المقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة سيّدنا محمّد وآله الأصفياء أدلّة الأرض والسماء.
بعد أن وفّقنا الله تعالى لإعداد وإصدار الكتاب الأوّل من السلسلة الفصليّة للدروس الثقافيّة, وكان عبارة عن دروس ثقافيّة تعكس مضامين أخلاقيّة رائدة في حياة المؤمنين, قد ترك صداه فيما لمسناه من الإخوة المدرّسين والدارسين. فها نحن اليوم, نقوم بإصدار الكتاب الثاني, وهو عبارة عن دروس مستفادة من الصحيفة السجّاديّة الّتي تعتبر دستوراً جامعاً لأسس الصلاح والإصلاح ومنهجاً سامياً للوصول إلى السعادة في عالم الدّنيا والآخرة, كاشفين بذلك الغطاء عن بعض الكنوز الّتي يحتوي عليها هذا السفر الخالد.
5
1
المقدمة
فتعالوا معاً نَسِر بأنوار السجاد عليه السلام وفي ظل شمسه الطالعة الّتي لا يطفأ نورها إلى الأبد، وننعم بحرارتها فنبلغ ما أراده الله تعالى منّا وما التوفيق إلّا من عند الله تعالى.
مركز نون للتأليف والترجمة
6
2
زَبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
زَبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
• في رحاب الدّعاء • حكاية الصحيفة السجّاديّة
"أَنْتَ الْمَخْصُوصُ قَبْلَ كُلِّ مَدْعُوٍّ بِدَعْوَتِي لاَ يَشْرَكُكَ أَحَدٌ فِي رَجَائِي، وَلاَ يَتَّفِقُ أَحَدٌ مَعَكَ فِي دُعَائِي، وَلاَ يَنْظِمُهُ وَإيَّاكَ نِدَائِي..."1.
"أَللَّهُمَّ فَهَا أَنَا ذَا قَدْ جئْتُكَ مُطِيعاً لاِمْرِكَ فِيمَا أَمَرْتَ بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ، مَتَنَجِّزاً وَعْدَكَ فِيمَا وَعَدْتَ بِهِ مِنَ الاجَابَةِ إذْ تَقُولُ ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ....﴾"2.
"أَدْعُوكَ فَتُجِيبُنِي وَإنْ كُنْتُ بَطِيئاً حِيْنَ تَدْعُونِي. وَأَسْأَلُكَ كُلَّمَا شِئْتُ مِنْ حَوَائِجِي، وَحَيْثُ مَا كُنْتُ وَضَعْتُ عِنْدَكَ سِرِّي، فَلاَ أَدْعُو سِوَاكَ، وَلاَ أَرْجُو غَيْرَكَ، لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، تَسْمَعُ مَنْ شَكَا إلَيْكَ"3.
الصحيفة السجّاديّة
1- الصحيفة السجّاديّة, من دعائه خ متفزّعاً إلى الله عزّ وجلّ, ص134, ط 1418, دفتر نشر الهادي, قم.
2- م.ن, من دعائه خ في ذكر التوبة وطلبها, ص140.
3- م.ن, من دعائه خ في التضرّع والاستكانة, ص252.
7
3
زَبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
أ- في رحاب الدّعاء
في هذه الفقرة الشريفة بيان من سيّد العابدين عليه السلام لجملة أمور هي:
أوّلاً: اختصاص الدّعاء بالله تعالى وقصره عليه، فلا يسوغ دعاء غيره مهما عظم شأنه, يقول سبحانه: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾1 ولا إشراكه معه.
ثانياً: وجود أمر إلهيّ بالدعاء ووعد ربّانيّ بالإجابة كما هو صريح الآية.
ثالثاً: إنّ الله عزّ وجلّ قريب ممّن دعاه وناجاه يسمع من شكا إليه إذا قصر رجاءه عليه ولم يدع سواه, يقول عزّ من قائل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾2.
وممّا جاء في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام: "اعلم أنّ الّذي بيده خزائن ملكوت الدّنيا والآخرة قد أذن لدعائك، وتكفّل لإجابتك، وأمرك أن تسأله ليعطيك وهو رحيم كريم لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه.. ثمّ جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه"3.
1- الجن: 18.
2- البقرة: 186.
3- نهج البلاغة, الشريف الرضيّ, تحقيق صبحي الصالح, ط 1967, بيروت, ص 399.
9
4
زَبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
لذلك إنّ أهمّيّة الدّعاء غير خفيّة على أحد لما نزل في الكتاب وورد في الروايات, وقد تقدّم الكلام عن هذه النقطة في "صدى الآيات", والّذي نريد تسليط الضوء عليه هنا هو ما تمثّله أدعية الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام من دور بنّاء ضروريّ في حياة المؤمن لما تحمله من أساليب ومعانٍ راقية في دعاء المولى سبحانه وفي الوقت نفسه هي دستور حياتيّ في المثل والأخلاق والفضائل يتربّى على مبادئها كلّ إنسان يريد الكمال وبلوغ الذروة في خطّ الإنسانيّة.
ب- حكاية الصحيفة السجّاديّة
جاء في سيرة الإمام السجاد عليه السلام أنّه كان يخطب في الناس في كلّ يوم جمعة ويعظهم ويزهّدهم في الدّنيا ويرغّبهم في أعمال الآخرة ناشراً بينهم ألوان الدّعاء والحمد والثناء الّتي تمثّل العبوديّة المخلصة لله تعالى, فكانت الصحيفة السجّاديّة الّتي جمعت أدعيته ومناجاته وابتهاله والقيم العالية والّتي سُمِّيت بإنجيل أهل البيت عليهم السلام وزَبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بما ضمّتهُ من مبادئ الأخلاق والحقوق والواجبات والآداب, تعالج مشاكل الفرد والمجتمع وتنشر أجواء روحيّة, تدعو إلى الثبات عندما تعصف المغريات وتشدّ الإنسان إلى ربّه حينما تجرّه الأرض إليها. وليس للمؤمن غنىً عنها في كلّ مفاصل حياته طالما أراد السير على الصراط المستقيم.
ولنعرف ما لها من مكانةٍ رائدةٍ, علينا أن نطّلع على ما ذكره علماؤنا الأبرار رضوان الله عليهم.
1- مفخرة الإسلام:
ممّا جاء في وصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره افتخاره الكبير بزَبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال فيها: "نحن فخورون بأنّ الأدعية الّتي تهب الحياة والّتي تسمّى بالقرآن الصاعد هي من أئمّتنا المعصومين عليهم السلام نحن نفخر بأنّ منّا مناجاة الأئمّة عليهم السلام الشعبانيّة,
10
5
زَبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
ودعاء عرفات للحسين بن عليّ عليه السلام والصحيفة السجّاديّة زَبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم".
2- جامعة العلوم الإلهيّة:
وبهذا التعبير الرائع ختم الشيخ محمّد تقيّ المجلسيّ رحمه الله كلامه عن أسانيدها قائلاً: "والحاصل أنّه لا شكّ في أنّ الصحيفة الكاملة عن مولانا سيّد الساجدين بذاتها وفصاحتها وبلاغتها واشتمالها على العلوم الإلهيّة الّتي لا يمكن لغير المعصوم الإتيان بها والحمد لله ربّ العالمين على هذه النعمة الجليلة العظيمة الّتي اختصّت بنا معشر الشيعة1".
3- تراث ربّانيّ محمّديّ علويّ:
ممّا جاء في كلام الشهيد المقدّس السيّد محمّد باقر الصدر رضوان الله عليه حول الصحيفة المباركة: "وهكذا نعرف أنّ الصحيفة السجّاديّة تعبّر عن عمل اجتماعيّ عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الإمام عليه السلام إضافة إلى كونها تراثاً ربّانيّاً فريداً يظلّ على مرّ الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب, وتظلّ الإنسانيّة بحاجة إلى هذا التراث المحمّديّ العلويّ وتزداد حاجة كلّما ازداد الشيطان إغراء والدنيا فتنة".
فاللّازم أن نحمل هذه الصحيفة المباركة وسيلة اتصال بالله تعالى، ومنطق حقّ نتعامل به مع الآخرين، ومدرسة فضيلة نتربّى من خلالها وعليها نربّي صغارنا وأجيالنا وإليها نحتكم حينما تعصف رياح الفتن, لأنّها دليل إلى سبيل الصلاح والإصلاح ومفتاح إلى النجاح والفلاح, ودستور إلهيّ يعمل به كرام الناس، مع ما حوت من علاج لكلّ موقف ودواء لكلّ داء سواء على الصعيد الفرديّ أو الاجتماعيّ، فإلى تلك المباني الجليلة والمعاني الجليلة سيظلّ أهل الولاية وأحبّاء زين العابدين عليه السلام ينشدون مدى الحياة، يرفعون كتاب الوحي على رؤوسهم وبأيديهم سفران خالدان:
1- بحار الأنوار, ج 110, ص79.
11
6
زَبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام والصحيفة السجّاديّة لسيّد العابدين عليه السلام, لتكون هذه الكتب الثلاثة نهج نجاتهم ونظام حياتهم.
خلاصة الدرس
أ- الدّعاء مخّ العبادة، وقد حثّ الكتاب الكريم والروايات المباركة عليه حيث من خلاله تكون الصلة مع الخالق تعالى, ويتغذّى الإنسان من الجوانب المعنويّة والروحيّة.
ب- من أرقى مجامع الأدعية، الصحيفة السجّاديّة زَبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لاشتمالها على شتّى الأمور الحقوقيّة والأخلاقيّة وفنون الدعوات والمناجاة بأرقى التعابير وأجمل الأساليب.
ج- تعتبر الصحيفة السجّاديّة مفخرة الإسلام وجامعة العلوم الإلهيّة وتراثاً ربّانيّاً محمّديّاً علويّاً, وينبغي أن تكون حاضرة في صدور المسلمين وأقوالهم وأفعالهم كدستور حياة ومدرسة أخلاق للفرد والمجتمع.
للمطالعة
ثعبان يدلّ على كنز
يُنقل أنّ عماد الدولة - وكان في القرن الرابع الهجريّ - دخل إلى مدينة شيراز مع ألف جنديّ وهو لا يملك شيئاً من المال، والحاكم الّذي لا يملك المال يكون على الإضمحلال والسقوط. كان الوقت شتاءً والجنود لا يملكون شيئاً من الملابس وقد تأخر إعطاؤهم المعاش فاجتمع إليه الجنود يطالبونه بالمعاش, وملابس للشّتاء مضافاً إلى ذلك أنّ الأعداء كانوا له بالمرصاد خارج مدينة شيراز, فضاق على عماد الدولة البويهي الأمر فتحيّر في أمره, فهو إن لم يهيِّئ الملابس الشتويّة لجيشه فسوف يخسر
12
7
زَبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
قوّته وينهزم من موقعهِ ففكّر أن يتوجّه إلى الله تعالى فوقف في صلاة اللّيل بخشوع, وبعد الصَّلاة بكى بكاءً كثيراً وانقطع إلى الله سبحانه وتعالى, ثمّ طلب من الله حاجته، وبينما هو في تلك الحالة نظر إلى السقف وإذا بثعبان خرج من ثقب الحائط ودخل في ثقب آخر. فقال لحرّاسه: أخرجوا الثعبان من السقف. فلمّا أرادوا ذلك وجدوا في الثقب كنزاً كبيراً من الذهب والفضّة.
فقال عماد الدولة: أرسلوا وراء رئيس الخيّاطين ليخيط ملابس للجيش بهذه الأموال الّتي عثروا عليها. وكان من حسن الصُّدف أنّ ذلك الحاكم السابق الّذي فرَّ من يد عماد الدولة قد أمّن عند الخيّاط صندوقاً من المال. فظنّ الخيّاط أنّ عماد الدولة قد عرف بأمر الأموال والصناديق فخاف كثيراً، ولمّا أحضروه أمام عماد الدولة، أمره وجميع الخيّاطين في شيراز, وخلال أسبوع, أن يخيّطوا ألف بذلة شتائيّة للجند، فظنّ رئيس الخيّاطين أنّ عماد الدولة يقول له: عندك كذا وكذا من الصناديق الّتي تركها الحاكم الفارّ. فقال رئيس الخيّاطين: والله لم يكن عندي إلّا صندوقٌ من مال الحاكم الفارّ, وهو يرتعد خوفاً.
13
8
حُسن الخُلُق
حُسن الخُلُق
• في رحاب الدّعاء •الإسلام وحُسن الخُلُق
•ما هو حُسن •ما يترتّب على حُسن الخُلُق؟
•حُسن الخُلُق وظيفة عامّة
"أللَّهُمَّ صَـلِّ عَلَى مُحَمَّـد وَآلِـهِ وَحَلِّنِي بِحِلْيَـةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ المُتَّقِينَ فِيْ بَسْطِ الْعَدْلِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَإطْفَاءِ النَّائِرَةِ وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ وَإصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإفْشَاءِ الْعَارِفَةِ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ، وَخَفْضِ الْجَنَـاحِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ، وَسُكُونِ الرِّيـحِ، وَطِيْبِ الْمُخَالَقَـةِ، وَالسَّبْقِ إلَى الْفَضِيلَةِ، وإيْثَارِ التَّفَضُّلِ..."1.
الصحيفة السجّاديّة
1- الصحيفة السجّاديّة، ص96.
15
9
حُسن الخُلُق
أ- في رحاب الدّعاء
يعرّفنا الإمام زين العابدين عليه السلام من خلال هذه الفقرة الرائعة من دعائه في مكارم الأخلاق على الأسس والخطوط العامّة المرتبطة بالصلاح والإصلاح الّتي من خلالها يمكن للإنسان أن يسلك خطّ الإيمان في العمل سواء في علاقته مع ربّه سبحانه, أو مع نفسه أو مع الناس, وأن يكون داعياً إلهيّاً بتجسيد تلك المفاهيم الّتي كانت لأجلها الرسالة وعمل لها الأنبياء والأولياء على امتداد أعمارهم ومهامّهم. فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما بُعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق"1 وفي هذا السبيل كان من عطاءاتهم ما يفوق تصوّرنا ومن تضحياتهم ما يعجز عنه الكثير منّا.
ومن جملة ما ورد في هذا الدّعاء المبارك "حُسن الخُلُق" الّذي عبَّر عنه عليه السلام بطيب المخالقة: وهو موضوع حديثنا في هذا الدرس, وعليه نسلّط الضوء من خلال الاستعانة بالمأثور عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة عليهم السلام ضمن الحديث عن أهمّيّته وما يترتّب عليه في الحياة الدّنيا وفي الحياة الآخرة.
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ, ج68، ص382.
17
10
حُسن الخُلُق
ب- الإسلام وحُسن الخُلُق
اختصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المسافة في مقام بيانه لأهمّيّة الخُلُق الحَسن ومكانته في الدين الحنيف بثلاث كلمات هي: "الإسلام حُسن الخُلُق" كاشفاً في هذا التعريف عن المعنى الكبير والدور المحوريّ لبناء الشخصيّة الإسلاميّة عبر الأخلاق الفاضلة, وأنّه بالابتعاد عنها وإتباع الرذائل لا يمكن أن نجد الإسلام الّذي جاءنا به حيّاً نابضاً في النفوس، بل على العكس, إنّ التخلّي عن مكارم الأخلاق وإتّباع سبيل الهوى، وهجران العمل بالواجبات والسُّنن تُعتبر حرباً على الإسلام, وإن كان دون التفات إلى هذا الواقع الخطير.
وممّا يؤكّد على أهمّيّة حُسن الخُلُق أنّه إذا أردنا أن نتعرّف على المؤمن فليس المطلوب هو الاطّلاع على هويّته الشخصيّة ومعرفة انتمائه إلى أيّ بلد أو عائلة وتفصيل نسبه, وإنّما المطلوب أن نجد حُسن الخُلُق عنوان صحيفته فإنّه كاف ووافٍ في التعريف عنه.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "عنوان صحيفة المؤمن حُسن خُلُقه"1.
وعن الإمام الحسن عليه السلام: "أنّ أحسن الحسن الخُلُق الحَسن"2.
وفي الحديث: "أَكملُ المؤمنين إيماناً أحسنُهم خُلُقاً"3.
ج- ما هو حُسن الخُلُق؟
الخَلق والخُلق مفردتان مستعملتان, يقال: فلان حَسَن الخَلْق والخُلُق أي حسن الظاهر والباطن، فيُراد بالخَلْق الصورة الظاهرة، ويُراد بالخُلُق الصورة الباطنة وهي عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة من غير حاجة إلى فكر ورويّة، فإن
1- ميزان الحكمة، الريشهريّ, حديث4994.
2- م.ن. حديث4989.
3- أمالي الطوسي، 227 140.
18
11
حُسن الخُلُق
صدرت عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سُمِّيت الهيئة خُلُقاً حَسَناً، وإن صدرت عنها الأفعال القبيحة سُمِّيت الهيئة الّتي هي المصدر خُلقاً سيِّئاً 1.
وقد فسّره أهل البيت عليهم السلام من خلال الإشارة إلى المصاديق, فأوضحوا موارد عديدة لحُسن الخُلُق, منها:
1- البدء بالتحيّة:
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ بذل التحيّة من محاسن الأخلاق"2.
2- ترك الغضب:
"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين يديه فقال: يا رسول الله ما الدٍّين؟ فقال: حُسن الخُلُق، ثمّ أتاه عن يمينه فقال: ما الدٍّين؟ فقال: حُسن الخُلُق، ثمّ أتاه من قبل شماله فقال: ما الدٍّين؟ فقال: حُسن الخُلُق، ثمّ أتاه من ورائه، فقال: ما الدٍّين؟ فالتفت إليه وقال: أما تفقه؟ الدين هو أن لا تغضب"3.
3- اجتناب الحرام:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "حُسن الخُلُق في ثلاث: اجتناب المحارم، وطلب الحلال، والتوسّع على العيال"4.
4- لين الجانب:
وهو عبارة عن التواضع وعدم التكلف في المعاشرة.
5- طيب الكلام:
وهو اختيار الكلمات الّتي تؤدّي إلى نموّ المودّة ومراعاة آداب الخطاب.
6- اللّقاء بالبِشر:
وهو إبداء السرور والارتياح وطلاقة الوجه بخلاف العبوس والانزعاج.
1- المحجة البيضاء، الفيض الكاشانيّ, ج5، ص96.
2- غرر الحكم, الآمديّ, 3404.
3- بحار الأنوار, ج68, ص393.
4- م.ن. ج68, ص394.
19
12
حُسن الخُلُق
في الحديث عن الصادق عليه السلام لمّا سُئل عن حدّ حُسن الخُلُق أنّه قال: "تلين جانبك، وتطيّب كلامك، وتلقى أخاك بِبِشْرٍ حَسَن"1.
7- الإلفة والمودّة:
يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: أحسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الّذين يألفون ويؤلفون"2.
والّذي يجمع ما تقدّم أنّ حُسن الخُلُق هو مراعاة الحقوق والآداب الّتي حثّ عليها الإسلام في التعامل مع الآخرين, إضافة إلى القيام بالواجبات الشرعيّة والالتزام بالتكاليف الإلهيّة الموجّهة إلى الفرد والمجتمع.
د- ما يترتّب على حُسن الخُلُق؟
إنّ الّذي يترتّب على حُسن الخُلُق من ثمرات وآثار غير مختصّ بأحد العالمَيْن دون الآخر, بل يشمل كلا العالمَيْن الدنيويّ والأُخرويّ، فلنبحر في سفينة العترة الطاهرة عليهم السلام مع وقع كلامهم عليهم السلام بما فيه من روعة البيان وجميل المعاني.
الآثار الدنيويّة
1- زيادة الرزق:
عن الصادق عليه السلام: "حُسن الخُلُق يزيد في الرزق"3, وفي الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام: "في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق"4.
2- طول العمر:
كما جاء في الحديث: "إنّ البِرّ وحُسن الخُلُق يعمِّران الديار ويزيدان في الأعمار"5.
1- م.س. ج68, ص389.
2- مستدرك الوسائل, الميرزا النوريّ, ج9, ص150.
3- بحار الأنوار, ج68, ص396.
4- الكافي, الكلينيّ, ج8 ص23.
5- م.ن. ج2, ص100.
20
13
حُسن الخُلُق
3- كثرة المحبّين:
يقول النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن حَسُنَ خُلُقه كَثُر مُحِبُّوه وأنست النفوس به"1.
4- ذهاب الخطيئة:
في الحديث: "الخُلُق الحَسن يميت الخطيئة كما تميت الشمس الجليد"2.
الآثار الأخرويّة
1- ثواب المجاهد:
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حُسن الخُلُق كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه ويروح"3.
2- عظيم الدرجات:
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أنّ العبد ليبلغ بحسن خُلُقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف العبادة"4.
3- أثقل ما يوضع في الميزان:
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من شيء أثقل في الميزان من خُلُق حَسن"5.
4- أجر الصائم القائم:
في الحديث: "إنّ صاحب الخُلُق الحَسن له مثل أجر الصائم القائم"6.
هـ- حُسن الخُلُق وظيفة عامّة
قد يُقال إنّ الخُلُق الحَسن أمر مطلوب ولكن ليس مع جميع الناس, وإنّما خاصّةً مع المؤمنين, أو مع فئة معيّنة! وهذا ليس بصحيح, لأنّ تعاليم أهل البيت عليهم السلام أكّدت
1- غرر الحكم/9131.
2- الكافي، ج2، ص10.
3- م.ن, ص 101.
4- المحجة البيضاء، ج5، ص93.
5- بحار الأنوار، ج71، ص383.
6- الكافي، ج2، ص100.
21
14
حُسن الخُلُق
على ضرورة تحلّينا بهذه الفضيلة في تعاملنا مع الجميع. وممّا أوصانا به أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "حسّن مع جميع الناس خُلُقك حتّى إذا غبت عنهم حنّوا إليك وإذا متّ بكوا عليك وقالوا: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾" ولا تكن من الّذين يُقال عند موتهم: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾1.
خلاصة الدرس
أ- إنّ الهدف الأسمى لرسالات الأنبياء هو انتشار مكارم الأخلاق حتّى قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الإسلام حُسن الخُلُق".
ب- لا يكون الشخص مؤمناً ما لم يكن صاحب خُلق حَسن, لأنّ حُسن الخُلُق عنوان صحيفة المؤمن.
ج- حُسن الخُلُق هو هيئة للنفس راسخةٌ الّتي تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً.
د- من مصاديق حُسن الخُلُق: ترك الغضب، البدء بالتحيّة، اجتناب الحرام، لين الجانب، طيب الكلام، اللّقاء بالبِشْر والإلفة والمودّة.
هـ- للأخلاق الحسنة آثار مهمّة وهي: زيادة الرزق، طول العمر, كثرة المحبّين، ذهاب الخطيئة, وهذه بأجمعها في الدّنيا. وأمّا في الآخرة فهي: ثواب المجاهدين، الدرجات العظيمة، ألفها أثقل ما يوضع في الميزان وأجر الصائم القائم.
و- حُسن الخُلُق مطلوب حتّى مع غير المؤمنين.
1- من لا يحضره الفقيه, الشيخ الصدوق, ج4, ص387.
22
15
حُسن الخُلُق
للمطالعة
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع ابنة حاتم الطائيّ
ذُكر أنّ عديّ ابن حاتم الطائيّ كان يعادي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فبعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً إلى طيّ، فهرب عديّ بأهله وولده ولحق بالشام، وخلّف أُخته سنانة, فأسرتها خيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا أُتي بها إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قالت: يا محمّد, هلك الوالد، وغاب الرافد، فإن رأيت أن تخلّي عنّي، ولا تشمّت بي أحياء العرب، فإنّ أبي كان سيّد قومه؛ يفكّ العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذّمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكَلّ، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فردّه خائباً، أنا بنت حاتم الطائيّ.
قال لها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "يا جارية, هذه صفات المؤمنين حقّاً، لو كان أبوك مسلماً لترحّمنا عليه، خلّوا عنها فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق".
وقال فيها: "ارحموا عزيزاً ذلّ وغنيّاً افتقر، وعالماً ضاع بين جهّال".
فأطلقها ومنّ عليها، فاستأذنته في الدّعاء له، فأذن لها، وقال لأصحابه اسمعوا وعوا، فقالت: أصاب الله ببرّك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلّا وجعلك سبباً في ردّها عليه.
فلمّا أطلقها صلى الله عليه وآله وسلم رجعت إلى قومها، فأتت أخاها عديّاً وهو بدومة الجندل، فقالت له: يا أخي أئتِ هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله، فإنّي قد رأيت هدياً ورأياً سيغلب أهل الغلبة, رأيت خصالاً تعجبني. رأيته يحبّ الفقير، ويفكّ الأسير، ويرحم الصغير ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه صلى الله عليه وآله وسلم. وإني أرى أن تلحق به، فإن يك نبيّاً فللسابق فضله، وإن يك ملكاً فلن يُذلّ في عزّ اليُمن، فقدم عديّ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
23
16
حُسن الخُلُق
فألقى له وسادة محشوة ليفاً، وجلس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الأرض، فأسلم عديّ بن حاتم، وأسلمت سنانة بنت حاتم المتقدّم ذكرها، وكانت من أجود نساء العرب.
24
17
الوفاء بالوعد
الوفاء بالوعد
• في رحاب الدّعاء • كيف نتعامل مع الوعد؟
• الوعد والصِّغار • خُلف الوعد والنِّفاق
• الوعد في سلوك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم • إسماعيل عليه السلام وصدق الوعد
"يَا مَنْ وَعَدَهُمْ (أي خلقه) عَلَى نَفْسِهِ بِتَفَضُّلِهِ حُسْنَ الْجَزاءِ..."1.
"قَدْ أَوْقَفْتُ نَفْسِي مَوْقِفَ الاَذِلاَّءِ الْمُذْنِبِينَ، مَوْقِفَ الاَشْقِيآءِ الْمُتَجَرِّينَ عَلَيْكَ، الْمُسْتَخِفِّينَ بِوَعْدِكَ..." 2.
الصحيفة السجّاديّة
1- الصحيفة السجّاديّة, ص66.
2- م.ن, ص258.
25
18
الوفاء بالوعد
في رحاب الدّعاء
في هذه الفقرة الشريفة يشير الإمام عليه السلام إلى آفة من آفات التعامل مع الوعد، ألا وهي الاستخفاف بالوعد الإلهيّ حيث ورد النّهي عنه في الكتاب الكريم، يقول سبحانه: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾1 فلا يحقّ لنا أن نستخفّ بما وعدنا الله تعالى وأعدّه لعباده الصالحين, سواء في هذا العالم كالنصر على الأعداء والتسديد في ميادين الجهاد وساحات العمل, أو في العالم الآخر من الجزاء المقيم والعطاء الكريم.
وهناك مشكلة أخرى تكمن في الوعد الّذي يكون بين الناس، فلا يجدون صدقاً ووفاء فيما بينهم حيث لا يفي الرجل بما وعد، ولا يعمل بما عاهد، ممّا يؤدّي إلى انتشار البغضاء والعداوة، وسقوط البعض منهم، وعدم الانتظام, إلّا الّذين يراعون هذا الحقّ ويلتزمون بهذا الواجب الّذي مدح الله تعالى به نبيّه إسماعيل عليه السلام وأثنى عليه في قوله عزّ من قائل: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا﴾2، وممّا قاله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "العِدَةُ دَيْن, ويل لمن وعد ثمّ أخلف، ويل لمن وعد ثمّ أخلف، ويل لمن وعد ثمّ أخلف"3.
1- الروم: 60.
2- مريم: 54.
3- ميزان الحكمة, حديث 21955.
27
19
الوفاء بالوعد
وللأسف الشديد فإنّ الكذب بالوعد يشكّل ظاهرة شائعة خصوصاً في بعض الأوساط، وهو ما يدعونا إلى إيضاح أهمّيّة الوفاء والصدق بالوعد عبر الكتاب والسنّة والتنبيه على المخاطر والشوائب الناتجة من عدم الالتزام والاستخفاف به، مع أنّ الّذي يجب أن ينتشر هو تلك الصورة البيضاء الناصعة لعدة المؤمن كما رسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "عِدة المؤمن دين وعِدَة المؤمن كالأخذ باليد"1، وفي الحديث: "وعد الكريم نقد وتعجيل، وعد اللّئيم تسويف وتعليل"2.
كيف نتعامل مع الوعد؟
تتمثّل مشكلة عدم الوفاء في أمرين هما:
الأوّل: أن يعِدَ المؤمن أخاه وهو قادر على الوفاء ثمّ لا يفي.
الثاني: أن يِعدَه وهو عالم أنّه غير قادر على الوفاء من البداية ولا شكّ أنّه ينبغي تلافي الأمر الأوّل طالما لم يطرأ عجز غير متوقّع, وإلّا كان الإنسان معذوراً إذا عجز بعد أن كان قادراً, ويجمل في هذه الحالة اطلاع الآخر على حقيقة ما جرى، وأن يحمل المؤمن في نفسه همّ الوعد. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ما بات لرجل عندي موعد قط فبات يتململ على فراشه ليغدو بالظفر بحاجته، أشدّ من تململي على فراشي حرصاً على الخروج إليه من دين عدته، وخوفاً من عائق يوجب الخُلف، فإنّ خُلف الوعد ليس من أخلاق الكرام"3.
وعن الرضا عليه السلام: "إنّا أهل بيتٍ نرى ما وعدنا علينا ديناً كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"4.
وكذلك ينبغي تلافي الأمر الثاني وهو الوعد مع العلم بعدم القدرة على الوفاء لأنّه قبيح ونوعٌ من أنواع الكذب, وقد نهانا الإسلام عن ذلك نهياً شديداً, قال تعالى:
1- م.س. 21956.
2- م.ن. 21963.
3- غرر الحكم: 9692.
4- بحار الأنوار، ج72, ص97.
28
20
الوفاء بالوعد
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾1.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تعدنّ عدّة لا تثق من نفسك بإنجازها"2.
وممّا قاله الصادق عليه السلام: "لا تعدنّ أخاك وعداً ليس في يدك وفاؤه"3.
وقد جمع أحد الشعراء الموقف المطلوب في بيتين من الشعر قائلاً:
وممّا ورد في ذمّ الخُلْف بالوعد ما كتبه أمير المؤمنين عليه السلام للأشتر لمّا ولاّه مصر: "وإيّاك والمنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتُتْبِع مَوعدك بخلفك، فإنّ المنّ يُبطل الإحسان والتزيّد يذهب بنور الحقّ، والخلف يوجب المقت عند الله والناس, قال الله تعالى: "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"4.
الوعد والصِّغار
ربّما يتراءى أنّه ليس هناك ضررٌ في أن يَعِدَ الرجل أطفاله ثمّ يخلفهم, خاصّة فيما إذا لجّوا في الطلب ورغبوا بأشياء لا يحبّ أن يجيبهم إليها بدعوى أنّه الّذي يمسك بزمام أمورهم وله المونة عليهم. وقد يسوِّغ بعض الناس هذا السلوك الخاطىء في التعامل مع الصغار بأنّ إبقاءهم على أمل الاستجابة لهم, خيرٌ من ردعهم ومنعهم من أوّل الطريق تخلّصاً من تذمّرهم أو بكائهم.
1- الصف: 2 - 3.
2- غرر الحكم: 10297.
3- ميزان الحكمة، حديث: 21974.
4- نهج البلاغة: ج3, ص108.
29
21
الوفاء بالوعد
والصحيح أنّ هذه الطريقة لا تتّصل بالمنهج التربويّ الّذي تدعونا إليه الأخلاق الإسلاميّة ومدرسة أهل البيت عليهم السلام حيث يقول مولانا الكاظم عليه السلام: "إذا وعدتم الصبيان فأوفوا لهم، فإنّهم يرون أنّكم أنتم الّذين ترزقونهم، وإنّ الله عزّ وجلّ ليس يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان"1.
لذلك يبقى الخلف بالوعد على قبحه سواء كان مع الكبار أو مع الصغار.
خُلف الوعد والنِّفاق
يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أربعٌ مَن كُنَّ فيه فهو منافق, وإن كانت فيه واحدة منهنّ كانت فيه خصلة من النِّفاق حتّى يدعها: مَن إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر, وإذا خاصم فجر"2.
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يجعل الخُلف بالوعد نفاقاً حيث إنّ النفاق ليس إلّا أن يُظهر الإنسان غير ما يضمر حقيقة, وبالتالي فالمسافة بين خُلق الوعد والنفاق أقرب ممّا قد نظنّ.
الوعد في سلوك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
ينقل المحدّثون عدّة وقائع ترتبط باهتمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الشديد بالحفاظ على الوفاء بالوعد مكاناً وزماناً وتحمّله المتاعب لقاء ذلك، نذكر منها نموذجين فقط علّنا نقتدي به ونستفيد من سيرة حياته المباركة.
النموذج الأوّل: يقول أحدهم: بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببيع قبل أن يُبعث، فبقيت له بقيّة ووعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت ثمّ ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو مكانه، فقال: "يا فتى لقد شققت عليّ، أنا ها هنا منذ ثلاثة أيّام"3.
1- بحار الأنوار, ج6, ص50.
2- م.ن, ج69, ص261.
3- مستدرك الوسائل, ج8, ص460.
30
22
الوفاء بالوعد
النموذج الثاني: ما قاله مولانا الصادق عليه السلام: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واعد رجلاً إلى الصخرة فقال: أنا لك ها هنا حتّى تأتي قال: فاشتدّت الشمس عليه، فقال له أصحابه: يا رسول الله لو أنّك تحوّلت إلى الظلّ، قال: وعدته ها هنا وإن لم يجئ كان منه المحشر"1.
إسماعيل عليه السلام وصدق الوعد
هناك سؤال يُطرَح هو: لماذا سُمِّي إسماعيل عليه السلام صادق الوعد في القرآن الكريم ولم تُطلَق هذه التسمية على غيره في الآيات مع أنّنا لا نشكّ في أنّ جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا صادقي الوعد؟
والجواب يأتينا من مولانا الصادق عليه السلام قائلاً: "إنّما سُمِّي إسماعيل عليه السلام صادق الوعد لأنّه وعد رجلاً في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسمّاه الله عزّ وجلّ صادق الوعد, ثمّ قال: إنّ الرجل أتاه بعد ذلك فقال له إسماعيل عليه السلام: ما زلت منتظراً لك"2.
خلاصة الدرس
أ - إنّ الاستخفاف بالوعد الإلهيّ أو عدم الوفاء بالوعد بين الناس من الأخلاق الرذيلة الّتي حذر منها الإسلام الحنيف، معتبراً أنّ الوعد دين في رقبة المؤمن وعليه أن يكون صادقاً في ذلك.
ب - في بعض الأحيان يكون الخلف بالوعد ناتجاً من عدم القدرة على الوفاء منذ البداية، فهنا المطلوب أن يكون الإنسان واقعيّاً مع نفسه وغيره وأن لا يعد من أوّل الأمر.
1- مكارم الأخلاق، الشيخ الطبسي, ج1، ص64.
2- أصول الكافي، ج2، ص105
31
23
الوفاء بالوعد
ج - كما لا ينبغي الخلف بالوعد مع الكبار, كذلك الأمر مع الصغار؛ لأنّه أسلوب مرفوض إسلاميّاً وتربويّاً.
د - خلف الوعد خصلة من خصال النِّفاق.
هـ - سُمِّي إسماعيل عليه السلام صادق الوعد في القرآن لأنّه انتظر من واعده سنة كاملة.
للمطالعة
الوفاء وحفظ العهد
أَوقِف الباص لكي أصلّي وإلّا رميت بنفسي منه!
نقل أحد المؤمنين، أنّه سمع أحد الخطباء يقول: كنت جالساً في حافلة لأسافر إلى مدينة نائية من مدن إيران.
لم يكن على المقعد بجانبي أحد، وكنت أخشى أن يجلس من لا أرغب في جواره، فيضايقني في هذا الطريق البعيد. فسألت الله تعالى في قلبي:
إلهي إن كان مقدّراً أن يجلس عندي أحد، فاجعله إنساناً متديّناً طيّباً!
وهكذا جلس المسافرون على مقاعدهم، ولم أرَ من يشغل المقعد الّذي بجانبي، فشكرت الله أنّي وحيد!
ولكنّي فوجئت في الدقيقة الأخيرة قبل الحركة, بشابّ يبدو عليه مظهر الهيبيز (جماعة من الناس لا تهتمّ بمظهرها) وبيده حقيبة صغيرة من صنع بلد أجنبي، وكأنّه من غير ديننا، فتقدّم حتّى جلس عندي، وأنا أقول في قلبي: يا ربّ أهكذا تستجيب الدّعاء؟!
تحرّكت السيّارة ولم يتفوّه أحد منّا للثاني بكلمة، لأنّ الإنطباع المأخوذ في أذهان هؤلاء الأشخاص عن المعمّمين كان إنطباعاً سيّئاً، بفعل الدعايات المغرضة الّتي كانت تبثّها أجهزة النظام الشاهنشاهي ضدّ علماء الدين. لذلك آثرت الصبر والسكوت
32
24
الوفاء بالوعد
وأنا جالس على أعصابي، حتّى حان وقت الصلاة (أوّل وقت الفضيلة)، وإذا بالشابّ وقف ينادي سائق الباص: قف هنا، لقد حان وقت الصلاة! فردّ عليه السائق مستهزئاً وهو ينظر إليه من مرآته: إجلس، أين الصلاة وأين أنت منها؟ وهل يمكننا الوقوف في هذه الصحراء؟
قال الشابّ: قلت لك قف وإلّا رميتُ بنفسي، وصنعتُ لك مشكلة بجنازتي!
ما كنتُ أستوعب ما أرى من هذا الشاب، إنّه شيء في غاية العجب، فأنا كعالم دين أولى بهذا الموقف من هذا الشابّ الهيبيز!
فعدم مبادرتي إلى ذلك كان إحترازاً من الموقف العدائي الّذي يكنّه البعض لعلماء الدين، لذلك كنت أنتظر لأصلّي في المطعم الّذي تقف عنده الحافلة في الطريق.
وهكذا كنت أنظر إلى صاحبي بإستغراب شديد، وقد اضطرّ السائق إلى أن يقف على الفور، لمّا رأى إصرار الشابّ وتهديده.
فقام الشابّ ونزل من الحافلة، وقمت أنا خلفه ونزلت، رأيته فتح حقيبته وأخرج قنّينة ماء فتوضّأ منها ثمّ عيّن إتجاه القبلة بالبوصلة وفرش سجّادته، ووضع عليها تربة الحسين الطاهرة وأخذ يصلّي بخشوع، وقدّم لي الماء فتوضّأت أنا كذلك وصلّيت!
ثمّ صعدنا الحافلة، وسلّمت عليه بحرارة معتذراً من البرودة الّتي استقبلته بها أوّلاً، ثمّ سألته: مَن أنت؟
قال: إنّ لي قصّة لا بأس أن تسمعها، فقد كنت لا أعرف الدين ولا الصلاة يوم كنت أدرس الطبّ في فرنسا، وأنا الولد الوحيد لعائلتي الّتي دفعت كلّ ما تملك لأجل دراستي هذه.
كانت المسافة بين سكني والجامعة الّتي أدرس فيها مسافة قرية إلى مدينة.
وكان الوقت بارداً جدّاً عندما ركبتُ السيّارة الّتي كنت أستقلّها يوميّاً إلى المدينة مع ركّاب آخرين، وكنت على موعد مع الإمتحان الأخير الّذي تترتّب عليه نتيجة جهودي كلّها.
33
25
الوفاء بالوعد
فلمّا وصلنا إلى منتصف الطريق عطبت السيّارة، وكان الذهاب إلى أقرب مصلِّح (ميكانيك) يستغرق من الوقت ما يفوّت عليّ الحضور في الإمتحانات النهائيّة للجامعة، لقد أرسل السائق من يأتي بما يحرّك سيّارته وأصبحتُ أنا في تلك الدقائق كالضائع الحيران، لا أدري أتّجه يميناً أو يساراً؟ أم يأتيني من السماء من ينقذني؟ كنتُ في تلك الدقائق أتمنّى لو لم تلدني أمّي، (وأن تشق الأرض لأخفي فيها نفسي)، إنها كانت أصعب دقائق تمرّ عليّ خلال حياتي, وكأنّ الدقيقة منها سهم يُرمى نحو آمالي، وكأنّي أشاهد أشلاء آمالي مقطّعة أمامي، ولا يمكنني إنقاذها أبداً.
فكلّما أنظر إلى ساعتي كانت اللّحظات تعتصر قلبي، فكدتُ أخرّ إلى الأرض، وفجأة تذكّرتُ أنّ جدّتي في إيران عندما كانت تصاب بمشكلة أو تسمع بمصيبة، تقول بكلّ أحاسيسها: يا "صاحب الزمان".
هنا ومن دون سابق معرفة لي بهذه الكلمة وصاحبها ومعناها الاعتقاديّ، قلت بكلّ ما في قلبي وفكري من حبّ وذكريات عائليّة: "يا صاحب زمان جدّتي"!
ذلك لأنّي لم أعرف من هو (صاحب الزّمان)، فنسبته إلى جدّتي على البساطة، قلت: فإن أدركتني، أعدك أن أصلّي دائماً وفي أوّل الوقت! وبينما أنا كذلك، وإذا برجل حضر هناك، فقال للسّائق بلغة فرنسيّة: شغّل السيّارة!
فاشتغلت في المحاولة الأولى، ثمّ قال للسائق: أسرع بهؤلاء إلى وظائفهم ولا تتأخّر، وحين نزوله التفتَ إليّ وخاطبني بالفارسيّة: لقد وفينا بوعدنا، يبقى أن تفي أنت بوعدك أيضاً! فاقشعرّ له جلدي وبينما لم أستوعب الّذي حصل ذهب الرّجل فلم أرَ له أثراً.
من هنا قرّرتُ أن أصلّي وفاءً بالوعد، بل وأصلّي في أوّل الوقت.
34
26
كتمان السرّ
كتمان السرّ
• في رحاب الدُّعاء • الكتمان سبب النجاح
• معيار حفظ الأسرار • الأمين على السرّ
• من لا ينبغي إيداع السرّ عنده
"أللَّهُمَّ... جيرَانِي وَمَوَالِيَّ وَالْعَـارِفِينَ بحَقِّنَا وَالْمُنَـابِذِينَ لاِعْدَائِنَا... َوَفِّقْهُمْ لاقَامَةِ سُنَّتِكَ وَالاَخْذِ بِمَحَاسِنِ أَدَبِكَ فِي... َكِتْمَانِ أَسْرَارِهِمْ..."1.
"أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ واجْعَلِ القُرْآنَ... لاِلْسِنَتِنَا عَنِ الْخَوْضِ فِي الباطِلِ مِنْ غَيْرِ مَا آفَة مُخْرِساً، وَلِجَوَارِحِنَا عَنِ اقْتِرَافِ الاثامِ زَاجِراً..."2.
الصحيفة السجّاديّة
1- الصحيفة السجّاديّة, ص124.
2- م.ن, ص178.
35
27
كتمان السرّ
في رحاب الدُّعاء
يدعو الإمام عليه السلام ربّه تعالى أن يوفّق شيعته الموالين له العارفين بحقّه العاملين بما توجبه ولايتهم له من البراءة من أعدائه ومنابذتهم، ومناصرة أهل الحقّ ومعاونتهم لأنّ يقيموا السنّة الإلهيّة ويعملوا بآداب الدين الّتي من جملتها كتمان السرّ والحفاظ على الأمانة وغير ذلك, حيث من الخيانة إفشاء السرّ الّذي إئتمن المرء عليه، ولا يحبّ الإمام عليه السلام أن يرى في أتباعه خونة لا يراعون الحقوق، ولا يقيمون لعواقب الأمور وزناً وأن ترتّب على إذاعة الأسرار ما يؤدّي إلى الفرقة بين الأخوة ونشر الضغينة بين الأرحام، والإفساد في المجتمعات، بل على العكس تماماً، شيعته هم حفظة الأسرار الأمناء المنزّهون عن هذه الآفة اللّسانيّة القبيحة, يقول الصادق عليه السلام: "إفشاء السرّ سقوط"1.
وفي الحديث: "سرّك سرورك إن كتمته، وإن أذعته كان ثبورك"2.
1- تحف العقول, ابن شعبة الحراني, ص316
2- غرر الحكم: 5616.
37
28
كتمان السرّ
الكتمان سبب النجاح
إنّ من أقوى أسباب النجاح، وأدوم أحوال الصلاح، وأدلّ شيء على سعة النفس، وغزارة العقل كتمان السرّ، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أنجح الأمور ما أحاط به الكتمان"1, وقال عليه السلام: "من كتم سرّه كانت الخيرة في يده"2.
وعنه عليه السلام: "سرّك أسيرك فإن أفشيته صرت أسيره"3.
وقد أخذ أحد الشعراء حديث الأمير عليه السلام فنظمه وقال:
وممّا أوصى به بعضهم: كن على حفظ سرّك أحفظ منك على حقن دمك، فكم من إظهار سرّ، أراق دم صاحبه، ومنع من نيل مطالبه، ولو كتمه كان من سطواته آمناً، ومن عواقبه سالماً، ولنجاح حوائجه راجياً.
هذا فيما يتعلّق بإفشاء المرء لأسراره الشخصيّة والبيتيّة الّتي لا ترتبط بالآخرين, وأمّا ما يتعلّق بهم فلا شكّ أن كشف أسرارهم الّتي أودعوها عنده أقبح من كشف سرّ نفسه, لأنّ الّذي يبدي سرّ غيره ويفشيه يبوء بوصمة الخيانة والنميمة كما تقدّم.
ويتأكّد الاهتمام بالمحافظة على الأسرار أكثر كلّما كانت ترتبط بقضايا خطيرة كالتي تعني شؤون العمل الجهاديّ من قبيل الخطط العسكريّة، ومواضع وجود المجاهدين، والمقدّرات الميدانيّة وما شابه هذه الأمور ويعتبر البوح بها إلى الآخرين خدمة مجّانيّة إلى الأعداء، كما يصبح المتهاون بها شريكاً في كلّ ظلامة أو سفك دم أو ثغرة ناتجة من بوحه بالسرّ المأمور بكتمانه.
1- ميزان الحكمة, ج2, ص1282.
2- الكافي, ج8, ص152.
3- م.ن.
38
29
كتمان السرّ
معيار حفظ الأسرار
يقول الصادق عليه السلام: "لا تطلع صديقك من سرّك إلّا على ما لو أطلعت عليه عدوّك لم يضرّك، فإنّ الصديق قد يكون عدوّاً يوماً ما"1.
هذا الحديث يوضح المعيار والميزان الّذي في ضوئه يكون الإبداء أو الإخفاء، فإن كان إطْلاع الآخر على سرّك غير مؤذٍ ولا مضرّ حتّى لو انقلب عدوّاً أو أوصل السرّ إلى الأعداء, فكَشْفُ هكذا سرّ مسموح به. وإلّا لو كان إطْلاعه عليه مضرّاً فهو غير مسموح به وإن كانت الصداقة والمودّة لا تزال قائمة بينهما، هذا على الصعيد الفرديّ ومنه نفهم ما هو على الصعيد العامّ, سيّما وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "جمع خير الدّنيا والآخرة في كتمان السرّ ومصادقة الأخيار، وجمع الشرّ في الإذاعة ومؤاخاة الأشرار"2.
وقيل: صدور الأحرار قبور الأسرار.
الأمين على السرّ
هناك أمور تعتبر أسراراً مهمّة تخصّنا لكن لا نستغني فيها عن مساعدة صديق أو استشارة ناصح، أو معاونة إنسان حاذق عارف بكثير من مفاصل الحياة وبلاءاتها، فإذا كان لا بدّ لنا أن نودع أسرارنا لدى شخص يحمل مواصفات تساعدنا على بلوغ أهدافنا وإنجاح أعمالنا، لما يمتلك من مؤهّلات قد يفتقدها البعض منّا، فكيف نختاره ليكون أميناً على ذلك؟
يجيبنا والد الشيخ البهائيّ (رض) قائلاً: "فليختبر العاقل أميناً جليلاً إن لم يجد إلى كتم السرّ سبيلاً، وليتحرّس في اختيار من يأتمنه عليه كلّ الاحتراس، فليس كلّ
1- بحار الأنوار, ج72, ص71.
2- م.ن.
39
30
كتمان السرّ
من كان على الأموال أميناً كان على الأسرار أميناً، لأنّ العفّة على الأموال أيسر من العفّة عن إذاعة الأسرار، بدليل أنّ المرء قد يظهر سرّه في غير محلّه بمبادرة لسانه، ويحترز في ذلك على اليسير من ماله، فلهذا كان أمناء الأسرار أشد تعذّراً وأقل وجوداً من أمناء الأموال".
ومن صفات الأمين على السرّ: أن يكون ذا عقل راجح، ودين صالح، ونصح مبرور، وودّ موفور، كتوماً بالطبع، ثقة لا يكذب يخشى ربّه في الخفاء والعلانية.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تودع سرّك إلّا عند كلّ ثقة"1.
وينبغي أن يكون شديد الحرص في إخفاء السرّ كما أنشد بعضهم:
ومستودعي سرّاً تبوّأت كتمه فأودعته صدري فصار له قبراً
وقيل لبعض الحكماء: كيف حفظك للسرّ؟ فقال: أنا قبره.
من لا ينبغي إيداع السرّ عنده
1- الجاهل الأحمق:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تسرّ إلى الجاهل شيئاً لا يطيق كتمانه"2.
وفي الحديث: "إن قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه"3.
2- الخائن:
فيما رُوي: "لا تودعنّ سرّك من لا أمانة له"4.
والّذي تجدر الإشارة إليه قبل أن نختم الكلام في هذا الدرس أنّه مع توفّر المواصفات المطلوبة لأمين السرّ، فإن كان لا ضرورة أو لا حاجة إلى كشف السرّ على الإطلاق،
1- ميزان الحكمة, ج2, ص1282.
2- م.ن, ص 1283.
3- بحار الأنوار, ج1, ص158.
4- ميزان الحكمة, ج2, ص1283.
40
31
كتمان السرّ
بحيث إنّ الإنسان لمجرّد الميل لديه لإطْلاع الآخر الثقة على معلومات تخصّه قام ببيانها له، ولأنه يأنس بذلك، فإنّ الأفضل الاحتفاظ بها وعدم إبدائها طالما أنّه ليس من شيء يدعوه إلى هذا الأمر, وقد حثّت الروايات في مثل هذه الحالات على التفرّد بالسرّ.
قال الصادق عليه السلام: "سرّك من دمك فلا تجرِهِ في غير أوداجك"1.
وقال عليه السلام: "صدرك أوسع لسرّك"2وممّا رُوي: "المرء أحفظ لسرّه"3.
خلاصة الدرس
أ - يحبّ أهل البيت عليهم السلام لأتباعهم أن يتحلّوا بكتمان السرّ ويدعونهم إلى ذلك, لأنّه من محاسن الأدب وأقوى أسباب النجاح والصلاح.
ب - إنّ إفشاء السرّ يُعتبر خيانة إذا كان متعلّقاً بالآخرين, وسبباً للمتاعب والسقوط إذا كان خاصّاً بصاحبه.
ج - معيار حفظ الأسرار هو إطْلاع الصديق على الأمور الّتي لو وصلت إلى العدوّ لم يكن هناك ضرر وإيذاء.
د - لا ينبغي ائتمان أحد على السرّ إلّا إذا كان ثقة مأموناً وذا عقل راجح وكتوماً يخشى الله تعالى في السرّ والعلن.
هـ - لا يؤتمن على السرّ: الجاهل الأحمق والخائن والنمّام.
1- بحار الأنوار, ج72, ص71.
2- م.ن.
3- م.ن.
41
32
كتمان السرّ
للمطالعة
إفشاء السرّ قتل الولد!
كان رجل من أهل المدينة يذهب إلى بعض الأرياف، لشراء الشاة والدهن والصوف وما أشبه، وكان له عميل في الريف يرد عليه فيشتري له ما يريد.
وذات مرّة أخذ معه مالاً ضخماً وقصد الريف ونزل عند عميله وذكر له حاجياته، وإنّه يريد الشراء بمبلغ كذا..
قال التاجر: وبمجرّد أن ذكرت للعميل كمّيّة المال الّذي معي، إذا بي أرى آثار التغيّر في وجه العميل، فعلمت أنّه أراد بي سوءاً فندمت، ولكن لا ينفع الندم.
نعم: استر ذهبك وذهابك ومذهبك، حتّى عن الأصدقاء, يقول الشاعر:
إحذر عدوّك مرّة واحذر صديقك ألف مرّة
فلربّما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرّة
قال التاجر: ولكن لم يكن لي ملجأ، ألجأ إليه في تلك اللّيلة.. وبعد تناول الطعام فرش لي صاحب البيت في غرفة من غرف البيت، وذهب هو وزوجته إلى غرفة أخرى، لكنّ النوم لم يزر عيني من القلق، وأخيراً قرّرت أن أخرج من غرفتي وأختفي في بعض زوايا البيت، وهكذا فعلت.
فخرجت, وحيث لم أجد مكاناً للاختفاء إلّا الإسطبل اختفيت فيه، وأخفيت نفسي إلى رقبتي في التبن الّذي خُزّن في الإسطبل.. لكنّ عيني كانت تحدق بإتجاه الغرفة.
وإذا بي أرى, منتصف اللّيل, أنّ شخصاً دخل الدار وذهب إلى غرفتي.. ولم أعرف من هو ذلك الشخص.
وبعد مدّة رأيت في ضوء القمر أنّ صاحب البيت وزوجته قاما وهما يتهامسان حتّى دخلا وعلمت أنّهما يريدان بي شرّاً، ولم تمض مدّة حتّى رأيت الزوجين قد أسرعا
42
33
كتمان السرّ
وأضاءا مصباحاً نفطيّاً ودخلا الغرفة، ثمّ رأيتهما يخرجان ويسحبان جثّة إنسان ملفوف إلى السرداب.
قال الرجل: ولمّا دخلا السرداب قمت من مكاني وهربت من القرية قاصداً البلد، ومشيت حتّى وصلت إلى البلد بكلّ خوف وصعوبة، وأخبرت الشرطة بما جرى.
فجاءت مفرزة من الشرطة معي إلى القرية، وألقوا القبض على الزوجين، ودخلنا السرداب وحفرناه، وإذا بنا بجثّة الرجل المذبوح، وبعد التحقيق تبيّن أنّ المذبوح ولد صاحب البيت، وأنّه كان خارجاً لبعض شؤونه، ولمّا دخل الدار نام في تلك الغرفة، والزوجان ظنّاه أنّه التاجر فقتلاه في الظلام.
43
34
أمانة الوقت
أمانة الوقت
• في رحاب الدُّعاء • كيف تُصان أمانة الوقت؟
• هكذا يُضيَّع الوقت
"وَهَذَا يَوْمٌ حَادِثٌ جَدِيدٌ، وَهُوَ عَلَيْنَا شَاهِدٌ عَتِيدٌ..."1. "اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَنَا فِي كُلِّ سَاعَة مِنْ سَاعَاتِهِ حَظّاً مِنْ عِبَادِكَ، وَنَصِيباً مِنْ شُكْرِكَ وَشَاهِدَ صِدْق مِنْ مَلائِكَتِكَ..."2. "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَوَفِّقْنَا فِي يَوْمِنَا هذا ولَيْلَتِنَا هذِهِ وَفِي جَمِيعِ أيّامِنَا..."3. "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ... وَاسْتَفْرِغْ أَيَّامِي فِيمَا خَلَقْتَنِي لَهُ.."4.
الصحيفة السجّاديّة
1- الصحيفة السجّاديّة, ص56.
2- م.ن, ص57.
3- م.ن.
4- م.ن, ص110.
45
35
أمانة الوقت
في رحاب الدُّعاء
ربّما ينصرف ذهن الكثيرين من الناس إلى أنّ الله تعالى سيسألهم يوم الحساب عن أداء العبادات أو تركها أو اجتناب المحرّمات فقط، ولا يلتفتون إلى أنّه توجد مسؤوليّات أخرى هي محلّ اهتمام الخالق سبحانه، ويتهاون الإنسان بعض الأحيان فيها، ومن تلك الأمور الّتي يسألنا الله عنها الوقت الّذي هو نعمة وعطاء منه يمكن أن نملأه فيما أراده عزّ وجلّ لنا، وليس من الصواب أنّ الإنسان إذا أدّى واجباته العباديّة واجتنب ما نهاه المولى تعالى عن فعله أن يعيش في فراغ دائم ويضيّع أوقاته بدون جدوى ولا يلتزم ببرنامج عمل في حياته.
فالإمام السجاد عليه السلام يكشف من خلال الدّعاء المتقدّم عن أمرين لا بدّ منهما وهما:
الأوّل: ضرورة استعمال الوقت وعدم إفناء العمر بالفراغ.
والثاني: أن يكون ذلك فيما أراده الله تعالى وخلق البشريّة لأجله، لا مجرّد استغلال الوقت في أيّ شيء كان, وهو المقصود من قوله عليه السلام: "واستفرغ أيّامي فيما خلقتني له".
وإلى المعنى نفسه يشير في دعاء آخر: "واجعلنا من أرضى من مرّ عليه اللّيل والنهار من جملة خلقك"1.
1- الصحيفة السجّاديّة, ص57.
47
36
أمانة الوقت
ويحدّثنا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن مسؤوليّة الوقت قائلاً: "لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع, عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه"6.. وفي الحديث: "إنّ عمرك وقتك الّذي أنت فيه"7 لذلك صحّ أن يقال إنّ الوقت أمانة لدينا فلا يسوغ لنا التهاون بها أو تضييعها أو خيانتها.
كيف تُصان أمانة الوقت؟
لا بدّ قبل معرفة الجواب أن نبيّن أنحاء الوقت وهي:
النحو الأوّل: أن يكون الوقت خاصّاً بالشخص ولا يشاركه فيه غيره, كالساعات الّتي يخلد فيها إلى الراحة في بيته أو النزهة إلى مكان ما.
النحو الثاني: أن يكون الوقت مشتركاً بينه وبين آخرين, كالحصّة الدراسيّة في الجامعة حالة كونه طالباً فيها, فإنّ وقتها لا يخصّه لوحده بل يشاركه سائر زملائه في الصفّ إضافة إلى الأستاذ.
النحو الثالث: أن يكون الوقت لغيره كالموظّف في مؤسّسة ما أو الأجير لدى ربّ العمل لساعات محدّدة يشغلها بالمهمّة الموكلة إليه سواء في الصناعة أو الزراعة أو في الشؤون الإداريّة أو غير ذلك.
وتصان أمانة الوقت في الأنحاء الثلاثة على الشكل الآتي:
أمّا الأوّل: فإنّه طالما كان الواحد منّا مالكاً لوقته غير مرتبط بدوام مع غيره، وأراد تنظيم ساعات أيّامه بالشكل الّذي يريده الإسلام له وتفرضه عليه تلك المسؤوليّة عن عمره فالّذي ينبغي له هو أن يتبع التقسيم الّذي أرشدنا إليه مولانا الكاظم عليه السلام حيث يقول: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله وساعة لأمر
1- بحار الأنوار، ج36، ص79.
2- ميزان الحكمة، ص2112.
48
37
أمانة الوقت
المعاش، وساعة لمعاشرة الأخوان والثقات الّذين يعرّفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرّم"1.
والّذي يفهم من الحديث أنّ إشغال الوقت بتمامه بأمرٍ واحد ممّا ذكره عليه السلام كأن يكون كلّ وقته لأمر المعاش أو كلّ وقته للانصراف إلى الملذّات غير المحرّمة هو غير مرغوب فيه, بل اللّازم اعتماد التوزيع المذكور.
وأمّا الثاني: فينبغي عدم هدر الوقت باختلاق أسئلة لا طائل فيها أو تعمّد تضييع الحصّة الدراسيّة بما يعطّل الفائدة على أصدقائه التلامذة، أو القيام بأيّ عمل من شأنه أن يؤخّر برنامجهم العلميّ, فإنّ المسؤوليّة هنا أشدّ وآكد حيث إنّه غصب لأوقات الآخرين إضافة إلى تضييع وقته, وربّما كان الّذي فات لا يعوّض بالنسبة إلى الجميع.
وفي الحديث: "ما أنقصت ساعة من دهرك إلّا بقطعة من عمرك"2.
وممّا قاله أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّما أنت عدد أيّام فكلّ يوم يمضي عليك يمضي ببعضك، فخفِّض في الطلب وأجمل في المكتسب"3.
وأمّا الثالث: فإنّه إذا فرّط الأجير بالوقت وانصرف إلى شؤون تخصّه كان خائناً لمن استأجره وائتمنه حيث فرض له بدلاً ماليّاً لقاء إشغال هذه الساعات وقيامه بالمهمّة الموكلة إليه على أحسن وجه. ويظهر هذا النوع من الخيانة لأمانة الوقت في المؤسّسات الانتاجيّة والمصانع الّتي ينخفض فيها مستوى الإنتاج كلّما هدر العاملون فيها الأوقات وانصرفوا عن أداء العمل حقّه. ومن الناحية الشرعيّة تنشأ مشكلة تقاضي الراتب الماليّ كاملاً حال عدم الالتزام بإشغال الوقت فيما حدّد له إذ إنّ الساعات الّتي هدرت لغير مصلحة المؤسّسة لا يحقّ للموظّف أو الأجير أخذ البدل عنها, ويكون أخذ الأجرة عليها حينئذٍ أخذاً للمال بغير حقّ.
1- بحار الأنوار، ج75، ص321.
2- غرر الحكم, ص 9608.
3- م.ن, ص3874.
49
38
أمانة الوقت
فصيانة أمانة الوقت في هذا النحو تتمّ بأمرين:
الأوّل: الالتزام بالدوام المحدّد المتفّق عليه من بدايته إلى نهايته.
والثاني: أن يكون المداوم مشتغلاً بما كلّف به لا مجرّد أنّه حاضر في مكان العمل, لكن مع عدم الاشتغال.
هكذا يُضيَّع الوقت
هناك صنفان من الناس، أحدهما: قدم على تضييع عمره وهو عارف بما يقوم به, والآخر: يضيّعه وهو جاهل بذلك بل معتقد أنّه يعرف فيما له نفع.
فلأجل علاج الموقف نقرأ معاً ما تفضّل به أهل البيت عليهم السلام في بيان كيف تضيع الأوقات والأعمار.
1- الاشتغال بالفائت:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الاشتغال بالفائت يضيّع الوقت"1.
في الحديث: "اشتغال النفس بما لا يصحبها بعد الموت من أكثر الوهن"2.
3- الفضول:
يقول مولى المتّقين عليه السلام: "شرُّ ما شغل به المرء وقته الفضول"3.
4 - الاشتغال بغير المهمّ: (عدم ترتيب الأولويّات).
عنه عليه السلام: "من اشتغل بغير المهمّ ضيّع الأهمّ"4.
1- ميزان الحكمة، حديث: 14208.
2- م.ن. 14209.
3- م.ن. 14210.
4- م.ن. 14211.
50
39
أمانة الوقت
5- الغفلة:
في الحديث: "فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة, وأن تؤدّيه أيّامه إلى الشّقوة"1.
6- اللّهو والنسيان:
من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام: "أين الّذين عُمِّروا فنعموا، وعُلّموا ففهموا وأُنظِروا فلهَوْا، وسُلّموا فنُسُوا، أُمهلوا طويلاً ومُنحوا جميلاً"2؟!
خلاصة الدرس
أ - الوقت أمانة إلهيّة لدى الإنسان، لا يجدر به أن يعيش دون الاستفادة منها ورعايتها وينبغي أن تكون فيما أراده الله تعالى.
ب - للوقت أنحاء ثلاثة ينبغي رعاية كلّ نحو بحسب ما تفرض المسؤوليّة عنه وهي: ما يكون خاصّاً وما يكون مشتركاً وما يكون للآخرين.
ج - يتمّ ضياع الوقت بأمور هي: الاشتغال بالفائت، ترك العمل للآخرة، الفضول، ترك الأهمّ والاشتغال بغير المهمّ، الغفلة، اللّهو والنسيان.
للمطالعة
لا يضيّع من وقته ولا دقيقة واحدة
تقول السيدة زهراء مصطفوي: "يصعب على من لم يشاهد عن قرب الإمام الخمينيّ قدس سره أن يصدّق دقّته في الالتزام ببرنامج حياته اليوميّ، مثلاً كنّا إذا أحضرنا
1- م.س. 14234.
2- م.ن. 14213.
51
40
أمانة الوقت
له الشاي عصراً ودعوناه لشربه، فإنّه كان ينظر أوّلاً إلى ساعته ثمّ يقول: لا زالت أمامنا بضع لحظات (أي ثوانٍ) لموعد شرب الشاي!
أجل، لقد كان دقيقاً في ذلك بحيث إنّه لو تأخّر مرّة ولم يفتح باب غرفته في تمام الساعة الواحدة وعشر دقائق لكي يتوجّه إلى غرفة العائلة لتناول طعام الغداء، أصاب القلق الجميع لأنّهم تعوّدوا على خروجه في تلك الساعة بالضبط كلّ يوم. كان يذهب في الوقت المحدّد بل في الدقيقة المحدّدة إلى النوم، وهكذا حاله مع موعد الطعام والاستيقاظ. كان يمارس رياضة المشي ثلاث مرّات في اليوم، لمدّة عشرين دقيقة في كلّ مرّة، فإذا بقيت منها ثوانٍ سار بضع خطوات إضافيّة ثمّ يدخل إلى الغرفة في الوقت المحدّد!
إنّه غريب حقّاً في دقّة تنظيمه، كان هذا حاله على الدوام مُنذ مرحلة الشباب. فقبل أيّام لاحظت قضيّةً معيّنة دعتني إلى التصوّر بأنّ دقته قد إزدادت في هذا المجال، فقلتُ له: يبدو أنّ دقّتكم في هذا النظام قد إزدادت وأصبحت شديدة جدّاً. فقال بجدّيّة: "كلّا، كان هذا هو حالي على الدوام"، أجل: هذا هو حاله في دقّةِ الالتزام، فمثلاً، لم يكن يترك العمل الّذي هو فيه لكي يتحدث إليّ مثلاً إذا دخلت عليه لمجرّد أنّني ابنته، بل كنّا ندخل فنسلّم ونجلس، وهو يتابع ما هو فيه كالإستماع للإذاعة أو التلفاز، أو مطالعة الرسائل الّتي تصل إليه أو التقارير الخبريّة. فلا يبقى ولا لدقيقة بدون عمل، حتّى في الحمّام يصطحب معه المذياع ويعلّقه على عاتقه عند الوضوء. كما أنّه دقيق في الإجابة عن الأسئلة الموجّهة إليه، فمثلاً إذا سألناه مسألة ولم يكن في التلفاز برنامج مهمّ، قام وأطفأه ثمّ أجاب عن السؤال بدقّةٍ, وكان علينا أن نحسن الإصغاء للحصول على الجواب لكي لا نضيع وقته، وأستطيع أن أقول بثقة إنّه لا يضيّع شيئاً من وقته أصلاً".
52
41
التواضع
التواضع
• في رحاب الدُّعاء • التواضع المذموم
• كيف أتواضع؟ • ما يُستعان به على التواضع
• ثمرات التواضع
"أَللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ... وَأَعِزَّنِي، وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ... وَلا تَـرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَـةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِرَاً إلاّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا...1. "واجْعَلْنِي اللَّهُمَّ... ألِينُ جَانِبِيْ لَهُمْ تَوَاضُعاً... أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمِّد وَآلِهِ، وَارْزُقْنِي مِثْلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ...".
الصحيفة السجّاديّة
1- الصحيفة السجّاديّة, ص110.
53
42
التواضع
في رحاب الدُّعاء
في هذه المقطوعة الفريدة الّتي تمثّل نهجاً تربويّاً أخلاقيّاً رائداً يوضح الإمام السجاد عليه السلام أنّ العزّة لا تتحقّق بالتكبّر والاستعلاء على الآخرين, وإنّما العزّة في التواضع والتخشّع, وعلى المؤمن أن لا تأخذه المكانة بين الناس إلى إحداث علوّ باطنيّ في نفسه سرعان ما تنبىء عنه الأفعال والأقوال حين تعكس الصورة الظاهريّة ذلك الباطن المملوء بالترّهات الّتي لا حقيقة لها عندما يعود الإنسان إلى حقيقة أمره ومعرفة ما هو خطره! (ما أنا يا سيّدي وما خطري؟) ويظهران لا واقعيّة ولا صدقاً يدعوان إلى هذا التكبّر. بناءً على ذلك، يكون المستقيم هو من عرف نفسه وظلّ متّهماً لها بالتقصير رغم قيامه بما يجب عليه والتزامه بالآداب, ولا ينظر إلى أصحابه أو سائر من يعاشرهم على أنّه أفضل منهم وهم أدنى منه، نتيجة ما تحدّثه به نفسه أو يسرح به خياله فيحسّ أنّه طار في الهواء أو غاص في غمر الماء وهو لا يزال واقفاً مكانه ولكلّ ذلك أسباب سوف نتحدث عنها بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
فالمطلوب هو أن لا يرى أنّه فوق الناس, بل يشكر الله على كلّ نعمة فضّله الله بها عليهم من علم أو جاهٍ أو مال, ويعلم أنّ هذا كلّه من الله, وإن شاء الله سلبه تلك النِّعم.
فالتواضع ولين الجانب من أشرف الخصال الحميدة في الإسلام, وأفضل العبادة.
55
43
التواضع
التواضع المذموم
بعد أن عرفنا ما للتواضع من أهمّيّة وتأثير في أن يعيش الإنسان صادقاً مع نفسه وربّه وكذلك مع الناس، لا بدّ أن نعرف حدود التواضع كي لا نقع فريسة للجهل حينما نتواضع لمن لا ينبغي التواضع له كالكافر المحارب الّذي يتربّص بالمؤمنين الدوائر، والله تعالى يقول: "فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله"1 فهناك قسم من التواضع مذموم وهو ما يكون للظالمين وأصحاب النفوذ والمصالح المادّيّة لأجل الوصول إلى مآرب غير شرعيّة أو الحصول على رضا المخلوقين وثنائهم ومدحهم، مع أنّ التواضع الّذي تحثّ عليه الشريعة هو ما يُراد به وجه الله تعالى.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "من أتى غنيّاً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه"2.
وفي الحديث: "أيّما مؤمن خضع لصاحب سلطان أو لمن يخالفه على دينه طلباً لما في يديه أخمله الله ومقته عليه ووكله إليه، فإن هو غلب على شيء من دنياه وصار في يده منه شيء نزع الله البركة منه، ولم يؤجره على شيء ينفقه في حجّ ولا عمرة ولا عتق"3.
كيف أتواضع؟
ربّما يتراءى للبعض أن يلين جانبه إلى حدّ أنّه يُكسر, أو يتعاطى مع الآخر بطريقة لا تنسجم مع بناء الشخصيّة الإيمانيّة ودورها في المجتمع, فلأجل تلافي الوقوع بمشاكل ناشئة من ضياع الأساليب المرغوبة والسبل المطلوبة كان لأهل البيت عليهم السلام بيانهم الوافي في هذا الجانب حيث بيّنوا وحدّدوا الطريقة المثلى في هذا الشأن ضمن رسم بيانين
1- المائدة: 54.
2- بحار الأنوار, ج70, ص170.
3- وسائل الشيعة, الحرّ العاملي, ج11, ص146.
56
44
التواضع
الأوّل عامّ بحيث يشكّل ميزاناً وضابطة في سلوك التواضع والثاني خاصّ بحيث يدلّل وينبّه على موارد معيّنة تجمل فيها هذه الفضيلة.
أمّا الأوّل: كما ورد عن مولانا الرضا عليه السلام لمّا سُئل عن حدّ التواضع: "أن تعطي الناس من نفسك ما تحبّ أن يعطوك مثله"1.
و عن أمير المؤمنين عليه السلام: "حسب المرء من تواضعه معرفته بقدره"2.
وأمّا الثاني: فما جاء عن الصادق عليه السلام: "التواضع أن ترضى من المجلس بدون شرفك وأن تسلّم على من لاقيت، وأن تترك المِراء وإن كنت محقّاً، ورأس الخير التواضع"3.
فمن التواضع أن يسلّم على كلّ من يمرّ به، وأن يجلس في منتهى المجلس أو في الأماكن الخلفيّة في الاحتفالات العامّة والمناسبات الدينيّة وإن كان مكانه في الأماكن الأماميّة وأن لا يدخل في نفسه شيء سواء قدّم أو أخرّ نتيجة الازدحام والضيق أو انصراف اهتمام الداعين له عن تبجيله جرّاء انشغالهم بغيره, وهذا ممّا لا يسبّب إهانة ولا منقصةً.
ما يُستعان به على التواضع
هناك أمور يمكننا أن نستعين بها على التواضع وتشكّل أسباباً مهمّة مساعدة على الابتعاد عن التكبّر والاستعلاء الّذي كثيراً ما ينشأ من تولّي المسؤوليّات، ومخالطة وجهاء الناس، ومعاشرة الأغنياء، وقلّة مخالطة الأكفاء, ومدح الناس، ونفوذ الأمر، ومحادثة النفس وإعجابها بكلّ ما يصدر عنها وغير ذلك من الآفات الخدّاعة الّتي تؤدّي إلى التشاغل عن الفضائل, بل ربّما إلى فعل الرذائل، مع أنّ المطلوب إذا زُكّي
1- م.س, ج15, ص274.
2- بحار الأنوار, ج75, ص80.
3- م.ن. ج72, ص123.
57
45
التواضع
الرجل أن يقول كما ورد في خطبة المتّقين لأمير المؤمنين عليه السلام: "إذا زُكِّي أحدهم خاف ممّا يقال له، فيقول: "أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم بي من نفسي، اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ممّا يظنّون واغفر لي ما لا يعلمون"1.
والأمور المساعدة على التواضع هي:
1- سلامة الصدر:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يُستعان.. على التواضع إلّا بسلامة الصدر"2.
2- العلم والتفقّه:
في الحديث: "التواضع ثمرة العلم"3.
ورُوي: "إذا تفقّه الرفيع تواضع"4.
3- تعظيم الخالق سبحانه:
يقول مولى المتّقين عليه السلام: "وأنّه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظّم، فإنّ رفعة الّذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له"5.
ثمرات التواضع
إنّ اعتماد التواضع مسلكاً يؤدّي إلى نتائج فيها من الخير الكثير على أصعدة مختلفة نستعرضها ضمن البيان النورانيّ لأهل بيت العصمة عليهم السلام وهي:
1- انتشار المودّة بين الناس:
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ثمرة التواضع المحبّة، ثمرة الكِبْر المسبّة"6.
1- نهج البلاغة، ج2, ص162.
2- بحار الأنوار، ج75، ص7.
3- غرر الحكم: 301.
4- ميزان الحكمة، ج4, ص3559.
5- نهج البلاغة، الخطبة: 147.
6- ميزان الحكمة، حديث: 21860.
58
46
التواضع
2- السلامة والأمان بين الناس:
عنه عليه السلام: "التواضع يُكسبك السلامة"1.
3- المهابة والاحترام:
في الحديث: "التواضع يكسوك المهابة"2.
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله"3.
4- الصحّة والعافية:
فيما ورد: "مَن تواضع قلبه لله لم يسأم بدنه من طاعة الله"4.
5- انتظام الأمور:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "بخفض الجناح تنتظم الأمور"5.
6- حكمة القلب:
في الحديث: "إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار؛ لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبّر من آلة الجهل"6.
7- نشر الفضيلة:
عنه عليه السلام: "التواضع ينشر الفضيلة، التكبر يظهر الرذيلة"7.
8- الطاعة والشكر للخالق تعالى:
في الحديث: "بالتواضع تتمّ النعمة"8.
1- م.س. حديث: 21861.
2- م.ن. حديث: 21862.
3- م.ن. حديث: 21872.
4- م.ن. حديث: 21863.
5- م.ن. حديث: 21864.
6- م.ن. حديث: 21866.
7- م.ن. حديث: 21868.
8- م.س. حديث: 21867.
59
47
التواضع
ومن الواضح أنّ هذه الآثار ليست فرديّة فقط, بل تعني حياة المجتمع وعمرانه بالشكل الأفضل كما يشرحه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: "إنّ الله تعالى أوحى إليّ أن تواضعوا حتّى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد"1.
خلاصة الدرس
أ - إنّ التواضع من أشرف الخصال الحميدة, وهو خُلُق الأنبياء والأوصياء, ومن خلاله يزداد المؤمن عزّاً وكرامة؛ لأنّ التكبر ذلّ ومهانة.
ب - التواضع المذموم هو الّذي لا يكون لله تعالى, وإنّما لحاجات زائلة أو لظالم أو لغنيّ أو لصاحب نفوذ وهو يوجب غضب الله سبحانه.
ج - ميزان التواضع أن تعطي الناس من نفسك ما تحبّ أن يعطوك مثله.
د - هناك أمور تساعد الإنسان على التواضع منها: سلامة الصدر، العلم والتفقه، وتعظيم الخالق تعالى.
هـ - ثمرات التواضع كثيرة وممّا ورد في أخبار العترة الطاهرة عليه السلام: انتشار المودّة، الأمان، الاحترام، العافية، نظم الأمور، الحكمة، نشر الفضيلة، وطاعة الربّ سبحانه.
للمطالعة
صبّ الأب على الأب
يقول الإمام العسكري عليه السلام:
"أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدّهم قضاءً لها أعظمهم عند الله شأناً، ومن تواضع في الدّنيا لإخوانه فهو عند الله من الصدّيقين، ومن شيعة عليّ بن أبي
1- م.ن. حديث: 21870.
60
48
التواضع
طالب عليه السلام حقّاً، ولقد ورد على أمير المؤمنين أخوان له مؤمنان: أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه وجلس بين يديهما، ثمّ أمر بطعام فأُحضر فأكلا معه، ثمّ جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل لييبس وجاء ليصبّ على يد الرجل، فوثب أمير المؤمنين عليه السلام وأخذ الإبريق ليصبّ على يد الرجل، فتمرّغ الرجل في التراب وقال: يا أمير المؤمنين! الله يراني وأنت تصبُّ على يدي؟ قال: اقعد واغسل فإنّ الله عزّ وجلّ يراك وأخوك الّذي لا يتميّز منك ولا يتفضّل عليك يخدمك، يريد بذلك في خدمته في الجنّة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدّنيا، وعلى حسب ذلك في مماليكه فيها.
فقعد الرجل فقال له عليّ عليه السلام: أقسمت عليك بعظم حقّي الّذي عرفته وبجّلته وتواضعك لله؛ حتّى جازاك عنه بأن ندبني لما شرّفك به من خدمتي لك، لمّا غسلت مطمئنّاً كما كنت تغسل لو كان الصابّ عليك قنبر، ففعل الرجل ذلك، فلمّا فرغ ناول الإبريق محمّد بن الحنفيّة وقال: يا بنيّ لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده، ولكنّ الله عزّ وجلّ يأبى أن يسوّي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، لكن قد صبّ الأب على الأب فليصبّ الابن على الابن، فصبّ محمّد بن الحنفيّة على الابن. ثمّ قال الحسن بن عليّ العسكري عليه السلام: فمن اتّبع عليّاً عليه السلام على ذلك فهو الشيعيّ حقّاً"1.
1- بحار الأنوار، ج75، ص117.
61
49
الإيثار
الإيثار
• في رحاب الدّعاء • دور الإيثار في تربية النفس
• منازل المؤثرين • الإيثار بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام
"أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ... وَلاَ تَبْتَذِلْ جَاهِي بِالاقْتارِ"...1. " أَللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَـذِرُ إلَيْـكَ مِنْ... ذِيْ فَاقَة سَأَلَنِي فَلَمْ اُوثِرْهُ... تَذِرُ إلَيْكَ يَا إلهِي مِنْهُنَّ وَمِنْ نَظَائِرِهِنَّ اعْتِذَارَ نَدَامَة يَكُونُ وَاعِظاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ أَشْبَاهِهِنَّ"2. "أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ.. وَأَجْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيَّ الْخَيْرَ، وَلا تَمْحَقْهُ بِالْمَنِّ..."3.
الصحيفة السجّاديّة
1- الصحيفة السجادية, ص115.
2- م.ن, ص187.
3- م.ن, ص110.
63
50
الإيثار
في رحاب الدّعاء
نجد في هذا الدّعاء اعتذاراً إلى الله تعالى من عدم الإيثار، والإيثار من أعظم الصفات الحميدة، والفضائل العالية, وهو تقديم غيرك من المؤمنين على نفسك في المال أو الراحة, أو ما إلى ذلك من من النِّعم وقد أكّد عليه في الآيات والروايات.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾1.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الإيثار أعلى مراتب الكرم وأفضل الشيم.2 الإيثار سجيّة الأبرار وشيمة الأخيار3, الإيثار أفضل عبادة وأجلّ سيادة"4.
فما أجمل أن تكون هذه الفضيلة منتشرة في مجتمعنا نتربّى عليها كما كان أئمّتنا ونربّي الأجيال على العمل بها لتكون معلماً وثقافة عامّة في زمن كثر فيه المتمسّكون بالمادّة، والتائقون إلى نعيم زائل!
وإنّ أكثر ما يتجسّد فيه الإيثار في أبهى صور العطاء حينما يكون في الشدائد لا الرخاء, وخاصّة في ساحات الجهاد والقتال ومواجهة الصعاب, من قلّة الطعام والماء والدواء وما يقي المجاهد من البرد وغير ذلك.
1- الحشر: 9.
2- ميزان الحكمة حديث: 8.
3- م.ن. 9.
4- م.ن. 10.
65
51
الإيثار
ورد في الحديث: "من أفضل الاختيار التحلّي بالإيثار"1.
من هنا نفهم معنى دعاء الإمام السجاد عليه السلام في الفقرة المتقدّمة ومدى تأكيده واهتمامه حيث يعطي درساً في المثل وهو يناجي ربّه تعالى.
دور الإيثار في تربية النفس
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "عند الإيثار على النفس تتبيّن جواهر الكرماء"2.
وعنه عليه السلام: "لا تكمل المكارم إلّا بالعفاف والإيثار"3.
ليس من السهل على الاطلاق أن يقدّم الإنسان إلى أخيه ما هو محتاج إليه ويفضّل أن تقضى حاجة أخيه على قضاء حاجته نفسه كمن يملك مبلغاً من المال لا يكفي إلّا لقوت عائلة واحدة فيقدّمه لعائلة من جيرانه أو أرحامه أو إخوته المؤمنين لشراء الطعام, وهذا لا يكون إلّا نتيجة لتربية النفس ومجاهدتها في دعوتها لحبّ النفس والتملك وغير ذلك والإيثار بدوره يكون عاملاً مهمّاً في ارتقاء النفس وصفائها وبلوغها الدرجات العليا. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الإيثار على مستويَيْن تبعاً لمدى ترويض النفس وامتلاك زمامها.
المستوى الأوّل: وهو المعبَّر عنه بالأصغر: الإيثار عن كره بمعنى أنّ الشخص يحسّ بكلفة ومؤونة حينما يؤثر أخاه المؤمن على نفسه, وذلك نتيجة لحب نفسه ومصالحها، وصعوبة رفع اليد عنها في سبيل غيره, باعتبار ما لدى الإنسان من الشحّ, كما تشهد الآية الماضية (ومن يوق شحّ نفسه...) وهذا الإيثار هو من أنواع الجهاد مع النفس وثوابه عظيم عند الله تعالى ما لو تمّ وقدر الإنسان أن ينتصر على حبّه لذاته.
المستوى الثاني: وهو المعبّر عنه بالأكبر وهو: الإيثار عن طوع ورضا ومحبّة ورغبة نفسيّة، وهذا أعظم وأثوب من الأوّل، ولا يكون إلّا بعد تربية النفس تربية كبيرة،
1- م.س. 17.
2- غرر الحكم: 6226.
3- م.ن. 10745.
66
52
الإيثار
فيصل الإنسان نتيجة لصفاء النفس الّذي حصل عليه بالتربية إلى مستوى فقدان الشحّ فيؤثر غيره على نفسه طواعية, ولا يكون ذلك صعباً عليه بل يبلغ من السهولة حدّ شربة الماء مع الشعور بالسعادة والراحة.
وممّا ورد: "الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان"1.
منازل المؤثرين
أعدّ الله تعالى للمؤثرين درجات رفيعة إضافة إلى النتائج والثمرات الّتي يحظون بها في عالم الدّنيا تترك بصماتها الخيّرة في شتّى الأنحاء من صفحات وجودهم وامتداد أعمارهم, وقد ورد ذلك في الروايات الشريفة, نذكر منها ما يلي ولو لم يكن منها إلّا الرواية الأولى لكفت عن غيرها بما ستسمعه من مضمونها العالي:
1 - يُعفَوْن من الحساب:
فيما رُوي عن موسى عليه السلام: "يا ربّ أرني درجات محمّد وأمّته قال: يا موسى إنّك لن تطيق ذلك, ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضّلته بها عليك وعلى جميع خلقي.. فكشف له عن ملكوت السماء فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله عزّ وجلّ. قال: يا ربّ بماذا بلّغته هذه الكرامة؟! قال: بخلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار، يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمر إلّا استحييت من محاسبته وبوّأته من جنّتي حيث يشاء"2.
2 - يؤثرهم الله يوم القيامة:
في الحديث: "اشترى عليّ ثوباً فأعجبه فتصدق به وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة الجنّة"3.
1- م.س. 1705.
2- تنبيه الخواطر، الشيخ ورام, ج1، ص173.
3- نور الثقلين، الحويزي, ج52, ص285.
67
53
الإيثار
3 - لهم جنّة خاصّة:
يقول مولانا الباقر عليه السلام: "لله عزّ وجلّ جنّة لا يدخلها إلّا ثلاثة... إلى قوله: ورجل آثر أخاه المؤمن في الله عزّ وجلّ"1.
الإيثار بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام
إنّ من أرفع درجات الجود والسخاء والعطاء الإيثار كما عرّفنا, وإنّ من أرقى درجات الإيثار، الإيثار بالحياة حيث يدور أمرها بينك وبين غيرك فتفضّل الحياة له وهذا ما قام به مولى المتّقين أمير المؤمنين عليه السلام مع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المبيت على فراشه وهو طبع وسجيّة له.
في الحديث: "لمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغار أوحى الله عزّ وجلّ إلى جبرائيل وميكائيل إنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر, فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فكلاهما اختارا حبّ الحياة, فأوحى الله عزّ وجلّ إليهما، أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فبات على فراشه يقيه بنفسه، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فكان جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل ينادي: من مثلك يا بن أبي طالب؟! يباهي الله بك الملائكة، وأنزل الله عزّ وجلّ في حقّه ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾2 وكلّ من كان كذلك وجب أن يكون الإمام دون غيره"3.
1- الخصال، الشيخ الصدوق, ج136, ص131.
2- البقرة: 207.
3- تنبيه الخواطر، ج173, ص1.
68
54
الإيثار
خلاصة الدرس
أ - مِن أرقى الأخلاق الحميدة في الإسلام، الإيثار, وهو أعلى مراتب العطاء وأفضل عبادة وأجلّ سيادة.
ب - للإيثار دور فعّال ومهمّ في تربية النفس الإنسانيّة، حيث يساعد على بلوغها مدارج الكمال وتخلّصها من الأنانيّة وحبّ التملّك.
ج - الإيثار على مستويَيْن: أكبر وأصغر, والأوّل ما يكون فيه العطاء عن طوع ورضا والثاني ما يكون فيه عن كلفة ومؤونة.
د - للمؤثرين منازل خاصّة عند الله منها: عدم الحساب، إيثارهم من الله تعالى وأعداد جنّة خاصّة لهم.
هـ - أسمى درجات الإيثار ما تعلّق بالحياة والموت وهو ما كان بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ليلة المبيت في فراشه.
للمطالعة
مسكين ويتيم وأسير
روى الثعلبيّ وغيره من المفسّرين أنّ الحسن والحسين ’ مرضا فعادهما جدّهما رسول الله, وعادهما عامّة العرب، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت لولديك نذراً، فقال عليه السلام: إن برىء ولداي ممّا بهما صمت ثلاثة أيّام شكراً لله تعالى، وقالت فاطمة ÷: مثل ذلك، وقالت جاريتها فضة: إن برىء سيّداي ممّا بهما صمت ثلاثة أيّام شكراً لله تعالى عزّ وجلّ فالبسا العافية، وليس عند آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لا قليل ولا كثير, فآجر عليّ عليه السلام نفسه ليلة إلى الصبح يسقي نخلاً بشيء من شعير وأتى به إلى المنزل، فقسمته فاطمة سلام الله عليها إلى ثلاثة, فطحنت ثلثاً وخبزت منه خمسة أقراص لكلٍّ واحد منهم قرص، وصلّى أمير المؤمنين عليه السلام صلاة المغرب مع
69
55
الإيثار
رسول الله، ثمّ أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه, فجاء مسكين فوقف بالباب وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد, مسكين من مساكين المسلمين, أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة. فسمعه عليّ عليه السلام فقال: أطعموه حصتي، فقالت فاطمة عليها السلام: كذلك, والباقون كذلك, فأطعموه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلّا الماء القراح.
فلمّا كان اليوم الثاني طحنت فاطمة عليها السلام ثلثاً آخر وخبزته، وأتى أمير المؤمنين عليه السلام من صلاة المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضع الطعام بين يديه, فأتى يتيم من أيتام المهاجرين وقال: أستشهد والدي يوم العقبة, أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة فسمعه عليّ وفاطمة ’ والباقون فأطعموه ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا إلّا الماء القراح.
فلمّا كان اليوم الثالث قامت فاطمة عليها السلام إلى الثلث الباقي وطحنته وخبزته وصلّى عليّ عليه السلام مع النبيّ صلاة المغرب ثمّ أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه, فجاء أسير فوقف بالباب وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد, تأسروننا ولا تطعمونا أطعمكم الله من موائد الجنّة, فإنّي أسير محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فسمعه عليّ عليه السلام فآثره وآثروه ومكثوا ثلاثة أيّام بلياليها لم يذوقوا إلّا الماء القراح.
فلمّا كان اليوم الرابع وقد وفوا بنذرهم أخذ عليّ عليه السلام الحسن بيده اليمنى والحسين بيده اليسرى وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، فلمّا بصر بهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا أبا الحسن, ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم! انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة. فانطلقوا إليها وهي في محرابها تصلّي، وقد لصق بطنها بظهرها من شدّة الجوع، فلمّا رآها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: واغوثاه, أهل بيت محمّد يموتون جوعاً! فهبط جبرائيل عليه السلام وقال: خذ يا محمّد, هنّأك الله في أهل بيتك قال: وما آخذ يا جبرائيل، قال: هل أتى على الإنسان, إلى آخر السورة, ومن كان أكرم الناس كان أفضل الناس فيكون هو الإمام دون غيره.
70
56
كظم الغيظ
كظم الغيظ
• في رحاب الدّعاء
• كظم الغيظ ثمرة الحلم
• من نتائج كظم الغيظ
"أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّـد وَآلِـهِ وَارْزُقْنِي التَّحَفُّظَ مِن الْخَطَايَـا، وَالاحْتِرَاسَ مِنَ الزَّلَلِ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ، فِي حَالِ الرِّضَا وَالْغَضَبِ...1"... "أللَّهُمَّ صَـلِّ عَلَى مُحَمَّـد وَآلِـهِ وَحَلِّنِي بِحِلْيَـةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ المُتَّقِينَ فِيْ... كَظْمِ الْغَيْظِ2"... "أَللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ... سَوْرَةِ الغَضَبِ"3.
الصحيفة السجّاديّة
1- الصحيفة السجّاديّة، ص122.
2- م.ن, ص112.
3- م.ن, ص69.
71
57
كظم الغيظ
في رحاب الدّعاء
يُعتبر كظم الغيظ زينة المتّقين كما يصرّح السجاد عليه السلام في هذا الدّعاء الشريف، ومعناه كما ذكر أهل اللغة: تجرّع الغيظ واحتمال سببه والصبر عليه حينما يكون قادراً على إمضائه فيحبسه, والكظيم: الحابس غيظه, والفرق بينه وبين الصبر: أنّ الكظم فيما يقدر على الانتقام، والصبر فيما لا يقدر عليه كنزول البلاء والمصيبة كما أفاد بعضهم. وقد مدحه الله تعالى في كتابه المجيد, قال سبحانه: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾1 وتواترت الأخبار على شرافته وعظم أجره.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مِن أحبّ السبيل إلى الله تعالى جرعتان: جرعة غيظ تردها بحلم، وجرعة مصيبة تردها بصبر"2.
وقال مولى الساجدين عليه السلام: "وما تجرّعت جرعة أحبّ إليّ من جرعة غيظ لا أكافي بها صاحبها"3.
1- آل عمران: 134.
2- وسائل الشيعة، ج12، ص176.
3- الكافي, ج2, ص108.
73
58
كظم الغيظ
ويقول أحد الرواة: "جعلت جارية لعليّ بن الحسين عليه السلام تسكب الماء عليه وهو يتوضّأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه1 فرفع عليّ بن الحسين عليه السلام رأسه إليها فقالت الجارية: إنّ الله عزّ وجلّ يقول: والكاظمين الغيظ فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس، قال: قد عفى الله عنك، قالت: والله يحبّ المحسنين, قال: اذهبي فأنت حرّة"2.
كظم الغيظ ثمرة الحلم
كثيراً ما يواجه الإنسان في الدّنيا بلاءات ويكون بعضها متمثّلاً في الإساءة إليه والتعدّي عليه جرّاء علاقته بمن لا يحسن أن تكون معهم علاقة حيث أخطأ في الاختيار وانتقاء الأصدقاء، أو مع إخوانه الّذين ينبغي معاشرتهم كأعوان وأحبّة في طريق الهدى, غير أنّهم كما هو, غير معصومين عن الخطأ، فيتعرّض في بعض الأحيان إلى أذيّة معيّنة من أحدهم سرعان ما تودي به إلى الخروج عن الآداب في الخطاب والمعاملة نتيجة سيطرة الغضب على موقفه وعدم التحلُّم والتحمُّل وكظم الغيظ, مع أنّ المطلوب منه في حالة من هذا القبيل - سيّما وأنّ المخطىء ربّما يكون لأوّل مرّة وعلّه عن غير قصد - هو أن يحلم عن توبيخه أو تعنيفه أو ردّ الصاع صاعين ولا يتحقّق هذا المطلوب ما لم يكن هذا الإنسان متحلّياً بفضيلة الحلم الّتي تثمر كظم الغيظ وتمنعه وتردّه عن مواجهة الموقف غير المرضي بمثله وعن اعتماد المقابلة بالشكل السلبيّ، فالسلاح الرادع للنفس عن التمادي والانفعال المؤدّي إلى مخالفة الخُلُق الكريم هو الحِلم وبهذا يتبيّن ما له من دور مهمّ في رفعة الإنسان.
يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ابتغوا الرفعة عند الله، قالوا: وما هي يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: تَصِلُ من قطعك، وتعطي من حرمك وتحلم عمّن ظلمك أو جهل عليك"3.
1- شجّه أي جرحه.
2- أمالي الصدوق، ص201.
3- المحجة البيضاء، ج5، ص311.
74
59
كظم الغيظ
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الكظم ثمرة الحلم1 أفضل الناس من كظم غيظه وحلم عن قدرة2 طوبى لمن كظم غيظه ولم يطلقه وعصى إمرة نفسه فلم تهلكه"3.
من نتائج كظم الغيظ
نستعرض بعض النتائج المترتّبة على الكظم, كما جاءت على لسان أهل البيت عليهم السلام بما فيها من الخير في الدارين:
1 - عزّ الدّنيا والآخرة:
يقول الصادق عليه السلام: "ما من عبد كظم غيظاً إلّا زاده الله عزّاً في الدّنيا والآخرة"4.
2 - رضا الله تعالى:
في الحديث: "من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه أملأ الله قلبه يوم القيامة رضاه"5.
3 - الأمن والإيمان:
يقول الباقر عليه السلام: "من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة"6.
4 - أجر الشهيد:
عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ومن كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه وحلم عنه أعطاه الله أجر شهيد"7.
1- غرر الحكم: 820.
2- م.ن. 283.
3- ينابيع الحكمة، ج4، ص503.
4- م.ن. ص498.
5- م.ن.
6- م.ن.
7- وسائل الشيعة، ج12، ص178، ب114، حديث 12.
75
60
كظم الغيظ
5 - الجنّة والشفاعة:
عن الصادق عليه السلام: "ثلاث من كُنّ فيه استكمل خصال الإيمان: مَن صبر على الظلم وكظم غيظه واحتسب، وعفا وغفر، كان ممّن يدخله الله عزّ وجلّ الجنّة بغير حساب ويشفّعه في مثل ربيعة ومضر"1.
6 - مرافقة الأنبياء:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة يرزقون مرافقة الأنبياء: رجل يُدفع إليه قاتل وليّه ليقتله فعفا عنه، ورجل عنده أمانة لو يشاء لخانها فيردّها إلى من ائتمنه عليها، ورجل كظم غيظه عن أخيه ابتغاء وجه الله"2.
8 - غرف في أعلى الجنّة:
يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "في ليلة المعراج رأيت غرفاً في أعلى الجنّة فقلت: لمن هي؟ قال: للكاظمين الغيظ، وللعافين عن الناس وللمحسنين"3.
9 - موت الأضغان:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الكاظم من أمات أضغانه"4.
10 - تخيُّر الحور العين:
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من كظم غيظاً وهو يقدر أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يخيّره في أيّ الحور شاء"5.
1- بحار الأنوار، ج71، ص417.
2- المستدرك، ج9، ص12، حديث 7.
3- م.ن ص14، حديث 15.
4- غرر الحكم، 1112.
5- المحجة البيضاء، ج5، ص309.
76
61
كظم الغيظ
خلاصة الدرس
أ - كظم الغيظ زينة المتّقين ويكون بتحمّل أسبابه والصبر عليها مع القدرة على المقابلة والانتقام وصاحبه أفضل الناس.
ب - ثمرة الحِلم كظم الغيظ ويكون بالسيطرة على النفس حتّى لا تذهب جرّاء الغضب إلى مخالفة الآداب أو التعدّي من جديد. والالتزام بهذه الفضيلة موجب لرفعة الإنسان وإكرامه.
ج - للكظم نتائج عديدة وهي: عزّ الدينا والآخرة، رضا الله سبحانه، الأمن والإيمان، أجر الشهيد، الجنّة والشفاعة، مرافقة الأنبياء، غرف الجنّة، موت الأضغان، واختيار الحور العين.
للمطالعة
لا, أنا باقر!
قال نصرانيّ للإمام الباقر عليه السلام مستهزئاً به: أنت بقر! فقال الإمام عليه السلام بكلّ برودة وبسط وجه: لا, أنا باقر!
النصرانيّ تنقيصاً من كرامة الإمام عليه السلام: أنت ابن الطبّاخة!
الإمام عليه السلام بكلّ طلاقة وجه: ذاك حرفتها!
النصرانيّ شتماً للإمام عليه السلام وتهييجاً لغضبه: أنت ابن السوداء الزنجيّة البذيّة!
الإمام عليه السلام صفحاً: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك!
فلمّا رأى النصرانيّ حلم الإمام الباقر عليه السلام أعلن إسلامه.
إنّنا يجب علينا أن نقتدي بهؤلاء الأئمّة، ونبني على سيرتهم مناهج حياتنا، ونسير على هداهم... ولكن هل ترى مثل ذلك في واحد منّا؟
77
62
كظم الغيظ
إنّنا لو قيل لنا: من أنت؟
نحتدم غيظاً، ونجعل هذه الكلمة سوءاً من عدوّ، ننتقم ممّن فاه بها ملء استطاعتنا وقدرتنا. وفيما رُوي عن حِلم الإمام السجاد عليه السلام وكظمه للغيظ: أن رجلاً سبّ الإمام السجاد عليه السلام ، فأغضى الإمام عليه السلام عنه حتّى يُشعِر بأنّه لم يسمع. فسبّه مرّة ثانية. والإمام ساكت، مغضٌّ عنه. ثمّ سبّه مرّة ثالثة، والإمام عليه السلام ساكت. فلم يتحمّل الرجل سكوت الإمام عليه السلام فقال للإمام: إيّاك أعني.
فأجابه الإمام عليه السلام: وعنك أغضي.
ورُوي في المكارم: كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى بالصبيّ الصغير ليدعو له بالبركة أو يسمّيه فيأخذه، فيضعه في حجره تكرمة لأهله، وربّما بال الصبيّ عليه فيصيح بعض من رآه حين بال, فيقول صلى الله عليه وآله وسلم لا تزرموا بالصبيّ، فيدعه يقضي بوله ثمّ يفرغ له من دعائه وتسميته ويبلغ سرور أهله ولا يرون أنّه يتأذى ببول صبيّهم فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعده.
78
63
القناعة
القناعة
• في رحاب الدُّعاء • كيف السبيل إلى القناعة؟
• ما هي فوائد القناعة؟
"اللّهُمَّ إنَّما يَكْتَفِي الْمُكْتَفُونَ بِفَضْـل قُوَّتِكَ فَصَلِّ عَلَى محَمَّد وَآلِهِ، وَاكْفِنَا وَإنَّمَا يُعْطِي الْمُعْطُونَ مِنْ فَضْلِ جِدَتِكَ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَأعْطِنَا..."1, "أَللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ هَيَجَـانِ الْحِرْصِ... وَقِلَّةِ الْقَنَاعَةِ..."2, "اللّهُمَّ... وَأَعِذْنِي مِنْ سُوءِ الرَّغْبَةِ، وَهَلَعِ أَهْلِ الْحِرْصِ، وَصَوِّرْ فِي قَلْبِي مِثَالَ مَا ادَّخَـرْتَ لِي مِنْ ثَوَابِـكَ، وَأَعْدَدْتَ لِخَصْمِي مِنْ جَزَائِكَ وَعِقَابِكَ، وَاجْعَلْ ذَلِكَ سَبَباً لِقَنَاعَتِي بِمَا قَضَيْتَ"3.
الصحيفة السجّاديّة
1- الصحيفة السجّاديّة, ص47.
2- م.ن, ص 69.
3- م.ن, ص 96.
79
64
القناعة
في رحاب الدُّعاء
القناعة عزّ وعفاف، وأطيب العيش، وعنوان الرضا، وسيف لا ينبو، وغنى عمّا في أيدي الناس، وكنز لا يفنى، وعون على صلاح النفس، وصحّة الجسم وعلامة الأتقياء وشعار الأولياء وسبيل الصلحاء.
فمن الطبيعيّ جدّاً أن تكون محلّ اهتمام مولانا زين العابدين عليه السلام في دعواته الّتي نتربّى عليها كنهج أخلاقيّ فريد. وكذلك يجدر بالمؤمن أن يستعيذ بالله من قلّة القناعة وشدّة الحرص لأنّه لن يهنأ بالعيش أو يرتاح في الحياة ما دام مصاباً بداء الحرص وعدم القناعة حيث لا تكتب السعادة معهما، فإنّه لمّا سُئل أمير المؤمنين عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾1 قال: "هي القناعة"2، وتعني الاكتفاء بقدر الحاجة والضّرورة من المال وغيره من أمور الدّنيا, وهي من أعظم الوسائل للوصول إلى السعادة الأبديّة, والقَنوع مرتاح البال متفرّغ للاشتغال بأمر الدين وسلوك الآخرة.
فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "خير المؤمنين القانع، وشرّهم الطامع"3.
وفي صفة الأنبياء عليهم السلام: "ولكنّ الله سبحانه جعل رسله أولي قوّة في عزائمهم،
1- النحل: 97.
2- بحار الأنوار, ج 68, ص345.
3- ميزان الحكمة, 2637.
81
65
القناعة
وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنىً وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً"1.
وممّا قاله أحد الشعراء في القناعة:
ولقد طلبتُ رضا البريّة جاهداً فإذا رضاهم غايةٌ لا تُدرَكُ
وأرى القناعةَ للفتى كنزاً له والبرِّ أفضل ما به يتمسّكُ
كيف السبيل إلى القناعة؟
إنّ كثيراً من الشمائل يتشوّق الواحد منّا إليها, غير أنّ ما يحيط به لا يساعده على الاتصاف بها ويجهل السبيل إليها، فهل يا ترى ثمّة ما يعاونه على ذلك؟ وإلى ماذا يمكن إرشاده لتتحقّق الدوافع الحقيقيّة والشروط اللّازمة فترتفع الموانع والظروف الّتي تحول بينه وبين القناعة ويتسنّى له أن ينعم بهذا العزّ والشرف؟ من جملة ما جاء عن الصادق عليه السلام: "انظر إلى من هو دونك في المقدرة, ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة، فإنّ ذلك أقنع لك بما قسم لك"2.
يدلّنا عليه السلام إلى الطريقة الصحيحة في النظر إلى مقدرات الناس وإمكانيّاتهم الماديّة، الّتي تؤدّي إلى مساعدة الإنسان على إمساك زمام نفسه وعدم تماديها, وذلك أن يكون الرضا سيّد الموقف عندما ينظر إلى من هم دونه في الامكانيّات الماليّة فيشكر الله سبحانه أنّه أعطاه وحباه وحاله أفضل من حال غيره وما هو متاح له ليس متاحاً لمن هم دونه, وهذا ما يوجب قناعته ورضاه بما قسمه الله عزّ وجلّ. وأمّا إذا نظر إلى من هم فوقه فإنّه لن يقنع بما هو عليه ولن تشبعه خزائن الدّنيا, فهو فقير وإن ملك الكثير, والقانع غنيّ وإن ملك اليسير.
بينما في الجوانب المعنويّة يكون مأموراً بالنظر إلى من هم فوقه من أهل الطاعات
1- م.س. 17129.
2- الكافي، ج8، ص244.
82
66
القناعة
والكرامات وراغباً في التقدّم متّهماً نفسه دائماً بالتقصير, يسعى لتهذيب نفسه وتأديبها وترويضها, ومن عرف نفسه لزم القناعة, يقول مولى المتّقين عليه السلام: "ينبغي لمن عرف نفسه أن يلزم القناعة والعفّة"1.
ويرشدنا الإمام الصادق عليه السلام كذلك إلى معنى آخر يساعدنا على القناعة, لمّا شكى إليه رجل أنّه يطلب فيصيب ولا يقنع, وتنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه, وقال: علّمني شيئاً أنتفع, به فقال عليه السلام: "إن كان ما يكفيك يغنيك فأدنى ما فيها يغنيك, وإن كان ما يكفيك لا يغنيك فكلّ ما فيها لا يغنيك"2.
ومن الأمور المهمّة أن لا ينظر إلى ما عند غيره من متاع الدّنيا الزائلة ويتمنّى زواله عنهم وصيرورته إليه, فذلك أمر ذميم, وكذلك لا يتمنّى ما لا يناله حينما يسرح خياله بين الأودية والجبال ويعيش في الأحلام الخادعة الّتي لا طائل منها.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "اقنع بما قسم الله لك ولا تنظر إلى ما عند غيرك ولا تتمنّ ما لست نائله، فإنّه من قنع شبع ومن لم يقنع لم يشبع وخذ حظّك من آخرتك"3.
ما هي فوائد القناعة؟
للقناعة نتائج عظيمة وفوائد عديدة نذكر منها ما يأتي:
1- صلاح النفس:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أعون شيء على صلاح النفس القناعة"4.
2- راحة البال والبدن:
1- ميزان الحكمة، حديث: 17158.
2- الكافي، ج2، ص139.
3- م.ن، ج2، ص337.
4- ميزان الحكمة، حديث: 17161.
83
67
القناعة
في الحديث: "من قنع لم يغتمّ"1.
وعن الحسين عليه السلام: "القنوع راحة الأبدان"2.
3- الحساب اليسير:
عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "اقنع بما أوتيته يخفّ عليك الحساب"3.
4- الكفاية والرضا:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ثمرة القناعة الإجمال في المكتسب والعزوف عن الطلب"4.
5- العزّ والهناءة:
في الحديث: "ثمرة القناعة العزّ"5"القناعة أهنأ عيش"6.
ولقد أجاد من قال:
خِيارُ الناسِ من لزمَ القناعهْ ولم يكشفْ لمخلوقٍ قِناعَهْ
أفادتنا القناعة كلَّ عزٍّ ولا عزَّ أعزُّ من القناعهْ
خلاصة الدرس
أ - القناعة تؤدّي إلى رغد العيش وعزّة النفس وراحة البال والسعادة الأبديّة, وهي سبيل الأولياء والأتقياء.
ب - من السبل الّتي أرشدنا أهل البيت عليهم السلام إليها في التحلّي بالقناعة النظر إلى من هو دوننا في الإمكانيّات الماليّة, لا النظر إلى من هو فوقن, لأنّ ذلك مطلوب في الأمور المعنويّة.
1- م.س. 17164.
2- م.ن. 17163.
3- م.ن. 17168.
4- م.ن. 17159.
5- م.ن. 17160.
6- م.ن. 17174.
84
68
القناعة
ج - من ثمرات القناعة: صلاح النفس، راحة البال والبدن، الحساب اليسير، الكفاية والرضا، والعزّ والهناءة.
للمطالعة
شكوى أهل حمص!
كتب الغزالي في "إحياء العلوم" أنّ شخصاً بُعث إلى "حمص" والياً عليها، وبعد مدّة من الزمن شكاه أهلها، فطلبه الوالي للمثول أمام القاضي في المدينة دون أن يلاقي أحداً من الناس، فحمل الوالي أسبابه على رأسه وسار ماشياً من حمص ليصل إلى المدينة ومن ثَمَّ ليدخل مسجدها الّذي هو عبارة عن دار قضائها، فقال له القاضي: شكاك أهل حمص بثلاث، وعليك أن تجيب:
1 - يقولون: إنّك تخرج من دارك صباحاً متأخّراً، لتصل إلى عملك متأخّراً أيضاً.
فقال: صحيح ما قالوا.
2 - يقولون: إنّك موجود في النهار ومفقود في اللّيل.
فقال: صحيح ذلك.
3 - أمّا الشكاية الثالثة، فهي أنّك تغيب في أحد أيّام الأسبوع نهاره وليله.
فقال: صحيح ما قالوا.
أمّا الإجابة عن تلكم الشكاوى، فهي:
أنّ خروجي متأخّراً صباح كلّ يوم يرجع في الأساس إلى أنّني تقاسمت مع زوجتي أعمال المنزل، فصار الخبز من نصيبي، وبسبب ذلك أتأخّر عن الخروج من الدار كيما يختمر العجين لأخبزه، وإنّني أشرع بعجنه بعد صلاة الصبح، فأتأخّر بعض الشيء عن الوصول إلى دار الإمارة.
85
69
القناعة
أما غيابي في اللّيل: فقد قسمت وقتي بين الناس والباري تعالى، فأعطيت جهدي في النهار للناس، وسكن قلبي لله عندما تغفو العيون أملاً أن أجد علاقة مع الله تعينني على قضاء حوائجي.
أما اليوم الّذي لا أخرج فيه أبداً من داري والّذي لا يراني الناس فيه لا نهاراً ولا ليلاً فسببه عدم إمتلاكي ملبساً آخر، لذا أكون مضطرّاً للبقاء في الدار بعد أن تغسل امرأتي جميع ألبستي، وبما أنّ الجوَّ بارد بعض الشيء في حمص، ولا تجفُّ الملابس بسرعة أبقى ملازماً لمنزلي طيلة النهار وجزءاً من اللّيل.
وعندها منحه القاضي جائزة، وقال له: إرجع إلى عملك مؤيداً منصوراً.
فرجع الوالي إلى حمص، وقبل أن يذهب إلى داره، ذهب إلى المسجد وقال للمؤذن قل للناس: إنّ الوالي أصبح ثريّاً، وإنّ الأموال لا تتعلّق ببيت المال، فمن أراد أن يصيبه شيء من ذلك من الفقراء والمساكين فليأت وليأخذ سهمه.
فجاء الناس إلى المسجد ليحظوا بالأموال الّتي كان يوزّعها الوالي بدون أن يحصيها، فقد كان يدفع بها إليهم قبضات قبضات, وما إن فرغ من ذلك بعد أن أخذ الجميع ما طلبوا، بقي من الأموال نزر يسير حمله وسار إلى منزله، وهناك حكى لامرأته ما حصل فباركت له الأمر وقالت له: اشتر لنا بما بقي من النقود خادمة تساعدني في أمر الخبز كي لا يشكوك الناس ثانية بسبب تأخرّك صباحاً، فقال: إنّ للنّقود مكاناً آخر ولم يكن يعلم لها شيئاً. ولم تمض عدّة أيّام حتّى جاءه أحد المساكين ليعطيه ما عنده من النقود فالتفت لزوجته فقال لها: إنّ عملنا في الدار وتعبنا سيؤول إلى زوال، ولكنّ الصدقة ستبقى ثابتة وباقية لنا عند الباري تعالى، وهذا أفضل من بقاء المال الزائل في الدار. ففرحت الزوجة بحديثه الصائب وباركت له حسن نيّته.
86
70
كفّ الأذى
كفّ الأذى
• في رحاب الدُّعاء • الصبر على الأذى فوز وكرامة
• الإيذاء ذلّ وهوان • كفّ الأذى من كمال العقل
• جزاء إيذاء المؤمن • ما يترتّب على كفّ الأذى
"أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ... وَامْنَعْنِي عَنْ أَذَى كُـلِّ مُؤْمِن وَمُؤْمِنَـة وَمُسْلِم وَمُسْلِمَة..."1, "أَللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ مَلَكَةِ الْحَمِيَّةِ.. وَمُبَاهَاةِ الْمُكْثِرِينَ..."2, "أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ... وَاعْصِمْنِي مِنَ الْفَخْرِ"3.
الصحيفة السجّاديّة
1- الصحيفة السجّاديّة, ص188.
2- م.ن, ص69.
3- م.ن, ص110.
87
71
كفّ الأذى
في رحاب الدُّعاء
في هذه الفقرة المباركة يشير عليه السلام إلى قبح إيذاء المؤمن أو المؤمنة, وهو أمر عدّه الفقهاء من كبائر الذنوب, ونطق به الكتاب في قوله عزّ من قائل: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾1 فأيُّما مؤمن يعمل راجياً ما عند الله من الثواب في عمله وخائفاً من العقاب، يخشى ربّه ويراقب نفسه في سرّه وعلانيته, عليه الابتعاد كلّ البعد عن المواطن المسببّة لإيذاء الآخرين سواء كان الإيذاء في القول أو العمل أو الموقف أو أيّ شكل من الأشكال، حيث لا يجوز أن يصدر عنه هكذا أمر فضلاً عن أن يكون سبباً من الأسباب المؤديّة إلى الإيذاء, والتحذير منه شديد سواء ما في الآيات كما تقدّم أو الروايات كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من آذى مؤمناً فقد آذاني"2، فالّذي يؤذي أيّ مؤمن من إخوانه فهو لا يؤذيه وحده فحسب بل الأذيّة والاعتداء يصلان إلى نفس النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وما أقبح أن يكون الرجل مؤذياً لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق إيذاء أخيه! وهناك تعابير أخرى في ألسنة الروايات لا تقلّ أهمّيّة عمّا ذكر, يُستفاد منها أنّ
1- الأحزاب: 58.
2- بحار الأنوار، ج67، ص72.
89
72
كفّ الأذى
من يؤذي أخاه فقد أعلن محاربة الخالق عزّ وجلّ أو جهّز لمحاربته كما جاء في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي"1.
الإيذاء ذلّ وهوان
قد يخبر رجل صديقه بأن ثالثاً قد تناوله وتحدث عنه بما لا يرضيه, فيبادر إلى اتخاذ قرار بإيذائه بدون تثبّت أو تبيّن أو مكاشفة, ويُحاول إزعاجه والتضييق عليه في عمله, وربّما إطلاق الشتائم والكلمات المعرّضة به ظنّاً منه أنّه بذلك يسعى إلى إعزاز نفسه وإذلال الآخر وإهانته, مع أنّه لم يعلم شيئاً عن حاله أنّه تعرّض له بالسّوء أو لا وعلى أسوأ التقادير لو كان ذلك فإنّ خلق المؤمن يدعوه إلى العفو والصفح الجميل أو تكذيب الواشي الّذي يبغي الفتنة والوقيعة بين الطرفين وعدم إعارة أذن له لا أن تأخذ منه حميّة العصبيّة مأخذها ويطلق العنان للنفس في جموحها وطغيانها لتستبيح من كرامة الآخرين ما تستبيحه, ويكون الإيذاء وسيلة إلى إعادة الاعتبار لأنّ كلّ ذلك هراء حيث لا يمكن أن يكون المؤذي عزيزاً والمهين كريماً, بل هو على الدوام ذليل ووضيع كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه: "أذلّ الناس من أهان الناس"2 وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يحِلّ لمسلم أن يروّع مسلماً"3.
فالواجب على الإنسان إذا واجه مشكلة من هذا القبيل أن يعالجها بالشكل الايجابيّ كما علّمنا أئمّتنا عليهم السلام: "كذّب سمعك وبصرك عن أخيك فإن شهد عندك خمسون قسّامة، أنّه قال وقال: لم أقله فصدّقه وكذّبهم"4.
ولا يسوغ لمجرّد السماع أن يبادر المؤمن إلى الإهانة اللّسانيّة أو الإيذاء بأيّ نحو كان لأنّه ليس ثمّة كرامة أو مكانة انتُهكت, وإنّما يكون ذلك باعتماد هذا الأسلوب المذموم.
1- الكافي، ج2، ص351.
2- أمالي الصدوق، ص 28.
3- عيون أخبار الرضا, ج1, ص 76..
4- الكافي، ج8, ص147.
90
73
كفّ الأذى
الصبر على الأذى فوز وكرامةربّما يتأذّى أحدنا من غيره حين يعمد إلى الاعتداء عليه من خلال غصبه بعض حقوقه أو وصفه بما لا يليق به, وهنا مشكلة ثانية غير الأولى فما السبيل الّذي ينبغي اتِّباعه؟
والجواب هو التحمّل والصبر على الأذى الّذي هو سبيل الصالحين وخُلُق الأنبياء والصِّدّيقين, قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾1 وهنا لا بدّ أن يكون الصبر لوجه الله تعالى ورجاء نيل رضاه والقرب منه.
ولنا بذلك أسوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الّذي تحمّل ما تحمّل من ألوان العذاب والإيذاء فصبر وشكر ولم يألُ جهداً عن متابعة مهمّته الإلهيّة في نشر رسالة الإسلام حتّى قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أوذي أحد مثل ما أوذيت في الله"2.
كفّ الأذى من كمال العقل
إذا أردنا أن نقرأ شخصيّة ما من جانب الاتّزان والعقلانيّة يمكننا ذلك من خلال الاطّلاع على سيرتها في العلاقة مع الآخرين, فإن كانت تبادر إلى إيذائهم فهي ناقصة وإن كان الآخرون آمنين من آذاها، راضين عن العلاقة معها لأنّها لا تعتدي فهي كاملة وناجحة ولها عقل راجح, ومن الصحيح تقويمها في ضوء ذلك إضافة إلى ثوابت الشخصيّة المؤمنة.
يقول مولانا زين العابدين عليه السلام: "كفّ الأذى من كمال العقل وفيه راحة للبدن عاجلاً وآجلاً"3.
1- آل عمران، الآية: 195.
2- ميزان الحكمة، حديث: 464.
3- تحف العقول, ص 283.
91
74
كفّ الأذى
جزاء إيذاء المؤمن
1 - محاربة الله له:
عن الصادق عليه السلام: "قال الله عزّ وجلّ: ليأذن بحرب منّي من آذى عبدي المؤمن"1.
2 - إخافته يوم القيامة:
يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من نظر إلى مؤمن نظرة يخيفه بها أخافه الله تعالى يوم لا ظلَّ إلّا ظلُّه"2.
3 - لا كفّارة له:
في الحديث: "من أحزن مؤمناً ثمّ أعطاه الدّنيا لم يكن ذلك كفّارته ولم يؤجر عليه"3.
ما يترتّب على كفّ الأذى
1- الفوز بالنعيم المقيم:
عن الصادق عليه السلام: "فازَ والله الأبرار، أتدري من هم؟ هم الّذين لا يؤذون الذرّ"4.
2 - كفّ الأيادي عنه:
في الحديث: "من كفّ يده عن الناس فإنّما يكفّ عنهم يداً واحدة ويكفّون عنه أيادي كثيرة"5.
3 - راحة البدن عاجلاً وآجلاً:
كما تقدّم الحديث عن مولانا السجاد عليه السلام حيث قال: "كفّ الأذى من كمال العقل وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً"6.
1- الكافي، ج2، ص350.
2- بحار الأنوار، ج75، ص150.
3- م.ن.
4- م.ن، ج78، ص193.
5- الخصال، ج1، ص17.
6- تحف العقول، ص283.
92
75
كفّ الأذى
4 - التصدّق على نفسه:
يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "كفّ أذاك عن الناس فإنّه صدقة تصَّدّق بها على نفسك"19
خلاصة الدرس
أ - حذّر الإسلام من إيذاء المؤمنين وعدّه الفقهاء من كبائر الذنوب كما هو صريح الروايات, وهو إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ب - لا يجلب الإيذاء عزّاً ولا يردّ اعتباراً لصاحبه بل هو ذلّ وهوان, وأذلّ الناس من أهان غيره.
ج - يُعتبر الصبر على الأذى وتحمُّله فوزاً وكرامة للمؤمن ولا تؤدّي أساليب التعذيب والقهر إلى نقصان ذرّة من مكانته, بل على العكس تزيده رفعة كلّما صبر عليها.
د - كفّ الأذى دليل على كمال العقل, والإيذاء دليل على نقصانه.
هـ - من آذى مؤمناً حاربه الله وأخافه يوم القيامة ولا كفّارة له.
و - ممّا يترتّب على كفّ الأذى: الفوز، كفّ الأيادي، راحة البدن، والتصدّق على النفس.
للمطالعة
قصّة سعد بن معاذ!
وفي أمالي الصدوق بإسناده عن ابن سنان عن الصادق عليه السلام قال:
"أُتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل له: إنّ سعد بن معاذ(212) قد مات، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقام أصحابه معه، فأمر بغسل سعد وهو قائم على عضادة الباب، فلمّا أن حُنِّط وكُفِّن
93
76
كفّ الأذى
وحُمل على سريره تبعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا حذاء ولا رداء, ثمّ كان يأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة حتّى انتهى به إلى القبر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى لحده وسوّى اللِّبْن عليه، وجعل يقول: ناولوني حجر, ناولوني تراباً رطباً، يسد به ما بين اللبن, فلمّا أن فرغ وحثا التراب عليه وسوّى قبره، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّي لأعلم أنّه سيبلى ويصل البلى إليه, ولكنّ الله يحبّ عبداً إذا عمل عملاً أحكمه، فلمّا أن سوّى التربة عليه قالت أُمّ سعد: يا سعد هنيئاً لك الجنّة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أُمّ سعد! مه، لا تجزمي على ربّك. فإنّ سعداً قد أصابته ضمّة. قال: فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجع الناس, فقالوا له: يا رسول الله لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد، إنّك تبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء. فقال صلى الله عليه وآله وسلم إنّ الملائكة كانت بلا رداء ولا حذاء فتأسّيت بها. قالوا: وكنت تأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة. قال: كانت يدي في يد جبرائيل آخذ حيث يأخذ.
قالوا: أمرت بغسله وصلّيت على جنازته ولحّدته في قبره ثمّ قلت: إنّ سعداً قد أصابته ضمة! قال: فقال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم إنّه كان في خُلُقه مع أهله سوء".
94
77
السّماح والعفو
السّماح والعفو
• في رحاب الدُّعاء • العفو الجميل والعفو القبيح
• العفو الأكبر والعفو الأصغر • آثار العفو
"أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَسَدِّدْنِي لاِنْ... اُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَـةِ1... أَللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَـذِرُ إلَيْـكَ... مِنْ مُسِيء أعْتَذَرَ إلَيَّ فَلَمْ أَعْذِرْهُ2.. أللَّهُمَّ وَأَيُّمَا عَبْد نالَ مِنِّي مَا حَظَرْتَ عَلَيْهِ، وَانْتَهَكَ مِنِّي مَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ، فَمَضَى بِظُلاَمَتِي مَيِّتاً، أَوْ حَصَلْتَ لِيْ قِبَلَهُ حَيّاً، فَاغْفِرْ لَهُ مَا أَلَمَّ بِهِ مِنِّي، وَاعْفُ لَهُ عَمَّا أَدْبَرَ بِهِ عَنِّي، وَلاَ تَقِفْـهُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ فِيَّ، وَلاَ تَكْشِفْهُ عَمَّا اكْتَسَبَ بِيْ، وَاجْعَلْ مَا سَمَحْتُ بِـهِ مِنَ الْعَفْـوِ عَنْهُمْ وَتَبَـرَّعْتُ بِـهِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ أَزْكَى صَدَقَاتِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَأَعْلَى صِلاَتِ الْمُتَقَرِّبِينَ، وَعَوِّضْنِي مِنْ عَفْوِي عَنْهُمْ عَفْوَكَ "3.
الصحيفة السجّاديّة
1- الصحيفة السجّاديّة, ص113.
2- م.ن, ص187.
3- م.ن, ص188.
95
78
السّماح والعفو
في رحاب الدُّعاء
العفو فضيلة, أكثر أهل البيت عليهم السلام من دعوة الناس إليها واعتبروها سبباً رئيساً في استقرار المجتمعات وثباتها، وركناً في الإصلاح البشريّ والتعايش, ومن ذلك ما ورد في هذا الدّعاء المبارك لمولانا السجاد عليه السلام بأسلوب ساحر في البيان ورائع في إيصال المعاني إلى حيث تستقرّ في القلوب وتتمكّن منها لتترجم فيما بعد سلوكاً عمليّاً، وبناءً نفسيّاً عاطفيّاً نابعاً من العقل والشرع معاً، فإذا كان المخلوق الضعيف قدّر له أن يعفو فكيف بالخالق العظيم الّذي لا شكّ أنّه سيعوّضنا من عفونا عمّن ظلمنا عفوه عنّا لأنّه أكرم بالعفو، وممّا ورد عن العترة الطاهرة عليهم السلام في أهمّيّة العفو ما عن أمير المؤمنين عليه السلام: "العفو تاج المكارم1. العفو أعظم الفضيلتين2. شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو والعدل3. قلّة العفو أقبح العيوب والتسرّع إلى الانتقام أعظم الذنوب"4.
وفي الحديث: "إذا أُوقف العباد نادى منادٍ: ليقم من أجره على الله وليدخل الجنّة، قيل: من ذا الّذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس"5.
1- ميزان الحكمة، حديث: 13170.
2- م.ن. 13193
3- م.ن. 13192.
4- م.ن. 13194.
5- م.ن. 13173.
97
79
السّماح والعفو
العفو الجميل والعفو القبيح
ليس بالإمكان أن نقول إنّ العفو جميل في كلّ الموارد وعامّة المواضيع وسائر شؤون العباد والبلاد، وفي ضوء ذلك يُقال ليس هناك عفو غير جميل، بل الصحيح أنّه يوجد عفو قبيح حذّرنا منه الإسلام ولا يُعتبر من الفضائل, بل هو من الرذائل والّذي لا بدّ من معرفته: ما هو الضابط الّذي في ضوئه يصبح العفو جميلاً أو قبيحاً؟ والجواب أنّ العفو بأصله جميل إلّا ما ورد النهي عنه والتنبيه منه، والأمر الّذي يُعتبر قاعدة في المقام هو ما كان فيه العفو عنصر مساعدة على الإصلاح والبناء سواء من ناحية فرديّة أو جماعيّة من حيث كونه مقرّباً إلى الله سبحانه ومعاوناً على التزام خطّ الاستقامة, فهو مطلوب ومرغوب, وأمّا ما يشكّل عنصر مساعدة على الانحراف وتشجيع على تكرار الاعتداء وانتهاك الحقوق لأنّه كلّما عفا صاحب الحقّ كرّر المعفوُّ عنه الجرمَ مرّة أخرى وهكذا فهو غير مرغوب ولا مطلوب, بل ويقبح في مثل هذه المواطن, إلى حدّ يوجب استنكار الآخرين.
ومثال العفو الجميل ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لرجل شكى إليه خدمه: "اعف عنهم تستصلح به قلوبهم" فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّهم يتفاوتون في سوء الأدب. فقال: "اعف عنهم" ففعل1.
وفي هذا الحديث تصريح واضح أنّ الاستصلاح ركيزة في العفو عنهم. ومثال العفو القبيح ما رُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "جازِ بالحسنة وتجاوز عن السيِّئة ما لم يكن ثَلْماً في الدين أو وهناً في سلطان الإسلام"2. هنا أشار عليه السلام إلى عنوانين لا يحسن التجاوز عن السيّئة فيهما:
الأوّل: الثلم في الدين, وهو أمر لا يمكن الدعوة إلى تسبيبه على الإطلاق.
1- م.س. 13222.
2- م.ن. 13224.
98
80
السّماح والعفو
والثاني: الضعف في حكومة الإسلام وسلطته, وكذلك هو أمر خطير نهانا الله تعالى عنه.
وهناك عنوان ثالث عامّ أشار إليه مولانا السجاد عليه السلام وهو لزوم الضرر حيث قال: "حقّ من أساءك أن تعفو عنه وإن علمت أنّ العفو عنه يضرّ انتصرت, قال الله تبارك وتعالى: "ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل"1.
ويجمع المعنيّين للعفو حديث أمير المؤمنين عليه السلام حيث يكشف عن ضابطة الإصلاح والإفساد مع الكريم في الأوّل ومع اللّئيم في الثاني قائلاً: "العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم"2.
العفو الأكبر والعفو الأصغر
هناك نحوان من العفو كلاهما فضيلة أعدّ الله تعالى على التحلّي بها ثواباً عظيماً ومكانة عالية غير أنّ أحدهما أهمّ وأكبر وأحسن من الآخر وهو العفو مع القدرة أي حينما يقدر الإنسان أن يأخذ حقّه من المعتدي وكانت الظروف ملائمة والشروط الشرعيّة متوفّرة لكنّه آثر أن يعفو عنه مع مقدرته عليه رجاء أن يعفو الله عنه ورغبة في الثواب والنجاة من العقاب يوم الجزاء، والحثّ عليه في الروايات كثير, فقد ورد: "أحسن العفو ما كان عن قدرة"3، "العفو مع القدرة جُنَّة من عذاب الله سبحانه"4، "أحسن أفعال المقتدر العفو"5، "أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة"6، "العفو زكاة القدرة"7, "العفو زين القدرة"8.
1- م.س. 13225.
2- بحار الأنوار، ج74، ص419.
3- ميزان الحكمة، حديث: 13217.
4- م.ن. 13215.
5- م.ن. 13216.
6- م.ن. 13209.
7- م.ن. 13213.
8- م.ن. 13214.
99
81
السّماح والعفو
والنحو الثاني مهمّ لكنّه أصغر من صاحبه, وهو العفو حالة العجز الفعليّ عن تحصيل الحقّ وإمكان تجدّد القدرة في المستقبل على معاقبة المسيىء إليه، فينوي أنّه إذا قدر عليه أن يعفو عنه ويسقط حقّه لقاء وجه الله, وإن كان في الحاضر غير قادر على مجازاته أو استيفاء ما له عنده من حقوق إلّا أنّه قد سامحه, يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾1.
ويقول الصادق عليه السلام: "إنّا أهل بيت مروّتنا العفو عمّن ظلمنا"2.
وممّا جاء في الحديث: "ألا أخبركم بخير خلائق الدّنيا والآخرة؟ العفو عمّن ظلمك وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك وإعطاء من حرمك"3.
آثار العفو
1 - ذهاب الحقد والضغينة:
يقول النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "تعافوا تسقط الضغائن بينكم"4.
2 - إقالة العثرة يوم القيامة:
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من أقال مسلماً عثرته أقال الله عثرته يوم القيامة"5.
3 - العزّة في الدّنيا والآخرة:
في الحديث: "من عفا عن مظلمة أبدله الله بها عزّاً في الدّنيا والآخرة"6.
4 - إطالة العمر:
رُوي: "من كثر عفوه مُدّ في عمره"7.
1- آل عمران: 134.
2- أمالي الصدوق، ص238.
3- الكافي، ج2، ص107.
4- ميزان الحكمة، حديث: 13176.
5- م.ن. 13179.
6- م.ن. 13183.
7- بحار الأنوار, ج72, ص359.
100
82
السّماح والعفو
5 - النصر:
يقول الرضا عليه السلام: "ما التقت فئتان قطّ إلّا نُصر أعظمهما عفواً"1.
6 - بقاء الملك:
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "عفو الملوك بقاء الملك"2.
7 - النجاة من عذاب النار:
في الحديث: "تجاوزوا عن ذنوب الناس يدفع الله عنكم بذلك عذاب النار"3.
8 - الوقاية من سوء الأقدار:
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تجاوزوا عن عثرات الخاطئين يقيكم الله بذلك سوء الأقدار"4.
9 - مغفرة الله ورضوانه:
من كلام لأمير المؤمنين عليه السلام قبل أن تفيض روحه المقدّسة: "إن أبقَ فأنا وليُّ دمي، وإن أفنَ فالفناء ميعادي، وإن أعفُ فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا, ألا تحبّون أن يغفر الله لكم؟"5.
10 - قصور مشرفة على الجنّة:
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "رأيت ليلة أُسري بي قصوراً مستوية مشرفة على الجنّة, فقلت: يا جبرئيل لمن هذا؟ فقال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين"6.
1- الكافي، ج2، ص108.
2- بحار الأنوار، ج77، ص168.
3- تنبيه الخواطر، ج2، ص120.
4- م.ن.
5- نهج البلاغة، ج3, ص21.
6- ميزان الحكمة، الحديث: 13178.
101
83
السّماح والعفو
خلاصة الدرس
أ - العفو الجميل سبب مهمّ في إصلاح الإنسان وإعمار المجتمعات واستقرارها, وقد حثّ عليه الكتاب الكريم والسنّة الشريفة.
ب - العفو نحوان جميل وقبيح, والأوّل ما كان عنصر مساعدة على الإصلاح وبه يُتَقرَّب إلى الله سبحانه, والثاني ما كان عنصر مساعدة على الإفساد والتشجيع على تكرار المخالفات والجرائم من خلال التهاون وغضّ النظر.
ج - هناك عفو في الإسلام أكبر من الآخر, وهو ما كان مع القدرة على المعاقبة، والأصغر ما كان مع عدم التمكّن من ذلك, وكلاهما فضيلة.
د - للعفو الممدوح آثار أخرويّة ودنيويّة منها: ذهاب الضغائن، إطالة العمر، بقاء الملك، مغفرة الله، والنجاة من عذاب النار. والعزّة في الدّنيا والآخرة.
للمطالعة
ما دخلت المسجد إلّا لأستغفر لك!
كان مالك الأشتر مارّاً في سوق الكوفة وعليه قميص خام وعمامة من خام أيضاً.. فرآه شخص يغلب عليه الطيش فاحتقره لثيابه العاديّة هذه.. ورماه ببندقة طين, فلم يلتفت إليه الأشتر ومضى.
فقيل له: هل تعرف من رميت؟
قال: لا.. قيل: هذا مالك الأشتر صاحب أمير المؤمنين عليه السلام.
وقد كان حديث مالك بين الناس على كلّ شفة ولسان.
فارتعد الرجل.. وتبع الأشتر ليعتذر إليه.. فوجده قد دخل مسجداً.. وهو قائم يصلّي.
102
84
السّماح والعفو
فلمّا فرغ من صلاته وقع الرجل على قدميه يقبّلهما, فقال الأشتر: ما هذا؟
قال: أعتذر إليك ممّا صنعت.
قال الأشتر: لا بأس عليك, فوالله ما دخلت المسجد إلّا لأستغفر لك.
من ينجّيك منّي يا محمّد!
عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة ذات الرّقاع تحت شجرة على شفير واد، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمّداً, فجاء وشدّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف، ثمّ قال: من ينجّيك منّي يا محمّد؟
فقال: ربّي وربّك. فنسفه جبرئيل عليه السلام عن فرسه فسقط على ظهره، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ السيف وجلس على صدره وقال: من ينجّيك منّي؟ فقال: جودك وكرمك يا محمّد، فتركه، فقام وهو يقول: والله لأنت خير منّي وأكرم"1.
الملك بهرام والراعي السارق!
حُكي أنّ بهرام الملك خرج يوماً للصيد, فرأى صيداً فتبعه وانفرد عن عسكره, فمرّ براعٍ تحت شجرة فنزل لحاجة وقال للراعي: حافظ على فرسي، فعمد الراعي إلى عنانه الذهب وقطع أطرافه، فوقع نظر بهرام عليه فاستحيى وأطرق رأسه وأطال الجلوس حتّى أخذ الرجل حاجته فقام بهرام واضعاً يديه على عينيه يقول للراعي: قدّم إليّ فرسي فقد دخل في عيني من سافي الريح فما أستطيع فتحها، فركب وسار حتّى بلغ عسكره فقال لصاحب مراكبه: إنّ أطراف اللّجام وقد وهبتها فلا تتهمنّ بها أحداً.
1- الكافي, ج8, ص127.
103
85
الحياء والعفاف
الحياء والعفاف
• في رحاب الدُّعاء • ما المقصود من الحياء والعفاف؟
• متى يكمل الحياء؟ • الحياء الممدوح والحياء المذموم
• لا حياء في ثلاث • علاقة الحياء بالعفاف
• آثار الحياء والعفاف
"فَهَا أَنَا ذَا يَا إلهِيْ... سَائِلُكَ عَلَى الْحَيَاءِ مِنّي سُؤَالَ الْبَائِسِ الْمُعِيْلِ1... اللّهمّ وَاجْمَعْ لِي وَالْعَفَافَ2... "أللَّهُمَّ... جيرَانِي وَمَوَالِيَّ وَالْعَـارِفِينَ بحَقِّنَا وَالْمُنَـابِذِينَ لاِعْدَائِنَا.. وَوَفِّقْهُمْ لاقَامَةِ سُنَّتِكَ وَالاَخْذِ بِمَحَاسِنِ أَدَبِكَ... وَسَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ... واجْعَلْنِي اللَّهُمَّ... أَغُضُّ بَصَرِي عَنْهُمْ عِفَّةً"3.
الصحيفة السجّاديّة
1- الصحيفة السجّاديّة, ص66.
2- م.ن, ص128.
3- م.ن, ص140.
105
86
الحياء والعفاف
في رحاب الدُّعاء
صفتان مهمّتان للإنسان المؤمن، يشير إليهما الإمام السجاد عليه السلام ويؤكّد عليهما هما: الحياء الّذي هو سبب إلى كلّ جميل ومفتاح كلّ خير، والعفاف الّذي هو أفضل العبادة ونعم القرين، وما من شكّ أنّ هاتين الخصلتين في رأس سلسلة مكارم الأخلاق ومن أعظم العوامل المساعدة على رقيّ النفس في مدارج الكمال والسداد، وفي المقابل فاقد الحياء مذموم ذمّاً شديداً على لسان أهل البيت عليهم السلام حتّى ورد كما عن مولانا الصادق عليه السلام: "لا إيمان لمن لا حياء له"1، وعن مولانا الباقر عليه السلام: "الحياء والإيمان مقرونان في قرن، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه"2 أي أنّه كلّما فقد الإنسان الحياء فقد الإيمان, وكلّما فقد الإيمان فقد الحياء، فلا يكون أحدهما موجوداً دون الآخر، فهما إما موجودان معاً أو مفقودان معاً, وأمّا الحثّ على العفاف فهو كثير إضافة إلى ما نزل في الكتاب الكريم, فقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ألا وإنّ لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطِمرَيْه ومن طُعْمِهِ بقرصَيْه, ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد"3.
1- الكافي، ج2، ص105.
2- ميزان الحكمة، حديث: 4565.
3- نهج البلاغة، ج3, ص70.
107
87
الحياء والعفاف
وعنه عليه السلام في بيان منزلة العفيف وعظم شأنه: "ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممّن قدر فعفّ، لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة"1.
ما المقصود من الحياء والعفاف؟
الحياء: ملكة للنفس توجب انقباضها عن القبيح وانزجارها عن خلاف الآداب خوفاً من اللّوم.
والعفاف: ترك المحرّمات بل الشبهات أيضاً, ويطلق غالباً على عفّة البطن والفرج، والعفّة حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة وتجعلها منقادة للعقل في الإقدام على ما يأمرها به من الطعام والشراب والنّكاح والاجتناب عمّا ينهاها عنه، وهو الاعتدال الممدوح عقلاً وشرعاً، وطرفاه من الإفراط والتفريط مذمومان.
يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث أخافهنَّ على أُمّتي من بعدي: الضلالة بعد المعرفة، ومضلاّت الفتن، وشهوة البطن والفرج"2.
وممّا رُوي أنّه قال رجل للإمام الباقر عليه السلام: "إنّي ضعيف العمل قليل الصيام ولكنّي أرجو أن لا آكل إلّا حلالاً، قال: فقال له: أيّ الاجتهاد أفضل من عفّة بطن وفرج"3 ؟!
متى يكمل الحياء؟
حتّى نجيب عن هذا السؤال لا بدّ لنا أن نستعرض أنحاء الحياء, وهي ثلاثة:
النحو الأوّل:
حياء الإنسان من الله تعالى: والباعث عليه العقل السليم والشرع المبين وحيث يرى الله سبحانه أحقّ بأن يستحي منه لعظمة عزّته وجزيل نعمته، قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "قلّة
1- ميزان الحكمة، حديث: 13118.
2- الكافي، ج2، ص65.
3- الكافي، ج2، ص64.
108
88
الحياء والعفاف
الحياء كفر"1. وهذا الحياء يدعو إلى امتثال ما أمر الله عزّ وجلّ به، وترك ما نهى عنه فتحصل بذلك السعادة الأبديّة. وقيل له صلى الله عليه وآله وسلم: كيف نستحي من الله حقّ الحياء؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "حفظ الرأس وما حوى, والبطن وما وعى, ورفض زينة الحياة الدّنيا, وذكر الموت والبلى"2.
النحو الثاني:
حياء الإنسان من الناس: وهو يبعث على كفّ الأذى وترك المجاهرة والمواجهة بالقبيح لهم.
يقول مولانا العسكريّ عليه السلام: "من لم يتّق وجوه الناس لم يتّق الله"3.
ويجسّد هذا النحو من الحياء قول الشاعر:
ورُبَّ قبيحةٍ ما حالَ بيني وبين ركوبها إلّا الحياءُ
إذا رُزِقَ الفتى وجهاً وقاحاً تقلّبَ في الأمورِ كما يشاءُ
النحو الثالث:
حياء الإنسان من نفسه: وهو يبعث على العفّة، والمحافظة على الأحكام الشرعيّة في الخلوات وحيث يكون سرّه كعلانيته ويكون الله حاضراً في نفسه وناظراً إليه دائماً يكون الخير كلّه معه.
لذلك قال مولى المتّقين عليه السلام: "أحسن الحياء استحياؤك من نفسك"4.
وعنه عليه السلام: "من أفضل الورع أن لا تبدي في خلوتك ما تستحي من اظهاره في علانيتك"5.
قال بعضهم:
فسرّي كإعلاني وتلك خليقتي وظلمة ليلي مثل ضوء نهاري
1- مستدرك الوسائل, ج8, ص 466.
2- بحار الأنوار, ج1, ص142.
3- م.ن, ج68, ص336
4- غرر الحكم: 3114.
5- م.ن. 9342.
109
89
الحياء والعفاف
إذا اتضحت الأنحاء الثلاثة للحياء أصبح بإمكاننا الجواب عن السؤال المطروح في بداية هذه الفقرة وهو أنّ الإنسان يكمل حياؤه حين يستحي من الله تعالى والناس ونفسه الّتي بين جنبيه، حينئذٍ يمكن أن يُقال إنّه قد كملت فيه أسباب الخير وانتفت عنه أسباب الشرّ.
الحياء الممدوح والحياء المذموم
الحياء الممدوح هو الاستحياء من الأمر القبيح كالسباب والإهانة, والحياء المذموم هو الاستحياء من الأمر الحسن أو الواجب كمن يحتلم ثمّ لا يغتسل استحياءً من أهله في البيت مخافة أن يعرفوا بذلك، وكمن يستحي من السؤال عن واقعة محلّ ابتلاء له خوفاً من أن يعرف صاحبه بأنّه جاهل بالمسألة, وقد وردت روايات تشير إلى الحياء القبيح الّذي من هذا القبيل.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق، فحياء العقل هو العلم وحياء الحمق هو الجهل"1.
لا حياء في ثلاث
هناك أمور لا يجمل فيها الحياء وليس مرغوباً فيها عدّدها أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: "ثلاث لا يُستحى منهنّ: خدمة الرجل ضيفه، وقيامه عن مجلسه لأبيه ومعلّمه، وطلب الحقّ وإن قلّ"2.
وعنه عليه السلام: "من استحى من قول الحقّ فهو أحمق"3.
علاقة الحياء بالعفاف
1- بحار الأنوار، ج71، ص331.
2- غرر الحكم: 4666.
3- ميزان الحكمة، حديث: 4579.
110
90
الحياء والعفاف
يجيبنا أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: "سبب العفّة الحياء1. على قدر الحياء تكون العفّة"2.
فالحياء إذاً سبب العفاف، وطالما كان الحياء كاملاً من الأنحاء الثلاثة المتقدّمة كانت العفّة موجودة حيث تدور مداره, وبهذا تبيّن وجه جمع الاثنين في درس واحد.
آثار الحياء والعفاف
أمّا آثار الحياء فيقول النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في تعدادها: "أمّا الحياء: فيتشعّب من اللّين والرأفة والمراقبة في السرّ والعلانية والسلامة، واجتناب الشرّ، والبشاشة والسماحة والظفر، وحسن الثناء على المرء في الناس، فهذا ما أصاب العاقل بالحياء، فطوبى لمن قبل نصيحة الله وخاف فضيحته"3.
وأمّا آثار العفاف فهي كما في حديثه صلى الله عليه وآله وسلم: "أمّا العفاف: فيتشعّب منه الرضا والاستكانة والحظّ والراحة والتفقّد والخشوع والتذكّر والتفكّر والجود والسخاء فهذا ما يتشعّب للعاقل بعفافه رضى بالله وبقسمه4 اللّهمّ ألبسنا الحياء فإنّه أحسن ملابس الدّنيا، وألبسنا العفاف فإنّه أفضل شيم الأشراف، واحمنا عن موبقات الردى, واجعل سعينا فيما ترضى, يا أرحم الراحمين".
خلاصة الدرس
أ - الحياء جوهره الإيمان, وهو تمام الكرم وأحسن الشيم وسبب للعفاف الّذي هو أفضل العبادة وعلى قدره تكون القناعة.
1- م.س. 4557.
2- م.ن. 4559.
3- تحف العقول، ص17.
4- م.ن.
111
91
الحياء والعفاف
ب - الحياء هو ترك القبائح مخافة اللّوم والعذاب، والعفاف هو الانتهاء عن المحرّمات والشبهات خصوصاً ما يتعلّق بالأجوفين البطن والفرج.
ج - يكمل الحياء إذا كان في أنحائه الثلاثة مع الله تعالى ومع الناس ومع النفس.
د - الحياء المذموم هو ترك الأمر الحسن خشية الناس وهو حياء الحمق.
هـ - لا ينبغي الحياء في خدمة الضيف وإكبار الأب والمعلّم، وطلب الحقّ اليسير.
و - الحياء سبب العفاف وهو يدور مداره شدّة وضعفاً.
ز - للحياء والعفاف آثار عدّدها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منها: "اللِّيْن والرأفة والسلامة والظفر في الأوّل، والرضا والراحة والتفكّر والتذكّر في الثاني".
للمطالعة
الغلام يعطي الكلب خبزاً!
ذهب الإمام الحسين عليه السلام ذات يوم مع أصحابه إلى بستانه، وكان في ذلك البستان غلام اسمه "صافي" فلمّا قرب من البستان رأى الغلام قاعداً يأكل خبزاً، فنظر الحسين إليه وجلس عند نخلةٍ مستتراً لا يراه وكان يرفع الرغيف فيرمي بنصفه إلى الكلب ويأكل نصفه الآخر، فتعجّب الحسين من فعل الغلام، فلمّا فرغ الغلام من أكله قال: الحمد لله ربّ العالمين، اللّهمّ اغفر لي، واغفر لسيّدي، وبارك له كما باركت على أبويه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
فقام الحسين عليه السلام وقال: يا صافي! فقام الغلام فزعاً وقال: يا سيّدي وسيّد المؤمنين! إنّي ما رأيتك. فاعفُ عنّي. فقال الحسين عليه السلام: اجعلني في حِلٍّ يا صافي لأنّي دخلت بستانك بغير إذنك. فقال صافي: بفضلك يا سيّدي وكرمك وبسؤددك تقول هذا. فقال الحسين: رأيتك ترمي بنصف الرغيف للكلب، وتأكل النصف الآخر، فما معنى ذلك؟ فقال الغلام: إنّ هذا الكلب ينظر إليّ حين آكل، فأستحي منه يا سيّدي لنظره إليّ،
112
92
الحياء والعفاف
وهذا كلبك يحرس بستانك من الأعداء، فأنا عبدك وهذا كلبك، فأكلنا رزقك معاً. فبكى الحسين وقال: أنت عتيق لله، وقد وهبت لك ألفي دينار بطيبةٍ من قلبي، فقال: إن أعتقتني فأنا أريد القيام ببستانك، فقال الحسين: إنّ الرجل إذا تكلّم بكلام فينبغي أن يصدّقه بالفعل، فأنا قد قلت دخلتُ بستانك بغير إذنك. فصدّقت قولي ووهبت البستان وما فيه لك، غير أنّ أصحابي هؤلاء جاؤوا لأكل الثمار والرطب، فاجعلهم أضيافاً لك، وأكرمهم من أجلي وأكرمك الله يوم القيامة، وبارك لك في حسن خلقك وأدبك. فقال الغلام: إن وهبت لي بستانك فأنا قد سبّلته لأصحابك وشيعتك.
113
93