنود أبدًا؟ لن أستطيع اتّهامهم بطريقة سيئة جدًا، فبذلك قد أجانب الإنصاف، لكن لم يصدر عنهم شيء يمكن أن أصفه بالحسن. ربما لم يكن الأمر بإرادتهم، فقد تلقّوا تربيةً عسكريةً خاصة جعلت من الجندي دابّة، يمكنهم أن يحمّلوا عليه ما يشاؤون.

من النادر أن تجد بينهم أحدًا ليّن الطبع، سهل العريكة. من الصعب جدًا أن تنسى المحتالين والمتملّقين هناك، الذين يرون كلّ مَنْ هم أعلى منهم آلهةً، وكل مَنْ دونهم درجة عبيدًا لا قيمة لهم. سأدع كل ذلك، وأكتفي بالإشارة إلى بعض الحوادث التي أظن أنها أدّت دورًا هامًا في تكوين نظرتي إلى المجتمع حولي وفي الجهاد الثوري.

رافقتني صورة تلك البقع الحمراء إلى الخدمة العسكرية، لأذهب بحوادث عام 1963م ومواجهات شيراز، التي أولدت داخلي وعيًا بما يدور حولي، وبتّ لا أصدّق كل ما يُقال ببساطة، بل كنت أدقّق أكثر في أي حدث.

ففي الأيام الأولى، سمعنا أنّ عدة ناقلات جند أمريكية تمّ تسليمها إلى فرقة خوزستان، وإنّ أوّل نقطة لتجربتها هي لواء دزفول. بعد عدة أيام، شاهدنا ناقلة جند (ملالة) واحدة تدخل المعسكر من دون أن تتوقّى شيئًا، وتتخبّط كأنها لا تبصر أمامها، كما بدت كأنّ أحدًا
 
 
 
 
 
29

23

البداية بعد النهاية

 ما يطاردها، فقد اقتلعت في طريقها نصف الباب، وحملته معها. فيما انفجر الجنود وضبّاط الصف بالضحك، لكنّهم سكتوا عند مشاهدتهم نائب اللواء أي العقيد "خزائي" وهو يخرج غاضبًا من ناقلة الجند بهيئة غريبة، لأنّهم يعلمون أنّه لن يتورّع عن فعل أي شيء لشفاء غليله وتفريغ غضبه. لكن هيبة الموقف لم تمنع ضابطين من ضباط الصف من شتمه همسًا بينهما.


بعد عدة أيام من هذه الحادثة، أعلن قائد اللواء في المراسم الصباحية أنّ ضيفًا عزيزًا سيحلّ علينا من الولايات المتحدة الأمريكية، وعمّم علينا منع الخروج من المعسكر مدة أسبوع. إنّه شاويش من الجيش الأمريكي جاء يشرف على وضع ناقلات الجند تلك. 

تعلّمنا خلال الدورة التدريبية أن الرتب والدرجات في العالم كله تتبع قانونًا واحدًا، وعلى صاحب أي رتبة أن يحترم من هو أعلى منه رتبة، في حين رأينا ذلك اليوم أنّ على ضباطنا أن يؤدوا التحية لشاويش!

كانت هذه الإهانة سببًا لغضب ضباطنا طيلة الأسبوع. كان الجميع منزعجًا من جهل ذلك الشاويش الأمريكي وسلوكه المتكبّر.

بعد أربعة أشهر من خدمتنا في المعسكر، سمعنا أنّ اثنتي عشرة طائرة مقاتلة وصلت إلى "قاعدة وحدتى الجوية" الملاصقة لمعسكرنا، لإجراء تجربة دفع الطيار إلى خارج الطائرة. 

أذكر أنهم قالوا أنها تعمل على ثلاثة أنظمة، وعليهم أن يحدّدوا أيّها أفضل. 

الأول، إطلاقه إلى الخارج بانفجار، والثاني، عبر رفاص دافع، والثالث، عبر الغاز. لكن ما حصل كان حادثًا مؤلمًا جدًا، لأنه لم تفتح أي من قمرات القيادة للطائرات الاثنتي عشرة، وقتل أربعة وعشرون
 
 
 
 
 
30

24

البداية بعد النهاية

 طيارًا ومساعد طيار من طيارينا. لكن أصداء هذا الحادث خُنقت سريعًا قبل أن تتسرب إلى الناس.


كان أمرًا مؤلمًا لنا، وصُدمنا بشدة حين اتضح لنا أننا أصبحنا حقلًا للاختبارات العسكرية الأمريكية.

حينها أحضروا هواتف أمريكية، وتوليتُ بنفسي الخدمة على أحدها. كان السبب زيارة شقيق الشاه للفرقة المدرعة، وقد يزور لواءنا أيضًا. فقدموا لنا مجموعة أسئلة وأجوبة جاهزة، أمرونا بحفظها خلال يومين لنتمكّن من الإجابة فورًا عندما تُطرح تلك الأسئلة. 

مثلًا، إذا سألوا: ما هو هذا الهاتف؟ علينا أن نجيب: إنه هاتف يدوي أمريكي يا سيدي، وقد تمّ شراؤه للجيش الملكي خاصة سيدي.

كنا نشعر بالإهانة من تكرار تلك الكلمات: "سيدي، أمريكي" في كل الأجوبة، وكان ذلك يعذبنا، وحين علمنا أنّ أخا الشاه لن يأتي، حُلّت عقدة الجنود وصاروا يسخرون ويضحكون مع كل كلمة "سيدي" و"أمريكي".

في أواخر مرحلة التجنيد أيضًا، أثناء الاصطفاف صباحًا، وخلال المراسم أخرجوا عدة سراويل أمريكية، واستعرضوها أمامنا، وتحدّثوا عن خصائصها. تبادلنا نظرات التعجّب لأننا نعلم جيدًا أنها من نوع الملابس التي سنُجبر على تجربتها. 

بدأ ضابط الصحة بالتوضيح: إذا تعرّضت لجرح خلال المناورات عليك أن ترتدي هذا السروال، إلى أن تصل سيارة الإسعاف، وأن تُغلق السحاب إلى الأعلى حتى يضخ الدم من القسم 
السفلي للبدن إلى القسم العلوي، بهذا الشكل تجري تغذية القلب بالدماء، لتتمكّن من الصمود لمدة ساعتين حتى تصل إلى المستشفى. وعندما أبلغنا
 
 
 
 
31

25

البداية بعد النهاية

 أحد جنود الصحة بسعره، أدركنا كم ينهبنا الأمريكان. كانت قيمته مئة وخمسين تومانًا، حينها كان بإمكانك شراء ثلاثة بيوت بهذا المبلغ في شيراز! 


والعجيب فيما بعد أنني خلال مرحلة الدفاع المقدس كنتُ كلما سألت أحدًا من قادة الجيش عن تلك الملابس، كانوا يقولون ليس لدينا مثل ذلك في المؤسسة، بل كانت نظراتهم تقول يبدو أن السيد أسدي يهذي!

ظهر يوم الخميس من صيف عام 1967م، سلّموني ورقة تصفية حساب تجنيدي، وخرجتُ من المعسكر. أحسستُ أن بدني كقطعة حديد كانت قد وضعت لمدة عامين تحت أشعة الشمس مباشرة، وستنفطر بمجرد أن أغسل وجهي. قرب المعسكر هناك حنفية ماء، ملأتُ يدي وغسلتُ وجهي، لكنّ الماء سرعان ما تبخّر ولم يبق منه أثر... بعد مضي ساعة، كنت في موقف حافلات دزفول، أحمل على ظهري حقيبة سوداء وأنظر من حولي، منتظرًا حافلة شيراز.
 
 
 
 
32

26

بيت الكويت

 بيت الكويت


عندما صعدنا من الغرفة السفلى للعبّارة، لم نر أثرًا لليابسة، لا شيء حولنا سوى البحر والسماء، والماء يحيط بنا من كل جانب، لا أذكر الوقت تمامًا، إلا أنني أظنّ أنها الساعات الأولى للظهر.

قال القبطان: "لا تنظروا إلى المياه كثيرًا كي لا يصيبكم سوء". لكن ما إن أتمّ كلامه حتى أحسستُ بالدوار، فجلستُ في مكاني. بينما كان ثلاثة بحارة يتناوبون على الصيد، أحرقت وجوههم الشمس وقد رموا شبكة صيد السمك في الماء. لم يكن الأمر من أجل الصيد فحسب، بل ليشكّلوا غطاءً لوجودنا معهم وسط البحر في حال باغتتنا الشرطة البحرية. 

عندما أنهيتُ الخدمة العسكرية، كنتُ بانتظار عدة أشهر لأبلغ السنّ الحقيقية المناسبة للالتحاق بها. كان الوضع المعيشي لأسرتي ضيّقًا، فتوجب عليّ أن أعمل. كنتُ أتمنى لو أن أخوتي الأكبر مني كانوا أحياءً! فعددنا كبير، وأبي يعاني ليؤمن مصاريف البيت، ربما كان ذلك سبب عودتنا إلى مهدي آباد تاركين شيراز قبل التحاقي بالخدمة العسكرية من جديد.

في الحقيقة، خلال السنتين اللتين قضيناهما قرب مركز المدينة، كنّا نعيش في بيت مستأجر في محلة "زير طاق ميرزا جوني"1، كان بيتًا من طراز قديم، لا تزال توجد على نسقه بعض البيوت في المحال
 
 

1- محلة في وسط مدينة شيراز قرب حمام الحكيم العام.
 
 
 
 
33

27

بيت الكويت

 القديمة لشيراز. تتوسّطه باحة كبيرة، تتوزع منها عدة غرف، كل غرفة تُؤجر لأسرة، فيما يحظى صاحب البيت بالزاوية الأفضل والأكثر دفئًا. وكنّا سبع عائلات نتشارك البيت، بينما يقطن على السطح السيد "يعقوبي" المشهدي، لنصبح بذلك ثماني أسر. أحببنا ذلك البيت كثيرًا، لكننا لم نمكث فيه كثيراً. 


قبل ذهابي إلى التجنيد عام 1964م، عدنا إلى مهدي آباد. في الحقيقة لم تكن المشكلة مشكلة المعيشة فقط، بل كان صاحب البيت يستغل كل مناسبة ليتذرّع بها ويطل برأسه من غرفته ليلوم الجيران. قد تكون ذريعته تأخير دفع الإيجار، أو ارتفاع أصوات الأولاد، أو صوت الأبواب... وكما يقول الشيرازيون: "إنّه يتمتم ويتذمر".

لا تزال حدّة صوته تطنّ في أذني: "أنت، لقد حطمت الباب، فهو ليس لأبيك لتحرص عليه. عليك غدًا جمع أغراضك والرحيل....".

رحم الله والدتي، كانت من النساء اللواتي تختزن كل الآلام في صدرها ليبقى زوجها وأبناؤها يعيشون في راحة. لذلك، كلما ارتفع صوت صاحب البيت صارخًا علينا، كانت تجيبه: "حسنًا يا حاج، لن يتكرر ذلك".

عندما عدتُ من الخدمة العسكرية، كانت أسرتي لا تزال تسكن في مهدي آباد. فشمّرتُ عن ساعديّ، واستعددت لمساعدة أبي والتخفيف عن كاهله، فأنا الابن الأكبر للأسرة، والكل توقع مني ذلك. 

كان الحاج "نصيري" من كبار المالكين للبساتين في "قصر دشت"، وكان مستودعه آخر مقصد لي للعمل، فبدأتُ عملي فيه، أقطف الحمضيات والفواكه الصيفية، نعلّبها ونختمها لتصدّر إلى الدول الخليجية.

كان طموحي كبيرًا، فكلما مارستُ عملًا وكسبت مالًا، كنتُ أمتطي
 
 
 
 
 
34

28

بيت الكويت

  فرس الخيال، فأسرح بذهني إلى ذكريات بيتنا المستأجر في شيراز، وأحدّث نفسي وأقول: هل سأتمكن من شراء بيت  لوالدي؟ لكني عندما قدّرتُ أنّ عشرين عامًا من العمل في مستودع الحاج نصيري لن تحقق لي ذلك، وتناهى إلى مسمعي ما يتناقله العمّال من مسألة تأمين كلفة السفر إلى الكويت. وكلّما اقتربتُ منهم، بتُّ أحلم مثلهم بالسفر أيضًا. 


ومنذ ذلك الحين، سكنتني فكرة السفر، كحال هؤلاء العمّال، فقد اعتدنا عندما نمسك بالكيس لنملأه بالبطاطا أو البصل، أو عندما نلصق أطراف صناديق الفاكهة بعضها ببعض أن نتخاطب: " تحرك يا أخي، آخر السنة سنكون في الكويت. إن شاء الله".

تلك الفكرة ملأت كياني، حتى عدتُ لا أتغيب عن عملي في أي يوم عطلة، ولا عندما يصيبني مرض، حتى استطعتُ أن أجمع في آخر العام خمسمئة تومان. فتوجهت إلى السمسار محمود الذي يدير عملية السفر إلى الكويت، دفعتُ له خمسمئة تومان قبضها في إيران، فيما بقي مبلغ (ألف تومان) مؤجّلًا يقبضه في الكويت، حررت بموجبه سندًا ماليًا ممهورًا بإمضائي.

وتهيّأت أسرتي للفراق وأن لا تراني ثانية في إيران، فكان الوداع سهلًا، جُلّه بعض البكاء من والدتي وأختي، وتقديم الوصايا والتحذيرات من أبي، وملامح قلق من عيون إخوتي. 

كنا عدة أشخاص مسافرين، تمّ نقلنا إلى مدينة "بوشهر" الساحلية، وسكنّا بيتًا شديد الرطوبة، لا تدخله الشمس، ومكثنا فيه بانتظار تحديد موعد الرحيل، وأيّ رحيل ذاك حيث لا أثر للسمسار محمود ولا للكويت؟! في النهار نحدّق بالبحر وفي الليل نحلم بالكويت. كنا نعلم أن عائلاتنا تنتظر رسائلنا من الكويت لا العودة من "بوشهر"، لذلك لم نكن نفكر بالعودة أبدًا.
 
فيما قيّدَنا القلق من الذهاب وعدمه، ولم
 
 
 
 
 
35

29

بيت الكويت

 يسمح لنا بالعمل ليخفف عنا قلق الانتظار. تخلّينا عن كل شيء بحثًا عن السمسار، لكن يبدو أنه قد تبخر وطار، وعندما ضاقت صدورنا من الغربة والقلّة، لم نجد بدًا من العودة إلى مهدي آباد. 


من جديد، يوم جديد. أموالنا تبخّرت، لكن أملنا بقي حيًا. عدنا لنعمل مجددًا في مستودع الحاج "نصيري"، وبين الحين والآخر نبحث عن السمسار لنحاول استرداد أموالنا. 

ستة أشهر قضيناها على هذه الحال، حتى استطاع أحد الأصدقاء الإمساك به، وأصبح ماثلًا أمامنا. أفرغ كلٌّ منا ما في قلبه في وجه السمسار، وطالبناه بأموالنا. أخذ يتذرّع ليبرّر سبب اختفائه: "انشغلتُ، سقط ابني في الماء المغلي، دمرت حياتي"... وطلب منا مهلة ليعيد الأموال إلينا.

الجميع كان يريد استعادة المال، بينما أنا كنت أفكر في السفر. فذهبتُ إليه برفقة أحد أبناء المحلة "سيروس جعفري" وقلنا له: "المال لن ينفعنا، أوصلنا إلى الساحل الآخر". فوعد بنقلنا. 

وبعد أربعة أشهر، وفى بوعده ونقلنا إلى مدينة "عبادان"، ومن هناك إلى أطراف نهر القاسمية والبشاشرة. وفي الليل انتقلنا بسيارات نقل الأغنام، حيث وضعوا قاطعًا خشبيًا في الوسط، والأغنام فوقه ونحن تحته. أما كيف كان وضعنا تحت أقدام الأغنام، فلا داعي لشرحه...

بتنا ليلتين في إحدى القرى حتى يكتمل عددنا، ثم ركبنا العبّارة، وسارت بنا في نهر نحو البحر. وفي ظهر اليوم التالي، خرجنا من أسفل العبارة، لنجد أنفسنا وسط البحر.

سمح لنا القبطان أن نخرج لعدة دقائق، ثم طلب منا العودة إلى الأسفل وأغلق الباب علينا، وقال: "عليكم بالصبر فسيتحقق حلمكم ليلًا". أذكر عينيه الذابلتين، كانت نظراته الجامدة تقذف الخوف
 
 
 
 
 
 
36

30

بيت الكويت

 إلى قلوبنا. 


وقد خطر لي قبل السفر أنه قد يرمينا في البحر لنكون من حصة الحيتان، لكني الآن بعد أن كثر عددنا لم أعد أخشى القبطان والبحارة. وإن كان يبدو عليهم منذ البداية أنهم يخاطرون لتحصيل رزقهم، وأنّ مصيرنا واحد.

ليلًا، نادونا لنصعد، كانت الأنوار تلمعُ من بعيد، قال القبطان: إنها فيلكة من الجزر الكويتية. عند منتصف الليل، كنا نقف على بعد خمسين مترًا من الساحل، فأنزلونا بسرعة، حيث ينتظرنا عند الساحل مجموعة من الأشخاص ليقوموا بنقلنا بواسطة سيارة شحن صغيرة. سررنا، إذ لن نُتْرك وحدنا في هذا البلد. قال أحدهم: "علينا أن نعمل لمدة شهر حتى ندفع لهم الألف تومان المتبقية بذمّتنا".

لم تكن الكويت وشهرتها وثقافة أهلها كما وُصفت لنا. لكن، وجدنا في الحقيقة أناسًا حديثي العهد بالنعمة، ينظرون إلى المهاجرين كأنهم عبيد. جعلهم المال والثراء من دون تعب متجبّرين، يصعب التعامل معهم، لكن كل ذلك لم يردعنا عن إكمال طريقنا. 

كنّا نظن أننا سنجد حلًّا للمصاعب التي عجزنا عن إيجاد الحلول لها في مجتمعنا وقد حالفني الحظّ حيث حللت، فقد تعاملتُ مع معلّم شريف، أصبحتُ مساعد قصّاب أتعامل مع الجلد واللحم والعظم. 

كنتُ نشطًا وذكيًا. فدورة الخدمة العسكرية وتمرّني في قاعة الرياضة في المعسكر على المصارعة، مكّناني من ممارسة هذه المهنة باحتراف، فكنت أذبح الخروف، وأسلخ جلده، وأحمل لحمه ليرضى عنّي صاحب العمل، ويدفع إليّ أجري في الموعد المحدّد. 

كنت أكتفي بصرف القليل من أجري، لأوفر الباقي، لعلّي أحقق حلمي الذي رافقني لعدة سنوات. علمًا أنّي رأيت في الحلم كيسين
 
 
 
 
 
 
37

31

بيت الكويت

 ممتلئين أيضًا! 


تفاعلتُ مع العمل جيدًا، بحيث لم أعد أهتم لحرارة الطقس نهارًا، ولا أدلّل نفسي كما يفعل الكويتيّون فيتنعّمون بكل الكماليّات مستهلكين نفطهم، تاركين العمل لغيرهم، ويشمخون بأنوفهم إلى عنان السماء. 

أتناولُ فطورًا من الخبز والجبنة، وأتوجه إلى عملي لأهيّئ الدكان قبل وصول معلّمي، وأتناول ليلًا عشاءً خفيفًا وأنام، وعندما لا أشعر بالتعب كنتُ أتقلّب يمنةً ويسرةً أو أسير هنا وهناك لأبعد عن نفسي ألم الغربة والبعد عن الأسرة، وأخفّف من دموعي.

مضت ثلاث سنوات، استطعتُ خلالها أن أحوّل لأبويّ ثلاثين ألف تومان، ما مكّنهم من العودة إلى شيراز، وشراء بيت من طابقين في محلة جادة "كازرون"1 بمبلغ ستين ألف تومان، دفعوا نصفها نقدًا، على أن يدفعوا الباقي خلال عام.

كانت الرسائل حينها صلة الوصل بين الإيرانيين المقيمين في الكويت مع أهاليهم في إيران، فالحديث عبر الهاتف كان محدودًا جدًا، وإذا توافرت لا ندري بمن نتصل في إيران، فلم يكن هناك هاتف في محلة "مهدي آباد"، وليس لدي من أعرفه في شيراز ليخبر أهلي فأتحدث إليهم. فبقيتُ أقتصر على الرسائل حتى خطرت لي فكرة تسجيل شريط صوتي، استخدمتُ جهاز تسجيل لزميلي في الغرفة، وتحدثتُ لنصف ساعة مفعمة بأحاسيسي، عن الحياة في الكويت، عن أصدقائي، عن عملي، ثم سألتُ عن أحوال أختي وإخوتي وعن والدتي ووالدي بأحاسيس أكثر عاطفةً ومحبة، وأرسلتُ الشريط إلى إيران.
 
 

1- كان في شيراز سابقًا اثنتا عشرة بوابة، وتسع عشرة محلة، ثم جرى تقسيمها إلى ستّ بوابات وإحدى عشرة محلة. بوابات: باغ شاه، اصفهان، سعيدي، قصاب خانه، شاه داعي، كازرون.
 
 
 
 
38

32

بيت الكويت

 عندما كنتُ أتحدّث وأسجّل، كنتُ كأني أرى كل أفراد أسرتي أمامي، حتى ردود أفعالهم إثر تعبيري عن اشتياقي إليهم... كل ذلك كنتُ أراه!


بعد شهر وصلني شريط آخر من أسرتي، أسرعت لدسّه في جهاز التسجيل، وما إن بدأ أبي بالكلام، حتى أوقفتُ الشريط وأجهشتُ بالبكاء، وذلك ما حدث أيضًا عندما سمعت صوت أمي. 

لم ينقطع بكائي وأنا أستمع إليهم وإلى أصواتهم الواحد تلو الآخر، لم تسمح لي شدّة أشواقي أن أكمل، فاستغرق مني ذاك الشريط أربع ساعات لأستمع إليه بكامله!

ولشّدة ذاك الشجن، ما زلت أذكر بدقّة صوت أختي، كيف كانت تتحدّث وتبكي في آن معًا وتقول: "جعفر أخي فديتك من عزيز! أسأل الله بكرامة الحسين أن يسعدك بعد أن جعلتنا نملك بيتنا، أنا كلما كنستُ البيت غصصتُ بالبكاء ودعوتُ لك، فنحن في بيتنا، أصبحنا نكنس بيتنا، وننظف بيتنا، وليس بيت أناس آخرين"..

بعد مدة أرسلتُ ثلاثين ألف تومان أخرى، أظن في أوائل عام 1972م حيث تم شراء البيت بالكامل. حينها تعبتُ من الغربة، وعدتُ في السنة التالية إلى إيران لأبحث عن عمل بدل العودة إلى الكويت، لكني لم أجد عملًا مناسبًا، والأجور متدنية، في حين كانت أجوري في الكويت جيدة، لذلك لم أقنع بالعمل في شيراز بالغاز وبأجور لا تغطي مصاريف الحياة، وأعجز عن مساعدة والدي، لذلك عدت أفكر بالعودة إلى الكويت.

لكن في هذه المرة كانت رحلة عودتي إلى الكويت خاليةً من المشاكل، فلديّ كفيل هناك، بت ّأركب الطائرة، أذهب وأعود بسهولة.
 
 
 
 
39

33

بيت الكويت

 في تلك الأيام أقيمت في شيراز احتفالات 2500 عام1، الكل عرف أن احتفالات "تخت جمشيد" كانت تستورد الطعام من فرنسا، الحلاقون وكل العاملين كانوا من الأجانب، الورد لتزيين الخيم من هولندا، تجهيزات الخيول من إنكلترا و... بالإجمال كانت أموال إيران تبذّر. 


كانت العلاقات العربية مع إيران في أسوأ حالاتها، كان لديّ صديق مصريّ في الكويت يعمل مهندسًا في مجال النفط، انتقد بشدة تلك الاحتفالات التي أقيمت في إيران.

حينها فاجأني بدخوله إلى غرفتي حاملًا صحيفة، رماها باتجاهي وقال لي بلهجته المصرية: "جعفر، خذ واقرأ". فسألته: "لم أنت منزعج؟".

قال: "انظر ماذا يفعل شاهكم، لقد دفع سبعة ملايين دولار للإسرائيليين لينصبوا لكم الخيم، البلد الذي يعجز عن تصنيع خيمة لأي شيء ينفع؟ كما إنّ هذه الخيم أُعدّت ليأتي من يمارس الفساد ويشرب الخمور ويزني". 

لم أمتلك ردًا، فأنا شاب متديّن، وأصلّي كل يوم في المسجد بالكويت، وأعتبر نفسي مجاهدًا ومعارضًا، لكني لستُ مطّلعًا على ما يجري في بلدي. فالإيرانيون في الكويت يجتمعون في ساعات فراغهم، ويأتي أحدهم ليقول "منذ أشهر وأبي معتقل". والآخر يقول: "إنّ ابن عمه قد قضى نحبه تحت التعذيب. وغيره يتحدث عن الإمام الخميني قدس سره الذي تمّ نفيه إلى النجف و....

وبقيتُ في الكويت أزاول عملي، حتى أصبحتُ "المعلّم" وامتلكت محلًا خاصًا أبيع فيه اللحوم، كان عمل القصّاب صعبًا، أكثرهم يغشّون في المعاملات، ويبرّرون لأنفسهم بأن الناس تطلب اللحم من الفخذ،
 

1- أي مرور 2500 عام على تعيين قورش الأول ملكًا حسب التقويم الشاهنشاهي، وقد تم تغيير هذا التقويم إلى الهجري الشمسي الذي يبدأ من الهجرة النبوية الشريفة وتمّ تثبيته في نظام الجمهورية الإسلامية رسميًا إلى جانب الهجري القمري بعد أن حاول الشاه المخلوع تغييره.
 
 
 
 
40

34

بيت الكويت

 وإذا كان الكل يريد لحم الفخذ، فهل نرمي باقي اللحم بعيدًا؟! لذا، يبيعونهم لحمًا آخر على أنه من الفخذ، ويعتبرون أنفسهم مضطرين للكذب على الزبائن.


بعد ذلك، سرعان ما بدأتُ أحضر دروس "آية الله نجابت"1 الذي جاء إلى الكويت حديثًا، وكان له أثره في تغييري. حيث سألت سماحته، فأجابني: "إنّ عملكم هذا حرام".

قلتُ له: "عندها سيذهب الزبائن إلى آخر". قال: "لا علاقة لك بما يفعله الآخرون".

فأوضحتُ له: "عملت هكذا لثلاثة أشهر كاملة".

انتفض الشيخ وقال: "انهض سريعًا، عليك بردّ المظالم وترك هذا العمل". 

كانت كلمات الشيخ كافية لأترك هذا العمل، وأجمع أغراضي وأعود إلى إيران بشكل نهائي.

لكني الآن، ما زلتُ آمل أن أرى صديقي المهندس المصري مجددًا، لأسأله: يا أخي العزيز، متى سينتهي التسلّط الأمريكي والإسرائيلي على الدول العربية؟!
 
 

1- المرحوم آية الله الشيخ حسن علي نجابت الشيرازي، من العلماء ذوي الألباب، عمل في تربية النفوس والأرواح المستعدة إلى جانب الشهيد السعيد آية الله السيد عبد الحسين دستغيب. توفي عام 1989م، ودفن إلى جانب الشهيد دستغيب، كما استشهد ابنه "محمد حسين" خلال الدفاع المقدس.
 
 
 
 
41

35

الحصاة السوداء

 الحصاة السوداء


اثنا عشر عامًا مضت على مواجهات ساحة "شاهتشيراغ"، أصبح عمري سبعة وعشرين عامًا، وقد تزوجتُ منذ عام1. ولا يزال بيتنا في بوابة "كازرون". في أحد الأيام، عدتُ إلى البيت ظهرًا بعد انتهاء عملي، فطُرق الباب، وعندما فتحته رأيتُ شابًا بعمر التسعة عشر عامًا بشعر مجدول على كتفه. 

فحدّقت به وعرفته، إنه "مهدي الفيروزي" الذي عهدته صغيرًا جارًا لنا منذ عام 1963م، عندما كنا نعيش تحت "طاق ميرزا جوني"، كانت تقطن بجانبنا أسرة كثيرة الضجيج، يعمل الأب في الخياطة، ولديه عدة أبناء وبنات، وكان "مهدي" ذو التسع سنوات أصغرهم، بينما كان عمري خمسة عشر عامًا.

قلتُ: "ما شاء الله، لقد كبرت". فتبسّم وطلب التحدّث إليّ عدة دقائق. تبيّن أنّه كان متخفّيًا لعدة أشهر، فظننت أنه يريد اللجوء إلى بيتنا. 

طلبت منه الدخول إلى البيت، لكنه رفض وأصرّ على التحدّث معي على انفراد، وكانت هناك أرض خالية خلف بيتنا، يسمّيها الشيرازيون
 

1- بعد عودتي من الكويت بعدة أشهر تزوجت يوم 31/8/1974 بفتاة مؤمنة تقية، اختارتها لي والدتي من حلقات القرآن، وحسب العرف القديم لم أرها حتى ليلة العقد والزواج، فقد اعتمدتُ على عيون أمي، فأهداني الله رفيقة متدينة وحميمة، صبرت معي دومًا واستقامت، لا أجد كلمات تسعفني لأؤدي شكرها.
 
 
 
 
42

36

الحصاة السوداء

 "أرض الولي"، كانت مناسبة للسير فيها والتحدث على انفراد. سرنا لساعة، وتحدثنا عن أمور شتى، تحدّث هو أغلب الوقت فيما كنت أنا أصغي، تحدّث عن الوضع الأمني والبوليسي الضاغط على المجتمع، وعن الفساد الذي مورس أثناء احتفالات "2500 عام"، ورأي الإمام الخميني الذي أصدر بيانًا من النجف، وضرورة المواجهة الجديّة والمنظمة للنظام.


عندما وصل حديثه إلى التدخل الأمريكي والإسرائيلي في الحكومة والمجلس والصناعات الكبرى والصغيرة، بل وحتى في أصغر الدوائر الرسمية للأقضية، تغيّر لون وجهه لما أظهره من شدّة الغضب. كان كلّما انتهى من موضوع يرفع رأسه ليتفرّس في ملامحي، ويلمس مدى تفاعلي ويقرأ أفكاري وردود فعلي، قبل أن يخفض رأسه من جديد يخطو خطوة بطيئة، ثم بخطوة خفيفة يضرب بمقدّم حذائه حصاة صغيرة، تكون مقدمةً ليتناول موضوعًا جديدًا! 

كان يتكلم بطريقة حازمة ومقتدرة، بحيث لم أعد أشعر بفارق السنوات السبع التي تفصل بيننا! بل شعرت في لحظات أن روحه أكبر، وأنه أكثر خبرة وتجربة مني. 

وبحركة لافتة سحب بمقدم حذائه حصاة سوداء وضربها بشدّة، ووضع يده على كتفي فعلمتُ أنه يريد الذهاب. قال: "عذرًا لمجيئي ظهرًا وتأخيرك عن زوجتك وبيتك وغدائك.. على أي حال لم تقل لي، هل أنت مستعد للعمل معنا أم لا؟ لن أصرّ عليك، لكن إذا كنت لا ترغب بذلك، فعليك بدفن كل ما سمعته منّي في هذه الصحراء".

على الرغم من رغبتي في لقاء أعضاء مجموعته، قلت له: "أمهلني بعض الوقت"

أظنّ أنني أردتُ أن أُفهمه أنّني الأكبر سنًا، فلا يمكنك الحصول
 
 
 
 
 
43

37

الحصاة السوداء

 على موافقتي بهذه السرعة، فقلتُ له: "لا يستطيع الإنسان أن يتّخذ قرارًا صحيحًا ببطن خاوية. عصرًا، سأبلغك بجوابي النهائي".


تواعدنا على اللقاء عند الساعة السادسة بعد الظهر في محل خياطة لأحد الأصدقاء. وصل قبلي إلى الموعد، وأخبرته أنّه ليس لدي مشكلة مع القضية بشكل عام، لكن عليّ أن ألتقي مع أعضاء المجموعة مباشرة. 

وافق، وذكر اسم "سعيد" وهو شاب منشد معروف، يبدو أنه توارث عن أجداده تلاوة المجالس الحسينية، لذلك أصبح اسم العائلة "ذاكر الحسين"، وذكر شخصًا آخر، سيد عالم دين اسمه "شجاع الدين" وقال إنه من أسرة "دستغيب" الشهيرة في شيراز، وهذان الاسمان لم يكونا مألوفين بالنسبة لي.

حدّد الموعد اللاحق في بيت السيد "شجاع الدين"، وسبقني إليه هذه المرة أيضًا، وكان حذرًا في حركته، حسّه الأمني عالٍ بشكل جيد، أشار لي من بداية زقاق بيت السيد لأدخل الزقاق بعده لنلتقي فيه، حيث سلّم عليّ وعانقني قائلًا: "من الأفضل أن لا يرانا أحد معًا في الشارع، فرجال السافاك1 هم كما تظنّ وأكثر". 

عندما وصلنا إلى مدخل منزل السيد، لاحظنا أنّه ترك الباب نصف مفتوح، كان موجودًا في باحة البيت بانتظارنا، قابلني كأنه يعرفني منذ سنوات: "أهلًا بالسيد جعفر العزيز! أهلًا وسهلًا، نوّرت البيت".

تعجبتُ كيف عرف اسمي، وازددت تعجّبًا عندما رأيتُ كيس ملاكمة يتدلّى من شجرة "بوصفير" القديمة، ولمحت بعد عدة أمتار أدوات رياضية منزلية أخرى. لم يكن صعبًا ملاحظة الجسم الرياضي للسيد
 
 

1- جهاز أمن السافاك هو منظمة سرية أسسها الشاه، وأشرفت منظمة (CIA) على تدريبها، ارتكبت الجرائم الكبيرة إلى حد أن داعمي الشاه من منظمات دولية اعتبرتها أسوأ منظمة في انتهاك حقوق الإنسان (المترجم).
 
 
 
 
44

38

الحصاة السوداء

 تحت زيّه العلمائي، لكني لم أصدق أنّ هذه الأدوات له. فما علاقة عالم الدين بالرياضة؟ ظننتها لجار أو لأحد آخر أودعها عنده، ولم أصدق أنه يستخدمها حتى قادنا إلى غرفة حيث جلسنا وشرعنا بالحديث...


أكثر ما أدهشني، حينما سأله ابنه الأكبر عن أمر ما بالإنجليزية، فأجابه السيد باللغة ذاتها، وكانت لهجته متقنةً بحيث إنّي لو أغمضتُ عينيّ لظننتُ أنّ المتحدث رجل ذو شعر أشقر وعينين زرقاوين وذقن ٍحليق يرتدي بدلة أجنبية بربطة عنق.

تحدّث السيد بكلام يشبه ما قاله "مهدي" قبل أيام خلف بيتنا، ثم حدّثني عن نشاط المجموعة وأكد على سرية ذلك، فنبّهني إلى خطورة البوح به حتى لو تعرّضتُ للاعتقال ولأسوأ أنواع التعذيب. 

أثناء الحديث، وصل "سعيد ذاكر الحسين" فطلب السيد من ابنه الأكبر ترك الغرفة. بقينا نحن الأربعة، ووضع كلّ منّا يده اليمنى على يد الآخر، وأقسمنا أنّنا لن نخون بعضنا بعضًا ما دمنا أحياءً.

وذكّرنا السيد بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن كنتم اثنين فليأمر أحدكما الآخر"، أي لا بد من مسؤول يتولى قيادة المجموعة، ورسم على ورقة شارة المجموعة، ووزع المسؤوليات بيننا بعد التشاور وتوافق الآراء. وقال بجد: "إذا لم نأخذ الأمر بشكل جدّي من الآن، فلن نتمكن من الاستمرار عندما يزداد عدد أفراد المجموعة غدًا".

وكان مصيبًا في توقّعه، فسرعان ما التحق بالمجموعة طالب علم شاب من مدينة قم، وأحد أقرباء "مهدي الفيروزي"، فأضحينا ستة أشخاص، تشاركنا في الدفع لنشتري جهاز "استنسل"1 لنسخ بيانات الإمام الخميني، إضافة إلى جهاز مذياع ومسجلة، بحيث نرفع صوتهما بشكل صاخب، فلا يسمع الجيران صوت جهاز الاستنساخ.
 
 

1- طابعة.
 
 
 
 
45

39

الحصاة السوداء

 كان استنساخ البيانات كافيًا لمن لا يعرف شيئًا ليطّلع على كل قضايا الحكومة وفساد النظام. رغم أننا كنا نطلع على بعض الأمور الأخرى بسبب علاقاتنا. وكلّما اتسعت دائرة عمل هذه المجموعة وباقي المجموعات في المواجهة، تنوّعت أيضًا أساليب التجسس والاعتقالات والتعذيب من قبل جهاز السافاك. وكلما ازدادت حساسية السافاك من ناحية، ازداد إحساسنا بواجبنا لتوعية أهالي المدن الصغيرة والقرى من ناحية ثانية، وهكذا انصبّ اهتمامنا في التوجه نحو المدن الأصغر. 


كان بعضنا يقصدها ويعود، وبعضنا الآخر كان يستوطن فيها، لكنّنا كنّا نغيّر المدن والمواقع حينما نشعر أنّ أمرنا سيُكشف أو سنتعرض للاعتقال. 

بعد مدة، قررنا الذهاب إلى منطقة "نور آباد ممسني"1، إلا أنّنا كنّا متردّدين، فذهبنا عند الغروب إلى أحد مساجد شيراز القديمة، أنا والأخوان مهدي ومحمود الفيروزي، وبعد صلاة العشاء، جلسنا إلى جانب إمام الجماعة، كان سيدًا متقدمًا في السن ذو وجه نوراني اسمه "السيد العلوي"، سألناه عدة أسئلة في الفقه والأحكام بانتظار خروج المصلين، ثم طلبنا منه أن يستخير لنا هل نذهب إلى "نور آباد" أم لا، رفع عباءته التي كانت قد سقطت عن كتفيه، وتناول القرآن وقبّله، وأغلق عينيه، وتمتم ببعض الكلمات، ثم فتح القرآن، قرأ عدة آيات، ثم نظر إلينا متصفحًا وجوهنا وقال: "أحسنتم، سفر مبارك إن شاء الله، فيه الخير والبركة، إنها جيدة، جيدة جدًا، توكلوا على الله واذهبوا".
 
 

1- تبعد عن شيراز مسافة مئة وخمسين كيلومترًا جهة الغرب، يتحدث أهلها باللغة الكردية، منطقة واسعة، قدمت الكثير من الشهداء خلال الثورة والحرب المفروضة، فكانت السباقة في محافظة فارس.
 
 
 
 
46

40

التهمة: الغياب لمدة شهرين

 التهمة: الغياب لمدة شهرين


بعد استخارة السيد العلوي لم يعد لدينا شك، حملنا متاعنا من شيراز متوجهين إلى "نور آباد ممسني". وكان السيد شجاع الدين قد نسق مع مجاهدي نور آباد، فتوجهنا إلى هناك بذريعة العمل، لكننا كنا نشكل في الواقع جسر ارتباط للثوريين بين شيراز ونور آباد.

كنا نعود إلى شيراز أيام الجمعة ونزور الأسرة ثم نعود، لكن حياة العزوبية في "نور آباد" كانت صعبة على شاب حديث العهد بالزواج. لم أتحمل الأمر أكثر من عدة أشهر، بعتُ بيت شيراز، ونقلتُ أبي وأمي وزوجتي إلى نور آباد. 

كنت أقضي أيامي نهارًا في محل الخياطة، وليلًا في البيت. أما الأخوان فيروزي فكانا ينامان داخل المحل، في حين كان مهدي يتنقّل بين المدن الأخرى.

في أحد الأيام عاد مهدي من مدينة قم، ودخل المحل، فأخذني جانبًا وهمس في أذني: "جهّز نفسك، أمامَنا سفر هام سأخبرك به لاحقًا". كان يتحدّث دومًا بطريقة لا تسمح بالسؤال عن المقصد وتاريخ الرحيل بدقة، ولا حتى عن السبب أساسًا. اكتفيت بهزّ رأسي كعلامة على الموافقة قائلًا: "حسنًا".

بعد عدة أيام، اتصل بي من قم وقال: "ليس لدينا وقت، دع كل
 
 
 
 
 
47

41

التهمة: الغياب لمدة شهرين

 شيء، وتعال إلى قم".


كل ما استطعت فعله هو ترك رسالة لأهلي أقول فيها: "سأغيب عدة أيام، فلا تقلقوا عليّ". أخذتُ العشرين ألف تومان المتبقية من ثمن بيت شيراز، ووضعتها في حقيبة، وانتقلتُ من حافلة إلى أخرى حتى وصلت إلى مدينة قم.

تورّمت قدماي من طول الجلوس في الحافلة ولم تدخلا في الحذاء، فطويت آخره وترجلت، لكني لم أعد أتحمّل المشي، ركبتُ سيارة أجرة للوصول إلى حرم السيدة فاطمة المعصومة، وتمنيتُ لو أن مهدي قد أعد لي مكانًا مريحًا لأنام فيه بضع ساعات. 

وبناءً للاتفاق المسبق، التقينا أمام الحرم. بادرني مهدي: "وقتنا لا يتسع إلا لزيارة سريعة وغداء أسرع". آخر لقماتي ازدردتها سريعًا وبلعتها، فقام وقال مبتسمًا: "أخي العزيز، أسرع، تأخرنا".

أوقف سيارة أجرة، لتنقلنا إلى موقف حافلات قم، اشترى تذاكر سفر إلى "يزد" وركبنا. مهدي يحتفظ دومًا بأسرار، لعلّ عمله جعله هكذا، فكلما سألته إلى أين سنذهب؟ ولماذا نحن ذاهبون؟ كان يجيب بعبارات لا تحتوي جوابًا! مثل: لماذا نحن ذاهبون برأيك؟ سآخذك إلى مكان لم تره من قبل، لماذا تكثر الأسئلة هكذا؟ انظر إلى الطريق، تأمل في أراضي الله.

عندما اقتنعت بأنّه لا فائدة من السؤال، جلستُ كطفل مطيع، عدّلت جلوسي على الكرسي، ونظرتُ إلى أرض الله حتى غفوت.

وصلنا "يزد" ليلًا، فقام بشراء تذكرتين إلى "زاهدان"، ثم توجهنا إلى نُزل لنبيت ليلتنا. طوينا طريق (يزد - زاهدان) مع الأسئلة التي لا جواب لها أيضًا، ووصلنا زاهدان في الليلة التالية. كان مهدي يحمل
 
 
 
 
 
 
48

42

التهمة: الغياب لمدة شهرين

 معه عنوان مقهى، سأل عنه شخصين حتى عثرنا عليه. كان واضحًا أنّ عملنا مهما كان، فسيبدأ من ذلك المقهى. 


صاحب المقهى كان يعلم أننا لم نأتِ لتناول وجبة العشاء فقط، فبعد تناول عدة أسياخ من الكبد المشوي التي وضعت أمامنا على الطاولة. أخذ بأيدينا وعبرنا ممرًّا مظلمًا، في نهايته مبنى ذو باب خشبي قديم متصل بباحة صغيرة، فيها غرفة صغيرة، علينا أن ننام ليلًا فيها. خفض صاحب المقهى صوته، كان علينا أن ندخل الغرفة من دون ضجيج. بحثتُ عن زر الكهرباء كالأعمى، لكن مهدي أمسك بيدي وقال: "هس، لا تضيء المصباح لئلا يستيقظ النيام، فيسمعوا كلامنا".

باتت أيدينا تقوم بدور أعيننا، فتحسست الجدار لأجد طريقي عبره وسرتُ بمحاذاته حتى أحسست بشيء وثير لكنه خشن، كان شيئًا ما بدا كفراش، وهناك وسادة فوقه، تكفي لألقي برأسي عليها بعد كل عناء السفر، وأدس يدي في حقيبتي لأطمئن على مبلغ العشرين ألف تومان بعد سفر ثلاثة أيام. 

عندما استيقظت صباحًا للصلاة، فهمتُ لماذا منعني مهدي من إضاءة المصباح، فلم يكن في الغرفة غيري أنا ومهدي، لكن اللحاف والفراش مليئان بالقمل، والوسادة التي كانت في يوم من الأيام قماشًا أبيضَ أصبحت داكنة شديدة الاتساخ، ولم يكن غيري أنا ومهدي في الغرفة. صليتُ في الباحة، ولم أعد أرغب بالعودة إلى الغرفة، فتوجهتُ إلى المقهى وتمشيت فيه حتى حان وقت الفطور.

بعد الفطور، أبلغني مهدي بضرورة تصريف الأموال إلى عملات صعبة، كان يعرف العنوان مسبقًا. توجهنا مباشرة إلى الصراف "عبد
 
 
 
 
 
49

43

التهمة: الغياب لمدة شهرين

 المجيد"، أعطيناه المبلغ كله، وأعطانا بألف تومان "روبيات"1، ثم أخرج ورقة روبية واحدة من جيبه، ودوّن الرقم المتسلسل لها في دفتره، ثم شقّ الروبية إلى نصفين، أعطانا نصفًا وقال: "هذا وصل بباقي المال، عندما تصلون إلى "كراتشي" سلموهم هذا النصف، ليسلّموكم المبلغ المتبقي، فالبلوش لا يخونون مطلقًا، أبدًا".


عندها فقط أدركتُ أننا سنذهب إلى "باكستان"، مدّ مهدي يده إلى جيبه، وأخرج مالًا قدّمه لعبد المجيد بدل أتعابه، وودعه وعدنا إلى المقهى. كانت هناك سيارة نقل صغيرة من نوع "شيفروليه" تنتظرنا، ركبنا فيها وتوجهنا إلى "مير جاوه"، تزودنا ببعض الطعام لنستعين به على عبور الصحراء.

كان علينا انتظار حلول الظلام، ليشكل ساترًا حين ننتقل بدراجة نارية إلى الجانب الآخر من الحدود مع باكستان، بمساعدة أشخاص بدا أنّ عملهم الذي يتقاضون عليه أجرًا هو نقل المسافرين غير القانونيين. جاء أحدهم بدراجة روسية الصنع، وبعد نقاش ومفاصلة، رست الصفقة على مئة وخمسين تومانًا. 

سمعنا من قبل أن الدراجة الروسية سريعة ومحرّكها قوي، لكن هذا السائق لم يرحم حتى نفسه ليحصل على المئة والخمسين تومانًا، فكيف بنا نحن، تمسكتُ بشدة بالسائق، وتمسك مهدي بي. لن أبالغ إذا قلتُ إنّنا قطعنا نصف المسافة على المقعد ونصفها الآخر في الهواء. بسبب سرعته، وكان ضوء الدراجة لا يكشف المطبات والمرتفعات القليلة والكبيرة في الطريق صعودًا وهبوطًا في الصحراء. 

وكلما صرخنا به "خفّف السرعة"، يقول: "تمسّكوا جيدًا يا أخوة،
 

1- عملة هندية.
 
 
 
 
50

44

التهمة: الغياب لمدة شهرين

 إنه عملي، وأنا أُجيده، لن يحصل شيء". لكنّ دراجته كانت ترتفع عدة أمتار ثم تهبط، فينال منا الألم، لنصرخ ثانية: "خفّف سرعتك بحق القرآن". 


توقف السائق وقال: "هل تريدون أن أعيد إليكم أموالكم لتترجّلوا في هذه الصحراء؟!". عندها، عبرنا ما تبقى من الطريق صامتين، فيما تحطّمت أبداننا وعُجنت، وتغبّرت وجوهنا حتى وصلنا الجانب الآخر من الحدود.

وما إن وصلنا حتى تحرك السائق وغادر المكان بالسرعة نفسها حتى غاب عن النظر، سرنا وحيدين في الصحراء، ومصابيح المدينة تغازلنا من بعيد، وجدنا حفرة بدت كأنها تدعونا للنوم فيها حتى صلاة الصبح. اتخذتُ من حقيبتي وسادة، ولم أعد أعي شيئًا حتى أيقظني مهدي. توضأنا بماء الشرب الذي كان معنا، وصلينا، وانطلقنا مشيًا على الأقدام.

لم يكن يفصلنا عن مدخل مدينة "تفتان" سوى كيلومترين. خلال الطريق بدأ مهدي يوضح لي سبب مجيئنا إلى هنا، وماذا علينا أن نفعل. توقفتُ ونظرت إليه ليدرك أنه لم يعد هناك من داعٍ لإخفاء هذا السر حتى الآن. 

اختبأنا قرب سكة القطار، وما إن تحرك القطار حتى هرولنا خلفه، وتمسكنا به، واختفينا داخل عربة شحن البضائع. 

قبل الوصول إلى محطة مدينة "نوكندي" خفف القطار من سرعته، فقفزنا منه، ودخلنا سوق المحطة، تناولنا خبزًا يقال له "تشاباتي" يعدّ من القمح والزيت والسكر. بعد الفطور، كانت المهمة - كما أخبرني مهدي - أن نعثر هنا على عالم دين اسمه "مقيسة". لا أدري كيف نسّق
 
 
 
 
 
51

45

التهمة: الغياب لمدة شهرين

 الأمر بحيث عثرنا عليه سريعًا. 


هذه المرة كمنّا نحن الثلاثة للقطار، وعندما تحرك ركبنا إلى "كويته" لنلتقي هناك بإمام الجماعة، وهو سيد معمّم، يقال إنّه ممثل الإمام الخميني في كويته. استضافنا عنده ثلاثة أيام، وضّحنا لسماحة السيد الأوضاع الإيرانية، وتوجهات الناس، وظلم النظام. كان يهزّ برأسه ويقول: "كلّي أمل بالفرج، سريعًا ستحدث وقائع مهمة في إيران".

نحن لم نر الإمام الخميني، لكنّنا شعرنا بحضوره من خلال كلام ممثّله الذي زرع فينا الطمأنينة. 

خلال هذه الأيام الثلاثة، كان مهدي يحاول تأمين تذاكر سفر إلى "كراتشي" حيث المكان الذي وعدنا الصراف عبد المجيد باستلام باقي أموالنا فيه. لم أكن مطمئنًا لصدق كلام ذلك الصراف البلوشي، لذلك كنتُ أريد الذهاب إلى هناك سريعًا.

في كراتشي، توجهنا إلى فندق نادري، وضعنا أغراضنا في الغرفة، ثم توجهنا نحو "زال" حسب العنوان الذي أعطانا إياه عبد المجيد، وقال إنّه رجل ضخم، بلحية وشارب كثيفين. 

كان جالسًا أمام دكانه يدخّن النرجيلة. بعد أن تأكدنا من شخصيته، سألناه: "هل أنت زال؟". مدّ يده إلينا وكأنه عرفنا، وعرف من الذي أرسلنا إليه. فقال: "نعم، لقد تأخرتم". 

حمل نرجيلته بيد، ودفعنا بيده الأخرى لندخل الدكان. دفعتُ إليه نصف الروبية، ففتح دفترًا جلديًا وأخرج النصف الآخر، ووضعهما إلى جانب بعض، فوجد الرقمين متطابقين.

قلت لمهدي: "جلّ الخالق، لقد وصل النصف الثاني للروبية إلى
 
 
 
 
 
52

46

التهمة: الغياب لمدة شهرين

 كراتشي قبلنا". عندها سألنا "زال": "والآن ماذا تريدون؟". نظرتُ إلى مهدي وإلى "زال" بتعجب، فسؤاله بثقة أغضبني. ولو حصل ذلك في إيران، وسألني أحدهم بهذه الصيغة لأمسكتُ بتلابيبه وقلتُ له: "ما هذا السؤال؟ ماذا نريد!".


لكننا الآن في بلد غريب، أفهمته ما نريد بحركات وجهي. عندها قال: "أقصد هل تريدون دولارًا أم روبية أم ريالًا أم ماذا؟". تنفستُ نفسًا عميقًا لدرجة أنّني سمعته بنفسي وقلتُ: "أعطنا المبلغ بالدولار، فهو يصلح في كل مكان". 

فتح خزنته الحديدية، واستخرج حفنة من الدولارات، وبعد أن قام بعدّها عدة مرات، تناول ربطة مطاطية وربط حزمة المال بها، وقدّم المبلغ بكلتا يديه: "تفضلوا، هذا ما يعادل تسعة عشر ألف تومان بالتمام والكمال، تفضلوا حتى أسكب الشاي".

شكرناه وعدنا إلى الفندق. قال مهدي موضحًا أنّ عليّ التنسيق مع عدّة أشخاص لنذهب إلى لبنان لنتلقى هناك التدريب العسكري الخاص. عندما سمعتُ اسم لبنان انزعجتُ قليلًا، فقد اعتدتُ طريقة مهدي في العمل، ومعرفة المعلومات بالقطارة، وكنتُ أظهر الانزعاج والتأسف، لكن هذه المرة قلتُ له بجدية: "لو أخبرتني في "نور آباد" أننا نريد الذهاب إلى لبنان، لما أخبرتُ أحدًا، فمتى سأعلم بكل شيء؟".

ابتعد قليلًا، وتأملني، ثم ضحك بصوت عالٍ وقال: "أخيرًا، رأيت كيف يغضب السيد جعفر". ثم أقسم أنّها آخر معلومة، وليس لديه ما يضيفه.

بعد يومين أبلغني مهدي في الفندق: "لقد أمّنوا لنا هويات باكستانية، واشتروا لنا تذاكر سفر بالطائرة إلى دمشق. علينا السفر
 
 
 
 
 
53

47

التهمة: الغياب لمدة شهرين

 بعد غد". عصرًا، ذهبتُ إلى سوق كراتشي المركزي، جلت فيه، واشتريتُ بعض السفاسف1 التي أعجبتني ولم أر مثلها في إيران. وفي صباح اليوم التالي قمتُ بزيارة عدة أماكن في كراتشي لأتعرف إليها جيدًا. لكني نسيتُ أنّ هناك حظرًا للتجوال عصر ذلك اليوم، وأنّ رحلتنا إلى دمشق ستلغى.


كانت آخر أيام حكومة "ذو الفقار علي بوتو"2، ولمنع انتشار التظاهرات الشعبية وجدت السلطات أنّ الحلّ الأفضل هو إعلان حال الطوارئ، ولا يُسمح للناس بالتجوال إلا بين الخامسة والسادسة عصرًا. قضينا أربعة أيام في الفندق، نخرج إلى البهو لنتشمّس فقط، خشية أن تعتقلنا شرطة "بوتو" ويعرضونا للاستجواب.

بعد عدة أيام من إعلان حال الطوارئ، حضر شاب إيراني إلى بهو الفندق وسأل موظف الاستعلامات عني وعن مهدي. أسرعتُ إلى الغرفة وأخبرتُ مهدي بذلك. فسألني: "ألهجته أصفهانية؟". 

- بلى، كان أصفهانيًا. 

- اجمع أغراضك علينا الرحيل.

دفعنا حساب الفندق، وذهبنا مع الشاب الأصفهاني إلى بناية من طابقين في محلة "ناظم آباد"، وعند صعود الدرج التقينا بعدة أشخاص استقبلونا وعانقونا. وعندما دخلنا، قدموا أنفسهم: "عبد الله نوري3"، يبدو أنه المسؤول هناك، "السيد سراج الدين الموسوي4
 
 

1- أشياء بسيطة ورخيصة.
2- ذو الفقار علي بوتو سياسي مؤسس حزب الشعب الباكستاني، كان رئيسًا للوزراء، فأطاح به الجنرال ضياء الحق بانقلاب عسكري، ثم أعدمه في نيسان 1979م.
3- الشيخ عبد الله نوري، تولى منصب وزير الداخلية لفترة في حكومة الشيخ رفسنجاني.
4- السيد سراج الدين الموسوي، خدم بعد الثورة في مكتب سماحة الإمام الخميني الراحل.
 
 
 
54

48

التهمة: الغياب لمدة شهرين

 و"الشيخ الإبراهيمي1"، وسيد رابع من آل الموسوي استشهد فيما بعد خلال الحرب المفروضة، لكنه ليس من أقارب السيد سراج الدين.


دامت حال الطوارئ أربعين يومًا، بقينا طوال هذه المدة في كراتشي داخل ذلك المبنى، وكنا كباقي أهالي باكستان يمكننا الخروج في الساعة المحدّدة عصرًا للشراء والعودة سريعًا إلى المسكن. 

في آخر لحظات ساعة التجوال، أي قبل السادسة بدقائق، كان الباعة يبيعون بأقل من نصف القيمة، ويهرولون خلف الناس كمن يستعطي ليشتروا منهم. لذلك كان البعض ينتهز هذه الفرصة ليشتري في آخر دقائق، ويسرع إلى البيت. 

أما في يوم الجمعة، فكان الوضع مختلفًا، كان يحق للناس التجوال عدة ساعات. وفي أحد الجمعات، بينما كان الناس يطلقون شعارًا يقول: "عد يا بوتو إلى قريتك "لاركانه" أو اذهب إلى السجن". تأثرت ودمعت عيناي، حدثتني نفسي بأمل: "يا إلهي هل سيأتي اليوم الذي نستطيع فيه أن نطلق مثل هذا الشعار في إيران ضد النظام البهلوي؟!".

كان لمنع التجوال بعض الحسنات، لأننا كنا نجلس في ذلك المبنى المكون من طابقين لنتحدث حول مستقبل إيران، وآراء الإمام الخميني، والكتب التي يتداولها الثوريون حينها، وضرورة إيجاد تنظيم للمواجهة، بل وكيفية إقامة حكومة إسلامية في إيران! وكانت الآراء مختلفة في بعض القضايا، شُحنت تلك النقاشات بجاذبية الاختلاف، وأظهرت من الحديث مختلف المبررات. 

بعد أربعين يومًا هدأت الأوضاع قليلًا، أخذنا جوازات السفر الباكستانية المزورة، وتذاكر الطائرة، وتوجهنا إلى مدينة جدة في
 
 
 

 1- الشيخ الإبراهيمي، كان مسؤول مكتب الشيخ المنتظري حتى وفاته.
 
55

49

التهمة: الغياب لمدة شهرين

 السعودية، ومن هناك إلى دبي، ثم إلى سوريا.


في مطار دمشق، قالوا إنّ هناك تعميمًا يمنع دخول الباكستانيين إلى سوريا، فمُنعنا أنا و"مهدي" و"مقيسة" ولم نستطع الوصول إلى مدينة دمشق، في حين لا نجرؤ على العودة إلى باكستان. كان في المطار رجل إيراني يتكلم اللغة التركية الآذرية، وكان قادمًا من الكويت، وبدا أنّ وضعه المالي جيد، والشرطة السورية تظهر له الاحترام. طلبنا منه أن يفعل لنا شيئًا كي نتمكن في الحد الأدنى أن نزور مرقد السيدة زينب عليها السلام. فاعتذر لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا، ثم تناول محفظته أخرج منها ألف دينار كويتي قدمها لنا وابتعد عنّا فورًا، من دون أن يترك لنا فرصة لنقول له إنّنا لا نحتاج إلى ماله، ولا ليتوسّط لنا لنزور أيضًا.

بات شراء تذاكر العودة إلى باكستان خيارنا الوحيد. وقبل موعد الرحلة، شرعنا أنا ومهدي بشكل سريع في كتابة رسائل تطمئن أُسرتينا أنّنا سالمان لئلّا يقلقوا علينا، لنرسلها بيد المسافرين إلى إيران، لكن أحدًا لم يقبل، فاضطررنا أن نضعها في صندوق بريد المطار، ونركب الطائرة.

العجيب أن رسالتي نجحت في الوصول إلى البيت، بعد أن كان تملّك القلق أسرتي، وكانوا يجهزون لي صورة ليتمكن الدرك من الإعلان عني كمفقود. وفي آخر اللحظات وصلت رسالتي، فتوقفوا عن القيام بذلك.

عدنا إلى باكستان، كنّا في المطار نناجي الله لئلّا يكتشفوا أن جوازاتنا مزورة، لم يكن شكلي سيئًا، شعري أصبح طويلًا، وكنت أرتدي ملابس فخمة، مهدي ومقيسة كانا يتصرّفان بشكل طبيعي. إلا أننا لجأنا إلى بعض الحيل حتى خرجنا من المطار، لكن شرطيًا خلفنا
 
 
 
 
 
56

50

التهمة: الغياب لمدة شهرين

 نادانا، للحظة تحيّرنا ماذا نفعل؟ هل نركض ونفرّ، أم نرد عليه، فنتعرض للاعتقال والسجن؟


تمالكتُ نفسي ونظرتُ إلى الخلف بهدوء، فتبين أنه أشار إلى سيارة أجرة لتنقلنا، وفتح لنا باب السيارة وقال باحترام: "تفضلوا". لشدة فرحي أخرجت عدة روبيات من جيبي وأعطيتها للشرطي، وطلبتُ من السائق أن يسرع بنا إلى فندق نادري.

وفي اليوم التالي توجهنا إلى الشخص الذي أعدّ لنا الجوازات المزورة. أعطيته جوازي الكويتي الذي كنتُ أستعمله سابقًا، ليجعله مناسبًا لمهدي، فأمّن له تذكرة طائرة إلى أوروبا حيث نسّق مهدي سفره مع أصدقاء له في أوروبا عندما رفضوا دخولنا إلى دمشق، اتصل بهم من المطار واتفق معهم، وتقرر أن يبقى مقيسة في باكستان، وأن أعود أنا إلى إيران.

عودتي إلى إيران كانت شاقّة، فلم يعد مهدي معي هذه المرة. وجوده معي دومًا كان يشجعني، أمضيت خمسة أيام لأصل إلى "نور آباد"، عندما وصلتُ إلى زقاقنا، بدت لي زوجتي من بعيد واقفة تنتظر، كانت تترصّدني كل يوم لعلّها تجدني. عندما اقتربتْ وتأكدتْ مني، نظرتْ إليّ بدهشة وانفجرت بالبكاء، وفي باحة البيت أمطرتني بالأسئلة، وبقيت عدة أيام أمثُل كالمتّهم الذي يخضع للمحاكمة والاستجواب أمام عدة قضاة.
 
 
 
 
 
57

51

هذان الشخصان

 هذان الشخصان


أضحت "نور آباد" مقرًّا لإعدادنا واستعدادنا نفسيًّا لمواجهة الأيام الصعبة إبان الثورة، ثم الحرب المفروضة فيما بعد. خلال مرحلة الإعداد والاستعداد، كان وجود شخصين له الأثر الكبير. أحدهما "مهدي الفيروزي" بشبابه، والآخر هو السيد الروحاني الذي نفاه "السافاك" إلى "نور آباد"، وأصبح فيما بعد من قادة الثورة. 

لا بدّ لي هنا أن أتحدّث أكثر عن مهدي الفيروزي وشخصيّته الفريدة - إذ ترك أثرًا عجيبًا عليّ وعلى الكثيرين غيري- وأن أتحدث بالتفصيل أيضًا عن ذلك السيد الروحاني. لكن للحديث عن شخصية مهدي، سأضطر لعدم الالتزام بالتسلسل الزمني في مذكراتي، وسأشير إلى حاله وردود فعله في أوائل الثورة أيضًا.

منذ عام 1975م، وبداية انتقالنا إلى "نور آباد" وحتى الآن، لم أدرك من أين اكتسب مهدي ذو الثمانية عشر عامًا كل هذا الوعي وكل تلك المعلومات الدقيقة، وبمن كان يلتقي وأيّ كتب يطالع. كان يتحدث حينها عن شخصيات بطريقةٍ لم يتقبّلها كثيرون، وأنا منهم، ولم نستحسن كلامه عنهم. لكن تبيّن لنا مع مرور الزمن أنّه كان مصيبًا.

ففي ذلك العام، كان هناك طالب علم شاب يدعو لأحد مراجع التقليد بشدة، لكن مهدي ردّ عليه بهدوء قائلًا: "ليس الأمر كما
 
 
 
 
 
58

52

هذان الشخصان

 تعتقد، فهذا الرجل ليس سوى مرجع تقليد للشاه، ولم يفعل شيئًا للناس المستضعفين".


تأوّه طالب العلم الشاب بصوت عالٍ، ثم صلّى على النبي وآله ثم كبّر. كان يقصد بذلك أنّ مهدي قال شيئًا مُنكرًا، وهو قد كظم غيظه، ثم قال: "بُني، هل تدري عمّن تتكلم؟ إنّ السيد لديه في إيران وحدها سبعة ملايين مقلّد".

لكنّ مهدي أجابه ببرود أكثر: "لنفترض أنّ لديه عشرين مليون مقلّد، لكنّ نهايته وعاقبته القرب من النار". وأضاف: "للدين قشر ونواة وكثيرون أخذوا القشر وأهملوا النواة".

أجاب طالب العلم: "وهل تريده أن يقف بوجه الشاه كما فعل السيد الخميني، وسالت كل هذه الدماء المظلومة بسببه؟!".

للحقيقة، كنتُ أخشى أن أتكلّم مثل مهدي، لذلك غيّرتُ وجهة الحديث كي أمنع استمرار الخوض فيه. خشيتُ أن يكون هذا الكلام حول عالم دين لديه كل هؤلاء المؤيدين، أمرًا غير صحيح. لكن مهدي كان مصرًّا على ذكر أدلة أخرى على أنّ الإسلام لا يُختصر بإصدار الأحكام الفقهية والذهاب إلى المسجد والصيام، بل يجب أن يكون مفيدًا للمجتمع.

معرفة مهدي حول رجال الثورة ليست مقتصرة على العلماء والحوزة العلمية، فعندما عاد من أوروبا بعد شهر من السفر، كان يشرح لعالم الدين المنفي هناك حول سفره، ويقول: "في إيران، هناك مَن يعمل لتولّي السلطة بعد سقوط نظام الشاه". تعجّب العالم المبعد مثلي أيضًا، عن أيّ حكومة يتحدّث مهدي؟! لا أحد يعرف ما سوف يحصل. لكن مهدي كان يقول بجدّيّة: "كلا، هؤلاء جلسوا ليخطّطوا".
 
 
 
 
 
59

53

هذان الشخصان

 وأخذ يسرد أسماءهم: "هناك شخص منهم ذو اتجاهات سبعة اسمه "اليزدي"، وآخر متهتّك اسمه "قطب زاده"، وهناك ابن عالم دين خبيث اسمه "بني صدر". وذكر أسماء أفراد آخرين لأول مرة نسمع بأسمائهم. لكن فيما بعد تبيّن لنا صحّة ما قاله مهدي، أتوا واستلموا السلطة لمدة بسيطة.


لقد كان يعرف التيارات الفكرية، والأشخاص الذين لهم علاقة بالثورة. كان ينتقد المهندس بازركان كثيرًا، لأنه يدفع باتجاه دعاة الوطنية، ولا يؤمن بالعلماء وقدرتهم على إدارة البلد. لكنّه في الليلة نفسها حين أعلنت الإذاعة تكليف الإمام الخميني لبازركان كرئيس وزراء للحكومة المؤقتة، قال مهدي لكل من سمع رأيه فيه: "لا أسامحكم إن ذكرتم ما قلته عنه أمام أحد، وما دام الإمام يدعمه، فنحن علينا الإذعان".

بداية انتخابات رئاسة الجمهورية، كنتُ في قوات حرس الثورة الإسلامية في "نور آباد"، ومهدي كان في قوات الحرس في "شيراز". اتصلتُ به ليلة الانتخابات وقلتُ له: "يا مهدي، غدًا الانتخابات".

ضحك وقال: "أصبحت الآن تنبئ عن الغيب!". 

- لا، ولكن نريد أن نعرف لمن نصوّت؟ 

كان يعلم أنّ رأيه مهم جدًا بالنسبة إليّ، فقال: 
- تسألني أنا؟! وما يدريني؟!

- بصراحة، لمن ستصوّت أنت؟

- وما يعنيك من ذلك؟ وهل رأيتني أسألك يا جعفر؟

- تكلم بطريقة حسنة يا مهدي.
 
 
 
 
 
60

54

هذان الشخصان

 - هذا هو الموجود. وأفضل من هذا لا أعرف.


كان خلافًا للآخرين، أكثر جدّية عند المزاح، لذلك تغيّرت لهجته وخاطبني: "سيد جعفر، لولا أنّ الإمام الخميني لم يوجب التصويت، لما ذهبتُ إلى صندوق الانتخابات، ولو خُيّرت بين رجوي وبني صدر، لصوّتُّ لرجوي". بدا أنّه أحسّ أني تعجبتُ من كلامه، فوضّح لي قائلًا: "رجوي معروف بتوجّهاته، في حين أنّ الكثيرين لا يعرفون بني صدر".

كلامه هذا كان عجيبًا جدًا بالنسبة إليّ وإلى الكثيرين مثلي، إذ كنّا نعتقد أنّ بني صدر دكتور في الاقتصاد، ويتمتّع بدعم الإمام الخميني، ويستطيع أن ينعش اقتصاد البلد، وكان يطلق كلامًا متطرفًا وأكثر ثورية من الإمام الخميني. لكن بعد عدة أشهر اكتشفنا أن توقّعات مهدي كانت صحيحة، وإن كان لم يبق حيًّا ليرى صحة باقي توقعاته.

ففي صباح باكر، خرج من بيته متوجّهًا إلى عمله في قوات الحرس، اغتاله المنافقون وفرّوا. ثماني عشرة رصاصة أصابته في بدنه، فاستشهد في أرضه، خسرت قوات حرس الثورة في بدايتها أحد أفضل شبابنا فكرًا1. لم يخطئ الذين اغتالوه في الاختيار، كانوا يعلمون أنه كان لا يرى ابنته الصغيرة مستيقظة إلا مرة في الأسبوع، فعندما يذهب إلى عمله صباحًا يجدها نائمة، وعندما يعود من عمله ليلًا تكون قد نامت.. وهكذا. 

أذكر عندما نصحته أن يخصّص وقتًا أطول يقضيه مع أسرته على الرغم من ضغوط عمله، قال لي: "بوجود كل هؤلاء المنافقين وأعداء الثورة، كم شخصًا لدينا في أمن الحرس ليعملوا على ملفّاتهم؟"، كل
 
 

1- يوم 19/10/1981م وفي صباح دامٍ، انطلقت السهام السامة من قوس حقد المنافقين لتصيب قلب أسوة التقوى والاستقامة الشهيد مهدي الفيروزي، وكان عمره حينها خمسة وعشرين عامًا.
 
 
 
 
 
61

55

هذان الشخصان

 هذا وكان راتبه من قوات الحرس حينها ثلاثة آلاف تومان. 


عليّ أن أخجل من أناس كانوا ينفقون ممّا يمتلكون لأجل الثورة كمسلمي صدر الإسلام. ما ذكرته عنه هو غيض من فيض. إن وجود أمثال مهدي في مسيرة الثورة كان كافيًا ليشحذ همم الكثيرين، ليتقدّموا ويعملوا بجد. كان مهدي في شيراز ونور آباد من هؤلاء الذين كان لهم تأثير عميق عليّ وعلى كثيرين غيري. 

كما ذكرت سابقًا، كنتُ إلى جانب مهدي شابًّا ثوريًّا، وحدث أن قدم إلى "نور آباد" سيّد معمّم. كان يتوجّب أن نعرف هويّته، وطبق الأصول الأمنيّة للمجموعة يجب الاقتراب منه بحذر. فقصدتُ الحاج موسى رضا زاده، وهو من أهالي "نور آباد" وصاحب دكان فيها، كنتُ قد تعرفت إليه من قبل، كان متعاونًا مع مجموعتنا، طلبنا منه أن يعرف من هو هذا المعمّم؟ ومن أين أتى؟ وماذا يفعل هنا؟ وما هو نهجه الفكري؟

كانت صلاتا المغرب والعشاء في المسجد خلف ذلك المعمّم، كافيةً ليعرف الحاج موسى كل شيء، بعد ساعتين من أذان المغرب عاد وقال: "إنّه آية الله مدني، من أهالي "آذرشهر" في آذربايجان الإيرانية، قد نفته الحكومة من "خرم آباد" إلى هنا".

في الليلة التالية، ذهبتُ أنا ومهدي ومحمود للصلاة خلفه، وبذريعة معرفة الفرق بين الماء المضاف والماء المطلق اقتربنا منه، ثم عرّفناه بأنفسنا، وأصبحنا من تلامذته ومريديه حتى آخر عمره، فيما بعد وبقيت رؤيته للحظة حسرةً في قلوبنا.

عرفنا منذ البداية أنه بعد دراسته الابتدائية انتقل من "آذر شهر" إلى "تبريز" ومنها إلى "قم" ثم إلى النجف، وأصبح من خواص تلامذة
 
 
 
 
62

56

هذان الشخصان

 آية الله الخوئي. فيما بعد، رأيت إجازة اجتهاده بخط آية الله الخوئي. عندما نُفي الإمام الخميني إلى النجف1، جذبه ضميره الطاهر إليه، وجرى نقاش بينه وبين أستاذه آية الله الخوئي حول مسألةالتحرّك بوجه الشاه، يحكي عن الاختلاف في النظر إلى الأمور..


واضطرالسيد مدني للعودة إلى إيران، ولإحساسه بالواجب في دعم أهداف الإمام الخميني، يشرع بتعريف الناس بنهج الإمام الخميني وآرائه.

حضوره ونشاطه جعلا جهاز السافاك يشكّل له ملفًا خاصًا منذ البداية. اتصل رئيس السافاك ببيت السيد مدني في "خرم آباد" شخصيًا، وكان آية الله مدني يجيب بنفسه على الاتصالات، لكن رئيس السافاك لم يعرّفه بنفسه، بل تحدث بصفة موظف إداري، وسأله: "أي مرجع تقليد عليّ تقليده؟". 

قدّم السيد المدني له الأدلّة الشرعية والعقلية على صحة العدول من مرجع إلى آخر، وأكّد له أنّ تقليد آية الله الخميني واجب حاليًا.

عندها يجيبه رئيس السافاك: "إني آكل من مال الحكومة، والنظام ليس على علاقة جيدة معه".

يرد عليه آية الله المدني: "لم أطلب منك أن تأخذ رسالته العمليّة إلى الإدارة، ولا داعي أن تخبر أحدًا بمن تقلّد، فمسألة التقليد بينك وبين الله ومرجع تقليدك".
 

1- آية الله السيد أسد الله المدني، دعاه أهالي همدان بعد انتصار الثورة إلى مدينتهم، وانتخبوه عضوًا في مجلس خبراء تدوين الدستور الإسلامي، بعد استشهاد آية الله القاضي الطباطبائي عيّنه الإمام الخميني أول إمام جمعة في تبريز، وممثّلًا للولي الفقيه فيها، جاهد من منبره هذا لصيانة قيم الثورة الإسلامية، استشهد على يد المنافقين في 10/9/1981م في محراب صلاة الجمعة بتبريز عن عمر ستة وسبعين عامًا، شُيّع في تبريز ثم في قم، ودفن في حرم السيدة المعصومة (س).
 
 
 
 
63

57

هذان الشخصان

 على إثر ذلك، ينقل أحد تجّار "خرم آباد" للسيد آية الله مدني ما حدّثه عنه رئيس السافاك، فيردّ عليه السيد المدني: "قل له إني أقول ذلك للجميع، لأنّه تكليفي الشرعي".


بعد هذه المناوشات، يقرّر جهاز السافاك في خرم آباد نفيه منها، وفي الليل يطرقون باب بيته، حيث يطلّ عليهم بملابس البيت من دون عمامة وعباءة، فيأخذونه من هناك إلى دائرة الشرطة، ثم مخفورًا1 إلى "نور آباد ممنسي"، وعندما يخرجون من خرم آباد يرسلون أحدًا ليأتيه بعباءته وعمامته.

خلال الطريق يتعامل مع رجال الأمن ويؤثّر في أحدهم، بحيث يضطر الرجل إلى خلع خاتمه الذهبي من يده، ليتوضأ ويصلّي جماعة خلف آية الله المدني.

طبق أحكام النفي، يتوجّب عليه في "نور آباد" مراجعة مركز الدرك وإثبات حضوره فيها وتوقيعه يوميًّا. فكان كل يوم بين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة ظهرًا يتوجه مشيًا على الأقدام إلى مركز الدرك ويعود.

طلبتُ منه عدة مرات أن أقلّه بالسيارة، لأنّ الجو كان حارًّا وقد تقدّم في السن، لكنّه أصرّ أن لا يذهب إليهم إلا ماشيًا. فاقترحت عليه: "اذهب في الصباح الباكر إذًا، حين يكون الجو ألطف"، فكان يجيب برفع حاجبيه ويقول: "كلا، في هذه الساعة أفضل".

في البداية، لم أكن أعرف سبب إصراره على هذا التوقيت بالذات وعلى السير مشيًا، فسرتُ خلفه عدة مرات، فتبيّن أنّه حين عودته من مركز الدرك، يجلس أمام ثانوية قريبة ويتكئ إلى عمود كهرباء
 

1- تحت الحراسة.
 
 
 
 
64

58

هذان الشخصان

 ليرتاح، وأثناء ذلك ينتهي دوام المدرسة وينصرف الأولاد، فيلتفّ حوله عدد منهم. 


وعندما سألته عن سبب تصرّفه هذا، أجابني: "هؤلاء شبّان، قلوبهم طاهرة نقية، يكفي أن يتساءلوا: لماذا يجب أن يتوجّه هذا السيد كل يوم إلى مركز الدرك ليوقّع، ليتنبّهوا إلى ظلم هذا النظام".

كان يُحدّث شبّان تلك المدرسة بكلام جميل، ويمازحهم، أكثر ممّا يقدم النصح والأحكام الدينيّة. فقد كان يعتقد أنّ الحسّ الذاتي عند الشباب قوي، يمكّنهم من اكتشاف الحقائق بأنفسهم. وكان يقول: "إذا دخل لصّ إلى بيت ما، فلن يخاف من استيقاظ الرجل الكبير والمرأة الكبيرة في السن، بل يخشى من استيقاظ الشباب. الآن في بيتنا لص، فأمريكا تنهب أموالنا وشرفنا وعزّتنا وحيثيّتنا، لذا علينا أن نوقظ الشباب".

بدءًا من الشهر الثاني لوجوده في "نور آباد" شرع بتدريس القرآن. كان يقيم جلسة التفسير ثلاث ليالٍ في الأسبوع، بعد صلاة العشاء، في بيته المستأجر بجانب مسجد الإمام السجاد عليه السلام. 

في البداية، كنا خمسة أشخاص، واتفقنا أن يأتي كل واحد منّا بشخصين معه. ومنذ الأسبوع الثاني لم يعد هناك متّسع في الغرفة. وكان الدرس منظّمًا جدًا، ومن يتأخّر دقيقة واحدة عن الصف لا يلتحق به، لأنه عند بدء الدرس يغلق الباب. 

كان الدرس الرابع مخصّصًا لسورة الحمد، حين قال شابٌ متحمّس من أهل المحلة: "سيدنا ليتك بدأت بسورة التوبة لأنها سورة الجهاد". تبسّم السيد مدني قائلًا: "يبدو أنك محب للقتال أيها الشاب، لا تعجل، فالقرآن كتاب يهدي إلى كيفيّة العيش، وعندما يتعلم الإنسان
 
 
 
 
 
 
 
65

59

هذان الشخصان

 كيف يعيش جيدًا، فستكون كل لحظاته جهادًا في سبيل الله".


ما زلتُ أتذكر الأمثلة التي كان يطرحها في درسه. في إحدى الليالي، أشار إلى المصباح المعلّق في السقف، وقال: "لو كان الإنسان لا يعرف شيئًا عن الكهرباء، لظنّ أنّ نور هذا المصباح ذاتي، في حين أنّ نور المصباح من مولّد الكهرباء، بحيث إذا انقطع اتصال المصباح بالمولّد بمقدار إبرة فسينطفئ، ولن يضيء حتى بمقدار شمعة. وهكذا هي العلاقة بين الإنسان وربّه، إذا انقطعت يختفي منه النور". 

ثم تحدّث عن تأثير الدعاء باكتساب النور، وقال: "عندما افتقدت السيدة خديجة عليها السلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فراشه، خرجت خلفه، ووجدته ساجدًا مرتميًا على الأرض باكيًا يقول: ربّي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا. هذا رغم أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل المخلوقات. إنّ هذا يدل على أنّ علاقة الإنسان بالله هي كعلاقة المصباح بمولّد الكهرباء، وأنّ أنوار البشر كلّها مستقاة من الله".

على الرغم من أنّ السلطة منعت دروسه القرآنية سريعًا، لكنّها تركت تأثيرها على الشباب، واستقرّت محبة آية الله المدني في القلوب. لذلك كان المتديّنون هنا وهناك يدعونه إلى منازلهم، وكان يكفي السيد أن يعلم أنّ صاحب الدعوة متديّن، من رواد المسجد ليثق به ويلبّي دعوته، من دون التدقيق في سيرته الشخصية وحياته. وكان حريصًا على الحضور في الموعد المقرر. عندما كانوا يدعونه في شهر رمضان للإفطار، كان يقول إما أن نصلي في بيت المستضيف أو في المسجد، لكن من دون تعقيبات كي لا نؤخره.

امتدّت علاقات آية الله السيد مدني مع الناس، وازدادت محبّته في قلوبهم يومًا بعد آخر، فأحسّت السلطة بالخطر، لأنّ هدف النفي
 
 
 
 
 
 
66

60

هذان الشخصان

 هو التقليل من تأثيره. اتّخذ القرار، ولا مجال لتغييره، فقد صدرت الأوامر العليا بإعادة نفيه، وهذه المرة إلى مدينة "قنبد كاووس"، كان الخبر سيّئًا بالنسبة إلينا، بعد أن أصبحنا كالفراش الذي يدور حول نور الشمعة.


أصرّ رجال الدرك على تقييد يديه، وأن يرافقه شرطيّان إلى حافلة "قنبد كاووس". كان مجرّد تصوّر هذا المشهد صعبًا علينا. قمنا بالتعاون مع الحاج موسى بتأمين سيارة "لندروفر"، وطلبنا من رئيس مركز الدرك أن يسمح لنا بنقله بهذه السيارة، قال: "شرط أن تتحمّلوا كلفة ومصاريف الشرطيّين أيضًا". وقد قبلنا ذلك، لكنّنا علمنا فيما بعد أنّ كلفة رحلة نفيه تلك قد صُرفت لذلك الرئيس، لكنّه نهبها منّا.

كنا في السيارة أنا والحاج موسى وسماحته والشرطيّان. تحركنا صباحًا، وعند الظهر توقفنا في شيراز للصلاة وتناول طعام الغداء. وقف السيد للصلاة ونحن خلفه، وقبل التكبير توجه إليّ وإلى الحاج موسى رضا زاده وقال: "لأنّ سفركما لكسب الثواب، عليكما أن تتمّا الصلاة ولا يجوز لكما قصرها". ولم يفهم الشرطيّان شيئًا من كلام السيد فصلّيا تمامًا معنا. 

عندما اقتربنا من "قنبد كاووس" طلبنا من الشرطيين أن نزور الإمام الرضاعليه السلام بما أننا أصبحنا قربه، فرفضا ذلك رغم إصرارنا، وقالوا: "إنّ مدينة مشهد هي خارج حدود مهمتنا، وإذا حصل أيّ مكروه فسيحكم علينا ونسجن، ولن يمدّ أحد يد العون لأسرنا".

حدّثهم الحاج موسى عن الثواب الأخروي للزيارة، وأننا سنراعي جانب الاحتياط، وألزمنا أنفسنا بوعود ومواثيق، إلى أن وافقا، فتوجّهنا إلى مشهد. كان يمكننا قصدها عند العودة، ولكنّنا أحببنا
 
 
 
 
 
67

61

هذان الشخصان

 أن نزور بمعيّة سماحة السيد.


استضافنا ليلًا آية الله الشيخ "المرواريد"، وفي اليوم التالي، توجهنا إلى "قنبد كاووس". بقي الحاج موسى هناك ليرتّب سكن سماحة السيد، فيما ودّعتُه أنا بالدموع. 

في نور آباد، بدا الفراغ الذي تركه غياب السيد واضحًا، وحاول كلّ منا في مسيرة المواجهة أن يمثّل صفة من صفات سماحة السيد، ولم تنقطع أخباره عنا، بل كنا نطمئن عليه من خلال الهاتف والرسول والرسائل وغير ذلك. 

لكننا بعد مدّة علمنا بأنه جرى نفيه مجددًا إلى مدينة "بوشهر" الساحلية، ومن بوشهر إلى ميناء "كنقان ودير".

لم تكن بندر1 كنقان تبعد عن "نور آباد" كثيرًا، ويمكننا زيارة السيد. تحركنا في الصباح الباكر أنا والحاج موسى ومحمود فيروزي إلى هناك، وتوجهنا مباشرة لزيارته، وبقينا عنده حتى الظهر. كما زاره غيرنا، أحدهم شخص اسمه "دوراهكي" من أهالي بوشهر، بدا أنه قد قرأ جميع كتب الدكتور علي شريعتي، وكان خلال حديثه يذكر اسم الكتاب والموضوع ورقم الصفحة. تعجّبنا نحن الثلاثة من ذاكرته العجيبة، رغم أننا كنا كتلاميذ لآية الله المدني نستند إلى كتب الشيخ المطهري، وأحسسنا بوجود هوّة بيننا وبين ذلك الرجل. لكنّ مجرّد حبّه لكتب الدكتور شريعتي كان علامةً على ثوريته، وهو ما يجمعنا.

ظهرًا، بعد صلاة الجماعة، أخبرنا السيد مدني أنّ هناك من دعاه إلى الغداء في بيته، والدعوة ستشمل 20 شخصًا من ضيوفه، فتوجّهنا جميعًا برفقة السيد وضيوفه، وكنّا أقل من عشرين شخصًا.
 
 

1- مرفأ.
 
 
 
 
68

62

هذان الشخصان

 الجو في "كنقان" رطب جدًا وحار، وقد استخدم المستضيف مكيّفين غازيّين في الغرفة، وكان قد مدّ المائدة وأعدّ الخضروات والمخلّلات والسلطات والمياه الغازية واللبن والخبز. وعند وصولنا، قدّم الأرز ويخنة الخضار الساخنة.


جلس السيد في المقدّمة، فيما توزّع باقي الضيوف على الجانبين، وجلس السيد "دوراهكي" إلى جانبي، فقرّب فمه من أذني وهمس: "لا ينبغي لسماحته أن يلبّي مثل هذه الدعوة، فالناس هنا لا يملكون ثمن مروحة سقف، في حين أنه شغل مكيفين غازيين". ثم أشار إلى المائدة وألوان الطعام المقدَّمة مضيفًا: "هذا الوضع لا يناسب عالم دين كبير ثوري".

مهما شرحتُ له أنّ كل هذا ليس منه، وأنّ تلبية الدعوة ليست تقصيرًا منه، وأنّ هذا حال المستضيف، لم يقتنع، وأخذ يحدثني عن صدر الإسلام، وكيف أنّ الأئمة عليهم السلام كانوا يرفضون الموائد الثرية. حتى عجزتُ عن نقاشه، لكني أحسستُ أن من واجبي نقل هذا الكلام لسماحته، التمستُ ذريعة لأقترب منه، وهمست في أذنه ما قال دوراهكي. فأجابني بهدوء: "إنّه مخطئ، سأوضح لكم فيما بعد".

ثم أخذ السيد بعض السلطة والأرز واليخنة. فيما كان دوراهكي يقول للمستضيف بصوت عالٍ ليسمعه الجميع: "شكرًا لك، إني أكتفي بكاسة صغيرة من اللبن وقطعة الخبز هذه".

عندما انتهينا من الطعام، شكر السيد صاحب البيت على الطعم الجيد للمائدة الثرية، ودعا له، وأمّن الآخرون على دعائه، ورُفعت المائدة، وعدنا إلى بيت السيد. 

في البيت، قام سماحته بالتوضيح بأن الإسلام قد وضع آدابًا
 
 
 
 
 
 
 
69

63

هذان الشخصان

 للداعي والمدعو، وأكّد على إجابة دعوة المؤمن واستجابة التلبية، إلا إذا علمت أنه آكل ربا أو محتال ومرتكب للمحرمات. عندما دعانا الرجل، كان يعلم أنّ السافاك أو الشرطة قد يستجوبونه لدعوته شخصًا منفيًّا، لذلك فهو يعلم الصعوبات التي قد يواجهها، كما إني استعلمتُ عنه، وعلمت أنه متديّن ثوري. كما إنّ الإسلام أوصى بحسن الضيافة، وأن تسعى قدر استطاعتك أن تكرم الضيف، وأن نستفيد من النعم الدنيوية، من دون أن نتعلق بها و....


رغم كل توضيحات السيد مدني لم يقتنع دوراهكي، بل كرّر رأيه: "علينا أن نراعي شعور الفقراء، وأن لا نتناول من هذا الطعام".

انتهى ذلك اليوم، وعدنا إلى نور آباد، وبعد عدة سنوات انتصرت الثورة الإسلامية، وكانت المفارقة أنّ ذاك الشخص الذي كان أحرص من سماحته ثوريًا1، قد أصبح ضد الثورة وفرّ من إيران.
 
 

1- ملكي اكثر من الملك (كما يقال في امثالنا).
 
 
 
 
70

64

القضبان الأولى

 القضبان الأولى


لم تُوجّه إلينا أي أسئلة، ولم يُجرَ معنا أي تحقيق، هكذا ومن دون سابق إنذار، وضعونا جميعًا في الجانب الخلفي للسيارة، ونقلونا إلى مركز الشرطة. اصطف الحراس على الجانبين على طول المسافة من المدخل حتى نهاية باحة المركز، يفصل بين الشرطيّ والآخر متر واحد. وكان لا بدّ لنا من اجتياز هذا الممر بين الحرّاس، ما إن خطونا الخطوة الأولى حتى سارع الشرطي الأول إلى توجيه لكمة قويّة لكلّ منّا، دفعتنا إلى الطرف المقابل، ليستقبلنا الشرطي الآخر برفسة قوية، ترسلنا إلى حيث كنّا.. وهكذا. 

لم يكونوا ينظرون إلى أشكالنا، فقد أضحينا أكياس ملاكمة لا غير. عند نهاية الممر، جمعونا في باحة صغيرة، ليتسلّى بنا أيّ شرطي يأتي ومن أيّ رتبة كان إمّا بلكمة أو رفسة ويهزأ بنا.

كان ذلك في العام 1976م، أي بعد عام من وجودنا في نور آباد، اتفقنا على الذهاب إلى "كازرون" بهدف التنسيق مع الثوريين هناك، وتبادل بعض البيانات. ولكن يبدو أنّ الشرطة كانت تراقبهم هناك، فعلموا بعلاقتنا معهم، لذلك فوجئنا بسيّارة الشرطة تستدير أمامنا فجأة، وها نحن في مركز الشرطة في "كازرون" حيث نتلقّى الضرب.

كان من بين المعتقلين شاب متحمّس، بدأ جهاده من قريته
 
 
 
 
 
71

65

القضبان الأولى

 "قاوكشك"1، واستمرّ يمارس نشاطاته في كازرون أيضًا، وكان رجال الشرطة يحقدون عليه كثيرًا، ويقولون له: أيها القروي، ما علاقتك بهذه الحماقات، اذهب وارعَ بقرتك.


كان يومئ برأسه إيجابًا، فيما يبدو ساخرًا منهم، وقد كان الضابط عديم الرحمة وجلفًا غليظًا في تعامله معه، كأنّه قاتل أبيه. وفجأة، رفع الضابط عصاه عاليًا لينهال بها على وجه الشاب الذي رفع يده ليتّقي بها وجهه. فأصابت العصا ساعته "واستن واتش" فتحطّم زجاجها، إلى ألف قطعة تناثرت لتصيب وجه أحدهم.

في الوقت نفسه، اقتادوا عدة أشخاص آخرين، كانوا قد اعتقلوهم في التظاهرات، كان أحدهم مصابًا برصاصة في رجله، ولم يضمَّد جرحه بعد، وما زال الدم يسيل منها. 

في تلك اللحظات، مزّق مهدي فيروزي ورقةً صغيرة من دفتره الجيبي، مرّرها على دم الشاب، ثم وضعها في دفتره. فسألته: "ماذا تفعل؟" قال: "إنّ هذا الدم قد سفك في سبيل الله والإسلام، أريد أن أحتفظ به للذكرى". 

بقينا هناك تلك الليلة، وعند صباح اليوم التالي بدأت محاكماتنا بشكل مجموعات كقطعان غنم، فجرم الجميع هو "الإخلال بالنظام العام للبلاد"، ومدة السجن غير محددة، ولا يحقّ لأحد أن يسأل: لماذا نُساق إلى السجن؟ أو كم هي مدة سجننا؟ فبمجرّد السؤال، تتوجّه الأنظار إلى السائل ليتعرّض للتعذيب.

بعد عدة أيام، سألْنا الحارس بحذر: "كم هي مدة السجن؟"، لكنّنا لم نحصل على جواب شافٍ، فجميعهم من الحارس إلى الرئيس
 
 

1- قرية تقع على مسافة مائة كيلومتر عن شيراز، قرب مضيق أبو الحيات، عند تقاطع شيراز - كازرون.
 
 
 
 
 
72

66

القضبان الأولى

 يجيبون: لا نعلم، تأتي الأوامر من الأعلى. بتنا من أصحاب السوابق، وأخذوا بصماتنا، والتقطوا لنا صورًا مع الأرقام، وحلقوا رؤوسنا. 


"محمود فيروزي" الذي كان أصغرنا سنًّا، إلا أنّه كان يمدّنا بالمعنويات، وكان يردّد: "إنّ هذه الأيام ستمضي بسرعة البرق، وتمرّ بسرعة الرياح، وستأتي الأيام المنيرة".

لم نكن نشعر بقرب تلك الأيام المنيرة إلى هذا الحد، كنّا نتعرّض للتعذيب والأذية والتحقيق بشكل دائم، ولا ندري شيئًا عمّا يجري خارج القضبان، العمل الوحيد الذي كان يمكننا فعله هو التواصي بالصبر ورفع روحية الآخرين. وكوننا لا نعلم شيئًا عن الغد، كنّا ننتهز فرصة الخروج للتشمّس، كي نتحدث عن نشاطات ما بعد إطلاقنا.

بعد عدة أسابيع، تقرّر السماح بالزيارات، مع تنفيذ الأعمال الشاقة، ولا يحقّ للزائر أن يتحدّث مع المعتقل إلا لعدة دقائق، ومن خلف شباك حديد يفصل بينهما متران، حيث يقف الزائرون صفًّا في جهة والمعتقلون صفًّا آخر في الجهة المقابلة. 

وكان عدد السجناء والزائرين كبيرًا، ممّا يضطرهم للتحدث بصوتٍ عالٍ ليتمكّنوا من سماع بعضهم البعض. التزم السجناء السياسيون فيما بينهم بأن لا يسمحوا لعواطفهم ومشاعرهم بالظهور، ولا البكاء خلال الزيارات، لتبقى معنويات زوّارهم مرتفعة، ولئلّا يشعر سائر السجناء بالضعف. 

لطالما كان السجناء السياسيّون في السجن في حالة صمت وتفكير وهمٍّ، لكن بمجرد أن يُذكر اسم أحدهم بأنّ لديه زيارة، تراه يتصنّع الابتسامة لتبقى على وجهه أمام زائره طوال فترة ذهابه وإيابه من قاعة الزيارات.
 
 
 
 
 
 
73

67

القضبان الأولى

 آخر اسم صدح عبر مكبّر الصوت هو اسمي. كانت والدتي قد جالت على مراكز الشرطة في عدة مدن بحثًا عني، حتى وصلت إلى "كازرون"، كنتُ مطمئنًا من قدرتي على ضبط أحاسيسي وعواطفي، وقد درّبتُ نفسي على ذلك، لكني كنتُ أخشى أن لا تضبط أمي عواطفها فتبكي أمامي، وتؤثر عليّ.


عندما دخلتُ قاعة اللقاءات، رأيت الكلّ ملتصقًا بالسياج ويتحدث بصوت عالٍ، أما أمي فكانت مستندةً إلى الجدار، والحرّاس منتشرون، يراقبون كل الحوارات. نظرتُ إلى حارسين قربي، ثم تقدمتُ وأمسكت بالسياج، وناديتُ: "السلام عليكِ يا أمي". بقيت مستندة إلى الجدار، ولم تبارح مكانها، ونادت بصوت أعلى من صوتي، كأنها تعمّدت أن تُسمع الجميع: "السلام عليك يا بني، هل أنت بخير؟". 

وقبل أن أجيبها الحمد لله. نادتني بصوت أعلى من السابق: "لا تغتم يا بني، فالسفلة قد سجنوا الإمام المعصوم من قبل، فمن تكون أنت؟!".

استنفر الحراس عندما لاحظوا أنّ أمي لم تتقدّم نحو السياج، فلم يدعوها تكمل كلامها، وشنّوا هجومًا على هذه المرأة المسنّة كأنّما يواجهون بطل مصارعة من الوزن الثقيل، كانوا خمسة حراس يهاجمون أمي! جرّوا عباءتها، وأخرجوها من القاعة.
 
سرت في جسدي قشعريرة من قساوة ما رأيت، لكنّي رغم ذلك شعرت بالفخر وأخذت أضحك من نفسي، كيف كنتُ قلقًا قبل الوصول إلى القاعة! انتشر خبر الكلام الذي صدر عن أمي بسرعة داخل السجن، وساهم في رفع معنويات الإخوة بتلك الجملة التي أطلقَتها.

أظنّ أنّ زيارة والدتي كانت في أول آذار 1977م، فبعد عدة أسابيع
 
 
 
 
 
74

68

القضبان الأولى

 حصل اختلاف في الرأي بين الشرطة والسافاك، فأُطلق على إثره سراح عدة سجناء سياسيين ومن بينهم أنا، بكفالة طبعًا. علمًا بأنّ توافر كفيل كان أمرًا صعبًا، فالكثير ليسوا على استعداد لكفالة سجين سياسي. 


وقد حدث أن وافق والد أحد أصدقائي على كفالتي برحابة صدر، لكنّه عندما علم أنني متهم سياسي لوى عنقه واعتذر من أبي مبرّرًا: "لو أنّ ابنك قد سطا على بيوت الناس، أو نصب واحتال - لا سمح الله -، أو ارتكب جرمًا أخلاقيًا لكنت كفلته، لكن حساب الجريمة السياسية يتكفّل بها الكرام الكاتبون (يقصد السافاك)، فلا تلوّثني بهم، لا أريد التورّط معهم"

عندها تبسّم أبي وقال له: "إذًا سنزعجك عند ارتكابه لسرقة بسيطة واحتيال شريف". وحاول مع آخرين إلى أن وافق أحد تجار السوق على كفالتي.
 
 
 
 
 
 
 
 
75

69

تثبيت الأمن

 تثبيت الأمن


مع اقتراب موعد انتصار الثورة الإسلامية، لم تعد "نور آباد" بالنسبة إلي مكانًا للنشاطات الثورية للمجموعة وحسب، فمن خلال العلاقات التي أقمتها مع أهالي "نور آباد" أضحت وطني الثاني، وأحسست بارتباطي بها، فكنت كل شهرين أتوجه في آخر الأسبوع إلى شيراز، وألتقي معارفي وأعود إلى عملي وحياتي، علمًا بأن تنسيق التظاهرات في كانون الأول 1978م وكانون الثاني وشباط 1979م، لم يترك مجالًا للعمل الخاص والمعيشة. بدا كأنّ النسيج المحروم والفقير في "نور آباد" وروحية العشائر في انتظار انتصار مثل هذه الثورة منذ قرون. فالإمام الخميني كان يعتمد على القلوب الصافية والنقية للناس، ومن واجبنا أن نوجه تلك الطاقات نحو أهداف الثورة.

أكّد الإمام الخميني على أهمية حفظ الثورة وصيانتها، لذلك شرعنا منذ يوم 12 شباط 1979م بتنظيم القوات الشعبية والثورية لحفظ النظام والاستقرار في المنطقة. في البداية عملنا تحت اسم لجنة الثورة الإسلامية في "نور آباد" من داخل مسجد الإمام السجاد عليه السلام، وكان إمام الجماعة سيد ثوري اسمه السيد عبد الرسول الموسوي كانت أصوله من "نور آباد"، لكنه قدم إليها من طهران. 

اخترنا بناية السياحة بناءً على اقتراح الحاج موسى وبعض الإخوة.
 
 
 
 
76

70

تثبيت الأمن

 في البداية تمنّع الحاكم عن الموافقة لكنّه قبل بشرط: "ما دام هدفكم هو حفظ أمن المدينة لا مانع لديّ، لكن أطلعوني على أعمالكم".


خلال شهر أيار 1979م، شكّلنا قوات حرس الثورة الإسلامية في نور آباد. جهّزنا بسرعة بطاقات انتساب، واخترنا ثمانين شخصًا من شباب العشائر المناسبين، وأجرينا معهم مقابلات وتقييمًا ليصبحوا أعضاءً في هذه القوات، ثم قمنا بتنظيمهم. أذكر أنني عندما ذهبت إلى طهران، التقيت مع الأخ جواد منصوري (القائد العام للحرس) حينها، ليصدّق بتوقيعه حكم تأسيس حرس "نور آباد"، أخذ الطلب وسأل: "أين تقع نور آباد؟".

قلت: "إنها من مدن محافظة فارس".

- انتظر حتى يتم تشكيل حرس "شيراز" لأعطيكم حكمًا بذلك. 

حدثته لمدة عشرين دقيقة عن القرى الكثيرة المحيطة بنور آباد، والنسيج العشائري الذي تتكوّن منه، والثقافة الخاصة السائدة هناك، وإذا لم نشكّل الحرس الثوري فسنخسر كل شيء. 

وسألته: "هل تشكيل الحرس الثوري في شيراز أوّلًا هو وحيٌ منزل؟". أخيرًا وافق، وأصدر حكمًا وقال: "ما دمتم ستشكلون قوات الحرس هناك قبل شيراز يجب أن تكونوا أربعة أشخاص لإدارة العمليات والمعلومات والأمن لنبرّر توقيع هذا التكليف". 

تناولت الورقة، وأخذت أدوّن الأسماء: عبد الرسول الموسوي قائدًا، واسمي للعمليات، وأضفت اسم قباد الأنصاري وأمير حسين رشيدي مساعدين. ناولته الورقة وقلت له بعزم: "بأمرك"، وتسلّمت منه التكليف وودّعته قبل أن يدخل أحد ويرى التكليف فيحاول أن يثنيه عنه.

لا شك أنها مهمة صعبة، فحفظ الأمن في نسيج معقّد ثقافيًا لأكثر
 
 
 
 
 
77

71

تثبيت الأمن

 من سبعمئة قرية1، يشهد بعضها خلافات عشائرية تاريخية، ويعتقد الكثيرون فيها أنّ عمل قطاع الطرق هو دليل على الرجولة والشجاعة.


كان لا بدّ لي أن أضع "خطة صداقة" مع القرويين الذين يعرفون الناس جيدًا، لأستفيد منهم في تغيير ثقافة "قطّاع الطرق" والسلب والنهب من نفوسهم. وهي بالطبع ثقافة نابعة من الفقر، لا تمنع نجابة أهلها أن يسألوا الشاب إذا تقدّم لخطبة فتاة عندهم عن تاريخه في السلب والنهب من نفوسهم، فإذا كان لا يملك تاريخًا في هذا المجال فسيكون جوابهم الرفض في كثير من الحالات، خشية أن تموت ابنتهم من الجوع لأنها تعيش في بيت رجل لم يكن لائقًا بالسلب والنهب ولا لمرة واحدة. ويقولون له: إذا عجزت عن تأمين خبزك من كدّك، يجب أن تكون قادرًا على السلب، لتؤمن خبز زوجتك وأطفالك.

في بداية العمل في اللجنة، جاء إلى مركز الحرس رجل في الأربعينيات، كان عبوسًا متوسط القامة، وقال إنه يعرف لصوص المنطقة: "والآن أوضاع البلد مضطربة، فإذا لم تقفوا بوجههم، فسيقومون بالتخريب، وهذا ما لا يناسب الثورة". أحسستُ بالصدق في كلامه، فتواعدنا على اللقاء في الليلة نفسها بعد الغروب عند بوابة الخروج من المدينة، لنذهب من هناك ونعتقل اللصوص. 

لكن ما إن خرج الرجل الغريب، حتى جاء الحاج "أكبر جمشيدي" من المتعاونين مع اللجنة، وهو معلم التربية الدينية واللغة العربية. فسألني: "ماذا يفعل هذا الرجل هنا؟!".

فشرحت له ما جرى، فضحك وقال: "يبدو أنك بسيط جدًا يا سيد أسدي، هذا الرجل هو زعيم اللصوص، وهو معروف في المنطقة".
 
 

1- يبدو انه قصد 700 قرية في محافظة شيراز ومدينتها.
 
 
 
 
 
 
78

72

تثبيت الأمن

 عندها تملّكتني الحيرة، لا أدري ماذا أفعل، فمن ناحية تواعدت معه، ويجب أن أذهب، كما إن كلامه استقر في قلبي. قلتُ للحاج أكبر: "لا بأس بالذهاب لمرة".


أخذت قطعة سلاح "G3" من الدرك، وتوجهت إلى الموعد برفقة أخي غلام حسين واثنين من الحرس: محمدي، ونصيب الله لشكري.

بمجرد أن رأى محمدي الرجل الغريب حتى ناداه: "يا ساتر، أنت هو؟!"، ثم نظر إلينا وقال: "إن عمل هذا الرجل دقيق جدًا". 

توجهنا إلى "سرابهرام" وتوقفنا قبلها بكيلومترين، وضعنا لوحة (توقف) التي حصلنا عليها من الدرك، ووضعناها وسط الطريق، كانت كل إمكاناتنا العسكرية بندقية "G 3"، مع مخزنين يحملها أخي "غلام حسين"، ومسدس شخصي ما زال معي منذ ما قبل انتصار الثورة، أضعه على خاصرتي تحت قميصي. 

انتظرنا كثيرًا من دون جدوى، إلى أن تعبنا. فجلس محمدي على المقعد الأمامي للسيارة، وأسند رأسه وبدأ بالشخير، بينما تبادلنا أنا وغلام حسين الدور للجلوس في المقعد الخلفي للسيارة، وبدأنا نشعر بالنعاس، فجأة صرخ نصيب الله: "الحقوا به، لقد ذهب".

قفزنا إلى السيارة وسرنا بها، قال الرجل الغريب: "إنها سيارة نيسان، ولم يتوقف رغم تلويحي له باللوحة". قلت لمحمدي: "أسرع، ألا تستطيع اللحاق بالنيسان؟". وبعد دقائق أدركناه، لكنه لم يتوقف رغم استعمالنا للبوق والمصباح، ولم يترك لنا المجال لتجاوزه. لم أكن أريد إصابة أحد، إلى أن صرنا بموازاته، أطلقت عدة رصاصات من مسدسي أمام سيارته محاولًا إخافة السائق ليتوقف، ثم تراجعنا إلى الخلف، عندها أطلق غلام حسين رصاصتين على الإطارات الخلفية
 
 
 
 
 
79

73

تثبيت الأمن

  لسيارة النيسان، فتوقفت إلى جانب الطريق، وترجل منها ثلاثة أشخاص، وفرّوا باتجاه الجبل، لم نتمكّن من اللحاق بهم، لأننا لا نعلم حينها إن كانوا مسلحين أم لا، واكتفينا باستعادة الخراف المسروقة.


ترامى إلى مسامعنا صوت أذان الصبح من القرية القريبة، توضأنا لنصلي، وما إن أنهينا الصلاة حتى ارتفع صوت "نصيب الله" ثانية: "لقد ذهب، هرب". تحركنا بسرعة، وكانت هذه المرة أقل صعوبة من سابقتها، توقفت سيارة النيسان الثانية بسهولة من دون إطلاق نار، حملنا خراف السيارة الأولى خلف خراف السيارة الثانية، وأخذناها جميعًا إلى اللجنة. 

امتلأت أجواء "مبنى السياحة" بأصوات معاء الخراف، لم نكن ندري من هم أصحابها، إلا أنّ الرجل الغريب قال إنّ بإمكانه العثور عليهم. عاد عصرًا بمعيّة عدة أشخاص، قالوا: "لولاكم لكنّا أُصبنا بنكبة" وأخذوا يدعون لنا بالخير. وأخذ الرجل الغريب يسألهم عن مواصفات خراف كل منهم، حملوها في سيارات الـ"نيسان" الخاصة بهم وذهبوا.

انتشرت بسرعة أخبار عن مواجهات قاسية تخوضها اللجنة مع اللصوص، كانت الرواية التي تناقلتها أفواه الناس أضخم بكثير من الحقيقة ومن قدراتنا الفعلية، فمثلًا عندما نعتقل لصين مع عشرة خراف، نسمع بعد يومين أننا اعتقلنا عشرة لصوص واستعدنا مئة رأس خروف، لم تكن مبالغات سيّئة، فقد كانت تشدّ عزمنا للعمل أكثر. 

عندما جرى تشكيل قوات الحرس الثوري، أكملنا هذه المهمة لكن بقدرات أكبر وأفراد أكثر، وواجهنا الإقطاعيين ومزارعي الخشخاش المخدر. وكان لذلك الرجل الغريب دورٌ كبير، فقد كان يعرف معظم
 
 
 
 
 
80

74

تثبيت الأمن

 القرى هناك. كنا نتوجّه معه ليلًا إلى إحدى القرى، عندما يطرق باب البيت، وتجيبه فتاة أو امرأة، كان يبادر بسؤالها: "هل أبوكِ أو زوجكِ هنا؟"، إن حضر، يطرح عليه بضعة أسئلة ثم نذهب، وإن لم يكن حاضرًا كان يقول لعلّه ذهب يبحث عن خراف أحد البائسين. كان يعرف الطرق التي يستخدمها اللصوص جيدًا، فحين نرافقه نجدهم. 


خلال المدة التي كان يتعاون معنا فيها لم يعد أحد في المنطقة يجرؤ على السرقة، وشيئًا فشيئًا لم تعد السرقة أمرًا يدعو للفخر بنظرهم. 

في الواقع، لم أحضر مراسم تقدم عريسٍ للزواج، لكني أعتقد أن والد الفتاة لم يعد يسأله عن تاريخه في السرقة، وإذا كان صاحب سوابق، لم يعد مستعدًا لتزويجه من ابنته. وذاك الرجل الغريب أصبح الآن من الثوار الناشطين في المنطقة، وقد رافقنا فيما بعد، أي خلال الحرب، إلى "فارسيات" وأصيب هناك. وقد كان خلال فترة النقاهة يتوجّه إلى تقاطع "نور آباد" ليساعد في حواجز التفتيش، ويشارك في مواجهة المنافقين، حتى أصيب إصابة قاتلة. وبذلك استشهد أحد الأشخاص المؤثّرين في حفظ أمن المدينة، ولحق به "نصيب الله لشكري" ليستشهد على يد المنافقين.
 
 
 
 
 
81

75

وديعة الوداع

 وديعة الوداع


جرى تثبيت وجود قوات حرس الثورة في "نور آباد" كرمز لقيام الثورة الإسلامية، وقد تواءمت الثقافة السائدة في المنطقة مع الثورة شيئًا فشيئًا. كنّا في بدايات شهر أيلول 1980م وقبل بدء العام الدراسي، بعد عام ونصف قضيتها في العمل المستمر من دون أخذ أي إجازة، كانت فرصة مناسبة لنذهب إلى "تبريز" لزيارة آية الله المدني. عندما أخبرت الحاج موسى، بدا وكأنه ينتظر هذا الاقتراح منذ أسابيع، ابتسم وقال: "اقتراح ممتاز، شرط أن نصطحب أسرنا معنا".

قلت: "اقتراحي هو للترفيه عن أسرنا أساسًا". 

في الحقيقة، الحاج موسى صديق محبّب، فمنذ الأيام الأولى لوصولنا إلى "نور آباد" احتل مكانه في قلبي، ربما كانت حيويّته الدائمة وتحرّكاته في النشاطات الثورية هي السبب، وتديّنه وتقواه المثالي، ما جعله شخصًا مميزًا. أصله من كازرون، وكان منذ ما قبل انتصار الثورة الإسلامية بخمس سنوات تاجرًا متنقّلًا، ينقل من كازرون بضائع من حبوب وملابس ليبيعها في نور آباد، ويشتري بثمنها الكشك والصوف والزبدة وما يرغب به أهل كازرون. 

بعد سنتين من هذه التجارة، استأجر دكانًا في قرية آهنكران بنور آباد، وسكن فيها. هكذا كانت تبدو حياته. 

لكن الحاج موسى كان يعرف الإمام الخميني، ويقلّده في الأحكام،
 
 
 
 
 
82

76

وديعة الوداع

 وكان ينقل الرسالة العملية للإمام الخميني إلى نور آباد، ويعلّم أهالي بعض القرى الأحكام الشرعية، من كيفية الغسل، إلى أحكام الزواج، والصلاة الصحيحة والصيام وسائر الواجبات الأخرى. لم يكن صعبًا معرفة سبب الاحترام الكبير الذي يكنّه له الناس، فالجميع كان يحاول كسب ودّه ورضاه. 


نشط مشاركًا في التمهيد للثورة، واسْتَقْطَبَتْهُ لمدة جماعة اتحاد الحجتية، فروّج لمعتقداتهم. وعندما توجهنا إلى "نور آباد" للمرة الأولى، ذهبنا إلى كازرون بطلب منه، وحضرنا كلمة للشيخ الحلبي رئيس الاتحاد، وعندما عدنا وأبلغنا آية الله المدني بذلك، فكّر قليلًا، ثم قال: "هل صلّيتم هناك قصرًا؟".

أجبنا بتعجّب: "بالطبع صلّينا قصرًا لأننا كنا في سفر". 

ابتسم ابتسامة ذات مغزى، مما زاد من فضولنا، فسأله محمود الفيروزي: "مولانا أرجو أن تكرر كلامك، فلم نفهمه". 

قال: "أعيدوا صلاتكم". فتسمّرنا في أماكننا من الدهشة، وقلت له: "لم نكن في سفر ظلم أو معصية، ذهبنا للقاء عالم دين". 

عندها شرع بالحديث عن انحرافات اتحاد الحجتية، وعلاقتهم بنظام الشاه، وأعمالهم المطابقة لما يريده الظالمون، وتبريرهم بأنّ ذلك يساهم في ظهور الإمام المهدي عليه السلام، وقال غير ذلك من الأمور. ما دفع الحاج موسى أن يقرر الابتعاد فورًا عن ذلك الاتحاد، وبات من أشدّ المخالفين له، كان كلام الحاج موسى يوحي أنه كان قد أحسّ بانحرافهم، لكنه كان يعمل للحجة، فكان آية الله مدني ملاك نجاته. 

لنعد إلى موضوع السفر، أخذنا من "عبد اللهي" شاحنة "مازدا 1600" صغيرة، ذات صندوق مغلق، كانت مناسبة جدًا لوضع سجادة على أرض الصندوق، جلس عليها النسوة والأطفال في الخلف،
 
 
 
 
 
83

77

وديعة الوداع

 كما وضعت معهم المؤن الكافية. وركبتُ وأنا وموسى في المقدّمة. ولنختصر الطريق، توجّهنا إلى شيراز ثم أصفهان، وقضينا الليل في مدينة قم، وفي الليلة التالية، بتنا في مدينة ميانة، ووصلنا إلى تبريز في اليوم الثالث.


لم يكن صعبًا العثور على مكتب ممثل الإمام الخميني في تبريز. عند التاسعة والنصف صباحًا، دخلنا زقاق المكتب، طرقنا الباب، ففتحه شابٌّ سألنا بالآذرية والفارسية: "ماذا تريدون؟". 

وكنت قد تعلمت اللغة التركية الآذرية خلال تعاملي مع الآذريين فترة التجنيد الإجباري، فتحدثت معه بلهجة غليظة كي لا يفطن الحارس أنّنا غرباء، وقلت له: "نريد لقاء سماحته"

وكما هي عادة الحراس، سأل مجددًا وبجدّية: "ماذا تريدون منه؟". 

بعد كل هذا التعب احترت ماذا أجيبه وماذا نريد من سماحته، فقلت: "أنت أخبره أن الأسدي ورضا زاده أتيا من "نور آباد" فهو يعرفنا". عاد بعد دقيقة مهرولًا ومبتسمًا ومرحّبًا بنا للدخول.

تركنا عيالنا في السيارة، ودخلت أنا وموسى. لم تخفّف المسؤولية من حميمية سماحته التي كان يتحلّى بها قبل انتصار الثورة، بل عانقنا وقبّلنا في الجبين، رافضًا تقبيل يده، وقد تراجع ليمنعنا من ذلك. وقال للحارس: "يا سيد صمد قدِّم الشاي للإخوة"

فأجبناه معًا: "شكرًا لك، علينا أن نذهب، فالعائلة تنتظر في السيارة". اعتذر السيد وقال إن عائلته قد ذهبت إلى قم، لكنّه ما لبث أن تبسّم قائلًا: "لا ضير في ذلك، تفضلوا أنتم وأسركم إلى البيت، وعند عودتي ظهرًا أحلّ ضيفًا عليكم"

سلّم مفاتيح البيت إلى موسى، وطلب من صمد أن يرافقنا ليدلّنا على البيت. كان البيت نظيفًا، إلا أنّ نساءنا أصررن على كناسة
 
 
 
 
 
84

78

وديعة الوداع

 السجاد والباحة ورش المياه.


بعد مضي ساعة من أذان الظهر، حضر السيد، وأخذ يتصرّف بلياقة كأنّما هو ضيف لدينا، وبعد تناول طعام الغداء، أخذ يثني على مذاق الطعام، كما فعل في ضيافة "كنكان"، وقال ممازحًا: "جزاهنّ الله خيرًا على مجيئهنّ، وتقديمهنّ لنا طعامًا بمذاقٍ جديد في هذا البيت". 

في اليوم التالي عادت أسرة السيد، فانتهزنا الفرصة لاصطحاب أسرنا لزيارة الأماكن المختلفة في تبريز، وعدنا ليلًا إلى بيت سماحته. وبقينا على هذه الحال مدة خمسة أيام. 

ظهر الحادي والعشرين من أيلول، بعد صلاة الجماعة، كنّا في المكتب نتحدّث مع بعض المصلين، إلى أن قطع الحديث صوت صمد مناديًا: "مولانا العزيز، لقد أعلنت الإذاعة الآن أن الطائرات العراقية قصفتنا، وأعلنت الحرب ضدّنا". 

يبدو أنّ سماحته كان يتوقع ذلك، فلم يهتزّ ولم يضطرب، بل اكتفى بهزّ رأسه، وقال بهدوء: "لعن الله صدام، أخيرًا قام بما يريد". 

تلقينا ذلك الخبر بصوت صمد الغاضب، لم يكن خبرًا عاديًا، ولم يعد يمكننا البقاء في تبريز، وأدرك السيد وضعنا، فلم يصرّ على بقائنا. توجّهنا إلى بيت سماحته وجمعنا متاعنا لنرحل. 

عند وداعنا لآية الله المدني لم نكن نعلم أنه بعد أقل من عام سيستشهد بانفجار على يد المنافقين، ويحمل لقب "شهيد المحراب"، وإلا لتريّثنا أنا وموسى في وداعه وتأمّلناه أكثر و...

تحرّكنا من تبريز. كنت أقود بسرعة عالية وكأنّي متّجه مباشرةً نحو قصر صدام لأطلق على رأسه رصاصة الرحمة.
 
 
 
 
 
 
85

79

انطلاق الشرارة الأولى

 انطلاق الشرارة الأولى


وصلنا إلى "نور آباد" بعد يومين من بداية العدوان. وجدناها مزدحمة على غير عادتها، فأهالي محافظة خوزستان يجتازون "نور آباد" متجهين نحو أصفهان ويزد وشيراز، ومقاتلو شيراز يجتازون "نور آباد" في طريقهم إلى خوزستان. وقد أدّى ازدحام المقاتلين والناس إلى الانتظار في صفوف طويلة عند محطات البنزين. 

ولأنّ القوات تحتاج إلى الطعام، ومكان للاستراحة خلال عبورهم. كان علينا كقوات حرس الثورة أن ندير شؤون المدينة، أو أن نجمع المتطوعين لنتوجه نحو الجبهات في الجنوب. خلال عدة أيام تمكنّا من توفير بعض الاحتياجات لمهاجري الحرب بالتعاون مع سائر المؤسسات والدوائر. لكني كنت أميل للحضور في الجبهة. لذلك سلمت شؤون المدينة إلى شابّين من قوات الحرس، وطلبت بعد صلاة الجماعة من سائر شباب الحرس أن يتجهّز من يريد التطوع للتوجه إلى "الأهواز".

كنّا خمسة عشر شخصًا، فطلبت من كل واحد أن يحضر ما لديه من سلاح. لم يكن لدينا أيّ تصور عن الحرب في الجنوب، لذلك كنا نجهز كل ما يخطر ببالنا احتياطًا. كان في ممر المقر كبسولتا إطفاء، طلبت إحضارهما أيضًا. لكن موسى ابتسم وسألني: "إلى أين ستأخذهما؟"، قلت: "لا أدري، إنها الحرب، ولعلّنا سنحتاجهما، لا
 
 
 
 
 
86

80

انطلاق الشرارة الأولى

 ندري ماذا يجري هناك!".


بما أني قضيت الخدمة العسكرية في "دزفول" وأعرف المكان جيدًا، أصدرت أمرًا بمهمة باسمي وباسم أربعة عشر شابًّا معي، ووقّعته بنفسي. أتمنى الآن أن أعثر على النسخة الثانية لأمر المهمة في أرشيف الحرس بنور آباد، فهي من وثائق الحرب. تحركنا، خمسة عشر شخصًا مع سيارة إسعاف وسيارتَي دفع رباعي، وأسلحتنا المتواضعة: بندقية M1، بندقية برنو بإبرة، G3، قاذف B7، جهازا لاسلكي (BRC 77) حصلنا عليهما من طهران، جعبة القاذف مع ستة مقذوفات. 

استغرق التجهيز وحمل التجهيزات وقتًا، حتى حلّت الساعة الثانية عشرة ليلًا، توجّهنا بسرعة وكأنّ جبهة الجنوب ستفتقر إلى خمسة عشر عنصرًا مهمًّا، إذا تأخرنا في الوصول. 

عندما وصلنا إلى "أميدية"، ارتفع أذان الصبح. وجدنا مسجدًا بابه مغلق، لم يفتحه لنا أحد، فشبكت يدي ليصعد عليهما أخي ويجتاز الحائط ويفتح الباب من الداخل. قفز غلام حسين كمقاتل محترف إلى الباحة، وفتح لنا الباب، لم نجد أحدًا في المسجد، وأبوابه الداخلية كانت مغلقة، عثرنا على قطعة سجاد قديمة مهملة، فرشناها وصلينا. أغلقنا باب المسجد خلفنا، وركبنا السيارات، فخرجت امرأة من جيران المسجد، من بيتها، كانت تمسك عباءتها بيد، وكوب ماء باليد الأخرى، ما إن تحركنا حتى رمت الماء خلفنا وصلّت على النبي وآله1.

وصلنا إلى ساحة الأسود الأربعة في الأهواز بعد ساعة من طلوع الشمس، لفت نظرنا أحد الإخوة إلى أنّ علينا أن نحصل على أمر مهمة من الأهواز، ولا يصح أن نكمل إلى دزفول، فنحن في "نور آباد"
 
 

1- عادة إيرانية عند وداع الأعزاء. (المترجم).
 
 
 
 
 
87

81

انطلاق الشرارة الأولى

 عندما يحضر أحد من محافظة أخرى، نطالبه برسالة رسميّة من المحافظة. كان كلامه منطقيًّا، فتوجهنا إلى مركز الحرس في الأهواز، وطلبنا منهم تزويدنا برسالة إلى دزفول، فأجابنا أحد الحراس: "إنّ قضايا الحرب لا تتعلق بنا، عليكم الذهاب إلى شارع زركان مقابل المطار هناك مدرسة تجري فيها متابعة شؤون الحرب".


استفسرنا من الأهالي عن المكان حتى عثرنا على تلك المدرسة، إنه أول مركز أركان ذاتي شعبي لشؤون الحرب، فيه الحاج داوود كريمي1 والحاج طاهر من قوات الحرس في طهران، حضرا إلى هناك ليتولّيا إرسال القوات إلى الجبهة. فسألني الحاج داوود: "لماذا اخترت دزفول؟"، فأخبرته أني قضيت الخدمة العسكرية هناك، وأني أعرف نهر دز والكرخة جيدًا، لعلي أكون نافعًا هناك.

شرح لنا الحاج طاهر على الخريطة الموجودة مناطق الحرب، وأخبرنا الحاج داوود أن الجيش العراقي قد وضع جسرًا فوق نهر كارون قبل "دارخوين" لتصبح خرمشهر محاصرة بالكامل، وعبادان ستصبح محاصرة، ويريدون وضع جسر في "الفارسيات" للالتفاف على الأهواز، وأنتم تريدون الذهاب إلى دزفول؟

انفعلت وقلت: "لا أدري، سنفعل ما ترونه مناسبًا". 

هزّ رأسه كعلامة رضى وقال: "يجب أن تتوجّهوا إلى "فارسيات" عند ضفاف نهر كارون لمنعهم من مدّ جسر عليه".

بينما كان الحاج داوود يوضح الوضع، وصل السيد رحيم صفوي.
 
 

1- الحاج داوود كريمي ولد في 16/2/1948م في طهران، استنادًا إلى تدربه قبل الثورة في لبنان عُين كأول مسؤول عن التدريب العسكري في الحرس، ومع بدء الحرب توجه إلى الجنوب وتولى مسؤولية الإشراف على الدفاع المقدس لعدة أشهر، استشهد في أيلول 2004م، بعد عناء طويل مع إصابته بالسلاح الكيميائي في رئتيه.
 
 
 
 
88

82

انطلاق الشرارة الأولى

 كان قادمًا لتوّه من "كردستان" حيث تقرر أن يتوجه السيد رحيم صفوي وقواته إلى "دارخوين" لمواجهة الجيش العراقي مقابل الجسر. وكان مقرّرًا أن نتوجه نحن إلى مسافة أربعين كيلومترًا على طريق الأهواز- عبادان إلى قرية "فارسيات"، وهي واحدة من مجموعة قرى في تلك المنطقة. 


توجهنا عصرًا إلى هناك، وشكلنا محور مواجهة، وهكذا بدأت مشاركتنا بالحرب.
 
 
 
 
 
89

83

الشعلة الأولى

 الشعلة الأولى


بسبب الظروف المكانية والزمانية لأيام الحرب الأولى، فإنّي لا أتذكر ذكريات "فارسيات" بالترتيب الزمني، رغم أني كنت أرفع تقريرًا أسبوعيًا إلى مركز عمليات الجنوب. ولو كنت أعلم أننا سنحتاج إليها يومًا ما، لكنت سطّرت في أواخر الليالي ما كان يحدث معنا يوميًا، ولتمكّنت من سردها الآن بسهولة. لذلك، الآن وبعد مرور ثلاثين عامًا، سأروي فترة حضوري هناك لمدة خمسة - ستة أشهر بشكل متقطع، وسأحدّد كلّ فترة بعنوان، أو يحدّد العنوان لاحقًا لتبقى في أذهان القرّاء، ويحدد الأوقات والأشخاص والأماكن، لأنّ كل رواية تتحدّث عن مكان جديد أو أشخاص جدد. وهذه من المشاكل التي يواجهها أي قائد محور بعد ثلاثين عامًا. 

كان حضورنا في فارسيات نقطة البداية لتجربتنا في الحرب. تصوّروا أن أكلّف أنا بقيادة محور، ولست أملك خبرة في هذا المجال، غير عامين من الخدمة العسكرية، وبعض النشاطات الثورية، ومسؤولية عمليات الحرس في مدينة صغيرة، ولم أملك أي فكرة عن الحرب. وكان من واجبي أن أتعرّف إلى المنطقة، والقضايا العسكرية الخاصة بالمكان، وكيفية إدارة قواتي، فضلًا عن القوات المرسلة إلى هذا المحور من المدن المختلفة، ممّن جاءوا بدافع الحماسة الدينيّة والوطنيّة، لكنّهم لا يعرفون أي شيء عن موجبات الدفاع، ولا يلمّون
 
 
 
 
 
 
90

84

الشعلة الأولى

 بأبسط القواعد العسكرية.


في مثل هذا الوضع، ينصرف اهتمام القادة إلى التركيز على التدريب، وهكذا، شيئًا فشيئًا تشكّل مقر إدارة "الدفاع المقدس" في مكان يُدعى "الغولف"، وسمّي لاحقًا "قاعدة مُنْتَظِري الشهادة"1. كان الحاج داوود كريمي يؤدي دورًا هامًا في تلك القاعدة، بصفته القائد الثوري. حيث كان المتطوعون والقوات النظامية يتوافدون إلى هذه القاعدة من المدن البعيدة والقريبة من شبان وشيبة وفتية، ومن عمال ومهندسين وأطباء وغيرهم، ويندفعون بشكل عشوائي، يطلبون إرسالهم إلى الخطوط الأمامية، طبعًا لم يكن أحد منهم يتحدّث بمنطق، لكنهم كانوا يردّدون أنّ الجبهات بحاجة لطاقات ومن واجبنا الذهاب، وقد أتينا للمساعدة. ثم يدوّنون مواصفاتهم، وعندما تسأل أيًّا منهم عن رغبته وخبرته وفي أي مهام يريد أن يعمل، يجيب: أريد أن أكون قنّاصًا، وآخر يقول: أعرف شيئًا عن القذيفة، وثالث: أحب الحرب منذ طفولتي..

وهكذا، حسب الخبرة والرغبة، كانوا يتلقّون تدريبهم في باحة القاعدة في ظلّ الأشجار لعدّة ساعات، ثم يتوجهون إلى المحاور المختلفة، من سوسنكرد والبستان ودزفول إلى غيرها. 

فكانت باحة
 

1- الغولف أو "مقر "منتظِري الشهادة""، يقع في شرق مدينة الأهواز، منذ الأيام الأولى للعدوان وحتى نهاية الحرب كان مركز أركان عمليات الجنوب، والنواة المركزية لقوات الحرس في توجيه وإدارة عمليات الدفاع في مواجهة العدو. بسبب الموقع الجغرافي المناسب لهذه القاعدة ساهمت في تمركز قيادة الحرس، لأنها تمكنت من ادارة العمليات من مهران إلى الفاو. 
تولى الحاج داوود كريمي في الخمسة أشهر الأولى للحرب المسؤولية فيها وعندما أصبح قائدًا لحرس طهران، تولى السيد رحيم صفوي قيادة العمليات، وغلام علي رشيد نائبًا له، والشهيد حسن باقري مسؤولًا عن أمن العمليات في الغولف. من النشاطات الأساسية لهذا المقر: تشكيل غرفة قيادة الحرب، تفعيل الاستطلاع والأمن والعمليات، إرسال القوات إلى الجبهات، استضافة مسؤولي النظام.
 
 
 
 
 
91

85

الشعلة الأولى

 القاعدة كل يوم تبدو كسوق للتجارة، والمدرب كالبائع، حيث يبسط أدواته ويعرض خبراته العسكرية بالمزاد!


ونظير ذلك، حصلت بعض المخاطر، فمثلًا ينقل أحد المدربين أنه طلب من المتدربين خلال الحصة أن يتأكدوا من الأسلحة والذخيرة عند استلامها، وذلك بسحب مخزن الرصاص من البندقية، وسحب الأقسام مع رفع فوّهة السلاح إلى الأعلى للتأكد من خلو السلاح من أي رصاصة داخله، والشروع في التدريب بأمان من دون أي أخطاء قاتلة. لكنّ رجلًا متقدّمًا في السن، قام بسحب حلقة الأمان من قنبلة يدوية وهو يظنّ أنّه يقوم بإجراء الأمان اللازم، ولولا مسارعة المدرّب لتدارك الأمر، لانفجرت القنبلة وتسبّبت بقتلهم. 

في تلك الظروف، عندما يصل مقاتلٌ مدرَّب إلى محورنا في فارسيات، كان من واجبي كقائد محور أن أقدّر حضوره، وأُحسن الاستفادة منه. فخلال الأيام الأولى من استقرارنا وتنظيم المواقع والتحصينات فيه، وصلتنا مجموعة من طهران. كانوا عدة أشخاص، كلّفهم الحاج داوود بمهمّة زيارة المحاور وتدريب القوات ميدانيًا. 

في الواقع، لم تكن هناك حاجة لأمر التكليف بالمهمة، ولا التعريف الرسمي بهم من الحاج داوود، فقد كانت خبرتهم باديةً من خلال تصرفاتهم، منهم: "محمد علي أميني بيات" متخصص متفجرات، أظن أنه لا يزال في الحرس، وليس هناك من هو أكثر خبرة منه. فيما يتولّى محمد بيش بهار ومرتضى صفاري مسؤولية المجموعة. صفاري كان حتى الأعوام الأخيرة قائدًا للقوة البحرية للحرس. وهؤلاء كانوا أكثر خبرةً منّي في كثير من المجالات العسكرية، لكنهم كانوا يتصرّفون كأفراد تحت إمرتي. 

كان أكثر سكان المنطقة قد غادروا منازلهم، لذا كان باستطاعتنا
 
 
 
 
 
 
92

86

الشعلة الأولى

 استخدام بعض تلك البيوت، ورغم تعرضنا للقصف ليل نهار بالقذائف، كنا نقيم صلاة الجماعة صباحًا وظهرًا وغروبًا في باحة بيت شيخ "فارسيات". 


بعد ثلاثة أيام من وصول مجموعة المدرّبين، كنّا نؤدّي صلاة الصبح جماعةً. وعندما ختم إمام الجماعة الصلاة بالتسليم، ارتفع صوت أحد المصلين من "نور آباد" بلهجة لرّية وبلحن جميل: "إنّ الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما"، فارتفع صوت الجميع بالصلاة على محمد وآل محمد. ثم شرع بقراءة الدعاء، وتابعه الباقون بصوت خافت. لكنّي لاحظت انصراف أحد أعضاء مجموعة التدريب الذي كان يصلّي إلى جانبي، فانزعجت لأنه لم يبق لدقائق حتى انتهاء الدعاء، وظننت أنه سارع لينام. 

وما إن انتهى الدعاء حتى نهضت مسرعًا بدافع الفضول وإحساسًا بالمسؤولية، وتبعته. لم يكن هناك نورٌ للقمر، ونور المصباح الضعيف لا يساعد على تحديد سمات الأشخاص جيدًا. لكنّي لمحته متوجّهًا إلى الممر نحو الزقاق، وكانت معرفتنا به في بدايتها، فشككت به، ورجوت أن لا يكون من الذين يطيلون لحاهم، ويلتحقون بقوات الحرس، لنقل المعلومات حول المنطقة والقوات إلى العدو.

سارَ وسرت خلفه عن بعد أتعقّبه. ابتعد عن بيت شيخ فارسيات مسافة كيلومتر، وبدأ النور يبدّد عتمة الليل. تأسّفت لأنني لم أحمل سلاحي، وأبطأتُ لأزيد من المسافة بيني وبينه بسبب ازدياد النور. وصل إلى بستان نخيل، فسار في طريق ترابي موازٍ للبستان حتى انتهى، ودخل البستان ثانيةً ثم عاد إلى الطريق، وأعاد الكرة عدة مرات. دققت النظر فوجدته يحمل رفشًا ينقل به التراب من البستان إلى الطريق، فتبدّد شكّي بأمره، لكني تساءلتُ عمّا يفعله! فيما أصبح
 
 
 
 
 
93

87

الشعلة الأولى

 بإمكاني أن أتوجّه نحوه لأسأله: "ماذا تفعل في مدينتك؟ هل اشتقت للزراعة أم لشق الطرق؟"


تفاجأ بوجودي، وبدت دهشته لا تقلّ عن دهشتي به، فلم يكن يتوقع أن يلتقي أحدًا في مثل ذلك الوقت المبكر قبل طلوع الشمس، بادرني: "السلام عليكم، من أنت؟". ولمّا دقّق النظر عرفني فقال: "ماذا تفعل هنا يا أخ أسدي؟".

وضّحت له الأمر، واعتذرت منه، وبيّنت أنّ من واجبي المراقبة لأننا لا نعرف الجميع. ابتسم وقال: "لست حزبيًا ولا مزارعًا، ولا مهندس طرق. لكن بالأمس سقطت هنا عدة قذائف مدفعية، ومرت سيارة الإسعاف وهي تنقل الجرحى، فسقطت في هذه الحفرة، ورأيت الجرحى ومعاناتهم، وتحطم سيارة بيت المال، ففكرت بسدّ الحفرة". 

لم يعد لديّ ما أقوله، شددتُ على ساعده، وطلبت منه أن يسمح لي بنقل بعض التراب، ساعدته حتى امتلأت الحفرة، ثم عدنا معًا نحو القرية. خلال دقائق معدودة، تحوّلت مكانته في قلبي من حال الريبة به أمنيًّا وعسكريًّا إلى محبة شديدة. فمن يترك النوم بعد صلاة الصبح، ويسير كل هذه المسافة ليملأ حفرة، لا بد أنه يمتلك قلبًا كبيرًا. 

سألته في طريق العودة: "حسنًا، لم تقل لي ما اسمك يا أخي؟". 

أجاب: "المخلص لك، مرتضى الصفاري، من طهران". 

خلال ثلاثين عامًا قضيناها بعد تلك الحادثة، كنا أنا ومرتضى نلتقي كل أسبوع، وإذا لم تسمح الظروف فكل شهر، نتذكر فيها تلك الأيام، وعندما أروي الحادثة لأحد على مسمعه، يضحك ويقول: "إن السيد أسدي يمزح، فذاك مرتضى شخص آخر غيري".
 
 
 
 
 
94

88

الشعلة الأولى

 حتى اليوم، لم يفقد مرتضى تلك الروحية الثورية والتواضع والإيثار. لكنه مدينٌ لأسرته أيضًا. فبعد شهرين من لقائنا ذاك استشهد "محمد علي أميني بيات" في منطقة فارسيات نفسها، وهو الذي كان يعتبره التعبويون "ملك التفجير"1. حينها طلبت من مرتضى أن يذهب بنفسه إلى مدينة قم ليشارك في مراسم التشييع والدفن. 


بعد ثلاثة أيام عاد مرتضى، فسألته: "لقد قطعت كل هذه المسافة ووصلت إلى مدينة قم، فلمَ لم تزر أسرتك في طهران قبل العودة؟". 

ابتسم وأجاب: "لقد ذهبت، لكن أمي لم تستقبلني!".

قلت له مستوضحًا: "وهل يمكن أن يحصل ذلك؟". 

قال لي إنّه أوّل ما التقى أمّه سلّم عليها وأمسك بيدها في باحة المنزل، فردّت سلامه وطرحت عليه سؤالًا بكل جديّة: "عليكم السلام، هل قتلت صدام؟".

- كلا يا أمي، حبيبتي لن يحصل ذلك بهذه السرعة.

- إذًا لماذا عدت؟

- أتيت إلى قم لتشييع جنازة أحد الشهداء، فوجدتها فرصةً لأزوركِ أيضًا. 

- حسنًا، ظننت أنك أتيت في إجازة، لكن بما أنك أتيت من أجل الشهيد، ادخل تناول الشاي، وعد سريعًا إلى الجبهة....
 
 

1- المقصود من التفجير سلاح "التخريب والهندسة".
 
 
 
 
95

89

نيران الأرض

 نيران الأرض


لم نلبث طويلًا في منطقة "فارسيات" حتى دهمتنا مشكلة الألغام المنتشرة هناك على نطاق واسع، فهي لم ترحم الأبقار الأربع التي سقطت ضحية لها، فلا غرابة أن نرى فيها عبئًا ثقيلًا ينتظرنا وسط لهيب تلك الحرب المفروضة التي تنشط نارها بسخاء بالغ. وسرعان ما اكتشفنا أنها ألغام من نوع مغاير للألغام التي تلقّينا التدريب عليها، فعزمنا في بادئ الأمر على التحقّق من أجزائها، وآلية عملها، كي نتمكّن من تفكيكها وإبطال مفعولها.

لم يكن اللغم مغروسًا عميقًا في الأرض، ووجدنا أنه قد ثبت على قاعدة أولى، فوقها قاعدة ثانية أصغر منها، يربطها سلك معدني متّصل بحلقة أمان الصاعق الذي يفجّر اللغم إذا ما تحرّك ذلك السلك.

محاولة تفكيك اللغم الأوّل لم يكن عملاً سهلاً ومن الممكن أن يكون مفخخًا، لذا تعقّبت السلك وصولًا إلى الحلقة، فقبضت عليها بقوة وعزم، ورفعت اللغم عن قاعدته، وهكذا سقطت منه الحشوة المتفجّرة. حينها، ارتفعت الأصوات بالصلوات من الإخوة الأربعة الذين كانوا يراقبونني بانتباه وشغف أثناء انهماكي بعملي، وقد بدت على الوجوه بشائر الفرح والسعادة.

بعد ذلك، لم نجد معضلة في تفكيك سائر الألغام، بمساعدة اثنين
 
 
 
 
 
96

90

نيران الأرض

 من الإخوة، وتمّت عملية تطهير المكان من الألغام بيسر وسلامة. لكن الأمر لم يمرّ من غير أعجوبة من العجائب، وقد ظهرت لنا عندما داس السيد "جعفر سجادي" – من نور آباد - بقدمه على لغم، إلا أنّه لم ينفجر، فاستغللت الفرصة لأشرح للإخوة طريقة تفكيك اللغم، ونزعه من مكانه من غير أن يحصل أي مكروه. بعد ذلك، طلبت من "سجادي" أن يقوم هو بنفسه وينزع لغمًا ويفكّكه.


توجّه من فوره زاحفًا، بعيدًا عن أنظار العدو، وما إن اقترب من أحد الألغام حتى تفاجأ بوجود لغم تحت جسمه، فأغمض عينيه وسدّ أذنيه بأصابع يديه، وتوسّل بالسيدة الزهراء مناديًا: "يا زهراء"، وانتظر.. وانتظرنا معه صوت الانفجار، إلا أنّ ذلك لم يحصل، ففتح عينيه وتراجع من مكانه بسرعة.

توجهت إلى المكان، فوجدت أنّه اللغم الوحيد الذي لم يجرِ تفعيله من بين الألغام التي نزعناها في تلك المنطقة، ويبدو أنّ الذي زرعه نسي أن يربط الصاعق. 

في طريق العودة، قال أحد الإخوة من "نور آباد" للسيد ممازحًا: "عليك أن تدرك قدر جدتك التي سمعت نداءك، وإلا لكنا الآن نسحب جثتك". 

بعد نزع تلك الألغام، أحسسنا بالراحة والطمأنينة على الرغم من استمرار القصف المدفعي، وسقوط القذائف حولنا.

في اليوم التالي، حملت معي عددًا من الألغام التي فكّكناها وتوجّهت إلى الغولف مسرعًا مزهوًّا وكأنّني قد اكتشفت أمرًا هامًا. عانقني الحاج داوود بحرارة، وقبّل جبيني. حيث إنّ الجيش لم يمتلك أي نوع من تلك الألغام ليدرب عليها، فأخذ الحاج بعضًا منها ليستخدمها في التدريب.
 
 
 
 
 
97

91

نيران الأرض

 قلت له: "يا حاج كما يقول الحديث: لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، إني جاهز لأقوم بالتدريب". 


- جزاك الله خيرًا. 

استدعيت ثمانية من المدربين إلى الباحة، وأخبرتهم بتفاصيل العثور على الألغام، وكيفيّة نزعها وتفكيكها، ليتولّى كلّ منهم شرحها لسائر المدربين والموجودين في المحاور الأخرى. 

بعد أسابيع قليلة، اكتشف العدو أننا تعلمنا تفكيك الألغام ونزعها، فبدأ بزرع ألغام مختلفة من جديد. لكن لطف الله شملنا هذه المرة أيضًا، حيث توجهت في أحد الأيام للاستطلاع فاكتشفت وجودها.

كانت منطقة الاستطلاع مكسوّة بالأشجار والمزروعات، ممّا أتاح لي أن أستتر خلف جذع شجرة تدلّت أغصانها وتشابكت أوراقها، ونظرت بالمنظار لأرصد قوات العدو، وعندما أنزلت المنظار رأيت أسفل جذع الشجرة علبة طعام معدنية، ساورني شك في أنّ أحد أفراد العدو موجود بالقرب من المكان، فتلفتُّ حولي بدقة لعلي أرى أحدًا، فلمحت شيئًا بارزًا رمادي اللون، على أديم الأرض، فحمدت الله لأني لم أتقدم أكثر. 

استعملت الحربة لإزالة التراب من حوله، كان لغمًا على هيئة الطماطم، انتزعته، وبحثت مليًا في المكان وعثرت على خمسة ألغام أخرى من النوع نفسه، انتزعتها وحملتها معي إلى فارسيات. 

ما إن وصلت حتى اجتمع الإخوة حولي، يتساءلون عن هذه الألغام وطريقة عملها وكيفية انتزاعها، فأوضحت لهم ذلك. تقدم أحد أفراد الجيش، وأزاح الإخوة جانبًا وقال: "انتبهوا، هذه الألغام قد تنفجر عند أي ضغط عليها ما لم نضع الأمان فيها، فلا تقتلوا أنفسكم".
 
 
 
 
 
98

92

نيران الأرض

 لم أحدّق في وجهه، نظرت إلى رتبته، وقلت له: "يا جناب الرقيب أنت لم تتعرف إلى هذه الألغام، فهي تختلف عن الألغام الإيرانية والأمريكية التي درّبونا عليها في الجيش"


تناولت اللغم بيدي، وفتحت أسفله لأريه أنه لا يحمل صاعقًا، ولن ينفجر. لكن النقيب لم يقتنع، وأصرّ على ضرورة وضع مسمار الأمان قبل فتح الصاعق. فأعطيته عود كبريت، وطلبت منه أن يمرّره في فتحة قرب الصاعق ليؤمنه، فوضع العود، وفتح اللغم، وأيقن صدق كلامي، فدُهش وهزّ رأسه موافقًا، وقال لي: "أعطني لغمًا منها لأدرّب قواتنا عليه".
 
 
 
 
 
99

93

لباس التقوى

 لباس التقوى


قاعدة "منتظِري الشهادة" هي الرابط بين المحاور والحكومة والناس، لذلك كانت تعتبر الموقع الثاني لقادة المحاور. كنا نُعلِم "الغولف" بكل صغيرة وكبيرة تحصل معنا، وننسّقها معهم. 

لذلك، أعتقد أنّ لمقرّ الغولف الدور الهام في إنشاء ثقافة الجبهة وتحديد مستقبل الحرب، فقد كان لسلوك قادة الغولف الأثر المباشر في المحاور، وفي الثقافة السائدة في الجبهة. 

أذكر أنني بعد ثلاثة أسابيع من استقرارنا في فارسيات، توجهت يومًا إلى الغولف للقاء الحاج داوود كريمي، وتقديم آخر تقارير المنطقة له، ولأنسّق التحركات اللاحقة معه، فلم أجده. كنت أسأل عنه في كل غرفة، فيقولون: "لقد كان هنا، ولا ندري أين ذهب، فلا بد أن يكون في مكان ما هنا". إلى أن تعبت من البحث عنه، فقرّرت تجديد الوضوء وانتظاره في غرفته حتى يأتي. 

كانت المغاسل والمراحيض في زاوية من المبنى، دخلت إليها، فرأيت الحاج داوود مشمّرًا عن ساعديه، ممسكًا بعصا وإبريق وهو يغسل الحمامات ويعالجها. فسلمت عليه وقلت له: "أين أنت يا حاج، منذ نصف ساعة وأنا أبحث عنك؟".
 
 
 
 
 
100

94

لباس التقوى

 ابتسم لي ووضع الإبريق على الأرض، ومسح عرق جبينه بكمه، وقال: "لقد انسدّت الأمور هنا، ولا يوجد من يفتحها، فكان لا بد من أن أقوم بذلك"


أردت أن آخذ الإبريق والعصا منه، لأكمل فتح المجاري، لكنه قال: "انتهى الأمر، اذهب إلى الحمام الأول فإنه صالح للاستعمال، اقضِ حاجتك، وسأنهي الأمر هنا"

كان الحاج داوود يخاطب قادة المحاور في أول اجتماع معهم قائلًا: "عليكم ارتداء "لباس التقوى" حتى إذا ما توليتم مسؤولية يومًا ما، لا تُفتضحوا وتفشلوا فيها، ولا تكونوا كضبّاط الجيش في عهد الشاه، كانوا عندما يتقاعدون، ويفقدون رتبتهم، يُهملون ولا ينظر إليهم أحد. لتكن لديكم شخصيتكم الخاصة، فلا تنحصر قيمتكم في العناوين والمسؤوليات". كان سماع مثل هذه الأقوال في الغولف، يزيد من معنويات مسؤولي المحاور، ويشكّل ثقافة القيادة. 

حين عاد "رحيم صفوي" من محور "دارخوين" وتسلم المسؤولية في الغولف، رأيته يومًا أمام الحمام في زاوية أخرى من الباحة عند ممر للسيارات، كان يضع ملابسه في وعاء بلاستيكي ويقوم بغسلها. توقفت بسيارتي وقلت له: "عافاك الله يا رحيم، هل تحتاج لمساعدة؟".
 
- كلا أخي العزيز، فمن سيغسل ملابسي أفضل مني؟!
 
 
 
 
 
 
101

95

بقي مكانه خاليًا

 بقي مكانه خاليًا


أثناء تردّدي إلى الغولف، كنت أرى شابًا ذا شعر خفيف، نحيلًا وقصير القامة، منشغلًا دومًا بالخرائط. كوّنت عنه فكرة عجولة، أنّه قد يكون بهذا الجسم النحيل يخشى الذهاب إلى الخطوط الأمامية، وقد شغل نفسه هنا. 

في المرة الثالثة التي رأيته فيها في الغولف، وجدته ينزع عن الحائط ورقة ويمزقها بعصبية، وكان الشباب قد لصقوها على الحائط، ودوّنوا عليها معادلة للنصر: الانتصار الأكيد يعني 80% عمليات+ 20% معلومات واستطلاعات. لذا، اعتبرت تصرفه هذا إهانة لمسؤولي الغولف، فلمته وسألته: "لماذا نزعت الورقة هذه، إنها لبيت المال؟". 

توقعت منه ردًا انفعاليًا، كأن يقول: ومن أنت؟ أو ما علاقتك بذلك؟

لكنه لم يفعل، بل ربّت على كتفي وقال: "شكرًا لاهتمامك بممتلكات بيت المال، اسمح لي أن أوضح لك، في كل عمل تنوي القيام به، يجب أن تمتلك المعلومات بنسبة 100%، فالعمليات من دون المعلومات تعني الخسائر الكبيرة بلا نتيجة، وتعني (طحن الماء في الهاون1)".

كلامه المتروّي خلال التوضيح كان كالماء الذي أطفأ غضبي، وأزاح عن خاطري كل تصوري الأول عنه. عندئذ عرّفت عن نفسي، فأجاب: "وأنا المخلص لك حسن باقري".
 

1- الهاون: جرن خشبي تدقّ فيه حبوب البن حتى تسحق وتُطحن، وكذلك قطع اللحم.
 
 
 
 
102

96

بقي مكانه خاليًا

 منذ ذلك اليوم، انعقدت علاقة عجيبة بيننا، وبسبب دقته وحساسيته وذكائه المفرط وفهمه العسكري، أضحى مسؤول المعلومات في الجنوب. وأعتقد أنه أول من سنّ سُنّة تقديم التقرير العسكري الصحيح في قوات حرس الثورة الإسلامية. وبطلب منه أضحينا في محور فارسيات ندوّن تقريرًا يوميًا حول كل ما يحدث، وما ينبغي أن نتابعه من مواضيع، وما نحتاجه. 


صباح كل يوم، كان "موسى رضا زاده" مسؤول الدعم اللوجستي في المحور يقوم بأخذ التقارير إلى الغولف، وتسليمها إلى "حسن باقري" ويستلم منه الطعام وكل ما نحتاجه، ويعود ظهرًا إلى فارسيات. 

في أحد الأيام، عندما كنّا في الغولف، أخذني "حسن" جانبًا، وأحضر تقاريري، كان قد قرأها بدقة ووضع خطًّا تحت بعض العبارات، فشكرني على تدوين التقارير، وقال: هناك إشكالات عسكرية في بعضها. مثلًا، كتبت هنا أن قوات العدو تحركت من جهة اليسار إلى جهة اليمين، في حين ينبغي أن تكتب تحرّكت من جهة الشمال إلى جهة الجنوب، عندها سيدرك كل من يقرأ التقرير كيف تحركوا. فاليسار واليمين هي جهات نسبية غير واضحة للجميع! 

وهذا يظهر أن "حسن" كان له التأثير الكبير عسكريًا ومعلوماتيًا عليّ وعلى سائر القادة. لقد كان حقًا من النخب البارزة في الدفاع المقدس، وباستشهاده لم يستطع أحد أن يملأ مكانه1.
 
 

1- الاسم الأساس للشهيد حسن باقري هو غلام حسين أفشردي، ولد في شباط 1956م، وكان عمره عند التحاقه بالحرب 25 عامًا، كان قبل الحرب طالب جامعة وكاتبًا وصحفيًّا، من أكثر قادة الحرب شبابًا، كان نابغة الدفاع المقدس حقًا، تولى مسؤولية المعلومات والاستطلاع الحربي، ثم قائد مقر النصر، فقائد مقر كربلاء، كان له دور هام في الانتصارات الكبرى في عمليات: الفتح المبين، رمضان، بيت المقدس. استشهد في 29/1/1983م وكان حينها نائب قائد القوات البرية في حرس الثورة. كان يستطلع مواقع العدو ويجهز لعمليات والفجر التمهيدية، فأصابته شظية قذيفة وهو داخل متراس الحراسة، فاستشهد هو والأخ مجيد بقائي.
 
 
 
 
 
 
103

97

الخطأ

 الخطأ


في الأيام الأولى للحرب، لم نكن نعرف جغرافيا المنطقة بشكل جيد، ولا أماكن انتشار العدو. وبما أننا قد أخلينا القرى الواقعة في الجانب الآخر من نهر كارون من سكانها المحلّيّين، كنا نعتبر أيّ شخص يحضر في ذلك الجانب من أفراد العدو. 

ولأيام، تواصل إطلاق النار عن يميننا من جهة كارون المقابلة لطريق الأهواز، وكنا نرد على مصادر النيران، لكن أيًا من الطرفين لم يتقدّم نحو الآخر. 

ذات يوم، عقد قادة المحاور اجتماعًا لهم في الغولف، فقام كل واحد بتحديد خطوط تمركزه من أي نقطة إلى أي نقطة، وأي محور يواجهه. وقف "حسن باقري" عند الخريطة الجدارية، وأخذ يضع الخطوط والعلامات حسب شرح قادة المحاور، ليملأ الفراغات والثغرات، ويحدّد انتشار قواتنا وقوات العدو. 

عندما جاء دوري، توجهت نحو الخريطة، ووضحت أننا في الفارسيات، والجيش العراقي أمامنا، ولجهة اليمين من الطرف الثاني لنهر كارون أيضًا. فقام أحد قادة خراسان وقال: "كلا إنك مخطئ، يا أخ باقري نحن موجودون هناك"

قلت للقائد الخراساني: "كلا يا أخي، هم يطلقون النار علينا".
 
 
 
 
 
 
104

98

الخطأ

 فسألني متعجّبًا: "أين أنتم بدقة؟". 


فأشرت على الخريطة إلى حيث ننتشر، فقال: "بل في تلك المنطقة يوجد الجيش العراقي". 

نظر "حسن باقري" إليّ وإلى القائد الخراساني وتبسم قائلًا: "كنتم تطلقون النار بعضكم على بعض، وتظنون أنكم تقاتلون في سبيل الإسلام!".

وتقرّر أن نوصل المحورين، فطلب مني القائد الخراساني المبادرة قائلًا: "تعالوا إلى محورنا، ولنذهب معًا نحو فارسيات". مشيت مسافة من الطريق إلى النقطة التي قلت فيها أن قواتك 
سيظنون أننا من الجيش العراقي، وسيطلقون النار علينا". 

ثم اتفقنا أن نذهب إلى فارسيات من طريقنا المعتاد، وعند الخامسة بعد الظهر نتقدم نحن باتجاههم، وكذلك يتقدّمون هم باتّجاهنا. 

في الوقت المحدد توجهت مع خمسة عشر عنصرًا من قوّاتي إلى المكان المحدّد، وكذلك فعلوا أيضًا، وتم التواصل المباشر. 

الليلة التالية كانت ليلة الجمعة، قرأنا دعاء كميل في فارسيات بحضور الخراسانيّين، وجرى التعارف بين قوات المحورين. وفي اليوم التالي استطعنا لأوّل مرّة أن نذهب إلى الأهواز من جهة غرب نهر كارون.
 
 
 
 
 
 
105

99

الخلاص من العبسة

 الخلاص من العبسة


ما حصل جعل الإشراف على المنطقة أفضل من السابق، كما كان للتعرف إلى الإخوة الخراسانيين والتنسيق معهم فوائد أخرى، ففي الحالات الطارئة كنا نقدم الدعم بعضنا لبعض في مجال التجهيز وسائر أدوات الحرب. فأتينا بسيارة جيب تابعة للجيش من مقر الخراسانيين للتنقل في الجانب الآخر من نهر كارون بغية الاستطلاع والتواصل مع باقي المحاور. 

بعد أربعة أيام من لقائنا بالمشهديين، توجهت صباحًا مع أخي صالح، و"محمد علي أميني بيات" وأحد الإخوة من محورنا من أهالي قم، توجهنا معًا بسيارة جيب للاستطلاع. وتوليت قيادة السيارة بنفسي، وجلس محمد علي إلى جانبي، والباقون في الخلف، مررنا قرب قرية "التل الأسود" في طريق صحراوي، فلمحت شيئًا قرب الطريق بحجم كرة التنس المخملية، مدوّرًا وجميلًا كنت أراه لأوّل مرة، لذا كان أوّل ما خطر ببالي الاقتراب منه سريعًا، وحمله ورميه لأرى إلى أين سيصل! 

أوقفت السيارة إلى جانب الطريق، وترجّلنا منها لنجد الكثير من تلك الكرات منتشرة على الأرض، تحقّقت من إحداها خشية أن تكون ألغامًا، أو تبدو كأنّها متفجرات، تناولت كرةً ورميت بها بكلّ قوّتي
 
 
 
 
 
106

100

الخلاص من العبسة

 باتجاه الصحراء، حتى إذا ما انفجرت كنا بمأمن من آثارها. 


مرت ثوانٍ من دون أن يحصل شيء، وكأن حارس المرمى للفريق قد رمى الكرة باتجاه منطقة الفريق المنافس، وأنّ الحكم قد رفع الراية. ركض محمد علي نحوها، وسرنا خلفه، تناولها وحركها بيديه، ثم عالجها بالحربة من وسطها، فانفلقت إلى نصفين، كانا عبارة عن غطاء معدني من قطعتين متداخلتين وقد انفصلت إحداهما عن الأخرى. دقّق فيها جيدًا وقال: "إنها قنابل عنقودية يا أخ أسدي، فيها قطعتا TNT ووسطها صاعق، الملاعين قد رموها من الطائرة!". 

- أليست خطرة؟

- لا أدري، لم يحصل شيء بعد، لكنها متفجرات، قد تُفعّل بين أيدينا.
 
صبرنا لدقائق، وعندما لم يبرز أي خطر، طلبت من الجميع أن نقوم بجمعها ونقلها إلى الغولف لتسليمها، لأنها تنفع للتدريب حتمًا. قمنا معًا بجمعها ووضعها في الصندوق الخلفي للجيب، وكنت أنا وصالح والقمي نجمعها بسرعة ونشاط، بينما محمد علي ببطء وإكراه، لم يكن موافقًا، لكنه مضطر لتنفيذ أوامر قائده. 

جلست خلف المقود، وهممت بالمسير، لكني نظرت إلى وجه محمد علي المتشائم. فتأنيت وقلت في نفسي: لماذا نحمل كل هذه المتفجرات معنا في الذهاب والإياب، لندعها هنا، وعند العودة ننقلها. فطلبت من صالح أن يرميها كلّها إلى جانب الطريق لنأخذها بعد العودة، وطلبت منه أن يذكرني بذلك.

أفرغها الإخوان من الجيب بسرعة ثم تحرّكنا، وما إن ابتعدنا قليلًا حتى سمعنا صوت انفجار مهيب. في البداية، ظننت أن قوات العدو
 
 
 
 
 
 
107

101

الخلاص من العبسة

  قد رصدتنا وبدأوا باستهدافنا، فنظرت إلى الخلف من خلال المرآة عن يساري، فرأيت كل القنابل العنقودية قد انفجرت معًا. فتحريكها جعلها تصبح فعالة لتنفجر، ولو تأخرنا عن تفريغها لثوانٍ، لكنت أنا ومن معي في خبر كان ولما رويت لكم ما حدث. والفضل في ذلك يرجع إلى تشاؤم محمد علي إزاء وضع القنابل داخل الجيب.


بعد أن هدأ صوت الانفجارات، ابتسم محمد علي وقال: "للأسف يا أخ أسدي لم يعد لديك ما تحمله معك إلى الغولف لتُفرح به قلب الحاج داوود".
 
 
 
 
 
 
108

102

الطعام البيتي

 الطعام البيتي


صليتُ وتغديت في قاعدة "منتظِري الشهادة". مضت ساعتان بعد حلول الظهر، وبقيت ساعتان حتى موعد اجتماع قادة المحاور عند الرابعة، بحثت عن زاوية في ذلك الحر الشديد، أستظلّ فيها وأفكّر في ما سَيُطرح في الاجتماع، وأغفو قليلًا. فلم أجد أفضل من مجاورة المطبخ، فهو مكان خالٍ في هذا الوقت، ويحلو النوم فيه، وقبل أن ألف الحرام1 لأجعل منه وسادة، جاء "حسن باقري" إلى المطبخ وقال: "يا أخ أسدي، ليس عندنا في البيت خبز ولا طعام، سأذهب إلى البيت، وسأعود وقت الاجتماع".

كان "حسن باقري" قد تزوج للتو، وجاء بزوجته إلى الأهواز. إلا أنه كان ينام لياليَ عدة في المعسكر. ولولا إصرارنا عليه لما غادره، فشؤون الحرب كانت لا تسمح له بزيارة البيت. 

تساءلت من أين سيأتي بالطعام لبيته، والدكاكين معظمها مغلق بسبب ظروف الحرب، ويبعد بيته عن القاعدة مدة ساعة. لذلك قلت له: "أستبعد أن تجد شيئًا في هذا الوقت". وناديت أحد الإخوة ليحضر له طعامًا، لأن الغداء قد نفد حسب تقديري. فوضع له علبة لبن ورغيفي خبز في كيس، وذهبت لأعطيها لحسن، فرفض أخذها، فقلت له: "ما ذنب زوجتك لتبقى جائعة؟".
 

1- الدثار.  
 
 
 
 
109

103

الطعام البيتي

 أعطيته الكيس وربّتُّ على خصره، أي اذهبْ ودَعْني أنام قليلًا، لكني قبل أن أستلقي رأيته عائدًا، قال لي: "لقد تجاذبتني الأفكار لأجد مخرجًا لكنّني لم أجد لهذا مسوّغًا شرعيًّا!".


فنهضت وقلت له: "حسنًا خذ حصتك من الطعام إلى البيت، وتناولها مع زوجتك. وإن كان ذلك يزعجك أيضًا، أحضر معك غدًا رغيفين وعلبة لبن وضعهما في المطبخ". يبدو أن فكرتي هذه أقنعته، فهزّ برأسه موافقًا وذهب. 

استلقيت لأنام دقائق لأكون صاحيًا قبل الاجتماع، وما إن ثقلت عيناي، حتى أحسست بوجود أحد قربي، وصوت خطواته تقترب من المطبخ، أزحت يدي عن عيني لأرى من القادم. إنه حسن كما يبدو بهيئته لمن يراه من الخلف. فناديته: "أراك قد عدت؟!". جاء ووقف فوق رأسي، احمرّ وجهه، وجبينه يتصبب عرقًا، فتأوه بصوت عالٍ وقال: "لعلّي لا أبقى حيًا حتى الغد لأشتري بديلًا عن هذا الطعام وآتي به. توكلت على الله، سأذهب وأبحث في المدينة لعلّي أجد طعامًا، فآخذه إلى البيت وأعود فورًا".
 
 
 
 
 
110

104

الهجوم الحديدي

 الهجوم الحديدي


لم تمضِ أيامٌ قليلة على انفجار القنابل العنقودية في الصحراء، حتى توجهت مع "محمد علي أميني بيات"، و"مرتضى صفاري"، و"مصطفى نقد علي" لزرع ألغام تمنع قوات العدو من التقدم من تلك الجهة. وفي الطريق أخذ محمد علي يقصّ على مرتضى ومصطفى حادثة انفجار القنابل، وصوت الانفجار المهيب، وكيف كانت حالي أنا وصالح. 

الأدوات والتحضيرات اللازمة لهذه المهمة كانت تختلف عمّا كانت عليه في يوم الاستطلاع قبل ايام. كنت قد طلبت من الإخوة تحضير كل اللوازم العسكرية والقبعات الحديدية والألغام بالعدد الكافي، وأن لا ينسوا إحضار الإسعافات الأولية احتياطًا. 

عندما وصلنا إلى المنطقة المحددة سلفًا، كانت هناك شجرة تبعد قليلًا عن سائر أشجار المنطقة، أشرت إليها، وطلبت من مصطفى أن يتوجه إلى مجموعة الأشجار، حاملًا كل الأدوات العسكرية والقبّعة الحديدية، وأن تبقى الأسلحة في حال جهوزية، وأن يلزم مصطفى المكان قرب الأشجار ويراقب يمنة ويسرة، حتى إذا تقدمنا لزرع الألغام، حذّرنا إذا قامت قوات العدو بالتقدم والالتفاف علينا. 

بمجرد أن ذكرت اسم قوات العدو، أحسست وكأني قد أذبت حبرًا بنفسجيًّا في الماء، وبللت به وجه مصطفى، وارتجفت رجلاه رجفة
 
 
 
 
 
111

105

الهجوم الحديدي

 خفيفة. لذا أردت تشجيعه وإعادة ثقته بنفسه، فضغطت بقوة على ساعديه وقلت: 

- يا مصطفى، سوف نتقدم إلى الأمام معتمدين عليك، فإذا رأيت أيًّا من أفراد العدو فلا ترحمه، بل أطلق النار باتجاهه لتحمينا ونتمكّن من الانسحاب والعودة سالمين. 

شددت حزام القبعة على ذقنه، وربّتّ على ظهره، وقلت له: "سوف أرى كم فردًا منهم ستصطاد". تقدمت بضع خطوات، ثم عدت إليه متفحّصًا، فوجدت ركبته ما زالت ترتجف قليلًا. 

اكتسبنا بواسطة التمرن على زرع الألغام قبل أيام في فارسيات مهارة وسرعة، لذلك زرعنا الألغام حسب الخريطة المعدة لذلك، ووضعنا علامات عليها ثم عدنا. واستغرق زرع الألغام وعودتنا إلى مصطفى حوالي الساعة تقريبًا. 

كانت عودتنا باتجاه الأشجار المحددة، فخرج مصطفى من خلف إحداها ولوّح لنا بيده صارخًا: "لماذا تأخرتم هكذا؟". اقتربت منه، فوجدت وجهه أشدّ صفرة من ذي قبل، وازدادت رجفة قدميه، كما لو كان قد خرج من الحافلة الدافئة شتاءً في "أردبيل" ليقضي حاجته أو يتناول الشاي.

قال لنا: "يبدو أنكم قد ذهبتم إلى "قندهار" لزرع تلك الألغام!".

سألناه عن الذي حدث، لكنّه لم يُجب وظلّ صامتًا، فقفلنا عائدين لعلّه يرتاح ويطمئنّ فيتكلّم، سرنا مسافة خمسمئة متر من منطقة الأشجار إلى سيارة الجيب، ما لبث أن تحدث إلينا قائلًا:
- بعد ذهابكم بربع ساعة، وبينما كنت أراقب يمينًا وشمالًا، أحسست بفوهة بندقية تلامس رقبتي من الخلف، لكن صاحب
 
 
 
 
 
112

106

الهجوم الحديدي

 البندقية لم ينطق بشيء ولم يقل ارمِ سلاحك وارفع يديك. فقلت في نفسي: لعلّه كمعظم الجنود العراقيين لا يتكلم اللغة الفارسية، ويفضل أن يتحدث بلغة السلاح. رميت بندقيتي أرضًا، ورفعت يدي عاليًا. وانتظرت أن يقول شيئًا أو يطلق عليّ رصاصة الرحمة، لكنه لم يفعل. 


حركت رأسي يمنة ويسرة، فلم أره، فهو كان يتحرك معي، وكنت سأبدأ بالبكاء، فصرخت فيه: من أنت؟ عربي أم إيراني؟ وهل لديك لسان؟ وماذا تريد مني؟ أطلق رصاصتك وأرحني يا هذا. لكنه لم ينطق بأي كلمة، واستمر يلصق فوهة بندقيته برقبتي. لا أدري كم مرّ من الوقت وأنا أرتجف، ربع ساعة أم أقلّ أم أكثر. إلى أن خطر ببالي أنه قد يكون من الإخوة ويريد أن يمازحني، لكنها مزحة سمجة خاصة في هذا المكان الحساس من الجبهة! 

لذلك قررت أن أستدير بسرعة فائقة، وأزيح فوهة البندقية بيدي لأبعدها عنيّ، وأوجه لكمة إلى وجهه. واستجمعت كلّ قواي وجرأتي، واستدرت سريعًا، وسددت ضربة باتجاه القلب، لكن يدي لم ترتطم بأحد وغابت في الفراغ. لم أجد أحدًا خلفي، لكني ما زلت أحس بفوهة السلاح. مددت يدي إلى رقبتي، عندها أدركت أن فوهة السلاح التي أرعبتني ما هي إلا قطعة معدنية متدلية من القبعة التي أعتمرها على رأسي، فبعد رحيلكم عرق رأسي، وفتحت حزام القبعة، فتدلى رأس الحزام بين رقبتي والسترة.
 
 
 
 
113

107

معلومات روحية

 معلومات روحية


في تلك الليلة، كنا جالسين أنا ومرتضى صفاري و"محمد علي أميني بيات" و"محمد بيش" بهار في بيت شيخ فارسيات الذي تحوّل إلى مقر قيادة المحور. كان محمد علي يقصّ على "بيش بهار" ما جرى صباحًا، وكيف كانت هيئة مصطفى عندما ظنّ أنّ طرف قبعته هو فوهة بندقية العدو! أخذ محمد علي يضحك، فبانت أسنانه البيضاء أمام نور الفانوس الخافت كأنها تلمع كالصدف. لا أدري كيف تحول مجرى الحديث من المزاح إلى ناحية المعنويات والروح وحياة ما بعد الموت. فطرح محمد علي أسئلة لم يسألها أحد سواه من قبل، قال: 
- يا أخ أسدي، برأيك ألا تستطيع أرواح الشهداء أن تساعدنا لنفهم ما يجري خلف خطوط العدو؟ 

أثار هذا السؤال في أبداننا، فضلًا عن الجو شبه المعتم للغرفة، ونور الفانوس الخافت، إحساسًا رقيقًا بالخوف. 

أجبته: "إن روح الشهيد ترى كل شيء، لكننا نحن الذين لا نرتبط بها، فكيف يمكننا أن نحصل على المعلومات منها؟!".

بانت أسنانه البيضاء المتلألئة وهو يتحدث: لا أدري، كأن تتّصل الروح بنا في المنام. فأنا أعتقد أن أرواح الشهداء يمكنها أن توجد خللًا في نشاطات العدو، مثلًا تعطيل مدافعهم وقذائفهم.
 
 
 
 
 
 
114

108

معلومات روحية

 قضينا نصف ساعة تقريبًا بين سؤال وجواب، واستمرّ محمد علي مصرًّا على الحوار إلى أن قال له "بيش بهار": "عزيزي محمد علي قل لي ماذا تناولت مساءً؟".


- "يا عزيزي، أنا لم أتناول شيئًا منذ الظهيرة". 

- ها، إذًا كل هذا بسبب جوعك! اذهب وتناول شيئًا ما واستغرق في النوم، ودع الأخ أسدي ينام أيضًا، فلدينا صباح الغد عمل كثير.
 
في الصباح الباكر، سألني محمد علي: "هل سنذهب اليوم إلى الاستطلاع؟"، فأخبرته أنّنا سنقيم متاريس في هذا الجانب من النهر، لذلك عليّ أن أبقى هنا لأشرف على ذلك وأساعد الإخوة. 

قال: "إذًا عن إذنك، سأذهب لأستطلع ثم أعود". 

كنت أعلم أنه يريد تفقد الألغام التي زرعناها، وكم لغمًا قد انفجر منها، وهل قامت قوات العدو بنزعها وأخذها. لذلك قلت له: "يمكنك الذهاب، قوّاك الله، لكن عد سريعًا". 

ابتسم وقال: "لا يمكنني أن أعدك بذلك، لكني سأبذل جهدي". 

في الغد بلغني أن ضابط صف من قوات الدرك اسمه "دست فروش" قال لمحمد علي: 
- سيد بيات أريد الذهاب إلى نهاية القناة رقم 2 لأنصب كمينًا هناك. 

أجابه محمد علي فورًا: "أنا أوصلكم إلى هناك"

خلال الطريق أرشدَ الضابط إلى مكان الألغام التي زرعناها، وحذّرهم من المرور في المنطقة. وقد نقل لي الضابط فيما بعد أن محمد علي قال له إنه لا يفصح عن مكان الألغام لأيّ كان، لكنه كان مضطرًا لإرشاده خشية العبور بسياراتهم من هناك.
 
 
 
 
 
115

109

معلومات روحية

 لكنّه بعد أن أوصل الضابط إلى مكان الكمين، وفي طريق العودة مرّ بسيارته على أحد الألغام، وكان الانفجار شديدًا، فقذف سيارته بضعة أمتار عاليًا، واستشهد محمد علي على الفور. 


بلغني خبر شهادته بعد صلاة الظهر. تذكرت كلامه ليلة أمس حول روح الشهيد. 

خرج مرتضى صفاري من باحة بيت الشيخ، مسندًا رأسه إلى الحائط الطيني، وهو يبكي بهدوء. أمسكت به وأدرته ناحيتي لأرى عينيه قد احمرّتا من شدة البكاء.
 
- لا تبك يا مرتضى، هذا ما كان يتمناه، كان يكرر قوله لي: إن الاستشهاد بلغم له طعم خاص، فسرعة الانفجار رهيبة لدرجة أنّ المستهدف لا يشعر متى قُطعت يده أو تناثرت رجله قطعة قطعة، وإذا ما كتبت له السعادة فسينفصل رأسه عن جسده. 

ازداد بكاء مرتضى، وبكيت لبكائه، لكني مسحت الدموع، وقلت له: "اذهب بنفسك إلى قم يا مرتضى لتشارك في تشييعه، ثم عد".
 
 
 
 
116

110

الاشتياق

 الاشتياق


عند بداية الحرب المفروضة علينا لم يكن الالتحاق بالجبهة أمرًا سهلًا، كان الناس في اشتياق كبير للالتحاق، لكن أسلوب الالتحاق والتنظيم لم يكن متطوّرًا، فكان الناس لا يعرفون كيف يلتحقون بها. 

ففي الأيام الأولى، كان كل من يصل إلى الغولف يجب أن يُحْضِر معه رسالة من قوات الحرس في مدينته أو من اللجان الثورية. وإن عجز عن ذلك ففي الحد الأدنى يُحضر رسالة من مسجد محلّته ليطمئن المسؤولون عن الإلحاق بأنه معروفٌ وموثوقٌ عندهم، خشية أن يندسّ ويعمل لمصلحة العدو.
 
لذلك قبل دخولي إلى الاجتماع في الغولف، كنت أسير في الباحة، فجاءني شاب آذري بعمر العشرين عامًا، وقال لي إنّه يريد الالتحاق بالجبهة، طلبت منه بطاقة تعريف أو تزكية، لكنّه كان يتحدث الفارسية بصعوبة جدًا، وبدوري كنت أعرف التركية الآذرية قليلًا، فاضطررنا للتحدث باللغتين معًا ليفهم أحدنا على الآخر، لم يكن لديه رسالة تعريف، فقلت له: "لا أحد يعرفك هنا، عليك أن ترافق مجموعة قادمة من مدينتك أو تحضر رسالة تعريف"، فأجهش بالبكاء. 

- لماذا تبكي أيها المؤمن؟ عد وأحضر رسالة واذهب إلى الجبهة. 

أجابني بالآذرية: "لقد أتيت من تبريز".
 
 
 
 
 
117

111

الاشتياق

 - "لا تبتئس، إننا نعاني في هذه الأيام من أعضاء الأحزاب المنحرفة ومن المنافقين، فما يدريني من أنت، وماذا تفعل".


أخذ يبكي بصوت عالٍ، ويشهق شهيقًا متقطّعًا. وضع يده في جيبه، وأخرج ورقة قدمها لي متسائلًا: "هل تنفع هذه؟". 

كان متردّدًا في إبرازها، لكنه اضطر، أخذت الورقة وفتحتها، إنها رسالة إجازة من دون راتب صادرة عن الحرس.

قال إنّ قوات الحرس في تبريز لم يسمحوا له بالمجيء، فطلب بالأمس إجازة مفتوحة من دون راتب، وركب القطار ووصل اليوم إلى الأهواز. 

ترك هذا الشاب لوعةً في قلبي، وخشيت أن يعاني أكثر من ذلك، فقبّلت جبينه وطلبت منه الانتظار لأرى ما يمكنني أن أفعله له. 

بعد دقائق، وصلت سيارة التويوتا تحمل الإخوة الآذريين عائدين من "سوسنكرد" إلى الغولف لاستلام الطعام. طلبت من السائق أن يصطحب هذا الشاب معه، فهو من مدينتهم. 

- قال: "لا أستطيع". 

- لماذا؟ 

أبرز لي أمر المهمة لشخصين، وأخبرني أن حارس المحور لن يسمح لنا بالدخول، وسيقول إنّ أحدكم غريب لا يحق له المرور. 

أخذت الورقة وحولت الاثنين إلى ثلاثة. فقال السائق: "هذه عقابها أسوأ يا أخي، لقد زوّرت أمر المهمة". 

فكتبت رسالة أخرى ذكرت فيها أنّ هذا الشاب التبريزي مرسل من قبل مقر "منتظِري الشهادة"، ووقعتها. وقلت للسائق: "إذا أشكلوا على أمر المهمة، أبرِز لهم هذه الرسالة". أخذ السائق الرسالة مكرهًا،
 
 
 
 
 
118

112

الاشتياق

 وقفز الشاب إلى الخلف، جلس إلى جانب قدور الطعام. 


إن مصادفة مثل هذه الحالات كانت تشحذ هممنا جميعًا للبقاء في الجبهة والعمل فيها. فاشتياق الناس للالتحاق بالجبهات شمل الشباب وكبار السن. فبعد أيام من قصة الشاب التبريزي، وصل عجوز بعمر الخامسة والستين مع ابنه البالغ 22 عامًا إلى الغولف. فطلبت منه كالعادة رسالة تزكية لإرسالهما إلى الجبهة. 

قال إنّهما أتيا من قرية حدودية في خراسان وإنّه كان يعمل مع ابنه في أرض زراعية، وعند عودتهما إلى البيت بعد الظهر سمعا من الإذاعة أن بعض الدول العربية ترسل متطوّعين لدعم صدام في عدوانه على إيران، فقال الأب لابنه: إذا كان هؤلاء قد قدموا من دول أخرى لمساعدة صدام في عدوانه، فأين غيرتنا نحن؟ ولماذا لا ننصر الإسلام داخل بلدنا؟ لم نتناول طعام الغداء، بل أخذنا خبزنا وتوجهنا إلى هنا، والآن أنت تطلب منا رسالة تزكية؟! 

قلت له: "أبي العزيز لا يمكننا أن نرسل إلى الجبهات كل من يصل إلينا، علينا أن نعرف من أين أتى، وما هي توجّهاته". 

بسط الأب يديه كأنّه يدعو بدعاء، مدّهما أمامي، وقال: "انظر إلى يديّ، إني فلّاح، هل ترى في شكلي أني منافق؟!".

صدق لهجته لا يترك أي مجال للشك فيه. فأخذتهما معي إلى المحور، وعرّفتهما إلى الإخوة الخراسانيين.
 
 
 
 
 
119

113

فرصة للتعلم

 فرصة للتعلم


في بداية استقرارنا في "فارسيات"، كنّا نصلي الجماعة في باحة بيت شيخ القرية، لكنّنا فيما بعد رتبنا إحدى غرف المدرسة المجاورة للبيت، لتكون مصلّى مسقوفًا. كان صفًّا كبيرًا، يتّسع لكل شباب المحور، و كنّا عندما يغصّ بالمصلّين، نفرش باحة المدرسة ليصلّي فيها من لا يجد له مكانًا في الداخل. 

كان إمام الجماعة طالب علم من آذربايجان الإيرانية يُدعى "يونس عاقل نهند"، ورغم كونه شابًّا، إلا أنّ الجميع كان يحترمه ويقدّره بسبب روحيّته الطاهرة. 

ذات يوم، كان يونس يؤم صلاتي الظهرين، والإخوة يصلّون خلفه، وكنت أصلّي وسط الجمع. بعد قنوت الركعة الثانية من العصر، نادى الشاب الذي ينقل للمصلّين حركة إمامهم، الله أكبر، ركوع.. وفي اللحظة التي كاد فيها أن يلفظ العين في كلمة "ركوع"، سقطت قذيفة مدفع قرب المدرسة. وبدل الركوع سجد الإخوة كلّهم ما عدا يونس وأربعة آخرين. وفور إتمام الصلاة، ضحك الكل، وسألوا: "هل نعيد صلاة العصر أم لا؟"، أجابهم يونس: "أعيدوها". اعترض الشاب الذي كان الأسرع في السجود من دون ركوع وقال: 
- لماذا نعيد الصلاة؟ ماذا لو سقطت القذيفة بيننا لا سمح الله..؟
 
 
 
 
 
120

114

فرصة للتعلم

 ضحك الجميع، وما زال "عاقل نهند" مبتسمًا وأجابه: 

- لأنّ الله تقبّل منا ونجانا، علينا أن نعيدها لنشكره. 

ما دمت أتحدث عن إمام الجماعة، فسوف أذكر عالم دين شجاعًا وتقيًّا من شيراز كنا قد استضفناه لعدة أيام. زار الشيخ كل المحاور وتفقدها من دون أن يستقر في مكان محدد. كانت حصتنا من زيارته عدة أيام لمسنا خلالها صفاء باطنه وشخصيته الهادئة المطمئنة. 

في أحد الأيام، جلست معه في مقر قيادة فارسيات وتبادلنا أطراف الحديث، حيث وصلنا إلى شيراز وأهلها وزمان المواجهة خلال الثورة. فجرى ذكر آية الله السيد دستغيب، ذكر الشيخ إحدى ذكرياته مع ذلك الشهيد العظيم عندما كان إمام جمعة شيراز، قبل أن يغتاله المنافقون: 
توجّه الشيخ للقاء سماحة السيد دستغيب، وقال له: "خلال أشهر الحرب الماضية كنت كلما ذهبت لزيارة المقاتلين في الجبهات، فإنّهم كانوا يدفعونني لأصلّي بهم إمامًا، وبما أني أرتدي زي رسول الله صلّى الله عليه وآله أجد نفسي مضطرًا للقبول. لكني أعتقد أني لست أهلًا لذلك، بل إني أدنى وأحقر منهم، ولست لائقًا أمام عظمة المقاتلين وكرامتهم". 

أجابه الشهيد دستغيب: "يا بني ما دمت ترى نفسك أدنى من المقاتلين، وافق على إمامة صلاة الجماعة معهم، وصلاتك بذمتي. لكن عندما ترى نفسك أهلًا لذلك، عندئذٍ إمامتك للجماعة بذمتك، وأنت المسؤول عنها يوم القيامة".
 
 
 
 
 
121

115

عاشوراء هاشم

 عاشوراء هاشم


إن استشهاد أيّ عنصر جيد ومتديّن في محورنا، كان يشكّل دومًا خسارة كبيرة للمحور، لكن تقاطر العناصر الجدد كان يشحذ همّتنا للاستمرار في الدفاع. وبسبب حاجة المحاور إلى مقاتلين، كان مسؤولو الغولف كلّما وفد إليهم متطوّعون، يقومون بتسجيلهم وتدريبهم وتوزيعهم بين المحاور.

كان من بين المقاتلين الجدد من يبزغ نجمه سريعًا، ويبدي جدارةً واضحة، ومن هؤلاء عدد من شبان مدينة "خرم آباد" الجيدين الذين أُرسلوا إلى "فارسيات"، فقد أبدوا رغبتهم بالخدمة منذ البداية، وكان منهم معلّم قوي البنية وضخم، يُدعى "هاشم بورزادي"، صوته رخيم وتظهر عليه الرجولة، بحيث عندما يسير معك تشعر بالأمن والاطمئنان عند مواجهة أي عدو، لذا بدا كقوّة رادعة. 

بعد أيام من مجيئه، لاحظت أنه يجيد السباحة أيضًا، فكان يسبح معي في نهر كارون، بل كان يسبقني أحيانًا. قطعنا النهر عدة مرات، بادرته مرةً عندما وصلنا إلى الضفة وقلت: "لقد أعجبتني كثيرًا يا هاشم، هل لديك استعداد للمشاركة في عملية خاصة؟". 

رفع شعره المبلل إلى الخلف وقال: "ماذا؟ وهل أتيت إلى هنا في شهر محرم للسياحة؟ متى نذهب؟".
 
 
 
 
 
122

116

عاشوراء هاشم

 - اليوم ظهرًا بعد الصلاة. 


بدوره أخي الآخر "محمد تقي" الذي أتى إلى فارسيات، سلمته بندقية، وأعطيتُ هاشم رشاش المجموعة (BKC)مع ذخيرة، وضع الرصاص في الشريط، ولفّه حول خصره وبدنه، ووضع الرشاش الثقيل على كتفه كما يضع الراعي عصاه. 

توجهنا إلى الضفة الأخرى من النهر، وشرحت لهما معالم المنطقة بالكامل، وبيّنت لهما المهمة الموكلة بالتفصيل. سارا مشيًا على الأقدام حتى الغروب لمسافة ستة كيلومترات، حتى وصلا إلى طريق معبّد. واستهدفا سيارتين للعدو تحملان عددًا من الجنود، ثم عادا متستّرين بظلام الليل. 

في الصباح، راقبت نقطة العملية عبر المنظار، ساد قوات العدو حال من الاستنفار والرعب، وقد امتلأت المنطقة بالقوات وأحكمت السيطرة عليها. 

بعد أيام دفعني نجاح هاشم ومحمد تقي إلى تكليفهما بعملية أخرى. شرحت لهما الخطة، وقلت لهاشم: "أريد أن أرى همتك".
أجاب بسرور: "حدّد لنا المنطقة واطمئن". 

كما فعلا في المرة الأولى، كانت هذه العملية ناجحة أيضًا، التفّا خلف كمين نصبه العدو، ودمّرا السيارة والذخائر المحمولة فيها. 

في أواخر الليل، عقدنا اجتماعًا بحضور ضابط الصف "دست فروش" واتفقنا أن نشنّ في الصباح الباكر هجومًا على قوات العدو المتمركزة عند قناة قرية بيوض. 

بينما كنا نوزعّ المهام ونكمل التفاصيل، طُرق الباب، وسأل أحدهم بصوت رخيم: "هل أسدي هنا؟". كان ضوء المصباح خافتًا لا يُظهر
 
 
 
 
123

117

عاشوراء هاشم

 الوجوه جيدًا، لكني عرفته من صوته، إنه هاشم، لهجته لرّية ويذكر الاسم بلا أخ أو سيد من دون تكلّف. 


- هذا أنت يا هاشم؟ 

ألقى السلام وقال: "المهمة نُفّذت بنجاح". 

عندما خرج الإخوة من قوات الدرك، اقترب هاشم مني وقال: "يا أسدي العزيز، أتيت لأقول لك شيئًا، غدًا الثامن من شهر محرم، وبعد يومين عاشوراء، هل تتصور كم ستكون مراسم عزاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء حافلة إذا تمّ تشييع أحد الشهداء خلالها؟!".

لم أستطع أن أسأله عن فكرته في هذا الظلام وهو مقطب الجبين، وكله عزم. 

فسألته: "وماذا تريد؟". 

- رتّب لي عملية ما. 

- بالمناسبة كنّا نخطّط لعملية ننفذها غدًا صباحًا.
 
- سأشارك معكم بدوري. 

- يا رجل، سنتحرك فجرًا بعد الصلاة، وأنت عدت الآن من عملية، والتعب بادٍ عليك، اذهب لترتاح، وستشارك في العملية التالية إن شاء الله. 

اقترب مني، وأمسك بيدي راجيًا، وأقسم عليّ أن أسمح له بالمشاركة. 

أجبته: "حتى الصباح، اذهب حاليًا ونم". 

ما إن سلّمت مختتمًا صلاة الصبح، حتى أمسك بيدي ثانية وقال:
 
 
 
 
 
124

118

عاشوراء هاشم

 "يا أسدي لا تتركني هنا". وجدت نفسي عاجزًا عن إقناعه وإقالته، قلت له: "حسنًا، اذهب وأحضر سلاحك". سرنا فورًا من دون أن نتلو تعقيبات الصلاة.

 
عبرنا النهر وكان الظلام ما يزال دامسًا، حتى إذا جهّزنا قوّاتنا للعملية ووصلنا القناة بدأ النور ينشقّ. ولا أدري إن كان العدو يستعمل منظار الرؤية الليلة أم لا؟ أو هل هناك حراسة؟

واجهنا كمينًا نصبه لنا العدو، وكان هاشم يسير في المقدمة، فأصيب هو وأحد الإخوة من أهالي طهران يُدعى "زمرديان" بقذيفة "آر بي جي" في بطنه، كان يحمل زيادةً عن جعبته سلاحه وقنبلتين عند خاصرته، ، فانفجرت القنبلتان، وتقطّع جسده، وتفرّق جمعنا، فصرخت: "الله أكبر" لتشجيع الإخوة على استهداف أفراد العدو، أصبنا بعضهم وفرّ الباقون. وعندما تقدمنا عثرت على جثّة هاشم مطروحة على الأرض. 

كان العدو يتوقّع هجومنا، لذلك زرع كمينًا قبل القناة، ونشر جنوده (ناموسيات) ضد البرغش وباتوا الليل هناك.

لا مجال لنا للانتظار والتوقّف، علينا سحب الشهيدين بسرعة، فطلبت من الأخ الموسوي إحضار قطعة قماش لجمع أشلاء الشهيد زمرديان. بعد دقائق، كان على تلك القطعة عظام وأشلاء ودماء متخثرة، طلبت من الأخ الموسوي حملها والعودة بها، وسلّمته عدّة قطع من الأسلحة، وحملت باقي القطع. لكن بقي جسد الشهيد هاشم، عليّ إعادته بأيّ ثمن. فقبل أيام، أسرت قوات العدو جسد أحد شهدائنا، وخشيت أن أترك جسد هاشم هناك، كان جسده يبدو سالمًا إلا من رصاصة غدرته في كتفه، لكن وزنه يبلغ مئة كيلوغرام، ولا يمكنني حمله على ظهري. لم أجد وسيلة، فقبّلته على جبينه معتذرًا، ووضعت
 
 
 
 
 
125

119

عاشوراء هاشم

 رجليه على كتفي، وسحبته على الأرض مسافة كيلومتر. بينما أحضر العدو ناقلة جند لسحب قتلاه. 


وما هو إلا وقت قليل حتى وصل أحد الإخوة على دراجة نارية، جاء بها من إحدى القرى لسحب جثة هاشم. لكن قدميه ويديه كانت تخطّ الأرض. وبقينا على تلك الحال إلى أن أوصلناه 
إلى ضفة النهر. 

تذكرت سباحتنا معًا، وتمالكت نفسي من البكاء، وما إن ناديت الإخوة من "خرم آباد" حتى غصصت بالبكاء، لكني كتمت صوتي، وطلبت منهم بحزم: "هذا ظهر الثامن من محرم، وقد طلب هاشم أن ينقل إلى خرم آباد فورًا. حمّلوا جثته في سيارة الجيب، وتوجهوا به إلى خرم آباد"

عندما عادوا من هناك، قالوا: "لم تشهد خرم آباد ذكرى عاشوراء حافلة، كما شهدت هذا العام بسبب تشييع جنازة الشهيد"

تذكرت الرسائل التي كانت تصله، كانوا يحثّونه على الزواج. عرض عليّ تلك الرسائل وقال: "ما دامت هناك حور عين، هل فقدت عقلي لأتزوج من نساء الدنيا؟!".
 
 
 
 
 
126

120

توحيد اللغة

 توحيد اللغة


كان شحّ الأسلحة المشكلة الأساس للقوات في بداية الحرب، وخاصة قوات حرس الثورة الإسلامية، ولعل وضع محورنا في الأيام الأولى كان أفضل من سائر المحاور. فلعدة أسابيع كنا نتنعّم بعدة بنادق (برنو، M1، بنادق صيد، قاذف B7، وB6) التي أحضرناها معنا من "نور آباد". 

في اليوم الثاني لوصولنا إلى المحور، أصبنا دبابة للعدو بقذيفة B7، فبقي لدينا خمس قذائف فقط، حاولنا الاحتفاظ بها قدر المستطاع، على أمل أن لا نضطر لإطلاقها. لكن في الشهر الثالث اضطررنا إلى صدّ هجوم العدو، وبتنا خلال عدة دقائق، لا نملك أي قذيفة مضادة للدروع. 

في هذا الوضع، كان همّنا الوحيد في محورنا والمحاور الأخرى هو الحصول على أسلحة أحدث وأكثر فاعلية، لأن أسلحتنا القديمة لم تعد صالحة لمواجهة أسلحة العدو المتطوّرة. لذلك عندما التقيت اللواء فلاحي رئيس الأركان المشتركة للجيش في غرفة العمليات في الأهواز، حدّثته جانبًا، وشرحت له الوضع الصعب الذي نعاني منه في فارسيات، وشحّ القذائف المضادة للدروع، وكيف تتقدم دبابات العدو قادمة من "معسكر حميد" وتطلق مدافعها المباشرة على شبابنا، من دون أن يملكوا ما يواجهونها به. وكنت قد حضرت كلامي ليكون واضحًا، تامّ المعنى، في أقل مدة زمنية ممكنة، فقال لي: "لا تتحدّث
 
 
 
 
 
 
 
127

121

توحيد اللغة

 بهذه السرعة، ووضّح أكثر لأفهم ما هي مشكلتكم". 


أخذت نفسًا عميقًا، ووضّحت له أنّه يُفضّل في مثل تلك الحالات أن تقوم القوة الجوية بإرسال طاقم مع طائرتي كوبرا لتدمير الدبابات، عندها لن يجرؤ هؤلاء على التقدم بهذا الشكل. 

هزّ رأسه موافقًا، وطلب منيّ مرافقته إلى غرفة أخرى. استدعى عدة طيارين، وطلب من ضابط شاب إبلاغهم بالحضور سريعًا إلى الغرفة. وهكذا اجتمعوا بأقلّ من ثلاث دقائق، وطلب مني اللواء أن أشرح الوضع للطيارين على الخريطة الجدارية. 

أمسكت عصا الإشارة، وبدأت الشرح من الأهواز، واستلمت مجرى نهر كارون، وسرت شيئًا فشيئًا حتى وصلت فارسيات. توقفت عند الطريق المؤدي إلى "معسكر حميد"، وقلت لهم: "أعتقد أنه يمكنكم العبور فوق هذا الطريق، أو من خلال بساتين النخيل". 

سأل قائدهم عمّا يجعلنا نتوارى ونستتر في المنطقة، فشرحتُ له أنّ النخيل يشكّل غطاءً كثيفًا. ثم سأل عن المسافة التي تفصلنا عن العدو، وعن المعلم الذي يُبرز العدو ويدل عليه. 

فاتّفقنا أن نلتقي خلف بساتين النخيل لأوضح لهم عن قرب. 

بعد انتهائي من التوضيح، اقترب الطيارون من بعضهم بعضًا، وتحدّثوا عن الطلعات، لكني لم أفهم شيئًا لأنها مصطلحات خاصة بهم، فكل ما كنت أفهمه أنهم سيأتون بأمر من اللواء بعد الظهر، ليصطادوا دبابات العدو بطائرات سمتية. 

عدت إلى فارسيات سريعًا لأقوم بتأمين الدعم لهم عند تنفيذ الطلعات، باعتبارنا قوات برية. عند الساعة الثانية من بعد الظهر، سمعنا هدير ثلاث طائرات هيلوكوبتر، فصعدت إلى سطح بيت الشيخ حيث غرفة عملياتنا، فهبطت المروحيات بالتوالي خلف بستان النخيل.
 
 
 
 
 
 
 
128

122

توحيد اللغة

 نزلت مسرعًا، أدرتُ محرّك السيارة متوجهًا نحو البستان. 


وجدت الطيارين بعيدًا عن طائراتهم، قد اجتمعوا لمطابقة ومقارنة موقع المنطقة على الخريطة. حالما وقع نظرهم عليّ فرحوا ونهضوا قائلين: 
- أين أنت يا أخي؟ تعال لنرى ماذا علينا أن نفعل. 

أشرت إلى الخريطة، ثم إلى النهر والطريق. وإلى مكان "معسكر حميد" على الخريطة، ثم إلى الطريق المؤدي إلى مدخل المعسكر. حدّد الطيارون مكانهم جيدًا. واتّفقنا أن أعود إلى المقر، وأبقى على اتصال بهم عبر المركز. 

عندما وصلت إلى بيت الشيخ، لم تكن الهيلكوبترات قد أقلعت بعد، فخطر لي احتمال أن يُسقط العدو الطائرات ويأسر الطيارين. لذلك استدعيت الأخ "حسين كلريز" من الإخوة النشطين من أهالي شيراز، وقلت له: توجه بسرعة مع عدد من الإخوة بزورق إلى الشاطئ الثاني، حتى إذا أصيبت أي طائرة - لا سمح الله - تتمكّنون من إخلاء الطيار ومساعده. 

وأكّدت عليه: لا شأن لكم بالطائرات، كل ما عليكم هو التدخل إذا ما أُصيبت، عند ذاك أسرعوا بإنقاذ الطيارين ومساعديهم. 

-  بأمرك.

قالها بصوت رخيم وذهب. صعدتُ إلى سطح بيت الشيخ، حلقت المروحيات واحدة تلو الأخرى متوجهة نحو النهر، أخذت أراقب بالمنظار، حسين ورفاقه في الزورق، وكان حسين آخر من ركب الزورق. لكنه ترجّل منه سريعًا وعاد نحو بيت الشيخ. 

في البداية، انزعجت من تصرّفه هذا، فبعد "أمرك" الرخيمة، ما زلت أراه لم ينطلق بعد إلى هناك. لكني استدركت وقلت لعل الزورق لم يتحمل المزيد، وسيذهب الباقون، لا أهمية لذلك، المهم أن تنفذ المهمة. رأيت حسين متّجهًا نحو المقر، لكني كنت قلقًا على المروحيات،
 
 
 
 
 
 
 
129

123

توحيد اللغة

 فنسيت حسين، وأين ذهب، ولماذا لم يأتِ إليّ. 


تابعت مراقبة تحليق المروحيات إلى الحد الذي يسمح به مدى الرؤية، كانت تتقدم وتتراجع ثم تتقدم، كانت حركتهم وتحليقهم بنظم خاص، لكن عندما بدأ قصفهم لدبابات العدو، قام العدو بقصف مقرّنا بشدة، وتساقطت القذائف، قذيفة تلو أخرى، على الأرض، لكن إحدى القذائف المدفعيّة التي أصابت وسط المقر كانت شديدة الانفجار لدرجة أنها جعلتني أقفز من السطح مسرعًا لأرى ماذا جرى. 

فتبيّن لي أنّ قذيفة المدفع قد أصابت مدخل إحدى الغرف، وكان أبي داخل تلك الغرفة. كذلك أصابت شظيةٌ عين أحد قوات الدرك الذي راح يركض ويصرخ واضعًا يده على عينه: "إنّي أحترق، يا الله، لقد عميت، لقد عميت". 

دخلت الغرفة، وجدت أنّ والدي مصاب بشظيّة في يده اليمنى، ولم تكن إصابته خطرة. بحثت في الغرف الأخرى، فلم أجد فيها جرحى. كدت أهمّ بالخروج عندما ظهر أمامي "حسين كلريز"، وقبل أن أسأله لماذا لم يذهب إلى الشاطئ الثاني، سقطت قذيفة أخرى، صرخ حسين: "انبطح". وفورًا، دفع الباب واستلقى. لم أجد فرصة لفعل أي شيء. 

سقطت القذيفة على الأرض، وانطلقت شظية منها مباشرة لتصيب رأس حسين. تألمت كثيرًا لاستشهاده، وقلت: "قدره أن لا يذهب إلى الجهة الأخرى من النهر، بل أن يأتي إلى هذه الغرفة، ويصاب بشظية ويستشهد". 

نقل الإخوة والدي إلى المستوصف لعلاجه، ولمّا عاد قال: "يا بني، إنّ الإصابة بشظية، تحتاج إلى السعادة". 

وبعد أسبوع من تلك الحادثة، سقطت قذيفة أصابت سقف غرفة التموين التي يتولّى مسؤوليّتها والدي، وظنّ الإخوة أنّه استشهد،
 
 
 
 
130

124

توحيد اللغة

 فنادوني لأدخل الغرفة وأحضر جثة والدي. لما دخلت وجدت كل علب التموين قد سقطت، بحيث كلّما رفعت واحدة يسقط غيرها وكأنها مترابطة، أُصيبت كلّها بالشظايا، كذلك برميل الوقود قد امتلأ بالثقوب، في حين تمزّقت أكياس الرز والفاصولياء والعدس وغير ذلك، أما الزاوية التي يجلس فيها والدي عادةً ليقوم بالإحصاء فلم تُصب بأيّ شظية، وهكذا أخرجت والدي من تحت التراب والركام. 


خرج وهو يضحك ويكرّر الجملة نفسها: "كما قلت لك يا ولدي في الأسبوع الماضي، إن الشهادة تحتاج للسعادة". على كل حال، دعنا من ذلك، كان عليّ أن أعود إلى سقف بيت الشيخ لأتابع الهيلكوبترات. انقطع هديرها، ولشدة قصف العدو لمحورنا كان واضحًا أنّ خسائره كبيرة، فقد أصيبت إحدى الطائرات وسقطت في هذا الجانب من النهر، وبحمد الله استطعنا أن ننقذ الطيار ومساعده. لكن هذه العملية الجوية بذاتها كانت مهمة، حيث ألقت الرعب في قلوب الأعداء، ومنعتهم من الاقتراب نحو هذه الجهة من النهر، ومن مقرنا. 

في اليوم التالي، توجهت إلى الأهواز، واصطحبت اللواء فلاحي إلى فارسيات لرصد آثار العملية والتعرف إلى المنطقة أكثر. كان مسرورًا للأمر الذي أصدره بالأمس، لكنه كان يُخفي سروره بسبب ضعف القدرة العسكريّة. 

قلت له: "يا حضرة اللواء، إني أدرك العوائق التي تحول دون تقديمكم الدعم العسكري لقوات الحرس، لكنك شخصيًا ترى كيف جاء هؤلاء ليضحّوا من أجل الثورة والإسلام". 

- أخي العزيز، إني أثق بالتزام شبّانكم وإيمانهم، لكن الأسلحة التي بين أيدينا تحتاج إلى الاختصاص، ولا يمكنكم استخدامها. يجب أن تمتلكوا التخصّص لتتمكنوا من القتال جيدًا.
 
 
 
 
 
 
131

125

توحيد اللغة

 حدّثته عن الواجب الذي يحمّله الدين لكلّ مسلم عندما يتعرض الكيان الإسلامي للاعتداء، من شاب وشيبة ورجل وامرأة، وقلت له: "هذا ما دفعك للموافقة على تقديم الدعم العسكري لمحورنا". ربّت على كتفي قائلًا: 

- يا سيد أسدي، إني أفكر مثلك حقيقة، لكن ماذا أصنع وقد منع ذلك رئيس الجمهورية، وفي الجيش هناك فضوليون كثر، يقدمون التقارير. 

وأكد رغبته بدعمنا، لكنه مجبر على تقديم ذلك الدعم من خلال الدرك والضابط "دست فروش" على أن نستفيد بدورنا منها. 

قلت له: "قدّموا الدعم للمحاور عبر أي جهة شئتم".

فوعد أن يكلّف بإرسال مدفع (هاون 120) ومدفعية إلى محور فارسيات. وبعد أيام وصل إلى المنطقة ما وعد به1

إضافة إلى موضوع الحوار الذي دار بيني وبين اللواء فلاحي، لا بد لي من الإشارة إلى حقيقة أخرى، إنّ إحدى المشاكل الأساسية في بداية الحرب هي تفاوت التحليل والفهم، واختلاف وجهة النظر بين الجيش والحرس. حيث كان الجيش لا يزال متأثرًا بالتدريب والفهم العسكري التقليدي الذي تلقّاه في عهد الشاه، بينما قوات الحرس هي مؤسسة يافعة، كان لديها رؤًى ثورية جديدة. 

أفراد الجيش كانوا قد تلقّوا علومًا عسكرية كلاسيكية، ولديهم نموذج محدّد عن الحرب هو نموذج الحرب العالمية الأولى والثانية، في حين أنّ تصوّر قوات الحرس لنموذج الحرب ونظرتهم إليه تشكّلت
 
 

1- الشهيد اللواء ولي الله فلاحي من مواليد طالقان عام 1931م، رغم أنه كان قائدًا في الجيش الملكي قبل الثورة، لكنه كان معروفًا بتدينه. بعد انتصار الثورة تولى قيادة القوة البرية في الجيش، وكان في الجبهة منذ بداية الحرب، بعد تنحية بني صدر من القيادة العامة للقوات المسلحة بحكم صادر عن الإمام الخميني، أضحى فلاحي رئيسًا للأركان المشتركة للجيش. بعد عمليات "ثامن الأئمة" وخلال عودته إلى طهران سقطت طائرة هوكولس سي 130 للقوة الجوية للجيش يوم 28/9/1981م فاستشهد مع جمع من القادة العسكريين.
 
 
 
 
 
132

126

توحيد اللغة

 من المساجد والمنابر الحسينية. 


خلق هذا الوضع ظروفًا غير محدّدة، دفعت بعض قادة الجيش للقول: إنّ الجيش يملك التخصّص، بينما يملك الحرس التديّن، وينبغي أن يوكل أمر الحرب إلى المتخصّص، وهذا ما كان يؤذي شباب الحرس. 

قال الحاج داوود كريمي في أحد الاجتماعات: "إننا لا نفهم على بعضنا البعض، لأننا نحن نستلهم من مخزوننا الثقافي حول حروب صدر الإسلام كبدر وحنين وغيرهما، في حين أن رجال الجيش يطرحون لنا الأمثلة حول ساحل بحر "المانش". لذلك يتوجّب على كلٍّ من المؤسّستين أن تعمل إحداهما على توحيد اللغة والإدراك مع الأخرى، وإلا فلن تحل هذه المشكلة أبدًا".

وقد ساهم وجود طاقات منطقية وسبّاقة في كلا المؤسّستين، في العمل على توحيد اللغة والإدراك شيئًا فشيئًا، فالقوات التي حلّقت بجناحيّ التخصص والتديّن، استطاعت أن تنجح في ساحة الحرب أمثال القائد الشهيد صياد الشيرازي1.
 
 

1- العميد علي صياد الشيرازي ولد في 12/6/1944م، كانت علاقتي به أبعد من العلاقة العسكرية العادية، والمراسلات واللقاءات الإدارية. كنت أحبه بعمق، وقد اضطربت عندما بلغني خبر استشهاده، وتذكرت أيام الحرب الصعبة ومشاكلها التي كانت تحل وتهون بكلماته الجميلة، لن أنسى تلك الأيام حيث كان بسلوكه التعبوي يشجع الجميع. إنه من القادة الذين أتحسر دومًا على الأيام الجميلة التي قضيناها معه. قبل انتصار الثورة الإسلامية أثار الشهيد صياد الشيرازي حساسية الأمن المضاد في الجيش بسبب سلوكه الديني والأخلاقي، وبعد انتصار الثورة كان قائد عمليات شمال غرب إيران، وخاض مواجهات قاسية مع أعداء الثورة. بعد انتهاء الحرب المفروضة عُين معاون التفتيش في الأركان العامة للقوات المسلحة. قام عملاء منظمة المنافقين "مجاهدي خلق" الإرهابية باغتياله فجر يوم 9/4/1999م وهم يرتدون ملابس عمال النظافة، وذلك أمام بيته في طهران، فاستشهد أمام ناظري ابنه.
 
 
 
 
 
133

127

الراصد

 الراصد


إنّ وجود مدفع الهاون 120 زاد من فعالية محورنا، وأضحى العدو أكثر حذرًا في التقدم نحونا. وبعد أيام من زيارة اللواء فلاحي للمحور، وصل المدفع إلى المقر، وأرسل راصد المدفعية إلى محورنا لنرشده إلى أماكن وجود العدو وانتشاره ليعطي المعلومات للرماية. كان ضابطًا شابًّا أصفهانيًّا حسن المنظر وذكيًّا مكلّفًا من الجيش، كان سريعًا في التقاط مجريات الوضع وفهمه، ولم يكن يرغب أن يخوض معه أحد في حديث يمسّ اختصاصه. 

اصطحبناه إلى الخطوط الأمامية ليعاين أين تتمركز قوات العدو، فكان يرصد بالمنظار ويدوّن أرقامًا على أوراقه، بدت كأنها مصطلحات خاصة بالمدفعية، ثم ينتقل إلى التحدّث باللاسلكي ويذكر زوايا وعقد (إحداثيات). وما هي إلا لحظات حتى انطلقت قذائف من مدفعيّتنا نحو مراكز العدو. وهكذا، بدا واضحًا أنّ الضابط الشاب لا يرغب أن نفهم شيئًا عن طريقة عمله وتفاصيله.

عندما نجتمع في المقر، كان يختفي إذا حان وقت الصلاة، لكنّني رأيته عدة مرات أثناء الوضوء، ولذا، بذريعة السؤال، اصطحبته إلى باحة بيت الشيخ لينضمّ إلينا في صلاة الجماعة. بعد الصلاة، كان يجمع قبضته ويطلقها في الهواء بدل الهتاف بالتكبير مع الآخرين،
 
 
 
 
 
134

128

الراصد

 وفي الوقت نفسه، كان يتنفس بشدة كأنّما كان يركض ويلهث. 


بعد أسبوع من بدء مهمته لدينا، اتّصل ظهرًا عبر جهاز اللاسلكي وأبلغنا أنّ هناك عدة أشخاص سيحضرون من الجهة الأخرى للنهر. ركبتُ الزورق الذي كنا نستخدمه لعبور النهر من جهة إلى أخرى لأذهب إلى هناك وأقوم بنقلهم. 

عندما دمّر طيّارو المروحيات دبابات العدو، تركوها وسط الصحراء، فاقترب شبابنا من الدبابات وأخذوا بعض القطع كغنائم. حينها جاء ضابط المدفعية بآلة سحب1 الدبابات، كانت ثقيلة وذات رأس كبير فسحبها إلى شاطئ النهر. 

خاطبته باحترام كي لا أنال من كرامته وحسّ التفوق لديه، وللأسف كانت هذه الحالة موجودة حينها:2

- يا حضرة الضابط، هذه الآلية ثقيلة لا تحمّلها في الزورق.

- كلا يا أخي، إننا بحاجة لها، نريدها لسحب آليات ثقيلة. 

جوابه هذا لم يسمح بنقاشه أكثر، وخشيت إن ناقشته أكثر أن لا يتعاون معنا في المهام القادمة، لذلك طلبت منه الحذر في الحد الأدنى. 

ركب الضابط "دست فروش" وستة عناصر آخرين، وسرنا بالزورق. لكن بعد أن اجتزنا مسافة قصيرة، بدأ الماء يدخل إلى الزورق، لم أكن أعلم أنّه حمّل آلة السحب الثقيلة جدًا ووضعها في الزورق، وأنّنا نحملها معنا. خفّفت من السرعة لأتبيّن سبب المشكلة، لكن الماء دخل
 
 

1- عدّة مؤلفة من حبل فولاذي ثقيل وبكرة ولوازمها، تساعد في قطر الآليات وسحبها بواسطة آلية أخرى. 
2- يذكر الأشخاص برتبهم العسكرية في الكتاب لأنهم من الجيش وليس الحرس. ولم يكن هناك تصنيفات ورتب عسكرية رسمية في تشكيلات الحرس آنذاك. 
 
 
 
 
135

129

الراصد

 بقوة القسم الخلفي للزورق، ورمى بالركاب من الأمام إلى الخلف، فاختلّ توازن الزورق، وارتفع الجزء الأمامي منه وانقلب في الماء، وكدنا نغرق جميعًا، وبينما كنت أحاول النجاة بنفسي، أحسست أنّ هناك من يمسك بكلتا رجليّ ويسحبني معه إلى القعر، إنه "بروين" من شباب الحرس، كان لا يجيد السباحة وها هو يغرق. بذلت قصارى جهدي حتى تمكنت من رفعه ليمسك بطرف القارب، سَحَبتُ نفسي إلى القارب، وأمسكت بالضابط دست فروش من شعر رأسه، وسحبته ليمسك بطرف القارب أيضًا، "موسى رضا زاده" وشخص آخر كانا يجيدان السباحة، فتعاونّا جميعًا حتى وصلنا إلى الشاطئ، حينها نظرت إلى الجميع وسألتهم: "هل هناك أحد مفقود؟"، أجابني الضابط دست فروش وهو يلهث بين كلمة وأخرى: "لا أظنّ أنّ هناك مفقودًا غير الشاب الأصفهاني راصد المدفعية". 


انتظرنا ونحن نبحث هنا وهناك، لم نجد أحدًا، بدا أنّه قد غرق وسحبه الماء. قررنا البقاء وعدم العودة، كان الجميع متأثّرًا، وصورته لم تبارح خيالي وهو ينظر عبر المنظار ويعطي الإحداثيات. اضطررنا للعودة إلى المقر، وإبلاغ مجموعة المدفعية بما حصل. 

عصرًا، عدت إليهم، وشرحت لهم ما حدث، وأن أسلحتنا نحن أيضًا قد غرقت ولم نعثر عليها، كان أحدهم يدوّن كلامي كلّه في تقرير سوف يُرفع إلى المسؤول عنهم، من أجل متابعة البحث والعثور على جسد الراصد. 

في اليوم التالي، وبعد بحثٍ وتدقيق، علمنا أنّه في قرية "مكسر" شابٌّ اسمه مهدي، وهو صياد سمك، لديه قارب كبير بمحرك بخاري قدرته 25 حصانًا، وهو خبير في المجال الذي نريد. أرسلت بطلبه،
 
 
 
 
 
136

130

الراصد

 فأتى، وقف عند الشاطئ وقال: "إنّ جثة الغريق في النهر تبقى في القعر، فإذا كان الجو حارًّا تنتفخ بعد أربعة أيام، وإذا كان باردًا تحتاج إلى ستة أيام لترتفع إلى سطح الماء. والشاب الذي غرق أمس لا يزال في القعر، ينبغي أن أرمي الصنارة والشباك لتعلق بجثته في القعر ويمكن العثور عليه وسحبه". 


طلبت منه أن يبذل جهده، حكّ رأسه وقال: "لا أحمل الآن صنارة، سأعود غدًا وأحضرها معي". 

لم يأتِ مهدي في اليوم التالي، بل جاء في صباح اليوم الثالث، فأرشدته إلى حيث غرق الراصد، فشرع بالبحث، فيما عدت أنا إلى المقر لمتابعة الأعمال، وقبل أن أصل إلى باحة بيت الشيخ، بلغني أنّ عددًا من أفراد الجيش يطلبونني. 

كانت حافلة من القوات البحريّة للجيش من (بوشهر) حضرت للبحث عن جسد الراصد، ويحمل مسؤولهم رسالةً رسميّةً يُمنع بموجبها استعمال المدفعية أو إطلاق الرصاص ما دام هؤلاء المتخصّصون يبحثون عن جسد المفقود في المنطقة. 

لا حيلة لنا، أبلغت الإخوة بالقرار وعدت. كان مسؤول فريق البحث ضابط صف أربعينيًّا، سأل بلهجة الأمر: "هل هناك من يعرف مكان غرقه؟"

نعم، كنت هناك وسأرشدكم لمكانه. 

أخرجوا من الحافلة زورقًا مطاطيًّا صغيرًا، قاموا بنفخه، وارتدوا بدلات الغوص، ركبنا فيه معًا وانطلقنا. عندما اقتربنا من مكان غرقه، سألني الضابط عن مهدي الصياد: "من هذا الشاب؟ هل هو من عناصركم؟".
 
 
 
 
 
137

131

الراصد

 - كلا، لكنه يبحث عن الجسد. 


- لا يحق له ذلك، إنها منطقة عسكرية، لا يحق لأي كان أن يجول فيها كالبقرة، هيْ، يا ابن.. ماذا تفعل هنا؟ اذهب قبل أن أصل إليك....

- يا حضرة الضابط، لكني أنا الذي طلبت منه المجيء للبحث عنه، فلماذا شتمته؟ 

- لا يحق له ذلك، لا يحق لأحد أن يأتي إلى هنا ليبحث، وهل نحن أموات؟ إنه عمل تخصّصي، وليس لأي كان القيام به. 

سارع الصياد مهدي بزورقه وابتعد عن المكان، وأكمل الفريق سيره بحثًا عن مكان غرق الراصد. ولما بدا أنّنا سنتجاوزه قلت لهم: "إني أؤكد أننا غرقنا هنا". لكن الضابط لم يأخذ بكلامي، بل حرّك شاربيه وقال: 
- من أين تأكّدت في أي مكان من النهر حصل ذلك يا رجل؟ 

- إني على يقين من ذلك. وما عليك إلا أن تجرب أيها الضابط، لعلّي محق. 

جاءوا بقطعة من الإسمنت، وربطوا بها حبلًا، وغاص أحد الغواصين في الماء، بعد أن ربطوا الحبل به، كان يبحث في دائرة شعاعها متر حول قطعة الإسمنت ثم خرج، وزاد من طول الحبل إلى مترين وغاص، وهكذا كانوا كل مرة يزيدون المسافة، ويوسّعون دائرة البحث. ويغيّرون مكان قطعة الإسمنت أحيانًا. بدا لي أسلوبًا جيّدًا، وقد نقلت رأيي للضابط.

عندما خرج الغواص من الماء أول مرة أخرج معه بندقية، فقلت للضابط: "هل رأيت؟ لقد أرشدتكم إلى المكان الصحيح!". 

وغاص ثانيةً وثالثةً إلى أن سمعنا مهدي الصياد ينادي: "تعالوا...
 
 
 
 
 
138

132

الراصد

 تعالوا.. إنّ الجسد هنا". 


أخرج الغواص قطعتي سلاح أخريين، وآلة السحب، لكننا لم نسمح هذه المرة بحملها في الزورق. 

قال الضابط: "يجب أن ندوّن التقرير ونذكرها فيه". 

يا أخي ينبغي أن تبقوا أحياءً لتدوّنوا التقرير، فمصيبتنا كلّها كانت بسبب هذه الآلية. 

وضعنا الأسلحة وأدوات الغطس في الزورق، وتوجهنا نحو مهدي، وبدل أن يشكره الضابط شتمه بعدة شتائم: "لم لا تفهم أنت؟ ألم أقل لك ابتعد من هنا!". 

سحبوا الجسد منه، ونظر إليّ مهدي نظرة عتبٍ ولوم، وأسرع بزورقه نحو قريته، وكأنّه أراد بنظرته تلك أن يقول لي لقد نلت كل هذه الشتائم بسببك، ومن أجلك. 

كنا خمسة، الضابط وغواصين، وجثة الراصد وأنا. وعند الشاطئ، كان ينتظرنا ثلاثة عناصر، استلموا الجثة، نزعوا ملابسه، وفتشوا جيوبه، حيث عثروا على عدة أوراق في جيب قميصه. 

طلبت منهم أن يسلّموني الأوراق لعلّ فيها إحداثيات. لكن الحبر كان قد لطّخ الأوراق ولم يعد مقروءًا، باستثناء ورقة فيها بيان لمقاتلي (فدايي خلق أكثريت)1، كانت كلماته لا تزال مقروءة. عندها علمت أن الحارس كان من الشيوعيين المخدوعين. 

دسست الأوراق المبلّلة في جيب قميصي، وقلت لعناصر الجيش الثلاثة: "لقد لمستم الميت، ما دمتم في النهر، اغتسلوا غسل مسّ الميت".
 
 

1- حركة مناضلي الشعب. 
 
 
 
 
 
139

133

الراصد

 - وما هو غسل مسّ الميت هذا يا عزيزي؟ 


كان الضابط يسأل بإبهام وتلميح. فوضّحت له أنّ من مسّ جسد الميّت يجب عليه أن يغتسل. 

- وكيف هو هذا الغسل؟

- إنه مثل غسل الجنابة.

- كنا بسؤال فأصبحنا بسؤالين، يبدو أنك تسخر بنا، فما هو غسل الجنابة هذا؟ 

- ماذا؟ أولست متزوجًا يا حضرة الضابط؟ 

- متزوج ولديّ ثلاثة أبناء، وما علاقة هذا بذاك؟ 

- هل تقصد أنك لا تعرف غسل الجنابة؟

- لا والله، والآن ماذا علينا أن نفعل؟ 

أحببت أن أركب السيارة، وأنطلق إلى الأهواز لأعثر على العميد فلاحي وأقول له: تفضل هؤلاء هم المختصّون الذين تحدثت عنهم1.
 

1- كانت لا تزال توجد في زوايا وتشكيلات الجيش الايراني في السنوات الأولى لانتصار الثورة مظاهر البعد عن التدين والالتزام، خاصة أن الجيش هو نفسه الذي ورثته الجمهورية والنظام الاسلامي من عهد الشاه البائد وعملت على اصلاحه وتنقيته...
 
 
 
 
140

134

فدائيون مخمليّون

 فدائيون مخمليّون


ذات صباح، كنت أتناول طعام الفطور في المقر، جاء أحد الإخوة لاهثًا وقال: "يا أخ أسدي، يا أخ أسدي، أتى سبعة أشخاص إلى بستان النخيل، معهم امرأة، لم يفصحوا عن هويتهم، ولم أعرف من هم". 

لم أكمل فطوري، توجّهت إلى بستان النخيل. فوجدت رقيبًا ومعه خمسة شبان بملابس مدنية، وامرأة عشرينية ترتدي حجابًا تقليديًّا، رداءً وسروالًا وغطاء رأس رمادي اللون، وتحمل بيديها الاثنتين بندقية كلاشنكوف.

سألتهم:" من هو مسؤولكم؟".

تقدم الرقيب، ورفع قبعته، ونفخ صدره سائلًا: "ومن حضرتك؟".

- أنا أسدي مسؤول المحور.

- لماذا العجلة، لمَ لم تبق حتى الظهر لتأتي!

- وماذا حصل يا أخي؟!

- ماذا تريد أن يحصل، إننا منذ ساعة هنا، لا ندري من المسؤول.

- كان عليكم أن تأتوا إلى المقر لأخبركم. لم تقل لي من أنتم؟

- لا داعي لذلك.

- عجبًا! دخلتم إلى منطقتنا، فعليكم أن تقولوا لي من أين أتيتم، وماذا تريدون؟

- أتينا لتنفيذ عملية خاصة؟
 
 
 
 
 
 
141

135

فدائيون مخمليّون

 - حسنًا من قبل مَن؟ هل لديكم رسالة أو أمر مهمة؟


- إننا من جماعة الدكتور شمران، لا شأن لنا بأحد، ننفذ العملية ونعود.

لم تكن أشكالهم تشبه العاملين مع الدكتور شمران، وكان سلوكهم ينمّ عن أنّهم يستغلّون اسم ذلك الرجل العظيم، وليسوا من قواته.

لكني قلت: "قل ذلك من البداية أيها الرقيب، فلدينا هنا ألغام، وأي خطوة غير مدروسة سوف يقع لكم مكروه لا سمح الله".

- لغم؟ أين هو اللغم؟ أرني إياه.

- بداية عليكم أن تخبروني ما هو شغلكم، لا يمكنني أن أكشف أماكن الألغام لأي كان.

- لماذا تسأل كثيرًا، قلت أتينا لتنفيذ عملية خاصة، قل لنا أين هي قوات العدو. 

- لقد وضع العدو رشاشًا ثقيلًا عند منبع الماء في قرية الشمّرية، وكل من يقترب يطلقون عليه زخات رصاص. نحن لا نجرؤ على الذهاب إلى هناك، ونكتفي بمراقبتهم من داخل بستان النخيل ومن خلف الأشجار.

- حسنًا، من الواضح أنكم عاجزون عن الذهاب إلى هناك، دلنا على المكان، ولا شأن لك بما قد يحصل.

عندما أرشدتهم إلى المكان، طلبوا مني إرسال دليل ليرشدهم. طلبت من الأخ جمشيدي أن يرافقهم بحذر، ويدلّهم على مكان وجود العدو. وعندما همّوا بالذهاب قلت للرقيب: "الزموا الحذر، فبمجرد أن تخرجوا من بين الأشجار سيطلقون عليكم النار".

استدار نحوي، ونظر إليّ نظرة استخفاف وقال: "عجبًا، لا داعي للقلق علينا، اهتمّ بشؤونك".
 
 
 
 
142

136

فدائيون مخمليّون

 فقلت في نفسي: "أنا قد قلت لكم". وذهبت إلى المقر.


قبل حلول الظهر بساعة عاد الأخ جمشيدي وهو يتصبب عرقًا ويلهث.

سألته: "ماذا جرى؟". 

لقد هلكوا. أرشدتهم إلى المكان، وما إن خرجوا من بين الأشجار حتى أطلقوا عليهم سيلًا من رصاص الرشاش الثقيل، فتراجعوا جميعًا إلى الخلف، وأصيب الرقيب برصاصة، فحملته ونقلته إلى جانب الطريق، وأتيت لأخبرك.

أخذت معي طبيب المقر الدكتور خواجه، وتوجهنا إلى الطريق، كان الرقيب مصابًا برصاصة في رجله، والدم ينزف منها، وهو يصرخ.

- لقد حذرتك يا رقيب.

- اذهب أنت بتبريرك هذا وسخريتك.

- لقد نبّهتكم، لكنك مغرور إلى درجة أنك قلت لي: إنّه لا داعي للقلق علينا.

قام الدكتور خواجه باستخراج الرصاصة من رجله على الطريق، وضمّد الجرح، ووصل باقي أعضاء المجموعة الواحد تلو الآخر، لا أدري أين تدربوا، وقد نزعوا قمصانهم وربطوها على خصورهم، لعلّهم كانوا متأثرين بأفلام رعاة البقر لأنهم كانوا يقلّدونهم. لم يعجبني سلوكهم وتصرفاتهم، خاصة إحضار تلك المرأة معهم.

طلبت من الأخ جمشيدي أن يذهب ليأتي بسيارتهم التي خلّفوها في بستان النخيل. وعلى الرغم من ذلك، استمرّوا في انتقادنا، حتى إنّهم لم يقوموا بتوديعنا، ولم يشكرونا، وساروا بسيارتهم نحو الأهواز كأنّما نحن من أطلق النار عليهم.
 
 
 
 
 
143

137

العرس الأسود

 العرس الأسود


بعد شهرين من خدمتي المتواصلة في فارسيات، ذهبت في إجازة لزيارة الأهل. السيد عبد الرسول كان لا يزال قائد قوات الحرس في نور آباد، زرته للاطلاع منه على وضع المدينة وقوات الحرس، فاجتمع الإخوة حولي وقالوا: "خذنا معك إلى الجبهة، فالسيد الموسوي لا يدعنا نذهب، ويردّد دومًا أنّه يعاني من نقص في العديد هنا".

كان بينهم شاب يدعى "الحسيني"، أشدّهم إصرارًا على التطوع، قلت له: "حسنًا سآخذك معي". أراد أن يطلب من السيد الموسوي رسالة، قلت له: "أنا سأطلبها منه".

كان مستعجلًا وهو يسأل: "متى سنذهب إذًا؟". 

- غدًا سأتوجه إلى الحرس في شيراز وبعد غدٍ نغادر. 

في اليوم نفسه، تحدثت مع السيد الموسوي، فأصدر له أمر مهمة لثلاثة أشهر، وسلّمني إياه. عندها قلت للشاب الحسيني: "جهّز نفسك للذهاب إلى الجبهة بعد غد".

في اليوم التالي ذهبت إلى شيراز، وتوجهت إلى مكتب قيادة الحرس في المحافظة. وكنت قد أعددت نسخة ثانية عن كل التقارير التي رفعتها إلى حسن باقري، لأسلم النسخة الثانية إلى قائد حرس المحافظة. كانت بحدود الأربعين صفحة، لففتها كالأنبوب وربطتها
 
 
 
 
 
144

138

العرس الأسود

 وقدمتها. ووضحت له شفهيًا أين ينشط شباب المحافظة في الجبهة، وأين تقدمنا، وكم شهيد ارتقى منا، وغير ذلك.


أخذ التقارير وشكرني. عدت إلى نور آباد، وفي اليوم التالي ليلًا انطلقت برفقة الأخ الحسيني وثلاثة آخرين في إجازاتهم مثلي، توجهنا نحو الأهواز، ووصلنا في صباح اليوم التالي إلى الغولف، لنسلّم للشؤون في القيادة أوراق إجازاتنا ورسالة التعريف بالحسيني.

عاد الأخ الحسيني من دائرة شؤون الأفراد وقال: "لقد طلبوا منّي البقاء لمدة ثلاثة أشهر".

- حسنًا، لعل الحكمة أن تبقى ثلاثة أشهر.

- لكني لا أستطيع البقاء لثلاثة أشهر.

- حسنًا ابق شهرين؟

- كلا، لا أستطيع البقاء لشهرين أيضًا.

- كم يمكنك البقاء؟ بل أساسًا كم تريد أن تبقى؟

- لا أستطيع البقاء لأكثر من أسبوع.

- أيها المؤمن، إذًا لماذا أتيت؟ أتيت لترى ما الأمر، أم لتتسلّى وتعود؟ اذهب الآن إلى شؤون الأفراد، وانظر هل سيوافقون.

لم يوافقوا في شؤون الأفراد على طلبه، وقالوا له: "إننا لا نسلّم السلاح والذخيرة وغير ذلك إلّا لمن يريد البقاء على الأقل مدة شهرين فأكثر".

قال: "حسنًا أعطني أمر المهمة لأعود. لأني وعدت ابنة الناس أن نتزوج بعد أسبوعين، لذلك لا يمكنني البقاء".

صرخ الأخ نصيب الله لشكري: "هل تسخر من نفسك أم تسخر
 
 
 
 
 
 
145

139

العرس الأسود

 منّا؟ ألم تكن تعلم أن عليك الزواج، فلماذا أتيت إلى الجبهة؟".


أشرت له ليتراجع. تناول نصيب الله قدح ماء وشرب، ثم قال له بصوت هادئ: "هل تعلم ماذا؟ سأعطيك أمر مهمة لشهرين، وسيمنحك الحاج أسدي بعد أسبوع إجازة، اذهب وتزوّج، ما يدريك لعل الحرب تتوقف غدًا ليلًا".

رفض الحسيني كل الاقتراحات، وأخذ أمر المهمة ووضعه في جيب قميصه وأغلق الجاكيت عليه، وودعنا وذهب. عندما سار نحو السيارة ليركب، تبعته لعلّي أقنعه لكنّه ركب السيارة وذهب، إلا أنّ أمر المهمة لم يبقَ في جيبه، بل سقط من الجاكيت على طرف الطريق. أسفت لذلك، وتناولت أمر المهمة، وما زلت أحتفظ به بين أوراق أرشيفي.

بعد أيام، علمت أنه ركب سيارة من الأهواز إلى كتشساران، وذهب إلى بيت عمه، ومن هناك غادر مع عمّه بسيارة أجرة إلى نور آباد، ليقوم بإعداد ترتيبات الزواج. لكنهم قبل أن يصلوا إلى نور آباد، وصلوا عند الغروب إلى جسر يسمّى (فهليان) يمرّ فوق النهر، حيث اجتاحت شاحنة سيارة الأجرة، فقُتل الحسيني وعمه والسائق.

تضاعف أسفي وانزعاجي بسماع الخبر، كيف فعل ذلك، وقلت لنصيب الله: "لقد انتهى عمره في تلك الليلة، لو بقي هنا وذهب إلى فارسيات، لعله كان استشهد عند شاطئ نهر كارون، بدل أن يقتل على جسر نهر فهليان".

وعندما أخذت إجازة ثانية، قصدت المقبرة وزرته وقرأت له الفاتحة، وتوجّهت لتسليم النسخة الثانية من التقارير إلى مكتب قيادة حرس فارس. وقبل أن أسلّمه التقارير الجديدة، فتح الجارور، فرأيت ربطة التقارير السابقة ما زالت كما هي، كأنها لم تفتح. قلت في
 
 
 
 
 
146

140

العرس الأسود

 نفسي: "لقد حملت التقارير هذه من الأهواز إلى هنا ليقرأها ويقدم لي ملاحظاته، لكنه لم يرها حتى الآن؟". عندئذٍ، أخفيت التقارير الجديدة في سترتي، وخرجت من الغرفة، ولم أقدم له بعد ذلك أي تقرير. بينما اختار هو أن يكمل دراسته ويتوجه إلى مسار آخر، مسارٍ لا يلتقي مع الجبهة ولا يمرّ قربها مطلقًا، وطوال ثماني سنوات من الحرب المفروضة لم أره يزور محاور القتال أبدًا.

 

 

 

147


141

إيزد داريوش كبير

 إيزد داريوش كبير


من ذكريات بداية انتصار الثورة الإسلامية، ذكرت أن أهالي "نور آباد" كانوا بالغي الهمّة للمساعدة في حفظ الأمن داخل المدينة، ما دَفَعَنا إلى الاهتمام بالإدارة أكثر من استقطاب المتطوعين، وكان التحرك هذا سمة الجميع كبارًا وصغارًا، فمثلًا (داريوش ايزدي) الذي لم يبلغ الرابعة عشرة من عمره، لكنه كان نشطًا، إلى درجة لم نتمكن من رفض انتسابه إلى قوات الحرس بعد إصراره الشديد. كان يعود من المدرسة ويستمر في المساعدة بالنشاط معنا حتى الليل، وعلى الرغم من ذلك، كنا نرسله إلى بيته بالقوة. كان يتابع مع الإخوة ويقوم بأي عمل يُطلب منه، بدءًا بالنظافة وجلي الأواني وترتيب الغرف من دون أن يترفع عن أي عمل.

أذكر أنّنا كنّا قد جمعنا بعض الأدوات كوسائل للتدرب على الرماية، فطلب منه الإخوة أن يرتب الغرف حتى نعود. وافق ووقف جانبًا. وضعنا الأغراض داخل السيارة، وأردنا أن ننطلق، اقترب مني قائلًا: "ألا يمكنني الذهاب معكم أيضًا؟". 

نظرت إلى عينيه، كانتا مغرورقتين بالدموع، فقلت له: "حسنًا اقفز إلى خلف السيارة". كاد يطير فرحًا.

وعندما وصلنا إلى ساحة الرماية، قام بإفراغ الأغراض بسرعة،
 
 
 
 
 
148

142

إيزد داريوش كبير

 ثم وقف بعيدًا ليشاهد الرماية، وكلّما أطلقت رصاصة، كان يقفز في الهواء وينادي: "الله أكبر". الأمر الذي بثّ الحماسة لدى الإخوة، وكأنّ المئات من المشجّعين كانوا حولنا.


قبل العودة، وفي اللحظات الأخيرة، نظر إليّ نظرة ذات مغزى. فمددت البندقية نحوه وقلت له: "هل تريد أن تجرّب الرماية يا داريوش؟". ابتسم وبدا كأنّي أعطيته الدنيا بما فيها. أخذ البندقية من يدي وأطلق منها ثلاث رصاصات كانت متبقّية في المخزن.

منذ ذلك اليوم، التزم بالحراسة في قوات الحرس حتى بدأ العدوان، قام بذلك من دون أي مقابل وأي أجر. وكان يكرّر جملة لطيفة عند عرض المال والأجر عليه، كان يقول: "إنّ إيزد داريوش كبير".

بعد مضي شهرين على بداية الحرب، أصبح عمر داريوش خمسة عشر عامًا، خلال إجازتي التي تحدثت عنها ولقائي بالإخوة في قوات الحرس بنور آباد، طلب مني داريوش أن أصحبه 
معي إلى الجبهة.

في البداية لم أقبل، لكن إصراره من ناحية وإحضاره موافقة خطية من أبيه، من ناحية أخرى، لم يتركا لي الخيار، فأخذته معي إلى فارسيات، وبسرعة انتشر الحديث عن غضاضته وسرعته. كانوا يقولون لي: "أين كان هذا الشاب؟ لماذا لم تأتِ به من قبل؟".

كان يرتّب كل شيء، ويحضر في كل مكان، وإذا غاب اشتاق له الجميع. لكن بعد شهر واحد، أبعدته الشهادة عنا، فانهمرت لفقده دموع الجميع، وبقي ذكره على الألسنة لمدة، وأضحت أعماله مثلًا يضربه الجميع، وكل من أتى بعده وادّعى الذكاء والاجتهاد في العمل، كانوا يجيبونه: "محال أن يكون هناك مثل داريوش".

وصلت سيارة إسعاف للجيش إلى المحور ولم تكن مموّهة، فخشينا
 
 
 
 
 
149

143

إيزد داريوش كبير

 أن يكشفها العدو. ركنها السائق إلى جانب شجرة النخيل وذهب، فبادر داريوش لإنقاذ الوضع، وحمل معه وعاءً كان قد أعدّ فيه طينًا، وأسرع نحو السيارة وبدأ يطلي جوانبها بالطين، وأنا أراقبه عن بُعد، ثم انتقل إلى السطح وشرع بطليه، حينئذٍ، سقطت قذيفة مدفع على بُعد مئة متر من السيارة، وهي مسافة آمنة لسقوط القذيفة، ما جعل الكلّ يتوقع سلامته، لأنه يصعب أن تصل الشظايا إلى السيارة، وعندما سقط داريوش عن سطح السيارة، ظننا أنه خاف وقفز عنها، فتوجه الأخ "علي تهمتن" سريعًا نحوه، وتبعناه، نادى علي بصوت متهدّج من حيث وصل: "يا أخ أسدي تعال، لقد استشهد، لقد استشهد والله".


لم أصدق أنّ هذا حصل، وعندما وصلت إليه لم أر أي أثر للشظايا في بدنه، لكن شكله كان يوحي بأنه نائم منذ سنوات، دققتُ في أنحاء جسده فلم أعثر على أثر لشظية. لكنّ أحد الإخوة من "نور آباد" من أقارب داريوش، أخذ يحدّق في رأس داريوش ووجهه ويصرخ: "ساعد الله أخته!".

- ساعد الله أمه، فلماذا أخته!

- لو كنت تعرف هذا الأخ وأخته لما قلت ذلك.

أرسلت علي تهمتن مع جنازة داريوش إلى نور آباد. وعندما عاد قال: "كانت هناك شظية بمقدار الإبرة اخترقت رأسه قرب أذنه واستقرت في دماغه". 

ولقد كان الأخ محقًا، فبعد أقل من شهر، وصل إلينا خبر وفاة أخته.
 
 
 
 
 
150

144

ضيافة السمك

 ضيافة السمك


منذ بداية الحرب، كان الناس حاضرين في جبهات القتال، كلّ من كان يستطيع الحضور حضر، ومن تعذّر عليه الحضور بشخصه، لأيّ سبب كان، قدّم الدعم المالي. لن أنسى أبدًا سائق شاحنة النيسان الصغيرة الذي جاءنا إلى الغولف أواخر شهر آذار من العام 1982م حاملًا بسيارته طنّين من الأسماك من مدينة غناوة الساحلية في الجنوب.

حينها أخبرته أنّنا لا نملك هنا وسائل وتجهيزات لحفظ هذه الكمية من الأسماك وطهيها، وقلت له: "عليك تسليمها إلى جامعة جندي شابور، فهناك المطبخ المركزي، يمكنهم استلامها".
 
أعطيته العنوان الدقيق، وذهب.

بعد ساعة رأيته ثانية في باحة الغولف، فسألته: "هل سلّمتها لهم؟".

- نعم، لكن بعد عناء، لذا أتيت إليك لأشكو لك.

- ماذا هناك؟

- إنّ أفضل طعام عند أهالي ساحل الخليج الفارسي وأغلاه ثمنًا هو السمك.. لعدّة أسابيع كان الصيد من البحر شحيحًا. بالأمس اقترب زورق صيد من الشاطئ حاملًا معه طنّين من الأسماك كان قد اصطادها. اجتمع عدد كبير من الناس حول الزورق، لكن صاحب
 
 
 
 
151

145

ضيافة السمك

 الزورق كان واقفًا يفكّر في أنّ الناس سيختلفون على السمك، سألوه: "لماذا لا تترجل وتنزل الأسماك؟ ألا تريد بيعها؟". لكنّه نادى بصوت جهور: "أيها السادة، ليس هذا السمك للبيع، أريد إرساله إلى الجبهة". وبرغم قلّة السمك لفترة، إلا أنّ أحدًا من الناس لم يعترض، بل قال الجميع: " جزاك الله خيرًا". ثم ابتعدوا عن الشاطئ.


أكمل السائق حديثه: "نقلنا الأسماك إلى معمل الثلج، أحضرنا عدة قوالب وضعناها على الأسماك، وأتيت بها إلى هنا".

- قمت بعمل جيد، فلماذا أنت منزعج؟

- لم يستلموا السمك في مطبخ الجامعة بسهولة، أحدهم احتجّ بأنّ الجو حار، وآخر اعترض قائلًا إنّ السمك سيتلف هنا. بقيت أرجوهم نصف ساعة حتى سمحوا لي بإفراغ الحمولة.

كان منزعجًا كيف يقدّم الرجل أمواله إليهم، ويرجوهم لأخذها. لذلك طيّبت خاطره قائلًا: "لا بأس، لا تغتم، إنّ العمل في سبيل الله فيه مصاعب أيضًا".

عندما توجه السائق ليركب سيارته، انتابني شعورٌ مريب من حركاته وهيئته، فهو لم يكن يشبه سائق شاحنة، وأحسست أنّه صاحب الزورق، وأحب أن يقدم السمك بنفسه.

ذكّرني الحديث عن السمك باليوم الذي زارنا فيه الحاج داوود كريمي في فارسيات، حيث ركبنا الزورق وأخذت أشرح له: "هنا غرق راصد المروحية الضابط المكلف الأصفهاني، ومن هنا نتوجه إلى الجانب الآخر من النهر و..".

وعند عودتنا إلى فارسيات، سقطت قذيفة مدفع عراقية على مسافة ثمانين مترًا أمامنا في النهر، وارتفعت نافورة مياه بما يزيد عن
 
 
 
 
152

146

ضيافة السمك

 العشرين مترًا. أدّت شدّة الانفجار داخل الماء إلى شلل السمك وموته. وعندما اقتربنا من نقطة سقوط القذيفة، لاحظت وجود سمكة كبيرة بطول نصف متر قد طافت على سطح الماء، كانت لا تزال تتنفّس بصعوبة. سألت الحاج داوود: "هل تسمح لي بأخذها؟".


ضحك قائلًا: "في خضم الخطر والنار، تحمّست لصيد السمك؟!".

- يا حاج لعلّ الله قسمها لنا. ومددت كلتا يديّ وحملتها ورميتها داخل الزورق، فتقلّبت عدة مرات حتى لفظت أنفاسها.

في المقر، سألني "خدا داد تهمتن": "كيف سنأكلها؟ وليس عندنا مقلاة لقليها، ولا أسياخ لشيّها".

- قم بإفراغ أحشائها، ولتّها بالملح، ودع الباقي عليّ، فلدينا ضيف. 

بعد خمس دقائق، كانت السمكة نظيفة مملّحة وجاهزة للشوي. تناولت بضع صفحات من الجرائد ولففتها بها، ورميتها داخل تنور خبز كانت العشائر في القرية تستخدمه. 

قال بعض الإخوة: "ستحترق السمكة وتتحوّل إلى فحم".

- دعوني أقوم بعملي، الأمر يستحق التجربة.

كانت نار التنور مستعرة، ولم يكن بإمكاني ترك السمكة لفترة طويلة. بعد أربع دقائق، تناولت رفش بناء وأخرجتها. وجدت الجرائد قد احترقت والتصقت بجلد السمكة، فأخذت سكينًا وقطعت السمكة إلى عدة قطع.

كان الحاج داوود أوّل من أثنى على الطعم. ظننت أنه يراعي أدب الضيافة، ويريد أن يخفّف عنّي عناء تحضيرها، لكن شاركه في الطعام أكثر من عشرين شخصًا، وأجمعوا على أنّهم لم يتذوّقوا سمكًا بهذا المذاق اللذيذ حتى الآن، إلى درجة تدفع الإنسان ليأكل أصابعه معها.
 
 
 
 
 
153

147

ضيافة السمك

 ما يزال طعم تلك السمكة على لساني، ربما لأنّ أجسامنا كانت بحاجة إلى تناول السمك. أو لأنّها كانت من أسماك النهر، أو لعلّ اجتماعنا معًا زاد في لذتها. على أي حال، مهما كان السبب، فإن الحاج داوود بعد الانتهاء من الطعام قال بجد: "علينا أن نشكر العراقيين على اصطيادها، والأخ أسدي على شيّها، وأنفسنا على تناولها!".


لكن في اليوم التالي مباشرة حصل ما عكّر صفو ذلك اليوم، فعند ضفّة النهر أصابتني شظية في يدي، كانت من النوع الذي يخترق الجسد حتى العظم، أحسست بالعطش الشديد، لدرجة أنّني لو أستطيع أن أبتلع ماء النهر كله ما تأخرت. ضغطت بيدي الأخرى على الجرح، وأسرعتُ نحو مرأب الآليّات في المقر، لينقلوني إلى المستوصف. لكني لاحظت هناك وعاءً أحمر، وقربه كوب بلاستيكي أصفر، أظنّ أنّ هذين اللونين قد تفاعلا مع عطشي، ومن دون أي تفكير ملأت الكوب من السائل في الوعاء، ولشدّة عطشي أهملت مستحبّات الشرب التي ألتزم بها دائمًا، حيث كنت ألفظ البسملة، وأشرب الكوب على ثلاث دفعات وأتوجّه مسلّمًا على الإمام الحسين بعد كل جرعة، لكنّي ابتلعت السائل بنهم شديد دفعة واحدة، وما إن جرى السائل في بلعومي حتى اشتعلت من رأسي حتى قدمي، لقد تناولتُ ماء الأسيد الذي يُستخدم في بطارية السيارة!

أسرعت نحو النهر، ونهلتُ من الماء ما استطعت لأخفّف من حدّة الأسيد. لاحظ الإخوة في المرأب الأمر، فأحضروا سيارة الإسعاف مباشرة ونقلوني إلى أحد المستشفيات في الأهواز.

هناك أخرجوا الشظية من يدي، لكن المشكلة أصبحت مشكلتين اثنتين. حضر أحد الإخوة من أهالي الأهواز لزيارتي، وأخبرني أنّه يعرف دكتورة تعمل في المستشفى وقال: "إن شئت أوصيتها بك".
 
 
 
 
 
154

148

ضيافة السمك

 فأخبرته بقصة ماء الأسيد وقلت له: "أرجو أن يقدموا لي طعامًا لا يؤذي معدتي".


في اليوم التالي جاءت الدكتورة صادقي التي يعرفها صديقنا الأهوازي وقامت بمعاينتي، سألتني عن يدي، فأجبتها: "الحمد لله، لقد ضمدوا الجرح، والآن حالتها جيدة، لَيتهم ينزعون المصل لأذهب".

- حاليًا لن يفعلوا ذلك، يجب أن تبقى هنا عدة أيام لنتأكد من عدم وجود التهاب.

في الليل كنت أتوقع أن أتناول طعامًا خفيفًا وقليلًا، لكنهم أحضروا لكل مريض طبق حساء واحدًا، ولي أنا طبقين، ولما سألت العامل عن السبب، قال إنّ الدكتورة صادقي هي التي طلبت ذلك. 

مضت ثلاثة أيام حتى نزعوا المصل من يدي وعدت إلى الغولف. وكانت معدتي في أسوأ حال بسبب توصية الدكتورة، حيث كانت وجباتي مضاعفة!
 
 
 
 
 
 
155

149

المشاريع الفاشلة

 المشاريع الفاشلة


إني أخالف أولئك الذين يصرّون على الحديث عن نجاحات الحرب وانتصاراتها فقط، فثورة شعبية انتصرت، وقبل أن تثبّت أركانها فُرضت عليها حرب، وهبّ الناس بشوق للدفاع عن الثورة الإسلامية والوطن. لذلك من الطبيعي أن تكون هناك تجارب وأخطاء في البداية إلى أن يكتسب المقاتلون خبرة. كما إن عدم الحديث عن نقاط الضعف والهزائم يسلب نقاط القوة والنجاح والانتصار معناها وقيمتها.

كانت إحدى تلك التجارب والأخطاء في بداية الحرب هي مشاريع المياه. فبعد عدة أشهر من بدء الحرب المفروضة ذهبنا إلى الغولف لحضور اجتماع مهم.

الأخ علي شمخاني كان حينها قائد قوات حرس خوزستان، أخذ يتحدث بحماسة عن قرب فتح نوافذ السد، ما سيتسبّب بغرق الكثير من بساتين النخيل، وستجرف المياه المضخات المنتشرة عند حافة النهر، وأكد على ضرورة عدم اطّلاع الآخرين على هذا المشروع، حتى تفتح نوافذ السد. وقال بلهجته الجنوبية: "لا ندري ماذا عليكم أن تفعلوا لئلا تتفاجأوا بذلك".

عدت إلى فارسيات سريعًا لأخطّط لمواجهة فيضان المياه، ما إن وصلت إلى المقر حتى بادرني "برويز صفري" من أهالي طهران: "يا
 
 
 
 
156

150

المشاريع الفاشلة

 حاج ماذا لديك عن الماء؟".

- الماء؟ وأي ماء؟

- ماء السد الذي سيفيض علينا.

- من قال ذلك؟ وأي سد؟

- ما هذا؟ سمعت ذلك من مهدي صياد السمك، لكن الجميع يعلمون ذلك.

من عيوب الحرب الشعبية أن الأخبار تنتشر بين أفراد القوات قبل أن تصل إلى غرف القيادة.

على أي حال، توجهت إلى مكتبي، وفتحت خريطة المنطقة لأعثر على قرية يمكننا الوصول إليها، ويكون ارتفاعها عن مستوى سطح البحر أكثر من غيرها، بعد التدقيق في الخريطة عثرت على المطلوب، إنها قرية شهمان التي ترتفع (14) مترًا عن سطح البحر.

قمنا بنقل أغراضنا وتجهيزاتنا إلى هناك مؤقتًا. ربطنا الزوارق بحبال طولها عشرون مترًا، وعلّقناها بأعلى نقطة من أشجار النخيل، فإذا ارتفع مستوى الماء تثبت في مكانها ولا تغرق، ونستطيع العثور عليها بسحب الحبال.

مرت عدة أيام ولم يحصل شيء للمياه، وبعد أسبوع ارتفع مستوى مياه نهر كارون عدة أمتار. ذهبت إلى الغولف لأسأل ماذا حصل بمشروع المياه.

قالوا إنّ حساباتنا كانت تشير إلى احتمال أن يتضاعف مياه نهر كارون عدة أضعاف، فإذا فتحنا نوافد السد، سيغطي الماء كل مكان، لكن ما حدث أنّ مجرى النهر استوعب جزءًا من المياه، وأفرغ الماء الزائد في البحر، ولم يكن للمشروع أيّ تأثير يذكر.
 
 
 
 
 
 
157

151

المشاريع الفاشلة

 بعد فشل هذا المشروع، جرى تنفيذ مشروعين آخرين خلال الأسابيع اللاحقة، المشروع الأول إغلاق مجرى النهر من خلال وضع حاويات سعتها (12) مترًا مليئة بالأحجار والصخور.

 
وقد قامت الرافعات بوضع الحاويات الكبيرة وسط النهر، وملأت الجرافات تلك الحاويات بالتراب والأحجار، لكن عندما وضعوا الحاوية الثانية، الماء جرفهما معًا.

المشروع الثاني هو ضخ مياه نهر كارون إلى الناحية الثانية من النهر باتجاه القوات المعتدية، وعندما يفيض الماء على تلك القوات ويُغرقها، نقوم بمهاجمتها ونلحق بها الخسائر. 

استنفرت قواتنا للتحرك نحو قوات العدو بمجرد جريان الماء نحوهم. لكن عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، رأيت الشباب يتجهون نحو المقر، سراويلهم مبللة بالماء والطين، وقد وضعوا أسلحتهم وأدواتهم على أكتافهم، تبيّن أن الماء بدل أن يتّجه نحو القوات المعادية، جرى نحو متاريس الشباب ما أجبرهم على العودة.

شكّلت هذه المشاريع الفاشلة موضوعًا للتعليق والمزاح والفكاهة بين الشباب، وأطلق عليها اسم المشاريع المائية. لكنّها كانت مقدمة لتنفيذ عمليات برمائية خلال السنوات التالية للحرب ممّا أدهش العالم.
 
 
 
 
158

152

واحد مقابل واحد، تعادلنا

 واحد مقابل واحد، تعادلنا


دسّ قطعة خبز في اللبنة والتقمها، فانفرجت أساريره.

- بارك الله أهل شيراز، ذوقهم جيد، يا له من خبز طازج وسهل المضغ وطيب. 

أكمل مضغ اللقمة، وأخذ نفسًا عميقًا:
- إذا قلت لك إنّي لم أذق طوال عمري طعامًا كهذا، فهل ستهزأ بي؟

- العفو يا حضرة الضابط، هنيئًا مريئًا، إنّ هذا الخبز متيسّر، وكلّما اشتهيته أخبرني لأرسل الشباب لإحضاره لك.

قمت عدة مرات بإرسال صندوق من "الخبز البلوري" إلى الضابط بناءً لطلبه، وفي أحيان أخرى من دون طلب. وقد بدأت علاقتي في الواقع مع قائد فرقة (77) خراسان1 قبل عمليات ("ثامن الأئمة")، بهذا الخبز البلوري واللبنة. حيث كنا نستعد لفك الحصار عن مدينة عبادان، وكان إلى جانبنا لواء من الفرقة (77) خراسان في المحطة السابعة.

انتقلنا منذ ثلاثة أشهر من فارسيات إلى عبادان. بعد أن نجحنا أخيرًا في مشروع المياه في فارسيات، حيث قمنا بتنفيذ الخطة التي وضعها الإخوة من خوزستان، بتوجيه مياه نهر كارون نحو القوات العراقية لعلهم
 

1- التابعة للجيش. 
 
 
 
 
159

153

واحد مقابل واحد، تعادلنا

 يبتعدون عن المنطقة، لكن ذلك لم يبعدهم تمامًا، بل منعهم من التقدم أكثر، ولم يعد يصل أحدنا إلى الآخر عمليًا. لذلك باتت التحركات حولنا أكثر هدوءًا من ذي قبل، ولم يعد يتقدم نحونا أحد.


لكن هذا الهدوء أضجرنا ودفعنا إلى المغادرة. وقد ألحقنا القوات المتبقية بباقي المناطق، وتوجهت مع الإخوة الذين كانوا معي منذ البداية إلى الأهواز بحثًا عن الأخ "غلام علي رشيد"1. وطلبت منه أن يجد لنا حلًا لأن بقاءنا في فارسيات لم يعد مجديًا. وافقني الرأي مباشرة، ودوّن أمرَ مهمةٍ وضعهُ في مغلّف، وقال لي: توجهوا إلى عبادان سريعًا.

كان كلام رشيد هذا يؤكد الشائعات التي تقول إنّ العمليات القادمة ستكون في عبادان. لذلك لم نضيّع وقتًا، بل جمعنا الأسلحة والعتاد وباقي الحاجيات، وتحركنا من فارسيات بثلاث سيارات.

قيل لنا إنّ الإخوة في مؤسسة جهاد البناء قد شقّوا طريقًا جديدًا أطلقوا عليه اسم الشهيد شهشهاني. هذا الطريق يمتد إلى ما قبل عبادان بـ2 كلم، وهناك يتحول إلى نصف دائرة ليصل إلى قرب بهمن شير والمحطة السابعة.

فيما بعد، عُرف باسم طريق الوحدة، وبات مشهورًا لأنه الطريق البري الوحيد المؤدي إلى عبادان خلال الحصار. فقبل شقّ هذا الطريق، كان على من يريد الوصول إلى عبادان أن ينطلق بالزورق بحرًا من ماهشهر أو من بوشهر. كنّا نحن أول مجموعة تمرّ من هناك.
 

1- كان غلام علي رشيد حينها قائد عمليات الجنوب، ثم تصدى لعدة مسؤوليات أخرى في الحرب، بعد مرور ثلاثة عقود من معرفتي به ما زلت أفخر به كواحد من أفضل أصدقائي. كان له دور مهم في الحرب لا يخفى على أحد، حيث كان دومًا كأحد المخططين البارزين عسكريًا، وله تحليل دقيق حول مختلف المجالات العسكرية، استطاع أن يعدّ تلامذة كثرًا في هذا المجال. وقد تعلمت منه الكثير، واستفدت من وصاياه في المسؤوليات المختلفة.
 
 
 
160

154

واحد مقابل واحد، تعادلنا

 وصلنا إلى مدينة عبادان، قصدنا مباشرة المقر الرئيس في فندق عبادان الفخم، الذي لم يُبقِ منه القصف الجوي وقذائف الهاون والمدفعية أثناء الحرب أي أثر يدل على أنه كان فندقًا. 


كان السيد "بنادري" يتولى مهام الإدارة هنا، عندما قدمت له أمر المهمة الصادر عن السيد رشيد، أظهر احترامًا خاصًّا، واقترح عليّ القيام بجولة على مختلف الجبهات في عبادان، لأختار بنفسي المكان الذي أراه مناسبًا. قمت بذلك، لكنه فضّل -بعد أيام- أن نستقر في المحطة السابعة، بسبب توتّر وسوء تفاهم حصل بين الإخوة من شيراز وآخرين من أصفهان، وكان علينا تجنّب ذلك.

عندما اطّلعت على المشكلة، قدّرتُ أنّ الخلاف بين "مرتضى قرباني" والإخوة من شيراز أعمق من أن أصلح بينهما. فرأى الأخ "بنادري" أنّ الحل هو تعييني قائدًا، وتعيين مرتضى مسؤول العمليات. فتسلمت محور "المحطة السابعة"، واتخذنا من بيت "تمدن الكعبي" الذي كان نائبًا في المجلس خلال عهد الشاه، مركزًا للقيادة.

عملت على إنهاء الخلاف، لكنني لم أقو َعلى أبناء مدينتي، فاغتاظ أبناء شيراز وانتقلوا إلى مكان آخر، لكنّي كنت قد فعلت ما بوسعي. في الواقع، لقد سُررت بما حصل لأني لم أسمح باستحكام الخلاف بين الإخوة المرابطين في الخط الأمامي. كما تعرفت إلى شخص نافع لمهمتنا، لا يعرف الخوف وقلبه كقلب الأسد، هو مرتضى قرباني، كان من الإخوة الشجعان والجريئين، ولا يمكنك غضّ النظر عنه.

بعد فترة وجيزة، استقرّ قربنا قسم من الفرقة 77 خراسان، وأصبحنا أصدقاء، وكما يقول أهالي شيراز (انسجمنا) مع الضابط أمينيان، خاصة أنه أصبح من العشاق التوّاقين لخبز شيراز البلوري،
 
 
 
 
161

155

واحد مقابل واحد، تعادلنا

 وكان يزورنا في المحور لسبب أو من دون سبب، أو ليوصي بإرسال الخبز له.


قبل أيام من تنفيذ العمليات، قدم لنا الضابط أمينيان ضابطًا يُدعى "خوشبخت" أو لعل اسمه "خوشنام" ليقوم بدمج القوتين معًا. وكانت هذه المرة الأولى التي يُطلب منّا فيها دمج قوات الجيش والحرس معًا، ولم ندرِ ساعتئذٍ كيف نقوم بتوزيع القوات، هل نضع في كل متراس أفرادًا من القوتين، أم نضع كل مجموعتين أو كتيبتين معًا؟ جلّ ما أذكره أنّنا عقدنا اجتماعًا، لم يحقّق شيئًا. وطرح العقيد أمينيان أن نستشير القوات، أما أنا فقد اقترحت البتّ بالأمر فورًا.

لكننا عندما خرجنا من الاجتماع أدركت أن كلام العقيد صحيح، لأن قواتنا فهموا ما عليهم أن يصنعوا، حيث تعانق التعبوي والحرس والجندي بعضهم مع بعض، وانسجموا فيما بينهم، فأدركنا حينئذٍ معنى الدمج بشكل عملي. فعندما كنّا نعلن الوقوف استعدادًا، كان ابن الحرس يضع يده على كتف ابن الجيش، وكذلك يفعل ابن الجيش. التقيتُ العقيد بعد يومين، فأشار إلى صحة رأيه حول الدمج، وضحك قائلًا: "واحد لمصلحتي".

من الأعمال التي قمنا بها بشكل يومي وقبل أشهر من بدء العمليات وكانت لها نتائجها الإيجابية: حفر قناة مقابل الفياضية والمحطة السابعة باتجاه القوات العراقية.

كانت تلك القوات من الأسباب الأساسية لانتصارنا في هذه العمليات، حيث أمّنت لنا ظروفًا وعوامل ناجحة لمفاجأة العدو والاستتار عنه بالكامل، وقلّلت كثيرًا من خسائرنا. ففي ليلة تنفيذ العمليات، تمكّن الإخوة من التقدم إلى أقرب نقطة من العدو من دون أن يحدثوا أي ضجيج. بغض النظر عن معاناة حفر تلك القنوات، من تقديم شهداء،
 
 
 
 
162

156

واحد مقابل واحد، تعادلنا

 وحصول إصابات وعجز آخرين، وخسارة الأيدي والأرجل.


أحدهم كان من التعبئة من أهالي كازرون اسمه "نجف زاده" كان يبدي جدية كبيرة في الحفر، حتى أضحى في الأيام الأخيرة من عملية الحفر كالمشلول، لا يستطيع التحرك من مكانه، فيداه تورمتا وامتلأتا بالثآليل والجروح، لكنه لم يكن يتوقف عن العمل، كنّا نخجل عند رؤيته. وكان هناك الكثيرون من أمثاله، الذين يمسكون المعاول والرفوش رغم تشقق أيديهم وتوغّل الآلام في مفاصلهم وركبهم، كل ذلك ليجهّزوا القنوات. 

وحصل في إحدى الليالي أن علقَ أربعة من قواتنا في كمين للعدو، وأصيبوا إصابات بالغة، فأخرج الضابط العراقي مسدّسه وأطلق عليهم رصاصات الرحمة، ثم أحضروا جرّافة وأهالوا التراب على أجسادهم. لكنّ أحدهم بقي حيًّا، وانتظر فرصة للهرب، وبقي من دون حراك، وقد ساعده ظلام الليل على النجاة، فلم يلاحظ سائق الجرافة أن رأسه وصدره بقيا مكشوفين.
 
وعندما غادر العراقيون المكان، أخرج يديه أولًا، وبذل مجهودًا كبيرًا للتخلّص من ضغط التراب عليه الذي جعله يتنفس بصعوبة حتى تمكّن من إخراج جسده تمامًا من تحت التراب.

ولم يتمكّن بعد خروجه من تحديد جغرافيا المنطقة ووجهة سيره، ولم يساعده بدنه المصاب على السير بسهولة، فبقي ساعة حيران لا يدري ما يفعل، وأخذ يدعو ويعقد النذور، إلى أن أضاءت قنبلة ضوئية السماء، فشاهد أنابيب النفط، فزحف وحبا إلى جانبها حتى وصل إلى مسافة تبعد أربعين مترًا عن الساتر الترابي للمحطة السابعة، فاستجمع قواه، ونادى عدة مرات: "يا أخي ... تعبوي". حتى سمع الإخوة نداءه وهرعوا لمساعدته.
 
 
 
 
 
163

157

واحد مقابل واحد، تعادلنا

 "حسن شفيعي" أيضًا الذي ما زال إلى اليوم في قوات الحرس بطهران. قبل هذه العمليات علق ليلًا في كمين للعراقيين، وأطلقوا عليه رصاصة الرحمة، روى عن تلك الحادثة:

عندما شهر الضابط العراقي مسدّسه قريبًا من رأسي، أخذت أصرخ: الموت لصدام وألعن الأعداء من دون توقف، فجأة رأيت أبي واقفًا عند رأسي يهلّل ويكبّر فرحًا. فتعجبت ورحت أسأل: أين أنا؟ قال: أنت في المستشفى منذ ستة أشهر، ملقًى على هذا السرير فاقد الوعي، وقد استيقظت الآن وأنت تصرخ الموت لصدام. 

كما حصل مع الحاج "موسى رضا زاده"، فهو شخصٌ عجيب وغريب، كانت تكفي النشاطات المرهقة التي يمارسها كمسؤول للدعم اللوجستي أن تقضي عليه، لكنّه لم يقنع بها، فبدلًا من أن يستقبل الليل للنوم والراحة، كان يصرّ على حمل السلاح ليحرس ليلًا. ورغم إصرارنا عليه ليستريح، كان يرفض ويقول: "إنّ حصتي من الجبهة هي ثواب الحراسة الليلية، وليس الدعم اللوجستي".

كان بعد نوبة الحراسة، وقبل أذان الصبح بساعة، يبدأ بصلاة الليل. بينما كان كلّ ما يزوّد به طاقته لدورة الليل والنهار هو النوم أربع ساعات فقط.

في إحدى الليالي، وصلت إلى محور المحطة السابعة متأخرًا، ولم أبدّل ملابسي من شدّة إرهاقي، ونمت في إحدى الزوايا. عندما حانت صلاة الصبح ناداني الحاج موسى، فسألته: "هل أذّن للصبح؟".

- إنه يؤذن حاليًا، لكني أيقظتك لأسألك: هل لديك بيجاما أو رداء أرتديه؟

- ألست تملك واحدة؟
 
 
 
 
 
164

158

واحد مقابل واحد، تعادلنا

 - أملك، لكن رصاصة صغيرة أصابت رجلي، وتلطخ ثوبي بالدم.


نهضت من مكاني، خلعت سروالي، ونزعت البيجاما عني وأعطيتها له. وذهبت لأتوضأ للصلاة. وعندما عدت لاحظت الدم يسيل من فخذيه. فقلت له: "يا حاج موسى، قلت لي رصاصة صغيرة، ما هذا؟!".

كان يتلوى من الألم، وقال لي: "أرجو أن تنقلني إلى المستشفى بعد الصلاة".

أدّيت صلاتي بسرعة، وجهزت السيارة، وأوصلته إلى مستشفى شركة النفط، القريب منا. عندما وضعوه على السرير رأيت أربعة ثقوب في فخذيه، يبدو أنه كان يحرس فأصابته رصاصة بفخذه الأيسر وخرجت من فخذه الأيمن. فقام بربط فخذيه بكوفية وبملابسه الداخلية، وبقي على تلك الحال لمدة ساعتين، وصلّى صلاة الليل هكذا.

بدأ الطبيب بالعلاج، وشرعت بمعاتبة الحاج موسى: "لماذا لم توقظني قبل ذلك، وبقيتَ تنزف هكذا؟".

- لم أحب أن أوقظك، هل أكون قد أخطأت عندما تركتك لتنام ساعة أكثر؟

لم يكمل حديثه، حتى علا صراخه. كانت أدوية التعقيم قد غطّت فخذيه، فيما كان الطبيب يمسك قطعة من القطن بمقصّه، ويقوم بتحريكها داخل ثقب الإصابة. عندها أحسست أن كل أوجاع الحاج موسى قد أصابتني، فبكيت.

كان لا بدّ له أن يبقى في المستشفى لعدة أيام، لكن لكثرة الجرحى والإصابات، اضطروا لإخراجه بعد ثلاثة أيام، وطلبوا منه الاستراحة في البيت لمدة شهر. رفض الذهاب إلى بيته، فنقلته إلى فندق عبادان، لكنه لم يبق أكثر من يومين فقط، وعاد يعرج على عكّازته، إلى المحطة
 
 
 
 
 
165

159

واحد مقابل واحد، تعادلنا

 السابعة، ورغم إصرار الإخوة بشدّة عليه أن يذهب للراحة، رفض ذلك قائلًا: "إنّه موعد العمليات، ولا أريد أن أعود إلى بيتي خالي الوفاض".


لولا الإيثار والصبر، وتلك الروح الحماسية التي أبداها المقاتلون في بداية الحرب، رغم ضعف التجهيزات، لما نجحنا مطلقًا، وكما كان السابقون يقولون، إنّ العشق والقلب فعلا كل ذلك، وليس الطين والتبن.

بعد عدة أشهر من الانتظار وتدعيم المحاور، حان وقت تنفيذ العمليات. كان المقاتلون آنذاك بحاجة لصدمة قوية وشحنة روحية جديدة، لإنقاذ عبادان من الحصار والاحتلال، وهذا الامر شكل الخطوة الأولى والنوعية للدفاع المقدس، حيث كان البلد كله يتوقع فك الحصار عن عبادان. توجّه العلماء وطلاب العلوم الدينية والمنشدون والقادة الخطباء إلى المحاور، لإلقاء الخطب، وتوعية المقاتلين على أهمية ما يقومون به، وحثّهم على جهوزيتهم.

في محورنا، جاء رشيد وألقى كلمة، حيث اجتمعنا داخل بستان نخيل، وتحدث حاملًا بيده مكبّر صوت يدويًّا، لا أنسى أبدًا حرارة كلامه، تحدث عن حروب عدة في صدر الإسلام، وعن صبر وشجاعة أنصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن قتال أمير المؤمنين علي عليه السلام، فكانت كل كلمة بمنزلة شرارة اخترقت الآذان لتستقر في القلوب وتشعلها.

روى لنا قصة أحد أنصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أصيبت يده خلال الحرب، لكنها لم تقطع بالكامل، فتنحى جانبًا، وانحنى ليدوس بقدمه على يده المتدلّية ويفصلها تمامًا، لئلّا تعيقه عن الاستمرار بالقتال.

هذا الكلام أثّر كثيرًا في الشباب، وجعلهم يرون المحتلّين البعثيين أعداءً للدين، وأنّهم هم أنصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذا تشوّقوا لمواجهة العدو.

ومن جهة أخرى، كان الوضع في إيران كلها متوتّرًا بعد عزل بني صدر، المنافقون ما زالوا نشطين، يثيرون القلاقل والاضطرابات،
 
 
 
 
 
166

160

واحد مقابل واحد، تعادلنا

 وارتكبوا جريمتي 27 حزيران1 و 29 آب، حيث أدت الأولى إلى استشهاد (72) شخصيّة من كبار العلماء والمسؤولين في الدولة والمجلس، والثانية إلى استشهاد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، إضافةً إلى عشرات حوادث التفجير والاغتيالات. في حين أنّ الظروف الدولية والحصار العالمي أضعفا إيران. وبات العالم برمّته ينظر إلى إيران - قبل عمليات "ثامن الأئمة" - كدولة منهارة عسكريًا. لذلك كان العراق يعيش وهم الجيش الذي لا يُقهر، فشكّل لنا هذا "الجهل والغرور" فرصةً كبرى لتنفيذ عمليات ناجحة، خاصة بعد خطبة سماحة الإمام الخميني التي قال فيها: "يجب أن يفكّ الحصار عن عبادان". مما شكل حافزًا كبيرًا للمواجهة.


عندما بدأت العمليات بالهجوم في ليل 26 أيلول 1981م، قامت قوات حرس الثورة الإسلامية والجيش بهجوم من أربعة محاور: قواتنا في محور (دراخوين) التي هاجمت العدو من ناحية نهر شادغان، ودحرت قواته سريعًا، وتقدمت إلى الأمام بنجاح.

أما القوات التي انطلقت من الفياضية، فقد خاضت مواجهات شرسة مع القوات الخاصة، وبعد عدة ساعات من الاشتباكات، توقفت في أماكنها.

أما هجومنا الذي انطلق من المحطتين 7 و 12 فكان الأكثر نجاحًا، فقد ذكرت وثائق الحرب أنّ التقدم من المحطة 7 و12 قد جرى بسرعة. ومع بزوغ نور الصباح، كانت قواتنا قد حطمت خطوط العدو، وقدمت الدعم لمحور الفياضية لتجبر العدو على التراجع. كذلك شهدنا في الساعات الأولى من الهجوم، من مواجهات عنيفة مع قوات العدو.
 

1- تفجير مقر الحزب الجمهوري.  
 
 
 
167

161

واحد مقابل واحد، تعادلنا

 خلال الهجوم، جاءني العقيد خوشبخت وهو بحال من القلق الشديد، وقال لي بصوت مرتجف: "يا أسدي العزيز، القوات، القوات". فأجبته: "لا تقلق، القوات جاهزة". وكنت أتحدث عن عدد إضافي من العناصر زيادة عن العدد المتفق عليه، كنت قد جهزتهم في الخط الخلفي داخل بستان النخيل، استعدادًا للتدخل عند الضرورة، من دون أن يشاركوا في أصل الهجوم. لأن القيادة قررت أن يكون عدد الوحدات المدمجة متساويًا من أفراد الجيش والحرس والتعبئة.


لكن عندما حلّت ساعة الضرورة إليهم، أدخلت مئة مقاتل إلى محور الهجوم سريعًا، وهو العدد الذي كان قد طلبه العقيد، ووعد أنه بهذا العديد يستطيع تحطيم خطوط العدو.

بالفعل كان العدد مؤثرًا في تغيير مسار المواجهة، فقد حطّم الخط الأمامي. لكن المحور الجانبي بقيادة "أحمد كاظمي" واجه مشكلة، فطلب العقيد قوات أخرى، فأرسلنا حتى الصباح 400 مقاتل عبر القنوات.

أذكر أن العقيد جاء في الليلة التالية، وكنت حينها جالسًا داخل المتراس، فدار حولي، ثم قبّل رأسي قائلًا: "لقد حفظت كرامتنا، حطّمنا خطوط العدو قبل غيرنا، وكان مسرورًا جدًا".

صباح يوم العمليات، وخلال المواجهات، كنت منشغلًا بأمر مرتضى قرباني لئلّا يتقدم أكثر من غيره، لأنه كان مفيدًا في مستقبل الحرب، وكان يعرف نيّتي تلك، فيخفي نفسه. عندما رأيته لم يمهلني لأتكلم، بل قال: "أريد إيصال حبل إلى وحدة التفجير لمده قرب المعبر، فلا يضطر الإخوة إلى المسير فوق الألغام".

وهكذا، توجّه مرتضى لتنفيذ مهمته، وبعد ساعة سمعت صوته عبر الجهاز يقول: "يا أخ أسدي لقد علق أحمد، هل تسمح لي أن أرميهم
 
 
 
 
 
168

162

واحد مقابل واحد، تعادلنا

 من الخلف؟". عندها، توجّه بمدفع (106) وتمركز في نقطة جيدة، ودمّر للعدو عدة متاريس1.


وعند الظهر، حين توسطت الشمس كبد السماء، أتذكّر جيدًا أنّ قوات العدو كانت قد دُمّرت في كل المحاور، وشرع الجنود بالهرب.

عند الساعة الرابعة عصرًا، التحقنا في دارخوين بأحمد كاظمي وحسين خرازي، وتوجهنا لنستقر قرب نهر كارون. فيما استغرق تطهير المنطقة وإكمال النصر (48) ساعة أخرى، بعدها عقدنا اجتماعًا مشتركًا مع الإخوة في الجيش، الذين أبدوا صمودًا جيدًا.

بدأ العقيد خوشبخت والعقيد أمينيان بامتداح وحداتنا، بينما لم يكن البعض مرتاحًا. وتحوّل الاجتماع إلى فرصة ليثني كلٌّ على وحداته. إنه أمر طبيعي، فلا نحن كنا نمتلك الخبرة الحربية، ولا الجيش كان قد خضع للاختبار. أما وقد حققنا أول انتصار كبير في الدفاع المقدس، فقد شعرنا بالفخر، وأحببنا الاحتفاظ بالجانب المعنوي من هذا الانتصار.

فرحة النصر كانت ضيفًا مؤقّتًا سرعان ما غادرنا، لتحلّ محلها غربة فقدان الأحبة، فتحليق أفضل الأصدقاء شهداء أشعل النار في النفوس، وقبل أن ننسى ألم فراق هاشم بورزادي وأميني بيات وغيرهما من رفاق فارسيات، يغادرنا سريعًا "يونس عاقل نهند" وهو طالب العلم من أهالي تبريز وإمام الجماعة في بيت الشيخ بفارسيات، الذي رافقناه منذ الأيام الأولى. ففي آخر لحظات الهجوم توجّه "نهند" إلى جسر كارون لسحب أجساد الشهداء ومساعدة المسعفين، فأصابته رصاصة، جعلته يغادرنا.
 
 

1- مرتضى قرباني لا يعرف الخوف، شجاع ومقدام، ذاع صيته سريعًا، وأحبه قادة الحرب الكبار، بعد مدة استلم لواء (25) كربلاء، ثم رقيَ اللواء إلى فرقة
 
 
 
 
169

163

واحد مقابل واحد، تعادلنا

 ما إن خبت نار العمليات، حتى أُبلغنا بوجوب تسليم غنائم السلاح في عبادان. فبادرت لفعل ذلك، لكن أحمد كاظمي جاء وقال لي: "لماذا نسلمه؟ إننا سنحتاج إليه، ففي العمليات التالية سنتوسل إليهم ليعيدوه إلينا".


رفض أحمد تسليم غنائم الأسلحة بنظرته المستقبلية، وأخذ غنائمه معه، وترتّب على ذلك تشكيل لواء النجف الأشرف1

بعد مضيّ عدة أيام من ذلك الهجوم، رأيت العقيد أمينيان فرحًا ضاحكًا يغادر عبادان بسيارة جيب، بينما كنا ندخل المدينة، ما إن رآني حتى أوقف سيارته وترجل. توجهت إليه، وتعانقنا، 
ضغط على يدي مبتسمًا وقال: "يا سيد أسدي إن الخبز البلوري واللبن كان ذريعة لنتعرف إليك أكثر، لكنّ هذا الانتصار كان ثمرة اتحاد الجيش والحرس معًا".

تبسّمت وقلت: "لقد وصلنا خبز بلوري طازج ولبنة من شيراز، عند عودتك ستكون ضيفنا".

احمرّ وجهه فرحًا وقال: "هل هذا صحيح؟".

- كلا عزيزي، كنت أمازحك، هل رأيت أن الخبز واللبنة لم يكونا ذريعة.

قهقه ضاحكًا وقال: "واحد لصالحك، لقد تعادلنا".
 
 

1- كانت علاقتي بأحمد كاظمي قوية وحميمة. ولد الشهيد أحمد كاظمي في نجف آباد بأصفهان عام 1958م، كان قائدًا حاد الذكاء، خبيرًا بعمله، متواضعًا جدًا، استطاع أن يقود الفرقة  (8) النجف الأشرف ويديرها بنجاح، بعد انتهاء الحرب قلده الإمام الخامنئي ميدالية الفتح، وارتدى رداء الشهادة الأحمر يوم 9/1/2006م إثر سقوط طائرة الفالكون قرب أرومية برفقة جمع من رفاقه، ليلحق بقافلة أحبته الشهداء.
 
 
 
 
 
170

164

حرب الرؤى

 حرب الرؤى


كانت الحرب - رغم الدمار الكبير - تُشَكِّلُ "جامعة" إبداع وخلّاقة، فقد كانت حرب أفكار ورؤى وخطط ومشاريع جيدة أيضًا. حيث كان الإخوة يبحثون خلالها عن طرق حلول جديدة ومبتكرة، ويعملون على استغلال أي عنصر موجود في المنطقة، حتى أنابيب النفط التي تمرّ إلى جانب طريق عبادان!

جاءت والدتي لزيارتنا، فغادرت معها أنا وأخي. وبينما كنت أنظر إلى أنابيب النفط، خطرت لي فكرة، توقفت وطلبت من أخي أن يدخل ويجرّب المرور داخل الأنبوب.

بعد دقائق، خرج منه وقال إنّه لا يوجد مشكلة. بعض هذه الأنابيب كانت تصل إلى أماكن تمركز قوات الاحتلال. وقد أشعلت هذه التجربة الصغيرة شرارةً دفعتني للقاء الإخوة في شركة نفط عبادان، للبحث في إمكانية الاستفادة منها لتوجيه ضربات للعدو. قدم هؤلاء الإخوة اقتراحات جيدة، ورغم أنّ قوات الاحتلال قد دمّرت وأحرقت معظم خزانات النفط، إلا أن بعضها كان ما يزال يعمل.

فكانت إحدى الخطط تقضي بضخّ النفط من الخزانات عبر الأنابيب باتّجاه مواقع العدو، وتوجيه قنابل ضوئية لإحراق تلك المواقع. 

الخطة الثانية، هي عبور مقاتلينا من خلال الأنابيب لتنفيذ عمليات
 
 
 
 
 
171

165

حرب الرؤى

 خاصة وزرع عبوات.


وهكذا، كان المجال مفتوحًا لتقديم أفكار جديدة، فقد ابتكر أحد الإخوة عربة تتكون من لوح صغير له إطارات تساعد العناصر على الانتقال داخل أنابيب النفط بسرعة وسهولة.

وطبعًا واجهت بعض تلك الاقتراحات والأفكار مشاكل خلال مراحل التطبيق، لكنّها كانت جميعها قابلة للحل. منها مشكلة بقايا النفط في بعض الأنابيب، لذا برزت مشاكل التنفس عند الشباب بسبب رائحة النفط القوية، حيث عانى اثنان من الإخوة من مشاكل في التنفّس، فخلصنا إلى ضرورة تثبيت كبسولة أوكسيجين على عارضة عربة التنقل المبتكرة، وبذلك انتهينا من مشكلة التنفس.

من تلك الابتكارات أيضًا، تصنيع لغم يعمل عند تعرضه لأي حركة وينفجر، وقد تمّ ابتكاره لهدم الجسور التي يمدها العدو على سطح ماء النهر. فكنا نطلق الألغام التي تطفو مع مجرى الماء نحو جسور العدو، وعند ارتطامها بها تنفجر وتقطع طريق عبورهم.

في الخط الأمامي لمحور المحطة السابعة، كنا قد وضعنا سواتر ترابية، وكانت قواتنا تتعرّض باستمرار لرصاص القناصين عند عبورها تلك السواتر. وبعد حصول عدة إصابات، فكّرنا بضرورة حلّ هذه المشكلة، وتوصلنا إلى فكرة مفادها، وضع الألغام التي غنمناها والقذائف التي لم تنفجر داخل تلك السواتر بشكل مضغوط، حتى إذا أردنا المرور قمنا بتفجيرها، فتفتح ممرات إلى الطريق المقصود، ولم نعد بحاجة للمرور فوق تلك السواتر والتعرض لقناصة العدو.

كذلك بالنسبة لاستطلاع منطقة العدو وتحصيناته وقواعده، كنا غير قادرين على إجراء الاستطلاع نهارًا لأنّ الأرض مستوية، تكشف
 
 
 
 
 
172

166

حرب الرؤى

 تحرّكنا أمام العدو، لذلك كنّا ننطلق لتنفيذ عمليات الاستطلاع بعد صلاتي المغرب والعشاء، ونسير أحيانًا مسافة (5-7) كلم مشيًا على الأقدام، ونعود مع طلوع الفجر. وبما أنّ الأرض ممتدّة، لا تضاريس طبيعية بارزة فيها، ولا أنوار تضيئها، كنّا نضلّ الطريق أحيانًا. وقد حصل ذلك عدة مرات، حين تضلّ مجموعة الاستطلاع طريقها وتبقى ليوم أو يومين، تعاني الجوع والعطش وتسير باتجاهات مختلفة حتى تصل إلى المقر. لذلك قمنا بوضع فوانيس خافتة الإنارة، مثبّتة بحبال أعلى أشجار النخيل، لتساعد فرق الاستطلاع على تمييز طريق العودة إلى مكان الانطلاق.


كذلك، عندما واجهنا مشكلة الجبهة الجنوبية، حيث كانت لها ظروفها الخاصة، فهي عبارة عن مناطق سهلية مستوية، خالية من أي منخفضات أو مرتفعات طبيعية، لذلك، كان الاقتراب من مواقع العدو من دون التعرض لنيرانه أمرًا غير ممكن. فكان الحل الأفضل هو حفر القنوات. وقررنا أن نحفر ليلًا ونستتر نهارًا، وننفذ إليها شيئًا فشيئًا لنصل إلى العدو، كما فعلنا في المحطة السابعة بعبادان، وحفرنا نفق الفياضية، ما أدى إلى تسريع الانتصار في عمليات فك الحصار عن عبادان.

وهناك أمر بسيط لكنه جدير بالذكر، إنّ تصوّر قوات حرس الثورة الإسلامية عن حروب صدر الإسلام، لا يتنافى مع ملاحظة وإدراك الوضع الحالي حينها. فإذا كان مسلمو صدر الإسلام قد استخدموا السيف والترس في قتالهم، فهذا لا يعني أن نقاتل بتلك الأدوات نفسها، بل المطلوب أن تسود تلك الروح والمعنويات بيننا، أمام مقتضياتها وأحوالها الملائمة مع الوقت الحاضر.

ففي حروب صدر الإسلام، كان المقاتلون يرتجزون الشعر قبل
 
 
 
 
 
 
173

167

حرب الرؤى

 الالتحام مع العدو، ليعلنوا عن أهدافهم من المواجهة، وللتعريف بأنفسهم، والنيل من معنويات العدو، وبثّ الرعب فيه. واستخدام هذه الطريقة لا يتناسب مع طبيعة الحرب في العالم المعاصر، فالمبارزة حاليًّا تجري من بعيد، وتفصل بين قواتنا وقوات العدو عدة كيلومترات، فلا مجال للصدح بالشعر.


لكننا حاولنا الاستفادة من التقنية نفسها، ففكرنا معًا وتشاورنا ووصلنا إلى نتيجة مفادها دسّ بيانات داخل قذائف المدفع وإطلاقها. ووضع آراء الإمام الخميني حول الحرب وظلم النظام البعثي في العراق، وقدرة واقتدار القوات العسكرية الإيرانية، وتُعلّق تلك البيانات بالقنابل المضيئة.

لذلك، لم يكن الهدف من إطلاق القنابل المضيئة إضاءة محور العدو وحسب، بل تجاوزه ليضيء أذهان الجنود العراقيين أيضًا! أضف إلى ذلك ممارسة الحرب النفسية، وزرع الرعب في نفوس الأعداء، والتعريف بالهوية والأهداف.

في أحد الأيام، زار موقعنا وفدٌ من العاملين في الاتصالات الدولية لشيراز برئاسة المهندس زاهدي، وأحبّوا أن يقدموا لنا خدمة. رحت أفكّر بالعمل الذي يمكنهم أن يؤدّوه لنا في مجال اختصاصهم لأطلبه منهم.

كنّا نواجه مشكلةً في الليالي التي نشنّ فيها هجومنا، فبعد نزع الألغام وفتح المعابر، كنّا نحدّد الطرق بأسلاك الهاتف ليسير المقاتلون إلى جانبها، حيث كنّا نستخدمها كدليل للطريق نحو العدو. لكن قوات العدو اكتشفت الأمر، فعمدت إلى وضع رشاش ثقيل عند آخر كل معبر، وأوقعت خسائر وإصابات بيننا.

قلت للمهندس زاهدي: "هل يمكنكم أن تجدوا لنا بديلًا عن أسلاك الهاتف؟".
 
 
 
 
 
 
174

168

حرب الرؤى

 بناءً على ذلك، وبعد عدة أيام أبلغوني أنّ بإمكانهم وضع مصابيح، ترسل أضواءً متقطّعة لتحلّ المشكلة، وأحضروا نموذجًا، غير أنه بعد الدراسة تبيّن أنّها تعاني من مشكلتين: الأولى، أنها كبيرة، والثانية: يصعب تشغيلها على البطاريات خلال الهجوم. فوعدوا بنموذج بديل.


لم يمض أسبوع حتى جاءوا بمصابيح صغيرة داخل إطارات، تُشحن نهارًا بأشعّة الشمس، وتضيء ليلًا وتبرز أنوارها من جهتنا فقط، من دون أن يلاحظها العدو. وهكذا انتهت مشكلتنا تلك كليًّا، وساعدتنا على إنشاء السواتر الترابية ليلًا، لأنّ سائقي الجرافات كانوا يتعرضون نهارًا لنيران العدو مباشرةً، فكنّا نضطر للعمل ليلًا على إقامة السواتر.

أضف إلى ذلك كلّه، أننا استفدنا من تلك المصابيح في عبور نهر أروند، لأنّ سرعة جريان مياهه كبيرة، وكنّا نحتاج إلى علامات تحدّد لنا المواقع وترشد القوات.

لذلك كانت الحرب في أحد جوانبها حرب رؤى وابتكارات وخطط جديدة.
 
 
 
 
 
175

169

المتحف الميداني

 المتحف الميداني


بعد إتمام الاندماج بين الجيش والحرس، وحصول التنسيق بينهما خلال عمليات "فكّ الحصار عن عبادان"، عليّ أن أتحدّث عن قرار من الدرجة الأولى اتخذته قوات حرس الثورة الإسلامية، وكان هذا القرار نتيجة من نتائج تلك العمليات.

في المرحلة التي سبقت تلك العمليات، لم نكن نطمع ولا نفكّر في مقراتنا وعملياتنا بشيء أعلى وأوسع من مصطلح المحور: محور المحطة 7، محور المحطة 12، محور دارخوين وهكذا. لكن بعد الانتصار في عبادان وطرد المعتدين إلى نهر كارون، بدأ الحديث في قوات حرس الثورة عن ضرورة تشكيل الألوية.

أتذكّر أنّ الأخ رشيد استدعى قادة المحاور، ووضّح لهم ضرورة أن نقوم بتنظيم قواتنا في إطار مؤسسة منظمة، كما هي حال الجيش، لنمنع التشتّت، ويكون لدينا قواعد أكثر ثباتًا وأوسع انتشارًا لتوزيع المهام.

طُلب منّي تشكيل لواء اسمه لواء "الإمام الحسن المجتبى" عليه السلام، فيما أصبح الأخ حسين خرازي1 قائدًا للواء "الإمام الحسين" عليه السلام.
 

1- الحاج حسين خرازي، وُلد عام 1957م في أصفهان، أبرز ما أتذكره في شخصيته أنه كان محبوبًا بين القادة والعناصر التابعين له بشكل عجيب، إن المستوى العالي لإطاعة أوامره بين قواته ومحبتهم له لا نظير لهما. كان الشهيد خرازي من أوائل قادة الحرس في الحرب، وتولّى قيادة جزء مهم من جبهة دارخوين خلال عمليات فكّ الحصار عن عبادان، وبعد ذلك كان قائدًا لأهم وحدات أصفهان، أي لواء الإمام الحسين عليه السلام، واستطاع سريعًا أن يحوّله إلى فرقة. وسطر ملاحم خالدة في العمليات المتلاحقة للقوات الإسلامية. وخلال تنفيذ عمليات خيبر الأولى قطعت يده، ثم استشهد خلال عمليات كربلاء الخامسة في 27/ 2/ 1987م ليحلّق نحو الملكوت الأعلى.
 
 
176

170

المتحف الميداني

 وشرع الأخ كاظمي بتشكيل لواء "النجف الأشرف"، والأخ علي الفضلي قائدًا لـلواء "المهدي 33". والأخ مرتضى قرباني قائدًا للواء "كربلاء 25". والأخ "نبي الرودكي" قائدًا لـلواء "الإمام السجاد" عليه السلام. 

والأخ قاليباف قائدًا لـلواء "النصر5". والأخ رؤوفي قائدًا لـلواء "ولي العصر7". والأخ قاسم سليماني قائدًا للواء "ثار الله41".

والأهم من ذلك أنّ الأخ محسن رضائي كان قد تولّى لتوّه قيادة حرس الثورة الإسلاميّة، واتّخذ من الجبهة مركزًا لنشاطاته، في حين كان القائد السابق للحرس الأخ مرتضى رضائي قلّما نراه في الجبهة.

حينها كانت الإدارة العامة للدفاع المقدس على عاتق الأخ رشيد وحسن باقري. ورحم الله الحاج داوود كريمي الذي كان معارضًا أساسيًّا لأسلوب مرتضى رضائي في القيادة. في أحد الاجتماعات نظر داوود إلى مرتضى وقال له: "تأتي في السنة مرتين، ومعك مغلاة من اللبن".

قلنا لداوود: "وما قصة مغلاة اللبن هذه؟".

فشرح لنا قصة التدهن باللبن، وقال: "كلما جاء الأخ مرتضى يبرّر تقصيره، ويلقي باللوم كلّه علينا، ويذهب".

قبل مرتضى رضائي كان قائد الحرس هو الشهيد "يوسف كلاهدوز"، كان منهمكًا بالعمل وكذلك كان له دور محوري في فكّ الحصار عن عبادان2.
 

1- الشهيد يوسف كلاهدوز، ولد في 21/ 12/ 1946م في مدينة قوتشان. كان إنسانًا فريدًا في خصاله الأخلاقية، متواضعًا جدًّا، ذا سيرة عرفانية، لا أنسى أبدًا سلوكه المعنوي. لعلّ الكثيرين لا يعلمون أنّ الشهيد كلاهدوز الذي كان نائب قائد قوات حرس الثورة الإسلامية عند استشهاده كان فنانًا حقيقيًا ولديه دراسات واسعة في مجال العلوم السينمائية، قبل استشهاده كان سيتولى بنفسه إدارة إنتاج فيلم السفير. قبل انتصار الثورة الإسلامية كان ضابطًا في الحرس الملكي، وبسبب علاقته مع العلماء، اعتبر عامل نفوذ للثورة، حيث تولّى مسؤولية التنسيق بين الضباط الثوريين وكان ينقل المعلومات السرّيّة للجيش إلى العلماء. وكان له دور في إفشال عدوان الحرس الملكي على الناس إبان الثورة. بعد تنفيذ عمليات "ثامن الأئمة" وفك الحصار عن عبادان استشهد مع القادة: جهان آرا، فكوري، فلاحي وغيرهم في حادث سقوط طائرة (c-130).
 
 
 
 
177

171

المتحف الميداني

 عندما تولى الأخ محسن رضائي قيادة قوات الحرس، جرى الجمع بين قيادة الحرس وقيادة الحرب، بدت الفرصة سانحة أكثر من ذي قبل لوضع خطط تنفيذ العمليات، وأصبح مجال اتخاذ القرار أسهل وأقصر.


انتقلتُ إلى دزفول مع الإخوة الذين كانوا معي في فارسيات ومن ثم في عبادان، وتسلّمت معسكر "وحدتي" الذي قضيت فيه خدمتي العسكرية سابقاً، لأنظّم قواتي بعديد 1200 مقاتل وثلاث سيارات وعدة مدافع هاون وغير ذلك. وهكذا كنّا نظنّ أننا بتنا لواءً جاهزًا بهذه الخردوات.

من ناحية ثانية، كان علينا طبق خطة الشهيد باقري أن ننفّذ عمليات "طريق القدس" في نواحي "البستان" من أجل قطع الاتصال بين القوات المحتلة في الشمال والجنوب. وقد أدّى نجاح هذه العمليات إلى تحرير مدينة البستان، واستعادة مضيق تشذابه، وإجبار القوات المعتدية على الالتفاف حول منطقة الهور العظيم للانتقال إلى الجنوب.

وتبعًا لذلك - في الحقيقة - كانت هذه العملية من أصعب العمليات في الجنوب طوال ثماني سنوات من الدفاع المقدس. وكانت مسألة أساسية بالنسبة لنا، وهي في هذا القبيل شكّلت المقدمة لتحرير شمال محافظة خوزستان، ومن ثم تحرير مدينة خرمشهر. وكذلك كان العدو بالمقابل يراها على هذا النحو، فبهزيمته خلال هذه العمليات، يفقد طريقًا مباشرًا وسهلًا، وينقسم جيشه الثالث إلى قسمين.

بدأت العمليات يوم 28 -  11- 1981م بنداء: يا حسين، وهاجمنا - نحن والجيش معاً - التحصينات العراقية. كانت عملية صعبة للغاية، فقد كان علينا أن نعبر منطقة رملية عند شرق وشمال شرق مدينة البستان، لنلتفّ على العدو ونحرّر المدينة. بيد أنّ اجتيازنا تلك الرمال كان أمرًا
 
 
 
 
 
178

172

المتحف الميداني

 بالغ العناء، لكنه تمّ بفضل الله وشجاعة مقاتلينا الفريدة، وقد فوجئ العدو تمامًا رغم امتلاكه عديدًا يقدّر بثلاثة أضعاف عديدنا، وزد على ذلك، أسلحة ومعدات تساوي أضعاف ما لدينا، لكن قواته تلقّت هزيمة نكراء، وبهذا بلغنا الحدود الدولية بعد أسبوع واحد لأول مرة.


في المقابل، تركت تلك العملية لديّ ولدى القوات التابعة لقيادتي ذكريات مرّة، فقد فقدنا عددًا كبيرًا من أفضل إخواننا من كاشان وكرمان الذين استشهدوا خلالها، وأُصيب لواء "الإمام الحسن المجتبى"عليه السلام -الذي تشكّل حديثًا وشكّل أملًا للكثيرين- إصابةً بالغة، وتضعضع من الناحية التنظيمية، وفقدنا معظم أسلحتنا القليلة. وأضحى استمرار القتال بالأسلحة المتبقّية أمرًا غير ممكن، لذلك وبالتنسيق مع القيادة المركزية قمت بتسليم ما تبقّى من القوات إلى الأخ مرتضى قرباني في لواء "كربلاء 25"، والأخ حسن شفيع زاده الذي أصبح فيما بعد قائد المدفعية في قوات الحرس، ثم استشهد في عمليات "كربلاء 10"، وأصبح أخواي "صالح وجواد" ضمن عديد مرتضى القرباني. بينما فضّل الإخوة من أهالي شيراز الالتحاق بلواء الإمام السجاد عليه السلام.

وعندما تمّ استدعائي إلى الأهواز، ذهبت وقصدت الغولف فسلّمني الأخ رشيد حكمًا يقضي بتولّي مسؤولية إرسال القوات من محافظة خوزستان. وهكذا باشرت عملي، وكانت القوات تتوالى قادمة من جميع المحافظات في إطار كتائب، ويقوم كلٌّ من أحمد بور وشوشتري، بصفتهما مسؤولي الدعم اللوجستي في الجنوب، وقد وُضِعا تحت إمرتي، بتسليح هذه القوات، لنرسلها إلى الألوية المختلفة.

واجهنا في الغولف مشكلة لطيفة لا بأس بذكرها. اعترض كثيرون على الأخ عامل السنترال، فكلّما اتصل أحد وسأله عن اسمه كان
 
 
 
 
 
179

173

المتحف الميداني

 يجيب: بنده خدا1. لأجل هذا طالبوا بتغييره، خاصة أنهم يتّصلون في ظروف الحرب وبعصبية ويحتاجون إلى إجابات جدّية. 


توجهت إليه وعاتبته، فقال: "أنا لم أفعل شيئًا". 

- ما اسمك حقيقةً؟

- بنده خدا. 

فانتفخت أوداجي غضبًا منه، فأخرج لي بطاقته من جيبه وقدمها لي. فوجدت أنّ اسمه العائلي "بنده خدا"!

بعد مرور ثلاثة أشهر على عمليات تشذابة كنا نتهيّأ لتحرير منطقة واسعة من شمال محافظة خوزستان. بينما كنّا نعقد اجتماعًا في معسكر الغولف يضمّ بعض القادة، ونتناقش بكل مودة وحماسة بحرارة، وصلت رسالة إلى الأخ محسن، ما إن قرأها حتى بدا عليه الاضطراب ونهض من مكانه، فنهض معه الأخ صياد الشيرازي، ما أثار قلق الجميع. فسأل الشهيد باقري: "ما الأمر يا أخ محسن؟"، نهض الأخ رشيد ولم ينتظر جوابًا، سأل فورًا: "هل شنّ العدو هجومًا؟

- نعم، لقد هاجم مضيق تشذابة. تحركوا لنذهب.

توجهنا سريعًا إلى سوسنكرد. أتذكر أننا ذهبنا إلى هناك مع الأخ رشيد، كان الإخوة لا يزالون يغطّون بالنوم، ولم يتسنّ لهم الاطّلاع على خبر الهجوم، فأيقظناهم. لقد تفاجأت قواتنا بنا، ولم يصدّقوا أنهم معرّضون للخطر. استعنت بشابّ يدعى "إسحاقي" من ضواحي أصفهان، وقد نشأ في النجف الأشرف ويجيد اللغة العربية، وبدوري كنت أفهم العربية بعد رحلاتي إلى الكويت، فشغلنا أجهزة اللاسلكي على موجة العدو، وكان إسحاقي يتنصّت من خلال جهاز تسجيل معدّل، فاستنتج أنّ الجيش العراقي يتحدث وكأنه عبر جسر سابله
 
 

1- عبدالله. 
 
 
180

174

المتحف الميداني

 ويعمل على الالتفاف على قواتنا.


قام الأخ رشيد بإخبار كلّ من: مرتضى القرباني وحسين الخرازي. لكنهما لم يصدّقا ذلك. أجاب مرتضى: "اطمئنّوا ليس هناك أي شيء". وهذا ما أزعج رشيدًا الذي خطرت بذهنه فكرة فأجابه: "حسنًا، ما دام ليس هناك أي شيء، توجّه مع خرازي إلى جسر سابله، أريد التحدث معك". بعد دقائق اتصل مرتضى نفسه قائلًا: "لقد اشتبكنا مع قوات العدو". 

كانت ليلة عجيبة حقًّا، حيث حمل السيد رحيم صفوي سلاحًا وجعبة وتوجّه نحو المواجهة، ولم يلتفت إلى نداءاتنا ولم يجب عليها.

شملتنا في تلك الليلة رحمة الله، دمّر الإخوة أول دبابة عراقية فوق جسر سابله، فتقدمت دبابة ثانية لإزاحة الأولى من طريقها فأُصيبت أيضًا. فأرسلوا ناقلة جند، فدمرت أيضًا. وهكذا تراكمت عدة دبابات وناقلات جند بعضها فوق بعض، فكان منظرًا مدهشًا.

لم يوفّق العدو في خطّته المفاجئة، وواجه مقاومة شرسة من كتائبنا التي تدافعت إلى المكان، ما اضطر قواته للتراجع.

كان هجوم العدو هذا يوم 6 شباط، وهدفه من ذلك هو الوصول إلى مدينة البستان يوم "11 شباط" لكونه ذكرى انتصار الثورة، وذلك بأمر مباشر من صدام. لكنهم بعد أسبوع من المواجهات تلقّوا هزيمة نكراء.

خلال المواجهات كان الأخ رشيد متحمّسًا جدًّا، يصرخ وينادي بانفعال شديد، فشعر بنوبة ألم في معدته، أخذ مصباحًا يدويًّا ليبحث عن قطعة خبز. تقدمت نحوه فوجدته يتلوى من الألم، لم أكد أقترب منه حتى رفع غطاءً إلى جانبه بحثًا عن الخبز، وإذ به يجد تحت الغطاء شهيدًا، فانفجر بالبكاء قائلًا: "هؤلاء استشهدوا، وأنا أبحث عن خبز!".
 
 
 
 
 
 
 
181

175

المتحف الميداني

 كانت جغرافيا منطقة العمليات صعبة، خاض المعتدون قتالًا شديدًا للحفاظ على مواقعهم، واستشهد لنا عدد كبير من الإخوة المقاتلين الأعزاء، ما زاد من الضغط النفسي على القادة والمسؤولين عن الحرب. كل هذه العوامل دفعت الأخ رشيد ليقول بعد هذه العمليات: "لقد شيّبتني عمليات تشذابة".


بعد عدة أيام، حضر ضيف من كوريا الجنوبية وحلّ عند الفرقة المدرّعة 92. توجّهت مع الشهيد حسن باقري إلى جسر سابله. عندما رأى الضابط الكوري الدبابات والملالات متراكمة فوق بعضها البعض على الجسر وإلى جانبه، دهش وقال: "إنها دبابات T72 كيف استطعتم تدميرها؟ إنه أمر مستحيل".

أجابه باقري: "توجّه الإخوة إليها، وصعدوا إلى برجها، ورموا القنابل اليدوية داخلها".

تعجّب الضيف وقال: "لو حدث ذلك عندنا في كوريا، لكنّا أحطنا الدبابات بسياج، واتخذنا منها متحفًا ميدانيًّا1، ودعونا الناس للحضور ومشاهدة هذا المنظر".

أجابه الشهيد باقري بنظرة ذات مغزى: "لو أردنا فعل ذلك، سيكون علينا أن نضع سياجًا حول كل الجبهات". ثم ضحك وقال: "لكن ذلك سيكلّفنا مالًا كثيرًا".
 
 

1- في الهواء الطلق.
 
 
 
 
 
182

176

الاستخارة

 الاستخارة


 بعد شهر واحد على انتهاء المواجهة الصعبة في مضيق تشذّابه، بدأت عملية "الفتح المبين" في منطقة "دشت عباس" و"عين خوش". رغم أنّ الفاصل الزمنيّ بين العمليتين كان قصيرًا، لكن قواتنا كانت بجهوزية أعلى، والقيادة بمهارة أرقى. لذلك جرى تنظيم ألوية الجيش والحرس بشكل أفضل. وعقدت اجتماعات منتظمة، وبلغ التنسيق بين الأخ محسن رضائي والعميد صياد الشيرازي مستواه المطلوب.

ونحن بدورنا كنا نمارس بكل قوة عملية استقطاب المتطوعين وتدريبهم وإرسالهم إلى الألوية والكتائب. وفي تلك الأيام انطلقت شرارة تشكيل الألوية حسب المحافظات. ففي أحد الأيام، نظر الأخ محسن رضائي إلى مهدي باكري في مقر كربلاء، وقال له: 
- اذهب وشكل لواءً باسم عاشوراء من أبناء مدينة تبريز1

حتى ذلك الحين، كان المقاتلون من أبناء مدينة تبريز منضوين تحت
 
 

1- الشهيد مهدي باكري، ولد عام 1954م في مدينة (ميان دو آب)، بعد هذا الأمر قام بتشكيل "لواء عاشوراء"، ثم حوّله إلى فرقة، يكفي أن أقول فيه إنّه كان من الإخوة الذين سبق إدراكهم عمرهم، وكان يعمل بما يعلم، كان قائدًا عمليًا يحب قواته التي تحت إمرته ويعطف عليهم بعدل. ومن ذلك أنه عندما حوصر مع قواته خلال عمليات بدر، طلب منه الشهيد أحمد الكاظمي أن يعبر نهر دجلة ويسير لمسافة كيلومتر واحد بين الخط 1 و2 لينجو بنفسه، إلا أنه رفض ذلك مكررًا، وقال لن أعود إلا مع قواتي. إلى أن أصيب برصاصة واستشهد في 14/2/1985م فحمله رفاقه في زورق لنقله إلى خلف خط المواجهة، لكن العدو استهدف الزورق بقذيفة (ب½ 7) فغرق الزورق ومعه جسد الشهيد باكري.
 
 
 
 
 
183

177

الاستخارة

 لواء "النجف الأشرف" بقيادة الأخ أحمد كاظمي. إلا أنّ الإقدام على خطوة تشكيل لواء لكل محافظة جرت بسرعة لتشمل كل المحافظات.


علاوة على ذلك، فإننا باشرنا مرحلة شنّ الهجوم وتحرير المناطق المحتلة، وقد توحّد الناس بعد التخلص من مرحلة التعقيد السياسي، التي انتهت بطرد المنافقين وانكشاف مؤامراتهم، وأضحت الإدارة السياسية شبه موحدة، ما جعل الناس يقفون صفوفًا طويلة للتطوع في القتال، وتقديم الدعم إلى الجبهات.

قطعنا المراحل الأولى الصعبة للحرب، وفككنا الحصار عن عبادان، وتبدّلت الظروف بحيث لم يعد العدو يجرؤ على التقدم وشن الهجمات، لذلك انتقل إلى مرحلة الدفاع وتثبيت مواقعه. وفي المقابل، لم نتوقف عن شن الهجمات لتحرير أراضينا المغتصبة وصولًا إلى الحدود. لذلك جاءت خطوة قوات حرس الثورة الإسلامية بتشكيل ألوية المحافظات، لتخلق الجو المناسب من أجل تنفيذ أفضل عمليات الدفاع المقدس وأنجحها.

في بدايات شهر آذار 1982م، تصاعدَ غليان قوات الحرس والجيش في شمال غرب خوزستان، واكتملت المعلومات والاستطلاعات والدراسات لتنفيذ عمليات "الفتح المبين". كانت منطقة العمليات واسعة جدًا، ومليئة بالتضاريس الصعبة، فيما كانت معلوماتنا عن جغرافيا الأرض خلف خطوط العدو قليلة، معظمها من وصف أهالي خوزستان الذي جاء ناقصًا ومتناقضًا أحيانًا. أتذكّر أننا سعينا لإكمال معلوماتنا عنها بالاستعانة برعاة تلك المنطقة أيضًا.

مهدي زين الدين كان أحد المسؤولين عن عدة مجموعات استطلاع، وكان يتحرك دومًا مع عدد من الإخوة من أهالي شيراز
 
 
 
 
 
184

178

الاستخارة

 ممن نقلتهم إليه1.


تحركاتنا الكثيرة لجمع المعلومات تشير إلى أهمية منطقة "دشت عباس" و"عين خوش" لدى مسؤولي الدفاع المقدس. فقد ركّز العدو منذ الأيام الأولى لاعتدائه على إيران، على هذه المنطقة، ليتمكن بسهولة من محاصرة محافظة خوزستان والوصول إلى مركزها الأهواز، لذلك احتلّها سريعًا قبل خرمشهر وغيرها. لكنه عندما وصل إلى جسر نادري واجهته القوات الشعبية المحلية من أهالي خوزستان مشكّلةً سدًّا منيعًا بوجهه، وتوقف زحف المحتلّ بعد معارك ضارية مع قوات حرس الثورة الإسلامية والجيش الإيراني.

لكن قبل وصول العدو إلى الجسر كان اللواء المدرع "37 شيراز"، وأحد ألوية الفرقة 92 خوزستان المدرع قد استقرا في مواجهة العدوان، وارتفع الكثير من أفراد هذين اللواءين شهداء. كما تعرّض بعضهم للأسر، بينما اضطر الباقون للتراجع، ودمرت الأسلحة الثقيلة والآليات أو نهبت.

لم تكد تمرّ أيام قليلة حتى قام الجيش الإيراني بتنفيذ عملية كبرى بقيادة العميد ظهير نجاد2 ردًّا على الاعتداء ولاستعادة المناطق المحتلة،
 
 

1- الشهيد مهدي زين الدين من مواليد طهران 9/10/1959م. قائد خلاق، له شخصيته، تراه مبتسمًا دومًا، نلت شرف مرافقته في ساحات الحرب المختلفة، أسرته مجاهدة، اعتقل والده عدة مرات في عهد الشاه وتعرض للتعذيب والنفي. فنشأ مهدي في كنف تلك الأسرة ليكون مجاهدًا خلوقًا. طرد من المدرسة لرفضه الانتساب إلى حزب "رستاخيز" (البعث) في الثانوية. بعد انتصار الثورة توجه إلى غرب إيران لمواجهة الفئات الانفصالية في محافظة كردستان الإيرانية. وعند بدء العدوان العراقي توجه إلى الجنوب، وتقلّد مسؤوليات متعددة أمنية وعسكرية، شكل لواء علي بن أبي طالب عليه السلام لمحافظة قم، الذي تحول إلى فرقة. خلال ممارسته لمهامه قائدًا للفرقة، تعرّض مع أخيه في طريق سردشت - كرمنشاه للاغتيال ملتحقًا بالرفيق الأعلى في 17/11/1984م. قال الإمام الخامنئي عنه: "إنّ قائد هذه الفرقة الشهيد مهدي زين الدين هو حقًّا من النجوم الساطعة، وقد آلمنا فقده".
2- العميد ظهير نجاد عيّن في تشرين الأول 1981 رئيسًا للأركان المشتركة للجيش الإيراني، وفي عام 1987م أضحى عمادًا، وفي 27/10/1989م عيّن رئيسًا لفريق المستشارين العسكريين للقيادة العامة للقوات المسلحة. وفي عام 1999م أصيب بسكتة دماغية وتوفي فدفن في روضة الزهراء.
 
 
 
 
 
 
185

179

الاستخارة

 لكنه لم يوفق. وبقيت منطقة واسعة من غرب أنديمشك تحت الاحتلال لمدة (17) شهرًا، من تاريخ العدوان الصدامي حتى نهاية آذار من العام 1983م. عندما وُفِّقنا لتحريرها، كانت نقطة انطلاق لعمليات الفتح المبين. خلال مدة الاحتلال هذه، تحولت معظم مدن محافظة خوزستان إلى مسرح لقذائف المدفعية العراقية. وكنّا ننوي تحريرها قبل تنفيذ عمليات "طريق القدس" في منطقة البستان. ويشير إلى ذلك تاريخ البدء بالاستطلاع وطريقته بحسب وثائق الحرب. لكن الخطة تغيّرت فيما بعد، ونفّذنا عمليات "طريق القدس" حسبما ذكرت أنفًا، وفيما بعد قمنا بحشد الإمكانات اللازمة استعدادًا لتحرير منطقة دشت عباس.


أذكر أنّ أخبار هذه العمليات جرّت إلى الجنوب كثيرًا من قوات حرس الثورة الإسلامية الذين كانوا يخوضون المواجهات مع أعداء الثورة الإسلامية والجيش الصدامي في غرب البلاد. ما زلت أذكر شكل الحاج أحمد متوسليان وملامحه، فقد جاء إلى الجنوب مصطحبًا كلًّا من الشهيد همت والشهيد دستواره1. كانوا يلفتون الأنظار أينما ذهبوا بسبب ملابسهم، فقد كانوا يرتدون ما يشبه ملابس أهالي المناطق الباردة، جاكيتًا أمريكية وسروالًا سميكًا وواسعًا، أشبه بالملابس الكردية.

وشكّل حضورهم مقدمة لتشكيل اللواء (27) باسم "محمد رسول
 
 

1- هؤلاء الشهداء الثلاثة كانوا الأركان الأساس لتشكيل اللواء الذي تحول إلى فرقة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. الشهيد الكبير أحمد متوسليان، ولد عام 1953م في طهران، وهو المؤسس الأول لهذه الوحدة المنتصرة وأول قائد لها، أسر في لبنان بتاريخ 3/7/1982م على يد عملاء الكيان الصهيوني. والشهيد محمد إبراهيم همت، ولد عام 1955م بمدينة شهرضا، أكمل مسيرة سلفه قائدًا للفرقة، وسطّر ملاحم خالدة في الحرب إلى أن حلقت روحه شوقًا للشهادة في عمليات خيبر في 14/3/1984م، ليلتحق بركب شهداء جزيرة مجنون. الشهيد دستواره، ولد عام 1949م في طهران. بعد استشهاد الشهيد همت أصبح نائبًا للشهيد عباس كريمي في فرقة "محمد رسول الله" صلى الله عليه وآله وسلم، بعد استشهاد كريمي قائد الفرقة في عمليات كربلاء الأولى. واستشهد بمدينة مهران بتاريخ 3/7/1986 م، وقد سبقه أحد إخوته، كما التحق به أخوه الثاني شهداء في الدفاع المقدس.
 
 
 
 
 
186

180

الاستخارة

 الله" صلى الله عليه وآله وسلم بالتعاون مع الإخوة من أهالي طهران، وبقيادة الحاج أحمد متوسليان.


كنت قد أسلفت سابقًا أننا عزّزنا الاستطلاع والمعلومات كثيرًا، كان الإخوة يتوغّلون من محاور: شوش، جسر نادري، منطقة أخرى تعرف بمحور بئر النفط، ومرتفعات سبتون، ليحصلوا على المعلومات من قلب العدو ويحملوا إلى المقر أخبارًا جديدة.

حتى إني أذكر أنّ الحاج كاظم حقيقت الذي كان من شباب شيراز في محور فارسيات، وألحق بمجموعة مهدي زين الدين للاستطلاع، كان يصحب محسن رضائي معه إلى الخطوط الخلفية للعدو، ويريه مدفعيتهم على بعد كيلومترين فقط. ففِرق الاستطلاع كانت تعمل على مراقبة العدو بدقّة إلى هذا الحد. علمًا أنّ العدو نفسه قد هيّأ الأرضية لذلك، حينما بلغ (أواخر)عام 1980م مرحلة التوقف الإجباري عن الاستمرار في العدوان، وأخذ يدافع عن مواقعه التي احتلها في خطوط ومحاور غير منظمة، بحيث لم يكن لديه أي خط مستقيم في أي منطقة، ما جعل استطلاع مواقعه، بل النفوذ داخلها وتدمير مدفعيته أمرًا سهلًا، عبر خطوطه الخلفية.

فيما بعد، علمنا من خلال وثائق العدو وتقاريره أنّه يقوم برصد تحركات فرق الاستطلاع الإيرانية، مثلًا ذكر ضابط الرصد المعادي في تقرير له أن فريقَ استطلاع إيرانيًّا قد اخترق منطقة "تي شكن" المرتفعة شمال غرب "دشت عباس" لجمع المعلومات. لكن الضابط نفسه عاد ليؤكد في تقريره أنه لا يتوقع أي هجوم من تلك المرتفعات بسبب وعورتها، وأن هذا المحور لا يستوعب شنّ أي هجوم منه. 

حينها، اعتقدت أنّ الضابط العراقي محقّ، لأن شن هجوم انطلاقًا من تلك المرتفعات الوعرة نحو الأسفل، ومشاركة قوات كبيرة،
 
 
 
 
 
187

181

الاستخارة

 وعبورهم من مضيق جبلي ضيق جدًا أمرٌ مستبعد. لكن الإخوة ما لبثوا أن فعلوا ذلك ليلًا، ونجح هجومهم.


وهكذا، رغم كل تلك الخطوات الاحتياطية، والنشاطات الواسعة لرصد مواقع العدو وتكتيكاته الدفاعية، ومراجعتنا تلك المعلومات كلمّا اقترب موعد الهجوم، إلا أن وضع تسليحنا كان سيئًا، ولم نكن نملك توازنًا مع العدو إلا في قواتنا الحاضرة والمؤمنة، أما في مجال التسليح والتجهيز، فكان الفارق بيننا كالفارق بين الأرض والسماء.

لكنّنا قمنا بنشاطات هندسية كثيرة، هي ثمرة إيثار وتضحيات الإخوة في مؤسسة جهاد البناء والفرق الهندسية للجيش والحرس، وأهمها فتح "مضيق ذليجان" وشق طريق في منطقة وعرة جدًا، والدعم المستمر طوال مراحل شق الطريق وبناء التحصينات المختلفة.

وفي جانب آخر، قام الإخوة في جهاد البناء بمؤازرة عناصر الصحة بتجهيز أول مستشفى ميداني كبير يضم غرفة عمليات، مما ساهم في إنقاذ الجرحى بشكل فعّال.

توجهت مع الأخ رشيد والشهيد باقري إلى المنطقة التي تُدعى بئر النفط ومرتفعات "تي شكن" لدراسة وضع القوات فيها، كانت إحدى سيارات لواء الإمام الحسين عليه السلام التي تحمل مدفعًا مزدوجًا مضادًّا للطائرات قد سقطت أسفل الوادي، بينما يقف مسؤولو اللواء والمقاتلون الذين أنقذوا السائق الجريح متسمّرين وهم ينظرون إلى أسفل المرتفعات، ويشيرون إلى السيارة بأيديهم. عندما وصلنا إليهم وجدنا أنهم اشتعلوا غضبًا، حتى إنّ أحد الشباب من أصفهان خاطب الشهيد باقري قائلًا:
- يا أخ حسن هل رأيت كيف فقدنا كل رأسمالنا؟!

فقد كان يعتبر ذلك المدفع المضاد للطائرات مهمًّا جدًا لهذا اللواء
 
 
 
 
 
188

182

الاستخارة

 إلى درجة أنّه بات رأسماله.


وقد وصل بنا شحّ التسليح إلى درجة أننا في ليلة بدء الهجوم، باتت قوة المشاة جلّ اعتمادنا. ولم نعتمد على نيران المدفعية كثيرًا. علمًا أنّ قوات الحرس والجيش كانا قبل تنفيذ الهجوم قد أعدّا معًا أربعة مراكز قيادة تكتيكية; فاتساع المنطقة، وضرورة التنسيق بين الجيش والحرس، أجبر المسؤولين على ذلك1.

هذا هو ظاهر القصة، لكن خلف الستار كمنت بعض الأمور المبهمة، وترددٌ كبير في اتخاذ القرار حول العمليات، واختلافُ الآراء حول كيفية العمليات كان سمةً بارزة بين قادة العمليات في اجتماعاتهم. فرأى بعضهم ضرورة حفر القنوات للنفوذ منها ليلًا إلى العدو، أو إلى جبهته الخلفية. بينما رأى بعض آخر ضرورة التريّث وزيادة عديد القوات بسبب اتساع منطقة العمليات، رغم وجود مئة كتيبة من الحرس والتعبئة و35 كتيبة من الجيش. وكان مبرّرهم للتريّث أننا بعد الانتصار لن نتمكن من الاحتفاظ بهذه المناطق الواسعة من خلال هذا العديد فقط، خاصة أنّ العدو أحسّ بتحركاتنا قبل أيام من شن الهجوم، وبدأ بالاستعداد، وقد شنّ هجومًا من الرقابية ضد
 
 

1- مقر القدس كان من بين تلك المقرات، وتوالى على القيادة فيه الأخ عزيز الجعفري والعقيد شهبازي لقيادة لواءين من الجيش وثلاثة ألوية من الحرس كانت مستقرة شمال غرب خوزستان ومقابل مرتفعات تي شكن ومنطقة بئر النفط. المقر الآخر هو مقر النصر بقيادة حسن باقري والعقيد حسني السعدي وعديده أربعة ألوية من الجيش وثلاثة ألوية من الحرس، يتموضع عند جسر نادري ومرتفعات سبتون شمال شوش. والثالث مقر الفجر بقيادة مجيد بقائي والعقيد أزغمي بعديد فرقة من الجيش وأربعة ألوية من الحرس ويتموضع في الجبهة الشرقية مقابل مدينة شوش. والرابع مقر الفتح بقيادة السيد رحيم صفوي والعقيد نياكي بعديد ثلاثة ألوية من الجيش وثلاثة ألوية من الحرس ويتموضع جنوب غرب شوش وجبال ميشداغ. بعد هذه العملية وقبل عملية تحرير خرمشهر أصبح رحيم صفوي مسؤول عمليات مقر كربلاء، ورشيد قائد مقر الفتح، وكلفت أنا وبعض الإخوة بتولي مسؤولية الأقسام المختلفة لهذا المقر. أنا رئيس أركانه، ومحمد باقري الأخ الأصغر لحسن باقري مسؤول الأمن، وأصغر كاظمي مسؤول العمليات، والشهيد صنيع خاني المدير الداخلي.
 
 
 
 
189

183

الاستخارة

 مقر الفجر، ورغم تقهقره سريعًا، لكن تموضعنا اختل هناك، وزاد من التردد.


هذه الحال أدّت إلى رفع الأمر إلى سماحة الإمام الخميني للاستشارة، فاقترحوا أن يقصد أحدهم طهران للقاء سماحته. أذكر أننا كنّا في مقر كربلاء قرب دزفول وكان أحد طياري القوة الجوية حاضرًا في الاجتماع فقال:
- من يريد الذهاب يمكنني أن أنقله بطائرة (F-5) إلى طهران خلال 20 دقيقة1.

نظر الشهيد صياد الشيرازي إلى الأخ محسن رضائي قائلًا:
- من الأفضل أن تذهب أنت للقاء سماحة الإمام الخميني قدس سره، لتعرف رأيه، وتعود سريعًا.

وافق الأخ محسن، واتصل بمكتب الإمام الخميني للتنسيق، وتوجّه إلى طهران.

قدم الإمام الخميني بعض التوصيات العمليّة، ورفض أن يعتمد على الاستخارة، وقال: "إذا لم تصلوا إلى نتيجة واتفاق، استخيروا أنتم".

يبدو أنّ الأخ محسن رضائي أثناء عودته إلى مقر كربلاء قد استخار الله، فكانت النتيجة آية ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾، لذلك أطلق على العملية اسم "الفتح المبين"، وأخبر سائر القادة بذلك، فوضعوا تردّدهم جانبًا واستعدوا لتنفيذ الهجوم.
 
 

1- تمت تلك الرحلة بطائرة (F- 5) للتدريب، وهي صالحة لحمل شخصين.
 
 
 
 
 
190

184

رواية الفتح

 رواية الفتح


إنّ أهمية الانتصار في عمليات "الفتح المبين" تكمن في إبعاد كثير من مدن وقرى جنوب محافظة خوزستان وغربها، مثل: "شوش" و"دزفول" و"أنديمشك"، عن مدى قذائف المدفعيّة العراقيّة ومجال صواريخ أرض- أرض. وبتحرير المنطقة التي تقع غرب نهر "كرخة"، تنفّس أهالي خوزستان الصعداء، وتحرّر بذلك شمال هذه المحافظة بالكامل. كان العدو قد حرمنا طوال سبعة عشر شهرًا من التنقّل عبر خمس طرق مواصلات أساسية في "خوزستان"، أهمها طريق "دزفول- دهلران". 

تحدّدت أربع نقاط للهجوم في عمليات "الفتح المبين" هي: "شوش"، مرتفعات "سبتون"، جبل "ميشداغ"، مرتفعات "تيشكن". وكان انطلاق الهجوم فجر يوم 21/3/1982م، مع تغطية ضعيفة جدًا من المدفعية الثقيلة والهاون. في المقابل، حشد العدو ثماني فرق أساسيّة مجهّزة، فبدأت معركة غير متكافئة، خاضتها قوّاتنا بصورة قتاليّة ملحمية. 

لم تكن الحرب في منطقتي "دشت عباس" و"عين خوش" الواسعتين جدًا كمعركة فك الحصار عن "عبادان" حتى تنتهي خلال يومين ويتحقّق النصر خلالهما. فالتحضير لهذه العملية استغرق أشهرًا عدة، من تخطيط واستطلاع، وتشكيل أربعة مقارّ للقيادة، ومشاركة ستّين ألف مقاتل موزّعين على أربع مناطق. كان الهدف الاستراتيجي
 
 
 
 
 
191

185

رواية الفتح

 للعملية هو محاصرة فرق عدة للعدو، ودفع خطوطه الخلفية التي تضم ثلاث عشرة فرقة ولواء.


بدأت عمليات "الفتح المبين" بحادثةٍ لطيفة حصلت معي ومع القائد رشيد. فقد أُنشئ مقر أساسي لمركز قيادة "كربلاء" قرب "سد دز" ليكون أقرب إلى منطقة العمليات، وكان المكان الجديد مستحدثًا بحيث كان يتوجّب عليّ، كمسؤول تأمين القوات القتالية، وعلى رشيد كمسؤول للعمليات في مقر كربلاء، أن نستعلم لنصل إلى المكان بسيارة "بيكان".

وصلنا مدينة "شوش"، ومن هناك، سلكنا طريقًا لجهة اليمين ينتهي عند السد. كان يتوجّب علينا قبل بلوغ السد أن نجد الطريق المؤدّي إلى المقر، لكن أي لوحات إرشادية لم تكن موجودة لتدلّنا عليه. مررنا بطرق عدة فرعية يظهر أنها ممرات مخصّصة نحو مجموعة أو كتيبة ولا تبدو كممرّ رئيس نحو مقر القيادة المشتركة للجيش والحرس.

لكنّنا تقدّمنا حتى رأينا عن بعد (300) متر حارس السد، ما يعني أننا قد سرنا كيلومترات إضافية. وقد حان موعد الاجتماع في المقر، ولم يبقَ أمامنا مجال للتجوال، ممّا دفعنا إلى العودة من حيث أتينا، ولم يخطر ببالنا أنّ الحارس سيظن أنّنا من الطابور الخامس أو من المخربين، وأنه قد يستهدفنا.

فجأةً، انهمر الرصاص علينا يمنةً ويسرةً، فضغطت على دواسة البنزين وانطلقت بسرعة (120)، في حين كان الأخ رشيد يصرخ بي: "توقف"، لكنني لم أُصغِ إليه. فضربني على كتفي بقبضة يده مرات عدة صارخًا: "قلت لك توقف". لكنني اعتبرت أن الوقوف يعني الموت، بينما رأى رشيد أنّنا يجب أن نتوقّف كي نبقى أحياء، تابعت طريقي لشدة خوفي، إلى أن وجدت شارعًا فرعيًّا انحرفت نحوه، فإذا هو طريق المقر.
 
 
 
 
 
192

186

رواية الفتح

 ترجّلنا من السيارة التي أصيبت بعشرات الرصاصات، فقلت للأخ رشيد: "رحم الله والِدَي الحارس لأنه لو رفع سلاحه إلى الأعلى قليلًا لأصاب منّا مقتلًا".


- إذًا فلنعد إليه لنقدّم له جائزة على لطفه بنا.

ضحكتُ وقلت: "أعطني الجائزة، لأنني لم أنفّذ طلبك بالتوقف، وأوصلتك إلى المقر حيًا".

كانت خطّتنا مرهونة بتنفيذ أربع مراحل تصل بنا إلى النصر الكامل. في المرحلة الأولى، شنّت كتائب مقر القدس هجومًا انطلق من غرب "نهر تشيخاب" وتمكّنت في الساعات الأولى من تحرير منطقة واسعة من "عين خوش" وسدّت الطريق على الخطوط الخلفية للعدو. لكنّ العدو نفّذ هجمات متلاحقة حتى استعاد بعض النقاط.

وعندما قام الإخوة في فرقة "27 محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" باختراق الخطوط الخلفية للعدو في منطقة "علي غره زد"، أُسكتت مدافع العدو، ممّا اضطره للتوقف عن هجومه المضادّ ومن ثم التراجع.

وتمكنّا في هذا المحور من تحرير مثلث طرق "قهوه خانه"1 ثم مرتفعات "شاوريه".

أما في محور "مقر الفجر"، فلم نحقّق أي تقدّم بسبب مقاومة العدو القوية، بل اضطرّت قواتنا إلى التراجع في هذا المحور، ما أتاح الفرصة لعدد من قاذفي (B7) باصطياد دبابات العدو وترتّب على ذلك توقّف القصف على الإخوة في تلك المنطقة.

بعد مرور يومين، بدأت المرحلة الثانية من العمليات، حيث لم يكن
 
 

1- أو تقاطع المقهى.
 
 
 
 
193

187

رواية الفتح

 العدو يتوقع أن نهاجمه من محور مغاير خلف مرتفعات "ميشداغ". هذا الهجوم الصاعق الذي انطلق من مضيق "ذليجان" و"الرقابية" ومرتفعات "ميشداغ" تسبّب بتشتيت قوات العدو التي مارست ضغطًا شديدًا على وحدات مقر القدس، وتمكّنت من محاصرة قوات الأخ "خرازي"، إلا أنه رفض الانسحاب والتراجع إلى الخلف، فضلًا عن اختفاء كتيبتين لساعات عدة، لكنهما ما لبثتا أن عادتا إلى ميدان المعركة. لم يسلم العدو من المفاجآت، فتعرّض من جديد لهجوم مباغت من خلف خطوطه شنّته قوات "مقر الفتح"، وأُسر عميد عراقي سرد لنا ما حدث معه: 

"بعد انتصاركم علينا في المرحلة الأولى، كنا نعلم أنّكم ستشنّون هجومًا ثانيًا، لذلك أصدرنا أمرًا بالبقاء على استعداد تام، وتأهّبت قواتنا داخل المتاريس وهم ينتظرون صدّ أي هجوم. لكن الانتظار طال، ولم يحصل أي تحرّك على الجبهة، فظننّا أنّ الهجوم قد أُلغي، ولم يعد من مبرّر للاستنفار. ونظرًا لحالة الاطمئنان التي شعرت بها، فإنّني بتّ ليلتي بالملابس الداخلية. وأثناء نومي، أحسست أنّ فخذي يؤلمني، فاستيقظت لأرى ما الأمر، فرأيت مقاتليكم يوقظونني ليأخذوني أسيرًا".

أما قوات العدو فقد ضلّت طريق الهرب، فتركوا معظم أسلحتهم وآلياتهم في المستنقعات المواجهة لهضبة "السندال" في منطقة "مقر الفتح".

وهكذا، شاءت الصدف أنّ المستنقعات التي لم تتمكن فرق استطلاعنا من العثور عليها، وذكرها في التقارير، أرشدنا إليها ذلك الحشد الكبير من الآليات والدبابات وناقلات الجند العراقية الذي علق فيها، ولولا ذلك لعلقنا فيها أيضًا!
 
 
 
 
 
194

188

رواية الفتح

 وبنهاية المرحلة الثانية من عملياتنا، شنّت قوات العدو هجمات جنونية بكل الاتجاهات، فتصدّت لها الوحدات التي طهرّت المكان منه، وكان أشرس تلك الهجمات يستهدف محور "مقر الفتح"، ومضيق "الرقابية"، حيث وقعت معركة حامية، فشل العدو خلالها في اختراق خطوطنا الدفاعية، أو السيطرة عليها. 


عندما يئس العدو في هجماته المتكرّرة من تحقيق أي تقدم، وبيّنت تقارير استجواب الأسرى أن نظام القيادة قد تفكّك، اغتنمنا الفرصة، وصدر الأمر ببدء المرحلة الثالثة من العمليات، لا سيّما بعد إعلان بيان الإمام الخميني الذي كانت نتيجته رفع معنويّاتنا عاليًا، ولم يعد أحدنا يحسّ بالتعب، ورفض كثير منّا استبدالهم بقوات جديدة، وقرروا الاستمرار في القتال حتى آخر مراحله.

كان هدف العمليات في المرحلة الثالثة هو محاصرة الوحدات العراقية بشكل كامل، ويبدو أنّهم أدركوا ما كنّا نهدف إليه ففضّلوا الهرب على المواجهة، وقد أدّى تقهقرهم إلى تحقيق أمرين هامّين:
الأول: إيجاد الأرضية المناسبة لاتصال مقراتنا القيادية بعضها ببعض.

الثاني: اضطرار العدو للتخلي عن مضيق "أبو غريب" الذي كان يشكل نقطة استراتيجية له، وذلك بسبب الهجمات المتلاحقة التي قمنا بها، ما دفع القوات المعادية للاستقرار في منطقة "تشنانة" و"دو سلك" وغرب مرتفعات التينة.

لقد عثرنا على وثائق خطية كثيرة تركها العراقيون في أرض المعركة، وقد تمّ نشر بعضها، من بينها رسالة مهمّة من وثائق الفرقة الخامسة المدرّعة للجيش العراقي، موقّعة من "ماهر عبد الرشيد" يقول فيها:
 
 
 
 
 
195

189

رواية الفتح

 إن الأسلوب القتالي للعدو خلال المعركة الأخيرة في منطقة انتشار الحرس الثوري الرابعة، أي "شوش - دزفول" امتاز بالخصائص الآتية:

1- قوة المشاة: شكّلت الركيزة الأساس في العمليات التي شُنّت بواسطة قوات كثيرة العدد ويُعتمد عليها، وعندما تأكد العدو من تحقيق انتصاره المحدود، زجّ بسلاح المدرّعات إلى أرض المعركة.

2- قام العدو بمهاجمة جناحي قواتنا بقواته الأساس، وأمّن جبهته بأقل عدد من القوات.

3- اعتمد العدو أسلوب القتال والهجمات في الساعات الأولى من الليل.

4- أراد العدو من عمليّاته الهجومية الوصول إلى مقرات الوحدات، والأركان، ومواقع المدفعية، ليتمكّن بذلك من شلّ بنية القيادة ومراكز الدعم الناري.

5- لم يستخدم العدو في هجماته النيران المباشرة، بل استخدم نيران المدفعية الثقيلة والمؤثرة أثناء عملياته.

6- بخلاف قواتنا، لم يتمكن العدو من التفوق علينا في استخدام القوات الجوية والمحمولة جوّا، على الرغم من استخدام هذه القوة في العمليات أكثر من ذي قبل1.

لكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحدّ، وإنّما جرت المرحلة الرابعة من العمليات، لأنّ الصراع مع العدو لا يزال قائمًا. وفي هذه المرحلة تمكنّا من توحيد كل مقرات القيادة، فتواصل مقر النصر ومقر القدس مع مقر الفجر إثر المواجهة مع العدو، واستأنفت القوات زحفها نحو الحدود برفقة مقاتلي مقر الفتح الذين عبروا مضيق "ذليجان"،
 

1- دونت هذا النص في دفتر ملاحظاتي بعد العمليات من دون ذكر تاريخه ورقمه.
 
 
 
196

190

رواية الفتح

 وتوجهوا نحو "برغازه ودو سلك".


كانت خسائر العدو جسيمة، فقد أُسر له 17000 رجل، وسقط من جنوده أكثر من هذا العدد بين قتيل وجريح، ما ترك أثره على العدو خيبةً وفشلًا، ما جعله يتوقع استمرار الهجمات عليه، واحتمال دخول أراضيه أيضًا. لكن في صباح يوم 29 آذار، أعلنت إيران انتهاء عمليات "الفتح المبين"، فتنفّس العدو الصعداء، وشرع ببناء ودعم المواقع التي انسحب إليها غرب نهر "دويرج"، وتحت تلال "أبو غريب"، وفي "برغازه"، و"عين خوش".

لم نكن نظنّ أنّه بإمكاننا أن نحرّر كل تلك المناطق خلال عشرة أيام، لولا السرعة الفائقة التي تحرّكت بها قواتنا على الجبهة، ولذا، كان القادة والمقاتلون بعد عمليات "الفتح المبين" مندفعين بقوة لإكمال المعركة، وملؤهم الإرادة والعزم، وبالخصوص أنّ الدعم قد أتاهم من حيث لم يحتسبوا، فباتت وحداتهم غنيّة بالأسلحة والمعدات التي غنمتها من العدو، فللمرة الأولى تمتلك قوات حرس الثورة الإسلامية سلاح المدفعية من غنائم تلك العمليات.

في الجانب الآخر، أدرك العدو أننا سوف نتوجّه سريعًا نحو تحرير مدينة خرمشهر، لذا شرع بوضع الموانع المعقدة والصعبة حول تلك المدينة، وأعلن عن استعداده وتجهيز ثماني فرق كبرى.

كلما ذُكر اسم عمليات "الفتح المبين"، كانت أفكاري تتّجه مباشرة نحو مرتفعات "شوش"، وأتذكر الحاج "شير علي سلطاني"، ذلك الشاعر والقارئ المعروف من شيراز، كان حقًّا سلطان قرّاء "شيراز" ومنشديها.

ذاع صيت "شير علي سلطاني" سريعًا في شيراز، وكذلك في أوساط
 
 
 
 
 
197

191

رواية الفتح

مقاتلي محافظة فارس، لقد أدّى دور شاعر أهل البيت ومنشدهم، فكان له أسلوبه الخاص في الإنشاد، الذي يصدر من صميم قلبه، ما يترك تأثيره العجيب على المستمعين. ولا أنسى أبدًا جسمه الممتلئ وقامته الطويلة حين يقرأ المجالس الحسينية للمقاتلين قبل عمليات "الفتح المبين" بصوت مميز وحنون، حيث كان يفتتح مجلسه بهذا التعبير: "إلهي، هل نوفّق نحن خدّام الإمام الحسين عليه السلام أن نكون في صحراء المحشر مقطوعي الرؤوس كأسيادنا حتى لا نخجل منهم؟".

كانت هذه الجمل تصدر من صميم قلب الحاج "شير علي" بنيّة صافية، فتمنح المقاتلين شجاعة عجيبة لخوض القتال.

كما أنّ الحاج "شير علي" نفسه قد حقّق أمنيته ليلة تنفيذ العمليات في المرتفع "122 شوش". فقد أصابته قذيفة (B7) مباشرة، وفصلت رأسه عن جسده. وفي اليوم التالي، قام الحاج "موسى رضا زاده" مع بعض الإخوة بمرافقة أجساد الشهداء إلى شيراز، ومنهم جسد الحاج "شير علي".

وفي شيراز، صلّى على أجساد الشهداء آية الله الحائري، واندفعت والدة الحاج "شير علي" وسط الجموع وهي تقول: "إنّ ابني أوصاني بدفنه في القبر الذي أعدّه بنفسه، وأمر الشيخُ الحائري أن يُعمل بوصية الشهيد".

والمفاجأة التي كانت تنتظر المشيّعين لحظة إنزال جسد الحاج "شير علي" إلى القبر، الذي كان قد حفره بنفسه في باحة مسجد المهدي -الذي بناه بنفسه أيضًا - في شارع زرهي شيراز، أنّه على قياس جسده من دون الرأس! وكأني به قد تعمّد حفر القبر على هذا النحو، بحيث لا يتّسع لجسده ورأسه، ولو كان الجسد تامًّا لما نزل في القبر.
 
 
 
 
 
198

192

رواية الفتح

 كذلك لا يمكنني أن أنسى عالم دين فاضلًا كان موجودًا معنا في تلك العمليات، وكلّما تذكرته غمرتني السكينة والهدوء، ولم أعد أذكر اسم عائلته. كان سيدًا من أهل المعنى، يشبه آخرين مثله، لكنّه من القلائل الذين يتركون أثرًا، فعندما يتكلم تلتقط كلامه سريعًا، وتعمل به. كان يذكر دائمًا قصر العمر، وعدم تعلّق القلب بالحياة، ويقول: 

- بين الإنسان والآه هناك العمر الذي لا قيمة له... فالحذر الحذر من أن نحَدّث قلبنا بطول العمر، إنها الخسارة والفشل. وأن نظن أننا إذا رحلنا سريعًا فسنموت؟ فكم من أناس رحلوا سريعًا وفازوا، وكم من أناس أطالوا البقاء ثم ذهبوا ولم يفوزوا.

كان دائم الذكر لآيات القرآن والأشعار والأمثال، ويشرح حكمًا لأمير المؤمنين علي عليه السلام. أتذكر من أقواله هذه الجملة ممّا قاله عظماؤنا: "قلب الأحمق في لسانه، ولسان العاقل في قلبه" أو "قلب الأحمق وراء لسانه، ولسان العاقل وراء قلبه". وكان يلتزم بقلة الكلام واختصاره.

رافقته مرة قبل العمليات من مقر كربلاء إلى محور "جسر النادري"، فقال لي: "إذا انتصرنا إن شاء الله، ووصلنا إلى (تقاطع المقهى) ذكّرني أن أرتدي عباءتي وعمامتي".

ابتسمت وقلت له: "يبدو أنك تمزح مولانا، فتقاطع المقهى محتلّ، وهو بيد العدو منذ سبعة عشر شهرًا".

فتأوّه قائلًا: "نعم كنت أمزح، لكن قلبي لا يزال متعلّقًا هناك، ففي الأيام الأولى للعدوان، كنت مبلّغًا في إحدى وحدات الجيش، حين شنّ العدو هجومًا سريعًا جدًا واتجهتْ قواته نحو جسر النادري، فانسحبنا من المكان حيث نسيت عباءتي وعمامتي، ولم أتمكن من العودة
 
 
 
 
 
199

193

رواية الفتح

 لاسترجاعهما. بقيت لمدة أسبوع أقاتل وأؤم الجماعة من دون عمامة وعباءة إلى أن توقف العدوان، عندها ذهبت إلى السوق واشتريت عمامة وعباءة".


عندها قلت له: "مولانا، لعلّك أتيت للمشاركة في عمليات الفتح المبين لتستردّ عمامتك وعباءتك؟". فتبسّم ولم يقل شيئًا.

بعد انتهاء العمليات بيومين، بلغني أنّ هذا العالِم قد استشهد عند "تقاطع المقهى"، فبكيت متأثّرًا عندما تذكرّت آخر كلماته، حين حمل سلاحه وتوجّه للمشاركة في الهجوم، وكنت قد طلبت منه أن يوجّه لي نصيحة، فأجاب كعادته باختصار مفيد ما مضمونه عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "إذا لم تحصل على ما تريد، فلا تقلق على ما أنت فيه".
 
 
 
 
 
200

194

فراشات اليقين

 فراشات اليقين


في تلك الغرفة الصغيرة المخصّصة للقاءاته الخاصة، كنّا نقعد خاشعين على الأرض يزاحم بعضنا بعضًا، تمتلئ الغرفة برجالٍ تسمّرت أنظارهم نحو رجل كبير في السن جالس على كرسيّه ليصغوا إلى حديثه.

لعلّها كانت أجمل اللحظات والدقائق في حياة كل القادة والمقاتلين الأساسيين خلال سنيّ الحرب، إنها اللقاءات مع سماحة الإمام الخميني بعد العمليات. رؤية هذا العجوز الحكيم، تحطّ عن أجسادنا تعب العمليات وعنائها، وكأنّ ماءً باردًا يصبّ على أحزاننا لفقد الإخوة الشهداء فتطفئ حرّها وتسكّنها.

ما كان يجري في تلك اللقاءات يبقى حاضرًا في ذاكرتي، فقد كانت دروسًا عظيمة، تعلمت منها الكثير. لذا كنت أراقب كلّ حركة وأي انفعال يظهران في ملامح هذا الرجل السماوي العظيم، لأنّ كل حكمة ينطق بها كان تأثيرها علينا أعمق من قراءة عشرات الكتب في الأخلاق والعرفان.

في أحد تلك اللقاءات، ما إن دخل الإمام الخميني إلى الغرفة وجلس على كرسيّه، حتى قام الشهيد "حسن باقري" مستأذنًا بالتقاط صور عدّة مع سماحته للذكرى. أجابه الإمام الخميني: "لا مانع في
 
 
 
 
 
201

195

فراشات اليقين

 ذلك بنيّ"، فأشار أحد الحراس إلى أنّ فلاش الكاميرا يؤذي عيني الإمام. عندها أضاء حسن مصباح الغرفة للاستعاضة به عن فلاش الكاميرا، والتقط سريعًا أربع صور، وقعد على الأرض. 


عمّ الصمت في الغرفة، واستعدّ الأخ "محسن رضائي" لقراءة تقريره، لكن الإمام الخميني نهض عن كرسيّه، فنهض الجميع احترامًا له، ونظر بعضهم إلى بعض بتعجب، من دون أن يتفوّه أحد بكلمة، فمرّ الإمام الخميني أمام القادة متوجّهًا نحو مفتاح المصباح وأطفأه. كان ضوء النهار كافيًا ولا حاجة لإضاءة ذلك المصباح، لكن الأمر اللافت أنّ أيًّا منّا لم ينتبه لهذا الأمر، واللافت أكثر أن الإمام لم يطلب من أحد إطفاء المصباح، بل نهض بنفسه ليقوم بذلك.

في لقاء آخر، كان الشهيد "مجيد بقائي" قاعدًا في الصف الأول مقابل الكرسيّ الذي يجلس عليه الإمام. وقبل حضوره، كان مجيد قد أخرج قرآنًا صغيرًا من جيبه، وشرع بالتلاوة، وعندما دخل الإمام، وضع مجيد القرآن على الأرض، وأخرج ورقة من جيبه ليدوّن كلام الإمام، الذي شرع بالحديث، لكنه ما لبث أن ركّز نظره في نقطة ما، ثم سكت، وانحنى ليلتقط القرآن من أمام مجيد أخذه قبّله وبقي يحمله في يده حتى أنهى حديثه. ثم سأل: "من أحضر هذا القرآن؟".

أجاب "مجيد": "أنا أتيت به لتوقّعه لي".

وقّع عليه الإمام الخميني، ثم قال: "انتبه يا بنيّ، ليس مكان القرآن على الأرض".

خلال تلك اللقاءات، كان الإمام الخميني بإرشاداته يحوّل كل الشكوك والتردد الذي يساور القادة في الحرب، إلى فراشات يقين، أي إنها تصبح جليّةً وواضحة. ففي إحدى مراحل الحرب جرى نقاش
 
 
 
 
 
202

196

فراشات اليقين

 بين عدد من قادة حرس الثورة الإسلامية، حيث قال بعضهم: "إننا لم نتلقّ التدريب على القيادة والإدارة فكيف نصدر الأوامر ويطيعنا الآخرون؟ لذا، علينا أن نحمل السلاح ونتوجّه إلى الخطوط الأمامية لنقاتل مثل أي جندي آخر". وقال آخرون: "لعلّنا لسنا أهلًا للقيادة، وقد نقف يوم القيامة عاجزين عن تحمل مسؤولية دماء الشهداء". كانوا يشكّون بقدراتهم، ويتردّدون في اتخاذ القرار، علمًا بأنّ هؤلاء القادة كانوا دومًا في الخطوط الأمامية.


عندما سمع الأخ محسن رضائي هذا النقاش المحبط، قال لهم: "بدل أن تُشغلوا أنفسكم بهذا الكلام غير المفيد، أدّوا مهامكم الموكلة إليكم". وعلى الرغم من ذلك، ظلّ بعض هؤلاء القادة متردّدين وغير مطمئنّين. وبعد أسبوع من ذلك النقاش، جرى لقاء مع سماحة الإمام، فقدّم الأخ محسن رضائي تقريره، وطرح موضوع النقاش عليه قائلًا: "هناك بعض القادة قلقون من أن يعجزوا عن أداء التكليف، فما هو رأي سماحتكم؟".

تبسّم الإمام الخميني، ثم نظر إلى كل واحد من الموجودين، وقال: "هل تظنون أنكم ذهبتم إلى الجبهة وتولّيتم المسؤوليات باختياركم؟ إنّ أسماءكم مسجلة في اللوح المحفوظ لله تعالى، وإذا قصّرتم فتأكّدوا أنّ أسماءكم ستُمحى من هذا اللوح".

عندما خرجنا من تلك الغرفة، كان حال الإخوة وكأنّ فراشات اليقين بأجنحتها الملونة تحلّق فوق رؤوسهم.
 
 
 
 
203

197

من صباح الانتظار إلى ليل الانطلاق

 من صباح الانتظار إلى ليل الانطلاق


عندما انتهت عمليات "الفتح المبين"، اجتمع قادة الألوية في قاعدة "منتظِري الشهادة"، تغمرهم السعادة لذلك الفتح الباهر الذي لا يصدّق، من حيث إنّه تحقّق بمدّة وجيزة، ما جعلهم يعلنون جميعًا استعدادهم للمعركة القادمة. ولست أبالغ إذا قلت إنّ الصداقة والمحبة والتقارب بين قادة الجيش والحرس قد بلغت القمة بعد هذه العمليات. فلم يعد هناك أي تكلّف في التعامل فيما بينهم، بل كانوا يجتمعون معًا، ويتعامل بعضهم مع بعض بمحبة، ويتسابقون لدعوة أحدهم الآخر إلى مائدة الطعام، فضلًا عن المزاح بحرارة قبل بدء الاجتماعات. ففي الاجتماع الأول الذي عقد بعد عمليات "الفتح المبين" بدوا كأسرة واحدة، وكان جلّ اهتمامهم وتفكيرهم منصبًّا على نقطة واحدة كان اسمها "خونين شهر"1.

كانت فرحة عارمة وسعادة حقيقية تغمر قلوب الأهالي في الأزقة والأسواق، بينما سعى مقاتلو الحرس والجيش والتعبئة لأخذ مأذونيّة لأيام عدّة، ولينقلوا حصّتهم من حلاوة النصر في معركة الأيام العشرة إلى مدنهم وقراهم، ويقسّموها بين أهاليهم وأصدقائهم.
 

1- عندما سقطت مدينة خرمشهر بيد قوات صدام، وتعرّضت لأشد العذاب والعناء، أطلق عليها اسم "خونين شهر" أي المدينة الدامية، بعد أن كان اسمها يعني المدينة الخضراء أو المدينة الزاهرة (المترجم).
 
 
 
 
204

198

من صباح الانتظار إلى ليل الانطلاق

 أما فرحتنا فكانت تقتصر على النظر إلى خريطة عمليات "الفتح المبين" الكبيرة، المعلقة على الجدار في غرفة الحرب في مقر القيادة بالغولف، كنّا ننظر إليها بإمعان قبل أن نحوّل أنظارنا إلى خريطة خرمشهر، كنّا نشعر بالراحة والاطمئنان، فنتنفّس الصعداء، ولا سيّما عند النظر إلى العلامات الحمراء التي تشير إلى المناطق المحررة.


أتذكر أن أحدًا منا لم يكن ليدّعي التعب، فكل القادة كانوا على رأي واحد، علينا أن لا نمهل العدو، وأن لا نهدر فرصة الإمساك بزمام المبادرة التي لم نحصل عليها في الحرب إلا بعد مرارات كثيرة.

طبعًا، منذ البداية كان معلومًا لدى الجميع أن ظروف معركة خرمشهر مختلفة وصعبة، وهي بحاجة إلى تخطيط خاص، وإدارة قوية، وقوات كثيرة، واستعداد أكبر، وكان واضحًا لدينا أن العدو يدرك جيدًا أن هدفنا القادم سيكون غرب نهر كارون وخرمشهر. كما كنا نعلم أنّه لا يتوقع أن نشنّ هجومًا كبيرًا آخر خلال مدة قصيرة، لأنه كان يرى ذلك خارج إطار قدرتنا وإمكاناتنا، وقد استنتج ذلك من سلوكنا، ومن الفاصل الزمني الذي استغرق ثمانية أشهر بين عمليات "ثامن الأئمة" و"الفتح المبين". فكان علينا الاستفادة من أصل المباغتة، وأن نستغل الفرصة الناشئة من دهشة العدو لسرعة تحركنا خلال عمليات "الفتح المبين".

أما حماة صدام الإقليميون والدوليون، فقد كانوا على يقين أنّ خرمشهر هي الورقة الرابحة بيد صدام، وأنه لن يفرّط بها بسهولة. لذلك ركّزوا كل قدراتهم السياسية والإعلامية على دعمه العسكري العلني والسرّي، ليوحوا لنا أنّ الانتصار في هذه المعركة هو أمر مستحيل، ولن يتحقّق.
 
 
 
 
205

199

من صباح الانتظار إلى ليل الانطلاق

 لقد أراد كل هؤلاء أن تبقى خرمشهر رازحةً تحت الاحتلال، ليتمكنوا من زيادة الدعم لصدام، واستنفاد الآلة الحربية الضخمة التي تستهدف إيران واستهلاكها. لذلك كان صدّام يردّد حينها: "إذا أخذ الإيرانيون خرمشهر، فسنعطيهم مفتاح البصرة".


كان صدّام يدّعي أنه ذكي عسكريًا، لكنه خلافًا لذلك الادعاء لم يدرك أبعاد هزيمته في عمليات "الفتح المبين"، وحسب المثل الذي يطلقه أهالي شيراز: لم يلمس الهواء جرحه بعد. كان عليه أن يدرك أن غيرتنا قد تحركت، وصبرنا على رؤية خرمشهر أسيرة قد نفد، فواقع الأمر هو أن الانتصارات الحتمية في عبادان و"دشت عباس" قد علمتنا أن خرمشهر أيضًا ستتحرّر، لكن بهمة أقوى وعزم أكبر. 

خلال اجتماعات الغولف، كانت هناك روح واحدة تشع من أبدان القادة جميعًا، وعلى الرغم من النقاشات الكثيرة التي خضناها، فإنّ النتيجة التي توصلنا إليها واتفقنا عليها سريعًا هي أنّ علينا أن نقوم، خلال شهر واحد، بإكمال البنية المشتركة للجيش والحرس في إطار المقرات الأربعة، وتقوية ودعم الوحدات وتجهيزها، وتجديد القوات، ودراسة خطط العمليات بدقة أكثر. أما القرار النهائي لانطلاق العمليات فقد أوكله القادة إلى الأخوين محسن رضائي وصياد الشيرازي، وقالوا لهما: "إنّ اللحية والمقص بأيديكما، ونحن جاهزون مطيعون".

كنّا جميعًا نعلم أنّ علينا الصبر لمدة شهر، لنتّجه إلى المنطقة بعد ذلك، لئلّا نضطر إلى جمع القوّات المقاتلة مرات عدة للشرح والتوجيه، كما حصل في العمليات السابقة. كنّا نعلم أن الحديث عن خرمشهر كان يملأ الأجواء كلها، وإيران بأبنائها وقادتها كافة تنتظر خبر تحرير زهرة المدن الإيرانية.
 
 
 
 
206

200

من صباح الانتظار إلى ليل الانطلاق

 بعد أن عقدنا أحد الاجتماعات، طلب منّي رشيد أن أتوجّه برفقة أصغر كاظمي مسؤول العمليات، لنبحث عن مكان مناسب لمقر قيادة الفتح، تجاوزنا مسافة (50) كلم عن الأهواز باتجاه عبادان، حتى وصلنا إلى أطراف قرية "الخضرية" شرقي نهر كارون، القريبة من منطقة عمليات "الفتح المبين".


استغرق الأمر مدة كافية من الصباح حتى العصر، قمنا بجولة في المنطقة واخترنا مكانًا يبعد عن نهر كارون مسافة (5) كلم، مجاورًا للطريق العام، تستتر خلفه أشجار النخيل، وتقع بالقرب منه محطة اتصالات هاتفية، ورأينا أنّ هذا المكان لا يعاني من مشاكل أمنية، ولا انقطاع في الاتصالات والمواصلات.

في اليوم التالي، زار الأخ رشيد المنطقة ووافق على اعتمادها مقرًّا. لكننا عندما بدأنا الاتصالات بالأجهزة والطلب من مجموعة أشخاص ليأتوا ونبدأ أعمال تجهيز المقر، سمعنا صوت هدير مروحيّة، اقتربت من مكاننا وهبطت قربنا، وأثارت عاصفة من الغبار، فاستغربنا مجيء هذا الوحش المعدني في هذا الوقت.

هدأت العاصفة وانفتح باب المروحيّة، وخرج منها الأخ محسن رضائي مهرولًا نحونا، وقبل أن يتوقف محرك الطائرة، نهض الأخ رشيد قائلًا: "يا سيد محسن ما الذي جاء بك إلى هنا؟".

ابتسم محسن وقال: "من الواضح أنّنا حدّدنا هذا المكان لاتّخاذه مركزًا للقيادة العامة، لكنّكم ماذا تفعلون هنا في أرضنا؟".

قلت: "يا إلهي، إننا هنا منذ يومين، نبحث في كل ناحية، حتى عثرنا على هذا المكان لإقامة مقر الفتح عليه".

ضحك محسن مجدّدًا، وربّت على كتفي، وقال: "يا أخ أسدي، الأمر
 
 
 
 
 
207

201

من صباح الانتظار إلى ليل الانطلاق

 المتوافر كثيرًا هنا هو الأرض".


نظرت إلى رشيد الذي مسح بيده على لحيته ونظر إلى المروحيّة، ثم إلى محسن، وقال بلهجة من استسلم: "لا بأس، عن إذنكم سوف نذهب!".

لم نكن راضين عمّا حصل، لكن ماذا نفعل، فالآداب العسكرية تفرض أن لا يحصل ردّ فعل وأن نقبل بما تقرّر، وهذا المكان ليس لنا. لكنّنا بالطبع لم نبذل جهدًا كبيرًا حتى وجدنا مكانًا أفضل من سابقه ويقع على بُعد كيلومترات منه.

قلت لرشيد: "علينا أن نتحرك سريعًا قبل أن يأتي من يدّعي ملكيّة هذا المكان أيضًا".

وقبل أن نكمل الأسبوع، كان الإخوة في سلاح الهندسة قد جهّزوا المكان والطريق المؤدي إليه، ورُفع عمود الاتصالات. كما نشر الإخوة في أجهزة الدعم والمساندة ووحدة المدفعية أعتدتهم، حتى غرفة القيادة أصبحت مهيّأة لعقد الاجتماعات مع الوحدات.

في الخامس من نيسان عام 1982، حقّقنا استقرارًا تامًّا، استمرّ حتى التاسع والعشرين منه، أي يوم بدء العمليات، وفي تلك المدة، كانت مهمتنا منحصرة في الذهاب إلى مقرّ القيادة، وعقد اجتماعات متواصلة مع قادة ألوية: الإمام الحسين عليه السلام، النجف الأشرف، كربلاء25 من قوات الحرس. والفرقة 92، واللواء 37، واللواء 55 من القوات المحمولة جوًّا من الجيش. 

ليلة 29 نيسان، حدّدنا على الخريطة أماكن نصب ثلاثة جسور على نهر كارون، الأوّل في منطقتنا في مقر الفتح، والثاني في منطقة مقر النصر الواقع إلى يميننا، والثالث ينصب بين المقرّين. وقام
 
 
 
 
 
 
208

202

من صباح الانتظار إلى ليل الانطلاق

 العقيد "مسعود"1 قائد الفرقة 92 المدرعة، ونائب الأخ رشيد في المقر بتحريك كتيبة التمويه ليتمكّنوا من نصب تلك الجسور.


مسألة نصب الجسور المسمّاة PMP، لها قصة طويلة وتستحقّ أن تُدوّن في كتاب خاص بها، فهي تبيّن تفاصيل مهمّة الإخوة في الجيش حول هذه المسألة. وللمرة الأولى، كنت أراقب عن قرب كيف يقومون بوصل القطع التي سيتكوّن منها الجسر، بعضها مع بعض، وكانوا يطلقون عليها اسم "المسطّحة"، ومنها يُعدّون جسرًا بطول 300م، وبفترة زمنية لا تتجاوز الساعتين فقط. 

في الجهة المقابلة من النهر، ضخّ العراقيون الماء إلى الشاطئ ليصبح مستنقعًا ضحلًا، وحافظوا على خط المواجهة بموانع أقاموها، كانت شبيهة بالمراكز الحدودية المحصّنة، كما قامت وحدات العدو برفع سواتر ترابية عالية على بعد (7) كلم من النهر. لكن مباغتتنا بالهجوم لم تمهلهم لإكمالها، فبقيت غير مكتملة، واخترنا النقاط التي لا توجد مقابلها قوات للعدو لنصب الجسور فيها. قمنا بعملنا في صمت مطبق، وفي أماكن كانت أقل ضحالة لنتمكّن من العبور إلى الجانب الآخر من النهر، هذه المشكلة حلّتها فرق الاستطلاع بتحديد أماكن العبور.

استخدمت قوات الجيش شاحنات الكروس الضخمة في خطة أمنية دقيقة، بعيدًا عن أعين العدو والطابور الخامس، فنقلت بواسطتها
 
 

1- الشهيد مسعود منفرد نياكي، ولد في آمل عام 1929م من قادة الجيش المحبّبين، كان من جملة الأوائل في الجيش، وله دور كبير في انتصارات الحرب، خاصة في عمليات بيت المقدس، كان قائدًا جديرًا وفعالًا، ورغم كونه أكبرهم سنًا، لكنه لم يترك الجبهة في أصعب الظروف. خلال عمليات بيت المقدس أخبروه أن ابنته التي يحبها كثيرًا مريضة، لكنه رفض ترك الجبهة، وبعد شهرين توفي ابنه، لكنه لم يذهب إلى طهران للمشاركة في تشييعه. حتى نال الشهادة في 27/8/1985م خلال مناورات جبلية لفرقة ذو الفقار للمغاوير بالذخيرة الحية.
 
 
 
 
 
209

203

من صباح الانتظار إلى ليل الانطلاق

 (1200) متر من المسطحات من شمال محافظة خوزستان إلى شرق نهر كارون، وهي مسافة تصل إلى (250) كلم وأخفتها في بعض الأماكن قرب النهر.


هذه المسطحات لم تكن جديدة، فقبل الإتيان بها قاموا بإصلاحها وتأهيلها في مستودعات الجيش، لتكون جاهزة عندما تصل إلى شاطئ نهر كارون.

ليلة تنفيذ العمليات، واستفادةً من العتمة، تحرّك ضباط وجنود الجيش لنصب الجسور سريعًا.

كانت كل قطعة من المسطّحات تتشكّل من ثلاث طبقات، توضع على الضفّة، وتدفعها آليةً باتجاه النهر، وعندما تفلتها تفتح الطبقات الثلاث في الماء، ثم تُلقى القطعة الثانية، وهي تحمل مجموعة أشخاص في النهر، ويقوم هؤلاء بوصلها مع الطبقات الأولى وهكذا، حتى يكتمل بناء الجسر.

في حين يشرف مهندسو الجيش على تلك العملية بدقة ليتمّ كل شيء طبق التقييم الأوّلي. استمرت عملية وصل المسطحات بعضها ببعض لمدة ساعة ونصف، وأصبح أمامنا جسر مكتمل بطول (250) مترًا، لكنه ما زال عند ضفّة النهر، عندها أصدر المهندسون أمرًا بأن يقوم عدد من الأفراد باستخدام أحد الزوارق لسحب طرف الجسر إلى الضفّة الأخرى من النهر، مستفيدين من تيار المياه. وبهذا، نقل طرف الجسر بسرعة إلى الضفة الثانية، وتمكّنوا من تثبيته هناك، فصار الجسر يصل بين ضفتين، ولكي لا يحطم تدفّق الماء الجاري الجسر، مدّ فريق الهندسة أسلاكًا معدنيّة قوية - تستخدم لسحب الآليات الثقيلة - على طول الجسر، وربطوها بالضفة الأخرى.
 
 
 
 
 
210

204

من صباح الانتظار إلى ليل الانطلاق

 بات كل جسر من هذه الجسور الثلاثة جاهزًا - قبل ساعة من بدء العمليات - ليحمل على ظهره 60 طنًّا، كما إنّ الشاحنات التي تحمل الدبابات يمكنها عبوره، لكن مهمة الإخوة النشيطين في الجيش لم تنتهِ.


طوال شهر، ظلّت هذه الجسور تمتدّ وتسحب فوق النهر، فالمقاتلات المعادية كانت تقصف المنطقة يوميًا، وتحاول تدمير تلك الجسور، لكنهم لم يدركوا أننا نستخدم الجسور ليلًا فقط، وما إن يبزغ الفجر حتى يقوم الإخوة بسحب الجسور عبر الأسلاك المعدنية إلى ضفّتنا، ويقومون بتغطيتها بسواتر عشبية بحيث لا تتمكن طائرات العدو الحربية من رؤيتها، فتنال منها طوال مدة العمليات.

شهر كامل تظافرت فيه جهود الجميع لتحقيق عنصر مباغتة العدو، من خلال جهوزية الوحدات بدءًا من تأمين الطعام والمنامة، وصولًا إلى موعد بدء عمليات "بيت المقدس".
 
 
 
 
 
211

205

الشجار انطلق

 الشجار انطلق


قبل ساعة من الإعلان عن الهجوم، عبرت الوحدات القتالية الجسر، وتمركزت في نقاط خالية من قوات العدو. لقد جرى عبور القوات فوق نهر كارون بهدوء، بحيث لم يلتفت إلى ذلك أي من عناصر الكمائن المعادية وقواتهم المتقدمة.

مع اللحظات الأولى لفجر يوم 29 نيسان، صدر أمر الهجوم من القيادة المركزية، فتفاجأت قوات العدو، وكان معظمهم نائمًا، فدبّت الفوضى في أوساطهم، فمنهم من هرب، ومنهم من هام على وجهه، ومنهم من رفع يديه مستسلمًا، بينما كانت بعض الرشاشات الثقيلة تطلق النار عشوائيّا، فردّ عليها الإخوة بالأسلحة المناسبة وبقذائف (B7)، وأسكتوها.

لم تجرِ الأمور مع المحورين الآخرين كما جرت معنا، فكان تقدّم محور مقرّ "النصر" بطيئًا، أما محور مقر "القدس" الشمالي فلم يتقدم أي خطوة، لأنّ القوات المعادية، كانت متمركزة في تلك المنطقة بكثافة، فالعدو كان يتوقع أن يشنّ الهجوم المحتمل من ذلك المحور، ولذا لم يحصل شيء إلى الشرق من نهر كارون.

أما نحن فقد قضينا الليلة الأولى من الهجوم حتى الصباح من دون حوادث تذكر، وبقينا ننتظر باقي الوحدات لملاقاتنا، بعد أن
 
 
 
 
 
212

206

الشجار انطلق

 تحقّق تقدّمها.


كانت الأوامر تقضي أن نتقدم في الليلة الأولى بشكل محدود بعد عبور النهر، لكن قواتنا اندفعت بسرعة، وتقدمت مسافة عشرين كيلومترًا حتى وصلت إلى طريق الأهواز-خرمشهر، بينما كانت الأوامر أن نتقدم مسافة (5-6 كلم). فوقعنا في الحيرة والدهشة، إذ إنّ العدو لم يكن يتوقع أن نصل إلى الطريق العام بسرعة، فأضحت قوّاته غرب الطريق ونحن شرقه، ويفصل بيننا ساتر ترابي عالٍ بارتفاع (7-8) أمتار، كانوا قد أخفوا آليّاتهم خلفه احترازًا من مراقبتنا له، ولمنعنا من استهدافها من شرق النهر بالصواريخ أو المدفعية. ولذا، فإنّ القوات الخلفية للعدو كانت جاهلة بما حدث، وكانوا يمرون على الطريق باطمئنان، ويقعون في أسر قواتنا.

صباحًا، قمت بجولة في المنطقة على الدراجة النارية، وجدت أن عدّة ألوية من قواتنا قد تجمّعت داخل مساحة (500م) بانتظار الأوامر، بينما القوات المعادية لم تكن قد استوعبت الصدمة، أو تمكّنت من الاستعداد للرد، باستثناء إطلاق بعض القذائف المدفعية والرشقات النارية.

وصلتُ إلى ذلك التجمع، أوقفت الدراجة جانبًا، ودخلت بينهم صارخًا أطلب منهم الانتشار على الخط المواجه استعدادًا للدفاع عنه، لكن بُحّت حنجرتي من الصراخ من دون نتيجة، ولم أستطع إفهامهم أنهم الآن موجودون في نقطة خطرة، وأنّ عليهم الانتشار على مسافة 10 كلم حسب أوامر القيادة، لكني لم أجد آذانًا صاغية، وإن بدا في الظاهر أنهم سمعوا ما طلبت، لكنهم عمليًّا لم يأبهوا للانتشار، بل كان البعض يقول: "دعنا نرتاح قليلًا ثم ننتشر".

عدت أدراجي وركبت الدراجة مسرعًا نحو المقر، وأبلغت الأخ رشيد
 
 
 
 
213

207

الشجار انطلق

 بالوضع، فحمل الجهاز وشرع بالصراخ طالبًا من قادة الوحدات: "انتشروا سريعًا قبل أن يقوم العدو بالالتفاف عليكم ومحاصرتكم، عليكم تغطية خط المواجهة لمسافة (10) كلم!".


ما إن بدأت قواتنا بالانتشار حتى بدأ العدو بالرد، وتولّى الإخوة "أحمد كاظمي" و"حسين خرازي" و"مرتضى قرباني" قيادة صدّ الهجوم المعادي. وعندما عدت من جديد إلى خط المواجهة، وجدت الكثير من قواتنا بين جريح وشهيد. فاعتليت الساتر الترابي لأتفقّد الجانب الآخر، وجدت الطريق مليئًا بالدبابات المدمرة والمحترقة، وجثثًا كثيرة للعدو منتشرة حولها، فلم أصدق أن كل هذا من فعل قواتنا المتعبة المرهقة التي كانت قد قاتلت ليلًا أيضًا.

بعد ساعة من صد الهجوم وإفشاله، وصلت القوات الداعمة، واطمأننّا إلى أنّنا خلال المرحلة الأولى استطعنا أن نحسم المعركة لمصلحتنا بأقل الخسائر الممكنة.

إنّ معركتنا الحقيقية مع العدو لاسترداد خرمشهر لم تكن قد بدأت بعد، ذلك أنّ تقدّمنا كان نحو الغرب وليس نحو الجنوب حيث تقع خرمشهر. وكان علينا في المرحلة الثانية أن نتقدم بقوات مقر "القدس" القادمة من الجبهة الشمالية. بينما كان العدو يبذل قصارى جهده لمنع حصول هذا اللقاء، لأنه يدرك جيدًا أن وجهتنا النهائية هي خرمشهر. 

طبق الخطّة، فإن عمليات "بيت المقدس" كانت ستتمّ على أربع مراحل، وكل مرحلة تحدد مدى تقدمنا، ومتى نصل إلى نواحي خرمشهر. لكن هذه العمليات طالت واستغرقت (24) يومًا من المواجهة المستمرة، ففي كل ليلة كان هناك هجوم وتقدم نحو خرمشهر لعدة كيلومترات، طبعًا من دون وجود سواتر ثابتة في المنطقة، كما إنّ
 
 
 
 
 
214

208

الشجار انطلق

 الطعام لم يكن يصل في أوقاته المحددة ولا بكميات كافية، ولا توجد أي فرصة للاستحمام وتجنّب آثار الأتربة والغبار، ولا توجد أماكن للاستراحة، فكانت الأرض فراش الإخوة والسماء لحافهم. تغيرت ملامح الجميع، لم يعد حتى الأصدقاء يعرفون بعضهم بعضًا من قساوة تلك الظروف التي يواجهونها.


رأيت أحد المقاتلين يحمل قاذف (B7) متجهًا نحو الدبابات العراقية. أعجبتني خطواته الثابتة وطريقة مشيه، فناديته قائلًا: "قوّاك الله يا أخي". عندما عاد، نظر إليّ وقال: "كيف حالك يا أخ أسدي؟". نظرت إليه جيدًا، فإذا هو السيد "محمد كد خدا" من قادة لواء الإمام السجاد عليه السلام، وكان موجودًا معنا لفترة في فارسيات - واستشهد فيما بعد في عمليات كربلاء الخامسة - تحول رداؤه الأخضر إلى أسود بسبب الغبار والعرق، ووجهه وشعر رأسه قد غطاهما الغبار بطبقة سميكة، والشيء الوحيد الذي كان يُرى من وجهه هو أسنانه البيضاء عندما يضحك، فكانت لا تزال بمأمن من الغبار.

لم أتوقف عن التفكير بهيئة السيد "محمد كد خدا" إلى أن التقيت "نبي رودكي" قائد لواء الإمام السجاد عليه السلام فقلت له لائمًا: "ما هذا يا حاج؟ هل وصل الوضع إلى حد أن يحمل السيد محمد قاذف (B7) على كتفه؟!".

فأجاب وهو يرمي على العدو برصاص بندقيته: "عزيزي، من منّا بقي في مكانه، ليبقى السيد محمد مكانه؟! إنك ترى أننا فقدنا كل شيء، وليس لدينا مكان ثابت لإدارة القوات، ولم نعد نسيطر على أحد".

بعد بدء العمليات بثلاثة أيام، ناديت أخي صالحًا لنتوجّه معًا إلى منطقة الحسينية للاطلاع على أوضاع الوحدات. كنا لا نزال عند الطريق المجاور للمستنقعات، وبعيدين عن طريق "الأهواز- خرمشهر"
 
 
 
 
 
215

209

الشجار انطلق

 عندما رأيت خمس طائرات مروحية تحوم على بعد (300) م، أخرجت رأسي من السيارة لأنظر إليها، وقلت لصالح: "هذه طائراتنا لقد اقتربت من العدو كثيرًا، قد يرونها ويطلقون النار عليها بسهولة". وقبل أن أكمل ناداني صالح بصوت يظهر منه الخوف والدهشة: "أخي العزيز، صاروخ، صاروخ، إنها طائرات معادية، وإحداها أطلقت باتجاهنا".


فورًا، ضغطت على دواسة البنزين، ومرّ الصاروخ خلف السيارة بأمتار معدودة، فابتعدت بسرعة عن الطريق، لكنّ الصاروخ الثاني أصاب شاحنة نقل المياه التي تبعد عنا خمسين مترًا، وكانت ترش الطريق الترابي بالماء حتى لا يتصاعد الغبار، فاحترقت كليًّا. أكملت طريقي بسرعة جنونية والغبار يرتفع خلف السيارة حتى وصلنا قرب الطريق العام، حيث كان ينتظرنا مشهد آخر لا يصدّق.

شاحنة تويوتا صغيرة قادمة من طريق "الأهواز - خرمشهر" تسير على الإسفلت، وتحاول أن تميل عن الطريق، كان يركب إلى جانب السائق ثلاثة إخوة، ويجلس في الخلف عشرون شخصًا تقريبًا. كل هؤلاء في سيارة واحدة، ولم يكن الأمر عجيبًا، فهذا هو حال الإخوة المقاتلين، لكن العجيب هو أن السيارة بمجرد أن أصبحت وسط الطريق حتى أطلقت مروحية معادية نحوها صاروخًا، فرأينا ما يشيب منه الإنسان، لقد دخل الصاروخ من نافذة السائق فقُطع أنفه من سلك "صاروخ المالوتكا" وأصيبت يد من كان إلى جانبه من الإخوة الثلاثة، وخرج الصاروخ من النافذة الأخرى. حصل كل ذلك خلال ثوانٍ، السيارة دُمّرت، وقفز الشباب منها كل واحد باتجاه.

أدركتْ قواتنا أنّ المروحيات معادية، فباشروا بإطلاق النار عليها وإبعادها. وصلتُ إلى أحد الجرحى، كانت يده متدلية من كتفه، وهو
 
 
 
 
 
216

210

الشجار انطلق

 يحاول فصلها عن جسمه وهو ينادي "يا زهراء"، كان كلّ بدنه ملطّخًا بالدماء، فجمعنا كوفيات وربطنا عضده بها لنوقف النزيف.


وضعُ السائق كان سيّئًا أيضًا، وجهه غارق بالدماء، لكنه ليس في حال خطرة، ذهب أحد الإخوة وأحضر سيارة لنقل الجرحى إلى الطبابة، فتحنا مطرات الماء ورششنا الماء على رؤوس الجرحى، وقبّلناهم في الرأس والوجه..

خلال أيام المعمعة هذه، كان عليّ أن أستخدم الدراجة النارية كل يوم للقيام بجولة تفقّدية على قواتنا، أحضر بينهم، وأتفقّد المنطقة ومسار التقدم نحو خرمشهر. كانت تصادفني هناك حوادث ومناظر مؤلمة، وأرى حالات صمود وبطولات مفرحة، كانت تترك آثارها في نفسي وسط هذه الصحراء الواسعة، خلال جولاتي وحيدًا، كانت كمن يضع النقاط على الصفحة الورقية البيضاء.

وفي إحدى تلك الجولات، لفتَ نظري شيء أسود رأيته من بعيد، وعندما اقتربت نحوه فإذا به أحد المقاتلين ملقًى على الأرض بعيدًا عن باقي القوات. شكل ولون ملابسه وسلاحه ينبئ أنه من قوات التعبئة. وكأنّ الصحراء قد حُرثت فأخرجته من بطنها، بدنٌ وُضع في حفرة، رجلاه منفرجتان، يده اليسرى تحت جسده، ويمناه خلف رأسه. لم أشك لحظة أنه قد استشهد، أطفأت محرك الدراجة وتوجهت نحوه مسرعًا، سحبت يديه من تحت جسده ومن خلف رأسه، كذلك مددت رجليه، كان العرق والتراب عالقين على قدميه وجواربه، وكأنه سار في الصحراء كلها حافيًا، وحذاؤه مرميًّا إلى جانبه. رفعت رأسه، ونظفت وجهه من التراب، فرأيت على بُعد مترين منه هناك حبة شمام صغيرة مرمية، تحسّرت عليه، وقلت: "ليته تناولها قبل شهادته". لكني ما إن مددت يدي نحوها، حتى قال بصوت خافت: "دعها، أنا أريدها".
 
 
 
 
 
217

211

الشجار انطلق

 صعقت من سماع صوته، فنفرت إلى الخلف قليلًا، ثم اقتربت منه ثانية وقلت ضاحكًا:

- هل أنت حي؟!
- طبعًا، وهل عثرت على رزق مات صاحبه؟!
- لا شأن لي بها، لكن لماذا أنت مرمي هنا وبهذا الشكل المزري؟
- لم أنم منذ ثلاثة أيام.

قبل أن أتركه سألته: "هل تريد أن أشقّها لك، وألقمك إياها؟"، لم يردّ، بل غرق في نوم عميق، ولم يعد يسمعني. تركته، وأخبرت أفراد كتيبته ليذهبوا ويحضروه.
 
 
 
 
 
218

212

تحمل اللسع لتذوق العسل

 تحمل اللسع لتذوق العسل


لم يتوانَ الجيش عن تسخير كل ما لديه من إمكانات وقوات، وأما الحرس والتعبئة فقد كانوا في الهضبة، لكنّنا كلما اقتربنا من يوم الحسم الموعود، تبيّن لنا وجود الثغرات ونقص الاحتياجات الضرورية. فالقوات التي كانت جاهزة وعلى أتمّ الاستعداد في الأيام الماضية، أضحت اليوم تعبة ومرهقة. كما إنّ الإمكانات تراجعت، والذخيرة صارت محدودة، وطبيعة الهضبة المنبسطة كانت واسعة جدًا. أما قوات العدو التي تقهقرت، فتجمعت كلّها في مدينة خرمشهر، فغمرنا القلق والارتياب حول الطريقة التي سننهي بها الأمر.

التحقتْ بنا وحدات قتالية قدمت من الجبهة الشمالية، فبادرنا بهجمات مستمرة طيلة الأسبوع، واقتربنا من مدينة خرمشهر. مضت ثلاثة أسابيع خضنا خلالها عشرات المواجهات الصعبة المتلاحقة، وتقدمنا ببطء حتى وصلنا إلى المرحلة النهائية، وأضحت خرمشهر محاصرة، ونحن نتهيأ للهجوم الأخير.

بعد ثلاثة أسابيع من الحرب الطاحنة، "بلغ كفكيرنا قعر الطنجرة" كما يقول المثل المعروف، وكنا متعبين للغاية، لكن لحسن حظنا لم يتسرّب هذا الوهن إلى روح الجهاد والإيمان لدى قواتنا، إنما انعدمت الثقة بالنفس عند العدو، بسبب عدم توقعهم لما حدث، فالعدو لم
 
 
 
 
 
219

213

تحمل اللسع لتذوق العسل

 يكن يتصور أننا نريد تحرير كل تلك المناطق فضلًا عن خرمشهر في العمليات ذاتها، بل كان يظن أننا بحاجة إلى عمليات كبيرة للوصول إلى خرمشهر، والسعي لتحريرها، وهذا قد يحتاج حسب الظروف العادية للحروب الكلاسيكية وعقيدة قوات العدو إلى سنة كاملة، ولا يمكن أن يتمّ بعملية واحدة.


وهذا الظنّ قد يكون في محلّه، لو جرت العمليات حسب عقيدة الجيوش التقليدية، لأن مساحة منطقة غرب نهر كارون إلى خرمشهر تعادل 30 ضعفَ منطقة عمليات "ثامن الأئمة"، و10 أضعاف منطقة عمليات "طريق القدس"، وضعف منطقة عمليات "الفتح المبين" الشاسعة.

وأهم من ذلك كلّه، أنّ العدو لم يتصوّر أنّنا سنتمكّن خلال شهر واحد من أن نعيد تجهيز وترميم وحداتنا بعد عمليات "الفتح المبين". لذا، فإنّه وقع في خطأ فادح، وغفلة قاتلة في تقييمه وإدراكه لخططنا التكتيكية. وحاول خلال 24 يومًا أن يرصد وضعنا بدقة ليتمكّن من مواجهة أي هجوم نقوم به. لكنّنا على الرغم من التعب والإرهاق، استطعنا أن نسترجع منطقة واسعة بعملية واحدة فاقت قدرتنا على استيعابها، حيث كان اعتمادنا على قواتنا التي لم تُظهِر التململ، لا في صفوف القادة ولا في صفوف الأفراد.

إنّ فرحة حصار خرمشهر أنستنا كل ذلك، وكما قال القدماء: "إذا أردت تذوّق طعم العسل، عليك تحمّل لسعات النحل".

عند الساعة الخامسة عصر يوم (22 أيار)، طلب منّي الأخ رشيد أن أحمل رسالة إلى الأخوين: "أحمد الكاظمي"، و"حسين الخرازي" مفادها أن عليهما مهاجمة خطوط العدو الليلة، حتى لو تمّ ذلك بكتيبة واحدة لمنعه من الاستقرار. وأكد رشيد في طلبه: "لا تدعوهم ينامون، وإلا فسيرهقوننا غدًا".
 
 
 
 
 
220

214

تحمل اللسع لتذوق العسل

 كان رشيد قلقًا من وجود 35000 مقاتل، عديد العدو في خرمشهر، خشية أن يقوموا فجأةً بمحاولة لفك الحصار، بينما لا تزال قواتنا مرهقة.


توجهت إلى الخط الأمامي على الدراجة النارية، وقبل أن أصل إلى أحمد، وبالقرب من أحد كتائبه سقطت قذيفة مدفعية، أفقدتني شدة انفجارها توازني، وطرتُ عن الدراجة لأسقط أرضًا. وعندما نهضت وجدت أن ثلاثة من الإخوة قد استشهدوا، وأنّ عشرة منهم قد جرحوا. هرع كثير من الإخوة لمساعدة الجرحى، فسقطت قذيفة ثانية، ووصل قائد الكتيبة مسرعًا، وطلب عبر الجهاز من سيارات الإسعاف الحضور سريعًا.

عندما لم يتلقّ جوابًا، طلب من المسعفين البقاء إلى جانب الجرحى، ومن الآخرين جميعًا اللحاق به، فاقتربت منه وطالبته بأن يسمح للآخرين أن يساهموا في إسعاف الجرحى، سألني:
- من أنت؟

- أنا عبد من عبيد الله.

- عبد الله، ألا ترى أن قذائف المدفعية تتساقط علينا؟ هل تريد أن يصاب هؤلاء أيضًا؟ بينما أ ُمرنا أن نشنّ هجومًا هذه الليلة على العدو، ونسلبه طعم النوم من عيونه. فإذا كنّا سنستشهد فليكن ذلك في المواجهة، وليس هنا!

وقبل أن يستمع لجوابي، عاد وطلب من قواته اللحاق به.

وزّع قائد الكتيبة المقاتلين على بعض الحفر الصغيرة التي كانت معدّة لتجنّب قذائف المدفعية والهاون. كان يتحرك بين المقاتلين، ويعطي التوجيهات باهتمامٍ بالغ، وكنت أسير خلفه، بينما التفتَ إليّ وقال:
 
 
 
 
 
221

215

تحمل اللسع لتذوق العسل

 - بعد ساعة سنهاجم خطوط العدو، ونسرق النوم من عيونهم.


تساءلت في نفسي: ماذا أفعل هنا؟ هؤلاء مدركون لما يتطلّبه الموقف جيدًا، لذا أبيتُ أن أخبره أنني إذا لم أتمكن من رؤية أحمد ولم تصلكم أوامر منه، فاسلبوا العدو النوم من أعينه. ركبتُ دراجتي، فناداني قائد الكتيبة بصوت عالٍ:
- لا تقلق يا حاج، وادعُ لنا.

خلال مسيري، كنت مسرورًا لأنني عرفت ما أظهره قائد الكتيبة من فهم ودراية لمجريات المعركة، فانطلقتُ مطمئنًّا بأقصى سرعة، وأنا أستعيد ما حصل عندما كنت سائرًا خلف القائد للاعتراض على منع الآخرين من مساعدة الجرحى. أذكر أنني سمعت أحد أفراد التعبئة يناجي ربّه، فأصغيت لأسمعه جيدًا وخفّفت من خطواتي. كان شابًّا في مقتبل العمر، القبعة الحديدية فوق رأسه تهتز، وهو يدعو بحرقة شديدة ويكلّم صاحب الزمان كأنه موجود أمامه: "سيدي الحبيب، أولسنا على الحق؟ أغثنا، حبًّا لك.. لقد سلبونا النوم ليالي عدة. سيدي الحبيب لقد تعبنا، وها هم شبابنا يتناثرون أشلاءً الواحد تلو الآخر، أما آن الأوان لتغيثنا؟".

كان لأسلوبنا القتالي في الدفاع المقدس خصائصه الفريدة، لكن حربنا هي كباقي الحروب في كثير من أوضاعها، فهي تعتمد الأسس المتبعة عادةً في الحروب، وما يلزم من وضع خطّة واتباع تكتيك معيّن، وما يفرضه الواقع من إدارة وتنظيم، ثم الإشراف من قبل قيادة القوات وإصدار الأوامر والتوجيهات، وإنشاء فريق يعمل إلى جانب المقاتلين يتولى مهمة التشجيع والتبليغ المعنوي.

في تلك الليلة، رأيت بعيني كل ذلك المسار يتحقّق، في كتيبة عمليات.
 
 
 
 
 
222

216

تحمل اللسع لتذوق العسل

 فالإدراك العالي للقائد أرشده إلى تمام الخطة وإلى تحديد موعد الهجوم. ووجدت أنّ المقاتل هو الذي يرفع معنوياته بنفسه في خضم المعمعة عندما يحتاج للمعنويات.


هذه الأمور كلّها، إلى جانب الروح الملحمية للشعب هي التي أرهبت النظام العراقي والقوى الكبرى التي شنت ضدنا حربها طيلة ثماني سنوات، فخارت قواها بدل أن ترهقنا نحن.

عندما عثرت على "أحمد كاظمي"، لم أعد إلى المقر بل بقيت بين الإخوة. في تلك الليلة، لم تنم أعيننا كي لا تنام أعين أعدائنا، وكما طلبت القيادة، أبقينا قوات العدو صاحية حتى الصباح. كان النعاس يغشي الإخوة ويثقلهم، لكنّهم لم يدعوه يعسكر فيهم، وأبت تلك الليلة إلا أن تمضي ببطء شديد.

ولشدة خوف العدو، أفرغ كل قذائفه في الصحراء واستمرّ بقصفه حتى الصباح، ولم يدرِ أنّ هذا ما كنا نسعى إليه. كان علينا أن نرهقه، فالخطوط الحمراء للرصاص الخطاط، وصوت الرشاشات الثقيلة لم تنقطع طوال الليل. هذا الوضع أظهر لنا بشائر النصر، وزاد من آمالنا في رؤية خرمشهر ثانية.

عند الصباح، كما توقعنا، لم ينفّذ العدو هجومًا، وتمكنت فرق الرصد والحراسة من المراقبة بسهولة من داخل بساتين النخيل بمناظيرهم، فبشّرونا بأنّ الأمور تجري كما توقّعنا، ولتُصدِر القيادة أمرها بالهجوم النهائي.

عند الظهر، وصلت إلى المقر الرئيسي في محطة "نيمه نود". كان قادة الحرب الرئيسيون هناك - كـ"محسن رضائي" و"صياد الشيرازي"- قد اجتمعوا حول خريطة كبيرة يتفقّدون الوضع. كان يوم
 
 
 
 
223

217

تحمل اللسع لتذوق العسل

 23 أيار، وكانوا يبحثون في كيفية توزيع قوات الدعم على كل كتيبة تحتاج إليها، بينما سُمع أحدهم يقول إنّه ليس لدينا قوات إضافية في المنطقة مطلقًا، وعلينا أن ننهي الأمر بالقوات الموجودة. كان الاتصال مستمرًّا عبر الأجهزة مع قيادات الحرس والجيش الموجودة حول خرمشهر، لتلقّي التقارير باستمرار.


حين كنّا مجتمعين معًا، تحدّث بعضهم عن قيام العدو بإنشاء جسر على نهر "أروند" لإدخال قوات وتجهيزات إلى المنطقة، لكنّ هذا الكلام لم يؤكّده آخرون. حينها، دعا الأخ صياد الجميع للسكوت وقال: إذا كان ذلك صحيحًا، يجب أن يحدّد مكان الجسر بدقة، لنقوم باستهدافه بصاروخ (ماوريك). وطلب أن يقوم أحد بالتحليق بالمروحية للتأكد من ذلك، فسكت الجميع ونظر كلٌّ منهم إلى الآخر.

نظرت إلى أحد الطيارين وقلت له: "يا الله، لننطلق". لم تكن هناك فرصة نضيّعها للبحث عن الجسر، تحرّك الطيار ومساعده، وذهبت معهم نحو المروحية التي انطلقت بارتفاع منخفض بحيث كنت أغمض عينيّ أحيانًا، وأنادي الطيار أحيانًا أخرى، خشية أن نصطدم بموانع تعترض المروحيّة.

لم يطل الوقت حتى وصلنا إلى المنطقة. ارتفعت المروحية سريعًا، كنت أتلفّت في كل اتجاه بحثًا عن الجسر، وعندما ارتفعنا كثيرًا كشفنا العدو، فأمطرنا بوابل من الرصاص. أسرع الطيار بالانخفاض والدوران حول بستان النخيل، ثم ارتفع مجدّدًا، كرّر ذلك الدوران، وفي كل مرة كانوا يمطروننا بالرصاص. فتشت المنطقة جيدًا لم أر أي جسر فيها، لكن الطيار لم ينتظر طويلًا، فبعد إصابة المروحية برصاصات عدة، لم يبقَ أمامه سوى العودة، لكنّه طار هذه المرة نحو منطقة وجود قواتنا، وما إن وصلنا إلى المنطقة حتى أُمطرنا بالرصاص
 
 
 
 
 
224

218

تحمل اللسع لتذوق العسل

 أيضًا. لقد استُهدفنا من قِبَل قوات العدو، وقواتنا على حدٍّ سواء، بل إن قواتنا كانت أحرص من العدو على إسقاط المروحية، فأصابوها وأُصيب الطيار بيده، وأصيب أحد أطراف المروحية، فاضطر الطيار للهبوط والتخفّي خلف النخيل.


تسابق نحونا أفراد من لواء "الإمام السجاد"عليه السلام، كانوا من أبناء مدينتي، كان كل واحد منهم يريد الوصول قبل الآخرين ليحصل على الجائزة، وعندما اقتربوا منا، قفزت من المروحية صارخًا فيهم: "ما الأمر؟ ماذا تفعلون، لا تطلقوا النار".

لا أدري لأي سبب خفّفوا من سرعتهم، ألأنهم سمعوا صوتي أم لأنهم رأوا زيّي الأخضر، وعندما اقتربوا عرفوني، فقال أحدهم ضاحكًا: "الحاج أسدي! لقد فرحنا أننا بعد سنتين من الحرب استطعنا إصابة مروحية وإسقاطها، لكنها للأسف كانت لنا!".

حضر أحد أبناء التعبئة، كان طويل القامة، ولم يَظْهَرْ وجهه من الغبار، أخذ يتفقّد المروحية باهتمام، وقال: "يا لسوء الحظ، كانت رماية في غير محلّها".

ركبنا سيارة وتوجهتُ مع الطيار ومساعده سريعًا نحو المقر الرئيس، وأخبرناهم بعدم وجود جسر. ظهرت الفرحة على الوجوه، ثم عادوا يدقّقون بالخريطة، تمامًا كما حصل يوم 19 حزيران حين كانت العيون منصبّة على خطوط الخريطة، وعندما دخل شاب فجأةً أثناء نقاش القادة، وخاطب "محسن رضائي" من دون مقدمات: "يا أخ محسن، العراقيون أخذوا يستسلمون". 

نظر الجميع إليه، وصمتوا هنيهة. كان الشاب واقفًا فوق رأس رشيد، فنظر إليه قائلًا: "أي أسلوب هذا في تقديم التقارير؟ كم عدد الجنود؟ في أي محور؟".
 
 
 
 
 
 
225

219

تحمل اللسع لتذوق العسل

 أسئلة رشيد كانت جديدة بالنسبة إلي، كان مسرورًا ولم يُبد ذلك. فأجابه الشاب بمرارة: "وهل هذا وقت السؤال عن أصول الدين؟ لا أدري من أين، لكنّي رأيتهم بأم عيني، يخرجون من المدينة زرافات زرافات رافعين أيديهم، ألا يكفي ذلك؟!". ما إن سمع رشيد ذلك، حتى ربّت على كتفي: "أسرع يا أسدي، أسرع".


توجهنا نحو خرمشهر، وعند الوصول إلى التقاطع، رأينا بركات الله تحلّ علينا، فصف الأسرى له أول وليس له آخر، نظرنا إلى صفوف الأسرى بدهشة وذهول. وعندما أفقنا من الدهشة، أخذ رشيد الجهاز واتصل بمحسن ليطلب منه إرسال كل ما يتوافر في الأهواز من حافلات وشاحنات لنقل الأسرى، قبل أن تحلّ بنا المصيبة ونفقد السيطرة عليهم. كان قلق رشيد في محلّه، لأن نقل آلاف الأسرى يحتاج إلى أيام في الحالات الاعتيادية، وخوفًا من أن يتعرّضوا للقصف المعادي. وقف شبابنا أمام الأسرى، وأخذوا يقدّمون لهم البطيخ.

دخلنا المدينة، وتوجهنا نحو مبنى الجمارك، المكان تحوّل إلى مقبرة للملابس العسكرية، والقبعات الحديدية والأحذية العسكرية وأغراض لأفراد العدو. ضباطهم تعرّوا قبل جنودهم وقفزوا إلى النهر، أو استسلموا وهم على تلك الحال. عندما رأيت أسرى العدو ووضع المدينة تذكرت المناجاة الليلية لذلك الشاب التعبوي الذي استغاث بصاحب الزمان، وأدركت مغزاه عندما قال الإمام الخميني "إنّ الله هو الذي حرّر خرمشهر"1.
 
 

1- خلال مواجهات "بيت المقدس" الساطعة التي انطلقت بنداء: (يا علي بن أبي طالب)، تمّ أسر (19000) عسكري من قوات العدو، وقتل أكثر من (16000). فمدينة خرمشهر صمدت في وجه العدوان لمدة (45 يومًا) حتى سقطت يوم 25/10/1980م، وتحرّرت بعد 578 يومًا أي بعد 19 شهرًا. بدأت عملية التحرير في 29/4/1982م وانتهت بتحرير المدينة في 23/5/1982م.
 
 
 
 
226

220

وثيقة الحاج عمران

 وثيقة الحاج عمران


كنتُ أرفضُ، وكانوا يصرّون، وعندما فقدوا الأمل في نيل موافقتي، ذهبوا إلى محسن رضائي وجاءوا منه برسالة خطية وقالوا: "لم يعد لديك ذريعة، عليك القبول". إنهما رشيد ورحيم صفوي تكاتفا عليّ إلى أن قبلت ذلك ضمن شروط.

لم يكن ذلك لعدم رغبتي في ترأس وحدة أو كتيبة، كما إني كنت قد تعبت من عمل الأركان، لكني في ذلك الوضع لم أكن أرى من ضرورة لتشكيل قوة عسكرية جديدة لمحافظة فارس مع وجود لواء "الإمام السجاد" عليه السلام. وكنت متردّدًا خشية أن لا أحصل على القوات والتجهيزات المناسبة، فيتكرّر مصير لواء "الإمام الحسن" عليه السلام الذي حُلّ بعد عملية البستان.

لذلك، عندما جاء الدكتور "شجاعي" والسيد "حسام الموسوي" مع "محسن باكياري" كمسؤولين عن قوات حرس الثورة في محافظة فارس، أتوا إلى المنطقة لإحراز موافقتي على تشكيل لواء آخر، أخذت منهم تعهّدًا أن لا يكون ذلك الأمر شكليًا فقط، بل أن يتابعوا تعهّدهم بجد حتى النهاية.

جرى تنفيذ قرار المسؤولين بتسليم "لواء 33 المهدي" إلى محافظة فارس عمليًا وبشكل سريع، وسلمني "علي الفضلي" قواته التي كانت
 
 
 
 
 
227

221

وثيقة الحاج عمران

 تحت إمرته1. كان معظم مسؤولي اللواء والمقاتلين الذين يشكلون النواة المركزية للواء من أهالي طهران وأصفهان وكاشان وغيرها باستثناء أعداد قليلة، ذهبوا والتحقوا بألوية محافظاتهم، وبدأت عملي في اللواء بمساعدة "أمير علي أميري" و"لطف الله يد اللهي" اللذين كانا من القادة الجيدين والمستعدّين للقتال، من وحدات قوات حرس الثورة لمحافظة فارس. وخلال فترة قصيرة، جرى تزويد اللواء بالمقاتلين من أنحاء محافظة فارس، ومن مدينة بوشهر التي لم تكن تشكّل لواءً خاصًا بها، وهكذا أصبحنا جاهزين للقتال.


لكن قبل حصول هذه التغييرات، جرى تنفيذ المرحلة الأولى من عمليات "رمضان" في شرق "البصرة" خلال مهمتي كرئيس لأركان مقر الفتح، وفي المراحل الأولى من هذه العملية، جرى تحطيم الخطوط الدفاعية للعدو في محورين، واستطاع مقاتلونا الوصول إلى نهر "كتيبان" وقناة "السمك"، لكن العوائق القوية والمتعددة التي أقامها العدو حالت دون الالتقاء مع باقي المحاور، ما اضطرنا إلى الانسحاب بعد استشهاد عدد كبير من مقاتلينا.

أتذكر عندما بدأت العملية توجهت للاطمئنان إلى وضع قواتنا، خاصة "لواء 8 النجف" و"لواء 27 محمد رسول الله"، فركبت الدراجة النارية ووصلت إلى منطقة المواجهة، كان أفراد "اللواء 27" قد تركوا العازل (الساتر) الترابي، وأخذوا يتراجعون، بينما كانت الدبابات العراقية تتقدم كالجراد، وتمطر الهضبة بنيران مدافعها. صادفتُ إحدى ناقلات الجند وهي تتراجع. دقّقتُ النظر إليها، فإذا هي للحاج "أحمد كاظمي" قائد "لواء 8 النجف" ومعه الأخ شهبري من اللواء
 
 

1- جرى تسليم واستلام لواء المهدي في 22/6/1982م من خلال محضر اجتماع بحضور بعض مسؤولي قوات حرس الثورة لمحافظة فارس والمقر الرئيس.
 
 
 
 
228

222

وثيقة الحاج عمران

 نفسه. توجهت نحو الناقلة، وطلبت إيقافها والبقاء في مكانه. فقال لي الحاج أحمد: لا تظنّ أنّني أنوي الفرار، لكنّ الدبابات المعادية تتقدّم بأعداد كبيرة نحونا، وأريد أن أبتعد عنها مسافة كافية لئلّا يستهدفوا ناقلة الجند! فقلتُ بصوتٍ مرتفع آمرًا: أوقفها ها هنا.


وكان الحاج أحمد يحترم كلامي وينفّذه لأني أكبر سنًا منه، فطلب من "شهبري" إيقاف الناقلة. قلت للحاج أحمد: "إنّ ناقلتك هذه تشكّل مؤشرًا لواقع المعركة، فالآخرون لا يطّلعون على نيّتك بالتراجع لمسافة قليلة فقط، بل سيعتبرون أنك تنسحب من المعركة، وسيؤثر ذلك سلبًا على معنوياتهم".

- لكن الدبابات ستدمّر الناقلة. 

- فلتدمّرها، ترجّل أنت منها.

ترجّل الحاج أحمد و"شهبري" من الناقلة، وفي اللحظة نفسها مرّت جرافة قربنا، فهرول الحاج أحمد نحوها، وأقنع السائق أن يقيم مانعًا ترابيًّا حولها. كل ذلك لم يستغرق أكثر من خمس دقائق. ما إن أكمل سائق الجرافة عمله حتى ظهرت ناقلة جند أخرى للجيش يقودها شاب، أطلّ برأسه من الناقلة وسأل بلهجة أهل الشمال: "أين هي الدبابات العراقية؟"، ولما سألته عن السبب، قال: "لدينا صاروخ تاو". وبالفعل كان لديه ستة صواريخ تاو، استطاع بواسطتها أن يدمّر ستّ دبابات معادية.

عند اشتعال الدبابات الست، تغيّر الوضع، وارتفعت معنويات قواتنا، وتوقف زحف دبابات العدو. فيما بعد، كان الشهيد "كاظمي" كلما رآني يبتسم ويقول: "كانت ذكرى جيدة".

بعد عمليات "رمضان"، نفّذنا عمليات أخرى هي: "محرّم"،
 
 
 
 
 
229

223

وثيقة الحاج عمران

  "والفجر التمهيدية"، "والفجر1". الأولى نفذت بالاشتراك مع الجيش، والثانية قامت بها قوات الحرس وحدها، والثالثة أدارها الجيش. كل تلك العمليات اصطدمت بسدٍّ قاسٍ من الموانع والعقبات الكبيرة والمعقّدة التي أعدّها العدو، وعلى الرغم من الانتصارات المحدودة، لم تغير الوضع1.


ركز نظام صدّام بقوة على إغلاق الطرق المحتملة للوصول إلى البصرة، بدءًا بحقول الألغام الواسعة، والأسلاك الشائكة الضخمة، وأهمها بناء قناة الأسماك بطول (30كلم) وعرض (1كلم)، وضخّ إليها المياه لتتحوّل إلى مستنقع موحل كبير، هذا كلّه فضلًا عن الكمائن والمتاريس والمواقع المتعدّدة، والعوائق المثلّثة. ووضع بين كل هذه الموانع براميل سعتها 200 ليتر من مادة الفوغاز التي تنثر عند انفجارها مواد حارقة، تلتصق بالأجسام في دائرةٍ شعاعها خمسون
 
 
 

1- جرت عمليات رمضان بنداء (يا صاحب الزمان أدركني) بشكل واسع في محور شرق البصرة بين (12/7- و 28/7/1982م) بقيادة مشتركة بين القوات والجيش، وهي أولى العمليات بعد تحرير خرمشهر.
- عمليات محرم انطلقت بنداء (يا زينب) في محور موسيان ومرتفعات حمرين الحدودية بين (31/10- 10/11/1983م). وتم أسر (3400) عنصرًا من قوات العدو، واحتلال سلسلة جبال حمرين، ومصادر النفط في موسيان وبيات، والأحواض النفطية في زبيدات، وسبعين بئر نفط عراقيّة، لتعديل الظروف السيئة الناشئة عن فشل عمليات رمضان.
- عمليات والفجر التمهيدية انطلقت بنداء (يا الله) في محور (فكة – تشذابه) في (6/2- 10/2/1983م) وتعد هذه العمليات حرب الموانع والعقبات، فالعدو بعد تلقيه ضربات متعددة في العمليات السابقة، وخشيته من الحملات الإيرانية الواسعة قام بوضع (15) نوعًا من الموانع الكبيرة طوال عام كامل.
- عمليات والفجر 1 انطلقت بنداء (يا الله) في محور الجبل الفوقي بين (9/4- 16/4/1983م) وكانت العادة في كل العمليات منذ عملية "ثامن الأئمة" لفك الحصار عن عبادان وإلى بدء عمليات والفجر 1 هي تحطيم خطوط العدو ومباغتته خلال الليل وساعات نوم قواته. أما هذه العملية فكان أسلوبها هو (الهجوم في ظل ساتر ناري). وانتهت العملية بقتل وجرح وأسر (7000) عنصر من قوات العدو، وتحرير بعض مرتفعات حمرين والقرى الواقعة عند شاطئ نهر دويرج ونقطة بيتش أنغيزة الحدودية، واستعادة مساحة (150) كيلومترًا مربعًا، لكن لم تتحقق كل أهداف العملية.
 
 
 
 
230

224

وثيقة الحاج عمران

 مترًا، ليحترق كل من يوجد في المكان ويقضي نحبه.


كل هذا النشاط الذي قام به سلاح الهندسة للعدو، جعلنا نتريث، ويصبح جلّ همّنا هو العثور على طرق بديلة لتجاوز هذه الموانع. وعلى الرغم من كل ما أعدّه العدو، استطعنا بعد مدّة من خلال الابتكار، وشجاعة مقاتلينا واستبسالهم، أن نتجاوز كل تلك الموانع الصعبة، لكن "صدّام" لجأ بأسلوبه الجبان والخسيس إلى استخدام الأسلحة الكيميائية، بدعم من القوى الاستكبارية الكبرى. 

ولا ننسى أيضًا دور المنافقين في التجسّس لمصلحة العدو. حين كان المنافقون يشكّلون الطابور الخامس في الداخل الإيراني، أما على الحدود مع العدو، فكانوا العصا التي يستخدمها صدّام في قمع الشعب العراقي، وتعذيب الأسرى الإيرانيين. 

ونحن الذين أصبحنا متخصّصين في مباغتة العدو، تمكّن المنافقون خلال هذه العمليات من تسريب خططنا بسهولة، فكُشفتْ لنظام صدّام أساليبنا في المباغتة.

إن عمليات (رمضان، محرم، والفجر التمهيدية، والفجر1) شكّلت تراجعًا، وأظهرت ضعفًا، بعد انتصاراتنا الكبرى، ورفعت من معنويات قوات صدّام، لا سيّما أنّها أدّت إلى استشهاد قادة كبار أمثال: "حسن باقري" و"مجيد بقائي"، فسيطر الحزن والإحباط على مقرّ "كربلاء".

في ظلّ حالات القلق المتزايدة، دعا محسن رضائي القادة إلى اجتماع في مقر كربلاء، وقال: "لقد استعاد العدو شيئًا من المعنويات، لذا، علينا أن نقوم بعملية كبيرة ناجحة، لاستعادة زمام المبادرة، وقلب الموقف لمصلحتنا".

في ذلك الاجتماع، قدّم "مهدي باكري" اقتراحًا بأن نترك جبهة
 
 
 
 
 
 
231

225

وثيقة الحاج عمران

 الجنوب مؤقتًا على أن نتّجه نحو الغرب لتنفيذ عملية هناك. وتحدّث عن بعض التفاصيل، وحدّد منطقة "حاج عمران" للدخول منها إلى الأراضي العراقية.


بعد دراسة معمّقة ونقاش مستفيض، جرت الموافقة على اقتراح "باكري"، واتفقنا على الشروع باستطلاع المنطقة المحدّدة. وبعد أيام عدة، أرسل الأخ رشيد بطلبي، وقال: "الحاج عمران لك".

- بسند أو من دون سند ملكية؟

ضحك وقال: "خذ الإخوة واذهب لتحرق شارب الحاج عمران هذا، وأمسكه من أذنه، وائتِ به لأصدر سند الملكية باسمك".

- أمّن لنا الخبز والماء، وليبقَ السند أمانة لديك.

توجهت برفقة رشيد بالمروحية إلى مدينة "أرومية"، ثم إلى "بيرانشهر"، ومن هناك إلى مرتفعات "القمطرة" لإجراء دراسة أولية.

كانت منطقة جيدة لتوافر الماء ولطافة الجو، لكنّها وعرة وموحشة.

فليعنّا الله، من أين أتينا وإلى أين وصلنا!

أراد رشيد أن يطيّب خاطري، فقال: "عليك بأخذ وزن الشباب الآن ثم بعد العملية، لترى كيف ستتحسّن صحتهم".

ضحكتُ وقلت: "إن كان الأمر يتعلق بالأكل، فإنهم أكثر نهمًا عند آبائهم وأمهاتهم". 

الأيام الأولى التي قضيناها في "خوزستان" حملت معها الصعوبات والمرارات، واعتدنا أن لا نذوق الطعام الجيد إلا مرة في الأسبوع. فعندما كنّا في "فارسيات"، كان الحاج "موسى رضا زاده" يأتي من "الغولف" محمّلًا بالمكسّرات عوضًا عن الطعام، وعندما كنّا نعترض، كان يقول: "لقد حصلت على هذا الطعام بشقّ الأنفس، فكلوا واشكروا
 
 
 
 
 
 
232

226

وثيقة الحاج عمران

 النعمة!". ولم نكن نجد داخل أكياس الهدايا الشعبية سوى المكسّرات وعلبة سجائر وعلبة كبريت، إلا أنّ وضع الطعام أخذ يتحسّن تدريجيًا مع استمرار الحرب، وصارت كل الوحدات تتناول وجبة طعام ساخنة ظهرًا. أما في غرب البلاد فلم تتوافر تلك النعمة، وإنما كان الشائع أننا نمرّ في مرحلة من العسر والحرج.


أتذكر أننا كنا نصلي جماعة أثناء اجتماع في المقر الرئيس، فقال محسن رضائي للأخ "سنجي"1: "الأخ أسدي، سيذهب مع قواته إلى الغرب، لذا حاول تأمين المنامة والطعام والاستقرار لهم".

فهزّ رأسه موافقًا، وقال: "حسنًا، لا أجد مشكلة في تحقيق هذا الأمر، فنحن نطهو اليوم لأربعمئة شخص".

لم أتفوّه بكلمة، وماذا عساي أقول؟ في حين أنّ عددنا يفوق الثلاثة آلاف عنصر، فاكتفيت بإغماض عينيّ، وقلت في نفسي: "يا رب، يبدو أننا سنعيش حال فارسيات مرة جديدة".
 

1- الأخ "سنجي" تولّى لأشهر عدّة قيادة مقر "الحمزة"، وذلك بعد استشهاد الأخ "بروجردي"، وقبل الأخ "إيزدي".
 
 
 
 
233

227

الشهادة والأحجية

 الشهادة والأحجية


قبل الحديث عن مسألة السفر إلى غرب البلاد، لا بد لي من أن أذكر شخصين من أفراد لواء المهدي شاركا في عمليات "رمضان"، "والفجر1".

استلمت لواء المهدي قبل بدء المرحلة الثانية من عمليات "رمضان"، جهّزنا القوات سريعًا للمشاركة في العمليات، لكنّ موقف معظم قادة كتائبنا بدا صعبًا، وغير مستقرّ، فكان قائد الكتيبة يأتي مع قواته التي تلتحق بنا، واستمرّت هذه الفوضى حتى اكتمل تنظيم كتائب اللواء خلال ثلاثة أشهر.

بدأنا نتحضّر شيئًا فشيئًا للتحرك نحو الخطوط الأمامية فقد حان وقت الهجوم، كان هناك شخص عند شاطئ نهر كارون، يستند إلى حائط طيني، يبدو أنه مهموم ومنزعج. اقتربتُ منه وسألتُه عن حاله.

- الحمد لله، أنا بالخدمة يا أخ أسدي.

- لم أعرفك، ما اسمك الشريف؟

- حميد عارف.

- ها أنت حميد عارف قائد الكتيبة "990".

لملم نفسه، وضبط هندامه، لكنّه لم يستطع إخفاء آثار الهمّ البادية عليه، فأحسست أن عليّ أن أبادره بالسؤال عن حاله، فهو قائد كتيبة، وسيقود ليلًا عددًا من المقاتلين. شرع يتكلّم بسرعة، يبدو أنه كان يريد
 
 
 
 
 
234

228

الشهادة والأحجية

 أن يُخرج الضيق من صدره، ويبثّ همومه إلى من يفسح له المجال. تحدث عن مشاكل الحياة، وعن الناس الجبناء الذين لا يهتمون إلا بالنقاش السياسي المحبط، والتكتّل الحزبي الذي لا يجدي، وقد ألصقوا به التهم افتراءً وكذبًا. كان رجلًا ناضجًا له وزنه، لم يذكر اسم أحد، ولم يُظهر أي انفعال، بل تحدّث باختصار وهدوء. ترك حديثه انطباعًا حلوًا، وأعجبتني شخصيته، فطلبت منه البقاء معنا بعد انتهاء العمليات. ابتسم وقال: "إذا تقبّل الله، وبقيت حيًّا هذه الليلة، فإني أتمنى البقاء معكم".


بدأت العمليات باكرًا قبل طلوع الشمس، جاء "سعيد بهادري" أحد معاوني اللواء وقد غطاه التراب، فسألته: "هل كنت تنثر البذور في الأرض يا سيد سعيد؟".

ضحك وقال: "بل إنّ إطار الدراجة مرّ على شيءٍ ما، فَطِرتُ معه".

لم نكن نتوقع أن تكون مقاومة قوات العدو شديدة إلى هذا الحد، لذا فشلت العملية، وحاولت جاهدًا أنا وسعيد أن نرشد المقاتلين إلى طريق العودة إلى مواقعهم. وبعد أن هدأ الوضع، نقلنا الشهداء والجرحى إلى خلف الجبهة، أما الباقون، فقد عادوا الواحد تلو الآخر لإنهاء مهمتهم، ورجع كلٌ منهم إلى مدينته، لكنّي لم أرَ حميد عارف، ولم أجد اسمه في لائحة الشهداء ولا مع الجرحى. فأرسلت عنصرين للبحث عنه في المستشفيات والبرادات من دون الوصول إلى نتيجة. وبدأت الشائعات تنتشر في مدينة "داراب" ولواء المهدي، بين من يدّعي أنّ حميد عارف فرّ من الحرب وأُسر، إلى اتهامات بالخيانة من قِبل المغرضين، وبأنّه لجأ إلى العراق.

بقيت أحجية حميد عارف مدة (35) يومًا، إلى أن وصل الخبر اليقين، حين وجدوا جثّته خلف التلة. عندما وصلنا إلى هناك، ونظرنا
 
 
 
 
 
235

229

الشهادة والأحجية

 إلى جثته، صرخ سعيد وضرب على رأسه: "آه، أي خطأ ارتكبت!!".


إنّ جسد الشهيد عارف هو الذي ارتطم به إطار الدراجة قبل (35) يومًا، لكن المكان كان مظلمًا، ولم يدرك سعيد ذلك، فترك جسد الشهيد خلف التلة! طبعًا لم يكن مقصّرًا، فالجسد لم يبقَ منه سوى الرأس والكتف، ولا يزيد وزنه عن (4كلغم)، فلن يخطر ببال أحد في تلك العتمة أنه جسد أحد الشهداء، وبقي سعيد يحسّ بالذنب أيامًا عدّة.

عندما رأيت ذلك الجزء من بدنه، تذكّرت كلامه في تلك الليلة، عندما كان في قمة ثورته وغضبه، ولم يذكر اسم أحد ممّن أساء إليه.

وصل خبر العثور على جسد الشهيد حميد عارف إلى "داراب" وأُخمدتْ نار الشائعات. وبلغني أنّ مطلقيها قد خجلوا من أنفسهم، أما الذين بثّوها ونشروها هنا وهناك فقد اختفوا عن الأنظار لأيام.

لم تلبث الأيام أن كشفت سرّ استشهاد حميد عارف، وتبيّن أنّه انطلق في تلك الليلة مع قواته بشاحنة نحو الخطوط الأمامية، وجلس فوق تاج الشاحنة، وعندما اقتربت من الخط الأمامي أصابت حميدًا قذيفة مدفعيّة مباشرة، وفي عتمة الليل ظنّ الجميع أنّه لم يصب أحد بالقذيفة، وأنها انفجرت وحدها في الهواء. لذا قال سائق الشاحنة وباقي الإخوة: "إنّ حميدًا رافقنا، لكننا لم نره عندما ترجّلنا من الشاحنة". الأمر الذي لم يصدّقه أحد، فقام باثّو الشائعات بمهمتهم القذرة في "داراب".

ما ينبغي أن أضيفه حول حميد أنّ بقايا جسده بقيت طوال (35 يومًا) في أرض مكشوفة ذات حرارة ورطوبة شديدتين، من دون أن تتغيّر، وبقي وجهه سالمًا، وما يثبت كلامي صورة رأسه ويده التي احتفظتُ بها طوال سنتين في مكتبي.
 
 
 
 
 
 
236

230

الشهادة والأحجية

 في ذكرى أربعين استشهاده، حملت الجموع الغفيرة من أهالي "داراب" جنازة حميد إلى روضة الشهداء، ووردَ في أحد مقاطع الوصية التي تُليت في مراسم التشييع فقرةٌ ألهبت مشاعر الحاضرين: "إلهي إني أخجل أن أُحشر يوم القيامة بجسدٍ مكتمل أمام الإمام الحسين بن علي عليه السلام، فإذا أخذتني خذني ببدنٍ مقطّع الأوصال".


أما ما يتعلّق بالذكرى الثانية، فمن المفيد أن ندخل إليها من باب لواء المهدي الذي ذاع صيته بين الوحدات والألوية، فحصل أن التحق به ثلاثة من اللاجئين العراقيين: "فائز كاظم حسن الراشد"، واسمه المستعار الذي اختاره هو "عبد الجليل"، و"أبو مرتضى"، و"أبو سجّاد" الذين تسلّموا موقع التنصّت، وقضوا أيامًا وليالي حتى تمكنوا من اكتشاف الشيفرة التي يستخدمها العدو، وحدّدوا من خلال التنصت عليها شبكة الاتصالات القيادية الكبرى في الجنوب، ومنذ ذلك الحين أضحى هؤلاء الثلاثة العصا التي بين أيدينا، والمرهم الذي يداوي الجروح القديمة1 للمقر الرئيس.

كانت القيادة الرئيسة للواء تحتاج إلى المعلومات الدقيقة حول تحركات العدو، وتمكّن هؤلاء الثلاثة من إمدادهم بها بدقة متناهية، فحدّدوا في أي يوم وفي أي ساعة سيشنّ العدو هجومه، ومتى ستنطلق طائراته الحربية لتنفيذ هجومها، وما هي النقاط التي ستستهدفها. وهكذا، كان تركيز العراقيين الثلاثة على طائرات العدو ما أتاح لهم أن يخبرونا تفاصيل مهمة، من أنّ العدو سيقصف المنطقة الفلانية بعد خمس دقائق، فكنّا نستغلّ الفرصة ونبلّغ قواتنا الموجودة في المنطقة التي يريد العدو استهدافها، فيتجنّب جنودنا القصف ووقوع الخسائر في صفوفنا.
 
 

1- أي حالات الفشل السابقة.
 
 
 
 
 
237

231

الشهادة والأحجية

 عندما أخبرونا في المرة الأولى عن هجوم جويّ سيقع، سألتهم: "كيف تعرفون أن الطيران سيقصف بعد خمس دقائق؟".


قالوا: "في المرات السابقة، عندما صدرت الأوامر من برج المراقبة إلى طائراتهم، حدّدنا الوقت الفاصل بين إعطاء الأوامر وبين بدء القصف، فعلمنا كم تستغرق الفترة الزمنية بينهما".

ظلّت لغتنا المشتركة هي القرآن ونهج البلاغة والصحيفة السجادية بانتظار أن يتعلموا اللغة الفارسية ويتمرّنوا عليها جيدًا، وتعمّقت علاقتنا مع الإخوة الثلاثة يومًا بعد آخر، وخاصّة مع "عبد الجليل"، وصارت لهم منزلة وحظوة بين أفراد لواء المهدي.

أما قصة هروب "عبد الجليل" من العراق والتحاقه بنا، فهي قصة عجيبة ولطيفة في الوقت نفسه، إلى درجة أنها دفعت أخي صالحًا ليدوّن الرحلة الطويلة والمرهقة لـ"عبد الجليل" في كتاب مستقلّ خاص.

كان "عبد الجليل" قد قرّر أن يهرب من العراق بعد أن استمع إلى كلام أمّه عند توجهه إلى الحرب، حيث ودّعته باكية، وقالت له: "ولدي العزيز، عندما تذهب إلى الجبهة إياك أن تطلق النار على الإيرانيين، فإني لن أحل لك الحليب الذي أرضعتك إياه، هؤلاء شيعة وقائدهم مولاي الخميني".

أتذكّر أننا قبل عمليات "والفجر الأولى"، كنت متوجّهًا نحو مقرّ القيادة، وأستعرض في ذهني المحور، ووقت وصول لواء المهدي إلى مكان العمليات، فرأيت "عبد الجليل" أمامي، تعانقنا وأخذته معي، لكنّه كان يبدو مضطربًا كأنّ هناك شيئًا ما يعتمل في صدره.

- هل حصل مكروه يا "عبد الجليل"؟

- كلا، كلا لكن بحياة أبنائك عدني.
 
 
 
 
 
238

232

الشهادة والأحجية

 - بماذا أعدك؟


- عدني يا حاج عدني!

- بماذا أعدك؟

- أن أشارك في العمليات.

- لا يمكن أن أسمح بذلك، فعملك لا يقل أهمية عن المشاركة في العمليات.

- لكنّ وجود "أبو مرتضى"، و"أبو سجاد" يغنيكم عن الحاجة إليّ.

- إنك تعلم أنه لا يحل مكانك أحد يا "عبد الجليل".

قاطعني، وقد تقاطرت دموعه على خدّيه وقال لي راجيًا: "يا حاج لم أعد أحتمل، أرجوك وافق على هذا الأمر".

كانت المرة الأولى التي أرى فيها "عبد الجليل" على تلك الحال، وهو يطلب الموافقة بإلحاح على المشاركة في العمليات، ممّا لم يدع مجالًا لإقناعه بالعدول عن هذا المطلب.

ناديت الأخ "محسنيان" مسؤول الدعم، وطلبت منه تسليم "عبد الجليل" السلاح والذخيرة. ما هي إلا دقائق حتى رأيت "عبد الجليل" يحمل سلاحه على كتفه، ويربط شارة: "يا حسين" على جبينه، وتوجّه بحلّته الجديدة نحو مقرّ القيادة، فتجمهر حوله بعض التعبويين، وراحوا يتفحّصونه.

زيّه العسكري كان كاملًا، ربط الحمالة إلى صدره، ووضع فيها ثلاثة مخازن رصاص. أغلب التعليقات الساخرة من الإخوة ومزاحهم مع "عبد الجليل" كان بسبب الحمالة التي وصلتنا حديثًا، وكان هو أول من ارتداها، منظر القنابل اليدوية، وكل اللوازم بما في ذلك مطرة الماء والحربة، جعلت منه كأنّه أحد أفراد القوات الخاصة، بقي يسير أمام مقرّ القيادة إلى أن وصل قائد الكتائب.
 
 
 
 
 
 
239

233

الشهادة والأحجية

 كان مقرّرًا أن يعقد الاجتماع الأخير الذي يسبق بدء العمليات، عندما دخل القادة دخل "عبد الجليل" معهم، لكنه جلس عند الباب بحذائه، ورفض الجلوس معنا على الرغم من إصرارنا عليه. عندها قلت له: "حسنًا اقرأ لنا بعض الآيات من القرآن لنبدأ الاجتماع". أخذ القرآن وشرع بالقراءة، وبعد خمس دقائق قال له الحاج "مهربان" من أهالي جهرم بصوت عالٍ: "أحسنت". لكنه لم يصغِ له، وأكمل القراءة. إلى أن قال له صالح: "تقبل الله". لكنه لم يصغِ وأكمل.


فقلت له: "سلمت يداك، بارك الله بك". لكنه كما لو كان في عالم آخر ولم يعد يسمع بأذنيه، استمر بالتلاوة مدة عشرين دقيقة. عندها، قام أحد الإخوة وربّت على كتفه، فانتبه وقال: "صدق الله العلي العظيم". ثم نظر إلي وقال: "يا أخ أسدي، بأي كتيبة سألتحق؟".

أجابه أحد القادة: "لقد ورد اسمك الآن في كتيبتنا". فنهض "عبد الجليل"، وخرج من غرفة القيادة فرحًا مسرورًا.
 
 
عندما انتهى الاجتماع، وجدته قد جمع أغراضه، وأتى إليّ، فقدّم لي الصحيفة السجادية وقال: "لقد كتبت لك شيئًا ما، اعرف قدرها". وما زلت أحتفظ بتلك الصحيفة. كما قدّم مسبحته لصالح، وأعطى سجادته للحاج "كاظم حقيقت".

قلت له: "ما هذا يا "عبد الجليل"، لقد أهديت كل ما تملك!".

تبسّم وقال: "خيرًا فعلت، لم أعد بحاجة لها".

لم تفلح عمليات "والفجر الأولى"، فقد كانت كعمليات "والفجر التمهيدية" فلم تحقّق أي نتيجة. لذا، توقفت سريعًا، وعدنا إلى مواقعنا التي انطلقنا منها. في اليوم التالي، كان الجميع يبحث عن "عبد الجليل". بعد ساعات من البحث والسؤال عنه، جاء من يقول إنّه رآه آخر مرة داخل حقل ألغام، وجروحه كانت بليغة، فتوجهنا نحو
 
 
 
 
 
240

234

الشهادة والأحجية

 الساتر الترابي، ومن هناك، أشار إليه، كان وسط حقل ألغام مستلقيًا باتجاه القبلة.


قرّرنا سحب جثته ليلًا، وكان هناك شهيدان آخران، والعدو يعلم أننا لا نترك أجساد شهدائنا، وأنّنا سنعمل على سحب الجثث من مكانها، ولذا نصب العدو رشاشين ثقيلين ليمطرنا بالرصاص إذا ما تقدمنا إلى هناك. وبقي يطلق القذائف مستهدفًا تلك النقطة حتى الصباح، ولم نستطع الاقتراب. واستمر العدو بقصف منطقة "الشرهاني" ومرتفع "175" بالقذائف بشدّة حتى لم يبقَ من جثة "عبد الجليل" شيء.

بعد مضي سنوات، وخلال انتفاضة الشعب العراقي، قام صدّام بطرد أسرة "عبد الجليل"، فأتت إلى "الأهواز" بحثًا عن قبره، فلم نجد ما نخبرهم به. كان لقاءً عجيبًا لن أنساه أبدًا، كأنه شيء يشبه مجالس العزاء. فكلما ذكرنا كلمة من كلمات "عبد الجليل" تعالت الصيحات وضجّ الحاضرون بالبكاء، خاصة عند ذكر آخر كلمات وصيته عندما توجّه إلى العمليات، حيث قال:
- إذا استشهدت، فلعلّ جسدي لن يُعثر عليه، لكن إن عُثر عليه، فادفنوني في روضة الأهواز، واكتبوا على قبري: إني غريب يا أبا عبد الله.

عندما رأيت كيف كان بكاء أبيه ونحيب أخته وأخيه، لم أتحسّر على غياب أمه، فهي لم تتحمّل فقدان "عبد الجليل" وبُعده عنها، فالتحقت به قبل المجيء إلى إيران.
 
 
 
 
 
 
241

235

رحلة الصخور

 رحلة الصخور


كانت الحيرة التي تملّكت سائقي القطارات ناتجة عن الخلل في نظام الرحلات، فهم لا يدرون ماذا يفعلون، هل ينطلق القطار من دون ركاب، أم يتوقف عن السير.

أرسلت "إبراهيم أحمدي"1 ليجمع بعض قادة المجموعات ليتمكن الإخوة من الركوب قبل غيرهم، رأيت "أحمدي" من بعيد وهو ينادي شباب التعبئة ويتنقّل بين العربات، ووضعَ عنصرين اثنين عند بوابة القطار، كي لا يترجّل أحدٌ منهم.

مضت ساعات والقطار متوقّف تحت أشعة الشمس الحارقة، وأصبحت عرباته كفرنٍ حامٍ، وكل من يدخل إليه لا يتحمّل البقاء أكثر من دقائق، فيخرج من باب آخر.

كان سائق القطار يرفض الانطلاق ما لم يركب الجميع. توجّهت إليه وقلت: "يا أخي، أطلق صفارتك، وتحرّك بالقطار قليلًا، ليطمئنوا أنك ستنطلق عندها سيركب الجميع".

انتفخت أوداجه وقال: "يا أخي، أيها المسلم، إن ذلك مخالف للقانون، وذلك لا ينطبق على التعليمات، لذا، لا أستطيع فعل ذلك،
 
 

1- رحم الله "إبراهيم أحمدي"، كان دومًا مستعدًا لتنفيذ مهامه، ولم يعرف التعب، وهو من أبناء "جهرم" وذكي، بعد هذه الرحلة استشهد في عمليات "والفجر الثانية"، وارتفع إلى  الملكوت الأعلى.
 
 
 
 
 
242

236

رحلة الصخور

 هل تتحمّل أنت المسؤولية؟".


- نعم، أتحمّل المسؤولية.

رفع رأسه معترضًا، ورفض التحرك. فلم أجد بُدًّا من أن أرفع صوتي عليه قائلًا: "أبي العزيز، أنا قائدهم، إنهم من مسؤوليتي، هيا، تحرّك".

يبدو أنّني جعلته يخاف، فلم يُجب، بل أمسك بصفارة القطار، وضغط عليها ثلاث مرات، ثم أخذ يحرّك القطار ببطء. نزلت من القطار، ورأيت الجميع يركض نحو أبواب القطار، لقد ركبوا خلال دقيقة واحدة، بينما كان السائق ينظر في مرآته متعجبًا، فأشرت له، فشعر بالراحة ونظر إلى أحمدي مدهوشًا وقد وقف إلى جانبه، وضحك متعجّبًا: من هم هؤلاء؟

لقد طُلب منّا أن نرسل الكتائب بكامل تجهيزاتها إلى "أرومية"، لنتوجه من هناك إلى "بيرانشهر"، ثم إلى منطقة "الحاج عمران".

توجهت بسيارة مع عدد من الإخوة إلى "أرومية"، للإعداد لاستقبال القوات، فالقطار يتوجه إلى "طهران"، ومن هناك إلى "أرومية". لكنه عندما وصل إلى طهران، طلب السائق وقودًا إضافيًّا، فلم يُلبَّ طلبه، ما اضطره إلى فصل أربع عربات ليخفّف حمله، على أن يسحب العربات الأربع قطار آخر فيما بعد.

وصلوا إلى "أرومية" صباح اليوم الثالث. لم يُعلمنا أحد بذلك، فتوجهنا لاستقبالهم، وتفاجأنا بأنّ السيارات ما زالت داخل القطار، بينما بقي سائقو السيارات في طهران، غضبت وتوجهت فورًا إلى السائق، فوجدت أنّه أشدّ غضبًا منّي، وراح يشكو المسؤولين عنه. ولعلّه تصنّع ذلك لينجو من لومنا له.
 
 
 
 
 
 
243

237

رحلة الصخور

 كنّا نبحث عن حلول، في حين غفلنا عن التعبويين الذين قاموا بأنفسهم بإنزال السيارات من القطار. توجهت إليهم فرأيت منظرًا عجيبًا، أخذت أفكّر كيف ننزّل الحاويات الكبيرة، فأخبروني أن أحد الإخوة ذهب إلى "تبريز" ليأتي برافعة على شاحنة.


لم يكن أحد ينتظرنا في "أرومية" كما كان منتظرًا. كنا نحن وثلاثة آلاف عنصر، والأوامر التي تلقّيناها تقول: ابقوا في "أرومية" حتى نخبركم عن وجهتكم. توجهنا إلى معسكر "جلديان" لنستقر فيه، مرّ يومان فقط ونفدت الأموال التي بحوزتنا، حتى إنّ كلفة بنزين السيارات قام العناصر بدفعها من جيوبهم، ولم نجد شخصًا نلجأ إليه، اضطررت للاتصال بالسيد "بشارتي" نائب مدينة "جهرم" في المجلس، لأنّ معظم العناصر كانوا من "جهرم"، وكانت علاقتي بـ"بشارتي" جيدة، فأجرى اتصالاته، وذهبنا إلى مكتب الشيخ "حسني" إمام جمعة "أرومية".

لم يكن الشيخ يملك مالًا يسدّ به حاجتنا، لكننا لم نعد خالي الوفاض، كتب رسالة إلى الإخوة في الدعم، فأمّنوا لنا بعض الخراف نقلوها إلى المطبخ، فتأمّن بذلك الطعام لمدة أسبوع للقوات في "أرومية". وكي لا نقصّر أكثر بحق التعبويين، نَسَّقت معهم لنذهب إلى "بيرانشهر".

وافق العقيد "سنجابي" قائد معسكر "بيرانشهر" على مرافقتنا ليعرّفنا إلى المنطقة، لكنه قال: "سآخذكم إلى هناك حتى أثبت محبتي لكم وللتعبويين، لكنّي أعتقد أنّ الذهاب إلى منطقة "قمطرة" و"تمرتشين" الوعرة غير مبرّر عسكريًا".

قلت له: "لدينا فرصة لا تتجاوز الشهر، لذا، علينا أن نبادر
 
 
 
 
 
244

238

رحلة الصخور

 بالعمل". كان يعتقد أن التعرف إلى المنطقة يحتاج إلى ستة أشهر في الحد الأدنى. لأنه قبل مواجهة العدو علينا أن نواجه الطبيعة الصعبة للمنطقة. وذكر لنا حادثة حصلت قبل أسابيع عدّة، عندما سقط عدد من الجنود إلى الوادي خلال تنقّلهم، ولم يتمكنوا من العثور عليهم. كنت مضطرًّا للتحرك فورًا. 


رافقنا العقيد، ووضعنا القوات في المواقع المحددة سلفًا.

عندما أذكر العقيد "سنجابي"، أتذكر حادثة حصلت معه، فالعقيد هو من مدرّبي الجيش ذوي الخبرة، وكان يدرّس في كلية "دافوس" أيضًا. بعد استقرارنا بأيام عدّة، قال لي ونحن نقف إلى جانب الساتر: "يا سيد أسدي، أريد أن أسألك، فأجبني بصدق".

تبسّمت وقلت: "وهل سمعتني أكذب حتى الآن يا عقيد؟".

إن زوجتي طبيبة، لم تذهب إلى العيادة منذ مدة للاهتمام بالأولاد، لكنها تتقاضى من المستشفى (22000 تومان) شهريًا، وراتبي أنا يبلغ (18000 تومان). إننا نعيش بصعوبة مع ولدين على الرغم من أن راتبينا تبلغ (40000 تومان). بينما راتبكم في قوات الحرس لا يتجاوز (2000-3000 تومان) وتقولون إنكم سعداء، فما هو السرّ في ذلك؟!

- إني أتقاضى (3700 تومان) وهي تكفيني، وأوفّر منها مبلغًا صغيرًا شهريًا، فالحياة تُدار كما تديرها أنت أيها العقيد العزيز.

بالتزامن مع وجودنا، حضرت قوات إضافيّة من الجيش والحرس، استعدادًا لتنفيذ العمليات. إلا أنّ خبر استشهاد أحد أفضل أفراد قواتنا ترك أثره لأيام على الإخوة، وخيّم صمت ثقيل على وحدتنا.

كان ذلك الجندي من أهالي منطقة "سيخ دارنغون" شيراز، شاب ذكي وشجاع، لفت نظر العميد "صياد الشيرازي" بسبب شجاعته وطاقته الزائدة، فطلبه منّي لنقله إلى الجيش بأمر مهمة خلال عمليات
 
 
 
 
 
245

239

رحلة الصخور

 "والفجر الثانية"، خلال أسبوع واحد استطاع استقطاب اهتمام قادة الجيش، فقال بعضهم: "إننا مستعدون لتشغيله برتبة ضابط".


- عذرًا، لكنه عنصر أساس في رصد لواء "المهدي"، وينفعنا أكثر منكم.

لم أعد أحتمل غيابه مزيدًا من الأيام، فطلبت إعادته، فأخبروني أنه استشهد برفقة طيار ومساعده بحادث مروحية للجيش. لم أصدق خبر استشهاده، وبقيت أنتظر أن يكون حيًّا، وأن يكون هناك خطأ في إعلان الخبر، لكن للأسف، كان "ظهراب الجعفري" يحب الشهادة أكثر مما يحبنا.

أحسّ العدو بانتقال القوات، وظن أن هناك تحضيرًا لعمليات إزعاج بهدف خداعه لتنفيذ الهجوم الأساس في الجنوب. لذلك كانت تصرفات العدو قبل الهجوم بسيطة. وقاموا بأعمال لم يقوموا بها من قبل، ولا أظن أنهم قاموا بها من بعد أيضًا. قاموا في أحد الأيام بإرسال طائرات مروحية لإنزال مظليّين خلف خطوطنا، فكان ذلك مصدر قلق لنا، وأخبرت المقر الرئيس، وتوجّهت مع مجموعة من الإخوة للاشتباك معهم.

خلال الطريق، وصل "حسين ايرلو" أحد قادة لواء المهدي وقال: "لا تستعجلوا، ليس هناك مظليّون".

وماذا كانت كل هذه المظلات التي شاهدناها تهبط؟

إنها تماثيل من البلاستيك بحجم الإنسان، صنعت بدقة.

أنزل واحدًا منها من سيارته، وسلّمني إياه وقال: "هذا واحد منها، إنها قنابل موقوتة، وقد اكتشفته وأفشلت مخطّطهم".

غيّرنا مسارنا صوب المقر الرئيس، والتقيت بالأخ محسن رضائي، فقام بإبلاغ الوحدات الموجودة في المنطقة بعدم الاقتراب من التماثيل المفخّخة.
 
 
 
 
 
246

240

رحلة الصخور

 في تلك الأيام، توجّهت مع الشهيد "مهدي باكري" لاستطلاع إحدى المناطق. وبعد جمع المعلومات، وصلنا ليلًا إلى مقر أمن لوائنا "المهدي". وفي الصباح، صلّينا وأخذ كل واحد منا رغيفين وعلبتين من الحبوب، وتحركنا مع مرشد من الأكراد يعرف المنطقة لإجراء الاستطلاع أيضًا. كان الشاب الكردي يركض في المرتفعات، بينما أنا ومهدي نسير خلفه ونحن نلهث. وكنا كلّما قطعنا مسافة، نتّخذ من الأسئلة ذريعة لنوقفه ونرتاح، ثم نعود للسير خلفه.


عندما انتهينا من الاستطلاع، قال الشاب المرشد إنّ عليه أن يتركنا ليرشد مجموعة أخرى. فذهب وفتحنا علب الحبوب لنتقوّى بها على العودة نحو المقر الرئيس. ولما انتهينا من تناول الطعام، انطلقنا، واستغرقت عودتنا من خلال المرتفعات الملتوية سبع ساعات. وكان مهدي يعرف المنطقة أكثر منّي، لذلك كان عليّ السير وراءه، سرنا حتى وصلنا إلى مسافة (2) كلم من المقر، ولم يبقَ حتى الغروب سوى ساعة واحدة، وقد أخذ منا العطش مأخذه، سرنا مسافة حتى وصلنا إلى نبتة توت بري، لونها الأحمر ينادينا لتناوله، ركضت باتجاه نبتة التوت وشرعت بتناول حبّاتها، ثم جاء مهدي وتناول أربع حبات منها، وتمدّد على الصخرة. فقلت له: "لماذا لا تأكل المزيد يا مهدي؟ ألست عطشان؟".

جوابه جعلني أبتعد عن النبتة. قال لي: "إني أكتفي بهذا المقدار لأصل إلى المقر، أترك الباقي لعلّ بعض العطاشى والجياع يمرّون من هنا فيجدون شيئًا يبلّ ريقهم".
 
 
 
 
 
 
247

241

جبين مرتضى

 جبين مرتضى


بلغنا ليلة 19 تموز، حيث انطلقت عمليات "والفجر الثانية"، وكما ذكرت آنفًا، فإن المسؤولية الأساس عن هذه العملية تقع على عاتق لواء المهدي، وبأمر من السيد "صياد الشيرازي" توجّه اللواء الثاني من الفرقة 77 (خراسان) إلى المنطقة بقيادة الضابط ناصري. 

قبل وقت قليل من تنفيذ الهجوم، وبعد أن درسنا وضع قوات العدو وإمكاناته، طلب الأخ محسن رضائي من كتائب بعض ألوية وفرق الحرس، ولواء من أهالي المنطقة بقيادة الشهيد "محمود كاوه"1، مساندتنا في هذه العمليات. والتحق بنا من محافظة فارس كلٌّ من: "هاشم اعتمادي" و"مهدي زارع"2 والحاج "رسول استوار" لتقديم العون. 

وفي مقر قيادة لواء المهدي، بقي من القيادة الأساس لقوات الحرس كلٌّ من: محسن رضائي، السيد رحيم صفوي، الأخ رشيد، الأخ إيزدي
 
 

1- محمود كاوه، ولد في مدينة مشهد عام 1961م، كان من القادة الشباب، كل من عرفه تحدث عن نبوغه وتحركه المثالي. كان عمره عند بدء الحرب المفروضة تسعة عشر عامًا، فتولى المسؤولية في الجبهة، وعندما بلغ سن الثانية والعشرين عامًا عين قائدًا للواء (155 الشهداء) الخاص في غرب البلاد، ثم تحول اللواء إلى فرقة. الوحدة التي كان محمود كاوه مسؤولًا عنها كانت معروفة بتنفيذ العمليات الصعبة والمستحيلة. أتذكر أنه خلال عمليات كربلاء الثانية (31/6/1986) عندما أصيب بشظية مدفع عند القمة 2519 حاج عمران فاستشهد، تأثرت قواته بشدة، واعتبر قادة الحرس والجيش أنهم فقدوا أحد أهم قادة الحرب في غرب البلاد.
2- القائد الحاج مهدي زارع كان قائد كتيبة السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها. والقائد هاشم اعتمادي قائد لواء الإمام الحسن عليه السلام من الفرقة 19 الفجر، استشهدا في كانون 
الثاني 1987م في شلمجة..
 
 
 
 
 
248

242

جبين مرتضى

 الذي تولّى أخيرًا قيادة مقر "الحمزة"، إضافة إلى العميد "صياد الشيرازي"، وذلك للإشراف على العمليات.


كان من المقرّر أن نحتل 53 قاعدة عراقية في منطقة "بيرانشهر" الحدودية، وفي مرتفعات "الحاج عمران" داخل الأراضي العراقية، وفي الحد الفاصل بين مرتفعات "قمطرة" و"تمرتشين".

استمرت العملية مدة أسبوعين، امتدّت من لحظة فتح النار على العدو وبدء الهجوم إلى أن هدأت المنطقة. الجميع كان فرحًا من احتلال أربعين قاعدة، والإشراف على مدينة "تشومان مصطفى". وكان أهالي المنطقة أكثر فرحًا وسرورًا لتوقف قصف المدفعية العراقية الثقيلة لمدنهم وقراهم. 

كانت خسائر نظام صدّام: إسقاط عشر مروحيات، وخمس طائرات مقاتلة، ومئتي أسير وأربعة آلاف قتيل وجريح. لكنها لم تكن منحصرة بالخسائر المادية، إنّما بالخسائر المعنوية أيضًا، ما دفع بالطاغية صدّام إلى زيارة المنطقة، وأقدم على إعدام اثنين من قادة قواته بتهمة السماح بتراجع المعنويات التي تحقّقت في الجبهة الجنوبية.
 
مررتُ سريعًا على هذه الذكريات لأصل إلى إحدى معجزات الحرب التي حصلت خلال هذه العمليات، إنها الحادثة المعجزة التي أدّت إلى انتصارنا، وكان لها صدى واسع داخل إيران. 

فصمود ومقاومة عدد قليل من قوات لواء المهدي المحاصرين بقيادة "مرتضى جاويدي"1 عند قمة "برد زرد" كان عظيمًا ليخلّد في تاريخ هذه المنطقة إلى الأبد. 

كان من المقرر أن يجري الاستيلاء على ثماني قواعد عراقية هامة خلال المرحلة الأولى من العمليات، وتثبيت مواقعنا لإكمال المهمة.
 
 

1- صدر كتاب حول ذكريات الجبهة بإسم "تلة جاوبدي وسر أشلو" وهو قيد الترجمة ويصدر قريبًا.
 
 
 
 
 
249

243

جبين مرتضى

 كانت إحدى تلك القواعد على هضبة "برد زرد" التي تقع وسط وادي بين مرتفع "كدو" 2500 متر عند المحور الجنوبي، ومرتفعات "قمطرة" 3000 متر عند المحور الشمالي. وهي تشرف على الممرّ الاستراتيجي لعبور الآليات والسلاح انطلاقًا من مدينة "تشومان مصطفى" إلى هذه المنطقة. استطاعت قوات كتيبة "الفجر" السيطرة على هذه الهضبة منذ الليلة الأولى لانطلاق العمليات، فأسرت عددًا من الأعداء، وأغلقت الممرّ، لكن قامت قاعدتان أخريان بمحاصرة الأخ مرتضى وتسعين فردًا من قواته، وقطعت التواصل بيننا وبينهم. 


واجهنا أزمة حادة، إمكانية التقدم محدودة، وقد حوصرت مجموعة من خيرة قواتنا. لكنّ التواصل عبر الأجهزة اللاسلكية بقي جيدًا، وحسب مصطلح الاتصالات خمسة على خمسة. 

فكان الصوت واضحًا وشفافًا، لأننا كنّا موجودين في مرتفع أعلى، ومرتضى وسط الهضبة. 

أخذ "صياد الشيرازي" الجهاز وخاطب مرتضى: "لقد فتحنا كوّة ضيّقة، مدّ يدك لنا سريعًا". أي حاول الانسحاب ما دامت الفرصة متاحة. أجاب مرتضى بصراحة ومن دون تشفير: "لقد 
وعدت جعفر بالإمساك بالهضبة، والطريق الأساس تحت إشرافنا، اطمئن، لن نسمح بتكرار الرماية من أحد". 

لذلك ركّزت قوات صدّام هجماتها القوية لاسترداد تلك التلّة. كان عليهم المرور من تلك الطريق لإيصال القوات والأسلحة إلى قواتهم، وإفشال هجومنا بالكامل. كانت الهجمات العراقية متلاحقة، وكنّا منزعجين وقلقين لأنّنا لا نستطيع مساعدة مرتضى في هذه الظروف. علمًا بأن هجومنا استمر، وكنا نحتلّ القاعدة تلو الأخرى لنقترب من قواتنا المحاصرة.
 
 
 
 
 
 
250

244

جبين مرتضى

 في هذا الوضع الصعب، قرّر الإخوة في كتيبة الفجر الاستمرار بالمقاومة والصمود وعدم الانسحاب. ففي الهجوم الأول للعدو، دمروا شاحنة "إيفا" بمن فيها من الجنود، وشاحنة وذخيرة وسط الطريق، وأغلقوا بذلك الطريق. فأرسلت القوات المعادية جرافة لفتحه، لكنّ الإخوة تمكّنوا من إصابتها فبقيت في مكانها. وبعد ذلك استطاعت قوات "جاويدي" تدمير أي آلية تقترب لفتح الطريق. 


استمرّت مقاومة هؤلاء الإخوة أربع ليالٍ على الرغم من النقص الحاد في الماء والطعام والذخيرة. واستطاع مرتضى أن يصلح مدفعًا مضادًّا ذا أربع فوّهات، وهذا ما مكّن قواته من إعطاب كل تلك الآليات والقوات الداعمة بذلك المدفع، لكن بفوهة واحدة منه. 

باقي الكتائب التي علمت بصمود ومقاومة هؤلاء الإخوة تابعت المراحل التالية من العمليات بمعنويات أعلى، وكانوا يتقدّمون حتى استطاعوا في أواخر الليلة الخامسة إلحاق الهزيمة بقوات العدو التي تحاصر الإخوة، وتمكّنوا من الوصول إلى "جاويدي" وقواته. 

كنت أول من وصل إلى تلك القمة، وشاهدت على ضوء القمر جسد أول شهيد، فعرفته وبكيت لفقده. إنه "إبراهيم الأحمدي" الذي تحدّثت عن جهوده في نقل المقاتلين بالقطار. وعندما رأيت الأخ مرتضى، كان جسمه محطّمًا وليس فيه رمق، عيناه حمراوان من السهر، ولم يبقَ من قواته سوى ثمانية عشر شخصًا ينهشهم الجوع والعطش. 

سارع الإخوة في الجهاز الصحي والدعم لنقلهم إلى الجبهة الخلفية، واستمرت العمليات حتى ليل الثاني من آب، بعد أن سيطرنا على معظم القواعد. لكن العدو استمر بتنفيذ هجماته، ففرض علينا ظروفًا صعبة جدًا كادت تودي بنا. 

ليلة الثالث من آب، جاء الأخ رشيد وقال: "غدًا سينتهي الأمر
 
 
 
 
 
251

245

جبين مرتضى

 وتذهبون للاستراحة". نظرت إليه بتعجب، فقال: "غدًا سنقوم بأمر ما يجبر العدو على ترك المنطقة"


انطلقت عمليات "والفجر الثالثة" شمال مدينة "مهران"، وتمّت السيطرة على مرتفعات "كله قندي" المعروفة، فجرجر العدو أذياله مغادرًا المنطقة، وتنفّسنا الصعداء. 

لم تكن تلك نهاية مهمتنا. بل لعلّه من الأجدر أن أقول إنّ الفصل النهائي من عمليات "والفجر الثانية" كان في بيت سماحة الإمام الخميني الراحل. فما إن انتهت العمليات القتالية حتى أعطونا بطاقات لزيارة الإمام الخميني ولقائه، كل الإخوة الذين شاركوا في العمليات علموا بالخبر، فتقاطروا إلى مقر القيادة، وكل واحد منهم يريد أن يكون في عداد الزائرين، وكان أعضاء التعبئة أكثر إلحاحًا من غيرهم. وحصّتنا كانت محدودة ولا يمكننا بواسطتها إرضاء الجميع. مثلًا الأخ "عباسي" من أهالي "زرقان" بفارس، أخذ يشكو ويبكي ويتوسل، ما اضطرني للتخلي عن بطاقتي لتهدئته. وانتهى الأمر على خير، واصطحبنا عددًا منهم إلى طهران. 

خلال اللقاء مع سماحة الإمام، قدّم كلٌّ من محسن رضائي وصياد الشيرازي تقريرًا حول العمليات، وأشاروا فيه إلى بطولة وصمود وخبرة الأخ "مرتضى جاويدي" وقواته. عندما سمع الإمام الخميني كلام صياد، نهض واقفًا واحتضن "جاويدي"، وتسمّرت الأعين على الإمام وشفتيه المباركتين على جبين مرتضى. 

اختفى لونُ مرتضى من شدة الخجل ودُهش، وأفاقَ من صدمته، وأخذ يقبّل يد الإمام ووجهه وكتفه وهو يجهش بالبكاء.
 
 
 
 
 
252

246

الاسم العظيم

 الاسم العظيم


بعد أن توقّفت عمليات "والفجر الثانية"، كنّا في معظم المحاور نتسلّق القمم والمرتفعات، بينما بقيت قوات العدو خلف السواتر والمتاريس. وبعد أسبوعين من هذه العمليات، زرتُ أحد المحاور المتقدمة مقابل قوات العدو، حيث تزداد الخطورة، وبينما كنت أتفقّد المواقع، وأتطلّع من خلال المنظار إلى سواتر العدو، لفت نظري شيء ما. 

حدّقت بإمعان من خلال المنظار، لأرى جسدَي اثنين من إخوتنا ملقَيَين على أحد السواتر، وبالقرب منهما رشاش غرينوف وجهاز لاسلكي (prc57)، وقبل أن أبدي أي ردّ فعل، اقترب مني قائد الكتيبة "دلاور زارعي"، وهو من أهالي "نور آباد"، وقال: "والله، إني أسعى منذ الأمس لسحبهما من مكانهما، ولم أتمكّن من إنجاز هذه المهمة". 

لم أعقّب على كلامه، بل رحت أتطلّع إلى البعيد، فعاد يهمس بأذني: "اطمئن، سنأتي بجسدي الشهيدين، فضلًا عن السلاح والجهاز أيضًا". 

</