إنسان بعمر 250 سنة


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-12

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 هذا الكتاب


عبارة عن مجموعة من المحاضرات والدراسات التي ألقاها ودوّنها الإمام الخامنئي دام ظله في سيرة الأئمة الأطهار عليهم السلام ، تمّ جمعها وتنسيقها وتبويبها بحيث تحقّق الهدف والغرض من طرح فكرة هذا الكتاب الجديدة والإبداعية؛ فقد كان أوّل طرح لهذا المفهوم الكبير والمتقدّم بعنوان "إنسان بعمر 250 سنة" من قبل الإمام الخامنئي دام ظله في المؤتمر العالمي للإمام الرضا عليه السلام عام 1986م. 

والكتاب الحاضر، قبل أن يكون كتاباً تاريخياً صرفاً، هو متن تحليلي تاريخي؛ يتضمّن بالاضافة إلى السرد والشرح التاريخي لوقائع من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام ، طرحٌ وبيان رؤية تحليلة كلّية لحياة كل معصوم بالنظر إلى المسار التاريخي لمرحلة إمامته، وفي إطار رؤية متكاملة ومترابطة مع باقي الأئمة الأطهار عليهم السلام ، بحيث غدت سيرتهم الجهادية بمثابة عرض منسجم ومترابط لحركة واحدة متّصلة ومتواصلة نحو مقصد واحد وغرض مشخّص.

وهو يهدف بشكل أساسي إلى تكوين رؤيا واضحة عن الحياة السياسية للأئمة الأطهار عليهم السلام ، وإلى تسليط الضوء والبحث عن عنصر الجهاد والمواجهة السياسية التي اتسمت بها حياتهم المباركة، والمقصد الحقيقي الذي كانوا يرمون الوصول إليه. 

والفكرة المركزية التي تبتني عليه هذه الرؤية هي النظر إلى الأئمة عليهم السلام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
5

1

المقدمة

  على أنّهم شخص واحد يحيا بأهداف واضحة ومحدّدة على المستوى المرحلي والاستراتيجي؛ يسعى دون كلل أو ملل للوصول إلى هذه الأهداف، والتي هي نفسها أهداف هذا الدين الحنيف والرسالة المحمدية الأصيلة. وقد امتدت حياة هذا الإنسان على طول حياة الأئمة عليهم السلام ، أي من سنة 11 للهجرة حتى عام 260 للهجرة، ليكون إنساناً بعمر 250 سنة، ومن هنا اقتبس عنوان هذا الكتاب؛ من كلمات القائد نفسها. 


في الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ حجم الكلام الذي صدر عن الإمام الخامنئي في الأبعاد المختلفة لحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام وخاصة حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام أمير المؤمنين والإمام الحسين عليه السلام وكذلك في دائرة السيرة الشخصية لكل واحد من المعصومين عليهم السلام أكثر بكثير من المقدار الوارد في هذا الكتاب. وعليه يمكن اعتبار هذا الكتاب مقدمة أساسية وديباجة مفيدة للدخول إلى المعارف الأساسية والأصيلة في حياة المعصومين عليهم السلام والواردة في كلمات الإمام الخامنئي دام ظله وخطاباته.

ولا يسعنا في النهاية إلا أن نتقدّم بجزيل الشكر والامتنان إلى جميع الذي ساهموا في انجاز هذا العمل واتمامه حتى النهاية، ونخصّ بالشّكر فضيلة السيد عباس نورالدين الذي كان له الفضل في ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية، فاسحاً بذلك المجال أمام إخراجه إلى المكتبة العربية. 
 
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
6

2

المقدمة

 المقدّمة


إنّ غربة الأئمّة عليهم السلام لم تقتصر على الفترة الزمنيّة الّتي عاشوها في حياتهم، بل استمرّت لعصور متمادية من بعدهم. والسبّب في ذلك يرجع إلى إهمال الجوانب المهمّة بل والأساسية من حياتهم. ومن المؤكّد أنّ هناك كتباً ومؤلّفاتٍ كثيرة قد حَظِيت بمكانة رفيعة لا نظير لها، وذلك لما حملته في طيّاتها من روايات تصف حال الأئمّة عليهم السلام ، ولما نقلته للأجيال المتعاقبة من أخبار تصف سيرتهم، ولكنّ عنصر المواجهة السياسيّة الحادّة، والّتي تمثّل الخطّ الممتد لحياة أئمّة الهدى عليهم السلام طيلة 250 سنة، قد ضاع في طيّات الروايات والأحاديث، وذكر الأحوال الناظرة إلى الجوانب العلميّة والمعنويّة.

يجب علينا أن ننظر إلى حياة الأئمّة عليهم السلام كدرس وأسوة، لا كمجرّد ذكريات قيّمة وعظيمة حدثت في التاريخ. وهذا لا يتحقّق إلّا بالاهتمام والتركيز على المنهج والأسلوب السياسي من سيرة هؤلاء العظماء عليهم السلام .
أنا شخصياً عندي رغبة شديدة في الاطّلاع على هذا الجانب المهمّ من حياتهم. وأوّل مرّة شعرت بأهميّة هذه المسألة كان عام 1350هـ.ش (1971م.) أي في مراحل المحنة الّتي سبقت الثورة. ومع أنّني قبل تلك الفترة كنت أنظر إلى الأئمّة عليهم السلام بعنوان أنّهم شخصيّات مجاهدة ومكافحة لإعلاء كلمة التوحيد وإقامة الحكومة الإلهية، إلّا أنّ النقطة المهمّة الّتي وصلت إليها في تلك الفترة هي أنّه على الرغم من الاختلاف الظاهري بين سيَرهم عليهم السلام (حتّى أنّ بعض الناس ليشعر بالاختلاف الشاسع وبالتناقض فيها)، إلا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

3

المقدمة

  أنّها عبارة عن مسيرة واحدة استمرّت 250 سنة ابتداءً من سنة 11هـ.ق. إلى 260هـ.ق. أي انتهت ببداية الغيبة الصغرى للإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف .


هؤلاء العظماء كانوا شخصاً واحداً. ولا ينبغي الشكّ بأنّ هدفهم هو واحدٌ. ولذلك فإنّنا وبدل أن ندرس حياة كلّ من الإمام الحسن عليه السلام والحسين عليه السلام والسجّاد عليه السلام بصورة منفصلة عن الأخرى، حتّى لا نقع في فخّ هذا الخطأ الخطر من وجود التناقض والتعارض بين سيرة هؤلاء الأئمّة الثلاثة بسبب وجود هذا الاختلاف الظاهريّ، يجب أن نفرض وجود إنسان عمّر 250 سنة، وفي سنة 11 للهجرة وضع أوّل قدمٍ له على الطريق، حتّى قطعه عام 260 للهجرة. 
عندها سوف تصبح كلّ حركات هذا الإنسان، العظيم والمعصوم، قابلةً للفهم والتفسير وفق هذا المنظار. فإنّ أيّ إنسان يملك شيئاً من العقل والحكمة، ولا نقول يملك شيئاً من العصمة، تكون له تكتيكات ومواقف موضعيّة خاصّة خلال حركته البعيدة المدى. وقد يجد هذا الإنسان أنّه من الضروريّ أن يُسرِع في حركته تارةً، وأن يبطئ تارةً أخرى، أو حتّى أن يتراجع تراجعاً حكيماً في مواضع أخرى. والإنسان العاقل والحكيم والعارف سيرى في هذا التراجع، بالنظر لهدف هذا الإنسان، حركة وتقدّماً نحو الأمام.

من هذا المنظار تُعتبر حياة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، والإمام المجتبى عليه السلام ، والإمام الحسين عليه السلام ، والأئمّة الثمانية المعصومين عليهم السلام من ولدهم، حركة واحدة ومستمرّة حتّى سنة 260 للهجرة. وقد التفتُّ في تلك السنة (1971م) إلى هذا الأمر، ودخلت في دراسة حياتهم، من هذا المنظار، وعاودتُ النظر مرّةً أخرى وكلّما توغّلت وجدتُ أنّ هذه الفكرة صائبة. إنّ الالتفات إلى الحياة المستديمة لهؤلاء المعصومين والعظماء من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتلازم مع التوجّه السياسيّ، يستحقّ أن يُفرد له فصلٌ خاصّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

4

المقدمة

  مستقلّ، وقد قرّرتُ القيام بهذا الأمر. وإن شاء الله أرغب بالحديث عن هذه الجملة بشيءٍ من الشرح والتفصيل. 

 
أوّلاً: ماذا نقصد عندما ننسب المواجهة السياسية أو النضال السياسيّ الحادّ للأئمّة عليهم السلام ؟ 
 
إنّ المقصود من هذا الكلام هو أنّ جهاد الأئمّة المعصومين عليهم السلام لم يكن منحصراً بالجهاد العلميّ والعقائديّ والكلاميّ، من قبيل النزاعات الكلامية الّتي تشاهدونها عبر كلّ تلك الفترة من تاريخ الإسلام، مثل النزاع بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم. فلم يكن هدف الأئمّة عليهم السلام من اجتماعاتهم العلميّة، وحلقات دروسهم، والأحاديث، ونقل المعارف الإسلامية وبيان الأحكام أن يثبتوا مدرستهم الكلامية أو الفقهية ويفحموا خصومهم فحسب، بل كان هدفهم أبعد من ذلك. وأيضاً لم تكن مواجهتهم مواجهة مسلّحة كما كان في عهد زيد والّذين جاؤوا من بعده، أو كما كان في عهد بني الحسن وبعض آل جعفر وغيرهم من الّذين مرّوا في حياة الأئمّة عليهم السلام . بالطبع، إنّ الأئمّة عليهم السلام لم يخطّئوا هذه التحرّكات بصورة مطلقة، وحكمهم على بعضٍ منها بالخطأ لم يكن بداعي كونها حركات مسلّحة وإنّما لأسباب أُخر مختلفة. لذا نجد أنّ مواقف الأئمّة عليهم السلام كانت مؤيّدة لهذه الحركات في بعض الأحيان، بل واشتركوا في بعضها، بصورة غير مباشرة، عن طريق المساعدات الّتي كانوا يقدّمونها للثورة. ومن الجدير الالتفات إلى حديث الإمام الصادق عليه السلام الّذي يقول: "لوددت أنّ الخارجيّ يخرج من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعليَّ نفقة عياله"1: كالنفقات الماليّة وتقديم العون المعنويّ، والدعم في تقديم الملاجئ والمخابئ وأمثالها. إلا أنّ الأئمّة عليهم السلام أنفسهم، تلك السلالة الّتي نعرفها، لم يخوضوا في مثل هذه المواجهات المسلّحة أو يشتركوا فيها بشكلٍ
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج46، ص172.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

5

المقدمة

  مباشر. إنّ الجهاد السياسيّ، لا ذاك الأوّل ولا ذاك الثاني، عبارة عن مواجهة ذات هدفٍ سياسيّ. فما هو ذاك الهدف السياسي؟ هو عبارة عن تشكيل "حكومة إسلاميّة" وبحسب تعبيرنا "حكومة علويّة". 

 
فكان سعي الأئمّة عليهم السلام ومنذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحتّى عام 260 هـ.ق. هو إيجاد وتأسيس حكومة إلهيّة في المجتمع الإسلاميّ، وهذا هو الأصل المدّعى. ولا نستطيع القول إنّ كلّ إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره، ولكن كلّ إمام كان يهدف إلى تأسيس حكومة إسلامية مستقبلية، أكان ذلك في المستقبل البعيد أو القريب. مثلاً هدف الإمام المجتبى عليه السلام كان تأسيس حكومة إسلامية في المستقبل القريب، فقوله عليه السلام قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾1، في جوابه للمسيّب بن نجيّة ولآخرين، عندما سألوه عن سبب سكوته، لهو خير دليل وإشارة إلى هذا المستقبل. وأمّا الإمام السجّاد عليه السلام ، وبحسب اعتقادي، فقد كان يهدف إلى تأسيس حكومة إسلامية في المستقبل المتوسّط، ولدينا شواهد في هذا المجال نذكرها فيما بعد. أمّا الإمام الباقر عليه السلام فيوجد احتمال كبير أنّه سعى لتأسيس حكومة في المستقبل القريب، وأمّا بعد شهادة الإمام الثامن عليه السلام فأغلب الظنّ أنّ الأمر صار متوجّهاً إلى المدى البعيد. إذاً، إنّ هدف تأسيس الحكومة كان نصب أعين الأئمّة عليهم السلام دائماً، لكن الزمن المنشود لتأسيسها وقيامها كان يختلف من إمامٍ إلى آخر. وهذا هو معنى النضال السياسي.
 
إنّ كلّ الأعمال الّتي كان يقوم بها الأئمّة عليهم السلام ، بغضّ النظر عن الأمور المعنوية والروحية الّتي تهدف إلى تكامل النفس الإنسانية ورقيّها وقربها من الله تعالى، كانت أعمالاً تهدف إلى تأسيس هذه الحكومة الإسلامية. فنشاطاتهم في نشر العلم والمناظرات الّتي كانوا يقومون بها ضدّ خصومهم في السياسة،
 
 
 

1- سورة الأنبياء، الآية: 111.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
10

6

المقدمة

  ووقوفهم إلى جانب جماعة، ووقوفهم في وجه أخرى، كلّها تصب في هذا المجال ألا وهو تأسيس الحكومة الإسلامية. هذا هو المدّعى. (28/04/1365)

السؤال الأساس هو هل كان للأئمّة عليهم السلام حياة سياسية أم لا؟ هل كانت حياتهم عبارة عن جمع مجموعة من التلامذة والمريدين والمحبّين حولهم من أجل أن يبيّنوا لهم أحكام الصلاة والزكاة والحجّ والأخلاق الإسلامية والمعارف والأصول الدينية والعرفان وأمثالها فقط لا غير أم لا؟ 
 
كان هناك أشياء أخرى غير الّتي ذُكرت، وهناك إطار آخر في قلب وروح ما ذُكر في حياة الأئمّة، وهو عبارة عن تلك الحياة السياسية، فهذا أمرٌ مهمٌّ جداً، ومطلبٌ ينبغي أن يتّضح. بالطبع، لا مجال للبحث الاستدلاليّ والمفصّل في الفرص المختصرة. فأنا أعرض لرؤوس مطالب، لعلّ الّذين يمتلكون الرغبة يتابعون هذه القضية. ونحتاج في هذا الإطار إلى أن ننظر إلى الروايات مرّة أخرى، ونتأمّل في كتب التاريخ وعندها سيُعلم ما هي حقيقة حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أو أئمّتنا الآخرين عليهم السلام ، الّتي ما زالت إلى يومنا هذا غامضةً وغير مذكورة أو معروفة. بعد أن لوحظ في محيط الإمامة ومحيط أهل البيت أنّ هدف النبيّ لم يتحقّق أي ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾1، وبعد أن رأى الأئمّة عليهم السلام أنّ تشكيل نظامٍ إسلاميّ وتحقيق عالمٍ إسلاميٍّ كما أراده الأنبياء، وبعد عصر صدر الإسلام، قد تمّ نسيانه بالكامل، وأنّ الملَكيّة قد حلّت مكان النبوّة والإمامة، وأن الكسرويين والقياصرة والطواغيت الاسكندريين (نسبة للاسكندر) وغيرهم، من المعروفين بالظلم والطغيان عبر التاريخ، قد سيطروا ولبسوا لباس الخلافة باسم سلالة بني أمية وبني العبّاس، وأنّ القرآن أضحى يُفسّر كما يريد أصحاب الملك والقدرة، وأنّ أذهان الناس قد وقعت تحت تأثير العمل الخيانيّ
 
 
 

1- سورة آل عمران، الآية: 164.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

7

المقدمة

  لأولئك العلماء الّذين جلسوا على معلف المطامع والتعلّقات المادّية للحكّام والملوك، فبعد أن رأى الأئمّة عليهم السلام كلّ ذلك، ظهرت خطّة عامّة في حياتهم.

 
ونحن عندما نقول الأئمّة نقصد بذلك جميع الأئمّة، من أمير المؤمنين وحتى الإمام العسكريّ عليهم السلام . وقد كنت ذكرت مراراً أنّه علينا النظر إلى حياة الأئمّة عليهم السلام ، والّتي استمرّت لمدّة 250 سنة، كحياة إنسانٍ واحد، إنسانٌ عاش لـ 250 سنة، فلا ينفصلون عن بعضهم بعضاً، "كلّهم نورٌ واحد"1. فأيّ واحدٍ منهم يتفوّه بكلمة، تكون هذه الكلمة في الحقيقة قد جرت على لسان غيره من الأئمّة، وأيّ واحدٍ منهم يقوم بعملٍ ما، فإنّ هذا العمل يكون في الحقيقة صادراً عن غيره من الأئمّة، وكأنّ هناك إنساناً عاش 250 سنة. فجميع أعمال الأئمّة، وطيلة الـ 250 سنة، هي عمل إنسانٍ له هدفٌ واحد ونيّة واحدة وتكتيكات مختلفة.
 
عندما شعر الأئمّة عليهم السلام أنّ الإسلام صار غريباً وأنّ المجتمع الإسلاميّ لم يتشكّل، وضعوا عدّة أهدافٍ أساسية لهم، أحدها: تبيين الإسلام بالصورة الصحيحة. فالإسلام بنظر أولئك، الّذين كانوا على رأس السلطة طيلة هذه السنوات المتمادية، هو أمرٌ يعارض (مطامعهم). فإسلام النبيّ، وإسلام القرآن، وإسلام معركة بدر وحُنين، والإسلام الّذي يعارض الأرستقراطية والتمييز الطبقيّ، والإسلام الّذي ينصر المستضعفين ويقمع المستكبرين، لا يمكن أن يكون في مصلحة أولئك الّذين يريدون أن يرتدوا اللباس الموسوي بالحقيقة الفرعونية، واللباس الإبراهيميّ بالحقيقة النمرودية، فكانوا مضطرّين لتحريف الإسلام. ولمّا لم يكن بالإمكان إبعاد الإسلام دفعةً واحدة عن قلوب الناس وأذهانهم، لأنّ الناس كانوا مؤمنين به، اضطرّوا إلى أن يبدّلوا الإسلام من حيث الرّوح والماهية وأن يفرّغوه من محتواه.
 
 
 

1- عيون أخبار الرضا عليه السلام، ترجمة غفاري، ج2، ص417.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
12

8

المقدمة

 ففي النظام البائد لم يكن هناك مخالفة للمظاهر الإسلامية، ولكنّ الأمر لم يكن كذلك فيما يتعلّق بمضمون الإسلام وروحه وجهاد الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الإسلاميين، وبيان الحقائق الإسلامية، فلم يعارضوا المظاهر الإسلامية الّتي لا تضرّ مصالحهم. ومثل هذه الحالة كانت حاصلة في زمن الخلافة الأموية والعبّاسيّة، لهذا ومن أجل أن يُفرّغوا الإسلام من روحه وحقيقته، استأجروا مجموعة من المرتزقة، من أصحاب القلم واللسان ليختلقوا الأحاديث وكانوا يغدقون عليهم الأموال من أجل أن يخترعوا لهم منقبة، أو يكتبوا لهم كتاباً. يُقال إنّه عندما هلك سليمان بن عبد الملك، قد شوهدت كُتب فلان العالم الكبير - والّذي لا أذكر اسمه الآن - قد وُضعت على ظهور الإبل والحيوانات وأُخرجت من خزانة سليمان بن عبد الملك. أي أنّ هذا الكاتب والمحدّث الكبير وهذا العالم المشهور، الّذي يُذكر اسمه في كلّ هذه الكتب الإسلامية، كان يؤلّف لسليمان بن عبد الملك. فهل تتوقّعون من كتابٍ يؤلَّف لسليمان بن عبد الملك أن يُذكر فيه ما لا يرضي سليمان بن عبد الملك؟ فسليمان بن عبد الملك الّذي يظلم ويشرب الخمر ويصالح الكفّار ويقمع المسلمين ويميّز بين الناس ويضيّق على الفقراء وينهب أموال الناس، أيّ إسلامٍ سيعجبه؟ لقد كان هذا هو المرض الكبير للمجتمع الإسلاميّ طيلة القرون الأولى. وقد شاهد الأئمّة عليهم السلام هذه الأمور وشعروا أنّ تراث النبيّ العظيم صلى الله عليه وآله وسلم ، أي الأحكام الإسلامية الّتي ينبغي أن تبقى على مرّ التاريخ وتهدي البشرية في كلّ عصوره، أضحى عرضةً للتحريف. وكان من أهداف الأئمّة الأساسية التبيين الصحيح للإسلام والتفسير الحقيقيّ للقرآن، وكشف تلك التحريفات والمحرّفين.


انظروا في كلمات الأئمّة عليهم السلام ، سترون أنّ ما ذُكر في العديد من الموارد ناظرٌ إلى تلك الأمور الّتي ذُكرت باسم الإسلام من قبل العلماء والفقهاء
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

9

المقدمة

  والمحدّثين التابعين للأجهزة الحاكمة والعاملة لدى بلاط السلاطين من أجل ردّها وبيان حقائقها. لقد كان هذا من الأهداف الأساس والكبرى للأئمّة، وهو عبارة عن تبيين الأحكام الإسلامية.


إنّ نفس هذا العمل له بعدٌ سياسيّ؛ أي أنّنا عندما نعلم أنّ التحريف يحصل من قبل أجهزة السلطة والخلافة، وأنّ أصحاب القلم المأجورين، والّذين يظهرون بصورة العلماء، يحرّفون الأمور من أجل السلاطين والحكّام، فمن الطبيعيّ أنّ كلّ من ينهض بوجه هذه التحريفات يكون في الواقع قد قام بعملٍ يعارض سياسة أولئك الحكّام والسلاطين. في يومنا هذا، وفي بعض الدول الإسلامية، نجد أصحاب القلم والكتّاب والعلماء المستأجرين من قبل تلك الأجهزة يؤلّفون كتباً من أجل بثّ الفرقة بين المسلمين، أو من أجل تشويه صورة إخوانهم المسلمين، فلو ظهر في تلك البلاد كاتبٌ حرٌّ وألّف كتاباً حول الوحدة الإسلامية والأخوّة بين الجماعات الإسلامية، فإنّ مثل هذا العمل سيكون في الواقع عملاً سياسيّاً ومخالفاً للأجهزة الحاكمة. لقد كان بيان تلك الأحكام الإسلامية من جملة الأعمال والأنشطة الأساس للأئمّة، ولا يعني هذا أنّ الأحكام الإسلامية لم تكن تُعلن في تلك الأيّام وداخل المجتمع الإسلاميّ. كيف لا، وفي كلّ زاويةٍ من العالم الإسلامي كان هناك من يقرأ القرآن، وينقل الأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان هناك بعض المحدّثين الّذين حفظوا آلاف الأحاديث، ولم يكن الأمر مختصّاً بمكّة والمدينة والكوفة وبغداد وأمثالها، بل كان شائعاً في جميع أقطار العالم الإسلاميّ - انظروا إلى التاريخ - هناك في خراسان ذلك العالم الشابّ الّذي يدوّن عدّة آلاف من الأحاديث، وفي طبرستان، ذاك العالم الكبير الّذي ينقل عدّة آلاف من الأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة. لقد كان الحديث موجوداً وكانت تُبيّن الأحكام الإسلاميّة، ولكن ما لم يكن يُبيّن هو التفسير والتبيين الصحيح للإسلام في جميع المجالات، وفي كلّ ما يتعلّق
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

10

المقدمة

  بأمور المجتمع الإسلاميّ، وهذا ما أراد الأئمّة عليهم السلام أن ينهضوا به. لقد كان هذا العمل من الأعمال المهمّة للأئمّة عليهم السلام . 


العمل الآخر الّذي كان له أهميّة هو تبيين قضية الإمامة. الإمامة هي حاكمية المجتمع الإسلاميّ والقضية الأساس الّتي لم تكن واضحةً بالنسبة لمسلمي ذلك الزمان والّتي قد تمّ تحريفها من الناحية العملية والنظرية. فلمن تكون إمامة المجتمع الإسلاميّ؟ لقد وصل الأمر بحيث إنّ الّذين لا يتقيّدون بالأحكام الإسلامية في الأغلب، ويرتكبون أكثر المحرّمات علانيةً، يدّعون خلافة النبيّ ويجلسون على مسنده، ولا يخجلون. فلم يكن الأمر بحيث يخفى على الناس، بل كانوا يرون أنّ شخصاً اسمه الخليفة يأتي ليصلّي الجمعة مخموراً سكرانَ ويصبح إماماً يأتمّ به الناس. كان الناس يعلمون أنّ يزيد بن معاوية مصابٌ بالأمراض الأخلاقية الكبرى ويرتكب الذنوب الكبيرة، وفي نفس الوقت، عندما يُقال لهم قوموا على يزيد كانوا يقولون إنّنا بايعنا يزيد ولا يجوز القيام عليه. فقضيّة الإمامة لم تكن واضحةً للناس. كان الناس يتصوّرون أنّ إمام المسلمين وحاكم المجتمع الإسلاميّ يمكن أن يكون متلوّثاً بهذه المعاصي والمفاسد والمظالم وهذه الأعمال الّتي تخالف صريح القرآن والإسلام، فلم تكن القضية من هذه الناحية مهمّة بالنسبة للناس. لقد كان هذا مشكلةً كبيرةً، حيث وبالالتفات إلى أهمية قضية الحكومة في أيّ مجتمع وتأثير الحاكم على توجّهاته، فإنّ ذلك كان يُعدّ أخطر شيءٍ على عالم الإسلام. لهذا وجد الأئمّة عليهم السلام ضرورة تبيين أمرين للناس:
أحدهما: أن يذكروا للناس الشروط والخصائص الّتي ينبغي أن يتمتّع بها الحاكم الإسلاميّ والإمام. وهذه العصمة والتقوى والعلم والمعنويات والسلوك مع الناس، والعمل تجاه الرّب، هي خصائص الإمام أي الحاكم الإسلاميّ. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

11

المقدمة

 الثاني: هو تشخيص من يتحلّى بهذه الخصائص في يومهم. وهذا ما قاموا به بأنفسهم. وقد كان عملاً كبيراً من قبل الأئمّة. وأنتم ترون أنّه كان من أهمّ الأعمال السياسية والإعلامية والمفاهيم السياسيّة.


لو لم يكن للأئمّة عليهم السلام سوى هذين العملين اللّذين ذكرتهما، لكانا كافيين لتكون حياة الأئمّة من بدايتها وحتى نهايتها حياةً سياسية. وحينما كانوا يفسّرون القرآن ويبيّنون المعارف الإسلامية أيضاً فإنّهم كانوا في الواقع يقومون بعملٍ سياسيّ. وحينما كانوا يتحدّثون عن خصائص الإمام فإنّهم كانوا أيضاً يزاولون عملاً سياسياً. أي لو تمّ اختصار بيانات الأئمّة بذكر هاتين الخاصّيتين وهذين الموضوعين المذكورين، لكانت حياتهم حياةً سياسية، لكنّهم لم يكتفوا بذلك. فبالإضافة إلى كلّ هذه الأمور، بدأ الأئمّة عليهم السلام من عصر الإمام الحسن المجتبى عليه السلام إلى ما بعد ذلك، حركة تحت الأرض لها أبعاد سياسية وثورية من جميع الجهات من أجل الإمساك بالحكومة. ولا يبقى هناك أيّ شكٍّ، لكلّ باحثٍ في حياة الأئمّة، أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا أصحاب هذه الحركة. وما ذكرته هنا مجهولٌ. والمشكلة هي أنّ الكتب الّتي ألّفت حول حياة الأئمّة، حول حياة الإمام الصادق عليه السلام وحياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ، وبشأن حياة أكثر الأئمّة الآخرين، للأسف لم تبيّن هذه القضية.

فإنّ وجود حركةٍ سياسية عند الأئمّة، وبالرغم من كلّ هذه الشواهد الموجودة وتلك التشكيلات الواسعة والمنتشرة الّتي بنوها، قد بقيت مخفيّةً ولم تُذكر وكان هذا الأمر يُعدّ المشكلة الأساس في فهم حياة الأئمّة عليهم السلام . فحقيقة الأمر أنّ الأئمّة قد بدأوا هذا العمل. وبالتأكيد، توجد شواهد كثيرة على ذلك.

على جميع الإخوة والأخوات أن يعلموا هذا الأمر، وبصورة مختصرة، أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا جميعاً بمجرّد أن يُلقى عليهم حمل أمانة الإمامة فإنّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

12

المقدمة

  من الأعمال الّتي كانوا يبدأون بها هي تلك المواجهة السياسية والمساعي السياسية من أجل الإمساك بزمام الحكومة. إنّ هذا السعي السياسيّ كان يشبه جميع المساعي الّتي يقوم بها من يريد أن يشكّل نظاماً. وهو ما قام به الأئمّة عليهم السلام . (23/01/1364)

 
إنّ كلّ هذا النزاع الّذي تشاهدونه عبر مسير حياة الأئمّة عليهم السلام فيما بينهم وبين أجهزة الظلم والجور، إنّما كان حول هذه القضيّة. فالّذين خالفوا أئمّتنا وقتلوهم بالسمّ وسجنوهم وحاصروهم وضيّقوا عليهم، إنّما كان بسبب أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا أدعياء الحكومة. فحتى لو كان الأئمّة عليهم السلام يمتلكون علوم الأوّلين والآخرين، ولكنّهم لم يكونوا دعاة الحكومة، والقضية لم تكن لتمسّ القدرة السياسية وادّعاء هذه القدرة، فلما كانوا تعرّضوا لهم بأي شكلٍ من الأشكال، أو على الأقل لما كانوا تعاملوا معهم بهذه الشدّة والعنف. فالقضية من الأساس هي هذه. لهذا، أنتم ترون أنّه من بين دعوات وكلمات الأئمّة عليهم السلام ، توجد حساسية فائقة حول كلمة الإمامة وقضيّتها؛ أي أنّ الإمام الصادق عليه السلام عندما يريد أن يدّعي الحاكمية الإسلامية والقدرة السياسية فإنّه يقول: "أيّها الناس إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان الإمام"، وذلك في اجتماع الحجّاج في عرفات، فإنّ إمام المجتمع وحاكمه وقائده هو رسول الله، "ثمّ كان عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين"1، إلى أن يصل إلى نفسه. أي أنّ كلّ بحث الأئمّة مع مخالفيهم، وبحث أصحاب الأئمّة في جهادهم إنّما كان حول قضية الحكومة والحاكمية، والولاية المطلقة والعامّة على المسلمين وكذلك حول القدرة السياسية، ولم يكن النزاع حول المقامات المعنويّة للأئمّة. 
 
لماذا كثيراً ما نجد أشخاصاً في المجتمع، في زمن الخلفاء، من أهل الزهد والعلم المعروفين بالتفسير والعلم ومثل هذه الأمور، ولا يعارضهم 
 
 
 

1- الكافي، ج4، ص466.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

13

المقدمة

 الخلفاء، بل إنّهم حتّى يوادّونهم ويظهرون المحبّة لهم ويختلفون إليهم ويطلبون نصائحهم؟ لأنّ مثل هؤلاء لم يكونوا دعاةً سياسيّين في مقابل الخلفاء، من أمثال الحسن البصري وابن شبرُمة وعمرو بن عبيد، هؤلاء الكبار من العلماء الّذين كانوا مورد عناية وقبول الخلفاء. وكانوا يدّعون العلم والزهد والمعنويات والتفسير وعلوم النبيّ وكلّ هذه الادّعاءات، لكنّ الخلفاء لم يظهروا أيّة معارضة أو تعرّضٍ لهم بأي شكلٍ من الأشكال. لأنّه لم يكن هناك أيّ ادّعاء للقدرة السياسية. أمّا نزاع الأئمّة مع خلفاء بني أميّة وبني العبّاس فقد كان حول قضية الإمامة والولاية هذه، وهو ذلك المعنى الّذي نستخدمه اليوم بشأن الإمامة. (02/11/1366)


الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18
 

14

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 الفصل الأول:



النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم


بعثة الخاتم، بداية الصحوة.
حماية النظام الإسلاميّ.
تثبيت النظام الإسلاميّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

15

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 تمهيد

 
إنّ العمل المهمّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الدعوة إلى الحقّ والحقيقة والجهاد في سبيل هذه الدعوة. ولم يُبتلَ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأيّ تشويشٍ أو تردّد مقابل الدنيا الظلمانية في زمانه. سواءٌ في تلك الأيّام الّتي كان فيها في مكّة وحيداً، أم في ذلك الجمع الصغير من المسلمين الّذين أحاطوا به وفي مواجهة زعماء العرب المتكبّرين من صناديد قُريش وطواغيتهم، بجلافتهم وبكلّ اقتدارهم، أم مقابل عامّة الناس الّذين يغطّون في سبات الجهل والجاهلية. فلم يستوحش. وقال كلمة الحقّ وأعادها وبيّنها وأوضحها وتحمّل الإهانات واشترى كلّ تلك الصعاب والآلام بالنفس حتّى تمكّن من أسلمة عدد كبير منهم.
 
أم في ذلك الوقت الّذي تشكّلت فيه الحكومة الإسلامية، وكان هو نفسه في موقع رئاسة الحكومة، وكانت السلطة بيده. في تلك الأيّام أيضاً، كان هناك أعداءٌ ومخالفون متنوّعون يواجهون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، سواء تلك المجموعات العربية المسلّحة - البدو المتفرّقون في صحاري الحجاز واليمامة1، والّتي كانت دعوة الإسلام تريد إصلاحهم وهم يقاومون - أم ملوك العالم وسلاطينه - القوّتان العظميان في ذلك الزمان - أي إيران والإمبراطورية الرومانية، الّذين كتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجادلهم وتوجّه إليهم وجيّش الجيوش نحوهم، وعانى الصعاب ووقع في الحصار الاقتصاديّ، حتّى وصل الأمر إلى حد أنّه كانت تمرّ على أهل المدينة عدّة أيّام أحياناً، لا يجدون فيها خبز يومهم. لقد كانت
  
 
 

1- في الجزيرة العربية - بين نجد والبحرين - التي تحتوي على الكثير من القرى والقلاع والعيون وبساتين النخيل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

16

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  التهديدات الكثيرة من كلّ حدبٍ وصوب تحيط بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . كان بعض الناس يقلقون، وبعضهم يتزلزلون، وبعضهم يتذمّرون، وبعضهم يلوم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويحثّه على التنازل، لكنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يتردّد أو يضعف في ميدان الجهاد هذا، وتقدّم بالمجتمع الإسلاميّ بكلّ اقتدار حتّى أوصله إلى أوج العزّة والقدرة. هذا هو النظام والمجتمع، الّذي استطاع ببركة صمود النبيّ في ميادين الجهاد والدعوة، أن يصبح القوّة الأولى في العالم في السنوات الّتي تلت. (05/07/1370)

  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

17

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وإرساء قواعد النظام

 
بداية الصحوة
وكما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، في حديث مشهور ومتواتر، أنّه قال: "إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"1، فإنّ البعثة وُجدت في هذا العالم لأجل هذا الهدف، من أجل تعميم المكارم الأخلاقيّة، والفضائل الروحيّة وتكميلها عند الناس.
وطالما أنّ المرء لم يتحلَّ بأفضل المكارم الأخلاقية، فإنّ الله تعالى لن يوكل إليه هذا المهمّة العظيمة والخطيرة، ولهذا فإنّ الله سبحانه يخاطب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل البعثة قائلاً: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾2. أي أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان على درجة من الاستعداد تجعله قادراً على تلقّي الوحي الإلهيّ، وهذا الأمر يعود إلى ما قبل البعثة. ولهذا فقد ورد أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يشتغل بالتجارة في شبابه، وقد كسب من ذلك أرباحاً طائلة، فما لبث أن أنفقها جميعاً على المساكين قربةً إلى الله تعالى.
 
وفي هذه المرحلة الّتي كانت نهاية تكامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقبل نزول الوحي - ولم يكن قد نبّئ بعد - كان النبيّ يعتزل في غار حراء ويجول بفكره في الآيات الإلهية من سماء ونجوم وأرض، ويتأمّل في هذه الخلائق والموجودات الّتي تعيش على وجه البسيطة بما لها من مشاعر مختلفة وطبائع شتّى. لقد كان يشاهد كافّة هذه الآيات الإلهية فيزداد خضوعه يوماً بعد آخر أمام عظمة 
  
 
 

1- مجمع البيان، ج10، ص86.
2- سورة القلم، الآية: 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

18

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 الحقّ، ويتضاعف خشوع قلبه أمام الأمر والنهي الإلهيّين والإرادة الرّبانية، وتتفتّح في وجدانه، مع مرور الأيّام، براعم الأخلاق النبيّلة. ولهذا فقد ورد أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "كان أعقل الناس وأكرمهم"1، حيث كان يزداد تكاملاً قبل البعثة بمشاهدة الآيات الإلهية حتّى بلغ الأربعين، "فلمّا استكمل أربعين سنة ونظر الله عزّ وجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها وأخضعها أذن لأبواب السماء ففُتحت، ومحمد ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمد ينظر إليهم"2، حتّى نزل عليه جبرائيل الأمين وقال: ﴿اقْرَأْ﴾3 فكانت بداية البعثة.

 
إنّ هذا المخلوق الإلهيّ الّذي لا نظير له، وهذا الإنسان الكامل الّذي كان قد بلغ تلك الدرجة من الكمال في هذه المرحلة قبل نزول الوحي، قد شرع منذ اللحظة الأولى من البعثة في دخول مرحلة من الجهاد الشامل والبالغ المشقّة والمكابدة، استغرقت ثلاثاً وعشرين سنة، وكل هذا كان نموذجاً للكفاح والمجاهدة والعمل الدؤوب. لقد كان جهاده صلى الله عليه وآله وسلم جهاداً مع نفسه، ومع أناس لا يدركون من الحقيقة شيئاً، ومع ذلك المحيط الّذي كان يعمّه ظلامٌ حالك ومطبق. ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في وصف ذلك: "في فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا"4. لقد كانت الفتن تهاجم الناس من كلّ جانب: حبّ الدنيا، واتّباع الشهوات، والظلم والجور، والرذائل الأخلاقية الّتي تقبع في عمق وجود البشرية، وأيادي الطغاة الجائرة الّتي كانت تمتدّ على الضعفاء بلا أدنى مانعٍ أو رادع. ولم يكن هذا التعسّف مقتصراً على مكّة أو الجزيرة العربية، بل كان يسود أعظم الحضارات 
  
 

1- بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، ص260، وأصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" أفضل الناس أعقل الناس" وفسره ابن عباس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
2-بحار الأنوار، ج17، ص 309.
3- سورة العلق، الآية: 1.
4- نهج البلاغة، خ2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

19

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 في العالم آنذاك، أي الإمبراطورية الرومانية العظيمة، والإمبراطورية الشاهنشاهية في إيران. فإذا ما تأمّلتم في التاريخ لوجدتّم صفحة تاريخية مظلمة كانت تضرب بأطنابها على كافّة نواحي الحياة الإنسانية.

 
لقد بدأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جهاده منذ الوهلة الأولى للبعثة متسلّحاً بقوّة خارقة، وسعيٍ متواصل يستعصي على التصوّر، فتحمّل الوحي، ذلك الوحي الإلهيّ الّذي كان ينزل على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما ينزل الغيث العذب ويهطل على الأرض الخصبة، فيمنحه الطاقة ويمدّه بالقوّة، فانبرى موظّفاً كلّ طاقته ليأخذ بِيَد العالَم إلى زمن من التحّول العظيم، ولقد حالفه التوفيق.
 
إنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنى الخلايا الأولى لجسد الأمّة الإسلامية بِيَده المقتدرة في تلك الأيّام العصيبة من تاريخ مكّة، فبنى قواعد الأمّة الإسلامية ورفع عمادها، فكان المؤمنون الأوائل، وأوّل من اعتنق الإسلام، وأوّل من كانت لديهم تلك المعرفة والشجاعة والنورانية الّتي مكنّتهم من الوقوف على حقيقة الرسالة النبويّة والإيمان بها، ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾1. لقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الّذي لامس بأنامله الرقيقة شعاع تلك القلوب الوالهة، وفتح بيده القويّة أبواب الأفئدة على عالَمٍ رحبٍ من المعارف والأحكام الإلهية، فتفتّحت الأذهان والقرائح، وازدادت الإرادات صلابة، ودخلت تلك الثلةّ المؤمنة - الّتي كان يزداد عددها يوماً بعد يوم - في صراعٍ مريرٍ لا يمكن تصوّره بالنسبة لنا في المرحلة المكية. لقد تفتّحت هذه البراعم في بيئة لم تكن تعرف سوى القيم الجاهلية، فكان يسودها العصبية الخاطئة، ويعمّها الحقد العميق، وتتصارع بين جنباتها قوى القسوة والشرّ والظلم والشهوة الّتي تضغط بشدّة على حياة البشر وتحيط بها من كلّ جانب، فنبتت تلك الغرسات وأينعت من بين كلّ هذه الأحجار والأشواك
  
 

1-سورة الأنعام، الآية: 125,

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

20

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  الجامدة والملتفّة، وهذا هو معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام : "وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أصلبُ عوداً، وأَقْوَى وَقُوداً"1. ولذلك فإنّ كافّة العواصف والأنواء لم تستطع النيل من هذه النباتات والبراعم والأشجار الّتي نمت وترعرعت وانبثقت أعوادها من بين الصخور الصمّاء، وانقضى ثلاثة عشر عاماً، ثم ما لبث صرح المجتمع الإسلاميّ - المجتمع المدنيّ والنبويّ - أن قام على أساس هذه القواعد القويّة.

 
العمل السياسي
لم تكن السياسة هي العنصر الوحيد في بناء هذه الأمّة، بل كانت تمثّل قسماً من هذه العمليّة. والقسم الأساس الآخر فيها كان يتركّز على بناء الأفراد ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾2، ومعنى ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يعمل على تربية وتزكية القلوب قلباً قلباً, كما كان يغذّي العقول عقلاً عقلاً، وذهناً ذهناً، بالحكمة والعلم والمعرفة، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، والحكمة أعلى درجة ومكانة. فلم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعلّمهم القوانين والأحكام فحسب، بل كان يعلّمهم الحكمة أيضاً، وكان يفتح عيونهم على حقائق الوجود. وهكذا سار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيهم لمدّة عشر سنوات. فمن ناحية كان اهتمامه منصبّاً على السياسة وإدارة الحكومة والدفاع عن كيان المجتمع الإسلاميّ ونشر الإسلام وفتح المجال أمام تلك الجماعات الّتي كانت تعيش خارج المدينة، أن يدخلوا الساحة النورانيّة للإسلام وللمعارف الإسلامية، ومن ناحية أخرى كان يعمل على تربية أفراد المجتمع. وهذان الأمران لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
لقد اعتبر بعض الناس أنّ الإسلام مسألة فرديّة، وفصلوه عن السياسة.
  
 

1- نهج البلاغة، خ 45.
1- سورة الجمعة، الآية: 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
26

21

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 في حين أنّ نبيّ الإسلام المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم في بداية الهجرة، ومن اللحظة الأولى الّتي تمكّن فيها من النجاة بنفسه من مصاعب مكّة، فإنّ أوّل ما قام به هو السياسة. إنّ إقامة المجتمع الإسلاميّ وتشكيل الحكومة والنظام والجيش الإسلاميّ، وإرسال الرسائل إلى حكّام العالم الكبار، والدخول في معترك السياسة العظيم آنذاك، تُعدّ كلها من شؤون السياسة. فكيف يمكن فصل الدين عن السياسة؟! وكيف يمكن إعطاء السياسة معنىً ومضموناً وشكلاً بِيَد غير يد الهداية الإسلامية؟! ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾1، ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾2. إنهم يؤمنون بالقرآن، لكنهم لا يؤمنون بسياسته! ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾3. فما معنى القسط؟ إنّ القسط يعني إقرار العدالة الاجتماعية في المجتمع. فمن الّذي يستطيع تحمّل هذا العبء؟ إنّ إقامة مجتمع يعمّه العدل والقسط هو عملٌ سياسيّ يقوم به مدراء البلاد، وهذا هو هدف الأنبياء جميعاً. فليس الأمر مقتصراً على نبيّنا فقط، بل إنّ عيسى وموسى وإبراهيم وجميع الأنبياء الإلهيين عليهم السلام قد بُعثوا من أجل العمل السياسيّ وإقامة النظام الإسلاميّ.(31/05/1385)

 
النظام النموذجي للحكم
إنّ سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في مرحلة السنوات العشر لحاكميّة الإسلام في المدينة، تُعدّ من ألمع عهود الحكم طيلة التاريخ البشريّ، ولا نقول ذلك جزافاً، وإنّما يجب التعرّف إلى هذا العهد القصير والمليء بالنشاط والّذي له تأثيرٌ خارقٌ على تاريخ البشرية. إنّ المرحلة المدنيّة هي الفصل الثاني من
  
 

1- سورة الحجر، الآية: 91.
2- سورة البقرة، الآية: 85.
3- سورة الحديد، الآية: 25.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

22

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  عصر رسالة النبيّ، الّذي امتدّ لـ 23 سنة. الفصل الأوّل، الّذي كان مقدّمةً للفصل الثاني، كان عبارة عن 13 سنة في مكّة. أمّا السنوات العشر الّتي قضاها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة فهي تمثّل سنيّ إرساء قواعد النظام الإسلاميّ وبناء أنموذج الحكم الإسلاميّ لجميع أبناء البشرية على مرّ التاريخ الإنسانيّ في مختلف الأعصار والأمصار. وهذا الأنموذج الكامل، لا نجد له نظيراً في أيّ حقبة أخرى. وبمقدورنا من خلال إلقاء نظرة على هذا الأنموذج الكامل تحديد المعالم الّتي بها ينبغي للبشر وللمسلمين الحكم على الأنظمة وعلى الناس.


لقد كانت غاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من هجرته إلى المدينة هي مقارعة الواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ بظلمه وطاغوتيّته وفساده الّذي كان مهيمناً على الدنيا آنذاك، ولم يكن الهدف مكافحة كفّار مكّة فحسب، بل كانت القضية ذات بعد عالميّ أيضاً. كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يتعقّب هذا الهدف، فكان يغرس بذور الفكر والعقيدة أينما وَجد الأرضية المساعدة لذلك، على أمل أن تنبت تلك البذور في الوقت المناسب. وكانت غايته من ذلك إيصال رسالة الحريّة والنهوض وسعادة الإنسان إلى كافّة القلوب. وذلك يتعذّر إلاّ عن طريق إقامة النظام النموذجيّ القدوة. لذلك فقد جاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة لإقامة مثل هذا النظام النموذجيّ. لكن إلى أي مدى تسعى الأجيال اللاحقة لمواصلة ذلك والاقتراب من هذا النموذج، فذلك منوط بهممها ومساعيها. 

فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يبني النموذج ويقدّمه للبشرية والتاريخ. والنظام الّذي شيّده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان له الكثير من المعالم، أبرزها وأهمّها سبعة: 
المعْلَم الأوّل: الإيمان: فالدافع الحقيقي بالنظام النبويّ إلى الأمام هو الإيمان المنبثق من قلوب الناس وعقولهم ويأخذ بأيديهم وكلّ كيانهم نحو طريق الصواب. إذاً المعلم الأوّل يتمثّل في نفخ روح الإيمان وتقويته وترسيخه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

23

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  وتغذية أبناء الأمّة بالمعتقد والفكر السليمين، وهذا ما باشره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة ورفع رايته في المدينة بكلّ اقتدار. 

المعْلَم الثاني: العدل والقسط: فمنطلق العمل كان يقوم على أساس العدل والقسط وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه دون أدنى مداهنة. 
المعْلَم الثالث: العلم والمعرفة: فأساس كلّ شيء في النظام النبويّ هو العلم والمعرفة والوعي واليقظة، فهو لا يحرّك أحداً في اتّجاهٍ معيّن حركةً عمياء، بل يحوّل الأمّة عن طريق الوعي والمعرفة والقدرة على التشخيص، إلى قوّة فعّالة لا منفعلة. 
المعْلَم الرابع: فالصفاء والأخوّة. فالنظام النبويّ ينبذ الصراعات الّتي تغذّيها الدوافع الخُرافية والشخصية والمصلحية والنفعية ويحاربها. فالأجواء هي أجواء تتّسم بالصدق والأخوّة والتآلف والحميميّة. 
المعْلَم الخامس: الصلاح الأخلاقيّ والسلوكيّ: فهو يزكّي الناس ويطهّرهم من رذائل الأخلاق وأدرانها، ويصنع إنساناً خلوقاً ومزكّىً ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾1، فالتزكية هي أحد المرتكزات الأساس الّتي كان يستند إليها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في عمله التربويّ مع أبناء الأمّة فرداً فرداً لبناء الإنسان. 
المعْلَم السادس: الاقتدار والعزّة: فالمجتمع والنظام النبويّ لا يتميّز بالتبعيّة والتسوّل من الآخرين، بل يتميّز بعزّته واقتداره وإصراره على اتّخاذ القرار؛ فهو متى ما شخَّص موطن صلاحه سعى إليه وشقّ طريقه إلى الأمام. 
المعْلَم السابع: العمل والنشاط والتقدّم المطّرد: فلا مجال للتوقّف في النظام النبويّ، بل الحركة الدؤوبة والتقدّم الدائم. ولا معنى لدى أبنائه للقول إنّ كلّ شيء قد انتهى فلنركن إلى الدّعة! وهذا العمل - بطبيعة الحال - مبعث
 
 
 

1- سورة آل عمران، الآية: 164.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

24

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  لذّة وسرور وليس مدعاة للكسل والملل والإرهاق، بل هو عمل يمنح الإنسان النشاط والطاقة والاندفاع. 


دعائم النظام النموذجي
قدِم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ليقيم هذا النظام ويعمل على تكامله ويجعله أنموذجاً إلى أبد الدهر، ليقتدي به اللاحقون على امتداد التاريخ، ممّن تتوفّر لديهم القدرة على إقامة نظام مماثل له، من أجل أن يزرعوا الاندفاع في القلوب كي يحثّ بنو البشر الخطى نحو إيجاد مثل هذا المجتمع. وبديهيّ أن تحتاج إقامة مثل هذا النظام إلى دعائم عقائدية وإنسانية، فلا بدّ: 
أوّلاً: من وجود معتقدات وأفكار سليمة كي يقام هذا النظام على أساسها. وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأفكار والرؤى في إطار كلمة التوحيد والعزّة الإنسانية وسائر المعارف الإسلامية خلال فترة السنوات الثلاث عشرة الّتي أمضاها في مكّة، ثم علّمها وفهّمها الآخرين بشكل متواصل وعلى مدى لحظات حياته حتّى وافاه الأجل في المدينة، وكان على الدوام بصدد تعليم وتفهيم الجميع مثل هذه الأفكار والمعارف الساميّة الّتي شكّلت أسس هذا النظام. 
وثانياً: من الضروريّ وجود القواعد والدعائم الإنسانية كي يستقيم هذا البناء عليها، وذلك يعود إلى عدم ارتكاز النظام الإسلاميّ على فرد واحد. وقد باشر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إعداد هذه الركائز في مكّة وحقّقها، فكان منهم مجموعة من كبار الصحابة ــ على اختلاف مراتبهم ــ هم ثمرة الجهود المضنية والجهاد المرير خلال فترة السنوات الثلاث عشرة في مكّة، فيما كانت هنالك مجموعة من الّذين تمّ بناؤهم في يثرب بواسطة رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وذلك قبل هجرته صلى الله عليه وآله وسلم من قبيل سعد بن معاذ وأبي أيوب وغيرهما. 
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

25

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 وعندما حلّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، باشر، من لحظة دخوله إليها، عملية بناء الإنسان. ومع مرور الأيّام أخذت ترد إلى المدينة شخصيّات تتّسم بجدارتها الإدارية وجلالة القدر والشجاعة والتضحية والإيمان والاقتدار والمعرفة حتّى أصبحت أعمدةً صلبة لهذا الصرح الشامخ الرفيع. 


لقد كانت هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة - الّتي كانت تسمّى قبل حلوله فيها بـ "يثرب" ثم سُمّيت "مدينة النبيّ" بعد دخوله إليها - بمثابة نسائم ربيع عمّت أجواء المدينة فشعر أهلها كأنّ انفراجاً حلّ فيهم جذب القلوب وأيقظها. وحينما سمع أهل المدينة بوصول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبا- وهي على مقربة من المدينة ومكث فيها خمسة عشر يوماً - كان الشوق لرؤيته يغلي في قلوبهم يوماً بعد يوم، وكان بعضهم يتوجّه إلى قبا لرؤية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فيما بقي الآخرون ينتظرونه في المدينة. وعندما دخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة تبدّل ذلك الشوق وذلك النسيم إلى عاصفة ألهبت قلوب الناس فغيّرتها. وسرعان ما نما لديهم الشعور بأنّ جميع ما لديهم من مبتنيات وعواطف وارتباطات وعصبيات قبليّة قد ذابت بطلوع محيّا هذا الرجل وسلوكه ومنطقه، وأشرفوا على نافذة جديدة تطلّ بهم على حقائق عالم الخلق والمعارف الأخلاقية. فكان أن أحدثت هذه العاصفة ثورةً في القلوب بادئ الأمر، ثم امتدّت إلى تخوم المدينة، لتخرج فيما بعد إلى قلاع مكّة وتسيطر عليها، وتنطلق في خاتمة المطاف لتشقّ طريقها إلى ما هو أبعد، فتتقدّم إلى أعماق امبراطوريتي ذلك الزمان العظميين، وحيثما توجّهت كانت تهزّ القلوب وتحدث ثورةً في باطن البشر. ففي صدر الإسلام فتح المسلمون بقوّة إيمانهم بلاد إيران والروم، وأيّما قوم طالهم هجوم المسلمين كان الإيمان يداعب قلوبهم بمجرّد رؤيتهم للمسلمين. كانت الغاية من السيف إزالة العراقيل عن الطريق، والقضاء على المتسلّطين والمترفين. أمّا السواد الأعظم من الناس فقد استقبل هذه العاصفة في جميع
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

26

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  الأمكنة، فكان أن نفذ النظام والدولة الإسلامية إلى أعماق امبراطوريتي ذلك الزمان - أي إيران والروم - فأصبحتا جزءاً من النظام والدولة الإسلامية. وكلّ ذلك حصل في ظرف أربعين سنة، عشر منها في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وثلاثون منها بعد رحيله. 


لقد باشر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عمله بمجرّد أن حلّ في المدينة. ومن العجائب الّتي حفلت بها حياته صلى الله عليه وآله وسلم هي أنّه، وطوال تلك السنوات العشر، لم يهدر لحظةً واحدة، فلم يُرَ صلى الله عليه وآله وسلم ، غافلاً عن إنارة مشعل الهداية والإيمان والتعليم والتربية ولو للحظةٍ واحدة؛ فلقد كانت يقظته ونومه، ومسجده وداره، ودخوله ساحة الحرب، ومسيره في الطرقات والأسواق، ومعاشرته لأسرته، وكلّ وجوده أينما حلّ، دروساً. 

يا لها من بركة زخر بها هذا العمر! فالشخص الّذي شغل التاريخ برمّته وترك بصماته عليه - ولقد قلت مراراً إنّ الكثير من المفاهيم الّتي اكتست وشاح القدسية على مدى القرون التالية، من قبيل المساواة والأخوّة والعدالة والسيادة الشعبيّة، كلّها كانت تحت تأثير تعاليمه صلى الله عليه وآله وسلم . وفي تعاليم سائر الأديان، لم يكن من وجود لمثل هذه الأمور، أو لنقل إنّها لم تبلغ منصّة الظهور مع أنّ نشاطه الحكوميّ والسياسيّ والاجتماعيّ قد دام عشراً من السنين لا غير! فيا لها من حياة ميمونة! لقد حدّد صلى الله عليه وآله وسلم موقفه منذ الوهلة الأولى لدخوله المدينة. 

السلوك الاجتماعي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم 
فلمّا دخلت ناقته يثرب أحاط بها الناس. وكانت يثرب يومها مقسّمة إلى أحياء تضمّ بيوتاً وأزقّة ومتاجر، يعود كلّ منها إلى واحدة من القبائل التابعة إمّا للأوس أو للخزرج... كانت الناقة تمرّ من أمام قلاع هذه القبائل فيخرج
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

27

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  كبارها ويأخذون بركاب الناقة منادين: إلينا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "دعوا الناقة فإنّها مأمورة"1. لكنّ كبار القوم وأشرافهم، شيوخهم وشبابهم اعترضوا ناقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: انزل هنا يا رسول الله، فالدّار دارك، وكلّ ما لدينا في خدمتك، لكنّه صلى الله عليه وآله وسلم ، كان يقول لهم: "دعوا الناقة فإنّها مأمورة". وهكذا طوت الناقة الطريق حيّاً بعد حيّ، حتّى وصلت إلى حيّ بني النجّار الّذين تنتمي إليهم أمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وباعتبارهم أخوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جاؤوه وقالوا: يا رسول الله! إنّ لنا بك لقرابة فانزل عندنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "دعوا الناقة فإنّها مأمورة"، فانطلقت الناقة حتّى حطّت رحالها في أكثر أحياء المدينة فقراً، فمدّ الناس أعناقهم ليعرفوا مَنْ صاحب الدار الّتي حطّت عندها الناقة، فإذا به أبو أيّوب الأنصاريّ أفقر أهل المدينة أو أحد أفقرهم. عمد أبو أيّوب الأنصاريّ وعياله الفقراء المعوزون إلى أثاث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فنقلوه إلى دارهم وحلّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضيفاً عليهم2، فيما رُدّ الأعيان والأشراف وأصحاب النفوذ وذوو الأنساب وأمثالهم، أي أنّه حدّد موقعه الاجتماعيّ، فاتّضح من خلال ذلك عدم تعلّق هذا الرجل بالثروة والنسب القبليّ والزعامات القبلية والانتماء الأسريّ والعائليّ وعدم ارتباطه بالمتحايلين الوقحين ولن يكون كذلك. فهو صلى الله عليه وآله وسلم حدّد منذ الوهلة الأولى طبيعة سلوكه الاجتماعيّ، وأيّاً من الفئات يساند، ولأيّ من الطبقات ينحاز، ومَنْ هم الّذين سينالون القسط الأوفر من فائدة وجوده... فالجميع كانوا ينتفعون من وجود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتعاليمه، بيد أن الأكثر حرماناً كان أكثر انتفاعاً منه، دافعهم في ذلك هو التعويض عن حرمانهم. 

 
كانت قبال دارة أبي أيوب الأنصاريّ قطعة أرض متروكة فسأل صلى الله عليه وآله وسلم عن صاحبها، فقيل إنّها ليتيمين، فدفع لهما ثمنها واشتراها ثمّ أمر ببناء مسجد
  
 
 

1- بحار الأنوار، ج19، ص 110.
2- م. ن، ص121.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

28

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  عليها، كان بمثابة مركز سياسيّ عباديّ اجتماعيّ وحكوميّ ومركز يتجمّع فيه الناس؛ حيث اقتضت الضرورة بناء مركز يمثّل المحورية، ومن هنا تمّت المباشرة ببناء المسجد. ولم يطلب صلى الله عليه وآله وسلم قطعة أرض من أحد أو يستوهبها، بل اشتراها بأمواله، وبالرغم من عدم وجود محام عن هذين اليتيمين فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم راعى الدقّة في أداء حقوقهما كاملة تامّةً كالأب والمدافع عنهما. وعندما باشروا بناء المسجد، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أوائل المسلمين، أو أوّلهم، الّذين أمسكوا بالمعول وباشروا حفر أرض المسجد. ولم يكن عمله هذا رمزياً، بل كان عملاً حقيقياً بحيث كان العرق يتصبّب منه صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان عمله بالمستوى الّذي أثار بعض الّذين تنحّوا جانباً، فقالوا: أنجلس والرسول يعمل؟! فلنذهب ونعمل، فجاؤوا وانهمكوا في العمل حتّى شيّدوا المسجد خلال برهة وجيزة. وبذلك أثبت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم -ذلك القائد العظيم والمقتدر- أنّه لا يرى أيّ حقّ لشخصه، فإذا ما كان هنالك عمل فلا بدّ أن تكون له مساهمة فيه. 

 
ثمّ إنّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وضع الأطر الإدارية والسياسية لذلك النظام. ولو أنّ المرء ألقى نظرة على التطوّر الّذي خطاه بذكاء وفطنة، لأدرك أيّ عقل وفكر ودقّة وحنكة تقف وراء تلك العزيمة القاطعة والإرادة الصلبة الّتي لا يمكن تحقّقها ظاهراً إلاّ برفد من الوحي الإلهيّ. وحتّى يومنا هذا، إنّ الّذين يحاولون تتبّع وقائع تلك السنوات العشر خطوةً خطوة يعجزون عن استيعاب أيّ شيء. وإذا ما حاول المرء دراسة كلّ واقعة على حدة فإنّه لا يدرك منها شيئاً، بل عليه أن يدقّق النظر ويلحظ تسلسل الأعمال وكيفية إنجاز كلّ تلك المهامّ بتدبير ووعي وحسابات دقيقة. 
 
تمثّلت الخطوة الأولى في إرساء الوحدة، فلم يدخل أهل المدينة بأجمعهم الإسلام. إلا أنّ أكثرهم اعتنق الإسلام، فيما بقيت قلّة منهم خارج إطار الإسلام. كما أنّ ثلاثة من قبائل اليهود المهمّة كانت تقطن المدينة، أي في
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

29

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  القلاع الخاصّة بهم المحاذية للمدينة، وهي قبائل بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. هذه القبائل كانت قد جاءت إلى المدينة قبل قرن أو قرنين من ذلك التاريخ، وقصّة مجيئهم إلى المدينة هي قصّة طويلة لها تفاصيلها، وعند دخول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كانت لهؤلاء اليهود ثلاث مزايا: 

أوّلها: سيطرتهم على الثروات الأساس في المدينة، وعلى أهمّ مزارعها وتجارتها ومنافعها، وعلى أهمّ صناعاتها الّتي تدرّ الأرباح وهي صناعة الذهب وغيرها. وكان الغالبية من أهل المدينة يرجعون إليهم لسدّ حوائجهم والاستقراض منهم وتسديد الربا إليهم، أي أنّهم كانوا يقبضون على كلّ شيء من الناحية المالية. 
والثانية: تفوّقهم على أهل المدينة من الناحية الثقافية، فهم كانوا أصحاب كتاب وعلى اطّلاع على مختلف المعارف والعلوم الدينية والمسائل الّتي تجهلها عقول أهل المدينة ذات الطبيعة شبه البدائية. من هنا كانت لهم الهيمنة الفكرية. وإذا ما أردنا وصفهم وفقاً للمصطلحات المعاصرة فبإمكاننا القول إنّهم كانوا يشكّلون طبقة مثقفة، لذلك كانوا يستهينون بأهل المدينة ويسخرون منهم، وربّما كانوا يتصاغرون حينما يتعرّضون للأخطار أو عند الضرورة، غير أن التفوّق كان لهم في الحالات الطبيعية. 
الثالثة: اتّصالهم بالمناطق النائية عن المدينة، فلم يتقوقعوا داخل حدود المدينة. لقد كانوا يمثّلون واقعاً قائماً في المدينة، لذا كان على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وضعهم في الحسبان، فكان أن أوجد صلى الله عليه وآله وسلم ، ميثاقاً جماعياً عامّاً. ولدى حلول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة اتّضح أنّ قيادة مجتمعها إنّما هي منحصرة به صلى الله عليه وآله وسلم من دون أن يبرم عقداً أو يطلب شيئاً من الناس أو يدخل في مباحثات مع أحد، أي أنّ الشخصية والعظمة النبويّة أخضعت الجميع لها بشكل طبيعيّ. لقد تجلّت قيادته وجعلت الجميع يتحرّكون ويبادرون حول محوريتها.
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

30

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  القلاع الخاصّة بهم المحاذية للمدينة، وهي قبائل بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. هذه القبائل كانت قد جاءت إلى المدينة قبل قرن أو قرنين من ذلك التاريخ، وقصّة مجيئهم إلى المدينة هي قصّة طويلة لها تفاصيلها، وعند دخول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كانت لهؤلاء اليهود ثلاث مزايا: 

أوّلها: سيطرتهم على الثروات الأساس في المدينة، وعلى أهمّ مزارعها وتجارتها ومنافعها، وعلى أهمّ صناعاتها الّتي تدرّ الأرباح وهي صناعة الذهب وغيرها. وكان الغالبية من أهل المدينة يرجعون إليهم لسدّ حوائجهم والاستقراض منهم وتسديد الربا إليهم، أي أنّهم كانوا يقبضون على كلّ شيء من الناحية المالية. 
والثانية: تفوّقهم على أهل المدينة من الناحية الثقافية، فهم كانوا أصحاب كتاب وعلى اطّلاع على مختلف المعارف والعلوم الدينية والمسائل الّتي تجهلها عقول أهل المدينة ذات الطبيعة شبه البدائية. من هنا كانت لهم الهيمنة الفكرية. وإذا ما أردنا وصفهم وفقاً للمصطلحات المعاصرة فبإمكاننا القول إنّهم كانوا يشكّلون طبقة مثقفة، لذلك كانوا يستهينون بأهل المدينة ويسخرون منهم، وربّما كانوا يتصاغرون حينما يتعرّضون للأخطار أو عند الضرورة، غير أن التفوّق كان لهم في الحالات الطبيعية. 
الثالثة: اتّصالهم بالمناطق النائية عن المدينة، فلم يتقوقعوا داخل حدود المدينة. لقد كانوا يمثّلون واقعاً قائماً في المدينة، لذا كان على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وضعهم في الحسبان، فكان أن أوجد صلى الله عليه وآله وسلم ، ميثاقاً جماعياً عامّاً. ولدى حلول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة اتّضح أنّ قيادة مجتمعها إنّما هي منحصرة به صلى الله عليه وآله وسلم من دون أن يبرم عقداً أو يطلب شيئاً من الناس أو يدخل في مباحثات مع أحد، أي أنّ الشخصية والعظمة النبويّة أخضعت الجميع لها بشكل طبيعيّ. لقد تجلّت قيادته وجعلت الجميع يتحرّكون ويبادرون حول محوريتها.
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

31

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 حماية النظام الإسلاميّ


وبغية إنجاز هذه المهمّة كانت هنالك ثلاث مراحل هي: 
المرحلة الأولى: إرساء قواعد النظام.
المرحلة الثانية: صيانة هذا النظام؛ فمن الطبيعيّ أن يكون هناك من يعادي هذا الكيان المتنامي والمتعاظم الّذي لو أحسَّ به أصحاب السلطة لشعروا بالخطر إزاءه. ولو لم تكن لدى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم القدرة على الدفاع عن هذا الوليد الطبيعيّ الميمون بحنكة في مقابل الأعداء، فسيزول هذا النظام وتذهب جهوده سدى، فلا بدّ له من صيانته. 
المرحلة الثالثة: إكمال البناء وإعماره؛ إذ لا تكفي عملية الإرساء وإنّما هي الخطوة الأولى.
وهذه المراحل الثلاث تسير إلى جانب بعضها بعضاً عرضياً. إنّ عمليّة إرساء القواعد تأتي بالدرجة الأولى، بيد أنّه يتعيّن الحذر من العدوّ أثناءها، وهكذا تأتي مرحلة الصيانة، حيث يتم خلالها الاهتمام ببناء الأشخاص والكيانات الاجتماعية ومن ثمّ تتواصل في المراحل اللاحقة.

أعداء النظام الإسلامي
كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يرى خمسة أصناف من الأعداء يتربّصون بهذا المجتمع الفتيّ:
العدوّ الأول: وهو عدوٌّ ضئيل الأهميّة ومحدود، ولكن ينبغي عدم التغافل
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

32

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 عنه في نفس الوقت، فلربّما يتسبّب في بروز خطر داهم. من هو هذا العدوّ؟ إنّه القبائل شبه الهمجيّة الّتي تحيط بالمدينة؛ فعلى بعد عشرة أو خمسة عشر أو عشرين فرسخاً من المدينة تعيش قبائل شبه بدائيّة، جلّ حياتها عبارة عن الاقتتال وإراقة الدماء والإغارة والنهب والسلب. وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصبو إلى إقامة مجتمع سليم آمنٍ ووادع في المدينة، فما عليه إلا أن يحسب لهؤلاء حسابهم، وهكذا فعل صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث تعاهد مع مَنْ تتوفّر فيه أمارات الصلاح والهداية، ولم يبادرهم بالدعوة للإسلام بادئ الرأي، بل عاهدهم مع بقائهم على كفرهم وشركهم بغية تجنّب انتهاكاتهم. لقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ملتزماً أشدّ الالتزام بتعهّداته ومواثيقه، وهذا ما سأتطرّق إليه أيضاً، لكنّه لاحق الأشرار ومَن لا عهد لهم وعالج مشكلتهم. وما يُذكر من بَعْثِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للسرايا، حيث كان يرسل الخمسين أو العشرين من المسلمين في سرايا، لملاحقة هؤلاء الّذين تأبى طبيعتهم الوئام والهداية والصلاح ولا يستقرّ لهم حال إلا بإراقة الدماء والتوسّل بالقوّة، فكان أن لاحقهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقمعهم وأخمد نارهم. 


العدوّ الثاني: هو مكّة الّتي كان لها مركزيّة. وبالرغم من عدم وجود حكومة بالمعنى المتعارف عليه فيها، بيد أن ثمّة مجموعة من الأشراف المتكبّرين العتاة أصحاب النفوذ كانت تحكم مكّة، وهم على اختلافهم كانوا متّحدين بوجه هذا المولود اليافع الجديد. وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على علم بأنّ الخطر الجسيم إنّما ينطلق منهم، وقد حصل ذلك عملياً. وكان الشعور يراود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لو انتظر حتّى يداهموه فإنّهم باليقين لن يتوانوا عن ذلك، لذلك فقد تتبّعهم لكنّه لم يقصد مكّة، بل اعترض قافلتهم الّتي كانت تمرّ على مقربة من المدينة. وكانت معركة بدر أهم عمليات التعرّض وتمثّل باكورة عمله. لقد تعرّض لهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فجاؤوا لحربه تدفعهم العصبيّة والعناد والإصرار على محاربته. (28/02/1380)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

33

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 بحسب الوعد الإلهيّ أُخبر المسلمون أنّهم سينتصرون على مجموعة من الكافرين. وقد كان ذلك في السنة الثانية للهجرة. كانت القافلة محمّلة بمتاع وبضائع قريش آتيةً من الشام إلى المدينة، لتعبر أطراف المدينة نحو مكّة. وبمجرّد أن اتّضح لكفّار قريش تهديد أبطال ومجاهدي العرب والمسلمين، حتّى أرسلت قوّاتٍ مسلّحة لأجل الدفاع عن متاعها وبضائعها إلى المدينة. كان المسلمون يميلون أكثر إلى إيقاف هذه القافلة المحمّلة بالثروة والمتاع والّتي لم يكن لديها أيّ دفاع يُذكر. لكنّ الله قضى أن تكون المواجهة المسلّحة بين المسلمين وكفّار قريش، ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾1. فقد كان المسلمون يعلمون أنّهم سينتصرون في هذه المواجهة ولكنّهم لم يكونوا يعلمون بأنّ ذلك سيكون على قوّات قريش المسلّحة، بل كانوا يظنّون أنّ انتصارهم سيكون على هذه القافلة التجارية الآتية من الشام. ولكنّ النبيّ بدّل طريقهم وأخذهم نحو المواجهة العسكرية، فعبرت القافلة، لكنّ المسلمين التقوا بالكفّار في محلّةٍ تُدعى بدراً. فماذا كانت العلّة وراء تبديل الله تعالى طريق المسلمين من مواجهة القافلة إلى معركة مع المقاتلين المسلّحين؟ السبب هو أنّ المسلمين كانوا يرون ما هو قريب وكانت إرادة الله ومشيئته تريد هدفاً بعيداً، ﴿وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾2. فإنّ الله تعالى أراد أن يعمّ الحقّ هذا العالم ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾3 وأراد أن يزهق الباطل، الّذي هو بطبيعته زاهق. ألم يكن المقرّر هو أن يقوم الإسلام بالقضاء على جميع القوى والسلطنات الشيطانية والطاغوتية؟ ألم

 
 

1- سورة الأنفال، الآية: 7.
2- سورة الأنفال، الآية: 7.
3- سورة الأنفال، الآية: 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

34

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  يكن المقرّر أن تصبح الأمّة الإسلامية ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾1 ألم يكن المقرّر أن ترتفع راية الإسلام خفّاقةً على قمم الإنسانية والبشرية؟ فمتى يكون ذلك؟ وكيف؟ وعن أيّ طريقٍ؟

 
لقد كان المسلمون في ذلك الوقت يفكّرون في أنفسهم أنّهم لو صادروا هذه القافلة الثرية، وحصلوا على بعض المال فإنّ الإسلام الفتيّ سوف يقوى. كانوا يفكّرون بشكلٍ صحيح، لكن كان الفكر الأعلى والأكثر قيمةً في محلٍّ آخر. الفكر الأعلى أنّنا نحن المسلمون الّذين نحيط بالنبيّ اليوم، قد وصلنا إلى حدّ يمكننا أن نرسّخ فكرنا وطريقنا في المجتمعات المستضعفة المحرومة وفي وسط عوالم الظلام والظلمانية، ذاك الحوض كان فيه من الماء بحيث إنّه يمكن أن يجري ويروي كلّ هذه الغرسات والأشجار والأراضي الميّتة واليابسة، هذه هي الفكرة الأهمّ. فإذا كان المقرّر أن يصل الإسلام إلى النصر الواقعيّ، وإذا كان المقرّر أن تتحرّك هذه النواة الجليلة للإسلام نحو المناطق المستضعفة، وإذا كان المقرّر أن تتساقط قصور الظلم والجور واحداً بعد الآخر، فينبغي أن يبدأ ذلك من مكانٍ ما. لم يكن المسلم المخلص المحبّ في صدر الإسلام يعلم من أين يبدأ، وقد علّمه الله تعالى ذلك، وهيّأ له فأخرجه الله تعالى من أجل مصادرة أموال قريش ليجرّه إلى معركةٍ لم يردها، لكي يتحقّق من خلال ذلك، مع قلةّ العتاد ولكن مع الإيمان الراسخ، إرجاع العدوّ إلى الوراء وفتح الطريق أمام سيلان وجريان وتقدّم ونفوذ قوّة الحقّ وثبات طريقه، لكي يفهم العدوّ أنّ الإسلام موجودٌ فيجب أن يأخذه على محمل الجدّ ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾2. لقد جعلناكم أيّها المسلمون مقابل الجيش الجرّار للعدوّ من دون أن تريدوا ذلك، وذلك من أجل أن توجّهوا قبضتكم نحوهم، فتظهر قدرة الله أمام ناظريهم. (11/07/1359)
  
 
 

1- سورة البقرة، الآية: 143.
2- سورة الأنفال، الآية: 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

35

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 بعد أن كان النّصر الإلهيّ في معركة بدر، بفضل الله ورحمته وبهمّة المسلمين، من نصيب مجاهدي الإسلام، فإنّه لم يكن المتوقّع من العدوّ أن يقلع عن عداوته بهذه السرعة، ولذلك بدأ بالتخطيط لمعركة أُحد. وفي معركة أُحد كان الأمر في البداية لصالح المسلمين بسبب اتّحادهم وتوافقهم، واستطاعوا في البداية أن يهزموا المشركين، ولكن بعد أن حصلوا على النصر بسرعة، فإنّ أولئك الـ 50 رجلاً الّذين أُمروا أن يحافظوا على موقعيّتهم على أكتاف الجبل مقابل العدوّ، ومن أجل أن لا يتخلّفوا عن جمع الغنائم، تركوا مهمّتهم ولحقوا بالمسلمين الّذين كانوا بدورهم مشغولين بجمع الغنائم. بقي عشرة أشخاص فقط من المسلمين عند ذلك الجبل، وأدّوا ما عليهم، لكنّ العدوّ اغتنم هذه الفرصة والتفّ عليهم، واخترق صفوفهم من مكان نقطة ضعفهم وعدم وجود العدد الكافي، وهجموا على بقيّة المسلمين. وقد دفع المسلمون ثمناً باهظاً بسبب هذا الهجوم؛ لم يُهزم الإسلام، ولكنّ انتصاره تأخّر بالإضافة إلى خسارة أبطالٍ جشعان وأعزّاء في هذا الطريق، كحمزة سيّد الشهداء. والله تعالى يدعو المسلمين إلى الاعتبار والتأمّل ويقول لهم إنّنا صدقنا وعدنا وقلنا إنّكم ستنتصرون على العدوّ وقد انتصرتم، ولكن بعد أن ظهرت فيكم تلك الحالات وتلك الخصال الثلاث، تلقّيتم الضربة، وتلك الخصال الثلاث هي عبارة عن: 

أوّلاً: ﴿وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ﴾، فشققتم وحدة الكلمة والصفّ. 
ثانياً:﴿فَشِلْتُمْ﴾، أي ضعفتم وفقدتم حماسكم وجهوزيّتكم وثباتكم، وإقدامكم. 
ثالثاً: ﴿وَعَصَيْتُم﴾1، فتخلّفتم عن أوامر الرسول والقائد وأولئك الّذين كانوا مسؤولين عن إدارة أموركم.
  
 

1- سورة آل عمران، الآية: 152.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

36

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 فهذه الصفات الثلاث الّتي ظهرت فيكم أعطت العدّو الفرصة ليلتفّ عليكم ويوجّه لكم ضربة وليسقط أعزّ أبناء الإسلام مضرّجين بدمائهم، بالغين بذلك مقام الشهادة والمفاخر، وليخسر العالم الإسلاميّ بسبب هذا الأمر أمثال هذه الشخصية. (19/02/1359)


كانت معركة الخندق آخر المعارك الّتي شنّت ضدّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - وهي واحدة من أهمّها - حيث استجمع كفّار مكّة كلّ قواهم واستعانوا بالآخرين أيضاً وقالوا فلنذهب ونقتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبضع مئات من أنصاره المقرّبين، وننهب المدينة، ونرجع مطمئنّين، ولن يبقى بعدها عينٌ ولا أثر للنبيّ ومن معه. وقبل أن يصلوا إلى المدينة كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد علم بالأمر فبادر إلى حفر خندق عرضه أربعون متراً تقريباً من الجّهة الّتي يسهل اختراقها. كان ذلك في شهر رمضان والمناخ قارس البرودة كما تنقل الروايات، ولم يهطل المطر ذاك العام، من هنا فقد عمّ الجدب وعانى الناس من المصاعب. كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أكثر الناس عملاً في حفر الخندق؛ فحيث وقعت عيناه على من أعياه العمل وأصابه الإرهاق أو عجز عن المواصلة، كان صلى الله عليه وآله وسلم يتناول معوله ويمارس العمل والبناء بدلاً عنه. فلم يسجّل حضوره بإصدار الإيعازات فقط، بل كان يشارك المسلمين بكيانه ووجوده أيضاً. ولمّا رأى الكفّار الخندق ولمسوا عجزهم أصيبوا بالإحباط والهزيمة وافتُضح أمرهم، وأخيراً اضطرّوا للانسحاب. عندها نادى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ الأمر قد انتهى، وهذه كانت آخر المعارك الّتي يشنّها كفّار مكّة ضدّ المسلمين، وقد جاء دور المسلمين للتوجّه نحو مكّة وملاحقة الكفّار. 

بعد عام من تلك الواقعة أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم التوجّه إلى مكّة لأداء العمرة - وأثناء ذلك وقع صلح الحديبية الغنيّ بالمعاني والأهداف - وكان مسير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكّة في شهر محرّم الحرام - حيث كانوا يحرّمون فيه القتال -
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

37

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  فأصبحوا في حيرة من أمرهم ما عساهم صانعين، أيسمحون له بالتقدّم في مسيره؟ وماذا سيفعلون إزاء نجاحه هذا؟ وكيف يواجهونه؟ أيقاتلونه وهم في شهر محرّم؟ وكيف يقاتلونه؟ وأخيراً قرّروا عدم السماح له بالمجيء إلى مكّة وإبادته هو وأصحابه إن وجدوا لذلك مبرّراً. تميّز تصرّف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأسمى درجات التدبير، حيث قام بما دفعهم لأن يُبرِموا معه صلحاً يقضي بأن يعود إلى المدينة على أن يأتي في العام القادم لأداء العمرة. وتوفّرت الظروف جميعها أمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أجل التبليغ في كلّ أرجاء المنطقة وفُتحت أمامه الأبواب. كــان ذلك صلحاً، بيد أنّ الباري تعالــى يصرّح فــي كتابه بالقول: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾1. ومن يراجع مصادر التاريخ الصحيحة والموثّقة يدهشه كثيراً ما جرى في واقعة صلح الحديبية. وفي العام التالي توجّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأداء العمرة ورُغم أنوفهم أخذت شوكته تزداد قوّة يوماً بعد يوم. ولمّا نقض الكفّار العهد في العام اللاحق - أي العام الثامن للهجرة - تقدّم نحوهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفتح مكّة، فكان فتحاً عظيماً ينبئ عن اقتدار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتمكّنه. وتأسيساً على ذلك فقد اتّسم تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا العدوّ بالتدبير والاقتدار والتأنّي والصبر بعيداً عن الارتباك، ولم يتراجع أمامه ولو خطوة واحدة، بل كان يتقدّم نحوه يوماً بعد يوم وآناً بعد آن. 

 
العدوّ الثالث: وهم اليهود، أي الدخلاء الّذين لا يوثق بهم والّذين أسرعوا بالتعبير عن استعدادهم لمعايشة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، لكنّهم لم يقلعوا عن أعمال الإيذاء والتخريب والخيانة. بالتدقيق جيّداً في سورة البقرة وبعض السور الأخرى من القرآن الكريم، نجد أنّها تختصّ بطريقة تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصراعه الثقافي مع اليهود. فقد تقدّم القول إنّ هؤلاء كانوا على قدر من العلم والوعي والثقافة، وذوي تأثير كبير على أفكار ضعاف الإيمان من الناس،
  
 
 

1- سورة الفتح، الآية: 1.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

38

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 ويحوكون الدسائس ويزرعون اليأس في قلوبهم ويثيرون الفتن بينهم، فكانوا يمثّلون عدوّاً منظّماً. وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يسلك معهم سبيل المداراة ما أمكنه، لكنّه لمّا لمس منهم عدم استجابتهم لهذه المداراة بادر إلى معاقبتهم. ولم تأتِ مباغتة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لهم دون سبب أو مقدّمات، بل إنّ كلاًّ من هذه القبائل الثلاث ارتكبت أفعالاً فعاقبهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما يوازي فعلتهم. 


الفئة الأولى: بنو قينقاع الذين خانوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فتوجّه نحوهم وأمرهم بالجلاء وأخرجهم من ديارهم تاركين ثرواتهم للمسلمين. 

والفئة الثانية: هم بنو النضير الّذين خانوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً - وقصّة خيانتهم مهمّة - فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بحمل بعض أمتعتهم والرحيل، فاضطرّوا لذلك وارتحلوا. 

الفئة الثالثة: وهم بنو قريظة، فقد منحهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الأمان وسمح لهم بالبقاء في المدينة ولم يخرجهم منها، وأبرم معهم عقداً على ألّا يسمحوا للعدوّ بالتسلّل من أحيائهم في معركة الخندق، لكنّهم غدروا وتعاقدوا مع العدوّ على الوقوف إلى جانبه لمقاتلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، أي أنّهم لم يكتفوا بتنصّلهم من عهدهم مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، بل في الوقت الّذي بادر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حفر الخندق في الجهة الّتي يسهل اختراقها وسلّمهم الجّهة الّتي تقع عليها أحياؤهم ليمنعوا العدوّ من التسلّل عبرها، ذهبوا للتفاوض والتباحث مع العدوّ ليدخلوا معاً من تلك الجهة ويطعنوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الخلف.

وفي تلك الأثناء علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المؤامرة، وكان حصار المدينة قد استمرّ شهراً، وقد وقعت خيانة هؤلاء في منتصف هذا الشهر، فلجأ صلى الله عليه وآله وسلم إلى عملٍ في غاية الذكاء ألقى من خلاله الوقيعة بينهم وبين قريش - ووردت تفاصيله في كتب التاريخ - فقد قام صلى الله عليه وآله وسلم بعمل أطاح بالثّقة الّتي تربطهم بقريش، وفيه تجلّت واحدة من الخطط السياسية العسكرية الرائعة للرسول
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

39

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  

 الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، أي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم عاجلهم ليوقفهم عن توجيه أيّة ضربة للمسلمين. وحينما انهزمت قريش وحلفاؤها وابتعدوا عن الخندق وقفلوا راجعين إلى مكّة صلّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الظهر، ثمّ دعا إلى صلاة العصر قبالة قلاع بني قريظة، فتوجّه نحوهم، أي أنّه لم يمهلهم ولو ليلة واحدة، فحاصرهم لمدّة خمسٍة وعشرين يوماً تواصلت خلالها المناوشات بين الطرفين. ثمّ إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قتل مقاتليهم لفداحة خيانتهم وعدم إمكانية إصلاحهم. 

هكذا تميّز تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع هؤلاء، أي أنّه أزال عداوة اليهود من على طريق المسلمين - بشكل أساس في قضية بني قريظة، وقبلها مع بني النضير، وبعدها مع يهود خيبر - بكلّ تدبير وقوّة وإصرار مقترن بالأخلاق الإنسانية العالية. وفي كلّ هذه المواطن لم ينقض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عهداً أبداً، وهذا ما يذعن له حتّى أعداء الإسلام، بل أولئك هم الّذين نقضوا العهود. 

العدوّ الرابع: وهم المنافقون. كان المنافقون يعيشون بين الناس. وكانوا من الّذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم. كانوا أشخاصاً منحطّين معاندين يتميّزون بضيق الرؤية، وبالاستعداد للتعاون مع العدوّ؛ لكنّهم يفتقدون التنظيم وهذا ما كان يميّزهم عن اليهود. لقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع العدوّ المنظّم المتوثّب لمهاجمة المسلمين كتعامله مع اليهود ولم يمهلهم أبداً، لكنّه كان يتحمّل العدوّ غير المنظّم ممّن تلوّث أفراده بالعناد والعداوات والخبائث الفردية وعدم الإيمان؛ فلقد كان عبد الله بن أُبيّ من ألدّ أعداء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقد عاصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتّى آخر سنة من عمره تقريباً، ولم يسئ صلى الله عليه وآله وسلم التعامل معه مع علم الجميع بنفاقه، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يداريه ويعامله كباقي المسلمين من حيث عطائه من بيت المال وصيانة أمنه وحرمته. كان ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم بالرغم من خبث هذه الفئة وإساءتها، وفي سورة البقرة آيات تختصّ بهؤلاء المنافقين. 

ولمّا اتّخذ تجمّع بعض المنافقين طابع التنظيم بادر إليهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، كما في
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

40

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 قضية مسجد ضرار حيث اتّخذوا منه مركزاً وأقاموا اتّصالات مع عناصر من خارج النظام الإسلاميّ، من قبيل الراهب أبي عامر من بلاد الروم، وأعدّوا مقدّمات تحشيد الجيوش لمحاربة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فبادر إليهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهدم المسجد الّذي بنوه وأحرقه، معلناً أنّه ليس بمسجد بل بؤرة للتآمر على المسجد وعلى اسم الله والمسلمين، أو تلك الحفنة من المنافقين الّذين أعلنوا كفرهم وخرجوا من المدينة وحشدوا قواهم فقاتلهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقال: "لئن دنَوا من المدينة لأخرجنّ لقتالهم". رغم أنّه سالم صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين في داخل المدينة ولم يتعرّض لهم أبداً. وهكذا فقد واجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الفئة الثالثة مواجهة منظّمة صارمة، لكنّه سلك طريق المداراة مع الفئة الرابعة لافتقادهم التنظيم، ولأنّ الخطر الصادر عنهم يمثّل خطراً فرديّاً، كما أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان غالباً ما يخجلهم بسلوكه.

 
أما العدوّ الخامس: فهو عبارة عن العدوّ الكامن في باطن كلّ مسلم ومؤمن وهو الأخطر من بين جميع الأعداء. وهذا العدوّ معشش فينا أيضاً، إنّه الأهواء النفسية والأنانية والجنوح نحو الانحراف والضلال والانزلاق الّذي يهيّئ الإنسان بنفسه أرضيّته. وقد خاض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا العدوّ صراعاً مريراً. غاية الأمر أن آلة الصراع مع هذا العدوّ لا تتمثّل بالسيف، بل بالتربية والتزكية والتعليم والتحذير. لهذا، عندما عاد المسلمون من الحرب مع كلّ ذلك التعب، قال لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر". فتعجّب المسلمون من قوله وسألوه: ما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟! لقد خضنا غمار هذا الجهاد المرير، فهل من جهاد أكبر منه؟! قال: "جهادالنفس"1. فإذا ما صرّح القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾2 فذلك لا يعني أنّهم منافقون، بل بعض المنافقين في عداد الّذين في قلوبهم مرض. ولكن ليس كلّ "الّذين في قلوبهم مرض" من المنافقين،
  
 
 

1- وسائل الشيعة، ج11، ص 122.
2- سورة التوبة، الآية: 125.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

41

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 فربما يكون المرء مؤمناً لكن في قلبه مرض. فماذا يعني هذا المرض؟ إنّه يعني ضعف الأخلاق والشخصية، والشهوانية والجنوح نحو مختلف الأهواء الّتي إن لم تبادر للحدّ منها ومقارعتها فإنّها ستأتي على الإيمان من الداخل وستؤدّي بالتالي إلى خواء داخليّ. وإذا ما استُلب الإيمان من القلب وخلا الباطن وظلّ الإيمان ملاصقاً للظاهر إذ ذاك سيدخل المرء ضمن الّذين يُطلق عليهم اسم "المنافق".

 
فلو خلت قلوبنا، لا سمح الله، من الإيمان وبقي ظاهرنا متلبّساً بالإيمان، وقطعنا أواصر الإيمان وعلائقه، بيد أن ألسنتنا ظلّت تلهج بالتعابير الإيمانية، فهذا هــو النفاق وهــو من الخطورة بمكان. والقرآن الكريم يصرّح: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾1، وذاك هو السوء المبين، ألا وهو التكذيب بآيات الله. ويقول في موضع آخر: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾2. وهذا هو الخطر الكبير الّذي يتهدّد المجتمع الإسلاميّ، وحيثما شاهدتم في التاريخ انحرافاً في المجتمع الإسلاميّ فإنّه من هنا قد بدأ. ربّما يشنّ العدوّ الخارجيّ هجومه ويدمّر ويخرّب لكنّه لا قدرة له على الإفناء. ففي النهاية سيبقى الإيمان، وينبعث في مكانٍ ما ويؤتي أكله. غير أن جيوش العدوّ الداخليّ إن هجمت على الإنسان وأفرغت باطنه إذ ذاك سيطال الانحراف سبيله، وأينماٍ وُجد الانحراف فإنّ منشأه يكون هو ذاك. ولقد تصدّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لهذا العدوّ أيضاً. 
 
امتاز سلوك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالتدبير والسرعة في العمل فلم يدع الفرصة تفوته في أية قضية. كان صلى الله عليه وآله وسلم طاهراً قانعاً لا وجود لأيّة نقطة ضعف في وجوده
  
 
 

1- سورة الروم، الآية: 10
2- سورة التوبة، الآية: 77.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

42

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  المبارك. كان معصوماً نقيّاً، وهذا بحدّ ذاته يمثّل أهم عوامل التأثير. إنّ التأثير بالعمل هو أوسع وأعمق بدرجات من التأثير باللسان. لقد كان قاطعاً وصريحاً. ولم يتحدّث النبيّ يوماً بلسانين. بالطبع، عندما كان يواجه العدوّ كان يستخدم معه أسلوباً سياسياً يوقعه في الخطأ؛ فلقد كان يباغت العدوّ في الكثير من الحالات، سواء في المواقف العسكرية أم السياسية، لكنّه كان صريحاً وشفّافاً مع المؤمنين ومع قومه على الدوام، نقيّاً واضحاً في كلامه بعيداً عن الألاعيب السياسية، يبدي المرونة في المواطن الضرورية - كما في قضية عبد الله بن أبيّ - ذات الأحداث المفصّلة، ولم ينكث عهداً مع قومه أو مع الفئات الّتي عاهدها وإن كانوا أعداءً له، وخاصة مع كفّار مكّة، الّذين نقضوا عهودهم فردّ عليهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ردّاً قاطعاً، ولم ينقض صلى الله عليه وآله وسلم موثقاً أبرمه مع أحد قطّ، لذلك كان الجميع على ثقة بالعهد الّذي يبرمه معهم.

 
ومن ناحية أخرى لم يفقد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تضرّعه إلى الله سبحانه وكان مواظباً على توطيد أواصر علاقته بالباري جلّ وعلا يوماً بعد يوم. فلقد كان يرفع يد الضراعة إلى بارئه في تلك الأثناء الّتي ينظّم عساكره ويحثّهم ويحضّهم على القتال، وفي ساحة الوغى، عندما كان يمسك بسيفه ويقود جيشه بحزم، أو يعلّمهم ما يصنعون؛ يجثو على ركبتيه رافعاً يديه باكياً مناجياً ربّه سائلاً منه العون والإسناد ودفع الأعداء. لم يؤدِّ به الدّعاء إلى تعطيل قواه، ولا أنّ استثماره لقواه أغفله عن التوسّل والتضرّع والارتباط بالله سبحانه، بل كان حريصاً على كلا الجانبين، لم يعتوره التردّد أو الخوف وهو يواجه عدوّاً عنيداً؛ ولقد قال أمير المؤمنين عليه السلام - وهو مظهر الشجاعة - "كنّا كلّما اشتد الوطيس لذنا برسول الله"1، وكان يلوذ به كلّ من شعر بالضعف. استمرّ حكمه عشر
  
 
 

1- بحار الأنوار، ج19، ص 191، وقول الإمام عليه السلام هو: "كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدو منه". 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

43

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  سنوات، لكنّنا لو أردنا إيكال العمل الّذي أنجز خلالها إلى مجموعة في غاية النشاط لعجزوا عن إنجاز كلّ تلك الأعمال والخدمات على مدى مئة عام، ولو قارنّا أعمالنا بما قام به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حينها سندرك المهمّة الّتي اضطّلع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فإدارة الحكم وبناء ذلك المجتمع وصياغة ذلك الأنموذج بحدّ ذاته يمثّل واحدة من معاجزه صلى الله عليه وآله وسلم .

 
فعلى مدى عشر سنوات، عاشره الناس ليلاً ونهاراً، وتردّدوا إلى داره وتردّد هو إلى دورهم، وكانوا معه في المسجد وفي الطرقات وفي حلّه وترحاله، وتحمّلوا الجوع معاً، وتذوّقوا طعم السرور معاً؛ فقد كان الوسط الّذي يعيش فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مفعماً بالمسرّة وكان صلى الله عليه وآله وسلم يلاطف الآخرين ويقيم السباقات ويشترك فيها، وعلى امتداد تلك السنوات العشر تعمّقت محبّة أولئك الّذين عاشروه له، وازداد إيمانهم به عمقاً ورسوخاً في قلوبهم. وعندما فتح صلى الله عليه وآله وسلم مكّة، جاء أبو سفيان متخفّياً يلوذ بالعبّاس - عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - إلى معسكر النبيّ يطلب الأمان. ولما حلّ الفجر، رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ وقد أحاط به القوم ليحظى كلّ منهم بقطرات الماء الّتي تتناثر من وجهه ويديه، فقال أبو سفيان: لقد رأيت كسرى وقيصر - وهما من ملوك الدنيا المعروفين بجبروتهم وسطوتهم - لكنّني لم أرَ عليهما مثل هذه العزّة!. أجل، فالعزّة المعنوية هي العزّة الحقيقية ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾1، فالعزّة من نصيب المؤمنين أيضاً، إن هم سلكوا ذات الطريق.(28/02/1380)
  
 
 
 

1- سورة المنافقون، الآية: 8.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

44

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 تثبيت النظام الإسلاميّ

إنّ واقعة غدير خم هي واقعة مصيرية ومهمّة جدّاً في تاريخ الإسلام. ويمكن النظر إليها من حيثيّتين أو بعدين: الأوّل يختصّ بالشيعة، والثاني يرتبط بجميع الفرق الإسلامية. وبالنظر إلى البعد الثاني لهذه الواقعة، يجب إيجاد هذه الروحية وهذا الشعور عند جميع مسلمي العالم وهو أنّ عيد الغدير الّذي يذكّر بهذه الواقعة الكبرى ليس مختصّاً بالشيعة.
 
البعد الأوّل لهذه الواقعة، وكما ذكرنا، يختصّ بالشيعة، لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الواقعة قد نُصّب للخلافة من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . وفي ذلك اليوم وفي تلك الواقعة سُئل رسول الله: يا رسول الله هل أنّ إعلانك هذا هو من نفسك أو من الله؟ فقال: "من الله ورسوله"1، أي أنّه أمرٌ إلهيّ وكذلك هو منّي. والشيعة تعظّم هذه الواقعة من هذه الجهة، لأنّ اعتقادهم أنّ الخلافة المباشرة لأمير المؤمنين عليه السلام ترتبط بهذه الواقعة أكثر من سائر الدلائل. بالطبع إنّ البحث في مجال الاستنباط والاستدلال لهذه الواقعة في الكتب الكثيرة والمتنوّعة على مرّ تاريخ الإسلام، قد استمرّ من اليوم الأوّل وإلى يومنا هذا. ولا أنوي هنا أن أضيف شيئاً على ما كتبته وذكرته آلاف الألسنة والأقلام بشأن هذا المطلب.
 
وأمّا البعد الثاني لهذه الواقعة والّذي لا يقلّ أهمية عن البعد الأوّل، فهو أمرٌ مشتركٌ بين الشيعة والسنّة. سوف أفصّل فيه قليلاً.
 
 
 

1- الاحتجاج على أهل اللجاج، الطبرسي، ج1، ص 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

 


45

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 ما جرى هو أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي السنة العاشرة للهجرة، توجّه إلى الحجّ مع جمعٍ من مسلمي المدينة وسائر مناطق الجزيرة العربية الّتي أسلمت. وفي هذا السفر، اعتنى النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم واستفاد استفادةً تامّة من حجّ بيت الله من أجل بيان المفاهيم الإسلامية سواء على المستوى السياسيّ أم العسكريّ أم الأخلاقيّ أم العقائديّ. وقد نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبتان إحداهما، على الظاهر، في اليوم العاشر أو قريباً منه، والأخرى في نهاية أيّام التشريق1. وعلى ما يبدو أنّهما كانتا خطبتين لا خطبة واحدة. في هاتين الخطبتين، بيّن رسول الله جميع المسائل الأساس الّتي ينبغي أن يلتفت إليها المسلمون بعمق وهي في الأساس قضايا سياسيّة. ويدرك الإنسان جيّداً كم أنّ أولئك الّذين يفصلون بين الحجّ والقضايا السياسية في العالم الإسلاميّ اليوم، ويتصوّرون أنّ الحجّ ينبغي أن يكون عبادة فقط بالمعنى الرائج والعاديّ، وأنّ كلّ عملٍ سياسيّ هو عملٌ خارج عن نطاق الحجّ، كم أنّهم غرباء وبعيدون عن تاريخ الإسلام وعن سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .

 
ما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هاتين الخطبتين من مسائل، وقد ذُكرت في بعض كتب الشيعة والسنّة بالإجمال، هي هذه. أولاً تحدّث عن الجهاد، والجهاد ضدّ المشركين والكفّار، وأعلن أنّ الجهاد سيستمرّ حتّى تنتشر كلمة لا إله إلا الله في كلّ العالم. وبشأن الوحدة الإسلامية بيّن رسول الله في هذه الخطب عدّة مطالب، وصرّح أنّ على المسلمين أن لا يقتتلوا فيما بينهم، وأكّد على وحدة المسلمين وانسجامهم. وفيما يتعلّق بالقيم الجاهلية صرّح بكلامٍ واضحٍ، أنّ هذه القيم بنظر الإسلام هي لا شيء ولا قيمة لها "ألا إنّ كلّ مالٍ ومأثرةٍ ودمٍ يُدّعى تحت قدَميَّ هاتين"2
 فقد تبرّأ بالكامل من القيم الجاهلية. وكلّ 
  
 
 

1-يُطلق هذا الاسم على الأيّام من 11 إلى 13 من شهر ذي الحجة. ويطلق عليها في القرآن "أيّام معدودات"، سورة البقرة، 203.
2- بحار الأنوار، ج21، ص105.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

46

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 الخلافات المالية الّتي كانت بين المسلمين من أيّام الجاهلية، كأن يكون أحدهم قد أقرض أخاه وله عليه ربا، فإنّه أصبح منسوخاً، "ألا وكلّ ربا من الجاهلية فهو تحت قدميّ هاتين، وأوّل ربا أضعه هو ربا عمّي العبّاس"1، الّذي كان قد أقرض في الجاهلية كثيرين وله عليهم ربا، فقد أعلن النبيّ أنّه رفعه ونسخه. وقد أكّد على قيمة التقوى كأعلى قيمة إسلامية، وصرّح أنّه لا فضل لأحدٍ على أحد إلا بالتقوى. وبيّن ضرورة النصيحة لأئمّة المسلمين، أي التدخّل في القضايا السياسية وإبداء الرأي للحكّام والأئمّة وجعل ذلك كفريضة، حيث يجب على جميع المسلمين أن يُسْدوا للحكّام الإسلاميين نصيحتهم وآراءهم النافعة. 

 
ضمانة النظام الإسلامي
لقد بيّن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هاتين الخطبتين المسائل السياسية والاجتماعية الأساس للعالم الإسلاميّ. وفي هاتين الخطبتين ذكر حديث الثقلين أيضاً، وهو حديث قال فيه: "إنّي قد تركتُ فيكم أمرين (نفيسين) لن تضلّوا بعدي ما إن تمسّكتم بهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنّ اللطيف الخبير قد عهد إليّ أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، كهاتين (السبابتين) وجمع بين مسبِّحتيه، ولا أقول كهاتين وجمع بين المسبّحة والوسطى، فتسبق إحداهما الأخرى فتمسّكوا بهما..."2. 
 
وقد عرض قضية العترة. وبعد إنهاء أعمال الحجّ توجّه مباشرةً إلى المدينة. وأثناء الطريق، وعلى مفترق ثلاثة طرق، حيث كان ينبغي أن تفترق القوافل اليمانية عن قوافل المدينة، وقف صلى الله عليه وآله وسلم في محلّةٍ يُقال لها "غدير خم"، وكما نقل الشاهد والحاضر، أنّ الحرارة كانت شديدة إلى درجة أنّه
  
 
 

1- السيرة النبوية، ج2، ص 412.
2- الكافي، ج2، ص 415.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

47

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  لو وضعوا قطعة لحمٍ على الأرض لشُويت، ففي مثل هذه الحال يقف صلى الله عليه وآله وسلم على مرتفعٍ وينادي في الناس، وعندما رأى الجميع أعلن قضية الولاية، "من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه"1 وأخذ بيد أمير المؤمنين عليه السلام ورفعها حتّى يراها الجميع. وفي رواياتٍ عديدة نُقل أنّه شوهد بياض إبطي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ بن أبي طالب عليه السلام ، عندما رفع يده من أجل أن يظهر الأمر للناس جميعاً، هذه هي الواقعة في الإجمال.

 
إنّ البُعد الّذي هو مورد نظري - البعد الدّوليّ الإسلاميّ والمتعلّق بالفرق الإسلامية الّتي لا تنحصر بالشيعة - هو أنّه لو فرضنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الإعلان، الّذي حصل حتماً وقد صدر عنه هذا الكلام، لو فرضنا أنّه لم يُرد أن يبيّن أنّ خليفته المباشر هو أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّه بالحدّ الأدنى أراد أن يثبّت الولاء والرابطة العميقة للمسلمين مع أمير المؤمنين عليه السلام وعترته. والسبب في أنّ النبيّ قرن عترته بالقرآن سواء في خطبة منى أم في حديث الثقلين - وعلى ما يبدو أنّ هذا الحديث قد صدر عن النبيّ عدّة مرّات - وأيضاً في حديث الغدير وفي هذه الواقعة - الّتي يركّز فيها على أمير المؤمنين عليه السلام وشخصه - أنّه أراد أن يثبّت هذه الرابطة من أجل أن يظهر للناس وعلى مرّ الزمان نماذج كاملة للإنسان الّذي يريده الإسلام ويكون ذلك لجميع الأجيال الآتية. فيجعل النموذج الكامل للإنسان بصورة مجسّمة وعينية بحالاته الواضحة الّتي لا شكّ فيها أمام أعين جميع البشر، وليقول إنّ التربية الإسلامية ينبغي أن تكون في هذا الاتّجاه، وإنّ شخصية الإنسان المسلم هي تلك الشخصية الّتي تجعل غايتها ونموذجها هذا الإنسان الكامل. 
  
 
 

1- الكافي، ج1، ص420.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

48

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

 هؤلاء الّذين كانت طهارتهم وعلومهم وتقواهم وصلاحهم وعبوديتهم لله، واطّلاعهم على القضايا الإسلامية، وتضحيتهم وشجاعتهم من أجل تحقّق الأهداف والقيم الإسلامية، وإيثارهم واضحٌ بيّنٌ للجميع. لقد تمّ تعريف أمير المؤمنين عليه السلام كأنموذج يمكن للناس أن يرتبطوا به سواء كان في ذلك الزمان أم في الأزمان الآتية. وهنا، وإن لم تتحقّق الخلافة المباشرة عملياً إلا بعد مرور 25 سنة، فإنّه في النهاية صار خليفة النبي، وثبّت مقام إمامته، وقبل به جميع المسلمين، كفرد، إماماً للمجتمع. هذه الخصوصية، وهذه الرابطة الموجودة عند جميع المسلمين مع هذه الشخصية، الّتي يقبل الجميع أنّها خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - كلّ ما هنالك أنّ بعض الناس يقول إنّه الخليفة المباشر وبعض يعتقد بخلاف ذلك، وإنه خليفة بعد 25 سنة - هذه الشخصية الّتي يقبل جميع المسلمين بها على أنّها خليفة يجب أن تكون لجميع المسلمين أنموذجاً خالداً وقدوة كاملة للإنسان الإسلاميّ. ويجب أن تبقى هذه الرابطة بينه وبين جميع المسلمين وإلى الأبد كرابطة فكرية واعتقادية وعاطفية وعملية. 

 
فمن هذه الناحية لا يختصّ أمير المؤمنين عليه السلام بالشيعة بل هو لجميع المسلمين. كما أن هذا الكلام لا يختصّ بأمير المؤمنين عليه السلام بل يشمل العترة الشريفة وأئمّة الشيعة الّذين هم من أولاده، الّذين هم أيضاً من العترة، والّذين يجب أن يبقوا دائماً كنماذج كاملة للإنسان الإسلاميّ في أعين المسلمين. هذه قضية. 
 
وبجعل العترة إلى جانب القرآن وبالإعلان عن ضرورة الارتباط بين المسلمين والعترة، بيّن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الحقيقة الموقف تجاه كلّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

49

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  أنواع التحريف الّذي سيتعرّض له القرآن والانحراف عن المفاهيم القرآنية الأساس. فحينما تقوم الأجهزة الجائرة بتحريف المفاهيم الإسلامية من أجل منافعها وتسيء إلى معاني القرآن وتفسّر القرآن بصورة خاطئة وتضلّ المسلمين وتحرمهم من فهم الدين الإسلاميّ، فإنّ ذاك المرجع والمحور والقطب الّذي ينبغي أن يوعّي الناس حول الحقيقة والمفاهيم والمعارف الصحيحة وينجي الناس من الضلالة وعليهم أن يستمعوا إليه هو العترة الطاهرة.


وهذا هو الأمر الّذي يُعدّ اليوم بالنسبة للعالم الإسلاميّ ضرورة ومطلباً لازماً. يحتاج جميع المسلمين اليوم أن ينهلوا المعارف الإسلامية عن طريق أهل بيت النبيّ، دون فرق بين أن يكونوا معتقدين أنّ الإمامة المباشرة هي لأمير المؤمنين وأولاده أو لا. وبالطبع إنّ الشيعة يعتبرون أنّ العقيدة الحقّة والاستفادة القطعية من هذا الحديث هي الخلافة المباشرة وهم يعتقدون بذلك ويتمّسكون به. والّذين لا يعتقدون بذلك ولا يتمّسكون به - أي الإخوان من أهل السنّة - لا ينبغي أن يقطعوا رابطتهم الفكرية والعقلانية والاعتقادية والعاطفية مع العترة ومع أمير المؤمنين عليه السلام . لهذا فإنّ قضية الغدير من هذا البعد الثاني، الّذي هو بعد إيجاد الرابطة بين علي بن أبي طالب وعترة النبيّ من جهة وجميع المسلمين من جهة ثانية، هي قضية لجميع المسلمين. (23/05/1366)

مستقبل النظام الإسلامي
إنّ قضية الغدير ليست قضية تاريخية بحتة، بل إنها علامة على جامعية الإسلام. وإذا ما افترضنا أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك للأمّة منهاجاً لبناء مستقبلها، بعد عشر سنوات أمضاها في تحويل ذلك المجتمع البدائيّ، الملّوث بالعصبيات والخرافات، إلى مجتمعٍ إسلاميٍّ راقٍ، بفضل سعيه الدؤوب وما
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

50

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  بذله أصحابه الأوفياء من جهود، لظلّت كلّ تلك الإنجازات مبتورة وبلا جدوى. 

 
لقد كانت تراكمات العصبيّة الجاهليّة على قدرٍ عظيم من العمق، بحيث إنّها كانت بحاجة إلى سنوات طويلة للتغلّب عليها والتخلّص منها. لقد كان كلّ شيء على ما يرام كما يظهر، وكان إيمان الناس جيداً، حتّى ولو لم يكونوا على مستوًى واحد من العقيدة. فبعضهم كان قد اعتنق الإسلام قبل وفاة الرسول الأكرم بعام واحد أو ستة أشهر أو عامين، وذلك بفضل هيمنة البُنية العسكرية الّتي أسّسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع ما رافقها من حلاوة الإسلام وجاذبيّته. إنّهم لم يكونوا جميعاً من طراز المسلمين الأوائل من حيث العمق، ولهذا فقد كان من الضروريّ اتّخاذ ما يلزم من التدابير بغية إزالة تلك التراكمات الجاهلية من أعماق المجتمع الجديد، والحفاظ على خطّ الهداية الإسلامية سليماً وممتدّاً بعد عشر سنوات من زمن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك لأنّ جهوده الجبّارة خلال تلك السنوات العشر ستبقى بلا ثمار فيما لم يتمّ اتّخاذ تلك التدابير. وهذا ما صرّحت به الآية المباركة من سورة المائدة، وهي قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾1 فهذه إشارة إلى أنّ هذه النعمة هي نعمة الإسلام ونعمة الهداية ونعمة إرشاد العالمين جميعاً إلى الصراط المستقيم. وهذا ما لا يمكن أن يتمّ بلا خارطة للطريق بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا أمرٌ طبيعيّ. وهذا عين ما فعله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الغدير، حيث نصّب للولاية خليفةً ممتازاً لا نظير له وهو أمير المؤمنين عليه السلام ، لما كان يتمتّع به من شخصية إيمانية فريدة، وأخلاق سامية حميدة، وروح ثورية وعسكرية متميّزة، وسلوك راق مع جميع الناس، وأمر الناس باتّباعه. 
 
ولم يكن هذا من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل كان هداية ربّانية، وأمراً إلهيّاً، وتنصيباً من الله تعالى، كما هو شأن كافّة أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الّتي
  
 
 

1- سورة المائدة، الآية: 3.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

51

الفصل الأول: النبيّ الأعظم لى الله عليه وآله وسلم

  كانت وحياً إلهياً، وهو الّذي لا ينطق عن الهوى. لقد كان هذا أمراً إلهيّاً صريحاً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقام بتنفيذه وإطاعته. وهذه هي قضية الغدير، أي بيان جامعية الإسلام وشموليته، والتطلّع إلى المستقبل، وذلك الأمر الّذي لا تتمّ هداية الأمّة الإسلامية وزعامتها إلا به. فما هو ذلك الأمر؟ إنّها تلك الـأمور الّتي تجسّدها شخصية أمير المؤمنين، أي التقوى والتديّن والإيمان الراسخ، وعدم التوكّل إلا على الله، وعدم السير إلا في سبيله، والجدّ والاجتهاد في طريق الحقّ، والاتّصاف بالعلم، والتميّز بالعقل والتدبير، والتمتّع بقدرة العزم وبالإرادة. إنّه عملٌ واقعيّ ونموذجيّ في نفس الوقت. لقد نُصّب أمير المؤمنين عليه السلام لاتّصافه بتلك الخصوصيات، الّتي باتت لازمة في كلّ زعيم للأمّة الإسلاميّة، أياً كان، مدى الدهر، أي أنّ هذا هو النموذج الأمثل للقائد الإسلاميّ على مدى حياة الإسلام ، وهو ما تجسّد في الاصطفاء الإلهيّ لأمير المؤمنين عليه السلام . والغدير هو هذه الحقيقة.(18/10/1385)

 

 

 

 

 

 

57


52

الفصل الثاني: الإمامة

 الفصل الثاني:


الإمامة


الإمامة في الفكر الشيعي.
المراحل الأربع لمسيرة الإمامة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

53

الفصل الثاني: الإمامة

 الإمامة في الفكر الشيعي

 
الإمامة في الإسلام
الإمامة هي تلك القمّة للمعنى المنشود من إدارة المجتمع، قبال ضروب وأصناف الإدارة المنبثقة من مكامن الضعف والشهوة والحميّة في الإنسان ومطامعه. والإسلام يطرح أمام البشرية نهج الإمامة ووصفتها، أي ذلك الإنسان الطافح قلبه بفيض الهداية الإلهية، العارف بعلوم الدين المتميّز بفهمه - أي الّذي يجيد تشخيص الطريق الصحيح - ذو القوّة في عمله ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾1، ولا وزن لديه لنفسه ورغباته الشخصية، في حين أنّ أراوح الناس وحياتهم وسعادتهم تمثّل كلّ ما لديه. وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين عليه السلام عملياً أثناء حكمه الّذي استمرّ أقل من خمس سنوات. تلك الفترة الّتي كانت أقل من خمس سنوات، تمثّل أنموذجاً يُحتذى لن تنساه البشرية أبداً، وسيبقى خالداً وضّاءً لقرون متمادية. وهذه هي ثمرة واقعة الغدير، والدرس والمغزى والتفسير المستقى منها.(12/12/1380)
 
إنّ كلمة "الإمامة" الّتي تعني في الأصل القيادة بمعناها المطلق؛ غالباً ما تُطلق في الفكر الإسلاميّ على مصداقها الخاصّ، وهو القيـادة في الشؤون الاجتماعيّة، والفكريّة والسياسيّة. وأينما وردت في القرآن مشتقّات لكلمة الإمامة - كإمام، وأئمّة - يُراد بها هذا المعنى الخاصّ، أي قيادة
 
 
 
 

1- سورة مريم، الآية: 12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

54

الفصل الثاني: الإمامة

 الأمّة وقدوتها. سواءً القيادة الفكريّة، أم القيادة السياسيّة، أم الاثنين معاً. وبعد رحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وظهور الانشقاق الفكريّ والسياسيّ بين المسلمين، اتّخذت كلمة الإمامة والإمام مكانة خاصّة، حيث إنّ مسألة القيادة السياسية شكّلت المحور الأساس للاختلاف. وكان لهذه الكلمة في البداية مدلولها السياسيّ أكثر من أيّ مدلول آخر، ثمّ انضمّت إليها بالتدريج معانٍ أخرى، حتّى أصبحت مسألة "الإمامة" تشكّل في القرن الثاني الهجريّ أهمّ مسائل المدارس الكلامية ذات الاتّجاهات الفكرية المختلفة، وكانت هذه المدارس تطرح أراءها بشأن شروط الإمام وخصائصه، أي شروط الحاكم في المجتمع الإسلاميّ، وهو معنًى سياسيّ للإمامة. في هذه القضية، جرت العادة أن يتمّ الحديث عن شروط وخصائص الإمام - أي حاكم المجتمع وزعيمه - وكان لكلّ فرقة في هذا المجال عقيدة وكلام. 


إنّ الإمامة في مدرسة التشيّع أيضاً - الّتي يرى أتباعها أنّها أكثر القضايا الفكرية الإسلامية أصالةً - لها المعنى نفسه. ونظرية هذه المدرسة بشأن الإمام تتلخّص فيما يلي: 
الإمام والزعيم السياسيّ في المجتمع الإسلاميّ يجب أن يكون منصوباً من الله، بإعلان من النبيّ، وأن يكون قائداً فكريّاً ومفسّراً للقرآن وعالماً بكلّ دقائق الدين ورموزه، وأن يكون معصوماً مبرأً من كلّ عيب خَلقيّ وأخلاقيّ وسببيّ، ويجب أن يكون من سلالة طاهرة ونقية ويجب، ويجب ...وبذلك فإنّ الإمامة في عرف مسلمي القرن الأوّل والثاني كانت تعني القيادة السياسية، وفي العرف الخاصّ بأتباع أهل البيت، تعني إضافةً إلى القيادة السياسية، القيادة الفكرية والأخلاقية أيضاً.

فالشيعة تعترف بإمامة الفرد حين يكون ذلك الفرد متمتّعاً بخصائص هي - إضافةً إلى مقدرته على إدارة الأمور الاجتماعيّة - مقدرته على التوجيه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

55

الفصل الثاني: الإمامة

  والإرشاد والتعليم في الحقل الفكريّ والدينيّ، والتزكية الأخلاقيّة. وما لم تتوفّر فيه هذه المقدرة لا يمكن أن يُعترف به كإمام بحقّ. وفي نظرهم، لا يكفي حسن الإدارة السياسيّة والاقتدار العسكريّ والصلاح وفتح البلدان وأمثالها من الخصائص.
إذاً، بناءً على فهم الشيعة للإمامة فإنّ إمام أيّ مجتمع هو تلك القدرة الفائقة الّتي توجّه وتقود الحركة الجمعيّة والفرديّة لأبناء المجتمع، وفي نفس الوقت، يكون معلّم الدين والأخلاق والموجّه لحياة الناس ومساعيهم. ومن هنا، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إماماً أيضاً، لأنّه كان القائد الفكريّ والسياسيّ للمجتمع الّذي أقام بنفسه دعائمه. وبعد النبيّ تحتاج الأمّة إلى إمام يخلفه ويتحمّل عبء مسؤولياته، (بما في ذلك المسؤولية السياسية). ويعتقد الشيعة أنّ النبيّ نصّ على خلافة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ثمّ تنتقل الإمامة من بعده إلى الأئمّة المعصومين من ولده (ولأجل المزيد من التفاصيل والأدلّة ينبغي الرجوع إلى الكتب المتعلّقة بهذا المجال).

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ تداخل المهامّ الثلاث للإمامة: القيادة السياسية، والتعليم الدينيّ، والتهذيب الأخلاقيّ والرّوحيّ في الخلافة والحكومة الإسلاميّة - حيث جُعلت الإمامة والحكومة الإسلاميّة ذات أبعاد وجوانب ثلاثة، كما بيّنه بعض المفكرّين البارزين في هذا الزمان بشكل صحيح - ناشئ من عدم وجود تفكيك بين هذه الجوانب الثلاثة في المشروع الإسلاميّ للحياة البشرية. فقيادة الأمّة يجب أن تشمل هذه الحقول الثلاثة أيضاً. وبسبب هذه السّعة وهذه الشموليّة في مفهوم الإمامة لدى الشيعة، كان لا بدّ أن يُعيَّن الإمام من قبل الله سبحانه. 

نستنتج ممّا سبق أنّ الإمامة ليست، كما يراها أصحاب النظرة السطحية، مفهوماً يقابل "الخلافة" و"الحكومة"، أو منصباً منحصراً بالأمور المعنويّة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

56

الفصل الثاني: الإمامة

  والروحيّة والفكريّة، وإنّما هي في الفكر الشيعيّ تعني "قيادة الأمّة" في شؤون دنياها، وما يرتبط بذلك من تنظيم للحياة الاجتماعية والسياسية للناس في المجتمع (رئيس الدولة). وأيضاً في شؤون التعليم والإرشاد والتوجيه المعنويّ والروحيّ، وحلّ المشاكل الفكريّة وتبيين الأيديولوجية الإسلامية، "القائد الفكريّ".

 
وهذه المسألة الواضحة أضحت، مع الأسف، غريبة على أذهان أكثر المعتقدين بالإمامة، ولذلك نرى أنّ عرض بعض النماذج من مئات الأدلّة القرآنية والحديثيّة، ليس بالأمر الكثير كما يبدو، في هذا المجال:
في كتاب "الحجّة" من "الكافي" حديث مفصّل عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام يذكر فيه بالتفصيل ما يرتبط بمعرفة الإمام ووصف الإمام، ويتضمّن معاني عميقة ورائعة.
 
من ذلك ما ورد بشأن الإمامة من أنّها: "منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إنّ الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول، ومقام أمير المؤمنين عليه السلام وميراث الحسن والحسين عليهما السلام ، إنّ الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أسّ الإسلام النامي، وفرعه السّامي، بالإمام تمام الصلاة والزّكاة والصيام والحجّ والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف".
 
وحول الإمام أنّه: "النجم الهادئ، والماء العذب، والمنجي من الرّدى، والسحاب الماطر، ومفزع العباد في الداهية، وأمين الله في خلقه، وحجّته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذابّ عن حرم الله، ونظام الدين، وعزّ المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين"1.
 
وفي روايةٍ أخرى عن الإمام الصادق ذكر صراحةً: أنّ كلّ ما كان يمارسه
 
 
 

1- الكافي، ج1، ص200.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

57

الفصل الثاني: الإمامة

  النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من مسؤوليات ومهامّ يتحمّلها الإمام عليّ عليه السلام والأئمّة من ولده أيضاً1.

 
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام نرى تأكيداً على إطاعة "الأوصياء" وتوضّح الرواية2 أنّ الأوصياء هم نفسهم الّذين عبّر عنهم القرآن بـ ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾3.
 
إنّ مئات الروايات المتفرّقّة في الأبواب والكتب المختلفة، تصرّح أنّ مفهوم الإمام والإمامة في الثقافة الشيعيّة ما هو إلّا القيادة وإدارة شؤون الأمّة المسلمة، وأنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام هم الأصحاب الحقيقيّون للحكومة. وتدلّ جميع (هذه الروايات)، بما لا يبقي أيّ شكّ أو ترديد، لأيّ باحثٍ منصف، على أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام في ادّعائهم الإمامة ذهبوا إلى ما هو أبعد من المقام الفكريّ والمعنويّ، ليطالبوا بالحكومة أيضاً كحقٍّ ثابتٍ لهم. ودعوتهم على هذا النطاق الواسع الشامل إنّما هي دعوة لنضالٍ سياسيّ عسكريّ لتسلّم السلطة. (قيادة الصادق69-74 ، عليه السلام )
 
الإمامة والحكومة
لو تصوّر أحدٌ أنّه لم يكن للأئمّة التسعة والثمانية، من الإمام السجّاد إلى الإمام العسكريّ، سوى ذكر أحكام الدين ومعارفه، وأنّه لم يكن لهم أيّ نوع من الجهاد السياسيّ بما يتناسب مع زمانهم، فإنّه حتماً لم يحقّق غوراً كافياً في حياة هؤلاء العظماء. فهذا ما يبرز بوضوح من أحوال هؤلاء العظماء، وفي الأساس لا يمكن قبول معنى الإمامة في الإسلام والفلسفة الّتي يطرحها الشيعة 
 
 
 

1- الكافي، ج1، ص 196، نص الحديث: جرى له من أفضل ما جرى لمحمّد.. ولقد حملت على مثل حموله..وكذلك يجري لأئمة الهدى واحداً بعد واحد.
2- الكافي، ج1، ص 189.
3- سورة النساء، الآية: 83.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

58

الفصل الثاني: الإمامة

 حولها إلّا في هذا الطريق وبما يتناسب معه. ولو لم يكن لدينا دليلٌ واضحٌ على جهاد الأئمّة، ينبغي الاعتقاد أنّهم قد جاهدوا، وإن لم نعلم، أو لم يصلنا دليل. ولا يصحّ أن نعتقد بالإمامة بمعناها في ثقافة الإسلام - ليس فقط في ثقافة التشيّع - وفي نفس الوقت نقبل مثلاً أنّ أئمّتنا عليهم السلام ، جلسوا في بيوتهم طيلة المائة والخمسين سنة أو أكثر، ولم يفعلوا شيئاً بل اشتغلوا ببيان أحكام القرآن والمعارف الإسلامية دون أن يكون لهم أيّة مواجهة سياسيّة:

فمثل هذا الشيء ليس صحيحاً بأيّ شكلٍ من الأشكال. بالطبع، عندما نقول إنّ الأئمّة جاهدوا، يجب علينا أن نلتفت إلى أنّ الجهاد يكون في كلّ زمانٍ بشكلٍ خاصّ. فأحياناً، يكون الجهاد من خلال العمل الثقافيّ، والعلميّ، والسياسيّ، والتنظيميّ، والحزبيّ، وتأسيس المنظّمات، وأحياناً من خلال الأعمال الدمويّة والأنشطة العسكريّة والقتال الظاهريّ. وفي كلّ زمانٍ جهادٌ بنحوٍ ما. (09/05/1366)

من الممكن أن يستشكل البعض ويقول كيف كان الأئمّة عليهم السلام يجاهدون ويناضلون من أجل الإمساك بالحكومة، في حين أنّهم بعلمهم الإلهي كان يعلمون بأنّهم لن يصلوا إلى الحكومة؟ فمن المعلوم أنّ حياة الأئمّة عليهم السلام تدلّ على أنّهم لم يتمكّنوا من الوصول إلى الحكومة، ولم يشكّلوا المجتمع والنظام الإسلاميّ بحسب ما يرونه وبحسب تكليفهم. لكن كيف يمكن للأئمّة أن يقوموا بهذا الأمر، مع أنّهم كانوا يعلمون وقد اطّلعوا بواسطة الإلهام الإلهيّ على ذلك؟ 

والجواب عن هذه الفكرة: إنّ معرفة عدم الوصول إلى الهدف لا تمنع من أداء الوظيفة والتكليف. فعلى سبيل المثال نجد في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، أنّه كان يعلم بهزيمة المسلمين في معركة أُحد، وكان يعلم أنّ أولئك الّذين وقفوا على كتف الجبل لن يصمدوا وسوف تحرّكهم أطماعهم نحو الغنائم. وكذلك 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

59

الفصل الثاني: الإمامة

 عندما ذهب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف من أجل هداية بني ثقيف، ولجأ إليهم من شرّ أهل مكّة، كان يعلم أنّهم سيستقبلونه بالحصى والحجارة. لقد رموه بالحجارة إلى درجة أنّ الدم سال من ساقيه المباركتين واضطُرّ إلى الرجوع. والأئمّة عليهم السلام كانوا يعلمون ذلك كلّه. كان أمير المؤمنين عليه السلام يعلم أنّه سوف يستشهد في الواحد والعشرين من شهر رمضان، لكنّه في نفس الوقت، وقبيل شهر رمضان، أقام معسكراً كبيراً خارج الكوفة من أجل أن يكمل حربه مع معاوية. لو كانت معرفة أمير المؤمنين عليه السلام موجبة لأن لا يعمل طبق المسار العاديّ، فلماذا نصب ذاك المخيّم؟ ولماذا جيّش الجيوش فأخرج الناس إلى خارج الكوفة وجعلهم ينتظرون؟ لماذا؟ ما هي الفائدة؟ إنّ معرفة الأئمّة عليهم السلام بأنّهم لن يصلوا إلى الحكومة لا ينبغي أن تؤدّي إلى إيقاف مساعيهم. بل يجب السعي والجهاد والقيام بكلّ ما ينبغي كشخصٍ لا يعلم ما ينتظره.(23/01/1364)

 

 

 

 

 

 

67


60

الفصل الثاني: الإمامة

 المراحل الأربع لمسيرة الإمامة

 
ظهرت مسيرة الإمامة منذ اليوم الأوّل لرحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - في شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة - واستمرّت حتّى عام وفاة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام - في شهر ربيع الأوّل سنة 260 هـ - وسط مجتمع المسلمين. وطوت المسيرة، خلال هذه السنوات، أربع مراحل بصورة تقريبيّة، وكان لكلّ مرحلة خصائصها بلحاظ مواقف الأئمّة عليهم السلام مقابل القوى السياسية المهيمنة.
 
المرحلة الأولى: هي مرحلة السكوت، أو مرحلة التعاون مع الحكّام والسلطات. 
 
تميّزت هذه المرحلة بأنّ المجتمع الإسلاميّ الحديث الولادة والفتيّ كان محفوفاً بأعداء مقتدرين تربّصوا بالإسلام من الخارج، وبوجود عناصر من جماعات حديثة العهد بالإسلام، لا تتحمّل أن ترى تشتّتاً في المجتمع الإسلاميّ، وكلّ ثغرة في جسد الأمّة كانت تشكّل تهديداً لأساس المجتمع الإسلاميّ ووجوده. ومن جانب آخر، لم يكن منحنى انحراف الواقع عن الحقيقة كبيراً بحيث لم يعد قابلاً للتحمّل بالنسبة لشخص مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - الّذي هو أحرص الناس على سلامة الرسالة وسلامة المجتمع الإسلاميّ وأكثرهم التزاماً بها - ولعلّ هذه الحالة الّتي حدثت في المجتمع الإسلاميّ، هي الّتي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أوصى تلميذه الفذّ بالصبر عند وقوعها1.
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج28، ص 210. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا علي إن القوم نقضوا أمرك واستبدّوا بها دونك وعصوني فيك فعليك بالصبر حتى يُنزِل الله الأمر، وإنهم سيغدرون بك لا محالة فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك، فإن الأمّة ستغدر بك بعدي، كذلك أخبرني جبرئيل عليه السلام من ربي تبارك وتعالى".

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

61

الفصل الثاني: الإمامة

 لقد استوعبت هذه المرحلة الّتي امتدت لـ 25 سنة حياة الإمام عليّ عليه السلام منذ وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - عام 11 للهجرة - حتّى تولّيه الخلافة - سنة 35 للهجرة. وقد شرح الإمام موقفه في هذه المرحلة من خلال الكتاب الّذي وجّهه إلى أهالي مصر عبر مالك الأشتر عندما ولاّه إمارتها، حيث جاء فيه: "فأمسكت يدي، حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم فنهضت في تلك الأحداث"1.

 
إنّ حياة أمير المؤمنين عليه السلام في هذه السنوات الـ 25 لهذه المرحلة، تحكي عن التدخّل الفعّال والدعم والعون الحاصل من الحرص الكبير على الإسلام ومجتمع المسلمين. إنّ أجوبة وإرشادات هذا الإمام لخلفاء زمانه، فيما يتعلّق بالقضايا السياسية والاجتماعية وغيرها، قد نُقلت في نهج البلاغة وغيرها من كتب الحديث والتاريخ، وهي شاهدة على عدم تردّده في هذا الأسلوب. 
 
المرحلة الثانية: هي مرحلة تسلّم الحكم ووصول الإمام إلى السلطة. 
 
وهذه استغرقت أربعة أعوام وتسعة أشهر من خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام . وبضعة أشهر من خلافة ولده الحسن عليه السلام . وبالرغم من قصر هذه المرحلة، وما اكتنفته من آلام وهموم ومشاكل ومصاعب لا تُحصى لا تنفكّ عادة عن كلّ حكومة ثوريّة، إلا أنّها سجّلت أنصع الصفحات وأروعها في تاريخ الحكومة الإسلامية، بما قدّمته من طريقة إنسانية في التعامل، ومن عدل مطلق والتزام دقيق بأحكام الإسلام بأبعاده المختلفة في إدارة المجتمع الإسلاميّ. هذا إلى جانب الحزم والصراحة والجرأة في التطبيق واتّخاذ المواقف. 
 
 
 

1- نهج البلاغة, كتاب 62.

 
 
 
 
 
 
.
 
 
 
 
69

62

الفصل الثاني: الإمامة

 هذه المرحلة من تاريخ الإمامة كانت النموذج الّذي دعا أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، خلال القرنين التاليين، إلى تطبيقه في الحياة السياسية والاجتماعية وسعوا على طريقه. وكان الشيعة يذكرون مثل هذه الذكرى العظيمة ويتحسّرون عليها، ويندّدون بالأنظمة الّتي تلتها عند مقارنتهم بها. في نفس الوقت كانت درساً وتجربةً ملهمة يمكن أن تدلّ على وضع وأحوال أيّة حكومة ثوريّة وإسلاميّة صرفة داخل مجتمعٍ وجماعةٍ لم تتربَّ أو انجرّت نحو الانحراف، ومنذ ذلك الوقت كانت تُفرض الأساليب والمناهج البعيدة المدى والمتلازمة مع كلّ أنواع التربية الصعبة والحزبية الشديدة على الأئمّة اللاحقين.

 
المرحلة الثالثة: هي الّتي استوعبت السنوات العشرين بين صلح الإمام الحسن عليه السلام سنة41 هـ، وشهادة الإمام الحسين عليه السلام سنة 61 هـ . 
 
بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام بدأ نوع من العمل شبه السرّيّ للشيعة، كان هدفه إعادة القيادة الإسلامية إلى عترة النبيّ في الفرصة المناسبة. وهذه الفرصة، ووفق الاستنتاج الطبيعيّ، لم تكن بعيدة المنال، وكان تحقّقها مأمولاً بعد انتهاء حياة معاوية الشرّيرة، لهذا، يمكن تسمية المرحلة الثالثة "مرحلة السعي البنّاء القصير المدى لإيجاد الحكومة والنظام الإسلاميّ"1.
 
المرحلة الرابعة: وهي مرحلة متابعة ذلك النهج في برنامج بعيد المدى . ففي زمنٍ قارب القرنين، وشهد انتصاراتٍ وهزائم في مراحل مختلفة، وتلازم مع الانتصار القاطع في مجال العمل الأيديولوجيّ، وامتزج بمئات التكتيكات المتناسبة مع الزمان، والمزيّنة بآلاف مظاهر الإخلاص والتضحيّة وعظمة الإنسان الّذي يريده الإسلام.(قيادة الإمام الصادق عليه السلام ، ص 16-19)
 
إنّ أهمّ شيء في حياة الأئمّة عليهم السلام ، ممّا لم يتمّ الالتفات إليه بصورةٍ لائقة، هو عنصر الجهاد السياسيّ الحادّ في بداية النصف الثاني من القرن الأوّل
 
 
 

1- في هذا المجال قد بحثت وضمن عدّة خطب بشرح وتفصيل وذكر الوثائق والشواهد.(الكاتب)

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

63

الفصل الثاني: الإمامة

  للهجرة، حينما امتزجت الخلافة الإسلامية وبصورة علنية بزخارف السلطنة والملكية وتبدّلت الإمامة الإسلامية إلى حكومة ملكية جائرة. هناك شدّد أئمّة أهل البيت عليهم السلام نضالهم السياسي بما يتناسب مع الأوضاع والظروف. وكان الهدف الأكبر لهذا النضال هو تشكيل النظام الإسلامي وتأسيس الحكومة على أساس الإمامة. ولا شكّ بأنّ تبيين وتفسير الدين بحسب الرؤية الخاصّة لأهل بيت الوحي، ورفع التحريفات والتفسيرات المغلوطة للمعارف الإسلامية والأحكام الدينية، كانت أيضاً هدفاً مهمّاً لجهاد أهل البيت عليهم السلام . إلّا أنّه بناءً للقرائن الحتميّة لم يكن جهاد أهل البيت منحصراً بهذه الأهداف، ولم يكن أكبر أهدافهم إلا تشكيل الحكومة العلويّة وتأسيس النظام الإسلاميّ العادل. وإنّ أشدّ الصعاب في حياة الأئمّة وأنصارهم، المليئة بالمرارة والإيثار، كانت بسبب وجود هذا الهدف، وقد كانوا منذ عهد الإمام السجّاد عليه السلام وبعد واقعة عاشوراء ينهضون لتأمين الأرضية المناسبة بعيدة المدى لتحقّق هذا الهدف.


وفي جميع مراحل المائة وأربعين سنة، ما بين واقعة عاشوراء وقضية ولاية العهد للإمام الثامن، كان التيّار المرتبط بأئمّة أهل البيت - أي الشيعة - يعتبر العدوّ الأكبر والأخطر للأجهزة الحاكمة. وفي تلك المدّة، تأمّنت الظروف والأرضية المناسبة، مرّات عدّة، واقترب نضال التشيّع، الّذي ينبغي تسميته بالنهضة العلوية، من الانتصارات الكبرى. ولكن في كلّ مرّة كانت تبرز الموانع على طريق النصر النهائيّ. وفي الأغلب فإنّ أكبر الضربات كانت توجّه إلى المحور والمركز الأساس لهذه النهضة، وهو شخص الإمام في كلّ زمان، من خلال سجنه أو قتله. وعندما كان الدور يصل إلى الإمام اللاحق كان القمع والضغط والتشديد يصل إلى حدّ يتطلّب زماناً أطول من أجل تهيئة وإعداد الأرضية المناسبة.
وقد تمكّن الأئمّة من تثبيت التشيّع وسط هذا الإعصار الشديد لهذه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

64

الفصل الثاني: الإمامة

  للهجرة، حينما امتزجت الخلافة الإسلامية وبصورة علنية بزخارف السلطنة والملكية وتبدّلت الإمامة الإسلامية إلى حكومة ملكية جائرة. هناك شدّد أئمّة أهل البيت عليهم السلام نضالهم السياسي بما يتناسب مع الأوضاع والظروف. وكان الهدف الأكبر لهذا النضال هو تشكيل النظام الإسلامي وتأسيس الحكومة على أساس الإمامة. ولا شكّ بأنّ تبيين وتفسير الدين بحسب الرؤية الخاصّة لأهل بيت الوحي، ورفع التحريفات والتفسيرات المغلوطة للمعارف الإسلامية والأحكام الدينية، كانت أيضاً هدفاً مهمّاً لجهاد أهل البيت عليهم السلام . إلّا أنّه بناءً للقرائن الحتميّة لم يكن جهاد أهل البيت منحصراً بهذه الأهداف، ولم يكن أكبر أهدافهم إلا تشكيل الحكومة العلويّة وتأسيس النظام الإسلاميّ العادل. وإنّ أشدّ الصعاب في حياة الأئمّة وأنصارهم، المليئة بالمرارة والإيثار، كانت بسبب وجود هذا الهدف، وقد كانوا منذ عهد الإمام السجّاد عليه السلام وبعد واقعة عاشوراء ينهضون لتأمين الأرضية المناسبة بعيدة المدى لتحقّق هذا الهدف.


وفي جميع مراحل المائة وأربعين سنة، ما بين واقعة عاشوراء وقضية ولاية العهد للإمام الثامن، كان التيّار المرتبط بأئمّة أهل البيت - أي الشيعة - يعتبر العدوّ الأكبر والأخطر للأجهزة الحاكمة. وفي تلك المدّة، تأمّنت الظروف والأرضية المناسبة، مرّات عدّة، واقترب نضال التشيّع، الّذي ينبغي تسميته بالنهضة العلوية، من الانتصارات الكبرى. ولكن في كلّ مرّة كانت تبرز الموانع على طريق النصر النهائيّ. وفي الأغلب فإنّ أكبر الضربات كانت توجّه إلى المحور والمركز الأساس لهذه النهضة، وهو شخص الإمام في كلّ زمان، من خلال سجنه أو قتله. وعندما كان الدور يصل إلى الإمام اللاحق كان القمع والضغط والتشديد يصل إلى حدّ يتطلّب زماناً أطول من أجل تهيئة وإعداد الأرضية المناسبة.
وقد تمكّن الأئمّة من تثبيت التشيّع وسط هذا الإعصار الشديد لهذه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

65

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 الفصل الثالث



الإمام علي عليه السلام



مدرسة الإمام علي عليه السلام .
مرحلة السكوت والتعاون.
مرحلة الخلافة.
القدرة والمظلومية والنصر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

66

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 مدرسة الإمام علي عليه السلام

 
إنّ وجود أمير المؤمنين عليه السلام يُعدّ درساً خالداً لا يُنسى لكلّ الأجيال البشريّة، من جهاتٍ عدّة وفي الظروف والأوضاع المختلفة؛ سواءٌ في عمله الفرديّ والشخصيّ أم في محراب عبادته أم في مناجاته أم في زهده أم في فنائه في ذكر الله، أم في جهاده مع النفس والشيطان والدوافع النفسانية والمادية. ما زالت كلمات أمير المؤمنين عليه السلام تصدح وتملأ آفاق عالم الخلقة والحياة الإنسانية: "يا دنيا ... غرّي غيري"1. أيّتها الزخارف الدنيوية والزبارج المليئة بالجاذبيّة وكلّ أنواع الزبارج التي تجذب أقوى البشر، اذهبي إلى شخصٍ آخر لتخدعيه، إنّ علياً أكبر وأقوى وأسمى من هذه الأمور. لهذا يجد كلّ إنسانٍ صاحٍ دروساً لا تُنسى في كلّ لحظات حياة أمير المؤمنين عليه السلام وفي ارتباطه بالله وإيمانه به.
 
وفي البعد الآخر أيضاً، في جهاده لأجل رفع خيمة الحقّ وإقامة العدالة، أي منذ ذلك اليوم الّذي حمل فيه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ثقل الرسالة على عاتقه، ومن الساعات الأولى، وجد إلى جانبه شخصاً مجاهداً مؤمناً مضحّياً - كان ما زال في بداية عهده وشبابه - وهو عليٌّ عليه السلام . وإلى آخر ساعات حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المباركة، لم يتوقّف أمير المؤمنين عليه السلام لحظةً واحدة عن الجهاد في طريق إقامة النظام الإسلاميّ، وفيما بعد من أجل الحفاظ عليه. فكم جاهد وكم خاطر بنفسه وكم ذاب في طريق الجهاد من أجل إقامة الحقّ والعدل؟ هناك
 
 
 
 

1- نهج البلاغة، الحكمة 77.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

67

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 حينما لم يصمد في الميدان أحد، كان يبقى. هناك حين لم يكن يجرؤ أحدٌ على الإقدام كان يقدم. هناك حين كانت الصعاب كالجبال الرواسي تنهال على رؤوس المجاهدين في سبيل الله، كانت قامته الشامخة تمنح الآخرين العزم والطمأنينة. بالنسبة له كان معنى الحياة هو أن يستفيد من الإمكانات الّتي منحه الله إيّاها من القوّة الجسمانية والروحيّة والعاطفيّة وغيرها من أجل إعلاء كلمة الحقّ ولإبقاء الحقّ حيّاً. وبقدرة وإرادة عليّ وعضده وجهاده بقي الحقّ حيّاً. 


إذا كانت مفاهيم الحقّ والعدل والإنسانية وغيرها من المفاهيم الّتي لها قيمة إنسانية بالنسبة لأصحاب الفهم في هذا العالم، قد بقيت وازدادت قوّة ورسوخاً يوماً بعد يوم، فذلك بسبب تلك المجاهدات والتضحيات. لو لم يكن أمثال عليّ بن أبي طالب عليه السلام - والّذين هم عبر تاريخ البشرية قلّة نادرة - لما كان اليوم لأيّة قيمة إنسانية من وجود، ولما كانت هذه العناوين الجذّابة للناس تمتلك أيّة جاذبية. ولما كان للبشر حياةٌ وحضارةٌ وثقافةٌ وآمالٌ وقيمٌ وأهدافٌ ساميةٌ، ولتبدّلت البشرية إلى حيوانية وحشية وسبعية. إنّ البشرية مرتهنة لأمير المؤمنين عليه السلام ولكلّ إنسانٍ بلغ من السموّ مرتبته، في حفظ المفاهيم السامية. إنّ كلّ ذلك الجهاد ترك هذا الأثر.

البعد الآخر من حياة أمير المؤمنين عليه السلام هو في ميدان الحكومة. عندما تسلّم هذا الإنسان، صاحب الفكر العميق والشخصية العظيمة، في نهاية الأمر، الحكومة، في ذلك العهد المختصر قام بأعمالٍ، لو قام المؤرّخون والكتّاب والفنّانون ولسنواتٍ طويلة بالكتابة عنها وتجسيدها وتصويرها لما قالوا إلا القليل. كان وضع حياة أمير المؤمنين عليه السلام في عصر حكومته قيامة. أصلاً، لقد بدّل عليّ معنى الحكومة. 

إنّه تجسيدٌ للحكومة الإلهية، وتجسيدٌ للآيات القرآنية بين المسلمين،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

68

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  وتجسيدٌ لـ ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾1، وتجسيدٌ للعدل المطلق. "كان يقرّب المساكين"2 ويعتني بالضعفاء عنايةً خاصّة. ولقد كان الوجهاء، الّذين يفرضون أنفسهم بغير حقّ بواسطة المال والسلطة وغيرها من الوسائل، كانوا في نظر عليٍّ هم والتراب على حدّ سواء. والّذي كان في نظره وقلبه ذا قيمة، هو الإيمان والتقوى والإخلاص والجهاد والإنسانية. وبهذه المباني القيّمة حكم أمير المؤمنين عليه السلام أقلّ من خمس سنوات. ولقرونٍ يُكتب عن أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد كُتب القليل، وعجزوا عن تصوير الحقيقة دائماً، وأفضل هؤلاء يعترفون بالعجز والتقصير. (10/11/1369) 
 
إنّ أعظم خصائصه هي التقوى. فنهج البلاغة هو كتاب التقوى، وحياته طريق وسبيل التقوى. (18/10/1377)
 
هذه الآية الشريفة ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾3 نزلت في أمير المؤمنين. وتأويل هذه الآية هو عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام. تقول الآية: إنّ من بين الناس هناك من يبيع نفسه ووجوده، أي أعزّ ما عند الإنسان، هذا الرأسمال العزيز الوحيد الّذي لا يمكن جبرانه - بحيث إنّك لو قدّمته لن يكون بعدها عنه بديل - فبعض يقدّم هذا الرأسمال وهذا الموجود دفعةً واحدة من أجل الحصول على رضا الله لا غير، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي﴾ يعني يبيع، يقدّم، نفسه يعني وجوده، ﴿ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾ أي أنّه لا يوجد مقصد دنيويّ أو نزعة أو دافعٍ ذاتيّ، إنّما فقط وفقط الحصول على رضا الله. وفي مقابل مثل هذا الإيثار وهذه التضحية، فإنّ الله لا يمكن أن يكون دون ردّ فعل يناسبها، ﴿وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ ومصداقه الكامل هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام . وسوف أبيّن هذا البعد.
 
 
 

1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج18، ص 226.
3- سورة البقرة، الآية: 207.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

69

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 الناظر إلى تاريخ حياة أمير المؤمنين عليه السلام ، منذ الطفولة، منذ ذلك الوقت الّذي كان فيه في سنّ التاسعة أو الحادية عشرة، يرى أنه كان قد آمن بنبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأدرك الحقيقة بوعيٍ تامّ وتمسّك بها، ومنذ تلك اللحظة وإلى حين لحظة محراب العبادة، سحر يوم التاسع عشر من شهر رمضان، قدّم نفسه في سبيل الله فرحاً مسروراً مليئاً بالشوق إلى لقاء ربّه. طوال هذه السنوات الخمسين تقريباً أو أكثر، منذ سنّ العاشرة وحتى سن الـ 63 يُرى أنّ هناك خطّاً واحداً مستمرّاً يشرح ويبيّن حياة أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو خطّ الإيثار. وفي كلّ القضايا الّتي مرّت عليه عليه السلام طيلة هذا التاريخ الممتدّ لـ 50 سنة تظهر علائم الإيثار من الأوّل وإلى الآخر. وهذا في الحقيقة درسٌ وعبرةٌ لنا. ونحن الّذين نتحدّث عنه ونبحث عنه ونُعرف في العالم بمحبّته يجب أن نأخذ هذا الدرس منه عليه السلام ، ومجرّد الحبّ لا يكفي، ومجرّد معرفة فضيلة عليّ لا تكفي. كان هناك من يعترف في قلبه بفضائل علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولعلّهم أكثر منّا نحن الّذين يفصلنا عنه 1400 سنة، هؤلاء أو بعضهم كانوا يحبّون عليّاً من القلب كإنسانٍ معصومٍ منزّه، ولكن كان سلوكهم مختلفاً لأنّهم لم يمتلكوا تلك الخصوصية وذلك الإيثار وترك العمل من أجل الذات، بل كانت تشغلهم أنفسهم. وكان امتياز عليّ في أنّه لم يقع في سجن الذات. لم تكن الأنا مطروحةً أمامه أبداً، بل كلّ ما كان عنده هو التكليف والهدف والجهاد في سبيل الله والله.


منذ البداية حينما آمن أمير المؤمنين عليه السلام في أيّام طفولته بالنبيّ كان يتعرّض للأذى والسخرية من الجميع في مكّة. تصوّروا مدينةً يستخدم أهلها العنف بشكل طبيعيّ، ولم يكونوا متحضّرين ووقورين ولائقين. قومٌ يتشاجرون عند أدنى مسألة، وشديدو التعصّب لتلك العقائد الباطلة، في مثل ذلك المجتمع، طُرحت رسالة من إنسانٍ عظيم جعلت كلّ شيء في ذلك المجتمع
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

70

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  مورد تشكيك، على مستوى العقائد والآداب والتقاليد، فمن الطبيعيّ أن ينهض الجميع لمخالفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وبكلّ طبقاتهم، حتّى عامّة الناس. ولكي يدافع المرء عن هذا الإنسان وعن هذه الرسالة بكلّ وجوده ويتمسّك به ويتّبعه، هذا بحدّ ذاته يتطلّب الإيثار وتجاوز الأنا. وكانت هذه هي الخطوة الأولى من إيثار أمير المؤمنين عليه السلام . 


وقف عليّ بن أبي طالب عليه السلام لمدّة 13 سنة إلى جانب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أصعب المواطن. صحيحٌ أنّ هجرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت اضطرارية وتحت الضغط المتواصل لقريش وأهل مكّة، لكنّها كانت ذات مستقبلٍ مشرق، لأن الجميع كان على علم أنّ هذه الهجرة هي مقدّمة التوفيقات والانتصارات. وهناك حينما تتجاوز أيّة نهضةٍ مرحلة المحنة لتدخل في مرحلة الراحة والعزّة، هناك حينما يكون الجميع منشغلاً بحسب العادة لكي يوصلوا أنفسهم أسرع من غيرهم علّهم يأخذون من المناصب الاجتماعية شيئاً وينالون موقعيةً، في تلك اللحظة، وفي تلك الليلة المظلمة الحالكة، كان أمير المؤمنين عليه السلام مستعدّاً لأن ينام مكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه حتّى يتمكّن من الخروج من منزله ومن هذه المدينة. في تلك الليلة، كان مقتل من ينام في ذاك الفراش أمراً شبه قطعيّ ومسلّماً به. كوننا نحن نعلم ما حدث، ونعلم أنّ أمير المؤمنين لم يُقتل في تلك الحادثة، هذا لا يعني أنّه في تلك الأثناء أيضاً كان الجميع على علم بذلك، كلّا، القضية كانت أنّه في تلك الليلة المظلمة وفي لحظة معينة، كان من القطعيّ أن يُقتل مثل هذا الإنسان. كان يُقال إنّه ومن أجل أن يخرج هذا السيّد من هنا ينبغي أن يكون هناك شخصٌ آخر مكانه حتّى يشعر الجواسيس، الّذين يراقبون، بأنّه ما زال هناك، فمن هو الحاضر المستعدّ؟ هذا هو إيثار أمير المؤمنين عليه السلام الّذي يُعدّ بذاته حادثةً استثنائية من حيث الأهمية. لكنّ توقيت هذا الإيثار يزيد على أهميّته. ففي أيّ وقتٍ كان ذلك؟ في
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

71

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  الوقت المتوقّع فيه أنّ زمن المحنة سينقضي، وسيأتي زمن تشكيل الحكومة والراحة، حيث إنّ أهل يثرب قد آمنوا وهم ينتظرون النبيّ. الكلّ يعلم ذلك. في تلك اللحظة يؤثر أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يكن هناك أيّ دافع شخصيّ عنده لكي يُقدِم على مثل هذه الحركة الكبرى.

 
وبعدها يأتي إلى المدينة وتبدأ المعارك والقتال المتواصل لحكومة النبيّ الفتيّة. فالمعارك والحروب كانت دائمة، هكذا كانت خاصيّة تلك الحكومة. كان هناك مواجهات دائمة، بدأت قبل معركة بدر، واستمرّت على مدى السنوات العشر تلك، وإلى آخر حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، خاض فيها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عشرات المعارك والمواجهات مع الكفار على مختلف أنواعهم وأقسامهم وشُعَبِهِم. وفي كلّ هذه المراحل، كان أمير المؤمنين عليه السلام حاضراً ليكون أوّل من يتصدّى وأكثر الناس تضحيةً وفداءً واستعداداً للموت بين يديّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، كما بيّنه أمير المؤمنين عليه السلام نفسه، وأظهره التاريخ في جميع هذه المراحل والميادين المهولة: "وقد واسيته بنفسي في المواطن الّتي تنقص فيها الأبطال وتتأخّر فيها الأقدام"1. وقف أمير المؤمنين عليه السلام في أشدّ اللحظات حرجاً وما كان يلوي على شيء أو يقول إنّ هناك خطراً. بينما كان بعض الناس يفكّر في نفسه والحفاظ عليها بحجة أن يكون فيما بعد مفيداً للإسلام. ولم يخدع أمير المؤمنين عليه السلام نفسه أبداً بمثل هذه المعاذير، ولم تكن نفسه السّامية لتُخدع. ففي جميع مراحل الخطر كان أمير المؤمنين عليه السلام حاضراً في الخطوط الأمامية.(18/10/1377)
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة 197.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

72

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 مرحلة السكوت والتعاون


إنّ أشدّ مراحل حياة أمير المؤمنين عليه السلام قد بدأت في هذه السنوات الثلاثين، أي بعد أن انتهى عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورحل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الدنيا. فكانت أشدّ محن أمير المؤمنين عليه السلام في تلك المرحلة والأيّام. في تلك الأيّام الّتي كان النبيّ العزيز صلى الله عليه وآله وسلم موجوداً ويتحرّك ويجاهد في كنفه، كانت الأيّام جميلةً، وعذبة. إنّ الأيّام المرّة هي الأيّام الّتي جاءت بعد رحلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . أيّامٌ كانت الفتن فيها كقطع الليل المظلم تُرى من الأفق بحيث إنّه لم يكن من يريد أن يتحرّك تحرّكاً صحيحاً، بقادر على أن يرفع قدماً عن قدم، هناك بالتحديد وفي تلك الظروف قدّم أمير المؤمنين عليه السلام أكبر امتحانات الإيثار.

أوّلاً، وأثناء وفاة النبيّ كان أمير المؤمنين عليه السلام منشغلاً بأداء التكليف. لا أنّه لم يكن يعلم بوجود اجتماعٍ ومن الممكن أن يُحدّد فيه مصير السلطة والحكومة في العالم الإسلامي. لم تكن القضيّة بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام من أجل هذا، ولم تكن قضية الأنا متصورة عنده من الأصل. بعد أن استقرّت قضية الخلافة، وبايع الناس أبا بكر وانتهى كلّ شيء انزوى أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم يُسمع عنه أيّة كلمةٍ أو موقفٍ يحكي عن معارضته للجهاز الحاكم. نعم، قد كان ذلك منه في الأيّام الأولى، كان يسعى لعلّه يتمكّن من إحقاق ما يراه بحسب عقيدته حقّاً، وممّا ينبغي القيام به. وعندما رأى الأمر خلاف ذلك، وأنّ الناس قد بايعوا وانتهت القضية، وأضحى أبو بكر خليفة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

73

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  المسلمين، نجد أن أمير المؤمنين عليه السلام عُرف في تاريخ الإسلام بأنّه لا يبدر منه أي خطر أو تهديد أو ضرر على الجهاز الحاكم، وإن كان معارضاً له. فأمير المؤمنين عليه السلام في هذه المرحلة - والّتي لم تكن مديدة، لعلّها لم تكن أكثر من عدّة أشهر - قال لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري ويقصد الخلافة. "ووالله لأسلمنّ ما سلُمت أمور المسلمين"، - فما دمتُ أرى أنّه لا يُظلم أحد-، "ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصّة"، فإنّني لن أقوم بأيّ عمل ولن أعارض أبداً.1

 
وبعد مدّةٍ وجيزة، لا تزيد على عدّة أشهر، بدأ ارتداد بعض الجماعات، ولعلّها كانت مدفوعةً لذلك، حيث شعرت بعض القبائل العربية أنّه طالما لا يوجد نبيّ ولا يوجد قائد للإسلام، فلا بأس أن يختلقوا إشكالات وأن يعارضوا ويحاربوا ويثيروا القلاقل، ولعلّ ذلك كان بتحريك من المنافقين، فنشأ تيّار الردّة - أي ارتداد مجموعة من المسلمين - وبدأت حروب الردّة. فأصبح الوضع بحيث لا يحتمل أن يجلس أمير المؤمنين عليه السلام جانباً، فكان لا بدّ له (في مثل هذا الوضع) من أن يدخل ميدان الدفاع عن الحكومة. هنا يقول: "فأمسكت يدي"، فبعد أن حدثت قضية الخلافة وصار أبو بكر خليفة المسلمين "أمسكت يدي" وجلست جانباً. فهذه الحالة، حالة الاعتزال، "حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم "2، هنا نزل إلى الميدان. وكان فعاّلاً جداً، وفي جميع القضايا الاجتماعية المهمّة، كان أمير المؤمنين عليه السلام حاضراً. 
 
ويصف أمير المؤمنين عليه السلام حضوره في مرحلة الـ 25 سنة من خلافة الخلفاء الثلاثة، بالوزارة؛ فعندما جاؤوا إليه بعد مقتل عثمان وبايعوه بالخلافة،
 
 
 

1- نهج البلاغة، خ 74.
2- نهج البلاغة، خ62.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

 


74

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  قال: "وأنا لكم وزير خيرٌ منّي أمير"1. أي كما كنت لكم في السابق دعوني كذلك. فقد كان مقامه وموقعيّته طوال الـ25 سنة موقعيّة الوزارة؛ أي أنّه كان دائماً في خدمة الأهداف، وكان في المواقف يُعين المسؤولين والخلفاء الّذين كانوا على رأس الأمور، ومثل هذا يُعدّ إيثاراً لا مثيل له، يحيّر الإنسان في الواقع ويجعله يفكّر كم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان مؤثّراً في حياته. 

 
وخلال الـ 25 سنة هذه، لم يفكّر أبداً بالقيام والانقلاب والمعارضة وجمع العدّة والإمساك بالقدرة والسيطرة على الحكومة. مثل هذه الأمور تأتي على أذهان الناس. فعندما رحل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا كان عمر أمير المؤمنين عليه السلام نحو 33 سنة. وبعدها كانت مراحل الشباب والقدرة الجسمانية ومرحلة النشاط. وكانت الوجاهة والمحبوبية بين عامّة الناس، والذهن الوقّاد، والعلم الوفير، وكلّ الجاذبيات الّتي يمكن أن تتوفّر للإنسان، كانت موجودةً في أمير المؤمنين عليه السلام في أعلى درجاتها. فلو أراد أن يقوم بأيّ عملٍ لاستطاع ذلك. إلا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ، خلال مدة الـ 25 سنة هذه، لم يُسمع منه أيّ شيء، ولم يتحرّك إلا من أجل خدمة تلك الأهداف العامّة والكلية للنظام الإسلاميّ الّذي كان أولئك الخلفاء على رأسه. وكان هناك أحداثٌ عظيمةٌ استثنائية، ولا أريد الآن أن أدخل هنا في شرح الموارد التاريخية.
 
وقد دُعي أمير المؤمنين عليه السلام إلى الشورى المتشكّلة من ستة أشخاص بعد موت الخليفة الثاني، فلم ينزعج ودخل في الشورى. لم يقل إنّ هؤلاء ليسوا في مستواي، فأين طلحة والزبير وأين عبد الرحمن بن عوف وأين عثمان وأين أنا؟ وطبق وصيّة عمر، جعلوا ستة أشخاص بعنوان شورى من أجل أن ينتخبوا من بينهم خليفةً. وكان حظّ أمير المؤمنين للخلافة من بين هؤلاء الستّة هو الأوفر. وكان رأي عبد الرحمن بن عوف هو الرأي الفاصل. أي أنّ أمير
 
 
 

1- نهج البلاغة، خ 92.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

75

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 المؤمنين كان له صوتان هو والزبير، وكان لعثمان صوتان هو وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف كان له صوتان هو وسعد بن أبي وقّاص، وكان صوت عبد الرحمن بن عوف فاصلاً. فلو أنّه بايع أمير المؤمنين عليه السلام لصار خليفةً، ولو بايع عثمان لصار هو الخليفة. هنا توجّه (عبد الرحمن بن عوف) إلى أمير المؤمنين عليه السلام وسأله إن كان يعمل بكتاب الله وسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الشيخين، أي الخليفتين السابقين. فقال عليه السلام : كلّا، إنّني أعمل بكتاب الله وسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، كان من الممكن بأقلّ تغاضٍ عمّا هو صحيحٌ وحقّ أن يحصل على الحكومة ويمسك بزمام السلطة. لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يفكّر هكذا لحظةً واحدةً، ففقد الحكومة وخسر السلطة. وهنا قد آثر ولم يطرح نفسه وإنّيته أبداً، بل جعلها تحت قدميه. وما كانت مثل هذه المشاعر لتبرز في أمير المؤمنين عليه السلام من الأساس. 


وبعد مرور 12 سنة من حكومة عثمان، في نهاية الأمر، كثُرت الاعتراضات عليه وبدأ الناس يخالفونه ويعترضون عليه كثيراً، وتقاطروا من مصر ومن العراق ومن البصرة ومن أماكن أخرى، وفي النهاية تشكّل جمعٌ كبير وحاصروا بيت عثمان وهدّدوه. هنا ماذا يمكن أن يفعل أيّ إنسان في موضع أمير المؤمنين عليه السلام ؟ ذاك الّذي يرى نفسه صاحب حقٍّ بالخلافة، وكان لمدّة 25 سنة يتغاضى عن حقّه وهو يعترض على سلوك الحاكم الحالي، ها هو الآن يرى بيت هذا الخليفة محاصراً. فالشخص العاديّ بل حتّى النخب والوجهاء ماذا يفعلون في مثل هذه الحالة؟ نفس العمل الّذي قام به الآخرون، نفس ما فعله كلّ من طلحة والزبير وغيرهم، وكلّ الآخرين الّذين كان لهم في قضية عثمان ما كان. إنّ قضية قتل عثمان هي من الأحداث المهمّة جداً في تاريخ الإسلام، ويمكن للإنسان أن يشاهد في نهج البلاغة وفي الآثار وفي التاريخ الإسلاميّ ما الّذي أدّى إلى مقتل عثمان، ليتّضح له بشكلٍ كامل من الّذي قتل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

76

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 لدى أبيه، فقال الإمام الحسن: لا ضرورة لمجيئي، اذهبوا أنتم، فوالدي أمير المؤمنين يعرفكم. فجاؤوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقالوا هذه هي حالنا فساعدنا. فقال الإمام عليه السلام فـي معرض إجابتهم لا مانع لديّ فـي أيّ أمر أكون فيه حرّاً مختاراً، وسأفعله لكم، ففرح هؤلاء وخرجوا، وفـي الطريق صادفوا الإمام الحسن عليه السلام فسألهم: ماذا فعلتم؟ قالوا له: انتهى الأمر على خير والحمد لله، وقد وعدنا أمير المؤمنين عليه السلام . فسألهم: ماذا قال لكم أمير المؤمنين؟ قالوا: قال لنا أفعل لكم ما أكون حرّاً فيه ويعود أمره إلـيّ. فتبسّم الإمام الحسن عليه السلام وقال: إذاً اذهبوا وافعلوا كلّ ما يجب أن تقوموا به فـي حال إقامة الحدّ عليه! وأقام أمير المؤمنين عليه السلام الحدّ عليه بعد ذلك. فجاؤوا وقالوا: يا أمير المؤمنين، لمَ أقمت الحدّ على هذا الرجل؟ فقال: ليس الحدّ ممّا أملك أمره وحرّية التصرّف فيه. الحدّ حكمٌ إلهيّ. قلتُ لكم ما أكون حرّاً فيه أفعله لكم1. والحدّ ليس فـي يدي. هذا، وبنو أسد من أصدقاء أمير المؤمنين عليه السلام والمخلصين له. هكذا كانت حياة أمير المؤمنين عليه السلام .

 
ثمّة روايات كثيرة عن قضائه، وثيابه، ومعيشته، وأولاده. يقول الراوي: ذهبت فشاهدت الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام جالسين يأكلان الطعام، طعامهما كان خبزاً وخلّاً وبعض الخضار. فقلتُ لهما يا سيّداي أنتما أميران، أنتما العائلة الحاكمة، ابنا أمير المؤمنين وفي السوق كلّ هذه المأكولات "وفي الرحبة ما فيها"، في الرحبة - بقرب الكوفة - يباع كلّ شيء والناس تشتري، وأنتما ابنا الأمير عليه السلام ، أهذا هو طعامكما؟ فالتفتا إليه وقالا: "ما أغفلك عن أمير المؤمنين"2، أنت غافل عن أمير المؤمنين، اذهب وانظر إلى حياته! كان الإمام هكذا حتّى مع عائلته.
 
 
 

1- دعائم الإسلام، ج 2، ص 443.
2- المناقب، ج 2، ص 108.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

77

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  عثمان ومن الّذي دفع إلى قتله. أولئك الّذين كانوا قد جعلوا ادّعاء محبّة عثمان فيما بعد محور تحرّكاتهم، هنا طعنوه من الخلف، وكانوا يحرّكون الأمور من وراء الكواليس. سألوا عمرو بن العاص من الّذي قتل عثمان، فقال: فلانٌ - وذكر اسم أحد الصحابة - هو الّذي صنع سيفه، والآخر أحدّه، والثالث سمّه، وذاك طعنه به. الواقع هو هذا. 

هنا نجد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الواقعة يقوم بما يراه تكليفاً إلهياً وإسلامياً بكامل الإخلاص. فقد أرسل إلى بيت عثمان كلّاً من الحسن والحسين عليهما السلام ، هاتين الجوهرتين العظيمتين وبقية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، من أجل الدفاع عن عثمان. كان المخالفون يحاصرون بيت عثمان ويمنعون دخول الماء إليه، وكان أمير المؤمنين عليه السلام يرسل له الماء والطعام، ويفاوض مرّات ومرّات أولئك الّذين غضبوا على عثمان لعلّه يهدّئ من روعهم. وعندما قتلوا عثمان غضب أمير المؤمنين عليه السلام .
 
هنا أيضاً، نجد أنّه لا يمكن أن نشاهد في أمير المؤمنين عليه السلام أيّة حالة من الإنّية وحبّ الذات ومشاعر الأنا الّتي يمكن أن توجد في كل فرد من الناس. فبعد أن قُتل عثمان كان من الممكن لأمير المؤمنين عليه السلام أن ينزل إلى الميدان كوجهٍ وكشخصٍ انتهازيّ ومدّعٍ لخلاص المجتمع، ويقول أيّها الناس ها أنتم قد ارتحتم أخيراً وتخلّصتم من المشكلة، والناس سوف يحبّونه. لكنّه لم يفعل، فبعد حادثة عثمان لم يتحرّك أمير المؤمنين عليه السلام نحو السلطة والإمساك بالحكومة. كم هي عظيمة هذه الروح الكبرى: "دعوني والتمسوا غيري"1، أيّها الناس اتركوني واذهبوا إلى شخصٍ آخر. ولو اخترتم شخصاً آخر فإنّني سأكون له وزيراً وأعينه. هذه هي تصريحات أمير المؤمنين عليه السلام في تلك الأيّام. لم يقبل الناس ولم يتمكّنوا من اختيار أحدٍ سوى أمير المؤمنين للحكومة.
 
 

1- نهج البلاغة، خ 92.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

78

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 مرحلة الخلافة

 
لقد بايعت جميع الأقطار الإسلامية أمير المؤمنين عليه السلام . وحتّى ذلك الوقت، لم يكن قد جرى مثل هذه البيعة العامّة الّتي تمّت لأمير المؤمنين عليه السلام ، حيث إنّ جميع الأقطار الإسلامية وكلّ الكبراء والصحابة قد بايعوه، باستثناء الشام الّذي لم يبايعه. فقط عدّة قليلة، أقل من عشرة أشخاص، لم يبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام ، فأحضرهم إلى المسجد واحداً واحداً وسألهم لماذا لم تبايعوا - وكان من بين هؤلاء عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقّاص - فكان أن قدّم كلّ واحدٍ منهم عذراً، وقال شيئاً. بعض منهم عاد وبايع، وبعضٌ آخر لم يبايع مطلقاً - عددٌ قليلٌ جداً بعدد أصابع اليد الواحدة - فتركهم أمير المؤمنين عليه السلام . ولكن بقية الوجوه المعروفة كطلحة والزبير وغيرهما وغيرهم قد بايعوا أمير المؤمنين جميعاً، وقبل أن يبايعوه قال لهم: "واعلموا أنّي إن أجبتكم"، وهو يشير إلى أنّهم لو أصرّوا أن يمسك هو بالحكومة "ركبت بكم ما أعلم"1، فلا تتصوّروا أنّني سأراعي تلك الوجوه والشخصيات والهياكل القديمة والمشهورين والمعروفين، كلا، فلا تتصوّروا أنّني سأتّبع فلاناً وأقلّد فلاناً، أي أنّني سأديركم بحسب ما أعلم وما أشخّص وما أعرفه من الإسلام. وهكذا فقد أتمّ أمير المؤمنين عليه السلام الحجّة على الناس وقبل بالخلافة. كان من الممكن لأمير المؤمنين هنا، ولأجل حفظ المصالح ورعاية جوانب القضية وأمثالها، أن يتنازل ويجذب إليه القلوب، لكنّه وبكلّ قاطعية أصرّ على
 
 
 

1- نهج البلاغة، خ 92.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

79

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 الأصول والقيم الإسلامية بحيث إنّ كلّ هؤلاء الأعداء قد اصطفّوا في مقابله وكان أمير المؤمنين عليه السلام يواجه معسكراً مليئاً بالمال والشدّة والتزوير، ومعسكراً آخر فيه الشخصيّات الوجيهة والمعتبرة والمعروفة، ومعسكراً ثالثاً يضمّ المتظاهرين بالقداسة والتعبّد، لكنهم جاهلون بحقيقة الإسلام وروحه وتعاليمه ويجهلون شأنية أمير المؤمنين عليه السلام ومقامه ممن يتشبّثون بالعنف والقسوة وسوء الخلق. 

 
ميزان الحق والقيم الإسلامية
لقد قاتل أمير المؤمنين عليه السلام ثلاثة معسكرات بثلاثة خطوطٍ منفصلة، هم الناكثون والقاسطون والمارقون. وكلّ واحدة من هذه الوقائع تدلّ على تلك الروح الرفيعة للتوكّل على الله والإيثار والبعد عن الأنانيّة والإنّية، في أمير المؤمنين عليه السلام . وفي النهاية استُشهد على هذا الطريق، حتّى قيل بشأنه إنّ عدل عليّ عليه السلام قد قتله. لو لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام مريداً للعدالة، وعمد بدل ذلك إلى رعاية هذا وذاك، وتقديم الشأنية والمقام والشخصية على مصالح العالم الإسلامي لكان أكثر الخلفاء نجاحاً وقدرةً، ولما وجد له معارضاً. لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو ميزان الحقّ والباطل. ولهذا كان عليه السلام يتحرّك وفق جوهر التكليف دون أيّة ذرّة من تدخّل الأنا والمشاعر الشخصية والمنافع الذاتية، وقد تحرّك على هذا الطريق الّذي اختاره. هكذا كانت شخصية أمير المؤمنين عليه السلام . لهذا فإنّ عليّاً عليه السلام هو في الواقع ميزان الحقّ. هكذا كانت حياته عليه السلام ، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾. فلم يكن في الشهادة عظيماً فحسب، ولم يكن عند الممات ممّن يفدي نفسه فحسب، بل على مرّ حياته كان دائماً يقدّم نفسه في سبيل الله. (08/02/1368)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

80

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 أثبت أمير المؤمنين خلال هذه المدّة أنّ الأصول الإسلاميّة والقيم الإسلامية الّتي وُجدت في مرحلة عزلة الإسلام وفي مرحلة صغر المجتمع الإسلاميّ، هي قابلةٌ للتطبيق مثلما أنّها كذلك في مرحلة الرفاهية والتوسّع والاقتدار والتقدّم والازدهار الاقتصاديّ للمجتمع الإسلامي. ومهم جداً أن نلتفت إلى هذه النقطة. فلقد نزل الوحي الإلهيّ بالأصول الإسلامية، والعدالة الإسلامية، وتكريم الإنسان، وروح الجهاد، والبناء الإسلاميّ، والمرتكزات الأخلاقية والقيمية الإسلامية، فـي زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وتمّ تطبيقها من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فـي المجتمع الإسلامي ضمن الحدود المتاحة. ولكن كيف كان المجتمع الإسلاميّ فـي عهد الرسول؟ تأسّست القيم الإسلامية فـي بيئة صغيرة وضئيلة، إذ حتى عشر سنوات لم يكن سوى المدينة، وكانت مدينة صغيرة تضم بضعة آلاف من الناس، ثمّ فُتحت مكّة والطائف؛ وهي منطقة محدودة بثروات قليلة جدّاً، فالفقر كان شاملاً، والإمكانات الّتي كانت فـي متناول أيديهم ضئيلة جدّاً... 

مضت خمس وعشرون سنة على رحيل الرسول عن الدنيا. وقد ازدادت مساحة الدولة الإسلامية، خلال هذه المدّة، مئات الأضعاف، لا ضعفين أو ثلاثة أو عشرة. فيوم تسلّم أمير المؤمنين عليه السلام الحكم كانت الأرض التي تمتدّ من آسيا الوسطى حتّى شمال أفريقيا - أي مصر - داخلةً ضمن نطاق الدولة الإسلامية. أمّا الدولتان العظميان المجاورتان للدّولة الإسلامية فـي بداية الأمر - أعنـي إيران والروم - فقد تلاشت إحداهما نهائياً وهي الدولة الإيرانية، وصارت كافّة الأراضي الإيرانية بيد الإسلام. ودخلت أجزاء مهمّة من الأراضي الرومانية - بلاد الشام وفلسطين والموصل ومناطق أخرى - أيضاً فـي دائرة الإسلام. مثل هذه الرقعة الواسعة كانت بيد الإسلام يومذاك. إذاً توفّرت ثروات طائلة ولم يعد ثمّة فقر وعوز وشحّ طعام. كان الذهب رائجاً،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

81

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 والأموال وفيرة، واجتمعت ثروات طائلة، وأضحت بالتالـي الدولة الإسلامية ثريّة. الكثيرون تمتّعوا برفاه جاوز الحدود. لو لم يكن الإمام عليّ عليه السلام في البين، لربّما كان التاريخ سيحكم قائلاً إن المبادئ الإسلامية والقيم النبوية كانت جيّدة لفترة المدينة النبوية فقط، أي لذلك العهد الّذي تميّز بضآلة حجم المجتمع الإسلاميّ وفقره. أمّا بعد أن اتّسع المجتمع الإسلاميّ واختلط بالحضارات المختلفة حيث وفدت من إيران والروم ثقافات وحضارات شتّى إلى حياة الناس، وانضوت شعوب مختلفة تحت مظلّة المجتمع الإسلامي، فلا تبقى تلك المبادئ كافية ولا قادرة على إدارة البلد". وقد أثبت أمير المؤمنين عليه السلام ، طوال هذه السنوات الخمس، بممارساته وسيرته وأسلوبه فـي الحكم أنّ الأمر على العكس من ذلك؛ فتلك المبادئ نفسها الّتي كانت متألّقة في صدر النبوّة - ذات التوحيد، والعدل، والإنصاف والمساواة بين الناس - هي ممكنة التطبيق على يد خليفة قويّ كأمير المؤمنين عليه السلام . هذا شيء خلّده التاريخ. ومع أنّ هذا المنهج لم يستمرّ بعد أمير المؤمنين عليه السلام ، لكنّه أثبت أنّ الحاكم الإسلاميّ ومديري المجتمع والمسؤولين المسلمين إذا قرّروا وعزموا وكانوا أصحاب عقيدة راسخة لأمكنهم تطبيق نفس تلك المبادئ فـي عهد اتّساع رقعة الدولة الإسلامية وظهور ظروف جديدة ومتنوِّعة للحياة، حتّى ينتفع بها الناس... فمن الواضح أنّ إقامة العدالة الاجتماعية فـي مجتمع يضمّ عشرة أو خمسة عشر ألف نسمة فـي المدينة تختلف اختلافاً هائلاً عنها فـي مجتمع يضم عشرات الملايين أو مئات الملايين كما كان الحال في عهد أمير المؤمنين عليه السلام . وقد نهض أمير المؤمنين عليه السلام بهذه المهام.

 

 

 

 

 

 

89


82

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 عدالة الإمام علي عليه السلام 

نورد هنا نماذج من أعمال أمير المؤمنين عليه السلام تجلّت فـي كلمات هذا العظيم. وثمّة آلاف الأمثلة الأخرى فـي حياته. جاء الناس وأصرّوا وبايعوا، لكنّه لم يوافق. وازداد إصرار جميع الناس، من أكابر، وصغار، ورؤساء، وصحابة قدماء قالوا جميعاً: كلا، لن يكون غير عليّ بن أبـي طالب عليه السلام ولن يستطيع ذلك سواه. جاؤوا وأخذوا الإمام مصرّين. فقال الإمام عليه السلام : إذاً لنذهب إلى المسجد. ارتقى الإمام المنبر، وألقى خطبة أوضح فيها آراءه، فقال: الأموال الّتي استحوذ عليها الخواصّ والوجهاء من دون وجه حقّ سأعيدها إلى بيت المال أينما وجدتها. استطاع بعض الأشخاص خلال تلك السنوات مصادرة أموال من بيت المال لصالحهم. قال سأعيد كلّ هذه الأموال، لو وجدته قد تُزوّج به النساء حتّى لو وجدت أنّكم جعلتم تلك الأموال مهوراً لنسائكم، أو "مُلك به الإماء" واشتريتم بها الجواري لحريمكم "لرددته"1 وأعدته إلى بيت المال. ليعلم الناس والأكابر أنّ هذه هي طريقتي.
 
بعد أيّام بدأت المعارضات، وكان المستضعفون من الناس والطّبقة المضطَّهدة فـي المجتمع يتمنّون من الله أن يُتّبع مثل هذا المنهج، أمّا أصحاب النفوذ والمخاطبون الحقيقيّون بهذا الكلام فمن البديهيّ أن يسخطوا. فجلسوا وعقدوا اجتماعاً وقالوا ما هذا الّذي يريد عليّ صنعه. قام الوليد بن عقبة - وهو نفسه الّذي كان والي الكوفة في زمن عثمان - وجاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، نيابةً عنهم، فقال له يا عليّ إنّ لبيعتنا إياك شروطاً، "ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال فـي أيام عثمان"2، شرطنا هو أن لا تنال من الأموال الّتي حصلنا عليها وتترك لنا ما كسبناه خلال العهد
 
 
 

1- نهج البلاغة، خ 29.
2- بحار الأنوار، ج32، ص 19.



 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

83

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  الّذي سبقك. ومن بعد الوليد بن عقبة، جاءه طلحة والزبير. الوليد بن عقبة، بالطبع، يختلف عن طلحة والزبير. فالوليد بن عقبة كان فـي الحقيقة من حديثي العهد بالإسلام، وكانت عائلته ضدّ الإسلام ومعارضة للثورة وقد حاربت الإسلام. وبعد ذلك حين ساد الإسلام، فـي نهاية عهد النبيّ، دخل فـي الإسلام كغيره من بنـي أميّة. أمّا طلحة والزبير فكانا من السابقين في الإسلام ومن أعوان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المقرّبين. جاء طلحة والزبير أيضاً - وهما يومذاك من أكابر الإسلام ومن البقية الباقية لأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وتكّلما كلاماً فيه عتاب، منه قولهم: "إنّك جعلت حقّنا فـي القَسْم كحقّ غيرنا". فقد ساويت بيننا وبين غيرنا فـي تقسيم بيت المال. "وسوّيت بيننا وبين من لا يماثلنا"، ساويت فـي منح أموال بيت المال بيننا وبين من هم ليسوا مثلنا، فأيّ قسمة هذه؟ لماذا لا تقرّر امتيازات معيّنة؟ "من لا يماثلنا فـي ما أفاء الله تعالى بأسيافنا ورماحنا"1 هذه خيرات استُحصلت بأسيافنا. نحن الّذين رفعنا الإسلام، نحن الّذين بذلنا الجهود والمساعي، وإذا بك تساوينا بالجُدد والأعاجم ومن جاءوا من البلدان المفتتحة.

 
لم يسجل لنا التاريخ جواب أمير المؤمنين عليه السلام للوليد بن عقبة لكنّه أجاب الآخرين. صعد الإمام المنبر وأجابهم جواباً شديداً. قال بشأن قضية المساواة فـي تقسيم بيت المال: "فإنّ ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء"، فلست أنا من أسّس لهذه الطريقة وهذا المنهج "بل وجدتُ أنا وأنتما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكم بذلك"2 فأنا وأنتم كنّا قد شاهدنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بهذه الطريقة. لم أجئ بأسلوب جديد من عندي، إنّما أتّبع الفعل الّذي كان يأتي به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . أريد تكريس تلك القيم والقواعد الاعتقادية والسلوكية في
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج32، ص 21.
2- بحار الأنوار، ج32، ص 22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

84

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  المجتمع، في هذا العصر. وقد كرّسها الإمام عليّ عليه السلام وكان يفعل. وقد دفع أمير المؤمنين عليه السلام ثمن ذلك أيضاً فكان الثمن نشوب ثلاث معارك. تحرّك أمير المؤمنين عليه السلام ، ومن البديهيّ أنّه كان يرى لنفسه حقّ الخلافة. لكن هذا لم يحصل بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .

 
لم يتحرّك أبداً طيلة خمس وعشرين سنة من أجل الشيء الّذي كان يعلم أنّه حقّه. وكان يهدِّئ الّذين يريدون التحدّث بهذا. لم تصدر عنه إزاء تلك القضية ردود فعل على مدى خمس وعشرين سنة. ولكن تحمّل أمير المؤمنين عليه السلام ثلاث حروب: حرب الجمل، وحرب صفّين، وحرب النهروان، تجاه قضيّة - تبدو في الظاهر أهون من تلك القضية - هي قضية العدالة الاجتماعية، وإحياء المبادئ النبوية، وإعادة تشييد الصرح الإسلامي المتين الذي أرسى دعائمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . فكم كانت هذه القضية مهمّة بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام ؟ وهذا هو الإنجاز العظيم الّذي نهض به أمير المؤمنين عليه السلام . وله فـي هذا المجال كلمة أخرى، يقول فيها: "لا تمنعنّكم رعاية الحقّ لأحدٍ عن إقامة الحقّ عليه"1، أي أنّ الإنسان إذا كان مؤمناً ومجاهداً فـي سبيل الله وبذل جهداً كبيراً وخاض المعارك وأنجز أعمالاً كبيرة فستكون مراعاة حقّه واجبة. وأمّا إذا تعدّى هذا الشخص حدوده فـي حالة خاصة وضيّع حقّاً من الحقوق، فلا ينبغي التغاضي عن خطئه هذا بحجّة أعماله الحسنة السابقة، إذاً ولا بدّ من التمييز بين الأمور. إذا كان الإنسان صالحاً وذا قدر كبير وسابقة محمودة وجهود بذلها للإسلام والبلاد فهذا جيّد وحقوقه مقبولة ومحفوظة وينبغي أن تقدّر، ولكن إذا تعدّى وتجاوز، فإنّ مراعاة ذلك الحقّ ينبغي أن لا تؤدّي إلى غضّ الطرف عن المخالفة الّتي ارتكبها. هذا هو منطق أمير المؤمنين.
 
 
 

1- تصنيف غرار الحكم ودرر الكلم، ص 69.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

85

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 كان هناك شاعرٌ اسمه النّجاشيّ، هو من شعراء أمير المؤمنين عليه السلام ومدّاحيه، وصاحب أفضل القصائد فـي حرب صفّين وتحريض الناس ضدّ معاوية، ومن محبّي أمير المؤمنين عليه السلام وأحد الداخلين فـي حزبه، وأفعاله مشهورة بالإخلاص والولاية والسوابق، كان قد شرب الخمر فـي نهار شهر رمضان. حين علم أمير المؤمنين عليه السلام بالأمر قال إنّ حدّ الخمر معروف، آتوني به لإقامة الحدّ عليه. أقام أمير المؤمنين عليه السلام عليه حدّ الخمر أمام أعين الناس، ثمانين سوطاً. فجاءت عائلته وقبيلته إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقالوا: يا أمير المؤمنين، أرقت ماء وجوهنا. لقد كان هذا من أصحابك وأصدقائك - وبتعبيرنا المعاصر - كان من تيّارك. فقال أنا لم أفعل شيئاً، إنّه مسلم ارتكب مخالفة، فوجب عليه حدّ من حدود الله، فأقمت ذلك الحدّ. بالطبع، قال النّجاشيّ بعد أن جُلد من قبل عليّ عليه السلام : طالما كان الأمر كذلك، فسأذهب إلى معاوية وأنظم أشعاري به. فقام وفارق أمير المؤمنين عليه السلام والتحق بمعسكر معاوية. فلم يقل أمير المؤمنين عليه السلام أنّ النجاشيّ قد تركنا وهذه خسارة مؤسفة، لنحاول إبقاءه هنا، كلّا، إنْ ذهب، فليذهب! بالطبع، من الأفضل كان أن يبقى. هذا هو منطق أمير المؤمنين عليه السلام ومنهجه. قال الإمام عليه السلام لأصحاب النجاشي: "فهل هو إلاّ رجل من المسلمين انتهك حرمة من حُرَم الله فأقمنا عليه حدّاً كان كفّارته"1. أقمنا عليه الحدّ فسقط عنه ذنبه.

 
ورجل من قبيلة بنـي أسد - كان من أقارب أمير المؤمنين عليه السلام - وجب عليه حدٌّ من الحدود. فقال نفرٌ من محبّي أمير المؤمنين عليه السلام ومن رجال قبيلة ذلك الشخص: لنذهب إلى أمير المؤمنين عليه السلام ونعالج المشكلة بنحو من الأنحاء. فجاؤوا أوّلاً إلى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ليكون واسطتهم
 
 
 

1- الحياة، ترجمة أحمد آرام، ج 2، ص 714.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

86

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 وقصّة زينب الكبرى والاستعارة من أبـي رافع مشهوره. وكذلك قصّة عقيل الّذي جاء إلى الإمام وطلب شيئاً: "صاع من بُرّ"، أراد من القمح مقداراً أكثر من حصّته. ثمّ أخذ الإمام تلك الحديدة المحمّاة وقرّبها منه - طبعاً لم يضعها عليه - وهدّده ولم يقبل طلبه. جاءه عبد الله بن جعفر - ابن أخيه وصهره، زوج السيّدة زينب - وقال: يا أمير المؤمنين ليس فـي يدي شيء، وأنا مضطرّ لبيع بعض أدوات منزلي. فساعدني ببعض شيء، فلم يوافق الإمام عليه السلام وقال: إلاّ إذا قلت لـي اذهب يا عمّ واسرق واعطني من مال الناس. حدّد أمير المؤمنين عليه السلام معيار الحكم فـي مجتمع متطوّر، كبير، متحضّر، وثريّ، كالّذي كان فـي زمانه على أساس ما كان فـي زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . كلّ شيء كان قد تطوّر. أراد أمير المؤمنين عليه السلام بسلوكه إثبات أنّه بالإمكان إحياء تلك المبادئ حتّى في أحلك الظروف. هذا هو العمل الكبير الّذي قام به أمير المؤمنين عليه السلام . مبدأ الإيمان، والعدالة، والجهاد، وبناء الناس، والإدارة الكفاءة اللائقة المؤمنة - وحياة أمير المؤمنين عليه السلام زاخرة بأحداث وأمور اشتُهر بها على مدى سنوات على شكل قصص وروايات وأحاديث له عليه السلام موزّعة على أبواب عدّة - كلّها دلائل على هذه الحقيقة، وخلاصتها أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يبرهن للعالم أنّ هذه المبادئ الإسلامية ممكنة التطبيق في كلّ الظروف. وهذا هو الواقع. ليست المبادئ الإسلامية في شكل ثياب أمير المؤمنين عليه السلام بحيث إذا كان يرتدي مئزراً أو قميصاً علينا اليوم ارتداء نفس الملابس. المبادئ الإسلامية هي العدالة، والتوحيد، وإنصاف الناس، واحترام حقوقهم، ومتابعة شؤون الضعفاء، والوقوف بوجه الجبهات المعادية للإسلام والدين، والإصرار على ركائز الحقّ والإسلام والدفاع عن الحقّ والحقيقة. هذه مفاهيم ممكنة التطبيق فـي جميع العصور.

 

 

 

 

 

95 


87

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 بالطبع، حينما نقول هذا اليوم إنّما نتحدّث عن القلّة، فمن ذا الّذي بوسعه حتّى أن يتصوّر التشبّه بأمير المؤمنين عليه السلام ؟ كلّا، لا أحد يمكنه التشبّه بأمير المؤمنين عليه السلام . الإمام السجّاد عليه السلام وهو حفيد أمير المؤمنين عليه السلام وله مقام العصمة، حين قيل له إنّك كثير العبادة قال أين عبادتنا من عبادة عليّ عليه السلام ؟ أي أنّ الإمام العابد السجّاد يقول ليس بالإمكان مقارنتي بعليّ عليه السلام . وبين الإمام السجّاد عليه السلام وخيرة العُبّاد والزهّاد في زماننا آلاف الفراسخ. أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى النّموذج والقمّة واتّجاه الحركة وحدّد الملاك، فلنصل أينما استطعنا الوصول. النظام الإسلاميّ نظام العدل والإنصاف وخدمة الناس واحترام حقوق الإنسان ومجابهة الظلم الّذي يمارسه القويّ ضدّ الضعيف. هذه هي مشكلات البشرية المهمّة على امتداد التاريخ. ابتُليت البشريّة بهذه المشكلات دائماً ولا تزال تعاني هذا الابتلاء. لاحظوا اليوم كيف يدّعي العتاة والأقوياء فـي العالم أنّ العالم كلّه لهم. تعاني الشعوب الصفعات وضنك العيش بسبب هذا التعسّف. إنّ منطق الإسلام ومنطق أمير المؤمنين عليه السلام ومنطق الحكومة العلوية مجابهة هذه الأشياء، سواء داخل المجتمع إذا أراد قويّ ابتلاع ضعيف، أم على المستوى العالميّ والدوليّ.(15/08/1383)

 

 

 

 

 

 

96


88

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 القدرة والمظلومية والنصر


لقد التأمت في شخصية وحياة وشهادة هذا الرجل الفذّ ثلاثة عناصر تبدو غير منسجمة تماماً مع بعضها بعضاً في الظاهر، وتلك العناصر الثلاثة هي عبارة عن: القوّة، والمظلومية، والانتصار. 

فقوّته تكمن في إرادته الصلبة وعزمه الراسخ، وفي تسيير دفّة الشؤون العسكرية في أعقد المواقف، وفي هداية العقول نحو أسمى المفاهيم الإسلامية والإنسانية، وتربية وإعداد شخصيّات كبرى من قبيل مالك الأشتر وعمّار وابن عباس ومحمّد بن أبي بكر وغيرهم، وشقّ مسار مميّز في تاريخ الإنسانية. ويتمثّل مظهر قوّته في اقتداره المنطقيّ واقتداره في ميادين الفكر والسياسة، وفي اقتدار حكومته وشدّة ساعده. ليس ثمّة ضعف في شخصية أمير المؤمنين عليه السلام في أيّ جانب من جوانبها. ويعتبر في الوقت ذاته من أبرز الشخصيات المظلومة في التاريخ. وقد كانت مظلوميّته في كلّ جوانب حياته؛ لقد ظُلم في أيّام شبابه، حيث تعرّض للظلم حينذاك من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وظُلِم في سنوات كهولته وفي عهد خلافته واستُشهد مظلوماً، وظلّ من بعد استشهاده يُسبّ على المنابر على مدى سنوات طوال، وتُنسب إليه شتّى الأكاذيب.

لدينا في جميع الآثار الإسلامية شخصيّتان أُطلقت عليهما صفة "ثار الله". ولا توجد في اللغة الفارسية كلمة معادلة تماماً لكلمة "الثأر" كما في اللغة العربية؛ فعندما يُقتل شخص ظلماً فأسرته هي وليّ دمه، وهذا ما
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

89

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  يُسمّى بالثأر، ولأسرته حقّ المطالبة بثأره. أما ما يُسمّى بـ "ثار الله" فهو تعبير قاصر وناقص لكلمة الثأر ولا يوصل المعنى المطلوب. فالثأر معناه حقّ المطالبة بالدّم. فإذا كان لأسرةٍ ما ثأر، فلها حقّ المطالبة به. وورد في التاريخ الإسلاميّ اسما شخصيّتين، وليّ دمهما الله، فهو الّذي يطلب بثأرهما، أحدهما الإمام الحسين عليه السلام ، والآخر هو أبوه أمير المؤمنين عليه السلام : "يا ثار الله وابن ثاره"1، أي أنّ المطالب بدم أبيه هو الله تعالى أيضاً.

 
أمّا العنصر الثالث الّذي طبع حياة الإمام عليّ عليه السلام فهو النصر؛ حيث تغلّب في حياته على جميع التجارب العصيبة الّتي فُرضت عليه؛ ولم تستطع جميع الجبهات، الّتي سنذكرها لاحقاً، والّتي فتحها ضدّه أعداؤه أن تنال منه وإنّما هزمت كلّها أمامه. ومن بعد استشهاده أخذت حقيقته الناصعة تتجلّى وتتفتّح يوماً بعد آخر أكثر ممّا كانت عليه في أيّام حياته. ففي عالم اليوم، ليس العالم الإسلاميّ وحده وإنّما العالم كلّه، هناك أناس كثيرون لا يؤمنون حتّى بالإسلام، إلا أنّهم يؤمنون بعليّ بن أبي طالب عليه السلام كشخصيّة تاريخيّة لامعة. وهذا هو جلاء ذلك الجوهر الوهّاج، وكأنّ الله يكافئه على ما لحق به من ظلم. فلا بدّ أنّ يكون لتلك المظلومية ولذلك الكبت والضغط والتعتيم على ضوء الشمس، وتلك التّهم الشنيعة، وما واجهها به من صبر، ثواباً عند الله، وثوابها هو أنّك لا تجد على مدى التاريخ شخصيّة، على هذه الدرجة من الإشراق ونالت القبول بكلّ هذا الإجماع. ولعلّ أفضل الكتب الّتي سُطّرت حتّى اليوم بحقّ أمير المؤمنين عليه السلام ، وأكثرها ولهاً وحبّاً، هي تلك الّتي كتبها أشخاص غير مسلمين. وأذكر أسماء ثلاثة كتّاب مسيحيّين كتبوا بوله حول أمير المؤمنين عليه السلام كتباً جديرة بالثناء حقّاً. وهذا الحبّ نشأ
 
 
 

1- الكافي، ج 4، ص 576.


 
 
 
 
 
 
 
 
98

90

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  منذ اليوم الأوّل، أي من بعد استشهاده، حيث تكالب الجميع على الإساءة إليه والانتقاص منه، من الطغمة الّتي كانت تحكم الشام ومن كان يدور في فلكها، وممّن امتلأ غيظاً من سيف أمير المؤمنين ومن عدله. فكانت هذه القضية قد اتّضحت منذ ذلك الوقت، وأنا أذكر ها هنا مثالاً واحداً على ذلك: 

انتقص ابن عبد الله بن عروة بن الزبير من أمير المؤمنين عليه السلام ذات يوم، أمام أبيه عبد الله بن عروة بن الزبير. وكان آل الزبير كلّهم ضدّ عليّ، إلا واحداً منهم وهو مصعب بن الزبير الّذي كان رجلاً شجاعاً كريماً، وهو الّذي دخل لاحقاً في صراع مع المختار الثقفيّ في الكوفة، ومن بعده مع عبد الملك بن مروان، وهو زوج سكينة، أي أنّه أوّل صهر للإمام الحسين عليه السلام ، فكان آل الزبير كلّهم خصوماً لأمير المؤمنين عليه السلام أباً عن جدّ، باستثنائه. وهذا ما يدركه الإنسان من خلال دراسته للتاريخ. وبعدما سمع عبد الله ذلك الانتقاص على لسان ابنه قال جملة ليست حيادية كثيراً، إلا أنهّا تنطوي على نقطة مهمّة وهي: "والله يا بُنيّ، ما بنى الناس شيئاً قطّ إلّا هدمه الدين، ولا بنى الدين شيئاً فاستطاعت الدنيا هدمه". أي أنّهم يحاولون عبثاً هدم اسم أمير المؤمنين عليه السلام القائم اسمه على أساس الدين والإيمان، "ألم ترَ إلى عليّ كيف تُظهر بنو مروان من عيبه وذمّه؟ والله لكأنّهم يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء. وأما ترى ما يندبون به موتاهم من التأبين والمديح؟ والله لكأنّما يكشفون به عن الجيف"1. لعلّ هذه الكلمة قيلت بعد نحو ثلاثين سنة من شهادة أمير المؤمنين عليه السلام ، أي أنّه عليه السلام وعلى الرغم من فداحة الظلم الّذي نزل به، أضحى هو المنتصر في حياته وفي التاريخ وفي ذاكرة الإنسانية.
 
 
 
 

1- نثر الدر، ج3، ص 186.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

91

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 ويمكن تلخيص قضية قوّة أمير المؤمنين إلى جانب مظلوميته الّتي انتهت إلى هذا الحال في ما يلي: 

 
القاسطون
لقد اصطفّت ضدّ عليّ عليه السلام في أيّام حكومته الّتي استمرّت أقلّ من خمس سنوات، ثلاثة تيارات هي: القاسطون، والناكثون، والمارقون؛ إذ ينقل عنه عليه السلام السنّة والشيعة أنّه قال: "أُمرت أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين"1. وهذه التسمية هو الّذي أطلقها على تلك الفئات الثلاث؛ فالقاسطون بمعنى الظالمين، لأنّ الفعل قسط حينما يأتي مجرّداً: قَسَطَ يقسِط، بمعنى جار يجور، وظلم يظلم. وحينما يأتي على صيغة الثلاثي المزيد على وزن أفعل: أقسط يُقسط، فمعناه العدل والإنصاف. وعلى هذا، إذا استعمُلت كلمة القسط على وزن إفعال، تعني العدل، وإذا جاءت على صيغة قَسَطَ يقسِط فهي على عكس ذلك؛ أي بمعنى الظلم والجور. فهو عليه السلام سمّاهم الظالمين. ولكن من هم أولئك القاسطون؟ القاسطون فئة دخلت الإسلام ظاهريّاً لمصالحها الخاصّة ولم تكن تعترف بالحكومة العلويّة أساساً. ولم تُجدِ نفعاً كلّ الأساليب الّتي انتهجها معها أمير المؤمنين عليه السلام . والتفّت تلك الفئة حول محور بني أميّة الّذي كان معاوية بن أبي سفيان - والي الشام آنذاك - أبرز شخصيّة فيه، ثمّ يأتي من بعده مروان بن الحكم والوليد بن عقبة. شكّل هذا المحور جبهة رفضت التفاهم والاتّفاق مع أمير المؤمنين عليه السلام .
 
ومع أنّ المغيرة بن شعبة وعبد الله بن عبّاس وغيرهما أشاروا على أمير المؤمنين عليه السلام منذ أوّل حكومته بالإبقاء عليهم في مناصبهم لبعض الوقت، غير أنّه أبى عليهم ذلك، فذهبت بهم الأوهام إلى أنّه لم يحسن اتّخاذ الموقف
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج 44، ص 36.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

92

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  السياسيّ المناسب. ولكنّهم هم الّذين كانوا في غفلة كما برهنت الأحداث اللاحقة؛ لأنّ معاوية لم يأتلف مع أمير المؤمنين عليه السلام رغم كلّ الأساليب الّتي اتّبعها عليه السلام لأجل هذه الغاية. ولم يكن ذلك النهج ممّا ترتضيه حكومة كالحكومة العلويّة، على الرغم من تحمّل السابقين لبعض هؤلاء. 


كان قد مضى أقلّ من ثلاثين سنة منذ أن أسلم معاوية وإلى أن هبّ لمحاربة أمير المؤمنين عليه السلام . وكان هو وأذنابه قد حكموا الشام سنوات طويلة وبسطوا نفوذهم فيها وأسّسوا لهم قاعدة واسعة هناك. ولم تكن الأحوال آنذاك كما كانت عليه في الأيّام الأولى الّتي كان بالإمكان أن يقال لهم فيها - إذا ما أظهروا الخلاف - إنّكم دخلتم الإسلام توّاً، ولا يحقّ لكم الخلاف. فهم كانوا قد ثبّتوا لهم قدماً عند ذاك. إذاً كان هذا التيّار يرفض الحكومة العلويّة جملة وتفصيلاً، ويرنو إلى نمط آخر من الحكم يكون زمامه بيده، وهو ما ثبت عنهم فيما بعد وذاق العالم الإسلاميّ مرارة حكمهم. فهذا معاوية نفسه، الّذي كان في عهد صراعه مع أمير المؤمنين عليه السلام يُظهر الودّ والمحبّة لبعض الصحابة، قد أبدت حكومته فيما بعد أسلوباً في غاية العنف والشدّة حتّى انتهى بها الحال إلى عهد يزيد وواقعة كربلاء، ومن بعده إلى زمن مروان وعبد الملك والحجّاج بن يوسف الثقفيّ ويوسف بن عمر الثقفيّ الّذين يُعدّون من جملة نتائج تلك الحكومة وثمارها. ومعنى هذا أنّ الحكومات الّتي يهتزّ التاريخ لذكر جرائمها - كحكومة الحجّاج على سبيل المثال - كان معاوية هو الّذي أرسى أسسها وحاربه أمير المؤمنين عليه السلام من أجلها. فقد كانت غايتهم معروفة منذ البداية، إذ إنّهم كانوا يبتغون حكومة دنيوية محضة تدور في فلك ذواتهم ومصالحهم الذاتية؛ وهي المظاهر الّتي شاهدها الجميع في حكومة بني أميّة.

ولا نودّ الدخول هنا في أيّ بحث عقائديّ أو كلاميّ. والأمور الّتي نعرضها 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
1102

93

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 هي من صلب التاريخ، وليس تاريخ الشيعة طبعاً، وإنّما تاريخ "ابن الأثير" و"ابن قتيبة" وما شابه ذلك. وهي نصوص مدوّنة ومحفوظة، وتدخل في عداد الحقائق المسلّم بها وليس في إطار الاختلافات الفكرية بين الشيعة والسنّة.


الناكثون
الجبهة الثانية الّتي حاربت أمير المؤمنين عليه السلام هي جبهة الناكثين. والناكث هو الناقض، والمراد به هنا ناقض البيعة. وهذه الفئة بايعت أمير المؤمنين عليه السلام في البداية إلا أنّها نقضت البيعة فيما بعد ونكثتها. وكان أفراد هذه الفئة - على العكس من الفئة الأولى - مسلمين ملتزمين، وفي الخندق الموالي. إلا أنّ ولاءهم واعترافهم بحكومة عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان منوطاً بإعطائهم حصّة مقبولة فيها، والتشاور معهم ومنحهم المناصب والمسؤوليات الحكومية مع عدم التعرّض لما في أيديهم من ثروات وعدم السؤال عن مصادرها. ويمكن ملاحظة مدى ضخامة الثروات الّتي خلّفها أمثال هؤلاء بعد موتهم. إذاً، كانت هذه الفئة ترتضي حكم أمير المؤمنين عليه السلام ولكن بشرط عدم المساس بمثل هذه الأمور، وأن لا يُقال لأحدهم من أين لك هذه الثروة؟ وكيف حصلت عليها؟ وما إلى ذلك. ولهذا السبب بايع أكثرهم منذ البداية، في حين أنّ بعضاً آخر لم يبايع؛ فسعد بن أبي وقّاص لم يبايع منذ البداية، إلا أن طلحة والزبير وأكابر الصحابة وغيرهم بايعوا أمير المؤمنين عليه السلام وأسلموا له القيادة، بيد أنّهم أدركوا بعد مضيّ ثلاثة أو أربعة أشهر عدم إمكانية الانسجام مع هذه الحكومة الّتي لا تفرّق في تعاملها بين القريب والبعيد، ولا ترى لذاتها ولا لأفراد أسرها أيّ امتياز، ولا تقرّ بأيّ امتياز للسابقين في الإسلام - وإن كان أمير المؤمنين عليه السلام نفسه أوّلهم إسلاماً - ولا تحابي أحداً في تطبيق الأحكام الإلهية. ولهذه الأسباب جنّدوا أنفسهم لمعارضة هذه الحكومة وتسبّبوا في 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

94

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 وقوع معركة الجمل الّتي كانت فتنة حقّاً، وقُتل في هذه المعركة عددٌ كبيرٌ من المسلمين، وانتهت المعركة بانتصار أمير المؤمنين عليه السلام وإعادة الأمور إلى نصابها. وهذه هي الجبهة الثانية الّتي شغلت أمير المؤمنين عليه السلام ردحاً من الزمن.


المارقون
أما الجبهة الثالثة فكانت جبهة المارقين، والمارق بمعنى الخارج والهارب. وقيل إنّهم سمّوا بالمارقين لخروجهم من الدين كخروج السهم من القوس. وكانت هذه الفئة متمسّكة بظواهر الدين، ويكثرون من التبجّح باسم الدين. وهؤلاء هم الخوارج الّذين وضعوا أسسهم الفكرية على أساس فهم مغلوط للدين - وهي ظاهرة خطيرة طبعاً - ولم يأخذوا الدين عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام الّذي كان مفسّراً للقرآن وعالماً بالكتاب. أمّا تكتّلهم أو ما يُسمّى بالاصطلاح بالمعاصر "تحزّبهم" فكان يستلزم سياسة معيّنة، وكانت هذه السياسة توجّه من مكان آخر. والسّمة البارزة الّتي كانت تميّز أعضاء هذه الفئة هي أنّك لا تكاد تتلفّظ بكلمة حتّى يسارع أحدهم إلى الإتيان بآية من القرآن، وكانوا كثيراً ما يقرؤون أثناء صلاةِ جماعةِ أمير المؤمنين عليه السلام آيات معرّضين به، أو يقومون عند منبره ويقرؤون آية فيها تعريض يقصدونه بها، وكان شعارهم "لا حكم إلّا لله"، بمعنى أنّنا لا نعترف بحكومتك، ونحن أتباع حكومة الله! هذه الفئة، الّتي كان ظاهر أمرها على هذه الشاكلة، كان تنظيمها واتّجاهها السياسيّ يجري وفقاً لآراء وتوجيهات كبار القاسطين والشخصيّات البارزة في حكومة الشام - أي عمرو بن العاص ومعاوية - إذ كانت لهذه الفئة علاقات بأولئك الأشخاص؛ فالأشعث بن قيس، كما يشير الكثير من القرائن. كان رجلاً غير نزيه. واتّبعت هذه الفئة طائفة كبيرة من البسطاء فكريّاً. إذاً،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

95

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  فالفئة الثالثة الّتي جابهت أمير المؤمنين عليه السلام - وانتصر عليها طبعاً - هي فئة المارقين الّتي وجّه لها ضربة قاصمة في معركة النهروان. ولكن كان لهم وجود في المجتمع، وفي ختام المطاف كان استشهاده على أيديهم.


ينبغي أن لا يُشتبه في فهم الخوارج، فهنالك من يصف الخوارج بالتحجّر والتنسّك الجامد، ولكن المتنسّك يتّصف بالعزلة والانطواء على صلاته ودعائه، وهذا المعنى لا يصدق على الخوارج، لأنّ الخوارج عناصر متمرّدة تثير الأزمات، ولها وجود فاعل في الساحة، وتشنّ حرباً ضدّ عليّ عليه السلام ، ولكن أساس عملها خاطئ، وحربها خاطئة، وأساليبها مرفوضة، وغايتها باطلة. هذه هي الفئات الثلاث الّتي جابهت أمير المؤمنين.

الفرق بين حكومة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحكومة علي عليه السلام 
الفارق الأساس بين أمير المؤمنين عليه السلام في عهد حكومته، وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أيّام حياته وعهد حكومته هو أنّ الخنادق كانت في عهد الرسول مشخّصة ومتميّزة تماماً؛ خندق الإيمان وخندق الكفر. أمّا المنافقون فكثيراً ما كانت الآيات القرآنية تشير إليهم وتحذّر منهم، وتقوّي صفوف المؤمنين في مواجهتهم، وتضعّف من شوكتهم. أي أنّ كلّ شيء كان في النظام الإسلاميّ في عهد الرسول واضحاً تمام الوضوح، وكانت الصفوف مفروزة بشكل صريح؛ فطائفة على الجاهلية والكفر والطاغوت، وأخرى على الإيمان والإسلام والتوحيد. ومن الطبيعيّ أنّ كلّ واحدة من هاتين الطائفتين كانت تضمّ صنوفاً شتّى من الناس، لكن الصفوف كانت مميّزة وواضحة كلّ الوضوح. أمّا في عهد أمير المؤمنين عليه السلام فكانت المشكلة الكبيرة في تداخل الصفوف والخنادق؛ وهذا هو السبب الّذي جعل للفئة الثانية - أي الناكثين - وضعاً مقبولاً ومبرّراً. وكان كلّ مسلم يتردّد كثيراً في محاربة شخصيّات من أمثال طلحة أو الزبير؛
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

96

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  فالزبير هو ابن عمّة الرسول وكان من الشخصيّات البارزة والمقرّبة إليه، حتّى أنّه بعد عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان ممّن اعترضوا على السقيفة دفاعاً عن أمير المؤمنين عليه السلام ، ولكن الأمور بخواتيمها. نسأل الله أن يجعل عاقبتنا إلى خير. فقد يؤثّر حبّ الدنيا ومظاهر الحياة في بعض الناس إلى درجة تجعل المرء يشكّ حتّى في الخواصّ، فما بالك بالعوام. وعلى كلّ الأحوال، كانت الظروف آنذاك عصيبة حقّاً.

 
ولا بدّ أنّ الناس الّذين صمدوا مع أمير المؤمنين عليه السلام وحاربوا إلى جانبه كانوا على قدرٍ كبير من البصيرة. والشاهد على هذا قول أمير المؤمنين عليه السلام : "لا يحمل هذا العلم إلّا أهل البصر والصبر"1. فلا بدّ من توفّر البصيرة بالدرجة الأولى. ويُستدّل من هذه التداخلات على طبيعة المشاكل الّتي واجهت أمير المؤمنين عليه السلام ، وعلى الأساليب الملتوية الّتي اتّبعها الناس الّذين حاربوه. ففي صدر الإسلام كان هناك أفكار خاطئة كثيرة تُطرح في الساحة، ولكن كانت تنزل آية قرآنية تفنّدها بصراحة؛ سواء وقتما كان النبيّ في مكّة أم في المدينة؛ فسورة البقرة - على سبيل المثال - وهي سورة مدنية، عندما ينظر المرء فيها يراها حافلة بصور من التحدّيات والاشتباكات بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمنافقين واليهود، حتّى أنّها تناولت التفاصيل الجزئية واستعرضت الأساليب الّتي كان يتّبعها يهود المدينة في إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسياً، ومنها ﴿لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا﴾2 وما شابه ذلك. وجاءت أيضاً سورة الأعراف، وهي سورة مكّية، زاخرة بمحاربة الخرافات وكُرّس فصل منها للحديث عن تحريم وتحليل أنواع اللحوم، في مقابل التحليل والتحريم الزائف الّذي اصطنعه الناس لأنفسهم يومذاك: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا 
 
 
 

1- نهج البلاغة، خ 173.
2- سورة البقرة، الآية: 104.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

97

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

 وَمَا بَطَنَ﴾1. هذه هي المحرّمات الحقيقية وليست تلك الّتي اصطنعتموها أنتم لأنفسكم من أمثال البحيرة والسائبة وما شاكل ذلك. وكان القرآن يحارب هذه الأفكار صراحة. أمّا في عهد أمير المؤمنين عليه السلام ، فقد كان أعداؤه يستغلّون تلك الآيات القرآنية. وهذا ما صعّب كثيراً من مهمّة أمير المؤمنين عليه السلام . لقد قضى عليه السلام مدّة خلافته القصيرة في أمثال هذه المصاعب والمعضلات.

 
وفي مقابل هؤلاء كانت جبهة عليّ نفسه، وهي جبهة قوية حقّاً، وفيها رجال كعمّار ومالك الأشتر وعبد الله بن عباس ومحمّد بن أبي بكر وميثم التمّار وحجر بن عديّ، كانوا شخصيّات مؤمنة ذوي بصيرة ووعي، وكان لهم دور مؤثّر في توعية الناس الآخرين. فكان من جملة المواقف الجميلة في عهد أمير المؤمنين - ويُعزى جمالها طبعاً إلى الجهود الطيّبة لهؤلاء الأكابر، إلا أنّها في الوقت ذاته كانت مريرة بسبب ما لحقهم من جرّائها من عناء وعذاب - هو مسيرهم نحو الكوفة والبصرة من بعد ما هبّ طلحة والزبير وغيرهما واستولوا على البصرة وأرادوا المسير منها نحو الكوفة، حيث أرسل أمير المؤمنين عليه السلام الإمام الحسن عليه السلام وبعض هؤلاء الأصحاب، وكان لهم مع الناس في المسجد مداولات وأحاديث ومحاجّات تُعتبر من المواقف المثيرة وذات المغزى العميق في تاريخ الإسلام. ولهذا السبب يُلاحظ أنّ الهجمات الأساس لأعداء أمير المؤمنين عليه السلام وُجّهت صوب هذه الشخصيّات، ضدّ مالك الأشتر، وضدّ عمار بن ياسر، وضدّ محمّد بن أبي بكر، وضدّ كلّ من وقف إلى جانب أمير المؤمنين عليه السلام منذ البداية وأثبتوا صلابة إيمانهم وسلامة بصيرتهم. ولم يتورّع الأعداء عن كيل أنواع التّهم لهم والسعي لاغتيالهم. ولهذا قضى أكثرهم شهداء؛ فاستشهد عمّار في الحرب، واستشهد محمّد بن أبي بكر بتحايل أهل الشام، وكذا استشهد مالك الأشتر بحيلة من أهل الشام.
 
 
 

1- سورة الأعراف، الآية: 33.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

98

الفصل الثالث: الإمام علي عليه السلام

  وبقي البعض الآخر، ولكنّهم عادوا واستشهدوا على نحو قاس وفجيع.


هذه هي الظروف الّتي عاشها أمير المؤمنين عليه السلام في حياته وفي عهد حكومته. ولو أردنا الخروج بنتيجة ملخّصة عنها لقلنا إنّها كانت حكومة قويّة ولكنّها في الوقت ذاته مظلومة ومنتصرة؛ بمعنى أنّه استطاع قهر أعدائه في أيّام حياته، واستطاع من بعد استشهاده مظلوماً أن يتحوّل إلى شعلة وهّاجة على مدى تاريخ الإنسانية. ولا شكّ في أنّ المرارة الّتي ذاقها أمير المؤمنين عليه السلام خلال هذه الفترة تُعتبر من أشدّ وأصعب المحن في التاريخ.(18/10/1377)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

99

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

 الفصل الرابع:




السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام


المكانة المعنوية للزهراء  عليها السلام .
حياتها عليها السلام  الجهادية والسياسية.
حياتها عليها السلام  العلمية والعبادية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

100

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

 المكانة المعنوية للزهراء عليها السلام

 
الصابرة الممتحنة
إنّ فيوضات السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام لا تنحصر بمجموعة صغيرة تُحسب كمجموعة محدودة في مقابل مجموعة الإنسانية. لو أنّنا نظرنا بنظرة واقعية ومنطقية، فإنّ البشرية مرهونة لفاطمة الزهراء عليها السلام ، وليس هذا جزافاً، إنّها حقيقة، كما أنّ البشرية مرهونة للإسلام والقرآن ولتعاليم الأنبياء عليهم السلام والنبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم . وقد كان هذا الأمر دوماً على مرّ التاريخ وهو اليوم كذلك، وسوف يزداد تألّق نور الإسلام فاطمة الزهراء وسوف تتلمّس البشرية ذلك. ما لدينا من تكليف ووظيفة في هذا المجال، هو أن نجعل أنفسنا لائقين للانتساب إلى هذه العترة. وبالطبع إنّ الانتساب لعترة الرسالة وأن نكون من جملة التابعين لهم والمعروفين بولايتهم أمرٌ صعبٌ، حيث نقرأ في الزيارة أنّنا أصبحنا معروفين بمحبّتكم، وهذا ما يلقي على كاهلنا تكليفاً مضاعفاً.
 
إنّ هذا الخير الكثير الّذي أعطاه الله تعالى في سورة الكوثر المباركة كبشارة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وقال ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾1، حيث إنّ تأويله هو فاطمة الزهراء عليها السلام ، في الحقيقة هو مجمع جميع الخيرات الّذي سوف ينزل يوماً بعد يوم من منبع الدين النبويّ على كلّ البشرية والخلائق. لقد سعى الكثيرون من أجل إخفائه وإنكاره ولكنّهم لم يتمكّنوا ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾2.
 
 
 

1- سورة الكوثر، الآية: 1.
2- سورة الصف، الآية: 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

101

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

 يجب علينا أن نقرّب أنفسنا إلى مركز النّور هذا، وإنّ لازم وخاصية هذا التقرّب هو التنوّر. يجب علينا أن نصبح نورانيّين من خلال العمل، لا بواسطة المحبّة الفارغة، العمل الّذي تمليه علينا هذه المحبّة وتلك الولاية وذاك الإيمان ويطلبه منّا، بهذا العمل يجب أن نصبح من هذه العترة والمتعلّقين بها. ليس من السهل أبداً أن يصير المرء قنبراً في بيت عليّ عليه السلام ، ليس من السهل أن يصبح الإنسان "سلمان منّا أهل البيت"1. نحن مجتمع الموالين وشيعة أهل البيت عليهم السلام نتوقّع من هؤلاء العظماء أن يعتبروننا منهم ومن حاشيتهم. "فلانٌ من ساكني تربة عتباتنا"، قلوبنا تريد أن يحكم علينا أهل البيت بهذه الطريقة وليس هذا الأمر سهلاً، ولا يحصل بمجرّد الادّعاء. إنّ هذا يستلزم العمل والإيثار والتشبّه والتخلّق بأخلاقهم.

انظروا إلى هذه السيدة الجليلة في أيّ سنٍّ حازت على كلّ هذه الفضائل، في أيّ عمرٍ برزت فيها كلّ هذه التألّقات، في عمرٍ قصير لم يتجاوز 18 سنة، 20 سنة، 25 سنة بحسب اختلاف الروايات. وكلّ هذه الفضائل لا تحصل عبثاً، "امتحنك الله الّذي خلقك قبل أن يخلقك، فوجدك لما امتحنك صابرة"2، فإنّ الله تعالى قد امتحن زهراء الطهر، وهي المصطفاة من عباده. إنّ النظام الإلهيّ هو نظام يعتمد على الحساب والكتاب، وما يمنحنا إيّاه إنّما يكون محسوباً بدقّة. إنّه يعدّ كلّ هذا الإيثار والمعرفة والتضحية الخاصّة (وهي من عبيده الخواص)، في سبيل الأهداف الإلهيّة، لذلك جعلها مركز فيوضاته.(05/10/1370)
 
في رواية أن سطوع نور فاطمة الزهراء عليها السلام أدّى إلى أن تنبهر عيون الكروبيين من الملأ الأعلى، "زهر نورها لملائكة السماء"3. فماذا نستفيد
 
 
 

1- الكافي، ج2، ص 254.
2- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، ج5، ص 243.
3- بحار الأنوار، ج43، ص 173.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

102

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

  نحن من هذا النور والسطوع؟ يجب علينا الاهتداء بهذا النجم الساطع إلى الله وإلى طريق العبودية الّذي هو الصراط المستقيم، الّذي سلكته فاطمة الزهراء عليها السلام ، فوصلت إلى تلك المدارج والمقامات العالية. وإن جعل الله طينتها طينة متعالية، فلأنّه كان يعلم أنّها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان في عالم المادّة والناسوت "امتحنك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة"1، هذه هي القضية. فالله تعالى إذ تلطّف بلطفه الخاصّ على تلك الطينة، فجانب من القضية هو أنّه يعلم بأنّها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان، وإلا فإنّ الكثيرين كان لديهم طينة طيّبة، لكن هل تمكّن الجميع من الصبر على الامتحان؟ هذا جانب من حياة الزهراء عليها السلام الّتي نحتاج إليها لنجاة أنفسنا، فالحديث ورد من طريق الشيعة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة عليها السلام : "يا فاطمة اعملي فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً"2، أي يجب عليك أن تفكّري وتهتمّي بنفسك، فكانت تهتمّ بنفسها منذ صغرها وإلى نهاية عمرها القصير. 

 
كيف كانت حياتها؟ كانت إلى ما قبل الزواج حينما كانت فتاة، تعامل أباها، وهو على ذلك القدر من العظمة، بحيث كنّيت بـ "أمّ أبيها". في الوقت الذي كان نبيّ الرحمة والنور ومؤسّس الحضارة الحديثة والقائد العظيم للثورة الخالدة يرفع راية الإسلام. وما كنّيت بـ "أمَ أبيها" اعتباطاً، فقد كانت الزهراء إلى جانب أبيها، تزيل بيديها الصغيرتين غبار الحزن والغمّ عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، سواء في مكّة أم في شعب أبي طالب مع كل شدائدهما، أم عندما بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحيداً مكسور القلب بوقوع حادثتين في فترة قصيرة، هي وفاة خديجة عليها السلام ووفاة أبي طالب عليه السلام حيث أحسّ النبيّ بالغربة. هذا هو منشأ كنيتها بـ "أم أبيها". 
 
 
 

1- تهذيب الأحكام، ج6، ص90.
2- أضواء البيان، الشنقيطي، ج8، ص224.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

103

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

 لقد كانت السيّدة الزهراء عليها السلام في سنّ سبع سنوات - بشأن تاريخ ولادتها يوجد روايات مختلفة - حين حدثت قضية شُعب أبي طالب. لقد كانت هذه القضية مرحلة صعبة جداً في تاريخ صدر الإسلام، أي أنّ دعوة النبيّ كانت قد بدأت وصارت علانية، وبالتدريج بدأ أهل مكّة - وخصوصاً الشباب، وبالأخص العبيد - يقبلون ويؤمنون به، ورأى صناديد قريش كأبي لهب وأبي جهل وغيرهما أنّه لا بدّ من إخراج النبيّ وكلّ من معه من مكّة، وهذا ما فعلوه. فأخرجوا عدداً كبيراً منهم وقد بلغوا عشرات الأُسر بما في ذلك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأسرته وأبو طالب نفسه، مع أنّ أبا طالب كان يُعدّ من الوجهاء الكبار . فخرجوا من مكّة ولكن إلى أين يذهبون؟ وصادف أن كان لأبي طالب ملكٌ في بقعة قريبة من مكّة - لعلّها تبعد عدّة كيلومترات في شعاب جبلٍ، يُدعى شُعب أبي طالب. كأنّه عبارة عن تلّة صغيرة، فقال لهم أبو طالب فلنذهب إلى هذه الشعب. فكِّروا في هذا الأمر! النهارات في مكّة شديدة الحرارة، والليالي في غاية البرودة، فهذا وضعٌ لا يمكن أن يُتحمّل. فقد عاشوا طيلة ثلاث سنوات في هذه الشعب. فكم تحمّلوا من جوعٍ وصعابٍ ومحنٍ، الله وحده يعلم. فمن المراحل الصعبة لحياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانت هذه الشعب. ولم تكن مسؤولية النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المرحلة منحصرة في القيادة بمعنى إدارة مجموعة، بل كان عليه أن يتمكّن من الدفاع عن عمله أمام هؤلاء الّذين كانوا واقعين في المحنة.


من الواضح أنّه عندما تتحسّن الأوضاع، فإنّ كلّ من يكون حول القيادة يصبح راضياً عن الأوضاع ويقول: رحم الله أباه فقد أوصلنا إلى هذا الوضع الجيّد. وأما عندما تسوء الأحوال فيصاب الجميع بالحيرة والتردّد، ويقولون: إنّه هو الّذي أوصلنا إلى هذا الوضع السيّئ! ولم نكن نريد أن نصل إلى هذا الحدّ! وبالطبع، يصمد من كان لديه إيمان قويّ، ولكن في النهاية إنّ كل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

104

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

  الصعاب كانت تنهال على الرسول. وفي هذه الأثناء، وعندما كان النبيّ يقاسي أشدّ أنواع المحنة، توفّي - وفي ظرف أسبوعٍ واحد - أبو طالب الّذي كان الداعم للنبيّ ويُعتبر أمله، والسيّدة خديجة الكبرى الّتي كانت تقدّم أكبر عونٍ روحيّ له، فكانت حادثة عجيبة جداً، أصبح النبيّ بعدها وحيداً فريداً. 


إن مَن يترأس مجموعة معيّنة، يعلم ما معنى مسؤولية المجموعة. ففي مثل هذه الظروف يصبح الإنسان متحيّراً. انظروا إلى دور فاطمة الزهراء عليها السلام في مثل هذه الظروف. عندما يتأمّل الإنسان في التاريخ فإنّ هذه الموارد الّتي ينبغي أن تكون ملحوظةً في الزوايا والتفاصيل، للأسف لم يتمّ فتح أي بحث لها. لقد كانت فاطمة الزهراء عليها السلام كأمّ ومشاور وممرّضة بالنسبة للنبيّ. هناك حيث قيل "فاطمة أمّ أبيها". إنّ هذا متعلّق بذاك الوقت، أي عندما كانت بعمر ست أو سبع سنوات. وبالطبع، في البيئة العربية وفي البيئات الحارّة، تنمو البنات بصورةٍ أسرع من الناحية الجسمية والعاطفية، كبنتٍ في عمر عشر أو 12 سنة في أيامنا هذه. وهذا ما يؤدّي إلى الشعور بالمسؤولية. ألا يمكن أن يكون ذلك قدوةً لأيّ فتاة، بحيث تشعر بالمسؤولية والنشاط فيما يتعلّق بالقضايا المتعلقة بها بشكل سريع؟ إنّ هذا الرأسمال العظيم للنشاط الموجود فيها، كانت تنفقه من أجل أن تزيل غبار التكدّر والغمّ عن وجه أبٍ لعلّه قد مرّ على عمره أكثر من 50 سنة وقد قارب سن الهرم. ألا يمكن أن يكون هذا بالنسبة للفتاة نموذجاً وقدوةً؟ هذا مهمٌّ جداً.(07/02/1377)

في مثل هذا العالم ربّى النبيّ الأكرم بنتاً صارت لائقةً بأن يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقبّل يدها! إنّ تقبيل يد فاطمة الزهراء عليها السلام ، من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا ينبغي أن يؤخذ أبداً على معنىً عاطفيّ. فهذا أمرٌ خاطئٌ جداً، لو تصوّرنا أنّه يقبّل يدها فقط لأنّها ابنته ولأنّه يحبّها. هل شخصيةٌ بمثل هذه العظمة، وبمثل تلك العدالة والحكمة، الّتي كانت في النبيّ وهو يعتمد على الوحي والإلهام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

105

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

  الإلهيّ ينحني ويقبّل يد ابنته؟ كلا، إنّ هذا أمرٌ آخر وله معنىً آخر. إنّه يحكي عن أنّ هذه الفتاة وهذه المرأة عندما ترحل من هذه الدنيا في عمر 18 أو 25 - قيل 18 وقيل 25 - تكون في أوج الملكوت الإنسانيّ وشخصاً استثنائيّاً. هذه نظرة الإسلام إلى المرأة.(04/10/1370)

 
أمّا المقام المعنويّ لهذه السيّدة العظيمة، بالنسبة لمقامها الجهاديّ والثوريّ والاجتماعيّ، فهو أعلى بدرجات. فاطمة الزهراء عليها السلام في الظاهر هي بصورة بشر، وامرأة، وامرأة شابّة أيضاً؛ ولكنها في المعنى هي حقيقةٌ عظيمة ونورٌ إلهيٌّ ساطع، وعبدٌ صالح، وإنسانٌ مميّز ومصطفى. هي شخصٌ قال فيه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام : "يا عليّ أنت إمام أمّتي وخليفتي عليها من بعدي، وأنت قائد المؤمنين إلى الجنّة، وكأنّي أنظر إلى ابنتي فاطمة قد أقبلت يوم القيامة على نجيبٍ من نور عن يمينها سبعون ألف ملك، وعن يسارها سبعون ألف ملك، وبين يديها سبعون ألف ملك، وخلفها سبعون ألف ملك تقود مؤمنات أمّتي إلى الجنّة"1، أي أنّه يوم القيامة يقود أمير المؤمنين عليه السلام الرجال المؤمنين، وتقود فاطمة الزهراء عليها السلام النساء المؤمنات إلى الجنّة الإلهيّة. فهي عِدْل أمير المؤمنين عليه السلام . هي الّتي إذا وقفت في محراب العبادة فإنّ آلاف الملائكة المقرّبين لله يخاطبونها ويسلّمون عليها ويهنّئونها ويقولون لها ما كانوا يقولون في السابق لمريم الطاهرة عليها السلام : "يا فاطمة إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"2، هذا هو المقام المعنويّ لفاطمة الزهراء عليها السلام .
امرأةٌ أيضاً في سنّ الشباب وصلت بلحاظ المقام المعنويّ، بحسب ما نُقل في الروايات، إلى حيث تحدّثها الملائكة وتظهر لها الحقائق. "المحدَّثة"
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج 43، ص 24.
2- بحار الأنوار، ج 43، ص 24.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

106

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

  أي من تحدّثها الملائكة وتتكلّم معها. وهذا المقام المعنويّ والميدان الوسيع والقمّة الرفيعة هي في مقابل جميع نساء عالم الخلقة. إنّ فاطمة الزهراء عليها السلام في قمّة هذا العلوّ العظيم تقف وتخاطب كلّ نساء العالم، وتدعوهنّ لطيّ هذا الطريق. هؤلاء الّذين كانوا عبر التاريخ - سواء في الجاهلية القديمة أم في جاهلية القرن العشرين - قد سعوا لتحقير المرأة وجعلها متعلّقة بهذه الزخارف والزينة الظاهرية ولا همّ لها سوى الموضة واللباس والزينة والذهب والزخارف، ولا همّ لها سوى أن تقضي هذه الحياة في لهوٍ وعبث، وقد تحرّكوا من أجل ذلك، إنّ منطقهم هو منطق يشبه الثلج والجليد مقابل حرّ شمس المقام المعنويّ لفاطمة الزهراء عليها السلام ، سيذوب وينعدم. يعرّف الإسلام فاطمة - هذا العنصر المميّز والملكوتيّ الممتاز - بعنوان الأنموذج والأسوة للنساء. وهو تلك الحياة الظاهرية والجهاد والعلم والبيان والتضحية وحسن التبعّل والأمومة والزوجة والمهاجرة والضحور في جميع الميادين السياسية والعسكرية والثورية، والتفوّق في جميع الجوانب بحيث يخضع لها كلّ الرجال العظماء، بل هذا أيضاً المقام المعنويّ والركوع والسجود ومحراب العبادة والدعاء والصحيفة والتضرّع والذات الملكوتية وتألّق العنصر المعنويّ وكذلك عِدْل ووزان أمير المؤمنين عليه السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . المرأة هي هذه. والقدوة للنساء الّتي يريد الإسلام أن يصنعها هي هذه.(26/10/1368)

 

 

 

 

 

 

117


107

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

 حياتها عليها السلام الجهادية والسياسية


توجد نقطةٌ في حياة الزهراء المطهّرة عليها السلام يجب الالتفات إليها. علماً أنّنا لن ندخل في بيان المقامات المعنوية لهذه السيدة الجليلة، ولسنا قادرين على أن ندرك هذه المقامات ونفهمها. وفي الحقيقة أنّ أوج قمّة المعنوية الإنسانية والتكامل البشريّ، الله تعالى وحده، هو الذي يعرف هؤلاء العباد ومن هم بمستواهم ويرى مقامهم. لهذا ما كان يعرف فاطمة الزهراء عليها السلام سوى أمير المؤمنين عليه السلام وأبيها صلى الله عليه وآله وسلم وأولادها المعصومين عليهم السلام . الناس في ذلك الزمان والأزمنة اللاحقة، ونحن في هذا الزمن، لا يمكننا أن نشخّص ذلك التألّق والتلألؤ المعنويّ الّذي كان موجوداً فيها. فنور المعنويات الساطع لا يمكن أن يأتي إلى عين أيّ أحد، وتعجز عيوننا الضعيفة والقاصرة عن أن ترى تجلّي الإنسانية الساطع الّذي كان موجوداً في هؤلاء العظماء. لهذا، لن ندخل في مجال الحديث المعنويّ عن فاطمة الزهراء عليها السلام . لكن في حياتها اليومية توجد نقطة مهمّة وهي الجمع بين حياة امرأة مسلمة في سلوكها مع زوجها وأبنائها وقيامها بمسؤولياتها في البيت من جهة، وبين مسؤوليات الإنسان المجاهد الغيور الّذي لا يعرف التعب في التعامل مع الأحداث السياسية المهمّة بعد رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث جاءت إلى المسجد وخطبت واتّخذت المواقف ودافعت وتحدّثت وكانت من جهاتٍ أخرى مجاهدة بكلّ ما للكلمة من معنىً، لا تعرف التعب وتتقبّل المحنة والصعاب. كذلك من الجهة الثالثة، كانت عابدة ومقيمة للصلاة في الليالي الحالكة وتقوم لله
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

108

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

  خاضعة خاشعة له، وفي محراب العبادة كانت هذه المرأة الصبية كالأولياء الإلهيين تناجي ربّها وتعبده. 


هذه الأبعاد الثلاثة مجتمعةً تمثّل النقطة الساطعة لحياة فاطمة الزهراء عليها السلام . لم تفصل بين هذه الجهات الثلاث. بعض الناس يتصوّر أنّ الإنسان عندما يكون مشغولاً بالعبادة، وهو أهل الذكر، لا يمكنه أن يكون سياسياً. أو بعض آخر يتصوّر أنّ أهل السياسة، سواء من الرجال أم النساء، إذا كانوا حاضرين في ميدان الجهاد في سبيل الله بفاعليّة، إذا كنّ من النساء، لا يمكنهنّ أن يكنّ ربّات منزل يؤدّين وظائف الأمومة والزوجية والخدمة، وإذا كان رجلاً لا يمكنه أن يكون ربّ منزل وصاحب دكّان وحياة. يتصوّرون أنّ هذه تتنافى فيما بينها وتتعارض في حين أنّ هذه الأمور الثلاثة لا تتنافى مع بعضها بعضاً ولا توجد ضدّية بينها من وجهة نظر الإسلام. ففي شخصية الإنسان الكامل تكون هذه الأمور معينة بعضها بعضاً.(22/09/1368)

تعتبر شخصية الزهراء المطهّرة عليها السلام في الأبعاد السياسية والاجتماعية والجهادية شخصية مميزة بحيث إنّ جميع النساء المجاهدات والثوريات والمميّزات والسياسيات في العالم يمكنهنّ أن يأخذن الدروس والعبر من حياتها القصيرة والمليئة بالمحتوى والمضمون. امرأةٌ وُلدت في بيت الثورة، وأمضت كلّ طفولتها في حضن أبٍ كان في حالة مستمرّة من الجهاد العالميّ العظيم الّذي لا يُنسى. تلك السيّدة الّتي كانت في مرحلة طفولتها تتجرّع مرارات الجهاد في مكّة، وعندما حوصرت في شعب أبي طالب، لمست الجوع والصعاب والرعب وكلّ أنواع وأصناف الشدائد في مكة، وبعد أن هاجرت إلى المدينة أضحت زوجة رجلٍ كانت كلّ حياته جهاداً في سبيل الله، وفي كلّ المدّة، الّتي كانت نحو 11 سنة، في حياتها المشتركة مع أمير المؤمنين، لم تمرّ سنة أو نصف سنة على هذا الزوج لم يكن فيها في جهادٍ في سبيل الله ولم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

109

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

  يذهب إلى ميدان المعركة. وكانت هذه المرأة العظيمة والمضحية زوجةً لائقةً لرجلٍ مجاهدٍ وجنديّ وقائد دائمٍ في ميدان الحرب. فحياة فاطمة الزهراء عليها السلام إذاً، وإن كانت قصيرة ولم تبلغ أكثر من عشرين سنة، لكنّها من جهة الجهاد والنّضال والسعي الثوريّ والصبر الثوريّ والدرس والتعليم والتعلّم، والخطابة والدفاع عن النبوّة والإمامة والنظام الإسلاميّ هي بحرٌ مترامٍ من السعي والجهاد والعمل وفي النهاية الشهادة أيضاً. هذه هي الحياة الجهادية لفاطمة الزهراء عليها السلام الّتي هي عظيمة جداً واستثنائية وفي الحقيقة لا نظير لها، ويقيناً ستبقى في أذهان البشر - سواء اليوم أم في المستقبل - نقطةً ساطعةً واستثنائية.(26/10/1368)

 

 

 

 

 

 

120


110

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

 حياتها عليها السلام العلمية والعبادية


في أجواء العلم كانت عالمةً عظيمة. تلك الخطبة الّتي ألقتها فاطمة الزهراء عليها السلام في مسجد المدينة بعد رحيل النبيّ، هي خطبة، بحسب كلام العلامة المجلسيّ، يجب على فطاحل الفصحاء والبلغاء والعلماء أن يجلسوا ويفسّروا معاني كلماتها وعباراتها؛ فهي من العمق بحيث إنّها بلحاظ جمالية الفن كأجمل وأعلى كلمات نهج البلاغة. فاطمة الزهراء عليها السلام تذهب إلى مسجد المدينة وتقف مقابل الناس وترتجل ولعلّها تتحدّث لمدّة ساعة بأعذب وأجمل العبارات وأكثرها بلاغةً.(25/09/1371)

نحن الّذين نُعدّ من أهل الخطابة والكلام الارتجاليّ نفهم كم أنّ هذه الخطبة عظيمة. فتاة ابنة 18 أو 20 سنة وفي الحدّ الأكثر 24 سنة - بحسب الاختلاف في تاريخ ولادتها - ومع كلّ تلك المصائب والصعاب أتت إلى المسجد وخاطبت الجمع الغفير من وراء الحجاب(الستار)، وكلّ كلمة من هذه الخطبة بقيت في التاريخ.

العرب معروفون بقوّة حافظتهم. فيأتي شخصٌ وينشد قصيدة من 80 بيتاً وبعد أن ينتهي يقوم 10 أشخاص ويكتبون هذه القصيدة، وهذه القصائد الّتي بقيت إلى يومنا هذا، في الأغلب هكذا حُفظت. فالأشعار في الأندية - أي تلك المراكز الاجتماعية - كانت تُتلى وتُحفظ، وهذه الخطب وهذه الأحاديث كانت تحفظ غالباً بهذه الطريقة. لقد جلسوا وكتبوا وحفظوا وبقيت هذه الخطب إلى يومنا هذا. والكلمات الجوفاء لا تبقى في التاريخ، فليس كلّ كلام يُحفظ،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

111

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

  فلقد قيل الكثير الكثير، وألقي الكثير من الخطب والكثير من الأشعار ولكن لم تبقَ كلّها، ولم يعتنِ أحدٌ بها. كلّما نظر الإنسان إلى ذاك الشيء الّذي حفظه التاريخ في قلبه، وبعد مرور 1400 سنة، يشعر بالخضوع، وهذا إنّما يدلّ على هذه العظمة. برأيي إنّ هذا يُعدّ بالنسبة للفتاة الشابّة قدوة.(07/02/1377)

 
إنّ حياة فاطمة الزهراء عليها السلام في جميع الأبعاد كانت مليئة بالعمل والسعي والتكامل والسموّ الروحيّ للإنسان. وكان زوجها الشاب في الجبهة وميادين الحرب دائماً، وكانت مشاكل المحيط والحياة قد جعلت فاطمة الزهراء عليها السلام مركزاً لمراجعات الناس والمسلمين. إنّها ابنة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المفرّجة للهموم، وقد صارت في حياتها في تلك الظروف بمنتهى العزّة والسموّ، وقامت بتربية أولادها الحسن والحسين وزينب، وإعانة زوجها عليّ عليه السلام ، وكسب رضا أب كالنبيّ. وعندما بدأت مرحلة الفتوحات والغنائم لم تأخذ بنت النبيّ ذرّة من لذائذ الدنيا وزخرفها ومظاهر الزينة والأمور الّتي تميل لها قلوب الشابات والنساء. 
 
وكانت عبادة فاطمة الزهراء عليها السلام عبادة نموذجية. يقول الحسن البصريّ:الّذي كان أحد العبّاد والزهّاد المشهورين في العالم الإسلاميّ، حول فاطمة الزهراء عليها السلام إنّ بنت النبيّ عبدت الله ووقفت في محراب العبادة حتى "تورّمت قدماها"1. ويقول الإمام الحسن المجتبى عليه السلام إنّ أمّه وقفت تعبد الله في إحدى الليالي - ليلة الجمعة -"حتى انفجر عمود الصبح". ويقول الإمام الحسن عليه السلام إنّه سمعها تدعو دائماً للمؤمنين والمؤمنات، وتدعو للناس ولقضايا المسلمين العامة، وعند الصباح قال لها: "يا أمّاه أما تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بنيّ الجار ثمّ الدار"2. هذه هي الروحية العظيمة. إنّ جهاد تلك المكرّمة في الميادين المختلفة هو جهاد نموذجيّ، في الدفاع عن الإسلام،
 
 
 

1- المناقب، ج3،ص 341.
2- بحار الأنوار، ج43، ص81-82.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

112

الفصل الرابع: السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام

 وفي الدفاع عن الإمامة والولاية، وفي الدفاع عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي حفظ أكبر القادة الإسلاميين وهو أمير المؤمنين عليه السلام زوجها. وقد قال عليه السلام مرّة بشأن فاطمة الزهراء عليها السلام : "ما أغضبتني ولا عصت لي أمراً"1. ومع تلك العظمة والجلالة، فإنّها كانت زوجة في بيتها، وامرأة كما يقول الإسلام.

 
هكذا كانت عبادتها وفصاحتها وبلاغتها وحكمتها وعلمها ومعرفتها وجهادها وسلوكها كابنة وزوجة وأمّ، وإحسانها إلى الفقراء. مرّة أرسل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً عجوزاً فقيراً إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام وقال له أن يطلب حاجته منهم، فأعطته فاطمة الزهراء عليها السلام جلداً كان ينام عليه الحسن والحسين عليهما السلام حيث لم يكن عندها شيء غيره، وقالت له أن يأخذه ويبيعه ويستفيد من نقوده. هذه هي الشخصية الجامعة لفاطمة الزهراء عليها السلام . إنّها أسوة للمرأة المسلمة. 
 
إنّ على المرأة المسلمة أن تسعى في طريق الحكمة والعلم وفي طريق بناء الذات معنويّا وأخلاقيّاً وأن تكون في الطليعة في ميدان الجهاد والكفاح، وأن لا تهتمّ بزخارف الدنيا ومظاهرها الرخيصة، وأن تكون عفّتها وعصمتها وطهارتها بحيث تدفع بذاتها عين ونظرة الأجنبيّ المريبة تلقائياً، وفي البيت سكينة للزوج والأولاد وراحة للحياة الزوجية، وتربّي في حضنها الحنون والرؤوف وبكلماتها اللطيفة والحنونة أولاداً مهذّبين بلا عُقد، وذوي روحية حسنة وسليمة، وتربّي رجال المجتمع ونساءه وشخصياته. إنّ الأم أفضل من يبني، فقد يصنع أكبر العلماء آلة إلكترونية معقّدة جداً مثلاً، أو يصنعون أجهزة للصعود إلى الفضاء، أو صواريخ عابرة للقارّات، ولكن كلّ هذا لا يعادل أهمية بناء إنسان سامٍ، وهو عمل لا يتمكّن منه إلا الأم، وهذه هي أسوة المرأة المسلمة.(25/09/1371)
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج43، ص 134.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

 


113

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 الفصل الخامس:



الإمام الحسن المجتبى عليه السلام


أعظم هدنة في التاريخ.
صراع الحق والباطل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

114

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 أعظم هدنة في التاريخ


الظروف التاريخية للصلح
إنّ عهد الإمام المجتبى عليه السلام وواقعة صلحه مع معاوية - ما سمّي بالصلح - حدثٌ مصيريّ، وفريدٌ على مدى مسيرة النهضة الإسلامية في الصّدر الأوّل، فنحن لم نشهد نظيراً لهذه الواقعة. وهنا أقدّم إيضاحاً مقتضباً لهذه العبارة ثمّ أدخل إلى أصل المطلب. 

إنّ ثورة الإسلام بما تمثّله من الفكر الإسلاميّ، والأمانة الّتي تحمل عنوان الإسلام والّتي أرسلها الله سبحانه إلى العالمين، كانت في عهدها الأوّل عبارة عن نهضة واحدة، وتحرّك واحد، جاء في إطار حركة جهادية ونهضة ثورية عملاقة. وما إن أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الفكر في مكّة حتّى حشد أعداء الفكر التوحيديّ وأعداء الإسلام صفوفهم للوقوف بوجهه والحيلولة دون أن يشقّ هذا الفكر طريقه، فعمد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى تنظيم هذه النهضة بتعبئة قواه من العناصر المؤمنة صانعاً ملحمة جهاديّة في غاية الفطنة والقوّة والتقدّم داخل مكّة استمرّت إحدى عشرة سنة، فكانت تلك المرحلة الأولى.

وبعد ثلاث عشرة سنة، ومن خلال تعاليم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، والشعارات الّتي رفعها والتنظيم الّذي اعتمده والتضحيات الّتي بُذلت، وعبر ما تجمّع من عناصر على اختلافها، تحوّل هذا الفكر إلى حكومة ونظام، وتبدّل إلى نظام سياسيّ وحياتيّ لأمّة بأكملها، وكان ذلك عندما قدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وجعل منها قاعدة له وبسط فيها الحكومة الإسلامية، فتحوّل الإسلام من
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

115

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  نهضة إلى حكومة، وهذه هي المرحلة الثانية. 

 
استمرّت هذه المسيرة على مدى عشر سنوات من حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، والفترة الّتي تلتها من عهد الخلفاء الأربعة، ومن ثمّ إلى زمان الإمام المجتبى عليه الصلاة والسلام وخلافته الّتي استمرّت ما يناهز ستّة أشهر، برز خلالها الإسلام على شكل حكومة، وكان كلّ شيء يتّخذ هيئة النظام الاجتماعيّ من الحكومة إلى الجيش إلى العمل السياسيّ والثقافيّ والقضائيّ وتنظيم العلاقات الاقتصادية للأمّة مع قابليّته للاتّساع. ولو قدّر له أن يمضي قُدُماً لكان قد عمّ المعمورة بأكملها، أي أنّ الإسلام أثبت قابليته تلك. 
 
لقد تنامى التيّار المعارض في زمن الإمام الحسن عليه السلام بحيث استطاع البروز كواحد من العراقيل. ولم يكن هذا التيّار - بطبيعة الحالة - قد برز في عهد الإمام المجتبى عليه السلام ، بل كان تبلوره خلال سنوات سبقت ذلك. ومن شاء التحدّث بعيداً شيئاً ما عن الجوانب العقائدية، وأن يستند إلى الشواهد التاريخية فقط، فلعلّه يستطيع الادّعاء أنّ هذا التيّار لم يظهر إلى الوجود حتّى في العهد الإسلاميّ أيضاً، بل كان استمراراً لما شهدته مرحلة نهضة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، أي مرحلة مكّة. فبعد أن وقعت الخلافة في عهد عثمان - الّذي كان من بني أميّة - في قبضة الأمويين، كان أبو سفيان - وكان أعمى يومها - جالساً بين قومه، فسأل: من هم الحاضرون؟ فجاءه الرّد: فلانٌ وفلانٌ وفلان، فلما اطمأنّ بأنّ الحاضرين جميعاً من قومه وليس فيهم غريب، خاطبهم قائلاً: "تلقّفوها تلقّف الصبية للكرة"1، أي تناولوا الحكومة كتناول الكرة ولا تدعوها تفلت منكم. وهذه الحادثة تناقلتها تواريخ السنّة والشيعة. وهذه ليست مسألة عقائدية، ونحن لا نتناولها وفق رؤية عقائدية، ولا أحبّذ أن أتناولها من خلال هذه الرؤية، بل إنّني أثيرها من بعدها التاريخيّ فقط.
 
 
 

1-  الاحتجاج على أهل اللجاج، الطبرسي، ج 1، ص 234.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

116

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  حينها كان أبو سفيان مسلماً. غاية الأمر أنّ إسلامه كان بعد الفتح، عندما لم يكن الإسلام يعيش زمن الغربة والضعف، فكان إسلامه بعد بلوغ الإسلام أوج قدرته. فكان أن بلغ هذا التيّار ذروته في عهد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وبرز متجسّداً بمعاوية بن أبي سفيان وهو يقف بوجه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام . فباشر هذا التيّار معارضته سادّاً الطريق بوجه الحكومة الإسلامية - أي الإسلام بطابعه الحكوميّ - مفتعلاً المشاكل حتّى تحوّل إلى عائق أمام تقدّم تيّار الحكومة الإسلامية عمليّاً.

 
لقد ذكرنا مراراً فيما يتعلّق بصلح الإمام الحسن عليه السلام ، وما نصّت عليه المصنّفات والكتب أيضاً، عدم قدرة من كان في نفس موقف الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وفي مثل ظروفه، حتّى أمير المؤمنين عليه السلام نفسه، إلّا القيام بمثل ما قام به الإمام الحسن عليه السلام . ولا قدرة لأحد أبداً على القول إنّ الجانب الفلانيّ من عمل الإمام عليه السلام مثارٌ للتشكيك. كلا، ففعله عليه السلام كان مطابقاً للاستدلال المنطقيّ الّذي لا يقبل التخلّف.
 
من هو الأكثر ثوريّة من بين آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ومن الّذي فاقهم في اصطباغ حياته بصبغة الشهادة وفاقهم حميّة للمحافظة على الدين ومواجهة العدوّ؟ إنّه الحسين بن عليّ عليه السلام ، وهو عليه السلام شارك الإمام الحسن عليه السلام في هذا الصلح، فلم يعقد الإمام الحسن الصلح وحده بل عقداه معاً، غاية الأمر أنّ الإمام الحسن عليه السلام كان المتقدّم يتبعه الإمام الحسين في ذلك. كان الإمام الحسين عليه السلام أحد الذائدين عن مبدأ صلح الإمام الحسن عليه السلام . وعندما بدر اعتراض من أحد الأنصار المقرّبين - من هؤلاء المتحمّسين الثائرين - على ما فعله الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ، ردّ عليه الإمام الحسين عليه السلام ، "وغمز الحسين حُجر"1، وليس هنالك من يقول: لو كان
 
 
 

1- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج 16، ص 15.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

117

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  الإمام الحسين مكان الإمام الحسن لما وقّع الصلح، كلا، فلقد كان الإمام الحسين إلى جانب الإمام الحسن ووقّع الصلح، ولو لم يكن الإمام الحسن عليه السلام وكان الإمام الحسين عليه السلام وحيداً في تلك الظروف لحدث ما حدث ووقع الصلح.


ضرورة الهدنة والصلح
لقد كانت للصلح عوامله، ولم يكن بالإمكان تفاديه، فلا مناص منه. يومها لم تكن فكرة شهادة الإمام أمراً ممكناً. ويثبت المرحوم الشيخ راضي آل ياسين، رضوان الله تعالى عليه، في كتابه "صلح الحسن"، تعذّر الشهادة إذ ذاك - وقد ترجمت هذا الكتاب قبل عشرين عاماً (1348) وجرى طبعه - فليس كلّ قتلٍ شهادة، بل الشهادة قتل بشروط، ولم تكن تلك الشروط متوفّرة حينها. ولو قُدّر للإمام الحسن عليه السلام القتل يومذاك لما مات شهيداً، فقد كان متعذّراً على أيّ أحد القيام بتحرّك مضمون المصلحة في تلك الظروف فيُقتل شهيداً إلّا أن ينتحر.

تحدّثنا عن الصلح بأبعاده المختلفة. والقضية الّتي تبلورت الآن هي أنّ الأمر جرى تنظيمه بعد صلح الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بذكاء وفطنة بحيث لا يلج الإسلام والنهضة الإسلامية نفق الخلافة بما تحمله من مواصفات الملكية، وهذا ما أبدعه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام . وقد قام هذا الإمام بعملٍ جعل تيّار الإسلام الأصيل - الّذي انطلق من مكّة وتبلور بشكل حكومة إسلامية امتدّت حتّى عهد أمير المؤمنين عليه السلام ومن ثمّ عهده - يسير في مجرًى آخر. غاية الأمر أنّه لم يكن بصبغة حكومية لتعذّر ذلك بل كان على هيئة نهضة ثوريّة جديدة، فكانت تلك المرحلة الثالثة في العصر الإسلاميّ. مرّةٌ أخرى، نهض الإسلام. الإسلام الأصيل، المقارع للظلم، الّذي لا يداهن،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
130

118

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  المنزّه عن التحريف والرافض لأن يتحوّل إلى ألعوبة تتقاذفها الأهواء والنزوات، لكنّه ظلّ متّخذاً طابع النهضة. أي أنّ الفكر الثوريّ الإسلاميّ عاد ثانيةً في عهد الإمام الحسن عليه السلام ليتحوّل إلى فكرٍ ثوريٍّ إسلاميّ بعد أن قطع شوطاً بلغ فيه مبلغ السلطة والحكم. ولقد أصبح وضع هذه المرحلة - مرحلة الثورة - أكثر تعقيداً من عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، لأنّ الّذين رفعوا الشعارات كانوا ممّن تلبّسوا بزيّ الدين ولم يكونوا من أهله. وهنا تكمن المشكلة الّتي واجهها أئمّة الهدى عليهم السلام . ومن خلال مجمل الآيات وعموم حياة الأئمّة عليهم السلام استنتجت أنّهم عليهم السلام ومنذ صلح الإمام المجتبى عليه السلام وحتى النهاية كانوا بصدد تجديد هذه النهضة وإقامتها على هيئة حكومة علويّة إسلاميّة. وهناك روايات في هذا الصدد. ولعلّ بعض الناس لا يلاحظ هذه القضيّة بهذا المنظار وله منحىً آخر، لكن تشخيصي أنّ الأئمّة عليهم السلام قد سعوا من أجل تبديل النهضة إلى حكومة وتيّار إسلاميّ أصيل منزّه عن التلوّث والامتزاج بلوث الأهواء النفسية، ليمسك بزمام الأمور. بيد أن ذلك العمل كان عملاً صعباً.


الغاية من الصلح
إنّ أهم ما كانت الأمّة بحاجة إليه خلال المرحلة الثانية من النهضة - فترة خلافة بني أميّة وآل مروان وبني العبّاس - هو معرفتها وتشخيصها لمواطن الأصالة في الإسلام ومكامن الانبعاث الّتي ينطوي عليها الإسلام الأصيل والقرآنيّ، من بين طيّات التفسيرات المختلفة والمشتّتة، وأن لا يخلطوا بينها، فليس عبثاً هذا التأكيد في الأديان على التعقّل والتدبّر. وما ورد في القرآن الكريم من حثّ للناس على التفكّر والتعقّل والتدبّر فيما يتعلّق بأهمّ الموضوعات الدينية وهو التوحيد، ليس لهواً. فالتوحيد لا ينحصر في
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

119

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 قولنا إنّ الله موجودٌ، وهو واحدٌ لا اثنين، بل هذه صورة من التوحيد. فحقيقة التوحيد بحرٌ مترامي الأطراف يغرق فيه أولياء الله، وهو وادٍ سحيق بالرغم من عمقه، فقد طُلب من المؤمنين والمسلمين الموحّدين السير فيه عن تفكّر وتدبّر وتعقّل. وفي الحقيقة، فإنّ العقل والتدبّر هو الّذي له القدرة على المضيّ بالإنسان إلى الأمام. وبطبيعة الحال، فإنّ هذا العقل إنّما يتغذّى ويستمدّ من نور الوحي والمعرفة ويستلهم من تعاليم أولياء الله على مراحل متعدّدة، لكنّه في خاتمة المطاف هو الّذي يتحرّك إلى الأمام ودونه لا مجال للحركة أبداً.


ما كانت الأمّة الإسلامية بحاجة لاستيعابه، على مرّ القرون الّتي تمّ التسلّط فيها عليها باسم الخلافة - أي حتى القرن السابع، فترة الخلافة العبّاسيّة، وبالطبع، بعد انهيار الخلافة العبّاسيّة، كانت تأتي حكومات من هنا وهناك تحكم باسم الخلافة، كزمن المماليك في مصر، وما تلاها كذلك في البلدان العثمانية وأماكن أخرى - هو أن يحكّموا العقل ليعرفوا ما إذا كانت رؤية الإسلام والقرآن والكتاب الإلهيّ والأحاديث المسلّمة بشأن أولياء الأمور تنسجم مع الواقع المعاش أم لا، فذلك أمر في غاية الأهمية.

لقد تميّزت فترة الخلافة المروانية والسفيانية والعبّاسية بإفراغ القيم الإسلامية من محتواها الحقيقيّ، إذ بقيت منها صورها لكنّ المضامين تبدّلت إلى مضامين جاهلية وشيطانية.

لقد تحوّل ذلك الجهاز الّذي كان يريد تربية وبناء أناس عقلاء متعبّدين مؤمنين أحرار طاهرين خشّعٍ لله أشدّاء أمام المستكبرين - وأفضل صورة ما كان سائداً من نظام إداريّ إسلاميّ في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - إلى جهاز يربّي الناس ويعلّمهم أصناف المكر ويجعلهم عبيداً للدنيا والأهواء والنزوات، متملّقين وخاوين من المعنويات، أناساً فارغين، ديدنهم الفسق والفساد.
وممّا يؤسف له أنّ الوضع كان هكذا على امتداد فترة الخلافة الأموية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

120

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  والعبّاسية. لقد سطّروا في كتب التاريخ أموراً، لو شئنا التطرّق إليها لطال بنا المقام، وكانت بدايتها في عهد معاوية، حيث امتدح المؤرّخون معاوية كثيراً بوصفه بالحلم وسعة الصدر وسماحه لمعارضيه بالتفوّه بما شاؤوا أمامه. ولعلّه كان كذلك لبرهة من الزمن وفي أوائل حكمه. ولكن هنالك أبعاد أخرى إلى جانب هذا البعد من شخصيّته، نادراً ما تطرّقوا إليه. فهناك الكثيرون ممّن لم يشيروا إلى طريقة استمالته للأفراد والأقطاب والأشراف من الرجال لكي يتنصّلوا ممّا يعتقدون ويؤمنون به، بل وتجنيدهم لمواجهة الحقّ. والكثيرون لم يكتبوا مثل هذه الأمور. وهذا - بطبيعة الحال - مدوّن في التاريخ، وثمّة أناس كتبوا ما نعرفه نحن الآن.


إنّ الناس الّذين كانوا يخضعون لتربية تلك الأجهزة، كانوا يدرجون على عدم التفوّه بما يخالف هوى الخليفة ورغبته، فيا له من مجتمع! ويا له من إنسان! وأين هي تلك الإرادة الإلهية والإسلامية الموجودة في الناس لإصلاح المفاسد وإزالتها وجعل المجتمع مجتمعاً إلهيّاً؟ فهل مثل هذا الشيء سيكون ممكناً؟

يروي "الجاحظ" أو "أبو الفرج الأصفهانيّ" أنّ معاوية توجّه إبان حكمه إلى مكّة راكباً فرساً، وكان إلى جانبه أحد الوجهاء يومها، ومعاوية منهمك في الحديث معه ويتبعهما آخرون. كان معاوية يحدّث هذا الرجل متفاخراً بأمجاده وأمجاد أبيه "أبي سفيان" في الجاهلية. وكانت مجموعة من الأطفال تلهو في الطريق، وعلى ما يبدو كانوا يلعبون بالأحجار. وفي تلك الأثناء أصاب حجرٌ جبهة ذلك الرجل المرافق لمعاوية فسالت الدماء منها لكنّه لم ينبس ببنت شفة ولم يقطع على معاوية حديثه، فأخذ يتصبّر بينما كانت الدماء تسيل على وجهه ولحيته. وفيما كان معاوية يسهب في الحديث، وإذ به يلتفت إلى صاحبه فيرى الدماء قد غطّت وجهه، فقال له: إنّ الدماء تسيل من جبهتك، فأجاب الرجل معاوية: أدماء تسيل من جبهتي؟! أين ومتى؟ فلشدّة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

121

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  انبهاره بمعاوية، تظاهر بعدم إحساسه بإصابة الحجر وجرحه وسيلان الدم من جبهته. فقال له معاوية: عجبٌ لك، أصاب الحجر جبهتك ولم تشعر به! فأجاب: كلا، لم أشعر به، ثمّ ضرب يديه وقال: واه، إنّه دمٌ! ثم أخذ يُقسم بنفس معاوية وبمقدّساته: لو لم تخبرني، لما شعرتُ بجريان الدماء لِما في كلامك من لذّة! فسأله معاوية: كم هو عطاؤك من بيت المال؟ فأجابه: كذا - على سبيل المثال - قال معاوية: لقد ظلموك، فلا بدّ أن يُزاد أضعافاً ثلاثة! هذه هي الثقافة الّتي كانت سائدة في الجهاز الحكوميّ لمعاوية.

 


في تلك الفترة كان المتزلّفون للزّعماء والخلفاء هم الممسكين بزمام الأمور، فلم تُقسّم الأعمال وفقاً للصلاح والكفاءة، وعادة العربيّ هي أن يولي بالغ اهتمامه بالأصل والنسب، حيث يتساءل: من أيّة عشيرة ينحدر فلانٌ؟ ومن هم آباؤه؟ بيد أن هؤلاء لم يكونوا يلتزمون بالأصول والأنساب أيضاً... وفي زمن عبد الملك وبعض أولاده، تمّ تنصيب يوسف بن عمر الثقفيّ والياً على العراق لفترات طويلة، وبقي يحكم العراق سنوات متمادية. وكان معقّداً شقياً. ومن نافل ما يُنقل عن عقدته أنّه كان قصير القامة، فكان عندما يعطي قطعة القماش للخيّاط كي يخيطها له، يسأل الخيّاط: هل تكفي هذه القطعة لقامتي؟ فكان الخيّاط ينظر إلى هذه القطعة من القماش وإذا قال مثلاً إنّها مناسبة لك أيها الأمير وربّما تزيد، كانوا يأخذون منه ذلك القماش فوراً ويأمرون بمعاقبته. فأدرك الخيّاطون القضيّة، من هنا عندما كان يعرض عليهم قطعة القماش ويسألهم ما إذا كانت تكفي لهيكله أم لا، كانوا يردّون: كلا، يبدو أنّها لا تكفي ويلزمنا كثير من الجهد لكي نجعلها تتّسق مع بدنك الضخم. فكان يسرّه ذلك، رُغم علمه بكذب الخيّاط! لقد كان أحمق إلى هذا الحدّ! إنه ذلك الرجل الّذي قتل زيد بن علي عليه السلام في الكوفة. فمثل هذا، تسلّط على نفوس الناس وأموالهم وأعراضهم سنوات عديدة، لا لأصل أو نسب ولا علمٍ أو قابلية
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

122

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  ولكن لقربه من قطب السلطة عُيّن لهذا المنصب، وهذا وبال، ومن أعظم الآفات الّتي تفتك بأيّ نظام. 


الثمار العظيمة للصلح
استمرّ هذا التيّار على هذا المنوال، فيما كان يسير إلى جانبه تيّار إسلاميّ أصيل هو إسلام القيم والقرآن الّذي لا يعرف المهادنة مع ذلك التيّار الحاكم المنافي للقيم، ومصداقه البارز أئمّة الهدى عليهم السلام والكثير من المسلمين الموالين لهم. وبفضل وجود الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ، حافظ هذا التيّار القيميّ للنهضة الإسلامية على الإسلام - فلولا صلح الإمام المجتبى لما كُتب لذلك الإسلام القيميّ الثوريّ البقاء، ولزال من الوجود، لأنّ الغلبة ستكون في خاتمة المطاف من نصيب معاوية. لم يكن الوضع بحيث يمكن للإمام الحسن المجتبى عليه السلام تحقيق النصر، فقد كانت الأمور جميعها تسير بالاتّجاه المعاكس لغلبة الإمام المجتبى عليه السلام . وكانت الغلبة تسير لصالح معاوية، لاستحواذه على الجهاز الإعلاميّ، ولأنّ شخصيته في العالم الإسلاميّ لم تكن بتلك الشخصية الّتي يعجزون عن تبريرها وإبرازها.

ولولا لجوء الإمام الحسن عليه السلام للصلح لكانوا قد قضوا على وجود آل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تماماً، ولم يبق من يحفظ الإسلام الأصيل بنظامه القيميّ ولا انتهى كلّ شيء بانهيار اسم الإسلام. وبالتالي لما وصل الدور إلى نهضة عاشوراء. لو قُدّر للإمام المجتبى عليه السلام أن يواصل الحرب ضدّ معاوية وأن تنتهي تلك الحرب باستشهاد آل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، لكان الإمام الحسين عليه السلام قد استشهد، وقُتل كبار الأصحاب، أمثال حجر بن عُديّ، وقُتل الجميع ولما بقي من يستفيد من الفرصة للمحافظة على الإسلام بإطاره القيميّ، وهذا دَينٌ عظيم أسداه الإمام المجتبى عليه السلام في محافظته على الإسلام.(22/01/1369)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

123

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 في النهاية حدث صلحٌ. بالطبع كان الصلح مفروضاً. يجب القول إنّ الإمام لم يكن راغباً به. وتلك الشروط الّتي جعلها الإمام، في الواقع، زلزلت أسس عمل معاوية. الصلح بذاته وشروط الإمام الحسن عليه السلام كلّها كانت مكراً إلهياً، 

﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ﴾1 أي لو أنّ الإمام الحسن حارب وقُتل في الحرب - وكان هناك احتمال كبير أن يُقتل على يد أصحابه أو على يد الجواسيس الّذين اشتراهم معاوية - لقال معاوية ليقول أنا لم أقتله بل قتله أصحابه. ولعلّه كان سيقيم العزاء عليه، ويبيد جميع أصحاب أمير المؤمنين من بعدها، أي أنّه ما كان ليبقى هناك أي شيء باسم التشيّع، فيظهر بعد 20 سنة في الكوفة جماعة تدعو الإمام الحسين عليه السلام . فما كان ليبقى شيء من الأساس. لقد حفظ الإمام الحسن الشيعة، أي أنّه حفظ البناء حتّى ترجع الحكومة إلى أهل البيت بعد عشرين أو 25 سنة.(13/03/1379)
 
الاعتراض على الصلح
بعد أن صالح الإمام الحسن معاوية، بدأ الجاهلون يذمّونه بمختلف العبارات، وبعضهم كان يسلّم عليه بـ "مذلّ المؤمنين"2، ويقولون له إنّك بصلحك هذا قد أذللت المؤمنين المتحمّسين لقتال معاوية واستسلمت لمعاوية، وفي بعض الأحيان كانوا يستخدمون عبارات أكثر احتراماً وأدباً، إلا أنّ المضمون كان واحداً. وقد قام الإمام الحسن عليه السلام في مقابل هذه الاعتراضات والملامات بمخاطبتهم بجملة لعلّها هي الأبلغ في كلّ خطبته: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾3. وهي جملةٌ قرآنية فكأنّه يريد أن يقول قد يكون ما جرى فتنة لكم وامتحاناً أو أنّه متاع محدود لمعاوية. وهذا يدلّ دلالة واضحة على أنّ الإمام
 
 
 

1- سورة آل عمران، الآية: 54.
2- تحف العقول، ص 308.
3- سورة الأنبياء، الآية: 111.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

124

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  كان ينتظر المستقبل، وهذا المستقبل لا يمكن أن يكون سوى أنّ الحكومة الّتي لا يمكن أن تكون مقبولة بنظر الإمام الحسن عليه السلام والّتي هي على غير الحقّ يجب أن تتنحّى جانباً وتأتي حكومة وفق رأيه. لهذا، كان يقول لهم إنّكم لستم مطّلعين على فلسفة هذا الأمر. فماذا تعلمون؟ لعلّ هناك مصلحة في هذا الأمر.

 
في بداية الصلح جاء اثنان من وجهاء الشيعة - مُسيّب بن نَجَبة وسليمان بن صُرد - ومجموعة من المسلمين إلى الإمام المجتبى عليه السلام . وقالوا لدينا قوى كثيرة من خراسان ومن العراق وغيرهما ونحن نضعهم بتصرّفك، ونحن مستعدّون أن نلاحق معاوية. فطلبهم عليه السلام إلى خلوةٍ وتحدّث معهم بمقدار. وبعد أن خرجوا من عنده كانوا هادئين وتركوا قوّاتهم ولم يعطوا لمن كان معهم أيّ جوابٍ واضح. ويدّعي طه حسين أنّ هذا اللقاء قد وضع في الواقع الحجر الأساس لجهاد الشيعة. أي أنّه يريد أن يقول إنّ الإمام الحسن عليه السلام قد جلس معهم وشاورهم وأوجد في هذا الاجتماع التشكيلات الشيعية العظيمة.
 
لهذا، يتّضح هذا الأمر في حياة الإمام الحسن عليه السلام وفي كلماته، وإن لم تكن أرضية مثل هذا القيام مهيّأة في ذلك العصر لأنّ وعي الناس كان قليلاً، وكانت الإمكانات المالية للعدوّ وإعلامه كثيرة جداً. لقد استعمل العدوّ أساليب لم يكن للإمام الحسن عليه السلام أن يستعملها، كدفع الأموال دون طائل، وجمع الفاسدين والأشرار وأمثالهم. فلذلك كانت يد معاوية مبسوطة بخلاف الإمام الحسن عليه السلام .(مجلة پاسدار اسلام، 6)
 
توجد رواية عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: "وُقّت هذا الأمر في السبعين"1 فبالتقديرات الإلهية إنّ أمر الحكومة يعود إلى أهل البيت حتّى ولو بعد مرور 30 سنة على شهادة أمير المؤمنين عليه السلام و10 سنوات على شهادة
 
 
 

1- الكافي، ج1، ص 368.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

125

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  الإمام الحسين عليه السلام . غاية الأمر كيف يمكن أن تحصل هذه النتيجة بمثل هذه العظمة؟(الجواب) عندما يهيّئ الناس مقدّماتها بالإرادة والعزم. والله تعالى لا يحابي أحداً، وليس له من أقارب! فالأمر الّذي كان على عاتق الناس لم ينجزوه. أمّا العمل الّذي كان على عاتق الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام فقد أدّياه، ولكن العمل الّذي كان على عاتق الخواص - عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عبّاس وغيرهما - فلم يتمّ. حتّى أولئك الّذين جاؤوا فيما بعد إلى كربلاء وحاربوا مع الإمام الحسين عليه السلام لم يفعلوا ما كان ينبغي أن يفعلوه في زمان مسلم. لقد قصّروا، وإلّا لما حدث لمسلم ما حدث. كان عليهم أن ينهوا المسألة ولم يفعلوا. وهذا التقصير أدّى إلى أن تحدث واقعة كربلاء.

 
ثمّ يقول عليه السلام : "فلمّا أن قُتل الحسين صلوات الله عليه اشتدّ غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخّره إلى أربعين ومائة"1. أي أنّه في الظاهر قد تأخّر. وبرأيي قد وصل إلى سنة 140 أي أنّه تأخّر سبعين سنة. وهي السنوات الّتي وصل فيها العبّاسيّون إلى السلطة... أي من المعلوم أنّ صلح الإمام الحسن عليه السلام ، قد هيّأ الأرضية لهذا العمل الكبير وإلا فإنّ الأئمّة عليهم السلام لم يكونوا ليتركوا القضية. فهل أنّ قضية الولاية والحكومة هي قضية بسيطة؟! لقد كان هذا أساس الدين ومحوره. ولكن في النهاية هذا ما حدث.(13/03/1379)

الصلح وتبديل مجرى الخلافة
لقد قيل الكثير بشأن هذا الصلح. وأمّا ما أريد أن أقوله فهو التعامل مع قضية صلح الإمام الحسن عليه السلام من رؤية جديدة. لأنّ هذه الحادثة تمثّل مقطعاً تاريخيّاً شديد الحساسيّة يجعل أهميّة هذه الحادثة أكبر من أيّة حادثة سياسيّة طيلة تاريخ الإسلام. إنّ تاريخ الإسلام مليءٌ بالأحداث المختلفة -
 
 
 

1- الكافي، ج1، ص 268.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

126

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  أحداث عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وما بعده وعصر أمير المؤمنين عليه السلام والحوادث في عهد الأئمّة عليهم السلام والأمويين والعبّاسيين - فلذلك، الإسلام تاريخٌ مليءٌ بالحوادث المهمّة. لكن لعلها قليلةٌ هي الأحداث الّتي تشبه هذه الحادثة، حادثة الإمام الحسن عليه السلام ، من حيث البُعد المصيريّ للتاريخ الإسلاميّ كلّه. لا يوجد ما يماثل هذه الحادثة سوى حادثة أو اثنتين في تاريخ الإسلام، كان لهما الأثر المصيريّ على مستوى حركة الإسلام وتاريخ الإسلام كلّه وعلى مرّ القرون المتمادية. كانت حادثةً مهمّةً جداً من هذه الناحية.


خلاصة الأمر أنّ هذه الحادثة هي عبارة عن تبديل مجرى الخلافة الإسلامية إلى المَلَكية. فهذه الجملة مليئة بالمعنى والمضمون لو تأمّلنا فيها. فالخلافة هي نوع من الحكومة والملكية هي نوعٌ آخر. ولا ينحصر التمايز بين هاتين بخصوصيّة واحدة أو خمس خصوصيّات. فمسار الملكيّة ومسار الخلافة، هما مساران منفصلان ويتمايزان بالكامل على مستوى إدارة المسلمين وحكمهم، وإدارة البلاد والمجتمع الإسلاميّ. وفي هذه الحادثة تبدّل مسار القطار العظيم للتاريخ الإسلاميّ والحياة الإسلامية، مثلما يحدث عندما تنظرون إلى القطارات عند تغيّر مساراتها، ففي محلٍّ ما يتم تبديل هذه السكّة ويؤدي ذلك إلى أن يتغيّر مسار القطار 180 درجة، وقد يكون القطار متّجهاً نحو الشمال فيصبح بعد ذلك متّجهاً إلى الجنوب. وبالطبع، إنّ هذا التغيير إلى 180 درجة لا يحصل في لحظةٍ واحدة ملموسة، لكنّ في نهاية الأمر، عندما ينظر الإنسان يجد أنّه قد حصل ذلك، وإنّني أنظر إلى هذه الحادثة من هذه الحيثية. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

127

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  أحداث عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وما بعده وعصر أمير المؤمنين عليه السلام والحوادث في عهد الأئمّة عليهم السلام والأمويين والعبّاسيين - فلذلك، الإسلام تاريخٌ مليءٌ بالحوادث المهمّة. لكن لعلها قليلةٌ هي الأحداث الّتي تشبه هذه الحادثة، حادثة الإمام الحسن عليه السلام ، من حيث البُعد المصيريّ للتاريخ الإسلاميّ كلّه. لا يوجد ما يماثل هذه الحادثة سوى حادثة أو اثنتين في تاريخ الإسلام، كان لهما الأثر المصيريّ على مستوى حركة الإسلام وتاريخ الإسلام كلّه وعلى مرّ القرون المتمادية. كانت حادثةً مهمّةً جداً من هذه الناحية.


خلاصة الأمر أنّ هذه الحادثة هي عبارة عن تبديل مجرى الخلافة الإسلامية إلى المَلَكية. فهذه الجملة مليئة بالمعنى والمضمون لو تأمّلنا فيها. فالخلافة هي نوع من الحكومة والملكية هي نوعٌ آخر. ولا ينحصر التمايز بين هاتين بخصوصيّة واحدة أو خمس خصوصيّات. فمسار الملكيّة ومسار الخلافة، هما مساران منفصلان ويتمايزان بالكامل على مستوى إدارة المسلمين وحكمهم، وإدارة البلاد والمجتمع الإسلاميّ. وفي هذه الحادثة تبدّل مسار القطار العظيم للتاريخ الإسلاميّ والحياة الإسلامية، مثلما يحدث عندما تنظرون إلى القطارات عند تغيّر مساراتها، ففي محلٍّ ما يتم تبديل هذه السكّة ويؤدي ذلك إلى أن يتغيّر مسار القطار 180 درجة، وقد يكون القطار متّجهاً نحو الشمال فيصبح بعد ذلك متّجهاً إلى الجنوب. وبالطبع، إنّ هذا التغيير إلى 180 درجة لا يحصل في لحظةٍ واحدة ملموسة، لكنّ في نهاية الأمر، عندما ينظر الإنسان يجد أنّه قد حصل ذلك، وإنّني أنظر إلى هذه الحادثة من هذه الحيثية. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

128

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 خصائص تيار الحق والباطل

فيما يتعلّق بخصائص كلّ تيّار، هناك الكثير ممّا يمكن أن يُقال. بحيث لو أردنا أن نعدّدها لاحتجنا إلى لائحةٍ طويلة، وقد قمت بتبويبها. فإنّ تيّار الحقّ، أي تيّار الإمام الحسن عليه السلام ، يعطي الأصالة للدين، فبالنسبة لهم الأصل كان الدين. فما هو الدين؟ هو أن يبقى الإيمان والاعتقاد بالدين عند الناس، وأن يبقى الناس متعبّدين بالدين ومتمسّكين بالإيمان والعمل، وأن يكون الدين حاكماً في إدارة المجتمع. كان الأصل بالنسبة لهم هو أن يتحرّك المجتمع وفق إدارة الدين وقدرته وحاكميّته وأن يكون النظام هو النظام الإسلاميّ. الحصول على القدرة والحكومة والإمساك بزمام السلطة هما بالمرتبة الثانية، والثالثة والرابعة وهكذا، وغيرها من القضايا الفرعية. لكنّ القضية الأساس كانت أنّ هذا النظام وهذا المجتمع ينبغي أن يُدار وفق حاكمية الدين، وأن يبقى أبناء هذا المجتمع على دينهم وإيمانهم، وأن يترسّخ ويتعمّق هذا الأمر في قلوبهم. كانت هذه هي خصائص التيّار الأوّل.

أمّا التيّار الثاني فكان الإمساك بالسلطة هو الأصل عنده، بأيّ ثمنٍ كان. كانوا يريدون الحكومة... وكانت هذه هي السياسة الحاكمة على التيّار الثاني. وكانت القضية بالنسبة لهذا التيّار الإمساك بالسلطة بأيّ ثمنٍ كان وبأيّة وسيلة ومهما كانت الوسائل. 

مثلما هو معروفٌ الآن في العالم بين السياسيين. بالنسبة لهم ليس الأساس الأوّل للقيم والأصول. فإن استطاعوا أن يحافظوا على الأصول الموجودة في أذهانهم فَبِها، وإن لم يتمكّنوا فإنّ الأساس عندهم هو أن تبقى السلطة بأيديهم. هذا ما هو مهمٌّ بالنسبة لهم. ومثل هذا يُعدّ حدّاً حسّاساً ومهمّاً. من الممكن أن يكون كلّ من التيّارين عاملاً بظواهر الدين، كما كان الأمر في الحرب بين أمير المؤمنين عليه السلام ومعاوية. ففي يومٍ من الأيّام، نجد أنّ جماعة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

129

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 من المقاتلين كانوا في صفوف أمير المؤمنين عليه السلام - في حرب صفّين الّتي وقف معاوية فيها مقابل أمير المؤمنين عليه السلام - ثم تردّدوا، وكان من بينهم عدّة من أولئك الّذين يحملون الشبهات ولا يستطيعون أن يحلّوها بأنفسهم، ولا هم يرجعون إلى شخصٍ قادرٍ على ذلك، فلذلك كانوا يعزمون على إشاعتها، فيجمعون مجموعة من الأفراد من حولهم. ومثل هؤلاء كانوا يقعون في التردّد، فيقولون لماذا نحن نتحارب؟ فهم يصلّون ونحن نصلّي، وهم يقرأون القرآن ونحن نقرأ القرآن، وهم يذكرون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونحن كذلك، فوقعوا في مثل هذا التردّد والحيرة. وكان هناك عمّار بن ياسر - وقد وجدت نقطةً بارزةً بشأن عمّار بن ياسر في تاريخ صدر الإسلام - هذا الجليل المحلِّل والكاشف للمسائل المليئة بالشبهات والدقيقة، والّتي كانت في ذلك الزمان مورد غفلة وجهالة. فهذا هو شأن عمّار بن ياسر في تاريخ الإسلام. فإذا كنّا نعرف مالكاً الأشتر بسيفه وشجاعته، فعلينا أن نعرف عمّار بن ياسر بكلامه وفكره ورؤيته الصحيحة وكشفه للكثير من الأمور في تاريخ صدر الإسلام. قليلة هي الموارد الّتي كانت موارد شبهة في زمن أمير المؤمنين عليه السلام ولا يوجد لعمّار بن ياسر فيها حضور. لقد كان هذا الرجل الجليل رجلاً استثنائياً.


لقد علم عمّار بن ياسر أنّ هناك جماعة وقعوا في هذه الشبهة، فذهب إليهم وبيّن لهم الحقائق. واتّضح لهم أنّ القضيّة ليست قضيّة هذه الظواهر كالصلاة، وقال أقسم بالله أنّني رأيت في حربٍ أخرى هاتين الرايتين تتقابلان، هذه الراية الّتي يحملها أمير المؤمنين عليه السلام اليوم، وهذه الراية الّتي تقف مقابله ويحملها معاوية، وذلك في معركة بدر. ففي معركة بدر تقابلت هاتان الرايتان - راية بني هاشم وراية بني أميّة - فكان تحت هذه الراية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وتحت تلك الراية معاوية هذا وأبوه، وتحت هذه الراية النبيّ وهذا أمير المؤمنين عليه السلام . فالخلاف بينهما خلافٌ أصوليّ. فلا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

130

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  تنظروا إلى هذه الظواهر، وأزيلوا هذه الشبهة من أذهانكم.


أحياناً، قد يراعي هذا التيّار، الّذي تكون السلطة أساساً بالنسبة له، الظواهر الإسلامية وهذا ليس دليلاً ومعياراً، بل ينبغي النظر إلى باطن القضيّة وتشخيصها بذكاء، وكيف أنّ كلّ تيّار ينطبق على أيّ شيء، هذا هو الأمر الأول. فخصائص كلّ من التيارين: أنّ هناك تياراً لا همّ له سوى الوصول إلى السلطة، وتيّاراً يتّجه نحو القيم والمبادئ والأصول. فالبُنى الإسلامية والأفكار الإسلامية الأصيلة، أي القيم الإسلامية، هي الّتي يؤمن بها ويسعى من أجلها ويجاهد في سبيلها. فمن جانبٍ هناك الأصوليّة والتوجّه إلى الأصول وحفظ القيم الأصيلة، وفي المقلب الآخر، هناك السعي نحو السلطة والإمساك بالقدرة. وأحياناً، يكون الأمر هكذا وفي بعض الأحيان في طريقٍ آخر، لكن مهما حدث فإنّه يريد الإمساك بالسلطة. هذا هو الأمر الأوّل.

أساليب تيار الحق والباطل في العمل
أمّا بالنسبة لتيّار الباطل فما هي الأساليب الّتي استخدمها؟ فمثل هذا لافت للأنظار جداً. إنّ أساليب الباطل في العموم هي مزيج من عدّة أشياء، أي أنّ خطّة معاوية كانت مبنيّة على عدّة أجزاء من أجل الحفاظ على السلطة وتعميق القدرة، ولكلٍّ منها أسلوبه ومنهجه بحسب اختلاف المكان. فأحد هذه الأساليب كان عبارة عن استعراض القدرة، وفي بعض الأماكن كانوا يصرّون كثيراً على هذا الاستعراض وينكّلون؛ وثانيها هو المال، الّذي يُعدّ أكثر الأشياء فعالية بيد عوامل الشرّ، الآخر هو الإعلام، والرابع هو العمل السياسي، أي الأساليب السياسية، والمقايضات السياسية. هذه بالمجموع أساليب معاوية.

في مكانٍ ما يبلغ العنف بمعاوية درجة أن يقتل حُجر بن عديّ، الّذي هو من صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، حتّى ولو كان قتله يحمّله ثمناً باهظاً. ثمّ يلاحق رشيد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

131

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  الهجريّ حتّى يقتله. ونجده يولّي زياد بن أبيه، هذا الفرد الظالم والمعقّد والّذي لا قيمة عنده ولا همّ له سوى السلطة، والّذي كان سيّئ الأخلاق، يولّيه على الكوفة - الّتي هي مركز سلطة الفكر الشيعيّ والفكر الولائيّ - ويعطيه الإجازة والصلاحية ليفعل ما يريد. وبشأن زياد بن أبيه كتب المؤرّخون: "أخذْك بالظنّة وقتلْك أولياءه بالتّهمة"1، فكان يأخذ أيّ شخصٍ بالتهمة. وسوء الظن، لأدنى مورد، فيعتقل ويحبس وينكّل بكلّ من اتُّهم بالانتماء لأهل البيت أو التعاون معهم ومع ذلك التيّار المغلوب، ويقتله ويقضي عليه. لقد عمّت فتنة في الكوفة والعراق الّذي كان مركز حاكمية التشيّع وأهل البيت عليهم السلام . هكذا كان يستعرض قوّته. ومعاوية نفسه في موردٍ آخر، كان يلاطف امرأة عجوز تأتي من القبيلة الفلانية وهي تسبّه وتشتمه، وتوبّخه بأنّك فعلت كذا وكذا وكذا، فيضحك لها ويلاطفها، ولا يقول لها شيئاً. يأتي عديّ بن حاتم إلى معاوية وقد كان فاقد البصر، فيقول معاوية: "يا عديّ إنّ عليّاً لم ينصفك، لأنّه حفظ ولديه في حروبه وأخذ منك ولديك". يبكي عديّ ويقول: "يا معاوية، أنا لم أنصف أمير المؤمنين حينما استُشهد هو وأنا ما زلت حيّاً"2. وكان كلّ من يأتي من المرتبطين بأهل البيت عليهم السلام إلى مجلس معاوية، فيحصل فيه أقل إهانة لأمير المؤمنين، كان يحمل على معاوية وأتباعه بشجاعة وقوة وصراحة، وكان معاوية يضحك ويلاطف وأحياناً كان يبكي. كان يقول: أجل تقول حقّاً. لعلّ ذلك بالنسبة لكم لا يُصدّق، ولكن هذا الواقع، هكذا كان الإعلام، فالإعلام أكثر الأساليب سمّاً وخطراً على مرّ التاريخ. وكان الباطل يستفيد منه كثيراً. ولا يمكن لتيّار الحقّ أن يستخدم الإعلام كما يستخدمه الباطل في أيّ زمن. فلأجل أن يتمكّن الإعلام من التغطية الكاملة 

 
 

1- بحار الأنوار، ج 44، ص 214.
2- الدرجات الرفيعة، ص 360.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

132

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 على الأذهان يحتاج إلى التلاعب وإلى الكذب والخداع. وتيّار الحقّ ليس من جماعة الكذب والخداع. إنّه تيّار الباطل الّذي لا يهمّه أي شيء، فالمهمّ عنده هو أن يقلب الحقيقة في أعين الناس. وهو يستفيد من جميع الوسائل، وقد فعل.

 
وما هو مشهور ومتناقل على ألسن متعدّدة، أنّه عندما قُتل أو ضُرب أمير المؤمنين عليه السلام في محرابه، تعجّب أهل الشام كيف أنّ عليّاً كان في المحراب. فالمحراب هو للصلاة، وبعض الناس لا يصدّق مثل هذا، ولكن هذا هو الواقع؛ فعلى مدى سنوات كانت حكومة معاوية، ومن قبله أخيه يزيد بن أبي سفيان، تبثّ مثل هذه الأنباء في الشام، وتُظلم الأجواء وتشوّش الأذهان، بحيث إنّه لم يكن من الممكن لأحد أن يفهم غير هذا، هذا ما حدث. كان الإعلام لمصلحة بني أميّة ومعاوية وضدّ آل النبيّ. فهذا الواقع الّذي قام في العالم الإسلامي وبقي إلى حوالي مائة سنة بعد الهجرة - أي لعلّه أربعون أو خمسون سنة بعد عهد أمير المؤمنين عليه السلام ، كان أمير المؤمنين يُلعن خلالها على المنابر - وهذا اللعن في عالم الإسلام، الّذي يُتّهم به الشيعة ويلامون عليه أنّه لماذا تلعنون بعض الصحابة، كان من عمل معاوية وأخلاقه، فهم من قام بهذا العمل، إنّه عمل معاوية. فأمير المؤمنين، عليّ بن أبي طالب عليه السلام الّذي كان "أفضل القوم1 وأقدمهم إسلاماً2" وأقرب أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، كان يُطعن به ويُلعن لعشرات السنوات على المنابر. وحتى زمن عمر بن عبد العزيز، الّذي منع ذلك عندما صار خليفةً، وقال لا يحقّ لأحد أن يفعل هذا. فبعد عبد الملك بن مروان، حكم ولداه، الوليد وسليمان، بحدود 12 أو 13 سنة، ثمّ جاء بعدهما عمر بن عبد العزيز، وبعد سنة أو سنتين من حكومته،
 
 
 

1- الكافي، ج15، ص201، "كان عليّ أفضل الناس بعد رسول الله".
2- عوالم العلوم والمعارف، ج11، ص 383، ".. قد زوّجتك أقدمهم إسلاماً، وأعظمهم حلماً، وأحسنهم خُلقاً، وأعلمهم بالله علماً".(من كلام الرسول مع ابنته حضرة الصدّيقة الكبرى)


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

133

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  حكم ولدا عبد الملك الآخران أي يزيد وهشام. لم يسمح عمر بن عبد العزيز لهم أن يلعنوا أمير المؤمنين، وهو ما كانوا يفعلونه إلى ذلك الوقت. هذا هو أحد الأعمال الّتي كانوا يفعلونها. أجل، في البداية كان الناس يتعجّبون لكنّهم اعتادوا على ذلك شيئاً فشيئاً.

 
نقرأ في التاريخ أنّه لم يبقَ من قارئٍ أو محدّثٍ أو راوٍ في الدين أو في العالم الإسلاميّ إلّا وأجبره جهاز حكومة معاوية وأتباعه على اختلاق حديثٍ أو تفسير آية، وأمثال ذلك، في ذمّ أهل البيت عليهم السلام وفي مدح أعدائهم. 
 
هذا سُمرة بن جندب بن معروف الّذي وردت بشأنه الرواية المعروفة "لا ضرر ولا ضرار"1، وهو كان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، غاية الأمر أنّه صحابيّ غضب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليه، وذلك بسبب تلك القصّة المعروفة أنّه كان له شجرة في أرضٍ لعائلةٍ وكان يذهب ويزعجهم ويدخل عليهم في بيتهم من دون أي استئذان، ومع وجود العائلة والنساء والأطفال في ذلك البيت، وكانوا يرونه قد دخل عليهم فجأة لأنّ له هذه الشجرة، فشكوا إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : بِع هذه الشجرة لأصحاب هذا البيت، فقال: لا أبيعها، هذه شجرتي وأنا أريد أن أهتمّ بشجرتي، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : بِعها لي، فلم يقبل، فقال له الرسول: أعطيك المبلغ الفلانيّ، فلم يقبل، فقال له الرسول: أعطيك شجرة في الجنّة، وهذا يعني وعداً بالجنّة، لكنّه لم يقبل وقال أريد هذه الشجرة ولا بدّ، فلمّا وجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الإصرار قال لصاحب المنزل اذهب واقتلع هذه الشجرة وارمِها خارجاً "فلا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، أي أنّه لا يوجد في الإسلام ما يقبل بأذيّة الناس وضررهم، فإذا كان الأمر بحجّة أنّ هذا ملكي فنؤذي الناس، فلا يوجد مثل هذا الأمر في الإسلام. فحديث "لا ضرر" المعروف الّذي يُعدّ من الأصول والقواعد الفقهية عندنا 
 
 
 

1- من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 334، "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

134

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 هو بشأن هذا الرجل. إنّ سمرة بن جندب بقي حيّاً إلى زمن معاوية. انظروا أيّة عاقبةٍ حسنة وصل إليها، لأنّ معاوية كان يسعى وراء الصحابة. فقد كان لأصحاب النبيّ شهرة ومكانة ولهذا كان يسعى لجمعهم حوله. فأحضره معاوية إليه وقال له إنّني أرغب في أن تقول إنّ هذه الآية المعروفة، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾1 قد نزلت بعليٍّ عليه السلام . أراد معاوية أن يجعل هذه الآية مقابل كلام أمير المؤمنين عليه السلام في ذمّ الدنيا، في تلك الخطبة القاصعة في نهج البلاغة الّتي لها أثر كبير. أنتم تلاحظون أنّ تلك الكلمات والخطب كانت في منتهى الجمال. 

 
تصوّروا اليوم مثلاً شخصاً يؤلّف كتاباً أو شعراً أو مقالةً في غاية الفصاحة والجمال والفنّ حول موضوع ما، من الطبيعيّ أنّ الموضوع سيأخذ مجده، وسيكون لصاحب هذا الأثر الفنّي حلاوة في أعين الناس. وهنا لا يمكن في الواقع مقارنة كلام أمير المؤمنين عليه السلام بأيّ أثر من الآثار الفنّية الّتي نعرفها، إنّه فوق ذلك بكثير، إنّه آية في الجمال. وهذه كلمات أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، وكذلك هي في الواقع في بيان القيم الإسلامية والمعارف الإسلامية، كانت ممّا لا يمكن لمعاوية تحمّله وقبوله، لأنّها تجعل أمير المؤمنين عليه السلام مورد استحسان في أعين الناس. أراد (معاوية) أن يواجه هذه الكلمات الزاهدة في مذمّة الدنيا، والّتي نُقلت عن أمير المؤمنين عليه السلام ، فلذلك قال معاوية لسمرة بن جندب قل أنّ هذه الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام ؛ أي أنّ عليّاً عليه السلام (وفق ذلك) سيكون ممّن يتحدّث عن الدنيا بحديثٍ رائعٍ ويُعجب الناس ويقسم على ذلك لكنّه في الواقع هو من ألدّ أعداء الله والإسلام. 
 
 
 

1- سورة البقرة، الآية: 204.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

135

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 والآية الأخرى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّه﴾1 قيل إنّها نزلت في ابن ملجم. هذه من الأمور الّتي كان يحتاجها معاوية كثيراً في إعلامه وتبليغاته. فقال لأحد أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي شاهده في المعارك وكان إلى جنبه - فسمرة بن جندب كان منذ حداثته جنديّاً وكان يشارك في المعارك رغم أنّه كان تحت سنّ التكليف، كان من هذا النوع، وكان من أصحاب النبيّ أيضاً - قال له قل إنّ هذه الآية قد نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام . اقترح عليه ذلك، لكنّ سمرة بن جندب، رغم أنّه كان سيئاً وشقياً، لكنّ وجدانه لم يكن مستعدّاً، فقال: كلا. والّذين كانوا يتوسّطون لهذا الأمر في بلاط معاوية قالوا له لا تقلق فإنّ حسابك سيصلك، فلا تقلق بشأن المال وسوف يعطيك 50 ألف درهماً، وكان هذا المبلغ في ذلك الزمان كثيراً جداً، فخمسون ألف مثقال من الفضّة يعني خمسة مثاقيل من الذهب، في حسابات ذلك الزمان، هذا يُعدّ ثروة كبيرة، قالوا له نعطيك خمسين ألفاً ، فقال: كلا، لا أقبل. هنا يقول بعض الناس إنّ سمرة بن جندب كان في الواقع يتلاعب وأراد أن يرفع السعر لا أنّه قد أنّبه ضميره، فهو كان يعلم بأنّ معاوية يحتاج إلى هذا الأمر وفي الحقيقة كان يحاول أن يساوم. هنا، هل أنّ وجدانه كان يتقبّل الأمر أم لا، لا أعرف، ولا أضع ذلك على ذمّتي، ولكن عندما لم يقبل رفعوا السعر إلى مائة ألف درهم ولم يقبل أيضاً، حتّى وصل الأمر إلى نحو 500 ألف درهم تقريباً، لكن مثل هذا المبلغ الكبير جداً، هو ثروة استثنائية، ولكن مع ذلك لم يقبل.

 
هنا، قال معاوية لذلك الّذي كان يتوسّط إنّ هذا الرجل بلا عقلٍ وهو مجنون لأنّه لا يعرف ما هي الـ 500 ألف، فقولوا له: 500 ألف وأحضروه إلى هنا حتّى أرى هل أنّه سيقبل أم لا. فأمر معاوية من كان مسؤولاً عن بيت المال
 
 
 

1- سورة البقرة، الآية: 207.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

136

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  أن يحضر هذا المبلغ إلى المجلس. وكما تعلمون في تلك الأزمة الأموال ستكون من الذهب، وعندما توضع في الأكياس ستكون ثقيلة وذات حجم كبير وتحتاج إلى من يحملها، فأحضر الحمّالون الأكياس ووضعوها فوق بعضها بعضاً حتّى وصلت إلى أعلى السقف، وقالوا هذه هي الـ 500 ألف، فهل أنت جاهزٌ أم لا؟ عندما نظر إلى هذه الأموال ورأى هذه الثروة العظيمة قبِل، وفسّر تلك الآية كما أراد معاوية وبقيت في الكتب. وصحيحٌ أنّ مثل هذه الكلمات الممتزجة بالخطأ والرذالة قد تمّ اختلاقها في العالم الإسلاميّ، وبالأغلب جاء العلماء فيما بعد واستبعدوها، لكن هذه رشحاتٌ من هؤلاء وقد بقيت في أذهان عدّة وأثّرت فيهم، وهذه من الأعمال الّتي كان يقوم بها معاوية في الإعلام. فمجموع هذه الأساليب هي الّتي شكّلت أساليب معاوية لكسب القدرة.


أمّا تيّار الحقّ فإنّه لم يجلس ساكناً مقابل هجمات الباطل. فقد كانت له أساليبه والّتي يمكن اختصارها بالمقاومة أوّلاً والحركة المقتدرة. فبعضٌ تصوّر أنّ الإمام الحسن عليه السلام لم يحارب خوفاً، كلا، إنّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام كان عازماً بشدّة على الحرب وهو من شجعان العرب. لقد نظرت في الكتاب في شرح بطولات الإمام المجتبى عليه السلام في القضايا المختلفة، فبطولاته في الأحداث المختلفة كثيرة. غاية الأمر أنّه في حروب أمير المؤمنين عليه السلام ، وحيث كان الميدان ميدان حرب كان أمير المؤمنين عليه السلام نفسه يمنع أن يحارب الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام ، وكان يمنع أن يقعا في الخطر. فقال بعضهم لماذا ترسل محمد ابن الحنفية وهو ابنك وتمنع من إرسال الحسن والحسين عليهما السلام ؟ فقال إنّي أخاف أن ينقطع نسل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم . فهما بقيّة النبيّ وأريد أن أحفظ نسل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . كان يشعر بالخطر في ميدان الحرب وأراد أن يحفظهما، لا بسبب حبّه فهو يحبّ أبناءه الآخرين، ونفس أمير المؤمنين عليه السلام هو رجل الحرب ورجل الميدان
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

137

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  والمخاطر وليس من أولئك الّذين يتوهّمون الخطر. غاية الأمر أنّهما ابنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمير المؤمنين عليه السلام لم يرغب أن يوقعهما في الخطر. ولأنّهما حضرا في حروب أمير المؤمنين عليه السلام فلم يكن لهما صولات كثيرة لأجل هذا، لهذا لم يُسجّل اسم هذين العظيمين - الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام - ضمن الجشعان، ولكن في الحروب الإسلامية ضدّ إيران كان للإمام الحسن عليه السلام مشاركة، وفي دفاعه عن بيت عثمان أمام المهاجمين والثوّار، كان للإمام الحسن عليه السلام حضور بأمرٍ من أمير المؤمنين عليه السلام ، وفي القضايا المهمّة الكثيرة كان للإمام الحسن عليه السلام أيضاً حضور. وفي واقعة الجمل وصفّين كان له دورٌ مهمٌّ واستثنائيّ، وقد لاحظت اسم الإمام الحسن عليه السلام في وقائع صفّين والجمل، خاصّةً في هاتين الحادثتين، كثيراً. بينما شاهدت اسم الإمام الحسين عليه السلام أقل. أي أنّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام كان له حضورٌ أكثر في الميادين والأحداث من الإمام الحسين عليه السلام . لقد كان رجل الحرب والسياسة والتدبير والفصاحة والقوّة. عندما يطالع المرء محادثات ومناظرات الإمام الحسن عليه السلام يقشعرّ بدنه من قوّته وقدرته. وفي وقائع الصلح، وبعد الصلح، نُقل عن هذا العظيم من الكلمات القاطعة والقاصعة ما كان في بعض الموارد أشدّ قوّةً وأحدّ من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام . ولعلّه قليلاً ما شاهدت مثل هذه الشدّة والقدرة في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام في مقابل الأعداء، بسبب أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يواجه مثل هؤلاء الأعداء وجهاً لوجه وعن قرب، والّذين كانوا بمثل تلك الوقاحة والخبث. لهذا، لا يوجد أيّ نقصٍ في عمل الإمام الحسن عليه السلام . إنّما كان النقص في الظروف الزمانية. وباقتدارٍ وقف للدفاع إلى الحدّ الممكن، وهذا كان أحد أساليبه. ففي بعض المواطن يكون الوقوف المقتدر سبباً للضرر. فإنّ تغيير الأسلوب والمناورة في اختيار الأساليب يعدّان عملاً أساسيّاً وضرورياً. 

 

 

 

 

 

 

150


138

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 والثاني الإعلام, إنّ العمل الإعلاميّ في جهاز الحقّ له أهميّة فائقة. وغاية الأمر أنّ تيّار الحقّ مكتوف في الإعلام. فإنّه لا يمكن أن يستخدم أيّ أسلوبٍ أو وسيلة، وهو لا يبيّن سوى الحقّ والواقع. هناك أشياءٌ تكون مرغوبة عند الناس، والتيّار الباطل لا يأبى أبداً أن يظهرها كما يحبّ الناس، لكنّ تيّار الحقّ لا يمكنه ذلك، بل يبيّن الحقّ ولو كان مرّاً. كيف كان يخاطب أمير المؤمنين عليه السلام أصحابه بطريقة مرّة بحيث يتعجّب الإنسان؟ نحن الّذين نحبّ أن تكون أساليبنا مثل أسلوب أمير المؤمنين عليه السلام أحياناً نتعجّب من هذا الأسلوب في بعض الموارد. أمّا معاوية، فلم يكن يستخدم هذا الأسلوب بتاتاً. كان معاوية يتملّق الناس، ويسعى للحصول على دعمهم بأيّ ثمنٍ. لم يفعل عليّ بن أبي طالب عليه السلام هذا الأمر أبداً، لا أنّه لم يكن يعرفه بل لإنّه خلاف التقوى وخلاف الأصول، وعليّ بن أبي طالب عليه السلام يقول: "لولا التّقى لكنت أدهى العرب"1، كان هذا الأمر الأصل والجذر في هذه الأعمال والسابقة المقرّبة لعليّ من النبيّ والمفاخر العظيمة الّتي كانت له وتلك الذهنية والروحيّة العظيمة. فمن الواضح أنّه يعرف أكثر من معاوية وهو أشدّ ذكاءً منه ويمكنه أن يقوم بالكثير من الأعمال، ولكنّ الحقّ لا يجيز له.

 
والأسلوب الآخر هو الإصرار على حفظ القيم. فالشيء المهم جداً عند جهاز الحق والذي يتم الاعتناء به في أساليبهم هو إصرارهم على حفظ القيم بأي ثمنٍ كان. وفي النهاية التراجع إلى حدّ حراسة بقاء الدين. فلو أنّ الحقّ رأى أنّ الصمود يؤدّي إلى أن يزول أصل الدين، فإنّه يتراجع. فالإمام الحسين عليه السلام يقول: "الموت أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار"2، فلو أنّه تقرّر أن أقبل العار فأقبله ولكن لا أدخل جهنّم. يوجد بعض الأماكن
 
 
 

1- الكافي، ج 8، ص24.
2- بحار الأنوار، ج 75، ص 128.



 
 
 
 
 
 
 
 
151

139

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

  بحيث نرى بعض الناس، ولأجل أن لا يتحمّل العار، يقوم بعملٍ لا يهمّه معه أن يناله العذاب والسخط الإلهيان. ما هو العار؟ الأصل هو أن يكسب الإنسان رضا الله، وأن يؤدّي تكليفه، ولو بالتراجع عن كلامٍ قاله أو خطٍّ مشى عليه، أو تراجع عن موقفٍ له، فكل ما يريده الله، وكلّ ما يرضي الله يُعتبر أصلاً في حياة الأئمّة. كان الأمر كذلك في حياة الإمام الحسن عليه السلام . فعندما وجد أنّه لا بدّ له أن يقبل بالصلح مع معاوية من أجل الضرورات وضغط الظرف الواقع، بالرغم من أنّه في ذلك الوقت كان يرسل الجند ويحرّض على الحرب ويجيّش الجيوش ويرسل الكتب ويقوم بكلّ ما هو لازمٌ من أجل الحربٍ وبمختلف الأعيرة، وعندما رأى أنّه لا يمكن (القيام بالحرب) قبِل بالصلح. فانفضّ عنه أقرب الناس إليه ... مع أنّ الكثيرين في ذلك الوقت، وبعد أن صالح الإمام الحسن، فرحوا ومن أعماق قلوبهم لأنّهم كانوا متنفّرين من الحرب، ولكن حتّى نفس هؤلاء الّذين فرحوا، رجعوا إلى الإمام الحسن عليه السلام وأرادوا أن يلوموه على تراجعه عن موقفه، حتّى المقرّبون والوجهاء الّذين كانوا من الصحابة المشهورين، جاؤوا إليه وتحدّثوا معه بعبارات غير لائقة. لكنّ الإمام عليه السلام تراجع من أجل الحفاظ على الدين. 


أسباب هزيمة تيار الحق
القضية اللاحقة هي تحليل هزيمة تيّار الحق, إنّ السبب الأساس في هزيمة الإمام الحسن عليه السلام كان ضعف الرؤية العامّة وامتزاج الإيمان بالدوافع المادّية. ففي مجال ضعف الوعي العام، كان الناس بعيدين كلّ البعد عن الوعي، وكان إيمانهم الديني ممتزجاً بالدوافع المادّية. لقد أضحت المادّية عندهم أصلاً، وتزلزلت عندهم القيم لما يزيد على عشر أو عشرين سنة من بعد الصلح. وحدث ذلك في كلّ مجالات القيم. وكان هناك شيء
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

140

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 من التمييز وغيرها من الأمور، كلّ هذه أدّت إلى أن لا يتمكّن الإمام الحسن عليه السلام من المقاومة. وأمّا سلوك الغالبين مع المغلوبين فبدلاً من أن يأتوا إلى الإمام الحسن عليه السلام وأتباعه، فيأسروهم، أو يقتلوهم، فإنّهم على العكس من ذلك، عندما تسلّطوا على الأمور، احترموهم بالظاهر وتعاملوا مع الإمام الحسن عليه السلام بكلّ احترام. لكنّ معاوية وجماعته قرّروا أن يمحوا الشخصية ويضعفوها. فيحفظ الشخص ويبيد الشخصية، هذا كان نهجهم. هذا كان أصلاً أساسياً في الإعلام عندهم.


وأمّا الجّماعة المغلوبة فماذا فعلت مع الغالبين؟ لقد كانت استراتيجيّتهم أن ينظّموا تيّار الحقّ وسط هذا الفضاء المليء بالفتن والغشاوة والمخاطر والسّموم وأن يعطوه شكلاً ليكون العمود الفقريّ لحفظ الإسلام. والآن حيث لا نقدر أن نجعل كلّ المجتمع في ظلّ الفكر الإسلاميّ الصحيح، فبدلاً من أن نهتم بتيّارٍ هشٍّ قابل للزوال - وهو التيّار العام - فلنحفظ تيّاراً عميقاً وأصيلاً في أقلّية ونحفظه لكي يبقى ويضمن حفظ الأصول الإسلامية. هذا ما فعله الإمام الحسن عليه السلام . فقد شكّل تيّاراً محدوداً، أو لنقل بشكل أفضل نظّمه، وهو تيّار الأصحاب أو الأنصار وأصحاب أهل البيت عليهم السلام أي تيّار التشيّع. وبقي هؤلاء طيلة تاريخ الإسلام، وفي كلّ عهود القمع والتنكيل. وقد أدّى ذلك إلى أن يضمنوا بقاء الإسلام، ولو لم يكن هؤلاء لتبدّل كلّ شيءٍ. فقد كان تيّار الإمامة، تيّار رؤية أهل البيت عليهم السلام ، ضامناً للإسلام الواقعيّ.

وأمّا العاقبة فإنّ جماعة الغالبين والمتسلّطين والمنتصرين أضحوا مُدانين ومغلوبين، والمستضعفون أضحوا الحكّام والفاتحين في ذهنية العالم الإسلاميّ. إذا نظرتم اليوم إلى الذهنية الموجودة في العالم الإسلاميّ، وهي الّتي بنحو ما تلك الذهنية الّتي روّج لها الإمام الحسن عليه السلام وأمير المؤمنين عليه السلام ، فإنها ليست الذهنية الّتي أرادها معاوية ويزيد من بعده، وكذلك عبد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

141

الفصل الخامس: الإمام الحسن المجتبى عليه السلام

 الملك بن مروان وخلفاء بني أميّة. تلك الذهنية الّتي كانت لهم انهزمت بالكامل وزالت ولم تعد موجودة في التاريخ. لو أردنا أن نطلق عنواناً على ذهنيّتهم لقلنا إنّها ذهنية النواصب. النواصب فرقة من الفرق الّتي لم يعد لها اليوم في العالم الإسلاميّ وجود خارجيّ بحسب الظاهر. النواصب هم أولئك الّذين كانوا يسبّون أهل بيت النبيّ والإسلام ولا يقبلون إسلامهم، حيث إنّ هذا هو تيّارهم الذهنيّ. لو كان من المقرّر أن يكون معاوية فاتحاً وحاكماً لكان اليوم من المفترض أن يكون تيّاره هو الحاكم في العالم الإسلاميّ. في حين أنّ الأمر ليس كذلك. إنّ التيار الفكريّ لأمير المؤمنين عليه السلام وللإمام الحسن عليه السلام هو الحاكم في العالم. وإن كان في بعض من الفروع وقسم من عقائد الدرجة الثانية والثالثة لم يُنقل، لكنّه في المجموع هذا هو التيّار، الإمام الحسن عليه السلام بناءً على هذا هو الفاتح وتيّاره هو الّذي انتصر. هذه هي خلاصة وقائع صلح الإمام الحسن عليه السلام من ناحية تأثيرها على كلّ التاريخ الإسلاميّ. (02/02/1368)

 

 

 

 

 

 

154


142

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

 الفصل السادس:




الإمام الحسين عليه السلام


مخاطر المرحلة ووسائل المواجهة.
أهداف ثورة الإمام الحسين عليه السلام .
منطلقات الثورة وثمارها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

143

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

 مخاطر المرحلة ووسائل المواجهة


الآفات الداخلية والخارجية
لقد تمّ استشراف الأخبار الّتي تهدّد الإسلام كظاهرةٍ عزيزة، قبل ظهور الإسلام أو في بداية ظهوره، من جانب الرّب المتعال. وقد تمّت ملاحظة وسيلة مواجهة تلك الأخطار، وأودعت في نفس الإسلام. وهذه المجموعة كبدنٍ سالمٍ جهّزه الله تعالى بالقدرات الدفاعيّة، وكآلةٍ سالمةٍ يحمل مهندسها وصانعها أدوات إصلاحها معها. فالإسلام ظاهرةٌ، ومثل جميع الظواهر، يهدَّد بأخطار ويحتاج إلى وسائل للمواجهة. وقد جعل الله هذه الوسيلة في الإسلام نفسه. ولكن ما هو هذا الخطر؟ 
هناك خطران أساسيّان يهدّدان الإسلام، أحدهمّا خطر العدوّ الخارجيّ والآخر هو الاضمحلال الداخليّ.

العدوّ الخارجيّ هو الّذي يستهدف، من خارج الحدود، وجود نظام ما، في فكره وفي جهاز بنيته التحتية العقائدية وقوانينه وكلّ شؤونه، باستخدام جميع أنواع الأسلحة. 

فما المقصود من الخارج؟ ليس المقصود من خارج البلد، بل من خارج النظام وإن كان داخل البلد. هناك أعداءٌ يعدّون أنفسهم غرباء عن النظام، ويعارضونه. هؤلاء هم من الخارج غرباء وأجانب. فهؤلاء ومن أجل القضاء على هذا النظام وإزالته، يسعون بالسلاح، والسلاح الناريّ، وباستخدام أكثر الأسلحة المادية تطورّاً، وبالإعلام والمال وكلّ ما في أيديهم. هذا نوعٌ من الأعداء. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

144

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

 العدوّ والآفة الثانية هي آفة الاضمحلال الداخليّ، أي من داخل النظام، وهذا ليس من الغرباء بل من أصحابه وأهله. فمن الممكن لأهل النظام، على أثر التعب أو الخطأ في فهم الطريق الصحيح، أو على أثر تغلّب المشاعر النفسانية، أو على أثر النظر إلى المظاهر المادّية وتعظيمها، أن يصابوا فجأةً بهذه الآفة من الداخل. وبالطبع، إنّ خطر هذا أكبر من الخطر الأوّل.

 
هذان النوعان من الأعداء - الآفة الخارجية والآفة الداخلية - يكونان بالنسبة لأيّ نظام ولأيّة تشكيلات، ولأيّة ظاهرة. والإسلام وضع علاجاً من أجل مواجهة كلّ من هاتين الآفتين، ووضع الجهاد. الجهاد لا يختصّ بالأعداء الخارجيين، ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾1، فالمنافق هو من داخل النظام. لذلك يجب مجاهدة كلّ هؤلاء. الجهاد هو مقابل العدوّ الّذي يريد أن يهاجم هذا النظام انطلاقاً من رفضه العقائديّ وعدائه له. وكذلك ومن أجل مواجهة ذلك التفكّك الداخليّ، توجد تعاليم أخلاقية مهمّة جداً تفهم الإنسان حقيقة هذه الدنيا، ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾2... أي أنّ هذه الزخارف وهذه المظاهر وهذه اللذائذ الدنيوية، وإن كانت ضروريّة لكم، وإن كنتم مضطرّين لأن تستفيدوا منها وإن كانت حياتكم مرتبطة بها، فلا شكّ في ذلك، ويجب أن تؤمّنوها بأنفسكم، ولكن اعلموا أنّ إطلاقها والتحرّك نحوها بعينٍ مغمضة ونسيان الأهداف هو أمرٌ خطرٌ جدّاً.
 
أمير المؤمنين عليه السلام هو أسد ميدان مواجهة العدوّ، وعندما يتحدّث فإنّ المرء يتوقّع أن يكون نصف خطبه أو أكثرها راجعاً إلى الجهاد، والحرب، والبطولات. لكن عندما ننظر في روايات وخطب نهج البلاغة نجد أنّ أغلب
 
 
 

1- سورة التوبة، الآية: 73.
2- سورة الحديد، الآية: 20.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

145

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

 خطبه ووصاياه راجعة إلى الزهد والتقوى والأخلاق ورفض الدنيا وتحقيرها، وتعظيم القيم المعنويّة والإنسانية الرفيعة. لقد كانت واقعة الإمام الحسين عليه السلام تلفيقاً لهذين القسمين؛ أي أنّ الجهاد مع العدوّ والجهاد مع النفس قد تجلّى في أعلى مراتبه هناك، في واقعة عاشوراء. أي أنّ الله تعالى يعلم أنّ هذه الحادثة ستقع ويجب أن تُظهر المثل الأعلى ليكون قدوةً. كما يحدث في البلاد مع الأبطال عندما يبرزون في مجالٍ ما، ويكون البطل محفّزاً لغيره في ذلك المجال من الرياضة. بالطبع، هذا مثالٌ صغيرٌ من أجل التقريب إلى الأذهان. إنّ واقعة عاشوراء هي عبارة عن حركة عظيمة مجاهدة في كلا الجبهتين. سواء في جبهة المواجهة مع العدوّ الخارجيّ - الّذي هو عبارة عن جهاز الخلافة الفاسد وطلّاب الدنيا، المرتبطين والتّابعين لجهاز السلطة، الّذين أرادوا جعل تلك القدرة الّتي استخدمها النبيّ من أجل نجاة البشر، من أجل تلك الحركة المقابلة لمسيرة الإسلام ونبيّه المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم - أم في الجبهة الداخلية حيث كان المجتمع في ذلك الوقت قد تحرّك بشكلٍ عامّ نحو ذلك الفساد الداخليّ.


النقطة الثانية وهي الأهمّ؛ أنّه مرّ مقطعٌ من الزمن، حيث انقضى عهد المصاعب الأساسية للعمل. فالفتوحات قد تحقّقت، وتمّ الحصول على الغنائم، واتّسع نطاق الدولة، وتمّ قمع الأعداء الخارجيّين من هنا وهناك. وتدفقت الغنائم الوفيرة إلى داخل الدولة. وأضحى هناك مجموعة من أصحاب المال الأثرياء، وصار هناك طبقة جديدة من الأشراف؛ أي أنّه بعد أن قلع الإسلام هذه الطبقة وقمعها تشكّلت طبقة جديدة منها في العالم الإسلاميّ. هناك أفرادٌ وتحت اسم الإسلام وبعناوين إسلامية - ابن الصحابيّ الفلاني وابن هذا التابع وهذا المقرّب للنبيّ - دخلوا في أعمال غير لائقة وغير مناسبة. وقد سجّل التاريخ أسماء بعض هؤلاء. كانوا يجعلون مهر بناتهم مليون مثقال
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

146

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

  من الذهب الخالص أي مليون دينار، بدل أن يكون مهر السنّة، الّذي جعله النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ومسلمو الصدر الأوّل من الإسلام، وهو 480 درهماً. من هم هؤلاء؟ هم أولاد صحابة أجلّاء كمصعب بن الزبير وغيره.(06/11/1371)


لقد بدأت القضايا قبل مرور أقلّ من عقدٍ من الزمان على رحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . في البداية تمتّع أصحاب السابقة في الإسلام - بمن فيهم من صحابة وتابعين وأشخاص قد شاركوا في حروب النبيّ - بالامتيازات. وكان الحصول على عطاءات مالية إضافية من بيت المال أحد هذه الامتيازات. وأضحى هناك عنوانٌ يجعل مساواتهم مع الآخرين غير صحيح، وأنه لا يجوز أن يساوى بهم غيرهم. كانت هذه هي اللبنة الأولى. إنّ التحرّكات الّتي تنجرّ إلى الانحراف تبدأ من هذه النقطة الصغيرة، ومع كلّ خطوة تزداد سرعتها. والانحرافات بدأت من هذه النقطة حتّى وصلت إلى أواسط عهد عثمان. ففي عهد الخليفة الثالث وصل الوضع إلى حدّ أنّ كبار صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أضحوا من أكبر الرأسماليين في زمانهم! إنّهم من الصحابة، أصحاب الشأن الرفيع، المعروفين - كطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وغيرهم - هؤلاء الكبار والوجهاء الّذين كان لكلّ واحدٍ منهم سجلّ ضخم في سابقة المفاخر في بدرٍ وحنين وأُحد، صاروا من الرأسماليين الكبار في الإسلام. عندما توفّي أحدهم وترك الجواهر والذهب، وأرادوا تقسيمها بين ورثته، في البداية جاؤوا بسبائكها وقطعها وأرادوا أن يقسّموها ويقطّعوها بالفؤوس؛ وكأنّها قطعات حطب تحتاج إلى فأس ليقطعها. فالذهب عادةً يتم حسابه وقياسه بالمثاقيل، فانظروا كم كان يمتلك من الذهب حتّى احتاجوا إلى الفأس لتقسيمه. لقد ذُكرت هذه الأمور في التاريخ، وليست من القضايا الّتي ذكرها الشيعة في
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

147

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

  كتبهم، إنّها حقائق، كان يسعى الجميع لضبطها وتسجيلها. لقد تركوا من الدراهم والدنانير ما يبلغ حدّ الأساطير.(20/03/1375)


عندما نذكر فساد الجهاز من الداخل، فهذا هو معناه: يظهر أفرادٌ في المجتمع يبدأون بالتدريج بنقل أمراضهم الأخلاقيّة المعدية - حبّ الدنيا والشهوات - والّتي هي للأسف أمراضٌ مهلكة إلى باقي أفراد المجتمع. في مثل هذه الحالة، هل سيكون هناك من يجرؤ أو يمتلك الهمّة للمضيّ قدماً في مخالفة جهاز يزيد بن معاوية؟! هل سيحدث مثل هذا الأمر حينها؟ فمن هو الّذي كان يفكّر بمواجهة جهاز الظلم والفساد ليزيد في ذلك الزمان؟ في مثل تلك الأوضاع حدثت النهضة الحسينية العظيمة، الّتي كانت تجاهد العدوّ مثلما تواجه روحيّة السعي للراحة المهلكة المنتشرة بين المسلمين العاديين وعامّتهم. وهذا أمرٌ مهمٌّ.(06/11/1371)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

148

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

 أهداف ثورة الإمام الحسين عليه السلام


لو دقّقنا النظر في هذه الحادثة، لعلّه يمكن القول: إنّ الإنسان يستطيع أن يعدّ أكثر من مائة درس مهمّ في هذا التحرّك الّذي قام به الإمام أبو عبد الله عليه السلام في بضعة أشهر، من اليوم الّذي خرج فيه من المدينة نحو مكّة وإلى اليوم الّذي شرب فيه كأس الشهادة العذب في كربلاء. ويمكن القول آلاف الدروس، حيث تُعتبر كلّ إشارة من ذلك الإمام العظيم درساً. لكن عندما نقول أكثر من مائة درس، نعني بذلك أنّه لو أردنا أن ندقّق في هذه الأعمال لأمكننا استقصاء مائة عنوان وفصل، وكلّ فصل يُعتبر درساً لأمّة وتاريخ وبلد ولتربية النفس وإدارة المجتمع وللتقرّب إلى الله. هكذا هو الحسين بن عليّ (أرواحنا فداه وفداء اسمه وذكره) كالشمس الساطعة بين القدّيسين، أي إن كان الأنبياء والأئمّة والشهداء والصالحين كالأقمار والأنجم، فالحسين عليه السلام كالشمس الطالعة بينهم، كلّ ذلك لأجل هذه الأمور.

وإلى جانب المائة درس، هناك درس رئيس في هذا التحرّك والنهضة الّتي قام بها الإمام الحسين عليه السلام ، سأسعى لتوضيحه لكم، وتكون كلّ تلك الدروس بمنزلة الهوامش أمام هذا الّذي هو بمنزلة النصّ الأصليّ، وهو لماذا ثار الحسين عليه السلام ؟ هذا هو الدرس، لماذا ثرت يا حسين رغم كونك شخصية لها احترامها في المدينة ومكّة، ولك شيعتك في اليمن؟ اذهب إلى مكان لا شأن لك فيه بيزيد ولا ليزيد شأنٌ بك، تعيش وتعبد الله وتبلّغ. هذا هو السؤال والدرس الرئيس، ولا نقول إنّ أحداً لم يشر إلى هذا الأمر من قبل، فقد حقّقوا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

149

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

  وتحدّثوا كثيراً في هذه القضية. وللإنصاف، ما نودّ قوله اليوم وهو برأينا استنتاج جامع ورؤية جديدة للقضية هو أنّ بعض الناس يودّ أن يقول: إنّ هدف ثورة أبي عبد الله الحسين عليه السلام هو إسقاط حكومة يزيد الفاسدة وإقامة حكومة بديلة. هذا القول شبه صحيح وليس بخطأ، لأنّه لو كان القصد من هذا الكلام هو أنّ الحسين عليه السلام ثار لأجل إقامة حكومة بحيث إنّه لو رأى أنّه لن يصل إلى نتيجة لقال لقد قمنا بما علينا فلنرجع، وهذا خطأٌ. فلو كان الهدف إقامة الحكومة فإنّه يجوز للإنسان أن يمضي قدماً ما دام هناك إمكانية. ولهذا عليه أن يرجع مع فقدانها. فلو قال قائل: إن هدف الإمام من هذه الثورة هو إقامة الحكومة العلويّة الحقّة، فهذا غير صحيح، لأنّ مجموع التحرّك لا يدلّ على ذلك.


وبعضٌ على العكس من ذلك، قالوا: ما الحكومة؟ إنّ الحسين عليه السلام كان يعلم بعدم تمكّنه من إقامة الحكومة، إنّه جاء لأجل أن يُقتل ويستشهد. لقد شاع هذا الكلام على الألسن كثيراً لمدّة من الزمن، وكان بعضٌ يبيّن ذلك بعبارات شاعرية جميلة، حتّى أنّني رأيت بعض علمائنا الأجلّاء قد قالوا ذلك أيضاً. فالقول إنّ الإمام عليه السلام ثار لأجل أن يستشهد، لأنّه رأى أنّه لا يمكنه عمل شيء بالبقاء، فقال: يجب أن أعمل شيئاً بالشهادة، لم يكن كلاماً جديداً. وبالنسبة لهذا الكلام أيضاً، ليس لدينا في المصادر والأسانيد الإسلاميّة ما يجوّز للإنسان إلقاء نفسه في القتل، ليس لدينا مثل هذا الشيء. إنّ الشهادة، الّتي نعرفها في الشرع المقدّس والآيات والروايات، معناها أن يتحرّك الإنسان ويستقبل الموت لأجل هدف مقدّس واجب أو راجح. هذه هي الشهادة الإسلامية الصحيحة. أمّا أن يتحرّك الإنسان لأجل أن يُقتل، أو بحسب التعبير الشاعريّ أن يجعل دمه وسيلةً لزلل الظالم وإيقاعه أرضاً، فمثل هذه الأمور لا علاقة لها بواقعةٍ بتلك العظمة. إذاً هذا الأمر وإن كان فيه جانب من الحقيقة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

150

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

  لكن لم يكن هدف الحسين عليه السلام . وباختصار لا يمكننا القول إنّ الحسين عليه السلام ثار لأجل إقامة الحكومة، ولا القول: إنّه ثار لأجل أن يستشهد، بل يوجد شيءٌ آخر في البين. أتصوّر أنّ القائلين إنّ الهدف هو الحكومة أو الهدف هو الشهادة قد خلطوا بين الهدف والنتيجة. فقد كان للإمام الحسين عليه السلام هدف آخر، والوصول إليه يتطلّب طريقاً وحركة تنتهي بإحدى النتيجتين: الحكومة أو الشهادة، وكان الإمام مستعدّاً لكلتا النتيجتين، فقد أعدّ مقدّمات الحكم وكذا مقدّمات الشهادة، ووطّن نفسه على هذا وذاك، فإذا تحقّق أيّ منهما، كان صحيحاً، لكن لم يكن أيّ منهما هدفاً، بل كانا نتيجتين، وأمّا الهدف فهو شيءٌ آخر. 


بشكل مختصر لو أردنا بيان هدف الإمام الحسين، ينبغي أن نقول التالي: إنّ هدف ذلك العظيم كان عبارة عن أداء واجب عظيم من واجبات الدين لم يؤدّه أحد قبله، لا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا أمير المؤمنين عليه السلام ولا الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ، واجب يحتلّ مكاناً هامّاً في البناء العام للنظام الفكريّ والقيميّ والعمليّ للإسلام. ورغم أنّ هذا الواجب مهمُّ وأساس، فلماذا لم يؤدَّ حتّى عهد الإمام الحسين عليه السلام ؟ كان يجب على الإمام الحسين عليه السلام القيام بهذا الواجب ليكون درساً على مرّ التاريخ، مثلما أنّ تأسيس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للحكومة الإسلامية أصبح درساً على مرّ تاريخ الإسلام، ومثلما أصبح جهاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله درساً على مرّ تاريخ المسلمين وتاريخ البشرية إلى الأبد. كان ينبغي أن يؤدّي الإمام الحسين عليه السلام هذا الواجب ليصبح درساً عملياً للمسلمين وعلى مرّ التاريخ.

وأمّا أنّ الإمام الحسين عليه السلام هو الّذي قام بهذا الواجب فلأنّ أرضيّة هذا العمل قد مُهّدت في زمن الإمام الحسين عليه السلام ، فلو لم تُمهّد هذه الأرضية في زمن الإمام الحسين عليه السلام ، كأن مُهّدت - وعلى سبيل المثال - في زمن الإمام علي الهادي عليه السلام لقام الإمام علي الهادي عليه السلام بهذا الواجب، ولصار هو ذبيح الإسلام العظيم؛ ولو صادف أن حدث ذلك في زمن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

151

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

 الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أو في زمن الإمام الصادق عليه السلام لكان على أحدهما أن يعمل به. لكن لم يحدث ذلك في زمن الأئمّة حتّى عصر الغيبة إلّا في عصر الإمام الحسين عليه السلام . إذاً كان الهدف أداء هذا الواجب، وعندها تكون نتيجة أداء الواجب أحد الأمرين، إمّا الوصول إلى الحكم والسلطة والإمام الحسين عليه السلام مستعدّ لذلك، ليعود المجتمع كما كان عليه في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ، وإمّا الوصول إلى الشهادة وهو عليه السلام مستعدّ لها أيضاً. فإنّ الله قد خلق الحسين والأئمّة بحيث يتحمّلون مثل هذه الشهادة لمثل هذا الأمر، وقد تحمّل الإمام الحسين عليه السلام ذلك. 

 
إنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - وكذا أيّ نبيّ - عندما بُعث، أتى بمجموعة من الأحكام، بعضها فرديّ من أجل إصلاح الفرد، وبعضها اجتماعيّ من أجل بناء المجتمعات البشرية وإدارة الحياة البشرية. هذه المجموعة من الأحكام يقال لها النظام الإسلاميّ. لقد نزل الإسلام على القلب المقدّس للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وجاء بالصلاة والصوم والزكاة والانفاقات والحجّ والأحكام الأسرية والعلاقات الفردية، ثمّ جاء بالجهاد في سبيل الله وإقامة الحكومة والاقتصاد الإسلاميّ، وعلاقة الحاكم بالرعيّة ووظائف الرعيّة تجاه الحكومة. هذه المجموعة من الأحكام عرضها الإسلام على البشر، وبيّنها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : "يا أيّها الناس والله ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به"1. ولم يبيّن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كلّ ما يسعد الإنسان والمجتمع الإنساني فحسب، بل طبّقه وعمل به.
 
فقد أقام الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلاميّ، وطبّق الاقتصاد
 
 
 

1- الكافي، ج2، ص74.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

152

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

  الإسلاميّ، وأقيم الجهاد واستُحصلت الزكاة، فشيّد نظاماً إسلامياً وأصبح النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وخليفته من بعده، مهندس النظام وقائد هذا القطار في هذا الخطّ. كان الطريق واضحاً وبيّناً، فوجب على الفرد وعلى المجتمع الإسلاميّ أن يسير في هذا الطريق وعلى هذا النهج، فإن كان كذلك بلغ الناس الكمال، وأصبحوا صالحين كالملائكة، ولزال الظلم والشرّ والفساد والفرقة والفقر والجهل من بين الناس، ووصلوا إلى السعادة الكاملة ليصبحوا عباد الله الكمّل. لقد جاء الإسلام بهذا النظام بواسطة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وطُبّق في مجتمع ذلك اليوم، فأين حدث ذلك؟ في بقعةٍ تُسمّى المدينة واتّسع بعد ذلك ليشمل مكّة وما حولها. وهنا يطرح سؤال وهو: ما هو التكليف لو أنّه جاءت يدٌ أو حادثة وأخرجت هذا القطار الّذي وضعه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه السكّة؟ ما هو التكليف لو انحرف المجتمع الإسلاميّ وبلغ الانحراف درجة بحيث خيف من انحراف أصل الإسلام والمبادئ الإسلامية؟

 
لدينا نوعان من الانحراف. فتارةً يفسد الناس، وهذا ما يقع كثيراً، لكن تبقى أحكام الإسلام سليمة، وتارة ينحرف الناس ويفسد الحكّام والعلماء ومبلّغو الدين - ففي الأساس لا يصدر الدين الصحيح عن قومٍ فاسدين - فيحرّفون القرآن والحقائق، وتبدّل الحسنات سيئات والسيئات حسنات، ويصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ويحرّف الإسلام 180 درجة عن الاتّجاه الّذي رُسم له. فما هو التكليف لو ابتُلي النظام والمجتمع الإسلاميّ بمثل هذا الأمر؟ لقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحدّد القرآن التكليف ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾1، إضافة إلى آيات وروايات كثيرة أخرى. وأنقل منها هذه الرواية عن الإمام الحسين. لقد ذكر الإمام الحسين عليه السلام هذه الرواية النبويّة للناس، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد حدّث بها، لكن هل كان
 
 
 

1- سورة المائدة، الآية: 54.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

153

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

 v النبيّ ليقدر على العمل بهذا الحكم الإلهيّ؟ كلّا، لأنّ هذا الحكم الإسلاميّ يُطبّق في عصر ينحرف فيه المجتمع الإسلاميّ ويبلغ حدّاً يُخاف فيه من ضياع أصل الإسلام. والمجتمع الإسلاميّ لم ينحرف في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم ينحرف في عهد أمير المؤمنين عليه السلام بتلك الصورة، وكذا في عهد الإمام الحسن عليه السلام عندما كان معاوية على رأس السلطة، وإن ظهر الكثير من علائم ذلك الانحراف، لكنّه لم يبلغ الحدّ الّذي يُخاف فيه على أصل الإسلام. نعم، يمكن أن يُقال إنّه بلغ الحدّ في برهة من الزمن، لكن في تلك الفترة لم تُتح الفرصة ولم يكن الوقت مناسباً للقيام بهذا الأمر. إنّ هذا الحكم الّذي يُعتبر من الأحكام الإسلامية لا يقلّ أهميّة عن الحكومة ذاتها، لأنّ الحكومة تعني إدارة المجتمع. فلو خرج المجتمع بالتدريج عن مساره وخرُب وفسد، وتبدّل حكم الله، ولم يوجد عندنا حكم وجوب تغيير الوضع وتجديد الحياة أو بتعبير اليوم (الثورة)، فما الفائدة من الحكومة عندها؟ فالحكم الّذي يرتبط بإرجاع المجتمع المنحرف إلى الخطّ الصحيح لا يقلّ أهميّة عن الحكومة ذاتها، ويمكن أن يُقال إنّه أكثر أهميّة من جهاد الكفّار ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العاديين في المجتمع الإسلاميّ، بل وحتّى من العبادات الإلهيّة العظيمة كالحجّ. لماذا؟ لأنّ هذا الحكم - في الحقيقة - يضمن إحياء الإسلام بعد أن أشرف على الموت أو مات وانتهى.

 

 

 

 

 

 

167


154

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

 منطلقات الثورة وثمارها


الأرضية الممهدة للثورة
إنّه خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي يقع في عصره هذا الانحراف بشرط أن يكون الوقت مناسباً للقيام بذلك، لأنّ الله لا يكلّف بشيء لا فائدة فيه. طبعاً، ليس معنى (أن يكون الوقت مناسباً) هو عدم وجود الخطر، كلّا، ليس هذا هو المقصود. فمعنى هذه العبارة، هو أن يعلم الإنسان أنّ هذا العمل الّذي يقوم به تترتّب عليه نتيجة، أي إبلاغ النداء إلى الناس وإفهامهم وعدم بقائهم على خطئهم. وربّما أنّ الإسلام قد انحرف في عصر الإمام الحسين عليه السلام وكان الوقت مناسباً والأرضية ممهّدة، لذا وجب على الحسين عليه السلام أن يثور. فالشخص الّذي تولّى السلطة بعد معاوية لم يراعِ حتّى ظواهر الإسلام. وكان منغمساً في الخمر والمجون والتهكّم على القرآن، وترويج الشعر المخالف للقرآن والّذي يتهجّم على الدين، ويجاهر بمخالفة الإسلام. غاية الأمر، لأنّ اسمه رئيس المسلمين لم يُرد أن يحذف اسم الإسلام. لم يكن عاملاً بالإسلام ولا محبّاً له، وكان بعمله هذا كنبع الماء الآسن الّذي يفسد ما حوله ويعمّ المجتمع الإسلاميّ. هكذا يكون الحاكم الفاسد، فبما أنّه يتربّع على قمّة المرتفع، فما يصدر عنه لا يبقى في مكانه، بل ينتشر ليملأ ما حوله، خلافاً للناس العاديّين حيث يبقى فسادهم لأنفسهم أو لبعضٍ ممّن حولهم. وكلّ من شغل مقاماً ومنصباً أرفع في المجتمع الإسلاميّ كان ضرره وفساده أكبر. لكن لو فسد من يقع على رأس السلطة لانتشر فساده وشمل كلّ الأرض، كما أنّه لو
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
168

155

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

  كان صالحاً، لامتدّ الصلاح إلى كلّ مكان. فشخصٌ مفسدٌ كهذا أصبح خليفة المسلمين بعد معاوية، وخليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ! فهل هناك انحراف أكبر من هذا؟


هل أنّ معناه عدم وجود الخطر؟ كلّا، فالخطر موجود. فلا معنى أن يبقى من هو على رأس السلطة ساكتاً أمام معارضيه ولا يخلق لهم المخاطر، بل من البديهيّ أن يوجّه لهم الضربات، فعندما نقول الوقت المناسب، فمعناه أنّ الظروف في المجتمع الإسلاميّ مؤاتية لأن يبلّغ الإمام الحسين عليه السلام نداءه إلى الناس في ذلك العصر وعلى مرّ التاريخ.

فلو أراد الإمام الحسين عليه السلام الثورة في عصر معاوية لدُفن نداؤه، وذلك لأنّ وضع الحكم في زمن معاوية والسياسات كانت بشكل لا يمكن للناس فيه سماع قول الحقّ، لذلك فإنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يقل شيئاً طيلة السنوات العشر الّتي كان فيها إماماً في زمن معاوية. لم يفعل شيئاً، لم يُقدم ولم يثُر، لأنّ الظروف لم تكن مؤاتية. الإمام الحسن عليه السلام كان قبله ولم يثر، لأنّ الظروف لم تكن مؤاتية أيضاً. لا أنّ الإمام الحسن عليه السلام لم يكن أهلاً لذلك، فلا فرق بين الإمام الحسن عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام ، ولا بين الإمام الحسين عليه السلام والإمام السجّاد عليه السلام ، ولا بين الإمام الحسين عليه السلام والإمام علي النقيّ عليه السلام أو الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام . طبعاً منزلة الإمام الحسين عليه السلام - الّذي أدّى هذا الجهاد - أرفع من الّذين لم يؤدّوه، لكنّهم سواء في منصب الإمامة. ولو وقع في عصر أيّ منهم هذا الأمر لثار ذلك الإمام ونال تلك المنزلة. فالإمام الحسين عليه السلام واجه مثل هذا الانحراف، والظروف كانت مؤاتية، فلا محيص للإمام عليه السلام من تأدية هذا التكليف. فلم يبقَ هناك أيّ عذر. لهذا فعندما قال له عبد الله بن جعفر، ومحمد ابن الحنفية، وعبد الله بن عباس - الّذين كانوا من العلماء والعارفين بأحكام الدين، ولم يكونوا من عامّة الناس - إنّ تحرّكك فيه خطر فلا تذهب، أرادوا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

156

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

 أن يقولوا: إنّ التكليف قد سقط عنك لوجود الخطر. لكنّهم لم يدركوا أنّ هذا التكليف ليس بالتكليف الّذي يسقط بوجود الخطر، لأنّ مثل هذا التكليف فيه خطر دوماً، فهل يمكن لإنسان أن يثور ضدّ سلطة مقتدرة في الظاهر ولا يواجه خطراً؟!

إنّ العمل الّذي جرى في زمن الإمام الحسين عليه السلام كانت نسخته المصغّرة في عصر إمامنا الخميني قدس سره. غاية الأمر أنّه هناك انتهى إلى الشهادة وهنا انتهى إلى الحكم، فهما أمرٌ واحد ولا فرق بينهما. فقد كان هدف الإمام الحسين عليه السلام وهدف إمامنا الجليل واحداً، وهذا الأمر يشكّل أساس معارف الإمام الحسين عليه السلام ، وإنّ المعارف الحسينيّة تمثّل قسماً عظيماً من معارف الشيعة. فهذا أصلٌ مهمّ وهو نفسه من أركان الإسلام. 

فالهدف كان عبارة عن إرجاع الإسلام والمجتمع الإسلاميّ إلى الصراط المستقيم والخطّ الصحيح. ففي أيّ زمان؟ في الوقت الّذي تبدّل الطريق، وانحرف المسلمون نتيجة جهل وظلم واستبداد وخيانة بعض القوم. بالطبع، يمرّ التاريخ بمراحل مختلفة. فأحياناً تكون الظروف مؤاتية وأحياناً لا تكون. في زمن الإمام الحسين عليه السلام كانت الظروف مؤاتية وكذلك في زمننا. فأقدم الإمام على نفس العمل. كان الهدف واحداً. غاية الأمر، عندما يكون الإنسان متّجهاً نحو هذا الهدف ويريد الثورة على الحكومة ومركز الباطل من أجل إرجاع الإسلام والمجتمع والنظام الإسلاميّ إلى موقعه الصحيح، تارةً يصل إلى الحكومة وتارةً لا يصل إلى الحكومة بل يصل إلى الشهادة. أفلا يكون في هذه الحالة واجباً؟ لو وصل إلى الشهادة لكان واجباً أيضاً. ولا يعني في هذه الحالة أنّه لا يكون مفيداً. فلا فرق هنا إذاً، فهذا القيام وهذا التحرّك مفيدٌ في كلا الحالتين، سواءٌ وصل إلى الشهادة أم وصل إلى الحكومة. غاية الأمر أنّ لكلّ منهما نوعاً خاصّاً من الفوائد. ويجب القيام به والتحرّك نحوه. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

157

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

 وهذا هو العمل الّذي قام به الإمام الحسين عليه السلام . غاية الأمر، أنّ الإمام الحسين عليه السلام هو أوّل من قام بهذا التحرّك، ولم يقم به أحدٌ قبله، لأنّه في زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ما كانت مثل هذه الأرضيّة والانحراف موجودين، أو إذا كان هناك انحراف في بعض الموارد فلم تكن الأرضية مناسبة ولا المقتضي موجوداً(للثورة)، ولقد وُجد كلا الأمرين في زمن الإمام الحسين عليه السلام . وكان هذا هو أساس القضيّة في مورد نهضته عليه السلام .

 
الثورة تكليف وواجب
ويمكننا أن نلخّص القضية بهذه الصورة: إنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام كانت لتأدية واجب عظيم وهو إعادة الإسلام والمجتمع الإسلاميّ إلى الخطّ الصحيح أو الثورة ضدّ الانحرافات الخطيرة في المجتمع الإسلاميّ. وهذا ما يتمّ عن طريق الثورة وعن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو مصداق عظيم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بالطبع، فقد تكون نتيجتها إقامة الحكومة، وقد تكون الشهادة، وقد كان الإمام الحسين عليه السلام مستعدّاً لكلتي النتيجتين. والدليل على ذلك هو ما يستنتج من أقوال الإمام الحسين عليه السلام . وهذه بعض أقوال أبي عبد الله عليه السلام وكلّها تشير إلى هذا المعنى: 
أ - عندما طلب الوليد، والي المدينة، الإمام الحسين عليه السلام ليلاً وقال له: إنّ معاوية قد مات وعليك بمبايعة يزيد، ردّ عليه الإمام عليه السلام : "نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالبيعة والخلافة". وعند الصباح عندما لقي مروان أبا عبد الله عليه السلام طلب منه مبايعة يزيد وعدم تعريض نفسه للقتل، فأجابه الإمام عليه السلام : "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد"1. فالقضية ليست
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج 44، ص325-326.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

158

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

  شخص يزيد، بل أي شخص مثل يزيد، ويريد الإمام الحسين عليه السلام أن يقول: لقد تحمّلنا كلّ ما مضى، أمّا الآن فإنّ أصل الدين والإسلام والنظام الإسلاميّ في خطر، إشارة إلى أنّ الانحراف خطر جدّي، فالقضية هي الخطر على أصل الإسلام.

 
ب - إنّ أبا عبد الله عليه السلام قد أوصى أخاه محمّد ابن الحنفية، مرّتين: الأولى عند خروجه من المدينة، والثانية عند خروجه من مكّة. ولعلّ هذه الوصية كانت عند خروجه من مكّة في شهر ذي الحجّة - فبعد الشهادة بوحدانية الله ورسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول الإمام عليه السلام : "وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي محمد صلى الله عليه وآله وسلم "1، أي أريد الثورة لأجل الإصلاح لا للوصول إلى الحكم حتماً أو للشهادة حتماً. والإصلاح ليس بالأمر الهيّن، فقد تكون الظروف بحيث يصل الإنسان إلى سدّة الحكم ويمسك بزمام السلطة وقد لا يمكنه ذلك، ويستشهد، وفي كلتي الحالتين تكون الثورة لأجل الإصلاح. ثمّ يقول عليه السلام : "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾..."2. والإصلاح يتّم عن هذا الطريق، وهو ما قلنا إنّه مصداق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 
ج - عندما كان الإمام عليه السلام في مكّة، بعث بكتابين، الأوّل إلى رؤساء البصرة، والثاني إلى رؤساء الكوفة، جاء في كتابه إلى رؤساء البصرة: "وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ 


 

1- بحار الأنوار، ج44، ص329.
2- م. ن.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
172

159

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

 السنّة قد أميتت والبدعة قد أحييت، فإن تسمعوا قولي وتجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد"1. أي يريد الإمام الحسين عليه السلام تأدية ذلك التكليف العظيم وهو إحياء الإسلام وسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والنظام الإسلاميّ. وجاء في كتابه إلى أهل الكوفة: "فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائر بالحقّ والحابس نفسه عن ذات الله، والسلام"2. الإمام ورئيس المجتمع الإسلاميّ لا يمكن أن يكون فاسقاً فاجراً خائناً مفسداً بعيداً عن الله، بل يجب أن يكون عاملاً بكتاب الله، وذلك بالطبع على مستوى المجتمع، لا أن يحبس نفسه في غرفة الخلوة للصلاة، بل أن يحيي العمل بالكتاب على مستوى المجتمع، ويأخذ بالقسط والعدل ويجعل الحقّ قانون المجتمع. ولعلّ معنى الجملة الأخيرة هو أنّه يثبّت نفسه على الصراط الإلهيّ المستقيم بأيّ نحوٍ حتّى لا يقع أسير الإغراءات الشيطانية والمادية. أي أنّ الإمام عليه السلام قد بيّن هدفه من الخروج.

 
د - كان الإمام عليه السلام يخاطب الناس في كلّ منزل ينزل فيه بعد خروجه من مكّة؛ عندما (واجه الحسين عليه السلام جيش الحرّ) وسار بأصحابه في ناحية والحرّ ومن معه في ناحية حتّى بلغ "البيضة" خاطب الإمام عليه السلام أصحاب الحرّ، فقال: "أيّها الناس إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحُرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا بقول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله"3. فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بيّن ما يجب عمله إذا انحرف النظام الإسلاميّ، وقد استند الإمام الحسين عليه السلام إلى قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذا.
 
 
 

1- م. ن، ص340.
2- م. ن، ص334.
3- تاريخ الطبري، ج4، ص304.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

160

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

 فالتكليف هو أن "يُغيِّر بفعل أو قول"، فإذا واجه الإنسان مثل هذه الظروف - وكان الظرف مؤاتياً كما تقدّم - وجب عليه أن يثور ضدّ هذا الأمر ولو بلغ ما بلغ، يُقتل، يبقى حيّاً، ينجح في الظاهر أو لا ينجح. يجب على كلّ مسلم أن يثور أمام هذا الوضع، وهذا تكليف قال به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . ثمّ قال عليه السلام : "وإنّي أحقّ بهذا"1، لأنّي سبط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أوجب على المسلمين فرداً فرداً هذا الأمر، كان سبط النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ووارث علمه وحكمته الحسين بن علي عليه السلام أحقّ أن يثور، فإنّي خرجت لهذا الأمر. فيعلن عن سبب وهدف ثورته وهو لأجل "التغيير" أي الثورة ضدّ هذا الوضع السائد.

 
هـ - كان للإمام الحسين في منزل عُذيب، -حيث التحق به أربعة نفر-: بيانٌ آخر، قال لهم الإمام عليه السلام : "أمّا والله إني لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا قُتلنا أم ظفرنا"2. وهذا دليل على ما تقدّم أنّه لا فرق سواء انتصر أم قُتل، يجب أداء التكليف. 
 
وفي أوّل خطبة له عليه السلام عند نزوله كربلاء، يقول عليه السلام : "وقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون" إلى أن يقول: "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً..."إلى آخر الخطبة.
إذاً إنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام كانت تأديةً لواجب، وهذا الواجب يتوجّه إلى كلّ فرد من المسلمين عبر التاريخ، وهو أنّه على كلّ مسلم لزوم الثورة حال رؤية تفشّي الفساد في جذور المجتمع الإسلاميّ بحيث يُخاف من تغييرٍ كلّي في أحكام الإسلام، بالطبع إذا كانت الظروف مؤاتية، وعلم بأنّ لهذه الثورة نتيجة. وليس من الشروط البقاء على قيد الحياة وعدم القتل وعدم التعرّض للتعذيب والأذى والمعاناة. فالحسين عليه السلام قد ثار
 
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج 44، ص 382.
2- أعيان الشيعة، ج 1، ص 597.
3- بحار الأنوار، ج 44، ص 381.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
174

161

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

  وأدّى هذا الواجب عملياً ليكون درساً للجميع.(19/03/1374)


لقد قام الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام وأيقظ وجدان الناس. لهذا ظهرت بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام ، تلك النهضات الإسلامية الّتي بدأت واحدة تلو الأخرى، والّتي حتماً جرى قمعها. ولكن ليس المهمّ أن يجري قمع التحرّك من قبل العدوّ وإن كان بالطبع مرّاً، ولكن ما هو أمرّ هو أن يصل المجتمع إلى حيث لا يظهر أيّة ردّة فعل مقابل العدوّ، هذا هو الخطر الأكبر.

الثمار الطيبة للثورة الحسينية
لقد قام الإمام الحسين بن علي عليه السلام بعملٍ، أدّى إلى ظهور أشخاصٍ في جميع عهود الحكومات الطاغوتية، مع أنّهم كانوا أبعد عن عصر صدر الإسلام، لكن كانت إرادتهم للقتال والجهاد ضدّ جهاز الظلم والفساد أكبر من عصر الإمام الحسن المجتبى عليه السلام . كان يُقضى عليهم جميعاً. بدءاً من قضية قيام أهل المدينة المعروفة بالحرّة، إلى الأحداث اللاحقة وقضايا التوّابين والمختار الثقفي إلى عصر بني العبّاس، فهناك دائماً في الداخل شعوبٌ تثور. فمن هو الّذي أوجد مثل هذه الثورات؟ إنّه الحسين بن علي عليه السلام . فلو لم يثر الإمام الحسين عليه السلام هل كانت لتتبدّل هذه الروحية الكسولة والمتهرّبة من المسؤولية إلى روحيّة مواجهةٍ للظلم وتحمّل المسؤولية؟ لماذا نقول إنّ روحيّة تحمل المسؤولية كانت ميّتة؟ إنّه بسبب أنّ الإمام الحسين عليه السلام ذهب من المدينة، الّتي كانت مهد الرجال العظام في الإسلام، إلى مكّة. فأبناء العبّاس والزبير وعمر وأبناء خلفاء صدر الإسلام كانوا قد اجتمعوا كلّهم في المدينة، ولم يكن أيّ منهم حاضراً أو مستعدّاً لمساعدة الإمام الحسين عليه السلام في هذه الثورة الدمويّة والتاريخيّة. إذاً وإلى ما قبل بدء ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، لم يكن الخواصّ مستعدّين ليخطوا خطوة واحدة. أمّا بعد ثورة الإمام الحسين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

162

الفصل السادس: الإمام الحسين عليه السلام

  عليه السلام فقد أحييت هذه الروحيّة. وهذا هو درسٌ كبير ينبغي أن نضيفه إلى الدروس الأخرى في واقعة عاشوراء. عظمة هذه الواقعة هي هذه. هذا الّذي يُقال: "الموعود بشهادته قبل استهلاله وولادته، (هذا الّذي) بكته السماء ومن فيها والأرض ومن عليها"1 قبل ولادته، إنّه الحسين بن عليّ عليه السلام الّذي له ذلك العزاء الكبير ونحن نعظّمه. وبحسب هذا الدعاء أو الزيارة البكاء عليه من أجل ذلك. لهذا، عندما ننظر اليوم نرى أنّ الإسلام قد أحياه الحسين بن علي عليه السلام وهو يعدّ حافظ الإسلام.(06/11/1371)

 
 

1- بحار الأنوار، ج 44، ص 347.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
176

163

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

 الفصل السابع:




حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام
وأحداث ما بعد كربلاء


ملحمة زينب الكبرى عليها السلام .
حركة الإمام السجّاد عليه السلام  في مرحلة الأسر.
الشيعة بعد حادثة كربلاء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

164

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

 ملحمة زينب الكبرى عليها السلام


إنّ زينب الكبرى عليها السلام امرأةٌ عظيمة. فما هي عظمة هذه المرأة الكبرى في نظر الشعوب الإسلامية؟ لا يصحّ أن يُقال لأنّها كانت ابنة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، أو أخت الحسين بن عليّ والحسن بن عليّ عليهما السلام ، فالنسب لا يمكن أن يكون سبباً لمثل هذه العظمة. فلقد كان لجميع أئمّتنا بناتٌ وأمّهاتٌ وأخوات ولكن من منهنّ كانت كزينب الكبرى عليها السلام ؟ إنّ قيمة وعظمة زينب الكبرى هي لموقفها وحركتها الإنسانيّة والإسلاميّة العظيمة على أساس التكليف الإلهيّ. فعملها وقرارها ونوعيّة حركتها، كلّ ذلك منحها هذه العظمة. وكلّ من تقوم بمثل هذا العمل، ولو لم تكن بنت أمير المؤمنين عليه السلام ، ستحصل على هذه العظمة. فالجانب الأساس لهذه العظمة نابعٌ من هنا، حيث إنّها بدايةً شخّصت الموقف سواءٌ قبل تحرّك الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء، أم في لحظات المحنة في يوم عاشوراء أم في الأحداث القاصمة التي تلت شهادة الإمام الحسين عليه السلام وثانياً، اتخاذها الموقف المناسب بحسب كل حادثة، وهذه المواقف هي الّتي صنعت زينب عليها السلام .

فقبل التحرّك إلى كربلاء، نجد وجهاء، كابن عبّاس وابن جعفر وشخصيّات معروفة في صدر الإسلام، ممّن يدّعي الفقاهة والشهامة والرئاسة قد تحيّروا ولم يعرفوا ماذا يفعلون، ولكنّ زينب الكبرى لم تُصب بالحيرة، وأدركت أيّ طريقٍ ينبغي أن تسلكه، ولم تترك إمامها وحيداً وتذهب. فهي لم تدرك صعوبة الطريق فحسب، بل شعرت به أفضل من غيرها. لقد كانت امرأةً حاضرة لأن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

165

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  تضحي بأسرتها لأجل أداء المهمةّ، ولهذا أحضرت أطفالها وأبناءها معها. كانت تشعر بكيفية الواقعة. في تلك الساعات العصيبة حيث لا يقدر أقوى الناس على إدراك ماذا ينبغي أن يفعل أدركت ذلك ودعمت إمامها وجهّزته لمذبح الشهادة. بعد شهادة الحسين بن عليّ عليه السلام وحين أظلمت الدنيا وتكدّرت القلوب والنفوس وآفاق العالم، أضحت هذه السيّدة الكبرى نوراً وسطوعاً. لقد وصلت زينب عليها السلام إلى حيث لا يصل سوى أعظم الناس في تاريخ البشرية - أي الأنبياء.(22/08/1370)


في الواقع إنّ كربلاء دون زينب عليها السلام ما كانت لتكون كربلاء. وما كانت عاشوراء دون زينب الكبرى عليها السلام لتكون تلك الحادثة التاريخية الخالدة. لقد برزت هذه الشخصية لابنة عليٍّ عليه السلام من أوّل الحادثة إلى آخرها، بحيث يشعر المرء أنّ حسيناً ثانياً كان في لباس امرأةٍ وفي ثوب ابنة عليّ. وفي غير ذلك، ماذا كان سيحدث بعد عاشوراء؟ لعلّ الإمام السجّاد عليه السلام كان ليُقتل، ولعلّ نداء الإمام الحسين عليه السلام ما كان ليصل إلى أحد. في تلك المرحلة وقبل شهادة الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام أيضاً، كانت زينب كمواسٍ وصديق وشخصٍ لم يشعر الإمام الحسين عليه السلام مع وجوده بالوحدة أو بالتّعب. إنّ المرء ليشاهد مثل هذا الدور في وجه زينب عليها السلام وفي كلماتها وفي حركاتها. 

لقد شعرت زينب عليها السلام بالاضطراب مرّتين، وذكرت للإمام الحسين عليه السلام هذا الاضطراب. بعد خبر شهادة مسلم، حينما جاء الإمام ونقل أموراً ووصلت الأخبار المختلفة. فزينب عليها السلام في النهاية هي امرأة ذات عواطف جيّاشة وإحساسات مرهفة، ومظهر هذا الغليان في الشعور هم آل النبيّ. ففي عين الصلابة والقدرة والشجاعة والمقاومة إزاء المصائب، هي مظهر النبع الفوّار والزلال للرهافة الإنسانية والرحمة البشرية في هذه الأسرة. ولو ضربت الحسين بن علي عليه السلام مثالاً هنا، هذا الّذي يقف مقابل العالم كلّه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
180

166

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  وهو يواجهه في بيداء الذئاب المفترسة ويقاوم ولا يهتزّ، لكنّه مقابل هذه الأشياء الصغيرة، فإنّه ينقلب. مثلما حدث عندما صُرع ذلك الغلام الأسود الحبشيّ فجاء الإمام عليه السلام ووقف على رأسه. إنّه غلامٌ أسود ومن المخلصين والمحبّين. لعلّ جون، غلام أبي ذر، بلحاظ الوضع الاجتماعيّ والثقافة الاجتماعية آنذاك، - وإن لم يكن بين المسلمين في النهاية طبقة رفيعة جداً - فإنّه لم يكن صاحب مرتبة شريفة ورفيعة. فهو عندما يُقتل يأتي إليه الحسين عليه السلام ، الكثيرون قُتلوا، من أشراف الكوفة، والوجهاء والمشهورين فيها، كحبيب بن مظاهر وزهير بن القين، وغيرهم الّذين يُعدّون من الكبراء والمشهورين فيها، استُشهدوا أمام الإمام الحسين عليه السلام ، وعندما صُرعوا أرضاً لم يظهر الإمام مثل هذه الحركة، بل خاطب أمثال مسلم بن عوسجة قائلاً: إن شاء الله تؤجر من الله، لكن مقابل هذا الغلام الأسود الّذي ليس له أحد ولا ولد ولا تنتظره أسرةٌ تبكي عليه، جاء الحسين بن عليّ عليه السلام وأظهر ما أظهره مع عليّ الأكبر، مع هذا الغلام، وقف على رأسه ووضع رأسه المدمّى في حجره لكنّه لم يهدأ، فقد شاهد الجميع كيف أنّه انحنى ووضع وجهه على وجه هذا الغلام الأسود. هكذا كانت العاطفة الإنسانيّة الفوّارة!


لهذا فإنّ زينب هي امرأة بعواطف جيّاشة وأحاسيس مرهفة، فهي ليست كامرأة عادية، هي أخت الإمام الحسين عليه السلام ، أختٌ تحبّ الإمام الحسين عليه السلام بعشق، أختٌ تترك زوجها لتأتي مع الإمام الحسين عليه السلام ، وهي لم تأتِ وحدها، بل جلبت معها ابنيها عوناً ومحمّداً، فأحضرتهما من أجل أن يكونا معها على طريق الله، ولو اقتضى الأمر التضحية فليستشهدا. وفي أحد المنازل أثناء الطريق شعرت بالخطر وذهبت إلى الإمام الحسين عليه السلام ، وقالت إنّني أشعر بالخطر وأرى الوضع خطراً. كانت تعلم أنّ القضيّة قضيّة الشهادة والأسر لكن في الوقت نفسه كانت الأحداث بحيث تطغى على الإنسان،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

167

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  لهذا راجعت الإمام الحسين عليه السلام ، وهنا لم يقل الإمام الحسين عليه السلام شيئاً كثيراً، لقد قال هذه ليست قضية، كلّ ما يريده الله سوف يحدث، وقريباً من هذا المضمون، "ما شاء الله كان"1. وهنا لا نرى من زينب الكبرى عليها السلام سلام الله عليها شيئاً تذكره للإمام الحسين عليه السلام أو تسأله عنه أو يؤدّي إلى إيجاد انقباضٍ نفسيٍّ وينتقل إلى الإمام الحسين عليه السلام إلّا في ليلة عاشوراء.

 
وأوّل ليلة عاشوراء، هناك حيث يمكن أن يُقال إنّ زينب الكبرى عليها السلام فقدت صبرها من شدّة الغم، يقول الإمام السجّاد عليه السلام الّذي كان مريضاً. كنت نائماً في الخيمة وكانت عمّتي زينب عليها السلام جالسةً قربي تداويني وكانت الخيمة المجاورة هي خيمة أبي عليه السلام ، كان جالساً وكان جون غلام أبي ذر، مشغولاً بإعداد سيف الإمام عليه السلام ، والجميع يهيّئ نفسه لأجل القتال في الغد، يقول: رأيت فجأةً أبي يترنّم بأشعارٍ تبيّن أنّ الدنيا أدبرت والموت أقبل: "يا دهرٍ أفٍّ لك من خليل كم لك بالإشراق والأصيل"2. وهذا كان يدلّ على أنّ من ينشد هذا الشعر أصبح واثقاً أنّه عمّا قريب سيرتحل عن هذه الدنيا. يقول الإمام السجّاد عليه السلام : سمعت هذا الشعر وأدركت رسالته ومعناه، وعلمت أنّ الإمام الحسين عليه السلام ينعى نفسه، ولكنّني تمالكت نفسي. نظرت لأرى عمّتي زينب عليها السلام فجأةً قد غرقت في حزنٍ شديد، فنهضت وذهبت إلى خيمة أخيها وقالت له: أخي! أراك تنعى نفسك. لقد كنّا إلى اليوم نأنس بك، وعندما رحل أبونا عن هذه الدنيا قلنا يوجد إخوة لنا، وعندما استُشهد أخي الإمام الحسن عليه السلام ، قلت ما زال لديّ الإمام الحسين عليه السلام ، ولقد استأنست بك طيلة هذه السنوات، واعتمدت عليك وأنا اليوم أراك تنعى نفسك. 
 
لزينب عليها السلام الحق في أن تتألّم. ولعلّ الحالة الّتي كانت عليها زينب عليها السلام 
 
 
 

1- الكافي، ج2، ص530.
2- بحار الأنوار، ج 44، ص 316.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

168

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

 في ذلك اليوم كانت حالة غير عاديّة. ولا يمكن أبداً المقارنة بين حال زينب عليها السلام وحال أيّ من النساء وحتى حال الإمام السجّاد عليه السلام . لقد كان حال زينب عليها السلام شديداً ومنهكاً. لقد استُشهد جميع الرجال في يوم عاشوراء. ولم يبقَ من رجلٍ في عصر عاشوراء في كلّ المخيّم سوى الإمام السجّاد عليه السلام الّذي كان مريضاً، وأغشي عليه من شدّة المرض. وبملاحظة المخيّم الّذي كان فيه 84 امرأة وطفل وسط بحرٍ من الأعداء، فكم يتطلّب هذا الأمر من جهد،ٍ وبعضهم عطشى والبعض وجوعى؟ بل لعلّه يمكن القول إنّ الجميع كانوا منهكين من شدّة الجوع والعطش. فجميع القلوب مضطربة وخائفة، وأجساد الشهداء كلّها مقطّعة على الرّمال، بعضهم ينظر إلى أخيه والبعض إلى ابنه. على كلّ حال كانت حادثة مرّة جداً ورهيبة، وكان ينبغي لشخصٍ ما أن يجمع كلّ هؤلاء، وهذا الشخص كان زينب عليها السلام .


لم تكن زينب عليها السلام شخصاً فقد أخاه فقط، أو ابنيه أو إخوته الآخرين أو كلّ هؤلاء الأعزّاء، و18 شاباً شاباً من شباب بني هاشم والأصحاب الأوفياء. لقد كان هناك شيء آخر لا يقلّ أهمية عمّا جرى وهو أنّها كانت، بين كلّ هؤلاء الأعداء، مسؤولة عن هذا الحمل الثقيل لإدارة وحراسة هذه البقيّة من النساء والأطفال الّذين تفرّقوا وتشتّتوا، وكان عليها أن ترعى الإمام السجّاد عليه السلام أيضاً. فلهذا في تلك الساعات بعد تلك الواقعة وإلى حين تحرّك القافلة، وتحديد العدوّ ماذا سيفعل بهم، في تلك الساعات تلك التي كانت ليلة مظلمة وحالكة وعصيبة أيضاً، الله وحده يعلم ماذا مرّ على زينب الكبرى عليها السلام . لهذا كانت زينب عليها السلام طوال هذه الساعات في حركة دائمة تركض من هنا إلى هذا الطفل، ومن هناك إلى تلك المرأة، وإلى تلك الأمّ الثكلى، وإلى تلك الأخت المفجوعة بأخيها، وإلى ذلك الطفل الرضيع، تتحرّك دائماً بين الأفراد وتجمعهم وتواسيهم. لكن في لحظة ما، كان يطفح الكيل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

169

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  بزينب عليها السلام ، فتتوجّه بالخطاب إلى أخيها، تتّجه نحو أخيها الشهيد الذي كان ملاذها وملجأها الوحيد. لدينا في الروايات أنّ زينب الكبرى جاءت إلى جسد أخيها المقطّع ونادت من أعماق قلبها: "يا محمّداه صلّى عليك ملائكة السماء هذا الحسين بالعرا مرمّلٌ بالدما مقطع الأعضا"1. (20/07/1363)

 
عندما يُقال إنّ الدمّ انتصر على السيف في عاشوراء وفي واقعة كربلاء، وهو كذلك، فإنّ عامل هذا الانتصار هو زينب عليها السلام ؛ وإلا فإنّ الدمّ في كربلاء قد انتهى. واقعةٌ عسكرية تنتهي بهزيمةٍ ظاهرية لقوى الحقّ في ميدان عاشوراء. أما ذلك الشيء الّذي أدّى إلى تبديل هذه الهزيمة العسكرية الظاهرية إلى انتصارٍ قطعيٍّ دائم هو عبارةٌ عن خصوصية زينب الكبرى عليها السلام فالدور الّذي قامت به زينب عليها السلام ؛ هو أمرٌ في غاية الأهميّة. وقد دلّت هذه الواقعة على أنّ المرأة ليست موجودةً على هامش التاريخ، بل هي في صلب الأحداث التاريخية المهمّة. فالقرآن أيضاً ناطقٌ بهذه المسألة في موارد متعدّدة، لكن هذا متعلّق بالتاريخ القريب وليس مرتبطاً بالأمم الماضية؛ فحادثةٌ حيّةٌ ومحسوسةٌ يشاهد فيها الإنسان زينب الكبرى عليها السلام تظهر بهذه العظمة المحيّرة والساطعة في الميدان، تقوم بعملٍ يذل العدوّ ويحقّره، الّذي بحسب الظاهر قد انتصر في المعركة العسكرية واقتلع المعارضين وقمعهم وجلس على عرش النصر في مقرّ قدرته وفي قصر رئاسته. فتسِم جبينه بوصمة العار الأبديّ وتبدّل انتصاره إلى هزيمة. هذا هو عمل زينب الكبرى. أظهرت زينب سلام الله عليها أنّه يمكنها أن تبدّل الحجاب وعفاف المرأة إلى العزّة الجهادية، إلى جهاد كبير.
 
وما بقيَ من خُطَب زينب الكبرى عليها السلام ، ممّا هو في متناول الأيدي، يظهر عظمة حركة زينب الكبرى عليها السلام . فخطبتها الّتي لا تُنسى في أسواق الكوفة
 
 
 

1- تاريخ الطبري، ج4، ص348.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
184

170

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  لم تكن كلاماً عادياً، ولا موقفاً عادياً لشخصيةٍ كبرى، بل بيّنت بتحليل عظيم أوضاع المجتمع الإسلاميّ في ذلك العصر بأجمل الكلمات وأعمق وأغنى المفاهيم في مثل تلك الظروف. فيا لها من شخصية قويّة وعظيمة. 

 
فهي قبل يومين، فقدت أخاها وقائدها وإمامها في تلك الصحراء، فقدته مع كلّ الأعزّاء والشباب والأبناء، وهذا الجمع المؤلّف من بضع عشرات من النساء والأطفال قد أُسروا وأُحضروا على مرأى من أعين الناس وحُملوا على نياق الأسْر، وجاء الناس للمشاهدة، وبعضهم كان يهلّل وبعضهم كان يبكي. ففي مثل هذه المحنة، تسطع فجأةً شمس العظمة، فتستعمل نفس اللهجة الّتي كان يستعملها أبوها أمير المؤمنين عليه السلام وهو على منبر الخلافة مخاطباً أمّته، فتنطق بنفس الطريقة وبنفس اللهجة والفصاحة والبلاغة وبذلك السموّ في المضمون والمعنى: "يا أهل الكوفة، يا أهل الغدر والختل"، أيّها المخادعون، أيّها المتظاهرون، لعلّكم صدّقتكم أنّكم أتباع الإسلام وأهل البيت، ولكن سقطتم في الامتحان وصرتم في الفتنة عمياً، "ألا وهل فيكم إلّا الصّلِف والنّطِف وملق الإماء، وغمز الأعداء؟"1، فتصرّفكم وكلامكم لا ينسجم مع قلوبكم. فغرّتكم أنفسكم، وظننتم أنّكم مؤمنون، وتصوّرتم أنّكم ما زلتم ثوريين، ظننتم أنّكم ما زلتم أتباع أمير المؤمنين عليه السلام ، في حين أنّ واقع الأمر لم يكن كذلك. لم تتمكّنوا من الصمود والنجاح في الفتنة، ولم تتمكّنوا من النجاة بأنفسكم، "... فما مثلكم إلا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم"2 فقد أصبحتم كالّتي بدّلت الحرير أو القطن إلى خيوط، ثمّ أرجعت تلك الخيوط ونقضتها إلى قطن أو حرير، فمن غير بصيرةٍ ووعيٍ للظروف، ومن غير تمييز بين الحقّ والباطل،
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج45، ص 109.
2- الأمالي، الشيخ المفيد، ص 322.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

171

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  أبطلتم أعمالكم وأحبطتم سوابقكم. فالظاهر ظاهر الإيمان واللسان مليءٌ بالادّعاءات الجهادية، أمّا الباطن فهو باطنٌ أجوف خالٍ من المقاومة مقابل العواصف المخالفة. فهذا ما يُعدّ تحديداً للآفات.


فبهذا البيان القويّ والكلمات البليغة، في تلك الظروف الصعبة أيضاً، تحدّثت زينب الكبرى عليها السلام . فلم يكن الأمر بحيث نرى مجموعة من المستمعين يجلسون أمام زينب ويستمعون إليها وهي تتحدّث معهم كخطيب عاديّ؛ كلا، فالجماعة هم من الأعداء، وحملة الرماح يحيطون بهم، وكان هناك جماعةٌ متفاوتون في أحوالهم كهؤلاء الّذين سلّموا مسلماً إلى ابن زياد، وأولئك الّذين كتبوا الرسائل للإمام الحسين عليه السلام وتخلّفوا، ومنهم من كان ينبغي أن يواجه ابن زياد وقد اختبأوا في بيوتهم - هؤلاء كانوا في سوق الكوفة - وجماعةٌ ظهر منهم ضعف النفس وهم الآن يشاهدون ابنة أمير المؤمنين عليها السلام ويبكون. 

فكانت زينب الكبرى في مواجهة هذه الجماعات المتفاوتة الّتي لا يمكن الثّقة بها، ولكنّها كانت تتحدّث بهذه الطريقة المحكمة. فهي امرأة التاريخ، وهذه المرأة لم تعد ضعيفة. ولا يصحّ عدّها امرأة ضعيفة. فهذا جوهر المرأة المؤمنة حيث تُظهر نفسها في مثل هذه الظروف الصعبة. هذه هي المرأة الّتي تُعدّ قدوةً لكلّ الرجال العظماء والنساء العظيمات في العالم. فهي تبيّن علل الثورة النبويّة والثورة العلويّة، وتقول إنّكم لم تتمكّنوا من معرفة الحقّ في الفتنة، ولم تستطيعوا أن تعملوا بتكليفكم، وكانت النتيجة أن يُرفع رأس فلذة كبد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الرماح. من هنا يمكن فهم عظمة زينب. (01/02/1389)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
186

172

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

 حركة الإمام السجّاد عليه السلام في مرحلة الأسر


لقد كان الوضع بعد عاشوراء بالنسبة للشيعة والمعتقدين بخطّ الإمامة وضعاً مذهلاً. فوحشية العملاء الأمويّين وما فعلوه بآل النبيّ، سواءٌ في كربلاء أم في الكوفة أم في الشام، أرعب كلّ محبّي خطّ الإمامة. بالطبع أنتم تعلمون أنّ زبدة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام قد استُشهدوا في كربلاء أو في واقعة التوّابين، أمّا الّذين بقوا فلم يمتلكوا الجرأة الّتي تخوّلهم الوقوف وقول كلمة الحقّ مقابل سلطة يزيد المتجبّر، وفيما بعد مروان. كان هناك جماعةٌ مؤمنة متفرّقة غير منظّمة، مرعوبة، وقد انصرفت من الناحية العملية عن طريق الإمامة. هذا هو الإرث الّذي بقي للإمام السجّاد من جمع الشيعة. القمع الكثير والجماعة المناصرة ضعيفة جداً، وعلى الإمام السجّاد عليه السلام من أجل حفظ تيّار الإسلام الأصيل والدين والواقع، أن ينهض للجهاد ويجمع كلّ هذا الشتات ويتّجه بهم نحو الحكومة العلوية أي نحو الحكومة الإسلامية الواقعية. لقد عمل الإمام السجّاد عليه السلام ضمن هذه الظروف طيلة 34 سنة وسأكتفي بذكر بعض المقاطع البارزة من حياة الإمام السجّاد عليه السلام .

القسم الأوّل من حياة الإمام الرابع المليئة بالمفاخر وهو في الأسر. 

لقد أُسر الإمام السجاد عليه السلام مرّتين وقُّيد بالسلاسل والأغلال مرتين إلى الشام، المرّة الأولى من كربلاء، والمرّة الثانية من المدينة في زمن عبد الملك بن مروان. لقد كان الإمام السجّاد عليه السلام تجسيداً للقرآن والإسلام حين أُسر من كربلاء مع قافلة الأسرى الحسينيين. وفي لحظة سقوط الشهداء
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

173

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  على رمال كربلاء، بدأت ملحمة عليّ بن الحسين عليه السلام . كان الأطفال، صبيةً وإناثاً، والنساء الفاقدات للمعين يحيطون بالإمام السجّاد عليه السلام في قافلة لا يوجد فيها رجلٌ واحد، وكان على الإمام السجّاد عليه السلام أن يقودهم جميعاً, وطوال الطريق إلى الشام، لم يسمح لهذا الجمع الّذي تربطه رابطة الإيمان أن يُصاب بالتردّد والتزلزل. عندما دخلوا الكوفة، أمر عبيد الله بن زياد بقتل كلّ رجال آل البيت، فشاهد من بين الأسرى رجلاً، قال: من هو؟ فقال: أنا عليّ بن الحسين، فهدّده بالقتل، وهنا كان أوّل ظهورٍ وتجلٍّ للإمامة والمعنويات والقيادة، فقال: "أبِالقتل تهدّدني"1 وكرامتنا من الله الشهادة. فنحن نفتخر بأن نُقتل في سبيل الله ولا نخاف الموت. فتراجع جهاز عبيد الله بن زياد مقابل هذه الصلابة.

 
وفي أحداث الشام، بعد أن كان الإمام السجّاد عليه السلام مع كلّ الأسرى، ولأيّامٍ متتالية، في وضعٍ وخيمٍ جدّاً في حال الأسر، بعد ذلك بدا لهم أن يحضروا الإمام السجّاد عليه السلام إلى المسجد وأن ينالوا منه مقابل الناس، لئلا يؤثّر إعلام مخالفيه وأتباع الإمام عليه السلام ، الّتي كانت في كلّ مكان، على وضع حكومة يزيد. هنا نجد الإمام السجّاد عليه السلام في ذلك المجلس ينهض ويقول: ليزيد، أريد أن أصعد هذه الخشبات وأتحدّث مع الناس. لم يتصوّر يزيد أنّ ابن النبيّ، الّذي كان شابّاً أسيراً مريضاً، والّذي كان من المفترض أن يكون طيلة هذه المدّة قد انهزم من الناحية النفسية، يمكن أن يشكّل خطراً عليه، فسمح له، فصعد الإمام السجّاد عليه السلام المنبر وأعلن على الملأ فلسفة الإمامة وحادثة الشهادة، وحركة الحكومة الأموية الطاغوتية في قلب هذه الحكومة. لقد قام بعملٍ هيّج أهالي الشام، أي أنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان له مثل هذه الشخصية العظيمة الّتي تقف مقابل عبيد الله بن زياد ومقابل كلّ هذا الحشد المخدوع في الشام
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج.45، ص.118
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
188

174

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  وفي عمق الجهاز الأموي وفي مقابل جلاوزة يزيد دون أن يخاف، فينطق بكلمة الحقّ ويبيّن، دون أن يرى لحياته قيمةً أو قدراً.(14/09/1359)

 
لقد كان الإمام السجّاد عليه السلام يرسم ملحمة طويلة عظيمة كبطلٍ عظيم بأقواله وأفعاله خلال فترة الأسر والمرض هذه، والّتي تُعتبر فترة مختلفة تماماً عن المرحلة الأساس من حياته، حيث بدأ يعمل على البنية التحتية باعتدالٍ ودقّة وهدوء، حتّى أنّه كان يجلس أحياناً مع عبد الملك بن مروان في مجلس واحد ويتصرّف معه تصرّفاً معتدلاً وعاديّاً. أمّا في هذا المرحلة فإنّنا نشاهد الإمام بصورة ثائرٍ هادرٍ لا يسكت على أيّة كلمة. وكان أمام الملأ يردّ بأجوبة تزلزل أركان أعدائه المقتدرين.
 
في الكوفة نراه يخطب مقابل عبيد الله بن زياد - ذلك الوحش الدمويّ الّذي يقطر سيفه دماً، وقد أسكره شراب قتل ابن النبيّ وكأس الانتصار - بحيث يأمر بقتل الإمام عليه السلام . ولو لم تنهض زينب عليها السلام بالأمر في موقعه، وترمي بنفسها على الإمام وتقول لا أدعكم تقتلونه حتّى تقتلوني قبله وأنا امرأة، وكان على ابن زياد أن يبعثهم كأسرى إلى الشام، لو لم يكن كلّ ذلك لكان هناك احتمال كبير أن يقتل الإمام السجّاد عليه السلام .
 
في سوق الكوفة أيضاً، وبصوت واحد وزمان واحد، يخطب الإمام عليه السلام هو وعمّته زينب عليها السلام وأخته سكينة، فيجيّشون النفوس ويفشون الحقائق.
 
وفي الشام، سواء في مجلس يزيد أم في المسجد، وأمام حشدٍ كبيرٍ من الناس، يبيّن الإمام عليه السلام الحقائق بأبلغ بيان. وقد تضمّنت خطبه وكلماته حقّانية أهل البيت بالخلافة، وفضحت جرائم النظام الحاكم، وحذّر الناس الغافلين الجاهلين بأسلوبٍ شديدٍ وبليغ1
 
 
 
 

1- ذكر الخطبة وإماطة السّتار عن عمقها يتطلّب عملاً مستقلاًّ عن موضوعنا، ولكن ينبغي لكلّ من يريد أن يفسّر هذه الخطبة أن يدرسها كلمة كلمة مع الالتفات إلى هذه الأصول. تلك كانت حالة الإمام السجّاد عليه السلام في مرحلة الأسر الملحميّة (الكاتب). 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
189

175

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

 لماذا يلجأ الإمام السجّاد عليه السلام ، في مرحلة ما بعد الأسر، إلى الاعتدال والتقيّة ويغطّي على التحرّكات الثورية والشديدة بالدّعاء والأعمال المعتدلة، بينما يتصرّف في مرحلة الأسر بشدّة وقوّة ووضوح؟ 


والجواب هو أنّ مرحلة الأسر كانت فصلاً استثنائياً، حيث كان على الإمام السجّاد عليه السلام ، وبمعزل عن كونه إماماً، أن يهيّئ أرضيّة التحرّك المستقبليّ لإقامة الحكومة الإلهيّة والإسلاميّة، وقد كان اللسان الناطق للدماء المسفوكة في عاشوراء. فالإمام السجّاد عليه السلام لم يكن هنا بحقيقته، بل كان لسان الحسين عليه السلام الصامت الّذي تجلّى في هذا الشاب الثوريّ في الشام والكوفة. فلو لم يكن الإمام السجّاد عليه السلام شديداً وحادّاً وصريحاً في بيان القضايا فإنّه لن يبقى في الحقيقة مجال لعمله المستقبليّ. لأنّ مجال عمله المستقبليّ ينطلق من دم الحسين بن علي عليه السلام الهادر. كما أنّ دم الحسين عليه السلام كان أيضاً أرضيّة للنهضات الشيعية على طول التاريخ. وهكذا ينبغي أن يبدأ العمل، أوّلاً بتحذير الناس، ثمّ في ظلّ هذا التحذير تبدأ المعارضة الأصوليّة والعميقة والبعيدة المدى، ولا يمكن أن يتحقّق هذا التحذير إلا باللهجة الحادّة والشديدة.

لذلك كان دور الإمام السجّاد عليه السلام في هذا السفر، ودور زينب عليها السلام حمل نداء ورسالة ثورة الحسين بن علي عليه السلام . إذ إنّ معرفة الناس بقتل الحسين عليه السلام ، ولماذا قتل، وكيف قتل، سوف تؤثّر على مستقبل الإسلام ومستقبل دعوة أهل البيت عليهم السلام ، بنحوٍ، ولو لم يعلموا لأثّرت بنحوٍ آخر. وكان ينبغي بذل الجهود الكبيرة لأجل نشر هذه الحقائق على مستوى المجتمع، وكان عليه أن يستخدم كلّ ما لديه من ذخائر ويمضي بمثل هذا العمل إلى أبعد الحدود. لهذا تحرّك الإمام السجاد عليه السلام في هذا الاتّجاه مثل سكينة وفاطمة الصغرى ومثل زينب نفسها ومثل كلّ أسير (كلٌّ بقدر استطاعته) كحمَلة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

176

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  لرسالة. لقد اجتمعت كلّ هذه الطاقات حتّى تنثر دم الحسين عليه السلام المسفوك في الغربة في كلّ المناطق الإسلامية الّتي مرّوا بها من كربلاء إلى المدينة. وحين دخل الإمام السجاد عليه السلام إلى المدينة كان عليه أن يبيّن الحقائق أمام العيون والأنظار لحظة وصوله، فكان هذا الفصل القصير مقطعاً استثنائياً في حياته. المقطع التالي يبدأ حين يباشر الإمام السجاد عليه السلام حياته في المدينة كأنسان ذي قدرٍ وشأن، ويبدأ عمله من بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحرمه. ولأجل بيان برنامج الإمام الرابع نحتاج إلى دراسة الأوضاع الّتي كانت سائدة وظروف زمانه أيضاً. (مجلة باسدار إسلام، 6)

 

 

 

 

 

 

191


177

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

 الشيعة بعد حادثة كربلاء

 
بداية الحراك الشيعي
عندما جرت واقعة كربلاء سيطرت على كافّة العالم الإسلاميّ، وخاصّة عندما وصل الخبر إلى الحجاز والعراق، حالةٌ من الرعب والخوف الشديدين بين الشيعة وأتباع الأئمّة، لأنّهم شعروا أنّ حكومة يزيد لا تتوّرع عن ارتكاب أيّ شيء لإحكام قبضتها على كلّ شيء، حتّى ولو كان قتل الحسين بن علي عليه السلام ، سبط الرسول المعروف بالعظمة والاعتبار والقداسة في كافّة أنحاء العالم الإسلاميّ. هذا الرعب الّذي ظهرت آثاره في الكوفة والمدينة بلغ ذروته بعد مرور زمان معيّن، إثر وقوع عدّة حوادث أخرى - إحداها حادثة الحرّة - فسيطر جوّ القمع الشديد في منطقة نفوذ أهل البيت عليهم السلام في الحجاز (وخاصّة المدينة) وفي العراق (وخاصّة الكوفة). فضعفت الاتّصالات وصار أتباع الأئمّة والمعارضون لنظام بني أميّة أقليّة وفي حالة ضعف وعدم ثبات.
 
وتُنقل رواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال في الحديث عن أوضاع الأئمّة الّذين سبقوه: "ارتدّ الناس بعد الحسين عليه السلام إلّا ثلاثة..."1 وذكر في رواية أخرى أنهم خمسة وفي بعضها أنهم سبعة. وفي رواية عن الإمام السجاد عليه السلام - يرويها أبو عمر النهديّ - يقول سمعت عن الإمام أنّه قال: "وما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا"2.
 
 
 

1- الاختصاص، ص 64.
2- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، ج4، (ويروى الحديث عن عبد الله بن الزبير) الغارات، ج2، ص 573، ص 104.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
192

178

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

 وقد نقلت هذين الحديثين في هذا المجال، حتّى يتّضح الوضع العامّ لعالم الإسلام بالنسبة للأئمّة وأتباعهم. فهذا القمع الّذي حدث أوجد مثل تلك الحالة الّتي صار فيها أتباع الأئمّة عليهم السلام متفرّقين آيسين خائفين لا يملكون القدرة على التحرّك الجماعيّ. ولكن في تلك الرواية يكمل الإمام الصادق عليه السلام القول: "ثمّ إنّ الناس لحقوا وكثروا"1.

 
وتفصيل القضية المذكورة هو: بعد واقعة شهادة الإمام الحسين عليه السلام صار الناس في خوف ورعب لكن ليس إلى درجة زوال تشكيلات أتباع أهل البيت. ودليل ذلك أنّه في الوقت الّذي جاءوا بأسرى كربلاء إلى الكوفة، شوهدت التحرّكات الّتي تدلّ على وجود التنظيمات الشيعيّة.
 
وعند الحديث عن "التنظيمات الشيعيّة السريّة" لا نقصد نمط التنظيمات الموجود في هذا العصر، بل المقصود تلك الروابط العقائدية الّتي كانت تصل الناس بعضهم ببعض وتحملهم على التضحية والأعمال السرّية، والّتي تؤلّف في أذهاننا مجموعة واحدة.
 
في تلك الأيّام الّتي كان فيها أهل البيت عليهم السلام في الكوفة، يسقط في إحدى الليالي حجرٌ في السجن الّذي كانوا فيه، وإذا بالحجر ورقة كُتب عليها: "لقد أرسل حاكم الكوفة رجلاً إلى يزيد في الشام حتّى يعلم ماذا يفعل بكم. فإذا سمعتم غداً ليلاً صوت تكبير فاعلموا أنّكم ستُقتلون ها هنا، وإذا لم تسمعوا فاعلموا أنّ الوضع سيتحسّن"2. عندما نسمع بمثل هذه القصّة ندرك جيّداً وجود شخص من الأصدقاء وأعضاء هذه التنظيمات داخل الجهاز الحاكم لابن زياد، يعلم القضايا وتطال يده السجن ويعلم ما هي الإجراءات بحقّ المعتقلين وما سيجري عليهم، ويمكنه بالتكبير أن يوصل الأخبار، وبالرغم
 
 


1- بحار الأنوار، ج 46، ص 144.
2- نقل ابن الأثير هذه القصة في تاريخه الكامل(الكاتب).


 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

179

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  من كلّ القمع والتشديد كانت تُشاهد مثل هذه الأمور. 

 
مثال آخر: عبد الله بن عفيف الأزديّ، الرجل الأعمى الّذي قام بردّة الفعل الأولى عند ورود الأسرى إلى الكوفة، وأدّى ذلك إلى استشهاده. وكذلك ما رأيناه في الشام أو في الكوفة عندما التقى النّاس بأهل البيت بالبكاء والتلاوم وقد تكرّرت هذه الحوادث في مجلس يزيد وفي مجلس ابن زياد أيضاً.
 
بناءً على هذا، ومع فرض جوّ من القمع الشديد بعد هذه الحادثة، لم ينهدم نظام عمل أتباع أهل البيت عليهم السلام ولم يحصل لهم التشتّت والضياع. ولكن بعد مرور مدّة وقعت حوادث أخرى، ازداد معها جوّ القمع. ومن هنا يمكن فهم الحديث "ارتدّ الناس بعد الحسين" بأنّه يرتبط بمرحلة تلك الأحداث أو ما بعدها، أو مرتبطٌ بالمقاطع الزمنيّة الّتي حصلت في هذا المجال. 
 
وخلال هذه المرحلة - قبل وقوع تلك الحادثة المهمّة والمفجعة - قام الشيعة بترتيب وتنظيم أعمالهم واستعادة انسجامهم السابق. وينقل الطبريّ قائلاً: "فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال"1، وهو يقصد الشيعة في طلب الثأر لدماء الحسين بن علي عليه السلام . وكانوا يدعون الناس من الشيعة وغيرهم ويستجيب لهم الناس جماعات، جماعات، وقد استمرّ هذا الوضع إلى أن هلك يزيد بن معاوية.
 
ولهذا نجد مع كلّ هذا الضغط والقمع الشديد استمرار التحرّكات - كما ينقل الطبريّ - ولعلّه لهذا السبب تقول مؤلّفة كتاب "جهاد الشيعة" (وهي كاتبة غير شيعية ولا تمتلك رؤية واقعيّة تجاه الإمام السجاد عليه السلام ولكنّها أدركت هذه الحقيقة): "أصبح الشيعة بعد شهادة الحسين عليه السلام كتنظيمٍ واحد تجمعهم الاعتقادات والروابط السياسية ويعقدون الاجتماعات ولهم 
 
 
 

1- تاريخ الطبري، ج 5، ص 558.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
194

180

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

 القادة والقوى العسكرية. وكان التوّابون أوّل مظهر لهذه التنظيمات"1.

 
وهكذا شعرنا مع تسلّل الضعف إلى التنظيمات الشيعية إثر حادثة عاشوراء أنّ هذه التحرّكات في مقابل هذا الوضع استمرّت بنشاط لإعادة هذا التنظيم إلى سابق عهده، إلى أن جرت "واقعة الحرّة". وبرأيي فإنّ واقعة الحرّة كانت مفصلاً عظيماً في تاريخ التشيّع وضربة كبيرة جداً له.
 
واقعة الحرّة
لقد جرت هذه الواقعة سنة 63 للهجرة. وتفصيلها باختصار، أنّه في سنة 62 هـ وُلّيَ أحد شباب بني أميّة قليلي الخبرة، على المدينة ففكّر ومن أجل استمالة قلوب الشيعة في المدينة، أن يدعو بعضهم إلى ملاقاة يزيد. فدعا بعض أشراف المسلمين والصحابة ووجهاء المدينة - الّذين كانوا في معظمهم من محبّي الإمام السجّاد عليه السلام - إلى الشام للقاء يزيد والاستئناس به وللحدّ من الخلافات. فذهبوا إلى الشام والتقوا به ومكثوا عدّة أيّام، وأعطاهم يزيد مبالغ كبيرة من المال (بمقدار 50 ألف درهم أو مئة ألف) ثمّ رجعوا إلى المدينة.
 
عندما عادوا إلى المدينة - ولأنّهم رأوا الفجائع في بلاط يزيد - بدأوا بانتقاده والتهجّم عليه. وانقلبت القضيّة، فبدلاً من مدحه والثناء عليه بدأوا بالتشهير به وقالوا للناس: كيف يمكن أن يكون يزيد خليفة وهو شاربٌ للخمر، ويلاعب الكلاب والقردة، ويمارس أنواع الفسق والفجور؟ إنّنا نخلعه عن الخلافة. وكان على رأس هؤلاء، عبد الله بن حنظلة2 الّذي دعا الناس إلى القيام على يزيد وخلعه. 
 
 
 

1- سميرة مختار الليثي.
2- حنظلة هو الشاب الذي قبل أن يطلع فجر ليلة عرسه التحق بجيش رسول الله واستُشهد في غزوة أُحد وغسلته الملائكة ولهذا عُرف بـ "حنظلة غسيل الملائكة"(الكاتب).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

181

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

 فأدّت هذه الحركة إلى أن يأمر يزيد أحد القادة الكهول والمخضرمين لبني أميّة، ويُدعى "مسلم بن عقبة"، بالإسراع إلى المدينة وإخماد الثورة فيها. فقدم ابن عقبة وحاصرها عدّة أيّام ثمّ دخلها وارتكب فيها أبشع وأفجع الجرائم الّتي لم يحدث مثلها في تاريخ الإسلام. وقد عُرف بعد هذه الحادثة المفجعة باسم "مسرف بن عقبة". 

 
مجريات وتفاصيل هذه الحادثة كثيرة ولا يمكن أن أشرح كلّ الأحداث فيها، ولكن يكفي أنّها أصبحت أكبر وسيلة لإرعاب محبّي وأتباع أهل البيت، خاصّة في المدينة الّتي هرب منها من هرب وقُتل آخرون، بعضهم من أصحاب أهل البيت الخيّرين كعبد الله بن حنظلة. لقد وصل هذا الخبر إلى كافّة أقطار العالم وعُلِم أن النظام الحاكم سوف يقف بقوّة أمام أيّة حركة من هذا القبيل، ولن يسمح بأيّ نحو من التحرّكات.
 
المختار ومصعب وحركة التوابين
الحادثة الأخرى الّتي أدّت إلى إضعاف الشيعة، هي حادثة شهادة المختار في الكوفة، وتسلّط عبد الملك بن مروان على كامل العالم الإسلاميّ. 
 
فبعد موت يزيد، تبعه خلفاء أحدهم معاوية بن يزيد الّذي لم يحكم لأكثر من ثلاثة أشهر، ثمّ مروان بن الحكم الّذي حكم لمدة سنتين أو أقل، ثمّ وصل الأمر إلى عبد الملك الّذي كان أكثر خلفاء بني أميّة حنكةً كما جاء بشأنه: "كان عبد الملك أشدّهم شكيمة وأمضاهم عزيمة"1.

فاستطاع عبد الملك أن يقبض على زمام أمور العالم الإسلاميّ بيده، وأن يوجد نظاماً إرهابياً وقمعيّاً، وكان إمساكه بزمام الأمور متوقّفاً على القضاء على خصومه. فالمختار الشيعيّ قد صُفّي قبل مجيئه على يد مصعب
 
 
 

1- أنساب الأشراف، ج 7، ص 209.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
196

 


182

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  بن الزبير. ولكنّ عبد الملك أراد أن يضع نهايةً لاستمرار حركة المختار وغيره والحركات الشيعيّة الأخرى. وبالفعل قام بذلك، حتّى عانى الشيعة في العراق، وخاصّة الكوفة الّتي كانت في ذلك الوقت أهمّ مراكزهم، أشدّ معاناة.(مجلة باسدار إسلام، 8).

 
وإن كانت حركة التوّابين الّتي حدثت في عام 64 أو 65 للهجرة - حيث على الظاهر كانت شهادتهم عام 65 - قد أوجدت جوّاً جديداً في أجواء العراق المكبوتة، لكنّ استشهادهم جميعاً عن بكرة أبيهم أعاد جوّ الرّعب والقمع إلى الكوفة والعراق. وبعد أن توفّي أعداء الجهاز الأمويّ، أي المختار ومصعب بن الزبير، ولم يكن عبد الله بن الزبير في مكّة قادراً على أن يتحمّل المختار التابع لأهل البيت عليهم السلام ، فقتله بيد مصعب، وتجدّد هذا الرّعب والخوف أكثر وضعُفت الآمال. حتّى جاء في نهاية المطاف عبد الملك على رأس السلطة، ولم تمرّ مدّة قصيرة حتّى صار كلّ العالم الإسلاميّ تحت سلطة بني أميّة المنحوسة بكلّ اقتدارهم، وتمكّن عبد الملك من أن يحكم طيلة 20 سنة بكلّ اقتدار.(28/04/1365)
 
وفي كلّ الأحوال فقد بدأت هذه الأحداث من واقعة عاشوراء، وكان لها تبعات من قبيل واقعة الحرّة وقمع حركة التوّابين1 في العراق، وشهادة المختار، وشهادة إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي، وآخرين من وجهاء الشيعة حيث إنّه بعد شهادتهم تمّ قمع حركات التحرّر سواء في المدينة أم في الكوفة
 
 
 

1- كانت حركة التوّابين أوّل ردّة فعل على عاشوراء وقد جرت في الكوفة. فبعد استشهاد الإمام الحسين بدأ بعض الشيعة يتلاومون فيما بينهم ويتعاتبون لأنّهم لم يستجيبوا لدعوة الإمام ويسرعوا إلى نصرته، ورأوا أنّه لن يغسل هذه المعصية سوى الانتقام لأبي عبد الله من قاتليه وأعدائه، ولهذا جاؤوا إلى الكوفة واجتمعوا بخمسة أعيانٍ وزعماء للشيعة وتباحثوا. وفي النهاية جعلوا سليمان بن صرد الخزاعي قائدهم وبدأوا بتحرّكٍ عسكريٍّ علنيّ.
وفي ليلة الجمعة، في الخامس والعشرين من ربيع الثاني لسنة 65 للجهرة جاؤوا إلى مرقد الإمام الحسين المطهّر وبكوا وضجّوا بحيث لم يُرَ حتى يومنا هذا مثل ذلك اليوم. ثمّ ودّعوا القبر واتّجهوا إلى الشام للقتال والتحموا بالجيش الأموي حتى قُتلوا عن بكرة أبيهم.
النقطة الملفتة في حركة التوّابين هي أنه رغم أنّهم في الكوفة لكنّهم اتّجهوا نحو الشام وحاربوا النظام من أجل أن يثبتوا أنّ قاتل الإمام الحسين ليس شخصاً أو بضعة أشخاص بل إنّه نظام بأسره.(الكاتب).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

183

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  - اللتين كانتا المركز الأساس للتشيّع - وأُصيب التشيّع في العالم الإسلامي بحالة من القمع الشديد وغاص أتباع الأئمّة في منتهى الغربة والوحدة.

 
عصر الانحطاط الفكري والاخلاقي
هناك عاملٌ آخر إلى جانب هذا الرّعب وهو الانحطاط الفكريّ للناس، في كلّ أطراف العالم الإسلامي وأكنافه، وهو الّذي نشأ من عدم الاهتمام بتعاليم الدين في مرحلة العشرين سنة الماضية. وفيما بعد هُجر التعليم الدينيّ وتعليم الإيمان وتفسير الآيات وبيان الحقائق منذ زمن النبيّ - في مرحلة العشرين سنة بعد عام 40 للهجرة وإلى ذاك الوقت - فابتُلي الناس بلحاظ الاعتقاد والأصول الإيمانية بالخواء والفراغ. عندما يضع المرء حياة الناس في ذلك العهد تحت المجهر يتّضح هذا الأمر من خلال التواريخ والروايات المختلفة الموجودة. بالطبع، كان هناك علماء وقرّاء ومحدّثون، سيأتي التعرّض لهم، لكنّ عامّة الناس ابتُلوا بعدم الإيمان وضعف الاعتقاد ضعفاً كبيراً. وقد وصل الأمر إلى حيث إنّ بعض أيادي جهاز الخلافة يشكّكون في النبوّة! ذُكر في الكتب أنّ خالد بن عبد الله القسري، ويُعدّ من عمّال بني أميّة المنحطّين جداً والسيّئين، كان يفضّل الخلافة على النبوّة ويقول: "إنّ الخلافة أفضل من النبوّة"، ثمّ يستدل قائلاً: "أخليفتك في أهلك أحقّ إليك وآثر عندك أم رسولك"1؛ أي لو أنّك تركت في أهلك شخصاً يخلفك في غيبتك فهل هو أفضل وأقرب إليك أم ذاك الّذي يأتيك برسالةٍ ما من مكانٍ معيّن؟ فمن الواضح أنّ ذاك الّذي جعلته في بيتك خليفةً لك سيكون أقرب إليك. فخليفة الله - وهنا لا يقول خليفة رسول الله - هو أفضل من رسول الله!
 
إنّ ما كان يقوله خالد بن عبد الله القسري كان يجري على لسان الآخرين.
 
 
 

1- الأخبار الطوال، ص 346.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

184

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  وعندما نظرت في أشعار شعراء العصر الأمويّ وجدت أنّه منذ زمان عبد الملك قد تكرّر تعبير خليفة الله في الأشعار إلى درجة أنّه ينسى المرء أنّ الخليفة هو خليفة النبيّ! فقد استمرّ هذا الأمر إلى زمن بني العبّاس.

 
بني أميّة هبّوا طال نومُكمُ                     إنّ الخليفة يعقوب بن داوودِ
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا           خليفة الله بين الزقّ والعودِ1

حتّى عندما كانوا يريدون هجاء الخليفة كانوا يقولون خليفة الله! وأينما كان الشعراء المعروفون في ذلك الزمان كجرير والفرزدق وكُثير وغيرهم، ومئات الشعراء المعروفين والكبار، عندما يريدون مدح الخليفة كانوا يطلقون عليه لقب خليفة الله، لا خليفة رسول الله. وهذا نموذجٌ واحد. لقد ضعُفت عقائد الناس بهذا الشكل حتّى فيما يتعلّق بأصول الدين. أمّا أخلاقهم فقد انحطّت بشدّة.
 
هناك نقطة لفتت نظري أثناء مطالعتي لكتاب الأغاني لأبي الفرج، وهو أنّه في سنوات الـ 70 والـ 80 والـ 90 والمئة إلى 150، 160 تقريباً، فإنّ أشهر المغنّين والمطربين واللاعبين والعابثين في العالم الإسلاميّ كانوا في المدينة أو في مكّة، وكلّما كان يضيق صدر الخليفة في الشام شوقاً للغناء، ويطالب بمغنٍّ أو مطرب، كانوا يرسلون له من المدينة أو مكّة أحد المطربين المعروفين أو المغنّين. فأسوأ الشعراء والماجنين كانوا في مكّة والمدينة. فمهبط وحي النبيّ ومنشأ الإسلام أضحى مركزاً للفحشاء والفساد. ومن الجيّد أن نعرف هذه الأمور بشأن تاريخ المدينة ومكّة. وللأسف في الآثار الّتي لدينا، لا يوجد مثل هذه الأشياء، وهي أمورٌ واقعيّة حدثت. وأنا العبد أعرض لنموذجٍ من رواج الفساد والفحشاء. 
 
 
 

1- طبقات الشعراء، ص 3.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
199

185

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

 كان في مكّة شاعرٌ يُدعى عمر بن أبي ربيعة، وهو من شعراء التعرّي والمجون، وقد مات في أوج قدرته وفنّه الشعريّ. ولو أردنا ذكر قصص هذا الشاعر وماذا كان يفعل في مكّة لاحتاج الأمر إلى فصلٍ مشبّعٍ بالتاريخ المؤسف لذلك العصر، في مكّة والطواف ورمي الجمرات. وهذا البيت مذكور في كتاب المغني:

بدا لي منها مُعصمٌ حينما جَمَّرت                  وكفٌّ خضيبٌ زُيّنت ببنان1
فوالله ما أدري وإن كنت دارياً                    بسبعٍ رميتُ الجمر أم بثمانيِ
 
وعندما مات عمر بن ربيعة، ينقل الراوي أنّه أقيم في المدينة عزاءٌ عام وكان الناس يبكون في أزقّة المدينة. ويقول إنّني أينما ذهبت كنت أجد مجموعة من الشباب، نساءً ورجالاً، واقفين ويبكون عمر بن ربيعة في مكّة، فشاهدت جارية تسعى في عملها وتحمل سطلاً لتُحضر الماء، وكانت دموعها تنهمر على خدّيها بكاءً على عمر بن ربيعة غمّاً وأسفاً؛ وعندما وصلت إلى مجموعة من الشباب سألوها لماذا تبكين لهذا الحدّ؟ فقالت لأنّ هذا الرجل قد مات وخسرنا، فقال لها أحدهم، لا تحزني هناك شاعرٌ آخر في المدينة هو خالد المخزوميّ، والّذي كان لمدّةٍ حاكماً على مكّة من طرف علماء الشام، وقد كان من شعراء التعرّي والمجون، كعمر بن ربيعة، فذكروا لها ذاك البيت وأرادوا أن يذكروا لها بعض الأبيات الشعرية لهذا الشاعر، فاستمعت هذه الجارية قليلاً - وقد ذُكر في "الأغاني" هذا الشعر وخصائصه - فمسحت دموعها وقالت: "الحمد الله الّذي لم يخلِ حرمه". فإذا فُقد شاعرٌ جاء آخر، هذا نموذج من الوضع الأخلاقيّ لأهل المدينة.
 
والقصص كثيرة عن سهرات مكّة والمدينة. ولم تكن المسألة منحصرة بالأفراد المنحطّين، بل شملت الجميع في المدينة، بدءاً من ذاك المتسوّل
 
 
 

1- مغنى اللبيب، ص 20.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
200

186

الفصل السابع: حركة السيدة زينب الكبرى عليها السلام وأحداث ما بعد كربلاء

  المسكين كأشعب الطمّاع المعروف الّذي كان شاعراً ومهرّجاً ومروراً بالأفراد العاديّين وأبناء السوق وأمثال هذه الجارية إلى أبناء المعروفين من قريش وحتّى بني هاشم - لا أذكر أسماء من الشخصيات المعروفة لوجهاء قريش نساءً ورجالاً - كانوا من هؤلاء الّذي غرقوا في هذه الفحشاء.


وفي زمن أمارة هذا الشخص المخزومي، جاءت عائشة بنت طلحة وكانت تطوف، وكان يحبّها، وعندما حان وقت الأذان أرسلت هذه المرأة رسالةً أن لا تؤذّنوا حتّى أنهي طوافي، فأُمر بعدم رفع أذان العصر! فقيل له أنت تؤخّر الأذان من أجل شخصٍ واحد وامرأة تطوف: أوَتؤخّر صلاة الناس؟! فقال: واللهِ لو أنّ طوافها بقي إلى الصبح لقلت لهم أن يؤخّروا الأذان إلى الصبح! هذا كان حال ذلك الزمن. (28/04/1365)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

187

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 الفصل الثامن:




الإمام السجّاد عليه السلام



الظروف الاجتماعية والسياسية.
أهداف حركة الإمام السجّاد عليه السلام .
الإمام السجّاد عليه السلام  وتجلّيات المواجهة السياسية.
تكتيك بداية المرحلة الثالثة لحركة الأئمّة عليهم السلام .
مواجهة الإمام مع علماء البلاط.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
203

188

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 الظروف الاجتماعية والسياسية


إنّ الحديث عن الإمام السجّاد عليه السلام وكتابة سيرته عمل صعب، لأنّ أساس تعرّف الناس إلى هذا الإمام تمّ في أجواء غير مساعدة إطلاقاً. ففي ذهن أغلب كتّاب السيرة والمحلّلين أنّ هذا الإنسان العظيم قد انزوى للعبادة ولم يكن له أي تدخّل في السياسة. حتّى أنّ بعض المؤرّخين وكتّاب السيرة ذكروا هذه المسألة بشكل صريح. أمّا الّذين لم يقولوا هذا الأمر بصراحة فإنّ مفهومهم عن حياة الإمام السجّاد عليه السلام ليس سوى هذا الأمر. وهذا المعنى موجود في الألقاب الّتي تُنسب إليه والتعابير الّتي يطلقها الناس عليه: كما يطلق عليه بعض الناس لقب "المريض"، في حين أنّ مرضه لم يستغرق أكثر من عدّة أيّام في واقعة عاشوراء. ومن الطبيعيّ أنّ كلّ إنسان يمرض في حياته عدّة أيّام، وإن كان مرض الإمام للمصلحة الإلهيّة حتّى لا يُكلّف هذا العظيم بالدفاع والجهاد في سبيل الله في تلك الأيّام، ليستطيع في المستقبل أن يحمل الحمل الثقيل للأمانة والإمامة على عاتقه، ويبقى حيّاً بعد والده لمدّة 35 أو 34 سنة، تُعدّ أصعب مراحل عصور الإمامة عند الشيعة. أنتم عندما تنظرون إلى ماضي حياة الإمام السجّاد عليه السلام سوف تجدون حوادث متنوّعة ولافتة جدّاً، كما حدث لبقيّة أئمّتنا، وربّما إذا جمعنا سير الأئمّة عليهم السلام معاً فلن نجد مثل سيرة السجّاد عليه السلام .

إنّ سيرة كلّ إنسان بالمعنى الواقعيّ للكلمة تتّضح عندما نعرف التوجّه العامّ الّذي سار عليه، ومن بعدها نقوم بملاحظة الحوادث الجزئية في حياته. فإذا عُرف التوجّه العامّ، فإنّ الحوادث الجزئية سوف تصبح ذات معنى، أمّا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

189

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  إذا لم يُعرف ذلك التوجّه أو فُهم خطأ، فإنّ تلك الحوادث الجزئية سوف تصبح دون معنى أو بمعنى خاطئ. وهذا لا يختصّ بالإمام السجّاد عليه السلام أو باقي أئمّتنا عليهم السلام فقط، بل إنّ هذا يصدق وينطبق على سيرة الجميع.


مثلاً في خصوص الإمام السجّاد عليه السلام نجد أنّ رسالته إلى محمّد بن شهاب الزهريّ تُعتبر نموذجاً لأحد الحوادث في حياته. فلو أخذنا هذه الحادثة بنفسها، وبمعزل عن بقية الحوادث في تلك المرحلة، لا يمكن أن نفهم شيئاً. فقد تُفهم هذه الرسالة على أنّها من أحد الّذين ينتسبون إلى آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، لأحد العلماء المعروفين في ذلك الزمان، في هذا المجال توجد عدّة آراء: هذه الرسالة يمكن أن تكون جزءاً من جهادِ واسعِ وأساس، ويمكن أن تكون نهياً بسيطاً عن منكر، ويمكن أن تكون اعتراضَ شخصيّة على شخصية أخرى كالاعتراضات الّتي تُشاهد كثيراً على طول التاريخ بين شخصيّتين أو عدّة أشخاص. ولا يمكن فهم شيءٍ من هذه القضيّة بشكلٍ تلقائيّ وبمعزل عن بقية أحداث تلك المرحلة. والهدف من هذه المسألة هو أنّنا إذا التفتنا إلى الحوادث الجزئية وقطعنا النظر عن التوجّه العامّ في حياة الإمام فلن تُفهم سيرته، لذلك لا بدّ من أن نعرف التوجّه العامّ في سيرته.

إنّ بحثنا الأوّل هو حول التوجّه العام للإمام السجّاد عليه السلام في الحياة ونقرنه بكلماته، وأيضاً بالمفهوم العامّ لحياة الأئمّة عليهم السلام ثمّ نوضحه.

نحن نشاهد بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام ، الّذي وقع في السنة الأربعين للهجرة، أنّ أهل البيت لم يلتزموا البقاء داخل البيت والاقتصار على بيان الأحكام الإلهيّة كما يفهمونها فقط، بل نجد منذ أوّل أيّام الصلح أنّ برنامج كلّ الأئمّة عليهم السلام كان يقوم على تهيئة المقدّمات لإقامة الحكومة الإسلامية بحسب النهج الّذي يرونه. وهذا ما نلاحظه بوضوح في حياة الإمام المجتبى عليه السلام وكلماته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
206

190

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 من هذه الجّهة كان عمل الإمام الحسن عليه السلام عملاً عميقاً جدّاً وتأسيسيّاً. لقد عاش الإمام الحسن عليه السلام مع كلّ تلك التحوّلات عشر سنوات، اجتمع حوله، في هذه المدّة، أفراد وتربّوا على يديه. توزّع قسم منهم في كلّ زاوية لمواجهة نظام معاوية وإضعافه بشهادتهم واعتراضاتهم وصرخاتهم.


وفيما بعد وصل الدور إلى الإمام الحسين عليه السلام . وهذا العظيم تابع ذلك المنهج نفسه في المدينة ومكّة ومناطق أخرى حتّى هلك معاوية وجرت واقعة كربلاء. وإن كانت واقعة كربلاء ثورة مفيدة جدّاً ومربّية لمستقبل الإسلام، لكنّ ذاك الهدف الّذي كان الإمام الحسن عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام يسعيان لأجله، تأخّر بسبب ذلك لأنّ الناس أصبحوا مرعوبين خائفين وجرت تصفية الأتباع المقرّبين للإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام ، وتسلّط الأعداء ووقع ذلك الحادث بشكلٍ طبيعيّ. لو لم تحدث نهضة الإمام الحسين عليه السلام بهذا الشكل، فيبدو أنّه فيما بعده وفي المستقبل القريب كان هناك مجالٌ للتحرّك ينتهي إلى تسليم الحكومة للشيعة. ولا يعني هذا الكلام عدم وجوب نهوض الإمام الحسين عليه السلام ، بل إنّ الظروف الّتي كانت في هذه الثورة كانت تفرض أن تحدث في ذلك الوقت ولا شكّ في ذلك أبداً. لكن لو لم تكن تلك الظروف، ولو لم يستشهد الإمام الحسين عليه السلام في تلك الواقعة، فالاحتمال الأكبر أنّ المستقبل الّذي تطلّع إليه الإمام الحسن عليه السلام كان سيتحقّق بسرعة. 

لقد كان الأئمّة عليهم السلام وراء هذا الخطّ وهذا الهدف، وكانوا يسعون دائماً لأجل تشكيل الحكومة الإسلامية. عندما استشهد الإمام الحسين عليه السلام في واقعة كربلاء، وأسر الإمام السجّاد عليه السلام وهو في تلك الحالة من المرض، بدأت في الحقيقة منذ تلك اللحظة مسؤولية الإمام السجّاد عليه السلام . ولو قُدّر في ذلك التاريخ أن ينجح الإمام الحسن عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام في تأمين ذلك المستقبل لقام الإمام السجّاد عليه السلام في ذلك الوقت بالتحديد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

191

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  بهذا الأمر ومن بعده الأئمّة الباقون عليهم السلام .


بناءً على هذا، ينبغي أن نبحث في مجمل حياة الإمام السجّاد عليه السلام عن هذا الهدف الكلّي والمنهج الأصليّ، وأن نعرف دون شك أنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان يسعى لأجل تحقيق ذلك الهدف الّذي كان يسعى لأجله الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام .

كان الإمام السجّاد عليه السلام ، في الفترة ما بين تسلّمه للإمامة منذ عاشوراء 61 هـ. واستشهاده مسموماً عام 94 هـ، يتابع مسؤولية تحقّق ذلك الهدف. لذلك ينبغي أن نفسّر جزئيات عمل الإمام والمراحل الّتي مرّ بها والأساليب الّتي استعملها، والتوفيقات الّتي حصلت، وكلّ الأمور الّتي بيّنها، وكلّ التحرّكات الّتي قام بها، والأدعية والمناجاة الّتي جمعت في الصحيفة السجّادية... كلّ هذا ينبغي أن يفسّر بالنظر إلى الخطّ العامّ. ومن المواقف الّتي اتّخذها طوال مدّة الإمامة:
1. موقفه مقابل عبيد الله بن زياد ويزيد، الّذي تميّز بالبطولة والشجاعة والفداء. 
2. موقفه من "مسرف بن عقبة" الّذي تميّز بالهدوء، هذا الرجل الّذي قام بتدمير المدينة واستباح أموالها بأمر من يزيد في السنة الثالثة من حكمه. 
3. حركة الإمام مقابل عبد الملك بن مروان، أقوى خلفاء بني أميّة وأمكرهم، حيث تميّز موقفه بالشدّة حيناً والاعتدال حيناً آخر. 
4. تعامل الإمام عليه السلام مع عمر بن عبد العزيز. 
5. تعامل الإمام مع أصحابه وأتباعه ووصاياه لأصحابه. 
6. موقف الإمام من وعّاظ السلاطين وأعوان الظلمة. 

كل هذه المواقف والتحرّكات ينبغي أن تُدرس بدقّة. ووفق تصوّري أرى أنّه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

192

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  بالالتفات إلى النهج العام، فإنّ كل هذه الجزئيات والحوادث سوف تكتسب معانٍ مناسبة وواضحة. وسوف نجد عندها أنّ هذا الإنسان العظيم قد قضى كلّ حياته وسعيه في طريق الهدف المقدّس وهو عبارة عن إقامة حكومة الله على الأرض وتطبيق الإسلام، وقد استفاد من أنضج وأفضل الوسائل، وتقدّم بالقافلة الإسلامية، الّتي كانت بعد واقعة عاشوراء في تشرذم وتفرّق مهول، وأنجز مهمّته العظمى ومسؤوليته الأصيلة (الّتي سوف نشير إليها بالتفصيل لاحقاً)، والّتي قام بها كلّ أئمّتنا وجميع الأنبياء والصالحين، مراعياً أصول السياسة والشجاعة والدقّة في الأعمال. وبعد 35 سنة من الجهاد المستمرّ، الّذي لم يعرف الراحة أبداً، رحل عن الدنيا كريماً مرفوع الرأس موكلاً حمل ثقل الرسالة من بعده إلى الإمام الباقر عليه السلام .

 
إنّ انتقال الإمامة إلى الإمام الباقر عليه السلام ، وهي تحمل مهمّة إقامة حكومة الله على الأرض، تظهر بصورة واضحة في الروايات. ففي رواية، نجد أنّ الإمام السجاد عليه السلام يجمع أبناءه مشيراً إلى محمّد بن علي الباقر عليه السلام ويقول: "... احمل هذا الصندوق وخذ هذا السلاح وهذه الأمانة بيدك"، وحينما فتح الصندوق كان فيه القرآن والكتاب1.
 
لعلّ ذلك السلاح يرمز إلى القيادة الثوريّة، وذلك الكتاب يرمز إلى الفكر والعقيدة الإسلامية، وقد أودعهما الإمام السجّاد عليه السلام الإمام الّذي سيأتي من بعده مودّعاً الدنيا، راحلاً إلى جوار الرحمة الإلهيّة بنفس مطمئنّة ووجدان هادئ ورأس مرفوع. كانت هذه هي الصورة العامّة لحياة الإمام السجّاد عليه السلام . 
 
 
 

1- بصائر الدرجات، ص 200. عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "لما حضرت علي بن الحسين الوفاة قبل ذلك أخرج سفطاً أو صندوقاً عنده فقال: يا محمد احمل هذا الصندوق، قال فحمل بين أربعة، قال فلما توفي جاء إخوته يدَّعون في الصندوق، فقالوا اعطنا نصيبنا من الصندوق، فقال: والله ما لكم فيه شيء ولو كان لكم فيه شيء ما دفعه إلي وكان في الصندوق سلاح رسول الله وكتبه صلى الله عليه وآله وسلم ".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

193

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 ولكن إذا أردنا أن ندرس تفاصيل الأحداث، علينا أوّلاً أن نمهّد لها بالوضع السابق لها، إذ يوجد في حياة الإمام السجاد فصل قصير ومحدّد نذكره أولاً، ثمّ نقوم بعدها بشرح المسير العاديّ لحياة الإمام وتفصيل الأوضاع وأحوال الزمان والظروف الّتي كانت سائدة.(مجلة باسدار اسلام، 6)

 
لقد بدأت حياة الإمام السجاد بمرحلة مليئة بالصعاب، حيث جرت حادثة كربلاء، الّتي لم تهزّ كيان الشيعة فقط، وإنّما هزّت الأمّة الإسلاميّة بأجمعها. ومع أنّ القتل والأسر والتعذيب كان شائعاً آنذاك، لكنّ قتل أولاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأسر العائلة النبويّة ووضع رؤوس آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم على الرماح والاستهانة بمن كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقبّل ثناياه، كلّ هذا قد زلزل العالم الإسلاميّ وصعقه. فلم يكن أحد يتوقّع أنّ الأمر سوف يصل إلى هذه المرحلة. ولا أدري مدى صحّة الشعر المنسوب للسيدة زينب عليها السلام : "ما توهّمت يا شقيق فؤادي كان هذا مقدّراً مكتـوباً"1، فقد كان يشير إلى هذه النقطة وهي استنتاج جميع الناس. ففجأةً انتشر الشعور بأنّ السياسة أضحت سياسة مختلفة، والتشديد الّذي كان يشعر به الجميع أصبح أشدّ. فهذا البيت يشير بلا شك إلى أنّ هذا الحدث كان غير متوقّع آنذاك. فلهذا أخذ الهول والفزع ينتاب الأمّة الإسلاميّة حيث شاهدت ورأت ما لم تكن تتوقّعه من التنكيل والتعذيب.
 
لذا انتشر الخوف في كافّة المناطق الإسلاميّة إلّا الكوفة وهذا بفضل التوّابين والمختار وثورتهم. أمّا المدينة وحتّى مكّة المكرّمة مع وجود عبد الله بن الزبير، والّذي ثار بعد مدّة، فعاشت حالة الرعب غير المسبوق في العالم الإسلاميّ، بسبب حادثة كربلاء المفجعة. والعامل الآخر هو الفساد السياسيّ.
 
فما ذكرنا كان وضع كبار الشخصيات الّذين تشبّثوا بفضلات الحياة المادية لرجال الحكومة آنذاك. وأمثال هؤلاء محمّد بن شهاب الزهري، فهذه
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج 45، ص 115.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

194

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  الشخصية كانت تُعتبر من الكبار ومن تلامذة الإمام السجّاد عليه السلام ، والإمام عليه السلام استطاع أن يفضح حقيقة هؤلاء من خلال رسالة كتبها لتكون حجّة للتاريخ وتبيّن العلائق المادّية الّتي كانوا يتمسّكون بها.

 
وهناك الكثير من أمثال محمّد بن شهاب، حيث نقل العلّامة المجلسيّ عن ابن أبي الحديد ما يثير ويهزّ المشاعر. فقد نقل في البحار عن جابر أنّ الإمام السجاد عليه السلام قال: "ما ندري كيف نصنع بالناس، إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحكوا" (فإنّهم لا يكتفون بالرفض وإنما يضحكون استهزاءً)، "وإن سكتنا لا يسعنا"1. ومن ثمّ يذكر ابن أبي الحديد أسماء عدد من الشخصيات ورجال ذلك الزمان من الّذين كانوا من أتباع أهل البيت عليهم السلام ثمّ انحرفوا فيما بعد.
 
كان يجب أن يصلح دين الأمّة، وأن تُهذّب أخلاق الناس وأن يُخلّص الشعب من الفساد الّذي كان سائداً آنذاك وأن تُوجّه الأمّة معنوياً كي يرجع أساس الدين إلى الأمّة والمجتمع. لذا ترون أنّ أكثر الكلام المنقول عن الإمام السجّاد عليه السلام هو في الزهد. وحتى في بداية كلامه وخطبه، الّتي كانت تتضمّن معنىً سياسيّاً، نجده يبدأها بالكلام حول الزهد، حيث يقول عليه السلام : "إنّ علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين عنها في الآخرة...إلخ"2. وفي كلام آخر يصف الدنيا قائلاً "أوَلا حرّ يدع هذه اللماظة لأهلها فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة ألا فلا تبيعوها بغيرها"3.
 
إنّ كلمات الإمام عليه السلام كلّها كانت تحمل بين طيّاتها الزهد والمعارف الإسلامية، وكان الإمام يطرح المعارف الإسلامية ويبيّنها من خلال الدعاء، وذلك لأنّ الظروف الصعبة والقمع الّذي كان مسيطراً على الشعب لم يكن
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج 6، ص 259.
2- بحار الأنوار، ج 75، ص 128.
3- تحف الحقول، ص 391.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

195

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 يسمح للإمام السجّاد عليه السلام بأن يتكلّم ويطرح آراءه بصورة صريحة وواضحة، فليست السّلطة وحدها كانت مانعة له، وإنّما الناس أنفسهم كانوا يرفضون هذا. المجتمع كان قد أصبح مجتمعاً ضائعاً وكان من الواجب إصلاحه.


كانت حياة الإمام السجاد عليه السلام من عام 61 هـ إلى 95 هـ، على ما ذكرنا. وكلّما كان يمضي الوقت كان الوضع يتحسّن، حتّى قال الإمام الصادق عليه السلام ، كما ذكرناه سابقاً، "ارتدّ الناس بعد الحسين..." إلى أن قال "ثم إنّ الناس لحقوا وكثروا".

وفي زمن الإمام الباقر عليه السلام تحسّن الوضع عمّا كان عليه في زمن السجّاد عليه السلام وهذا بفضل سعي الإمام السجّاد خلال 35 سنة. (28/04/1365)

يظنّ بعض الناس أنّ الإمام فيما لو أراد أن يقاوم نظام بني أميّة لكان ينبغي أن يرفع راية المقاومة العسكرية، أو أن يلتحق بالمختار، أو عبد الله بن حنظلة، أو أن يقودهما معلناً بذلك المقاومة المسلّحة بكلّ وضوح. لكنّنا نفهم من خلال النظر إلى ظروف زمان الإمام السجاد عليه السلام أن هذا ظنٌّ خاطئ وذلك بالالتفات إلى هدف الأئمّة عليهم السلام .

لو قام الأئمّة عليهم السلام ، ومن جملتهم الإمام السجّاد عليه السلام ، في تلك الظروف بمثل هذه التحرّكات العلنية والسلبية، فباليقين لما بقي للشيعة باقية، ولما بقيت الأرضية أو فسح المجال لاستمرار ونموّ مدرسة أهل البيت ونظام الولاية والإمامة فيما بعد. لهذا نجد أنّ الإمام السجّاد عليه السلام في قضيّة المختار لم يعلن التعاون معه، وبرغم ما جاء في بعض الروايات عن ارتباطٍ سريّ بينهما، إلاّ أنّه ودون شكّ، لم يكن ارتباطاً علنياً، حتّى قيل في بعض الروايات إنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان يذمّ المختار، ويبدو هذا الأمر طبيعياً جداً من ناحية التقيّة، وذلك حتّى لا يُشعر بوجود أيّ ارتباط بينهما، مع العلم بأنّ المختار فيما لو انتصر فإنّه بالتأكيد كان سيعطي الحكومة لأهل البيت عليهم السلام ، ولكن في حال 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

196

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 هزيمته، ومع وجود أدنى ارتباط واضح وعلنيّ، لكانت النّقمة شملت وبشكل قطعيّ الإمام السجّاد عليه السلام وشيعة المدينة واجتثّت جذور التشيّع أيضاً. لأجل ذلك لم يُظهر الإمام عليه السلام أيّ نوع من الارتباط العلنيّ به.


ورد في رواية أنّه عندما دخل مسلم بن عقبة إلى المدينة في واقعة الحرّة، لم يشكّ أحدّ على الإطلاق في أنّ أوّل شخص سيقع ضحيّة نقمته هو عليّ بن الحسين عليه السلام ، لكنّ الإمام السجّاد عليه السلام بتدبيره الحكيم تصرّف بحيث دفع البلاء عنه، وبذلك حافظ على استمرار المحور الأصليّ للشيعة.

وهناك روايات في بعض الكتب - منها "بحار الأنوار" - تحكي عن إظهار التذلّل من قبل السجّاد عليه السلام عند مسلم بن عقبة، ولكن هذه الروايات كاذبة قطعاً وذلك للأسباب التالية:
أولاً: لا تستند هذه الروايات إلى أيّ سندٍ صحيح.
ثانياً: توجد روايات أخرى تكذّبها وتدفعها من حيث المضمون.

ففي لقاء الإمام عليه السلام مع مسلم بن عقبة توجد روايات عديدة لا تنسجم أيّة واحدة منها مع الأخرى، ولأنّ بعض تلك الروايات ينطبق وينسجم أكثر مع نهج الأئمّة وسيرتهم، فنحن بصورة طبيعية نقبلها.

على كلّ حال، مع أنّنا لا نقبل تلك الروايات الّتي تتحدّث عن صدور مثل هذه الأفعال عن الإمام، ولكنّنا لا نشك أيضاً في أنّ الإمام لم يقابل مسلم بن عقبة بتصرّف معادٍ، لأنّ أيّ تصرّف من هذا القبيل سوف يؤدّي إلى قتل الإمام، وهذا سيؤدّي بدوره إلى خسارة عظيمة لا تُجبر بلحاظ الدّور الّذي ينبغي أن يقوم به الإمام السجّاد عليه السلام بالنسبة لثورة الإمام الحسين عليه السلام وتبليغ حقيقتها. لهذا يبقى الإمام عليه السلام - وكما قرأنا في رواية الإمام الصادق عليه السلام - ويلحق الناس به شيئاً فشيئاً ويزداد عددهم. وفي ظلّ تلك الظروف الصعبة وغير المساعدة يبدأ عمل الإمام السجّاد عليه السلام .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

197

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 في تلك الفترة ساد حكم عبد الملك - حيث إنّ معظم مدّة إمامة الإمام السجّاد، البالغة ثلاثين سنة ونيّف، كانت في ظل هذه الحكومة - وكان نظامه يقوم بالرّصد التام والمراقبة الدائمة لحياة الإمام السجّاد عليه السلام ، ويستخدم الجواسيس والعيون الكثيرة الّتي كانت تنقل إليه أدقّ التفاصيل حتّى المسائل الداخلية والخاصّة بالإمام عليه السلام .

 

 

 

 

 

 

 

214


198

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 أهداف حركة الإمام السجاد عليه السلام


بعد أن توضّحت ساحة عمل الإمام السجّاد عليه السلام أشير بشكلٍ مختصر إلى الهدف والمنهج الّذي اعتمده الأئمّة. وبعد ذلك نقوم بدراسة جزئيات حياة هذا الإمام فيما يتعلّق بهذا النهج.

ممّا لا شكّ فيه أنّ الهدف النهائيّ للسّجاد عليه السلام كان إيجاد الحكومة الإسلامية، وكما جاء في كلام الصادق عليه السلام فإنّ الله تعالى وقّت عام 70 لقيام الحكومة الإسلامية، ثمّ بسبب قتل الإمام الحسين عليه السلام سنة 60 فإنّ الله أخّرها إلى سنة 147 - 148هـ، فهذا يحكي بشكلٍ واضح عن أنّ الهدف النهائيّ للإمام السجّاد عليه السلام وسائر الأئمّة هو إيجاد الحكومة الإسلامية. ولكن كيف يمكن أن تُقام الحكومة الإسلامية في مثل تلك الظروف؟ إنّ هذا يحتاج إلى عدّة أمور:
1- ينبغي أن تدوّن وتُدرس وتُنشر المدرسة الإسلامية الحقيقية الّتي يحمل علمها الأئمّة عليهم السلام ، هذه المدرسة الّتي هي أيضاً المبنى الأساس للحكومة الإسلامية. بعد أن انفصل المجتمع الإسلاميّ ولمدّة طويلة من الزمن عن الفكر الإسلاميّ الصحيح، كيف يمكن إقامة حكومة على أسس الفكر الإسلاميّ الأصيل في حين أنّ الأرضية الفكريّة لم يتمّ تحقيقها بين الناس، ولم تدّون تلك الأحكام الأصيلة؟

إنّ أعظم الأدوار الّتي مارسها الإمام السجّاد عليه السلام هي أنّه دوّن الفكر الأصيل للإسلام: كالتوحيد، والنبوّة، وحقيقة المقام المعنويّ للإنسان،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
215

199

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  وارتباطه بالله. وأهمّ دور أدّته الصحيفة السجّادية هو في هذا المجال. فانظروا إلى هذه الصحيفة، ثمّ جولوا ببصركم في أوضاع الناس على صعيد الفكر الإسلامي في ذلك الزمن ستجدون مدى المسافة الّتي تفصل بين الاثنين.


ففي ذلك الزمن الّذي كان المسلمون في كلّ أنحاء العالم الإسلاميّ يسيرون نحو الحياة المادية والملذّات، بدءاً من شخص الخليفة عبد الملك بن مروان، إلى العلماء المحيطين به (ومن جملتهم محمّد بن شهاب الزهريّ، وسوف أذكر أسماء علماء البلاط فيما بعد)، نزولاً إلى الجميع الّذين كانوا يغوصون في بحر الدنيا والماديات، يقف الإمام السجّاد عليه السلام ويقول مخاطباً الناس: "أوَلا حرّ يدع هذه اللماظة لأهلها؟".

ففي هذه الجملة يوضح الإمام أنّ الفكر الإسلاميّ الأصيل كان عبارة عن جعل الهدف للمعنويات والتحرّك نحو الوصول إلى الأهداف المعنوية والإسلامية، وجعل الإنسان يرتبط بالله عبر التكليف. وهذا هو الموقف المقابل تماماً لحركة الناس المادية في ذلك الزمن. كان على الإمام السجّاد عليه السلام أن يقوم بعملٍ كبيرٍ لأجل أن يحفظ الفكر الأصيل للإسلام في فضاء المجتمع الإسلاميّ. وكانت هذه الحادثة بداية أعمال الإمام السجّاد عليه السلام .

2- تعريف الناس إلى أحقّية أولئك الّذين ينبغي أن يتسلّموا زمام الحكم. إذ كيف يمكن لأهل البيت تشكيل حكومة في الوقت الّذي كان الإعلام والتبليغ ضدّ آل الرسول قد ملأ العالم الإسلاميّ طوال عشرات السنين حتّى عصر الإمام السجّاد عليه السلام ، وفيه ظهرت الأحاديث الموضوعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والّتي تخالف حركة أهل البيت بل إنّها في بعض الموارد تشتمل على سبّهم ولعنهم، وقد نُشرت بين أناس ولم يكن لديهم أي اطّلاع على المقام المعنويّ والواقعيّ لأهل البيت.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
216

200

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 لهذا، فإنّ أحد الأهداف والتحرّكات المهمّة للإمام السجّاد عليه السلام كان يرتبط بتعريف الناس إلى أحقّية أهل البيت، وأنّ مقام الولاية والإمامة والحكومة حقٌّ ثابت لهم وهم الخلفاء الواقعيّون للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . وهذا الأمر، إضافة لما له من أهميّة عقائدية وفكرية، له ماهيّة سياسية وهي الارتباط بالحركة السياسية المناهضة للنظام الحاكم.


3- كان على الإمام السجّاد عليه السلام أن يؤسّس الأجهزة والتشكيلات الّتي يمكن أن تكون منطلقاً أصلياً للتحرّكات السياسية المستقبلية، ففي مجتمع ممزّق، يعيش تحت أنواع القمع والفقر والتضييق الماليّ والمعنويّ، حتّى أنّ الشيعة عاشوا من الرعب والتضييق إلى درجة أنّ تشكيلاتهم تلاشت فكيف يمكن للإمام السجّاد عليه السلام أن يبدأ عمله وحيداً أو مع مجموعة قليلة وغير منظّمة؟ لهذا كان همّ الإمام السجاد عليه السلام أن يبدأ بتشكيل هذه التنظيمات الّتي كانت، برأينا، موجودة منذ أيّام أمير المؤمنين عليه السلام غير أنّها ضعفت وتلاشت إثر واقعة عاشوراء والحرّة وثورة المختار.

بالنتيجة نجد أنّ عمل الإمام كان يدور ضمن ثلاثة محاور أساس:
الأول: تدوين الفكر الإسلاميّ بصورة صحيحة وطبق ما أنزل الله، بعد مرور أزمنة من التحريف والنسيان عليه. 
الثاني: إثبات أحقّية أهل البيت في الخلافة والولاية والإمامة.
الثالث: إيجاد التشكيلات المنسجمة لأتباع أهل البيت عليهم السلام وأتباع التشيّع.

هذه الأعمال الثلاثة الأساس هي الّتي ينبغي أن ندرسها ونبحث فيها لنرى أيّ واحد منها قد تحقّق في حياة الإمام السجّاد عليه السلام .

إلى جانب هذه الأعمال، كانت هناك أيضاً أعمال أخرى هامشية أو ضمنية وتحرّكات قام بها الإمام وأتباعه لأجل اختراق ذلك الجوّ المرعب والقمعيّ. ففي ظلّ الإجراءات الأمنية المشدّدة الّتي كان يفرضها الحكم، نلاحظ مواقف
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

201

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  عديدة للإمام عليه السلام أو أتباعه كان الهدف منها كسر حواجز القمع وصناعة بعض الأجواء الملائمة واللطيفة، خاصّة مع الأجهزة الحاكمة أو التابعة لها، مثل المواقف الّتي حدثت بين الإمام عليه السلام وعبد الملك عدّة مرات، أو الأمور الّتي جرت مع العلماء المنحرفين والتابعين لعبد الملك (من قبيل محمّد بن شهاب الزهريّ) كلّ ذلك لأجل خرق ذلك الجوّ المتشدّد.


إنّ الباحث عندما يستعرض الروايات، سواء الأخلاقية منها أم المواعظ أم الرسائل الّتي نقلت عن الإمام أو المواقف الّتي صدرت عنه وذلك على أساس ما بيّناه، فإنّه سوف يجد لها المعاني المناسبة، وبتعبيرٍ آخر سوف يرى أن جميع تلك التحرّكات والأقوال كانت ضمن الخطوط الثلاثة الّتي أشرنا إليها والّتي كانت تصبّ جميعاً في دائرة إقامة الحكومة الإسلامية. وبالتأكيد لم يكن الإمام يفكّر في إيجاد حكومة إسلاميّة في زمانه لأنّه كان يعلم أنّ وقتها في المستقبل، أي في الحقيقة في عصر الإمام الصادق عليه السلام .

وبهذه الأعمال الثلاثة سوف تتهيّأ أرضيّة إقامة الحكومة الإسلاميّة والنظام العلَويّ.(مجلة باسدار اسلام،8)

لقد ذكرتُ سابقاً، وأؤكّد ما ذكرتُه، أنّ الإمام السجّاد عليه السلام لم يكن يرى أنّه سيتمّ تحقيق الحكومة الإسلاميّة في زمانه (وهذا بخلاف ما عمل لأجله الإمام الصادق عليه السلام في زمانه)، فقد كان معلوماً بأنّ الأرضيّة في عصر الإمام السجّاد عليه السلام لم تكن معدّة لذلك، وكان الظلم والقمع والجهل كبيراً إلى الدرجة الّتي يصعب فيها إزالتها خلال هذه السنوات الثلاثين. وكان الإمام السجّاد عليه السلام يعمل للمستقبل. ومن خلال القرائن العديدة، نفهم أيضاً أنّ الإمام الباقر عليه السلام لم يكن يهدف إلى إقامة حكومة إسلاميّة في زمانه، أي أنّه منذ سنة 61 وحتّى 95 هـ (شهادة الإمام السجّاد عليه السلام )، ومنذ سنة 95 وحتّى 114 هـ (شهادة الإمام الباقر عليه السلام )، لم يكن في فكر أيّ منهما أنّه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
218

202

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  ستقام هذه الحكومة في زمانه، ولهذا كانا يعملان على المدى البعيد.


وسوف نستشهد على هذه الفكرة بكلمات الإمام السجّاد عليه السلام ، لأنّها أفضل المصادر وأكثرها أصالة للتعرّف إلى سيرة حياته عليه السلام بل على حياة كلّ الأئمّة عليهم السلام . غاية الأمر - وكما أشرنا سابقاً - أنّنا نفهم هذه البيانات بصورة صحيحة عندما نطلّع على حركة الأئمّة ومقصدهم من الجهاد والمواجهة والسعي والسير، وبغير هذه الصّورة قد نفهم معاني هذه الكلمات - الّتي سوف أبينّها - مغلوطة. وبعد أن اطّلعنا على بعض تلك الحوادث، والّتي استفدناها ببركة كلمات الأئمّة عليهم السلام ، سوف نعتمد على نفس المصادر وسنرى أيّة استنتاجات صحيحة نحصّلها.

قبل أن ندخل في صلب البحث ينبغي أن نذكّر بنقطة موجزة أنّه وبسبب مرحلة القمع الشديد الّتي كان يعيشها الإمام السجّاد عليه السلام ، لم يستطع أن يبيّن لنا تلك المفاهيم بصورة واضحة ولذلك كان يستفيد من أسلوب الموعظة والدعاء (خاصّة أدعية الصحيفة السجّادية الّتي سوف نتعرّض لها فيما بعد والبيانات والروايات الّتي نُقلت عن الإمام عليه السلام والّتي كانت تطغى عليها حالة الموعظة)، حيث كان الإمام ضمن بيان الموعظة والنصّيحة يبيّن ما أشرنا إليه سابقاً، وبهذا اتّبع الإمام السجّاد عليه السلام منهجاً حكيماً وشديد الحذاقة. وبذلك الأسلوب الّذي ظاهره موعظة الناس ونصحهم، أدخل الإمام عليه السلام إلى أذهانهم ما يريده، وهذا من أفضل أشكال التعاطي الأيديولوجيّ والفكريّ الصحيح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
219

203

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 الإمام السجّاد عليه السلام

وتجلّيات المواجهة السياسية
 
ما سنقوم بدراسته هنا هو كلمات الإمام السجّاد عليه السلام الواردة في كتاب "تحف العقول" حيث نشاهد عدّة أنواع من الأسلوب المذكور والّتي تشير إلى طبيعة الجهات المخاطبة.
 
أحد تلك الأنواع هو الكلمات الموجهّة لعامّة الناس، والّتي يظهر فيها أنّ المستمع ليس من الجماعة المقرّبة والخاصّة للإمام أو من الكوادر التابعين له. وفي هذه الخطابات يستند الإمام عليه السلام دائماً إلى الآيات القرآنية، لماذا؟ لأنّ عامّة الناس لا ينظرون إلى الإمام السجّاد عليه السلام كإمام، بل يطلبون الدليل في كلماته، ولهذا كان الإمام يستدلّ إمّا بالآيات أو بالاستعارة من الآيات، حيث استخدم هذا الأسلوب في أكثر من 50 مورداً ذكر في تلك الروايات، بصورة مباشرة أو بطريق الاستعارة.
 
ولكن في الخطاب الموجّه إلى المؤمنين نجد الأمر مختلفاً، لأنّ هؤلاء المؤمنين يعرفون الإمام السجّاد عليه السلام وقوله مقبول عندهم، لهذا لم يكن يستند في كلامه إلى الآيات القرآنية. ولو أحصينا كلّ كلامه الموجّه إليهم لوجدنا أنّ استخدام الآيات القرآنية فيه قليل جداً.
 
في رواية مفصّلة من كتاب "تحف العقول" تحت عنوان: "موعظته لسائر أصحابه وشيعته وتذكيره إيّاهم كلّ يوم جمعة"1، نجد هنا أنّ دائرة
 
 
 

1- تحف العقول، ص 249.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
220

204

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  المستمعين واسعة وهذا ما نستنتجه من القرائن المفصّلة الواردة فيها. ففي هذه الرواية لم يستخدم الإمام عليه السلام كلمة "أيّها المؤمنون" أو "أيّها الإخوة"، وأمثالها، حتّى نعلم أنّ خطابه موجّه إلى جماعة خاصّة، ولكنّه قال "أيّها الناس" وهذا يشير إلى عموميّة الخطاب. في حين أنه في بعض الروايات الأخرى كان الخطاب موجّهاً بصورة خاصّة إلى المؤمنين.

 
ثانياً؛ لا يوجد في هذه الرواية تصريحٌ بشيء معارض للجهاز الحاكم، بل انصرف كلّ الخطاب لبيان العقائد، وما ينبغي أن يعرفه الإنسان وذلك بلسان الموعظة. فالخطاب يبدأ هكذا: "أيها الناس، اتقّوا الله واعلموا أنّكم إليه راجعون...". ثمّ يتطرّق الإمام عليه السلام إلى العقائد الإسلامية ويوّجه الناس إلى ضرورة فهم الإسلام الصحيح. وهذا يدلّ على أنّهم لا يعرفون الإسلام الصحيح، يريد بذلك إيقاظهم من غفلة الجهل إلى معرفة الإسلام وتعاليمه.
 
كيف مثلاً يستفيد الإمام السجاد عليه السلام من أسلوبه الجذّاب، حيث يقول: "ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الّذي كنت تعبده" ويمضي على هذا المنوال ناصحاً، ويخوّف من ذلك الوقت الّذي يوضع المرء في قبره ويأتي منكر ونكير لمساءلته. وبهذا يريد أن يوقظ فيهم الدافع لمعرفة الله وفهم التوحيد، "وعن نبيّك الّذي أُرسل إليك"، ثمّ الدافع لفهم النبوة، "وعن دينك الّذي كنت تدين به، وعن كتابك الّذي كنت تتلوه...".
 
وأثناء عرضه لهذه العقائد الأصيلة وهذه المطالب الأساس للإسلام، كالتوحيد والنبوّة والقرآن والدين، يبيّن هذه النقطة الأساس بقوله عليه السلام : "وعن إمامك الّذي كنت تتوّلاه"1، فهو هنا يطرح موضوع الإمامة. وقضيّة الإمامة عند الأئمّة تعني قضية الحكومة أيضاً، إذ لا يوجد فرق بين الولاية والإمامة على لسان الأئمّة عليهم السلام . وإن كان للوليّ والإمام معانٍ مختلفة عند
 
 
 

1 تحف العقول، ص 249.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
221

205

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  بعض الناس ولكن هاتين القضيّتين - الولاية والإمامة - على لسان الأئمّة أمرٌ واحدٌ والمراد منهما واحد. وكلمة "الإمام" المقصودة هنا تعني ذلك الإنسان المتكفّل بإرشاد الناس وهدايتهم من الناحية الدينية، وأيضاً المتكفّل بإدارة أمور حياتهم من الناحية الدنيوية، أي خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الإمام هو قائد المجتمع، أي ذلك الإنسان الّذي نتعلّم منه ديننا وتكون بيده أيضاً إدارة دنيانا، بحيث تكون إطاعته في أمور الدين وأمور الدنيا واجبة علينا.


في عالم التشيّع تعرّضت هذه القضيّة (دور الإمام) إلى فهمٍ خاطئ طيلة قرون متتالية. ففي السابق كان الناس يتصوّرون أنّ الإمام يتفرّد بحكم المجتمع، وهو الّذي ينبغي أن يدير أمور الحياة بيده وبجهده الذاتي: فيحارب ويصالح ويعمل وينفّذ كلّ طلب بنفسه؛ فهو يأمر الناس وينهاهم من جهة، وفي نفس الوقت هو الّذي ينفّذ هذه الأمور وحده لإصلاح دينهم! واليوم أيضاً تعرّضت هذه القضيّة للفهم الخاطئ بحيث أصبحنا نعتبر أنّ الإمام في عصر الغيبة ليس إلاّ عالماً دينياً، وهذا بالطبع تصوّرٌ خاطئ. لفظة "الإمام" تعني المتقدّم والقائد. فالإمام الصادق عليه السلام عندما كان يخاطب الناس في منى أو عرفات بقوله: "أيّها الناس إنّ رسول الله كان الإمام"، كان يشير إلى أنّ الإمام هو الّذي يتوّلى أمور الناس الدينية والدنيوية.

في المجتمع الإسلاميّ أيّام حكم عبد الملك بن مروان وفي عصر الإمام السجّاد عليه السلام كان هذا المعنى يُفهم فهماً خاطئاً. لأنّ إمامة المجتمع، وهي إدارة شؤون حياة الناس وبسط نظام العيش الّذي يمثّل قسماً مهماً من الإمامة، قد سلبت من أهلها وأعطيت إلى من لا أهليّة لهم بها، حيث كانوا يلقّبون أنفسهم بالأئمّة ويعرفهم الناس بذلك. فالناس كانوا يُطلقون لقب الإمام على عبد الملك بن مروان، ومن قبله أبيه وقبلهما يزيد وغيره. وقد قبلوهم على أساس أنّهم قادة المجتمع والحكّام على النظام الاجتماعيّ للناس. وقد ترسّخ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
222

206

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  ذلك في أذهان الناس.


وهكذا عندما كان الإمام السجّاد عليه السلام يقول إنّك ستُسأل عن إمامك في القبر، كان يشير إلى أنّك هل انتخبت الإمام المناسب والصحيح؟ وهل أنّ ذلك الشخص الّذي كان يحكمك، ويقود المجتمع الّذي تعيش فيه هو حقّاً إمام؟ وهل هو ممّن رضي الله عنه؟ لقد كان الإمام بهذا الكلام يوقظ الناس ليجعل هذه القضيّة حسّاسة في نفوسهم.

بهذه الطريقة كان الإمام يحيي قضيّة الإمامة. ففي حين أنّ الجهاز الأمويّ الحاكم لم يكن يرضى بأن يتمّ الحديث عنها، استخدم الإمام أسلوب الموعظة.(كانت هذه من إحدى الوسائل الهادئة الّتي استخدمها الإمام في هذا المجال، وسوف نشير لاحقاً إلى أساليب أكثر تشدّداً).

بناءً على هذا، ففي البيان العام الموجّه إلى عامّة الناس نجد أنّ إمامنا، وبلغة الموعظة، يحيي المعارف الإسلاميّة، وخاصّة تلك المعارف الحسّاسة في ذهن الناس، ويسعى لأجل أن يتعرّف الناس إليها ويتذكّروها. ويمكن الالتفات في هذا النوع من الخطاب إلى نقطتين اثنتين: 
الأولى: أنّ هذا الأسلوب البيانيّ للإمام لم يكن تعليمياً، بل هو من نوع التذكير. أي أنّ الإمام لم يكن يجلس ليبيّن للنّاس دقائق التوحيد، أو ليفسّر لهم مسألة النبوّة، وإنّما يذكّرهم بها. لماذا؟ لأنّ المجتمع الّذي كان يعيش فيه الإمام السجاد عليه السلام لم تكن تفصله عن مرحلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مسافة زمنية كبيرة حتّى ينحرف كلياً عن العقائد الإسلاميّة. بل كان هناك الكثير من الأشخاص الّذين عايشوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومرّت عليهم مرحلة الخلفاء الراشدين، وقد عاصروا أئمّتنا العظام من أمير المؤمنين عليه السلام إلى الإمام الحسن عليه السلام وإلى الإمام الحسين عليه السلام . ومن الناحية الاجتماعيّة لم يكن الوضع قد وصل إلى مرحلة يعاني فيها المجتمع الإسلاميّ من الانحراف العقائديّ والأصوليّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
223

207

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  بالنسبة لمسألة التوحيد والنبوّة والمعاد والقرآن. نعم، كانت هذه المسائل تدريجيّاً تخرج من ذاكرتهم، وكانت الحياة المادّية تحيط بهم إلى درجة تنسيهم الفكر الإسلاميّ والعقيدة الإلهيّة. 

 
كانت الحياة الدنيوية والمادية تسري في المجتمع بحيث لا تُبقي في أذهان الناس أيّ توجّه للمسابقة في مضمار المعنويات والخيرات. وإذا وُجد هذا الأمر فإنّه لم يكن ليتعدّى القشور والسطوح. أمّا بالنسبة للمفهوم الّذي كان النّاس يحملونه، في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعصر المتّصل به، عن التوحيد والحساسيّة المتميّزة تجاهه، فقد كانوا يفتقدونه في عصر الإمام. وهذا ما كان يستدعي التذكير حتّى يرجع الأمر إلى سابق عهده، لا أنّ هناك أشياء محرّفة ينبغي أن تصحّح.
 
وهذا بخلاف المراحل اللاحقة، كمرحلة الإمام الصادق عليه السلام ، لأنّ المسألة حينها لم تكن بهذا الشكل. فقد ظهر في ذلك الوقت الكثير من المتكلّمين والمتفلسفين والمفكّرين، وتحت عناوين متعدّدة كانوا يجلسون في المساجد الكبرى، مثل مسجد المدينة وحتّى المسجد الحرام ومسجد الشام، ويدرّسون العقائد المنحرفة والباطلة. لقد برز حينها أناس مثل "ابن أبي العوجاء" يدرّسون عقائد الزنادقة والإلحاد. لهذا، بالتأمّل بأحاديث وكلمات الإمام الصادق عليه السلام نجد بيان التوحيد والنبوّة وأمثالها بصورة استدلالية1. فالحاجة إلى الاستدلال ضرورية لمواجهة استدلال الخصم، وهذا ما لا نجده في كلمات الإمام السجّاد عليه السلام ، الّتي كانت تعتمد على الحالة الشعوريّة والوجدانيّة الّتي تذكّر بالقضايا الأساس.
 
وباختصار، لم يكن عصر الإمام السجّاد عليه السلام يحكي عن خروج عن الفكر الإسلاميّ، حتّى عند الحكّام، إلّا في بعض الموارد الّتي يظهر فيها مثل هذا
 
 
 

1- مجموعة رسائل في شرح الأحاديث من الكافي، ج1، ص 565.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
224

208

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  الأمر. وذلك عندما أُلقى يزيد اللعين تلك الأبيات الشعرية في حالة السكر عندما أُحضر أسرى أهل البيت عليهم السلام فقال:

لعبت هاشم بالملك فلا
                        خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل1.
 
ولكنّنا نستطيع أن نقول إنّ هذا الكلام كان تحت تأثير السكر. فحتّى أمثال عبد الملك أو الحجّاج لم يكونوا يجرؤون على إعلان مخالفتهم لفكرة التوحيد أو النبوّة. لقد كان عبد الملك بن مروان يقرأ القرآن إلى درجة أنّه عُرف كأحد قرّاء القرآن. ثمّ عندما وصل إليه خبر تنصيبه خليفة قبّل القرآن وقال: "هذا فراقٌ بيني وبينك"، إنّ هذا ما حدث فعلاً. والحجّاج بن يوسف الّذي سمعتم عن ظلمه (وباليقين إنّ الّذي سمعتموه هو أقلّ بكثير ممّا فعله) كان عندما يخطب في الناس يأمرهم بالتقوى. وهكذا نفهم سبب اعتماد الإمام السجّاد عليه السلام على التذكير بالأفكار الإسلامية لإخراج الناس من مستنقع الدنيا والأهواء المادّية إلى ساحة معرفة الله والدين والقرآن.
 
الثانية: وهي ما أشرنا إليه سابقاً، من أنّ الإمام كان يأتي على ذكر مسألة الإمامة من خلال بيانه العامّ الّذي اتّخذ أسلوب الموعظة والإرشاد، وعندما كان بعض الناس يتحدّث إليكم ويذكّركم قائلاً: أيّها الناس فكّروا بالله، وبالتوحيد والنبوّة وبقضيّة الحكومة... أما إذا جاء ذلك بلغة الوعظ وعلى لسان رجل زاهد وعابد فإنّه يمكن أن يُقبل، وبتعبير آخر لن يثير الحساسيّات. هذا نوع من بيانات الإمام السجّاد عليه السلام .(مجلة باسدار إسلام، 9).
 
 
 

1-اللهوف على قتلى الطفوف، ترجمة الفهري، ص 181.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
225

209

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 تحذير الخواص من الدنيا والرفاهية

أمّا النّوع الثاني فهو ذلك الخطاب الموجّه إلى مجموعة خاصّة لا تعرف هويّتها. ولكن من الواضح أنّه كان موجّهاً إلى مجموعة من الّذين يخالفون النظام الحاكم. فمن يمكن أن يكون هؤلاء؟ هذه الخطابات وإن لم يُعلم منها بالتحديد من هي تلك الفئة المخاطبة، ولكن من الواضح أنّها لفئة مخالفة للنظام الحاكم، وأفرادها هم في الواقع من أتباع الإمام عليه السلام ومن المعتقدين بحكومة أهل البيت عليهم السلام .
 
ولحسن الحظّ أنّنا نجد في كتاب تحف العقول نموذجاً لهذا النوع من الكلمات الصادرة عن الإمام السجّاد عليه السلام (وذلك لأنّنا لا نجد في غيره من الكتب موارد أخرى من هذا النوع بالرغم من أنّ هناك الكثير في حياة الإمام السجّاد عليه السلام ، ولكن على أثر الحوادث المختلفة الّتي جرت في ذلك العصر من القمع والتنكيل والاضطهاد وقتل الأصحاب زالت تلك الآثار وبقي القليل منها).
 
يبدأ الخطاب التابع لهذا النّوع الثاني هكذا: "كفانا الله وإيّاكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبّارين". ويعلم من هذا البيان أنّ الإمام والجمع الحاضر مهدّدون من قبل السلطات الحاكمة، وأنّ المسألة ترتبط بمجموعة خاصّة: المؤمنين بأهل البيت عليهم السلام ، ولذلك جاء الخطاب بصيغة "يا أيّها المؤمنون"، خلافاً للنوع الأوّل حيث يستعمل "يا أيّها الناس" أو "يا ابن آدم"، وذلك لأنّ الخطاب موجّه إلى المؤمنين في الحقيقة بأهل البيت وأفكار أهل البيت عليهم السلام .
 
والدليل الآخر الواضح جدّاً عندما يقول عليه السلام : "أيّها المؤمنون لا يفتنّنكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا، المائلون إليها المفتونون بها، المقبلون عليها"1.
 
 
 

1- تحف العقول، ص 252.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
226

210

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 فالمقصد الأصليّ من الكلام هو حفظ هؤلاء المؤمنين وبناء الكادر اللازم للمستقبل. ومن الواضح أنّه على أثر الصراع الشديد في الخفاء ما بين أتباع الأئمّة عليهم السلام وأتباع الطواغيت، فإنّ أتباع الأئمّة عانوا من الحرمان الكبير والخطر الأكبر الّذي يهدّد المجاهدين هو أن يتوجّهوا إلى الرفاهية، هذه الرفاهية الّتي لن تجرّهم إلاّ إلى ترك الجهاد.

 
لقد كان الإمام عليه السلام يؤكّد كثيراً على هذه النقطة، ويحذّر الناس من الرفاهيات في هذه الدنيا المتلألئة الكاذبة الخدّاعة الّتي لن تؤدّي إلّا إلى التقرّب من الطواغيت. لهذا نجد في هذا البيان، وفي العديد من كلمات الإمام السجاد عليه السلام ، وفي الروايات القصيرة الّتي نُقلت عنه، تأكيداً على هذا الأمر.
 
ماذا يعني التحذير من الدنيا؟ يعني حفظ الناس من الانجذاب نحو المترفين والإيمان بهم وتمييزهم بحيث تقلّ حدّة مواجهة الناس لهم. وهذا النوع من الخطابات موجّه للمؤمنين، أمّا في الخطاب المتوجّه إلى عامّة الناس، فقليلاً ما نجد مثل هذا النوع. ففي خطاب عامّة الناس، كثيراً ما يظهر: أيها الناس التفتوا إلى الله، إلى القبر والقيامة، إلى أنفسكم والغد. فما هو هدف الإمام عليه السلام من هذا النوع الثاني من الخطاب؟ المقصود هو بناء الكادر.
 
فهو عليه السلام يريد أن يصنع من المؤمنين كوادر ملائمة للمرحلة، ولهذا يحذّرهم من الانجذاب نحو أقطاب القدرة والرفاهية الكاذبة. ويكرّر ذكر النظام الحاكم خلافاً للنوع الأوّل من الكلمات، كما يقول مثلاً: "وإنّ الأمور الواردة عليكم في كلّ يوم وليلة من مظلمات الفتن وحوادث البدع وسنن الجور وبوائق الزمان وهيبة السلطان ووسوسة الشيطان"1
 
 
 

1- الكافي، ج 8، ص 14.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
227

211

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 وهنا نجد أنّ الإمام مباشرة بعد ذكر هيبة السلطان وقدرته يذكر وسوسة الشيطان، يريد بذلك أن يلفت، وبكلّ صراحة، النظرَ إلى حاكم ذلك الزمان ويضعه إلى جانب الشيطان. وفي تتمّة الكلام جملة لافتة جداً ولأنّها مهمّة جدّاً أنقلها وهي تحكي عن مطلب ذكرته سابقاً: "لتثبّط القلوب عن تنبهها وتذهلها عن موجود الهدى ومعرفة أهل الحق"1. تلك الهداية الموجودة الآن في المجتمع. فهذه الأحداث الّتي ترد على الإنسان في حياته في الليل والنهار - في عصر القمع - تمنع القلوب من تلك النيّة والتوجّه والدافع والنشاط المطلوب للجهاد. 

 
فالإمام السجّاد عليه السلام يعظهم بنفس الأسلوب السابق، "وإيّاكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين" فهو يحذّرهم من مجالسة أهل المعاصي. من هم أهل المعاصي؟ أولئك الذين جُذبوا لنظام عبد الملك الظالم. الآن، حاولوا أن تتصوّروا شخصية الإمام السجّاد وأن تكوّنوا تصوّراً عنه2 عليه السلام . هل ما زال ذلك الإمام المظلوم الصامت المريض الّذي لا شأن له بالحياة؟ كلّا، فالإمام هو الّذي كان يدعو مجموعة من المؤمنين والأصحاب ويحذّرهم، بهذه الصّورة الّتي ذكرناها من التقرّب إلى الظلَمة ونسيان المجاهدة، ويمنعهم من الانحراف عن هذا الطريق، وكان يحفزهم ويشحنهم بالنشاط، ويدفعهم من أجل أن يكونوا مؤثّرين في إيجاد الحكومة الإسلاميّة.
 
من جملة الأشياء الّتي أراها جليّة وشديدة الأهميّة في هذا القسم من كلمات الإمام السّجاد عليه السلام ، تلك الكلمات الّتي يذكّر فيها بتجارب أهل البيت عليهم السلام الماضية. ففي هذا القسم يشير الإمام عليه السلام إلى تلك الأيّام الّتي مرّت على الناس من قبل الحكّام الجائرين، مثل معاوية ويزيد ومروان، ووقائع مثل الحرّة وعاشوراء، وشهادة حجر بن عديّ ورشيد الهجريّ، وعشرات الحوادث
 
 
 

1- م. ن، ص 16.
2- م. ن.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
228

212

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  المهمّة والمعروفة والّتي مرّت على أتباع أهل البيت طيلة الأزمان الماضية واستقرّت في أذهانهم. ويريد الإمام عليه السلام أن يحثّ أولئك المخاطبين من خلال ذكر تلك الحوادث الشديدة، على التحرّك والثورة. والتفتوا الآن إلى هذه الجملة: "فقد لعمري استدبرتم من الأمور الماضية في الأيّام الخالية من الفتن المتراكمة والانهماك فيها ما تستدلّون به على تجنّب الغواة"1

 
أي أنّكم تستحضرون تلك التجارب وتعلمون ماذا سيفعل بكم أهل البغي والفساد - وهم حكّام الجور - عندما يتسلّطون عليكم. ولذلك يجب عليكم أن تتجنّبوهم وتواجهوهم. وفي هذا الخطاب يطرح الإمام مسألة الإمامة بصورة صريحة، أي قضيّة الخلافة والولاية على المسلمين والحكومة على الناس وإدارة النظام الإسلاميّ. هنا يبيّن الإمام السجّاد عليه السلام قضية الإمامة بالصراحة، في حين أنّه في ذلك الزمن لم يمكن يطرح مثل هذه المطالب على العامّة. ثم يقول عليه السلام : "فقدّموا أمر الله وطاعته وطاعة من أوجب الله طاعته".
 
وهنا يعيّن الإمام فلسفة الإمامة عند الشيعة والإنسان الّذي يجب أن يُطاع بعد الله. ولو فكّر الناس في ذلك الوقت بهذه المسألة لعلموا بوضوح أنّه لا يجب طاعة عبد الملك. لأنّه من غير الجائز أن يوجب الله طاعة عبد الملك. ذلك الحاكم الجائر بكلّ فساده وبغيه. وبعد أن يقدّم الإمام هذه المسألة يتعرّض لردّ شبهة مقدّرة فيقول: "ولا تقدّموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر الله وطاعته وطاعة أولي الأمر منكم"2. فالإمام عليه السلام في هذا القسم من كلمته يعرض بصراحة لقضية الإمامة.
 
ففي هذا الخطاب والخطاب السابق يركّز الإمام عليه السلام على مسألتين أساسيتين من المسائل الثلاث الّتي أشرنا إليها سابقاً.
 
 
 

1- تحف العقول، ص 253.
2- تحف العقول، ص 254.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
229

213

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  الأولى: إعادة تدوين وتجديد الفكر الإسلاميّ والمعتقدات الإسلامية وإحياؤها في أذهان الناس والحث على تعلّمها. 

 
والأخرى: البعد السياسيّ لولاية الأمر أي قضية الحكومة وقيادة النظام الإسلاميّ. 
 
وعندما يعرّف الإمام هاتين المسألتين للناس في ذلك الزمن فإنّه يقوم في الواقع بتعريف النظام العلويّ والنظام الإسلاميّ الإلهيّ.
 
نوعٌ آخر من كلمات الإمام السجاد عليه السلام وهو أهمّ من الكلمتين السابقتين. ومن خلاله يدعو الإمام بصراحة الناس إلى ضرورة إيجاد التشكيلات الإسلامية الخاصّة. وبالطبع فإنّ هذه الدعوة موجّهة إلى أولئك الّذين يتّبعون أهل البيت عليهم السلام ، وإلا لو كانت إلى غيرهم من عامّة الناس لأفشيت وأدّت إلى إيذاء الإمام عليه السلام وتعرّضه للضغوط الصعبة، وبحمد الله فإنّنا نجد نموذجاً لهذا النوع من الكلمات في "تحف العقول"1.
 
يبدأ الإمام بهذه العبارة: "إنّ علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، تركهم كلّ خليط وخليل ورفضهم كلّ صاحب لا يريد ما يريدون"2. وهذا تصريح بالدعوة إلى إيجاد تشكيلات شيعيّة.
 
فهو عليه السلام يعلّمهم بأنّ عليهم الابتعاد عن أولئك الّذين يخالفونهم في الدافع ولا يتّبعون الحكومة العلويّة وحكومة الحقّ..3
 
 
 
 

1- للأسف الشديد ينبغي أن نقول إنّه لا يوجد في جميع العناوين المتعلّقة بمثل هذه الكلمات الصادرة عن الإمام السجّاد عليه السلام - والّتي اختارها المحدّثون - أيّ نوع من الإشارة إلى ذلك المحتوى الذي أشرنا إليه. فعلى الأغلب، جعلوا ذيل العنوان هو الزهد. بالطبع إنّ الزهد الواقعيّ هو هذا، لكنّ ذلك الفهم السائد حول الزهد لا يمكن أن يُستنبط من هذه الكلمات وكان ينبغي أن يُشار إلى أنّ الإمام عليه السلام في هذه الكلمات كان بصدد الإشارة إلى القضايا السياسية(الكاتب).
2- بحار الأنوار، ج 75، ص 128.
3- برأيي يمكن أن نجد من قبيل هذا البيان في كلمات الإمام السجّاد وكذلك في كلمات سائر الأئمّة وهو في كلماتهم كثير. وقد وجدتُ في حياة الإمام الصادق صلوات الله عليه، وكذلك في حياة الإمام الباقر عليه السلام وأيضاً في حياة أربعة من الأئمة اللاحقين بحدٍّ أدنى. حتى أنّ علامة تشكيل المنظّمة والتشكيلات الإسلامية قد وجدت أصولها في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام ، وليس هنا المجال للبحث والتفصيل فيه (الكاتب) .



 
 
 
 
 
 
 
 
230

214

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 وهناك نوعٌ آخر من كلمات الإمام عليه السلام لا توجد فيه تلك المطالب الكلية الّتي أشرنا إليها، مثل رسالة الحقوق. للإمام السجاد عليه السلام رسالة مفصّلة هي بحجم رسالةٍ حقيقية بحسب اصطلاحنا، وهي رسالة كتبها الإمام لأحد أصحابه يذكر فيها حقوق الأفراد والإخوان على بعضهم بعضاً، ويذكر فيها أيضاً حقّ الله عليك، وحقّ أعضائك وجوارحك، وحقّ العين واللسان واليد والأذن... كما يذكر حقّ حاكم المجتمع الإسلاميّ وحقّك عليه، وحقّك على جيرانك، وحقّك على أسرتك. لقد ذكر كلّ هذه الأنواع من الحقوق الّتي تنظّم العلاقات بين الأفراد في النظام الإسلاميّ. فالإمام وبهدوء تامّ ودون أن يأتي على ذكر الحكومة والجهاد والنظام المستقبلي، قد ذكر في هذه الرسالة أسس علاقات النظام المقبل بحيث إنّه لو جاء يوم وتحقّق نظام الحكومة الإسلامية في عصر الإمام السجّاد نفسه - وهو بالطبع احتمالٌ بعيد - أو في العصور اللاحقة فهو يعرّف الناس إلى الإسلام الّذي ستُحقّق حكومته في المستقبل، ليلقي في أذهانهم مسبقاً طبيعة العلاقات الّتي تربط بينهم في ذلك النّظام. هذا نوعٌ آخر من كلمات الإمام السجاد الّتي تلفت الأنظار كثيراً.


ونوع آخر نجده في الصحيفة السجّادية، وهذا الأمر يتطلّب بحثاً مفصّلاً ربّما هو عمل أولئك الّذين يعملون في هذا المجال. فالصحيفة السجادية تتضمّن مجموعة من الأدعية في كافّة المجالات الّتي ينبغي أن يلتفت إليها الإنسان اليقظ والفطن. وأكثرها في الروابط والعلاقات القلبية والمعنوية للإنسان. في هذه الأدعية والمناجاة، توجد مطالب معنوية وتكاملية كثيرة لا حصر لها. والإمام عليه السلام وضمن هذه الادعية وبلسان الدعاء يحيي الدوافع نحو حياة إسلامية في أذهان الناس ويوقظها. إحدى النتائج الّتي يمكن أن تحصل من الأدعية، وقد ذكرناها مراراً، هي إحياء الدوافع السليمة والصحيحة في القلوب. فعندما ندعو: "اللهمّ اجعل عواقب أمورنا خيراً"
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
231

215

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  فإنّ هذا الدعاء يحيي في قلوبكم ذكر العاقبة ويدفعنا للتفكّر في المصير. فقد يغفل الإنسان أحياناً عن عاقبته، يعيش ولا يلتفت إلى مصيره. فإذا تلا هذا الدعاء يستيقظ فجأة إلى ضرورة تحسين عاقبته. أما كيف يتمّ ذلك فهذا بحثٌ آخر. فقط أردت أن أضرب مثلاً حول الدور الصادق للدعاء. وهذا الكتاب المليء بالدوافع الشريفة للأدعية كاف لإيقاظ المجتمع وتوجيهه نحو الصلاح. وإذا تجاوزنا ذلك، وجدنا روايات قصيرة وعديدة نّقلت عن الإمام السجاد عليه السلام . منها ما ذكرته سابقاً: "أوَلا حرٌ يدع هذه اللماظة لأهلها". انظروا كم هو مهمٌّ هذا الحديث. فالزخارف الدنيوية والزبارج كلّها بقية لعاب الكلب لا يتركها إلا الحرّ. وكلّ أولئك الّذين يدورون في فلك عبد الملك إنّما يريدون تلك اللماظة. وأنتم أيها المؤمنون لا تنجذبوا إليها. ونجد الكثير مثل هذه الكلمات الثورية والملفتة في خطب الإمام السجّاد عليه السلام . وسوف نصل إليها فيما بعد إن شاء الله. لقد كان الإمام السجّاد عليه السلام شاعراً. وشعره يحتوي على معانٍ مهمّة سوف نذكرها لاحقاً إن شاء الله.(مجلة باسدار اسلام، 10)

 

 

 

 

 

 

 

232


216

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 تكتيك بداية المرحلة الثالثة لحركة الأئمّة عليهم السلام


من المقاطع المهمّة لحياة الإمام السجاد عليه السلام هي أن نرى أنّه هل كان يتصرّف بطريقة اعتراضية عدائية تجاه جهاز الخلافة أم لا؟ لقد أشرت باختصار في الأبحاث السابقة إلى هذا الموضوع وهنا سوف أوضح أكثر.

بالقدر الّذي اطّلعت فيه على حياة الإمام السجاد عليه السلام والّذي ما زلت أذكره، أنّه لا توجد مواجهة أو تعريض صريح وقاطع ضدّ الحكم، من قبيل ما نشاهده في حياة بعض الأئمّة الآخرين، كالإمام الصادق عليه السلام في عصر بني أميّة، أو الإمام موسى بن جعفر عليه السلام .

وسببه واضح، لأنّ مثل هذا التحرّك الشديد الّذي كان في بداية حركة الأئمّة عليهم السلام والذي كان في المرحلة الثالثة من المراحل الأربع للإمامة، والّتي تبدأ في حياة الإمام السجّاد عليه السلام ، سوف يعرّض قافلة أهل البيت عليهم السلام الّتي تحمل أعباء مسؤولية الرسالة للخطر الّذي لا يؤدّي إلى تحقيق المقصد. ففي ذلك الوقت لم يكن بستان أهل البيت الّذي تعهّد الإمام السجاد عليه السلام بتربيته ورعايته وسقايته قد استحكمت غصونه وأشجاره، بحيث يقدر على تحمّل الأعاصير الشديدة. وكما أشرت في بداية هذا البحث، فقد كان عدد المحبّين والموالين لأهل البيت عليهم السلام ممّن يحيطون بالإمام السجاد عليه السلام قليلاً جدّاً، وفي ذلك العصر لم يكن من الممكن لأولئك الّذين سيتحمّلون مسؤولية التنظيمات الشيعيّة أن يواجهوا خطر العدوّ الجائر والّذي هدّدهم بالإبادة.

وإذا أردنا أن نمثّل، ينبغي أن نشبّه عصر الإمام السجاد عليه السلام هذا،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
233

217

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  بمرحلة بدء الدعوة الإسلامية في مكّة وهي المرحلة السريّة. ولعلّه يمكن تشبيه عصر الإمام الباقر عليه السلام بالمرحلة الثانية في مكّة، حين أصبحت الدعوة علنيّة. والمرحل الّتي أتت من بعدها يمكن تشبيهها بالمراحل اللاحقة للدعوة. ولهذا فإنّ المواجهة في تلك المرحلة لن تكون صحيحة.

 
ومما لا شكّ فيه أنّنا إذا لاحظنا المواجهات الحادّة في بعض كلمات الإمام الصادق والإمام الكاظم والإمام الرضا عليهم السلام ، فيما لو صدرت عن الإمام السجّاد عليه السلام ، فإنّ عبد الملك بن مروان الّذي كان في أوج قدرته يستطيع وبكلّ سهولة أن يطوي بساط تعاليم أهل البيت عليهم السلام ، ليبدأ العمل من جديد. وهذا ليس عملاً عقلانياً وموائماً للقطع والثبات. لكن على كلّ حال، يمكن أن نشاهد في ثنايا كلمات الإمام زين العابدين عليه السلام ، والّتي ترجع على وجه الاحتمال إلى أواخر حياته الشريفة وطيلة مدّة إمامته، إشارات أو مظاهر لتعرّضه ومواجهته لنظام الحكم1.
 
كانت تلك المواجهات تظهر بعدّة أشكال. وأحد أشكالها هو ما لاحظناه في تعامل الإمام السجّاد عليه السلام مع محمّد بن شهاب الزهريّ. والشكل الآخر، يظهر من خلال بيان موقف ومكانة الخلفاء الأمويّين على ضوء التعاليم والإرشادات الدينيّة العاديّة. ويوجد حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يقول فيه: "إنّ بني أمية أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك حتّى إذا حملوهم عليه لم يعرفوه"2. فبنو أميّة كانوا يسمحون للعلماء وأهل الدين، ومن جملتهم الأئمّة عليهم السلام ، بالتحدّث حول الصلاة والحجّ والزكاة والصيام والعبادات، وكذلك حول التوحيد والنبوّة والأحكام الإلهيّة. لكنّهم لم يسمحوا بالبحث في مفهوم الشرك ومصاديقه وأمثلته في المجتمع.
 
 
 

1- أشير هنا إلى أنّ ما بحثناه في هذا الفصل هو غير ذلك التعامل المعارض للإمام السجّاد مع يزيد وجهاز خلافة آل أبي سفيان والذي له بحثٌ آخر وقد بحثت بشأنه في السابق(الكاتب).
2- الكافي، ج2، ص 415.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
234

218

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  تلك التعاليم المرتبطة بالشرك لو دُرِّست للناس، لفهموا مباشرة من هم المشركون، وأنّ ما يحملهم عليه بنو أميّة ليس إلّا الشرك. ولعلموا فوراً أنّ عبد الملك والخلفاء الباقين من بني أميّة هم طواغيت يبارزون الله، وأنّ إطاعتهم تُعدّ شركاً بالله. ولهذا لم يكونوا ليسمحوا بتعلّم هذه المفاهيم.

 
نحن عندما نبحث في الدين الإسلاميّ حول التوحيد، فإنّ قسماً مهمّاً من هذا البحث يرتبط بمعرفة الشرك والمشرك، ما هو الصنم ومن هو الّذي يعبد الأصنام. 
 
وللمرحوم العلّامة المجلسيّ رحمه الله في بحار الأنوار21 نصٌّ رائع يقول فيه: "إنّ آيات الشرك ظاهرها في الأصنام الظاهرة، وباطنها في خلفاء الجور الّذين أشركوا مع أئمّة الحقّ ونصّبوا مكانهم". فأئمّة الحقّ هم خلفاء الله وهم ينطقون عن الله، ولأنّ خلفاء الجور قد نصّبوا أنفسهم مكانهم وادّعوا الإمامة، فقد أصبحوا أصناماً وطواغيت، فكلّ من يطيعهم يُعدّ مشركاً بالله. 
 
وللعلّامة بعد هذا شرح قيّم. فهو يبيّن أنّ الآيات القرآنية ليست مختصّة بعصر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، بل هي سارية وجارية في كلّ العصور والأزمان: "فهو يجري في أقوام تركوا طاعة أئمّة الحقّ، واتّبعوا أئمّة الجور لعدولهم عن الأدلّة العقلية والنقلية واتّباعهم الأهواء، وعدولهم عن النصوص الجلية"1. مثل أنّه لا يمكن لعبد الملك أن يكون حاكماً على المسلمين وخليفة له، فالناس كانوا يرون أن الحياة الوادعة بعيداً عن التعرّض للحاكم هي المريحة لهم، لهذا سلكوا هذه الحياة واتّبعوا أئمّة الجور. لهذا كانوا مشركين.
 
ومن هنا نرى أنّ الأئمّة عليهم السلام إذا أرادوا أن يبيّنوا حقيقة الشرك فإنّهم
 
 
 

1- بحار الأنوار، الجزء 48, ص 96.
2- م. ن، ج 48، ص 96.



 
 
 
 
 
 
 
 
235

219

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  بذلك يقومون بما يشبه المواجهة مع نظام الحكم. وهذا ما يظهر في كلمات الإمام السجّاد عليه السلام .

 
ونموذج آخر من تلك الأمثلة في المواجهة: ما نشاهده في المكاتبات والرسائل بين الإمام السجّاد عليه السلام وعبد الملك (الخليفة الأمويّ المتجّبر)، أشير إلى اثنين منهما هنا:
1- في إحدى المرّات يكتب عبد الملك رسالة إلى الإمام السجّاد عليه السلام يلومه فيها على زواجه من إحدى جواريه. وكان للإمام عليه السلام جارية أعتقها ثمّ تزوّجها. فشمت به عبد الملك. وكان عمل الإمام عليه السلام عملاً إنسانياً وإسلاميّاً صرفاً. ولكنّ دافع عبد الملك من تلك الرسالة كان التعرّض للإمام عليه السلام ، وإفهامه بأنّه مطّلع على مسائله الخاصّة موجّهاً له بذلك تهديداً ضمنياً. فأجابه الإمام عليه السلام برسالة بدأها بتوجيه أمر الزواج وأنّ العظام يفعلون مثل هذا الأمر، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قام به: "فلا لؤم على امرئ مسلم إنّما اللؤم لؤم الجاهلية"1. وهو يريد أن يذكّره بسوابق أجداده في الجاهلية (من كفرهم وعنادهم)... 
 
عندما وصلت الرسالة إلى عبد الملك، كان ابنه سليمان حاضراً، وعندما قرأها سمعه، وسمع ذمّ الإمام وأحسّ به مثل أبيه، فالتفت إليه قائلاً: يا أمير المؤمنين! أترى كيف يتفاخر عليك عليّ بن الحسين؟ يريد بذلك أن يحرّض والده على ردّ فعل شديد. ولكنّ عبد الملك كان أعقل من ولده فقال له: لا تقل شيئا يا ولدي! فهذا لسان بني هاشم الّذي يفلق الصخر. (أي أنّ استدلالهم قويّ وقاسٍ).
 
2- النموذج الثاني: المراسلة الأخرى الّتي تمّت بين الإمام السجّاد عليه السلام وعبد الملك، حيث علم عبد الملك أنّ سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موجود عند الإمام
 
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج46، ص 105.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
236

220

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  عليه السلام . وكان هذا أمراً ملفتاً لأنّه تذكار النبيّ وباعثٌ على التفاخر. وكذلك فإنّ وجوده يُعدّ خطراً على الخليفة، لأنّه يجلب أنظار الناس إليه، فكتب إليه يطلب منه تسليم السيف، ووعده بإنجاز ما يريد أي أنّه مستعدٌّ أن يهبه ما يحتاج.

 
ردّ الإمام عليه السلام طلبه، فأعاد عبد الملك مرّةّ ثانية تهديده بوقف حصّة الإمام من بيت المال إن لم يرسل السيف1. فأجابه الإمام عليه السلام : "أمّا بعد فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون والرزق من حيث لا يحتسبون وقال جل ذكره﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ فانظر أيّنا أولى بهذه الآية"2
 
وهذه لهجة قاسية جدّاً تجاه الخليفة، لأنّ تلك الرسالة إذا وقعت بيد أيّ إنسان فسوف يعلم أولاً: أن الإمام عليه السلام لا يعدّ نفسه خوّاناً. ثانياً: لا يتصوّر أحد هذا الأمر بحقّ هذا الإنسان الجليل الّذي تربّى في بيت النبوّة. وهذا يعني أنّك أنت أيّها الخليفة خوّان وكفور. وإلى هذا الحدّ كان الإمام شديداً مقابل التهديد.
 
كان هذان نموذجين عن مواجهة الإمام لجهاز الحكم الأمويّ.
 
وإذا أردنا أن نضيف نموذجاً آخر ينبغي أن ننظر إلى الأشعار الّتي نُقلت عن أصحاب الإمام السجّاد عليه السلام ومحبّيه، فهي تمثّل نوعاً آخر من المواجهة. مواجهة أصحاب الإمام السجّاد عليه السلام ومحبّيه من قبيل الفرزدق ويحيى بن أم الطويل للنّظام الحاكم كان يُعدّ نوعاً من مواجهة الإمام للحكم ويمكن اعتبار شعر الفرزدق نموذجاً آخر. فقد نقل المؤرّخون والمحدّثون قصّة الفرزدق (ما ملخّصها):
عندما قدم هشام بن عبد الملك قبل فترة خلافته إلى الحجّ، وأثناء الطّواف
 
 
 

1- في ذلك الزمان كان الناس جميعاً يأخذون حصّتهم من بيت المال وكان الإمام يأخذ حصّته أيضاً مثل غيره.(الكاتب)
2- مناقب آل أبي طالب، ج3، ص 302.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
237

221

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  أراد أن يتقدّم لاستلام الحجر الأسود، ولكن الحشد الهائل والازدحام الكبير منعه من الوصول، رغم محاولاته المتكرّرة مع أنّه كان ابن الخليفة ومحاطاً بالمرافقين والحراس والحواشي، ولكنّ الناس كانوا يمرّون من حوله دون اكتراث. فيئس من استلام الحجر، وقعد جانباً منتظراً انصراف الناس، وكان أصحابه جالسين حوله. وفي هذه الأثناء يأتي رجل يعلوه الوقار والهيبة، سيماه سيماء الزاهدين ووجهه وجه الملكوتيين، يسطع من بين الحجّاج كالشمس فتنحّى الناس له جانباً ليمرّ من بينهم ويصل إلى الحجر الأسود فيقبّله ثمّ يرجع للطواف مجدّداً. 

 
فصعب ذلك على هشام كثيراً، وهو يرى نفسه ابن الخليفة ولا أحد يعطيه أيّة قيمة، بل يبعدونه بالركل والمطاحنة، ثمّ من جانب آخر يظهر رجل يصل إلى الحجر الأسود بكلّ هدوء. فسأل غاضباً: من هذا؟ وكان حواشيه يعرفون أنّه عليّ بن الحسين عليه السلام ولكن لئلّا يغضب منهم لم يقولوا شيئاً لأنّهم يعلمون بوجود العداء المتجذّر بين بني أميّة وبني هاشم، فلم يريدوا أن يقولوا إنّ هذا كبير العائلة المعادية لكم، والناس يظهرون له كلّ هذا الحبّ والاحترام لأنّهم اعتبروا ذلك نوعاً من الإهانة لهشام.
 
كان الشاعر الفرزدق، من المحبيّن لأهل البيت، حاضراً هناك وقد رأى تجاهلهم وإنكارهم لعليّ بن الحسين عليه السلام فتقدّم قائلاً: أيّها الأمير، هل تسمح لي بأن أعرّفك به.
 
فقال هشام: قل، فانطلق لسان الفرزدق بقصيدة من أشهر القصائد الشعرية الّتي قيلت بحقّ أهل البيت، وبدأها بهذا البيت: 
هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته                        والبيت يعرفه والحلّ والحرم1
 
وكانت أبيات هذه القصيدة كوقع السيوف على قلب هشام فغضب منه
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج 46، ص 121.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
238

222

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  وطرده. من جانب آخر أرسل إليه الإمام عليه السلام مالاً فلم يقبله وقال: "ما قلته لله لا أريد عليه مالاً".


وهكذا نشاهد مثل هذه المواجهات عند أصحاب الإمام. ونموذج آخر ما قام به يحيى بن أمّ الطويل. كان يحيى بن أمّ الطويل من الشباب ذوي البأس الشديد والشجاعة الفائقة وأحد المخلصين لأهل البيت، وكان يذهب دائماً إلى الكوفة ويجمع الناس ويصرخ فيهم: "أيها الناس، إنّني كافر بكم ولا أقبل بكم حتّى تؤمنوا بالله"، وهو يقصد أولئك الّذين كانوا يتبعون بني أميّة. ومثل هذه الاعتراضات المتجلّية في حياة الإمام السجّاد عليه السلام وأصحابه كان مشهوداً.(مجلة باسدار اسلام، 12).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
239

223

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

 مواجهة الإمام عليه السلام مع علماء البلاط


في تتمّة بحثنا حول القضايا المرتبطة بسيرة الإمام السجّاد عليه السلام وأساليبه وخططه لإيجاد الأرضية المساعدة للحركة الإسلامية العظيمة، الّتي يمكن أن تنتهي بإقامة الحكومة العلويّة والحكومة الإسلاميّة:
ذكرنا ما ملخّصه أنّ هذه التحرّكات كانت تتّجه إلى التبيين والتوضيح بالنسبة للبعض وإلى التشكيلات والتنظيم بالنسبة لبعضهم الآخر، وإلى الهداية والإرشاد بالنسبة لآخرين. وهكذا يُتخيّل الإمام السجّاد، من خلال هذه الصّورة الّتي قدّمناها، إنساناً صبوراً سعى خلال 30 أو 35 سنة متواصلة إلى جعل تلك الأرضية غير المساعدة بتاتاً في العالم الإسلاميّ، تتّجه نحو الظروف الّتي يمكن له عليه السلام أو لخلفائه أن يحقّقوا من خلالها المجتمع الإسلاميّ، والحكومة الإسلاميّة.

ولو اقتطعنا تلك السنوات الخمس والثلاثين لسعي الإمام السجاد عليه السلام من حياة الأئّمة، لجزمنا بعدم وصول الأمر إلى الإمام الصادق عليه السلام بتلك الحال الّتي تمكّن معها من التصرّف والتعاطي الصريح والواضح مع الحكم الأمويّ، والعبّاسيّ فيما بعد.

وعليه، فلأجل إقامة وتحقيق المجتمع الإسلاميّ، لا بدّ من الأرضية الفكريّة والذهنيّة. وهذا ما يُعتبر أهمّ من أيّ شيء آخر. وقد تطلّب إيجاد هذه الأرضيّة الفكرية والذهنية في تلك الظروف الّتي كانت موجودة في ذلك العصر من العالم الإسلاميّ، سنوات مديدة. ذلك العمل الّذي نهض به الإمام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
240

224

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  السجّاد عليه السلام متحمّلاً أعباءه الجسيمة وتكاليفه الباهظة.

 
إلى جانب هذا، نجد في حياة الإمام السجّاد عليه السلام بعض المساعي الأخرى الّتي تدلّ في الواقع على مدى تقدّم الإمام عليه السلام في المجال المذكور. والقسمُ الأعظم من هذه المساعي، سياسيٌّ، وأحياناً شديد القساوة، وأحد نماذجه مواجهته، وكيفية تعامله مع العلماء التابعين، والمحدّثين الكبار العاملين لصالح النظام الحاكم. ولعلّ أكثر الأبحاث المتعلّقة بحياة الأئمّة إثارةً هو قضيّة تعامل الأئمّة عليهم السلام مع حملة الفكر والثقافة في المجتمع الإسلاميّ، (أي العلماء1 والشعراء).
 فالأئمّة كانوا يتحمّلون مسؤولية هداية الناس في أفكارهم وأذهانهم، وأولئك كانوا يوجّهون الناس إلى الوضع الّذي يريده خلفاء بني أميّة وبني العبّاس، وأن يكون حاكماً على المجتمع، ويجعل الناس مطيعين ومسلمين. 
 
كما نعلم، فإنّ الحكّام الظالمين والجائرين كانوا يرون جذب قلوب الناس إليهم، أهمّ عامل في بقاء ملكهم وسلطانهم. إذ لم يكن الفاصل الزمنيّ بين الناس وبين صدر الإسلام كبيراً، وبالتالي كان إيمان الناس بالإسلام لا يزال قويّاً. فإذا أدرك الناس أنّ البيعة الّتي قدّموها للحكّام ليست صحيحة، وأنّ هذا الظالم لا يجوز أن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لو أدركوا ذلك، فبالتأكيد لن يرضوا أن يسلّموه قيادتهم بتاتاً، وحتّى لو قلنا إنّ هذا الأمر لا يشمل جميع الناس، فعلى الأقلّ نقول: القدر المسلّم به أنّ الكثيرين في المجتمع كانوا يتحمّلون الوضع المنافي للإسلام في الجهاز الحاكم نتيجة الإيمان القلبيّ، إذ إنّهم كانوا يظنّون أنّ هذا وضع إسلاميّ. ولإبقاء هذه الضبابيّة في أذهان الناس، كان حكّام الجور يستغلّون المحدّثين وعلماء الدين قدر الإمكان
 
 
 

1- عندما نقول "العلماء" فإنّنا نقصد علماء الدين في ذلك الزمان والذين كانوا عبارة عن المحدّثين والفسّرين والقرّاء والقضاة والزهّاد.(الكاتب)


 
 
 
 
 
 
 
 
 
241

225

الفصل الثامن: الإمام السجّاد عليه السلام

  ويحركّونهم طبقاً لمصالحهم، فيطلبون منهم وضع الأحاديث واختلاقها ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الكبار بما يوافق ميولهم وأهواءهم.

 
في هذا المجال توجد موارد تقشعرّ منها الأبدان، ونحن ننقل بعضاً منها كمثال:
في زمن معاوية التقى شخص بكعب الأحبار1. ولأنّ كعباً كانت له صلات حميمة مع معاوية وزعماء الشام، سأل كعبُ ذلك الشخص: من أين أنت؟
• من أهل الشام. 
• لعلّك من ذلك الجيش الّذي يدخل منه 70 ألف جندي إلى الجنّة دون حساب. 
• من هم هؤلاء؟ 
• إنّهم أهل دمشق. 
• كلا، لست من أهل دمشق. 
• إذاً، لعلّك من ذلك الجيش الّذي ينظر الله إليه كلّ يوم مرّتين! 
• من هم هؤلاء؟ 
• أهل فلسطين! 
 
وربّما لو قال ذلك الشخص: إنني لست من أهل فلسطين، لأخبره كعب الأحبار أحاديث عن كلّ أهالي بعلبك وطرابلس وبقيّة مدن الشام بحيث يبينُ له أهل الشام هم الأفضل، وأنّهم أهل الجنّة. وكعب الأحبار كان يختلق هذه الأحاديث ويصفها إمّا تملّقاً لأمراء الشام، حتّى يكون نصيبه أكثر ومنزلته في قلوبهم أعلى، وإمّا بسبب العداء المتجذّر في نفسه للإسلام وحتّى يصعّب الوصول إلى أقوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .
 
 
 

1- كان كعب الأحبار يهوديّاً أسلم في عهد الخليفة الثاني. ويوجد شكوك كثيرة في الأحاديث المنسوبة إليه، ليس فقط بين الشيعة بل حتّى بين الكثير من أهل السنّة، باعتبار أنّه قد اختلق أحاديث انطلاقاً من عدائه للإسلام. ويوجد من أهل السنّة من يقبل به.