المقدمة
المقدمة
شكلت المرحلة التاريخية التي انطلقت خلالها المقاومة الإسلامية في لبنان مرتكزاً أساسياً في الالتقاف الجماهيري حولها في سائر الأقطار العربية والإسلامية، ذلك أن المقاومة لم تطرح مشروعاً تحريرياً يتصل بالأرض اللبنانية وحسب، وإنما طرحت مشروعاً استنهاضياً يتطلع إلى إصلاح الوضع المأزقي في العالم العربي والإسلامي الناتج عن تقدم المشروع الصهيوني في المنطقة.
لم تكن المرحلة التاريخية لترتسم ملامحها منذ لحظة إصطدام الاحتلال الإسرائيلي بالمقاومة الإسلامية في لبنان، بل تمتد بتداعيتها الدراماتيكية إلى تحويل مجرى الصراع نحو الحلول الاستسلامية التي ارتسمت أولى ملامحها منذ كامب ديفيد وحتى ما بعد مؤتمر مدريد في مطلع تسعينات القرن العشرين.
في حين تجلت أولى الإخفاقات الصراعية بعدم نجاح المشروع الناصري والذي التفت حوله الشعوب العربية مظهرةً التأييد لعبد الناصر إيذاناً منها بحل معضلة الصراع، غير أنها انتهت إلى الإحساس
7
3
المقدمة
بالخيبة والمرارة والإحباط بعد نكسة الخامس من حزيران عام 1967.
وقد شكل بروز المقاومة الفلسطينية غداة النكسة أملاً جديداً من شأنه إعادة الإحساس بالقدرة واستعادة التوازن المفقود بالاستناد إلى نهج جديد في المقاومة الشعبية المسلحة كبديل عن منهج الاستخدام الرسمي في خوض الصراع. وقد شكلت المقاومة الفلسطينية موئلاً ومرجعية للاحتضان الشعبي الذي أظهرته الشعوب العربية والإسلامية بمعزل عن أنظمتها التي عانت من الانحدار والتراجع في هذا المجال بعد السقوط التاريخي للمشروع القومي في المنطقة.
غير أن لحظة دخول جيش الاحتلال الصهيوني إلى لبنان، والذي أدى بتداعياته إلى إخراج منظمة التحرير الفلسطينية، أعاد إلى الواجهة الإحساس بالخيبة والفشل بعد الآمال التي كانت معقودة على مشروع المقاومة الفلسطينية المسلحة، لاسيما وأن الجيش الصهيوني كان قد دخل إلى بيروت كأول عاصمة عربية منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي. وفيما كان المشروع الصهيوني يتخذ منحى تصاعدياً، راحت طلائع المقاومة الإسلامية التي تشكلت لحظة الاحتلال، توجه ضرباتها لجنوده في أماكن وجوده في مختلف الأراضي اللبنانية، فآذنت بخوض صراع مرير حتى تحرير الأرض والمقدسات.
كان يمكن للمقاومة أن تكون، بنظر الشعوب العربية، كإحدى التجارب التي سرعان ما تؤول إلى الأفول بفعل الإحساس بفقدان الأمل الناتج عن الخلل في التوازنات الموضوعية للصراع. ولكن بفعل الانكفاء الجزئي
8
4
المقدمة
للاحتلال من بيروت وصيدا وبعض مناطق الجنوب غدا هذا الواقع الجديد أحد الرهانات التي تزخر بالكثير من الايجابية في فعل التحرير المنشود، فراحت المقاومة تحظى بالتأييد الشعبي المتزايد بتزايد وتيرة ضرباتها المتكررة للجنود الصهاينة.
وقد عمدت المقاومة، بعد الانحسار الجزئي للاحتلال في منتصف الثمانينات، إلى مخاطبة الشعوب العربية والإسلامية حين أعلنت عن أهدافها في تحرير الأرض والمقدسات، وعن أنها تشكل النقيض للمشروع الصهيوني باعتبار أن الصراع معه يدخل في دائرة الصراع الوجودي الذي يفترض تضافر جهود الشعوب العربية والأمة الإسلامية على السواء.
وبذلك تكون لحظة الانطلاق قد ارتكزت على أهمية بارزة باعتبارها تشكل أهم الحلقات التواصلية مع النزوع التاريخي للشعوب العربية والإسلامية إلى التحرير، وكتجربة مضيئة بعد سلسلة من الإخفاقات التاريخية التي طرحت إلى الواجهة السؤال حول كيفية العمل للخروج من الوضع المأزقي الحاد لشعوب المنطقة.
وبطبيعة الحال، شكلت أولى نجاحات المقاومة بالتحرير الجزئي للأرض، بداية للاحتضان الشعبي. غير أن هذا الاحتضان مال إلى الإتساع بعدما أكدت المقاومة استمرارية الفعل المقاوم الذي كانت تدور رحاه اليومية على أرض الجنوب، وعلى وقع دك التحصينات والمواقع المنيعة لجنود الاحتلال والذي ترافق على مدى سنوات مع بروز الدور
9
5
المقدمة
الريادي لقائد المقاومة السيد حسن نصر الله بعدما كانت قيادة المقاومة يكتنفها الغموض وعدم الإعلان عنها لوجود الاحتلال على امتداد الأراضي اللبنانية، وبعدما تبوأ موقع القيادة فيها غداة استشهاد الأمين العام السيد عباس الموسوي.
ومما لا شك فيه أن الفعل المقاوم المتساوق مع المرحلة التاريخية، والذي تجسد باستمراريته على مدى سنوات، أتاح هذا الالتفاف الشعبي. ولكن هذا الالتفاف اتخذ له عنواناً رمزياً تمثل بنظرة هذه الشعوب للقائد الكاريزمي كأحد إنتاجات هذه المرحلة إذ ليس من الممكن، وعلى ضوء التجارب التاريخية للشعوب، أن لا تتخذ أي حركة شعبيةً كانت أو رسميةً عنواناً لها يتمثل بالقائد الذي يرمز إليها ويستند إلى العزم والتصميم والإرادة في المضي بمشروعه حتى النجاح.
وقد عدّت في العالم العربي رجالات على أنها قيادات كارزمية بنظر شعوبها لما امتلكته من هذه المزايا، وظلت تصنف في هذه الدائرة رغم أن مشروعها في التحرير لم يكتمل، ما يعني إن كارزمها مسنودة أيضاً إلى المرحلة التاريخية المأزقية التي يمتلك فيها القائد إرادة التحدي حتى ولو لم يكتب له النجاح في هذا المجال.
من جهة أخرى، فقد ساهمت تداعيات المرحلة التاريخية هذه، في جعل المقاومة تقفز إلى واجهة الأحداث جراء المزيد من الانكفاء بفعل مشاريع الاستسلام التي تواصلت حلقاتها مع مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو وطابا ووادي عربة، والتي تزامنت مع عمليات المقاومة التي راح يعلن
10
6
المقدمة
قائدها عن استمرارها حتى تحقيق النجاح المنشود، والذي تجسد في التحرير عام ألفين. إن رهاناتها تمثل السبل المثلى لتجاوز الوضعية المأزقية للمرحلة التاريخية والتي شكلت فيها المقاومة انقطاعاً نموذجياً عن حلقاتها الدراماتيكية المتداعية دوماً، والتي كان يفترض توفير الاحتضان الشعبي لها.
على هذا الأساس، تشكل لحظة انطلاق المقاومة في تمفصلها مع المرحلة التاريخية التي اقتضت العمل المقاوم، أحد الأبعاد الأساسية التي تضيف الكثير من الأهمية لهذا العمل، لاسيما وأنه ارتكز بحد ذاته على سلسلة من النجاحات التي تستوجب العبور نحو اكتمال أبعاده الاستنهاضية، وهو ما يستوجب مقاربة الأسس التي أدت إلى هذه الحالة التضامنية ، خصوصًا الدور القيادي ، والفعل المقاوم كما تجسّد في خطاب القيادة نفسها كقيادة متجاوزة لدائرتها الجغرافية. فبالرجوع إلى الآراء والنظريات الواردة لدى علماء الاجتماع، نجد تنوعاً في المحددات الأساسية التي تجعل من الأفراد قادة كباراً. وربما يعود هذا التباين إلى اختلاف بيئة المقاربة، ومرحلتها الزمنية، ولكنها مع ذلك تمتلك أهميتها العلمية بكونها تخضع لحقل التجربة والدراسة الميدانية، قبل أن ترتبط بأهداف غائية محددة سلفاً أي بتقديم نظرة نمطية عما يجب للقائد أن يتحلى به من مزايا لكي يكون قائداً تاريخياً يمتلك القدرة على إدارة الناس، وعلى السعي نحو تغيير واقعهم نحو الأفضل، وهو خلاف ما درج عليه الفلاسفة السابقون كأفلاطون في جمهوريته التي لا
11
7
المقدمة
تدار على أفضل وجه ما لم يحكمها الفلاسفة أو يتفلسف فيها الحكام, أو في مدينة الفارابي الفاضلة. غير أن المقام هنا ليس مقاربة القائد كرجل سلطة يعمل بين الناس ويرتفع عنهم درجة لإدارتهم، وإنما يرتبط بقيادة استنهاضية تبرز أولاً، ثم يأتي فعل الانقياد وإعلان الولاء والسير معه نحو قضية محددة وهي قضية صراعية متجاوزة لما يمكن تسميته بفعل السلطة على أنه إدارة للشؤون الحياتية اليومية بين أفراد شعب بعينه، وإنما تطرح القضية على أنها قضية شعب أو أمة بأسرها بمقابل الآخر أو العدو المفترض مقاومته حتى حلّ هذه القضية الصراعية. ومن هنا تأتي المقاربة لهذه القضية بالبحث والتحليل للوقوف على الأسباب التي جعلت منها قضية أمة بعينها، تلتف حولها وتعلن التأييد لها ولقائدها باعتباره يشكل رمزاً لها ويعمل من أجل نجاحها والوصول بها نحو الأهداف المنشودة. على هذا الأساس سوف تتم الاستعانة بما توصل إليه علماء الاجتماع جرّاء مقاربتهم لموضوع القيادة، وكذلك بما يتحدد عبر الواقع نفسه باعتباره يشكل خصوصية على النحو الجدلي الذي يدفع إلى بروز القائد الكاريزمي، فيما يعمل هذا القائد أيضاً على تغيير الظروف وجعلها أكثر توافقاً مع ما يرمي إليه من أهداف.
12
8
الفصل الأول: تجسدات القيادة
الفصل الأول:
تجسدات القيادة
1- القيادة -حفريات المفهوم
تفترض القيادة وجود علاقة بين طرفين: القائد الذي يتمتع بصلاحية الإمرة والسلطة والنفوذ والجمهور أو الشعب أو الأمة التي تسلم بوجود هذه القيادة وتذعن لتوجيهاتها ولأوامرها وتدين لها بالطاعة والولاء.
ولكن من أين تتأتى هذه المشروعية للقيادة فيما تؤول إليه من حق التمتع بالإمرة والنفوذ؟ وكيف يمكن للجمهور أو جماعة من الناس أن تسلّم وتدين بالخضوع والطاعة؟
فلا يمكن لهذه العلاقة بين الطرفين أن تنشأ من فراغ، لاسيما أنه ومن حيث مقتضيات العقل، ليس ثمة ما يبرر لفرد من الأفراد أن يتمايز عن الآخرين ويعلو عليهم بحكم المساواة التي تقتضيها الطبيعة. فالأفراد متساوون بحسب الفطرة بإدارة شؤونهم الذاتية، والفرد يأبى الخضوع للآخرين إلا إذا كانت ثمة مبررات موضوعية أو طبيعية تحتم ذلك.
13
9
الفصل الأول: تجسدات القيادة
ومن بين هذه المبررات المنحكمة إلى الطبيعة، العلاقة بين الأب وأبنائه، وهي تفترض في أحد وجوهها حق الأب في الإشراف والتدبير وصون مصالح أبنائه بحكم حاجة الأطفال للانقياد له لعجزهم عن إدارة شؤونهم الذاتية1.
ثم تأتي القوانين والأعراف والتعاليم الدينية لتكرس هذه العلاقة في حدود معينة. فالقيم في المجتمعات الريفية تقتضي تقديم الطاعة للأب ولكبير السن، والقوانين الحديثة تعترف للأب بسلطة الوصاية على أبنائه حتى بلوغهم السن القانونية، ثم يأتي الدين ليحثَّ على أواصر تلك العلاقة التي تستمر حتى ما بعد سن الرشد حتى ولو بلغ الوالدان أرذل العمر.
وما يسري على العلاقة الوالدية يسري على سائر التجمعات البشرية حتى تلك الموغلة في القدم والسابقة على وجود الدولة والتنظيم السياسي بالمعنى الحديث.
لقد لعبت الأعراف دوراً بارزاً في تحديد الزعيم القائد الذي ينبغي على الجماعة أن تدين له بالولاء والطاعة. على أن تلك الأعراف لم تنشأ من فراغ، وإنما مما يشكله الزعيم من فائدة تعود على الجماعة في التماسك والتضامن والمنفعة التي تعبر عن حاجة هؤلاء الأفراد.
إن ما تقدمه لنا المجتمعات القبلية البائدة في أميركا الجنوبية
1- ناصيف نصار، منطق السلطة, دار أمواج , 1995,ص 23
14
10
الفصل الأول: تجسدات القيادة
وأفريقيا هو صورة مدهشة لتلك العلاقة من التنظيم بين الزعامة القائدة والجماعة المطيعة، حيث تقدم تلك المجتمعات نماذج من الزعامة من حيث مواصفاتها ودورها وتصنيفها.
خلال المعارك الحربية يتمتع الزعيم بسلطة مطلقة النفوذ عندما تواجه الجماعة خطراً خارجياً أو حين شن الحملات الحربية. على أن تتوقف هذه الزعامة لتؤول إلى زعيم السلم الذي عليه نشر السلام داخل الجماعة وفض المنازعات الداخلية وحلّ الاختلافات ليس عن طريق استعماله لقوة لا يمتلكها أصلاً، وإنما بالاتكال على نفوذه وسمعته وفضائله ونزاهة كلمته التي تتكرس بفضل قدرته على إرساء السلم بين الجماعة، وقدرته الكلامية فضلاً عن وجوب كونه معطاءً من خيراته ولا يسمح لنفسه برفض الطلبات العديدة من قبل أتباعه1.
وإلى جانب الزعامة العسكرية والمدنية ثمة دور ريادي لرجل الدين الذي يتعين عليه القيام بالطقوس الدينية، وهو ما يعبر عن أزلية النظم الدينية بغض النظر عن كونها مقنعة، أو غير مقنعة ويفسّر ذلك لدى علماء الاجتماع، أن الإنسان منذ بدء وجوده في الغابة حاول تفسير ما يجري حوله من حركات الطبيعة وظواهرها الغامضة التي لم تكن لديه القدرة على التأثير فيها، فافترض - هؤلاء العلماء - وجود قوى خفية تحرك هذه الظواهر، أو أنه لجأ إلى الفكرة الدينية للتخلص من حالة الخوف
1- بيار كلاستر، مجتمع اللادولة، ترجمة محمد حسين دكروب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1991، ص 32.
15
11
الفصل الأول: تجسدات القيادة
والشك، ذلك أن للدين وظائفه الهامة فهو يساعد على تفسير الأحداث المعقدة والتي تبدو بصورة ظاهرة غير قابلة للتفسير ولهذا يستخدم الاحتفالات والطقوس والعبادات الدينية ليضمن الاتصال بتلك القوى عن طريق وسطاء يعتقد أن لهم قدرة كبرى على ذلك الاتصال1.
وبمعزل عما يمكن أن يوجه لهذه النظرية التي تفسر نشوء الدين بسبب الجهل والخوف خصوصاً من قبل العاملين في هذا الحقل نفسه الذين يعدون ذلك لا يخرج عن دائرة الافتراض التي لا ترقى إلى الملاحظة العلمية لكون رواد نظرية الخوف والجهل متقدمين زمنياً عن المجتمعات البائدة ولا يمكن إرساء نظرية علمية في حقل اجتماعي مع افتقاد العالم والباحث إلى المحايثة والمزامنة مع الظاهرة.
وبحسب الفهم الديني لاتّباع الديانات السماوية ومنها الإسلام، أن ليس ثمة مجتمعات خارج دائرة النبوّات، وأن ما كان قائماً هو انحراف عن دائرة الاستجابة للدعوات.
على أنه ما يهم في هذا الأمر هو العودة إلى توصيف القيادة أو الزعامة الدينية في تلك المجتمعات والتي خضعت إلى تدوين وظائفها من خلال ملاحظات الانثروبولوجيين بمعزل عن تفسير أسباب نشوء ظاهرة الدين. الزعامة الدينية في اغلب القبائل الأميركية الجنوبية هي للساحر الشامان، حيث للشامان صورة مهمة جداً لدى المجتمعات
1- فهمي سليم الغزوي وآخرون، المدخل إلى علم الاجتماع، دار الشروق عمان 1992ـ ص 240.
16
12
الفصل الأول: تجسدات القيادة
الهندية، فهو يبدو محترماً مثيراًً للاعجاب وللخشية، ذلك أنه الوحيد القادر داخل الجماعة، والذي يمتلك القدرة ما فوق الطبيعية للسيطرة على عالم الأرواح والأموات والخطر، إن هذا الساحر الشامان هو عالم يسخر معرفته لخدمة الجماعة من خلال معالجته للأمراض من خلال قواه الخارقة على بعث الحياة والسيطرة على الموت1.
ومن بين هذه القبائل قبائل الجيفارو التي تسكن حوض الأمازون ، والتي لم يُعرف أفرادها إلا منذ القرن الخامس عشر والذين رغم استقبال القادمين لهم في أوائل القرن العشرين لكن احتكاكهم المؤثر بالإنسان الأبيض لم يحصل حتى الآن حيث بقيت هذه القبائل من القبائل النقية بعد قبائل الأقزام في أفريقيا2.
وفي الدولة الحديثة حيث يغدو الفرد مواطناً له حقوق وعليه واجبات تدخل في موارد كثيرة بينها الحق في الحياة والتجمع، والارتقاء والمشاركة السياسية، والاعتراض، وواجب الخدمة والتفاني بحب الوطن والتقيد والطاعة للقوانين الصادرة عن السلطات العليا، حيث تتكرس سلطة الإمرة والتزعم لدى النخبة القائدة، غير أنها ترتبط من ناحية أخرى بموجبات تتصل بالأفراد الذين عليهم الانقياد والخضوع، وهي موجبات ناشئة من طبيعة الارتباط بمصالحهم وغاياتهم وأهدافهم العليا منها والدنيا، وبمدى التزام القيادة بالأعراف والقوانين التي
1- بيار كلاستر، مجتمع اللادولة، مصدر سابق ، ص 147.
2- د. علي وهب، الجغرافيا البشرية، المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1986، ص 142.
17
13
الفصل الأول: تجسدات القيادة
اقتضت ممارستهم لتلك التراتبية وإلا وضعت القيادة على محك المشروعية وجرى التشكيك والرفض والتمرد والعصيان ومحاولة تغييرها واستبدالها.
2- أنواع القيادة
الزعامة أو القيادة هي من اللوازم المفترضة لدى الجماعات على امتداد التاريخ لما تضطلع به من وظائف تختلف بحسب المرحلة التاريخية وبحسب درجة الرقي الحضاري التي تقف عندها هذه الجماعات، وهي بحسب ذلك الحال أنواع، بينها ما يلي:
أ- القيادة الكاريزمية
خضع مفهوم الكاريزما كغيره من المفاهيم المتداولة في حقل الدراسات الاجتماعية للمقاربة والتحليل من قبل العديد من المفكرين الذين تناولوا الكاريزما كمفهوم وكدور ووظيفة تسهم في إحداث التغيير الاجتماعي.
ومن الرواد الأوائل بين هؤلاء المفكرين ماكس فيبر، الذي كان يرى أن هناك فترات تحوّل تمر بها المجتمعات بفضل وجود عباقرة وأبطال أو انبثاق فئة من الحكماء والأنبياء والمرشدين أو العلماء التكنوقراطيين.
والكاريزما مصطلح يعني " هبة الله " وهو يطلق على شخصية الفرد لتميزه عن غيره من الأفراد العاديين، بحيث ينظر إليه كقائد مزوّد بقوى وخصائص خارقة للعادة غير متوفرة في عموم الناس. قد يكون
18
14
الفصل الأول: تجسدات القيادة
مصدر الصفات إلهياً، أو عبارة عن صفات مثالية تدفع صاحبها إلى مرتبة القيادة في نظر الناس. يوجد القائد الكاريزمي عادةً في حالات الوهن الاجتماعي والديني والاقتصادي والسياسي ويرتكز على الطاعة للبطل والتضحية من أجل تأدية رسالة.
والقائد الكاريزمي لا يظهر عادةً في الميدان وحده، بل يظهر عادة مع جماعات ثائرة تبقى مدينة في نشأتها واستمرارها له1.
ويمكن للقيادة الكارزمية أن تقوم بوظائف نفسية واجتماعية وتؤمن المساندة في الانتقال من مجموعة قديمة من القيم إلى مجموعة جديدة منها. والقائد في مثل هذه الحالة هو مصدر الشجاعة والإقدام والرغبة في نبذ القديم والحماس من أجل التغيير ومن أجل تثبيت الجديد.
أما التغيير الذي يفرضه القائد الكاريزمي فهو لا يعود له وحده، بمعنى أنه ليس مستقلاً عن الظروف الموضوعية التي يظهر فيها القائد، فبنظر فيبر أن ثمة خصائص للفترة التاريخية التي تقتضي وجود القائد الكاريزمي، ومعنى ذلك أن القائد الكاريزمي قد لا ينجح في بعض الأحيان، لأن الفترة التاريخية التي يظهر فيها تكون غير مؤاتية لنجاحه2.
ولا ينكر عالم الاجتماع بيار بورديو العناصر الذاتية في فهم الظواهر الاجتماعية وبينها الرجال العظام، ولكن ترتبط بعامل موضوعي آخر
1- د. عبد الغني عماد، سوسيولوجيا الثقافة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2006، ص 198.
2- المصدر نفسه، ص 199.
19
15
الفصل الأول: تجسدات القيادة
هو الوعي الجماعي للأفراد حيث يقول: إن شهرة الأشخاص الكبار من علماء ومفكرين وسياسيين وعسكريين وأنبياء ومرسلين الخ، مرتبطة بوعي الأفراد الذين يعتقدون بها. وإذا توقف هذا الاعتقاد، وما يستتبعه من مواقف وتصرفات، تزول شهرتهم لا محالة، ذلك دون اعتبار الوعي عاملاً منفصلاً عن طبيعة السلطة أو عن الظروف الاجتماعية والتاريخية التي وجدت فيها، والوعي في هذه الحالة عنصر منها1.
إذاً ثمة نوع من القيادة كونها تمثل علاقة سلطة وإمرة، يدور حولها جدل كبير في ميدان البحوث الاجتماعية ويتناول بنيتها وأسس تشكلها والدور الذي تلعبه لدى الجماعة، لكون علاقة الإمرة تتدرج صعوداً لدى هذه القيادة بحسب القائد وبحسب القضية التي يعمل من أجلها، ومنهج الوصول إلى الأهداف ومدى ارتباطها بالجماعة.
وينطلق السؤال حول القيادة الكارزمية: ما الذي يجعل هذا النوع من القيادة يتمتع بجاذبية لدى الجماعة أو الشعب أو الأمة فتقدم لها الطاعة وتستمر في إعلان ولائها لها وتكرس الاعتراف باستمرار اضطلاعها بالدور القيادي في عدة دورات انتخابية كما في القيادة الكارزمية الرسمية في المجتمعات الديمقراطية، أو في المجتمعات التي يسود فيها الاستفتاء، أو في القيادة غير الرسمية التي تتبوأ موقعها القيادي دون الحاجة إلى الأطر الانتخابية بل تتكرس زعامتها بسبب
1- د. علي سالم، منهجيات في علم الاجتماع، دار الحمرا، بيروت 1992، ص 176.
20
16
الفصل الأول: تجسدات القيادة
الاعتراف الشعبي بها. وقد يتخطى الولاء لها حدود الطاعة، إلى تماهي الأفراد معها تماهياً كلياً حيث تدخل في وجدان ووعي الأفراد ويتخطى دورها حدود السلطة إلى السلطان الذي يأخذ النفوس على محمل الطاعة والتقيد بأوامرها حتى ولو طلبت من الأفراد التضحية بالنفس من أجل الوصول إلى الأهداف التي يطرحها القائد؟
درج الاعتقاد على أن تشكل هذا النوع من القيادة أساسه مواصفات سلوكية وعقلية ونفسية وجسدية يمتلكها الزعيم القائد. ويجب أن يوحي القائد الكاريزمي بالثقة وبالكفاءة والدرجة العالية من التميز عن الآخرين.
غير أن هذه الأفكار تبقى أسيرة أطرها النظرية، وتدخل في باب الافتراض والغائية بمعنى أنها تجسد الأسس التي ينبغي للزعامة الكارزمية امتلاكها وليس الزعامة بعينها كما هي.
فثمة كثير من الزعماء الكارزميين ممن لا تتكامل لديهم هذه المواصفات وهي ناشئة بطبيعة الحال من قصور الإنسان وعجزه ومن عدم وجود الإنسان الكامل أو إنسان ما فوق.
ولذلك انتقلت الدراسات نحو التحديدات الميدانية للقيادة أي دراستها كما هي في كينونتها وليس من ناحية ما يجب أن تكون عليه هذه القيادة.
ذلك أن تصور ما ينبغي على القائد التحلي به ليس واحداً بين الدارسين سواء كان قائداً عادياً أو كارزمياً.
21
17
الفصل الأول: تجسدات القيادة
يرى باريتو أن نخبة القيادة تتشكل من الأكفأ والأفضل والأحسن أي من الذين حققوا نجاحات على المستوى الاجتماعي وليس الأخلاقي. وهذه النخب تملك من النفوذ ما يسمح لها بأن تؤثر في خيارات الأقلية الحاكمة وتحتل مواقع مميزة في الهرم بفضل مداخيلها أو حظوتها الاجتماعية.
يرفض ريمون آرون نظرية باريتو ويرى أنه منافٍ للمنطق أن ينتمي إلى مفهوم النخب كل الذين حققوا نجاحات بمن فيهم جماعة اللصوص، ويرى أنه من الصعب جداً تحديد شكل الإطار الذي تتم في داخله صناعة النخب من مواد النجاحات. ويربط مبدأ تقسيم النخب بممارسة النخب الديمقراطية التعددية. فهناك قادة سياسيون، وقادة إداريون، وقادة روحيون محركون للجماهير. بمعنى أن الممارسة الديمقراطية تأخذ بمبدأ المفاوضة والتوافق بين النخب دون المس باستقلالية الجماعة1.
بإزاء ريمون آرون في نقده لباريتو باستبعاده الجانب الأخلاقي، فإننا نجد المجتمعات الحديثة ما زالت تعتبر هذا الجانب مطلوباً لدى القادة، وتكاد تملأ الصفحات اليومية للجرائد بالحديث عن الزعماء القياديين لدى الغرب متكلمة عن انخفاض شعبيتهم وعدم اعتبارهم قادة عظاماً بسبب الفضائح التي يتعرضوا لها من هدر وفساد وكذب، وعلاقات غرامية.
1- كلير صعب، مجلة العلوم الاجتماعية، صادرة عن مركز الأبحاث في معهد العلوم الاجتماعية الجامعة اللبنانية، تشرين أول 1997.
22
18
الفصل الأول: تجسدات القيادة
أما وجهة النظر التي يمثلها ريمون آرون والتي تحصر تشكل النخب القيادية بطبيعة المجتمعات الديمقراطية وبتوزيع القادة على مراتب وقطاعات متمايزة، وبأنها تسود انطلاقاً من مبدأ التوافق والمفاوضة التي تحول دون تعارض مصلحة النخب القيادية مع مصلحة العامة أو دون أن تعلو عليها، فتلك الوجهة تسود حالياً في الغرب لدى العديد من المفكرين وتصح على القيادة غير الكارزمية التي لم يعد لها وجود في الغرب انطلاقاً من الظروف الموضوعية التي تلعب دوراً في هذا الشأن، ومنها الآلية الديمقراطية التي تتيح للنخبة القيادية الوصول إلى سدة الموقع القيادي. تلك الآلية، تجعل القائد عاجزاً عن الاستمرار بموقعه القيادي بسبب طبيعة التنافس التي تسود، فضلاً عن استناد هذه الآلية إلى مبدأ الأكثرية التي تجعل قادة كثراً يتبوأون هذا الموقع القيادي باستحواذهم على أكثر من نصف عدد الناخبين ما يعني أن قيادتهم لا تعني التسليم الغالب أو الكلي. فثمة أقل من النصف أو الثلث أو الربع ممن لا يجدون فيه المؤهلات التي تناسب طموحاتهم بل كل ما في الأمر تتكرس سلطته بفعل القانون، حيث يجب التقيد بالمراسيم والتشريعات التي يصدرها القائد مع فريقه العامل في المؤسسات الدستورية والتي تنطبق على الجميع1.
وقد يسود الاعتقاد، أنه لم تعد ثمة حاجة للكاريزما في الزعامة،
1- أنظر كلير صعب، مجلة العلوم الاجتماعية، مصدر سابق.
23
19
الفصل الأول: تجسدات القيادة
أي إلى الرجل العظيم أو الخارق للعادة في المجتمعات الغربية بسبب آلية صدور القرار السياسي عن هيئة جماعية، ووجود معارضة تستطيع استخدام نفوذها في التأثير على مجريات القرار السياسي. فضلاً عن ذلك، ثمة استشاريون متخصصون ومراكز دراسات من ذوي الكفاءات تعين على اتخاذ القرارات السياسية وعلى رسم السياسات الاجتماعية والاقتصادية وعلى التخطيط في سائر المجالات.
إن وجود القيادة الكارزمية يرتبط لدى بعضهم بالمجتمعات السابقة على الديمقراطية خصوصاً في المجتمعات الشرقية التي يستبد فيها الزعيم وتتكرس زعامته بسبب شيوع الجهل وانعدام الوعي الزائد لدى الجماهير بمصالحها، فضلاً عن عقدة الانسحاق التي تسلب شخصية الأفراد على مدى حقبات تاريخية من ممارسة الطغيان والتي تجعل الأفراد مشدودين نحو التعويض عن الشعور بالنقص عن طريق التماهي مع القائد، الذي تجده ممتلكاً لصفات تجعل منه رجلاً عظيماً فتتماهى معه، ليسود لديها شعور بالتفوق والعظمة. هذا التماهي بين الحاكم والشعب يتم حين يصبح الكل واحداً. في الليلة التي مات فيها عبد الناصر عام 1970، ذهل العالم لذلك الذي صنعه العرب على امتداد أقطارهم، ولا سيما ما فعله المصريون من بكاء وعويل على نحو هستيري، ثم كانت الجنازة التي سار فيها ملايين البشر يبكون ويصرخون ويلطمون الخدود. ومن وجهة النظر الغربية، فإن ما جرى في أسبوع وفاة عبد الناصر بدا غير مفهوم على الإطلاق لدى العقل
24
20
الفصل الأول: تجسدات القيادة
الأوروبي، إذ كان من الصعب على قوم تخضع حياتهم لعمليات حسابية عقلية، أن يفهموا تلك الحالة من الاكتئاب الجماعي التي بدت لهم كوباء انتشر خلال ساعات معدودة، فاستسلم الناس له، بحيث فقدوا القدرة على تمييز ما يفعلون، فغاب عقلهم الواعي وتركوا قيادتهم لمجموعة من الانفعالات الحادة1.
ولأن صورة عبد الناصر في المنظور الغربي الاستعماري كانت صورة دكتاتور وطاغية يحتقر الشعب بقسميه الواعي وغير الواعي فيعامل الأولين بالمعتقلات والسجون، ويخضع الآخرين لعمليات غسل مخ عنيفة تحول بينهم وبين الوعي بمصالحهم، فقد كان طبيعياً وفق تطبيق المحكمات الأوروبية أن يفرح المصريون لموت من عذبهم وامتهن إرادتهم، أو أن يكتفوا بالترحم عليه انصياعاً للمشاعر الدينية التي تؤثم الشماتة بالموت. أما أن تنتشر تلك الحالة العنفية من الاكتئاب الجماعي فإن الأمر يصبح عسيراً على الفهم.
هذا الاعتقاد هو خاطئ بلا شك لأن طبيعة المجتمع البشري حتى مع نظام العولمة يقدم نماذج تُظهر أن القائد العظيم أو المتميز لا زال مطلباً ويمكن أن يحيل إلى طبيعة الفطرة البشرية، فما الذي يرفع أشخاصاً في عصرنا الحديث إلى الاستمرار كرجال قياديين في سدة الحكم لدورات انتخابية متتالية من أمثال مارغريت تاتشر التي لقبت
1- امام عبد الفتاح امام, الطاغية, سلسلة عالم المعرفة, العدد 183, المجلس الوطني الكويت ,ص 336.
25
21
الفصل الأول: تجسدات القيادة
بالمرأة الحديدية في بريطانيا، أو أمثال هلموت كول في ألمانيا وميتران في فرنسا قبل أفول نجم هؤلاء الزعماء.
لقد عرفت أوروبا وأمريكا زعماء عظاماً بنظر شعوبهم كنابليون وديغول وجورج واشنطن وجون كيندي وريتشارد نيكسون، ولكن من غير الصحيح أن الديمقراطيات الحديثة لا تستوجب رجالاً عظماء بل إن سرعة أفول نجم الزعماء الحاليين بسبب فشلهم في تحقيق الرضا لدى شعوبهم على مستوى الداخل، وفشلهم في النجاح في المهمات التي تصدوا لها على صعيد الأمم في الخارج، من حرية وتنمية وسيادة الوفاق والسلام بين الشعوب، تجعل من القيادة الكارزمية مطلباً لدى هذه المجتمعات وهم يفتقدون إليها. وفي هذه الوجهة يرى روبرتو عالم الانتربولوجيا في جامعة نوتردام الأميركية، أن ثمة مواصفات مطلوبة للزعيم وهي مواصفات لم يكن متوقعاً من زعماء الماضي أن يتحلوا بها، فهو يحدد المميزات المطلوبة من الزعيم بقوله: "يجب أن يكون الزعيم دون جواناً، أنديانا جونز، مغامراً وأينشتاين مجتمعين في شخص واحد، يجب أن يكون جذاباً مثيراً وبارداً رابط الجأش في آن واحد" ويتابع "إن دول أميركا اللاتينية والعالم العربي لديها مشكلة النظرة الألوهية والمنزلة المقدسة التي تراها في زعمائها. في المقابل إن الديمقراطيات الحديثة لديها مشاكل من نوع آخر تحاول دائماً استنباط
26
22
الفصل الأول: تجسدات القيادة
أفكار جديدة، أما زعماؤها فإنهم سريعو الأفول"1.
لقد غابت القيادة الكارزمية عن ساحة الغرب ولكن ذلك لا يعني غيابها عن الوجدان الذي إستبدلها بنماذج أخرى تم إحلالها مكانها، وهي النماذج الناجحة التي تقدم صورة الإنسان الكامل أو صورة البطل الأسطوري التي تصنع بحرفية ماهرة في أفلام السينما في هوليود، ذلك البطل الذي يمتلك كل امكانيات القوة والقدرة والذكاء والمبادرة، والذي يظهر بوجهه الحسن وقامته المتناسقة وقدرته على في السيطرة على زمام الأمور حين تحبس أنفاس المشاهد وتتسارع نبضات قلبه ويتصبب عرقاً، إزاء البحث عن حل المعضلة التي حبكت بذكاء مدهش، حينذاك يظهر البطل الواثق من نفسه هابطاً من طائرة أو سيارة تسير بسرعة جنونية حاملاً بندقية لا تكاد رصاصاتها تنفذ، فترتاح النفوس. إن تلك النماذج من الأبطال ليست من صنيعة المخرج فحسب، وإنما هي صنيعة الواقع الاجتماعي المؤلم الذي يعيشه الغرب بالداخل من سرقة وعصابات مخدرات، وجريمة منسقة تستوجب السيطرة عليها أبطالاً ونماذج على غرار ما تقدمه هوليوود، وهي وليدة أزمة علاقة الغرب مع الخارج في زمن الحرب الباردة وفي فيتنام، وصراعه مع ما يدعوه مع الإرهاب الأصولي.
وليس من الغرابة والحال كذلك، أن يصل بطل السينما في وجدان
1- انظر كلير صعب، مجلة العلوم الاجتماعية، مصدر سابق.
27
23
الفصل الأول: تجسدات القيادة
الشعوب إلى مصاف الرجال العظام، الذين يمني الفرد نفسه بمشاهدتهم عن كثب والحظوة بتواقيعهم، حتى تكاد الساحات تمتلئ لأجل مغنٍّ أو ممثل مشهور بجماهيرأكثر مما يستطيع حشده رجال السياسة الماهرون. وليس من العجب والحال كذلك، وصول ريغان من السينما إلى سدّة الرئاسة الأمر الذي يحمل في طياته دلالات، بينها الرغبة الشديدة في إسقاط صورة البطل من عالم السينما إلى عالم الواقع، أي عالم السياسة الذي يفتقد إلى هذه النماذج التي باتت حاجة مجتمعية، بعدما فقدت الكثير من المزايا والصفات الحميدة التي هي مطلب بشري على أية حال.
ب- القيادة الرئاسية
تكتسب هذه القيادة دورها من القوانين والمبادئ والأسس التي تضعها الجماعة سواء كانت جماعة أو شعباً في دولة، وهي تحصل عادة بموجب التعيين أو الانتخاب وبمدى رؤية الجماعة أو الشعب لزعامتها أو قيادتها من قدرة على الإضطلاع بهذا الدور بسبب التحلي بمواصفات ذاتية واستعدادات تم اكتسابها بفعل الخبرة والمران والجهد المضني والعمل الدؤوب.
وبمجرد الاضطلاع بهذه المكانة، تفترض طبيعة هذه المكانة ممارسة الدور القيادي، وإظهار الطاعة والانقياد من الآخرين طالما حافظت القيادة الرئاسة على التقيد بالصلاحيات الممنوحة، وبغايات وأهداف ممارسة السلطة.
28
24
الفصل الأول: تجسدات القيادة
على هذا الأساس يمكن تسمية هذا النوع من القيادة بالقيادة الرسمية لاكتسابها الطابع القانوني في الاستحواذ على المكانة وممارسة الدور.
فموارد التسليم والاعتراف بدور هذه القيادة ليس منوطاً بالقوانين وحدها دائماً، وبرؤية الأفراد لقدرتها على تحقيق غاياتهم وأهدافهم. لذلك يمكن أن يتعرض هذا النوع من القيادة للكثير من التشكيك والرفض حين يشعر الأفراد بعجز القيادة عن تحقيق ذلك، فضلاً عما يتعرض له من تحدي إقصائها عن السلطة بفعل رغبة آخرين ممن يجدون أنفسهم مؤهلين للاضطلاع بهذا الدور مستفيدين من القوانين التي تسمح لهم بالتنافس على السلطة، لكن في العمق، وبمعزل عن القوانين التي تضعها الدول كآليات لتداول السلطة، تبقى السلطة. مطلباً إنسانياً لما تمثله من جاذبية لا تقوم فقط على الوسائل الهائلة التي تضعها في تصرف صاحبها، بل تقوم أيضاً على الغموض الذي يكتنف العلاقة بين إرادة الحاكم الخاصة وإرادة الدولة الواحدة الجامعة. فمن الطبيعي والحال هذه، أن يتزاحم الطامحون إلى السلطة في الدول, وأن يكون تزاحمهم شديداً وقاسياً بحيث لا ينتهي مؤقتاً إلا بغلبة تامة لواحد منهم على الآخرين أي بفوزه بتفويض السلطة1.
ج- القيادة الدينية
وهي شكل آخر من أشكال القيادة لكونها تترتب عليها علاقة الإمرة
1- ناصيف نصار، منطق السلطة، مصدر سابق، ص 153.
29
25
الفصل الأول: تجسدات القيادة
والطاعة بين القائد الديني والأتباع. وهم بوصفهم مؤمنين بدين أو مذهب ما من مذاهب الدين، عليهم الانقياد والانصياع وتقديم الطاعة للقائد الديني الذي يتصدى بوصفه عالماً بأحكام الدين وبعالم السماء والغيب، لتفسير وشرح وتبيين تلك الأحكام وما يتصل بها من بعض الغموض، ومن توضيح لدلالاتها المتعلقة بالطقوس الدينية ومراسم العبادات وأشكال تأديتها.
فشرط تلك العلاقة هي المعرفة والتعمق والفهم من قبل القائد الديني لأحكام الدين للقائد الديني، والتي تجعله متمايزاً عن غيره من رجال الدين وعن عامة المؤمنين فضلاً عن التقيد بأحكام الدين ومترتباته أكثر من غيره.
وقد يطرح القائد الديني نفسه بين الأتباع فتكرَّس قيادته لديهم بوصفهم عامة المتدينين أو يجري انتخابه من قبل نخبة من رجال الدين كمجمع الكرادلة بانتخابهم للبابا الذي هو رأس الكنيسة لدى المسيحيين، أو لجنة من الخبراء لدى بعض الطوائف الإسلامية، أو بواسطة التعيين الرسمي من قبل السلطة السياسية التي تنأى بنفسها عن احتكار السلطة الدينية بوصفها سلطة تتعلق بشؤون الآخرة دون شؤون الدنيا التي هي من متعلقات السلطة السياسية.
أما الشرط الآخر في تقديم الطاعة، فمرده إلى شعور المؤمنين تجاه هذه القيادة بتلبية رغبتهم العميقة والدفينة في الخلاص الأخروي بعد الموت أو نيل السعادة في دخول الجنة.
30
26
الفصل الأول: تجسدات القيادة
تبرز تعبيرات هذه الطاعة من خلال الانقياد والالتزام بإرشادات وتوجيهات وإفتاءات القائد الديني دون أن يترتب في الخروج عنها أي جزاء مادي أو دنيوي كما في القيادة الرسمية وإنما الجزاء هو جزاء أخروي يعود إلى إحساس المؤمن بالذنب وبعواقب الأمور في عالم الآخرة بحسب إتساع دائرة المخالفة والخروج عن جادة الصواب الديني، أو عن جادة الفهم الذي يقدمه القائد الديني بوصفه منتمياً لإحدى طوائف هذا الدين والتي تتمايز عن غيرها من الطوائف.
وكلما كان ثمة مشاكلة في الانتماء بين القائد والأتباع، كلما اشتدت علاقة الإمرة والسلطة وتوثقت، وكلما اتسعت دائرة الابتعاد عنها وهنت وضعفت.
31
27
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
الفصل الثاني:
القيادة ومحددات الإستنهاض
1- الرمزية الدينية للقيادة
أ- دور الرموز
تلعب الرموز بشكل عام دوراً في إحداث التعاضد والتضامن بين أفراد الجماعة وشد بعضها إلى بعض. ولكن قبل كل ذلك، ينبغي القول، أن ثمة طريقة أكثر بساطة في تعريف الرمز أنه "شيء ما يحل مكان شيء آخر ويستدعيه". إن تمثالاً معيناً يذكّر رمزياً بشخصية أو حدث أو فكرة، ويضمن لها بذلك وجوداً وفعلاً مستمرين. إن أي كلمة تحل رمزياً محل شيء، تثير ذكراه دون أن يكون الشيء المادي ضرورياً1.
وللرمزية أهمية بالغة في حياة المجتمعات البشرية سواء كانت تقليدية أم حديثة.
وتنبع أهمية الرمزية من وظيفتها في المشاركة والاتصال بين
1- غي روشيه، مدخل إلى علم الاجتماع، ج1، تعريب مصطفى دندشلي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1983، ص 107.
33
28
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
الجماعات ومن تأثيرها في الحياة الاجتماعية، ومن كونها تفيد بصورة أساسية في تجسيد الحقائق المجردة، العقلية أو الأخلاقية في المجتمع، وتجعلها مرئية وملموسة.
فالجماعات هي كيانات مجرّدة تحتاج إلى رموز لتذكيرها، إلى الأعضاء الذين هم جزء منها، أو لتمييزها عن الرموز الأخرى، أو لتثبيت وجودها بنظر الآخرين. هذه هي حالة الجماعات القومية أو الإثنية التي تتمثل لنا برموز متنوعة: علم، شعار الشرف والنسب، نشيد وطني، لون مميز، رجل دولة، رئيس الدولة، الملك، رئيس الجمهورية..، مؤسسة سياسية، التاج البريطاني، الأسد البريطاني، القندس الكندي الخ... إن هذه الرموز لا تساعد فقط على تقديم الجماعات وتمثيلها بصورة حسية، وإنما يمكن كذلك أن تستخدم من أجل أن تثير أو تنمي شعور الانتماء عند الأعضاء وتضامنهم. هذا ما يسعى إليه ويثيره مثلاً إنشاد النشيد الوطني من قبل حشد من الناس، أو جولة من جولات رئيس الدولة في الظروف المؤاتية، أو كاريكاتير مظهراً الشخصية النموذجية وهي تجابه مشاكل الجماعة أو رفع العلم أو القسم به، حتى أن احترامه يصل أحياناً إلى حد القداسة الأسطورية التي ينشأ عليها الشاب الأميركي ويكبر، وكيف يتعلم احترام الشارات والرموز التي تحيط به1.
الرمزية الدينية تلعب دوراً كبيراً في حياة الإنسان لما لها من أدوار
1- المصدر نفسه، ص 115.
34
29
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
تصل الإنسان بعالم السماء، وتحدد العلاقات التضامنية بين الأفراد، ولكونها تنطلق إلى رسم الغايات المفترضة في نظام العلاقات الاجتماعية وخصوصاً بين جماعة المؤمنين، والتي تظهر تعبيراتها في ميادين شتى كالاحتفالات والطقوس، واللباس، التي تطبع الانتماءات، وتبرز خلالها الحالة التضامنية بالمعنى الصوفي مع رجال الدين بوصفهم عناصر مكونة للرمزية الدينية.
ب- المكانة الدينية
بطبيعة الحال فإن مقاربة شخصية السيد حسن نصر الله، تعين على الفهم لما لشخصه وللدور والوظيفة التي يضطلع بها كرجل دين ولما للرأسمال الديني من دور في عملية الجذب وشد الأفراد إليه وتكريس موقعه القيادي.
مما لا شك فيه أن المكانة لا تحدد الدور فحسب، وإنما تحمل في طياتها سلطة رمزية هي سلطة الكلام التوجيهي والإرشادي فيما يتصل بحاجة الإنسان إلى الإرشاد في معرفة وتأدية فروضه الدينية، إذ يكفي أن يدلي رجل الدين بإفتاءاته حول بعض الأمور حتى يلجأ الفرد، - بحسب طبيعة ودرجة الالتزام الديني لديه - إلى تطبيق ما تناهى إلى سمعه ووعيه، تطبيقاً لا يحوجه بعد ذاك إلى الشعور بانتقاص في التزاماته الدينية على النحو الفردي.
فلكون الدين يشكل أحد أهم ركائز القيم في النموذج الثقافي في
35
30
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
المجتمعات العربية والإسلامية، يجعل لرجل الدين وظيفة رمزية في حياة الأفراد، الذين غالباً ما يظهرون له الود والاحترام، فضلاً عما يرسمون حوله من متخيل ذهني يتصل بشخصيته والتوقعات حولها على غرار دماثة الخلق، والتحلي بالإيمان والصبر والدعة، والزهد... الخ. وتزداد حالة الاحترام وإظهار الطاعة كلما تميز رجل الدين في علمه الديني وتبصره في عالم الاستنباط الفقهي، وفي عالم التفسير والتأويل للكتاب الديني وللتراث. غير أن ممارسة الدور انطلاقاً من المكانة لا يفترض جدلاً تحول رجل الدين إلى رجل قيادي على النحو الميداني، أو أن تسري علاقته القيادية على عموم المؤمنين بالدين، لاسيما اذا اقتصر دوره على النطاق الروحي دون الولوج إلى الاجتماع السياسي والتصدي لما يعصف به المجتمع من مشكلات، فضلاً عن جانب آخر يحدد المتحلقين حوله انطلاقاً من مساحة التشارك في حالة التمذهب الناشئة تاريخياً بين المسلمين والتي تحدد الأتباع بوصفهم منتمين إلى مذهب من المذاهب. فمساحة التشارك في الانتماء تشكل أحد العناصر الجاذبة بين الأفراد ورموزهم الدينية دون أن يعني ذلك بروز التنافر مع المختلف في إطار الدين الواحد.
لهذا السبب فإن المكانة الدينية للسيد نصر الله تفترض وفق هذه الحال أن تشتد وجهة التماهي معه كقائد كلما اتجه مسار ممارسة الدور القيادي من العام إلى الخاص.
ذلك أن الخاص محكوم دوماً بالتماهي المشترك بين القائد
36
31
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
والمحازبين لتمثلهم أهدافاً مشتركة ينزعون نحو تحقيقها، فضلاً عن الآلية التنظيمية التي تحدد قواعد الطاعة وإظهار الولاء. وبذلك تبرز حالة التماهي في مراتبها القصوى، ثم تميل نحو الانحدار النسبي كلما اتسعت دائرة امتداد الفعل القيادي، أي على مستوى الطائفة والوطن والأمة.
ففيما يتصل بالطائفة الشيعية، لناحية تموقع القيادة الدينية فيها، فثمة تراتبيات في المكانة تقتضي تمايزاً في الأدوار بما يتوافق مع المكانة، حيث يقف على رأسها المرجع الديني ثم يليه العلماء الآخرون. فالطاعة في موقع الإفتاء معقودة اللواء للمراجع الدينية، والسيد نصر الله لم يدع أنه بلغ مكانة المرجع الديني القادر على الاستنباط والإفتاء وإنما هو أحد وكلاء المرجع الديني آية الله العظمى السيد علي خامنئي، ما يعني أن المكانة والدور ستحددان تبعاً لحالة التموقع في المراتبية الدينية، وهي ليست على أي حال صنو مكانة ودور المرجع الديني لدى الطائفة، حتى ولو كانت مضاهية لها في مزايا عدّة يفترض بالمرجع التحلي بها، كالورع، والعدالة، وحسن السيرة...الخ. لكنها لا تضاهيها في غزارة العلم والقدرة على استنباط الفتوى والاجتهاد بأحكام الدين.
أما من الناحية التنظيمية، فخصوصية الطائفة الشيعية في لبنان محكومة في البناء التنظيمي بثنائية حزبية راهنة يشكل حزب الله أحد طرفيها، ما يعني أن التماهي في الانتماء والولاء من الناحية التنظيمية يفترض التواءم مع هذه الثنائية.
37
32
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
أما في النطاق الإسلامي العام، فالساحة الإسلامية مفتوحة على توزع مرجعيات فقهية، وتشكيلات حزبية إسلامية متنوعة، وهي تفترض بحسب هذه الحال تماهيات مع أطر قيادية تتنوع بحسب تنوع الانتماء سواء في نطاق التمذهب أو في نطاق الانتظام التشكلي لإحدى التنظيمات الإسلامية.
لذلك فإن السعي إلى فهم الدور القيادي العام الذي اضطلع به السيد نصر الله لا يحيل إلى المكانة الدينية، أو هو غير منوط بها وحدها، وإن كانت تشكل إحدى العوامل الهامة في هذا المضمار. ذلك أن هذه المكانة وإن كانت تنفتح على الاختلاف والتنوع، فإنها أيضاً تفتح على الاحترام بمعزل عن الطاعة التي سوف تبرز في مراتب متدرجة منحكمة إلى خصوصيات المسلمين في ممارسة التزاماتهم الدينية، وبحسب اتجاهاتهم الفقهية والتنظيمية. لذلك فإن عمومية الدور القيادي ليست نابعة من الموقع الفقهي أو التنظيمي للسيد نصر الله بل يتغذى هذا الدور من الدور الاجتماعي والسياسي غير المنفصل عن أطروحة الدين نفسه، والذي يستوجب التصدي للقضايا المطروحة التي يرزح تحت وطأتها العالم والشعوب الإسلامية على وجه الخصوص، والتي هي ليست محل خلاف بين المسلمين، بمعزل عن تصورات تحققها وآليات رفعها عن كاهل الأمة.
وعلى هذا النحو، فإن الدور القيادي للسيد نصر الله ليس مطروحاً على أنه يمثل زعامة دينية عامة، وإنما هي زعامة قيادية انطلقت من
38
33
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
الفهم الديني إلى الميدان العام في الأمة، وصقلها في إطار القضايا العامة للمسلمين. فهذا الدور القيادي، هو دور استنهاضي عام، لا يدعو إلى النهوض فحسب، وإنما يحدد الآليات ويرسم النموذج، وينير الطريق أمام تحققه وهو نموذج المقاومة من أجل تحرير الأرض واستعادة عزة وكرامة الأمة.
2- القيم ومحددات الاستنهاض
أ-المقاومة ومنظومة القيم
تلعب الرمزية الدينية للقائد والمرحلة التاريخية التي يبرز خلالها، دوراً في تحديد معالم الكاريزما وإبرازها إلى واجهة الأحداث. غير أنها تبقى قاصرة عن الإحاطة بها مع إسقاط عوامل أخرى تشكل رافداً أساسياً في تجسدات هذا الدور، وهي العوامل التي تتصل بطبيعة الفعل المقاوم نفسه في تفصله مع القيم والمعايير السائدة. ذلك أنه وبحسب ماكس فيبر، فإن الفكر البشري هو الذي يعطي معنى للظاهرة بفضل العلاقة بالقيم. كما أنه هو الذي يحدد في الوقت ذاته الأهمية المعطاة لبعض الظواهر، وانه عندما نعتبر أن نتائج الأحداث التاريخية هي نتائج مهمة يكون اعتبارنا على أساس العلاقة بقيمنا الثقافية1.
فالقيمة وفق بعض التعريفات، هي طريقة في الوجود أو في السلوك يعترف بها شخص أو جماعة مثالاً يحتذى، وتجعل هذه الطريقة من
1- د. علي سالم، منهجيات في علم الاجتماع المعاصر، ممصدر سابق، ص 112.
39
34
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
التصرفات أو من الأفراد الذين تنسب إليهم، أمراً مرغوباً فيه أو شأناً مقدراً خير تقدير1. إنها شيء يحظى بالتقدير والرغبة وهي تعبير عن الدوافع أو الحالة التي تشبه دافعاً.
سنسعى وفق هذه التعريفات إلى تبيان الأهمية المعطاة لظاهرة المقاربة كحدث تاريخي انطلاقاً من القيم السائدة على أن المقاومة بحد ذاتها تشكل تعبيراً شديد الإرتباط بفئات من القيم الدينية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية، والتي تجسد بنماذج من الشجاعة، وإغاثة الملهوف، والإخلاص والحرية والعدالة.
وهي نماذج ترتبط بالنزوع الإنساني العام كالحرية والعدالة وبعضها مرتبط بالطبيعة الاجتماعية المتوارثة لدى الشعوب العربية والإسلامية على غرار الشجاعة والنجدة والكرم.
وهي لتضمنها نماذج فعل تعود إلى فئات متنوعة من القيم تغدو أكثر أهمية مما لو تضمنت نموذج فعل يعود إلى فئة واحدة من فئات القيم، إذ ثمة تراتبية في القيم لدى الشعوب التي تسعى إلى تفضيل بعضها في أولويات ومراتب متدرجة من ناحية الأهمية. فبعضها من طبيعة روحية وبعضها الآخر من طبيعة اجتماعية أو مادية أو فكرية لكنها ليست على درجة واحدة من التراتب. فالقيم الجمالية إذا اصطدمت بالقيم الأخلاقية والدينية في بعض جوانبها تتقدم القيم الدينية والأخلاقية
1- غي روشيه، مدخل إلى علم الاجتماع، مصدر سابق، ص 88.
40
35
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
عليها، وكذلك الحال في القيم المادية في الكسب والمعاش والإنتاجية وغيرها.
وعلى هذا النحو، يغدو فعل المقاومة منطوياً أو متضمناً في نموذج يعود إلى أكثر من فئة من القيم المتواكبة في آن معاً، وبما لا يحوج إلى الاصطدام بمعايير تفاضلية بين الديني والأخلاقي والاجتماعي والإنساني، الأمر الذي يؤدي إلى اتساع وظائفها لدى الجماعات ولدى الأمة كوظيفتها في الإحساس بالانتماء، والتشارك في شدّ عرى الوشائجية التي تربط الأفراد بعضهم ببعض، وتوفير الشحنات والإنفعالات التي تجعلها ملهمة للأحكام ولإظهار الولاء والطاعة.
على هذه الحال، فالقيم كمرجعية للأحكام، وكمثال يحتذى وغايات قصوى يطمح إليها أصحابها، يصبح معها الفعل المقاوم معياراً وتجسيداً واقعياً للجانب المعنوي الذي تشكله القيم. فالمعايير هي تجسدات واقعية في حين أن القيم هي مرجعية معنوية. فإكرام الضيف، ومساعدة الضعيف، وإغاثة الملهوف هي تجسدات عملية لقيمة اجتماعية هي الكرم وليست هي الكرم بحد ذاته. ومن هنا تأتي النماذج التي تقدمها المقاومة على أنها فعل سلوكي في الشجاعة والصبر والتحمل ورفع الظلم ومساعدة المظلوم وفي الإقدام والجرأة، ونيل العزة والكرامة والحرية، يحاكي القيم ويتوازن معها، وبذلك تصبح المقاومة النموذج المحدد للسلوك الرمزي والمرجعي في مجاراته لمنظومة القيم في النظام الاجتماعي السائد.
41
36
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
كذلك يرتبط الفعل المقاوم في أحد جوانبه بمجاراته لقيمة إنسانية عالية هي قيمة الإيثار، وهي قيمة رغم ارتدائها الطابع الإنساني العام إلا إنها تحظى بخصوصية بارزة في المجتمعات العربية والإسلامية لارتباطها بالواقع الاجتماعي والتاريخي من جهة، وارتباطها بالدين من جهة أخرى. ولذلك فالإيثار يستند في هذه المجتمعات على أساس اجتماعي وديني.
ولتبيان هذه الخصوصية، نجد أن المجتمعات التقليدية وبمعزل عن الدين، مارست هذا النوع في محاكاة هذه القيمة. ففي مجتمعات الصيد البدائية، وكذلك المجتمعات الزراعية حيث الندرة في الرزق وأسباب العيش أدت إلى وجود الحالة التضامنية والتعاضدية بين الأفراد.
ففي هذه المجتمعات تسود، من ناحية القرابة، العائلة المركبة والموسعة وتجمعات القبيلة والقرى التي يعرف فيها الأفراد بعضهم بعضاً وتشتد فيها الأعراف والتقاليد بينما تضعف القوانين المكتوبة، وفيها يؤثر الفرد أفراد عائلته أو قبيلته أو أبناء القرية على نفسه في حالات العوز والشدّة وندرة الرزق. هي مجتمعات تكاملية وتضامنية حيث يعمل جميع الأبناء معاً ويعمل الفرد للجميع. ولكنها تقوم على الإيثار حين يعطي الفرد في بعض الأحيان أكثر مما يأخذ، إذ قد يتكافل أفراد أسرة ما في العمل الزراعي ولكن الإنتاج حين يكون غير وفير تمتد إليهم يد أخرى للمساعدة في إطار من التبادلية حيث يمكن أن تكون العائلة الموفورة الإنتاج في زمن ما، محتاجة إلى يد العون. فالتبادل هو احد
42
37
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
الأسباب التي تؤدي إلى رسوخ العرف والقيمة في تلك المجتمعات التي لم تسيطر بعد على الطبيعة. في المجتمعات الغربية الحديثة حيث تغدو مؤسسات الدولة كبديل تضامني عن الأفراد ليس ثمة حاجة إلى امتداح الفعل الذي يحاكي قيمة الإيثار.
لقد حلت الأسرة النواتية التي تقوم على الزوج والزوجة والأولاد أو بدونهما محل العائلة الموسعة، وغدا المجتمع أفراداً في مواجهة بعضهم بعضاً في التحصيل والكسب. في عالم الربح والمال، ثمة عقل عملي يتحكم بالأشياء، إذ ليس ثمة منطق في أن أعطي المال الذي أكسبه بالتعب لفرد عاجز لا يقوم هو بهذا العمل الذي ينبغي له أن يقوم به ولو لم يوفق إليه، أو حتى في أبسط الحال ثمة مؤسسات تقوم بدور رعائي للعاطلين عن العمل تمول من الضرائب المفروضة. وليس ثمة منطق في مساعدة الآباء لأبنائهم الذين يؤثرونهم على أنفسهم وهم أطفال، ولكن بعد بلوغ السن القانونية عليهم بتدبر أنفسهم. وليس على الأبناء مساعدة الآباء العاجزين طالما هناك مؤسسات رعائية تحتضنهم حتى مماتهم . وليس من العقل أن أكون مضيافاً أقدم نقودي في منزلي أو في المطعم أثناء دعوة لأصدقائي ومن جمعتني بهم الصدفة. لقد حل العقل وحساب الربح والخسارة والمنفعة في تفاصيل الحياة اليومية ما أدى إلى ضمور قيمة الإيثار من الناحية الموضوعية لكونها تخالف المنطق. مع ذلك، نجد أن الكثير من الأعمال التي تحاكي هذه القيمة، مقترنة بأصحاب الشهرة وعالم النجوم الكبار أثناء الإفصاح عن برامجهم
43
38
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
في مساعدة الأطفال المرضى، كمرض السيدا والسرطان وغيرهما بعدما تعب هؤلاء في الجني والربح وعالم الشهرة، إذ ليس من نشاط يحوجهم إلى الشعور بإنسانيتهم أكثر من ذلك التعاطف الإنساني مع العاجزين والمعوزين وذوي الحاجات الخاصة. وهو عالم منفصل عن القيم الدينية المسيحية في المحبة والإيثار والتي غدت أسيرة أقوال الرهبان والقديسين في كنائسهم وأعمال القديسة تريزا في حسّها الإنساني الرائع.
أما في المجتمعات العربية والإسلامية، فإن قيمة الإيثار ما تزال تختزن معاني محمَّلة بالكثير من موارد القبول والاستحسان، لكونها قيمة متناسلة في تاريخ هذه المجتمعات وواقعها المعاش غير المنفصل عن ماضيها. ذلك أن المضي في مشروعها الحداثي لا يقوم على أساس القطيعة مع الماضي كما في البلدان الأوروبية. فالبنية الاجتماعية العربية والإسلامية ما تزال تحافظ على تماسك نموذجها القائم على القرابة وعلى الوظيفة الوشائجية والتضامنية للعائلة الموسعة. كما أن هذه المجتمعات وإن دخلت مرحلة التصنيع، ولكنها لم تستطع تحويل الأفراد إلى ذوات فردية منفصلة. فالعائلة ما زالت تشكل وحدة اجتماعية اقتصادية، كما تتصل اتصالاً وثيقاً بالمؤسسة الدينية وبالقيم الدينية1، ومنها التي تحث على الإيثار بين ذوي القربي والأرحام
1- حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1998، ص 219.
44
39
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
في مد يد العون والمساعدة ولو على حساب الذات، بل والاهتمام بالجماعة وبأمور المسلمين والمستضعفين. وهي تعاليم تضطلع بأدوار شتى بينها توطيد عرى اللحمة والوشائجية لدى الجماعة، والدعوة نحو التسامي بالفرد نحو الكمال الإنساني الذي يتجرد عن الذات فضلاً عن ارتباطها بالعود والنفع الأخروي.
وبذلك يحمل الفعل المقاوم بعداً قيمياً يتجسد بقيمة الإيثار حيث لا يعود هذا الفعل على من يقوم بالعمل نفسه، وإنما يعود بالفائدة على الجماعة لبنانية كانت أو فلسطينية أو عموم المسلمين، لكون معضلة الصراع مع إسرائيل تبقى إشكالية مطروحة على الوعي الإسلامي ينبغي العمل لرفعها ومعالجتها. ولما كان من غير المتيسر لجميع المسلمين الانضواء في العمل المقاوم بسبب الظروف الموضوعية المحيطة بالفرد، كان من الطبيعي أن يختزن هذا العمل بعداً عميقاً في محاكاة قيمة الإيثار ليس في مجال تحمل الجهد والعناء والمصاعب الذي يستوجبها، والذي يخرج عن التضحية بهذا الجهد والعناء إلى حد التضحية بالمال والنفس وهو ما لا يتحمله عموم الأفراد، إذ لا يمكن بحسب المصلحة الشخصية، وبحسب عامل الخوف والإحساس بالضعف، ونزعة الخلود الفطرية أن يقدم الفرد على التضحية بنفسه من أجل الجماعة أو الأمة التي ينتمي إليها.
فالاستشهاد والتضحية عمل ممدوح لا بحسب ما يحمله لدى أفراد الأمة من قيم دينية وحسب، وإنما الفرادة والتميز اللذين يجب التحلي
45
40
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
بهما للاقدام على هذا العمل، سيما أن المقاوم ليس جندياً في مؤسسة عسكرية لكي يدفع نحو القتال على النحو الإكراهي، وإلا فسوف يخضع للمساءلة القانونية والجزائية.
مع ذلك، فإن الجندي حين يقدم نفسه في المعركة يحاط بالكثير من إسقاط عوامل الاحترام المتمثلة بالطقوس الرمزية لرفاقه في السلاح، من معزوفة نشيد الموت، إلى المقابر الخاصة التي تخلد ذكرى الشهداء بوصفهم أبطالاً آثروا شعبهم وأمتهم على أنفسهم، فكيف الحال حين يكون الفعل المقاوم عملاً يرتكز على الاختيار والمبادرة الفردية للانسان الفرد نفسه؟
فالشجاعة والإيثار والتضحية تنتمي إلى فئة القيم السائدة في المجتمع العربي والإسلامي، وهي مستمدة من تواصلها مع الجانب التاريخي لهذه المجتمعات في تحولها من مجتمع القبيلة إلى الدولة في العصور الإسلامية، ومن جملة التحديات التي واجهتها فيما بعد إزاء عهود الاستعمار ومقاومة المشروع الصهيوني. وهي لا تزال قيمة سائدة إزاء استمرار التحدي الصهيوني للاجتماع الأهلي والمدني بمقابل بدائل أخرى تقوم على أساس المفاوضة لاسترجاع الحقوق وهي مطروحة اليوم من قبل القادة العرب.
أما الفعل المقاوم، فهو يشكل أحد النماذج السلوكية المعيارية لكونه فعلاً يحاكي هذه القيمة ويرمز إليها، وهو يشكل في أحد أبعاده فعلاً يقوم على القوة، ولكن دون أن تكون القوة وحدها تمثل الشجاعة بعينها.
46
41
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
فقد تستخدم أسباب القوة في عصر التصنيع والتكنولوجيا وتستخدم على أنها فعل يقوم على القوة دون الحاجة إلى عامل الشجاعة. ففي عالم استخدام السيف والمبارزة، أو المواجهة الحالية في الحروب حيث يشتبك فيها الجنود، فإن الشجاعة تبقى مطلوبة على أية حال، حيث تقترن الشجاعة بالقوة وترفدها.
في حين أن الشجاعة تفتقد إلى القيمة المطلوبة لدى الجندي الذي يقود دبابة أو طائرة مزودة بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا الحديثة، فهو لا يتعامل مع أفراد وجهاً لوجه بقدر ما يتعامل مع أهداف ليس بينه وبينها حالة تفاعلية يمكن أن تُختبر فيها قدرته على الصمود في الميدان، إذ يكفي أن يدخل الهدف دائرة التحديد المبرمجة حتى يصبح الهدف في عداد لائحة الإلغاء الوجودي بعدما يقضي عليه صاروخ نازل من أعالي السماء أو قادم من أقاصي الأرض.
وهكذا نجد أنه كلما ازداد تطور التكنولوجيا الرقمية، كلما مالت قيمة الشجاعة نحو التضاؤل، وتضاءل معها الإحساس الإنساني بالخوف والحذر اللذين يتسوجبان استحضار الصبر والعزم والإقدام للثبات في المعركة، قبل وقوعها وأثناءها وبعدها.
في حين أن قيمة الشجاعة جراء التصدي للمشروع الصهيوني تبقى مطلوبة في ظل غياب التوازن التكنولوجي.
ولذلك تنظر هذه الشعوب إلى العمل المقاوم في لبنان على أنه نموذج سلوكي يحاكي قيمة الشجاعة.
47
42
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
فهو يقوم على استخدام القوة ولكنه لا بد له من الاقتران بالشجاعة، لكونه يقوم أساساً على الاشتباك مع العدو في مواقعه الحصينة والمجهزة بوسائل الرصد والإنذار والعتاد، في اندفاعة يقوم بها المقاومون نحو هذه المواقع حيث تتداخل فيها كل المؤثرات التي يمكن أن تنال من المشاعر الانفعالية للانسان كأصوات القذائف، وألسنة اللهب وغبار المعركة وأنين الجرحى، ومشاهد القتل، خلافاً لقائدة الطائرة الحربية غير المتصل بشكل مباشر بالهدف إلا فيما يراه على الشاشة المحددة لأهدافه أمامه.
فالميدان إذاً هو ميدان صبر وأناة وإقدام, وهو يستوجب بلا شك، رجالات يحملون هذه المواصفات. وهو ما يجعلهم ذوي خصوصية يُنظر إليها على أنها محل احترام وتقدير. ذلك أنه ليس بمستطاع كل إنسان التحلي بمثلها، إذ شتان ما بين قيمة الشجاعة ذات الفعل الذي يحاكي هذه القيمة وبين الشجاعة نفسها. فكم من الأفراد ينظرون إلى الرجل الكريم والمعطاء نظرة تقدير واحترام ولكنهم لا يقومون بالفعل نفسه، علماً أن الكرم هو قيمة اجتماعية مطلوبة، وقد يتعارض الأمر مع مصلحتهم في الإنفاق أو في عدم امتلاك المال أصلاً أو بسبب ظروف موضوعية تحول دون هذا الأمر مع ذلك يبقى فعل الكرم ممدوحاً من قبل الكثيرين. كذلك الأمر في الفعل المقاوم. قد يتعارض الموقف مع مصلحة الفرد في عدم تعريض حياته للخطر والأذية، أو ثمة ظروف موضوعية تحول دون مشاركته في هذا الفعل، كتعرضه للمنع أو الملاحقة
48
43
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
من قبل نظامه أو أنه في الأصل لا يحترف عمل القوة جرّاء نقص في التدريب مع أنه يمتلك القابلية للعمل الشجاع.
على هذا النحو يبقى الفعل المقاوم عملاً معيارياً لقيمة الإيثار والشجاعة والتضحية وهي منظومة قيم لا تزال تنظر إليها الشعوب العربية الإسلامية نظرة قيمية انطلاقاً من تاريخها وواقعها.
ووفق هذه التحديدات يبرز الدور القيادي الكاريزمي للسيد نصر الله بوصفه قائداً لحركة تختزن وتحاكي هذه المنظومة من القيم والمعايير لدى الأمة جاعلة منه مثالاً يحتذى في تقديم الطاعة والاحترام.
على أنه ينبغي التنبه للمراتبية بين الطاعة والاحترام في العلاقة الجدلية بين القائد الكاريزمي والأتباع أو المناصرين، على أنها ليست على درجة من التساوي الذي يجعل التماهي مع القائد على درجة واحدة، ولكن من دون أن يفقد رمزيته الكارزمية، ذلك أن تصرف الفرد في النظام الاجتماعي يخضع للنموذج الثقافي السائد الذي يكفل الانسجام والتكافل والتوازن .
القيم هي أحد عناصر النموذج الثقافي، غير أن هذه القيم لا تمارس دوراً قسرياً على الأفراد، بل إن شخصية وسلوك الأفراد تخضع لعناصر التجاذب والتناقض بين دور الفرد ومصلحته، وتناقض المصلحة مع القيم، لا سيما وأن الفرد محكوم بحرية التصرف وتوافق التصرف مع الأهداف وهو ما يعمد إليه تالكوت بارسونز في فهم المجتمع الرأسمالي الغربي1.
1- د. علي سالم، منهجيات في علم الاجتماع المعاصر، مصدر سابق، ص 206.
49
44
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
قد يصح هذا الوصف الذي يسعى إليه بارسونز على المجتمع الغربي باعتبار أن القيم لا تلعب دوراً جبرياً في توجيه السلوك في تعارضها مع مصلحة الأفراد، خصوصاً في المجتمع الرأسمالي الصناعي الاستهلاكي، حيث النزوع نحو الكسب والربح والشهرة والنفوذ عندما يقف الفرد بمواجهة أفراد آخرين داخل المجتمع الواحد. ولكن في القضية المطروحة على بساط المقاربة هي تجلي دور القيم والمعايير في إطار المصلحة الجماعية وليست الفردية. فالحق والعدل قيمتان مطلوبتان على النحو الفردي والجماعي والنموذج السلوكي في الفعل المقاوم يتجلى بجانبه الجماعي حيث لا يطرح النموذج السلوكي في محاكاتهما في إطار المغالبة الفردية مع الحاكم وإنما بين أمة وأمة أخرى، أمة تؤمن بالوصول إلى مطلب الحق في استعادة الأرض. فمطلب الحق سابق على استعمال القوة الذي يغدو سلوكاً عادلاً في استعادة الحق ونموذجاً يتجلى في خطاب القائد الكاريزمي بعدما غاب عن سلوك القادة العرب ومن دون أن يفلح النموذج المستبدل في استعادة الحق على أساس الاستسلام في استبدال المعايير في النظر إلى المصلحة الجماعية للأمة.
لكن ثمة إشكالية تدور حول جدلية العلاقة بين القائد والأفراد والأمة، على أنه إذا كان المقاومون في دورهم المتماهي مع القائد هم الذين يقدمون النماذج السلوكية التي تحاكي القيم، فلماذا تقدّم حالة الاحترام على أنها متمايزة بين القائد والمقاومين، ذلك أن الفعل المقاوم لهؤلاء
50
45
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
يحظى بكل التقدير والاحترام وينسحب عليهم كأفراد ولكن لم يصبح هؤلاء على نفس الدرجة من الكاريزما بنظر أفراد الأمة؟
وقد يفهم هذا الأمر في حال التماهي بين القائد وأتباعه الإيديولوجيين أو المحازبين أو من يشاركونه في الانتماء والأهداف بشكلٍ مباشر، ويجمعهم معه تاريخ مشترك من العمل الدؤوب والجهد المرير في سبيل تحقيق الأهداف، وكونه يشكل رأس الهرم التنظيمي الذي يفترض تقديم الولاء والطاعة، فضلاًَ عن دوره في رسم الآليات السلوكية المحاكية للقيم وخاصة قيم الجماعة المتشاركة معه في بيئة ثقافية خاصة، إلى جانب أسباب أخرى سوف تكشف عنها المقاربة في سطور لاحقة.
أما التماهي العام الذي يبرز لدى أفراد الأمة للقائد نفسه أي السيد حسن نصر الله، فقد يدور الاعتقاد بأن البيئة الثقافية في العالم العربي الإسلامي التي تميل بطبعها نحو إظهار الاحترام للقائد البطل أو الرجل التاريخي ولكونها بيئة بطركية تظهر فيها السلطة الأبوية المنحكمة إلى قيمها الخاصة في تقديم الطاعة الوالدية، فهو الراعي وهو المخلص والمستبد الذي يعرف مصلحة أبنائه أكثر مما يعرفون هم مصلحتهم، ولكن الأمر يغدو غير ذلك حين الولوج إلى التجربة الذاتية للسيد نصر الله والتي تحمل أبعاداً متشاكلة ومتمايزة في آن معاً.
فحالة التشاكل هي في حالة التماهي بين الدور القيادي والدور المقاوم نفسه الذي يجسد سلوكات ونماذج عملية في محاكاة القيم
51
46
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
والتي تتجسد عملياً في ميادين شتى من كونه تدرَّج في العمل الجهادي قبل وصوله إلى سدّة القيادة، وهي من الموجبات الخاصة بعمل المقاومة الإسلامية في لبنان، وهو ليس موضع شك لدى المنضوين في المقاومة، وقد أتاحت الميديا الإعلامية تقديمه العفوي على شاشة تلفزيون المنار في أحد الخطوط القتالية مرتدياً زيه العسكري وحاملاً بندقيته ويبدو على ملامحه العمل المضني كسائر أقرانه دون أن تغادره ابتسامة تفصح عن حالة الارتياح لوجوده بين المقاومين. وقد استمر هذا التجسيد بعد تبوئه سدّة القيادة ولكن بما ينسجم مع الدور الذي يقتضيه الموقع القيادي من مشاركة في التخطيط ورسم الاستراتيجيات والتوجيه والإشراف، ولكن من دون أن يلغي الاستمرار في تجسيد الفعل المقاوم. وقد برز هذا النموذج السلوكي عبر أثير الفضائيات إبان عدوان تموز 2006 في المتابعة الميدانية للعمليات الدائرة على خطوط القتال وبينها أمر العملية القتالية التي استهدفت بارجة إسرائيلية عملاقة في عرض البحر، وكذلك في بروزه في احتفال النصر في شهر أيلول معلناً تحدي العدو الإسرائيلي الذي دأب على إعلان استهدافه بعدما اعتلى المنصة وسط هدير الطائرات الحربية التي لم تغادر سماء الضاحية الجنوبية آنذاك.
ورغم أن من مقتضيات فعل المقاومة والقيادة على وجه الخصوص التزام جانب الحذر وعدم تقديم الفرد أو القائد لقمة سائغة للعدو ما يمكنه من إحراز النصر، فقد أتاح بروز القائد أمام الأمة على الأثير
52
47
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
وهو يعلن استعداده للاستشهاد على أنه صنو المقاومين في دورهم الاستشهادي، وقائد لا يقيم في قصره مخلداً إلى الدعة والراحة وعلى غرار رؤساء الأمم.
ب- الذاكرة الجمعية
الذاكرة الجمعية هي عامل من عوامل الانشداد نحو القيادة، وبالتالي نحو الفعل المقاوم. أهمية الذاكرة الجمعية أنها تختزن الكثير من ذكريات الماضي ووقائع التاريخ في حياة الشعوب، ولكنها ليست أحداثاً جامدة كمدونات التاريخ وإنما تبقى حية في الوجدان والعقل، يستدعيانها في المهمات وفي الأحداث المفصلية للاستضاءة بها والاسترشاد بهديها فضلاً عن كونها إحدى أساسيات التضامن واللحمة والوشائجية بين الجماعات أو الشعوب كما تزخر به أحداثها ورموزها وشخصياتها من معانٍ مثقلة بالكثير من الانجازات والدلالات التي تعبر عن القدرة على معالجة إشكالات الواقع من رجالات رسمت حولها هالة كبيرة من القداسة والشرف والرفعة والحكمة من قبل المؤمنين بها.
غير أن عملية الاستحضار من الذاكرة الجمعية ليست على درجة واحدة حيث تتراوح بين الضعف والشدة. فتارة يقتصر هذا الاستحضار على الإحساس بالشعور النفسي الذي يمنح الطمأنينة حين العودة إليها تحت وطأة الأحداث المثقلة بإرباكات الواقع، بعدما يسود التذمر والضجر وانعدام أفق الحلول الممكنة. والقضية الصراعية أدت بلا
53
48
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
شك إلى حال التذمر لدى الشعوب العربية والإسلامية ثم لينفتح هذا الاستحضار على عقد المقارنات بين مثالية الماضي وإشكالات الحاضر وتصورات المستقبل. وقد تلجأ بعض الجماعات إلى عقد لواء من المصالحة بين الذاكرة الجمعية والحاضر عن طريق عقلنة الواقع بإسناده إلى مجموعة من التبريرات التي تبيح القبض على زمام الأمور في إطار الظروف والشروط الموضوعية، دون إلغاء هذه الذاكرة وإنما تستبقيها أسيرة وجودها التاريخي. وتلك هي حال النظم السياسية التي تعيش حال الانكفاء والضعف والخضوع وحال انعدام التوازن. تلك الحالة ليست سهلة المنال إنما تحتاج إلى الكثير من الجهد والإقناع واستخدام أجهزة السلطة في إحداث ونقل تبريرات الواقع إلى الوعي الجماعي دون المساس بالذاكرة الجمعية للشعوب، بل يجري التمسك والاعتداد بها وتأكيد الانتماء إليها، طالما بقيت ترزح في دائرة التاريخ لانتفاء الظروف الموضوعية التي تعين على استحضارها إلى عالم الواقع، أو يجري الأمر من خلال إخضاعها لمجموعة من التأويلات وجعلها منفتحة على تعدد الأفهام والرؤى حولها لناحية حملها على الواقع.
في حين أن إحدى درجات هذا الاستحضار تبلغ درجة من الشدّة في تأكيد الذاكرة الجمعية، فيجري استدعاؤها لإعادة إنتاجها في الواقع بكل ما يضج به من تفاصيل تتدرج في الأمور اليومية والحياة الدنيوية والأخروية للجماعات لتصل إلى قمة الهرم السياسي وتلك هي حال الجماعات الإسلامية التي باتت تسمى بالحركات الأصولية.
54
49
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
على هذا النحو تقدم الشعوب العربية والإسلامية في تشكيلاتها الأهلية وانتماءاتها الحزبية ومؤسساتها ونظمها السياسية، الكثير من الأمثلة لناحية تموضع الذاكرة الجمعية جراء ما تعصف به هذه المجتمعات من حالات الفقر والسيطرة والضعف والنزوع نحو التنمية والمشاركة. ولعل مشكلة الصراع مع الكيان الصهيوني هي أحد أهم عوامل هذا الاستحضار لانفتاحها على مختلف المكونات الشعبية.
ذلك أن مخزون الذاكرة الجمعية يستند إلى الكثير من العناصر المتوالفة والمتراكمة على مدى أجيال، فهي ذاكرة تختزن الكثير من القدرة على الحضور حيث لا تمتد إلى أحداث جرت في قرون خلت، وإنما تشكلت من ماضٍ قريب متصل بالحاضر، ولأنها حين تشكلت حملت معها الكثير من الإخفاقات المشفوعة بالمآسي والحزن، والإحساس بالهزيمة وبالقليل من النجاحات المحدودة في بعض مفاصل الصراع، ولكنها بقيت تنتظر الانجاز التاريخي الكامل وهو ما قامت به المقاومة في لبنان.
ج- الفعل المقاوم بين المبادرة والمغامرة:
المبادرة هي إحدى السمات الهامة التي لا بد للقيادة من التحلي بها لاقترانها بالتحفز والإقدام لتحقيق الغايات، وبدونها يتحول القادة إلى قادة رأي ومنظرين أو فلاسفة ينشدون فهم علل الوجود في بداهتها وعمقها ومن دون أن ينقض ذلك دورهم التغييري. فمثالاً لا حصراً لعب
55
50
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
مفكرو عصر الأنوار في القرن التاسع عشر دوراً في إحداث التغيير الذي شهدته القارة الأوروبية بعدما سرت أفكارهم حول الحرية والعدالة والمساواة وعلى امتداد عقود من الزمن، ووجدت لها مكاناً دافئاً في عقول المستنيرين الطامحين إلى استبدال الواقع المتردي بفعل سيادة السلطات المطلقة، وانعدام الأمن والحرية والعدالة. إن مبادرة هؤلاء المفكرين تجلت عندما انبروا إلى إعمال الفكر والنظر من اجل العبور من الواقع المتردي إلى واقع أفضل من خلال بلورة ممكنات التغيير.
وقد لا يحتاج التغيير إلى فلاسفة ومنظرين، وإنما إلى مبادرين من نوع آخر ممن تشكلت لديهم قناعات تغييرية زاوجت بينها وبين الفعل التغييري على غرار ارنستو تشي غيفارا وفيدل كاسترو وأحمد بن بلا وغيرهم من القادة التاريخيين الذين أفرد التاريخ لهم صفحات بيضاء خلدت أدوارهم وجعلت منهم مثالاً يحتذى لدى شعوبهم.
وفي المرحلة الراهنة المتصلة بالصراع مع إسرائيل يتجلى الدور القيادي للسيد حسن نصر الله باستناده إلى خيار المقاومة داعياً إلى توسلها في حسم مسألة الصراع الذي مضى عليه عقود من الزمن فيما المشروع الصهيوني يتقدم على ما عداه من مشاريع لحل هذه المعضلة.
فالدعوة إلى المقاومة هي بحد ذاتها مبادرة، جعلت من أصحابها دعاة تغييريين وقادة تتحلق حولهم الجماهير.
إنّ المبادرة تكون شديدة الحاجة والإلحاح حين يسود حال من
56
51
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
المأساوية والضياع، وحين انعدام أفق الحلول، وتجمد الوعي التغييري، أو بفعل وجود الوعي التغييري كاستعداد كامن في النفوس ولكن من دون خروجه إلى حيز الواقع بفعل القهر والتسلط الداخلي والخارجي على الشعوب.
وقد يصح هذا الوصف في محايثته وتزامنه مع الواقع الذي يبرز فيه الدور القيادي المقاوم للسيد نصر الله إن لناحية الإخفاقات في حروب الأنظمة العربية في صراعها مع إسرائيل أو لناحية الانحدارات في القضية الصراعية التي مالت منذ كامب ديفيد، ثم مؤتمرات التسوية المزعومة منذ مدريد وأوسلو، إلى تنحية مسألة الصراع والاستعاضة عنها بمفاوضات السلام، فضلاً عن ضغط الأنظمة العربية على شعوبها المتحفزة نحو استعادة الأرض والحقوق المشروعة بالارتكاز على خيار المقاومة، بمقابل مبررات تستند إليها تلك الأنظمة قوامها الظروف الموضوعية وانعدام حال التوازن مع القوة الأسطورية لإسرائيل ومساندة الغرب لها وبأن الأمور بخواتيمها طالما أن تلك الخواتيم هي استعادة الأرض.
وعلى هذا النحو، تصبح المبادرة في الفعل المقاوم مغامرة غير محسوبة النتائج بنظر الحكام لأن منطلقاتها تتجافى مع منطق العقل ومقتضياته في تعيين الآليات والوسائل للوصول إلى الأهداف.
ورغم أن دحض فكرة المبادرة برزت أولى ملامحه مع كامب ديفيد بمشاريع التسوية في مدريد ووادي عربة، إلا أن أصبحت بعد ذاك
57
52
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
مغامرة في إطار الرد على الفعل الإجرائي للمقاومة في لبنان بخطف جنديين إسرائيليين من أجل مبادلتهما بأسرى لبنانيين في السجون الإسرائيلية، ولذلك دعت السيد نصر الله إلى تحمل النتائج.
ترى إذا كانت المبادرة مغامرة تقف بمواجهة عقلنة القرار السياسي وتوظيف العقل العملي والمعياري في قضية تدخل في إطار شبكة من القضايا المعقدة في الصراع مع إسرائيل، فلماذا حظي الفعل المقاوم في أحد حلقاته المتصلة بحرب تموز 2006 بهذا التأييد من الشعوب العربية والإسلامية دون بعض حكامها؟ تكمن الإجابة في أن هذا التأييد والالتفاف لا يحيل إلى حب المغامرة غير محسوبة النتائج لهذه الشعوب، بقدر ما يحيل إلى انفتاحها على الأبعاد الوظيفية للعقل في جوانبه النظرية والعملية في آن معاً. ذلك أن وظيفة العقل النظري التطلع الدائم نحو الحقيقة التي تحيط بعالم الإنسان وبينها حقيقة الوجود الصهيوني المعادي، فيما ترتبط الجوانب العملية بالآليات والوسائل التي منها الفعل المقاوم الذي يقف على دفتي الترجيح بين المبادرة أو الاستسلام.
وأما من ناحية قيادة المقاومة، فإن الخطاب الموازي للفعل المقاوم لم يخل يوماً من تقديم مبررات للعقل الجمعي على أن المقاومة لا تعني المغامرة وإنما تقترن بالعقل حيث نجد عناصر هذا الخطاب تقدم بإزاء أعمال العدوان اليومي لإسرائيل وأمريكا في فلسطين والعراق تجربة نجاح المقاومة في تحرير الأرض في جنوب لبنان، وعناصر أخرى تتصل
58
53
الفصل الثاني: القيادة ومحددات الإستنهاض
بالتخطيط في إدارة المعركة، وبأن المقاومة تمتلك كل أسباب القوة من سلاح ردعي وبنية قتالية متماسكة وهي عناصر تحمل قدراً كبيراً من الأهمية لتسويغ المبادرة. وحتى ولو كانت النتائج متواضعة بنظر بعضهم، فإن المقاومة تكون متصلة بحلقات أخرى في البناء الاستراتيجي لخوض المعركة المصيرية التي تستوجب المبادرات العربية والإسلامية بعد أن تكون المقاومة قدمت النموذج في هذا الميدان.
قد يصح هذا الفهم في اعتباره أحد عناصر التأييد والتفاف الشعوب والحكام لارتباط العقل التبريري بمصالح دوام السلطة فضلاً عن تعوده على مصادرة وظيفة العقل الجمعي لهذه الشعوب بحصره بالحاكم في عقله الأبوي الذي لا يكف عن اعتبار الأفراد أطفالاً ومراهقين قاصرين عن مصالحهم الخاصة فكيف بمصالح الشعوب؟ ومن هنا كانت ممارسة دوره الأبوي على أن المبادرين في الفعل المقاوم ليسوا سوى مغامرين لا يستوجب الأمر عودتهم إلى أحضان الأبوة على غرار الأطفال وحسب وإنما يجب أن يتحملوا تبعات أعمالهم عندما يضيق الأب ذرعاً بممارسة أبوته ليست في السلطة وإنما في مصادرة العقل حتى ولو كان هذا العقل عمومياً بالفطرة ويتوزع على عموم بني البشر.
59
54
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
الفصل الثالث:
القيادة والخطاب المقاوم
1- مفهوم الخطاب
قبل البدء في عملية المقاربة ولفهم طبيعة الخطاب في الفعل المقاوم لا بد لنا من تحديد مفهوم الخطاب السياسي واستعمالاته دفعاً للالتباسات التي يمكن أن تحصل بسبب الاستعمالات المتعددة لهذا المفهوم.
يعدُّ الخطاب السياسي، من الناحية العمومية، منظومة فكرية تحوي الكثير من المفاهيم والدلالات النظرية التي تعين الفرد على خبرة أحد جوانب الواقع الاجتماعي، وتسعى إلى تقديم مجموعة من التصورات حول هذا الواقع أو إشكالاته المتباينة التي تم إنتاجها في إحدى الفترات التاريخية. إن تناولنا لمفهوم الخطاب السياسي لا يعني أننا سوف ننطلق من هذا المفهوم الذي أوردنا، ذلك أن مفهوم الخطاب باعتباره مصطلحاً شاملاً يحتوي على مجموعة من العناصر التي تعين على فهم مجموعة من الأشكال والإدراكات النظرية، قد لا نجده متطابقاً مع ما نسعى إليه في المقاربة.
61
55
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
ومن هنا سوف تتم مقاربة هذا الخطاب من زوايا ثلاث هي الهوية التي تجعلنا نقف على الفروقات الأساسية المطروحة على الوعي الإيديولوجي وتبيان موقع الخطاب المقاوم منها، ثم حقل السلطة التي يدور حولها هذا الخطاب، وصولاً إلى وظيفته في التواصل الداخلي والخارجي وهي وظيفة أساسية تلعب دوراً هاماً في بلورة هذا الانتماء وتعضيد اللحمة من أجل الوصول إلى السلطة.
إن اختيار هذه الزوايا الثلاث في الخطاب تجد لها تبريراً لدينا لكونها تشكل معاً العوامل التي يدور حولها التمحور والانقسام في الوعي الأيديولوجي في العالم العربي والإسلامي. وهي بحد ذاتها إشكالية مطروحة على الخطاب المقاوم عما إذا كان خطاباً يضيف عاملاً جديداً إلى عوامل الانقسام في الوعي الأيديولوجي، لكونه خطاباً يحمل منطلقات إسلامية، ومفتوحاً على تعدد الفهم بتعدد الحركات الإسلامية وتنوعها، ويقف بمواجهة خطاب يوصف بأنه خطاب علماني ارتكز عليه الكثير من الحركات والأحزاب القومية والاشتراكية التي سادت في العالم العربي والإسلامي منذ عهود الاستعمار إلى يومنا هذا. غير أن هذا الخطاب تميز بكونه استطاع القفز فوق عوامل الانقسام، لتأسسه على عوامل استنهاضية تتأطر خلالها كل نتاجات الوعي بمختلف تنوعاتها.
مع ذلك ينطلق السؤال حول كيفية تمفصله مع الهوية والانتماء والسلطة، ووظيفته في التواصل لتبيان دلالاته الاستنهاضية. إن الإجابة عما أوردنا يمكن الولوج إليها من خلال الاستناد إلى مجمل الخطاب
62
56
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
المقاوم باعتباره خطاباً مكتوباً وشفهياً ويمتد في مراحل تعود إلى بدايات نشأة الفعل المقاوم. ولكننا نهدف إلى مقاربة الخطاب الشفهي المسنود إلى الزعيم نفسه، لتبيان ما يحمله من دلالات وتصورات وما يرسمه من آليات وتحديدات منهجية للوصول إلى الأهداف، فضلاً عن الوظيفة الاستقطابية لهذا الخطاب باعتباره أداة تواصلية تتحرك في دائرة الخاص والعام، ولكن قبل ذلك علينا تبيان فعل الكلام حين يكون سلطة ناشئة عن الكلام نفسه قبل أي شيء آخر.
في مجتمعات الديمقراطيات الحديثة يبقى كلام الزعيم مقروناً بالسلطة. ولكن حق الكلام الذي يمارسه الزعيم ليس فعلاً طقوسياً، يمارسه بإزاء الجماعة التي تظهر القبول التام لمعنى الكلام. هي تنصاع نحو القبول لاقترانه بالسلطة. ولكن على الزعيم أن يمارس مهمة الإقناع قبل كل شيء. قد لا يكون زعيماً متفوَّهاً، أو خطيباً متمكناً ولكنه يمتلك القدرة على الإقناع، في تنفيذ الوعود، والارتقاء بحال الجماعة، وإلا فللجماعة حق نعته بالكذب والزيف والخداع.
إن التبرير والإقناع يشكل جانباً من كلام الزعيم لكي يكون مقبولاً، هو كلام مقرون بقدرته على أن يكون كلاماً سلطوياً، لكونه يترتب عليه فعل إجرائي مشفع بالتنفيذ والاستجابة حتى ولو لم يحظ بالقبول.
مع أن مقتضيات السلطة تعطي للزعيم حق الكلام. ولكنه ليس حقاً حصرياً، فللقادة الخصوم حق في الكلام غير أن الفارق بينهما هو في حجم السلطة وعموميتها المترتبة على الكلام. فحق الكلام لغير
63
57
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
الزعيم هو كلام الرقابة والدحض، وهو كلام التبرير والإقناع من ناحية أخرى.
إنه كلام يستند إلى الحق ولكنه يغدو واجباً على الزعيم حيث يجب أن يكون مقنعاً. إن الكثير من مشاهد التلفزة في بعض دول الغرب تبرز الزعيم حين يعرض برنامجه الانتخابي أو أداءه بعد تبوئه سدة السلطة مقابل زعيم آخر منافس أو معارض له يتبادلان الدحض والإقناع لكليهما في آن معاً، وعلى الجمهور أن يكون الحكم على الكلام، مع أن الفارق بينهما أن الأول يستند إلى كلام مشفوع بالسلطة، في حين أن الآخر يدلي بالكلام إيذاناً بالوصول إلى السلطة حتى يتحول بعد كلامه إلى سلطة الكلام.
إن عملية الإقناع لا ترتكز على مضمون الكلام وحسب، وإنما يجب اقتران الاقناع بمزايا شكلية تسهم في عملية الإقناع، وهي ظهور الزعيم مظهر الواثق من نفسه لما سيقول أمام الجمهور، حيث يبرز جورج بوش في كثير من الأحيان يتقدم إلى المنبر بخطوات الواثق من نفسه في مشية معتمدة وذراعين منفصلتين قليلاً عن الجسد يتجه نحو المنبر بما لا يحوجه إلى الظهور بمظهر الارتباك، أو رئيس الحكومة البريطاني توني بلير حين يقف واضعاً ذراعاً عن على المنبر بانحناء والتواء جانبي للجسد والرأس فيما اليد الأخرى مسندة إلى وركه الخلفي، كدلالة على أنه سيد الكلام، حيث لا تدفعه مهابة المشهد إلى الارتباك، وإنما إلى الثقة الزائدة بأن ما سيقول ليس كلاماً فارغاً أو كلاماً يختزن في
64
58
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
مضامينه بعض الخداع والزيف، لأنه كلام مشفوع باقتناعه هو نفسه قبل أن يجهد في إقناع الجمهور.
على هذا الأساس في مقاربة الحق وواجب الكلام يمكن الولوج إلى خطاب السيد نصر الله بوصفه كلاماً منطلقاً من زعيم ليس عليه واجب الكلام لمجرد أنه يفترض بالزعيم أن يكون متفوهاً، وإنما من خلال طبيعة الكلام نفسه بتحوله ليس إلى سلطة مفروضة الطاعة وإنما إلى سلطان على النفوس التي تنقاد إليه دون ارتباطه بموقع السلطة حيث يقتضي الكلام.
قد يسود الاعتقاد أن الإعلام المتلفز يعلب دوراً بارزاً في تحويل الزعيم إلى قائد كاريزمي لما لثقافة الصورة المقرونة بالعمل الدعائي المستخدم بأرقى ما توصلت إليه التكنولوجيا الحديثة من القدرة على التقديم والإيقاع المشفوعين بالإثارة والإضاءة والوقع الحثيث في إبراز أو تحويل وإنجاح الزعامة. ولكن في جانب آخر يلعب الإعلام نفسه دوراً في أفول زعماء آخرين لما يتمتع به من دور في تسليط الأضواء على جوانب الضعف والإخفاق أو حتى تحويل الإخفاقات المتواضعة إلى فشل جسيم يضع الزعيم على بساط النقد والتجريح وسرعان ما يؤدي إلى ضمور دوره لدى الجماعة أو ينتهي به إلى الأفول.
من هنا تقتضي المقاربة في تسليط الضوء على الكلام نفسه في خطاب السيد نصر الله عبر الأخذ بمستلزمات التحليل للكشف عن العناصر الملازمة التي تدفع الأفراد نحو التماهي والانقياد والطاعة للقائد نفسه.
65
59
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
2- شكل الكلام
لعل إحدى المزايا التي يتصف بها الكلام الخطابي للسيد نصر الله هو ذلك التناسق الجمالي لمقاطع ومفردات الخطاب الذي تتخذ فيه المقاومة موقعاً محورياً مهما تنوعت موضوعات المقاطع واختلفت، فهي تدور حول موضوعة المقاومة في نشوئها وأهدافها وآليات عملها وتصوراتها وعلاقاتها وهمومها ومستجدات المشكلات والتحديات التي تتعرض لها، والتي تتخذ لها مقاطع متنوعة تتحول بعدها الأجزاء إلى كل متناسق يشد الذهن نحو إدراك الموقف الكلي. في حين أن المقاطع تنطوي على مفردات تتداعى على لسان الخطيب بانسياب يراعي مقتضيات التدرج في حال الصعود والنزول في نبرة خطابية تنطلق على نحو من الهدوء الذي قد يطول أو يقصر، ولكنه يتصل بحلقة وسطى قصيرة يتحفز معها الموقف وتشتد الطاقة وتتكور فيتماهى معها السامع في انشداد وتحفز وانحباس للطاقة الانفعالية، لتليها نبرة كلامية عالية غالباً ما تحتوي على مترادفات متدفقة بانسجام جمالي وبوتيرة واحدة يتداخل فيها ارتفاع النبرة المعززة بحركة لليد اليمنى، وتعابير للوجه الذي يكشف عن حال التماهي بين الخطيب ومحتوى الكلام نفسه. ثم لينتقل التماهي من الخطيب إلى الحضور الذي ينتهي إلى تحرير الطاقة الانفعالية المتحفزة حالما يصل الخطيب إلى نهاية في أحد المقاطع الكلامية، والتي تتخذ لها تعبيراً مادياً تبرز خلاله صيحات التهليل والتكبير وارتفاع القبضات وترديد الهتافات في نغمة وحركة تكشف
66
60
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
جماليتها المتناسقة عن الوقع السحري لكلام الخطيب ولحال التماهي مع الموقف.
إن القيمة التي يرتديها الخطاب شكلاً تنطوي على كثير من الأهمية التي تسهل عملية الاتصال الإدراكي لمكونات الخطاب، حيث تفيد المقاربة، بالإستناد إلى ما انتهت إليه بعض النظريات في علم النفس -وهي مدرسة الجشتالت- التي تعتبر أن الإنسان يدرك الموقف الكلي انطلاقاً من الشكل وانطلاقاً من وظيفة الدماغ نحو التأمل والإدراك لمكوناتها. وحتى ولو كان ثمة ثغرة وجدت بحال عدم تناسق أجزاء الكل الموحد يعمد الدماغ إلى ترتيبها وتنسيق مكوناتها. فلو كانت ثمة نغمات موسيقية تسير على نحو الانسجام التام سيراً تواصلياً ولكن من دون الوصول نحو نهاياتها عبر انقطاع فجائي، يعمد الإنسان إلى إكمالها بتمتمات مكملة لذلك التناسق الجمالي في النغمات، وكلما كان الموقف الكلي متناسقاً، خالياً من الثغرات، كلما كانت عملية الإدراك تنطوي على السرعة واليسر.
فالموقف الكلي هو الخطاب المقاوم في المبدأ والمنطلقات، وفي التوليف بين تنوع موضوعاته التي تنتهي إلى المبدأ نفسه وهو المقاومة، بما لا يحوج الذهن معها إلى التشتت بين أكثر من موضوع كلي، أو في موضوع كلي واحد ولكنه متنافر بين مكوناته وأجزائه ما يجعل عملية الإدراك لا تخلو من بذل جهد كبير في سبيل إقفال الثغرة.
أما إيقاعات النبرة الخطابية المتماهية مع طبيعة الموقف في حدته
67
61
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
وهدوئه حسب مقتضيات الحال، فهي تنم عن دراية كبيرة وبراعة فائقة في توظيف شكل الكلام نحو تعزيز حال الإدراك بالمضمون. وبهذا الأمر يكشف علم الدلالات أو الألسنية أن بنية الكلام ولو كانت واحدة إلا أن دلالاتها تتصل بجوانب شكلية أخرى، منها طريقة إخراج الكلام المنطوق أو إشفاعه بإيماءات الجسد. فلو دخل شخص على جماعة ما وألقى السلام بنبرة هادئة وآخر قام بالأمر نفسه ولكن بنبرة عالية مشفوعة بحواجب مقطبة وأسارير متجهمة لكان المدلول مختلفاً تماماً، مع أن الدال هو بنية الكلام المؤلف شكلاً من حروف السين واللام والألف والميم فثمة الكثير من الخطباء الذين تيسر لهم الظرف في الكلام ولكن دون أن تسعفهم مهاراتهم المتواضعة في الإلقاء، على تبيان ما تختزنه كلماتهم من مدلولات تتخطى أجزاءها ومكوناتها.
وعلى هذا الأساس من القدرة على مراعاة التدرج في إيقاع الخطاب، يمكن فهم غنى المدلولات التي يختزنها الكلام الخطابي للسيد نصر الله.
3- في مضمون الكلام
أ- الهوية والسلطة
بالاستناد إلى الحقل السياسي، وإلى الرمزية الدينية للقائد في انتمائه إلى جماعة تشكل أحد المتفرعات الفقهية للدين، يمكن عقد مزاوجة بين خطاب الطائفة وخطابها السياسي الذي هو محور
68
62
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
اهتمامنا. فخطاب الطائفة يعني كيفية إنتاجه في ميدان دورته الفقهية القائمة على عملية التبليغ والممارسة للشعائر الدينية والطقوس العبادية في ميادين الزواج، والوفاة، وتأدية الفروض اليومية انطلاقاً من الخصوصية الفقهية للطائفة.
أما الحقل السياسي، فيعني كيفية تمفصل هذا الخطاب مع الواقع، بما يتمتع به هذا الواقع من خصوصية، تتعدى الطائفة، بكونها تشكل إحدى المذاهب الإسلامية المتنوعة في فهم كيفية ممارسة الشعائر الدينية، إلى منشأ هذه الخصوصية العائدة بدورها إلى كون الطائفة تشكلت على قاعدة ما كان مطروحاً على صعيد السلطة، وممارسة الحكم منذ وفاة النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم.
فلقد كان شكل الحكم في الإسلام متفقاً عليه أثناء حياة النبي صلى الله عليه و آله وسلم لجهة الحاكمية التي شغلها هو بنفسه، وبعد وفاته طُرحت الاشكالية بين السنَّة والشيعة حول طبيعة النظام السياسي الاسلامي: الإمامة أم الخلافة. فالشيعة اعتبرت أن القيادة السياسية وإمرة المسلمين مستمدة من الإمامة الدينية والروحية القائمة بالوصية المنصوص عنها والمتناقلة في ذرية النبي صلى الله عليه و آله وسلم.
وانطلاقاً من مفهوم الشيعة في الحكم، يُشترط في الحاكم أن يجمع بين السلطتين الدينية والزمنية، وأن يكون معصوماً عن الخطأ والزلل. وبعد غيبة آخر الأئمة الإمام المهدي المنتظر والمؤمل عودته حتى يقيم دولة الإمامة، طرحت الرؤى لدى الشيعة حول التعاطي مع مسألة الحكم والسلطة.
69
63
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
لقد تمثلت إحدى هذه الرؤى بعدم جواز قيام دولة إسلامية أثناء غياب الإمام لأن من يملأها هو مغتصب لحقه في الحكم، وأفضى ذلك إلى نشوء ميتولوجيا شيعية تستند إلى ثقافة جديدة، قوامها قعود المؤمنين وانتظار عودة الامام الثاني عشر لإقامة دولته. لكن هذه النظرية لم تلاق استحساناً من بعض الفقهاء الذين اقتربوا من مفهوم بديل يقوم على مبدأ ولاية الأمة على نفسها في عصر الغيبة، فجاءت هذه الصيغة الاجتهادية في الفقه الشيعي لتحل اشكالية التعاطي مع الحكم والسلطة في ظل غيبة الإمام المعصوم1.
وقد مثلت رؤية الفقيه الشيعي محمد حسن النائيني الذي انفرد بالمرجعية الشيعية عام 1920 إحدى هذه الرؤى، وعلى أساسها قاد الحركة الدستورية الايرانية التي سميت «المشروطة» والتي هدفت إلى تقييد السلطة المطلقة للحاكم الزمني.
ولقد وظف النائيني هذه الآلية في الحكم كي يشرعن حق ولاية الأمة على نفسها في عصر الغيبة كشأن سياسي وليس كشأن شرعي2.
وبهذا المعنى فلا تعود الأمة ترزح خارج الدولة، كما أنها ليست مدعوة لتشكيل حكومة إلهية دينية، بل حكومة مدنية عادلة تقوم على رقابة الأمة.
1- محمد جمال باروت، يثرب الجديدة: الحركات الإسلامية الراهنة، دار رياض الريس، بيروت 1994، ص 65.
2- محمد حسن النائيني، تنبيه الأمة وتنزيه الملَّة، الغدير، العددان 12ـ 13، المجلد الثاني، القسم الثاني، آذار 1991، ص 110.
70
64
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
وبمقابل نظرية ولاية الأمة على نفسها، شكلت نظرية ولاية الفقيه التي صاغها الإمام الخميني، في صورتها الأخيرة، اللبنة الأساسية في العودة إلى طرح موضوع إقامة دولة الإمامة. وهي الدولة التي يقيمها الفقيه العادل، الذي يجمع في إصدار الفتاوى بين السياسي والديني. فإذا كانت مواقف النائيني جاءت لتؤدي إلى تكييف الأمة مع الواقع، إلا أن حكومة الفقيه التي طرحها الإمام الخميني أدت إلى إحداث تحول آخر للطائفة عن طريق إخراجها إلى المجال الإيديولوجي السياسي، انطلاقاً من الفقيه نفسه كنائب عن الإمام المعصوم، وكبديل عملي لإخراج الموقف التاريخي للشيعة القائم على نفي شرعية أي دولة لا تقوم على مبدأ الإمامة، إلى الحيز الفعلي الذي أخذ مجاله إلى التطبيق مع تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وفي ظل تلك الأجواء شكلت العودة لآراء المرجعية الدينية المتمثلة بالإمام الخميني، مرجعاًً آخر للطائفة يقوم على الالتزام بالولاء لزعامة جديدة هي زعامة الولي الفقيه، الذي يمارس دوره من خلال التحريض والتسديد والتذكير بالمسؤولية الشرعية، ويجد في الفقه الإسلامي ما يتخطى الدور التقليدي لهذا الفقه إلى المجال السياسي بعدما كان يرتبط لدى بعض رجال الدين بحدود المعاني العبادية والتشريعات الفردية البحتة.
فولاية الفقيه، وفق منظور الإمام الخميني ترى أن دور العلماء مماثل لدور الأنبياء والأئمة. وعملهم لا ينحصر فقط في بيان المسائل والأحكام
71
65
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
بل يتعداها إلى وظيفة أخرى هي إقامة نظام اجتماعي عادل وتطبيق الأحكام والقوانين، وتنظيم الناس على أساس العلاقات الإسلامية. فالعلماء مكلَّفون ببيان الأحكام للناس وتطبيقها. والتطبيق يعني أخذ الزكاة والخمس وصرفهما في مصالح المسلمين ونشر العدالة بين أفراد البشر والحفاظ على أراضي المسلمين واستقلالها1
فولاية الفقيه على هذه الحال، تمثل الامتداد الطبيعي لولاية الإمام المعصوم. فالفقيه ينوب عنه في غيابه ويمارس ولايته، بمقتضى النص بعد المعصوم.
وبالاستناد إلى هذا الرأي، نجد أن الإمام الخميني أرسى زعامة جديدة من خلال خطاب ثوري ارتكز على الفقه الإسلامي وإحضار هذا الفقه في الكشف المكثف للواقع الإسلامي بأبعاده الداخلية والخارجية.
وتجسد هذا الخطاب عبر خط استنباط البعد السياسي في حركة المرجعية من البعد الفقهي الذي تتكرس من خلاله زعامة الفقيه. هذا الفقيه يمتلك بدوره استعدادات ذاتية وموضوعية للاجتهاد، تقوم على غزارة العلم كمقدمة لاستنباط الفتوى، وعلى البعد المسلكي المحدَّد بصفات الورع و التقوى والعدالة3.
هذه الزعامة هي التي سيعود إليها المؤمنون في الاسترشاد الديني
1- الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، مركز بقية الله الأعظم، بيروت 1998، ص 107.
2- الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، الجزء الأول، سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بيروت، 1997، ص 7.
72
66
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
والسياسي من منطلق الطاعة والالتزام بالتكليف الشرعي1. سيعود إليها أيضاً رجال الدين الذين لم يصلوا إلى مرتبة الاجتهاد في الدين، فيتحدد دورهم بنقل توجيهات وفتاوى الولي الفقيه، وبذل الجهد في تبيان أحكام الإسلام والابتعاد بأنفسهم عن المتلبسين بلباس رجال الدين المتملقين للطغاة الذين يستغلون المكانة المعنوية لعلماء الإسلام2.
إن هذا الدور، الذي رسمه الإمام الخميني للمرجعية الدينية، وجد طريقه إلى الممارسة الفعلية لزعامة الولي الفقيه في إيران وخارجها. ففي لبنان بدأت أولى تباشير إعلان الولاء لهذه الزعامة مع الإعلان عن استمرار العمل المقاوم ضد إسرائيل قبل تشكيل حزب الله. ثم ما لبث الحزب أن أعلن عن تأكيد هذا الولاء لزعامة الولي الفقيه في الرسالة المفتوحة التي وجهها عام 1985، والتي أعلن فيها الالتزام بأوامر الولي الفقيه كقيادة واحدة وحكيمة وجامعة للشرائط وتتجسد بالإمام الخميني3.
وبعد وفاة الإمام الخميني حرص حزب الله على إعلان ولائه للولي الفقيه الجديد الإمام علي الخامنئي، لأنه وجده الأقدر بعد الإمام الخميني على إعطاء الرأي والفتوى لكل الحركات الإسلامية والجهادية ومدركاً لساحات الجهاد ولخوض معركة التحدي ضد الاستكبار وأدواته4.
1- الإمام الخميني، الكلمات القصار، الوحدة الثقافية لحزب الله ـ بيروت، 1992، ص 59.
2- عادل رؤوف، الإمام الخميني رجل القرن الحادي والعشرين، دار الحق، بيروت 1998، ص 117.
3- حزب الله، الكتاب السنوي، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، بيروت 1994، ص 56.
4- حزب الله، الكتاب السنوي 1994، مصدر سابق، ص 56.
73
67
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
من ناحية أخرى فإن الدور المحوري الذي تلعبه هذه الزعامة يتجلى في الطاعة المطلقة والالتزام بالأوامر والنواهي الصادرة عنها.
ولا بد لهذا المفهوم في الطاعة للفقيه كي يكون متحققاً لدى الأفراد من نقله إلى وعيهم، فبدون ذلك يبقى دور زعامة الفقيه مقتصراً على أبعاده النظرية أو بالكاد يتسرب إلى قناعات بعض النخب من رجال الدين الذين تيسر لهم الاطلاع أو التعمق في الثقافة الإسلامية من خلال دراستهم في الحوزات الدينية.
لقد تم ذلك من خلال حلقات التبليغ التي كان يحييها رجال الدين في المساجد على مدى أعوام عديدة، حيث كان عليهم شرح نظرية ولاية الفقيه التي نادى بها الإمام الخميني.
ومن جهة أخرى، استند حزب الله في تعبئة عموم أفراد الطائفة حول الزعامة والولاء للفقيه، على المناسبات العامة. فجرى الربط بين الإمام الحسين، المثال الأعلى والرمز، و القائد الفقيه العادل، جاعلاً طاعته بمثابة طاعة مستمدة من قدسية الأولياء والأئمة العظام1.
فالولاء للقائد يتوحد أيضاً بالولاء للامام الشهيد أو لسيد الشهداء الإمام الحسين. ولذا ينسب أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في إحدى خطاباته إلى الإمام الخميني الراحل صفات الولي، ويعتبره سليل النبي محمد الذي يجسد الصلة مع الإمام الحسين، ومع الأنبياء،
1- د. محسن صالح، وعباس مزنر، صورة المقاومة في الإعلام، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت 2001، ص 127.
74
68
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
وبأنه لم يكتف بتقديم النظرية في الحكم، بل برهن عن ذلك في ساحات الجهاد والثورة، وحين طرح إطاراً واسعاً لمواجهة الظلم والاحتلال، وهو إطار المظلومين والمستضعفين والجائعين والحفاة. لذلك فالمعركة يجب أن تخاض في الدائرة الأوسع والأكبر من العشيرة والحزب والطائفة، معركة الدفاع عن الإنسان وكرامته، وأرضه المغتصبة ودماء نسائه وأطفاله، المسفوكة ظلماً وعدواناً1
هذا الربط بين الرمز الشهيد والولي الفقيه، لم يكن ليقتصر على المناسبات التي تتعلق بانتصار الثورة أو الذكرى السنوية لرحيل الإمام الخميني، وإنما غدا ضرورة يجب تأكيدها في كل مناسبة، إذ ينبغي على الخطيب قبل البدء بالحديث عن موضوع المناسبة الافتتاح بعد الصلاة على النبي والأئمة الاثني عشر، بإرسال التحية أمام الجموع المحتشدة إلى الولي الفقيه، وتجديد البيعة والبقاء على العهد في طاعته والتزام أوامره.
وليس من شك أن هذا الأسلوب في التعبئة لا يعزز أهمية القائد في الجانب العبادي والشعائري فحسب، وإنما يعزز أهمية وشرعية وسلطة القائد في كل زمان ومكان، فتخرج هذه السلطة "الإلهية" من التاريخ، وتتصل بالحاضر، لتجسد الأمل والوعد الإلهي بالانتصار للمستضعفين والمقهورين، الذي يمثله الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر2. والاتصال بالحاضر هو أن يعمل الإنسان بمسؤولياته الشرعية الملقاة
1- السيد حسن نصر الله، فصل الخطاب، دار الثقافة الإسلامية، بيروت 1998، ص 37.
2- د. محمد محسن، وعباس مزنر، صورة المقاومة في الإعلام، مصدر سابق، ص 128.
75
69
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
على عاتقه، من قضاء حوائج المحتاجين، ودفع الظلم عنهم، ومحاربة الطواغيت، ونشر العدل، ولا يكون ذلك إلا بالولاء والطاعة لنائبه الولي الفقيه1. ولذا فإن الخطاب التعبوي في ربطه بين طاعة القائد الفقيه، وبين الأئمة، مع الأمل في تجسيد الوعد الإلهي بالنصر، شكل أحد مرتكزات الخطاب في التغيير، وفي لعب دور الاستقطاب. فالالتزام بقيادة الفقيه أصبح يشكل من الناحية العملية أحد متممات الفهم الشيعي المستمد من الأصول المرجعية للطائفة، وعنصراً من عناصر القوة لدى الحزب، ومدخلاً للتماسك الحديدي لدى الأفراد المنخرطين في صفوفه، ولدى الجماعات المنتمية المؤيدة لمشروعه الجهادي.
وعلى هذا الأساس، يكون حزب الله قد أخرج الاعتقاد والولاء للفقيه من خطابه "النظري" إلى حيز الواقع التنظيمي، فأصبح أمر الطاعة للولي القائد أمراً عبادياً وتكليفاً شرعياً يأخذ طريقه نحو الانتشار بين أبناء الطائفة، ويؤدي إلى إحداث التماهي بين القائد وبين "الجماعة"، لكونه يجسِّد المثال الأعلى والنموذج الذي يستطيع تحقيق حلم الجماعة، بما يمتلك من خصائص مادية، ونفسية، ونسب نبيل. فهو ليس شخصاً عادياً تفوض إليه الجماعة أمرها، بل هو الأقدر على إدارة أمورها، وهو صاحب السلطة والوازع الذي ينبغي على جميع الأعضاء الدخول في طاعته وتسليم أمر الولاية له.
1- السيد حسن نصر الله، فصل الخطاب، مصدر سابق، ص 34.
76
70
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
انطلاقاً من هذا الدور للولي الفقيه وفق نظرية الإمام الخميني، وعلى قاعدة الولاء المعلن من حزب الله للولي الفقيه13 في الاسترشاد الديني والسياسي يتضح أن هذا الولاء تتحدد وظيفته الاستنهاضية في محاربة الاحتلال الصهيوني ومحاربة الاستكبار أكثر مما تتحدد في ضرورة الاضطلاع بتشكيل دولة الإمام. ذلك أن الإمام الخميني كان قد أدخل عاملي الزمان والمكان في حيز الاستنباط الفقهي، ما يعني أن الفقه الشيعي وفق هذه النظرة مفتوح على مقتضيات الواقع التي استفادها حزب الله بالتكيف مع الواقع. فهو إذ لا يتنكر للدعوة إلى إقامة حكم إسلامي في الرسالة المفتوحة ولكنها مقرونة باختيار اللبنانيين، وهو ما يصح على بقية أرجاء العالم الإسلامي.
وبالاستناد إلى الكلام الخطابي للسيد نصر الله فإن هذا الخطاب يخلو من الدعوة إلى دولة الإمامة كبديل راهن في العالم الإسلامي بقدر ما يدعو إلى الوحدة الإسلامية في مقام الأخوة بين المؤمنين وفي مقام الاستنهاض بمواجهة الاستكبار العالمي.
ففي عشية دخول الجيش الأميركي إلى العراق كانت ثمة دعوة صريحة من السيد نصر الله لعقد طائف عراقي تدخل فيه مكونات الشعب العراقي وأطيافه السياسية وبينها حزب البعث الذي تزعمه صدام حسين إيذاناً منها بتوحيد الطاقات ورأب الصدع في المجتمع استعداداً للمواجهة.
وفي مخاطبته الحكام العرب عشية عدوان تموز 2006 على لبنان
77
71
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
ليس ثمة نزع للشرعية عن هؤلاء الحكام تحت طائلة عدم المشروعية المستندة إلى الرؤية الفقهية، بقدر ما هي دعوة للاضطلاع بمسؤولياتهم تجاه الأمة جراء التهديد الصهيوني وانغماسهم في دائرة الإذعان للغرب بمعزل عن إرادة شعوبهم وحريتها في التعبير عن تقديم تجربتها في ميدان ما تتعرض له الأمة وهو ما يتفق مع مقتضيات الاستنهاض. وأما فيما يتصل بلبنان، فثمة ركون في خطاب السيد نصر الله إلى المعطيات الاجتماعية والتاريخية للاجتماع الأهلي اللبناني، فليس ثمة دعوة جراء أزمة الواقع السياسي إلى الارتفاع بهذا الواقع نحو إقامة دولة الإمامة كإحدى التعبيرات للخروج من الأزمة الناشئة بفعل الانقسام الطوائفي. فما يدعو إليه الكلام الخطابي للسيد نصر الله هو التطلع نحو عقد شراكة في السلطة التي تحيل إلى المساواة في المواطنية وعدم الاستثار أو الإلغاء1 دون أن يحيل ذلك إلى إعادة الإنتاج التاريخي لاختلالات النظام السياسي اللبناني بل ليضع المداميك من أجل إقامة الدولة الفعلية القوية والعادلة التي عبر عنها السيد نصر الله أثناء طرحه لاستراتيجية المقاومة.
وبالتأكيد فإن ثمة نقاشاً مفتوحاً بين مكونات الشعب اللبناني حول ماهية وكيفية العبور نحو هذه الدولة التي تؤسس لمواطنية مشتركة، ولدولة غير منقسمة على نفسها، يجتمع أفرادها لرسم السياسات العامة
1- راجع خطاب السيد نصر الله منذ 2005- 2006
78
72
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
وتنفيذها بمعزل عن نفوذ الطوائف، وتنظم عملية التنافس السياسي بعد أن ترسم الإطار الكلي للمواطنين، تنكفئ فيها الطائفية السياسية دون الشعور بالغبن جراء الطغيان العددي لطائفة ما بوضع أسس دستورية ترسم معالم الطريق نحو بنائها، ودون أن تتحرك المعارضة أو أركان السلطة انطلاقاً من الشعور الطائفي، وإخراج مقولة السيادة من بعدها النظري إلى البعد العملي بعد حسم هوية لبنان ووظيفته في محيطه الإقليمي.
ب- الخطاب والهوية
ترتبط الهوية القومية في أحد جوانبها بغاية استكشاف التجانس والتشارك بين أفراد الشعب أو الجماعات التي تسمى أمة. ولكن ثمة غرض آخر يتصل بغايات أخرى تنطوي على تنوعات مختلفة بينها ما تشكله الهوية الجامعة من تظهير لمكونات شعورية نفسيه تختزن في منطوياتها إحساساً بالمنعة والقوة للذات الجماعية أو جماعة "النحن" التي تشكل أمة بإزاء أخرى تتغاير معها شرط أن تعبر المغايرة عن تصور الفروق مع الآخر المختلف لترسم الحدود معه وتضع ملامح الالتقاء والاختلاف.
ولا تستطيع الآمة تحديد موقعها من الآخر ما لم تستولد عناصر التشارك والتجانس فيما بينها، وإلا فهي معرضة للتصدع والانقسام على نفسها ويؤدي ذلك إلى إضعافها وتوهينها.
79
73
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
لذلك، فإن شرط المغايرة هو تحديد الذات بما تقدم عليه من مرتكزات أولاً، من ثم تحديد من هو الآخر المختلف في ذات مغايرة.
في حين أن تحديد مرتكزات الذات استند لدى الشعوب إلى تصورات اختلفت باختلاف أدوات التفكير لدى نخبها ومفكريها. فأحياناً نجدها ترتكز على السلالة أو على الدين أو اللغة أو على ما يشدها إلى تاريخ مشترك أو إرادة في العيش في حاضرها ومستقبلها. إن اختلاف أدوات التفكير يساهم في كثير من الأحيان في إعاقة الاتفاق على تحديدات نهائية للهوية القومية وإرسائها على مكونات صلبة تحظى بقبول تام. أو بتعبير آخر، فما يعد مرتكزاً صلباً لدى بعض المفكرين يمكن أن يكون مرتكزاً مائعاً لدى آخرين لا سيما إن كان الأمر يرتبط بغايات سياسية هادفة إلى تحقق الهوية القومية في إطار دولتي قوامه المدى الجغرافي للدولة، ونطاق ممارسة السلطة المنبثقة من الأمة نفسها دون سواها. لقد أدى هذا الاختلاف وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط - ومنها لبنان- إلى تعدد الرؤى حول الهوية القومية، فثمة هويات يتسع مداها ويضمر بحسب روادها، فمثالاً نجد جمال الدين الأفغاني نادوا بجامعة إسلامية تصهر شعوب العالم الإسلامي في بوتقتها في حين أن دعاة القومية العربية نادى بأمة عربية في وطن عربي لارتكازها على مبدأ اللغة بينما نادى القوميون السوريون بأمة سورية في وطن سوري حدوده منطقة الهلال الخصيب ليضمر هذا التحديد لدى دعاة الكيانية اللبنانية إلى لبنان الوطن المسيحي ولبنان بحدوده الحالية.
80
74
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
إزاء هذه التحديدات لمفهوم الهوية القومية برزت تعارضات بين دعاة القومية في العالم العربي والإسلامي حيث وجد الإسلاميون لدى دعاة القومية العربية سبيلاً مانعاً من تحقق الوحدة الجغرافية لأقطار العالم الإسلامي ومن عودة دولة الخلافة التي كانت قد جمعت ووحّدت فيما مضى كافة المكونات والشرائح الإثنية واللغوية، فيما وجد دعاة العروبة في الهوية القومية الإسلامية استيعاداً لمكونات وشرائح تقوم على أساس ديني. ولم يخرج لبنان عن دائرة الجدل مع دعاة الكيانية التي تفصل لبنان عن محيطه العربي أو الإسلامي ومنع إقامة وحدة اندماجية تقوم على أساس العروبة أو الإسلام. وبالعودة إلى الكلام الخطابي للسيد نصر الله فغالباً ما يتم الاستناد إلى مفردة "الأمة الإسلامية" وأحياناً "العالم العربي الإسلامي" ما يعني أن دلالات الاستخدام يتم فيها تغييب التنظير الأيديولوجي لأن الخطاب ليس خطاباً في الإيديولوجيا وإنما هو خطاب استنهاض قوامه الانطلاق من التشارك في الانتماء إلى البعد الاعتقادي المتمثل بالإسلام وتحفيز الشعور المشترك في سبيل القضية الصراعية مع إسرائيل والغرب، وكذلك فهو لا يقوم على أساس القطيعة بين العروبة والإسلام وجعل أحدهما بمواجهة الآخر، وإنما يترك المجال أما الخصوصيات لتعبر عن نفسها كما هي لدى التبرير الفكري والإيديولوجي. فهو ليس خطاباً دعوياً نحو الاندماج الجغرافي والسياسي، كما أنه لا يقوم على دحض الدعوات المتواجهة في محددات الهوية، بقدر ما هو دعوة لتثميرها
81
75
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
وتوظيفها في معركة مشتركة. ذلك أن الدخول في معترك التحديدات الإيديولوجية للهوية قد يحيل إلى كيفية تثمير هذه الانتماء في حقل السلطة، التي يقف منها الخطاب موقفاً آخر.
على هذا الأساس، ومع غياب الاستخدام الإيديولوجي، فلا يعد الخطاب كلاماً خاصاً، وإنما هو مفتوح على النحو العام الذي يفسح للمنطلقات الإيديولوجية المجال أن تجد فيه مساحات مشتركة للتكيف معه على أساس انه خطاب استنهاض عام وليس خطاباً خاصاً.
وعلى هذا النحو من العموم، تصبح الطائفة جزءاً من هذا المكون العام باعتبارها تشكل أحد عناصره المتوالفة مع العروبة والإسلام سواء على مستوى الانتماء أو على مستوى تثمير وتسويغ هذا الانتماء في سبيل القضية الصراعية.
أما فيما يتصل بتمفصل العروبة والإسلام مع الواقع اللبناني فإن في الخطاب مجال للقول إنه ثمة تحديد لهوية يتشارك فيها اللبنانيون تقوم على أساس المواطنة قبل أي شيء آخر، والتي ينبغي لها أن تتكامل في وظيفتها مع الدور الاستنهاضي العام في موقعيته العروبية والإسلامية، دون المساس بالخصوصيات التكوينية للمجتمع اللبناني.
ففي الخطاب الموجه إلى اللبنانيين يجري الركون إلى استخدام مفردة الشركاء في الوطن إذ ثمة خصوصيات وثمة وطن محدد ببقعة جغرافية يتم تحديدها بالإشارة الصريحة جبلاً وبقاعاً وجنوباً
82
76
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
وشمالاً1 وهي مناطق لطالما جرى الجدل حولها حين ضمت إلى الجبل غداة إعلان لبنان الكبير عام 1920 ما يعني أن للكيان اللبناني حضوراً في الخطاب ولكنه حضور لا يحيل إلى خصوصية وسطية تقوم على أن الكيان يقوم على أساس توليف حضاري يحيل إلى ثنائية انتمائية تتمثل في الانشداد نحو الغرب والشرق في آن معاً كما جرى غداة عام 1943 (ذو وجه عربي).
إذاً فثمة هوية تقوم على أساس التنوع في إطار الوحدة، أي الوحدة الانتمائية المتحددة بإطار التشارك أو الناتجة عن عقد اجتماعي إرادي للعيش معاً في إطار جغرافي. ولكنه إطار ينبغي له الحضور إزاء ما يهدد مرتكزاته الوجودية المتمثلة بالعدوان الإسرائيلي سواء تمظهر هذا التهديد بالعدوان اليومي على لبنان في سمائه وأرضه، أو من خلال السعي إلى فرط عقد الشراكة بين مكوناته لكي يعاد ترتيبها على النحو الذي يخدم المشروع الصهيوني والأميركي في تفتيت المنطقة ليسهل ابتلاعها. ولعل أكثر ما يؤكد على هذه الدلالة هو تساوق الخطاب مع طرح الإستراتيجية الدفاعية التي تقوم على الدور التكاملي بين الدولة والمقاومة، والمقرونة الارتباط بدوام التهديد الإسرائيلي للبنان.
1- من خطاب للسيد حسن نصر الله خلال حرب تموز 2006.
83
77
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
ج- الخطاب واتجاهات السلوك
تعزيز الاتجاه
وهو من الدلالات المتضمنة في الكلام الخطابي للسيد نصر الله والتي تنطلق من التعزيز للميول السائدة لدى الأفراد فضلاً عن تكوينها لدى آخرين ممن لم يتضح لهم الميل نحو تأييد الفعل المقاوم.
ولكن بداية نود تحديد هذا المفهوم لإزالة الالتباس الذي يمكن أن ينشأ حوله. فإحدى تحديدات الميل هو أنه حب الفرد لنشاط معين، ورضاه عنه، وتركيز ذهنه فيه، والاستعداد إلى بذله أقصى مجهود فيه، والاستمرار فيه أطول وقت ممكن. ويعرف الميل "بأنه النزعة السلوكية العامة للفرد نحو الانجذاب إلى مجموعة معينة من أنواع النشاط" ، وتعني كلمة الانجذاب "أن الفرد يهتم بشيء له قيمة بالنسبة إليه أو يبحث عنه أو يتجه إليه أو يكافح للحصول عليه"1.
ومن هنا، فإن المقاربة تقتضي الوقوف على الكيفية التي غدا فيها الفعل المقاوم نزعة سلوكية لدى غالبية الأفراد والشرائح على مستوى الأمة، تنشدُّ إليه، ويحظى بتأييدها.
قد يسود الاعتقاد بأن الميل إلى الرضا عن الفعل المقاوم ناشئ عن فراغ، باعتبار أن الفرد يكتسب معظم ميوله واتجاهاته وقيمه ومثله العليا من المجتمع الذي يعيش فيه أو بالأحرى نتيجة التفاعل بينه وبين هذا
1- د. معن خليل عمر، نقد الفكر الاجتماعي المعاصر، دار الافاق الجديدة، بغداد 1993، ص 176.
84
78
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
المجتمع، وذلك من خلال ما يمر به الفرد من خبرات ومواقف منذ طفولته المبكرة، ولا تقتصر علاقة الفرد بالمجتمع على مجرد اكتساب الاتجاهات والقيم بل أن المجتمع هو الذي يحدد للفرد الدور الذي يقوم به.
وبطبيعة الحال، فإن ما هو سائد في المجتمع العربي لا يوحي على الإطلاق بأن هذه المجتمعات عبر أطرها التربوية الناتجة عن السياسات التربوية التي تضعها الدولة، تؤكد على تكوين الاتجاه فيما يتصل بالفعل المقاوم. ذلك أن هذه المجتمعات تنشد سيادتها على نفسها ودوام استقرارها والمضي في عقلنة الصراع مع العدو الإسرائيلي عبر مشاريع الحلول الاستسلامية. ولكن واقع الحال يكشف أن الخطاب المقاوم للسيد نصر الله ينطلق من أن ثمة اتجاهات وميولاً تتصل بالاتجاه نحو تأيد الفعل المقاوم وهي تستوجب التعزيز للتحول نحو الفعل الاستنهاضي.
فحين تفصح بعض مضامين الخطاب عن اتصالها بموضوعة القيم السائدة، وعما يختلج في الوجدان الجمعي المعادي بطبيعته للمشروع الصهيوني، فهي تعيد الاتصال بمخزون الذاكرة الجمعية وبالوعي الجمعي وتعمل على تنشيطها وتحفيزها حيث يجري التركيز في الخطاب على البعد الإيماني كمنطلق أي الإيمان بالله الحاضر دوماً في الوعي والوجدان لدى هذه الشعوب، وكذلك في عدم إغفال منطلقاتها الإسلامية على أنها منطلقات عامة تخص جميع المسلمين بل تعمل بموجب التعاليم الدينية الناشئة عن الإسلام للسعي نحو الحرية والعدالة ورفض الانصياع للظلم. وبذلك تصبح المقاومة بمنطلقاتها
85
79
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
الإسلامية محمَّلة بشعار حضاري يدفع نحو الالتفاف حوله، إذ لا يصح للأفراد الانضواء في عناوين تغييرية حضارية لا تنتمي لها ولا تعبر عن انتماءاتها.
لقد غاب الشعار الحضاري المتمثل بالإسلام عن النخبة العربية الحاكمة أثناء خوضها للصراع، ولكن رغم هذا الغياب فقد استحوذت الطروحات القومية على تأييد الشعوب العربية لا لتعاطفها مع المشروع القومي الوحدوي الذي يجد في إسرائيل مانعاً وجودياً من تحقيق هذه الوحدة باحتلالها بلداً عربياً وتهديد أقطار عربية أخرى، لكنها في تأييدها هذا لم يغب عن وعيها أن ثمة مشروعاً صهيونياً يقوم على أبعاد دينية، لشعب الله المختار في نزوعه لتشكيل دولته من الفرات إلى النيل، وهو ما تقدمه هتافات التنديد بالعدوان الإسرائيلي في الحروب السابقة لاجتياح عام 1982 معلنة التعبئة والدعوة إلى فتح باب الجهاد لتحرير المقدسات.
وعلى هذا النحو، فإنها تجد في الكلام الخطابي للسيد نصر الله ما يعيد الاتصال بالوعي الجمعي للشعوب العربية والإسلامية والذي ظل قاصراً عن تقديم تجربته في المراحل السابقة بسب اضطلاع الأنظمة بهذا الدور الصراعي. وحين تشكلت المقاومة الفلسطينية مالت هذه الشعوب نحو دعمها وتأييدها بعدما وجدت فيها نموذجاً مقاوماً يختلف عما خبرته من نظمها التي تراجعت على يدها القضية الصراعية بعدما دارت في فلك المداولات الدولية. غير أن هذا الوعي الذي اتجه نحو
86
80
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
المقاومة الفلسطينية سرعان ما بدأ يتجه نحو الانحدار بفعل التصورات العلمانية للمنظمة التي وجدت فيها ما يتيح إقامة دولة تعايشية بين المكونات الدينية في فلسطين ومن ثم إقامة دولة على بعض أجزاء الأراضي الفلسطينية وعاصمتها القدس ولكن من دون أن تحظى بمقبولية العدو الإسرائيلي.
ومع هذه الإخفاقات وجدت هذه الشعوب في خطاب المقاومة نموذجاً متضمناً لعناصر ثقافية ليست غريبة عن مزاجها التكويني العام تتمثل عناصره في مفردات مركزية تمثل حقلاً دلالياً متوالفاً لا يغيب عنه. فمن الابتداء بالبسملة والحمد والصلاة على النبي الأكرم التي لا تفارق خطاب السيد نصر الله، إلى الإفصاح دوماً عن هوية المقاومة ومنطلقاتها المتمثلة بالإسلام، ومن ثم إقران الفعل المقاوم بالجهاد والاستشهاد المعزز بآيات قرآنية تحضّ المؤمنين على النهوض في سبيل الدفاع عن المقدسات وذم القاعدين والمتقاعسين. وهي مفردات تتمثل دلالاتها بإعادة التذكير بها، ويسهل إدراك ما تحمله من معان لاقترانها بالوعي الجماعي لهذه الشعوب التي تعيد استحضارها في مواجهة الموقف الصراعي الذي يهدد مقدساتها ومرتكزاتها الوجودية المتمثلة بهويتها الحضارية.
تكوين الاتجاه
ثمة دلالات أخرى متجاوزة لتعزيز الاتجاه لدى الأفراد في الكلام الخطابي للمقاومة من شأنها الدفع في تكوين الاتجاه والميل إلى
87
81
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
الانجذاب إلى الفعل المقاوم وقيادته، ذلك أن مفردات الكلام من شأنها تحريك هذه النزعة السلوكية لإفصاح دلالاتها عن معانٍ ترضي في الأفراد مشاعر سارة، كما ترضي دوافع أخرى قوامها الارتفاع بالشعور بالنقص المتشكل على مدى عقود من الزمن بسبب سلسلة الإخفاقات الناتجة عن الصراع مع العدو الإسرائيلي.
فالوعي الجماعي لدى الأمة كان ما زال يتحرك على أساس الشعور بهذا النقص الناتج عن انعدام حال التوازن مع العدو والذي كان يدفع دوماً إلى التفتيش عن كل الممكنات التي تؤدي إلى تحويله نحو الشعور بالاقتدار، وإلا ما كانت هذه الشعوب لتخفي مشاعر العداء للمشروع الصهيوني رغم انتصاراته على مدى عقود مضت.
في حين أن وقع الكلمات في خطاب السيد نصر الله يحمل كل ممكنات هذا التحويل نحو الشعور بالاقتدار "لامجال للخوف لا مجال للتراجع، إن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت" وتتناهى إلى الأسماع من قيادة المقاومة وهي مقرونة بالفعل المقاوم الذي سرعان ما يثير مشاعر سارة في نجاحاته الممتدة من العمليات الحاصلة قبل التحرير والتي انتهت إلى تحقيق التحرير عام 2000 ثم الانتصار في حرب تموز عام 2006 والتي ندر لمقاومة عربية أن خاضتها على هذا النحو من الصمود والعناد على إحراز النجاح.
فالخطاب هو خطاب النجاح وإحراز النصر، إذ للشجاعة وللتصميم فيه محل يبرز أشد وضوحاً وجلاء من خطابات الهزيمة والاستسلام
88
82
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
الذي يثير مشاعر مؤلمة وغير سارة باعتبارها متواصلة مع الإحباطات السابقة. إنه ليس كلاماً سياسياً ولكنه كلام في السياسة التي تعبر عن إستراتيجية المقاومة، باعتبار أن في الكلام السياسي مضامين قد تختزن أشكالاً من الزيف والخداع لتسويغ المشروع السياسي للاستحواذ على السلطة والذي سرعان ما يتبدد حين الاستئثار بها.
لقد خبرت الشعوب العربية تجارب خطابية في التنمية والديمقراطية والتحرير كانت تثير فيها مشاعر سارة لوقت ما قبل أن تكتشف مدى صدق تلك الوعود أو عدمها. في حين نجد في الخطاب المقاوم مفردات تقرن المثابرة والتصميم بالوعد بالنصر "أنا أعدكم بالنصر" الذي لا يجد دلالاته في نتائج عدوان تموز عام 2006 بقدر ما يجدها في تجربة المقاومة على مدى عقدين من الزمن. فهو كلام يحمل القابلية على الاستهواء وسرعة التصديق والتقبل لأنه صادر عن شخصية تقرن القول بالفعل ومن دون مواربة وانحراف في اتجاه المقاومة حتى في أشد الظروف صعوبة ومرارة.
كما أن دلالاته ليست ناتجة عن الرغبة في الشحن الانفعالي وتحريك الغرائز بقدر ما هي ناتجة عن تبريرات منطقية تخاطب الوعي والعقل العملي للأفراد حيث تفصح هذه التبريرات عن الكشف عن ممكنات النصر بالاعتماد على الوعد الإلهي "إننا نعتمد على الله" كدلالة على تماهي القيادة مع منطلقاتها الإيمانية المستمدة عن القرآن الكريم وهي ناتجة من فعل التجربة "كما هزمناكم في عام 2000 سنهزمكم إن
89
83
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
شاء الله" وفي الركون إلى ممكنات القوة " لقد كنا أقل قوة قبل عام 2000 وها نحن أكثر قوة واستعداداً " وهو كلام صدق لمن يصدر عنه مع نفسه قبل أن يقدم للآخرين مشفوعاً بالتجربة والبرهان.
على هذا النحو، فإن الكلام يقدم تلك الدلالات التي من شأنها الولوج إلى تكوين الاتجاه والميل والانجذاب إلى الخطاب المقاوم كمثال يحتذى في حلّ معضلة الصراع مع العدو الصهيوني، باعتباره فعل مبادرة واقتدار وليس فعل مغامرة وانهزام.
90
84
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
خلاصة:
أفصحت الصفحات السابقة عن تبيان الوظيفة والدور الاستنهاضي الذي اضطلع به العمل المقاوم في لبنان، والذي شهد حالاً من الاستقطاب على مستوى الأمة العربية والإسلامية، وبرزت معه قيادة السيد حسن نصر الله كقيادة استقطابية رفيعة المستوى، وتتمتع بجاذبية متميزة و محورية، تشدُّ إليها الجماهير نحو العمل المقاوم نفسه، والذي راح يتمفصل مع النماذج الثقافية السائدة والمتضمنة لنمط من القيم والمعايير على أنها ممكنات تحمل معاني ايجابية يتقوم بها الوعي والوجدان والمتخيل الذهني لهذه الشعوب، وتنشد مطابقتها في الواقع المعاش الذي حفل بالكثير من التردي والخواء فجاء العمل المقاوم ليجسد أحد أهم التعبيرات الفعلية التي أخرجت هذه الممكنات إلى حيز الوجود.
وبطبيعة الحال، فإن اللحظة التاريخية لهذا الواقع المأزوم بتراجعه الدراماتيكي والمتداعي إزاء المشروع الصهيوني الذي كان يشهد تقدماً في المنطقة العربية الإسلامية، شكل أحد الممكنات في بروز القيادة التاريخية المعقودة اللواء للسيد حسن نصر الله، بوصفه يتربع على رأس قيادة المقاومة. غير أن اللحظة التاريخية وحدها لا يمكن أن توفر كل الممكنات التي تتيح لهذا النوع من القيادة البروز. ذلك أن ثمة عوامل أخرى تعوزها المقاربة لكي تكون النتائج أكثر تحديداً وأوثق
91
85
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
ارتباطاً بالموضوعية، تتمثل بالكشف عن جوهر الأسباب الكامنة وراء صعود هذا القائد الكارزمي.
ومن هنا فإن التوجه نحو دراسة الخطاب السياسي للمقاومة وإستراتيجيتها الاستنهاضية انطلاقاً من الخطاب المكتوب من كلام السيد نصر الله نفسه، والإطلاع على مضمونه ودلالاته كشف عن طبيعة الوظيفة والدور الذي تضطلع به المقاومة، كما كشف أيضاً من خلال الفهم والتحليل، عن المزايا التي جعلت منه خطاباً استنهاضياً ومن صاحب الخطاب قائداً كارزمياً يضيف إلى العمل المقاوم الكثير من الجاذبية والانشداد، وموئلاً مرجعياً للتماهي معه من قبل الجماهير على امتداد المنطقة. فالدور القيادي للسيد نصر الله ليس مقروناً بموقع رئاسي حتى يقتضي الطاعة بمعزل عن حال الإقناع أو عدمه كما في الدول التسلطية أو الديمقراطية، ولا بكونه زعيماً لطائفة أو لحزب معارض، وإنما بوصفه زعيماً شعبياً تحول على هذا النحو بفضل القضية المطروحة وهي فعل المقاومة في التحرير والاستنهاض، وهي قضية لا تستوجب كلاماً في الرفاهية أو النمو الاقتصادي وسائر مقتضيات الإدارة في الدول. وإنما كلاماً من نوع آخر يقتضي الانقياد نحو الفعل الجهادي والاستشهادي المحتاج في طبيعته إلى إقناع من نوع آخر، إذ لا يتوقع اندفاع الإنسان نحو إنهاء حياته أو الاستعداد للتضحية بالممتلكات وتحمل تبعات الموقف المؤيد دون مسوغات عقلية ووجدانية تدفعه نحو هذا الفعل.
92
86
الفصل الثالث: القيادة والخطاب المقاوم
بطبيعة الحال إن الفعل المقاوم نفسه باستناده إلى العوامل المحركة للوعي وارتكازه على الوجدان الشعبي والذاكرة التاريخية وتمفصله مع منظومة القيم الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية السامية يحمل بحد ذاته كل ممكنات التحفز السلوكي نحو التماهي مع الجهة القائد لهذا الفعل.
ولكن يبقى للكلام وقع آخر، لما يختزنه من ممكنات الإقناع وحشد التأييد، ودحض الافتراء، وتبيان طبيعة الآليات المستخدمة وتبيان الاستراتيجيات، وكل ممكنات التسويغ من أحل الوصول إلى الأهداف. ولذلك فإن منهجية الخطاب الكلامي وطبيعته فضلاً عن كونه خطاب تسويغ، إلا أنه يلعب دوراً بارزاً في الكشف عن كارزمية القائد الميداني الذي يتحول كلامه إلى سلطان على النفوس دون أن يكون متأسساً بالأصل على سلطة سابقة عليه.
93
87